كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

يصبروا فقال وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ يعني أنهم يوم أحد كانوا كثيرين للقتال فلما خالفوا أمر الرسول انهزموا ويوم بدر كانوا قليلين غير مستعدين للقتال فلما أطاعوا أمر الرسول غلبوا واستولوا على خصومهم وذلك يؤكد قولنا وفيه وجه آخر وهو أن الانكسار يوم أحد إنما حصل بسبب تخلف عبد الله بن أُبي بن سلول المنافق وذلك يدل على أنه لا يجوز اتخاذ هؤلاء المنافقين بطانة وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ فيه ثلاثة أوجه الأول تقديره واذكر إذ غدوت والثاني قال أبو مسلم هذا كلام معطوف بالواو على قوله قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَة ٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ ( آل عمران 13 ) يقول قد كان لكم في نصر الله تلك الطائفة القليلة من المؤمنين على الطائفة الكثيرة من الكافرين موضع اعتبار لتعرفوا به أن الله ناصر المؤمنين وكان لهم مثل ذلك من الآية إذ غدا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والثالث العامل فيه محيط تقديره والله بما يعملون محيط إذ غدوت
المسألة الثانية اختلفوا في أن هذا اليوم أي يوم هو فالأكثرون أنه يوم أحد وهو قول ابن عباس والسدي وابن إسحاق والربيع والأصم وأبي مسلم وقيل إنه يوم بدر وهو قول الحسن وقيل إنه يوم الأحزاب وهو قول مجاهد ومقاتل حجة من قال هذا اليوم هو يوم أحد وجوه الأول أن أكثر العلماء بالمغازي زعموا أن هذه الآية نزلت في وقعة أُحد الثاني أنه تعالى قال بعد هذه الآية وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ( آل عمران 123 ) والظاهر أنه معطوف على ما تقدم ومن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه وأما يوم الأحزاب فالقوم إنما خالفوا أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد لا يوم الأحزاب فكانت قصة أحد أليق بهذا الكلام لأن المقصود من ذكر هذه القصة تقرير قوله وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً فثبت أن هذا اليوم هو يوم أحد الثالث أن الانكسار واستيلاء العدو كان في يوم أحد أكثر منه في يوم الأحزاب لأن في يوم أحد قتلوا جمعاً كثيراً من أكابر الصحابة ولم يتفق ذلك يوم الأحزاب فكان حمل الآية على يوم أحد أولى
السمألة الثالثة روي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره فقال عبد الله وأكثر الأنصار يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم والله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخل عدو علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر موضع وإن دخلوا قتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال آخرون أخرج بنا إلى الأكلب لئلا يظنوا أنا قد خفناهم فقال عليه الصلاة والسلام ( إني قد رأيت في منامي بقراً تذبح حولي فأولتها خيراً ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولته هزيمة ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم ) فقال قوم من المسلمين من الذين فاتتهم ( بدر ) وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد أخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به حتى دخل فلبس لأمته فلما لبس ندم القوم وقالوا بئسما صنعنا نشير على رسول الله والوحي يأتيه فقالوا له اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال ( لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل ) فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال فمشى على رجليه وجعل

يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدراً خارجاً قال له تأخر وكان نزوله في جانب الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه اثبتوا في هذا المقام فإذا عاينوكم ولوكم الأدبار فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لما خالف رأى عبد الله بن أبي شق عليه ذلك وقال أطاع الولدان وعصاني ثم قال لأصحابه إن محمداً إنما يظفر بعدوه بكم وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا فيتبعوكم فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمد عليه السلام فلما التقى الفريقان انهزم عبد الله بالمنافقين وكان جملة عسكر المسلمين ألفاً فانهزم عبد الله بن أُبي مع ثلثمائة فبقيت سبعمائة ثم قواهم الله مع ذلك حتى هزموا المشركين فلما رأى المؤمنون انهزام القوم وكان الله تعالى بشرهم بذلك طمعوا أن تكون هذه الواقعة كواقعة بدر فطلبوا المدبرين وتركوا ذلك الموضع وخالفوا أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن أراهم ما يحبون فأراد الله تعالى أن يفطمهم عن هذا الفعل لئلا يقدموا على مخالفة الرسول عليه السلام وليعلموا أن ظفرهم إنما حصل يوم بدو ببركة طاعتهم لله ولرسوله ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم فنزع الله الرعب من قلوب المشركين فكثر عليهم المشركون وتفرق العسكر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما قال تعالى إِذَا تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ ( آل عمران 153 ) وشج وجه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وكسرت رباعيته وشلت يد طلحة دونه ولم يبق معه إلا أبو بكر وعلي والعباس وسعد ووقعت الصيحة في العسكر أن محمداً قد قتل وكان رجل يكنى أبا سفيان من الأنصار نادى الأنصار وقال هذا رسول الله فرجع إليه المهاجرون والأنصار وكان قتل منهم سبعون وكثر فيهم الجراح فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( رحم الله رجلاً ذب عن إخوانه ) وشد على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى والله أعلم
والمقصود من القصة أن الكفار كانوا ثلاثة آلاف والمسلمون كانوا ألفاً وأقل ثم رجع عبد الله بن أُبي مع ثلثمائة من أصحابه فبقي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع سبعمائة فأعانهم الله حتى هزموا الكفار ثم لما خالفوا أمر الرسول واشتغلوا بطلب الغنائم انقلب الأمر عليهم وانهزموا ووقع ما وقع وكل ذلك يؤكد قوله تعالى وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ( آل عمران 120 ) وأن المقبل من أعانه الله والمدبر من خذله الله
المسألة الرابعة يقال بوأته منزلاً وبوأت له منزلاً أي أنزلته فيه والمباءة والباءة المنزل وقوله مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ أي مواطن ومواضع وقد اتسعوا في استعمال المقعد والمقام بمعنى المكان ومنه قوله تعالى فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ ( القمر 55 ) وقال قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ( النمل 39 ) أي من مجلسك وموضع حكمك وإنما عبر عن الأمكنة ههنا بالمقاعد لوجهين الأول وهو أنه عليه السلام أمرهم أن يثبتوا في مقاعدهم لا ينتقلوا عنها والقاعد في مكان لا ينتقل عنه فسمى تلك الأمكنة بالمقاعد تنبيهاً على أنهم مأمورون بأن يثبتوا فيها ولا ينتقلوا عنها ألبتة والثاني أن المقاتلين قد يقعدون في الأمكنة المعينة إلى أن يلاقيهم العدو فيقوموا عند الحاجة إلى المحاربة فسميت تلك الأمكنة بالمقاعد لهذا الوجه
المسألة الخامسة قوله وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىء الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ يروى أنه عليه السلام غدا من منزل عائشة رضي الله عنها فمشى على رجليه إلى أحد وهذا قول مجاهد والواقدي فدل هذا

النص على أن عائشة رضي الله عنها كانت أهلاً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال تعالى الطَّيّبَاتِ لِلطَّيّبِينَ وَالطَّيّبُونَ لِلْطَّيّبَاتِ ( النور 26 ) فدل هذا النص على أنها مطهرة مبرأة عن كل قبيح ألا ترى أن ولد نوح لما كان كافراً قال إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ( هود 46 ) وكذلك امرأة لوط
ثم قال تعالى وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي سميع لأقوالكم عليم بضمائركم ونياتكم فإنا ذكرنا أنه عليه السلام شاور أصحابه في ذلك الحرب فمنهم من قال له أقم بالمدينة ومنهم من قال اخرج إليهم وكان لكل أحد غرض آخر فيما يقول فمن موافق ومن مخالف فقال تعالى أنا سميع لما يقولون عليم بما يضمرون
ثم قال تعالى إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وفيه مسائل
المسألة الأولى العامل في قوله إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ فيه وجوه الأول قال الزجاج العامل فيه التبوئة والمعنى كانت التبوئة في ذلك الوقت الثاني العامل فيه قوله سَمِيعٌ عَلِيمٌ الثالث يجوز أن يكون بدلاً من إِذْ غَدَوْتَ
المسألة الثانية الطائفتان حيان من الأنصار بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس لما انهزم عبد الله بن أُبي همت الطائفتان باتباعه فعصمهم الله فثبتوا مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومن العلماء من قال إن الله تعالى أبهم ذكرهما وستر عليهما فلا يجوز لنا أن نهتك ذلك الستر
المسألة الثالثة الفشل الجبن والخور فإن قيل الهم بالشيء هو العزم فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل والترك وذلك معصية فكيف بهما أن يقال والله وليهما
والجواب الهم قد يراد به العزم وقد يراد به الفكر وقد يراد به حديث النفس وقد يراد به ما يظهر من القول الدال على قوة العدو وكثرة عدده ووفور عدده لأن أي شيء ظهر من هذا الجنس صح أن يوصف من ظهر ذلك منه بأنه هم بأن يفشل من حيث ظهر منه ما يوجب ضعف القلب فكان قوله إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ لا يدل على أن معصية وقعت منهما وأيضاً فبتقدير أن يقال إن ذلك معصية لكنها من باب الصغائر لا من باب الكبائر بدليل قوله تعالى وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا فإن ذلك الهم لو كان من باب الكبائر لما بقيت ولاية الله لهما
ثم قال تعالى وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عبد الله وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا كقوله وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( الحجرات 9 )
المسألة الثانية في المعنى وجوه الأول أن المراد منه بيان أن ذلك الهم ما أخرجهما عن ولاية الله تعالى الثاني كأنه قيل الله تعالى ناصرهما ومتولي أمرهما فكيف يليق بهما هذا الفشل وترك التوكل على الله تعالى الثالث فيه تنبيه على أن ذلك الفشل إنما لم يدخل في الوجود لأن الله تعالى وليهما فأمدهما بالتوفيق والعصمة والغرض منه بيان أنه لولا توفيقه سبحانه وتسديده لما تخلص أحد عن ظلمات المعاصي ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى بعده هذه الآية وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
فإن قيل ما معنى ما روي عن بعضهم عند نزول هذه الآية أنه قال والله ما يسرنا أنا لم نهم بما همت الطائفتان به وقد أخبرنا الله تعالى نأنه وليهما

قلنا معنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية وأن تلك الهمة ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى
ثم قال وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ التوكل تفعل من وكل أمره إلى فلان إذا عتمد فيه كفايته عليه ولم يتوله بنفسه وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الإنسان ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّة ٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
في كيفية النظم وجهان الأول أنه تعالى لما ذكر قصة أحد أتبعها بذكر قصة بدر وذلك لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الفقر والعجز والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة ثم إنه تعالى سلّط المسلمين على المشركين فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى تحصيل غرضه ومطلوبه إلا بالتوكل على الله والاستعانة به والمقصود من ذكر هذه القصة تأكيد قوله وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ( آل عمران 120 ) وتأكيد قوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( آل عمران 122 ) الثاني أنه تعالى حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل
ثم قال وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني من كان الله ناصراً له ومعيناً له فكيف يليق به هذا الفشل والجبن والضعف ثم أكد ذلك بقصة بدر فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف ولكن لما كان الله ناصراً لهم فازوا بمطلوبهم وقهروا خصومهم فكذا ههنا فهذا تقرير وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في بدر أقوال الأول بدر اسم بئر لرجل يقال له بدر فسميت البئر باسم صاحبها هذا قول الشعبي الثاني أنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه وهذا قول الواقدي وشيوخه وأنكروا قول الشعبي وهو ماء بين مكة والمدينة
المسألة الثانية أَذِلَّة ٍ جمع ذليل قال الواحدي الأصل في الفعيل إذا كان صفة أن يجمع على فعلاء كظريف وظرفاء وكثير وكثراء وشريك وشركاء إلا أن لفظ فعلاء اجتنبوه في التضعيف لأنهم لو قالوا قليل وقللاء وخليل وخللاء لاجتمع حرفان من جنس واحد فعدل إلى أفعلة لأن من جموع الفعيل الأفعلة كجريب وأجربة وقفيز وأقفزة فجعلوه جمع ذليل أذلة قال صاحب ( الكشاف ) الأذلة جمع قلة وإنما ذكر جمع القلة ليدل على أنهم مع ذلهم كانوا قليلين
المسألة الثالثة قوله وَأَنتُمْ أَذِلَّة ٌ في موضع الحال وإنما كانوا أذلة لوجوه الأول أنه تعالى قال وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( المنافقون 8 ) فلا بد من تفسير هذا الذل بمعنى لا ينافي مدلول هذه الآية وذلك هو تفسيره بقلة العدد وضعف الحال وقلة السلاح والمال وعدم القدرة على مقاومة العدو ومعنى الذل الضعف عن المقاومة ونقيضه العز وهو القوة والغلبة روي أن المسلمين كانوا ثلثمائة وبضعة عشر وما كان

فيهم إلا فرس واحد وأكثرهم كانوا رجالة وربما كان الجمع منهم يركب جملاً واحداً والكفار قريبين من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس مع الأسلحة الكثيرة والعدة الكاملة الثاني لعل المراد أنهم كانوا أذلة في زعم المشركين واعتقادهم لأجل قلة عددهم وسلاحهم وهو مثل ما حكى الله عن الكفار أنهم قالوا لَيُخْرِجَنَّ الاْعَزُّ مِنْهَا الاْذَلَّ ( المنافقون 8 ) الثالث أن الصحابة قد شاهدوا الكفار في مكة في القوة والثروة وإلى ذلك الوقت ما اتفق لهم استيلاء على أولئك الكفار فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم واستعظامهم مقرراً في نفوسهم فكانوا لهذا السبب يهابونهم ويخافون منهم
ثم قال تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ أي في الثبات مع رسوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته أو لعلّ الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَة ِ ءَالاَفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَة ِ مُنزَلِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اختلف المفسرون في أن هذا الوعد حصل يوم بدر أو يوم أُحد ويتفرع على هذين القولين بيان العامل في إِذْ فإن قلنا هذا الوعد حصل يوم بدر كان العامل في إِذْ قوله نَصَرَكُمُ اللَّهُ ( آل عمران 123 ) والتقدير إذ نصركم الله ببدر وأنتم أذلة تقول للمؤمنين وإن قلنا إنه حصل يوم أحد كان ذلك بدلاً ثانياً من قوله وَإِذْ غَدَوْتَ
إذا عرفت هذا فنقول
القول الأول أنه يوم أحد وهو مروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق والحجة عليه من وجوه
الحجة الأولى أن يوم بدر إنما أمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بألف من الملائكة قال تعالى في سورة الأنفال إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ إِنّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَة ِ ( الأنفال 9 ) فكيف يليق ما ذكر فيه ثلاثة آلاف وخمسة آلاف بيوم بدر
الحجة الثانية أن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً أو ما يقرب منه والمسلمون كانوا على الثلث منهم لأنهم كانوا ثلثمائة وبضعة عشر فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفاً من الملائكة فصار عدد الكفار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين فلا جرم وقعت الهزيمة على الكفار فكذلك يوم أحد كان عدد المسلمين ألفاً وعدد الكفار ثلاثة آلاف فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم كما في يوم بدر فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة آلاف من الملائكة ليصير عدد الكفار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين فيصير ذلك دليلاً على أن المسلمين يهزمونهم في هذا اليوم كما هزموهم يوم بدر ثم جعل الثلاثة

آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة قلوب المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل إذا قلنا إن هذا الوعد إنما حصل يوم أحد
الحجة الثالثة أنه تعالى قال في هذه الآية بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَة ِ ( آل عمران 125 ) والمراد ويأتوكم أعداؤكم من فورهم ويوم أحد هو اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء فأما يوم بدر فالأعداء ما أتوهم بل هم ذهبوا إلى الأعداء
فإن قيل لو جرى قوله تعالى إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَة ِ في يوم أحد ثم إنه ما حصل هذا الإمداد لزم الكذب
والجواب عنه من وجهين الأول أن إنزاله خمسة آلاف من الملائكة كان مشروطاً بشرط أن يصبروا ويتقوا في المغانم ثم أنهم لم يصبروا ولم يتقوا في المغانم بل خالفوا أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط وأما إنزال ثلاثة آلاف من الملائكة فإنما وعد الرسول بذلك للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال وأمرهم بالسكون والثبات في تلك المقاعد فهذا يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما وعدهم بهذا الوعد بشرط أن يثبتوا في تلك المقاعد فلما أهملوا هذا الشرط لا جرم لم يحصل المشروط
الوجه الثاني في الجواب لا نسلم أن الملائكة ما نزلت روى الواقدي عن مجاهد أنه قال حضرت الملائكة يوم أُحد ولكنهم لم يقاتلوا وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعطى اللواء معصب بن عمير فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تقدم يا مصعب فقال الملك لست بمصعب فعرف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه ملك أمد به وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال كنت أرمي السهم يومئذ فيرده على رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه فظننت أنه ملك فهذا ما نقوله في تقرير هذا الوجه
إذا عرفت هذا فنقول نظم الآية على هذا التأويل أنه تعالى ذكر قصة أحد ثم قال وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي يجب أن يكون توكلهم على الله لا على كثرة عددهم وعددهم فلقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فكذلك هو قادر على مثل هذه النصرة في سائر المواضع ثم بعد هذا أعاد الكلام إلى قصة أحد فقال إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَة ِ ءالاَفٍ مّنَ الْمَلَئِكَة ِ
القول الثاني أن هذا الوعد كان يوم بدر وهو قول أكثر المفسرين واحتجوا على صحته بوجوه
الحجة الأولى أن الله تعالى قال وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّة ٌ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ كذا وكذا فظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى نصرهم ببدر حينما قال الرسول للمؤمنين هذا الكلام وهذا يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا الكلام يوم بدر
الحجة الثانية أن قلة العدد والعدد كانت يوم بدر أكثر وكان الاحتياج إلى تقوية القلب ذلك اليوم أكثر فكان صرف هذا الكلام إلى ذلك اليوم أولى
الحجة الثالثة أن الوعد بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً غير مشروط بشرط فوجب أن يحصل وهو إنما حصل يوم بدر لا يوم أُحد وليس لأحد أن يقول إنهم نزلوا لكنهم ما قاتلوا لأن الوعد كان بالإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد بل لا بد من الإعانة والإعانة حصلت

يوم بدر ولم تحصل يوم أحد ثم القائلون بهذا القول أجابوا عن دلائل الأولين فقالوا
أما الحجة الأولى وهي قولكم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إنما أمد يوم بدر بألف من الملائكة
فالجواب عنها من وجهين الأول أنه تعالى أمد أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بألف ثم زاد فيهم ألفين فصاروا ثلاثة آلاف ثم زاد ألفين آخرين فصاروا خمسة آلاف فكأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بألف من الملائكة فقالوا بلى ثم قال ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف فقالوا بلى ثم قال لهم إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلاف وهو كما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأصحابه ( أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة قالوا نعم قال أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة قالوا نعم قال فإني أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة )
الوجه الثاني في الجواب أن أهل بدر إنما أمدوا بألف على ما هو مذكور في سورة الأنفال ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير فخافوا وشق عليهم ذلك لقلة عددهم فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد فأنا أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة ثم إنه لم يأت قريشاً ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش فاستغنى عن إمداد المسلمين بالزيادة على الألف
وأما الحجة الثانية وهي قولكم إن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً فأنزل الله ألفاً من الملائكة ويوم أحد ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثة آلاف
فالجواب إنه تقريب حسن ولكنه لا يوجب أن لا يكون الأمر كذلك بل الله تعالى قد يزيد وقد ينقص في العدد بحسب ما يريد
وأما الحجة الثالثة وهي التمسك بقوله وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ ( آل عمران 125 )
فالجواب عنه أن المشركين لما سمعوا أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه قد تعرضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم واجتمعوا وقصدوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك خافوا فأخبرهم الله تعالى أنهم إن يأتوكم من فورهم يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة فهذا حاصل ما قيل في تقرير هذين القولين والله أعلم بمراده
المسألة الثانية اختلفوا في عدد الملائكة وضبط الأقوال فيها أن من الناس من ضم العدد الناقص إلى العدد الزائد فقالوا لأن الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتقوى ومجيء الكفار من فورهم فلا بد من التغاير وهو ضعيف لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة بشرط أن تكون الثلاثة التي جزؤها مشروطة بذلك الشرط ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد أما على تقدير الأول فإن حملنا الآية على قصة بدر كان عدد الملائكة تسعة آلاف لأنه تعالى ذكر الألف وذكر ثلاثة آلاف وذكر خمسة آلاف والمجموع تسعة آلاف وإن حملناها على قصة أحد فليس فيها ذكر الألف بل فيها ذكر ثلاثة آلاف وخمسة آلاف والمجموع ثمانية آلاف وأما على التقدير الثاني وهو إدخال الناقص في الزائد فقالوا عدد الملائكة خمسة آلاف ثم ضم إليها ألفان آخران فلا جرم وعدوا بالألف ثم ضم إليه ألفان فلا جرم وعدوا بثلاثة آلاف ثم ضم إليها ألفان آخران فلام جر وعدوا بخمسة

آلاف وقد حكينا عن بعضهم أنه قال أمد أهل بدر بألف فقيل إن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على المسلمين فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لهم ألن يكفيكم يعني بتقدير أن يجيء المشركين مدد فالله تعالى يمدكم أيضاً بثلاثة آلاف وخمسة آلاف ثم إن المشركين ما جاءهم المدد فكذا ههنا الزائد على الألف ما جاء المسلمين فهذه وجوه كلها محتملة والله أعلم بمراده
المسألة الثالثة أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار قال ابن عباس رضي الله عنهما لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر وفيما سواه كانوا عدداً ومدداً لا يقاتلون ولا يضربون وهذا قول الأكثرين وأما أبو بكر الأصم فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار واحتج عليه بوجوه
الحجة الأولى إن الملك الواحد يكفي في إهلاك الأرض ومن المشهور أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت المدائن الأربع لقوم لوط وبلغ جناحه إلى الأرض السابعة ثم رفعها إلى السماء وقلب عاليها سافلها فإذا حضر هو يوم بدر فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار ثم بتقدير حضوره فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة
الحجة الثانية أن أكابر الكفار كانوا مشهورين وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة
الحجة الثالثة الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس أو لا يراهم الناس فإن رآهم الناس فإما أن يقال إنهم رأوهم في صورة الناس أو في غير صورة الناس فإن كان الأول فعلى هذا التقدير صار المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف أو أكثر ولم يقل أحد بذلك ولأن هذا على خلاف قوله تعالى وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ ( الأنفال 44 ) وإن شاهدوهم في صورة غير صور الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق فإن من شاهد الجن لا شك أنه يشتد فزعه ولم ينقل ذلك ألبتة
وأما القسم الثاني وهو أن الناس ما رأوا الملائكة فعلى هذا التقدير إذا حاربوا وحزوا الرؤوس ومزقوا البطون وأسقطوا الكفار عن الأفراس فحينئذ الناس كانوا يشاهدون حصول هذه الأفعال مع أنهم ما كانوا شاهدوا أحداً من الفاعلين ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات وحينئذ يجب أن يصير الجاحد لمثل هذه الحالة كافراً متمرداً ولما لم يوجد شيء من ذلك عرف فساد هذا القسم أيضاً
الحجة الرابعة أن هؤلاء الملائكة الذين نزلوا إما أن يقال إنهم كانوا أجساماً كثيفة أو لطيفة فإن كان الأول وجب أن يراهم الكل وأن تكون رؤيتهم كرؤية غيرهم ومعلوم أن الأمر ما كان كذلك وإن كانوا أجساماً لطيفة دقيقة مثل الهواء لم يكن فيهم صلابة وقوة ويمتنع كونهم راكبين على الخيول وكل ذلك مما ترونه
واعلم أن هذه الشبهة إنما تليق بمن ينكر القرآن والنبوّة فأما من يقر بهما فلا يليق به شيء من هذه الكلمات فما كان يليق بأبي بكر الأصم إنكار هذه الأشياء مع أن نص القرآن ناطق بها وورودها في الأخبار قريب من التواتر روى عبد الله بن عمر قال لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر والشبهة المذكورة إذا قابلناها

بكمال قدرة الله تعالى زالت وطاحت فإنه تعالى يفعل ما يشاء لكونه قادراً على جميع الممكنات ويحكم ما يريد لكونه منزّهاً عن الحاجات
المسألة الرابعة اختلفوا في كيفية نصرة الملائكة قال بعضهم بالقتال مع المؤمنين وقال بعضهم بل بتقوية نفوسهم وإشعارهم بأن النصرة لهم وبإلقاء الرعب في قلوب الكفار والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال إن وقعت الحاجة إليهم ويجوز أن لا تقع الحاجة إليهم في نفس القتال وأن يكون مجرد حضورهم كافياً في تقوية القلب وزعم كثير من المفسرين أنهم قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا في سائر الأيام
المسألة الخامسة قوله تعالى أَلَنْ يَكْفِيكُمْ معنى الكفاية هو سد الخلة والقيام بالأمر يقال كفاه أمر كذا إذا سد خلته ومعنى الإمداد إعطاء الشيء حالاً بعد حال قال المفضل ما كان على جهة القوة والإعانة قيل فيه أمده يمده وما كان على جهة الزيادة قيل فيه مده يمده ومنه قوله وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ ( لقمان 27 )
المسألة السادسة قرأ ابن عامر مُنزَلِينَ مشدد الزاي مفتوحة على التكثير والباقون بفتح الزاي مخففة وهما لغتان
المسألة السابعة قال صاحب ( الكشاف ) إنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله ومعنى أَلَنْ يَكْفِيكُمْ إنكار أن لا يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وإنما جيء بلن التي هي لتأكيد النفي للاشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عددهم كالآيسين من النصر
بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَة ِ ءَالا فٍ مِّنَ الْمَلَائِكَة ِ مُسَوِّمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى بلى إيجاب لما بعد ( لن ) يعني بل يكفيكم الإمداد فأوجب الكفاية ثم قال إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يعني والمشركون يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بأكثر من ذلك العدد وهو خمسة آلاف فجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطة ثلاثة أشياء الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور فلما لم توجد هذه الشرائط لا جرم لم يوجد المشروط
المسألة الثانية الفور مصدر من فارت القدر إذا غلت قال تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ( هود 40 ) قيل إنه أول ارتفاع الماء منه ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة يقال جاء فلان ورجع من فوره ومنه قول الأصوليين الأمر للفور أو التراخي والمعنى حدة مجيء العدو وحرارته وسرعته

المسألة الثالثة قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم مُسَوّمِينَ بكسر الواو أي معلمين علموا أنفسهم بعلامات مخصوصة وأكثر الأخبار أنهم سوموا خيولهم بعلامات جعلوها عليها والباقون بفتح الواو أي سومهم الله أو بمعنى أنهم سوموا أنفسهم فكان في المراد من التسويم في قوله مُسَوّمِينَ قولان الأول السومة العلامة التي يعرف بها الشيء من غيره ومضى شرح ذلك في قوله وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ ( آل عمران 14 ) وهذه العلامة يعلمها الفارس يوم اللقاء ليعرف بها وفي الخبر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال يوم بدر ( سوموا فإن الملائكة قد سومت ) قال ابن عباس كانت الملائكة قد سوموا أنفسهم بالعمائم الصفر وخيولهم وكانوا على خيل بلق بأن علقوا الصوف الأبيض في نواصيها وأذنابها وروي أن حمزة بن عبد المطلب كان يعلم بريشة نعامة وأن علياً كان يعلم بصوفة بيضاء وأن الزبير كان يتعصب بعصابة صفراء وأن أبا دجانة كان يعلم بعصابة حمراء
القول الثاني في تفسير المسومين إنه بمعنى المرسلين مأخوذاً من الإبل السائمة المرسلة في الرعي تقول أسمت الإبل إذا أرسلتها ويقال في التكثير سومت كما تقول أكرمت وكرمت فمن قرأ مُسَوّمِينَ بكسر الواو فالمعنى أن الملائكة أرسلت خيلها على الكفار لقتلهم وأسرهم ومن قرأ بفتح الواو فالمعنى أن الله تعالى أرسلهم على المشركين ليهلكوهم كما تهلك الماشية النبات والحشيش
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ
الكناية في قوله وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ عائدة على المصدر كأنه قال وما جعل الله المدد والإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تنصرون فدل يُمْدِدْكُمْ على الإمداد فكنى عنه كما قال وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ( الأنعام 121 ) معناه وإن أكله لفسق فدل تَأْكُلُواْ على الأكل فكنى عنه وقال الزجاج وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ أي ذكر المدد إِلاَّ بُشْرَى والبشرى اسم من الإبشار ومضى الكلام في معنى التبشير في سورة البقرة في قوله وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البقرة 25 )
ثم قال وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وفيه سؤال
وهو أن قوله وَلِتَطْمَئِنَّ فعل وقوله إِلاَّ بُشْرَى اسم وعطف الفعل على الاسم مستنكر فكان الواجب أن يقال إلا بشرى لكم واطمئناناً أو يقال إلا ليبشركم ولتطمئن قلوبكم به فلم ترك ذلك وعدل عنه إلى عطف الفعل على الاسم
والجواب عنه من وجهين الأول في ذكر الإمداد مطلوبان وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر

فأحدهما إدخال السرور في قلوبهم وهو المراد بقوله إِلاَّ بُشْرَى والثاني حصول الطمأنينة على أن إعانة الله ونصرته معهم فلا يجبنوا عن المحاربة وهذا هو المقصود الأصلي ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين هذين الأمرين في المطلوبية فكونه بشرى مطلوب ولكن المطلوب الأقوى حصول الطمأنينة فلهذا أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة فقال وَلِتَطْمَئِنَّ ونظيره قوله وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة ً ( النحل 8 ) ولما كان المقصود الأصلي هو الركوب أدخل حرف التعليل عليها فكذا ههنا الثاني قال بعضهم في الجواب الواو زائدة والتقدير وما جعله الله إلا بشرى لكم لتطمئن به قلوبكم
ثم قال وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ والغرض منه أن يكون توكلهم على الله لا على الملائكة وهذا تنبيه على أن إيمان العبد لا يكمل إلا عند الإعراض عن الأسباب والإقبال بالكلية على مسبب الأسباب أو قوله العَزِيزُ الحَكِيمُ فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته والحكيم إشارة إلى كمال علمه فلا يخفى عليه حاجات العباد ولا يعجز عن إجابة الدعوات وكل من كان كذلك لم يتوقع النصر إلا من رحمته ولا الإعانة إلا من فضله وكرمه
ثم قال لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ واللام في لِيَقْطَعَ طَرَفاً متعلق بقوله وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ والمعنى أن المقصود من نصركم بواسطة إمداد الملائكة هو أن يقطعوا طرفاً من الذين كفروا أي يهلكوا طائفة منهم ويقتلوا قطعة منهم قيل إنه راجع إلى قوله وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ لِيَقْطَعَ طَرَفاً ولكنه ذكر بغير حرف العطف لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف وهو كما يقول السيد لعبده أكرمتك لتخدمني لتعينني لتقوم بخدمتي حذف العاطف لأن البعض يقرب من البعض فكذا ههنا وقوله طَرَفاً أي طائفة وقطعة وإنما حسن في هذا الموضع ذكر الطرف ولم يحسن ذكر الوسط لأنه لا وصول إلى الوسط إلا بعد الأخذ من الطرف وهذا يوافق قوله تعالى قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ ( التوبة 123 ) وقوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ( الرعد 41 )
ثم قال أَوْ يَكْبِتَهُمْ الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه يقال كبته فانكبت هذا تفسيره ثم قد يذكر والمراد به الاخزاء والإهلاك واللعن والهزيمة والغيظ الإذلال فكل ذلك ذكره المفسرون في تفسير الكبت وقوله خَائِبِينَ الخيبة هي الحرمان والفرق بين الخيبة وبين اليأس أن الخيبة لا تكون إلا بعد التوقع وأما اليأس فإنه قد يكون بعد التوقع وقبله فنقيض اليأس الرجاء ونقيض الخيبة الظفر والله أعلم
لَيْسَ لَكَ مِنَ الاٌّ مْرِ شَى ْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية قولان الأول وهو المشهور أنها نزلت في قصة أحد ثم

القائلون بهذا القول اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها أنه أراد أن يدعو على الكفار فنزلت هذه الآية والقائلون بهذا ذكروا احتمالات أحدها روي أن عتبة بن أبي وقاص شجه وكسر رباعيته فجعل يمسح الدم عن وجهه وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم وهو يقول ( كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم ) ثم أراد أن يدعو عليهم فنزلت هذه الآية وثانيها ما روى سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعن أقواماً فقال ( اللّهم العن أبا سفيان اللّهم العن الحرث بن هشام اللّهم العن صفوان بن أُمية ) فنزلت هذه الآية أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فتاب الله على هؤلاء وحسن إسلامهم وثالثها أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما رآه ورأى ما فعلوا به من المثلة قال ( لأمثلن منهم بثلاثين ) فنزلت هذه الآية قال القفال رحمه الله وكل هذه الأشياء حصلت يوم أحد فنزلت هذه الآية عند الكل فلا يمتنع حملها على كل الاحتمالات الثاني في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت بسبب أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أراد أن يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا فمنعه الله من ذلك وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما
الوجه الثالث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أراد أن يستغفر للمسلمين الذين انهزموا وخالفوا أمره ويدعو عليهم فنزلت الآية فهذه الاحتمالات والوجوه كلها مفرعة على قولنا إن هذه الآية نزلت في قصة أحد
القول الثاني أنها نزلت في واقعة أخرى وهي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث جمعاً من خيار أصحابه إلى أهل بئر معونة ليعلموهن القرآن فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره وأخذهم وقتلهم فجزع من ذلك الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) جزعاً شديداً ودعا على الكفار أربعين يوماً فنزلت هذه الآية هذا قول مقاتل وهو بعيد لأن أكثر العلماء اتفقوا على أن هذه الآية في قصة أحد وسياق الكلام يدل عليه وإلقاء قصة أجنبية عن أول الكلام وآخره غير لائق
المسألة الثانية ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت في أمر كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يفعل فيه فعلاً وكانت هذه الآية كالمنع منه وعند هذا يتوجه الإشكال وهو أن ذلك الفعل إن كان بأمر الله تعالى فكيف منعه الله منه وإن قلنا إنه ما كان بأمر الله تعالى وبإذنه فكيف يصح هذا مع قوله وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( النجم 3 ) وأيضاً دلت الآية على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالأمر الممنوع عنه في هذه الآية إن كان حسناً فلم منعه الله وإن كان قبيحاً فكيف يكون فاعله معصوماً
والجواب من وجوه الأول أن المنع من الفعل لا يدل على أن الممنوع منه كان مشتغلاً به فإنه تعالى قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وأنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك قط وقال مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ ( الأحزاب 1 ) فهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله ثم قال وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وهذا لا يدل على أنه أطاعهم والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغم الشديد والغضب العظيم وهو مثلة عمه حمزة وقتل المسلمين والظاهر أن الغضب يحمل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل فلأجل أن لا تؤدي مشاهدة تلك المكاره إلى ما لا يليق من القول والفعل نص الله تعالى على المنع تقوية لعصمته وتأكيداً لطهارته والثاني لعله عليه الصلاة والسلام إن فعل لكنه كان ذلك من باب ترك الأفضل والأولى فلا جرم أرشده الله إلى اختيار الأفضل والأولى ونظيره قوله تعالى وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ

مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ ( النحل 126 127 ) كأنه تعالى قال إن كنت تعاقب ذلك الظالم فاكتف بالمثل ثم قال ثانياً وإن تركته كان ذلك أولى ثم أمره أمراً جازماً بتركه فقال وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ
الوجه الثالث في الجواب لعلّه ( صلى الله عليه وسلم ) لما مال قلبه إلى اللعن عليهم استأذن ربه فيه فنص الله تعالى على المنع منه وعلى هذا التقدير لا يدل هذا النهي على القدح في العصمة
المسألة الثالثة قوله لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَى ْء فيه قولان الأول أن معناه ليس لك من قصة هذه الواقعة ومن شأن هذه الحادثة شيء وعلى هذا فنقل عن المفسرين عبارات أحدهما ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أوحي إليك وثانيها ليس لك من مسألة إهلاكهم شيء لأنه تعالى أعلم بالمصالح فربما تاب عليهم وثالثها ليس لك في أن يتوب الله عليهم ولا في أن يعذبهم شيء
والقول الثاني أن المراد هو الأمر الذي يضاد النهي والمعنى ليس لك من أمر خلقي شيء إلا إذا كان على وفق أمري وهو كقوله أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ ( الأنعام 62 ) وقوله لِلَّهِ الاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ( الروم 4 ) وعلى القولين فالمقصود من الآية منعه ( صلى الله عليه وسلم ) من كل فعل وقول إلا ما كان بإذنه وأمره وهذا هو الإرشاد إلى أكمل درجات العبودية ثم اختلفوا في أن المنع من اللعن لأي معنى كان منهم من قال الحكمة فيه أنه تعالى ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب أو إن لم يتب لكنه علم أنه سيولد منه ولد يكون مسلماً براً تقياً وكل من كان كذلك فإن اللائق برحمة الله تعالى أن يمهله في الدنيا وأن يصرف عنه الآفات إلى أن يتوب أو إلى أن يحصل ذلك الولد فإذا حصل دعاء الرسول عليهم بالإهلاك فإن قبلت دعوته فات هذا المقصود وإن لم تقبل دعوته كان ذلك كالاستخفاف بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى من اللعن وأمره بأن يفوض الكل إلى علم الله تعالى ومنهم من قال المقصود منه إظهار عجز العبودية وأن لا يخوض العبد في أسرار الله تعالى في ملكه وملكوته هذا هو الأحسن عندي والأوفق لمعرفة الأصول الدالة على حقيقة الربوبية والعبودية
المسألة الرابعة ذكر الفرّاء والزجاج وغيرهما في هذه الآية قولين أحدهما أن قوله أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عطف على ما قبله والتقدير ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم ويكون قوله لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَى ْء كالكلام الأجنبي الواقع بين المعطوف والمعطوف عليه كما تقول ضربت زيداً فاعلم ذلك عمراً فعلى هذا القول هذه الآية متصلة بما قبلها
والقول الثاني أن معنى أَوْ ههنا معنى حتى أو إلا أن كقولك لألزمنك أو تعطيني حقي والمعنى إلا أن تعطيني أو حتى تعطيني ومعنى الآية ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم
المسألة الخامسة قوله تعالى أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ مفسر عند أصحابنا بخلق التوبة فيهم وذلك عبارة عن خلق الندم فيهم على ما مضى وخلق العزم فيهم على أن لا يفعلوا مثل ذلك في المستقبل قال أصحابنا وهذا المعنى متأكد ببرهان العقل وذلك لأن الندم عبارة عن حصول إرادة في المضي متعلقة بترك فعل من

الأفعال في المستقبل وحصول الإرادات والكراهات في القلب لا يكون بفعل العبد لأن فعل العبد مسبوق بالإرادة فلو كانت الإرادات فعلاً للعبد لافتقر العبد في فعل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ويلزم التسلسل وهو محال فعلمنا أن حصول الإرادة والكراهات في القلب ليس إلا بتخليق الله تعالى وتكوينه إبتداء ولما كانت التوبة عبارة عن الندم والعزم وكل ذلك من جنس الإرادات والكراهات علمنا أن التوبة لا تحصل للعبد إلا بخلق الله تعالى فصار هذا البرهان مطابقاً لما دل عليه ظاهر القرآن هو قوله أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وأما المعتزلة فإنهم فسروا قوله أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إما بفعل الألطاف أو بقبول التوبة
أما قوله تعالى فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى إن كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفر صح الكلام وهو أنه تعالى سماهم ظالمين لأن الشرك ظلم قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وإن كان الغرض منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره صح الكلام أيضاً لأن من عصى الله فقد ظلم نفسه
المسألة الثانية يحتمل أن يكون المراد من العذاب المذكور في هذه الآية عذاب الدنيا وهو القتل والأسر وأن يكون عذاب الآخرة وعلى التقديرين فعلم ذلك مفوض إلى الله
المسألة الثالثة قوله تعالى فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ جملة مستقلة إلا أن المقصود من ذكرها تعليل حسن التعذيب والمعنى أو يعذبهم فإنه إن عذبهم إنما يعذبهم لأنهم ظالمون
وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
فيه مسألتان
المسألة الأولى إن المقصود من هذا تأكيد ما ذكره أولاً من قوله لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَى ْء والمعنى أن الأمر إنما يكون لمن له الملك وملك السماوات والأرض ليس إلا لله تعالى فالأمر في السماوات والأرض ليس إلا لله وهذا برهان قاطع
المسألة الثانية إنما قال مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ولم يقل ( من ) لأن المراد الإشارة إلى الحقائق والماهيات فدخل فيه الكل
أما قوله يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء فاعلم أن أصحابنا يحتجون بهذه الآية على أنه سبحانه له أن يدخل الجنة بحكم إلاهيته جميع الكفار والمردة وله أن يدخل النار بحكم إلاهيته جميع المقربين والصدّيقين وأنه لا اعتراض عليه في فعل هذه الأشياء ودلالة الآية على هذا المعنى ظاهرة والبرهان العقلي

يؤكد ذلك أيضاً وذلك أن فعل العبد يتوقف على الإرادة وتلك الإرادة مخلوقة لله تعالى فإذا خلق الله تلك الإرادة أطاع وإذا خلق النوع الآخر من الإرادة عصى فطاعة العبد من الله ومعصيته أيضاً من الله وفعل الله لا يوجب على الله شيئاً ألبتة فلا الطاعة توجب الثواب ولا المعصية توجب العقاب بل الكل من الله بحكم إلاهيته وقهره وقدرته فصح ما ادعيناه أنه لو شاء يعذب جميع المقربين حسن منه ولو شاء يرحم جميع الفراعنة حسن منه ذلك وهذا البرهان هو الذي دل عليه ظاهر قوله تعالى يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء
فإن قيل أليس أنه ثبت أنه لا يغفر للكفار ولا يعذب الملائكة والأنبياء
قلنا مدلول الآية أنه لو أراد لفعل ولا اعتراض عليه وهذا القدر لا يقتضي أنه يفعل أو لا يفعل وهذا الكلام في غاية الظهور
ثم ختم الكلام بقوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ والمقصود بيان أنه وإن حسن كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب لا على سبيل الوجوب بل على سبيل الفضل والإحسان

بداية الجزء التاسع من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة ً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
اعلم أن من الناس من قال انه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بارشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير فقال رَّحِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء كلام ولا تعلق لها بما قبلها وقال القفال رحمه الله يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم من جهة أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا فلعل ذلك يصير داعياً للمسلمين إلى الاقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم فلا جرم نهاهم الله عن ذلك وفي قوله أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة ً مسألتان
المسألة الأولى كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل فاذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال قال زد في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين ثم إذا حل الأجل الثاني فعل ذلك ثم إلى آجال كثيرة فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة ً
المسألة الثانية انتصب أَضْعَافًا على الحال
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
اعلم أن اتقاء الله في هذا النهي واجب وأن الفلاح يتوقف عليه فلو أكل ولم يتق زال الفلاح وهذا تنصيص على أن الربا من الكبائر لا من الصغائر وتفسير قوله لَعَلَّكُمْ تقدم في سورة البقرة في قوله اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وتمام الكلام في الربا أيضا مر في سورة البقرة
ثم قال وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وفيه سؤالات الأول أن النار التي أعدت للكافرين

تكون بقدر كفرهم وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه فكيق قال وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
والجواب تقدير الآية اتقوا أن تجحدوا تحريم الربا فتصيروا كافرين
السؤال الثاني ظاهر قوله أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ يقتضي أنها ما أعدت إلا للكافرين وهذا يقتضي القطع بأن أحدا من المؤمنين لا يدخل النار وهو على خلاف سائر الآيات
والجواب من وجوه الأول أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات أعد بعضها للكفار وبعضها للفساق فقوله النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ اشارة الى تلك الدركات المخصوصة التي أعدها الله للكافرين وهذا لا يمنع ثبوت دركات أخرى في النار أعدها الله لغير الكافرين الثاني أن كون النار معدة للكافرين لا يمنع دخول المؤمنين فيها لأنه لما كان أكثر أهل النار هم الكفار فلأجل الغلبة لا يبعد أن يقال انها معدة لهم كما أن الرجل يقول لدابة ركبها الحاجة من الحوائح إنما أعددت هذه الدابة للقاء المشركين فيكون صادقا في ذلك وان كان هو قد ركبها في تلك الساعة لغرض آخر فكذا ههنا
الوجه الثالث في الجواب أن القرآن كالسورة الواحدة فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين وسائر الآيات دالة أيضا على أنها معدة لمن سرق وقتل وزنى وقذف ومثاله قوله تعالى كُلَّمَا أُلْقِى َ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ( الملك 8 ) وليس لجميع الكفار يقال ذلك وأيضا قال تعالى فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ( الشعرا 94 ) الى قوله إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ ( الشعرا 98 ) وليس هذا صفة جميعهم ولكن لما كانت هذه الشرائط مذكورة في سائر السور كانت كالمذكورة ههنا فكذا فيما ذكرناه والله أعلم
الوجه الرابع ان قوله أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ اثبات كونها معدة لهم ولا يدل على الحصر كما أن قوله في الجنة أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( آل عمران 133 ) لا يدل على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين والحور العين
الوجه الخامس أن المقصود من وصف النار بأنها أعدت للكافرين تعظيم الزجر وذلك لأن المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي إذا علموا بانهم متى فارقوا التقوى أدخلوا النار المعدة للكافرين وقد تقرر في عقولهم عظم عقوبة الكفار كان انزجارهم عن المعاصي أتم وهذا بمنزلة أن يخوف الوالد ولده بأنك ان عصيتني أدخلتك دار السباع ولا يدل ذلك على أن تلك الدار لا يدخلها غيرهم فكذا ههنا
السؤال الثالث هل تدل الآية على أن النار مخلوقة الآن أم لا
الجواب نعم لأن قوله أُعِدَّتْ إخبار عن الماضي فلا بد أن يكون قد دخل ذلك الشيء في الوجود
ثم قال تعالى وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ولما ذكر الوعيد ذكر الوعد بعده على ما هو العادة المستمرة في القرآن وقال محمد بن إسحاق بن يسار هذه الآية معاتبة للذين عصوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حين أمرهم بما أمرهم يوم أحد وقالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن حصول الرحمة موقوف على طاعة الله وطاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا عام فيدل الظاهر على أن من عصى الله ورسوله في شيء من الأشياء أنه ليس أهلا للرحمة وذلك يدل على قول أصحاب الوعيد

وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَة ٍمِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر سارعوا بغير واو وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام والباقون بالواو وكذلك هو في مصاحف مكة والعراق ومصحف عثمان فمن قرأ بالواو عطفها على ما قبلها والتقدير أطيعوا الله والرسول وسارعوا ومن ترك الواو فلانه جعل قوله سارعوا وقوله قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ ( آل عمران 32 ) كالشيء الواحد ولقرب كل واحد منها من الآخر في المعنى أسقط العاطف
المسألة الثانية روي عن الكسائي الإمالة في سارعوا راجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ ( المؤمنون 61 ) ونسارع ( المؤمنون 65 ) وذلك جائز لمكان الراء المسكورة ويمنع كما المفتوحة الإمالة كذلك المسكورة يميلها
المسألة الثالثة قالوا في الكلام حذف والمعنى وسارعوا الى ما يوجب مغفرة من ربكم ولا شك أن الموجب للمغفرة ليس الا فعل المأمورات وترك المنهيات فكان هذا أمرا بالمسارعة الى فعل المأمورات وترك المنهيات وتمسك كثير من الأصوليين بهذه الآية في أن ظاهر الأمر يوجب الفور ويمنع من التراخي ووجهه ظاهر وللمفسرين فيه كلمات إحداها قال ابن عباس هو الإسلام أقول وجهه ظاهر لأنه ذكر المغفرة على سبيل التنكير والمراد منه المغفرة العظيمة المتناهية في العظم وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام الثاني روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هو أداء الفرائض ووجهه أن اللفظ مطلق فيجب أن يعم الكل والثالث انه الاخلاص وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه ووجهه أن المقصود من جميع العبادات الاخلاص كما قال الْبَيّنَة ُ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينه 5 ) الرابع قال أبو العالية هو الهجرة والخامس أنه الجهاد وهو قول الضحاك ومحمد بن اسحاق قال لأن من قوله وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ( آل عمران 121 ) الى تمام ستين آية نزل في يوم أحد فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصة بما يتعلق بباب الجهاد السادس قال سعيد بن جبير انها التكبيرة الأولى والسابع قال عثمان انها الصلوات الخمس والثامن قال عكرمة إنها جميع الطاعات لأن اللفظ عام فيتناول الكل والتاسع قال الأصم سارعوا أي بادروا الى التوبة من الربا والذنوب والوجه فيه أنه تعالى نهى أولا عن الربا ثم قال وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ فهذا يدل على أن المراد منه المسارعة في ترك ما تقدم النهي عنه والأولى ما تقدم من وجوب حمله على أداء الواجبات والتوبة عن جميع المحظورات لأن اللفظ عام فلا وجه في تخصيصه ثم أنه تعالى بين أنه كما تجب المسارعة إلى المغفرة فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة وإنما فصل بينهما لأن الغفران معناه إزالة العقاب والجنة معناها إيصال الثواب فجمع بينهما للأشعار بأنه لا بد للمكلف من تحصيل الأمرين فأما وصف الجنة بأن عرضها السموات فمعلوم أن ذلك ليس بحقيقة لأن نفس السموات لا تكون عرضا للجنة فالمراد كعرض السموات والأرض وههنا سؤالات

السؤال الأول ما معنى أن عرضها مثل عرض السموات والأرض وفيه وجوه الأول أن المراد لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا بحيث يكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة وهذا غاية في السعة لا يعلمها إلا الله والثاني أن الجنة التي يكون عرضها مثل عرض السموات والأرض إنما تكون للرجل الواحد لأن الانسان إنما يرغب فيما يصير ملكا فلا بد وأن تكون الجنة المملوكة لكل واحد مقدارها هذا الثالث قال أبو مسلم وفيه وجه آخر وهو أن الجنة لو عرضت بالسموات والأرض على سبيل البيع لكانتا ثمنا للجنة تقول إذا بعت الشيء بالشيء الآخر عرضته عليه وعارضته به فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر وكذا أيضا معنى القيمة لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء بالشيء حتى يكون كل واحد منهما مثلا للآخر الرابع المقصود المبالغة في وصف سعة الجنة وذلك لأنه لا شيء عندنا أعرض منهما ونظيره قوله خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( هود 107 ) فان أطول الأشياء بقاء عندنا هو السموات والأرض فخوطبنا على وفق ما عرفناه فكذا ههنا
السؤال الثاني لم خص العرض بالذكر
والجواب فيه وجهان الأول أنه لما كان العرض ذلك فالظاهر أن الطول يكون أعظم ونظيره قوله بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ( الرحمن 54 ) وإنما ذكر البطائن لأن من المعلوم أنها تكون أقل حالا من الظهارة فاذا كانت البطانة هكذا فكيف الظهارة فكذا ههنا إذا كان العرض هكذا فكيف الطول والثاني قال القفال ليس المراد بالعرض ههنا ما هو خلاف الطول بل هو عبارة عن السعة كما تقول العرب بلاد عريضة ويقال هذه دعوى عريضة أي واسعة عظيمة والأصل فيه ان ما اتسع عرضه لم يضق وما ضاق عرضه دق فجعل العرض كناية عن السعة
السؤال الثالث أنتم تقولون الجنة في السماء فكيف يكون عرضها كعرض السماء
والجواب من وجهين الأول أن المراد من قولنا انها فوق السموات وتحت العرش قال عليه السلام في صفة الفردوس ( سقفها عرش الرحمن ) وروي أن رسول هرقل سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال انك تدعو الى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأين النار فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار والمعنى والله أعلم أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم والليل في ضد ذلك الجانب فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي الأرض أم في السماء فقال وأي أرض وسماء تسع الجنة قيل فأين هي قال فوق السموات السبع تحت العرش
والوجه الثاني أن الذين يقولون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن بل الله تعالى يخلقهما بعد قيام القيامة فعلى هذا التقدير لا يبعد أن تكون الجنة مخلوقة في مكان السموات والنار في مكان الأرض والله أعلم
أما قوله أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ فظاهره يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وقد سبق تقرير ذلك قوله تعالى

الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين أن الجنة معدة للمتقين ذكر صفات المتقين حتى يتمكن الانسان من اكتساب الجنة بواسطة اكتساب تلك الصفات
فالصفة الأولى قوله الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وفيه وجوه الأول أن المعنى أنهم في حال الرخاء واليسر والقدرة والعسر لا يتركون الانفاق وبالجملة فالسراء هو الغنى والضراء هو الفقر يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة وعن عائشة رضي الله عنها أنها تصدقت بحبة عنب والثاني أن المعنى أنهم سواء كانوا في سرور أو في حزن أو في عسر أو في يسر فانهم لا يدعون الاحسان إلى الناس الثالث المعنى أن ذلك الاحسان والانفاق سواء سرهم بأن كان على وفق طبعهم أو ساءهم بأن كان على خلاف طبعهم فانهم لا يتركونه وإنما افتتح الله بذكر الانفاق لأنه طاعة شاقة ولأنه كان في ذلك الوقت أشرف الطاعات لأجل الحاجة اليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين
الصفة الثانية قوله تعالى وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وفيه مسئلتان
المسألة الأولى يقال كظم غيظة إذا سكت عليه ولم يظهره لا بقول ولا بفعل قال المبرد تأويله أنه كتم على امتلائه منه يقال كظمت السقاء إذا ملأنه وسددت عليه ويقال فلان لا يكظم على جرته إذا كان لا يحتمل شيئا وكل ما سددت من مجرى ماء أو باب أو طريق فهو كظم والذي يسد به يقال له الكظامة والسدادة ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض كظامة لامتلائها بالماء كامتلاء القرب المكظومة ويقال أخذ فلان بكظم فلان إذا أخذ بمجرى نفسه لأنه موضع الامتلاء بالنفس وكظم البعير كظوماً إذا أمسك على ما في جوفه ولم يجتر ومعنى قوله وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ الذين يكفون غيظهم عن الامضاء يردون غيظهم في أجوافهم وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم وهو كقوله وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ( الشورى 37 )
المسألة الثانية قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا ) وقال عليه السلام لأصحابه ( تصدقوا ) فتصدقوا بالذهب والفضة والطعام وأتاه الرجل بقشور التمر فتصدق به وجاءه آخر فقال والله ما عندي ما أتصدق به ولكن أتصدق بعرضي فلا أعاقب أحدا بما يقوله في حديثه فوفد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من قوم ذلك الرجل وفد فقال عليه السلام ( لقد تصدق منكم رجل بصدقة ولقد قبلها الله منه تصدق بعرضه ) وقال عليه السلام ( من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه زوجه الله من الحور العين حيث يشاء ) وقال عليه السلام ( ما من جرعتين أحب إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن عزاء ومن جرعة غيظ كظمها ) وقال عليه السلام ( ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب )

الصفة الثالثة قوله تعالى وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ قال القفال رحمه الله يحتمل أن يكون هذا راجعا الى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا فنهى المؤمنون عن ذلك وندبوا الى العفو عن المعسرين قال تعالى عقيب قصة الربا والتداين وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ( البقرة 280 ) ويحتمل أن يكون كما قال في الدية فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء ( البقرة 178 ) الى قوله وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ( البقرة 280 ) ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين مثلوا بحمزة وقال ( لامثلن بهم ) فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة فكان تركه فعل ذلك عفوا قال تعالى في هذه القصة وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ ( النحل 126 ) قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ) وروي عن عيسى بن مريم صلوات الله عليه ليس الاحسان أن تحسن الى من أحسن اليك ذلك مكافأة انما الاحسان أن تحسن الى من أساء اليك
أما قوله تعالى وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فاعلم أنه يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون وأن تكون للعهد فيكون إشارة الى هؤلاء
واعلم أن الاحسان إلى الغير إما أن يكون بايصال النفع اليه أو بدفع الضرر عنه أما إيصال النفع اليه فهو المراد بقوله الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ويدخل فيه انفاق العلم وذلك بأن يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا وهو أن لا يشتغل بمقابلة تلك الاساءة باساءة أخرى وهو المراد بكظم الغيظ وإما في الآخرة وهو أن يبرىء ذمته عن التبعات والمطالبات في الآخرة وهو المراد بقوله تعالى وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على جميع جهات الاحسان إلى الغير ولما كانت هذه الأمور الثلاثة مشتركة في كونها إحسانا إلى الغير ذكر ثوابها فقال وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فان محبة الله للعبد أعم درجات الثواب
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَائِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَة ٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
واعلم أن وجه النظم من وجهين الأول أنه تعالى لما وصف الجنة بأنها معدة للمتقين بين أن المتقين قسمان أحدهما الذين أقبلوا على الطاعات والعبادات وهم الذين وصفهم الله بالانفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس وثانيهما الذين أذنبوا ثم تابوا وهو المراد بقوله وَالَّذِينَ إِذَا

فَعَلُواْ فَاحِشَة ً وبين تعالى أن هذه الفرقة كالفرقة الأولى في كونها متقية وذلك لأن المذنب إذا تاب عن الذنب صار حاله كحال من لم يذنب قط في استحقاق المنزلة والكرامة عند الله
والوجه الثاني أنه تعالى ندب في الآية الأولى إلى الاحسان إلى الغير وندب في هذه الآية إلى الاحسان إلى النفس فان المذنب العاصي إذا تاب كانت تلك التوبة إحساناً منه إلى نفسه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في رجلين أنصاري وثقفي والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان قد آخى بينهما وكانا لا يفترقان في أحوالهما فخرج الثقفي مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالقرعة في السفر وخلف الأنصاري على أهله ليتعاهدهم فكان يفعل ذلك ثم قام إلى امرأته ليقبلها فوضعت كفها على وجهها فندم الرجل فلما وافى الثقفي مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لم ير الأنصاري وكان قد هام في الجبال للتوبة فلما عرف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) سكت حتى نزلت هذه الآية وقال ابن مسعود قال المؤمنون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا فكان أحدهم إذا أذنب ذنباً أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره اجدع أنفك افعل كذا فأنزل الله تعالى هذه الآية وبين أنهم أكرم على الله منهم حيث جعل كفارة ذنبهم الاستغفار
المسألة الثانية الفاحشة ههنا نعت محذوف والتقدير فعلوا فعلة فاحشة وذكروا في الفرق بين الفاحشة وبين ظلم النفس وجوها الأول قال صاحب ( الكشاف ) الفاحشة ما يكون فعله كاملا في القبح وظلم النفس هو أي ذنب كان مما يؤاخذ الانسان به والثاني أن الفاحشة هي الكبيرة وظلم النفس هي الصغيرة والصغيرة يجب الاستغفار منها بدليل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان مأموراً بالاستغفار وهو قوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ( محمد 19 ) وما كان استغفاره دالا على الصغائر بل على ترك الأفضل الثالث الفاحشة هي الزنا وظلم النفس هي القبلة واللمسة والنظرة وهذا على قول من حمل الآية على السبب الذي رويناه ولأنه تعالى سمى الزنا فاحشة فقال تعالى وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً ( الإسراء 32 )
أما قوله ذَكَرُواْ اللَّهَ ففيه وجهان أحدهما أن المعنى ذكروا وعيد الله أو عقابة أو جلاله الموجب للخشية والحياء منه فيكون من باب حذف المضاف والذكر ههنا هو الذي ضد النسيان وهذا معنى قول الضحاك ومقاتل والواقدي فان الضحاك قال ذكروا العرض الأكبر على الله ومقاتل والواقدي قال تفكروا أن الله سائلهم وذلك لأنه قال بعد هذه الآية فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وهذا يدل على أن الاستغفار كالأثر والنتيجة لذلك الذكر ومعلوم أن الذكر الذي يوجب الاستغفار ليس إلا ذكر عقاب الله ونهيه ووعيده ونظير هذه الآية قوله إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( الأعراف 201 )
والقول الثاني أن المراد بهذا الذكر ذكر الله بالثناء والتعظيم والاجلال وذلك لأن من أراد أن يسأل الله مسألة فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله فهنا لما كان المراد الاستغفار من الذنوب قدموا عليه الثناء على الله تعالى ثم اشتغلوا بالاستغفار عن الذنوب
ثم قال فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ والمراد منه الاتيان بالتوبة على الوجه الصحيح وهو الندم على فعل ما

مضى مع العز على ترك مثله في المستقبل فهذا هو حقيقة التوبة فأما الاستغفار باللسان فذاك لا أثر له في إزالة الذنب بل يجب إظهار هذا الاستغفار لازالة التهمة ولاظهار كونه منقطعاً إلى الله تعالى وقوله لِذُنُوبِهِمْ أي لأجل ذنوبهم
ثم قال وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ والمقصود منه أن لا يطلب العبد المغفرة إلا منه وذلك لأنه تعالى هو القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة فكان هو القادر على إزالة ذلك العقاب عنه فصح أنه لا يجوز طلب الاستغفار إلا منه
ثم قال وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ واعلم أن قوله وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه والتقدير فاستغفروا لذنوبهم ولم يصروا على ما فعلوا
وقوله وَهُمْ يَعْلَمُونَ فيه وجهان الأول أنه حال من فعل الاصرار والتقدير ولم يصروا على ما فعلوا من الذنوب حال ما كانوا عالمين بكونها محظورة محرمة لأنه قد يعذر من لا يعلم حرمة الفعل أما العالم بحرمته فانه لا يعذر في فعله البتة الثاني أن يكون المراد منه العقل والتمييز والتمكين من الاحتراز من الفواحش فيجري مجرى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رفع القلم عن ثلاث )
ثم قال أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَة ٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ والمعنى أن المطلوب أمران الأول الأمن من العقاب واليه الاشارة بقوله مَّغْفِرَة ٌ مّن رَّبّهِمْ والثاني إيصال الثواب اليه وهو المراد بقوله جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَاالِدِينَ فِيهَا ثم بين تعالى أن الذي يحصل لهم من ذلك وهو الغفران والجنات يكون أجراً لعملهم وجزاء عليه بقوله وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ قال القاضي وهذا يبطل قول من قال ان الثواب تفضل من الله وليس بجزاء على عملهم
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى الأرض فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذِّبِينَ هَاذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَة ٌ لِّلْمُتَّقِينَ
اعلم أن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية الغفران والجنات أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي أصل الخلو في اللغة الانفراد والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ويستعمل أيضا في الزمان بمعنى المضي لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه وكذا الأمم الخالية وأما السنة فهي الطريقة المستقيمة والمثال المتبع وفي اشتقاق هذه اللفظة وجوه الأول أنها فعلة من سن الماء يسنه إذا والى صبه والسن الصب للماء والعرب شبهت الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب فانه لتوالي أجزاء الماء فيه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد والسنة فعلة بمعنى مفعول وثانيها أن تكون

من سننت النصل والسنان أسنه سنا فهو مسنون إذا حددته على المسن فالفعل المنسوب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمي سنة على معنى أنه مسنون وثالثها أن يكون من قولهم سن الابل إذا أحسن الرعي والفعل الذي داوم عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمي سنة بمعنى أنه عليه الصلاة والسلام أحسن رعايته وادامته
المسألة الثانية المراد من الآية قد انقضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة واختلفوا في ذلك فالاكثرون من المفسرين على أن المراد سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذّبِينَ وذلك لأنهم خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة عليهم فرغب الله تعالى أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في تأمل أحوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم الى الايمان بالله ورسله والاعراض عن الرياسة في الدنيا وطلب الجاه وقال مجاهد بل المراد سنن الله تعالى في الكافرين والمؤمنين فان الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى والكافر بقي عليه اللعنة في الدنيا والعقاب في العقبى ثم إنه تعالى قال فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذّبِينَ لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر وأيضاً يقال الغرض منه زجر الكفار عن كفرهم وذلك انما يعرف بتأمل أحوال المكذبين والمعاندين ونظير هذه الآية قوله تعالى وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( الصافات 171 173 ) وقوله وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ ( الأعراف 128 القصص 83 ) وقوله أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى َ الصَّالِحُونَ ( الأنبياء 105 )
المسألة الثالثة ليس المراد بقوله فَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانْظُرُواْ ( النحل 36 ) الأمر بذلك لا محالة بل المقصود تعرف أحوالهم فان حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلا ولا يمتنع أن يقال أيضا ان لمشاهدة آثار المتقدمين أثراً أقوى من أثر السماع كما قال الشاعر
إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
ثم قال تعالى هَاذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَة ٌ لّلْمُتَّقِينَ ويعني بقوله هَاذَا ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده وذكره لأنواع البينات والآيات ولا بد من الفرق بين البيان وبين الهدى وبين الموعظة لأن العطف يقتضي المغايرة فنقول فيه وجهان الأول أن البيان هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت الشبهة حاصلة فالفرق أن البيان عام في أي معنى كان وأما الهدى فهو بيان لطريق الرشد ليسلك دون طريق الغي وأما الموعظة فهي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان أحدهما الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى الثاني الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة
الوجه الثاني أن البيان هو الدلالة وأما الهدى فهو الدلالة بشرط كونها مفضية إلى الاهتداء وقد تقدم هذا البحث في تفسير قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ في سورة البقرة
المسألة الرابعة في تخصيص هذا البيان والهدى والموعظة للمتقين وجهان أحدهما أنهم هم المنتفعون به فكانت هذه الأشياء في حق غير المتقين كالمعدومة ونظيره قوله تعالى إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) إِنَّمَا تُنذِرُ مَّعَ مَنِ اتَّبَعَ الذِكْرَ ( يس 11 ) إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء

( فاطر 28 ) وقد تقدم تقريره في تفسير قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ الثاني أن قوله هَاذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ كلام عام ثم قوله وَهُدًى وَمَوْعِظَة ٌ للمتقين مخصوص بالمتقين لأن الهدى اسم للدلالة بشرط كونها موصلة إلى البغية ولا شك أن هذا المعنى لا يحصل إلا في حق المتقين والله أعلم بالصواب
وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاٌّ عْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
اعلم أن الذي قدمه من قوله قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ( آل عمران 137 ) وقوله هذا بيان للناس كالمقدمة لقوله وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا ( آل عمران 139 ) كأنه قال إذا بحثتم عن أحوال القرون الماضية علمتم أن أهل الباطل وإن اتفقت لهم الصولة لكن كان مآل الأمر إلى الضعف والفتور وصارت دولة أهل الحق عالية وصولة أهل الباطل مندرسة فلا ينبغي أن تصير صولة الكفار عليكم يوم أحد سبباً لضعف قلبكم ولجبنكم وعجزكم بل يجب أن يقوى قلبكم فان الاستعلاء سيحصل لكم والقوة والدولة راجعة اليكم
ثم نقول قوله وَلاَ تَهِنُواْ أي لا تضعفوا عن الجهاد والوهن الضعف قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام إِنّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى وقوله وَلاَ تَحْزَنُواْ أي على من قتل منكم أو جرح وقوله وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ فيه وجوه الأول أن حالكم أعلى من حالهم في القتل لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد وهو كقوله تعالى أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا ( آل عمران 165 ) أو لأن قتالكم لله وقتالهم للشيطان أو لأن قتالهم للدين الباطل وقتالكم للدين الحق وكل ذلك يوجب كونكم أعلى حالا منهم الثاني أن يكون المراد وأنتم الأعلون بالحجة والتمسك بالدين والعاقبة الحميدة الثالث أن يكون المعنى وأنتم الأعلون من حيث أنكم في العاقبة تظفرون بهم وتستولون عليهم وهذا شديد المناسبة لما قبله لأن القوم انكسرت قلوبهم بسبب ذلك الوهن فهم كانوا محتاجين الى ما يفيدهم قوة في القلب وفرحا في النفس فبشرهم الله تعالى بذلك فأما قوله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ففيه وجوه الأول وأنتم الأعلون ان بقيتم على إيمانكم والمقصود بيان أن الله تعالى إنما تكفل باعلاء درجتهم لأجل تمسكهم بدين الإسلام الثاني وأنتم الأعلون فكونوا مصدقين لهذه البشارة ان كنتم مصدقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة والثالث التقدير ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ان كنتم مؤمنين فان الله تعالى وعد بنصرة هذا الدين فان كنتم من المؤمنين علمتم أن هذه الواقعة لا تبقى بحالها وأن الدولة تصير للمسلمين والاستيلاء على العدو يحصل لهم

إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاٌّ يَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ
واعلم أن هذا من تمام قوله وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ ( آل عمران 139 ) فبين تعالى أن الذي يصيبهم من القرح لا يجب أن يزيل جدهم واجتهادهم في جهاد العدو وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك فاذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم قَرْحٌ بضم القاف وكذلك قوله مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ( آل عمران 172 ) والباقون بفتح القاف فيهما واختلفوا على وجوه فالأول معناهما واحد وهما لغتان كالجهد والجهد والوجد والوجد والضعف والضعف والثاني أن الفتح لغة تهامة والحجاز والضم لغة نجد والثالث أنه بالفتح مصدر وبالضم اسم والرابع وهو قول الفرار انه بالفتح الجراحة بعينها وبالضم ألم الجراحة والخامس قال ابن مقسم هما لغتان الا أن المفتوحة توهم انها جمع قرحة
المسألة الثانية في الآية قولان أحدهما إن يمسسكم قرح يوم أحد فقد مسهم يوم بدر وهو كقوله تعالى أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا ( آل عمران 165 ) والثاني أن الكفار قد نالهم يوم أحد مثل ما نالكم من الجرح والقتل لأنه قتل منهم نيف وعشرون رجلا وقتل صاحب لوائهم والجراحات كثرت فيهم وعقر عامة خيلهم بالنبل وقد كانت الهزيمة عليهم في أول النهار
فان قيل كيف قال قَرْحٌ مّثْلُهُ وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين
قلنا يجب أن يفسر القرح في هذا التأويل بمجرد الانهزام لا بكثرة القتلى
ثم قال تعالى وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وفيه مسائل
المسألة الأولى تِلْكَ مبتدأ والأيام صفة ونداولها خبره ويجوز أن يقال تلك الأيام مبتدأ وخبر كما تقول هي الأيام تبلي كل جديد فقوله تِلْكَ الاْيَّامِ إشارة إلى جميع أيام الوقائع العجيبة فبين أنها دول تكون على الرجل حينا وله حينا والحرب سجال
المسألة الثانية قال القفال المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر يقال تداولته الأيدي إذا تناقلته ومنه قوله تعالى كَى لاَ يَكُونَ دُولَة ً بَيْنَ الاْغْنِيَاء مِنكُمْ ( الحشر 7 ) أي تتداولونها ولا تجعلون للفقراء منها نصيباً ويقال الدنيا دول أي تنتقل من قوم الى آخرين ثم عنهم إلى غيرهم ويقال دال له الدهر بكذا إذا انتقل اليه والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس لا يدوم مسارها ولا مضارها فيوم يحصل فيه السرور له والغم لعدوه ويوم آخر بالعكس من ذلك ولا يبقى شيء من أحوالها ولا يستقر أثر من آثارها
واعلم أنه ليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارة ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين وذلك لأن نصرة الله منصب شريف وإعزاز عظيم فلا يليق بالكافر بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين والفائدة فيه من وجوه الأول أنه تعالى لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الاضطراري بأن الايمان حق وما سواه باطل

ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الايمان وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإسلام فيعظم ثوابه عند الله والثاني أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي فيكون عند الله تشديد المحنة عليه في الدنيا أدباً له وأما تشديد المحنة على الكافر فانه يكون غضبا من الله عليه والثالث وهو أن لذات الدنيا وآلامها غير باقية وأحوالها غير مستمرة وإنما تحصل السعادات المستمرة في دار الآخرة ولذلك فانه تعالى يميت بعد الاحياء ويسقم بعد الصحة فاذا حسن ذلك فلم لا يحسن أن يبدل السراء بالضراء والقدرة بالعجز وروي أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد ثم قال أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب فقال عمر هذا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا أبو بكر وها أنا عمر فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال فقال عمر رضي الله عنه لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار فقال ان كان كما تزعمون فقد خبنا اذن وخسرنا
أما قوله تعالى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ متعلق بفعل مضمر اما بعده أو قبله أما الاضمار بعده فعلى تقدير وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ فعلنا هذه المداولة وأما الاضمار قبله فعلى تقدير وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور منها ليعلم الله الذين آمنوا ومنها ليتخذ منكم شهداء ومنها ليمحص الله الذين آمنوا ومنها ليمحق الكافرين فكل ذلك كالسبب والعلة في تلك المداولة
المسألة الثانية الواو في قوله وليعلم الله الذين آمنوا نظائره كثيرة في القرآن قال تعالى وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( الأنعام 75 ) وقال تعالى وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( الأنعام 113 ) والتقدير وتلك الأيام نداولها بين الناس ليكون كيت وكيت وليعلم الله وإنما حذف المعطوف عليه للايذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة ليسليهم عما جرى وليعرفهم أن تلك الواقعة وأن شأنهم فيها فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرهم
المسألة الثالثة ظاهر قوله تعالى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مشعر بأنه تعالى إنما فعل تلك المداولة ليكتسب هذا العلم ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى ونظير هذه الآية في الاشكال قوله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( آل عمران 142 ) وقوله وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( العنكبوت 30 ) وقوله لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا ( الكهف 12 ) وقوله وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وقوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( هود 7 الملك 2 ) وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها فقال كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالما بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها
أجاب المتكلمون عنه بأن الدلائل العقلية دلت على أنه تعالى يعلم الحوادث قبل وقوعها فثبت أن التغيير في العلم محالا الا أن اطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدور مجاز مشهور يقال هذا

