كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

وقوله تعالى والنَّاشِراتِ نَشْراً معناه أنهم نشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض أو نشروا الشرائع في الأرض أو نشروا الرحمة أو العذاب أو المراد الملائكة الذين ينشرون الكتب يوم الحساب وهي الكتب التي فيها أعمال بني آدم قال تعالى وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً وبالجملة فقد نشروا الشيء الذي أمروا بإيصاله إلى أهل الأرض ونشره فيهم وقوله تعالى فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً معناه أنهم يفرقون بين الحق والباطل وقوله فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً معناه أنهم يلقون الذكر إلى الأنبياء ثم المراد من الذكر يحتمل أن يكون مطلق العلم والحكمة كما قال يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ ( النحل 2 ) ويحتمل أن يكون المراد هو القرآن خاصة وهو قوله الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ وقوله وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ وهذا الملقى وإن كان هو جبريل عليه السلام وحده إلا أنه يجوز أن يسمى الواحد باسم الجماعة على سبيل التعظيم
واعلم أنك قد عرفت أن المقصود من القسم التنبيه على جلالة المقسم به وشرف الملائكة وعلو رتبتهم أمر ظاهر من وجوه أحدها شدة مواظبتهم على طاعة الله تعالى كما قال تعالى وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النحل 50 ) لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( الأنبياء 27 ) وثانيها أنهم أقسام فمنهم من يرسل لإنزال الوحي على الأنبياء ومنهم من يرسل للزوم بني آدم لكتابة أعمالهم طائفة منهم بالنهار وطائفة منهم بالليل ومنهم من يرسل لقبض أرواح بني آدم ومنهم من يرسل بالوحي من سماء إلى أخرى إلى أن ينزل بذلك الوحي ملك السماء إلى الأرض ومنهم الملائكة الذين ينزلون كل يوم من البيت المعمور إلى الكعبة على ما روي ذلك في الإخبار فهذا مما ينتظمه قوله وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً ثم ما فيها من سرعة السير وقطع المسافات الكثيرة في المدة اليسيرة كقوله تَعْرُجُ الْمَلَئِكَة ُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة ٍ ثم ما فيها من نشر أجنحتهم العظيمة عند الطيران ونشر العلم والحكمة والنبوة والهداية والإرشاد والوحي والتنزيل وإظهار الفرق بين الحق والباطل بسبب إنزال ذلك الوحي والتنزيل وإلقاء الذكر في القلب واللسان بسبب ذلك الوحي وبالجملة فالملائكة هم الوسائط بين الله تعالى وبين عباده في الفوز بجميع السعادات العاجلة والآجلة والخيرات الجسمانية والروحانية فلذلك أقسم الله بهم
القول الثاني أن المراد من هذه الكلمات الخمس بأسرها الرياح أقسم الله برياح عذاب أرسلها عرفاً أي متتابعة كشعر العرف كما قال يُرْسِلُ الرّيَاحَ ( الروم 46 ) وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ ( الحجر 22 ) ثم إنها تشتد حتى تصير عواصف ورياح رحمة نشرت السحاب في الجو كما قال وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ ( النمل 63 ) وقال اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمَاء ( الروم 48 ) ويجوز أيضاً أن يقال الرياح تعين النبات والزرع والشجر على النشور والإنبات وذلك لأنها تلقح فيبرز النبات بذلك على ما قال تعالى وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ ( الحجر 22 ) فبهذا الطريق تكون الرياح ناشرة للنبات وفي كون الرياح فارقة وجوه أحدها أن الرياح تفرق بعض أجزاء السحاب عن بعض وثانيها أن الله تعالى خرب بعض القرى بتسليط الرياح عليها كما قال وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ( الحاقة 6 ) وذلك سبب لظهور الفرق بين أولياء الله وأعداء الله وثالثها أن عند حدوث الرياح المختلفة وترتيب الآثار العجيبة عليها من تموج السحاب وتخريب الديار تصير الخلق مضطرين إلى الرجوع إلى الله

والتضرع على باب رحمته فيحصل الفرق بين المقر والمنكر والموحد والملحد وقوله فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً معناه أن العاقل إذا شاهد هبوب الرياح التي تقلع القلاع وتهدم الصخور والجبال وترفع الأمواج تمسك بذكر الله والتجأ إلى إعانة الله فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر والإيمان والعبودية في القلب ولا شك أن هذه الإضافة تكون على سبيل المجاز من حيث إن الذكر حصل عند حدوث هذه
القول الثالث من الناس من حمل بعض هذه الكلمات الخمسة على القرآن وعندي أنه يمكن حمل جميعها على القرآن فقوله وَالْمُرْسَلَاتِ المراد منها الآيات المتتابعة المرسلة على لسان جبريل عليه السلام إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقوله عُرْفاً أي نزلت هذه الآيات بكل عرف وخير وكيف لا وهي الهادية إلى سبيل النجاة والموصلة إلى مجامع الخيرات فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً فالمراد أن دولة الإسلام والقرآن كانت ضعيفة في الأول ثم عظمت وقهرت سائر الملل والأديان فكأن دولة القرآن عصفت بسائر الدول والملل والأديان وقهرتها وجعلتها باطلة دائرة وقوله والنَّاشِراتِ نَشْراً المراد أن آيات القرآن نشرت آثار الحكمة والهداية في قلوب العالمين شرقاً وغرباً وقوله فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فذلك ظاهر لأن آيات القرآن هي التي تفرق بين الحق والباطل ولذلك سمي الله تعالى القرآن فرقاناً وقوله فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً فالأمر فيه ظاهر لأن القرآن ذكر كما قال تعالى ص وَالْقُرْءانِ ذِى الذّكْرِ ( ص 1 ) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ ( الأنبياء 50 ) وتذكرة كما قال وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَة ٌ لّلْمُتَّقِينَ ( الحاقة 48 ) وذكرى كما قال ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( الأنعام 90 ) فظهر أنه يمكن تفسير هذه الكلمات الخمسة بالقرآن وهذا وإن لم يذكره أحد فإنه محتمل
القول الرابع يمكن حملها أيضاً على بعثة الأنبياء عليهم السلام وَالْمُرْسَلَاتِ هم الأشخاص الذين أرسلوا بالوحي المشتمل على كل خير ومعروف فإنه لا شك أنهم أرسلوا بلا إله إلا الله وهو مفتاح كل خير ومعروف عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً معناه أن أمر كل رسول يكون في أول الأمر حقيراً ضعيفاً ثم يشتد ويعظم ويصير في القوة كعصف الرياح والنَّاشِراتِ نَشْراً المراد منه انتشار دينهم ومذهبهم ومقالتهم فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً المراد أنهم يفرقون بين الحق والباطل والتوحيد والإلحاد فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً المراد أنهم يدعون الخلق إلى ذكر الله ويأمرونهم به ويحثونهم عليه
القول الخامس أن يكون المراد أن الرجل قد يكون مشتغلاً بمصالح الدنيا مستغرقاً في طلب لذاتها وراحاتها ففي أثناء ذلك يرد في قلبه داعية الإعراض عن الدنيا والرغبة في خدمة المولى فتلك الدواعي هي المرسلات عرفاً ثم هذه المرسلات لها أثران أحدهما إزالة حب ماسوى الله تعالى عن القلب وهو المراد من قوله فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً والثاني ظهور أثر تلك الداعية في جميع الجوارح والأعضاء حتى لا يسمع إلا الله ولا يبصر إلا الله ولا ينظر إلا الله فذلك هو قوله والنَّاشِراتِ نَشْراً ثم عند ذلك ينكشف له نور جلال الله فيراه موجوداً ويرى كل ما سواه معدوماً فذلك قوله فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً ثم يصير العبد كالمشتهر في محبته ولا يبقى في قلبه ولسانه إلا ذكره فذلك قوله فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً
واعلم أن هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة وإن كانت غير مذكورة إلا أنها محتملة جداً وأما الاحتمال الثاني وهو أن لا يكون المراد من الكلمات الخمس شيئاً واحداً ففيه وجوه الأول ما ذكره الزجاج واختيار القاضي وهو أن الثلاثة الأول هي الرياح فقوله وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً هي الرياح التي تتصل على

العرف المعتاد والعاصفات ما يشتد منه عَصْفاً والنَّاشِراتِ ما ينشر السحاب أما قوله فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فهم الملائكة الذين يفرقون بين الحق والباطل والحلال والحرام بما يتحملونه من القرآن والوحي وكذلك قوله فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً أنها الملائكة المتحملة للذكر الملقية ذلك إلى الرسل فإن قيل وما المجانسة بين الرياح وبين الملائكة حتى يجمع بينهما في القسم قلنا الملائكة روحانيون فهم بسبب لطافتهم وسرعة حركاتهم كالرياح القول الثاني أن الإثنين الأولين هما الرياح فقوله وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً هما الرياح والثلاثة الباقية الملائكة لأنها تنشر الوحي والدين ثم لذلك الوحي أثران أحدهما حصول الفرق بين المحق والمبطل والثاني ظهور ذكر الله في القلوب والألسنة وهذا القول ما رأيته لأحد ولكنه ظاهر الاحتمال أيضاً والذي يؤكده أنه قال وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً عطف الثاني على الأول بحرف الفاء ثم ذكر الواو فقال والنَّاشِراتِ نَشْراً وعطف الإثنين الباقيين عليه بحرف الفاء وهذا يقتضي أن يكون الأولان ممتازين عن الثلاثة الأخيرة القول الثالث يمكن أيضاً أن يقال المراد بالأولين الملائكة فقوله وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً ملائكة الرحمة وقوله فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً ملائكة العذاب والثلاثة الباقية آيات القرآن لأنها تنشر الحق في القلوب والأرواح وتفرق بين الحق والباطل وتلقي الذكر في القلوب والألسنة وهذا القول أيضاً ما رأيته لأحد وهو محتمل ومن وقف على ما ذكرناه أمكنه أن يذكر فيه وجوهاً والله أعلم بمراده
المسألة الثانية قال القفال الوجه في دخول الفاء في بعض ما وقع به القسم والواو في بعض مبني على الأصل وهو أن عند أهل اللغة الفاء تقتضي الوصل والتعلق فإذا قيل قام زيد فذهب فالمعنى أنه قام ليذهب فكان قيامه سبباً لذهابه ومتصلاً به وإذا قيل قام وذهب فهما خبران كل واحد منهما قائم بنفسه لا يتعلق بالآخر ثم إن القفال لما مهد هذا الأصل فرع الكلام عليه في هذه الآية بوجوه لا يميل قلبي إليها وأنا أفرع على هذا الأصل فأقول أما من جعل الأولين صفتين لشيء والثلاثة الأخيرة صفات لشيء واحد فالإشكال عنه زائل وأما من جعل الكل صفات لشيء واحد فنقول إن حملناها على الملائكة فالملائكة إذا أرسلت طارت سريعاً وذلك الطيران هو العصف فالعصف مرتب على الإرسال فلا جرم ذكر الفاء أما النشر فلا يترتب على الإرسال فإن الملائكة أول ما يبلغون الوحي إلى الرسل لا يصير في الحال ذلك الدين مشهوراً منتشراً بل الخلق يؤذون الأنبياء في أول الأمر وينسبونهم إلى الكذب والسحر والجنون فلا جرم لم يذكر الفاء التي تفيد بل ذكر الواو بلى إذا حصل النشر ترتب عليه حصول الفرق بين الحق والباطل وظهور ذكر الحق على الألسنة فلا جرم ذكر هذين الأمرين بحرف الفاء فكأنه والله أعلم قيل يا محمد إني أرسلت الملك إليك بالوحي الذي هو عنوان كل سعادة وفاتحة كل خير ولكن لا تطمع في أن ننشر ذلك الأمر في الحالة ولكن لا بد من الصبر وتحمل المشقة ثم إذا جاء وقت النصرة أجعل دينك ظاهراً منتشراً في شرق العالم وغربه وعند ذلك الانتشار يظهر الفرق فتصير الأديان الباطلة ضعيفة ساقطة ودينك هو الدين الحق ظاهراً غالباً وهنالك يظهر ذلك الله على الألسنة وفي المحاريب وعلى المنابر ويصير العالم مملوأ من ذكر الله فهذا إذا حملنا هذه الكلمات الخمس على الملائكة ومن عرف هذا الوجه أمكنه ذكر ما شابهه في الرياح وسائر الوجوه والله أعلم
أما قوله عُذْراً أَوْ نُذْراً ففيه مسألتان

المسألة الأولى فيهما قراءتان التخفيف وهو قراءة أبي عمرو وعاصم من رواية حفص والباقون قرأوا بالتثقيل أما التخفيف فلا نزاع في كونه مصدراً والمعنى إعذاراً وإنذاراً وأما التثقيل فزعم أبو عبيدة أنه جمع وليس بمصدر وأما الأخفش والزجاج فزعما أنه مصدر والتثقيل والتخفيف لغتان وقرر أبو علي قول الأخفش والزجاج وقال العذر والعذير والنذر والنذير مثل النكر والنكير ثم قال أبو علي ويجوز في قراءة من ثقل أن يكون عذراً جمع عاذر كشرف وشارف وكذلك النذر يجوز أن يكون جمع نذير قال تعالى هَاذَا نَذِيرٌ مّنَ النُّذُرِ الاْوْلَى ( النجم 56 )
المسألة الثانية في النصب ثلاثة أوجه أما على تقدير كونه مصدراً فوجهان أحدهما أن يكون مفعولاً على البدل من قوله ذكراً والثاني أن يكون مفعولاً له والمعنى والملقيات ذكراً للأعذار والإنذار وأما على تقدير كونه جمعاً فنصب على الحال من الإلقاء والتقدير فالملقيات ذكراً حال كونهم عاذرين ومنذرين
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ
جواب القسم والمعنى إن الذي توعدون به من مجيء يوم القيامة لكائن نازل وقال الكلبي المراد أن كل ما توعدون به من الخير والشر لواقع واحتج القائلون بالتفسير الأول بأنه تعالى ذكر عقيب هذه الآيات علامات يوم القيامة فدل على أن المراد من هذه الآية هو القيامة فقط ثم إنه ذكر علامات وقوع هذا اليوم
أولها قوله تعالى
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ
وذكرنا تفسير الطمس عند قوله رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ ( يونس 88 ) وبالجملة فيحتمل أن يكون المراد محقت ذواتها وهو موافق لقوله انتَثَرَتْ ( الإنفطار 2 ) و انكذرت ( التكوير 2 ) وأن يكون المراد محقت أنوارها والأول أولى لأنه لا حاجة فيه إلى الإضمار ويجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر ممحوقة النور
وثانيها قوله
وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ
طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ الفرج الشق يقال فرجه الله فانفرج وكل مشقوق فرج فههنا قوله فرجت أي شقت نظيره وَإِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ( الانشقاق 1 ) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ ( الفرقان 25 ) وقال ابن قتيبة معناه فتحت نظيره وفتحت السماء قال الشاعر الفارجي باب الأمير المبهم
وثالثها قوله
وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ
وفيه وجهان أحدهما نسفت كالحب المغلث إذا نسف بالمنسف ومنه قوله لَّنُحَرّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ ونظيره وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً ( الواقعة 5 ) وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً ( المزمل 14 ) فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً والثاني اقتلعت بسرعة من أماكنها من انتسفت الشيء إذا اختطفته وقرىء طُمِسَتْ و فُرِجَتْ و نُسِفَتْ مشددة

ورابعها قوله تعالى
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى أقتت أصلها وقتت ويدل عليه وجوه أحدها قراءة أبي عمرو وقتت بالواو وثانيها أن أصل الكلمة من الوقت وثالثها أن كل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة فإنها تبدل على الإطراد همزة أولاً وحشواً ومن ذلك أن تقول صلى القوم إحدانا وهذه أجوه حسان وأدؤر في جمع دار والسبب فيه أن الضمة من جنس الواو فالجمع بينهما يجري مجرى جمع المثلين فيكون ثقيلاً ولهذا السبب كان كسر الياء ثقيلاً
أما قوله تعالى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ فلا يجوز فيه البدل لأن الضمة غير لازمة ألا ترى أنه لا يسوغ في نحو قولك هَاذَا وَعْدُ أن تبدل
المسألة الثانية في التأقيت قولان الأول وهو قول مجاهد والزجاج أنه تبيين الوقت الذي فيه يحضرون للشهادة على أممهم وهذا ضعيف وذلك لأن هذه الأشياء جعلت علامات لقيام القيامة كأنه قيل إذا كان كذا وكذا كانت القيامة ولا يليق بهذا الموضع أن يقال وإذا بين لهم الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم قامت القيامة لأن ذلك البيان كان حاصلاً في الدنيا ولأن الثلاثة المتقدمة هي الطمس والفرج والنسف مختصة بوقت قيام القيامة فكذا هذا التوقيت يجب أن يكون مختصاً بوقت قيام القيامة القول الثاني أن المراد بهذا التأقيت تحصيل الوقت وتكوينه وهذا أقرب أيضاً إلى مطابقة اللفظ لأن بناء التفعيلات على تحصيل تلك الماهيات فالتسويد تحصيل السواد والتحريك تحصيل الحركة فكذا التأقيت تحصيل الوقت ثم إنه ليس في اللفظ بيان أنه تحصيل لوقت أي شيء وإنما لم يبين ذلك ولم يعين لأجل أن يذهب الوهم إلى كل جانب فيكون التهويل فيه أشد فيحتمل أن يكون المراد تكوين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم وأن يكون هو الوقت الذي يجتمعون فيه للفوز بالثواب وأن يكون هو وقت سؤال الرسل عما أجيبوا به وسؤال الأمم عما أجابوهم كما قال فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وأن يكون هو الوقت الذي يشاهدون الجنة والنار والعرض والحساب والوزن وسائر أحوال القيامة وإليه الإشارة بقوله وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ
لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ
أي أخرت كأنه تعالى يعجب العباد من تعظيم ذلك اليوم فقال لأي يوم أخرت الأمور المتعلقة بهؤلاء وهي تعذيب من كذبهم وتعظيم من آمن بهم وظهور ما كانوا يدعون الخلق إلى الإيمان به من الأهوال والعرض والحساب ونشر الدواوين ووضع الموازين
ثم إنه تعالى بين ذلك فقال
لِيَوْمِ الْفَصْلِ
قال ابن عباس رضي الله عنهما يوم يفصل الرحمن بين الخلائق وهذا كقوله إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ
ثم أتبع ذلك تعظيماً ثانياً فقال
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ أي وما علمك بيوم الفصل وشدته ومهابته
ثم أتبعه بتهويل ثالث فقال
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
أي للمكذبين بالتوحيد والنبوة والمعاد وبكل ما ورد من الأنبياء عليهم السلام وأخبروا عنه بقي ههنا سؤالان

السؤال الأول كيف وقع النكرة مبتدأ في قوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ الجواب هو في أصله مصدر منصوب ساد مسد فعله ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ونحوه سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ويجوز ويلا بالنصب ولكن لم يقرأ به
السؤال الثاني أين جواب قوله فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ الجواب من وجهين أحدهما التقدير إنما توعدون لواقع إذا النجوم طمست وهذا ضعيف لأنه يقع في قوله فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ الثاني أن الجواب محذوف والتقدير فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وإذا وإذا فحينئذ تقع المجازاة بالأعمال وتقوم القيامة
أَلَمْ نُهْلِكِ الاٌّ وَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاٌّ خِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن المقصود من هذه الصورة تخويف الكفار وتحذيرهم عن الكفر
فالنوع الأول من التخويف أنه أقسم على أن اليوم الذي يوعدون به وهو يوم الفصل واقع ثم هول فقال وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ثم زاد في التهويل فقال وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
والنوع الثاني من التخويف ما ذكر في هذه الآية وهو أنه أهلك الكفرة المتقدمين بسبب كفرهم فإذا كان الكفر حاصلاً في هؤلاء المتأخرين فلا بد وأن يهلكهم أيضاً ثم قال وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ كأنه يقول أما الدنيا فحاصلهم الهلاك وأما الآخرة فالعذاب الشديد وإليه الإشارة بقوله خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَة َ ذالِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ وفي الآية سؤالان الأول ما المراد من الأولين والآخرين الجواب فيه قولان الأول أنه أهلك الأولين من قوم نوح وعاد وثمود ثم أتبعهم الآخرين قوم شعيب ولوط وموسى كذلك نفعل بالمجرمين وهم كفار قريش وهذا القول ضعيف لأن قوله نُتْبِعُهُمُ الاْخِرِينَ بلفظ المضارع فهو يتناول الحال والاستقبال ولا يتناول الماضي ألبتة القول الثاني أن المراد بالأولين جميع الكفار الذين كانوا قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقوله ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاْخِرِينَ على الاستئناف على معنى سنفعل ذلك ونتبع الأول الآخر ويدل على الاستئناف قراءة عبدالله سنتبعهم فإن قيل قرأ الأعرج ثم نتبعهم بالجزم وذلك يدل على الاشتراك في ألم وحينئذ يكون المراد به الماضي لا المستقبل قلنا القراءة الثابتة بالتواتر نتبعهم بحركة العين وذلك يقتضي المستقبل فلو اقتضت القراءة بالجزم أن يكون المراد هو الماضي لوقع التنافي بين القراءتين وإنه غير جائز فعلمنا أن تسكين العين ليس للجزم للتخفيف كما روي في بيت امرىء القيس
واليوم أشرب غير مستحقب
ثم إنه تعالى لما بين أنه يفعل بهؤلاء المتأخرين مثل ما يفعل بأولئك المتقدمين قال إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي هذا الإهلاك إنما نفعله بهم لكونهم مجرمين فلا جرم في جميع المجرمين لأن عموم

العلة يقتضي عموم الحكم
ثم قال تعالى وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ أي هؤلاء وإن أهلكوا وعذبوا في الدنيا فالمصيبة العظمى والطامة الكبرى معدة لهم يوم القيامة
السؤال الثاني المراد من الإهلاك في قوله أَلَمْ نُهْلِكِ الاْوَّلِينَ هو مطلق الإماتة أو الإماتة بالعذاب فإن كان ذلك هو الأول لم يكن تخويفاً للكفار لأن ذلك أمر حاصل للمؤمن والكافر فلا يصلح تحذيراً للكافر وإن كان المراد هو الثاني وهو الإماتة بالعذاب فقوله ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاْخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ يقتضي أن يكون الله قد فعل بكفار قريش مثل ذلك ومن المعلوم أنه لم يوجد ذلك وأيضاً فلأنه تعالى قال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ الجواب لم لا يجوز أن يكون المراد منه الإماتة بالتعذيب وقد وقع ذلك في حق قريش وهو يوم بدر سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون المراد من الإهلاك معنى ثالثاً مغايراً للأمرين اللذين ذكروهما وهو الإماتة المستعقبة للذم واللعن فكأنه قيل إن أولئك المتقدمين لحرصهم على الدنيا عاندوا الأنبياء وخاصموهم ثم ماتوا فقد فاتتهم الدنيا وبقي اللعن عليهم في الدنيا والعقوبة الأخروية دائماً سرمداً فهكذا يكون حال هؤلاء الكفار الموجودين ومعلوم أن مثل هذا الكلام من أعظم وجوه الزجر
أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من تخويف الكفار ووجه التخويف فيه من وجهين الأول أنه تعالى ذكرهم عظيم إنعامه عليهم وكلما كانت نعمة الله عليهم أكثر كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش وكلما كان كذلك كان العقاب أعظم فلهذا قال عقيب ذكر هذا الإنعام وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ الوجه الثاني أنه تعالى ذكرهم كونه قادراً على الابتداء وظاهر في العقل أن القادر على الابتداء قادر على الإعادة فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة لا جرم قال في حقهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ وأما التفسير فهو أن قوله أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ أي من النطفة كقوله ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَة ٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ وهو الرحم لأن ما يخلق منه الولد لا بد وأن يثبت في الرحم ويتمكن بخلاف مالا يخلق منه الولد ثم قال إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ والمراد كونه في الرحم إلى وقت الولادة وذلك الوقت معلوم لله تعالى لا لغيره كقوله إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ إلى قوله وَيَعْلَمُ مَا فِى الاْرْحَامِ فَقَدَرْنَا قرأ نافع وعبدالله بن عامر بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف أما التشديد فالمعنى إنا قدرنا ذلك تقديراً فنعم المقدرون له نحن ويتأكد هذا الوجه بقوله تعالى مِن نُّطْفَة ٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ولأن إيقاع الخلق على هذا التقدير والتحديد نعمة من المقدر على المخلوق فحسن ذكره في موضع ذكر

المنة والنعمة ومن طعن في هذه القراءة قال لو صحت هذه القراءة لوجب أن يقال فقدرنا فنعم المقدرون وأجيب عنه بأن العرب قد تجمع بين اللغتين قال تعالى فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً وأما القراءة بالتخفيف ففيها وجهان الأول أنه من القدرة أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا وأردنا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ حيث خلقناه في أحسن الصور والهيئات والثاني أنه يقال قدرت الشيء بالتخفيف على معنى قدرته قال الفراء العرب تقول قدر عليه الموت وقدر عليه الموت وقدر عليه رزقه وقدر بالتخفيف والتشديد قال تعالى فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً أَحْيَآءً وَأَمْواتاً وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِى َ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من تخويف الكفار وذلك لأنه ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الأنفس وفي هذه الآية ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الآفاق ثم قال في آخر الآية وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ والسبب فيه ما قدمنا أن النعم كلما كانت أكثر كانت الجناية أقبح فكان استحقاق الذم عاجلاً والعقاب آجلاً أشد وإنما قدم تلك الآية على هذه الآية لأن النعم التي في الأنفس كالأصل للنعم التي في الآفاق فإنه لولا الحياة والسمع والبصر والأعضاء السليمة لما كان الانتفاع بشيء من المخلوق ممكناً
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا ثلاثة أشياء أولها الأرض وإنما قدمها لأن أقرب الأشياء إلينا من الأمور الخارجية هو الأرض ومعنى الكفات في اللغة الضم والجمع يقال كفت الشيء أي ضممته ويقال جراب كفيت وكفت إذا كان لا يضيع شيئاً مما يجعل فيه ويقال للقدر كفت قال صاحب الكشاف هو اسم ما يكفت كقولهم الضمام والجماع لما يضم ويجمع ويقال هذا الباب جماع الأبواب وتقول شددت الشيء ثم تسمي الخيط الذي تشد به الشيء شداداً وبه انتصب أحياء وأمواتاً كأنه قيل كافتة أحياء وأمواتاً أو بفعل مضمر يدل عليه وهو نكفت ويكون المعنى نكفتكم أحياء وأمواتاً فينصبان على الحال من الضمير هذا هو اللغة ثم في المعنى وجوه أحدها أنها تكفت أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها والمعنى أن الأحياء يسكنون في منازلهم والأموات يدفنون في قبورهم ولهذا كانوا يسمون الأرض أما لأنها في ضمها للناس كالأم التي تضم ولدها وتكفله ولما كانوا يضمون إليها جعلت كأنها تضمهم وثانيها أنها كفات الأحياء بمعنى أنها تكفت ما ينفصل الأحياء من الأمور المستقذرة فأما أنها تكفت ( الأحياء ) حال كونهم على ظهرها فلا وثالثها أنها كفات الأحياء بمعنى أنها جامعة لما يحتاج الإنسان إليه في حاجاته من مأكل ومشرب لأن كل ذلك يخرج من الأرض والأبنية الجامعة للمصالح الدافعة للمضار مبنية منها ورابعها أن قوله أَحْيَاء وَأَمْواتاً معناه راجع إلى الأرض والحي ما أنبت والميت مالم ينبت بفي في الآية سؤالان
الأول لم قيل أَحْيَاء وَأَمْواتاً على التنكير وهي كفات الأحياء والأموات جميعاً الجواب هو من

تنكير التفخيم كأنه قيل تكفت أحياء لا يعدون وأمواتاً لا يحصرون
السؤال الثاني هل تدل هذه الآية على وجوب قطع النباش الجواب نقل القفال أن ربيعة قال دلت الآية على أن الأرض كفات الميت فتكون حرزاً له والسارق من الحرز يجب عليه القطع
النوع الثاني من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِى َ شَامِخَاتٍ فقوله رَوَاسِى َ أي ثوابت على ظهر الأرض لا تزول و شَامِخَاتٍ أي عاليات وكل عال فهو شامخ ويقال للمتكبر شامخ بأنفه ومنافع خلقة الجبال قد تقدمت في هذا الكتاب
النوع الثالث من النعم قوله تعالى وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً الفرات هو الغاية في العذوبة وقد تقدم تفسيره في قوله هَاذَا عَذَابٌ فُرَاتٌ
انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَة ٌ صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن هذا هو النوع الخامس من وجوه تخويف الكفار وهو بيان كيفية عذابهم في الآخرة فأما قوله انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ فالمعنى أنه يقال لهم انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ من العذاب والظاهر أن القائلين هم خزنة النار وانطلقوا الثاني تكرير وقرأ يعقوب تُكَذّبُونَ انطَلِقُواْ على لفظ الماضي والمعنى أنهم انقادوا للأمر لأجل أنهم مضطرون إليه لا يستطيعون امتناعاً منه وهذا بعيد لأنه كان ينبغي أن يقال فانطلقوا بالفاء ليرتبط آخر الكلام بأوله قال المفسرون إن الشمس تقرب يوم القيامة من رؤوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس ولا كنان فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفاسهم ويمتد ذلك اليوم ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله فهناك يقولون فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ويقال للمكذبين انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ من عذاب الله وعقابه وقوله إِلَى ظِلّ يعني دخان جهنم كقوله وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ ثم إنه تعالى وصف هذا الظل بصفات
الصفة الأولى قوله ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ وفيه وجوه أحدها قال الحسن ما أدري ما هذا الظل ولا سمعت فيه شيئاً وثانيها قال قوم المراد بقوله إلى ظل ذي ثلاث شعب كون النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومحيطة بهم وتسمية النار بالظل مجاز من حيث إنها محيطة بهم من كل جانب كقوله لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ وقال تعالى يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وثالثها قال قتادة بل المراد الدخان وهو من قوله أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وسرادق النار هو الدخان ثم إن شعبة من ذلك الدخان على يمينه وشعبة أخرى على يساره وشعبة ثالثة من فوقه وأقول هذا غير مستبعد لأن الغضب عن يمينه والشهوة عن شماله والقوة الشيطانية في دماغه ومنبع جميع الآفاق الصادرة عن الإنسان في عقائده وفي أعماله ليس إلا هذه الثلاثة فتولدت من