علم فلان والمراد معلومه وهذه قدرة فلان والمراد مقدوره فكل آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم فالمراد تجدد المعلوم
إذا عرفت هذا فنقول في هذه الآية وجوه أحدها ليظهر الاخلاص من النفاق والمؤمن من الكافر والثاني ليعلم أولياء الله فأضاف الى نفسه تفخيما وثالثها ليحكم بالامتياز فوضع العلم مكان الحكم بالامتياز لأن الحكم بالامتياز لا يحصل إلا بعد العلم ورابعها ليعلم ذلك واقعاً منهم كما كان يعلم أنه سيقع لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد
المسألة الرابعة العلم قد يكون بحيث يكتفي فيه بمفعول واحد كما يقال علمت زيداً أي علمت ذاته وعرفته وقد يفتقر إلى مفعولين كما يقال علمت زيداً كريما والمراد منه في هذه الآية هذا القسم الثاني إلا أن المفعول الثاني محذوف والتقدير وليعلم الله الذين آمنوا متميزين بالايمان من غيرهم أي الحكمة في هذه المداولة أن يصير الذين آمنوا متميزين عمن يدعي الايمان بسبب صبرهم وثباتهم على الإسلام ويحتمل أن يكون العلم ههنا من القسم الأول بمعنى معرفة الذات والمعنى وليعلم الله الذين آمنوا لما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم أي ليعرفهم بأعيانهم إلا أن سبب حدوث هذا العلم وهو ظهور الصبر حذف ههنا
أما قوله وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء فالمراد منه ذكر الحكمة الثانية في تلك المداولة وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان الأول يتخذ منكم شهداء على الناس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي فان كونهم شهداء على الناس منصب عال ودرجة عالية والثاني المراد منه وليكرم قوماً بالشهادة وذلك لأن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر وكانوا يتمنون لقاء العدو وأن يكون لهم يوم كيوم بدر يقاتلون فيه العدو ويلتمسون فيه الشهادة وأيضا القرآن مملوء من تعظيم حال الشهداء قال تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) وقال وَجِىء بِالنَّبِيّيْنَ وَالشُّهَدَاء ( الزمر 69 ) وقال فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ ( النساء 69 ) فكانت هذه المنزلة هي المنزلة الثالثة للنبوة وإذا كان كذلك فكان من جملة الفوائد المطلوبة من تلك المداولة حصول هذا المنصب العظيم لبعض المؤمنين
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع الحوادث بارادة الله تعالى فقالوا منصب الشهادة على ما ذكرتم فان كان يمكن تحصيلها بدون تسليط الكفار على المؤمنين لم يبق لحسن التعليل وجه وإن كان لا يمكن فحينئذ يكون قتل الكفار للمؤمنين من لوازم تلك الشهادة فاذا كان تحصيل تلك الشهادة للعبد مطلوباً لله تعالى وجب أن يكون ذلك القتل مطلوباً لله تعالى وأيضاً فقوله وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء تنصيص على أن ما به حصلت تلك الشهادة هو من الله تعالى وذلك يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى
المسألة الثالثة الشهداء جمع شهيد كالكرماء والظرفاء والمقتول من المسلمين بسيف الكفار شهيداً وفي تعليل هذا الاسم وجوه الأول قال النضر بن شميل الشهداء أحياء لقوله بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) فأرواحهم حية وقد حضرت دار السلام وأرواح غيرهم لا تشهدها الثاني قال

ابن الانباري لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة فالشهيد فعيل بمعنى مفعول الثالث سموا شهداء لأنهم يشهدون يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين كما قال تعالى لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( البقرة 143 ) الرابع سموا شهداء لأنهم كما قتلوا أدخلوا الجنة بدليل أن الكفار كما ماتوا أدخلوا النار بدليل قوله أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) فكذا ههنا يجب أن يقال هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله كما ماتوا دخلوا الجنة
ثم قال تعالى وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ قال ابن عباس رضي الله عنهما أي المشركين لقوله تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وهو اعتراض بين بعض التعليل وبعض وفيه وجوه الأول والله لا يحب من لا يكون ثابتاً على الايمان صابراً على الجهاد الثاني فيه إشارة إلى أنه تعالى إنما يؤيد الكافرين على المؤمنين لما ذكر من الفوائد لا لأنه يحبهم
ثم قال وَلِيُمَحّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ أي ليطهرهم من ذنوبهم ويزيلها عنهم والمحص في اللغة التنقية والمحق في اللغة النقصان وقال المفضل هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه شيء ومنه قوله تعالى يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ ( البقرة 276 ) أي يستأصله قال الزجاج معنى الآية أن الله تعالى جعل الأيام مداولة بين المسلمين والكافرين فان حصلت الغلبة للكافرين على المؤمنين كان المراد تمحيص ذنوب المؤمنين وإن كانت الغلبة للمؤمنين على هؤلاء الكافرين كان المراد محق آثار الكافرين ومحوهم فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين لأن تمحيص هؤلاء باهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك باهلاك أنفسهم وهذه مقابلة لطيفة في المعنى والأقرب أن المراد بالكافرين ههنا طائفة مخصوصة منهم وهم الذين حاربوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد وإنما قلنا ذلك لعلمنا بأنه تعالى لم يمحق كل الكفار بل كثير منهم بقي على كفره والله أعلم
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى الوجوه التي هي الموجبات والمؤثرات في مداولة الأيام ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصلي لذلك فقال أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ بدون تحمل المشاق وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أم منقطعة وتفسير كونها منقطعة تقدم في سورة البقرة قال أبو مسلم في أَمْ حَسِبْتُمْ إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت وتلخيصه لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد وهو كقوله الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ( العنكبوت 1 2 ) وافتتح الكلام بذكر ( أم ) التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما لا بعينه يقولون أزيداً ضربت أم عمرواً مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما قال وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً

فلما قال وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا ( آل عمران 139 ) كأنه قال أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة وأوجب الصبر على تحمل متاعبها وبين وجوه المصالح فيها في الدين وفي الدنيا فلما كان كذلك فمن البعيد أن يصل الانسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة
المسألة الثانية قال الزجاج إذا قيل فعل فلان فجوابه أنه لم يفعل وإذا قيل قد فعل فلان فجوابه لما يفعل لأنه لما أكد في جانب الثبوت بقد لا جرم أكد في جانب النفي بكلمة ( لما )
المسألة الثالثة ظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم والمراد وقوعه على نفي المعلوم والتقدير أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يصدر الجهاد عنكم وتقريره أن العلم متعلق بالمعلوم كما هو عليه فلما حصلت هذه المطابقة لا جرم حسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر وتمام الكلام فيه قد تقدم
أما قوله وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ فاعلم أنه قرأ الحسن وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ بالجزم عطفاً على وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ وأما النصب فباضمار أن وهذه الواو تسمى واو الصرف كقولك لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا تجمع بينهما وكذا ههنا المراد أن دخول الجنة وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان وقرأ أبو عمرو وَيَعْلَمَ بالرفع على تقدير أن الواو للحال كأنه قيل ولما تجاهدوا وأنتم صابرون
واعلم أن حاصل الكلام أن حب الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة فبقدر ما يزداد أحدهما ينتقص الآخر وذلك لأن سعادة الدنيا لا تحصل إلا باشتغال القلب بطلب الدنيا والسعادة في الآخرة لا تحصل إلا بفراغ القلب من كل ما سوى الله وامتلائه من حب الله وهذان الأمران مما لا يجتمعان فلهذا السر وقع الاستبعاد الشديد في هذه الآية من اجتماعهما وأيضاً حب الله وحب الآخرة لا يتم بالدعوى فليس كل من أقر بدين الله كان صادقا ولكن الفصل فيه تسليط المكروهات والمحبوبات فان الحب هو الذي لا ينتقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء فان بقي الحب عند تسليط أسباب البلاء ظهر أن ذلك الحب كان حقيقياً فلهذه الحكمة قال أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ بمجرد تصديقكم الرسول قبل أن يبتليكم الله بالجهاد وتشديد المحنة والله أعلم
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس ومجاهد والضحاك لما نزل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأحد أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل وأن لا ينتقلوا عن ذلك سواء كان الأمر لهم أو عليهم فلما وقفوا وحملوا على الكفار وهزموهم وقتل علي طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم والزبير والمقداد شدا على المشركين ثم حمل الرسول مع أصحابه

فهزموا أبا سفيان ثم إن بعض القوم لما أن رأوا انهزام الكفار بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم وكثر القتل في المسملين ورمى عبدالله بن قميئة الحارثي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه وأقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد حتى قتله ابن قميئة فظن أنه قتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قد قتلت محمدا وصرخ صارح ألا ان محمدا قد قتل وكان الصارخ الشيطان ففشا في الناس خبر قتله فهنالك قال بعض المسلمين ليت عبدالله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان وقال قوم من المنافقين لو كان نبيا لما قتل ارجعوا الى إخوانكم والى دينكم فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك يا قوم ان كان قد قتل محمد فان رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ثم قال اللهم اني أعتذر اليك مما يقول هؤلاء ثم سل سيفه فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى ومر بعض المهاجرين بأنصاري يتشحط في دمه فقال يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل فقال ان كان قد قتل فقد بلغ قاتلوا على دينكم ولما شج ذلك الكافر وجه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وكسر رباعيته احتمله طلحة بن عبيدالله ودافع عنه أبو بكر وعلي رضي الله عنهم ونفر آخرون معهم ثم ان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) جعل ينادي ويقول الى عباد الله حتى انحازت اليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم فقالوا يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك فاستولى الرعب على قلوبنا فولينا مدبرين ومعنى الآية وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ فسيخلو كما خلوا وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه لأن الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة والزام الحجة لا وجودهم بين أظهر قومهم أبدا
المسألة الثانية قال أبو علي الرسول جاء على ضربين أحدهما يراد به المرسل والآخر الرسالة وههنا المراد به المرسل بدليل قوله إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( البقرة 252 ) وقوله يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ ( المائدة 67 ) وفعول قد يراد به المفعول كالركوب والحلوب لما يركب ويحلب والرسول بمعنى الرسالة كقوله
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة قال ومن هذا قوله تعالى إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ ونذكره في موضعه ان شاء الله تعالى ثم قال وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن وفيه مسائل
المسألة الأولى حرف الاستفهام دخل على الشرط وهو في الحقيقة داخل على الجزاء والمعنى أتنقلبون على أعقابكم ان مات محمد أو قتل ونظيره قوله هل زيد قائم فأنت أنما تستخبر عن قيامه الا انك أدخلت هل على الاسم والله أعلم
المسألة الثانية أنه تعالى بين في آيات كثيرة انه عليه السلام لا يقتل قال إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ ( الزمر 30 ) وقال وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) وقال لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( الصف 9 ) فليس لقائل أن يقول لما علم أنه لا يقتل فلم قال أو قتل فان الجواب عنه من وجوه الأول أن صدق القضية الشرطية لا يقتضي صدق جزأيها فانك

تقول ان كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين فالشرطية صادقة وجزآها كاذبان وقال تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) فهذا حق مع أنه ليس فيهما آلهة وليس فيهما فساد فكذا ههنا والثاني ان هذا ورد على سبيل الالزام فان موسى عليه السلام مات ولم ترجع أمته عن ذلك والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام قتل وهم لا يرجعون عن دينه فكذا ههنا والثالث ان الموت لا يوجب رجوع الأمة عن دينه فكذا القتل وجب أن لا يوجب الرجوع عن دينه لانه فارق بين الأمرين فلما رجع الى هذا المعنى كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين وهموا بالارتداد
المسألة الثالثة قوله انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ أي صرتم كفارا بعد إيمانكم يقال لكل من عاد الى ما كان عليه رجع وراءه وانقلب على عقبه ونكص على عقبيه وذلك أن المنافقين قالوا لضعفة المسلمين ان كان محمد قتل فالحقوا بدينكم فقال بعض الانصار ان كان محمد قتل فان رب محمد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد وحاصل الكلام انه تعالى بين أن قلته لا يوجب ضعفا في دينه بدليلين الأول بالقياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم والثاني أن الحاجة الى الرسول لتبليغ الدين وبعد ذلك فلا حاجة اليه فلم يلزم من قتله فساد الدين والله أعلم
المسألة الرابعة ليس لقائل أن يقول ان قوله وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ شك وهو على الله تعالى لا يجوز فانا نقول المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجوب الارتداد
ثم قال تعالى وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً والغرض منه تأكيد الوعيد لأن كل عاقل يعلم ان الله تعالى لا يضره كفر الكافرين بل المراد أنه لا يضر الا نفسه وهذا كما إذا قال الرجل لولده عند العتاب ان هذا الذي تأتي به من الأفعال لا يضر السماء والأرض ويريد به أنه يعود ضرره عليه فكذا ههنا ثم أتبع الوعيد بالوعد فقال وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ فالمراد أنه لما وقعت الشبهة في قلوب بعضهم بسبب تلك الهزيمة ولم تقع الشبهة في قلوب العلماء الاقوياء من المؤمنين فهم شكروا الله على ثباتهم على الايمان وشدة تمسكهم به فلا جرم مدحهم الله تعالى بقوله وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ وروى محمد بن جرير الطبري عن علي رضي الله عنه أنه قال المراد بقوله وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أبو بكر وأصحابه وروي عنه أنه قال أبو بكر من الشاكرين وهو من أحباء الله والله أعلم بالصواب
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاٌّ خِرَة ِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في كيفية تعلق هذه الآية بما قبله وجوه الأول أن المنافقين أرجفوا أن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قد قتل فالله تعالى يقول انه لا تموت نفس الا باذن الله وقضائه وقدره فكان قتله مثل موته في أنه لا

يحصل الا في الوقت المقدر المعين فكما أنه لو مات في داره لم يدل ذلك على فساد دينه فكذا إذا قتل وجب أن لا يؤثر ذلك في فساد دينه والمقصود منه ابطال قول المنافقين لضعفة المسلمين انه لما قتل محمد فارجعوا الى ما كنتم عليه من الأديان الثاني أن يكون المراد تحريض المسلمين على الجهاد باعلامهم أن الحذر لا يدفع القدر وان أحداً لا يموت قبل الأجل وإذا جاء الأجل لا يندفع الموت بشيء فلا فائدة في الجبن والخوف والثالث أن يكون المراد حفظ الله للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتخليصه من تلك المعركة المخوفة فان تلك الواقعة ما بقي سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل فيها ولكن لما كان الله تعالى حافظاً وناصراً ما ضره شيء من ذلك وفيه تنبيه على أن أصحابه قصروا في الذب عنه والرابع وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله فليس في ارجاف من أرجف بموت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما يحقق ذلك فيه أو يعين في تقوية الكفر بل يبقيه الله إلى أن يظهر على الدين كله الخامس أن المقصود منه الجواب عما قاله المنافقون فان الصحابة لما رجعوا وقد قتل منهم من قتل قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فاخبر الله تعالى ان الموت والقتل كلاهما لا يكونان الا باذن الله وحضور الأجل والله أعلم بالصواب
المسألة الثانية اخلفوا في تفسير الاذن على أقوال الأول أن يكون الاذن هو الامر وهو قول أبي مسلم والمعنى ان الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الارواح فلا يموت أحد إلا بهذا الامر الثاني ان المراد من هذا الاذن ما هو المراد بقوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) والمراد من هذا الأمر انما هو التكوين والتخليق والايجاد لانه لا يقدر على الموت والحياة أحد الا الله تعالى فاذن المراد أن نفسا لن تموت الا بما أماتها الله تعالى الثالث أن يكون الاذن هو التخلية والاطلاق وترك المنع بالقهر والاجبار وبه فسر قوله تعالى وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( البقرة 102 ) أي بتخليته فانه تعالى قادر على المنع من ذلك بالقهر فيكون المعنى ما كان لنفس أن تموت الا بإذن الله بتخلي الله بين القاتل والمقتول ولكنه تعالى يحفظ نبيه ويجعل من بين يديه ومن خلفه رصدا ليتم على يديه بلاغ ما أرسله به ولا يخلي بين أحد وبين قتله حتى ينتهي الى الاجل الذي كتبه الله له فلا تنكسروا بعد ذلك في غزواتكم بأن يرجف مرجف أن محمدا قد قتل الرابع أن يكون الاذن بمعنى العلم ومعناه أن نفسا لن تموت إلا في الوقت الذي علم الله موتها فيه واذا جاء ذلك الوقت لزم الموت كما قال فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ( النحل 61 ) الخامس قال ابن عباس الاذن هو قضاء الله وقدره فانه لا يحدث شيء إلا بمشيئته وارادته فيجعل ذلك على سبيل التمثيل كانه فعل لا ينبغي لاحد أن يقدم عليه إلا باذن الله
المسألة الثالثة قال الاخفش والزجاج اللام في وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ معناها النفي والتقدير وما كانت نفس لتموت الا باذن الله
المسألة الرابعة دلت الآية على أن المقتول ميت بأجله وأن تغيير الآجال ممتنع
وقوله تعالى كِتَاباً مُّؤَجَّلاً فيه مسائل
المسألة الأولى قوله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً منصوب بفعل دل عليه ما قبله فان قوله وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله قام مقام أن يقال كتب الله فالتقدير كتب الله كتابا مؤجلا ونظيره قوله كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ النساء 24

لأن في قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ( النساء 23 ) دلالة على انه كتب هذا التحريم عليكم ومثله صنع الله ووعد الله وفطرة الله وصبغة الله
المسألة الثانية المراد بالكتاب المؤجل الكتاب المشتمل على الآجال ويقال انه هو اللوح المحفوظ كما ورد في الأحاديث أنه تعالى قال للقلم ( اكتب فكتب ما هو كائن الى يوم القيامة )
واعلم أن جميع الحوادث لا بد أن تكون معلومة لله تعالى وجميع حوادث هذا العالم من الخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة لا بد وأن تكون مكتوبة في اللوح المحفوظ فلو وقعت بخلاف علم الله لانقلب علمه جهلا ولانقلب ذلك الكتاب كذبا وكل ذلك محال وإذا كان الأمر كذلك ثبت ان الكل بقاء الله وقدره وقد ذكر بعض العلماء هذا المعنى في تفسير هذه الآية وأكده بحديث الصادق المصدوق وبالحديث المشهور من قوله عليه السلام ( فحج آدم موسى ) قال القاضي أما الأجل والرزق فهما مضافان الى الله وأما الكفر والفسق والايمان والطاعة فكل ذلك مضاف الى العبد فاذا كتب تعالى ذلك فانما يكتب بعلمه من اختيار العبد وذلك لا يخرج العبد من أن يكون هو المذموم أو الممدوح
واعلم أنه ما كان من حق القاضي أن يتغافل عن موضع الاشكال وذلك لانا نقول إذا علم الله من العبد الكفر وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر فلو أتى بالايمان لكان ذلك جمعا بين المتناقضين لأن العلم بالكفر والخبر الصدق عن الكفر مع عدم الكفر جمع بين النقيضين وهو محال وإذا كان موضع الالزام هو هذا فأنى ينفعه الفرار من ذلك الى الكلمات الأجنبية عن هذا الالزام
وأما قوله تعالى وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاْخِرَة ِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ
فاعلم أن الذين حضروا يوم أحد كانوا فريقين منهم من يريد الدنيا ومنهم من يريد الآخرة كما ذكره الله تعالى فيما بعد من هذه السورة فالذين حضروا القتال للدنيا هم الذين حضروا لطلب الغنائم والذكر والثناء وهؤلاء لا بد وأن ينهزموا والذين حضروا للدين فلا بد وأن لا ينهزموا ثم أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من طلب الدنيا لا بد وأن يصل الى بعض مقصوده ومن طلب الآخرة فكذلك وتقريره قوله عليه السلام ( إنما الأعمال بالنيات ) الى آخر الحديث
واعلم أن هذه الآية وان وردت في الجهاد خاصة لكنها عامة في جميع الأعمال وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب المقصود والدواعي لا ظواهر الأعمال فان من وضع الجبهة على الأرض في صلاة الظهر والشمس قدامه فان قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان ذلك من أعظم دعائم الإسلام وان قصد به عبادة الشمس كان ذلك من أعظم دعائم الكفر وروى أبو هريرة عنه عليه السلام ان الله تعالى يقول يوم القيامة لمقاتل في سبيل الله ( في ماذا قتلت فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان محارب وقد قيل ذلك ) ثم ان الله تعالى يأمر به الى النار

وَكَأَيِّن مِّن نَّبِى ٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
واعلم أنه تعالى من تمام تأديبه قال للمنهزمين يوم أحد إن لكم بالأنبياء المتقدمين وأتباعهم أسوة حسنة فلما كانت طريقة أتباع الأنبياء المتقدمين الصبر على الجهاد وترك الفرار فكيف يليق بكم هذا الفرار والانهزام وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ( وكائن ) على وزن كاعن ممدوداً مهموزاً مخففا وقرأ الباقون ( كأين ) مشدوداً بوزن كعين وهي لغة قريش ومن اللغة الأولى قول جرير وكائن بالأباطح من صديق
يراني لو أصيب هو المصاب
وأنشد المفضل وكائن ترى في الحي من ذي قرابة
المسألة الثانية قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ( قتل معه ) والباقون ( قاتل معه ) فعلى القراءة الأولى يكون المعنى أن كثيرا من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعدهم ما وهنوا في دينهم بل استمروا على جهاد عدوهم ونصرة دينهم فكان ينبغي أن يكون حالكم يا أمة محمد هكذا قال القفال رحمه الله والوقف على هذا التأويل على قوله ( قتل ) وقوله ( معه ربيون ) حال بمعنى قتل حال ما كان معه ربيون أو يكون على معنى التقديم والتأخير أي وكأين من نبي معه ربيون كثير قتل فما وهن الربيون على كثرتهم وفيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى وكأين من نبي قتل من إخوانهم بل مضوا على جهاد عدوهم فقد كان ينبغي أن يكون حالكم كذلك وحجة هذه القراءة أن المقصود من هذه الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياء لتقتدي هذه الأمة بهم وقد قال تعالى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن ( آل عمران 144 ) فيجب أن يكون المذكور قتل سائر الأنبياء لا قتالهم ومن قرأ ( قاتل معه ) فالمعنى وكم من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوهم قرح فما وهنوا لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ونصرة رسوله فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد وحجة هذه القراءة ان المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في القتال فوجب أن يكون المذكور هو القتال وأيضا روي عن سعيد بن جبير أنه قال ما سمعنا بنبي قتل في القتال
المسألة الثالثة قال الواحدي رحمه الله أجمعوا على أن معنى ( كأين ) كم وتأويلها التكثير لعدد الأنبياء الذين هذه صفتهم ونظيره قوله فَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا ( الحج 45 ) وَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ أَمْلَيْتُ لَهَا ( الحج 48 ) والكافي في ( كأين ) كاف التشبيه دخلت على ( أي ) التي هي للاستفهام كما دخلت على ( ذا ) من ( كذا ) و ( أن ) من كأن ولا معنى للتشبيه فيه كما لا معنى للتشبيه في كذا تقول لي عليه كذا وكذا معناه لي عليه عدد ما فلا معنى للتشبيه الا أنها زيادة لازمة لا يجوز حذفها واعلم أنه لم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة وكذا استعمال هذه الكلمة فصارت كلمة واحدة موضوعة للتكثير
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) الربيون الربانيون وقرىء بالحركات الثلاث والفتح على

القياس والضم والكسر من تغييرات النسب وحكى الواحدي عن الفراء أنه قال الربيون الأولون وقال الزجاج هم الجماعات الكثيرة الواحد ربي قال ابن قتيبة أصله من الربة وهي الجماعة يقال ربي كأنه نسب الى الربة وقال الأخفش الربيون الذين يعبدون الرب وطعن فيه ثعلب وقال كان يجب أن يقال ربي ليكون منسوبا الى الرب وأجاب من نصر الأخفش وقال العرب إذا نسبت شيئاً الى شيء غيرت حركته كما يقال بصري في النسب الى البصرة ودهري في النسبة الى الدهر وقال ابن زيد الربانيون الأئمة والولاة والربيون الرعية وهم المنتسبون الى الرب
واعلم أنه تعالى مدح هؤلاء الربيين بنوعين أولا بصفات النفي وثانيا بصفات الاثبات أما المدح بصفات النبي فهو قوله تعالى فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ ولا بد من الفرق بين هذه الأمور الثلاثة قال صاحب ( الكشاف ) ما وهنوا عند قتل النبي وما ضعفوا عن الجهاد بعده وما استكانوا للعدو وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار عند الارجاف بقتل رسولهم وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم للكفار حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبدالله بن أبي وطلب الأمان من أبي سفيان ويحتمل أيضا أن يفسر الوهن باستيلاء الخوف عليهم ويفسر الضعف بأن يضعف إيمانهم وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم والاستكانة هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم وفيه وجه ثالث وهو ان الوهن ضعف يلحق القلب والضعف المطلق هو اختلال القوة والقدرة بالجسم والاستكانة هي إظهار ذلك العجز وذلك الضعف وكل هذه الوجوه حسنة محتملة قال الواحدي الاستكانة الخضوع وهو أن يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريد
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ والمعنى أن من صبر على تحمل الشدائد في طريق الله ولم يظهر الجزع والعجز والهلع فان الله يحبه ومحبة الله تعالى للعبد عبارة عن إرادة إكرامه واعزازه وتعظيمه والحكم له بالثواب والجنة وذلك نهاية المطلوب
ثم انه تعالى أتبع ذلك بأن مدحهم بصفات الثبوت فقال
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا

ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ 1
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف
المسألة الثانية بين تعالى أنهم كانوا مستعدين عند ذلك التصبر والتجلد بالدعاء والتضرع بطلب الامداد والاعانة من الله والغرض منه أن يقتدى بهم في هذه الطريقة أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فان من عول في تحصيل مهماته على نفسه ذل ومن اعتصم بالله فاز بالمطلوب قال القاضي إنما قدموا قولهم ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا لأنه تعالى لما ضمن النصرة للمؤمنين فاذا لم تحصل النصرة وظهر أمارات استيلاء العدو دل ذلك ظاهرا على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين فلهذا المعنى يجب عليهم تقديم التوبة والاستغفار على طلب النصرة فبين تعالى أنهم بدأوا بالتوبة عن كل المعاصي وهو المراد بقوله ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا فدخل فيه كل الذنوب سواء كانت من الصغائر أو من الكبائر ثم انهم خصوا الذنوب العظيمة الكبيرة منها بالذكر بعد ذلك لعظمها وعظم عقابها وهو المراد من قوله وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا لان الاسراف في كل شيء هو الافراط فيه قال تعالى قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( الزمر 53 ) وقال فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ ( الإسراء 33 ) وقال كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ ( الأعراف 31 ) ويقال فلان مسرف إذا كان مكثرا في النفقة وغيرها ثم انهم لما فرغوا من ذلك سألوا ربهم أن يثبت أقدامهم وذلك بازالة الخوف عن قلوبهم وازالة الخواطر الفاسدة عن صدورهم ثم سألوا بعد ذلك أن ينصرهم على القوم الكافرين لان هذه النصرة لا بد فيها من أمور زائدة على ثبات أقدامهم وهو كالرعب الذي يلقيه في قلوبهم واحداث أحوال سماوية أو أرضية توجب انهزامهم مثل هبوب رياح تثير الغبار في وجوههم ومثل جريان سيل في موضع وقوفهم ثم قال القاضي وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالادعية عند النوائب والمحن سواء كان في الجهاد أو غيره
فَأاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاٌّ خِرَة ِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
واعلم أنه تعالى لما شرح طريقة الربيين في الصبر وطريقتهم في الدعاء ذكر أيضا ما ضمن لهم في مقابلة ذلك في الدنيا والآخرة فقال فَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاْخِرَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَاتَاهُمُ اللَّهُ يقتضي أنه تعالى أعطاهم الامرين أما ثواب الدنيا فهو النصرة والغنيمة وقهر العدو والثناء الجميل وانشراح الصدر بنور الايمان وزوال ظلمات الشبهات وكفارة المعاصي والسيئات وأما ثواب الآخرة فلا شك أنه هو الجنة وما فيها من المنافع واللذات وأنواع السرور والتعظيم وذلك غير حاصل في الحال فيكون المراد أنه تعالى حكم لهم بحصولها في الآخرة فأقام حكم الله بذلك مقام نفس الحصول كما أن الكذب في وعد الله والظلم في عدله محال أو يحمل قوله فَأَتَاهُمُ على أنه سيؤتيهم على قياس قوله اتِى أَمْرِ اللَّهِ أي سيأتي أمر الله قال القاضي ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداء وقد أخبر الله تعالى عن بعضهم أنهم أحياء عند ربهم يرزقون فيكون حال هؤلاء الربيين أيضا كذلك فانه تعالى في حال انزال هذه الآية كان قد آتاهم حسن ثواب الآخرة في جنان السماء
المسألة الثانية خص تعالى ثواب الآخرة بالحسن تنبيها على جلالة ثوابهم وذلك لأن ثواب الآخرة كله في غاية الحسن فما خصه الله بانه حسن من هذا الجنس فانظر كيف يكون حسنه ولم يصف ثواب الدنيا بذلك لقلتها وامتزاجها بالمضار وكونها منقطعة زائلة قال القفال رحمه الله يحتمل أن يكون الحسن هو الحسن كقوله وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ( البقرة 83 ) أي حسنا والغرض منه المبالغة كأن تلك الاشياء

الحسنة لكونها عظيمة في الحسن صارت نفس الحسن كما يقال فلان جود وكرم إذا كان في غاية الجود والكرم والله أعلم
المسألة الثالثة قال فيما تقدم وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاْخِرَة ِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ( آل عمران 145 ) فذكر لفظة ( من ) الدالة على التبعيض فقال في الآية فَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاْخِرَة ِ ولم يذكر كلمة ( من ) والفرق أن الذين يريدون ثواب الآخرة انما اشتغلوا بالعبودية لطلب الثواب فكانت مرتبتهم في العبودية نازلة وأما المذكورون في هذه الآية فانهم لم يذكروا في أنفسهم الا الذنب والقصور وهو المراد من قوله اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا ( آل عمران 147 ) ولم يروا التدبير والنصرة والاعانة الا من ربهم وهو المراد بقوله وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( آل عمران 147 ) فكان مقام هؤلاء في العبودية في غاية الكمال فلا جرم أولئك فازوا ببعض الثواب وهؤلاء فازوا بالكل وأيضا أولئك أرادوا الثواب وهؤلاء ما أرادوا الثواب وإنما أرادوا خدمة مولاهم فلا جرم أولئك حرموا وهؤلاء أعطوا ليعلم أن كل من أقبل على خدمة الله أقبل على خدمته كل ما سوى الله
ثم قال وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وفيه دقيقة لطيفة وهي أن هؤلاء اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا فلما اعترفوا بذلك سماهم الله محسنين كأن الله تعالى يقول لهم
إذا اعترفت باساءتك وعجزك فأنا أصفك بالاحسان وأجعلك حبيبا لنفسي حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد الى الوصول الى حضرة الله الا باظهار الذلة والمسكنة والعجز وأيضا انهم لما أرادوا الاقدام على الجهاد طلبوا تثبيت أقدامهم في دينه ونصرتهم على العدو من الله تعالى فعند ذلك سماهم بالمحسنين وهذا يدل على أن العبد لا يمكنه الاتيان بالفعل الحسن الا إذا أعطاه الله ذلك الفعل الحسن وأعانه عليه ثم إنه تعالى قال هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ ( الرحمن 60 ) وقال لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) وكل ذلك يدل على أنه سبحانه هو الذي يعطي الفعل الحسن للعبد ثم أنه يثيبه عليه ليعلم العبد ان الكل من الله وباعانة الله
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ
واعلم أن هذه الآية من تمام الكلام الأول وذلك لأن الكفار لما أرجفوا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد قتل ودعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين الى الكفر منع الله المسلمين بهذه الآية عن الالتفات الى كلام أولئك المنافقين فقال الْمُحْسِنِينَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قيل إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ المراد أبو سفيان فانه كان كبير القوم في ذلك اليوم قال السدي المراد أبو سفيان لأنه كان شجرة الفتن وقال آخرون المراد عبدالله بن أبي وأتباعه من

المنافقين وهم الذين ألقوا الشبهات في قلوب الضعفة وقالوا لو كان محمد رسول الله ما وقعت له هذه الواقعة وإنما هو رجل كسائر الناس يوما له ويوما عليه فارجعوا الى دينكم الذي كنتم فيه وقال آخرون المراد اليهود لأنه كان بالمدينة قوم من اليهود وكانوا يلقون الشبهة في قلوب المسلمين ولا سيما عند وقوع هذه الواقعة والأقرب أنه يتناول كل الكفار لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع من عموم اللفظ
المسألة الثانية قوله إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ لا يمكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه بل لا بد من التخصيص فقيل ان تطيعوهم فيما أمروكم به يوم أحد من ترك الإسلام وقيل ان تطيعوهم في كل ما يأمرونكم من الضلال وقيل في المشورة وقيل في ترك المحاربة وهو قولهم ( لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا )
ثم قال يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ يعني يردوكم الى الكفر بعد الإيمان لأن قبول قولهم في الدعوة الى الكفر كفر
ثم قال فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ
واعلم أن اللفظ لما كان عاما وجب أن يدخل فيه خسران الدنيا والآخرة أما خسران الدنيا فلأن أشق الأشياء على العقلاء في الدنيا الانقياد للعدو والتذلل له وإظهار الحاجة اليه وأما خسران الآخرة فالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد
ثم قال تعالى بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم على مطالبكم وهذا جهل لأنهم عاجزون متحيرون والعاقل يطلب النصرة من الله تعالى لأنه هو الذي ينصركم على العدو ويدفع عنكم كيده ثم بين أنه خير الناصرين ولو لم يكن المراد بقوله مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ النصرة لم يصح أن يتبعه بهذا القول وإنما كان تعالى خير الناصرين لوجوه الأول أنه تعالى هو القادر على نصرتك في كل ما تريد والعالم الذي لا يخفى عليه دعاؤك وتضرعك والكريم الذي لا يبخل في جوده ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه والثاني أنه ينصرك في الدنيا والآخرة وغيره ليس كذلك والثالث أنه ينصرك قبل سؤالك ومعرفتك بالحاجة كما قال قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( الأنبياء 42 ) وغيره ليس كذلك
واعلم أن قوله وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ظاهره يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصرين وهو منزه عن ذلك لكنه ورد الكلام على حسب تعارفهم كقوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 )
سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ

اعلم أن هذه الآية من تمام ما تقدم ذكره فانه تعالى ذكر وجوها كثيرة في الترغيب في الجهاد وعدم المبالاة بالكفار ومن جملتها ما ذكر في هذه الآية أنه تعالى يلقي الخوف في قلوب الكفار ولا شك أن ذلك مما يوجب استيلاء المسلمين عليهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن هذا الوعد هل هو مختص بيوم أحد أو هو عام في جميع الأوقات قال كثير من المفسرين إنه مختص بهذا اليوم وذلك لأن جميع الآيات المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة ثم القائلون بهذا القول ذكروا في كيفية إلقاء الرعب في قلوب المشركين في هذا اليوم وجهين الأول أن الكفار لما استولوا على المسلمين وهزموهم أوقع الله الرعب في قلوبهم فتركوهم وفروا منهم من غير سبب حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل وقال أين ابن أبي كبشة وأين ابن أبي قحافة وأين ابن الخطاب فأجابه عمر ودارت بينهما كلمات وما تجاسر أبو سفيان على النزول من الجبل والذهاب إليهم والثاني أن الكفار لما ذهبوا إلى مكة فلما كانوا في بعض الطريق قالوا ما صنعنا شيئاً قتلنا الأكثرين منهم ثم تركناهم ونحن قاهرون ارجعوا حتى نستأصلهم بالكلية فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم
والقول الثاني أن هذا الوعد غير مختص بيوم أحد بل هو عام قال القفال رحمه الله كأنه قيل انه وان وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد إلا أن الله تعالى سيلقي الرعب منكم بعد ذلك في قلوب الكافرين حتى يقهر الكفار ويظهر دينكم على سائر الأديان وقد فعل الله ذلك حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل ونظير هذه الآية قوله عليه السلام ( نصرت بالرعب مسيرة شهر )
المسألة الثانية قرأ ابن عامر والكسائي الرُّعْبَ بضم العين والباقون بتخفيفها في كل القرآن قال الواحدي هما لغتان يقال رعبته رعبا ورعبا وهو مرعوب ويجوز أن يكون الرعب مصدرا والرعب اسم منه
المسألة الثالثة الرعب الخوف الذي يحصل في القلب وأصل الرعب الملء يقال سيل راعب إذا ملأ الأودية والأنهار وإنما سمي الفزع رعبا لأنه يملأ القلب خوفا
المسألة الرابعة ظاهر قوله سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ يقتضي وقوع الرعب في جميع الكفار فذهب بعض العلماء إلى اجراء هذا العموم على ظاهره لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام إلا وفي قلبه ضرب من الرعب من المسلمين إما في الحرب وإما عند المحاجة
وقوله تعالى سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ لا يقتضي وقوع جميع أنواع الرعب في قلوب الكفار إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوه وذهب جمع من المفسرين إلى أنه مخصوص بأولئك الكفار
أما قوله بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ فاعلم أن ( ما ) مصدرية والمعنى بسبب إشراكهم بالله
واعلم أن تقدير هذا بالوجه المعقول هو أن الدعاء إنما يصير في محل الاجابة عند الاضطرار كما قال أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ( النحل 62 ) ومن اعتقد أن لله شريكا لم يحصل له الاضطرار لأنه يقول إن كان هذا المعبود لا ينصرني فذاك الآخر ينصرني وإن لم يحصل في قلبه الاضطرار لم تحصل الاجابة ولا النصرة

وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعب والخوف في قلبه فثبت أن الاشراك بالله يوجب الرعب
أما قوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً ففيه مسائل
المسألة الأولى السلطان ههنا هو الحجة والبرهان وفي اشتقاقه وجوه الأول قال الزجاج إنه من السليط وهو الذي يضاء به السراج وقيل للأمراء سلاطين لأنهم الذين بهم يتوصل الناس إلى تحصيل الحقوق الثاني أن السلطان في اللغة هو الحجة وإنما قيل للأمير سلطان لأن معناه أنه ذو الحجة الثالث قال الليث السلطان القدرة لأن أصل بنائه من التسليط وعلى هذا سلطان الملك قوته وقدرته ويسمى البرهان سلطاناً لقوته على دفع الباطل الرابع قابل ابن دريد سلطان كل شيء حدته وهو مأخوذ من اللسان السليط والسلاطة بمعنى الحدة
المسألة الثانية قوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً يوهم أن فيه سلطانا إلا أن الله تعالى ما أنزله وما أظهره إلا أن الجواب عنه أنه لو كان لأنزل الله به سلطانا فلما لم ينزل به سلطاناً وجب عدمه وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون أن هذا مما لا دليل علي فلم يجز إثباته ومنهم من يبالغ فيقول لا دليل عليه فيجب نفيه ومنهم من احتج بهذا الحرف على وحدانية الصانع فقال لا سبيل إلى اثبات الصانع إلا باحتياج المحدثات اليه ويكفي في دفع هذه الحاجة اثبات الصانع الواحد فما زاد عليه لا سبيل إلى اثباته فلم يجز اثباته
المسألة الثالثة هذه الآية دالة على فساد التقليد وذلك لأن الآية دالة على أن الشرك لا دليل عليه فوجب أن يكون القول به باطلا وهذا إنما يصح إذا كان القول باثبات ما لا دليل على ثبوته يكون باطلا فيلزم فساد القول بالتقليد
ثم قال تعالى وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ
واعلم أنه تعالى بين أن أحوال هؤلاء المشركين في الدنيا هو وقوع الخوف في قلوبهم وبين أحوالهم في الآخرة وهي أن مأواهم ومسكنهم النار
ثم قال وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ المثوى المكان الذي يكون مقر الانسان ومأواه من قولهم ثوى يثوي ثويا وجمع المثوى مثاوي
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الاٌّ مْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاٌّ خِرَة َ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ

وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها من وجوه الأول أنه لما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم بأحد قال ناس من أصحابه من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصرا فأنزل الله تعالى هذه الآية الثاني قال بعضهم كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى في المنام أنه يذبح كبشا فصدق الله رؤياه بقتل طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين يوم أحد وقتل بعده تسعة نفر على اللواء فذاك قوله وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ يريد تصديق رؤيا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الثالث يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ ( آل عمران 125 ) إلا أن هذا كان مشروطاً بشرط الصبر والتقوى والرابع يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إلا أن هذا أيضاً مشروط بشرط والخامس يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ ( آل عمران 151 ) والسادس قيل الوعد هو ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال للرماة ( لا تبرحوا من هذا المكان فانا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان ) السابع قال أبو مسلم لما وعدهم الله في الآية المتقدمة إلقاء الرعب في قلوبهم أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعد بالنصر في واقعة أحد فانه لما وعدهم بالنصرة بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتوا بذلك الشرط لا جرم وفى الله تعالى بالمشروط وأعطاهم النصرة فلما تركوا الشرط لا جرم فاتهم المشروط
إذا عرفت وجه النظم ففي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله الصدق يتعدى إلى مفعولين تقول صدقته الوعد والوعيد
المسألة الثانية قد ذكرنا في قصة أحد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل وأمرهم أن يثبتوا هناك ولا يبرحوا سواء كانت النصرة للمسلمين أو عليهم فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون نبلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يحسونهم قال الليث الحس القتل الذريع تحسونهم أي تقتلونهم قتلا كثيرا قال أبو عبيد والزجاج وابن قتيبة الحس الاستئصال بالقتل يقال جراد محسوس إذا قتله البرد وسنة حسوس إذا أتت على كل شيء ومعنى ( تحسونهم ) أي تستأصلونهم قتلا قال أصحاب الاشتقاق ( حسه ) إذا قتله لأنه أبطل حسه بالقتل كما يقال بطنه إذا أصاب بطنه ورأسه إذا أصاب رأسه وقوله بِإِذْنِهِ أي بعلمه ومعنى الكلام أنه تعالى لما وعدكم النصر بشرط التقوى والصبر على الطاعة فما دمتم وافين بهذا الشرط أنجز وعده ونصركم على أعدائكم فلما تركتم الشرط وعصيتم أمر ربكم لا جرم زالت تلك النصرة
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدَمَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول ظاهر قوله حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ بمنزلة الشرط ولا بد له من الجواب فأين جوابه
واعلم أن للعلماء ههنا طريقين الأول أن هذا ليس بشرط بل المعنى ولقد صدقكم الله وعده

حتى إذا فشلتم أي قد نصركم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع لأنه تعالى كان إنما وعدهم بالنصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة فلما فشلوا وعصوا انتهى النصر وعلى هذا القول تكون كلمة ( حتى ) غاية بمعنى ( إلى ) فيكون معنى قوله حَتَّى إِذَا إلى أن أو إلى حين
الطريق الثاني أن يساعد على أن قوله حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ شرط وعلى هذا القول اختلفوا في الجواب على وجوه الأول وهو قول البصريين أن جوابه محذوف والتقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منعكم الله نصره وإنما حسن حذف هذا الجواب لدلالة قوله وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ عليه ونظائره في القرآن كثيرة قال تعالى وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِى َ نَفَقاً فِى الاْرْضِ أَوْ ( الأنعام 35 ) والتقدير فافعل ثم أسقط هذا الجواب لدلالة هذا الكلام عليه وقال أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ ( الزمر 9 ) والتقدير أم من هو قانت كمن لا يكون كذلك
الوجه الثاني وهو مذهب الكوفيين واختيار الفراء أن جوابه هو قوله وَعَصَيْتُمْ والواو زائدة كما قال فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ ( الصافات 103 104 ) والمعنى ناديناه كذا ههنا الفشل والتنازع صار موجباً للعصيان فكان التقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم فالواو زائدة وبعض من نصر هذا القول زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب ( حتى إذا ) بدليل قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ( الزمر 71 ) والتقدير حتى إذا جاؤها فتحت لهم أبوابها
فان قيل إن فشلتم وتنازعتم معصية فلو جعلنا الفشل والتنازع علة للمعصية لزم كون الشيء علة لنفسه وذلك فاسد
قلنا المراد من العصيان ههنا خروجهم عن ذلك المكان ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عن ذلك المكان فلم يلزم تعليل الشيء بنفسه
واعلم أن البصريين إنما لم يقبلوا هذا الجواب لأن مذهبهم أنه لا يجوز جعل الواو زائدة
الوجه الثالث في الجواب أن يقال تقدير الآية حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون صرتم فريقين منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة
فالجواب هو قوله صرتم فريقين إلا أنه أسقط لأن قوله مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَة َ يفيد فائدته ويؤدي معناه لأن كلمة ( من ) للتبعيض فهي تفيد هذا الانقسام وهذا احتمال خطر ببالي
الوجه الرابع قال أبو مسلم جواب قوله حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ هو قوله صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ والتقدير حتى إذا فشلتم وكذا وكذا صرفكم عنهم ليبتليكم وكلمة ( ثم ) ههنا كالساقطة وهذا الوجه في غاية العبد والله أعلم
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر أمورا ثلاثة أولها الفشل وهو الضعف وقيل الفشل هو الجبن وهذا باطل بدليل قوله تعالى وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ ( الأنفال 46 ) أي فتضعفوا لأنه لا يليق به أن يكون المعنى فتجنبوا ثانيها التنازع في الأمر وفيه بحثان
البحث الأول المراد من التنازع انه عليه الصلاة والسلام أمر الرماة بأن لا يبرحوا عن مكانهم ألبتة

وجعل أميرهم عبدالله بن جبير فلما ظهر المشركون أقبل الرماة عليهم بالرمي الكثير حتى انهزم المشركون ثم ان الرماة رأوا نساء المشركين صعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخيلهن فقالوا الغنيمة الغنيمة فقال عبدالله عهد الرسول الينا أن لا نبرح عن هذا المكان فأبوا عليه وذهبوا الى طلب الغنيمة وبقي عبدالله مع طائفة قليلة دون العشرة الى أن قتلهم المشركون فهذا هو التنازع
البحث الثاني قوله فِى الاْمْرِ فيه وجهان الأول أن الأمر ههنا بمعنى الشأن والقصة أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن والثاني أنه الأمر الذي يضاده النهي والمعنى وتنازعتم فيما أمركم الرسول به من ملازمة ذلك المكان وثالثها وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون والمراد عصيتم بترك ملازمة ذلك المكان بقي في هذه الآية سؤالات الأول لم قدم ذكر الفشل على ذكر التنازع والمعصية
والجواب ان القوم لما رأوا هزيمة الكفار وطمعوا في الغنيمة فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعا في الغنيمة ثم تنازعوا بطريق القول في أنا هل نذهب لطلب الغنيمة أم لا ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة
السؤال الثاني لما كانت المعصية بمفارقة تلك المواضع خاصة بالبعض فلم جاء هذا العتاب باللفظ العام
والجواب هذا اللفظ وان كان عاما الا أنه جاء المخصص بعده وهو قوله مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَة َ
السؤال الثالث ما الفائدة في قوله مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ
والجواب عنه أن المقصود منه التنبيه على عظم المعصية لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بانجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية فلما أقدموا عليها لا جرم سلبهم الله ذلك الاكرام وأذاقهم وبال أمرهم
ثم قال تعالى ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وقد اختلف قول أصحابنا وقول المعتزلة في تفسير هذه الآية وذلك لأن صرفهم عن الكفار معصية فكيف أضافه الى نفسه أما أصحابنا فهذا الاشكال غير وارد عليهم لأن مذهبهم أن الخير والشر بارادة الله وتخليقه فعلى هذا قالوا معنى هذا الصرف أن الله تعالى رد المسلمين عن الكفار وألقى الهزيمة عليهم وسلط الكفار عليهم وهذا قول جمهور المفسرين قالت المعتزلة هذا التأويل غير جائز ويدل عليه القرآن والعقل أما القرآن فهو قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ( آل عمران 155 ) فأضاف ما كان منهم الى فعل الشيطان فكيف يضيفه بعد هذا الى نفسه وأما المعقول فهو أنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف ولو كان ذلك بفعل الله لم يجز معاتبة القوم عليه كما لا يجوز معاتبتهم على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم ثم عند هذا ذكروا وجوها من التأويل الأول قال الجبائي ان الرماة كانوا فريقين بعضهم فارقوا المكان أولا لطلب الغنائم وبعضهم بقوا هناك ثم هؤلاء الذين بقوا أحاط بهم العدو فلو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلا فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع الى موضع يتحرزون فيه عن العدو ألا ترى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذهب الى الجبل في جماعة من أصحابه وتحصنوا به

ولم يكونوا عصاة بذلك فلما كان ذلك الانصراف جائزا أضافه الى نفسه بمعنى أنه كان بامره وإذنه ثم قال لِيَبْتَلِيَكُمْ والمراد أنه تعالى لما صرفهم الى ذلك المكان وتحصنوا به أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين ولا شك أن الاقدام على الجهاد بعد الانهزام وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقربائهم وأحبائهم هو من أعظم أنواع الابتلاء
فان قيل فعلى هذا التأويل هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مذنبين فلم قال وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ
قلنا الآية مشتملة على ذكر من كان معذورا في الانصراف ومن لم يكن وهم الذين بدؤا بالهزيمة فمضوا وعصوا فقوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ راجع الى المعذورين لأن الآية لما اشتملت على قسمين وعلى حكمين رجع كل حكم الى القسم الذي يليق به ونظيره قوله تعالى ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ( التوبة 40 ) والمراد الذي قال له لاَ تَحْزَنْ وهو أبو بكر لأنه كان خائفا قبل هذا القول فلما سمع هذا سكن ثم قال وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا ( التوبة 40 ) وعنى بذلك الرسول دون أبي بكر لأنه كان قد جرى ذكرهما جميعا فهذا جملة ما ذكره الجبائي في هذا المقام
والوجه الثاني ما ذكره أبو مسلم الاصفهاني وهو ان المراد من قوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أنه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة منه على عصيانهم وفشلهم ثم قال لِيَبْتَلِيَكُمْ أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا الى الله وترجعوا اليه وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره وملتم فيه إلى الغنيمة ثم أعلمهم أنه تعالى قد عفا عنهم
والوجه الثالث قال الكعبي ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم لِيَبْتَلِيَكُمْ بكثرة الانعام عليكم والتخفيف عنكم فهذا ما قيل في هذا الموضع والله أعلم
ثم قال وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ فظاهره يقتضي تقدم ذنب منهم قال القاضي إن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بأنه عفا عنهم من غير توبة وإن كان من باب الكبائر فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو والمغفرة
واعلم أن الذنب لا شك أنه كان كبيرة لأنهم خالفوا صريح نص الرسول وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمين وقتل جمع عظيم من أكابرهم ومعلوم أن كل ذلك من باب الكبائر وأيضا ظاهر قوله تعالى وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ( الأنفال 16 ) يدل على كونه كبيرة وقول من قال إنه خاص في بدر ضعيف لأن اللفظ عام ولا تفاوت في المقصود فكان التخصيص ممتنعا ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة لأن التوبة غير مذكورة فصار هذا دليلا على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر وأما دليل المعتزلة في المنع عن ذلك فقد تقدم الجواب عنه في سورة البقرة
ثم قال وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وهو راجع إلى ما تقدم من ذكر نعمه سبحانه وتعالى بالنصر أولا ثم بالعفو عن المذنبين ثانياً وهذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن لأنا بيّنا أن هذا الذنب كان

من الكبائر ثم انه تعالى سماهم المؤمنين فهذا يقتضي أن صاحب الكبيرة مؤمن بخلاف ما تقوله المعتزلة والله أعلم
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
فيه قولان
أحدهما أنه متعلق بما قبله وعلى هذا التقدير ففيه وجوه أحدها كأنه قال وعفا عنكم اذ تصعدون لأن عفوه عنهم لا بد وان يتعلق بأمر اقترفوه وذلك الأمر هو ما بينه بقوله إِذْ تُصْعِدُونَ والمراد به ما صدر عنهم من مفارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين لا يلوون على أحد وثانيها التقدير ثم صرفكم عنهم إذ تصعدون وثالثها التقدير ليبتليكم اذ تصعدون
والقول الثاني أنه ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله والتقدير اذكر اذ تصعدون وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرأ الحسن إِذْ تُصْعِدُونَ فِى الْجَبَلِ وقرأ أبي إِذْ تُصْعِدُونَ فِى الْوَادِى وقرأ أبو حيوة إِذْ تُصْعِدُونَ بفتح التاء وتشديد العين من تصعد في السلم
المسألة الثانية الاصعاد الذهاب في الأرض والابعاد فيه يقال صعد في الجبل وأصعد في الأرض ويقال أصعدنا من مكة إلى المدينة قال أبو معاذ النحوي كل شيء له أسفل وأعلى مثل الوادي والنهر والإزقة فانك تقول صعد فلان يصعد في الوادي إذا أخذ من أسفله الى أعلاه وأما ما ارتفع كالسلم فانه يقال صعدت
المسألة الثالثة ولا تلوون على أحد أي لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب وأصله أن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته فاذا مضى ولم يعرج قيل لم يلوه ثم استعمل اللي في ترك التعريج على الشيء وترك الالتفات الى الشيء يقال فلان لا يلوي على شيء أي لا يعطف عليه ولا يبالي به
ثم قال تعالى وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ كان يقول ( الى عباد الله أنا رسول الله من كر فله الجنة ) فيحتمل أن يكون المراد أنه عليه الصلاة والسلام كان

يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده ولا يتفرقوا ويحتمل أن يكون المراد أنه كان يدعوهم إلى المحاربة مع العدو
ثم قال فِى أُخْرَاكُمْ أي آخركم يقال جئت في آخر الناس وأخراهم كما يقال في أولهم وأولاهم ويقال جاء فلان في أخريات الناس أي آخرهم والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم وهو واقف في آخرهم لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه
ثم قال فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ وفيه مسائل
المسألة الأولى لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب الا في الخير ويجوز أيضا استعماله في الشر لأنه مأخوذ من قولهم ثاب اليه عقله أي رجع اليه قال تعالى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ ( البقرة 125 ) والمرأة تسمى ثيباً لأن الواطىء عائد اليها وأصل الثواب كل ما يعود الى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيرا أو شرا الا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير فان حملنا لفظ الثواب ههنا على أصل اللغة استقام الكلام وان حملناه على مقتضى العرف كان ذلك واردا على سبيل التهكم كما يقال تحيتك الضرب وعتابك السيف أي جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب قال تعالى فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( التوبة 34 الإنشقاق 24 )
المسألة الثانية الباء في قوله غَمّاً بِغَمّ يحتمل أن تكون بمعنى المعارضة كما يقال هذا بهذا أي هذا عوض عن ذاك ويحتمل أن تكون بمعنى ( مع ) والتقدير أثابهم غما مع غم أما على التقدير الأول ففيه وجوه الأول وهو قول الزجاج أنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب أن عصيتم أمره فالله تعالى أذاقكم هذا الغم وهو الغم الذي حصل لهم بسبب الانهزام وقتل الأحباب والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم الثاني قال الحسن يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين والمقصود منه أن لا يبقى في قلبكم التفات إلى الدنيا فلا تفرحوا باقبالها ولا تحزنوا بادبارها وهو المعنى بقوله لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ في واقعة أحد وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَاكُمْ ( الحديد 23 ) في واقعة بدر طعن القاضي في هذا الوجه وقال إن غمهم يوم أحد انما كان من جهة استيلاء الكفار وذلك كفر ومعصية فكيف يضيفه الله إلى نفسه ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في تسليط الكفار على المسلمين نوع مصلحة وهو أن لا يفرحوا باقبال الدنيا ولا يحزنوا بادبارها فلا يبقى في قلوبهم اشتغال بغير الله الثالث يجوز أن يكون الضمير في قوله فَأَثَابَكُمْ يعود للرسول والمعنى أن الصحابة لما رأوا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شج وجهه وكسرت رباعيته وقتل عمه اغتموا لأجله والرسول عليه السلام لما رأى أنهم عصوا ربهم لطلب الغنيمة ثم بقوا محرومين من الغنيمة وقتل أقاربهم اغتم لأجلهم فكان المراد من قوله فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ هو هذا أما على التقدير الثاني وهو أن تكون الباء في قوله غَمّاً بِغَمّ بمعنى ( مع ) أي غما مع غم أو غما على غم فهذا جائز لأن حروف الجر يقام بعضها مقام بعض تقول ما زلت به حتى فعل وما زلت معه حتى فعل وتقول نزلت ببني فلان وعلى بني فلان
واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة فأحدها غمهم بما نالهم من العدو في الأنفس والأموال وثانيها غمهم بما لحق سائر المؤمنين من ذلك وثالثها غمهم بما وصل إلى الرسول من الشجة وكسر الرباعية ورابعها ما أرجف به من قتل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وخامسها بما وقع منهم من المعصية وما يخافون من عقابها وسادسها غمهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم وذلك لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الانهزام وذلك من أشق الأشياء لأن الانسان بعد صيرورته منهزما يصير ضعيف القلب جباناً فاذا أمر بالمعاودة فان فعل خاف القتل وإن لم يفعل خاف

الكفر أو عقاب الآخرة وهذا الغم لا شك أنه أعظم الغموم والأحزان وإذا عرفت هذه الجملة فكل واحد من المفسرين فسر هذه الآية بواحد من هذه الوجوه ونحن نعدها
الوجه الأول أن الغم الأول ما أصابهم عند الفشل والتنازع والغم الثاني ما حصل عند الهزيمة
الوجه الثاني ان الغم الأول ما حصل بسب فوت الغنائم والغم الثاني ما حصل بسبب أن أبا سفيان وخالد بن الوليد اطلعا على المسلمين فحملوا عليهم وقتلوا منهم جمعاً عظيما
الوجه الثالث أن الغم الأول ما كان عند توجه أبي سفيان وخالد بن الوليد عليهم بالقتل والغم الثاني هو أن المشركين لما رجعوا خاف الباقون من المسلمين من أنهم لو رجعوا لقتلوا الكل فصار هذا الغم بحيث أذهلهم عن الغم الأول
والوجه الرابع أن الغم الأول ما وصل اليهم بسبب أنفسهم وأموالهم والغم الثاني ما وصل اليهم بسبب الارجاف بقتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الآية قول ثالث اختاره القفال رحمه الله تعالى قال وعندنا أن الله تعالى ما أراد بقوله غَمّاً بِغَمّ اثنين وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها أي ان الله عاقبكم بغموم كثيرة مثل قتل اخوانكم وأقاربكم ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم ومثل إقدامكم على المعصية فكأنه تعالى قال أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ليصير ذلك زاجرا لكم عن الاقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله تعالى
المسألة الثالثة معنى أن الله أثابهم غم بغم أنه خلق الغم فيهم وأما المعتزلة فهذا لا يليق بأصولهم فذكروا في علة هذه الاضافة وجوها الأول قال الكعبي ان المنافقين لما أرجفوا أن محمداً عليه الصلاة والسلام قد قتل ولم يبين الله تعالى كذب ذلك القائل صار كأنه تعالى هو الذي فعل ذلك الغم وهذا كالرجل الذي يبلغه الخبر الذي يغمه ويكون معه من يعلم أن ذلك الخبر كذب فاذا لم يكشفه له سريعا وتركه يتفكر فيه ثم أعلمه فانه يقول له لقد غممتني وأطلت حزني وهو لم يفعل شيئاً من ذلك بل سكت وكف عن اعلامه فكذا ههنا الثاني أن الغم وان كان من فعل البعد فسببه فعل الله تعالى لأن الله طبع العباد طبعا يغتمون بالمصائب التي تنالهم وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون الثالث أنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى الغم في قلب بعض المكلفين لرعاية بعض المصالح
ثم قال تعالى لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ وفيه وجهان الاول انها متصلة بقوله وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ( آل عمران 152 ) كأنه قال ولقد عفا عنكم لكيلا تحزنوا لان في عفوه تعالى ما يزيل كل غم وحزن والثاني أن اللام متصلة بقوله فَأَثَابَكُمْ ثم على هذا القول ذكروا وجوها الأول قال الزجاج المعنى أثابكم غم الهزيمة من غمكم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب مخالفته ليكون غمكم بأن خالفتموه فقط لا بأن فاتتكم الغنيمة وأصابتكم الهزيمة وذلك لان الغم الحاصل بسبب الاقدام على المعصية ينسي الغم الحاصل بسبب مصائب الدنيا الثاني قال الحسن جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلتموهم مغمومين يوم بدر لاجل أن يسهل أمر الدنيا في أعينكم فلا تحزنوا بفواتها ولا تفرحوا باقبالها وهذان الوجهان مفرعان على قولنا الباء في قوله غَمّاً بِغَمّ للمجازاة أما إذا قلنا انها بمعنى ( مع ) فالمعنى أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا أمر

الرسول لوقعنا في غم فوات الغنيمة فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في هذه الغموم العظيمة التي كل واحد منها أعظم من ذلك الغم أضعافا مضاعفة والعاقل إذا تعارض عنده الضرران وجب أن يخص أعظمهما بالدفع فصارت إثابة الغم على الغم مانعا لكم من أن تحزنوا بسبب فوات الغنيمة وزاجراً لكم عن ذلك ثم كما زجرهم عن تلك المعصية بهذا الزجر الحاصل في الدنيا زجرهم عنها بسبب الزواجر الموجودة في الغنيمة فقال وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أي هو عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم قادر على مجازاتها ان خيرا فخير وان شرا فشر وذلك من أعظم الزواجر للعبد عن الاقدام على المعصية والله أعلم
ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَة ً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَة ً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَة ٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة ِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاٌّ مْرِ مِن شَى ْءٍ قُلْ إِنَّ الاٌّ مْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاٌّ مْرِ شَى ْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِى َ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
في كيفية النظم وجهان الأول أنه تعالى لما وعد نصر المؤمنين على الكافرين وهذا النصر لا بد وأن يكون مسبوقا بازالة الخوف عن المؤمنين بين في هذه الآية أنه تعالى أزال الخوف عنهم ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى ينجز وعده في نصر المؤمنين الثاني أنه تعالى بين أنه نصر المؤمنين أولا فلما عصى بعضهم سلط الخوف عليهم ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلب من كان صادقا في إيمانه مستقرا على دينه بحيث غلب النعاس عليه
واعلم أن الذين كانوا مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد فريقان أحدهما الذين كانوا جازمين بأن محمداً عليه الصلاة والسلام نبي حق من عند الله وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وكانوا قد سمعوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله تعالى ينصر هذا الدين ويظهره على سائر الأديان فكانوا قاطعين بأن هذه الواقعة لا تؤدي إلى الاستئصال فلا جرم كانوا آمنين وبلغ ذلك الامن إلى حيث غشيهم النعاس فان النوم لا يجيء مع الخوف فمجيء النوم يدل على زوال الخوف بالكلية فقال ههنا في قصة أحد في هؤلاء ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَة ً نُّعَاساً وقال في قصة بدر إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَة ً مّنْهُ ( الأنفال 11 ) ففي قصة أحد قدم الأمنة على النعاس وفي قصة بدر قدم النعاس على الأمنة وأما الطائفة الثانية وهم المنافقون الذين كانوا

شاكين في نبوته عليه الصلاة والسلام وما حضروا إلا لطلب الغنيمة فهؤلاء اشتد جزعهم وعظم خوفهم ثم انه تعالى وصف حال كل واحدة من هاتين الطائفتين فقال في صفة المؤمنين ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَة ً نُّعَاساً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي ( الأمنة ) مصدر كالامن ومثله من المصادر العظمة والغلبة وقال الجبائي يقال أمن فلان يأمن أمناً وأماناً
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف قرىء ( أمنة ) بسكون الميم لأنها المرة من الأمن
المسألة الثالثة في قوله تعالى نُّعَاساً وجهان أحدهما أن يكون بدلا من أمنة والثاني إن يكون مفعولا وعلى هذا التقدير ففي قوله ءامِنَة ً وجوه أحدها أن تكون حالا منه مقدمة عليه كقولك رأيت راكباً رجلا وثانيها أن يكون مفعولا له بمعنى نعستم أمنة وثالثها أن يكون حالا من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة
ثم قال تعالى يَغْشَى طَائِفَة ً مّنْكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قد ذكرنا أن هذه الطائفة هم المؤمنون الذين كانوا على البصيرة في إيمانهم قال أبو طلحة غشينا النعاس ونحن في مصافنا فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه وعن الزبير قال كنت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين اشتد الخوف فأرسل الله علينا النوم وإني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا وقال عبد الرحمن بن عوف ألقى النوم علينا يوم أحد وعن ابن مسعود النعاس في القتال أمنة والنعاس في الصلاة من الشيطان وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق بالله والفراغ عن الدنيا ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله
واعلم أن ذلك النعاس فيه فوائد أحدها أنه وقع على كافة المؤمنين لا على الحد المعتاد فكان ذلك معجزة ظاهرة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا شك أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزة الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم ومتى صاروا كذلك ازداد جدهم في محاربة العدو ووثوقهم بأن الله منجز وعده وثانيها أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال والنوم يفيد عود القوة والنشاط واشتداد القوة والقدرة وثالثها أن الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله النوم على عين من بقي منهم لئلا يشاهدوا قتل أعزتهم فيشتد الخوف والجبن في قلوبهم ورابعها أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى ومن الناس من قال ذكر النعاس في هذا الموضع كناية عن غاية الامن وهذا ضعيف لأن صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا عند قيام الدليل المعارض فكيف يجوز ترك حقيقة اللفظ مع اشتمالها على هذه الفوائد والحكم
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي تغشى بالتاء رداً إلى الأمنة والباقون بالياء رداً إلى النعاس وهو اختيار أبي حاتم وخلف وأبي عبيد
واعلم أن الأمنة والنعاس كل واحد منهما يدل على الآخر فلا جرم يحسن رد الكناية إلى أيهما

شئت كقوله تعالى الرَّحِيمُ إِنَّ شَجَرَة َ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاْثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ ( الدخان 43 45 ) وتغلي إذا عرفت جوازهما فنقول مما يقوي القراءة بالتاء أن الأصل الأمنة والنعاس بدل ورد الكناية إلى الأصل أحسن وأيضاً الأمنة هي المقصود وإذا حصلت الأمنة حصل النعاس لأنها سببه فان الخائف لا يكاد ينعس وأما من قرأ بالياء فحجته أن النعاس هو الغاشي فان العرب يقولون غشينا النعاس وقلما يقولون غشيني من النعاس أمنة وأيضاً فان النعاس مذكور بالغشيان في قوله إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَة ً مّنْهُ ( الأنفال 11 ) وأيضاً النعاس يلي الفعل وهو أقرب في اللفظ إلى ذكر الغشيان من الأمنة فالتذكير أولى
ثم قال تعالى وَطَائِفَة ٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هؤلاء هم المنافقون عبدالله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما كان همهم خلاص أنفسهم يقال همني الشيء أي كان من همي وقصدي قال أبو مسلم من عادة العرب أن يقولوا لمن خاف قد أهمته نفسه فهؤلاء المنافقون لشدة خوفهم من القتل طار النوم عنهم وقيل المؤمنون كان همهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإخوانهم من المؤمنين والمنافقون كان همهم أنفسهم وتحقيق القول فيه أن الانسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه صار غافلا عما سواه فلما كان أحب الأشياء إلى الانسان نفسه فعند الخوف على النفس يصير ذاهلا عن كل ما سواها فهذا هو المراد من قوله أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وذلك لأن أسباب الخوف وهي قصد الأعداء كانت حاصلة والدافع لذلك وهو الوثوق بوعد الله ووعد رسوله ما كان معتبراً عندهم لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم فلا جرم عظم الخوف في قلوبهم
المسألة الثانية ( طائفة ) رفع بالابتداء وخبره ( يظنون ) وقيل خبره ( أهمتهم أنفسهم ) ثم انه تعالى وصف هذه الطائفة بأنواع من الصفات
الصفة الأولى من صفاتهم قوله تعالى يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذا الظن احتمالان أحدهما وهو الأظهر هو أن ذلك الظن أنهم كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد محقا في دعواه لما سلط الكفار عليه وهذا ظن فاسد أما على قول أهل السنة والجماعة فلأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه فان النبوة خلعة من الله سبحانه يشرف عبده بها وليس يجب في العقل أن المولى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى بل له الأمر والنهي كيف شاء بحكم الالهية وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال الله وأحكامه فلا يبعد أن يكون لله تعالى في التخلية بين الكافر والمسلم بحيث يقهر الكافر المسلم حكم خفية وألطاف مرعية فان الدنيا دار الامتحان والابتلاء ووجوه المصالح مستورة عن العقول فربما كانت المصلحة في التخلية بين الكافر والمؤمن حتى يقهر الكافر المؤمن وربما كانت المصلحة في تسليط الفقر والزمانة على المؤمنين قال القفال لو كان كون المؤمن محقاً يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناس إلى معرفة المحق بالجبر وذلك ينافي التكليف واستحقاق الثواب والعقاب بل الانسان إنما يعرف كونه محقاً بما معه من الدلائل والبينات فأما القهر فقد يكون من المبطل للمحق ومن المحق للمبطل وهذه جملة كافية في بيان أنه لا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة على أن صاحبها على الحق الثاني أن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون إله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات وينكرون النبوة

والبعث فلا جرم ما وثقوا بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أن الله يقويهم وينصرهم
المسألة الثانية غَيْرِ في حكم المصدر ومعناه يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به ( وظن الجاهلية ) بدل منه والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق أديان كثيرة وأقبحها مقالات أهل الجاهلية فذكر أولا أنهم يظنون بالله غير الظن الحق ثم بين أنهم اختاروا من أقسام الأديان التي غير حقة أركها وأكثرها بطلانا وهو ظن أهل الجاهلية كما يقال فلان دينه ليس بحق دينه دين الملاحدة
المسألة الثالثة في قوله الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة ِ قولان أحدهما أنه كقولك حاتم الجود وعمر العدل يريد الظن المختص بالملة الجاهلية والثاني المراد ظن أهل الجاهلية
الصفة الثانية من الصفات التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء المنافقين قوله تعالى يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء قُلْ إِنَّ الاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ
واعلم أن قوله ) هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء حكاية للشبهة التي تمسك أهل النفاق بها وهو يحتمل وجوها الأول أن عبدالله بن أبي لما شاوره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الواقعة أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة ثم ان الصحابة ألحوا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أن يخرج اليهم فغضب عبدالله بن أبي من ذلك فقال عصاني وأطاع الولدان ثم لما كثر القتل في بني الخزرج ورجع عبدالله بن أبي قيل له قتل بنو الخزرج فقال هل لنا من الأمر من شيء يعني أن محمداً لم يقبل قولي حين أمرته بأن يسكن في المدينة ولا يخرج منها ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ( آل عمران 168 ) والمعنى هل لنا من أمر يطاع وهو استفهام على سبيل الانكار
الوجه الثاني في التأويل أن من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لعدوه قالوا عليه الأمر فقوله هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء أي هل لنا من الشيء الذي كان يعدنا به محمد وهو النصرة والقوة شيء وهذا استفهام على سبيل الانكار وكان غرضهم منه الاستدلال بذلك على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان كاذباً في ادعاء النصرة والعصمة من الله تعالى لأمته وهذا استفهام على سبيل الانكار الثالث أن يكون التقدير أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء والغرض منه تصبير المسلمين في التشديد في الجهاد والحرب مع الكفار ثم ان الله سبحانه أجاب عن هذه الشبهة بقوله قُلْ إِنَّ الاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو ( كله ) برفع اللام والباقون بالنصب أما وجه الرفع فهو أن قوله ( كله ) مبتدأ وقوله ( لله ) خبره ثم صارت هذه الجملة خبراً لان وأما النصب فلان لفظة ( كل ) للتأكيد فكانت كلفظة أجمع ولو قيل ان الأمر أجمع لم يكن إلا النصب فكذا إذا قال ( كله )
المسألة الثانية الوجه في تقرير هذا الجواب ما بينا انا إذا قلنا بمذهب أهل السنة لم يكن على الله اعتراض في شيء من أفعاله في الاماتة والاحياء والفقر والاغناء والسراء والضراء وإن قلنا بمذهب القائلين برعاية المصالح فوجوه المصالح مخفية لا يعلمها إلا الله تعالى فربما كانت المصلحة في إيصال السرور واللذة وربما كانت في تسليط الأحزان والآلام فقد اندفعت شبهة المنافقين من هذا الوجه
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع المحدثات بقضاء الله وقدره وذلك لأن

المنافقين قالوا ان محمدا لو قبل منا رأينا ونصحنا لما وقع في هذه المحنة فأجاب الله عنه بأن الأمر كله لله وهذا الجواب إنما ينتظم لو كانت أفعال العباد بقضاء الله وقدره ومشيئته إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعا لشبهة المنافقين فثبت أن هذه الآية دالة على ما ذكرنا وأيضا فظاهر هذه الآية مطابق للبرهان العقلي وذلك لأن الموجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه الا عند الانتهاء الى الواجب لذاته فثبت أن كل ما سوى الله تعالى مستند إلى إيجاده وتكوينه وهذه القاعدة لا اختصاص لها بمحدث دون محدث أو ممكن دون ممكن فتدخل فيه أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم وذلك هو المراد بقوله قُلْ إِنَّ الاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ وهذا كلام في غاية الظهور لمن وفقه الله للانصاف
ثم انه تعالى قال يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ
واعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا هل لنا من الأمر من شيء وهذا الكلام محتمل فلعل قائله كان من المؤمنين المحقين وكان غرضه منه إظهار الشفقة وانه متى يكون الفرج ومن أين تحصل النصرة ولعله كان من المنافقين وإنما قاله طعنا في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الإسلام فبين تعالى في هذه الآية أن غرض هؤلاء من هذا الكلام هذا القسم الثاني والفائدة في هذا التنبيه أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) متحرزا عن مكرهم وكيدهم
النوع الثالث من الأشياء التي حكى الله عن المنافقين قولهم لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا وفيه إشكال وهو أن لقائل أن يقول ما الفرق بين هذا الكلام وبين ما تقدم من قوله هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء ويمكن أن يجاب عنه من وجهين الأول أنه تعالى لما حكى عنهم قولهم هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء فأجاب عنه بقوله الاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ واحتج المنافقون على الطعن في هذا الجواب بقولهم لو كان لنا من الأمر شيء لما خرجنا من المدينة وما قتلنا ههنا فهذا يدل على أنه ليس الأمر كما قلتم من أن الأمر كله لله وهذا هو بعينه المناظرة الدائرة بين أهل السنة وأهل الاعتزال فان السني يقول الأمر كله في الطاعة والمعصية والايمان والكفر بيد الله فيقول المعتزلي ليس الأمر كذلك فان الانسان مختار مستقل بالفعل ان شاء آمن وإن شاء كفر فعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جوابا عن الشبهة الأولى
والوجه الثاني أن يكون المراد من قوله هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء هو أنه هل لنا من النصرة التي وعدنا بها محمد شيء ويكون المراد من قوله لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاْمْرِ شَى ْء مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا هو ما كان يقوله عبدالله بن أبي من أن محمدا لو أطاعني وما خرج من المدينة ما قتلنا ههنا
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من ثلاثة أوجه
الوجه الأول من الجواب قوله قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ والمعنى أن الحذر لا يدفع القدر والتدبير لا يقاوم التقدير فالذين قدر الله عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا على جميع التقديرات لأن الله تعالى لما أخبر أنه يقتل فلو لم يقتل لانقلب علمه جهلا وقد بينا أيضا أنه ممكن

فلا بد من انتهائه الى إيجاد الله تعالى فلو لم يجد لانقلبت قدرته عجزا وكل ذلك محال ومما يدل على تحقيق الوجوب كما قررنا قوله الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ وهذه الكلمة تفيد الوجوب فان هذه الكلمة في قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( البقرة 178 ) تفيد وجوب الفعل وها هنا لا يمكن حملها على وجوب الفعل فوجب حملها على وجوب الوجود وهذا كلام في غاية الظهور لمن أيده الله بالتوفيق ثم نقول للمفسرين فيه قولان الأول لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم القتل الى مضاجعهم ومصارعهم حتى يوجد ما علم الله أنه يوجد والثاني كأنه قيل للمنافقين لو جلستم في بيوتكم وتخلفتم عن الجهاد لخرج المؤمنون الذين كتب عليهم قتال الكفار الى مضاجعهم ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم
الوجه الثاني في الجواب عن تلك الشبهة قوله وَلِيَبْتَلِى َ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وذلك لأن القوم زعموا أن الخروج إلى تلك المقاتلة كان مفسدة ولو كان الأمر اليهم لما خرجوا اليها فقال تعالى بل هذه المقاتلة مشتملة على نوعين من المصلحة أن يتميز الموافق من المنافق وفي المثل المشهور لا تكرهوا الفتن فانها حصاد المنافقين ومعنى الابتلاء في حق الله تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة لا تكرهوا الفتن فانها حصاد المنافقين ومعنى الابتلاء في حق الله تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة
فان قيل لم ذكر الابتلاء وقد سبق ذكره في قوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ( آل عمران 152 )
قلنا لما طال الكلام أعاد ذكره وقيل الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين والثاني سائر الأحوال
والوجه الثالث في الجواب قوله وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وفيه وجهان أحدهما أن هذه الواقعة تمحص قلوبكم عن الوساوس والشبهات والثاني أنها تصير كفارة لذنوبكم فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيآت وذكر في الابتلاء الصدور وفي التمحيص القلوب وفيه بحث ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
واعلم أن ذات الصدور هي الأشياء الموجودة في الصدور وهي الأسرار والضمائر وهي ذات الصدور لأنها حالة فيها مصاحبة لها وصاحب الشيء ذوه وصاحبته ذاته وإنما ذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفي عليه ما في الصدور أو غير ذلك لأنه عالم بجميع المعلومات وإنما ابتلاهم اما لمحض الالهية أو للاستصلاح
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
واعلم أن المراد أن القوم الذين تولوا يوم أحد عند التقاء الجمعين وفارقوا المكان وانهزموا قد عفا الله عنهم وفي الآية مسائل

المسألة الأولى اختلفت الأخبار فيمن ثبت ذلك اليوم وفيمن تولى فذكر محمد بن اسحاق أن ثلث الناس كانوا مجروحين وثلثهم انهزموا وثلثهم ثبتوا واختلفوا في المنهزمين فقيل ان بعضهم ورد المدينة وأخبر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قتل وهو سعد بن عثمان ثم ورد بعده رجال دخلوا على نسائهم وجعل النساء يقلن عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تفرونا وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن هاك المغزل اغزل به ومنهم قال ان المسلمين لم يعدوا الجبل قال القفال والذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرا منهم تولوا وأبعدوا فمنهم من دخل المدينة ومنهم من ذهب الى سائر الجوانب وأما الاكثرون فانهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هناك ومن المنهزمين عمر الا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين ولم يبعد بل ثبت على الجبل الى أن صعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومنهم أيضا عثمان انهزم مع رجلين من الانصار يقال لهما سعد وعقبة انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقد ذهبتم فيها عريضة ) وقالت فاطمة لعلي ما فعل عثمان فنقصه فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا علي أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا ) وأما الذين ثبتوا مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فكانوا أربعة عشر رجلا سبعة من المهاجرين وسبعة من الانصار فمن المهاجرين أبو بكر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيدالله وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام ومن الانصار الخباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحرث بن الصمة وسهل بن حنيف وأسيد بن حضير وسعد ابن معاذ وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت ثلاثة من المهاجرين علي وطلحة والزبير وخمسة من الانصار أبو دجانة والحرث بن الصمة وخباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل ابن حنيف ثم لم يقتل منهم أحد وروى ابن عيينة أنه أصيب مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول وجهي لوجهك الفداء ونفسي لنفسك الفداء وعليك السلام غير مودع
المسألة الثانية قوله إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ هذا خطاب للمؤمنين خاصة يعني الذين انهزموا يوم أحد إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ أي حملهم على الزلة وأزل واستزل بمعنى واحد قال تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا وقال ابن قتيبة استزلهم طلب زلتهم كما يقال استعجلته أي طلبت عجلته واستعملته طلبت عمله
المسألة الثالثة قال الكعبي الآية تدل على أن المعاصي لا تنسب إلى الله فانه تعالى نسبها في هذه الآية إلى الشيطان وهو كقوله تعالى عن موسى هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ( القصص 15 ) وكقول يوسف ( من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي ) وكقول صاحب موسى ( وما أنسانيه إلا الشيطان ) ( الكهف 63 )
المسألة الرابعة أنه تعالى لم يبين أن الشيطان في أي شيء استزلهم وذلك لأن مع العفو لا حاجة إلى تعيين المعصية لكن العلماء جوزوا أن يكون المراد بذلك تحولهم عن ذلك الموضع بأن يكون رغبتهم في الغنيمة وأن يكون فشلهم في الجهاد وعدو لهم عن الاخلاص وأي ذلك كان فقد صح أن الله تعالى عفا عنهم وروي أن عثمان عوتب في هزيمته يوم أحد فقال إن ذلك وإن كان خطأ لكن الله عفا عنه وقرأ هذه الآية
أما قوله تعالى بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ففيه وجهان أحدهما أن الباء للالصاق كقولك كتبت بالقلم

وقطعت بالسكين والمعنى أنه كان قد صدرت عنهم جنايات فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم وعلى هذا التقدير ففيه وجوه الأول قال الزجاج انهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة الفرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا وإنما ذكرهم الشيطان ذنوبا كانت لهم فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها وإلا بعد الاخلاص في التوبة فهذا خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطئين فيه الثاني انهم لما أذنبوا بسبب مفارقة ذلك المكان أزلهم الشيطان بشؤم هذه المعصية وأوقعهم في الهزيمة لأن الذنب يجر الى الذنب كما أن الطاعة تجر الى الطاعة ويكون لطفا فيها الثالث لما أذنبوا بسبب الفشل ومنازعة بعضهم مع بعض وقعوا في ذلك الذنب
والوجه الثاني أن يكون المعنى استزلهم الشيطان في بعض ما كسبوا لا في كل ما كسبوا والمراد منه بيان انهم ما كفروا وما تركوا دينهم بل هذه زلة وقعت لهم في بعض أعمالهم
ثم قال تعالى وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ
واعلم أن هذه الآية دلت على أن تلك الزلة ما كانت بسبب الكفر فان العفو عن الكفر لا يجوز لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) ثم قالت المعتزلة ذلك الذنب ان كان من الصغائر جاز العفو عنه من غير توبة وان كان من الكبائر لم يجز الا مع التوبة فههنا لا بد من تقدم التوبة منهم وان كان ذلك غير مذكور في الآية قال القاضي والأقرب أن ذلك الذنب كان من الصغائر ويدل عليه وجهان الأول أنه لا يكاد في الكبائر يقال انها زلة إنما يقال ذلك في الصغائر الثاني أن القوم ظنوا أن الهزيمة لما وقعت على المشركين لم يبق الى ثباتهم في ذلك المكان حاجة فلا جرم انتقلوا عنه وتحولوا لطلب الغنيمة ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مدخلا وأما على قول أصحابنا فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز فلا حاجة الى هذه التكلفات
ثم قال تعالى أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ أي غفور لمن تاب وأناب حليم لا يعجل بالعقوبة وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ذلك الذنب كان من الكبائر لأنه لو كان من الصغائر لوجب على قول المعتزلة أن يعفو عنه ولو كان العفو عنه واجبا لما حسن التمدح به لأن من يظلم إنسانا فانه لا يحسن أن يتمدح بأنه عفا عنه وغفر له فلما ذكر هذا التمدح علمنا أن ذلك الذنب كان من الكبائر ولما عفا عنه علمنا أن العفو عن الكبائر واقع والله أعلم
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَة ً فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيى ِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَة ٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَة ٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ

اعلم أن المنافقين كانوا يعيرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار بقولهم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ثم انه لما ظهر عن بعض المؤمنين فتور وفشل في الجهاد حتى وقع يوم أحد ما وقع وعفا الله بفضله عنهم ذكر في هذه الآية ما يدل على النهي عن أن يقول أحد من المؤمنين مثل مقالتهم فقال يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لمن يريد الخروج الى الجهاد لو لم تخرجوا لما متم وما قتلتم فان الله هو المحيي والمميت فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد ومن قدر له الموت لم يبق وان لم يجاهد وهو المراد من قوله وَاللَّهُ يُحْيى ِ وَيُمِيتُ وأيضا الذي قتل في الجهاد لو أنه ما خرج الى الجهاد لكان يموت لا محالة فاذا كان لا بد من الموت فلأن يقتل في الجهاد حتى يستوجب الثواب العظيم كان ذلك خيرا له من أن يموت من غير فائدة وهو المراد من قوله وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَحْمَة ٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ فهذا هو المقصود من الكلام وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في المراد بقوله كَالَّذِينَ كَفَرُواْ فقال بعضهم هو على إطلاقه فيدخل فيه كل كافر يقول مثل هذا القول سواء كان منافقا أو لم يكن وقال آخرون انه مخصوص بالمنافقين لأن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مختصة بشرح أحوالهم وقال آخرون هذا مختص بعبدالله بن أبي بن سلول ومعتب بن قشير وسائر أصحابه وعلى هذين القولين فالآية تدل على أن الايمان ليس عبارة عن الاقرار باللسان كما تقول الكرامية إذ لو كان كذلك لكان المنافق مؤمناً ولو كان مؤمناً لما سماه الله كافراً
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قوله وَقَالُواْ لإِخْوانِهِمْ أي لأجل إخراجهم كقوله وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( الأحقاف 11 ) وأقول تقرير هذا الوجه أنهم لما قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فهذا يدل على أن أولئك الاخوان كانوا ميتين ومقتولين عند هذا القول فوجب أن يكون المراد من قوله وَقَالُواْ لإِخْوانِهِمْ هو أنهم قالوا ذلك لأجل إخوانهم ولا يكون المراد هو أنهم ذكروا هذا القول مع اخوانهم
المسألة الثالثة قوله إِخْوانَهُمْ يحتمل أن يكون المراد منه الاخوة في النسب وان كانوا مسلمين كقوله تعالى وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ( الأعراف 65 ) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ( الأعراف 73 ) فان الاخوة في هذه الآيات أخوة النسب لا اخوة الدين فلعل أولئك المقتولين من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين فالمنافقون ذكروا هذا الكلام ويحتمل أن يكون المراد من هذه الأخوة المشاكلة في الدين واتفق الى أن صار بعض المنافقين مقتولا في بعض الغزوات فالذين بقوا من المنافقين قالوا ذلك
المسألة الرابعة المنافقون كانوا يظنون أن الخارج منهم لسفر بعيد وهو المراد بقوله إِذَا ضَرَبُواْ فِى الاْرْضِ والخارج إلى الغزو وهو المراد بقوله أَوْ كَانُواْ غُزًّى إذا نالهم موت أو قتل فذلك إنما نالهم بسبب السفر والغزو وجعلوا ذلك سببا لتنفير الناس عن الجهاد وذلك لأن في الطباع محبة الحياة وكراهية الموت والقتل فاذا قيل للمرء ان تحرزت من السفر والجهاد فأنت سليم طيب العيش وان تقحمت

أحدهما وصلت الى الموت أو القتل فالغالب أنه ينفر طبعه عن ذلك ويرغب في ملازمة البيت وكان ذلك من مكايد المنافقين في تنفير المؤمنين عن الجهاد
فان قيل فلماذا ذكر بعض الضرب في الأرض الغزو وهو داخل فيه
قلنا لأن الضرب في الأرض يراد به الابعاد في السفر لا ما يقرب منه وفي الغزو لا فرق بين بعيده وقريبه اذ الخارج من المدينة إلى جبل أحد لا يوصف بأنه ضارب في الأرض مع قرب المسافة وان كان غازيا فهذا فائدة إفراد الغزو عن الضرب في الأرض
المسألة الخامسة في الآية إشكال وهو أن قوله وَقَالُواْ لإِخْوانِهِمْ يدل على الماضي وقوله إِذَا ضَرَبُواْ يدل على المستقبل فكيف الجمع بينهما بل لو قال وقالوا لاخوانهم إذ ضربوا في الأرض أي حين ضربوا لم يكن فيه إشكال
والجواب عنه من وجوه الأول أن قوله قَالُواْ تقديره يقولون فكأنه قيل لا تكونوا كالذين كفروا ويقولون لاخوانهم كذا وكذا وإنما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين أحدهما أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل فقد يعبر عنه بأنه حدث أو هو حادث قال تعالى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وقال إِنَّكَ مَيّتٌ ( الزمر 30 ) فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقل لم يكن فيه مبالغة أما لما وقع التعبير عنه بلفظ الماضي دل ذلك على أن جدهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية وصار بسبب ذلك الجد هذا المستقبل كالكائن الواقع
الفائدة الثانية انه تعالى لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل ذلك على أنه ليس المقصود الاخبار عن صدور هذا الكلام بل المقصود الاخبار عن جدهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة فهذا هو الجواب المعتمد عندي والله أعلم
الوجه الثاني في الجواب أن الكلام خرج على سبيل حكاية الحال الماضية والمعنى أن اخوانهم إذا ضربوا في الأرض فالكافرون يقولون لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فمن أخبر عنهم بعد ذلك لا بد وان يقول قالوا فهذا هو المراد بقولنا خرج هذا الكلام على سبيل حكاية الحال الماضية
الوجه الثالث قال قطرب كلمة ( اذ ) واذا يجوز اقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى وأقول هذا الذي قاله قطرب كلام حسن وذلك لانا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول منقول عن قائل مجهول فلأن يجوز اثباتها بالقرآن العظيم كان ذلك أولى أقصى ما في الباب أن يقال ( اذ ) حقيقة في المستقبل ولكن لم لا يحوز استعماله في الماضي على سبيل المجاز لما بينه وبين كلمة ( اذ ) من المشابهة الشديدة وكثيرا أرى النحويين يتحيرون في تقرير الالفاظ الواردة في القرآن فاذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به وأنا شديد التعجب منهم فانهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى
المسألة السادسة غُزًّى جمع غاز كالقول والركع والسجد جمع قائل وراكع وساجد ومثله من الناقص ( عفا ) ويجوز أيضا غزاة مثل قضاة ورماة في جمع القاضي والرامي ومعنى الغزو في كلام العرب

قصد العدو والمغزى المقصد
المسألة السابعة قال الواحدي في الآية محذوف يدل عليه الكلام والتقدير إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزاة فقتلوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فقوله مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ يدل على موتهم وقتلهم
ثم قال تعالى لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَة ً فِى قُلُوبِهِمْ وفيه وجهان الأول أن التقدير أنهم قالوا ذلك الكلام ليجعل الله ذلك الكلام حسرة في قلوبهم مثل ما يقال ربيته ليؤذيني ونصرته ليقهرني ومثله قوله تعالى فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) إذا عرفت هذا فنقول ذكروا في بيان أن ذلك القول كيف استعقب حصول الحسرة في قلوبهم وجوها الأول أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم لان أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في منعه عن ذلك السفر وعن ذلك الغزو لبقي فذلك الشخص انما مات أو قتل بسبب أن هذا الانسان قصر في منعه فيعتقد السامع لهذا الكلام انه هو الذي تسبب إلى موت ذلك الشخص العزيز عليه أو قتله ومتى اعتقد في نفسه ذلك فلا شك أنه تزداد حسرته وتلهفه أما المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكون إلا بتقدير الله وقضائه لم يحصل ألبتة في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة فثبت ان تلك الشبهة التي ذكرها المنافقون لا تفيدهم إلا زيادة الحسرة
الوجه الثاني ان المنافقين إذا ألقوا هذه الشبهة إلى اخوانهم تثبطوا عن الغزو والجهاد وتخلفوا عنه فاذا اشتغل المسلمون بالجهاد والغزو ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة والاستيلاء على الاعداء والفوز بالأماني بقي ذلك المتخلف عند ذلك في الخيبة والحسرة
الوجه الثالث ان هذه الحسرة إنما تحصل يوم القيامة في قلوب المنافقين إذا رأوا تخصيص الله المجاهدين بمزيد الكرامات واعلاء الدرجات وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخزي واللعن والعقاب
الوجه الرابع ان المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضعفة المسلمين ووجدوا منهم قبولا لها فرحوا بذلك من حيث أنه راج كيدهم ومكرهم على أولئك الضعفة فالله تعالى يقول إنه سيصير ذلك حسرة في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل في تقرير هذه الشبهة
الوجه الخامس ان جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحيرة والخيبة وضيق الصدر وهو المراد بالحسرة كقوله وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً ( الأنعام 125 )
الوجه السادس انهم متى ألقوا هذه الشبهة على أقوياء المسلمين لم يلتفتوا اليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم
والقول الثاني في تفسير الآية أن اللام في قوله لِيَجْعَلَ اللَّهُ متعلقة بما دل عليه النهي والتقدير لا تكونوا مثلهم حتى يجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغيظهم

ثم قال تعالى وَاللَّهُ يُحْيى ِ وَيُمِيتُ وفيه وجهان الأول أن المقصود منه بيان الجواب عن هذه الشبهة وتقريره أن المحيي والمميت هو الله ولا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت وان علم الله لا يتغير وان حكمه لا ينقلب وان قضاءه لا يتبدل فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت
فان قيل إن كان القول بأن قضاء الله لا يتبدل يمنة من كون الجد والاجتهاد مفيدا في الحذر عن القتل والموت فكذا القول بأن قضاء الله لا يتبدل وجب أن يمنع من كون العمل مفيدا في الاحتراز عن عقاب الآخرة وهذا يمنع من لزوم التكليف والمقصود من هذه الآيات تقرير الأمر بالجهاد والتكليف وإذا كان الجواب يفضي بالآخرة إلى سقوط التكليف كان هذا الكلام يقضي ثبوته الى نفيه فيكون باطلا
الجواب ان حسن التكليف عندنا غير معلل بعلة ورعاية مصلحة بل عندنا أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
والوجه الثاني في تأويل الآية أنه ليس الغرض من هذا الكلام الجواب عن تلك الشبهة بل المقصود أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل قول المنافقين قال وَاللَّهُ يُحْيى ِ وَيُمِيتُ يريد يحيي قلوب أوليائه وأهل طاعته بالنور والفرقان ويميت قلوب أعدائه من المنافقين
ثم قال تعالى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المقصود منه الترغيب والترهيب فيما تقدم ذكره من طريقة المؤمنين وطريقة المنافقين
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يَعْمَلُونَ كناية عن الغائبين والتقدير لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَة ً فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيى ِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ والباقون بالتاء على الخطاب ليكون وفقا لما قبله في قوله لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ ولما بعده في قوله وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ
ثم قال تعالى وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَحْمَة ٌ خَيْرٌ مّمَّا
واعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن شبهة المنافقين وتقريره أن هذا الموت لا بد واقع ولا محيص للانسان من أن يقتل أو يموت فاذا وقع هذا الموت أو القتل في سبيل الله وفي طلب رضوانه فهو خير من أن يجعل ذلك في طلب الدنيا ولذاتها التي لا ينتفع الانسان بها بعد الموت ألبتة وهذا جواب في غاية الحسن والقوة وذلك لأن الانسان إذا توجه الى الجهاد أعرض قلبه عن الدنيا وأقبل على الآخرة فاذا مات فكانه تخلص عن العدو ووصل الى المحبوب وإذا جلس في بيته خائفا من الموت حريصا على جمع الدنيا فاذا مات فكأنه حجب عن المعشوق وألقي في دار الغربة ولا شك في كمال سعادة الأول وكمال شقاوة الثاني
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحمزة والكسائي ( متم ) بكسر الميم والباقون بضم الميم والأولون أخذوه من مات يمات مت مثل هاب يهاب هبت وخاف يخاف خفت وروى المبرد هذه اللغة فان صح فقد صحت هذه القراءة وأما قراءة الجمهور فهو مأخوذ من مات يموت مت مثل قال يقول قلت

المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله اللام في قوله بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ لام القسم بتقدير الله لئن قتلتم في سبيل الله واللام في قوله لَمَغْفِرَة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَحْمَة ٌ جواب القسم ودال على أن ما هو داخل عليه جزاء والاصوب عندي أن يقال هذه اللام للتأكيد فيكون المعنى ان وجب أن تموتوا وتقتلوا في سفركم وغزوكم فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة أيضا فلماذا تحترزون عنه كأنه قيل ان الموت والقتل غير لازم الحصول ثم بتقدير أن يكون لازما فانه يستعقب لزوم المغفرة فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه
المسألة الثالثة قرأ حفص عن عاصم ( يجمعون ) بالياء على سبيل الغيبة والباقون بالتاء على وجه الخطاب أما وجه الغيبة فالمعنى أن مغفرة الله خير مما يجمعه هؤلاء المنافقون من الحطام الفاني وأما وجه الخطاب فالمعنى أنه تعالى كأنه يخاطب المؤمنين فيقول لهم مغفرة الله خير لكم من الأموال التي تجمعونها في الدنيا
المسألة الرابعة إنما قلنا ان رحمة الله ومغفرته خير من نعيم الدنيا لوجوه أحدها ان من يطلب المال فهو في تعب من ذلك الطلب في الحال ولعله لا ينتفع به غدا لأنه يموت قبل الغد وأما طلب الرحمة والمغفرة فانه لا بد وأن ينتفع به لأن الله لا يخلف وعده وقد قال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ( الزلزلة 7 ) وثانيها هب أنه بقي إلى الغد لكن لعل ذلك المال لا يبقى إلى الغد فكم من انسان أصبح أميرا وأمسى أسيرا وخيرات الآخرة لا تزول لقوله وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ( الكهف 46 ) ولقوله مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ( النحل 96 ) وثالثها بتقدير أن يبقى إلى الغد ويبقى المال إلى الغد لكن لعله يحدث حادث يمنعك عن الانتفاع به مثل مرض وألم وغيرهما ومنافع الآخرة ليست كذلك ورابعها بتقدير أنه في الغد يمكنك الانتفاع بذلك المال ولكن لذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار وذلك مما لا يخفي وأما منافع الآخرة فليست كذلك وخامسها هب أن تلك المنافع تحصل في الغد خالصة عن الشوائب ولكنها لا تدوم ولا تستمر بل تنقطع وتفنى وكلما كانت اللذة أقوى وأكمل كان التأسف والتحسر عند فواتها أشد وأعظم ومنافع الآخرة مصونة عن الانقطاع والزوال وسادسها أن منافع الدنيا حسية ومنافع الآخرة عقلية والحسية خسيسة والعقلية شريفة أترى ان انتفاع الحمار بلذة بطنه وفرجه يساوي ابتهاج الملائكة المقربين عند اشراقها بالأنوار الالهية فهذه المعاقد الستة تنبهك على ما لانهاية لها من الوجوه الدالة على صحة قوله سبحانه وتعالى لَمَغْفِرَة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَحْمَة ٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ
فان قيل كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما تجمعون ولا خير فيما تجمعون أصلا
قلنا ان الذي تجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيرا وأيضا هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات فقيل المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات
ثم قال وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ
واعلم أنه سبحانه وتعالى رغب المجاهدين في الآية الأولى بالحشر الى مغفرة الله وفي هذه الآية زاد في إعلاء الدرجات فرغبهم ههنا بالحشر الى الله يروى أن عيسى بن مريم صلوات الله عليه وسلامه مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم ورأى عليهم آثار العبادة فقال ماذا تطلبون فقالوا نخشى عذاب الله فقال هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا نطلب الجنة والرحمة فقال هو أكرم من أن يمنحكم رحمته ثم مر بقوم ثالث ورأى آثار العبودية عليهم أكثر

فسألهم فقالوا نعبده لأنه إلهنا ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة فقال أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقون فانظر في ترتيب هذه الآيات فانه قال في الآية الأولى لَمَغْفِرَة ٌ مّنَ اللَّهِ وهو إشارة الى من يعبده خوفا من عقابه ثم قال وَرَحْمَة ً وهو إشارة الى من يعبده لطلب ثوابه ثم قال في خاتمة الآية لإِلَى الله تُحْشَرُونَ وهو إشارة الى من يعبد الله لمجرد الربوبية والعبودية وهذا أعلى المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة ألا ترى أنه لما شرف الملائكة قال وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) وقال للمقربين من أهل الثواب عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) فبين أن هؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعته ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه واستئناسهم بكرمه وتمتعهم بشروق نور ربوبيته وهذا مقام فيه إطناب والمستبصر يرشده القدر الذي أوردناه
ولنرجع إلى التفسير كأنه قيل ان تركتم الجهاد واحترزتم عن القتل والموت بقيتم أياما قليلة في الدنيا مع تلك اللذات الخسيسة ثم تتركونها لا محالة فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم أما لو أعرضتم عن لذات الدنيا وطيباتها وبذلتم النفس والمال للمولى يكون حشركم إلى الله ووقوفكم على عتبة رحمة الله وتلذذكم بذكر الله فشتان ما بين هاتين الدرجتين والمنزلتين
واعلم أن في قوله لإِلَى الله تُحْشَرُونَ دقائق أحدها أنه لم يقل تحشرون إلى الله بل قال لالى الله تحشرون وهذا يفيد الحصر معناه إلى الله يحشر العالمون لا إلى غيره وهذا يدل على أنه لا حاكم في ذلك اليوم ولا ضار ولا نافع إلا هو قال تعالى لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ( غافر 16 ) وقال تعالى وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( الأنفطار 19 ) وثانيها أنه ذكر من أسماء الله هذا الاسم وهذا الاسم أعظم الأسماء وهو دال على كمال الرحمة وكمال القهر فهو لدلالته على كمال الرحمة أعظم أنواع الوعد ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد وثالثها إدخال لام التأكيد في اسم الله حيث قال لإِلَى الله وهذا ينبهك على أن الالهية تقتضي هذا الحشر والنشر كما قال إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( طه 15 ) ورابعها أن قوله تُحْشَرُونَ فعل ما لم يسم فاعله مع أن فاعل ذلك الحشر هو الله وإنما لم يقع التصريح به لأنه تعالى هو العظيم الكبير الذي شهدت العقول بأنه هو الله الذي يبدىء ويعيد ومنه الانشاء والاعادة فترك التصريح في مثل هذا الموضع أدل على العظمة ونظيره قوله تعالى وَقِيلَ ياأَرْضُ أَرْضُ ابْلَعِى مَاءكِ ( هود 44 ) وخامسها أنه أضاف حشرهم إلى غيرهم وذلك ينبه العقل على أن جميع الخلق مضطرون في قبضة القدرة ونفاذ المشيئة فهم سواء كانوا أحياء أم أمواتا لا يخرجون عن قهر الربوبية وكبرياء الالهية وسادسها أن قوله تُحْشَرُونَ خطاب مع الكل فهو يدل على أن جميع العالمين يحشرون ويوقفون في عرصة القيامة وبساط العدل فيجتمع المظلوم مع الظالم والمقتول مع القاتل والحق سبحانه وتعالى يحكم بين عبيده بالعدل المبرأ عن الجور كما قال وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ( الأنبياء 47 ) فمن تأمل في قوله تعالى لإِلَى الله تُحْشَرُونَ وساعده التوفيق علم أن هذه الفوائد التي ذكرناها كالقطرة من بحار الأسرار المودعة في هذه الآية وتمسك القاضي بهذه الآية على أن المقتول ليس بميت قال لأن قوله وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ يقتضي عطف المقتول على الميت وعطف الشيء على نفسه ممتنع

فَبِمَا رَحْمَة ٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاٌّ مْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
واعلم أن القوم لما انهزموا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد ثم عادوا لم يخاطبهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالتغليط والتشديد وإنما خاطبهم بالكلام اللين ثم إنه سبحانه وتعالى لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم زاد في الفضل والاحسان بأن مدح الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على عفوه عنهم وتركه التغليظ عليهم فقال فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ومن أنصف علم أن هذا ترتيب حسن في الكلام وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن لينه ( صلى الله عليه وسلم ) مع القوم عبارة عن حسن خلقه مع القوم قال تعالى وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الشعراء 215 ) وقال خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ وقال وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( القلم 4 ) وقال لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ( التوبة 128 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( لا حلم أحب إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه ولا جهل أبغض الى الله من جهل إمام وخرقه ) فلما كان عليه الصلاة والسلام إمام العالمين وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقاً وروى أن امرأة عثمان دخلت عليه ( صلى الله عليه وسلم ) وكان النبي وعلي يغسلان السلاح فقالت ما فعل ابن عفان أما والله لا تجدونه امام القوم فقال لها علي ألا إن عثمان فضح الزمان اليوم فقال عليه الصلاة والسلام ( مه ) وروي أنه قال حيئنذ أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا ولما دخل عليه عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال ( لقد ذهبتم فيها عريضة ) وروي عن بعض الصحابة أنه قال لقد أحسن الله إلينا كل الاحسان كنا مشركين فلو جاءنا رسول الله بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الايمان قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم الدين وكملت الشريعة وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إنما أنا لكم مثل الوالد فاذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ) واعلم أن سر الأمر في حسن الخلق أمران اعتبار حال القائل واعتبار حال الفاعل أما اعتبار حال القائل فلأن جواهر النفوس مختلفة بالماهية كما قال عليه الصلاة والسلام ( الأرواح جنود مجندة ) وقال ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ) وكما أنها في جانب النقصان تنتهي إلى غاية البلادة والمهانة والنذالة واستيلاء الشهوة والغضب عليها واستيلاء حب المال واللذات فكذلك في جانب الكمال قد تنتهي إلى غاية القوة والجلالة أما في القوة النظرية فيكون كما وصفه الله تعالى بقوله نُّورٌ عَلَى نُورٍ ( النور 35 ) وقوله وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 )

وأما في القوة العملية فكما وصفه الله بقوله وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ كأنها من جنس أرواح الملائكة فلا تنقاد للشهوة ولا تميل لدواعي الغضب ولا تتأثر من حب المال والجاه فان من تأثر عن شيء كان المتأثر أضعف من المؤثر فالنفس إذا مالت إلى هذه المحسوسات كانت روحانياتها أضعف من الجسمانيات وإذا لم تمل اليها ولم تلتفت إليها كانت روحانياتها مستعلية على الجسمانيات وهذه الخواص نظرية وكانت نفسه المقدسة في غاية الجلالة والكمال في هذه الخصال وأما اعتبار حال الفاعل فقوله عليه الصلاة والسلام ( من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ) فانه يعلم أن الحوادث الأرضية مستندة إلى الأسباب الالهية فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر فلا جرم إذا فاته مطلوب لم يغضب وإذا حصل له محبوب لم يأنس به لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات فلا ينازع أحداً من هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها ولا يغضب على أحد بسبب فوت شيء من مطالبها ومتى كان الانسان كذلك كان حسن الخلق طيب العشرة مع الخلق ولما كان صلوات الله وسلامه عليه أكمل البشر في هذه الصفات الموجبة لحسن الخلق لا جرم كان أكمل الخلق في حسن الخلق
المسألة الثانية احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وجه الاستدلال أنه تعالى بين أن حسن خلقه مع الخلق إنما كان بسبب رحمة الله تعالى فنقول رحمة الله عند المعتزلة عامة في حق المكلفين فكل ما فعله مع محمد عليه الصلاة والسلام من الهداية والدعوة والبيان والارشاد فقد فعل مثل ذلك مع إبليس وفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب فاذا كان على هذا القول كل ما فعله الله تعالى مع المكلفين في هذا الباب مشتركا فيه بين أصفى الأصفياء وبين أشقى الأشقياء لم يكن اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفاداً من رحمة الله فكان على هذا القول تعليل حسن خلق الرسول عليه الصلاة والسلام برحمة الله باطلا ولما كان هذا باطلا علمنا أن جميع أفعال العباد بقضاء الله وبقدره والمعتزلة يحملون هذا على زيادة الألطاف وهذا في غاية البعد لأن كل ما كان ممكناً من الألطاف فقد فعله في حق المكلفين والذي يستحقه المكلف بناء على طاعته من مزيد الألطاف فذاك في الحقيقة إنما اكتسبه من نفسه لا من الله لأنه متى فعل الطاعة استحق ذلك المزيد من اللطف ووجب إيصاله اليه ومتى لم يفعل امتنع ايصاله فكان ذلك للعبد من نفسه لا من الله
المسألة الثالثة ذهب الأكثرون الى أن ( ما ) في قوله فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ صلة زائدة ومثله في القرآن كثير كقوله عَمَّا قَلِيلٍ و جُندٌ مَّا هُنَالِكَ ( ص 11 ) فَبِمَا نَقْضِهِم ( النساء 155 المائدة 13 ) مِنْ خَطَايَاهُمْ ( العنكبوت 12 ) قالوا والعرب قد تزيد في الكلام للتأكيد على ما يستغنى عنه قال تعالى فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ ( يوسف 96 ) أراد فلما جاء فأكد بأن وقال المحققون دخول اللفظ المهمل الضائع في كلام أحكم الحاكمين غير جائر وههنا يجوز أن تكون ( ما ) استفهاما للتعجب تقديره فبأي رحمة من الله لنت لهم وذلك لأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم انه ما أظهر ألبتة تغليظا في القول ولا خشونة في الكلام علموا أن هذا لا يتأتى الا بتأييد رباني وتسديد إلهي فكان ذلك موضع التعجب من كمال ذلك التأييد والتسديد فقيل فبأي رحمة من الله لنت لهم وهذا هو الأصوب عندي
المسألة الرابعة اعلم أن هذه الآية دلت على أن رحمة الله هي المؤثرة في صيرورة محمد عليه