هذه الينابيع الثلاثة أنواع من الظلمات ويمكن أيضاً أن يقال ههنا درجات ثلاثة وهي الحس والخيال والوهم وهي مانعة للروح عن الاستنارة بأنوار عالم القدس والطهارة ولكل واحد من تلك المراتب الثلاثة نوع خاص من الظلمة ورابعها قال قوم هذا كناية عن كون ذلك الدخان عظيماً فإن الدخان العظيم ينقسم إلى شعب كثيرة وخامسها قال أبو مسلم ويحتمل في ثلاث شعب ما ذكره بعد ذلك وهو أنه غير ظليل وأنه لا يغني من اللهب وبأنها ترمى بشرر كالقصر
الصفة الثانية لذلك الظل قوله لاَّ ظَلِيلٍ وهذا تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين والمعنى أن ذلك الظل لا يمنع حر الشمس
الصفة الثالثة قوله تعالى وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ يقال أغن عني وجهك أي أبعده لأن الغني عن الشيء يباعده كما أن المحتاج يقاربه قال صاحب ( الكشاف ) إنه في محل الجر أي وغيره مغن عنهم من حر اللهب شيئاً قال القفال وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن هذا الظل إنما يكون في جهنم فلا يظلهم من حرها ولا يسترهم من لهيبها وقد ذكر الله في سورة الواقعة الظل فقال فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ( الواقعة 42 44 ) وهذا كأنه في جهنم إذا دخلوها ثم قال لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ فيحتمل أن يكون قوله لاَّ ظَلِيلٍ في معنى لاَّ بَارِدٍ وقوله وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ في معنى وَلاَ كَرِيمٍ أي لا روح له يلجأ إليه من لهب النار والثاني أن تكوُّنَ ذلك إنما يكون قبل أن يدخلوا جهنم بل عندما يحسبون للحساب والعرض فيقال لهم إن هذا الظل لا يظلكم من حر الشمس ولا يدفع لهب النار وفي الآية وجه ثان وهو الذي قاله قطرب وهو أن اللهب ههنا هو العطش يقال لهب لهباً ورجل لهبان وامرأة لهبى
الصفة الرابعة قوله تعالى إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ قال الواحدي يقال شررة وشرر وشرارة وشرار وهو ما تطاير من النار متبدداً في كل جهة وأصله من شررت الثوب إذا أظهرته وبسطته للشمس والشرار ينبسط متبدداً واعلم أن الله تعالى وصف النار التي كان ذلك الظل دخاناً لها بأنها ترمي بالشرارة العظيمة والمقصود منه بيان أن تلك النار عظيمة جداً ثم إنه تعالى شبه ذلك الشرر بشيئين الأول بالقصر وفي تفسيره قولان أحدهما أن المراد منه البناء المسمى بالقصر قال ابن عباس يريد القصور العظام الثاني أنه ليس المراد ذلك ثم على التقدير ففي التفسير وجوه أحدها أنها جمع قصرة ساكنة الصاد كتمرة وتمر وجمرة وجمر قال المبراد يقال للواحد من الحطب الجزل الغليظ قصرة والجمع قصر قال عبد الرحمن بن عابس سألت ابن عباس عن القصر فقال هو خشب كنا ندخره للشتاء نقطعه وكنا نسميه القصر وهذا قول سعيد بن جبير ومقاتل والضحاك إلا أنهم قالوا هي أصول النخل والشجر العظام قال صاحب ( الكشاف ) قرىء كالقصر بفتحتين وهي أعناق الإبل أو أعناق النخل نحو شجرة وشجر وقرأ ابن مسعود كالقصر بمعنى القصر كرهن ورهن وقرأ سعيد بن جبير كالقصر في جمع قصرة كحاجة وحوج
التشبيه الثاني قوله تعالى كَأَنَّهُ جِمَالَة ٌ صُفْرٌ وفيه مسألتان

المسألة الأولى جمالات جمع جمال كقوهم رجالات ورجال وبيوتات وبيوت وقرأ ابن عباس حمالات بضم الجيم وهو قراءة يعقوب وذكروا وجوهاً أحدها قيل الجمالات بالضم الحبال الغلاظ وهي حبال السفن ويقال لها القلوس ومنهم من أنكر ذلك وقال المعروف في الحبال إنما هو الجمل بضم الجيم وتشديد الميم وقرىء حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ وثانيها قيل هي قطع النحاس وهو مروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس ومعظم أهل اللغة لا يعرفونه وثالثها قال الفراء يجوز أن يكون الجمالات بالضم من الشيء المجمل يقال أجملت الحساب وجاء القوم جملة أي مجتمعين والمعنى أن هذه الشررة ترتفع كأنها شيء مجموع غليظ أصفر وهذا قول الفراء ورابعها قال الفراء يجوز أن يقال جمالات بضم الجيم جمع جمال بضم الجيم وجمال بضم الجيم يكون جمع جمل كما يقاله رخل ورخال ورخال
القراءة الثاني جملة بكسر الجيم هي جمع جمل مثل حجر وحجارة قال أبو علي والتاء إنما لحقت جمالاً لتأنيث الجمع كما لحقت في فحل وفحالة
القراءة الرابعة جملة بضم الجيم وهي القلس وقيل صفر لإرادة الجنس أما قوله صفر فالأكثرون على أن المراد منه سود تضرب إلى الصفرة قال الفراء لا ترى أسود من الإبل إلا وهو مشوب صفرة والشرر إذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار كان أشبه بالجمل الأسود الذي يشوبه شيء من الصفرة وزعم بعض العلماء أن المراد هو الصفرة لا السواد لأن الشرر إنما يسمى شرراً ما دام يكون ناراً ومتى كان ناراً كان أصفر وإنما يصير أسود إذا انطفأ وهناك لا يسمى شرراً وهذا القول عندي هو الصواب
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى شبه الشرر في العظم بالقصر وفي اللون والكثرة والتتابع وسرعة الحركة بالجمالات الصفر وقيل أيضاً إن ابتداء الشرر يعظم فيكون كالقصر ثم يفترق فتكون تلك القطع المتفرقة المتتابعة كالجمالات الصفر واعلم أنه نقل عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ أن هذا التشبيه إنما ورد في بلاد العرب وقصورهم قصيرة السمك جارية مجرى الخيمة فبين تعالى أنها ترمى بشرر كالقصر فلما سمع أبو العلاء المعري بهذا تصرف فيه وشبهه بالخيمة من الأديم وهو قوله حمراء ساطعة الذوائب في الدجى
ترمى بكل شرارة كطراف
ثم زعم صاحب الكشاف أنه ذكر ذلك معارضة لهذه الآية وأقول كان الأولى لصاحب الكشاف أن لا يذكر ذلك وإذ قد ذكره فلا بد لنا من تحقيق الكلام فيه فنقول تشبيه الشرارة بالطراف يفيد التشبيه في الشكل والعظم أما الشكل فمن وجهين الأول أن الشرارة تكون قبل انشعابها كالنقطة من النار فإذا انشعبت اتسعت فهي كالنقطة التي تتسع فهي تشبه الخيمة فإن رأسها كالنقطة ثم إنها لا تزال تتسع شيئاً فشيئاً الثاني أن الشرارة كالكرة أو الأسطوانة فهي شديدة الشبه بالخيمة المستديرة وأما التشبيه بالخيمة في النظم فالأمر ظاهر هذا منتهى هذا التشبيه وأما وجه القدح فيه فمن وجوه الأول أن لون الشرارة أصفر يشوبها شيء من السواد وهذا المعنى حاصل في الجمالات

الصفر وغير حاصل في الخيمة من الأديم الثاني أن الجمالات متحركة والخيمة لا تكون متحركة فتشبيه الشرار المتحرك بالجمالات المتحركة أولى والثالث أن الشرارات متتابعة يجيء بعضها خلف البعض وهذا المعنى حاصل في الجمالات الصفر وغير حاصل في الطراف الرابع أن القصر مأمن الرجل وموضع سلامته فتشبيه الشرر بالقصر تنبيه على أنه إنما تولدت آفته من الموضع الذي توقع منه الأمن والسلامة وحال الكافر كذلك فإنه كان يتوقع الخير والسلامة من دينه ثم إنه ما ظهرت له آفة ولا محنة إلا من ذلك الدين والخيمة ليست مما يتوقع منها الأمن الكلي الخامس أن العرب كانوا يعتقدون أن كل الجمال في ملك الجمال وتمام النعم إنما يحصل بملك النعم ولهذا قال تعالى وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ فتشبيه الشرر بالجمال السود كالتهكم بهم كأنه قيل لهم كنتم تتوقعون من دينكم كرامة ونعمة وجمالاً إلا أن ذلك الجمال هو هذه الشرارات التي هي كالجمال وهذا المعنى غير حاصل في الطراف السادس أن الجمال إذا انفردت واختلط بعضها بالبعض فكل من وقع فيما بين أيديها وأرجلها في ذلك الوقت نال بلاء شديداً وألماً عظيماً فتشبيه الشرارات بها حال تتابعها يفيد حصول كمال الضرر والطراف ليس كذلك السابع الظاهر أن القصر يكون في المقدار أعظم من الطراف والجمالات الصفر تكون أكثر في العدد من الطراف فتشبيه هذه الشرارات بالقصر وبالجمالات يقتضي الزيادة في المقدار وفي العدد وتشبهها بالطراف لا يفيد شيئاً من ذلك ولما كان المقصود هو التهويل والتخويف كان التشبيه الأول أولى الثامن أن التشبيه بالشيئين في إثبات وصفين أقوى في ثبوت ذينك الصفين من التشبيه بالشيء الواحد في إثبات ذينك الوصفين وبيانه أن من سمع قوله إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ تسارع ذهنه إلى أن المراد إثبات عظم تلك الشرارات ثم إذا سمع بعد ذلك قوله كَأَنَّهُ جِمَالَة ٌ صُفْرٌ تسارع ذهنه إلى أن المراد كثرة تلك الشرارات وتتابعها ولونها أما من سمع أن الشرار كالطراف يبقى ذهنه متوقفاً في أن المقصود بالتشبيه إثبات العظم أو إثبات اللون فالتشبيه بالطراف كالمجمل والتشبيه بالقصر وبالجمالات الصفر كالبيان المفصل المكرر المؤكد ولما كان المقصود من هذا البيان هو التهويل والتخويف فكلما كان بيان وجوه العذاب أتم وأبين كان الخوف أشد فثبت أن هذا التشبيه أتم التاسع أنه قال في أول الآية انطَلِقُواْ إِلَى ظِلّ والإنسان إنما يكون طيب العيش وقت الانطلاق والذهاب إذا كان راكباً وإنما يجد الظل الطيب إذا كان في قصره فوقع تشبيه الشرارة بالقصر والجمالات كأنه قيل له مركوبك هذه الجمالات وظلك في مثل هذا القصر وهذا يجري مجرى التهكم بهم وهذا المعنى غير حاصل في الطراف العاشر من المعلوم أن تطاير القصر إلى الهواء أدخل في التعجب من تطاير الخيمة لأن القصر يكون مركباً من اللبن والحجر والخشب وهذه الأجسام أدخل في الثقل والاكتناز من الخيمة المتخذة إما من الكرباس أو من الأديم والشيء كلما كان أثقل وأشد اكتنازاً كان تطايره في الهواء أبعد فكانت النار التي تطير القصر إلى الهواء أقوى من النار التي تطير الطراف في الهواء ومعلوم أن المقصود تعظيم أمر النار في الشدة والقوة فكان التشبيه بالقصر أولى الحادي عشر وهو أن سقوط القصر على الإنسان أدخل في الإيلام والإيجاع من سقوط الطراف عليه فتشبيه تلك الشرارات بالقصر يفيد أن تلك الشرارات إذا ارتفعت في الهواء ثم سقطت على الكافر فإنها تؤلمه إيلاماً شديداً فصار ذلك تنبيهاً على أنه لا يزال يسقط عليه من الهواء شرارات كالقصور بخلاف وقوع الطراف على الإنسان فإنه لا يؤلم في الغاية الثاني عشر أن الجمال في أكثر الأمور تكون موقرة فتشبيه الشرارات بالجمال تنبيه على أن مع كل واحد من تلك الشرارات أنواعاً من البلاء والمحنة لا يحصي عددهاإلا الله فكأنه قيل تلك الشرارات كالجمالات الموقرة بأنواع المحنة والبلاء وهذا المعنى غير حاصل في الطراف فكان التشبيه

بالجمالات أتم
واعلم أن هذه الوجوه توالت على الخاطر في اللحظة الواحدة ولو تضرعنا إلى الله تعالى في طلب الأزيد لأعطانا أي قدر شئناً بفضله ورحمته ولكن هذه الوجوه كافية في بيان الترجيح والزيادة عليها تعد من الأطناب والله أعلم
هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
نصب الأعمش يوم أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ اعلم أن هذا هو النوع السادس من أنواع تخويف الكفار وتشديد الأمر عليهم وذلك لأنه تعالى بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح ولا قدرة لهم على دفع العذاب عن أنفسهم فيجتمع في حقه في هذا المقام أنواع من العذاب أحدها عذاب الخجالة فإنه يفتضح على رءوس الأشهاد ويظهر لكل قصوره وتقصيره وكل من له عقل سليم علم أن عذاب الخجالة أشد من القتل بالسيف والاحتراق بالنار وثانيها وقوف العبد الآبق على باب المولى ووقوعه في يده مع علمه بأنه الصادق الذي يستحيل الكذب عليه على ما قال مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ وثالثها أنه يرى في ذلك الموقف خصماءه الذين كان يستخف بهم ويستحقرهم فائزين بالثواب والتعظيم ويرى نفسه فائزاً بالخزي والنكال وهذه ثلاثة أنواع من العذاب الروحاني ورابعها العذاب الجسماني وهو مشاهدة النار وأهوالها نعوذ بالله منها فلما اجتمعت في حقه هذه الوجوه من العذاب بل ما هو مما لا يصف كنهه إلا الله لا جرم قال تعالى في حقهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ وفي الآية سؤالان
الأول كيف يمكن الجمع بين قوله هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وقوله ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ وقوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ وقوله وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ويروى أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن هذا السؤال والجواب عنه من وجوه أحدها قال الحسن فيه إضمار والتقدير هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة ولا يؤذن لهم فيعتذرون لأنه ليس لهم فيما عملوه عذر صحيح وجواب مستقيم فإذا لم ينطقوا بحجة سليمة وكلام مستقيم فكأنهم لم ينطقوا لأن من نطق بما لا يفيد فكأنه لم ينطق ونظيره ما يقال لمن ذكر كلاماً غير مفيد ما قلت شيئاً وثانيها قال الفراء أراد بقوله يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ تلك الساعة وذلك القدر من الوقت الذي لا ينطقون فيه كما يقول آتيك يوم يقدم فلان والمعنى ساعة يقدم وليس المراد باليوم كله لأن القدوم إنما يكون في ساعة يسيرة ولا يمتد في كل اليوم وثالثها أن قوله لاَ يَنطِقُونَ لفظ مطلق والمطلق لا يفيد العموم لا في الأنواع ولا في الأوقات بدليل أنك تقول فلان لا ينطق بالشر ولكنه ينطق بالخير وتارة تقول فلان لا ينطق بشيء ألبتة وهذا يدل على أن مفهوم لا ينطق قدر مشترك بين أن لا ينطق ببعض الأشياء وبين أن لا ينطق بكل الأشياء وكذلك تقول فلان لا ينطق في هذه الساعة وتقول فلان لا ينطق ألبتة وهذا يدل على أن مفهوم لا ينطق مشترك بين الدائم والموقت وإذا كان كذلك فمفهوم لا ينطق يكفي في صدقه عدم النطق ببعض الأشياء وفي بعض الأوقات وذلك لا ينافي حصول النطق بشيء آخر في وقت آخر فيكفي في صدق قوله لاَ يَنطِقُونَ

أنهم لا ينطقون بعذر وعلة في وقت السؤال وهذا الذي ذكرناه إشارة إلى صحة الجوابين الأولين بحسب النظر العقلي فإن قيل لو حلف لا ينطق في هذا اليوم فنطق في جزء من أجزاء اليوم يحنث قلنا مبني الإيمان على العرف والذي ذكرناه بحث عن مفهوم اللفظ من حيث إنه هو ورابعها أن هذه الآية وردت عقيب قول خزنة جهنم لهم انطَلِقُواْ إِلَى ظِلّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ فينقادون ويذهبون فكأنه قيل إنهم كانوا يؤمرون في الدنيا بالطاعات فما كانوا يلتفتون أما في هذه الساعة ( فقد ) صاروا منقادين مطيعين في مثل هذا الكليف الذي هو أشق من كل شيء تنبيهاً على أنهم لو تركوا الخصومة في الدنيا لما احتاجوا في هذا الوقت إلى هذا الانقياد الشاق والحاصل أن قوله هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ متقيد بهذا الوقت في هذا العمل وتقييد المطلق بسبب مقدمة الكلام مشهور في العرف بدليل أن المرأة إذا قالت أخرج هذه الساعة من الدار فقال الزوج لو خرجت فأنت طالق فإنه يتقيد هذا المطلق بتلك الخرجة فكذا ههنا
السؤال الثاني قوله وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ يوهم أن لهم عذراً وقد منعوا من ذكره وهذا لا يليق بالحكيم والجواب أنه ليس لهم في الحقيقة عذر ولكن ربما تخيلوا خيالاً فاسداً أن لهم فيه عذراً فهم لا يؤذن لهم في ذلك ذكر العذر الفاسد ولعل ذلك العذر الفاسد هو أن يقول لما كان الكل بقضائك وعلمك ومشيئتك وخلقك فلم تعذبني عليه فإن هذا عذر فاسد إذ ليس لأحد أن يمنع المالك عن التصرف في ملكه كيف شاء وأراد فإن قيل أليس أنه قال رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وقال وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً والمقصود من كل ذلك أن لا يبقى في قلبه أن له عذراً فهب أن عذره في موقف القيامة فاسد فلم لا يؤذن له في ذكره حتى يذكره ثم بيبن له فساده قلنا لما تقدم الأعذار والإنذار في الدنيا بدليل قوله فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً كان إعادتها غير مفيدة
السؤال الثالث لم لم يقل ولا يؤذن لهم فيعتذرون كما قال لا يَقْضِى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ الجواب الفاء ههنا للنسق فقط ولا يفيد كونه جزاء ألبتة ومثله مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ بالرفع والنصب وإنما رفع يعتذرون بالعطف لأنه لو نصب لكان ذلك يوهم أنهم ما يعتذرون لأنهم لم يؤذنوا في الاعتذار وذلك يوهم أن لهم فيه عذراً منعوا عن ذكره وهو غير جائز أما لما رفع كان المعنى أنهم لم يؤذنوا في العذر وهم أيضاً لم يعتذروا لا لأجل عدم الإذن بل لأجل عدم العذر في نفسه ثم إن فيه فائدة أخرى وهي حصول الموافقة في رءوس الآيات لأن الآيات بالواو والنون ولو قيل فيعتذروا لم تتوافق الآيات ألا ترى أنه قال في سورة اقتربت الساعة إِلَى شَى ْء نُّكُرٍ فثقل لأن آياتها مثقلة وقال في موضع آخر وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً وأجمع القراء على تثقيل الأول وتخفيف الثاني ليوافق كل منهما ما قبله

هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالاٌّ وَّلِينَ فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن هذا هو النوع السابع من أنواع تهديد الكفار وهذا القسم من باب التعذيب بالتقريع والتخجيل فأما قوله هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ فاعلم أن ذلك اليوم يقع فيه نوعان من الحكومة أحدهما ما بين العبد والرب وفي هذا القسم كل ما يتعلق بالرب فلا حاجة فيه إلى الفصل وهو ما يتعلق بالثواب الذي يستحقه المرء على عمله وكذا في العقاب إنما يحتاج إلى الفصل فيما يتعلق بجانب العبد وهو أن تقرر عليهم أعمالهم التي عملوها حتى يعترفوا
والقسم الثاني ما يكون بين العباد بعضهم مع بعض فإن هذا يدعى على ذاك أنه ظلمني وذاك يدعى على هذا أنه قتلني فههنا لا بد فيه من الفصل وقوله جَمَعْنَاكُمْ وَالاْوَّلِينَ كلام موضح لقوله هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ لأنه لما كان هذا اليوم يوم فصل حكومات جميع المكلفين فلا بد من إحضار جميع المكلفين لا سيما عند من لا يجوز القضاء على الغائب ثم قال فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ يشير به إلى أنهم كانوا يدفعون الحقوق عن أنفسهم بضروب الحيل والكيد فكأنه قال فههنا إن أمكنكم أن تفعلوا مثل تلك الأفعال المنكرة من الكيد والمكر والخداع والتلبيس فافعلوا وهذا كقوله تعالى فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ثم إنهم يعلمون أن الحيل منقطعة والتلبيسات غير ممكنة فخطاب الله تعالى لهم في هذه الحالة بقوله فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ نهاية في التخجيل والتقريع وهذا من جنس العذاب الروحاني فلهذا قال عقيبة وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِي ئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن هذا هو النوع الثامن من أنواع تهديد الكفار وتعذيبهم وذلك لأن الخصومة الشديدة والنفرة العظيمة كانت في الدنيا قائمة بين الكفار والمؤمنين فصارت تلك النفرة بحيث أن الموت كان أسهل على الكافر من أن يرى للمؤمن دولة وقوة فلما بين الله تعالى في هذه السورة اجتماع أنواع العذاب والخزي والنكال على الكفار بين في هذه الآية اجتماع أنواع السعادة والكرامة في حق المؤمن حتى أن الكافر حال ما يرى نفسه في غاية الذل والهوان والخزي والخسران ويرى خصمه في نهاية العز والكرامة والرفعة والمنقبة تتضاعف حسرته وتتزايد غمومه وهمومه وهذا أيضاً من جنس العذاب الروحاني فلهذا قال في هذه الآية وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال مقاتل والكلبي المراد من قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ الذين يتقون الشرك بالله وأقول هذا القول عندي هو الصحيح الذي لا معدل عنه ويدل عليه وجوه أحدها أن المتقي عن الشرك يصدق عليه أنه متق لأن المتقي عن الشرك ماهية مركبة من قيدين أحدهما أنه متق والثاني خصوص كونه عن الشرك ومتى وجد المركب فقد وجد كل واحد من مفرداته لا محالة فثبت أن كل من صدق عليه أنه متق عن الشرك فقد صدق عليه أنه متق أقصى ما في الباب أن يقال هذه الآية على هذا التقدير تتناول كل من كان متقياً لأي شيء كان إلا أنا نقول كونه كذلك لا يقدح فيما قلناه لأنه خص كل من لم يكن متقياً عن جميع أنواع الكفر فيبقى فيما عداه حجة لأن العالم الذي دخل التخصيص يبقى حجة فيما عداه وثانيها أن

هذه السورة من أولها إلى آخرها مرتبة في تقريع الكفار على كفرهم وتخويفهم عليه فهذه الآية يجب أن تكون مذكورة لهذا الغرض وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها والنظم إنما يبقى لو كان هذا الوعد حاصلاً للمؤمنين بسبب إيمانهم لأنه لما تقدم وعيد الكافر بسبب كفره وجب أن يقرن ذلك بوعد المؤمن بسبب إيمانه حتى يصير ذلك سبباً في الزجر عن الكفر فأما أن يقرن به وعد المؤمن بسبب طاعته فذلك غير لائق بهذا النظم والترتيب فثبت بما ذكرنا أن المراد من قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ كل من كان متقياً عن الشرك والكفر وثالثها أن حمل اللفظ على المسمى الكامل أولى وأكمل أنواع التقوى هو التقوى عن الكفر والشرك فكان حمل اللفظ عليه أولى
المسألة الثانية أنه تعالى لما بعث الكفار إلى ظل ذي ثلاث شعب أعد في مقابلته للمؤمنين ثلاثة أنواع من النعمة أولها قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِلَالٍ وَعُيُونٍ كأنه قيل ظلالهم ما كانت ظليلة وما كانت مغنية عن اللهب والعطش أما المتقون فظلالهم ظليلة وفيها عيون عذبة مغنية لهم عن العطش وحاجزة بينهم وبين اللهب ومعهم الفواكه التي يشتهونها ويتمنونها ولما قال للكفار انطَلِقُواْ إِلَى ظِلّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ قال للمتقين كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً فإما أن يكون ذلك الإذن من جهة الله تعالى لا بواسطة وما أعظمها أو من جهة الملائكة على وجه الإكرام ومعنى هَنِيئَاً أي خالص اللذة لا يشوبه سقم ولا تنغيص
المسألة الثالثة اختلف العلماء في أن قوله كُلُواْ وَاشْرَبُواْ أمر أو إذن قال أبو هاشم هو أمر وأراد الله منهم الأكل والشرب لأن سرورهم يعظم بذلك وإذا علموا أن الله أراده منهم جزاء على عملهم فكما يزيد إجلالهم وإعظامهم بذلك فكذلك يريد نفس الأكل والشرب معهم وقال أبو علي ذلك ليس بأمر وإنما يريد بقوله على وجه الإكرام لأن الأمر والنهي إنما يحصلان في زمان التكليف وليس هذا صفة الآخرة
المسألة الرابعة تمسك من قال العمل يوجب الثواب بالباء في قوله بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وهذا ضعيف لأن الباء للإضافة ولما جعل الله تعالى ذلك العمل علامة لهذا الثواب كان الإتيان بذلك العمل كالآلة الموصلة إلى تحصيل ذلك الثواب وقوله إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ المقصود منه أن يذكر الكفار ما فاتهم من النعم العظيمة ليعلموا أنهم لو كانوا من المتقين المحسنين لفازوا بمثل تلك الخيرات وإذا لم يفعلوا ذلك لا جرم وقعوا فيما وقعوا فيه
كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن هذا هو النوع التاسع من أنواع تخويف الكفار كأنه تعالى يقول للكافر حال كونه في الدنيا إنك إنما عرضت نفسك لهذه الآفات التي وصفناها ولهذه المحن التي شرحناها لأجل حبك للدنيا ورغبتك في طيباتها وشهواتها إلا أن هذه الطيبات قليلة بالنسبة إلى تلك الآفات العظيمة والمشتغل بتحصيلها يجري مجرى لقمة واحدة من الحلواء وفيها السم المهلك فإنه يقال لمن يريد أكلها ولا يتركها بسبب نصيحة

الناصحين وتذكير المذكرين كل هذا وويل لك منه بعد هذا فإنك من الهالكين بسببه وهذا وإن كان في اللفظ أمراً إلا أنه في المعنى نهي بليغ وزجر عظيم ومنع في غاية المبالغة
ثم قال تعالى
وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن هذا هو النوع العاشر من أنواع تخويف الكفار كأنه قيل لهم هب أنكم تحبون الدنيا ولذاتها ولكن لا تعرضوا بالكلية عن خدمة خالقكم بل تواضعوا له فإنكم إن آمنتم ثم ضممتم إليه طلب اللذات وأنواع المعاصي حصل لكم رجاء الخلاص عن عذاب جهنم والفوز بالثواب كما قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ثم إن هؤلاء الكفار لا يفعلوا ذلك ولا ينقادون لطاعته ويبقون مصرين على جهلهم وكفرهم وتعريضهم أنفسهم للعقاب العظيم فلهذا قال وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ أي الويل لمن يكذب هؤلاء الأنبياء الذين يرشدونهم إلى هذه المصالح الجامعة بين خيرات الدنيا والآخرة وههنا مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما قوله وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ المراد به الصلاة وهذا ظاهر لأن الركوع من أركانها فبين تعالى أن هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع وأنهم حال كفرهم كما يستحقون الذم والعقاب بترك الإيمان فكذلك يستحقون الذم والعقاب بترك الصلاة لأن الله تعالى ذمهم حال كفرهم على ترك الصلاة وقال قوم آخرون المراد بالركوع الخضوع والخشوع لله تعالى وأن لا يعبد سواه
المسألة الثانية القائلون بأن الأمر للوجوب استدلوا بهذه الآية لأنه تعالى ذمهم بمجرد ترك المأمور به وهذا يدل على أن مجرد الأمر للوجوب فإن قيل إنهم كفار فلكفرهم ذمهم قلنا إنه تعالى ذمهم على كفرهم من وجوه كثيرة إلا أنه تعالى إنما ذمهم في هذه الآية لأنهم تركوا المأمور به فعلمنا أن ترك المأمور به غير جائز
فَبِأَى ِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في زجر الكفار من أول هذه السورة إلى آخرها بالوجوه العشرة التي شرحناها وحث على التمسك بالنظر والاستدلال والانقياد للدين الحق ختم السورة بالتعجب من الكفار وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل اللطيفة مع تجليها ووضوحها فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ قال القاضي هذه الآية تدل على أن القرآن محدث لأنه تعالى وصفه بأنه حديث والحديث ضد القديم والضدان لا يجتمعان فإذا كان حديثاً وجب أن لا يكون قديماً وأجاب الأصحاب أن المراد منه هذه الألفاظ ولا نزاغ في أنها محدثة والله تعالى أعلم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله أجمعين

بداية الجزء الحادى والثلاثين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