الصلاة والسلام رحيما بالأمة فاذا تأملت حقيقة هذه الآية عرفت دلالتها على أنه لا رحمة الا لله سبحانه والذي يقرر ذلك وجوه أحدها أنه لولا أن الله ألقى في قلب عبده داعية الخير والرحمة واللطف لم يفعل شيئاً من ذلك واذا ألقى في قلبه هذه الداعية فعل هذه الافعال لا محالة وعلى هذا التقدير فلا رحمة إلا لله ان كل رحيم سوى الله تعالى فانه يستفيد برحمته عوضا اما هربا من العقاب أو طلبا للثواب أو طلبا للذكر الجميل فاذا فرضنا صورة خالية عن هذه الأمور كان السبب هو الرقة الجنسية فان من رأى حيوانا في الألم رق قلبه وتألم بسبب مشاهدته إياه في الالم فيخلصه عن ذلك الالم دفعا لتلك الرقة عن قلبه فلو لم يوجد شيء من هذه الاعراض لم يرحم ألبتة أما الحق سبحانه وتعالى فهو الذي يرحم لا لغرض من الأغراض فلا رحمة إلا لله وثالثها ان كل من رحم غيره فانه إنما يرحمه بأن يعطيه مالا أو يبعد عنه سببا من أسباب المكروه والبلاء إلا أن المرحوم لا ينتفع بذلك المال إلا مع سلامة الاعضاء وهي ليست إلا من الله تعالى فلا رحمة في الحقيقة إلا لله وأما في الظاهر فكل من أعانه الله على الرحمة سمي رحيما قال عليه السلام ( الراحمون يرحمهم الرحمن ) وقال في صفة محمد عليه السلام بِالْمُؤْمِنِينَ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ( التوبة 128 ) ثم قال تعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ
واعلم أن كمال رحمة الله في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنه عرفه مفاسد الفظاظة والغلظة وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله تعالى الفظ الغليظ الجانب السيء الخلق يقال فظظت تفظ فظاظة فأنت فظ وأصله فظظ كقوله حذر من حذرت وفرق من فرقت الا أن ما كان من المضاعف على هذا الوزن يدغم نحن رجل صب وأصله صبب وأما ( الفض ) بالضاد فهو تفريق الشيء وانفض القوم تفرقوا قال تعالى وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا ( الجمعة 11 ) ومنه فضضت الكتاب ومنه يقال لا يفضض الله فاك
فان قيل ما الفرق بين الفظ وبين غليظ القلب
قلنا الفظ الذي يكون سيء الخلق وغليظ القلب هو الذي لا يتأثر قلبه عن شيء فقد لا يكون الانسان سيء الخلق ولا يؤذي أحدا ولكنه لا يرق لهم ولا يرحمهم فظهر الفرق من هذا الوجه
المسألة الثانية ان المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله الى الخلق وهذا المقصود لا يتم إلا إذا مالت قلوبهم اليه وسكنت نفوسهم لديه وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيما كريما يتجاوز عن ذنبهم ويعفو عن إساءتهم ويخصهم بوجوه البر والمكرمة والشفقة فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق وكما يكون كذلك وجب أن يكون غير غليظ القلب بل يكون كثير الميل الى إعانة الضعفاء كثير القيام باعانة الفقراء كثير التجاوز عن سيآتهم كثير الصفح عن زلاتهم فلهذا المعنى قال وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ولو انفضوا من حولك فات المقصود من البعثة والرسالة وحمل القفال رحمه الله هذه الآية على واقعة أحد قال فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ يوم أحد حين عادوا اليك بعد الانهزام وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ وشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام لانفضوا من حولك هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الانهزام فكان ذلك مما لا يطمع العدو فيك وفيهم

المسألة الثالثة اللين والرفق انما يجوز إذا لم يفض الى إهمال حق من حقوق الله فأما إذا أدى الى ذلك لم يجز قال تعالى الْعَظِيمُ ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ( التوبة 73 ) وقال للمؤمنين في إقامة حد الزنا وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ ( النور 2 )
وههنا دقيقة أخرى وهي أنه تعالى منعه من الغلظة في هذه الآية وأمره بالغلظة في قوله وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ فههنا نهاه عن الغلظة على المؤمنين وهناك أمره بالغلظة مع الكافرين فهو كقوله أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( المائدة 54 ) وقوله أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( الفتح 29 ) وتحقيق القول فيه ان طرفي الافراط والتفريط مذمومان والفضيلة في الوسط فورود الامر بالتغليظ تارة وأخرى بالنهي عنه إنما كان لأجل أن يتباعد عن الافراط والتفريط فيبقى على الوسط الذي هو الصراط المستقيم فلهذا السر مدح الله الوسط فقال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 )
ثم قال تعالى فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ واعلم أنه تعالى أمره في هذه الآية بثلاثة أشياء أولها بالعفو عنهم وفيه مسائل
المسألة الأولى ان كمال حال العبد ليس إلا في أن يتخلق بأخلاق الله تعالى قال عليه السلام ( تخلقوا بأخلاق الله ) ثم إنه تعالى لما عفا عنهم في الآية المتقدمة أمر الرسول أيضا أن يعفو عنهم ليحصل للرسول عليه السلام فضيلة التخلق بأخلاق الله
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) ( فاعف عنهم ) فيما يتعلق بحقك ( واستغفر لهم ) فيما يتعلق بحق الله تعالى
المسألة الثالثة ظاهر الأمر للوجوب والفاء في قوله تعالى فَاعْفُ عَنْهُمْ يدل على التعقيب فهذا يدل على أنه تعالى أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال وهذا يدل على كمال الرحمة الالهية حيث عفا هو عنهم ثم أوجب على رسوله أن يعفو في الحال عنهم
واعلم أن قوله فَاعْفُ عَنْهُمْ إيجاب للعفو على الرسول عليه السلام ولما آل الأمر إلى الأمة لم يوجبه عليهم بل ندبهم اليه فقال تعالى وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ليعلم أن حسنات الأبرار سيآت المقربين وثانيها قوله تعالى وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية دلالة قوية على أنه تعالى يعفو عن أصحاب الكبائر وذلك لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة لقوله تعالى وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلى قوله فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ ( الأنفال 16 ) فثبت أن انهزام أهل أحد كان من الكبائر ثم انه تعالى نص في الآية المتقدمة على أنه عفا عنهم وأمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية بالعفو عنهم ثم أمره بالاستغفار لهم وذلك من أدل الدلائل على ما ذكرنا
المسألة الثانية قوله تعالى وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ أمر له بالاستغفار لأصحاب الكبائر وإذا أمره بطلب المغفرة لا يجوز أن لا يجيبه اليه لأن ذلك لا يليق بالكريم فدلت هذه الآية على أنه تعالى يشفع محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في الدنيا في حق أصحاب الكبائر فبأن يشفعه في حقهم في القيامة كان أولى

المسألة الثالثة أنه سبحانه وتعالى عفا عنهم أولا بقوله وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ( آل عمران 155 ) ثم أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية بالاستغفار لهم ولأجلهم كأنه قيل له يا محمد استغفر لهم فاني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم واعف عنهم فاني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم وهذا يدل على كمال رحمة الله لهذه الأمة وثالثها قوله تعالى وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ وفيه مسائل
المسألة الأولى يقال شاورهم مشاورة وشواراً ومشورة والقوم شورى وهي مصدر سمي القوم بها كقوله وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ( الإسراء 47 ) قيل المشاورة مأخوذة من قولهم شرت العسل أشوره إذا أخذته من موضعه واستخرجته وقيل مأخوذة من قولهم شرت الدابة شورا إذا عرضتها والمكان الذي يعرض فيه الدواب يسمى مشواراً كأنه بالعرض يعلم خيره وشره فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها
المسألة الثانية الفائدة في أنه تعالى أمر الرسول بمشاورتهم وجوه الأول أن مشاورة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إياهم توجب علو شأنهم ورفعة درجتهم وذلك يقتضي شدة محبتهم له وخلوصهم في طاعته ولو لم يفعل ذلك لكان ذلك اهانة بهم فيحصل سوء الخلق والفظاظة الثاني أنه عليه السلام وإن كان أكمل الناس عقلا إلا أن علوم الخلق متناهية فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا فانه عليه السلام قال ( أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف بأمور دينكم ) ولهذا السبب قال عليه السلام ( ما تشاور قوم قط الا هدوا لأرشد أمرهم ) الثالث قال الحسن وسفيان بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته الرابع أنه عليه السلام شاورهم في واقعة أحد فأشاروا عليه بالخروج وكان ميله إلى أن يخرج فلما خرج وقع ما وقع فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم بقية أثر فأمره الله تعالى بعد تلك الواقعة بأن يشاورهم ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة الخامس وشاورهم في الأمر لا لتستفيد منهم رأياً وعلما لكن لكي تعلم مقادير عقولهم وأفهامهم ومقادير حبهم لك وإخلاصهم في طاعتك فحينئذ يتميز عندك الفاضل من المفضول فبين لهم على قدر منازلهم السادس وشاورهم في الأمر لا لأنك محتاج اليهم ولكن لأجل أنك إذا شاورتهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد السابع لما أمر الله محمدا عليه السلام بمشاورتهم ذل ذلك على أن لهم عند الله قدراً وقيمة فهذا يفيد أن لهم قدرا عند الله وقدرا عند الرسول وقدرا عند الخلق الثامن الملك العظيم لا يشاور في المهمات العظيمة إلا خواصه والمقربين عنده فهؤلاء لما أذنبوا عفا الله عنهم فربما خطر ببالهم أن الله تعالى وان عفا عنا بفضله إلا أنه ما بقيت لنا تلك الدرجة العظيمة فبين الله تعالى أن تلك الدرجة ما انتقصت بعد التوبة بل أنا أزيد فيها وذلك أن قبل هذه الواقعة ما أمرت رسولي بمشاورتكم وبعد هذه الواقعة أمرته بمشاورتكم لتعلموا أنكم الآن أعظم حالا مما كنتم قبل ذلك والسبب فيه انكم قبل هذه الواقعة كنتم تعولون على أعمالكم وطاعتكم والآن تعولون على فضلي وعفوي فيجب أن تصير درجتكم ومنزلتكم الآن أعظم مما كان قبل ذلك لتعلموا أن عفوي أعظم من عملكم وكرمي أكثر من طاعتكم والوجوه الثلاثة الأول مذكورة والبقية مما خطر ببالي عند هذا الموضع والله أعلم بمراده وأسرار كتابه

المسألة الثالثة اتفقوا على ان كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور فيه الأمة لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس فأما ما لا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه في جميع الأشياء أم لا قال الكلبي وكثير من العلماء هذا الأمر مخصوص بالمشاورة في الحروب وحجته ان الألف واللام في لفظ ( الأمر ) ليسا للاستغراق لما بين أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه فوجب حمل الألف واللام ههنا على المعهود السابق والمعهود السابق في هذه الآية إنما هو ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو فكان قوله وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ مختصا بذلك ثم قال القائلون بهذا القول قد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالنزول على الماء فقبل منه فأشار عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهما وخرق الصحيفة ومنهم من قال اللفظ عام خص عنه ما نزل فيه وحي فتبقى حجته في الباقي والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) وكان عليه السلام سيد أولي الأبصار ومدح المستنبطين فقال لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ( النساء 83 ) وكان أكثر الناس عقلا وذكاء وهذا يدل على أنه كان مأمورا بالاجتهاذ إذا لم ينزل عليه الوحي والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة فلهذا كان مأمورا بالمشاورة وقد شاورهم يوم بدر في الاساري وكان من أمور الدين والدليل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس أن النص كان لعامة الملائكة في سجود آدم ثم ان ابليس خص نفسه بالقياس وهو قوله خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( الأعراف 12 ) فصار ملعونا فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استحق اللعن بهذا السبب
المسألة الرابعة ظاهر الأمر للوجوب فقوله وَشَاوِرْهُمْ يقتضي الوجوب وحمل الشافعي رحمه الله ذلك على الندب فقال هذا كقوله عليه الصلاة والسلام ( البكر تستأمر في نفسها ) ولو أكرهها الأب على النكاح جاز لكن الأولى ذلك تطييبا لنفسها فكذا ههنا
المسألة الخامسة روى الواحدي في الوسيط عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال الذي أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعندي فيه اشكال لأن الذين أمر الله رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الذين أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وهم المنهزمون فهب أن عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآية إلا أن أبا بكر ما كان منهم فكيف يدخل تحت هذه الآية والله أعلم
ثم قال فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى المعنى أنه إذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة فلا يجب أن يقع الاعتماد عليه بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله في جميع الأمور
المسألة الثانية دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الانسان نفسه كما يقوله بعض الجهال وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافياً للأمر بالتوكل بل التوكل هو أن يراعي الانسان الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحق

المسألة الثالثة حكي عن جابر بن زيد أنه قرأ فَإِذَا عَزَمْتَ بضم التاء كأن الله تعالى قال للرسول إذا عزمت أنا فتوكل وهذا ضعيف من وجهين الأول وصف الله بالعزم غير جائز ويمكن أن يقال هذا العزم بمعنى الايجاب والالزام والمعنى وشاورهم في الأمر فاذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه فتوكل علي ولا تشاور بعد ذلك أحدا والثاني أن القراءة التي لم يقرأ بها أحد من الصحابة لا يجوز إلحاقها بالقرآن والله أعلم
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكّلِينَ والغرض منه ترغيب المكلفين في الرجوع الى الله تعالى والاعراض عن كل ما سوى الله
إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
قال ابن عباس ان ينصركم الله كما نصركم يوم بدر فلا يغلبكم أحد وان يخذلكم كما خذلكم يوم أحد لم ينصركم أحد وفيه مسائل
المسألة الأولى قيل المقصود من الآية الترغيب في الطاعة والتحذير عن المعصية وذلك لأنه تعالى بين فيما تقدم أن من اتقى معاصي الله تعالى نصره الله وهو قوله بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَة ِ ءالافٍ مّنَ الْمَلَئِكَة ِ ( آل عمران 125 ) ثم بين في هذه الآية أن من نصره الله فلا غالب له فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين ان من اتقى الله فقد فاز بسعادة الدنيا والآخرة فانه يفوز بسعادة لا شقاوة معها وبعز لا ذل معه ويصير غالبا لا يغلبه أحد وأما من أتى بالمعصية فان الله يخذله ومن خذله الله فقد وقع في شقاوة لا سعادة معها وذل لا عز معه
المسألة الثانية احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الايمان لا يحصل الا باعانة الله والكفر لا يحصل الا بخذلانه والوجه فيه ظاهر لأنها دالة على أن الأمر كله لله
المسألة الثالثة قرأ عبيد بن عمير وَإِن يَخْذُلْكُمْ من أخذله إذا جعله مخذولا
المسألة الرابعة قوله مِن بَعْدِهِ فيه وجهان الأول يعني من بعد خذلانه والثاني أنه مثل قولك ليس لك من يحسن اليك من بعد فلان
ثم قال وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني لما ثبت أن الأمر كله بيد الله وأنه لا راد لقضائه ولا دافع لحكمه وجب أن لا يتوكل المؤمن الا عليه وقوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يفيد الحصر أي على الله فليتوكل المؤمنون لا على غيره

وَمَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بلغ في الحث على الجهاد أتبعه بذكر أحكام الجهاد ومن جملتها المنع من الغلول فذكر هذه الآية في هذا المعنى وفيها مسائل
المسألة الأولى الغلول هو الخيانة وأصله أخذ الشيء في الخفية يقال أغل الجازر والسالخ إذا أبقى في الجلد شيئا من اللحم على طريق الخيانة والغل الحقد الكامن في الصدر والغلالة الثوب الذي يلبس تحت الثياب والغلل الماء الذي يجري في أصول الشجرة لأنه مستتر بالأشجار وتغلل الشيء إذا تخلل وخفى وقال عليه الصلاة والسلام ( من بعثناه على عمل فغل شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه ) وقال ( هدايا الولاة غلول ) وقال ( ليس على المستعير غير المغل ضمان ) وقال ( لا إغلال ولا إسلال ) وأيضا يقال أغله إذا وجده غالا كقولك أبخلته وأفحمته أي وجدته كذلك
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو ( يغل ) بفتح الياء وضم الغين أي ما كان للنبي أن يخون وقرأ الباقون من السبعة ( يغل ) بضم الياء وفتح الغين أي ما كان للنبي أن يخان
واختلفوا في أسباب النزول فبعضها يوافق القراءة الأولى وبعضها يوافق القراءة الثانية
أما النوع الأول ففيه روايات الأولى أنه عليه الصلاة والسلام غنم في بعض الغزوات وجمع الغنائم وتأخرت القسمة لبعض الموانع فجاء قوم وقالوا ألا تقسم غنائمنا فقال عليه الصلاة والسلام ( لو كان لكم مثل أحد ذهبا ما حبست عنكم منه درهما أتحسبون أني أغلكم مغنمكم ) فأنزل الله هذه الآية الثاني أن هذه الآية نزلت في أداء الوحي كان عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن وفيه عيب دينهم وسب آلهتم فسألوه أن يترك ذلك فنزلت هذه الآية الثالث روى عكرمة وسعيد بن جبير أن الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الجهال لعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخذها فنزلت هذه الآية الرابع روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق آخر أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي عليه الصلاة والسلام من الغنائم بشيء زائد فنزلت هذه الآية الخامس روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث طلائع فغنموا غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع فنزلت هذه الآية السادس قال الكلبي ومقاتل نزلت هذه الآية حين ترك الرماة المركز يوم أحد طلبا للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر فقال عليه الصلاة والسلام ( ظننتم أنا نغل فلا نقسم لكم ) فنزلت هذه الآية
واعلم أن على الرواية الأولى المراد من الآية النهي عن أن يكتم الرسول شيئا من الغنيمة عن أصحابه لنفسه وعلى الروايات الثلاثة يكون المقصود نهيه عن الغلول بأن يعطى للبعض دون البعض

وأما ما يوافق القراءة الثانية فروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما وقعت غنائم هوازن في يده يوم حنين غل رجل بمخيط فنزلت هذه الآية واعلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عظم أمر الغلول وجعله من الكبائر عن ثوبان عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة الكبر والغلول والدين ) وعن عبدالله بن عمرو أن رجلا كان على ثقل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقال له كركرة فمات فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو في النار فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كساء وعباءة قد غلهما وقال عليه الصلاة والسلام ( أدوا الخيط والمخيط فانه عار ونار وشنار يوم القيامة ) وروي رويفع بن ثابت الانصاري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا حتى إذا أخلقه رده ) وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) جعل سلمان علي الغنيمة فجاءه رجل وقال يا سلمان كان في ثوبي خرق فأخذت خيطا من هذا المتاع فخطته به فهل علي جناح فقال سلمان كل شيء بقدره فسل الرجل الخيط من ثوبه ثم ألقاه في المتاع وروي أن رجلا جاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بشراك أو شراكين من المغنم فقال أصبت هذا يوم خيبر فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( شراك أو شراكان من نار ) ورمى رجل بسهم في خيبر فقال القوم لما مات هنيئا له الشهادة فقال عليه الصلاة والسلام ( كلا والذي نفس محمد بيده أن الشملة التي أخذها من الغنائم قبل قسمتها لتلتهب عليه نارا ) واعلم أنه يستثنى عن هذ النهي حالتان
الحالة الأولى أخذ الطعام وأخذ علف الدابة بقدر الحاجة قال عبدالله بن أبي أوفى أصبنا طعاما يوم حنين فكان الرجل يأتي فيأخذ منه قدر الكفاية ثم ينصرف وعن سلمان أنه أصاب يوم المدائن أرغفة وجبنا وسكينا فجعل يقطع من الجبن ويقول كلوا على اسم الله
الحالة الثانية إذا احتاج اليه روي عن البراء بن مالك أنه ضرب رجلا من المشركين يوم اليمامة فوقع على قفاه فأخذ سيفه وقتله به
المسألة الثالثة أما القراءة بفتح الياء وضم الغين بمعنى ما كان لنبي أن يخون فله تأويلان الأول أن يكون المراد أن النبوة والخيانة لا يجتمعان وذلك لأن الخيانة سبب للعار في الدنيا والنار في الآخرة فالنفس الراغبة فيها تكون في نهاية الدناءة والنبوة أعلى المناصب الانسانية فلا تليق إلا بالنفس التي تكون في غاية الجلالة والشرف والجمع بين الصفتين في النفس الواحدة ممتنع فثبت أن النبوة والخيانة لا تجتمعان فنظير هذه الآية قوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) يعني الالهية واتخاذ الولد لا يجتمعان وقيل اللام منقولة والتقدير وما كان النبي ليغل كقوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ أي ما كان الله ليتخذ ولدا
الوجه الثاني في تأويل هذه الآية على هذه القراءة أن يقال ان القوم قد التمسوا منه أن يخصهم بحصة زائدة من الغنائم ولا شك أنه لو فعل ذلك لكان ذلك غلولا فأنزل الله تعالى هذه الآية مبالغة في النهي له عن ذلك ونظيره قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وقوله وَلَوْ نَّقُولُ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( الحاقة 44 ) فقوله وَمَا كَانَ لِنَبِى ّ أَنْ يَغُلَّ أي ما كان يحل له ذلك واذا لم يحل له لم يفعله ونظيره قوله وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا ( النور 16 ) أي ما يحل لنا
وإذا عرفت تأويل الآية على هذه القراءة فنقول حجة هذه القراءة وجوه أحدها أن أكثر الروايات في سبب

نزول هذه الآية أنهم نسبوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الغلول فبين الله بهذه الآية أن هذه الخصلة لا تليق به وثانيها أن ما هو من هذا القبيل في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل كقوله مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ و مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ ( يوسف 76 ) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ( آل عمران 145 ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ ( يوسف 38 ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ( آل عمران 179 ) وقل أن يقال ما كان زيد ليضرب وإذا كان كذلك وجب إلحاق هذه الآية بالاعم الأغلب ويؤكده ما حكى أبو عبيدة عن يونس أنه كان يختار هذه القراءة وقال ليس في الكلام ما كان لك أن تضرب بضم التاء وثالثها أن هذه القراءة اختيار ابن عباس فقيل له ان ابن مسعود يقرأ ( يغل ) فقال ابن عباس كان النبي يقصدون قتله فكيف لا ينسبونه إلى الخيانة وأما القراءة الثانية وهي ( يغل ) بضم الياء وفتح الغين ففي تأويلها وجهان الأول أن يكون المعنى ما كان للنبي أن يخان
واعلم أن الخيانة مع كل أحد محرمة وتخصيص النبي بهذه الحرمة فيه فوائد أحدها أن المجنى عليه كلما كان أشرف وأعظم درجة كانت الخيانة في حقه أفحش والرسول أفضل البشر فكانت الخيانة في حقه أفحش وثانيها أن الوحي كان يأتيه حالا فحالا فمن خانه فربما نزل الوحي فيه فيحصل له مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا وثالثها ان المسلمين كانوا في غاية الفقر في ذلك الوقت فكانت تلك الخيانة هناك أفحش
الوجه الثاني في التأويل أن يكون من الاغل أن يخون أي ينسب الى الخيانة قال المبرد تقول العرب أكفرت الرجل جعلته كافرا ونسبته الى الكفر قال العتبي لو كان هذا هو المراد لقيل يعلل كما قيل يفسق ويفجر ويكفر والأولى أن يقال إنه من أغللته أي وجدته غالا كما يقال أبخلته وأفحمته أي وجدته كذلك قال صاحب ( الكشاف ) وهذه القراءة بهذا التأويل يقرب معناها من معنى القراءة الأولى لأن هذا المعنى لهذه القراءة هو أنه لا يصح أن يوجد النبي غالا لأنه يوجد غالا إلا إذا كان غالا
المسألة الرابعة قد ذكرنا ان الغلول هو الخيانة إلا أنه في عرف الاستعمال صار مخصوصا بالخيانة في الغنيمة وقد جاء هذا أيضا في غير الغنيمة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا أنبئكم بأكبر الغلول الرجلان يكون بينهما الدار والأرض فان اقتطع أحدهما من صاحبه موضع حصاة طوقها من الأرضين السبع ) وعلى هذا التأويل يكون المعنى كونه صلوات الله وسلامه عليه مبرأ عن جميع الخيانات وكيف لا نقول ذلك والكفار كانوا يبذلون له الأموال العظيمة لترك ادعاء الرسالة فكيف يليق بمن كان كذلك وكان أمينا لله في الوحي النازل اليه من فوق سبع سموات أن يخون الناسا
ثم قال تعالى وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وفيه وجهان الأول وهو قول أكثر المفسرين إجراء هذه الآية على ظاهرها قالوا وهي نظير قوله في مانع الزكاة يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَاذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ ( التوبة 35 ) ويدل عليه قوله ( لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها ثغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك ) وعن ابن عباس أنه قال يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم ثم يقال له انزل اليه فخذه فينزل اليه فاذا انتهى اليه حمله على ظهره فلا يقبل منه قال المحققون والفائدة فيه أنه إذا

جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحته
الوجه الثاني أن يقال ليس المقصود منه ظاهره بل المقصود تشديد الوعيد على سبيل التمثيل والتصوير ونظيره قوله تعالى إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَة ٍ أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ أَوْ فِى الاْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ( لقمان 16 ) فانه ليس المقصود نفس هذا الظاهر بل المقصود إثبات أن الله تعالى لا يعزب عن علمه وعن حفظه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فكذا ههنا المقصود تشديد الوعيد ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجهين الأول قال أبو مسلم المراد أن الله تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية الثاني قال أبو القاسم الكعبي المراد أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء واعلم أن هذا التأويل يحتمل إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة إلا إذا قام دليل يمنع منه وههنا لا مانع من هذا الظاهر فوجب اثباته
ثم قال تعالى ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وفيه سؤالان
السؤال الأول هلا قيل ثم يوفى ما كسب ليتصل بما قبله
والجواب الفائدة في ذكر هذا العموم أن صاحب الغلول إذا علم أن ههنا مجازيا يجازي كل أحد على عمله سواء كان خيراً أو شرا علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب
السؤال الثاني المعتزلة يتمسكون بهذا في إثبات كون العبد فاعلا وفي إثبات وعيد الفساق
أما الأول فلأنه تعالى أثبت الجزاء على كسبه فلو كان كسبه خلقا لله لكان الله تعالى يجازيه على ما خلقه فيه
وأما الثاني فلأنه تعالى قال في القاتل المتعمد فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ( النساء 93 ) وأثبت في هذه الآية أن كل عامل يصل اليه جزاؤه فيحصل من مجموع الآيتين القطع بوعيد الفساف
والجواب أما سؤال الفعل فجوابه المعارضة بالعلم وأما سؤال الوعيد فهذا العموم مخصوص في صورة التوبة فكذلك يجب أن يكون مخصوصا في صورة العفو للدلائل الدالة على العفو
ثم قال تعالى وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ قال القاضي هذا يدل على أن الظلم ممكن في أفعال الله وذلك بأن ينقص من الثواب أو يزيد في العقاب قال ولا يتأتى ذلك إلا على قولنا دون قول من يقول من المجبرة ان أي شيء فعله تعالى فهو عدل وحكمة لأنه المالك
الجواب نفي الظلم عنه لا يدل على صحته عليه كما أن قوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ( البقرة 255 ) لا يدل على صحتهما عليه
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
اعلم أنه تعالى لما قال ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ( البقرة 281 آل عمران 161 ) أتبعه بتفصيل هذه الجملة وبين ان جزاء

المطيعين ما هو وجزاء المسيئين ما هو فقال أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى للمفسرين فيه وجوه الأول أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ في ترك الغلول كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ في فعل الغلول وهو قول الكلبي والضحاك الثاني أفمن اتبع رضوان الله بالايمان به والعمل بطاعته كمن باء بسخط من الله بالكفر به والاشتغال بمعصيته الثالث أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وهم المهاجرون كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ وهم المنافقون الرابع قال الزجاج لما حمل المشركون على المسلمين دعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه الى أن يحملوا على المشركين ففعله بعضهم وتركه آخرون فقال أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وهم الذين امتثلوا أمره كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ وهم الذين لم يقبلوا قوله وقال القاضي كل واحد من هذه الوجوه صحيح ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وكل من أخلد الى متابعة النفس والشهوة فهو داخل تحت قوله كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ أقصى ما في الباب أن الآية نازلة في واقعة معينة لكنك تعلم أن عموم اللفظ لا يبطل لأجل خصوص السبب
المسألة الثانية قوله أَفَمَنِ اتَّبَعَ الهمزة فيه للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أمن اتقى فاتبع رضوان الله
المسألة الثالثة قوله بَاء بِسَخْطٍ أي احتمله ورجع به وقد ذكرناه في سورة البقرة
المسألة الرابعة قرأ عاصم في إحدى الروايتين عنه رِضْوانِ اللَّهِ بضم الراء والباقون بالكسر وهما مصدران فالضم كالكفران والكسر كالحسبان
المسألة الخامسة قوله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ من صلة ما قبله والتقدير كمن باء بسخط من الله وكان مأواه جهنم فأما قوله وَبِئْسَ الْمَصِيرُ فمنقطع عما قبله وهو كلام مبتدأ كأنه لما ذكر جهنم أتبعه بذكر صفتها
المسألة السادسة نظير هذه الآية قوله تعالى مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ ( الجاثية 21 ) وقوله أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ( السجدة 18 ) وقوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 ) واحتج القوم بهذه الآية على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يدخل المطيعين في النار وأن يدخل المذنبين الجنة وقالوا انه تعالى ذكر ذلك على سبيل الاستبعاد ولولا أنه ممتنع في العقول والا لما حسن هذا الاستبعاد وأكد القفال ذلك فقال لا يجوز في الحكمة أن يسوى المسيء بالمحسن فان فيه إغراء بالمعاصي وإباحة لها وإهمالا للطاعات
هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى تقدير الكلام لهم درجات عند الله الا أنه حسن هذا الحذف لان اختلاف

أعمالهم قد صيرتهم بمنزلة الأشياء المختلفة في ذواتها فكان هذا المجاز أبلغ من الحقيقة والحكماء يقولون ان النفوس الانسانية مختلفة بالماهية والحقيقة فبعضها ذكية وبعضها بليدة وبعضها مشرقة نورانية وبعضها كدرة ظلمانية وبعضها خيرة وبعضها نذلة واختلاف هذه الصفات ليس لاختلاف الامزجة البدنية بل لاختلاف ماهيات النفوس ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ) وقال ( الارواح جنود مجندة ) واذا كان كذلك ثبت أن الناس في أنفسهم درجات لا أن لهم درجات
المسألة الثانية هم عائد الى لفظ ( من ) في قوله أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ ( آل عمران 162 ) ولفظ ( من ) يفيد الجمع في المعنى فلهذا صح أن يكون قوله هُمْ عائدا اليه ونظيره قوله أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ فان قوله يَسْتَوُونَ صيغة الجمع وهو عائد الى ( من )
المسألة الثالثة هم ضمير عائد الى شيء قد تقدم ذكره وقد تقدم ذكر من اتبع رضوان الله وذكر من باء بسخط من الله فهذا الضمير يحتمل أن يكون عائدا الى الاول أو الى الثاني أو اليهما معا والاحتمالات ليست الا هذه الثلاثة
الوجه الأول أن يكون عائدا الى مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ اللَّهِ وتقديره أفمن اتبع رضوان الله سواء لا بل هم درجات عند الله على حسب أعمالهم والذي يدل على ان هذا الضمير عائد إلى من اتبع الرضوان وأنه أولى وجوه الأول ان الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب والدركات في أهل العقاب الثاني أنه تعالى وصف من باء بسخط من الله وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصير فوجب أن يكون قوله هُمْ دَرَجَاتٌ وصفا لمن اتبع رضوان الله الثالث أن عادة القرآن في الأكثر جارية بأن ما كان من الثواب والرحمة فان الله يضيفه إلى نفسه وما كان من العقاب لا يضيفه الى نفسه قال تعالى كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ وقال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( البقرة 178 ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 ) فما أضاف هذه الدرجات الى نفسه حيث قال هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ علمنا أن ذلك صفة أهل الثواب ورابعها أنه متأكد بقوله تعالى انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلاْخِرَة ُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ( الإسراء 21 )
والوجه الثاني أن يكون قوله هُمْ دَرَجَاتٌ عائدا على مِنْ بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ والحجة أن الضمير عائد الى الأقرب وهو قول الحسن قال والمراد أن أهل النار متفاوتون في مراتب العذاب وهو كقوله وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ ( الأحقاف 19 ) وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ان فيها أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل يحذى له نعلان من نار يعلى من حرهما دماغه ينادي يا رب وهل أحد يعذب عذابي )
الوجه الثالث أن يكون قوله هُمْ عائدا الى الكل وذلك لأن درجات أهل الثواب متفاوتة ودرجات أهل العقاب أيضا متفاوتة على حسب تفاوت أعمال الخلق لأنه تعالى قال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) فلما تفاوتت مراتب الخلق في أعمال المعاصي والطاعات وجب أن تتفاوت مراتبهم في درجات العقاب والثواب

المسألة الرابعة قوله عَندَ اللَّهِ أي في حكم الله وعلمه فهو كما يقال هذه المسألة عند الشافعي كذا وعند أبي حنيفة كذا وبهذا يظهر فساد استدلال المشبهة بقوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( الأنبياء 19 ) وقوله عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 )
ثم قال تعالى وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ والمقصود أنه تعالى لما ذكر أنه يوفى لكل أحد بقدر عمله جزاء وهذا لا يتم إلا إذا كان عالما بجميع أفعال العباد على التفصيل الخالي عن الظن والريب والحسبان أتبعه ببيان كونه عالما بالكل تأكيدا لذلك المعنى وهو قوله وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وذكر محمد بن إسحق صاحب المغازي في تأويل قوله وَمَا كَانَ لِنَبِى ّ أَنْ يَغُلَّ ( آل عمران 161 ) وجها آخر فقال ما كان لنبي أن يغل أي ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به اليهم رغبة في الناس أو رهبة عنهم ثم قال أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ يعني رجح رضوان الله على رضوان الخلق وسخط الله على سخط الخلق كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ فرجح سخط الخلق على سخط الله ورضوان الخلق على رضوان الله ووجه النظم على هذا التقرير أنه تعالى لما قال فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ ( آل عمران 159 ) بين أن ذلك إنما يكون معتبرا إذا كان على وفق الدين فأما إذا كان على خلاف الدين فانه غير جائز فكيف يمكن التسوية بين من اتبع رضوان الله وطاعته وبين من اتبع رضوان الخلق وهذا الذي ذكره محتمل لأنا بينا أن الغلول عبارة عن الخيانة على سبيل الخفية وأما أن اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة فهو عرف حادث
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ
اعلم أن في وجه النظم وجوها الأول أنه تعالى لما بين خطأ من نسبه الى الغلول والخيانة أكد ذلك بهذه الآية وذلك لان هذا الرسول ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم ولم يظهر منه طول عمره الا الصدق والامانة والدعوة الى الله والاعراض عن الدنيا فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة
الوجه الثاني أنه لما بين خطأهم في نسبته الى الخيانة والغلول قال لا أقنع بذلك ولا أكتفي في حقه بأن أبين براءته عن الخيانة والغلول ولكني أقول ان وجوده فيكم من أعظم نعمتي عليكم فانه يزكيكم عن الطريق الباطلة ويعلمكم العلوم النافعة لكم في دنياكم وفي دينكم فأي عاقل يخطر بباله أن ينسب مثل هذا الانسان الى الخيانة
الوجه الثالث كأنه تعالى يقول انه منكم ومن أهل بلدكم ومن أقاربكم وأنتم أرباب الخمول والدناءة فاذا شرفه الله تعالى وخصه بمزايا الفضل والاحسان من جميع العالمين حصل لكم شرف عظيم

بسبب كونه فيكم فطعنكم فيه واجتهادكم في نسبة القبائح اليه على خلاف العقل
الوجه الرابع انه لما كان في الشرف والمنقبة بحيث يمن الله به على عباده وجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه فوجب عليكم أن تحاربوا أعداءه وأن تكونوا معه باليد واللسان والسيف والسنان والمقصود منه العود الى ترغيب المسلمين في مجاهدة الكفار وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله للمن في كلام العرب معان أحدها الذي يسقط من السماء وهو قوله وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ( البقرة 57 ) وثانيها أن تمن بما أعطيت وهو قوله لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى ( البقرة 264 ) وثالثها القطع وهو قوله لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ( فصلت 8 ) بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ورابعها الانعام والاحسان الى من لا تطلب الجزاء منه ومنه قوله هَاذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ ( ص 39 ) وقوله وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ والمنان في صفة الله تعالى المعطي ابتداء من غير أن يطلب منه عوضا وقوله لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ أي أنعم عليهم وأحسن اليهم ببعثه هذا الرسول
المسألة الثانية أن بعثة الرسول إحسان الى كل العالمين وذلك لأن وجه الاحسان في بعثته كونه داعيا لهم الى ما يخلصهم من عقاب الله ويوصلهم الى ثواب الله وهذا عام في حق العالمين لأنه مبعوث الى كل العالمين كما قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّة ً لّلنَّاسِ ( سبأ 28 ) إلا أنه لما لم ينتفع بهذا الانعام الا أهل الإسلام فلهذا التأويل خص تعالى هذه المنة بالمؤمنين ونظيره قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) مع أنه هدى للكل كما قال هُدًى لّلنَّاسِ ( البقرة 185 ) وقوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 )
المسألة الثالثة اعلم أن بعثة الرسول إحسان من الله إلى الخلق ثم انه لما كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجه الانعام في بعثة الرسل أكثر وبعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانت مشتملة على الأمرين أحدهما المنافع الحاصلة من أصل البعثة والثاني المنافع الحاصلة بسب ما فيه من الخصال التي ما كانت موجودة في غيره
أما المنفعة بسبب أصل البعثة فهي التي ذكرها الله تعالى في قوله رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( النساء 165 ) قال أبو عبدالله الحليمي وجه الانتفاع ببعثة الرسل ليس إلا في طريق الدين وهو من وجوه الأول أن الخلق جبلوا على النقصان وقلة الفهم وعدم الدراية فهو صلوات الله عليه أورد عليهم وجوه الدلائل ونقحها وكلما خطر ببالهم شك أو شبهة أزالها وأجاب عنها والثاني ان الخلق وان كانوا يعلمون أنه لا بد لهم من خدمة مولاهم ولكنهم ما كانوا عارفين بكيفية تلك الخدمة فهو شرح تلك الكيفية لهم حتى يقدموا على الخدمة آمنين من الغلط ومن الاقدام على ما لا ينبغي والثالث أن الخلق جبلوا على الكسل والغفلة والتواني والملالة فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات حتى انه كلما عرض لهم كسل أو فتور نشطهم للطاعة ورغبهم فيها الرابع أن أنوار عقول الخلق تجري مجرى أنوار البصر ومعلوم أن الانتفاع بنور البصر لا يكمل الا عند سطوع نور الشمس ونوره عقلي إلهي