سورة النبأ
أربعون آية مكية
عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى عَمَّ أصله حرف جر دخل ما الاستفهامية قال حسان رحمه الله تعالى على ما قام يشتمني لئيم
كخنزير تمرغ في رماد
والاستعمال الكثير على الحذف والأصل قليل ذكروا في سبب الحذف وجوهاً أحدها قال الزجاج لأن الميم تشرك الغنة في الألف فصارا كالحرفين المتماثلين وثانيها قال الجرجاني إنهم إذا وصفوا ما في استفهام حذفوا ألفها تفرقة بينها وبين أن تكون اسماً كقولهم فيم وبم ولم وعلام وحتام وثالثها قالوا حذفت الألف لاتصال ما بحرف الجر حتى صارت كجزء منه لتنبىء عن شدة الاتصال ورابعها السبب في هذا الحذف التخفيف في الكلام فإنه لفظ كثير التداول على اللسان
المسألة الثانية قوله عَمَّ يَتَسَاءلُونَ أنه سؤال وقوله عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ جواب السائل والمجيب هو الله تعالى وذلك يدل على علمه بالغيب بل بجميع المعلومات فإن قيل ما الفائدة في أن يذكر الجواب معه قلنا لأن إيراد الكلام في معرض السؤال والجواب أقرب إلى التفهيم والإيضاح ونظيره لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ( غافر 16 )
المسألة الثالثة قرأ عكرمة وعيسى بن عمر ( عما ) وهو الأصل وعن ابن كثير أنه قرأ عمه بهاء السكت ولا يخلو إما أن يجري الوصل مجرى الوقف وإما أن يقف ويبتدىء ب يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ على أن يضمر يتساءلون لأن ما بعده يفسره كشيء مبهم ثم يفسره

المسألة الرابعة ( ما ) لفظة وضعت لطلب ماهيات الأشياء وحقائقها تقول ما الملك وما الروح وما الجن والمراد طلب ماهياتها وشرح حقائقها وذلك يقتضي كون ذلك المطلوب مجهولاً ثم إن الشيء العظيم الذي يكون لعظمه وتفاقم مرتبته ويعجز العقل عن أن يحيط بكنهه يبقى مجهولاً فحصل بين الشيء المطلوب بلفظ ما وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه والمشابهة إحدى أسباب المجاز فبهذا الطريق جعل مَا دليلاً على عظمة حال ذلك المطلوب وعلو رتبته ومنه قوله تعالى وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ ( المطففين 8 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة ُ ( البلد 12 ) وتقوو زيد وما زيد
المسألة الخامسة التساؤل هو أن يسأل بعضهم بعضاً كالتقابل وقد يستعمل أيضاً في أن يتحدثوا به وإن لم يكن من بعضهم لبعض سؤال قال تعالى وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ( الطور 25 ) قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ يِقُولُ أَءنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدّقِينَ ( الصافات 52 51 ) فهذا يدل على معنى التحدث فيكون معنى الكلام عم يتحدثون وهذا قول الفراء
المسألة السادسة أولئك الذين كانوا يتساءلون من هم فيه احتمالات الاحتمال الأول أنهم هم الكفار والدليل عليه قوله تعالى كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ( النبأ 5 4 ) الضمير في يتساءلون وهم فيه مختلفون وسيعلمون راجع إلى شيء واحد وقوله كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ تهديد والتهديد لا يليق إلا بالكفار فثبت أن الضمير في قوله يَتَسَاءلُونَ عائد إلى الكفار فإن قيل فما تصنع بقوله هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ مع أن الكفار كانوا متفقين في إنكار الحشر قلنا لا نسلم أنهم كانوا متفقين في إنكار الحشر وذلك لأن منهم من كان يثبت المعاد الروحاني وهم جمهور النصارى وأما المعاد الجسماني فمنهم من كان شاكاً فيه كقوله وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ( فصلت 50 ) ومنهم من أصر على الإنكار ويقول إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ( المؤمنون 37 ) ومنهم من كان مقرّاً به لكنه كان منكراً لنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقد حصل اختلافهم فيه وأيضاً هب أنهم كانوا منكرين له لكن لعلهم اختلفوا في كيفية إنكاره فمنهم من كان ينكره لأنه كان ينكر الصانع المختار ومنهم من كان ينكره لاعتقاده أن إعادة المعدوم ممتنعة لذاتها والقادر المختار إنما يكون قادراً على ما يكون ممكناً في نفسه وهذا هو المراد بقوله هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ
والاحتمال الثاني أن الذين كانوا يتساءلون هم الكفار والمؤمنون وكانوا جميعاً يتساءلون عنه أما المسلم فليزداد بصيرة ويقيناً في دينه وأما الكافر فعلى سبيل السخرية أو على سبيل إيراد الشكوك والشبهات
والاحتمال الثالث أنهم كانوا يسألون الرسول ويقولون ما هذا الذي تعدنا به من أمر الآخرة
أما قوله تعالى عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكر المفسرون في تفسير النبأ العظيم ثلاثة أوجه أحدها أنه هو القيامة وهذا هو الأقرب ويدل عليه وجوه أحدها قوله سَيَعْلَمُونَ والظاهر أن المراد منه أنهم سيعلمون هذا الذي يتساءلون عنه حين لا تنفعهم تلك المعرفة ومعلوم أن ذلك هو القيامة وثانيها أنه تعالى بين كونه قادراً على جميع الممكنات بقوله أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَاداً إلى قوله يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ ( طه 102 )

وذلك يقتضي أنه تعالى إنما قدم هذه المقدمة لبيان كونه تعالى قادراً على إقامة القيامة ولما كان الذي أثبته الله تعالى بالدليل العقلي في هذه السورة هو هذه المسألة ثبت أن النبأ العظيم الذي كانوا يتساءلون عنه هو يوم القيامة وثالثها أن العظيم اسم لهذا اليوم بدليل قوله أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( المطففين 6 4 ) وقوله قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ( ص 68 67 ) ولأن هذا اليوم أعظم الأشياء لأن ذلك منتهى فزع الخلق وخوفهم منه فكان تخصيص اسم العظيم به لائقاً والقول الثاني إِنَّهُ لَقُرْءانٌ ( الواقعة 77 ) واحتج القائلون بهذا الوجه بأمرين الأول أن النبأ العظيم هو الذي كانوا يختلفون فيه وذلك هو القرآن لأن بعضهم جعله سحراً وبعضهم شعراً وبعضهم قال إنه أساطير الأولين فأما البعث ونبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقد كانوا متفقين على إنكارهما وهذا ضعيف لأنا بينا أن الاختلاف كان حاصلاً في البعث الثاني أن النبأ اسم الخبر لا اسم المخبر عنه فتفسير النبأ بالقرآن أولى من تفسيره بالبعث أو النبوة لأن ذلك في نفسه ليس بنبأ بل منبأ عنه ويقوى ذلك أن القرآن سمي ذكراً وتذكرة وذكرى وهداية وحديثاً فكان اسم النبأ به أليق منه بالبعث والنبوة والجواب عنه أنه إذا كان اسم النبأ أليق بهذه الألفاظ فاسم العظيم أليق بالقيامة وبالنبوة لأنه لا عظمة في الألفاظ إنما العظمة في المعاني وللأولين أن يقولوا إنها عظيمة أيضاً في الفصاحة والاحتواء على العلوم الكثيرة ويمكن أن يجاب أن العظيم حقيقة في الأجسام مجاز في غيرها وإذا ثبت التعارض بقي ما ذكرنا من الدلائل سليماً القول الثالث أن النبأ العظيم هو نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا وذلك لأنه لما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام جعلوا يتساءلون بينهم ماذا الذي حدث فأنزل الله تعالى عَمَّا يَتَسَاءلُونَ وذلك لأنهم عجبوا من إرسال الله محمداً عليه الصلاة والسلام إليهم كما قال تعالى بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ ( ق 2 ) وعجبوا أيضاً أن جاءهم بالتوحيد كما قال أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ ( ص 5 ) فحكى الله تعالى عنهم مساءلة بعضهم بعضاً على سبيل التعجب بقوله عَمَّ يَتَسَاءلُونَ
المسألة الثانية في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه أحدها وهو قول البصريين أن قوله عَمَّ يَتَسَاءلُونَ كلام تام ثم قال عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ والتقدير يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ إلا أنه حذف يتساءلون في الآية الثانية لأن حصوله في الآية الأولى يدل عليه وثانيها أن يكون قوله عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ استفهاماً متصلاً بما قبله والتقدير عم يتساءلون أعن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون إلا أنه اقتصر على ما قبله من الاستفهام إذ هو متصل به وكالترجمة والبيان له كما قرىء في قوله أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( الصافات 16 ) بكسر الألف من غير استفهام لأن إنكارهم إنما كان للبعث ولكنه لما ظهر الاستفهام في أول الكلام اقتصر عليه فكذا ههنا وثالثها وهو اختيار الكوفيين أن الآية الثانية متصلة بالأولى على تقدير لأي شيء يتساءلون عن النبأ العظيم وعم كأنها في المعنى لأي شيء وهذا قول الفراء
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
قال القفال كلا لفظة وضعت لرد شيء قد تقدم هذا هو الأظهر منها في الكلام والمعنى ليس الأمر كما يقوله هؤلاء في النبأ العظيم إنه باطل أو إنه لا يكون

وقال قائلون كلا معناه حقاً ثم إنه تعالى قرر ذلك الردع والتهديد فقال كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ وهو وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون أن ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا دافع له واقع لا ريب فيه وأما تكرير الردع ففيه وجهان الأول أن الغرض من التكرير التأكيد والتشديد ومعنى ثم الإشعار بأن الوعيد الثاني أبلغ من الوعيد الأول وأشد والثاني أن ذلك ليس بتكرير ثم ذكروا وجوهاً أحدها قال الضحاك الآية الأولى للكفار والثانية للمؤمنين أي سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم وثانيها قال القاضي ويحتمل أن يريد بالأول سيعلمون نفس الحشر والمحاسبة ويريد بالثاني سيعلمون نفس العذاب إذا شاهدوه وثالثها كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ما الله فاعل بهم يوم القيامة ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ أن الأمر ليس كما كانوا يتوهمون من أن الله غير باعث لهم ورابعها كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ما يصل إليهم من العذاب في الدنيا وكما جرى على كفار قريش يوم بدر ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ بما ينالهم في الآخرة
المسألة الثالثة جمهور القراء قرأوا بالياء المنقطة من تحت في ( سيعلمن ) وروي بالتاء المنقطة من فوق عن ابن عامر قال الواحدي والأول أولى لأن ما تقدم من قوله هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ( النبأ 3 ) على لفظ الغيبة والتاء على قل لهم ستعلمون وأقول يمكن أن يكون ذلك على سبيل الالتفات وهو ههنا متمكن حسن كمن يقول إن عبدي يقول كذا وكذا ثم يقول لعبده إنك ستعرف وبال هذا الكلام
أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم إنكار البعث والحشر وأراد إقامة الدلالة على صحة الحشر قدم لذلك مقدمة في بيان كونه تعالى قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات وذلك لأنه مهما ثبت هذان الأصلان ثبت القول بصحة البعث وإنما أثبت هذين الأصلين بأن عدد أنواعاً من مخلوقاته الواقعة على وجه الإحكام والإتقان فإن تلك الأشياء من جهة حدوثها تدل على القدرة ومن جهة إحكامها وإتقانها تدل على العلم ومتى ثبت هذان الأصلان وثبت أن الأجسام متساوية في قبول الصفات والأعراض ثبت لا محالة كونه تعالى قادراً على تخريب الدنيا بسمواتها وكواكبها وأرضها وعلى إيجاد عالم الآخرة فهذا هو الإشارة إلى كيفية النظم
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا من عجائب مخلوقاته أموراً فأولها قوله أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَاداً والمهاد مصدر ثم ههنا احتمالات أحدها المراد منه ههنا الممهود أي ألم نجعل الأرض ممهودة وهذا من باب تسمية المفعول بالمصدر كقولك هذا ضرب الأمير وثانيها أن تكون الأرض وصفت بهذا المصدر كما تقول زيد جود وكرم وفضل كأنه لكماله في تلك الصفة صارعين تلك الصفة وثالثها أن تكون بمعنى ذات مهاد وقرىء مهداً ومعناه أن الأرض للخلق كالمهد للصبي وهو الذي مهد له فينوم عليه
واعلم أنا ذكرنا في تفسير سورة البقرة عند قوله جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً ( البقرة 22 ) كل ما يتعلق من الحقائق بهذه الآية
وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً
وثانيها قوله تعالى وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً أي للأرض ( كي ) لا تميد بأهلها فيكمل كون الأرض مهاداً

بسبب ذلك قد تقدم أيضاً
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً
وثالثها قوله تعالى وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْواجاً وفيه قولان الأول المراد الذكر والأنثى كما قال وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( النجم 45 ) والثاني أن المراد منه كل زوجين و ( كل ) متقابلين من القبيح والحسن والطويل والقصير وجميع المتقابلات والأضداد كما قال وَمِن كُلّ شَى ْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( الذاريات 49 ) وهذا دليل ظاهر على كمال القدرة ونهاية الحكمة حتى يصح الابتلاء والامتحان فيتعبد الفاضل بالشكر والمفضول بالصبر ويتعرف حقيقة كل شيء بضده فالإنسان إنما يعرف قدر الشباب عند الشيب وإنما يعرف قدر الأمن عند الخوف فيكون ذلك أبلغ في تعريف النعم
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً
ورابعها قوله تعالى وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً طعن بعض الملاحدة في هذه الآية فقالوا السبات هو النوم والمعنى وجعلنا نومكم نوماً واعلم أن العلماء ذكروا في التأويل وجوهاً أولها قال الزجاج سُبَاتاً موتاً والمسبوت الميت من السبت وهو القطع لأنه مقطوع عن الحركة ودليله أمران أحداهما قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ ( الأنعام 60 ) إلى قوله ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ ( الأنعام 60 ) والثاني أنه لما جعل النوم موتاً جعل اليقظة معاشاً أي حياة في قوله وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ( النبأ 11 ) وهذا القول عندي ضعيف لأن الأشياء المذكورة في هذه الآية جلائل النعم فلا يليق الموت بهذا المكان وأيضاً ليس المراد بكونه موتاً أن الروح انقطع عن البدن بل المراد منه انقطاع أثر الحواس الظاهرة وهذا هو النوم ويصير حاصل الكلام إلى إنا جعلنا نومكم نوماً وثانيها قال الليث السبات النوم شبه الغشي يقال سبت المريض فهو مسبوت وقال أبو عبيدة السبات الغشية التي تغشى الإنسان شبه الموت وهذا القول أيضاً ضعيف لأن الغشي ههنا إن كان النوم فيعود الإشكال وإن كان المراد بالسبات شدة ذلك الغشي فهو باطل لأنه ليس كل نوم كذلك ولأنه مرض فلا يمكن ذكره في أثناء تعديد النعم وثالثها أن السبت في أصل اللغة هو القطع يقال سبت الرجل رأسه يسبته سبتاً إذا حلق شعره وقال ابن الأعرابي في قوله سُبَاتاً أي قطعاً ثم عند هذا يحتمل وجوهاً الأول أن يكون المعنى وجعلنا نومكم نوماً متقطعاً لا دائماً فإن النوم بمقدار الحاجة من أنفع الأشياء أما دوامه فمن أضر الأشياء فلما كان انقطاعه نعمة عظيمة لا جرم ذكره الله تعالى في معرض الإنعام الثاني أن الإنسان إذا تعب ثم نام فذلك النوم يزيل عنه ذلك التعب فسميت تلك الإزالة سبتاً وقطعاً وهذا هو المراد من قول ابن قتيبة وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً أي راحة وليس غرضه منه أن السبات اسم للراحة بل المقصود أن النوم يقطع التعب ويزيله فحينئذ تحصل الراحة الثالث قال المبرد وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً أي جعلناه نوماً خفيفاً يمكنكم دفعه وقطعه تقول العرب رجل مسبوت إذا كان النوم يغالبه وهو يدافعه كأنه قيل وجعلنا نومكن نوماً لطيفاً يمكنكم دفعه وما جعلناه غشياً مستولياً عليكم فإن ذلك من الأمراض الشديدة وهذه الوجوه كلها صحيحة
وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً
وخامسها قوله تعالى وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً قال القفال أصل اللباس هو الشيء الذي يلبسه الإنسان ويتغطى به فيكون ذلك مغطياً له فلما كان الليل يغشى الناس بظلمته فيغطيهم جعل لباساً لهم

وهذا السبت سمي الليل لباساً على وجه المجاز والمراد كون الليل ساتراً لهم وأما وجه النعمة في ذلك فهو أن ظلامة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هرباً من عدو أو بياتاً له أو إخفاء مالا يحب الإنسان إطلاع غيره عليه قال المتنبي وكم لظلام الليل عندي من يد
تخبر أن المانوية تكذب
وأيضاً فكما أن الإنسان بسبب اللباس يزداد جماله وتتكامل قوته ويندفع عنه أذى الحر والبرد فكذا لباس الليل بسبب ما يحصل فيه من النوم يزيد في جمال الإنسان وفي طراوة أعضائه وفي تكامل قواه الحسية والحركية ويندفع عنه أذى التعب الجسماني وأذى الأفكار الموحشة النفسانية فإن المريض إذا نام بالليل وجد الخفة العظيمة
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً
وسادسها قوله تعالى وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً في المعاش وجهان أحدهما أنه مصدر يقال عاش يعيش عيشاً ومعاشاً ومعيشة وعيشة وعلى هذا التقدير فلا بد فيه من إضمار والمعنى وجعلنا النهار وقت معاش والثاني أن يكون معاشاً مفعلاً وظرفاً للتعيش وعلى هذا لا حاجة إلى الإضمار ومعنى كون النهار معاشاً أن الخلق إنما يمكنهم التقلب في حوائجهم ومكاسبهم في النهار لا في الليل
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً
وسابعها قوله تعالى وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً أي سبع سموات شداداً جمع شديدة يعني محكمة قوية الخلق لا يؤثر فيها مرور الزمان لا فطور فيها ولا فروج ونظيره وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً ( الأنبياء 32 ) فإن قيل لفظ البناء يستعمل في أسافل البيت والسقف في أعلاه فكيف قال وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً قلنا البناء يكون أبعد من الآفة والانحلال من السقف فذكر قوله وَبَنَيْنَا إشارة إلى أنه وإن كان سقفاً لكنه في البعد عن الانحلال كالبناء فالغرض من اختيار هذا اللفظ هذه الدقيقة
وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِّلطَّاغِينَ مَأاباً لَّابِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزَآءً وِفَاقاً
وثامنها قوله تعالى وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً كلام أهل اللغة مضطرب في تفسير الوهاج فمنهم من قال الوهج مجمع النور والحرارة فبين الله تعالى أن الشمس بالغة إلى أقصى الغايات في هذين الوصفين وهو المراد بكونها وهاجاً وروى الكلبي عن ابن عباس أن الوهاج مبالغة في النور فقط يقال للجوهر إذا تلألأ توهج وهذا يدل على أن الوهاج يفيد الكمال في النور ومنه قول الشاعر يصف النور
نوارها متباهج يتوهج وفي كتاب الخليل الوهج حر النار والشمس وهذا يقتضي أن الوهاج هو البالغ في الحر واعلم أن أي هذه الوجود إذا ثبت فالمقصود حاصل
وتاسعها قوله وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا أما المعصرات ففيها قولان الأول وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس وقول مجاهد ومقاتل والكلبي وقتادة إنها الرياح التي تثير السحاب ودليله قوله تعالى الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا الروم 48 فإن قيل على هذا التأويل كان ينبغي أن يقال وأنزلنا بالمعصرات قلنا الجواب من وجهين الأول أن المطر إنما ينزل من السحاب والسحاب إنما

يثيره الرياح فصح أن يقال هذا المطر إنما حصل من تلك الرياح كما يقال هذا من فلان أي من جهته وبسببه والثاني أن من ههنا بمعنى الباء والتقدير وأنزلنا بالمعصرات أي بالرياح المثيرة للسحاب ويروى عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعكرمة أنهم قرأوا وأنزلنا بالمعصرات وطعن الأزهري في هذا القول وقال الأعاصير من الرياح ليست من رياح المطر وقد وصف الله تعالى المعصرات بالماء الثجاج وجوابه إن الإعصار ليست من رياح المطر فلم لا يجوز أن تكون المعصرات من رياح المطر القول الثاني وهو الرواية الثانية عن ابن عباس واختيار أبي العالية والربيع والضحاك أنها السحاب وذكروا في تسمية السحاب بالمعصرات وجوها أحدها قال المؤرج المعصرات السحائب بلغة قريش وثانيها قال المازني يجوز أن تكون المعصرات هي السحائب ذوات الأعاصير فغن السحائب إذا عصرتها الأعاصير لا بد وأن ينزل المطر منها وثالثها أن المعصرات هي السحائب التي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر كقولك أجز الزرع إذا حان له أن يجز ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض وأما الثجاج فاعلم أن الثج شدة الانصباب يقال مطر ثجاج ودم ثجاج أي شديد الانصباب
واعلم أن الثج قد يكون لازما وهو بمعنى الانصباب كما ذكرنا وقد يكون متعديا بمعنى الصب وفي الحديث { أفضل الحج العج والثج } أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي وكان ابن عباس مثجا أي يثج الكلام ثجا في خطبته وقد فسروا الثجاج في هذه الآية على الوجهين وقال الكلبي ومقاتل وقتادة الثجاج ههنا المتدفق المنصب وقال الزجاج معناه الصباب كأنه يثج نفسه أي يصب وبالجملة فالمراد تتابع القطر حتى يكثر الماء فيعظم النفع به
قوله تعالى لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا في الآية مسائل
المسألة الأولى كل شيء نبت من الأرض فإما أن لا يكون له ساق وإما أن يكون فإن لم يكن له ساق فإما أن يكون له أكمام وهو الحب وإما أن لا يكون له أكمام وهو الحشيش وهو المراد هنا بقوله نباتا وإلى هذين القسمين الإشارة بقوله تعالى كلوا وارعوا أنعامكم طه 54 وأما الذي له ساق فهو الشجر فإذا اجتمع منها شيء كثير سميت جنة فثبت بالدليل العقلي انحصار ما ينبت في الأرض في هذه الأقسام الثلاثة وإنما قدم الله تعالى الحب لأنه هو الأصل في الغذاء وإنما ثنى بالنبات لاحتياج سائر الحيوانات إليه وإنما أخر الجنات في الذكر لأن الحاجة إلى الفواكه ليست ضرورية
المسألة الثانية اختلفوا في ألفافا فذكر صاحب الكشاف أنه لا واحد له كالأوزاع والأخياف والأوزاع الجماعات المتفرقة والأخياف الجماعات المختلطة وكثير من اللغويين أثبتوا له واحدا ثم اختلفوا فيه فقال الأخفش والكسائي واحدها لف بالكسر وزاد الكسائي لف بالضم وأنكر المبرد الضم وقال بل واحدها لفاء وجمعها لف وجمع لف ألفاف وقيل يحتمل أن يكون جمع لفيف كشريف وأشرف نقله القفال رحمه الله إذا عرفت هذا فنقول قوله وجنات ألفافا أي ملتفة والمعنى أن كل جنة فإن ما فيها من الشجر تكون مجتمعة متقاربة ألا تراهم يقولون امرأة لفاء إذا كانت غليظة الساق مجتمعة اللحم يبلغ من

تقاربه أن يتلاصق
المسألة الثالثة كان الكعبي من القائلين بالطبائع فاحتج بقوله تعالى لنخرج به حبا ونباتا وقال إنه يدل على بطلان قول من قال إن الله تعالى لا يفعل شيئا بواسطة شيء آخر
قوله تعالى إن يوم الفصل كان ميقاتا
اعلم أن التسعة التي عددها الله تعالى نظرا إلى حدوثها في ذواتها وصفاتها ونظرا إلى إمكانها في ذواتها وصفاتها تدل على القادر المختار ونظرا إلى ما فيها من الأحكام والإتقان تدل على أن فاعلها عالم ثم إن ذلك الفاعل القديم يجب أن يكون علمه وقدرته واجبين إذ لو كانا جائزين لافتقر إلى فاعل آخر ويلزم التسلسل وهو محال وإذا كان العلم والقدرة واجبين وجب أن يكون قادرا على جميع الممكنات عالما بجميع المعلومات وقد ثبت الإمكان وثبت عموم القدرة في الجسمية فكل ما صح على واحد منها صح على الآخر فكما يصح على الأجسام السلفية الانشقاق والانفطار والظلمة وجب أن يصح ذلك على الأجسام وإذا ثبت الإمكان وثبت عموم القدرة والعلم ثبت أنه تعالى قادر على تخريب الدنيا وقادر على إيجاد عالم آخر وعند ذلك ثبت أن القول بقيام القيامة ممكن عقلا وإلى ههنا يمكن إثباته بالعقل فأما ما وراء ذلك من وقت حدوثها وكيفية حدوثها فلا سبيل إليه إلا بالسمع ثم إنه تعالى تكلم في هذه الأشياء بقوله إن يوم الفصل كان ميقاتا ثم إنه تعالى ذكر بعض أحوال القيامة فأولها قوله إن يوم الفصل كان ميقاتا والمعنى أن هذا اليوم كان في تقدير الله وحكمه حدا تؤقت به الدنيا أو حدا للخلائق ينتهون إليه أو كان ميقاتا لما وعد الله من الثواب والعقاب أو كان ميقاتا لاجتماع كل الخلائق في فصل الحكومات وقطع الخصومات
وثانيهاك قوله تعالى يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا
اعلم أن يوم تنفخ بدل من يوم الفصل أو عطف بيان وهذا النفخ هو النفخة الأخيرة التي عندها يكون الحشر والنفخ في الصور فيه قولان أحدهما أن الصور جمع الصورة فالنفخ في الصورة عبارة عن نفخ الأرواح في الأجساد والثاني أن الصورة عبارة عن قرن ينفخ فيه وتمام الكلام في الصور وما قيل فيه قد تقدم في سورة الزمر وقوله فتأتون أفواجا معناه أنهم يأتون ذلك المقام فوجا فوجا حتى يتكامل اجتماعهم قال عطاء كل نبي يأتي مع أمته ونظيره قوله تعالى يوم ندعوا كل أناس بإمامهم الإسراء 71 وقيل جماعات مختلفة وروى صاحب الكشاف عن معاذ أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنه فقال عليه السلام { يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ، ثم أرسل عينيه وقال : يحشر عشرة أصناف من أمتي بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عمي ، وبعضهم صم بكم ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على

جذوع من نار وبعضهم أشد نتنا من الجيف وبعضهم ملبسون جبالا سابغة من قطران لازقة بجلودهم فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا وأما العمي فالذين يجورون في الحكم وأما الصم والبكم فالمعجبون بأعمالهم وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم أعمالهم وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران وأما المصلبون على جذوع من النار فالسعاة بالناس إلى السلطان وأما الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله تعالى من أموالهم وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء
وثالثها قوله تعالى وفتحت السماء فكانت أبوابا
قرأ عاصم وحمزة والكسائي فتحت خفيفة والباقون بالتثقيل والمعنى كثرت أبوابها المنفتحة لنزول الملائكة قال القاضي وهذا الفتح هو المعنى قوله إذا السماء انشقت الانشقاق 1 وإذا السماء انفطرت الأنفطار 1 إذ الفتح والتشقق والتفطر تتقارب وأقول هذا ليس بقوي لأن المفهوم من فتح الباب غير المفهوم من التشقق والتفطر فربما كانت السماء أبوابا ثم تفتح تلك الأبواب مع أنه لا يحصل في جرم السماء تشقق ولا تفطر بل الدلائل السمعية دلت على أن عند حصول فتح هذه الأبواب يحصل التشقق والتفطر والفناء بالكلية فإن قيل قوله وفتحت السماء فكانت أبوابا يفيد أن السماء بكليتها تصير ابوابا فكيف يعقلق ذلك قلنا فيه وجوه أحدها أن تلك الأبواب لما كثرت جدا صارت كأنها ليست إلا أبوابا منفتحة كقوله وفجرنا الأرض عيونا القمر 12 أي كأن كلها صارت عيونا تتفجر وثانيها قال الواحدي هذا من باب تقدير حذف المضاف والتقدير فكانت ذات أبواب وثالثها أن الضمير في قوله فكنت أبوابا عائد إلى مضمر والتقدير فكانت تلك المواضع المفتوحة أبوابا لنزول الملائكة كما قال تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا الفجر 22
ورابعها قوله تعالى وسيرت الجبال فكانت سرابا
اعلم أن الله تعالى ذكر في مواضع من كتابه أحوال هذه الجبال على وجوه مختلفة ويمكن الجمع بينها على الوجه الذي نقوله وهو أن أول أحوالها الاندكاك وهو قوله وحملت الأرض والجبال فدكتاب دكة واحدة الحاقة 14
والحالة الثانية لها أن تصير كالعهن المنفوش القارعة 5 وذكر الله تعالى ذلك في قوله يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش القارعة 5 وقوله يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن المعارج 9
الحالة الثالثة أن تصير كالهباء وذلك أن تتقطع وتتبدد بعد أن كانت كالعهن وهو قوله إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء مبثا لاواقعة 4

الحالة الرابعة أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها بإرسال الرياح عليها وهو المراد من قوله فقل ينسفها ربي نسفا طه 105
والحالة الخامسة أن الرياح ترفعها عن وجه الأرض فتطيرها شعاعا في الهواء كأنها غبار فمن نظر إليها من بعد حسبها لتكاثفها أجساما جامدة وهي في الحقيقة مارة إلا أن مرورها بسبب مرور الرياح بها صيرها منكدة متفتتة وهي قوله تمر مر السحاب النمل 88 ثم بين أن تلك الحركة حصلت بقهره وتسخيره فقال ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة الكهف 47
الحالة السادسة أن تصير سرابا بمعنى لا شيء فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئا كما أن من يرى السراب من بعد إذا جاء الموضع الذي كان يراه فيه لم يجده شيئا والله أعلم
واعلم أن الأحوال المذكورة إلى ههنا هي أحوال عامة ومن ههنا يصف أهوال جهنم وأحوالها
فأولها قوله تعالى إن جهنم كانت مرصادا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن يعمر أن جهنم بفتح الهمزة على تعليل قيام الساعة بأن جهنم كانت مرصادا للطاغين كأنه قيل كان كذلك لإقامة الجزاء
المسألة الثانية كانت مرصادا أي في علم الله تعالى وقيل صارت وهذان القولان نقلهما القفال رحمه الله تعالى وفيه وجه ثالث ذكره القاضي فإنا إذا فسرنا المرصاد بالمرتقب أفاد ذلك أن جهنم كانت كالمنتظرة لقدومهم من قديم الزمان وكالمستدعية والطالبة لهم
المسألة الثالثة في المرصاد قولان أحدهما أن المرصاد اسم للمكان الذي يرصد فيه كالمضمار اسم للمكان الذي يضمر فيه الخيل والمنهاج اسم للمكان الذي ينهج فيه وعلى هذا الوجه فيه احتمالان أحدهما أن خزنة جهنم يرصدون الكفار والثاني أن مجاز المؤمنين وممرهم كان على جهنم لقوله وإن منكم إلا واردها مريم 71 فخزنة الجنة يستقبلون المؤمنين عند جهنم ويرصدونهم عندها
القول الثاني أن المرصاد مفعال من الرصد وهو الترقب بمعنى أن ذلك يكثر منه والمفعال من أبنية المبالغة كالمنظار والمعمار والمطعان قيل إنها ترصد أعداء الله وتشق عليهم كما قال تعالى تكاد تميز من الغيظ الملك 8 قيل ترصد كل كافر ومنافق والقائلون بالقول الأول استدلوا على صحة قولهم بقوله تعالى إن ربك لبالمرصاد الفجر 14 ولو كان المرصاد نعتا لوجب أن يقال إن ربك لمرصاد
المسالة الرابعة دلت الاية على أن جهنم كانت مخلوقة لقوله تعالى إن جهنم كانت مرصادا أي معدة وإذا كان كذلك كانت الجنة أيضا كذلك لأنه لا قائل بالفرق

وثانيها قوله للطاغين مآبا وفيه وجهان إن قلنا إنه مرصاد فقط كان قوله للطاغين من تمام ما قبله والتقدير إن جهنم كانت مرصادا للطاغين ثم قوله مآبا بدل من قوله مرصادا وإن قلنا بأنها كانت مرصادا مطلقا للكفار وللمؤمنين كان قوله إن جهنم كانت مرصادا كلاما تاما وقوله للطاغين مآبا كلام مبتدأ كأنه قيل إن جهنم مرصاد للكل ومآب للطاغين خاصة ومن ذهب إلى القول الأول لم يقف على قوله مرصادا أما من ذهب إلى القول الثاني وقف عليه ثم يقول المراد بالطاغين من تكبر على ربه وطغى في مخالفته ومعارضته وقوله مآبا أي مصيرا ومقرا
وثالثها قوله لابثين فيها أحقابا اعلم أنه تعالى لما بين أن جهنم مآب للطاغين وبين كمية استقرارهم هناك فقال لابثين فيها أحقابا وههنا مسائل
المسألة الأولى قرأ الجمهور لابثين وقرأ حمزة لبثين وفيه وجهان قال الفراء هما بمعنى واحد يقال لابث ولبث مثل طامع وطمع وفاره وفره وهو كثير وقال صاحب الكشاف واللبث أقوى لأن اللابث من وجد منه اللبث ولا يقال لبث إلا لمن شأنه اللبث وهو أن يستقر في المكان ولا يكاد ينفك عنه
المسألة الثانية قال الفراء أصل الحقب من الترادف والتتابع يقال أحقب إذا أردف ومنه الحقيبة ومنه كل من حمل وزرا فقد احتقب فيجوز على هذا المعنى لابثين فيها أحقابا أي دهورا متتابعة يتبع بعضها بعضا ويدل عليه قوله تعالى لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا الكهف 60 يحتمل سنين متتابعة إلى أن أبلغ أو آنس واعلم أن الأحقاب واحدها حقب وهو ثمانون سنة عند أهل اللغة والحقب السنون واحدتها حقبة وهي زمان من الدهر لا وقت له ثم نقل عن المفسرين فيه وجوه أحدها قال عطاء والكلبي ومقاتل عن ابن عباس في قوله أحقابا الحقب الواحد بضع وثمانون سنة والسنة ثلثمائة وستون يوما واليوم ألف سنة من أيام الدنيا ونحو هذا روى ابن عمر مرفوعا وثانيها سأل هلال الهجري عليا عليه السلام فقال الحقب مائة سنة والسنة اثنا عشر شهرا والشهر ثلاثون يوما واليوم ألف سنة وثالثها قال الحسن الأحقاب لا يدري أحد ما هي ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة اليوم منها كألف سنة مما تعدون فإن قيل قوله أحقابا وإن طالت إلا أنها متناهية وعذاب أهل النار غير متناه بل لو قال لابثين فيها الأحقاب لم يكن هذا السؤال واردا ونظير هذا السؤال قوله في أهل القبلة إلا ما شاء ربك هود 107 قلنا الجواب من وجوه الأول أن لفظ الأحقاب لا يدل على مضي حقب له نهاية وإنما الحقب الواحد متناه والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا كلما مضى حقب تبعه حقب آخر وهكذا إلى الأبد والثاني قال الزجاج المعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا لا يذقون في الأحقاب بردا ولا شرابا فهذه الأحقاب توقيت لنوع من العذاب وهو أن لا يذوقوا بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا ثم يبدلون بعد الأحقاب عن الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب وثالثها هب أن قوله أحقابا يفيد التناهي لكن دلالة هذا على الخروج دلالة المفهوم والمنطوق دل على أنهم لا يخرجون قال تعالى يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم المائدة 37

ولا شك أن المنطوق راجح وذكر صاحب الكشاف في الآية وجها آخر وهو أن يكون أحقابا من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب فينتصب حالا عنهم بمعنى لابثين فيها حقبين مجدبين وقوله لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا تفسير له
ورابعها قوله تعالى
لا يذقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا جزاء وفاقا
وفيه مسائل
المسألة الأولى إن اخترنا قول الزجاج كان قوله ولا يذقون فيها بردا ولا شرابا متصلا بما قبله والضمير في قوله فيها عائدا إلى الأحقاب وإن لم نقل به كان هذا كلاما مستأنفا مبتدأ والضمير في قوله عائدا إلى جهنم
المسألة الثانية في قوله بردا وجهان الأول أنه البرج المعروف والمراد أنهم لا يذقون مع شدة الحر ما يكون فيه راحة من ريح باردة أو ظل يمنع من نار ولا يجدون شرابا يسكن عطشهم ويزيل الحرقة عن بواطنهم والحاصل أنهم لا يجدون هواء باردا والثاني البرد ههنا النوم وهو قول الأخفش والكسائي والفراء وقطرب والعتبي قال الفراء وإنما سمي النوم بردا لأنه يبرد صاحبه فإن العطشان ينام فيبرد بالنوم وأنشد أبو عبيدة والمبرد في بيان أن المراد النوم قول الشاعر بردت مراشفها علي فصدني
عنها وعن رشفاتها البرد
يعني النوم قال المبرد ومن أمثال العرب منع البرد البرد أي أصابني من البرد ما منعني من النوم وأعلم أن القول الأول أولى لأنه إذا أمكن حمل اللفظ على الحقيقة المشهورة فلا معنى لحمله على المجاز النادر الغريب والقائلون بالقول الثاني تمسكوا في إثباته بوجهين الأول أنه لا يقال ذقت البرد ويقال ذقت النوم الثاني أنهم يذقون برد الزمهرير فلا يصح أن يقال إنهم ذاقوا بردا وهب أن ذلك البرد برد تأذوا به ولكن كيف كان فقد ذاقوا البرد والجواب عن الأول كما أن ذوق البرد مجاز فكذا ذوق النوم أيضا مجاز ولأن المراد من قوله لا يذقون فيها بردا أي لا يستنشقون فيها نفسا باردا ولا هواء باردا والهواء المستنشق ممره الفم والأنف فجاز إطلاق لفظ الذوق عليه والجواب عن الثاني أنه لم يقل لا يذقون فيها البرد بل قال لا يذوقون فيها بردا واحدا وهو البرد الذي ينتفعون به ويستريحون إليه
المسألة الثالثة ذكروا في الحميم أنه الصفر المذاب وهو باطل بل الحميم الماء الحار المغلي جدا
المسألة الرابعة ذكروا في الغساق وجوها
أحدها قال أبو معاذ كنت أسمع مشايخنا يقولون الغساق فارسية معربة يقولون للشيء الذي يتقذرونه

خاشاك وثانيها أن الغساق هو الشيء البارد الذي لا يطاق وهو الذي يسمى بالزمهرير وثالثها الغساق ما يسيل من أعين أهل النار وجلودهم من الصديد والقيح والعرق وسائر الرطوبات المستقذرة وفي كتاب الخليل غسقت عينه تغسق غسقا وغساقا ورابعها الغساق هو المنتن وجليله ما روي أنه عليه السلام قال { لو أن دلوا من الغساق يهراق على الدنيا لأنتن أهل الدنيا } وخامسها أن الغاسق هو المظلم قال تعالى ومن شر غاسق إذا وقب الفلق 3 فيكون الغساق شرابا أسود مكروها يستوحش كما يستوحش الشيء المظلم إذا عرفت هذا فنقول إن فسرنا الغساق بالبارد كان التقدير لا يذوقون فيها بردا إلا غساقا ولا شرابا إلا حميما إلا أنهما جمعا لأجل انتظام الآي ومثله من الشعر قول امرئ القيس كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
لدى وكرها العناب والحشف البالي
والمعنى كأن قلوب الطير رطبا العناب ويابسا الحشف البالي أما إذا فسرنا الغساق بالصديد أو بالنتن احتمل أن يكون الاستثناء بالحميم والغساق راجعا إلى البرد والشراب معا وأن يكون مختصا بالشراب فقط
أما الاحتمال الأول فهو أن يكون التقدير لا يذوقون فيها شراباً إلا الحميم البالغ في الحميم والصديد المنتن
وأما الاحتمال الثاني فهو أن يكون التقدير لا يذوقون فيها شراباً إلا الحميم البالغ في السخونة أو الصديد المنتن والله أعلم بمراده فإن قيل الصديد لا يشرب فكيف استثنى من الشراب قلنا إنه مائع فأمكن أن يشرب في الجملة فإن ثبت أنه غير ممكن كان ذلك استثناء من غير الجنس ووجهه معلوم
المسألة الخامسة قرأ حمزة والكسائي وعاصم من رواية حفص عنه غساقاً بالتشديد فكأنه فعال بمعنى سيال وقرأ الباقون بالتخفيف مثل شراب والأول نعت والثاني اسم
واعلم أنه تعالى لما شرح أنواع عقوبة الكفار بين فيما بعده أنه جَزَاء وِفَاقاً وفي المعنى وجهان الأول أنه تعالى أنزل بهم عقوبة شديدة بسبب أنهم أتوا بمعصية شديدة فيكون العقاب وِفَاقاً للذنب ونظيره قوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) والثاني أنه وِفَاقاً من حيث لم يزد على قدر الاستحقاق ولم ينقص عنه وذكر النحوين فيه وجوهاً أحدها أن يكون الوفاق والموافق واحداً في اللغة والتقدير جزاء موافقاً وثانيها أن يكون نصباً على المصدر والتقدير جزاء وافق أعمالهم وِفَاقاً وثالثها أن يكون وصف بالمصدر كما يقال فلان فضل وكرم لكونه كاملاً في ذلك المعنى كذلك ههنا لما كان ذلك الجزاء كاملاً في كونه على وفق الاستحقاق وصف الجزاء بكونه وِفَاقاً ورابعها أن يكون بحذف المضاف والتقدير جزاء ذا وفاق وقرأ أبو حيوة وِفَاقاً فعال من الوفق فإن قيل كيف يكون هذا العذاب البالغ في الشدة الغير المتناهي بحسب المدة وِفَاقاً للإتيان بالكفر لحظة واحدة وأيضاً فعلى قول أهل السنة إذا كان الكفر واقعاً بخلق الله وإيجاده فكيف يكون هذا وفاقاً له وأما على مذهب المعتزلة فكان علم الله بعدم إيمانهم حاصلاً ووجود إيمانهم مناف بالذات لذلك العلم فمع قيام أحد المتنافيين كان التكليف بإدخال المنافي الثاني في الوجود ممتنعاً لذاته وعينه ويكون تكليفاً بالجمع بين المتنافيين فكيف

يكون مثل هذا العذاب الشديد الدائم وفاقاً لمثل هذا الجرم قلنا يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد
واعلم أنه تعالى لما بين على الإجمال أن ذلك الجزاء كان على وفق جرمهم شرح أنواع جرائمهم وهي بعد ذلك نوعان
إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً
أولهما قوله تعالى إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وفيه سؤالان
الأول وهو أن الحساب شيء شاق على الإنسان والشيء الشاق لا يقال فيه إنه يرجى بل يجب أن يقال إنهم كانوا لا يخشون حساباً والجواب من وجوه أحدها قال مقاتل وكثير من المفسرين قوله لا يرجون معناه لا يخافون ونظيره قولهم في تفسير قوله تعالى مَالَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( نوح 13 ) وثانيها أن المؤمن لا بد وأن يرجو رحمة الله لأنه قاطع بأن ثواب إيمانه زائد على عقاب جميع المعاصي سوى الكفر فقوله إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً إشارة إلى أنهم ما كانوا مؤمنين وثالثها أن الرجاء ههنا بمعنى التوقع لأن الراجي للشيء متوقع له إلا أن أشرف أقسام التوقع هو الرجاء فسمى الجنس باسم أشرف أنواعه ورابعها أن في هذه الآية تنبيهاً على أن الحساب مع الله جانب الرجاء فيه أغلب من جانب الخوف وذلك لأن للعبد حقاً على الله تعالى بحكم الوعد في جانب الثواب ولله تعالى حق على العبد في جانب العقاب والكريم قد يسقط حق نفسه ولا يسقط ما كان حقاً لغيره عليه فلا جرم كان جانب الرجاء أقوى في الحساب فلهذا السبب ذكر الرجاء ولم يذكر الخوف
السؤال الثاني أن الكفار كانوا قد أتوا بأنواع من القبائح والكبائر فما السبب في أن خص الله تعالى هذا النوع من الكفر بالذكر في أول الأمر الجواب لأن رغبة الإنسان في فعل الخيرات وفي ترك المحظورات إنما تكون بسبب أن ينتفع به في الآخرة فمن أنكر الآخرة لم يقدم على شيء من المستحسنات ولم يحجم عن شيء من المنكرات فقوله إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً تنبيه على أنهم فعلوا كل شر وتركوا كل خير
وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا كِذَّاباً
والنوع الثاني من قبائح أفعالهم قوله وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً اعلم أن للنفس الناطقة الإنسانية قوتين نظرية وعملية وكمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ولذلك قال إبراهيم رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( الشعراء 83 ) هَبْ لِى حُكْماً ( الشعراء 83 ) إشارة إلى كمال القوة النظرية وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ إشارة إلى كمال القوة العملية فههنا بين الله تعالى رداءة حالهم في الأمرين أما في القوة العملية فنبه على فسادها بقوله إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً ( النبأ 27 ) أي كانوا مقدمين على جميع القبائح والمنكرات وغير راغبين في شيء من الطاعات والخيرات
وأما في القوة النظرية فنبه على فسادها بقوله وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً أي كانوا منكرين بقلوبهم للحق

ومصرين على الباطل وإذا عرفت ما ذكرناه من التفسير ظهر أنه تعالى بين أنهم كانوا قد بلغوا في الرداءة والفساد إلى حيث يستحيل عقلاً وجود ما هو أزيد منه فلما كانت أفعالهم كذلك كان اللائق بها هو العقوبة العظيمة فثبت بهذا صحة ما قدمه في قوله جَزَاء وِفَاقاً ( النبأ 26 ) فما أعظم لطائف القرآن مع أن الأدوار العظيمة قد استمرت ولم ينتبه لها أحد فالحمدلله حمداً يليق بعلو شأنه وبرهانه على ما خص هذا الضعيف بمعرفة هذه الأسرار
واعلم أن قوله تعالى وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً يدل على أنهم كذبوا بجميع دلائل الله تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد والشرائع والقرآن وذلك يدل على كمال حال القوة النظرية في الرداءة والفساد والبعد عن سواء السبيل وقوله كِذَّاباً أي تكذيباً وفعال من مصادر التفعيل وأنشد الزجاج لقد طال ماريثتني عن صحابتي
وعن حوج قضَّاؤها من شفائنا
من قضَّيت قضَّاء قال الفراء هي لغة فصيحة يمانية ونظيره خرَّقت القميص خرَّاقاً وقال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني الحلو أحب إليك أم العِصَّار وقال صاحب ( الكشاف ) كنت أفسر آية فقال بعضهم لقد فسرتها فِسَّاراً ما سمع به وقرىء بالتخفيف وفيه وجوه أحدها أنه مصدر كَذَّب بدليل قوله فصدقتها أو كذبتها
والمرء ينفعه كذابه
وهو مثل قوله تعالى أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( نوح 17 ) يعني وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً وثانيها أن ينصبه بكذبوا لأنه يتضمن معنى كذبوا لأن كل مكذب بالحق كاذب وثالثها أن يجعل الكذاب بمعنى المكاذبة فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة أو كذبوا بها مكاذبين لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة وقرىء أيضاً كذلك وهو جمع كاذب أي كذبوا بآياتنا كاذبين وقد يكون الكذاب بمعنى الواحد البليغ في الكذب يقال رجل كذاب كقولك حسان وبخال فيجعل صفة لمصدر كذبوا أي تكذيباً كذاباً مفرطاً كذبه
وَكُلَّ شَى ْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً
واعلم أنه تعالى لما بين أن فساد حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية بلغ إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات بين أن تفاصيل تلك الأحوال في كميتها وكيفيتها معلومة له وقدر له ما يستحق عليه من العقاب معلوم له فقال وَكُلَّ شَى ْء أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج كُلٌّ منصوب بفعل مضمر يفسره أَحْصَيْنَاهُ والمعنى وأحصينا كل شيء وقرأ أبو السمال وكل بالرفع على الابتداء
المسألة الثانية قوله وَكُلَّ شى ْء أَحْصَيْنَاهُ أي علمنا كل شيء كما هو علماً لا يزول ولا يتبدل ونظيره قوله تعالى أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ( المجادلة 6 ) واعلم أن هذه الآية تدل على كونه تعالى عالماً بالجزئيات واعلم أن مثل هذه الآية لا تقبل التأويل وذلك لأنه تعالى ذكر هذا تقريراً لما ادعاه من قوله جَزَاء وِفَاقاً ( النبأ 26 ) كأنه تعالى يقول أنا عالم بجميع ما فعلوه وعالم بجهات تلك الأفعال وأحوالها واعتباراتها

التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلا قدر ما يكون وفاقاً لأعمالهم ومعلوم أن هذا القدر إنما يتم لو ثبت كونه تعالى عالماً بالجزئيات وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كان كافراً قطعاً
المسألة الثالثة قوله أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً فيه وجهان أحدهما تقديره أحصيناه إحصاء وإنما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم ولهذا قال عليه السلام ( قيدوا العلم بالكتابة ) فكأنه تعالى قال وكل شيء أحصيناه إحصاء مساوياً في القوة والثبات والتأكيد للمكتوب فالمراد من قوله كتاباً تأكيد ذلك الإحصاء والعلم واعلم أن هذا التأكيد إنما ورد على حسب مايليق بأفهام أهل الظاهر فإن المكتوب يقبل الزوال وعلم الله بالأشياء لا يقبل الزوال لأنه واجب لذاته القول الثاني أن يكون قوله كتاباً حالاً في معنى مكتوباً والمعنى وكل شيء أحصيناه حال كونه مكتوباً في اللوح المحفوظ كقوله وَكُلَّ شى ْء أَحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ أو في صحف الحفظة
فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً
ثم قال تعالى فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً
واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال العقاب أولاً ثم ادعى كونه جَزَاء وِفَاقاً ( النبأ 26 ) ثم بين تفاصيل أفعالهم القبيحة وظهر صحة ما ادعاه أولاً من أن ذلك العقاب كان جَزَاء وِفَاقاً لا جرم أعاد ذكر العقاب وقوله فَذُوقُواْ والفاء للجزاء فنبه على أن الأمر بالذوق معلل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم فهذا الفاء أفاد عين فائدة قوله جَزَاء وِفَاقاً
المسألة الرابعة هذه الآية دالة على المبالغة في التعذيب من وجوه أحدها قوله فَلَن نَّزِيدَكُمْ وكلمة لن للتأكيد في النفي وثانيها أنه في قوله كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً ( النبأ 27 ) ذكرهم بالمغايبة وفي قوله فَذُوقُواْ ذكرهم على سبيل المشافهة وهذا يدل على كمال الغضب وثالثها أنه تعالى عدد وجوه العقاب ثم حكم بأنه جزاء موافق لأعمالهم ثم عدد فضائحهم ثم قال فَذُوقُواْ فكأنه تعالى أفتى وأقام الدلائل ثم أعاد تلك الفتوى بعينها وذلك يدل على المبالغة في التعذيب قال عليه الصلاة والسلام ( هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه ) بقي في الآية سؤالان
السؤال الأول أليس أنه تعالى قال في صفة الكفار وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ ( آل عمران 77 ) فهنا لما قال لهم فَذُوقُواْ فقد كلمهم الجواب قال أكثر المفسرين تقدير الآية فيقال لهم فذوقوا ولقائل أن يقول على هذا الوجه لا يليق بذلك القائل أن يقول فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً بل هذا الكلام لا يليق إلا بالله والأقرب في الجواب أن يقال قوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ أي ولا يكلمهم بالكلام الطيب النافع فإن تخصيص العموم غير بعيد لاسيما عند حصول القرينة فإن قوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ إنما ذكره لبيان أنه تعالى لا ينفعهم ولا يقيم لهم وزناً وذلك لا يحصل إلا من الكلام الطيب

السؤال الثاني دلت هذه الآية على أنه تعالى يزيد في عذاب الكافر أبداً فتلك الزيادة إما أن يقال إنها كانت مستحقة لهم أو غير مستحقة فإن كانت مستحقة لهم كان تركها في أول الأمر إحساناً والكريم إذا أسقط حق نفسه فإنه لا يليق به أن يسترجعه بعد ذلك وأما إن كانت تلك الزيادة غير مستحقة كان إيصالها إليهم ظلماً وإنه لا يجوز على الله الجواب كما أن الشيء يؤثر بحسب خاصية ذاته فكذا إذا دام ازداد تأثيره بحسب ذلك الدوام فلا جرم كلما كان الدوام أكثر كان الإيلام أكثر وأيضاً فتلك الزيادة مستحقة وتركها في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط والله علم بما أراد
واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد الأخيار وهو أمور
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً
أولها قوله تعالى إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً أما المتقي فقد تقدم تفسيره في مواضع كثيرة ومفازاً يحتمل أن يكون مصدراً بمعنى فوزاً وظفراً بالبغية ويحتمل أن يكون موضع فوز والفوز يحتمل أن يكون المراد منه فوزاً بالمطلوب وأن يكون المراد منه فوزاً بالنجاة من العذاب وأن يكون المراد مجموع الأمرين وعندي أن تفسيره بالفوز بالمطلوب أولى من تفسيره بالفوز بالنجاة من العذاب ومن تفسيره بالفوز بمجموع الأمرين أعني النجاة من الهلاك والوصول إلى المطلوب وذلك لأنه تعالى فسر المفاز بما بعده وهو قوله مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً فوجب أن يكون المراد من المفاز هذا القدر فإن قيل الخلاص من الهلاك أهم من حصول اللذة فلم أهمل الأهم وذكر غير الأهم قلنا لأن الخلاص من الهلاك لا يستلزم الفوز باللذة والخير أما الفوز باللذة والخير فيستلزم الخلاص من الهلاك فكان ذكر هذا أولى
حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً
وثانيها قوله تعالى حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً والحدائق جمع حديقة وهي بستان محوط عليه من قولهم أحدقوا به أي أحاطوا به والتنكير في قوله وَأَعْنَاباً يدل على تعظيم حال تلك الأعناب
وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً
وثالثها قوله تعالى وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً كواعب جمع كاعب وهي النواهد التي تكعبت ثديهن وتفلكت أي يكون الثدي في النتوء كالكعب والفلكة
وَكَأْساً دِهَاقاً
ورابعها قوله تعالى وَكَأْساً دِهَاقاً وفي الدهاق أقوال الأول وهو قول أكثر أهل اللغة كأبي عبيدة والزجاج والكسائي والمبرد و دِهَاقاً أي ممتلئة دعا ابن عباس غلاماً له فقال اسقنا دهاقاً فجاء الغلام بها ملأى فقال ابن عباس هذا هو الدهاق قال عكرمة ربما سمعت ابن عباس يقول اسقنا وادهق لنا القول الثاني دهاقاً أي متتابعة وهو قول أبي هريرة وسعيد بن جبير ومجاهد قال الواحدي وأصل هذا القول من قول العرب أدهقت الحجارة إدهاقاً وهو شدة تلازمها ودخول بعضها في بعض ذكرها الليث والمتتابع كالمتداخل القول الثالث يروى عن عكرمة أنه قال دِهَاقاً أي صافية والدهاق على هذا القول يجوز أن يكون جمع داهق وهو خشبتان يعصر بهما والمراد بالكأس الخمر قال الضحاك كل كأس في القرآن فهو خمر التقدير وخمراً ذات دهاق أي عصرت وصفيت بالدهاق

لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَاباً
وخامسها قوله لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذباً في الآية سؤالان
الأول الضمير في قوله فِيهَا إلى ماذا يعود الجواب فيه قولان الأول أنها ترجع إلى الكأس أي لا يجري بينهم لغو في الكأس التي يشربونها وذلك لأن أهل الشراب في الدنيا يتكلمون بالباطل وأهل الجنة إذا شربوا لم يتغير عقلهم ولم يتكلموا بلغو والثاني أن الكناية ترجع إلى الجنة أي لا يسمعون في الجنة شيئاً يكرهونه
السؤال الثاني الكذاب بالتشديد يفيد المبالغة فوروده في قوله تعالى وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً ( النبأ 28 ) مناسب لأنه يفيد المبالغة في وصفهم بالكذب أما وروده ههنا فغير لائق لأن قوله لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذباً يفيد أنهم لا يسمعون الكذب العظيم وهذا لا ينفي أنهم يسمعون الكذب القليل وليس مقصود الآية ذلك بل المقصود المبالغة في أنهم لا يسمعون الكذب البتة والحاصل أن هذا اللفظ يفيد نفي المبالغة واللائق بالآية المبالغة في النفي والجواب أن الكسائي قرأ الأول بالتشديد والثاني بالتخفيف ولعل غرضه ما قررناه في هذا السؤال لأن قراءة التخفيف ههنا تفيد أنهم لا يسمعون الكذب أصلاً لأن الكذاب بالتخفيف والكذب واحد لأن أبا علي الفارسي قال كذاب مصدر كذب ككتاب مصدر كتب فإذا كان كذلك كانت القراءة بالتخفيف تفيد المبالغة في النفي وقراءة التشديد في الأول تفيد المبالغة في الثبوت فيحصل المقصود من هذه القراءة في الموضعين على أكمل الوجوه فإن أخذنا بقراءة الكسائي فقد زال السؤال وإن أخذنا بقراءة التشديد في الموضعين وهي قراءة الباقين فالعذر عنه أن قوله لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذباً إشارة إلى ما تقدم من قوله وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً والمعنى أن هؤلاء السعداء لا يسمعون كلامهم المشوش الباطل الفاسد والحاصل أن النعم الواصلة إليهم تكون خالية عن زحمة أعدائهم وعن سماع كلامهم الفاسد وأقوالهم الكاذبة الباطلة
جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً
ثم إنه تعالى لما عدد أقسام نعيم أهل الجنة قال جَزَاء مّن رَّبّكَ عَطَاء حِسَاباً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج المعنى جازاهم بذلك جزاء وكذلك عطاء لأن معنى جازاهم وأعطاهم واحد
المسألة الثانية في الآية سؤال وهو أنه تعالى جعل الشيء الواحد جزاء وعطاء وذلك محال لأن كونه جزاء يستدعي ثبوت الاستحقاق وكونه عطاء يستدعي عدم الاستحقاق والجمع بينهما متناف والجواب عنه لا يصح إلا على قولنا وهو أن ذلك الاستحقاق إنما ثبت بحكم الوعد لا من حيث إن الفعل يوجب الثواب على الله فذلك نظراً إلى الوعد المترتب على ذلك الفعل يكون جزاء ونظراً إلى أنه لا يجب على الله لأحد شيء يكون عطاء
المسألة الثالثة قوله حِسَاباً فيه وجوه الأول أن يكون بمعنى كافياً مأخوذ من قولهم أعطاني ما أحسبني أي ما كفاني ومنه قوله حسبي من سؤالي علمه بحالي أي كفاني من سؤالي ومنه قوله