يجري مجرى طلوع الشمس فيقوي العقول بنور عقله ويظهر لهم من لوائح الغيب ما كان مستترا عنهم قبل ظهوره فهذا إشارة حقيقية إلى فوائد أصل البعثة
وأما المنافع الحاصلة بسبب ما كان في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من الصفات فأمور ذكرها الله تعالى في هذه الآية أولها قوله مّنْ أَنفُسِهِمْ
واعلم أن وجه الانتفاع بهذا من وجوه الأول أنه عليه السلام ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم وهم كانوا عارفين بأحواله مطلعين على جميع أفعاله وأقواله فما شاهدوا منه من أول عمره إلى آخره إلا الصدق والعفاف وعدم الالتفات إلى الدنيا والبعد عن الكذب والملازمة على الصدق ومن عرف من أحواله من أول العمر إلى آخره ملازمته الصدق والأمانة وبعده عن الخيانة والكذب ثم ادعى النبوة والرسالة التي يكون الكذب في مثل هذه الدعوى أقبح أنواع الكذب يغلب على ظن كل أحد أنه صادق في هذه الدعوى الثاني أنهم كانوا عالمين بأنه لم يتلمذ لأحد ولم يقرأ كتابا ولم يمارس درسا ولا تكرارا وأنه إلى تمام الأربعين لم ينطق ألبتة بحديث النبوة والرسالة ثم انه بعد الأربعين ادعى الرسالة وظهر على لسانه من العلوم ما لم يظهر على أحد من العالمين ثم انه يذكر قصص المتقدمين وأحوال الأنبياء الماضين على الوجه الذي كان موجودا في كتبهم فكل من له عقل سليم علم أن هذا لا يتأتى إلا بالوحي السماوي والالهام الالهي الثالث أنه بعد ادعاء النبوة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والأزواج ليترك هذه الدعوى فلم يلتفت إلى شيء من ذلك بل قنع بالفقر وصبر على المشقة ولما علا أمره وعظم شأنه وأخذ البلاد وعظمت الغنائم لم يغير طريقه في البعد عن الدنيا والدعوة إلى الله والكاذب إنما يقدم على الكذب ليجد الدنيا فاذا وجدها تمتع بها وتوسع فيها فلما لم يفعل شيئاً من ذلك علم أنه كان صادقا الرابع أن الكتاب الذي جاء به ليس فيه إلا تقرير التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة وإثبات المعاد وشرح العبادات وتقرير الطاعات ومعلوم أن كمال الانسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ولما كان كتابه ليس إلا في تقرير هذين الأمرين علم كل عاقل أنه صادق فيما يقوله الخامس أن قبل مجيئه كان دين العرب أرذل الأديان وهو عبادة الأوثان وأخلاقهم أرذل الأخلاق وهو الغارة والنهب والقتل وأكل الأطعمة الرديئة ثم لما بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) نقلهم الله ببركة مقدمة من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أن صاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطياتها ولا شك أن فيه أعظم المنة
إذا عرفت هذه الوجوه فنقول ان محمدا عليه الصلاة والسلام ولد فيهم ونشأ فيما بينهم وكانوا مشاهدين لهذه الأحوال مطلعين على هذه الدلائل فكان إيمانهم مع مشاهدة هذه الأحوال أسهل مما إذا لم يكونوا مطلعين على هذه الأحوال فلهذه المعاني من الله عليهم بكونه مبعوثا منهم فقال إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ وفيه وجه آخر من المنة وذلك لأنه صار شرفا للعرب وفخر لهم كما قال وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) وذلك لأن الافتخار بابراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب ثم ان اليهود والنصارى كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والانجيل فما كان للعرب ما يقابل ذلك فلما بعث الله محمدا عليه السلام وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم فهذا هو وجه الفائدة في قوله مّنْ أَنفُسِهِمْ

ثم قال بعد ذلك يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ
واعلم أن كمال حال الانسان في أمرين في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به وبعبارة أخرى للنفس الانسانية قوتان نظرية وعملية والله تعالى أنزل الكتاب على محمد عليه السلام ليكون سببا لتكميل الخلق في هاتين القوتين فقوله يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ إشارة الى كونه مبلغا لذلك الوحي من عند الله إلى الخلق وقوله وَيُزَكّيهِمْ اشارة إلى تكميل القوة النظرية بحصول المعارف الالهية وَالْكِتَابِ إشارة إلى معرفة التأويل وبعبارة أخرى الْكِتَابِ إشارة الى ظواهر الشرعية وَالْحِكْمَة ِ إشارة الى محاسن الشريعة وأسرارها وعللها ومنافعها ثم بين تعالى ما تتكمل به هذه النعمة وهو أنهم كانوا من قبل في ضلال مبين لأن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان توقعها أعظم فاذا كان وجه النعمة العلم والاعلام ووردا عقيب الجهل والذهاب عن الدين كان أعظم ونظيره قوله وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ( الضحى 7 )
أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم طعنوا في الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم لو كان رسولا من عند الله لما انهزم عسكره من الكفار في يوم أحد وهو المراد من قولهم أنى هذا وأجاب الله عنه بقوله قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم فهذا بيان وجه النظم
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى تقرير الآية أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ المراد منها واقعة أحد وفي قوله قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قولان الأول وهو قول الأكثرين أن معناه قد أصبتم يوم بدر وذلك لأن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين والثاني أن المسلمين هزموا الكفار يوم بدر وهزموهم أيضاً في الأول يوم أحد ثم لما عصوا هزمهم المشركون فانهزام المشركين حصل مرتين وانهزام المسلمين حصل مرة واحدة وهذا اختيار الزجاج وطعن الواحدي في هذا الوجه فقال كما أن المسلمين نالوا من المشركين يوم بدر فكذلك المشركون نالوا من المسلمين يوم أحد ولكنهم ما هزموا المسلمين ألبتة أما يوم أحد فالمسلمون هزموا المشركين أولا ثم انقلب الأمر
المسألة الثانية الفائدة في قوله قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا هو التنبيه على أن أمور الدنيا لا تبقى على نهج واحد فلما هزمتموهم مرتين فأي استبعاد في أن يهزموكم مرة واحدة أما قوله قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا ففيه مسألتان
المسألة الأولى سبب تعجبهم أنهم قالوا نحن ننصر الإسلام الذي هو دين الحق ومعنا الرسول وهم ينصرون دين الشرك بالله والكفر فكيف صاروا منصورين عليناا

واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين الأول ما أدرجه عند حكاية السؤال وهو قوله قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا يعني أن أحوال الدنيا لا تبقى على نهج واحد فاذا أصبتم منهم مثل هذه الواقعة فكيف تستبعدون هذه الواقعة والثاني قوله قل هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى تقرير هذا الجواب من وجهين الأول أنكم إنما وقعتم في هذه المصيبة بشؤم معصيتكم وذلك لأنهم عصوا الرسول في أمور أولها أن الرسول عليه السلام قال المصلحة في أن لا نخرج من المدينة بل نبقى ههنا وهم أبوا إلا الخروج فلما خالفوه توجه إلى أحد وثانيها ما حكى الله عنهم من فشلهم وثالثها ما وقع بينهم من المنازعة ورابعها أنهم فارقوا المكان وفرقوا الجمع وخامسها اشتغالهم بطلب الغنيمة وإعراضهم عن طاعة الرسول عليه السلام في محاربة العدو فهذه الوجوه كلها ذنوب ومعاصي والله تعالى إنما وعدهم النصر بشرط ترك المعصية كما قال إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ ( آل عمران 125 ) فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط
الوجه الثاني في التأويل ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال جاء جبريل عليه السلام إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم بدر فقال يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن تقتل منهم عدتهم فذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك لقومه فقالوا يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ الفداء منهم فنتقوى به على قتال العدو ونرضى أن يستشهد منا بعددهم فقتل يوم أحد سبعون رجلا عدد أسارى أهل بدر فهو معنى قوله قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ أي بأخذ الفداء واختياركم القتل
المسألة الثانية استدلت المعتزلة على أن أفعال العبد غير مخلوقة لله تعالى بقوله قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ من وجوه أحدها أن بتقدير أن يكون ذلك حاصلا بخلق الله ولا تأثير لقدرة العبد فيه كان قوله مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ كذباً وثانيها أن القوم تعجبوا أن الله كيف يسلط الكافر على المؤمن فالله تعالى أزال التعجب بأن ذكر أنكم إنما وقعتم في هذا المكروه بسبب شؤم فعلكم فلو كان فعلهم خلقاً لله لم يصح هذا الجواب وثالثها أن القوم قالوا أَنَّى هَاذَا أي من أين هذا فهذا طلب لسبب الحدوث فلو لم يكن المحدث لها هو العبد لم يكن الجواب مطابقا للسؤال
والجواب أنه معارض بالآيات الدالة على كون أفعال العبد بايجاد الله تعالى
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ ( فاطر 1 ) أي انه قادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم كما أنه قادر على التخلية إذا خالفتم وعصيتم واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى قالوا إن فعل العبد شيء فيكون مخلوقا لله تعالى قادرا عليه وإذا كان الله قادرا على إيجاده فلو أوجده العبد امتنع كونه تعالى قادرا على إيجاده لأنه لما أوجده العبد امتنع من الله إيجاده لأن إيجاد الموجود محال فلما كان كون العبد موجواً له يفضي إلى هذا المحال وجب أن لا يكون العبد موجدا له والله أعلم

وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ
اعلم أن هذا متعلق بما تقدم من قوله أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ ( آل عمران 165 ) فذكر في هذه الآية الأولى أنها أصابتهم بذنبهم ومن عند أنفسهم وذكر في هذه الآية أنها أصابتهم لوجه آخر وهو أن يتميز المؤمن عن المنافق وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ( الفرقان 41 ) المراد يوم أحد والجمعان أحدهما جمع المسلمين أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني جمع المشركين الذين كانوا مع أبي سفيان
المسألة الثانية في قوله فَبِإِذْنِ اللَّهِ وجوه الأول أن اذن الله عبارة عن التخلية وترك المدافعة استعار الاذن لتخلية الكفار فانه لم يمنعهم منهم ليبتليهم لأن الاذن في الشيء لا يدفع المأذون عن مراده فلما كان ترك المدافعة من لوازم الاذن أطلق لفظ الاذن على ترك المدافعة على سبيل المجاز
الوجه الثاني فباذن الله أي بعلمه كقوله وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ ( التوبرة 3 ) أي إعلام وكقوله مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ وَضَلَّ ( فصلت 47 ) وقوله فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ ( البقرة 279 ) وكل ذلك بمعنى العلم طعن الواحدي فيه فقال الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ولا تقع التسلية إلا إذا كان واقعا بعلمه لأن علمه عام في جميع المعلومات بدليل قوله تعالى وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ( فاطر 11 )
الوجه الثالث أن المراد من الاذن الأمر بدليل قوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ( آل عمران 152 ) والمعنى أنه تعالى لما أمر بالمحاربة ثم صارت تلك المحاربة مؤدية إلى ذلك الانهزام صح على سبيل المجاز أن يقال حصل ذلك بأمره
الوجه الرابع وهو المنقول عن ابن عباس أن المراد من الاذن قضاء الله بذلك وحكمه به وهذا أولى لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم والتسلية إنما تحصل إذا قيل ان ذلك وقع بقضاء الله وقدره فحينئذ يرضون بما قضى الله
ثم قال وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ والمعنى ليميز المؤمنين عن المنافقين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي يقال نافق الرجل فهو منافق إذا أظهر كلمة الايمان وأضمر خلافها والنفاق اسم إسلامي اختلف في اشتقاقه على وجوه الأول قال أبو عبيدة هو من نافقاء اليربوع وذلك لأن حجر اليربوع له بابان القاصعاء والنافقاء فاذا طلب من أيهما كان خرج من الآخر فقيل للمنافق أنه

منافق لأنه وضع لنفسه طريقين إظهار الإسلام وإضمار الكفر فمن أيهما طلبته خرج من الآخر الثاني قال ابن الانباري المنافق من النفق وهو السرب ومعناه أنه يتستر بالاسلام كما يتستر الرجل في السرب الثالث أنه مأخوذ من النافقاء لكن على غير هذا الوجه الذي ذكره أبو عبيدة وهو أن النافقاء جحر يحفره اليربوع في داخل الأرض ثم انه يرقق بما فوق الجحر حتى إذا رابه ريب دفع التراب برأسه وخرج فقيل للمنافق منافق لأنه يضمر الكفر في باطنه فاذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر وتمسك بالاسلام
المسألة الثانية قوله وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ظاهره يشعر بأنه لأجل أن يحصل له هذا العلم أذن في تلك المصيبة وهذا يشعر بتجدد علم الله وهذا محال في حق علم الله تعالى فالمراد ههنا من العلم المعلوم والتقدير ليتبين المؤمن من المنافق وليتميز أحدهما عن الآخر حصل الاذن في تلك المصيبة وقد تقدم تقرير هذا المعنى في الآيات المتقدمة والله أعلم
المسألة الثالثة في الآية حذف تقديره وليعلم إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين
فان قيل لم قال وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ ولم يقل وليعلم المنافقين
قلنا الاسم يدل على تأكيد ذلك المعنى والفعل يدل على تجدده وقوله وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ يدل على كونهم مستقرين على إيمانهم متثبتين فيه وأما نَافَقُواْ فيدل على كونهم إنما شرعوا في الأعمال اللائقة بالنفاق في ذلك الوقت
ثم قال تعالى وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى في أن هذا القائل من هو وجهان الأول قال الأصم انه الرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى القتال الثاني روي أن عبدالله بن أبي بن سلول لما خرج بعسكره إلى أحد قالوا لم نلقي أنفسنا في القتل فرجعوا وكانوا ثلثمائة من جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لهم عبدالله بن عمرو بن حرام أبو جابر بن عبدالله الأنصاري أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدو فهذا هو المراد من قوله تعالى وَقِيلَ لَهُمْ يعني قول عبدالله هذا
المسألة الثانية قوله قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ يعني إن كان في قلبكم حب الدين والاسلام فقاتلوا للدين والاسلام وإن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم يعني كونوا إما من رجال الدين أو من رجال الدنيا قال السدي وابن جريج ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا قالوا لأن الكثرة أحد أسباب الهيبة والعظمة والأول هو الوجه
المسألة الثالثة قوله تعالى قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ تصريح بأنهم قدموا طلب الدين على طلب الدنيا وذلك يدل على أن المسلم لا بد وأن يقدم الدين على الدنيا في كل المهمات
ثم قال تعالى قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ وهذا هو الجواب الذي ذكره المنافقون وفيه وجهان الأول أن يكون المراد أن الفريقين لا يقتتلان ألبتة فلهذا رجعنا الثاني أن يكون المعنى لو نعلم ما يصلح أن يسمى قتالا لاتبعناكم يعني أن الذي يقدمون عليه لا يقال له

قتال وإنما هو إلقاء النفس في التهلكة لأن رأي عبدالله كان في الاقامة بالمدينة وما كان يستصوب الخروج
واعلم أنه إن كان المراد من هذا الكلام هو الوجه الأول فهو فاسد وذلك لأن الظن في أحوال الدنيا قائم مقام العلم وأمارات حصول القتال كانت ظاهرة في ذلك اليوم ولو قيل لهذا المنافق الذي ذكر هذا الجواب فينبغي لك لو شاهدت من شهر سيفه في الحرب أن لا تقدم على مقاتلته لأنك لا تعلم منه قتالا وكذا القول في سائر التصرفات في أمور الدنيا بل الحق أن الجهاد واجب عند ظهور أمارات المحاربة ولا أمارات أقوى من قربهم من المدينة عند جبل أحد فدل ذكر هذا الجواب على غاية الخزي والنفاق وإنه كان غرضهم من ذكر هذا الجواب إما التلبيس واما الاستهزاء وأما إن كان مراد المنافق هو الوجه الثاني فهو أيضاً باطل لأن الله تعالى لما وعدهم بالنصرة والاعانة لم يكن الخروج إلى ذلك القتال إلقاء للنفس في التهلكة
ثم انه بين حالهم عندما ذكروا هذا الجواب فقال هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في التأويل وجهان الأول أنهم كانوا قبل هذه الواقعة يظهرون الايمان من أنفسهم وما ظهرت منهم أمارة تدل على كفرهم فلما رجعوا عن عسكر المؤمنين تباعدوا بذلك عن أن يظن بهم كونهم مؤمنين
واعلم أن رجوعهم عن معاونة المسلمين دل على أنهم ليسوا من المسلمين وأيضاً قولهم لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ يدل على أنهم ليسوا من المسلمين وذلك لأنا بينا أن هذا الكلام يدل إما على السخرية بالمسلمين وإما على عدم الوثوق بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكل واحد منهما كفر
الوجه الثاني في التأويل أن يكون المراد أنهم لاهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الايمان لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانعزال يجر إلى تقوية المشركين
المسألة الثانية قال أكثر العلماء ان هذا تنصيص من الله تعالى على أنهم كفار قال الحسن إذا قال الله تعالى أَقْرَبُ فهو اليقين بأنهم مشركون وهو مثل قوله مِاْئَة ِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فهذه الزيادة لا شك فيها وأيضا المكلف لا يمكن أن ينفك عن الايمان والكفر فلما دلت الآية على القرب لزم حصول الكفر وقال الواحدي في ( البسيط ) هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ولم يطلق القول بتكفيره لانه تعالى لم يطلق القول بكفرهم مع أنهم كانوا كافرين لاظهارهم القول بلا إله إلا الله محمد رسول الله
ثم قال تعالى يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ والمراد أن لسانهم مخالف لقلبهم فهم وإن كانوا يظهرون الايمان باللسان لكنهم يضمرون في قلوبهم الكفر
ثم قال وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ

فان قيل إن المعلوم إذا علمه عالمان لا يكون أحدهما أعلم به من الآخر فما معنى قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ
قلنا المراد أن الله تعالى يعلم من تفاصيل تلك الاحوال ما لا يعلمه غيره
الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أن الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ ( آل عمران 167 ) وصفهم الله تعالى بأنهم كما قعدوا واحتجوا لقعودهم فكذلك ثبطوا غيرهم واحتجوا لذلك فحكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا لاخوانهم إن الخارجين لو أطاعونا ما قتلوا فخوفوا من مراده موافقة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في محاربة الكفار بالقتل لما عرفوا ما جرى يوم أحد من الكفار على المسلمين من القتل لأن المعلوم من الطباع محبة الحياة فكان وقوع هذه الشبهة في القلوب يجري مجرى ما يورده الشيطان من الوسواس وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في محل الَّذِينَ وجوه أحدها النصب على البدل من الَّذِينَ نَافَقُواْ وثانيها الرفع على البدل من الضمير في يَكْتُمُونَ وثالثها الرفع على خبر الابتداء بتقدير هم الذين ورابعها أن يكون نصبا على الذم
المسألة الثانية قال المفسرون المراد بِالَّذِينَ قَالُواْ عبدالله بن أبي وأصحابه وقال الأصم هذا لا يجوز لأن عبدالله بن أبي خرج مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الجهاد يوم أحد وهذا القول فهو واقع فيمن قد تخلف لأنه قال الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا أي في القعود ما قتلوا فهو كلام متأخر عن الجهاد قاله لمن خرج الى الجهاد ولمن هو قوي النية في ذلك ليجعله شبهة فيما بعده صارفا لهم عن الجهاد
المسألة الثالثة قالوا لاخوانهم أي قالوا لأجل إخوانهم وقد سبق بيان المراد من هذه الاخوة الاخوة في النسب أو الاخوة بسبب المشاركة في الدار أو في عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو في عبادة الاوثان والله أعلم
المسألة الرابعة قال الواحدي الواو في قوله وَقَعَدُواْ للحال ومعنى هذا القعود القعود عن الجهاد يعني من قتل بأحد لو قعدوا كما قعدنا وفعلوا كما فعلنا لسلموا ولم يقتلوا ثم أجاب الله عن ذلك بقوله قل فادرؤا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين
فان قيل ما وجه الاستدلال بذلك مع أن الفرق ظاهر فان التحرز عن القتل ممكن أما التحرز عن الموت فهو غير ممكن ألبتة
والجواب هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى لا يتمشى إلا إذا اعترفنا بالقضاء والقدر وذلك لأنا إذا

قلنا لا يدخل الشيء في الوجود إلا بقضاء الله وقدره اعترفنا بأن الكافر لا يقتل المسلم إلا بقضاء الله وحينئذ لا يبقى بين القتل وبين الموت فرق فيصح الاستدلال أما إذا قلنا بأن فعل العبد ليس بتقدير الله وقضائه كان الفرق بين الموت والقتل ظاهراً من الوجه الذي ذكرتم فتفضي إلى فساد الدليل الذي ذكره الله تعالى ومعلوم أن المفضي إلى ذلك يكون باطلا فثبت أن هذه الآية دالة على أن الكل بقضاء الله وقوله ان كنتم صادقين يعني إن كنتم صادقين في كونكم مشتغلين بالحذر عن المكاره والوصول إلى المطالب
وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
اعلم أن القول لما ثبطوا الراغبين في الجهاد بأن قالوا الجهاد يفضي إلى القتل كما قالوا في حق من خرج إلى الجهاد يوم أحد والقتل شيء مكروه فوجب الحذر عن الجهاد ثم ان الله تعالى بين أن قولهم الجهاد يقضي إلى القتل باطل بأن القتل إنما يحصل بقضاء الله وقدره كما أن الموت يحصل بقضاء الله وقدره فمن قدر الله له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه ومن لم يقدر له القتل لا خوف عليه من القتل ثم أجاب عن تلك الشبهة في هذه الآية بجواب آخر وهو أنا لا نسلم ان القتل في سبيل الله شيء مكروه وكيف يقال ذلك والمقتول في سبيل الله أحياه الله بعد القتل وخصه بدرجات القربة والكرامة وأعطاه أفضل أنواع الرزق وأوصله الى أجل مراتب الفرح والسرور فأي عاقل يقول ان مثل هذا القتل يكون مكروها فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هذه الآية واردة في شهداء بدر وأحد لأن في وقت نزول هذه الآية لم يكن أحد من الشهداء إلا من قتل في هذين اليومين المشهورين والمنافقون إنما ينفرون المجاهدين عن الجهاد لئلا يصيروا مقتولين مثل من قتل في هذين اليومين من المسلمين والله تعالى بين فضائل من قتل في هذين اليومين ليصير ذلك داعيا للمسلمين الى التشبه بمن جاهد في هذين اليومين وقتل وتحقيق الكلام أن من ترك الجهاد فربما وصل الى نعيم الدنيا وربما لم يصل وبتقدير أن يصل اليه فهو حقير وقليل ومن أقبل على الجهاد فاز بنعيم الآخرة قطعا وهو نعيم عظيم ومع كونه عظيما فهو دائم مقيم واذا كان الأمر كذلك ظهر أن الاقبال على الجهاد أفضل من تركه
المسألة الثانية اعلم أن ظاهر الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء فاما أن يكون المراد منه حقيقة أو مجازا فان كان المراد منه هو الحقيقة فاما أن يكون المراد أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء أو

المراد أنهم أحياء في الحال وبتقدير أن يكون هذا هو المراد فاما أن يكون المراد إثبات الحياة الروحانية أو إثبات الحياة الجسمانية فهذا ضبط الوجوه التي يمكن ذكرها في هذه الآية
الاحتمال الأول أن تفسير الآية بأنهم سيصيرون في الآخرة أحياء قد ذهب اليه جماعة من متكلمي المعتزلة منهم أبو القاسم الكعبي قال وذلك لأن المنافقين الذين حكى الله عنهم ما حكى كانوا يقولون أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يعرضون أنفسهم للقتل فيقتلون ويخسرون الحياة ولا يصلون الى خير وإنما كانوا يقولون ذلك لجحدهم البعث والميعاد فكذبهم الله تعالى وبين بهذه الآية أنهم يبعثون ويرزقون ويوصل اليهم أنواع الفرح والسرور والبشارة
واعلم أن هذا القول عندنا باطل ويدل عليه وجوه
الحجة الأولى ان قوله بَلْ أَحْيَاء ظاهره يدل على كونهم أحياء عند نزول الآية فحمله على أنهم سيصيرون أحياء بعد ذلك عدول عن الظاهر
الحجة الثانية انه لا شك أن جانب الرحمة والفضل والاحسان أرجح من جانب العذاب والعقوبة ثم إنه تعالى ذكر في أهل العذاب أنه أحياهم قبل القيامة لأجل التعذيب فانه تعالى قال أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( 25 نوح ) والفاء للتعقيب والتعذيب مشروط بالحياة وأيضا قال تعالى النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ( غافر 46 ) واذا جعل الله أهل العذاب أحياء قبل قيام القيامة لأجل التعذيب فلأن يجعل أهل الثواب أحياء قبل القيامة لأجل الاحسان والاثابة كان ذلك أولى
الحجة الثالثة أنه لو أراد أنه سيجعلهم أحياء عند البعث في الجنة لما قال للرسول عليه الصلاة والسلام وَلاَ تَحْسَبَنَّ مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك أما إذا حملناه على ثواب القبر حسن قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ لأنه عليه الصلاة والسلام لعله ما كان يعلم أنه تعالى يشرف المطيعين والمخلصين بهذا التشريف وهو أنه يحييهم قبل قيام القيامة لأجل إيصال الثواب اليهم
فان قيل إنه عليه الصلاة والسلام وان كان عالما بأنهم سيصيرون أحياء عند ربهم عند البعث ولكنه غير عالم بأنهم من أهل الجنة فجاز أن يبشره الله بأنهم سيصيرون أحياء ويصلون إلى الثواب والسرور
قلنا قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ إنما يتناول الموت لأنه قال وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً فالذي يزيل هذا الحسبان هو كونهم أحياء في الحال لأنه لا حسبان هناك في صيرورتهم أحياء يوم القيامة وقوله يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ فهو خبر مبتدأ ولا تعلق له بذلك الحسبان فزال هذا السؤال
الحجة الرابعة قوله تعالى وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ والقوم الذين لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدنيا فاستبشارهم بمن يكون في الدنيا لا بد وأن يكون قبل قيام القيامة والاستبشار لا بد وأن يكون مع الحياة فدل هذا على كونهم أحياء قبل يوم القيامة وفي هذا الاستدلال بحث سيأتي ذكره
الحجة الخامسة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في صفة الشهداء ( ان أرواحهم في أجواف طير خضر وانها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح حيث شاءت وتأوي إلى قناديل

من ذهب تحت العرش فلما رأوا طيب مسكنهم ومطعمهم ومشربهم قالوا يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله تعالى بنا كي يرغبوا في الجهاد فقال الله تعالى أنا مخبر عنكم ومبلغ اخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى هذه الآية ) وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية فقال سألنا عنها فقيل لنا ان الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء وفي رواية في روضة خضراء وعن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب باحد أحياه الله ثم قال ما تريد يا عبدالله بن عمرو أن فعل بك فقال يا رب أحب أن تردني الى الدنيا فأقتل فيها مرة أخرى ) والروايات في هذا الباب كأنها بلغت حد التوتر فكيف يمكن انكارها طعن الكعبي في هذه الروايات وقال إنها غير جائزة لان الارواح لا تتنعم وانما يتنعم الجسم إذا كان فيه روح لا الروح ومنزلة الروح من البدن منزلة القوة وأيضا الخبر المروي ظاهره يقتضي أن هذه الارواح في حواصل الطير وأيضا ظاهره يقتضي أنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح وهذا يناقض كونها في حواصل الطير
والجواب أما الطعن الأول فهو مبني على أن الروح عرض قائم بالجسم وسنبين أن الأمر ليس كذلك وأما الطعن الثاني فهو مدفوع لان القصد من أمثال هذه الكلمات الكنايات عن حصول الراحات والمسرات وزوال المخافات والآفات فهذا جملة الكلام في هذا الاحتمال
وأما الوجه الثاني من الوجوه المحتملة في هذه الآية هو أن المراد أن الشهداء أحياء في الحال والقائلون بهذا القول منهم من أثبت هذه الحياة للروح ومنهم من أثبتها للبدن وقبل الخوض في هذا الباب يجب تقديم مقدمة وهي أن الانسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية ويدل عليه أمران أحدهما أن أجزاء هذه البنية في الذوبان والانحلال والتبدل والانسان المخصوص شيء باق من أول عمره إلى آخره والباقي مغاير للمتبدل والذي يؤكد ما قلناه أنه تارة يصير سمينا وأخرى هزيلا وأنه يكون في أول الامر صغير الجثة ثم انه يكبر وينمو ولا شك أن كل إنسان يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره الى آخره فصح ما قلناه الثاني أن الانسان قد يكون عالما بنفسه حال ما يكون غافلا عن جميع أعضائه وأجزائه والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم فثبت بهذين الوجهين أنه شيء مغاير لهذا البدن المحسوس ثم بعد ذلك يحتمل أن يكون جسما مخصوصا ساريا في هذه الجثة سريان النار في الفحم والدهن في السمسم وماء الورد في الورد ويحتمل أن يكون جوهراً قائما بنفسه ليس بجسم ولا حال في الجسم وعلى كلا المذهبين فانه لا يبعد أنه لما مات البدن انفصل ذلك الشيء حيا وان قلنا أنه أماته الله الا أنه تعالى يعيد الحياة اليه وعلى هذا التقدير تزول الشبهات بالكلية عن ثواب القبر كما في هذه الآية وعن عذاب القبر كما في قوله أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) فثبت بما ذكرناه أنه لا امتناع في ذلك فظاهر الآية دال عليه فوجب المصير اليه والذي يأكد ما ذكرناه القرآن والحديث والعقل أما القرآن فآيات إحداها أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى ( الفجر 27 30 ) ولا شك أن المراد من قوله ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ الموت ثم قال فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وفاء التعقيب تدل على أن حصول هذه الحالة يكون عقيب الموت وهذا يدل على ما ذكرناه وثانيها حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ ( الأنعام 61 ) وهذا عبارة عن موت البدن

ثم قال ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( الأنعام 62 ) فقوله رُدُّواْ ضمير عنه وإنما هو بحياته وذاته المخصوصة فدل على أن ذلك باق بعد موت البدن وثالثها قوله فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّة ٍ نَعِيمٍ ( الواقعة 88 89 ) وفاء التعقيب تدل على أن هذا الروح والريحان والجنة حاصل عقيب الموت وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ( من مات فقد قامت قيامته ) والفاء فاء التعقيب تدل على أن قيامة كل أحد حاصلة بعد موته وأما القيامة الكبرى فهي حاصلة في الوقت المعلوم عند الله وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام ( القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ) وأيضا روي أنه عليه الصلاة والسلام يوم بدر كان ينادي المقتولين ويقول ( هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) فقيل له يا رسول الله إنهم أموات فكيف تناديهم فقال عليه الصلاة والسلام ( إنهم أسمع منكم ) أو لفظاً هذا معناه وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام ( أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار ) وكل ذلك يدل على أن النفوس باقية بعد موت الجسد
وأما المعقول فمن وجوه الأول وهو أن وقت النوم يضعف البدن وضعفه لا يقتضي ضعف النفس بل النفس تقوى وقت النوم فتشاهد الأحوال وتطلع على المغيبات فاذا كان ضعف البدن لا يوجب ضعف النفس فهذا يقوي الظن في أن موت البدن لا يستعقب موت النفس الثاني وهو أن كثرة الأفكار سبب لجفاف الدماغ وجفافه يؤدي الى الموت وهذه الأفكار سبب لاستكمال النفس بالمعارف الالهية وهو غاية كمال النفس فما هو سبب في كمال النفس فهو سبب لنقصان البدن وهذا يقوي الظن في أن النفس لا تموت بموت البدن الثالث أن أحوال النفس على ضد أحوال البدن وذلك لأن النفس انما تفرح وتبتهج بالمعارف الالهية والدليل عليه قوله تعالى أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ) ولا شك أن ذلك الطعام والشراب ليس الا عبارة عن المعرفة والمحبة والاستنارة بأنوار عالم الغيب وأيضا فانا نرى أن الانسان إذا غلب عليه الاستبشار بخدمة سلطان أو بالفوز بمنصب أو بالوصول الى معشوقه قد ينسى الطعام والشراب بل يصير بحيث لو دعي الى الاكل والشرب لوجد من قلبه نفرة شديدة منه والعارفون المتوغلون في معرفة الله تعالى قد يجدون من أنفسهم أنهم إذا لاح لهم شيء من تلك الانوار وانكشف لهم شيء من تلك الاسرار لم يحسوا ألبتة بالجوع والعطش وبالجملة فالسعادة النفسانية كالمضادة للسعادة الجسمانية وكل ذلك يغلب على الظن أن النفس مستقلة بذاتها ولا تعلق لها بالبدن واذا كان كذلك وجب أن لا تموت النفس بموت البدن ولتكن هذه الاقناعيات كافية في هذا المقام
واعلم أنه متى تقررت هذه القاعدة زالت الاشكالات والشبهات عن كل ما ورد في القرآن من ثواب القبر وعذابه واذا عرفت هذه القاعدة فنقول قال بعض المفسرين أرواح الشهداء أحياء وهي تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش الى يوم القيامة والدليل عليه ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا نام العبد في سجوده باهى الله تعالى به ملائكته ويقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في خدمتي
واعلم أن الآية دالة على ذلك وهي قوله أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ ولفظ ( عند ) فكما أنه مذكور ههنا فكذا في صفة الملائكة مذكور وهو قوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) فاذا فهمت السعادة

الحاصلة للملائكة بكونهم عند الله فهمت السعادة الحاصلة للشهداء بكونهم عند الله وهذه كلمات تفتح على العقل أبواب معارف الآخرة
الوجه الثالث في تفسير هذه الآية عند من يثبت هذه الحياة للاجساد والقائلون بهذا القول اختلفوا فقال بعضهم انه تعالى يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السموات والى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادة والكرامات اليها ومنهم من قال يتركها في الأرض ويحييها ويوصل هذه السعادات اليها ومن الناس من طعن فيه وقال انا نرى أجساد هؤلاء الشهداء قد تأكلها السباع فاما أن يقال إن الله تعالى يحييها حال كونها في بطون هذه السباع ويوصل الثواب اليها أو يقال إن تلك الأجزاء بعد انفصالها من بطون السباع يركبها الله تعالى ويؤلفها ويرد الحياة اليها ويوصل الثواب اليها وكل ذلك مستبعد ولأنا قد نرى الميت المقتول باقيا أياما إلى أن تنفسخ أعضاؤه وينفصل القيح والصديد فان جوزنا كونها حية متنعمة عاقلة عارفة لزم القول بالسفسطة
الوجه الرابع في تفسير هذه الآية أن نقول ليس المراد من كونها أحياء حصول الحياة فيهم بل المراد بعض المجازات وبيانه من وجوه الأول قال الأصم البلخي إن الميت إذا كان عظيم المنزلة في الدين وكانت عاقبته يوم القيامة البهجة والسعادة والكرامة صح أن يقال إنه حي وليس بميت كما يقال في الجاهل الذي لا ينفع نفسه ولا ينتقع به أحد إنه ميت وليس بحي وكما يقال للبليد إنه حمار وللمؤذي إنه سبع وروي أن عبد الملك بن مروان لما رأى الزهري وعلم فقهه وتحقيقه قال له ما مات من خلف مثلك وبالجملة فلا شك أن الانسان إذا مات وخلف ثناء جميلا وذكرا حسنا فانه يقال على سبيل المجاز إنه ما مات بل هو حي الثاني قال بعضهم مجاز هذه الحياة أن أجسادهم باقية في قبورهم وانها لا تبلى تحت الأرض البتة واحتج هؤلاء بما روي أنه لما أراد معاوية أن يجري العين على قبور الشهداء أمر بأن ينادي من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع قال جابر فخرجنا اليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فقطرت دما والثالث أن المراد بكونهم أحياء أنهم لا يغسلون كما تغسل الأموات فهذا مجموع ما قيل في هذه الآية والله أعلم بأسرار المخلوقات
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو لكل أحد وقرىء بالياء وفيه وجوه أحدها ولا يحسبن رسول الله والثاني ولا يحسبن حاسب والثالث ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً قال وقرىء تَحْسَبَنَّ بفتح السين وقرأ ابن عامر قَاتِلُواْ بالتشديد والباقون بالتخفيف
المسألة الرابعة قوله بَلْ أَحْيَاء قال الواحدي التقدير بل هم أحياء قال صاحب ( الكشاف ) قرىء أَحْيَاء بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء وأقول إن الزجاج قال ولو قرىء أَحْيَاء بالنصب لجاز على معنى بل أحسبهم أحياء وطعن أبو علي الفارسي فيه فقال لا يجوز ذلك لأنه أمر بالشك والأمر بالشك غير جائز على الله ولا يجوز تفسير الحسبان بالعلم لأن ذلك لم يذهب اليه أحد من علماء أهل اللغة وللزجاج أن يجيب فيقول الحسبان ظن لا شك فلم قلتم انه لا يجوز أن يأمر الله بالظن أليس أن تكليفه في جميع المجتهدات ليس إلا بالظن