فلما حللت به ضمني
فأولى جميلاً وأعطى حسابا
أي أعطى ما كفى والوجه الثاني أن قوله حساباً مأخوذ من حسبت الشيء إذا أعددته وقدرته فقوله عَطَاء حِسَاباً أي بقدر ما وجب له فيما وعده من الإضعاف لأنه تعالى قدر الجزاء على ثلاثة أوجه وجه منها على عشرة أضعاف ووجه على سبعمائة ضعف ووجه على مالا نهاية له كما قال إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( الزمر 10 ) الوجه الثالث وهو قول ابن قتيبة عَطَاء حِسَاباً أي كثيراً وأحسبت فلاناً أي أكثرت له قال الشاعر ونقفي وليد الحي إن كان جائعا
ونحسبه إن كان ليس بجائع
الوجه الرابع أنه سبحانه يوصل الثواب الذي هو الجزاء إليهم ويوصل التفضل الذي يكون زائداً على الجزء إليهم ثم قال حِسَاباً ثم يتميز الجزاء عن العطاء حال الحساب الوجه الخامس أنه تعالى لما ذكر في وعيد أهل النار جَزَاء وِفَاقاً ذكر في وعد أهل الجنة جزاء عطاء حساباً أي راعيت في ثواب أعمالكم الحساب لئلا يقع في ثواب أعمالكم بخس ونقصان وتقصير والله أعلم بمراده
المسألة الرابعة قرأ ابن قطيب حِسَاباً بالتشديد على أن الحساب بمعنى المحسب كالدراك بمعنى المدرك هكذا ذكره صاحب ( الكشاف )
رَّبِّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً
واعلم أنه تعالى لما بالغ في وصف وعيد الكفار ووعد المتقين ختم الكلام في ذلك بقوله رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً وفيه مسائل
المسألة الأولى رب السموات والرحمن فيه ثلاثة أوجه من القراءة الرفع فيهما وهو قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو والجر فيهما وهو قراءة عاصم وعبدالله بن عامر والجر في الأول مع الرفع في الثاني وهو قراءة حمزة والكسائي وفي الرفع وجوه أحدها أن يكون رب السموات مبتدأ والرحمن خبره ثم استؤنف لا يملكون منه خطاباً وثانيها رب السموات مبتدأ والرحمن صفة ولا يملكون خبره وثالثها أن يضمر المبتدأ والتقدير هو رَبّ السَّمَاوَاتِ هو الرحمن ثم استؤنف لاَّ يَمْلِكُونَ ورابعها أن يكون الرَّحْمَنُ و لاَّ يَمْلِكُونَ خبرين وأما وجه الجر فعلى البدل من ربك وأما وجه جر الأول ورفع الثاني فجر الأول بالبدل من ربك والثاني مرفوع بكونه مبتدأ وخبره لا يملكون
المسألة الثانية الضمير في قوله ويملكون إلى من يرجع فيه ثلاثة أقوال الأول نقل عطاء عن ابن عباس إنه راجع إلى المشركين يريد لا يخاطب المشركون أما المؤمنون فيشفعون يقبل الله ذلك منهم والثاني قال القاضي إنه راجع إلى المؤمنين والمعنى أن المؤمنين لا يملكون أن يخاطبوا الله في أمر من الأمور لأنه لما ثبت أنه عدل لا يجور ثبت أن العقاب الذي أوصله إلى الكفار عدل وأن الثواب الذي أوصله المؤمنين عدل وأنه ما يخسر حقهم فبأي سبب يخاطبونه وهذا القول أقرب من الأول لأن الذي جرى قبل هذه الآية ذكر المؤمنين لا ذكر الكفار والثالث أنه ضمير لأهل السموات والأرض وهذا هو الصواب فإن أحداً من المخلوقين لا يملك مخاطبة الله ومكالمته وأما الشفاعات الواقعة بإذنه فغير واردة

على هذا الكلام لأنه نفى الملك والذي يحصل بفضله وإحسانه فهو غير مملوك فثبت أن هذا السؤال غير لازم والذي يدل من جهة العقل على أن أحداً من المخلوقين لا يملك خطاب الله وجوه الأول وهو أن كل ما سواء فهو مملوكه والمملوك لا يستحق على مالكه شيئاً وثانيها أن معنى الاستحقاق عليه هو أنه لو لم يفعل لاستحق الذم ولو فعلة لاستحق المدح وكل من كان كذلك كان ناقصاً في ذاته مستكملاً بغيره وتعالى الله عنه وثالثها أنه عالم بقبح القبيح عالم بكونه غنياً عنه وكل من كان كذلك لم يفعل القبيح وكل من امتنع كونه فاعلاً للقبيح فليس لأحد أن يطالبه بشيء وأن يقول له لم فعلت والوجهان الأولان مفرعان على قول أهل السنة والوجه الثالث يتفرع على قول المعتزلة فثبت أن أحداً من المخلوقات لا يملك أن يخاطب ربه ويطالب إلهه
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أحداً من الخلق لا يمكنه أن يخاطب الله في شيء أو يطالبه بشيء قرر هذا المعنى وأكده فقال تعالى خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً
وذلك لأن الملائكة أعظم المخلوقات قدراً ورتبة وأكثر قدرة ومكانة فبين أنهم لا يتكلمون في موقف القيامة إجلالاً لربهم وخوفاً منه وخضوعاً له فكيف يكون حال عيرهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لمن يقول بتفضيل الملك على البشر أن يتمسك بهذه الآية وذلك لأن المقصود من الآية أن الملائكة لما بقوا خائفين خاضعين وجلين متحيرين في موقف جلال الله وظهور عزته وكبريائه فكيف يكون حال غيرهم ومعلوم أن هذا الاستدلال لا يتم إلا إذا كانوا أشرف المخلوقات
المسألة الثانية اختلفوا في الروح في هذه الآية فعن ابن مسعود أنه ملك أعظم من السموات والجبال وعن ابن عباس هو ملك من أعظم الملائكة خلقاً وعن مجاهد خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون وليس بناس وعن الحسن وقتادة هم بنو آدم وعلى هذا معناه ذو الروح وعن ابن عباس أرواح الناس وعن الضحاك والشعبي هو جبريل عليه السلام وهذا القول هو المختار عند القاضي قال لأن القرآن دل على أن هذا الاسم اسم جبريل عليه السلام وثبت أن القيام صحيح من جبريل والكلام صحيح منه ويصح أن يؤذن له فكيف يصرف هذا الاسم عنه إلى خلق لا نعرفه أو إلى القرآن الذي لا يصح وصفه بالقيام أما قوله صَفَّا فيحتمل أن يكون المعنى أن الروح على الاختلاف الذي ذكرناه وجميع الملائكة يقومون صفاً واحداً ويجوز أن يكون المعنى يقومون صفين ويجوز صفوفاً والصف في الأصل مصدر فينبىء عن الواحد والجمع وظاهر قول المفسرين أنهم يقومون صفين فيقوم الروح وحده صفاً وتقوم الملائكة كلهم صفاً واحداً فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم وقال بعضهم بل يقومون صفوفاً لقوله تعالى وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ( الفجر 22 )
المسألة الثالثة الاستثناء إلى من يعود فيه قولان

أحدهما إلى الروح والملائكة وعلى هذا التقدير الآية دلت على أن الروح والملائكة لا يتكلمون إلا عند حصول شرطين إحداها حصول الإذن من الله تعالى ونظيره قوله تعالى مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) والمعنى أنهم لا يتكلمون إلا بإذن الله
والشرط الثاني أن يقول صواباً فإن قيل لما أذن له الرحمن في ذلك القول علم أن ذلك القول صواب لا محالة فما الفائدة في قوله وَقَالَ صَوَاباً والجواب من وجهين الأول أن الرحمن أذن له في مطلق القول ثم إنهم عند حصول ذلك الإذن لا يتكلمون إلا بالصواب فكأنه قيل إنهم لا ينطلقون إلا بعد ورود الإذن في الكلام ثم بد ورود ذلك الإذن يجتهدون ولا يتكلمون إلا بالكلام الذي يعلمون أنه صدق وصواب وهذا مبالغة في وصفهم بالطاعة والعبودية الوجه الثاني أن تقديره لا يتكلمون إلا في حق مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً والمعنى لا يشفعون إلا في حق شخص أذن له الرحمن في شفاعته وذلك الشخص كان ممن قال صواباً واحتج صاحب هذا التأويل بهذه الآية على أنهم يشفعون للمذنبين لأنهم قالوا صواباً وهو شهادة أن لا إله إلا الله لأن قوله وَقَالَ صَوَاباً يكفي في صدقه أن يكون قد قال صواباً واحداً فكيف بالشخص الذي قال القول الذي هو أصوب الأقوال وتكلم بالكلام الذي هو أشرف الكلمات القول الثاني أن الاستثناء غير عائد إلى الملائكة فقط بل إلى جميع أهل السموات والأرض والمقول الأول أولى لأن عود الضمير إلى الأقرب أولى
واعلم أنه تعالى لما قرر أحوال المكلفين في درجات الثواب والعقاب وقرر عظمة يوم القيامة قال بعده
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَأاباً
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ذلك إشارة إلى تقدم ذكره وفي وصف اليوم بأنه حق وجوه أحدها أنه يحصل فيه كل الحق ويندمغ كل باطل فلما كان كاملاً في هذا المعنى قيل إنه حق كما يقال فلان خير كله إذا وصف بأن فيه خيراً كثيراً وقوله ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ يفيد أنه هو اليوم الحق وما عداه باطل لأن أيام الدنيا باطلها أكثر من حقها وثانيها أن الحق هو الثابت الكائن وبهذا المعنى يقال إن الله حق أي هو ثابت لا يجوز عليه الفناء ويوم القيامة كذلك فيكون حقاً وثالثها أن ذلك اليوم هو اليوم الذي يستحق أن يقال له يوم لأن فيه تبلى السرائر وتنكشف الضمائر وأماأيام الدنيا فأحوال الخلف فيها مكتومة والأحوال فيها غير معلومة
قوله تعالى فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ مَئَاباً أي مرجعاً والمعتزلة احتجوا به على الاختيار والمشيئة وأصحابنا رووا عن ابن عباس أنه قال المراد فمن شاء الله به خيراً هداه حتى يتخذ إلى ربه مآباً
إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُرَاباً
ثم إنه تعالى زاد في تخويف الكفار فقال إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يعني العذاب في الآخرة وكل ما هو آت قريب و ( هو ) كقوله تعالى كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّة ً أَوْ ضُحَاهَا ( النازعات 46 ) وإنما سماه

إنذاراً لأنه تعالى بهذا الوصف قد خوف منه نهاية التخويف وهو معنى الإنذار
ثم قال تعالى يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى ما في قوله مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ فيه وجهان الأول أنها استفهامية منصوبة بقدمت أي ينظر أي شيء قدمت يداه الثاني أن تكون بمعنى الذي وتكون منصوبة ينتظر والتقدير ينظر إلى الذي قدمت يداه إلا أن على هذا التقدير حصل فيه حذفان أحدهما أنه لم يقل قدمته بل قال قَدَّمْتُ فحذف الضمير الراجع الثاني أنه لم يقل ينظر إلى ما قدمت بل قال ينظر ما قدمت يقام نظرته بمعنى نظرت إليه
المسألة الثانية في الآية ثلاثة أقوال الأول وهو الأظهر أن المرء عام في كل أحد لأن المكلف إن كان قدم عمل المتقين فليس له إلا الثواب العظيم وإن كان قدم عمل الكافرين فليس له إلا العقاب الذي وصفه الله تعالى فلا رجاء لمن ورد القيامة من المكلفين في أمر سوى هذين فهذا هو المراد بقوله يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ فطوبى له إن قدم عمل الأبرار وويل له إن قدم عمل الفجار والقول الثاني وهو قول عطاء أن المر ههنا هو الكافر لأن المؤمن كما ينظر إلى ما قدمت يداه فكذلك ينظر إلى عفو الله ورحمته وأما الكافر الذي لا يرى إلا العذاب فهو لا يرى إلا ما قدمت يداه لأن ما وصل إليه من العقاب ليس إلا من شؤم معاملته والقول الثالث وهو قول الحسن وقتادة أن المرء ههنا هو المؤمن واحتجوا عليه بوجهين الأول أنه تعالى قال بعد هذه الآية وَيَقُولُ الْكَافِرُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً فلما كان هذا بياناً لحال الكافر وجب أن يكون الأول بياناً لحال المؤمن والثاني وهو أن المؤمن لما قدم الخير والشر فهو من الله تعالى على خوف ورجاء فينتظر كيف يحدث الحال أما الكافر فإنه قاطع بالعقاب فلا يكون له انتظار أنه كيف يحدث الأمر فإن مع القطع لا يحصل الانتظار
المسألة الثالثة القائلون بأن الخير يوجب الثواب والشر يوجب العقاب تمسكوا بهذه الآية فقالوا لولا أن الأمر كذلك وإلا لم يكن نظر الرجل في الثواب والعقاب على عمله بل على شيء آخر والجواب عنه أن العمل يوجب الثواب والعقاب لكن بحكم الوعد والجعل لا بحكم الذات
أما قوله تعالى وَيَقُولُ الْكَافِرُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً ففيه وجوه أحدها أن يوم القيامة ينظر المرء أي شيء قدمت يداه أما المؤمن فإنه يجد الإيمان والعفو عن سائر المعاصي على ما قال بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وأما الكافر فلا يتوقع العفو على ما قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ( النساء 48 ) فعند ذلك يقول الكافر الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً أي لم يكن حياً مكلفاً وثانيها أنه كان قبل البعث تراباً فالمعنى على هذا يا ليتني لم أبعث للحساب وبقيت كما كنت تراباً كقوله تعالى حِسَابِيَهْ يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة َ ( الحاقة 27 ) وقوله يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاْرْضُ ( النساء 42 ) وثالثها أن البهائم تحشر فيقتص للجماء من القرناء ثم يقال لها بعد المحاسبة كوني تراباً فيتمنى الكافر عند ذلك أن يكون هو مثل تلك البهائم في أن يصير تراباً ويتخلص من عذاب الله وأنكر بعض المعتزلة ذلك وقال إنه تعالى إذا أعادها فهي بين معوض وبين متفضل عليه وإذا كان كذلك لم يجز أن يقطعها عن المنافع لأن ذلك كالإضرار بها ولا يجوز ذلك في الآخرة ثم إن هؤلاء قالوا إن هذه الحيوانات إذا انتهت مدة

أعواضها جعل الله كل ما كان منها حسن الصورة ثواباً لأهل الجنة وما كان قبيح الصورة عقاباً لأهل النار قال القاضي ولا يمتنع أيضاً إذا وفر الله أعواضها وهي غير كاملة العقل أن يزيل الله حياتها على وجه لا يحصل لها شعور بالألم فلا يكون ذلك ضرراً ورابعها ما ذكره بعض الصوفية فقال قوله الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً معناه يا ليتني كنت متواضعاً في طاعة الله ولم أكن متكبراً متمرداً وخامسها الكافر إبليس يرى آدم وولده وثوابهم فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( ص 76 ) والله أعلم بمراده وأسرار كتابه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة

سورة النازعات
وهي أربعون وست آيات مكية
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً
فيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن هذه الكلمات الخمس يحتمل أن تكون صفات لشيء واحد ويحتمل أن لا تكون كذلك أما على الاحتمال الأول فقد ذكروا في الآية وجوهاً أحدها أنها بأسرها صفات الملائكة فقوله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً هي الملائكة الذين ينزعون نفوس بني آدم فإذا نزعوا نفس الكفار نزعوها بشدة وهو مأخوذ من قولهم نزع في القوس فأغرق يقال أغرق النازع في القوس إذا بلغ غاية المدى حتى ينتهي إلى النصل فتقدير الآية والنازعات إغراقاً والغرق والإغراق في اللغة بمعنى واحد وقوله وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً النشط هو الجذب يقال نشطت الدلو أنشطها وأنشطتها نشطاً نزعتها برفق والمراد هي الملائكة التي تنشط روح المؤمن فتقبضها وإنما خصصنا هذا بالمؤمن والأول بالكافر لما بين النزع والنشط من الفرق فالنزاع جذب بشدة والنشط جذب برفق ولين فالملائكة تنشط أرواح المؤمنين كما تنشط الدلو من البئر فالحاصل أن قوله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً قسم بملك الموت وأعوانه إلا أن الأول إشارة إلى كيفية قبض أرواح الكفار والثاني إشارة إلى كيفية قبض أرواح المؤمنين أما قوله وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فمنهم من خصصه أيضاً بملائكة قبض الأرواح ومنهم من حمله على سائل طوائف الملائكة أما الوجه الأول فنقل عن علي عليه السلام وابن عباس ومسروق أن الملائكة يسلون أرواح المؤمنين سلاً رفيقاً فهذا هو المراد من قوله وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً ثم يتركونها حتى تستريح رويداً ثم يستخرجونها بعد ذلك برفق ولطافة كالذي يسبح في الماء فإنه يتحرك برفق ولطافة لئلا يفرق فكذا ههنا يرفقون في ذلك

الاستخراج لئلا يصل إليه ألم وشدة فذاك هو المراد من قوله وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً وأما الذين حملوه على سائر طوائف الملائكة فقالوا إن الملائكة ينزلون من السماء مسرعين فجعل نزولهم من السماء كالسباحة والعرب تقول للفرس الجواد إنه السابح وأما قوله فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فمنهم من فسره بملائكة قبض الأرواح يسبقون بأرواح الكفار إلى النار وبأرواح المؤمنين إلى الجنة ومنهم من فسره بسائر طوائف الملائكة ثم ذكروا في هذا السبق وجوهاً أحدها قال مجاهد وأبو روق إن الملائكة سبقت ابن آدم بالإيمان والطاعة ولا شك أن المسابقة في الخيرات درجة عظيمة قال تعالى وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( الواقعة 10 ) وثانيها قال الفراء والزجاج إن الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء لأن الشياطين كانت تسترق السمع وثالثها ويحتمل أن يكون المراد أنه تعالى وصفهم فقال لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ( الأنبياء 27 ) يعني قبل الإذن لا يتحركون ولا ينطقون تعظيماً لجلال الله تعالى وخوفاً من هيبته وههنا وصفهم بالسبق يعني إذا جاءهم اومر فإنهم يتسارعون إلى امتثاله ويتبادرون إلى إظهار طاعته فهذا هو المراد من قوله فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً وأما قوله فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً فأجمعوا على أنهم هم الملائكة قال مقاتل يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام يدبرون أمر الله تعالى في أهل الأرض وهم المقسمات أمراً أما جبريل فوكل بالرياح والجنود وأما ميكائيل فوكل بالقطر والنبات وأما ملك الموت فوكل بقبض الأنفس وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم وقوم منهم موكلون بحفظ بني آدم وقوم آخرون بكتابة أعمالهم وقوم آخرون بالخسف والمسخ والرياح والسحاب والأمطار بقي على الآية سؤالان
السؤال الأول لم قال فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً ولم يقل أموراً فإنهم يدبرون أموراً كثيرة لا أمراً واحداً والجواب أن المراد به الجنس وإذا كان كذلك قام مقام الجمع
السؤال الثاني قال تعالى إن الأمر كله لله فكيف أثبت لهم ههنا تدبير الأمر والجواب لما كان ذلك الإتيان به كان الأمر كأنهله فهذا تلخيص ما قاله المفسرون في هذا الباب وعندي فيه وجه آخر وهو أن الملائكة لها صفات سلبية وصفات إضافية أما الصفات السلبية فهي أنها مبرأة عن الشهوة والغضب والأخلاق الذميمة والموت والهرم والسقم والتركيب من الأعضاء والأخلاط والأركان بل هي جواهر روحانية مبرأة عن هذه الأحوال فقوله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً إشارة إلى كونها منزوعة عن هذه الأحوال نزعاً كلياً من جميع الوجوه وعلى هذا التفسير النازعات هي ذوات النزع كاللابن والتامر وأما قوله وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً إشارة إلى أن خروجها عن هذه الأحوال ليس على سبيل التكليف والمشقة كما في حق البشر بل هم بمقتضى ماهياتهم خرجوا عن هذه الأحوال وتنزهوا عن هذه الصفات فهاتان الكلمتان إشارتان إلى تعريف أحوالهم السلبية وأما صفاتهم الإضافية فهي قسمان أحدهما شرح قوتهم العاقلة أي كيف حالهم في معرفة ملك الله وملكوته والاطلاع على نور جلاله فوصفهم في هذا المقام بوصفين أحدهما قوله وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فهم يسبحون من أول فطرتهم في بحار جلال الله ثم لا منتهى لسباحتهم لأنه لا منتهى لعظمة الله وعلو صمديته ونور جلاله وكبريائه فهم أبداً في تلك السباحة وثانيهما قوله

فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً وهو إشارة إلى مراتب الملائكة في تلك السباحة فإنه كما أن مراتب معارف البهائم بالنسبة إلى مراتب معارف البشر ناقصة ومراتب معارف البشر بالنسبة إلى مراتب معارف الملائكة ناقصة فكذلك معارف بعض تلك الملائكة بالنسبة إلى مراتب معارف الباقين متفاوتة وكما أن المخالفة بين نوع الفرس ونوع الإنسان بالماهية لا بالعوارض فكذا المخالفة بين شخص كل واحد من الملائكة وبين شخص الآخر بالماهية فإذا كانت أشخاصها متفاوتة بالماهية لا بالعوارض كانت لا محالة متفاوتة في درجات المعرفة وفي مراتب التجلي فهذا هو المراد من قوله فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فهاتان الكلمتان المراد منهما شرح أحوال قوتهم العاقلة
وأما قوله فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً فهو إشارة إلى شرح حال قوتهم العاملة وذلك لأن كل حال من أحوال العالم السفلي مفوض إلى تدبير واحد من الملائكة الذين هم عمار العالم العلوي وسكان بقاع السموات ولما كان التدبير لا يتم إلا بعد العلم لا جرم قدم شرح القوة العاقلة التي لهم على شرح القوة العاملة التي لهم فهذا الذي ذكرته احتمال ظاهر والله أعلم بمراده من كلامه
واعلم أن أبا مسلم بن بحر الأصفهاني طعن في حمل هذه الكلمات على الملائكة وقال واحد النازعات نازعة وهو من لفظ الإناث وقد نزه الله تعالى الملائكة عن التأنيث وعاب قول الكفار حيث قال وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 )
واعلم أن هذا طعن لا يتوجه على تفسيرنا لأن المراد الأشياء ذوات النزع وهذا القدر لا يقتضي ما ذكر من التأنيث
الوجه الثاني في تأويل هذه الكلمات أنها هي النجوم وهو قول الحسن البصري ووصف النجوم بالنازعات يحتمل وجوهاً أحدها كأنها تنزع من تحت الأرض فتنجذب إلى ما فوق الأرض فإذا كانت منزوعة كانت ذوات نزع فيصح أن يقال إنها نازعة على قياس اللابن والتامر وثانيها أن النازعات من قولهم نزع إليه أي ذهب نزوعاً هكذا قاله الواحدي فكأنها تطلع وتغرب بالنزع والسوق والثالث أن يكون ذلك من قولهم نزعت الخيل إذا جرت فمعنى وَالنَّازِعَاتِ أي والجاريات على السير المقدر والحد المعين وقوله غَرْقاً يحتمل وجهين أحدهما أن يكون حالاً من النازعات أي هذه الكواكب كالغرقى في ذلك النزع والإرادة وهو إشارة إلى كمال حالها في تلك الإرادة فإن قيل إذا لم تكن الأفلاك والكواكب أحياء ناطقة فما معنى وصفها بذلك قلنا هذا يكون على سبيل التشبيه كقوله تعالى وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) فإن الجمع بالواو والنون يكون للعقلاء ثم إنه ذكر في الكواكب على سبيل التشبيه والثاني أن يكون معنى غرقها غيبوبتها في أفق الغرب فالنازعات إشارة إلى طلوعها وغرقاً إشارة إلى غروبها أي تنزع ثم تغرق إغراقاً وهذا الوجه ذكره قوم من المفسرين
أما قوله وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً فقال صاحب ( الكشاف ) معناه أنها تخرج من برج إلى برج من قولك ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد وأقول يرجع حاصل هذا الكلام إلى أن قوله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً إشارة إلى حركتها اليومية وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً إشارة إلى انتقالها من برج إلى برج وهو حركتها المخصوصة بها في أفلاكها الخاصة والعجب أن حركاتها اليومية قسرية وحركتها من برج إلى برج ليست قسرية بل

ملائمة لذواتها فلا جرم عبر عن الأول بالنزع وعن الثاني بالنشط فتأمل أيها المسكين في هذه الأسرار
وأما قوله وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فقال الحسن وأبو عبيدة رحمهما الله هي النجوم تسبح في الفلك لأن مرورها في الجو كالسبح ولهذا قال كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 )
وأما قوله فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فقال الحسن وأبو عبيدة وهي النجوم يسبق بعضها بعضاً في السير بسبب كون بعضها أسرع حركة من البعض أو بسبب رجوعها أو استقامتها
وأما قوله تعالى فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً ففيه وجهان أحدهما أن بسبب سيرها وحركتها يتميز بعض الأوقات عن بعض فتظهر أوقات العبادات على ما قال تعالى فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ وقال يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ ( البقرة 189 ) وقال لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ ولأن بسبب حركة الشمس تختلف الفصول الأربعة ويخلف بسبب اختلافها أحوال الناس في المعاش فلا جرم أضيفت إليها هذه التدبيرات والثاني أنه لما ثبت بالدليل أن كل جسم محدث ثبت أن الكواكب محدثة مفتقرة إلى موجد يوجدها وإلى صانع يخلقها ثم بعد هذا لو قدرنا أن صانعها أودع فيها قوى مؤثرة في أحوال هذا العالم فهذا يطعن في الدين البتة وإن لم نقل بثبوت هذه القوى أيضاً لكنا نقول أن الله سبحانه وتعالى أجرى عادته بأن جعل كل واحد من أحوالها المخصوصة سبباً لحدوث حادث مخصوص في هذا العالم كما جعل الأكل سبباً للشبع والشرب سبباً للري ومماسة النار سبباً للاحتراق فالقول بهذا المذهب لا يضر الإسلام البتة بوجه من الوجوه والله أعلم بحقيقة الحال
الوجه الثالث في تفسير هذه الكلمات الخمسة أنها هي الأرواح وذلك لأن نفس الميت تنزع يقال فلان في النزع وفلان ينزع إذا كان في سياق الموت والأنفس نازعات عند السياق ومعنى غَرْقاً أي نزعاً شديداً أبلغ ما يكون وأشد من إغراق النازع في القوس وكذلك تنشط لأن النشط معناه الخروج ثم الأرواح البشرية الخالية عن العلائق الجسمانية المشتاقة إلى الاتصال العلوي بعد خروجها من ظلمة الأجساد تذهب إلى عالم الملائكة ومنازل القدس على أسرع الوجوه في روح وريحان فعبر عن ذهابها على هذه الحالة بالسباحة ثم لا شك أن مراتب الأرواح في النفرة عن الدنيا ومجبة الاتصال بالعالم العلوي مختلفة فكلما كانت أتم في هذه الأحوال كان سيرها إلى هناك أسبق وكلما كانت أضعف كان سيرها إلى هناك أثقل ولا شك أن الأرواح السابقة إلى هذه الأحوال أشرف فلا جرم وقع القسم بها ثم إن هذه الأرواح الشريفة العالية لا يبعد أن يكون فيها ما يكون لقوتها وشرفها يظهر منها آثار في أحوال هذا العالم فهي فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً أليس أن الإنسان قد يرى أستاذه في المنام ويسأله عن مشكلة فيرشده إليها أليس أن الابن قد يرى أباه في المنام فيهديه إلى كنز مدفون أليس أن جالينوس قال كنت مريضاً فعجزت عن علاج نفسي فرأيت في المنام واحداً أرشدني إلى كيفية العلاج أليس أن الغزالي قال إن الأرواح الشريفة إذا فارقت أبدانها ثم اتفق إنسان مشابه للإنسان الأول في الروح والبدن فإنه لا يبعد أن يحصل للنفس المفارقة تعلق بهذا البدن حتى تصير كالمعاونة للنفس المتعلقة بذلك البدن على أعمال الخير فتسمى تلك المعاونة إلهاماً ونظيره في جانب النفوس الشريرة وسوسة وهذه المعاني وإن لم تكن منقولة عن المفسرين إلا أن اللفظ

محتمل لها جداً
الوجه الرابع في تفسير هذه الكلمات الخمس أنها صفات خيل الغزاة فهي نازعات لأنها تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب وهي ناشطات لأنها تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب من قولهم ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد وهي سابحات لأنها تسبح في جريها وهي سابقات لأنها تسبق إلى الغاية وهي مدبرات لأمر الغلبة والظفر وإسناد التدبير إليها مجاز لأنها من أسبابه
الوجه الخامس وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله أن هذه صفاة الغزاة فالنازعات أيدي الغزاة يقال للرامي نزع في قوسه ويقال أغرق في النزع إذا استوفى مد القوس والناشطات السهام وهي خروجها عن أيدي الرماة ونفوذها وكل شيء حللته فقد نشطته ومنه نشاط الرجل وهو انبساطه وخفته والسابحات في هذا الموضع الخيل وسبحها العدو ويجوز أن يعني به الإبل أيضاً والمدبرات مثل المعقبات والمراد أنه يأتي في أدبار هذا الفعل الذي هو نزع السهام وسبح الخيل وسبقها الأمر الذي هو النصر ولفظ التأنيث إنما كان لأن هؤلاء جماعات كما قيل المدبرات ويحتمل أن يكون المراد الآلة من القوس والأوهاق على معنى المنزوع فيها والمنشوط بها
الوجه السادس أنه يمكن تفسير هذه الكلمات بالمراتب الواقعة في رجوع القلب من غير الله تعالى إلى الله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً هي الأرواح التي تنزع إلى اعتلاق العروة الوثقى أو المنزوعة عن محبة غير الله تعالى وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً هي أنها بعد الرجوع عن الجسمانيات تأخذ في المجاهدة والتخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى بنشاط تام وقوة قوية وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً ثم إنها بعد المجاهدة تسرح في أمر الملكوت فتقطع في تلك البحار فتسبح فيها فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً إشارة إلى تفاوت الأرواح في درجات سيرها إلى الله تعالى فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً إشارة إلى أن آخر مراتب البشرية متصلة بأول درجات الملكية فلما انتهت الأرواح البشرية إلى أقصى غاياتها وهي مرتبة السبق اتصلت بعالم الملائكة وهو المراد من قوله فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً فالأربعة الأول هي المراد من قوله يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء ( النور 35 ) والخامسة هي النار في قوله وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ( النور 35 )
واعلم أن الوجوه المنقولة عن المفسرين غير منقولة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نصاً حتى لا يمكن الزيادة عليها بل إنما ذكروها لكون اللفظ محتملاً لها فإذا كان احتمال اللفظ لما ذكرناه ليس دون احتماله للوجوه التي ذكروها لم يكن ما ذكروه أولى مما ذكرناه إلا أنه لا بد ههنا من دقيقة وهو أن اللفظ محتمل للكل فإن وجدنا بين هذه المعاني مفهوماً واحداً مشتركاً حملنا اللفظ على ذلك المشترك وحينئذ يندرج تحته جميع هذه الوجوه أما إذا لم يكن بين هذه المفهومات قدر مشترك تعذر حمل اللفظ على الكل لأن اللفظ المشترك لا يجوز استعماله لإفادة مفهومية معاً فحينذ لا نقول مراد الله تعالى هذا بل نقول يحتمل أن يكون هذا هو المراد أما الجزم فلا سبيل إليه ههنا
الاحتمال الثاني وهو أن تكون الألفاظ الخمسة صفات لشيء واحد بل لأشياء مختلفة ففيه أيضاً وجوه الأول النازعات غرقاً هي القسى والناشطات نشطاً هي الأوهاق والسابحات السفن والسابقات الخيل والمدبرات الملائكة رواه واصل بن السائب عن عطاء الثاني نقل عن مجاهد في

النازعات والناشطات والسابحات أنها الموت وفي السابقات والمدبرات أنها الملائكة وإضافة النزع والنشط والسبح إلى الموت مجاز بمعنى أنها حصلت عند حصوله الثالث قال قتادة الجميع هي النجوم إلا المدبرات فإنها هي الملائكة
المسألة الثانية ذكر فالسابقات بالفاء والتي قبلها بالواو وفي علته وجهان الأول قال صاحب ( الكشاف ) إن هذه مسيبة عن التي قبلها كأنه قيل واللاتي سبحن فسبقن كما تقول قام فذهب أوجب الفاء أن القيام كان سبباً للذهاب ولو قلت قام وذهب لم تجعل القيام سبباً للذهاب قال الواحدي قول صاحب ( النظم ) غير مطرد في قوله فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً لأنه يبعد أن يجعل السبق سبباً للتدبير وأقول يمكن الجواب عن اعتراض الواحدي رحمه الله من وجهين الأول لا يبعد أن يقال إنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيرها وإصلاحها فتكون هذه أفعالاً يتصل بعضها ببعض كقولك قام زيد فذهب فضرب عمراً الثاني لا يبعد أن يقال إنهم لما كانوا سابقين في أداء الطاعات متسارعين إليها ظهرت أمانتهم فلهذا السبب فوض الله إليهم تدبير بعض العالم الوجه الثاني أن الملائكة قسمان الرؤساء والتلامذة والدليل عليه أنه سبحانه وتعالى قال قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( السجدة 11 ) ثم قال حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ( الأنعام 61 ) فقلنا في التوفيق بين الآيتين أن ملك الموت هو الرأس والرئيس وسائر الملائكة هم التلامذة إذا عرفت هذا فتقول النازعات والناشطات والسابحات محمولة على التلامذة الذين هم يباشرون العمل بأنفسهم ثم قوله تعالى فَالسَّابِقَاتِ فَالْمُدَبّراتِ إشارة إلى الرؤساء الذين هم السابقون في الدرجة والشرف وهم المدبرون لتلك الأحوال والأعمال
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَة ُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَة ُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَة ٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَة ٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى جواب القسم المتقدم محذوف أو مذكور فيه وجهان الأول أنه محذوف ثم على هذا الوجه في الآية احتمالات
الأول قال الفراء التقدير لتبعثن والدليل عليه ما حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا أَءذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَة ً ( النازعات 11 ) أي أنبعث إذا صرنا عظاماً نخرة الثاني قال الأخفش والزجاج لننفخن في الصور نفختين ودل على هذا المحذوف ذكر الراجفة والرادفة وهما النفختان الثالث قال الكسائي الجواب المضمر هو أن القيامة واقعة وذلك لأنه سبحانه وتعالى قال وَالذرِيَاتِ ذَرْواً ( الذاريات 1 ) ثم قال إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( الذاريات 5 ) وقال وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ( المرسلات 7 1 ) فكذلك ههنا فإن القرآن كالسورة الواحدة القول الثاني أن الجواب مذكور وعلى هذا القول احتمالات الأول المقسم عليه هو قوله قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَة ٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَة ٌ والتقدير والنازعات غرقاً أن يوم ترجف الراجفة تحصل قلوب واجفة وأبصارها خاشعة الثاني جواب القسم هو قوله هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ( النازعات 15 ) فإن هل

ههنا بمعنى قد كما في قوله هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة ِ ( الغاشية 1 ) أي قد أتاك حديث الغاشية الثالث جواب القسم هو قوله إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَة ً لّمَن يَخْشَى ( النازعات 26 )
المسألة الثانية ذكروا في ناصب يوم بوجهين أحدهما أنه منصوب بالجواب المضمر والتقدير لتبعثن يوم ترجف الراجفة فإن قيل كيف يصح هذا مع أنهم لا يبعثون عند النفخة الأولى والراجفة هي النفخة الأولى قلنا المعنى لتبعثن في الوقت الواسع الذي يحصل فيه النفختان ولا شك أنهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع وهو وقت النفخة الأخرى ويدل على ما قلناه أن قوله تَتْبَعُهَا الرَّادِفَة ُ جعل حالاً عن الراجفة والثاني أن ينصب يوم ترجف بما دل عليه قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَة ٌ أي يوم ترجف وجفت القلوب
المسألة الثالثة الرجفة في اللغة تحتمل وجهين أحدهما الحركة لقوله يَوْمَ تَرْجُفُ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ ( المزمل 14 ) الثاني الهدة المنكرة والصوت الهائل من قولهم رجف الرعد يرجف رجفاً ورجيفاً وذلك تردد أصواته المنكرة وهدهدته في السحاب ومنه قوله تعالى فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ ( الأعراف 91 ) فعلى هذا الوجه الراجفة صيحة عظيمة فيها هول وشدة كالرعد وأما الرادفة فكل شيء جاء بعد شيء آخر يقال ردفه أي جاء بعده وأما القلوب الواجفة فهي المضطربة الخائفة يقال وجف قلبه يجف وجافاً إذا اضطرب ومنه إيجاف الدابة وحملها على السير الشديد وللمفسرين عبارات كثيرة في تفسير الواجفة ومعناها واحد قالوا خائفة وجلة زائدة عن أماكنها قلقة مستوفزة مرتكضة شديدة الاضطراب غير ساكنة أبصار أهلها خاشعة وهو كقوله خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِى ّ ( الشورى 45 ) إذا عرفت هذا فنقول اتفق جمهور المفسرين على أن هذه الأمور أحوال يوم القيامة وزعم أبو مسلم الأصفهاني أنه ليس كذلك ونحن نذكر تفاسير المفسرين ثم نشرح قول أبي مسلم
أما القول الأول وهو المشهور بين الجمهور أن هذه الأحوال أحوال يوم القيامة فهؤلاء ذكروا وجوهاً أحدها أن الراجفة هي النفخة الأولى وسميت به إما لأن الدنيا تتزلزل وتضطرب عندها وإما لأن صوت تلك النفخة هي الراجفة كما بينا القول فيه والراجفة رجفة أخرى تتبع الأولى فتضطرب الأرض لإحياء الموتى كما اضطربت في الأولى لموت الأحياء على ما ذكره تعالى في سورة الزمر ثم يروى عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن بين النفختين أربعين عاماً ويروى في هذه الأربعين يمطر الله الأرض ويصير ذلك الماء عليها كالنطف وأن ذلك كالسبب للأحياء وهذا مما لا حاجة إليه في الإعادة ولله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وثانيها الراجفة هي النفخة الأولى والرادفة هي قيام الساعة من قوله عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ ( النمل 72 ) أي القيامة التي يستعجلها الكفرة استبعاداً لها فهي رادفة لهم لاقترابها وثالثها الراجفة الأرض والجبال من قوله يَوْمَ تَرْجُفُ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ والرادفة السماء والكواكب لأنها تنشق وتنتثر كواكبها على أثر ذلك ورابعها الراجفة هي الأرض تتحرك وتتزلزل والرادفة زلزلة ثانية تتبع الأولى حتى تنقطع الأرض وتفنى القول الثاني وهو قول أبي مسلم أن هذه الأحوال ليست أحوال يوم القيامة وذلك لأنا نقلنا عنه أنه فسر النازعات بنزع القوس والناشطات بخروج السهم والسابحات بعدو الفرس والسابقات بسبقها والمدبرات بالأمور التي تحصل أدبار ذلك الرمي والعدو ثم بنى على ذلك فقال الراجفة هي خيل المشركين وكذلك الرادفة ويراد بذلك طائفتان من المشركين غزوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )

فسبقت إحداهما الأخرى والقلوب الواجفة هي القلقة والأبصار الخاشعة هي أبصار المنافقين كقوله الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِى ّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ( محمد 20 ) كأنه قيل لما جاء خيل العدو يرجف وردفتها أختها اضطرب قلوب المنافقين خوفاً وخشعت أبصارهم جبناً وضعفاً ثم قالوا أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَة ِ ( النازعات 10 ) أي نرجع إلى الدنيا حتى نتحمل هذا الخوف لأجلها وقالوا أيضاً تِلْكَ إِذاً كَرَّة ٌ خَاسِرَة ٌ ( النازعات 12 ) فأول هذا الكلام حكاية لحال من غزا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من المشركين وأوسطه حكاية لحال المنافقين وآخره حكاية لكلام المنافقين في إنكار الحشر ثم إنه سبحانه وتعالى أجاب عن كلامهم بقوله فَإِنَّمَا هِى َ زَجْرَة ٌ واحِدَة ٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَة ِ ( النازعات 14 13 ) وهذا كلام أبي مسلم واللفظ محتمل له وإن كان على خلاف قول الجمهور
قوله تعالى قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَة ٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَة ٌ اعلم أنه تعالى لم يقل القلوب يومئذ واجفة فإنه ثبت بالدليل أن أهل الإيمان لا يخافون بل المراد منه قلوب الكفار ومما يؤكد ذلك أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَة ِ ( النازعات 10 ) وهذا كلام الكفار لا كلام المؤمنين وقوله أَبْصَارُهَا خَاشِعَة ٌ لأن المعلوم من حال المضطرب الخائف أن يكون نظره نظر خاشع ذليل خاضع يترقب ما ينزل به من الأمر العظيم وفي الآية سؤالان
السؤال الأول كيف جاز الابتداء بالنكرة الجواب قلوب مرفوعة بالابتداء وواجفة صفتها وأبصارها خاشعة خبرها فهو كقوله وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ ( البقرة 221 )
السؤال الثاني كيف صحت إضافة الأبصار إلى القلوب الجواب معناه أبصار أصحابها بدليل قوله يقولون ثم اعلم أنه تعالى حكى ههنا عن منكري البعث أقوالاً ثلاثة
أولها قوله تعالى يَقُولُونَ أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَة ِ يقال رجع فلان في حافرته أي في طريقه التي جاء فيها فحفرها أي أثر فيها بمشيه فيها جعل أثر قدميه حفراً فهي في الحقيقة محفورة إلا أنها سميت حافرة كما قيل فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) و مَّاء دَافِقٍ ( الطارق 6 ) أي منسوبة إلى الحفر والرضا والدفق أو كقولهم نهارك صائم ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته أي إلى طريقته وفي الحديث ( إن هذا الأمر لا يترك على حاله حتى يرد على حافرته ) أي على أول تأسيسه وحالته الأولى وقرأ أبو حيوة في الحفرة والحفرة بمعنى المحفورة يقال حفرت أسنانه فحفرت حفراً وهي حفرة هذه القراءة دليل على أن الحافرة في أصل الكلمة بمعنى المحفور إذا عرفت هذا ظهر أن معنى الآية أنرد إلى أول حالنا وابتداء أمرنا فنصير أحياء كما كنا
وثانيها قوله تعالى أَءذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَة ً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة وعاصم ناخرة بألف وقرأ الباقون نخرة بغير ألف واختلفت الرواية عن الكسائي فقيل إنه كان لا يبالي كيف قرأها وقيل إنه كان يقرؤها بغير ألف ثم رجع إلى الألف واعلم أن

أبا عبيدة اختار نخرة وقال نظرنا في الآثار التي فيها ذكر العظام التي قد نخرت فوجدناها كلها العظام النخرة ولم نسمع في شيء منها الناخرة وأما من سواه فقد اتفقوا على أن الناخرة لغة صحيحة ثم اختلف هؤلاء على قولين الأول أن الناخرة والنخرة بمعنى واحد قال الأخفش هما جميعاً لغتان أيهما قرأت فحسن وقال الفراء الناخر والنخر سواء في المعنى بمنزله الطامع والطمع والباخل والبخل وفي كتاب ( الخليل ) نخرت الخشبة إذا بليت فاسترخت حتى تتفتت إذا مست وكذلك العظم الناخر ثم هؤلاء الذين قالوا هما لغتان والمعنى واحد اختلفوا فقال الزجاج والفراء الناخرة أشبه الوجهين بالآية لأنها تشبه أواخر سائر الآي نحو الحافرة والساهرة وقال آخرون الناخرة والنخر كالطامع والطمع واللابث واللبث وفعل أبلغ من فاعل القول الثاني أن النخرة غير والناخرة غير أما النخرة فهو من نخر العظم ينخر فهو نخر مثل عفن يعفن فهو عفن وذلك إذا بلي وصار بحيث لو لمسته لتفتت وأما الناخرة فهي العظام الفارغة التي يحصل من هبوب الريح فيها صوت كالنخير وعلى هذا الناخرة من النخير بمعنى الصوت كنخير النائم والمخنوق لا من النخر الذي هو البلى
المسألة الثانية إذاً منصوب بمحذوف تقدير إذا كنا عظاماً نرد ونبعث
المسألة الثالثة اعلم أن حاصل هذه الشبهة أن الذي يشير إليه كل أحد إلى نفسه بقوله أنا هو هذا الجسم المبني بهذه البنية المخصوصة فإذا مات الإنسان فقد بطل مزاجه وفسد تركيبه فتمتنع إعادته لوجوه أحدها أنه لا يكون الإنسان العائد هو الإنسان الأول إلا إذا دخل التركيب الأول في الوجود مرة أخرى وذلك قول بإعادة عين ما عدم أولاً وهذا محال لأن الذي عدم لم يبق له عين ولا ذات ولا خصوصية فإذا دخل شيء آخر في الوجود استحال أيقال بأن العائد هو عين ما فني أولاً وثانيها أن تلك الأجزاء تصير تراباً وتتفرق وتختلط بأجزاء كل الأرض وكل المياه وكل الهواء فتميز تلك الأجزاء بأعيانها عن كل هذه الأشياء محال وثالثها أن الأجزاء الترابية باردة يابسة قشفة فتولد الإنسان الذي لا بد وأن يكون حاراً رطباً في مزاجه عنها محال هذا تمام تقرير كلام هؤلاء الذين احتجوا على إنكار البعث بقولهم أَءذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَة ً والجواب عن هذه الشبهة من وجوه أولها وهو الأقوى لا نسلم أن المشار إليه لكل أحد بقوله أنا هو هذا الهيكل ثم إن الذي يدل على فساده وجهان الأول أن أجزاء هذا الهيكل في الزوبان والتبدل والذي يشير إليه كل أحد إلى نفسه بقوله أنا ليس في التبدل والمتبدل مغاير لما هو غير متبدل والثاني أن الإنسان قد يعرف أنه هو حال كونه غافلاً عن أعضائه الظاهرة والباطنة والمشعور به مغاير لما هو غير مشعور به وإلا لاجتمع النفي والإثبات على الشيء الواحد وهو محال فثبت أن المشار إليه لكل أحد بقوله أنا ليس هو هذا الهيكل ثم ههنا ثلاث احتمالات أحدها أن يكون ذلك الشيء موجوداً قائماً بنفسه ليس بجسم ولا بجسماني على ما هو مذهب طائفة عظيمة من الفلاسفة ومن المسلمين وثانيها أن يكون جسماً مخالفاً بالماهية لهذه الأجسام القابلة للإنحلال والفساد سارية فيها سريان النار في الفحم وسريان الدهن في السمسم وسريان ماء الورد في جرم الورد فإذا فسد هذا الهيكل تقلصت تلك الأجزاء وبقيت حية مدركة عاقلة إما في الشقاوة أو في السعادة وثالثها أن يقال إنه جسم مساو لهذه الأجسام في الماهية إلا أن الله تعالى خصها بالبقاء والاستمرار من أول حال تكون شخص في الوجود إلى آخر عمره وأما سائر الأجزاء المتبدلة تارة

بالزيادة وأخرى بالنقصان فهي غير داخلة في المشار إليه بقوله أنا فعند الموت تنفصل تلك الأجزاء وتبقى حية إما في السعادة أو في الشقاوة وإذا ظهرت هذه الاحتمالات ثبت أنه لا يلزم من فساد البدن وتفرق أجزائه فساد ما هو الإنسان حقيقة وهذا مقام حسن متين تنقطع به جميع شبهات منكري البعث وعلى هذا التقدير لا يكون لصيرورة العظام نخرة بالية متفرقة تأثير في دفع الحشر والنشر ألبتة سلمنا على سبيل المسامحة أن الإنسان هو مجموع هذا الهيكل فلم قلتم إن الإعادة ممتنعة قوله ( أولاً ) المعدوم لا يعاد قلنا أليس أن حال عدمه لم يمتنع عندكم صحة الحكم عليه بأنه يمتنع عوده فلم لا يجوز أن لا يمتنع على قولنا أيضاً صحة الحكم عليه بالعود قول ثانياً الأجزاء القليلة مختلطة بأجزاء العناصر الأربعة قلنا لكن ثبت أن خالق العالم عام بجميع الجزئيات وقادر على كل الممكنات فيصح منه جمعها بأعيانها وإعادة الحياة إليها قوله ثالثاً الأجسام القشفة اليابسة لا تقبل الحياة قلنا نرى السمندل يعيش في النار والنعامة تبتلع الحديدة المحماة والحيات الكبار العظام متولدة في الثلوج فبطل الاعتماد على الاستقراء والله الهادي إلى الصدق والصواب
قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّة ٌ خَاسِرَة ٌ
النوع الثالث من الكلمات التي حكاها الله تعالى عن منكري البعث قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّة ٌ خَاسِرَة ٌ والمعنى كرة منسوبة إلى الخسران كقولك تجارة رابحة أو خاسر أصحابها والمعنى أنها إن صحت فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا وهذا منهم استهزاء
فَإِنَّمَا هِى َ زَجْرَة ٌ وَاحِدَة ٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَة ِ
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذه الكلمات قال فَإِنَّمَا هِى َ زَجْرَة ٌ واحِدَة ٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الفاء في قوله فَإِذَا هُم متعلق بمحذوف معناه لا تستصعبوها فإنما هي زجرة واحدة يعني لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله فإنها سهلة هينة في قدرته
المسألة الثانية يقال زجر البعير إذا صاح عليه والمراد من هذه الصيحة النفخة الثانية وهي صيحة إسرافيل قال المفسرون يحيهم الله في بطون الأرض فيسمعونها فيقومون ونظير هذه الآية قوله تعالى وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء إِلاَّ صَيْحَة ً واحِدَة ً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ( ص 15 )
المسألة الثالثة الساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك لوجهين الأول أن سالكها لا ينام خوفاً منها الثاني أن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة جارية الماء وعندي فيه وجه ثالث وهي أن الأرض إنما تسمى ساهرة لأن من شدة الخوف فيها يطير النوم من الإنسان فتلك الأرض التي يجتمع الكفار فيها في موقف القيامة يكونون فيها في أشد الخوف فسميت تلك الأرض ساهرة لهذا السبب ثم اختلفوا من وجه آخر فقال بعضهم هي أرض الدنيا وقال آخرون هي أرض الآخرة لأنهم عند الزجرة والصيحة ينقلون أفواجاً إلى أرض الآخرة ولعل هذا الوجه أقرب

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن وجه المناسبة بين هذه القصة وبين ما قبلها من وجهين الأول أنه تعالى حكى عن الكفار إصرارهم على إنكار البعث حتى انتهوا في ذلك الإنكار إلى حد الاستهزاء في قولهم تِلْكَ إِذاً كَرَّة ٌ خَاسِرَة ٌ ( النازعات 12 ) وكان ذلك يشق على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر قصة موسى عليه السلام وبين أنه تحمل المشقة الكثيرة في دعوة فرعون ليكون ذلك كالتسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني أن فرعون كان أقوى من كفار قريش وأكثر جمعاً وأشد شوكة فلما تمرد على موسى أخذه الله نكال الآخرة والأولى فكذلك هؤلاء المشركون في تمردهم عليك إن أصروا أخذهم الله وجعلهم نكالاً
المسألة الثانية قوله هَلُ أَتَاكَ يحتمل أن يكون معناه أليس قد أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى هذا إن كان قد أتاه ذلك قبل هذا الكلام أما إن لم يكن قد أتاه فقد يجوز أن يقال هَلُ أَتَاكَ كذا أم أنا أخبرك به فإن فيه عبرة لمن يخشى
المسألة الثالثة الوادي المقدس المبارك المطهر وفي قوله طُوًى وجوه أحدها أنه اسم وادي بالشام وهو عند الطور الذي أقسم الله به في قوله وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ ( الطور 2 1 ) وقوله وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاْيْمَنِ ( مريم 52 ) والثاني أنه بمعنى يا رجل بالعبرانية فكأنه قال يا رجل اذهب إلى فرعون وهو قول ابن عباس والثالث أن يكون قوله طُوًى أي ناداه طُوًى من الليلة اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ لأنك تقول جئتك بعد طُوًى أي بعد ساعة من الليل والرابع أن يكون المعنى بالوادي المقدس الذي طوى أي بورك فيه مرتين
المسألة الرابعة قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو طُوًى بضم الطاء غير منون وقرأ الباقون بضم الطاء منوناً وروي عن أبي عمرو طوى بكسر الطاء وطوى مثل ثنى وهما اسمان للشيء المثنى والطي بمعنى الثني أي ثنيت في البركة والتقديس قال القراء طُوًى واد بين المدينة ومصر فمن صرفه قال هو ذكر سمينا به ذكراً ومن لم يصرفه جعله معدولاً عن جهته كعمر وزفر ثم قال والصرف أحب إلي إذ لم أجد في المعدول نظيراً أي لم أجد اسماً من الواو والياء عدل عن فاعلة إلى فعل غير طُوًى
المسألة الخامسة تقدير الآية إذ ناداه ربه وقال اذهب إلى فرعون وفي قراءة عبدالله أن اذهب لأن في النداء معنى القول وأما أن ذلك النداء كان بإسماع الكلام القديم أو بإسماع الحرف والصوت وإن كان على هذا الوجه فكيف عرف موسى أنه كلام الله فكل ذلك قد تقدم في سورة طه
المسألة السادسة أن سائر الآيات تدل على أنه تعالى في أول ما نادى موسى عليه السلام ذكر له أشياء كثيرة كقوله في سورة طه نُودِى َ يامُوسَى مُوسَى إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ إلى قوله لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ( طه 24 23 ) فدل ذلك على أن قوله ههنا اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى من جملة ما ناداه

به ربه لا أنه كل ما ناداه به وأيضاً ليس الغرض أنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى فرعون فقط بل إلى كل من كان في ذلك الطرف إلا أنه خصه بالذكر لأن دعوته جارية مجرى دعوة كل ذلك القوم
المسألة السابعة الطغيان مجاوزة الحد ثم إنه تعالى لم يبين أنه تعدى في أي شيء فلهذا قال بعض المفسرين معناه أنه تكبر على الله وكفر به وقال آخرون إنه طغى على بني إسرائيل والأولى عندي الجمع بين الأمرين فالمعنى أنه طغى على الخالق بأن كفر به وطغى على الخلق بأن تكبر عليهم واستعبدهم وكما أن كمال العبودية ليس إلا صدق المعاملة مع الخالق ومع الخلق فكذا كمال الطغيان ليس إلا الجمع بين سوء المعاملة مع الخالق ومع الخلق
واعلم أنه تعالى لما بعثه إلى فرعون لقنه كلامين ليخاطبه بهما
فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى
فالأول قول تعالى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وفيه مسائل
المسألة الأولى يقال هل لك في كذا وهل لك إلى كذا كما تقول هل ترغب فيه وهل ترغب إليه قال الواحدي المبتدأ محذوف في اللفظ مراد في المعنى والتقدير هل لك إلى تزكى حاجة أو إربه قال الشاعر فهل لكم فيها إلي فإنني
بصير بما أعيا النطاسي حذيما
ويحتمل أن يكون التقدير هل لك سبيل إلى أن تزكى
المسألة الثانية الزكي الطاهر من العيوب كلها قال أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّة ً ( الكهف 74 ) وقال قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ( الشمس 9 ) وهذه الكلمة جامعة لكل ما يدعوه إليه لأن المراد هل لك إلى أن تفعل ما تصير به زاكياً عن كل مالا ينبغي وذلك بجمع كل ما يتصل بالتوحيد والشرائع
المسألة الثالثة فيه قراءتان التشديد على إدغام تاء التفعل في الزاي لتقاربهما والتخفيف
المسألة الرابعة المعتزلة تمسكوا به في إبطال كون الله تعالى خالقاً لفعل العبد بهذه الآية فإن هذا استفهام على سبيل التقرير أي لك سبيل إلى أن تزكى ولو كان ذلك بفعل الله تعالى لانقلب الكلام على موسى والجواب عن أمثاله تقدم
المسأة الخامسة أنه لما قال لهما فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً ( طه 44 ) فكأنه تعالى رتب لهما ذلك الكلام اللين الرقيق وهذا يدل على أنه لا بد في الدعوة إلى الله من اللين والرفق وترك الغلظة ولهذا قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( آل عمران 159 ) ويدل على أن الذين يخاشنون الناس ويبالغون في التعصب كأنهم على ضد ما أمر الله به أنبياءه ورسله
وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى
ثم قال تعالى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ فَتَخْشَى وفيه مسائل

المسألة الأولى القائلون بأن معرفة الله لا تستفاد إلا من الهادي تمسكوا بهذه الآية وقالوا إنها صريحة في أنه يهديه إلى معرفة الله ثم قالوا ومما يدل على أن هذا هو المقصود الأعظم من بعثة الرسل أمران الأول أن قوله هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى يتناول جميع الأمور التي لا بد للمبعوث إليه منها فيدخل فيه هذه الهداية فلما أعاده بعد ذلك علم أنه هو المقصود الأعظم من البعثة والثاني أن موسى ختم كلامه عليه وذلك ينبه أيضاً على أنه أشرف المقاصد من البعثة والجواب أنا لا نمنع أن يكون للتنبيه والإشارة معونة في الكشف عن الحق إنما النزاع في إنكم تقولون يستحيل حصوله إلا من المعلم ونحن لا نحل ذلك
المسألة الثانية دلت الآية على أن معرفة الله مقدمة على طاعته لأنه ذكر الهداية وجعل الخشية مؤخرة عنها ومفرعة عليها ونظيره قوله تعالى في أول النحل أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ ( النحل 2 ) وفي طه إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى ( طه 14 )
المسألة الثالثة دلت الآية على أن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة قال تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) أي العلماء به ودلت الآية على أن الخشية ملاك الخيرات لأن من خشى الله أتى منه كل خير ومن أمن اجترأ على كل شر ومنه قوله عليه السلام ( من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل )
فَأَرَاهُ الاٌّ يَة َ الْكُبْرَى
وفيه مسألتان
المسألة الأولى الفاء في فَأَرَاهُ معطوف على محذوف معلوم يعني فذهب فأراه كقوله فَقُلْنَا اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ ( البقرة 60 ) أي فضرب فانفجرت
المسألة الثانية اختلفوا في الآية الكبرى على ثلاثة أقوال الأول قال مقاتل والكلبي هي اليد لقوله في طه وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء ( النمل 12 ) آية أخرى لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى ( طه 23 ) القول الثاني قال عطاء هي العصا لأنه ليس في اليد إلا انقلاب لونه إلى لون آخر وهذا المعنى كان حاصلاً في العصا لأنها لما انقبلت حية فلا بد وأن يكون قد تغير اللون الأول فإذاً كل ما في اليد فهو حاصل في العصا ثم حصل في العصا أمور أخرى أزيد من ذلك منها حصول الحياة في الجرم الجمادى ومنها تزايد أجزائه وأجسامه ومنها حصول القدرة الكبيرة والقوة الشديدة ومنها أنها كانت ابتلعت أشياء كثيرة وكأنها فنيت ومنها زوال الحياة والقدرة عنها وفناء تلك الأجزاء التي حصل عظمها وزوال ذلك اللون والشكل اللذين بهما صارت العصا حية وكل واحد من هذه الوجوه كان معجزاً مستقلاً في نفسه فعلمنا أن الآية الكبرى هي العصاوالقول الثالث في هذه المسألة قول مجاهد وهو أن المراد من الآية الكبرى مجموع اليد والعصا وذلك لأن سائر الآيات دلت على أن أول ما أظهر موسى عليه السلام لفرعون هو العصا ثم أتبعه باليد فوجب أن يكون المراد من الآية الكبرى مجموعهما

فَكَذَّبَ وَعَصَى
أحدها قوله تعالى فَكَذَّبَ وَعَصَى وفيه مسائل
المسألة الأولى معنى قوله فَكَذَّبَ أنه كذب بدلالة ذلك المعجز على صدقه واعلم أن القدح في دلالة المعجزة على الصدق إما لاعتقاد أنه يمكن معارضته أو لأنه وإن امتنعت معارضته لكنه ليس فعلاً لله بل لغيره إما فعل جنى أو فعل ملك أو إن كان فعلاً لله تعالى لكنه ما فعله لغرض التصديق أو إن كان فعله لغرض التصديق لكنه لا يلزم صدق المدعى فإنه لا يقبح من الله شيء ألبتة فهذه مجامع الطعن في دلالة المعجز على الصدق وما بعد الآية يدل على أن فرعون إنما منع من دلالته عن الصدق لاعتقاده أنه يمكن معارضته بدليل قوله فَحَشَرَ فَنَادَى ( النازعات 23 ) وهو كقوله فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( الشعرا 53 )
المسألة الثانية في الآية سؤال وهو أن كل أحد يعلم أن كل من كذب الله فقد عصى فما الفائدة في قوله فَكَذَّبَ وَعَصَى والجواب كذب بالقلب واللسان وعصى بأن أظهر التمرد والتجبر
المسألة الثالثة هذا الذي وصفه الله تعالى به من التكذيب والمعصية مغاير لما كان حاصلاً قبل ذلك لأن تكذيبه لموسى عليها لسلام وقد دعاه وأظهر هذه المعجزة يوفى على ما تقدم من التكذيب ومعصيته بترك القبول منه والحال هذه مخالفة لمعصيته من قبل ذلك
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى
وثانيها قوله ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى وفيه وجوه أحدها أنه لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً يسعى يسرع في مشيه قال الحسن كان رجلاً طياشاً خفيفاً وثانيها تولى عن موسى يسعى ويجتهد في مكايدته وثالثها أن يكون المعنى ثم أقبل يسعى كما يقال فلان أقبل يفعل كذا بمعنى أنشأ يفعل فوضع أدبر فوضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال
فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاٌّ عْلَى
وثالثها قوله فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى فحشر فجمع السحرة كقوله فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( الشعراء 53 ) فنادى في المقام الذي اجتمعوا فيه معه أو أمر منادياً فنادى في الناس بذلك وقيل قام فيهم خطيباً فقال تلك الكلمة وعن ابن عباس كلمته الأولى مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى ( القصص 38 ) والآخرة أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى
واعلم أنا بينا في سورة ( طه ) أنه لا يجوز أن يعتقد الإنسان في نفسه كونه خالقاً للسموات والأرض والجبال والنبات والحيوان والإنسان فإن العلم بفساد ذلك ضروري فمن تشكك فيه كان مجنوناً ولو كان مجنوناً لما جاز من الله بعثة الأنبياء والرسل إليه بل الرجل كان دهرياً منكراً للصانع والحشر والنشر وكان يقول ليس لأحد عليكم أمر ولا نهي إلا لي فأنا ربكم بمعنى مربيكم والمحسن إليكم وليس للعالم إله حتى يكون له عليكم أمر ونهي أو يبعث إليكم رسولاً قال القاضي وقد كان الأليق به بعد ظهور خزيه عند انقلاب العصا حية أن لا يقول هذا القول لأن عند ظهور الذلة والعجز كيف يليق أن يقول أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى فدلت هذه الآية على أنه في ذلك الوقت صار كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول

فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاٌّ خِرَة ِ وَالاٍّ وْلَى
واعلم أنه تعالى لما حكى عنه أفعاله وأقواله أتبعه بما عامله به وهو قوله تعالى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاْخِرَة ِ وَالاْوْلَى وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في نصب نكال وجهين الأول قال الزجاج إنه مصدر مؤكد لأن معنى أخذه الله نكل الله به نكال الآخرة والأولى لأن أخذه ونكله متقاربان وهو كما يقال أدعه تركاً شديداً لأن أدعه وأتركه سواء ونظيره قوله إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ( هود 102 ) الثاني قال الفراء يريد أخذه الله أخذاً نكالاً للآخرة والأولى والنكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم
المسألة الثانية ذكر المفسرون في هذه الآية وجوهاً أحدها أن الآخرة والأولى صفة لكلمتي فرعون إحداهما قوله مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى ( القصص 38 ) والأخرى قوله أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( النازعات 24 ) قالوا وكان بينهما أربعون سنة وهذا قول مجاهد والشعبي وسعيد بن جبير ومقاتل ورواية عطاء والكلبي عن ابن عباس والمقصود التنبيه على أنه ما أخذه بكلمته الأولى في الحال بل أمهله أربعين سنة فلما ذكر الثانية أخذ بهما وهذا تنبيه على أنه تعالى يمهل ولا يهمل الثاني وهو قول الحسن وقتادة نَكَالَ الاْخِرَة ِ وَالاْوْلَى أي عذبه في الآخرة وأغرقه في الدنيا الثالث الآخرة هي قوله أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( النازعات 24 ) والأولى هي تكذيبه موسى حين أراه الآية قال القفال وهذا كأنه هو الأظهر لأنه تعالى قال فَأَرَاهُ الاْيَة َ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( النازعات 24 20 ) فذكر المعصيتين ثم قال فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاْخِرَة ِ وَالاْوْلَى فظهر أن المراد أنه عاتبه على هذين الأمرين
المسألة الثالثة قال الليث ( النكال ) اسم لمن جعل نكالاً لعيره وهو الذي إذا رآه أو بلغه خاف أن يعمل عمله وأصل الكلمة من الامتناع ومنه النكول عن اليمين وقيل للقيد نكل لأنه يمنع فالنكال من العقوبة هو أعظم حتى يمتنع من سمع به عن ارتكاب مثل ذلك الذنب الذي وقع التنكيل به وهو في العرف يقع على ما يفتضح به صاحبه ويعتبر به غيره والله أعلم
إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَة ً لِّمَن يَخْشَى
ثم إنه تعالى ختم هذه القصة بقوله تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَة ً لّمَن يَخْشَى والمعنى أن فيما اقتصصناه من أمر موسى وفرعون وما أحله الله بفرعون من الخزي ورزق موسى من العلو والنصر عبرة لمن يخشى وذلك أن يدع التمرد على الله تعالى والتكذيب لأنبيائه خوفاً من أن ينزل به ما نزل بفرعون وعلماً بأن الله تعالى ينصر أنبياءه ورسله فاعتبروا معاشر المكذبين لمحمد بما ذكرناه أي اعلموا أنكم إن شاركتموهم في المعنى الجالب للعقاب شاركتموهم في حلول العقاب بكم
أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا
ثم اعلم أنه تعالى لما ختم هذه القصة رجع إلى مخاطبة منكري البعث فقال أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في المقصود من هذا الاستدلال وجهان الأول أنه استدلال على منكري البعث فقال أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا فنبههم على أمر يعلم بالمشاهدة وذلك لأن خلقة الإنسان على صغره

وضعفه إذا أضيف إلى خلق السماء على عظمها وعظم أحوالها يسير فبين تعالى أن خلق السماء أعظم وإذا كان كذلك فخلقهم على وجه الإعادة أولى أن يكون مقدوراً لله تعالى فكيف ينكرون ذلك ونظيره قوله أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم وقوله لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( غافر 57 ) والمعنى أخلقكم بعد الموت أشد أم خلق السماء أي عندكم وفي تقديركم فإن كلا الأمرين بالنسبة إلى قدرة الله واحد والثاني أن المقصود من هذا الاستدلال بيان كونهم مخلوقين وهذا القول ضعيف لوجهين أحدهما أن من أنكر كون الإنسان مخلوقاً فبأن ينكر ( ه ) في السماء كان أولى وثانيهما أن أول السورة كان في بيان مسألة الحشر والنشر فحمل هذا الكلام عليه أولى
المسألة الثانية قال الكسائي والفراء والزجاج هذا الكلام تم عند قوله أَمِ السَّمَاء
ثم قوله تعالى بَنَاهَا ابتداء كلام آخر وعند أبي حاتم الوقف على قوله بَنَاهَا قال لأنه من صلة السماء والتقدير أم السماء التي بناها فحذف التي ومثل هذا الحذف جائز قال القفال يقال الرجل جاءك عاقل أي الرجل الذي جاءك عاقل إذا ثبت أن هذا جائز في اللغة فنقول الدليل على أن قوله بَنَاهَا صلة لما قبله أنه لو لم يكن صلة لكان صفة فقوله بَنَاهَا صفة ثم قوله رَفَعَ سَمْكَهَا ( النازعات 28 ) صفة فقد توالت صفتان لا تعلق لإحداهما بالأخرى فكان يجب إدخال العاطف فيما بينهما كما في قوله وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ( النازعات 29 ) فلما لم يكن كذلك علمنا أن قوله بَنَاهَا صلة للسماء ثم قال رَفَعَ سَمْكَهَا ابتداء بذكر صفته وللفراء أن يحتج على قوله بأنه لو كان قوله بَنَاهَا صلة للسماء لكان التقدير أم السماء ( التي ) بناها وهذا يقتضي وجود سماء ما بناها الله وذلك باطل
المسألة الثالثة الذي يدل على أنه تعالى هو الذي بنى السماء وجوه أحدها أن السماء جسم وكل جسم محدث لأن الجسم لو كان أزلياً لكان في الأزل إما أن يكون متحركاً أو ساكناً والقسمان باطلان فالقول بكون الجسم أزلياً باطل أما الحصر فلأنه إما أن يكون مستقراً حيث هو فيكون ساكناً أو لا يكون مستقراً حيث هو فيكون متحركاً وإنما قلنا إنه يستحيل أن يكون متحركاً لأن ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير وماهية الأزل تنافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال وإنما قلنا إنه يستحيل أن يكون ساكناً لأن السكون وصف ثبوتي وهو ممكن الزوال وكل ممكن الزوال مفتقر إلى الفاعل المختار وكل ما كان كذلك فهو محدث فكل سكون محدث فيمتنع أن يكون أزلياً وإنما قلنا إن السكون وصف ثبوتي لأنه يتبدل كون الجسم متحركاً بكونه ساكناً مع بقاء ذاته فأحدهما لابد وأن يكون أمراً ثبوتياً فإن كان الثبوتي هو السكون فقد حصل المقصود وأن كان الثبوتي هو الحركة وجب أيضاً أن يكون السكون ثبوتياً لأن الحركة عبارة عن الحصول في المكان بعد أن كان في غيره والسكون عبارة عن الحصول في المكان بعد أن كان فيه بعينه فالتفاوت بين الحركة والسكون ليس في الماهية بل في المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير وذلك وصف عارضي خارجي عن الماهية وإذا كان كذلك فإذا ثبت أن تلك الماهية أمر وجودي في إحدى الصورتين وجب أن تكون كذلك في سورة أخرى وإنما قلنا إن سكون السماء جائز الزوال لأنه لو

كان واجباً لذاته لامتنع زواله فكان يجب أن لا تتحرك السماء لكنا نراها الآن متحركة فعلمنا أنها لو كانت ساكنة في الأزل لكان ذلك السكون جائز الزوال وإنما قلنا إن ذلك السكون لما كان ممكناً لذاته افتقر إلى الفاعل المختار لأنه لما كان ممكناً لذاته فلا بد له من مؤثر وذلك المؤثر لا يجوز أن يكون موجباً لأن ذلك الموجب إن كان واجباً وكان غنياً في إيجابه لذلك المعلول عن شرط لزم من دوامه دوام ذلك الأثر فكان يجب أن لا يزول للسكون وإن كان واجباً ومفتقراً في إيجابه لذلك المعلول إلى شرط واجب لذاته لزم من دوام العلة ودوام الشرط دوام المعلول أما إن كان الموجب غير واجب لذاته أو كان شرط إيجابه غير واجب لذاته كان الكلام فيه كالكلام في الأول فيلزم التسلسل وهو محال أو الإنتهاء إلى موجب واجب لذاته وإلى شرط واجب لذاته وحينئذ يعود الإلزام الأول فثبت أن ذلك المؤثر لا بد وأن يكون فاعلاً مختاراً فإذاً كل سكون فهول فعل فاعل مختار وكل ما كان كذلك فهو محدث لأن المختار إنما يفعل بواسطة القصد والقصد إلى تكوين الكائن وتحصيل الحاصل محال فثبت أن كل سكون فهو محدث فثبت أنه يمتنع أن يكون الجسم في الأزل لا متحركاً ولا ساكناً فهو إذاً غير موجود في الأزل فهو محدث وإذا كان محدثاً افتقر في ذاته وفي تركيب أجزائه إلى موجد وذلك هو الله تعالى فثبت بالعقل أن باني السماء هو الله تعالى
الحجة الثانية كل ما سوى الواجب فهو ممكن وكل ممكن محدث وكل محدث فعل صانع إنما قلنا كل ما سوى الواجب ممكن لأنا لو فرضنا موجودين واجبين لذاتيهما لاشتركا في الوجود ولتباينا بالتعيين فيكون كل منهما مركباً مما به المشاركة ومما به الممايزة وكل مركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته فكل واحد من الواجبين بالذات ممكن بالذات هذا خلف ثم ينقل الكلام إلى ذينك الجزأين فإن كانا واجبين كان كل واحد من تلك الأجزاء مركباً ويلزم التسلسل وإن لم يكونا واجبين كان المفتقر إليهما أولى بعدم الوجود فثبت أن ماعدا الواجب ممكن وكل ممكن فله مؤثر وكل ما افتقر إلى المؤثر محدث لأن الافتقار إلى المؤثر لا يمكن أن يتحقق حال البقاء لاستحالة إيجاد الموجد فلا بد وأن يكون إما حال الحدوث أو حال العدم وعلى التقديرين فالحدوث لازم فثبت أن ما سوى الواجب محدث وكل محدث فلا بد له من محدث فلا بد للسماء من بان
الحجة الثالثة صريح العقل يشهد بأن جرم السماء لا يمتنع أن يكون أكبر مما هو الآن بمقدار خردلة ولا يمتنع أن يكون أصغر بمقدار خردلة فاختصاص هذا المقدار بالوقوع دون الأزيد والأنقص لا بد وأن يكون بمخصص فثبت أنه لا بد للسماء من بان فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى خلق شيئاً وأعطاه قدرة يتمكن ذلك المخلوق بتلك القدرة من خلق الأجسام فيكون خالق السماء وبانيها هو ذلك الشيء الجواب من العلماء من قال المعلوم بالعقل أنه لا بد للسماء من محدث وأنه لا بد من الانتهاء آخر الأمر إلى قديم والإله قديم واجب الوجود لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى فأما نفي الواسطة فإنما يعلم بالسمع فقوله في هذه الآية بَنَاهَا يدل على أن باني السماء هو الله لا غيره ومنهم من قال بل العقل يدل على بطلانه لأنه لما ثبت أن كل ما عداه محدث ثبت أنه قادر لا موجب والذي كان مقدوراً له إنما صح كونه مقدوراً له بكونه ممكناً فإنك لو رفعت الإمكان بقي الوجوب أو الامتناع وهما يحيلان المقدورية وإذا كان

ما لأجله صح في البعض أن يكون مقدوراً لله وهو الإمكان والإمكان عام في الممكنات وجب أن يحصل في كل الممكنات صحة أن تكون مقدورة لله تعالى وإذا ثبت ذلك ونسبة قدرته إلى الكل على السوية وجب أن يكون قادراً على الكل وإذا ثبت أن الله قادر على الممكنات فلو قدرنا قادراً آخر قدر على بعض الممكنات لزم وقوع مقدور واحد بين قادرين من جهة واحدة وذلك محال لأنه إما أن يقع بأحدهما دون الآخر وهو محال لأنهما لما كانا مستقلين بالاقتضاء فليس وقوعه بهذا أولى من وقوعه بذاك أو بهما معاً وهو أيضاً محال لأنه يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما فيكون محتاجاً إليهما معاً وغنياً عنهما معاً وهو محال فثبت بهذا أنه لا يمكن وقوع ممكن آخر بسبب آخر سوى قدرة الله تعالى وهذا الكلام جيد لكن على قول من لا يثبت في الوجود مؤثراً سوى الواحد فهذا جملة ما في هذا الباب
واعلم أنه تعالى لما بين في السماء أنه بناها بين بعد ذلك أنه كيف بناها وشرح تلك الكيفية من وجوه
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا
أولها ما يتعلق بالمكان فقال تعالى رَفَعَ سَمْكَهَا
واعلم أن امتداد الشيء إذا أخذ من أعلاه إلى أسفله سمي عمقاً وإذا أخذ من أسفله إلى أعلاه سمي سمكاً فالمراد برفع سمكها شدة علوها حتى ذكروا أن ما بين الأرض وبينها مسيرة خمسمائة عام و ( قد ) بين أصحاب الهيئة مقادير الأجرام الفلكية وأبعاد ما بين كل واحد منها وبين الأرض وقال آخرون بل المراد رفع سمكها من غير عمد وذلك مما لا يصح إلا من الله تعالى
الصفة الثانية قوله تعالى فَسَوَّاهَا وفيه وجهان الأول المراد تسوية تأليفها وقيل بل المراد نفي الشقوق عنها كقوله مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ( الملك 3 ) والقائلون بالقول الأول قالوا فَسَوَّاهَا عام فلا يجوز تخصيصه بالتسوية في بعض الأشياء ثم قال هذا يدل على كون السماء كرة لأنه لو لم يكن كرة لكان بعض جوانبه سطحاً والبعض زاوية والبعض خطاً ولكان بعض أجزائه أقرب إلينا والبعض أبعد فلا تكون التسوية الحقيقة حاصلة فوجب أن يكون كرة حتى تكون التسوية الحقيقة حاصلة ثم قالوا لما ثبت أنها محدثة مفتقرة إلى فاعل مختار فأي ضرر في الدين ينشأ من كونها كرة
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا
الصفة الثالثة قوله تعالى وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى أغطش قد يجيء لازماً يقال أغطش الليل إذا صار مظلماً ويجيء متعدياً يقال أغطشه الله إذا جعله مظلماً والغطش الظلمة والأغطش شبه الأعمش ثم ههنا سؤال وهو أن الليل اسم لزمان الظلمة الحاصلة بسبب غروب الشمس فقوله وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا يرجع معناه إلى أنه جعل المظلم مظلماً وهو بعيد والجواب معناه أن الظلمة الحاصلة في ذلك الزمان إنما حصلت بتدبير الله وتقديره وحيئنذ لا يبقى الإشكال

المسألة الثانية قوله وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا أي أخرج نهاراً وإنما عبر عن النهار بالضحى لأن الضحى أكمل أجزاء النهار في النور والضوء
المسألة الثالثة إنما أضاف الليل والنهار إلى السماء لأن الليل والنهار إنما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها ثم غروبها وطلوعها إنما يحصلان بسبب حركة الفلك فلهذا السبب أضاف الليل والنهار إلى السماء ثم إنه تعالى لما وصف كيفية خلق السماء أتبعه بكيفية خلق الأرض وذلك من وجوه
وَالاٌّرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا
الصفة الأولى قوله تعالى وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى دحاها بسطها قال زيد بن عمرو بن نفيل دحاها فلما رآها استوت
على الماء أرسى عليها الجبالا
وقال أمية بن أبي الصامت دحوت البلاد فسويتها
وأنت على طيها قادر
قال أهل اللغة في هذه اللفظة لغتان دحوت أدحو ودحيت أدحى ومثله صفوت وصفيت ولحوت العود ولحيته وسأوت الرجل وسأيته وبأوت عليه وبأيت وفي حديث علي عليه السلام ( اللهم داحى المدحيات ) أي باسط الأرضين السبع وهو المدحوات أيضاً وقيل أصل الدحو الإزالة للشيء من مكان إلى مكان ومنه يقال إن الصبي يدحو بالكرة أي يقذفها على وجه الأرض وأدحى النعامة موضعه الذي يكون فيه أي بسطته وأزلت ما فيه من حصى حتى يتمهد له وهذا يدل على أن معنى الدحو يرجع إلى الإزالة والتمهيد
المسألة الثانية ظاهر الآية يقتضي كون الأرض بعد السماء وقوله في حم السجدة ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ( فصلت 11 ) يقتضي كون السماء بعد الأرض وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ( البقرة 29 ) ولا بأس بأن نعيد بعض تلك الوجوه أحدها أن الله تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق السماء ثانياً ثم دحى الأرض أي بسطها ثالثاً وذلك لأنها كانت أولاً كالكرة المجتمعة ثم إن الله تعالى مدها وبسطها فإن قيل الدلائل الاعتبارية دلت على أن الأرض الآن كرة أيضاً وإشكال آخر وهو أن الجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي فيستحيل أن يكون هذا الجسم مخلوقاً ولا يكون ظاهره مدحواً مبسوطاً وثانيها أن لا يكون معنى قوله دَحَاهَا مجرد البسط بل يكون المراد أنه بسطها بسطاً مهيأ لنبات الأقوات وهذا هو الذي بينه بقوله أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا ( النازعات 31 ) وذلك لأن هذا الاستعداد لا يحصل للأرض إلا بعد وجود السماء فإن الأرض كالأم والسماء كالأب وما لم يحصلا لم تتولد أولاً المعادن والنباتات والحيوانات وثالثها أن يكون قوله وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ أي مع ذلك كقوله عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ( القلم 13 ) أي مع ذلك وقولك للرجل أنت كذا وكذا ثم أنت بعدها كذا لا تريد به الترتيب وقال تعالى فَكُّ رَقَبَة ٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ إلى قوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 17 ) والمعنى وكان مع هذا من أهل الإيمان بالله فهذا تقرير ما نقل عن ابن عباس ومجاهد والسدي وابن جريج أنهم قالوا في قوله وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أي مع ذلك دحاها

المسألة الثالثة لما ثبت أن الله تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق السماء ثانياً ثم دحى الأرض بعد ذلك ثالثاً ذكروا في تقدير تلك الأزمنة وجوهاً روي عن عبد الله بن عمر ( خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة ومنه دحيت الأرض ) واعلم أن الرجوع في أمثال هذه الأشياء إلى كتب الحديث أولى
أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا
الصفة الثانية قوله تعالى أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى ماؤها عيونها المتفجرة بالماء ومرعاها رعيها وهو في الأصل موضع الرعي ونصب الأرض والجبال بإضمار دحا وأرسى على شريطة التفسير وقرأهما الحسن مرفوعين على الابتداء فإن قيل هلا أدخل حرف العطف على أخرج قلنا لوجهين الأول أن يكون معنى دحاها بسطها ومهدها للسكنى ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المشارب والمآكل وإمكان القرار عليها بإخراج الماء والمرعى وإرساء الجبال وإثباتها أوتاداً لها حتى تستقر ويستقر عليها والثاني أن يكون أَخْرَجَ حالاً والتقدير والأرض بعد ذلك دحاها حال ما أخرج منها ماء ومرعاها
المسألة الثانية أراد بمرعاها ما يأكل الناس والأنعام ونظيره قوله في النحل أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ( النحل 10 ) وقال في سورة أخرى أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الاْرْضَ شَقّاً إلى قوله مَتَاعاً لَّكُمْ وَلاِنْعَامِكُمْ ( عبس 32 25 ) فكذا في هذه الآية واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ( يوسف 12 ) وقرىء نرتع من الرعي ثم قال ابن قتيبة قال تعالى وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ ( الأنبياء 30 ) فانظر كيف دل بقوله مَاءهَا وَمَرْعَاهَا على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعاً للأنام من العشب والشجر والحب والثمر والعصف والحطب واللباس والدواء حتى النار والملح أما النار فلا شك أنها من العيدان قال تعالى أَفَرَءيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ نَحْنُ ( الواقعة 72 71 ) وأما الملح فلا شك أنه متولد من الماء وأنت إذا تأملت علمت أن جميع ما يتنزه به الناس في الدنيا ويتلذذون به فأصله الماء والنبات ولهذا السبب تردد في وصف الجنة ذكرهما فقال جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ( البقرة 25 ) ثم الذي يدل على أنه تعالى أراد بالمرعى كل ما يأكله الناس والأنعام قوله في آخر هذه الآية مَتَاعاً لَّكُمْ وَلاِنْعَامِكُمْ ( النازعات 33 )
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلاًّنْعَامِكُمْ
الصفة الثالثة قوله تعالى وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا والكلام في شرح منافع الجبال قد تقدم
ثم إنه تعالى لما بين كيفية خلقه الأرض وكمية منافعها قال مَتَاعاً لَّكُمْ وَلاِنْعَامِكُمْ والمعنى أنا إنما خلقنا هذه الأشياء متعة ومنفعة لكم ولأنعامكم واحتج به من قال إن أفعال الله وأحكامه معللة بالأغراض والمصالح والكلام فيه قد مر غير مرة واعلم أنا بينا أنه تعالى إنما ذكر كيفية خلقة السماء والأرض ليستدل بها على كونه قادراً على الحشر والنشر فلما قرر ذلك وبين إمكان الحشر عقلاً أخبر بعد ذلك عن وقوعه

فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّة ُ الْكُبْرَى
وفيه مسألتان
المسألة الأولى الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع وفي اشتقاقها وجوه قال المبرد أخذت فيما أحسب من قولهم طم الفرس طميماً إذا استفرغ جهده في الجري وطم الماء إذا ملأ النهر كله وقال الليث الطم طم البئر بالتراب وهو الكبس ويقال طم السيل الركية إذا دفنها حتى يسويها ويقال للشيء الذي يكبر حتى يعلو قد طم والطامة الحادثة التي تطم على ما سواها ومن ثم قيل فوق كل طامة طامة قال القفال أصل الطم الدفن والعلو وكل ما غلب شيئاً وقهره وأخفاه فقد طمه ومنه الماء الطامي وهو الكثير الزائد والطاغي والعاتي والعادي سواء وهو الخارج عن أمر الله تعالى المتكبر فالطامة اسم لكل داهية عظيمة ينسى ما قبلهافي جنبها
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى
المسألة الثانية قد ظهر بما ذكرنا أن معنى الطامة الكبرى الداهية الكبرى ثم اختلفوا في أنها أي شيء هي فقال قوم إنها يوم القيامة لأنه يشاهد فيه من النار ومن الموقف الهائل ومن الآيات الباهرة الخارجة عن العادة ما ينسى معه كل هائل وقال الحسن إنها هي النفخة الثانية التي عندها تحشر الخلائق إلى موقف القيامة وقال آخرون إنه تعالى فسر الطامة الكبرى بقوله تعالى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى فالطامة تكون اسماً لذلك الوقت فيحتمل أن يكون ذلك الوقت وقت قراءة الكتاب على ما قال تعالى وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ( الإسراء 13 ) ويحتمل أن تكون تلك الساعة هي الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار ثم إنه تعالى وصف ذلك اليوم بوصفين
الأول قوله تعالى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى يعني إذا رأى أعماله مدونة في كتابه تذكرها وكان قد نسيها كقوله أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ( المجادلة 6 )
الصفة الثانية قوله تعالى وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله تعالى لِمَن يَرَى أي أنها تظهر إظهاراً مكشوفاً لكل ناظر ذي بصر ثم فيه وجهان أحدهما أنه استعارة في كونه منكشفاً ظاهراً كقولهم تبين الصبح لذي عينين
وعلى هذا التأويل لا يجب أن يراه كل أحد والثاني أن يكون المراد أنها برزت ليراها كل من له عين وبصر وهذا يفيد أن كل الناس يرونها من المؤمنين والكفار إلا أنها مكان الكفار ومأواهم والمؤمنون يمرون عليها وهذا التأويل متأكد بقوله تعالى وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا إلى قوله ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ ( مريم 72 71 ) فإن قيل إنه تعالى قال في سورة الشعراء وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ

( الشعراء 91 90 ) فخص الغاوين بتبريرها لهم قلنا إنها برزت للغاوين والمؤمنون يرونها أيضاً في الممر ولا منافاة بين الأمرين
المسألة الثانية قرأ أبو نهيك وَبُرّزَتِ وقرأ ابن مسعود لمن رأى وقرأ عكرمة لمن ترى والضمير للجحيم كقوله إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ( الفرقان 12 ) وقيل لمن ترى يا محمد من الكفار الذين يؤذونك
واعلم أنه تعالى لما وصف حال القيامة في الجملة قسم المكلفين قسمين الأشقياء والسعداء فذكر حال الأشقياء
فَأَمَّا مَن طَغَى وَءاثَرَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِى َ الْمَأْوَى
وفيه مسائل
المسألة الأولى في جواب قوله فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّة ُ الْكُبْرَى ( النازعات 34 ) وجهان الأول قال الواحدي إنه محذوف على تقدير إذا جاءت الطامة دخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة ودلى على هذا المحذوف ما ذكر في بيان مأوى الفريقين ولهذا كان يقول مالك بن معول في تفسير الطامة الكبرى قال إنها إذا سبق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار والثاني أن جوابه قوله فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِى َ الْمَأْوَى وكأنه جزاء مركب على شرطين نظيره إذا جاء الغد فمن جاءني سائلاً أعطيته كذا ههنا أي إذا جاءت الطامة الكبرى فمن جاء طاغياً فإن الجحيم مأواه
المسألة الثانية منهم من قال المراد بقوله طَغَى وَءاثَرَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا النضر وأبوه الحارث فإن كان المراد أن هذه الآية نزلت عند صدور بعض المنكرات منه فجيد وإن كان المراد تخصيصها به فبعيد لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لا سيما إذا عرف بضرورة العقل أن الموجب لذلك الحكم هو الوصف المذكور
المسألة الثالثة قوله صغى إشارة إلى فساد حال القوة النظرية لأن كل من عرف الله عرف حقارة نفسه وعرف استيلاء قدرة الله عليه فلا يكون له طغيان وتكبر وقوله وَءاثَرَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا إشارة إلى فساد حال القوة العملية وإنما ذكر ذلك لما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) ومتى كان الإنسان والعياذ بالله موصوفاً بهذين الأمرين كان بالغاً في الفساد إلى أقصى الغايات وهو الكافر الذي يكون عقابه مخلداً وتخصيصه بهذه الحالة يدل على أن الفاسق الذي لا يكون كذلك لا تكون الجحيم مأوى له
المسألة الرابعة تقدير الآية فإن الجحيم هي المأوى له ثم حذفت الصلة لوضوح المعنى كقولك للرجل غض الطرف أي غض طرفك وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير فأن الجحيم هي المأوى اللائق بمن كان موصوفاً بهذه الصفات والأخلاق
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّة َ هِى َ الْمَأْوَى
ثم ذكر تعالى حال السعداء فقال تعالى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّة َ هِى َ الْمَأْوَى

واعلم أن هذين الوصفين مضادات للوصفين اللذين وصف الله أهل النار بهما فقوله وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ ضد قوله فَأَمَّا مَن طَغَى ( النازعات 17 ) وقوله وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ضد قوله وَءاثَرَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا ( النازعات 38 ) واعلم أن الخوف من الله لا بد وأن يكون مسبوقاً بالعلم بالله على ما قال إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) ولما كان الخوف من الله هو السبب المعين لدفع الهوى لا جرم قدم العلة على المعلول وكما دخل في ذينك الصفتين جميع القبائح دخل في هذين الوصفين جميع الطاعات والحسنات وقيل الآيتان نزلتا في أبي عزيز بن عمير ومصعب بن عمير وقد قتل مصعب أخاه أبا عزيز يوم أحد ووقى رسول الله بنفسه حتى نفذت المشاقص في جوفه
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ
واعلم أنه تعالى لما بين بالبرهان العقلي إمكان القيامة ثم أخبر عن وقوعها ثم ذكر أحوالها العامة ثم ذكر أحوال الأشقياء والسعداء فيها قال تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا
واعلم أن المشركين كانوا يسمعون إثبات القيامة ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل أنها طامة وصاخة وقارعة فقالوا على سبيل الاستهزاء أَيَّانَ مُرْسَاهَا فيحتمل أن يكون ذلك على سبيل الإيهام لأتباعهم أنه لا أصل لذلك ويحتمل أنهم كانوا يسألون الرسول عن وقت القيامة استعجالاً كقوله يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ( الشورى 18 ) ثم في قوله مُرْسَاهَا قولان أحدهما متى إرساؤها أي إقامتها أرادوا متى يقيمها الله ويوجدها ويكونها والثاني أَيَّانَ منتهاها ومستقرها كما أن مرسى السفينة مستقرها حيث تنتهي إليه
ثم إن الله تعالى أجاب عنه بقوله تعالى فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا وفيه وجهان الأول معناه في أي شيء أنت عن تذكر وقتها لهم وتبين ذلك الزمان المعين لهم ونظيره قول القائل إذا سأله رجل عن شيء لا يليق به ما أنت وهذا وأي شيء لك في هذا وعن عائشة ( لم يزل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت هذه الآية ) فهو على هذا تعجيب من كثرة ذكره لها كأنه قيل في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها والمعنى أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها
ثم قال تعالى إِلَى رَبّكَ مُنتَهَاهَا أي منتهى علمها لم يؤته أحداً من خلقه الوجه الثاني قال بعضهم فِيمَ إنكار لسؤالهم أي فيم هذا السؤال ثم قيل أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا أي أرسلك وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل ذاكراً من أنواع علاماتها وواحداً من أقسام أشراطها فكفاهم بذلك دليلاً على دنوها ووجوب الاستعداد لها ولا فائدة في سؤالهم عنها
إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا
ثم قال تعالى إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا وفيه مسائل