وأقول هذه المناظرة من الزجاج وأبي علي الفارسي تدل على أنه ما قرىء أَحْيَاء بالنصب بل الزجاج كان يدعي أن لها وجها في اللغة والفارسي نازعه فيه وليس كل ما له وجه في الاعراب جازت القراءة به
أما قوله تعالى عِندَ رَبّهِمْ ففيه وجوه أحدها بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا إلا الله تعالى والثاني هم أحياء عند ربهم أي هم أحياء في علمه وحكمه كما يقال هذا عند الشافعي كذا وعند أبي حنيفة بخلافه والثالث ان عِندَ معناه القرب والاكرام كقوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( الأنبياء 19 ) وقوله الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ ( الأعراف 206 )
أما قوله يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ فاعلم أن المتكلمين قالوا الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم فقوله يُرْزَقُونَ إشارة إلى المنفعة وقوله فَرِحِينَ إشارة إلى الفرح الحاصل بسبب ذلك التعظيم وأما الحكماء فانهم قالوا إذا أشرقت جواهر الأرواح القدسية بالأنوار الالهية كانت مبتهجة من وجهين أحدهما ان تكون ذواتها منيرة مشرقة متلألئة بتلك الجلايا القدسية والمعارف الالهية والثاني بكونها ناظرة إلى ينبوع النور ومصدر الرحمة والجلالة قالوا وابتهاجها بهذا القسم الثاني أتم من ابتهاجها بالأول فقوله يُرْزَقُونَ إشارة إلى الدرجة الأولى وقوله فَرِحِينَ إشارة إلى الدرجة الثانية ولهذا قال فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ يعني ان فرحهم ليس بالرزق بل بايتاء الرزق لأن المشغول بالرزق مشغول بنفسه والناظر إلى إيتاء الرزق مشغول بالرازق ومن طلب الحق لغيره فهو محجوب
ثم قال تعالى وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
واعلم أن قوله أَلاَّ خَوْفٌ في محل الخفض بدل من الَّذِينَ والتقدير ويستبشرون بأن لا خوف ولا حزن بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الاستشار السرور الحاصل بالبشارة وأصل الاستفعال طلب الفعل فالمستبشر بمنزلة من طلب السرور فوجده بالبشارة
المسألة الثانية اعلم أن الذين سلموا كون الشهداء أحياء قبل قيام القيامة ذكروا لهذه الآية تأويلات أخر
أما الأول فهو أن يقال ان الشهداء يقول بعضهم لبعض تركنا إخواننا فلانا وفلانا في صف المقاتلة مع الكفار فيقتلون إن شاء الله فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا فهو قوله وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم
وأما الثاني فهو أن يقال ان الشهداء إذا دخلوا الجنة بعد قيام القيامة يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله والمراد بقوله لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ هم إخوانهم من المؤمنين الذين ليس لهم مثل درجة الشهداء لأن الشهداء يدخلون الجنة قبلهم دليله قوله تعالى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَة ً وَرَحْمَة ً ( النساء 95 96 ) فيفرحون بما يرون من مأوى المؤمنين والنعيم المعد لهم وبما يرجونه من الاجتماع بهم وتقر بذلك أعينهم هذا اختيار أبي مسلم الاصفهاني والزجاج
واعلم أن التأويل الأول أقوى من الثاني وذلك لأن حاصل الثاني يرجع الى استبشار بعض المؤمنين

ببعض بسبب اجتماعهم في الجنة وهذا أمر عام في حق كل المؤمنين فلا معنى لتخصيص الشهداء بذلك وأيضا فهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم فكذلك يستبشرون بمن تقدمهم في الدخول لأن منازل الأنبياء والصديقين فوق منازل الشهداء قال تعالى فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ ( النساء 69 ) وعلى هذا التقدير لا يبقى فائدة في التخصيص أما إذا فسرنا الآية بالوجه الأول ففي تخصيص المجاهدين بهذه الخاصية أعظم الفوائد فكان ذلك أولى والله أعلم
المسألة الثالثة الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل في المستقبل والحزن يكون بسبب فوات المنافع التي كانت موجودة في الماضي فبين سبحانه أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم من أحوال القيامة ولا حزن لهم فيما فاتهم من نعيم الدنيا
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَة ٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى بين أنهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم على ما ذكر فهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم وانما أعاد لفظ يَسْتَبْشِرُونَ لأن الاستبشار الأول كان بأحوال الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم والاستبشار الثاني كان بأحوال أنفسهم خاصة
فان قيل أليس أنه ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الاستبشار
قلنا الجواب من وجهين الأول ان الاستبشار هو الفرح التام فلا يلزم التكرار والثاني لعل المراد حصول الفرح بما حصل في الحال وحصول الاستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة
المسألة الثانية قوله بِنِعْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ النعمة هي الثواب والفضل هو التفضل الزائد
المسألة الثالثة الآية تدل على ان استبشارهم بسعادة اخوانهم أتم من استبشارهم بسعادة أنفسهم لأن الاستبشار الأول في الذكر هو بأحوال الاخوان وهذا تنبيه من الله تعالى على ان فرح الانسان بصلاح أحوال اخوانه ومتعلقيه يجب أن يكون أتم وأكمل من فرحه بصلاح أحوال نفسه
ثم قال وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الكسائي وَأَنَّ اللَّهَ بكسر الألف على الاستئناف وقرأ الباقون بفتحها على معنى وبأن الله والتقدير يستبشرون بنعمة من الله وفضل وبأن الله لا يضيع أجر المؤمنين والقراءة الأولى أتم وأكمل لأن على هذه القراءة يكون الاستبشار بفضل الله وبرحمته فقط وعلى القراءة الثانية يكون الاستبشار بالفضل والرحمة وطلب الأجر ولا شك أن المقام الأول أكمل لأن كون العبد مشتغلا بطلب الله أتم من اشتغاله بطلب أجر عمله
المسألة الثانية المقصود من الآية بيان أن الذي تقدم من ايصال الثواب والسرور العظيم إلى الشهداء

ليس حكما مخصوصاً بهم بل كل مؤمن يستحق شيئا من الأجر والثواب فان الله سبحانه يوصل اليه ذلك الأجر والثواب ولا يضيعه ألبتة
المسألة الثالثة الآية عندنا دالة على العفو عن فساق أهل الصلاة لأنه بايمانه استحق الجنة فلو بقي بسبب فسقه في النار مؤبداً مخلداً لما وصل اليه أجر إيمانه فحينئذ يضيع أجر المؤمنين على إيمانهم وذلك خلاف الآية
الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
اعلم أن الله تعالى مدح المؤمنين على غزوتين تعرف احداهما بغزوة حمراء الاسد والثانية بغزوة بدر الصغرى وكلاهما متصلة بغزوة أحد أما غزوة حمراء الاسد فهي المراد من هذه الآية على ما سنذكره ان شاء الله تعالى وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في محل الَّذِينَ وجوه الأول وهو قول الزجاج أنه رفع بالابتداء وخبره لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ الى آخر هذه الآية أن يكون محله هو الخفض على النعت للمؤمنين الثالث أن يكون نصبا على المدح
المسألة الثانية في سبب نزول هذه الآية قولان الأول وهو الأصح أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ندموا وقالوا إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فلم تركناهم بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم فهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة فندب أصحابه الى الخروج في طلب أبي سفيان وقال لا أريد أن يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال فخرج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع قوم من أصحابه قيل كانوا سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد وهو من المدينة على ثلاثة أميال فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فانهزموا وروي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى وكان كل ذلك لاثخان الجراحات فيهم وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة والثاني قال أبو بكر الأصم نزلت هذه الآية في يوم أحد لما رجع الناس اليه ( صلى الله عليه وسلم ) بعد الهزيمة فشد بهم على المشركين حتى كشفهم وكانوا قد هموا بالمثلة فدفعهم عنها بعد أن مثلوا بحمزة فقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا وصلى عليهم ( صلى الله عليه وسلم ) ودفنهم بدمائهم وذكروا أن صفية جاءت لتنظر الى أخيها حمزة فقال عليه الصلاة والسلام للزبير ردها لئلا تجزع من مثلة أخيها فقالت قد بلغني ما فعل به وذلك يسير في جنب طاعة الله تعالى فقال للزبير فدعها تنظر اليه فقالت خيرا واستغفرت له وجاءت امرأة قد قتل زوجها وأبوها وأخوها وابنها فلما رأت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو حي قالت إن كل مصيبة بعدك هدر فهذا ما قيل في سبب نزول هذه

الآية وأكثر الروايات على الوجه الأول
المسألة الثالثة استجاب بمعنى أجاب ومنه قوله فَلْيَسْتَجِيبُواْ إِلَى ( البقرة 186 ) وقيل أجاب فعل الاجابة واستجاب طلب أن يفعل الاجابة لأن الأصل في الاستفعال طلب الفعل والمعنى أجابوا وأطاعوا الله في أوامره وأطاعوا الرسول من بعد ما أصابهم الجراحات القوية
أما قوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وجوه الأول أَحْسَنُواْ دخل تحته الائتمار بجميع المأمورات وقوله وَاتَّقَوْاْ دخل تحته الانتهاء عن جميع المنهيات والمكلف عند هذين الأمرين يستحق الثواب العظيم الثاني أحسنوا في طاعة الرسول في ذلك الوقت واتقوا الله في التخلف عن الرسول وذلك يدل على أنه يلزمهم الاستجابة للرسول وإن بلغ الأمر بهم في الجراحات ما بلغ من بعد أن يتمكنوا معه من النهوض الثالث أحسنوا فيما أتوا به من طاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) واتقوا ارتكاب شيء من المنهيات بعد ذلك
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف ( من ) في قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ للتبيين لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا واتقوا كلهم لا بعضهم
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَة ٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُو ءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هذه الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى روى ابن عباس أن أبا سفيان لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى فنقتتل بها إن شئت فقال عليه الصلاة والسلام لعمر قل بيننا وبينك ذلك إن شاء الله تعالى فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران وألقى الله تعالى الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم نعيم معتمرا فقال يا نعيم إني وعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي أن أرجع ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الابل فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم وقتلوا أكثرهم فان ذهبتم اليهم لم يرجع منكم أحد فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم فلما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك قال ( والذي نفس محمد بيده لأخرجن

إليهم ولو وحدي ) ثم خرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه نحو من سبعين رجلا فيهم ابن مسعود وذهبوا إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى وهي ماء لبني كنانة وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام ولم يلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه أحدا من المشركين ووافقوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدماً وزبيباً وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا إنما خرجتم لتشربوا السويق فهذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية
المسألة الثانية في محل الَّذِينَ وجوه أحدها أنه جر صفة للمؤمنين بتقدير والله لا يضيع أجر المؤمنين الذين قال لهم الناس الثاني أنه بدل من قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الثالث أنه رفع بالابتداء وخبره فَزَادَهُمْ إِيمَاناً
المسألة الثالثة المراد بقوله الَّذِينَ من تقدم ذكرهم وهم الذين استجابوا لله والرسول وفي المراد بقوله قَالَ لَهُمُ النَّاسُ وجوه الأول أن هذا القائل هو نعيم بن مسعود كما ذكرناه في سبب نزول هذه الآية وإنما جاز إطلاق لفظ الناس على الانسان الواحد لأنه إذا قال الواحد قولا وله أتباع يقولون مثل قوله أو يرضون بقوله حسن حينئذ إضافة ذلك الفعل إلى الكل قال الله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادرَأْتُمْ فِيهَا ( البقرة 72 ) وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة ً ( البقرة 55 ) وهم لم يفعلوا ذلك وإنما فعله أسلافهم إلا أنه أضيف اليهم لمتابعتهم لهم على تصويبهم في تلك الأفعال فكذا ههنا يجوز أن يضاف القول إلى الجماعة الراضين بقول ذلك الواحد الثاني وهو قول ابن عباس ومحمد بن إسحاق أن ركبا من عبد القيس مروا بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليجبنوهم وضمن لهم عليه جعلا الثالث قال السدي هم المنافقون قالوا للمسلمين حين تجهزوا للمسير إلى بعد لميعاد أبي سفيان القوم قد أتوكم في دياركم فقتلوا الأكثرين منكم فان ذهبتهم إليهم لم يبق منكم أحد
المسألة الرابعة قوله تعالى إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ المراد بالناس هو أبو سفيان وأصحابه ورؤساء عسكره وقوله قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ أي جمعوا لكم الجموع فحذف المفعول لأن العرب تسمي الجيش جمعا ويجمعونه جموعا وقوله فَاخْشَوْهُمْ أي فكونوا خائفين منهم ثم انه تعالى أخبر أن المسلمين لما سمعوا هذا الكلام لم يلتفتوا اليه ولم يقيموا له وزنا فقال تعالى فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وفيه مسائل
المسألة الأولى الضمير في قوله فَزَادَهُمُ إلى ماذا يعود فيه قولان الأول عائد إلى الذين ذكروا هذه التخويفات والثاني أنه عائد إلى نفس قولهم والتقدير فزادهم ذلك القول إيمانا وإنما حسنت هذه الاضافة لأن هذه الزيادة في الايمان لما حصلت عند سماع هذا القول حسنت إضافتها إلى هذا القول وإلى هذا القائل ونظيره قوله تعالى فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 ) وقوله تعالى فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ( فاطر 42 )
المسألة الثانية المراد بالزيادة في الايمان أنهم لما سمعوا هذا الكلام المخوف لم يلتفتوا اليه بل حدث في قلوبهم عزم متأكد على محاربة الكفار وعلى طاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في كل ما يأمر به وينهي عنه ثقل

ذلك أو خف لأنه قد كان فيهم من به جراحات عظيمة وكانوا محتاجين إلى المداوة وحدث في قلوبهم وثوق بأن الله ينصرهم على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة فهذا هو المراد من قوله تعالى فَزَادَهُمْ إِيمَاناً
المسألة الثالثة الذين يقولون ان الايمان عبارة لا عن التصديق بل عن الطاعات وإنه يقبل الزيادة والنقصان احتجوا بهذه الآية فانه تعالى نص على وقوع الزيادة والذين لا يقولون بهذا القول قالوا الزيادة إنما وقعت في مراتب الايمان وفي شعائره فصح القول بوقوع الزيادة في الايمان مجازا
المسألة الرابعة هذه الواقعة تدل دلالة ظاهرة على أن الكل بقضاء الله وقدره وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحد والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمين عن الآخر فانه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء وفي قلب المغلوب انكسار وضعف ثم انه سبحانه قلب القضية ههنا فأودع قلوب الغالبين وهم المشركون الخوف والرعب وأودع قلوب المغلوبين القوة والحمية والصلابة وذلك يدل على أن الدواعي والصوارف من الله تعالى وإنها متى حدثت في القلوب وقعت الأفعال على وفقها
ثم قال تعالى وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ والمراد أنهم كلما ازدادوا إيمانا في قلوبهم أظهروا ما يطابقه فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل قال ابن الانباري حَسْبُنَا اللَّهُ أي كافينا الله ومثله قول امرىء القيس
وحسبك من غنى شبع وري
أي يكفيك الشبع والري وأما ( الوكيل ) ففيه أقوال أحدها أنه الكفيل قال الشاعر
ذكرت أبا أروى فبت كأنني برد الأمور الماضيات وكيل
اراد كأنني برد الأمور كفيل الثاني قال الفراء الوكيل الكافي والذي يدل على صحة هذا القول أن ( نعم ) سبيلها أن يكون الذي بعدها موافقاً للذي قبلها تقول رازقنا الله ونعم الرازق وخالقنا الله ونعم الخالق وهذا أحسن من قول من يقول خالقنا الله ونعم الرازق فكذا ههنا تقدير الآية يكفينا الله ونعم الكافي الثالث الوكيل فعيل بمعنى مفعول وهو الموكول اليه والكافي والكفيل يجوز أن يسمى وكيلا لأن الكافي يكون الأمر موكولا إليه وكذا الكفيل يكون الأمر موكولا إليه
ثم قال تعالى فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرج والمعنى وخرجوا فانقلبوا فحذف الخروج لأن الانقلاب يدل عليه كقوله أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ ( الشعراء 63 ) أي فضرب فانفلق وقوله بِنِعْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ قال مجاهد والسدي النعمة ههنا العافية والفضل التجارة وقيل النعمة منافع الدنيا والفضل ثواب الآخرة وقوله لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء لم يصبهم قتل ولا جراح في قول الجميع وَاتَّبَعُواْ رِضْوانَ اللَّهِ في طاعة رسوله وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا وفي ذلك إلقاء الحسرة في قلوب المتخلفين عنهم وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم مما فاز به هؤلاء وروي أنهم قالوا هل يكون هذا غزوا فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم

واعلم أن أهل المغازي اختلفوا فذهب الواقدي إلى تخصيص الآية الأولى بواقعة حمراء الأسد والآية الثانية ببدر الصغرى ومنهم من يجعل الآيتين في وقعة بدر الصغرى والأول أولى لأن قوله تعالى مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ كأنه يدل على قرب عهد بالقرح فالمدح فيه أكثر من المدح على الخروج على العدو من وقت إصابة القرح لمسه والقول الآخر أيضا محتمل والقرح على هذا القول يجب أن يفسر بالهزيمة فكأنه قيل إن الذين انهزموا ثم أحسنوا الأعمال بالتوبة واتقوا الله في سائر أمورهم ثم استجابوا لله وللرسسول عازمين على الثواب موطنين أنفسهم على لقاء العدو بحيث لما بلغهم كثرة جموعهم لم يفتروا ولم يفشلوا وتوكلوا على الله ورضوا به كافياً ومعيناً فلهم أجر عظيم لا يحجبهم عنه ما كان منهم من الهزيمة إذ كانوا قد تابوا عنها والله أعلم
إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
اعلم أن قوله الشَّيْطَانِ خبر ذالِكُمْ بمعنى انما ذلكم المثبط هو الشيطان كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ جملة مستأنفة بيان لتثبيطه أو الشَّيْطَانِ صفة لاسم الاشارة و يُخَوّفُ الخبر والمراد بالشيطان الركب وقيل نعيم بن مسعود وسمي شبطاناً لعتوه وتمرده في الكفر كقوله شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ ( الأنعام 112 ) وقيل هو الشيطان يخوف بالوسوسة
أما قوله تعالى يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ ففيه سؤال وهو أن الذين سماهم الله بالشيطان إنما خوفوا المؤمنين فما معنى قوله الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ والمفسرون ذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول تقدير الكلام ذلكم الشيطان يخوفكم بأوليائه فحذف المفعول الثاني وحذف الجار ومثال حذف المفعول الثاني قوله تعالى فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى اليَمّ ( القصص 7 ) أي فاذا خفت عليه فرعون ومثال حذف الجار قوله تعالى لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا ( الكهف 2 ) معناه لينذركم ببأس وقوله لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ ( غافر 15 ) أي لينذركم بيوم التلاق وهذا قول الفراء والزجاج وأبي علي قالوا ويدل عليه قراءة أبي بن كعب يخوفكم بأوليائه
القول الثاني أن هذا على قول القائل خوفت زيدا عمرا وتقدير الآية يخوفكم أولياءه فحذف المفعول الأول كما تقول أعطيت الأموال أي أعطيت القوم الأموال قال ابن الانباري وهذا أولى من ادعاء جار لا دليل عليه وقوله عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا أي لينذركم بأساً وقوله لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ أي لينذركم يوم التلاق والتخويف يتعدى إلى مفعولين من غير حرف جر تقول خاف زيد القتال وخوفته القتال وهذا الوجه يدل عليه قراءة ابن مسعود كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ
القول الثالث أن معنى الآية يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين والمعنى الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه ويؤثرون أمره فأما أولياء الله فانهم لا يخافونه إذا خوفهم ولا ينقادون لأمره ومراده منهم وهذا قول الحسن والسدي فالقول الأول فيه محذوفان والثاني فيه محذوف واحد والثالث لا حذف فيه وأما الأولياء فهم المشركون والكفار وقوله فَلاَ تَخَافُوهُمْ الكناية في القولين الأولين عائدة

إلى الأولياء وفي القول الثالث عائدة إلى النَّاسِ في قوله إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ( آل عمران 173 ) فَلاَ تَخَافُوهُمْ فتقعدوا عن القتال وتجنبوا وَخَافُونِ فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ يعني أن الايمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس
وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاٌّ خِرَة ِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع يَحْزُنكَ بضم الياء وكسر الزاي وكذلك في جميع ما في القرآن إلا قوله لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 ) في سورة الأنبياء فانه فتح الياء وضم الزاي والباقون كلهم بفتح الياء وضم الزاي قال الازهري اللغة الجيدة حزنه يحزنه على ما قرأ به أكثر القراء وحجة نافع أنهما لغتان يقال حزن يحزن كنصر ينصر وأحزن يحزن كأكرم يكرم لغتان
المسألة الثانية اختلفوا في سبب نزول الآية على وجوه الأول أنها نزلت في كفار قريش والله تعالى جعل رسوله آمنا من شرهم والمعنى لا يحزنك من يسارع في الكفر بأن يقصد جمع العساكر لمحاربتك فانهم بهذا الصنيع إنما يضرون أنفسهم ولا يضرون الله ولا بد من حمل ذلك على أنهم لن يضروا النبي وأصحابه من المؤمنين شيئا واذا حمل على ذلك فلا بد من حمله على ضرر مخصوص لأن من المشهور أنهم بعد ذلك ألحقوا أنواعا من الضرر بالنبي عليه الصلاة والسلام والأولى أن يكون ذلك محمولا على أن مقصودهم من جمع العساكر إبطال هذا الدين وإزالة هذه الشريعة وهذا المقصود لا يحصل لهم بل يضمحل أمرهم وتزول شوكتهم ويعظم أمرك ويعلو شأنك الثاني أنها نزلت في المنافقين ومسارعتهم هي أنهم كانوا يخوفون المؤمنين بسبب وقعة أحد ويؤيسونهم من النصرة والظفر أو بسبب أنهم كانوا يقولون ان محمداً طالب ملك فتارة يكون الأمر له وتارة عليه ولو كان رسولا من عند الله ما غلب وهذا كان ينفر المسلمين عن الإسلام فكان الرسول يحزن بسببه قال بعضهم ان قوما من الكفار أسلموا ثم ارتدوا خوفا من قريش فوقع الغم في قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك السبب فانه عليه السلام ظن أنهم بسبب تلك الردة يلحقون به مضرة فبين الله أن ردتهم لا تؤثر في لحوق ضرر بك قال القاضي ويمكن أن يقوي هذا الوجه بأمور الأول أن المستمر على الكفر لا يوصف بانه يسارع في الكفر وإنما يوصف بذلك من يكفر بعد الايمان الثاني أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة لا يليق إلا بمن قد آمن فاستوجب ذلك ثم أحبط الثالث أن الحزن إنما يكون على فوات أمر مقصود فلما قدر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الانتفاع بايمانهم ثم كفروا حزن ( صلى الله عليه وسلم ) عند ذلك لفوات التكثير بهم فآمنه الله من ذلك وعرفه أن وجود إيمانهم كعدمه في أن أحواله لا تتغير
القول الرابع أن المراد رؤساء اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه الذين كتموا صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لمتاع

الدنيا قال القفال رحمه الله ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار بدليل قوله تعالى قَدِيرٌ يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ إلى قوله وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ ( المائدة 41 ) فدلت هذه الآية على أن حزنه كان حاصلا من كل هؤلاء الكفار
المسألة الثالثة في الآية سؤال وهو أن الحزن على كفر الكافر ومعصية العاصي طاعة فكيف نهى الله عن الطاعة
والجواب من وجهين الأول أنه كان يفرط ويسرف في الحزن على كفر قومه حتى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به فنهاه الله تعالى عن الاسراف فيه ألا ترى إلى قوله تعالى فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( فاطر 8 ) الثاني أن المعنى لا يحزنوك بخوف أن يضروك ويعينوا عليك ألا ترى إلى قوله إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة
ثم قال إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً والمعنى أنهم لن يضروا النبي وأصحابه شيئاً وقال عطاء يريد لن يضروا أولياء الله شيئاً
ثم قال تعالى يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاْخِرَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه رد على المعتزلة وتنصيص على أن الخير والشر بارادة الله تعالى قال القاضي المراد أنه يريد الاخبار بذلك والحكم به
واعلم أن هذا الجواب ضعيف من وجهين الأول أنه عدول عن الظاهر والثاني بتقدير أن يكون الأمر كما قال لكن الاتيان بضد ما أخبر الله عنه وحكم به محال فيعود الاشكال
المسألة الثانية قالت المعتزلة الارادة لا تتعلق بالعدم وقال أصحابنا ذلك جائز والآية دالة على قول أصحابنا لأنه قال يُرِيدُ اللَّهُ أَن لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاْخِرَة ِ فبين أن إرادته متعلقة بهذا العدم قالت المعتزلة المعنى أنه تعالى ما أراد ذلك كما قال وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) قلنا هذا عدول عن الظاهر
المسألة الثالثة الآية تدل على أن النكرة في موضع النفي تعم إذ لو لم يحصل العموم لم يحصل تهديد الكفار بهذه الآية ثم قال وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ وهذا كلام مبتدأ والمعنى أنه كما لاحظ لهم البتة من منافع الآخرة فلهم الحظ العظيم من مضار الآخرة
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أنا لو حملنا الآية الأولى على المنافقين واليهود وحملنا هذه الآية على المرتدين لا يبعد أيضا حمل الآية الأولى على المرتدين وحمل هذه الآية على اليهود ومعنى اشتراء الكفر بالايمان منهم أنهم كانوا يعرفون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويؤمنون به قبل مبعثه ويستنصرون به على أعدائهم فلما بعث كفروا به وتركوا ما

كانوا عليه فكأنهم أعطوا الايمان وأخذوا الكفر بدلا عنه كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا عنه ولا يبعد أيضا حمل هذه الآية على المنافقين وذلك لأنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الايمان فاذا خلوا إلى شياطينهم كفروا وتركوا الايمان فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالايمان
واعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى إِنَّ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً ( آل عمران 176 ) وقال في هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً والفائدة في هذا التكرار أمور أحدها أن الذين اشتروا الكفر بالايمان لا شك أنهم كانوا كافرين أولا ثم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك وهذا يدل على شدة الاضطراب وضعف الرأي وقلة الثبات ومثل هذا الانسان لا خوف منه ولا هيبة له ولا قدرة له البتة على الحاق الضرر بالغير وثانيها أن أمر الدين أهم الأمور وأعظمها ومثل هذا مما لا يقدم الانسان فيه على الفعل أو على الترك إلا بعد إمعان النظر وكثرة الفكر وهؤلاء يقدمون على الفعل أو على الترك في مثل هذا المهم العظيم بأهون الأسباب وأضعف الموجبات وذلك يدل على قلة عقلهم وشدة حماقتهم فامثال هؤلاء لا يلتفت العاقل اليهم وثالثها ان أكثرهم إنما ينازعونك في الدين لا بناء على الشبهات بل بناء على الحسد والمنازعة في منصب الدنيا ومن كان عقله هذا القدر وهو أنه يبيع بالقليل من الدنيا السعادة العظيمة في الآخرة كان في غاية الحماقة ومثله لا يقدر في إلحاق الضرر بالغير فهذا هو الفائدة في إعادة هذه الآية والله أعلم بمراده
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاًّنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ
اعلم أنه تعالى حكى عن الذين ذهبوا إلى المدينة لتثبيط أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم إنما ثبطوهم لأنهم خوفوهم بأن يقتلوا كما قتل المسلمون يوم أحد والله تعالى بين أن أقوال هؤلاء الشياطين لا يقبلها المؤمن ولا يلتفت اليها وإنما الواجب على المؤمن أن يعتمد على فضل الله ثم بين في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين ليس خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا بأحد لأن هذا البقاء صار وسيلة الى الخزي في الدنيا والعقاب الدائم في القيامة وقتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد صار وسيلة إلى الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل فهذا بيان وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ( آل عمران 18 ) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ ( آل عمران 188 ) في الأربعة بالتاء وضم الباء في قوله تَحْسَبَنَّهُمْ وقرأ نافع وابن عامر بالياء إلا قوله فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ فانه بالتاء وقرأ حمزة كلها بالتاء واختلاف القراء في فتح السين وكسرها قدمناه في سورة البقرة أما الذين قرأوا بالياء المنقطة من تحت

فقوله يَحْسَبَنَّ فعل وقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ فاعل يقتضي مفعولين أو مفعولا يسد مسد مفعولين نحو حسبت وقوله حسبت أن زيدا منطلق وحسبت أن يقوم عمرو فقوله في الآية أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ يسد مسد المفعولين ونظيره قوله تعالى أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ ( الفرقان 44 ) وأما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فأحسن ما قيل فيه ما ذكره الزجاج وهو أن الَّذِينَ كَفَرُواْ نصب بأنه المفعول الاول و أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ بدل عنه و خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ هو المفعول الثاني والتقدير ولا تحسبن يا محمد إملاء الذين كفروا خيرا لهم ومثله مما جعل ( أن ) مع الفعل بدلا من المفعول قوله تعالى وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ( الأنفال 7 ) فقوله أَنَّهَا لَكُمْ بدل من إحدى الطائفتين
المسألة الثانية ( ما ) في قوله إِنَّمَا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون بمعنى الذي فيكون التقدير لا تحسبن الذين كفروا أن الذين نمليه خير لأنفسهم وحذف الهاء من ( نملي ) لأنه يجوز حذف الهاء من صلة الذي كقولك الذي رأيت زيد والآخر أن يقال ( ما ) مع ما بعدها في تقدير المصدر والتقدير لا تحسبن الذين كفروا أن إملائي لهم خير
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) ( ما ) مصدرية وإذا كان كذلك فكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في مصحف عثمان متصلة واتباع خط المصاحف لذلك المصحف واجب وأما في قوله أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ فههنا يجب أن تكون متصلة لانها كافة بخلاف الأولى
المسألة الرابعة معنى ( نملي ) نطيل ونؤخر والاملاء الامهال والتأخير قال الواحدي رحمه الله واشتقاقه من الملوة وهي المدة من الزمان يقال ملوت من الدهر ملوة وملوة وملاوة وملاوة بمعنى واحد قال الاصمعي يقال أملى عليه الزمان أي طال وأملى له أي طول له وأمهله قال أبو عبيدة ومنه الملا للأرض الواسعة الطويلة والملوان الليل والنهار
المسألة الخامسة احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر من وجوه الأول أن هذا الاملاء عبارة عن اطالة المدة وهي لا شك أنها من فعل الله تعالى والآية نص في بيان أن هذا الاملاء ليس بخير وهذا يدل على أنه سبحانه فاعل الخير والشر الثاني أنه تعالى نص على أن المقصود من هذا الاملاء هو أن يزدادوا الاثم والبغي والعدوان وذلك يدل على أن الكفر والمعاصي بارادة الله ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ أي إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وليكون لهم عذاب مهين الثالث أنه تعالى أخبر عنهم أنهم لا خير لهم في هذا الاملاء أنهم لا يحصلون إلا على ازدياد البغي والطغيان والاتيان بخلاف مخبر الله تعالى مع بقاء ذلك الخير جمع بين النقيضين وهو محال وإذا لم يكونوا قادرين مع ذلك الاملاء على الخير والطاعة مع أنهم مكلفون بذلك لزم في نفسه بطلان مذهب القوم قالت المعتزلة
أما الوجه الأول فليس المراد من هذه الآية أن هذا الاملاء ليس بخير إنما المراد أن هذا الاملاء ليس خيرا لهم من أن يموتوا كما مات الشهداء يوم أحد لأن كل هذه الآيات في شأن أحد وفي تثبيط المنافقين المؤمنين عن الجهاد على ما تقدم شرحه في الآيات المتقدمة فبين تعالى أن إبقاء الكافرين في الدنيا وإملاءه لهم ليس بخير لهم من أن يموتوا كموت الشهداء ولا يلزم من نفي كون هذا الاملاء أكثر خيرية من ذلك القتل أن لا يكون هذا الاملاء في نفسه خيرا

وأما الوجه الثاني فقد قالوا ليس المراد من الآية أن الغرض من الاملاء إقدامهم على الكفر والفسق بدليل قوله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) وقوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( النساء 64 ) بل الآية تحتمل وجوها من التأويل أحدها أن تحمل هذه اللام على لام العاقبة كقوله تعالى فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) وقوله وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ( الأعراف 179 ) وقوله وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ ( إبراهيم 30 ) وهم ما فعلوا ذلك لطلب الاضلال بل لطلب الاهتداء ويقال ما كانت موعظتي لك إلا لزيادة في تماديك في الفسق إذا كانت عاقبة الموعظة ذلك وثانيها أن يكون الكلام على التقديم والتأخير والتقدير ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم وثالثها أنه تعالى لما أمهلهم مع علمه بأنهم لا يزدادون عند هذا الامهال إلا تماديا في الغي والطغيان أشبه هذا حال من فعل الاملاء لهذا الغرض والمشابهة أحد أسباب حسن المجاز ورابعها وهو السؤال الذي ذكرته للقوم وهو أن اللام في قوله لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً غير محمول على الغرض باجماع الأمة أما على قول أهل السنة فلأنهم يحيلون تعليل أفعال الله بالأغراض وأما على قولنا فلأنا لا نقول بأن فعل الله معلل بغرض التعب والايلام بل عندنا أنه تعالى لم يفعل فعلا إلا لغرض الاحسان واذا كان كذلك فقد حصل الاجماع على أن هذه اللام غير محمولة على التعليل والغرض وعند هذا يسقط ما ذكرتم من الاستدلال ثم بعد هذا قول القائل ما المراد من هذه اللام غير ملتفت اليه لأن المستدل إنما بنى استدلاله على أن هذه اللام للتعليل فاذا بطل ذلك سقط استدلاله
وأما الوجه الثالث وهو الاخبار والعلم فهو معارض بأن هذا لو منع العبد من الفعل لمنع الله منه ويلزم أن يكون الله موجباً لا مختارا وهو بالاجماع باطل
والجواب عن الأول أن قوله وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ معناه نفي الخيرية في نفس الأمر وليس معناه أنه ليس خيرا من شيء آخر لأن بناء المبالغة لا يجوز ذكره إلا عند ذكر الراجح والمرجوح فلما لم يذكر الله ههنا إلا أحد الأمرين عرفنا أنه لنفي الخيرية لا لنفي كونه خيرا من شيء آخر
وأما السؤال الثاني وهو تمسكهم بقوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ وبقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ ( النساء 64 )
فجوابه أن الآية التي تمسكنا بها خاص والآية التي ذكرتموها عام والخاص مقدم على العام
وأما السؤال الثالث وهو حمل اللام على لام العاقبة فهو عدول عن الظاهر وأيضاً فان البرهان العقلي يبطله لأنه تعالى لما علم أنهم لا بد وأن يصيروا موصوفين بازدياد الغي والطغيان كان ذلك واجب الحصول لأن حصول معلوم الله واجب وعدم حصوله محال وإرادة المحال محال فيمتنع أن يريد منهم الايمان ويجب أن يريد منهم ازدياد الغي والطغيان وحينئذ ثبت أن المقصود هو التعليل وأنه لا يجوز المصير إلى لام العاقبة
وأما السؤال الرابع وهو التقديم والتأخير
فالجواب عنه من ثلاثة أوجه أحدها أن التقديم والتأخير ترك للظاهر وثانيها قال الواحدي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66