المسألة الأولى معنى الآية أنك إنما بعثت للإنذار وهذا المعنى لا يتوقف على علمك بوقت قيام القيامة بل لو أنصفنا لقلنا بأن الإنذار والتخويف إنما يتمان إذا لم يكن العلم بوقت قيام القيامة حاصلاً
المسألة الثانية أنه عليه الصلاة والسلام منذر للكل إلا أنه خص بمن يخشى لأنه الذي ينتفع بذلك الإنذار
المسألة الثالثة قرىء منذر بالتنوين وهو الأصل قال الزجاج مفعل وفاعل إذا كان كل واحد منهما لمايستقبل أو للحال ينون لأنه يكون بدلاً من الفعل والفعل لا يكون إلا نكرة ويجوز حذف التنوين لأجل التخفيف وكلاهما يصلح للحال والاستقبال فإذا أريد الماضي فلا يجوز إلا الإضافة كقوله هو منذر زيد أمس
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّة ً أَوْ ضُحَاهَا
ثم قال تعالى كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّة ً أَوْ ضُحَاهَا وتفسير هذه الآية قد مضى ذكره في قوله كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَة ً مّن نَّهَارٍ ( الاحقاف 35 ) والمعنى أن ما أنكروه سيرونه حتى كأنهم أبداً فيه وكأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار ثم مضت فَانٍ قِيلَ قوله أَوْ ضُحَاهَا معناه ضحى العشية وهذا غير معقول لأنه ليس للعشية ضحى قُلْنَا الجواب عنه من وجوه أحدها قال عطاء عن ابن عباس الهاء والألف صلة للكلام يريد لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى وثانيها قال الفراء والزجاج المراد بإضافة الضحى إلى العشية إضافتها إلى يوم العشية كأنه قيل إلا عشية أو ضحى يومها والعرب تقول آتيك العشية أو غداتها على ما ذكرنا وثالثها أن النحويين قالوا يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب فالضحى المتقدم على عشية يصح أن يقال إنه ضحى تلك العشية وزمان المحنة قد يعبر عنه بالعشية وزمان الراحة قد يعبر عنه بالضحى فالذين يحضرون في موقف القيامة يعبرون عن زمان محنتهم بالعشية وعن زمان راحتهم بضحى تلك العشية فيقولون كأن عمرنا في الدنيا ما كان إلا هاتين الساعتين والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة عبس
وهي أربعون وآيتان مكية
عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَآءَهُ الاٌّ عْمَى
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ابن أم مكتوم وأم مكتوم أم أبيه واسمه عبدالله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤى وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أقرئني وعلمني مما علمك الله وكرر ذلك فكره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت هذه الآية وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يكرمه ويقول إذا رآه ( مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ) ويقول هل لك من حاجة واستخلفه على المدينة مرتين وفي الموضع سؤالات
الأول أن ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزجر فكيف عاتب الله رسوله على أن أدب ابن أم مكتوم وزجره وإنما قلنا إنه كان يستحق التأديب لوجوه أحدها أنه وإن كان لفقد بصره لا يرى القوم لكنه لصحة سمعه كان يسمع مخاطبة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أولئك الكفار وكان يسمع أصواتهم أيضاً وكان يعرف بواسطة استماع تلك الكلمات شدة اهتمام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بشأنهم فكان إقدامه على قطع كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإلقاء غرض نفسه في البين قبل تمام غرض النبي إيذاء للنبي عليه الصلاة والسلام وذلك معصية عظيمة وثانيها أن الأهم مقدم على المهم وهو كان قد أسلم وتعلم ما كان يحتاج إليه من أمر الدين أما أولئك الكفار فما كانوا قد أسلموا وهو إسلامهم سبباً لإسلام جمع عظيم فإلقاء ابن أم مكتوم ذلك الكلام في البين كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل وذلك محرم وثالثها أنه تعالى قال إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( الحجرات 4 ) فنهاهم عن مجرد النداء إلا في الوقت فههنا هذا

النداء الذي صار كالصارف للكفار عن قبول الإيمان وكالقاطع على الرسول أعظم مهماته أولى أن يكون ذنباً ومعصية فثبت بهذا أن الذي فعله ابن أم مكتوم كان ذنباً ومعصية وأن الذي فعله الرسول كان هو الواجب وعند هذا يتوجه السؤال في أنه كيف عاتبه الله تعالى على ذلك الفعل
السؤال الثاني أنه تعالى لما عاتبه على مجرد أنه عبس في وجهه كان تعظيماً عظيماً من الله سبحانه لابن أم مكتوم وإذا كان كذلك فكيف يليق بمثل هذا التعظيم أن يذكره باسم الأعمى مع أن ذكر الإنسان بهذا الوصف يقتضي تحقير شأنه جداً
السؤال الثالث الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام كان مأذوناً في أن يعامل أصحابه على حسب ما يراه مصلحة وأنه عليه الصلاة والسلام كثيراً ما كان يؤدب أصحابه ويزجرهم عن أشياء وكيف لا يكون كذلك وهو عليه الصلاة والسلام إنما بعث ليؤدبهم وليعلمهم محاسن الآداب وإذا كان كذلك كان ذلك التعبيس داخلاً في إذن الله تعالى إياه في تأديب أصحابه وإذا كان ذلك مأذوناً فيه فكيف وقعت المعاتبة عليه فهذا جملة ما يتعلق بهذا الموضع من الإشكالات والجواب عن السؤال الأول من وجهين الأول أن الأمر وإن كان على ما ذكرتم إلا أن ظاهر الواقعة يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وانكسار قلوب الفقراء فلهذا السبب حصلت المعاتبة ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ ( الأنعام 52 ) والوجه الثاني لعل هذا العتاب لم يقع على ما صدر من الرسول عليه الصلاة والسلام من الفعل الظاهر بل على ما كان منه في قلبه وهو أن قلبه عليه الصلاة والسلام كان قد مال إليهم بسبب قرابتهم وشرفهم وعلو منصبهم وكان ينفر طبعه عن الأعمى بسبب عماه وعدم قرابته وقلة شرفه فلما وقع التعبيس والتولي لهذه الداعية وقعت المعاتبة لا على التأديب بل على التأديب لأجل هذه الداعية والجواب عن السؤال الثاني أن ذكره بلفظ الأعمى ليس لتحقير شأنه بل كأنه قيل إنه بسبب عماه استحق مزيد الرفق والرأفة فكيف يليق بك يا محمد أن تخصه بالغلظة والجواب عن السؤال الثالث أنه كان مأذوناً في تأديب أصحابه لكن ههنا لما أوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وكان ذلك مما يوهم ترجيح الدنيا على الدين فلهذا السبب جاءت هذه المعاتبة
المسألة الثانية القائلون بصدور الذنب عن الأنبياء عليهم السلام تمسكوا بهذه الآية وقالوا لما عاتبه الله في ذلك الفعل دل على أن ذلك الفعل كان معصية وهذا بعيد فإنا قد بينا أن ذلك كان هو الواجب المتعين لا بحسب هذا الاعتبار الواحد وهو أنه يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وذلك غير لائق بصلابة الرسول عليه الصلاة والسلام وإذا كان كذلك كان ذلك جارياً مجرى ترك الاحتياط وترك الأفضل فلم يكن ذلك ذنباً ألبتة
المسألة الثالثة أجمع المفسرون على أن الذي عبس وتولى هو الرسول عليه الصلاة والسلام وأجمعوا ( على ) أن الأعمى هو ابن أم مكتوم وقرىء عبس بالتشديد للمبالغة ونحوه كلح في كلح أن جاءه منصوب بتولى أو بعبس على اختلاف المذهبين في إعمال الأقرب أو الأبعد ومعناه عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك وقرىء أن جاءه بهمزتين وبألف بينهما وقف على عَبَسَ وَتَوَلَّى ثم ابتدأ على معنى ألآن جاءه الأعمى والمراد منه الإنكار عليه واعلم أن في الأخبار عما فرط من رسول الله ثم الإقبال عليه

بالخطاب دليل على زيادة الإنكار كمن يشكو إلى الناس جانياً جنى عليه ثم يقبل على الجاني إذا حمى في الشكاية مواجهاً بالتوبيخ وإلزام الحجة
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى
فيه قولان الأول أي شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى لعله يتطهر بما يتلقن منك من الجهل أو الإثم أو يتعظ فتنفعه ذكراك أي موعظتك فتكون له لطفاً في بعض الطاعات وبالجملة فلعل ذلك العلم الذي يتلقفه عنك يطهره عن بعض مالا ينبغي وهو الجهل والمعصية أو يشغله ببعض ما ينبغي وهو الطاعة الثاني أن الضمير في لعله للكافر بمعنى أنت طمعت في أن يزكى الكافر بالإسلام أو يذكر فتقربه الذكرى إلى قبول الحق وَمَا يُدْرِيكَ أن ما طمعت فيه كائن وقرىء فتنفعه بالرفع عطفاً على يذكر وبالنصب جواباً للعل كقوله فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى ( غافر 37 ) وقد مر
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى
ثم قال أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى قال عطاء يريد عن الإيمان وقال الكلبي استغنى عن الله وقال بعضهم استغنى أثرى وهو فاسد ههنا لأن إقبال النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن لثروتهم ومالهم حتى يقال له أما من أثرى فأنت تقبل عليه ولأنه قال وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى ( عبس 9 8 ) ولم يقل وهو فقير عديم ومن قال أما من استغنى بماله فهو صحيح لأن المعنى أنه استغنى عن الإيمان والقرآن بماله من المال
فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى
قال الزجاج أي أنت تقبل عليه وتتعرض له وتميل إليه يقال تصدى فلان لفلان يتصدى إذا تعرض له والأصل فيه تصدد يتصدى من الصدد وهو ما استقبلك وصار قبالتك وقد ذكرنا مثل هذا من قوله إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَة ً ( الأنفال 35 ) وقرىء تصدى بالتشديد بإدغام التاء في الصاد وقرأ أبو جعفر تصدى بضم التاء أي تعرض ومعناه يدعوك ( داع إلى ) التصدي له من الحرص والتهالك على إسلامه
وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى
ثم قال تعالى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى المعنى لا شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام فإنه ليس عليك إلا البلاغ أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم إلى أن تعرض عمن أسلم للاشتغال بدعوتهم
وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى
ثم قال وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى أن يسرع في طلب الخير كقوله فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ الجمعة 9 )
وقوله وَهُوَ يَخْشَى فيه ثلاثة أوجه يخشى الله ويخافه في أن لا يهتم بأداء تكاليفه أو يخشى

الكفار وأذاهم في إتيانك أو يخشى الكبوة فإنه كان أعمى وما كان له قائد
فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى
( ثم قال ) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تتشاغل من لهى عن الشيء والتهى وتلهى وقرأ طلحة بن مصرف تتلهى وقرأ أبو جعفر تَلَهَّى أي يلهيك شأن الصناديد فإن قيل قوله فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى كان فيه اختصاصاً قلنا نعم ومعناه إنكار التصدي والتلهي عنه أي مثلك خصوصاً لا ينبغى أن يتصدى للغني ويتلهى عن الفقير
كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَة ٌ
ثم قال كَلاَّ وهو ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله قال الحسن لما تلا جبريل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآيات عاد وجهه كأنما أسف الرماد فيه ينتظر ماذا يحكم الله عليه فلما قال كَلاَّ سرى منه أي لا تفعل مثل ذلك وقد بينا نحن أن ذلك محمول على ترك الأولى
ثم قال إِنَّهَا تَذْكِرَة ٌ وفيه سؤالان
الأول قوله أَنَّهَا ضمير المؤنث وقوله فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ( عبس 12 ) ضمير المذكر والضميران عائدان إلى شيء واحد فكيف القول فيه الجواب وفيه وجهان الأول أن قوله أَنَّهَا ضمير المؤنث قال مقاتل يعني آيات القرآن وقال الكلبي يعني هذه السورة وهو قول الأخفش والضمير في قوله فَمَن شَاء ذَكَرَهُ عائد إلى التذكرة أيضاً لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ الثاني قال صاحب ( النظم ) إِنَّهَا تَذْكِرَة ٌ يعني به القرآن والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة أخرجه على لفظ التذكرة ولو ذكَّره لجاز كما قال في موضع آخر كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَة ٌ ( المدثر 54 ) والدليل على أن قوله إِنَّهَا تَذْكِرَة ٌ المراد به القرآن قوله فَمَن شَاء ذَكَرَهُ
السؤال الثاني كيف اتصال هذه الآية بما قبلها الجواب من وجهين الأول كأنه قيل هذا التأديب الذي أوحيته إليك وعرفته لك في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا أثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة الثاني كأنه قيل هذا القرآن قد بلغ في العظمة إلى هذا الحد العظيم فأي حاجة به إلى أن يقبله هؤلاء الكفار فسواء قبلوه أو لم يقبلوه فلا تلتفت إليهم ولا تشغل قلبك بهم وإياك وأن تعرض عمن آمن به تطييباً لقلب أرباب الدنيا
فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَة ٍ مَّرْفُوعَة ٍ مُّطَهَّرَة ٍ
قوله فَمَن شَاء ذَكَرَهُ أي هذه تذكرة بينة ظاهرة بحيث لو أرادوا فهمها والاتعاظ بها والعمل بموجبها لقدروا عليه والثاني قوله فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَة ٍ أي تلك التذكرة معدة في هذه الصحف المكرمة والمراد من ذلك تعظيم حال القرآن والتنويه بذكره والمعنى أن هذه التذكرة مثبتة في صحف والمراد من الصحف قولان الأول أنها صحف منتسخة

من اللوح مكرمة عند الله تعالى مرفوعة في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار مطهر عن أيدي الشياطين أو المراد مطهرة بسبب أنها لا يمسها إلا المطهرون وهم الملائكة
بِأَيْدِى سَفَرَة ٍ كِرَامٍ بَرَرَة ٍ
ثم قال تعالى بِأَيْدِى سَفَرَة ٍ كِرَامٍ بَرَرَة ٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى أن الله تعالى وصف الملائكة بثلاثة أنواع من الصفات
أولها أنهم سفرة وفيه قولان الأول قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل وقتادة هم الكتبة من الملائكة قال الزجاج السفرة الكتبة واحدها سافر مثل كتبة وكاتب وإنما قيل للكتبة سفرة وللكاتب سافر لأن معناه أنه الذي يبين الشيء ويوضحه يقال سفرت المرأة إذا كشفت عن وجهها القول الثاني وهو اختيار الفراء أن السفرة ههنا هم الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله وبين رسله واحدها سافر والعرب تقول سفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم فجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله وتأديته كالسفير الذي يصلح به بين القوم وأنشدوا وما أدع السفارة بين قومي
وما أمشى بغش إن مشيت
واعلم أن أصل السفارة من الكشف والكاتب إنما يسمى سافراً لأنه يكشف والسفير إنما سمي سفيراً أيضاً لأنه يكشف وهؤلاء الملائكة لما كانوا وسايط بين الله وبين البشر في البيان والهداية والعلم لا جرم سموا سفرة
الصفة الثانية لهؤلاء الملائكة أنهم كِرَامٍ قال مقاتل كرام على ربهم وقال عطاء يريد أنهم يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا مع زوجته للجماع وعند قضاء الحاجة
الصفة الثانية أنهم بَرَرَة ٍ قال مقاتل مطيعين وبررة جمع بار قال الفراء لا يقولون فعلة للجمع إلا والواحد منه فاعل مثل كافر وكفرة وفاجر وفجرة القول الثاني في تفسير الصحف أنها هي صحف الأنبياء لقوله إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى الأعلى 18 ) يعني أن هذه التذكرة مثبتة في صحف الأنبياء المتقدمين والسفرة الكرام البررة هم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل هم القراء
المسألة الثانية قوله تعالى مُّطَهَّرَة ٍ بِأَيْدِى سَفَرَة ٍ يقتضي أن طهارة تلك الصحف إنما حصلت بأيدي هؤلاء السفرة فقال القفال في تقريره لما كان لا يمسها إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهير إليها لطهارة من يسمها
قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بدأ بذكر القصة المشتملة على ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين عجب عباده المؤمنين من ذلك فكأنه قيل وأي سبب في هذا العجب والترفع مع أن أوله نطفة

قذوة وآخره جيفة مذرة وفيها بين الوقتين حمال عذرة فلا جرم ذكر تعالى ما يصلح أن يكون علاجاً لعجبهم وما يصلح أن يكون علاجاً لكفرهم فإن خلقة الإنسان تصلح لأن يستدل بها على وجود الصانع ولأن يستدل بها على القول بالبعث والحشر والنشر
المسألة الثانية قال المفسرون نزلت الآية في عتبة بن أبي لهب وقال آخرون المراد بالإنسان الذين أقبل الرسول عليهم وترك ابن أم مكتوم بسببهم وقال آخرون بل المراد ذم كل غني ترفع على فقير بسبب الغنى والفقر والذي يدل على ذلك وجوه أحدها أنه تعالى ذمهم لترفعهم فوجب أن يعم الحكم بسبب عموم العلة وثانيها أنه تعالى زيف طريقتهم بسبب حقارة حال الإنسان في الابتداء والانتهاء على ما قال مِن نُّطْفَة ٍ خَلَقَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ( عبس 21 19 ) وعموم هذا الزجر يقتضي عموم الحكم وثالثها وهو أن حمل اللفظ على هذا الوجه أكثر فائدة واللفظ محتمل له فوجب حمله عليه
المسألة الثالثة قوله تعالى قُتِلَ الإِنسَانُ دعاء عليه وهي من أشنع دعواتهم لأن القتل غاية شدائد الدنيا وما أكفره تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله فقوله قُتِلَ الإِنسَانُ تنبيه على أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب وقوله مَا أَكْفَرَهُ تنبيه على أنواع القبائح والمنكرات فإن قيل الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز والقادر على الكل كيف يليق به ذاك والتعجب أيضاً إنما يليق بالجاهل بسبب الشيء فالعالم بالكل كيف يليق به ذاك الجواب أن ذلك ورد على أسلوب كلام العرب وتحقيقة ما ذكرنا أنه تعالى بين أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب لأجل أنهم أتوا بأعظم أنواع القبائح واعلم أن لكل محدث ثلاث مراتب أوله ووسطه وآخره وأنه تعالى ذكر هذه المراتب الثلاثة للإنسان
مِنْ أَى ِّ شَى ْءٍ خَلَقَهُ
أما المرتبة الأولى فهي قوله مِنْ أَى ّ شَى ْء خَلَقَهُ وهو استفهام وغرضه زيادة التقرير في التحقير
مِن نُّطْفَة ٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ
ثم أجاب عن ذلك الاستفهام بقوله مِن نُّطْفَة ٍ خَلَقَهُ ولا شك أن النطفة شيء حقير مهين والغرض منه أن من كان أصله ( من ) مثل هذا الشيء الحقير فالنكير والتجبر لا يكون لائقاً به
ثم قال فَقَدَّرَهُ وفيه وجوه أحدها قال الفراء قدره أطواراً نطفة ثم علقة إلى آخر خلقه وذكراً أو أنثى وسعيداً أو شقياً وثانيها قال الزجاج المعنى قدره على الاستواء كما قال أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ( الكهف 37 ) وثالثها يحتمل أن يكون المراد وقدر كل عضو في الكمية والكيفية بالقدر اللائق بمصلحته ونظيره قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ( الفرقان 2 )
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ
وأما المرتبة الثانية وهي المرتبة المتوسطة فهي قوله تعالى ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى نصب السبيل بإضمار يسره وفسره بيسره
المسألة الثانية ذكروا في تفسيره أقوالاً أحدها قال بعضهم المراد تسهيل خروجه من بطن أمه قالوا إنه كان رأس المولود في بطن أمه من فوق ورجلاه من تحت فإذا جاء وقت الخروج انقلب فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام إلا الله ومما يؤكد هذا التأويل أن خروجه حياً من ذلك المنفذ الضيق من أعجب العجائب وثانيها قال أبو مسلم المراد من هذه الآية هو المراد من قوله وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( البلد 10 ) فهو يتناول التمييز بين كل خير وشر يتعلق بالدنيا وبين كل خير وشر يتعلق بالدين أي جعلناه متمكناً من سلوك سبيل الخير والشر والتيسير يدخل فيه الإقدار والتعريف والعقل وبعثة الأنبياء وإنزال

الكتب وثالثها أن هذا مخصوص بأمر الدين لأن لفظ السبيل مشعر بأن المقصود أحوال الدنيا ( لا ) أمور تحصل في الآخرة
وأما المرتبة الثانية وهي المرتبة الأخيرة فهي قوله تعالى ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ
واعلم أن هذه المرتبة الثالثة مشتملة أيضاً على ثلاث مراتب الإماتة والإقبار والإنشار أما الإماتة فقد ذكرنا منافعها في هذا الكتاب ولا شك أنها هي الواسطة بين حال التكليف والمجازاة وأما الإقبار فقال الفراء جعله الله مقبوراً ولم يجعله ممن يلقى للطير والسباع لأن القبر مما أكرم به المسلم قال ولم يقل فقبره لأن القابر هو الدافن بيده والمقبر هو الله تعالى يقال قبر الميت إذا دفنه وأقبر الميت إذا أمر غيره بأن يجعله في القبر والعرب تقول بترت ذنب البعير والله أبتره وعضبت قرن الثور والله أعضبه وطردت فلاناً عني والله أطرده أي صيره طريداً وقوله تعالى ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ المراد منه الإحياء ( و ) البعث وإنما قال إذا شاء إشعاراً بأن وقته غير معلوم لنا فتقديمه وتأخيره موكول إلى مشيئة الله تعالى وأما سائر الأحوال المذكورة قبل ذلك فإنه يعلم أوقاتها من بعض الوجوه إذا الموت وإن لم يعلم الإنسان وقته ففي الجملة يعلم أنه لا يتجاوز فيه إلا حداً معلوماً
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ
ط أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَة ً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلاًّنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّة ُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِى ءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ أُوْلَائِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الْفَجَرَة ُ
واعلم أن قوله كلا ردع للإنسان عن تكبره وترفعه أو عن كفره وإصراره على إنكار التوحيد وعلى إنكاره البعث والحشر والنشر وفي قوله لما يقض ما أمره وجوه أحدها قال مجاهد لا يقضي أحد جميع ما كان مفروضا عليه أبدا وهو إشارة إلى أن الإنسان لا ينفك عن تقصير البتة وهذا التفسير عندي فيه نظر لأن قوله لما يقض الضمير فيه عائد إلى المذكور السابق وهو الإنسان في قوله قتل الإنسان ما أكفره وليس المراد من الإنسان ههنا جميع الناس بل الإنسان الكافر فقوله لما يقض كيف يمكن حمله على جميع الناس وثانيها أم يكون المعنى أن الإنسان المترفع المتكبر لم يقض ما أمر به من ترك التكبر إذ المعنى أن ذلك الإنسان الكافر لم يقض ما أمر به من التأمل في دلائل الله والتدبر في عجائب خلقه وبينات حكمته وثالثها قال الأستاذ أبو بكر بن فورك كلا لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره من الإيمان وترك التكبر بل أمره بما لم يقض له به
واعلم أن عادة الله تعالى جارية في القرآن بأنه كلما ذكر الدلائل الموجودة في الأنفس فإنه يذكر عقيبها الدلائل الموجودة في الآفاق فجرى ههنا على تلك العادة وذكر الآفاق وبدأ بما يحتاج الإنسان إليه
فقال فلينظر الإنسان إلى طعامه الذي يعيش به كيف دبرنا أمره ولا شك أنه موضع الاعتبار

فإن الطعام الذي يتناول الإنسان له حالتان إحداهما متقدمة وهي الأمور التي لا بد من وجودها حتى يدخل ذلك الطعام في الوجود والثانية متأخرة وهي الأمور التي لا بد منها في بدن الإنسان حتى يحصل له الانتفاع بذلك الطعام المأكول ولما كان النوع الأول أظهر للحسن وأبعد عن الشبهة لا جرم اكتفى الله تعالى بذكره لأن دلائل القرآن لا بد وأن تكون بحيث ينتفع بها كل الخلق فلا بد وأن تكون أبعد عن اللبس والشبهة وهذا هو المراد من قوله فلينظر الإنسان إلى طعامه واعلم أن النبت أنما يحصل من القطر النازل من السماء الواقع في الأرض فالسماء كالذكر والأرض كالأنثى فذكر في بيان نزل القطر
قوله أنا صببنا الماء صبا وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله صببنا المراد منه الغيث ثم انظر في انه كيف حدث الغيث المشتمل على هذه المياه العظيمة وكيف بقي معلقا في جو السماء مع غاية ثقله وتأمل في أسبابه القريبة والبعيدة حتى يلوح لك شيء من آثار نور الله وعدله وحكمته وفي تدبير خلقة هذا العالم
المسألة الثانية قرئ إنا بالكسر وهو على الاستئناف وأنا بالفتح على البدل من الطعام والتقدير فلينظر الإنسان إلى أنا كيف صببنا الماء قال أبو علي الفارسي من قرأ بكسر إنا كان ذلك تفسيرا للنظر إلى طعانه كما أن قوله لهم مغفرة النور 26 تفسير للوعد ومن فتح فعلى معنى البدل بدل الاشتمال لأن هذه الأشياء تشتمل على كون الطعام وحدوثه فهو كقوله ويسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه البقرة 217 وقوله قتل أصحاب الأخدود النار البروج 4
قوله تعالى ثم شققنا الأرض شقا والمراد شق الأرض بالنبات ثم ذكر تعالى ثمانية أنواع من النبات
أولها الحب وهو المشار إليه بقوله فأنبتنا فيها حبا وهو كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما وإنما قدم ذلك لأنه كالأصل في الأغذية
وثانيها قوله تعالى وعنبا وإنما ذكره بعد الحب لأنه غذاء من وجه وفاكهة من وجه
وثالثها قوله تعالى وقضبا وفيه قولان
الأول أنه الرطبة وهي التي إذا يبست سميت بالقت وأهل مكة يسمونها بالقضب وأصله من القطع وذلك لأنه يقضب مرة بعد أخرى وكذلك القضيب لأنه يقضب أي يقطع وهذا قول ابن عباس والضحاك ومقاتل واختيار الفراء وأبي عبيدة والأصمعي
والثاني قال المبرد القضب هو العلف بعينه وأصله من أنه يقضب أي يقطع وهو قول ابن عباس والضحاك ومقاتل واختيار الفراء وأبي عبيدة والأصمعي
والثاني قال المبرد القضب هو العلف بعينه وأصله من أنه يقضب أي يقطع وهو قول الحسن
والرابع والخامس قوله تعالى وزيتونا ونخلا ومنافعهما قد تقدمت في هذا الكتاب

وسادسها قوله تعالى وحدائق غلبا الأصل في الوصف بالغلب الرقاب فالغلب الغلاظ الأعناق الواحد أغلب يقال أسد أغلب ثم ههنا قولان
الأول أن يكون المراد وصف كب حديقة بأن أشجارها متكاثفة متقاربة وهذا قول مجاهد ومقاتل قالا الغلب الملتفة الشجر بعضه من بعض يقال اغلولب العشب واعلولبت الأرض إذا التف عشبها
والثاني أن يكون المراد وصف كل واحد من الأشجار بالغلظ والعظم قال عطاء عن ابن عباس يريد الشجر العظام وقال الفراء الغلب ما غلظ من النخل
وسابعها قوله وفاكهة وقد استدل بعضهم بأن الله تعالى لما ذكر الفاكهة معطوفة على العنب والزيتون والنخل وجب أن لا تدخل هذه الأشياء في الفاكهة وهذا قريب من جهة الظاهر لأن المعطوف مغاير للمعطوف عليه
وثامنها قوله تعالى وأبا والأب هو المرعى قال صاحب الكشاف لأنه يؤب أي يؤم وينتجع والأب والأم أخوان قال الشاعر جذمنا قيس ونجد دارنا
لنا الأب به والمكرع
وقيل الأب الفاكهة اليابسة لأنها تؤب للشتاء أي تعد ولما ذكر الله تعالى ما يتغذى به الناس والحيوان قال متاعا لكم ولأنعامكم
قال الفراء خلقناه منفعة ومتعة لكم ولأنعامكم وقال الزجاج هو منصوب لأنه مصدر مؤكد لقوله فأنبتنا لأن إنباته هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوان
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء وكان المقصود منها أمورا ثلاثة أولها الدلائل الدالة على التوحيد وثانيها الدلائل الدالة على القدرة على المعاد وثالثها أن هذا الإله الذي أحسن إلى عبيدة بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان لا يليق بالعاقل أن يتمرد عن طاعته وأن يتكبر على عبيدة أتبع هذه الجملة بما يكون مؤكدا لهذه الأغراض وهو شرح أهوال القيامة فإن الإنسان إذا سمعها خاف فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر ويدعوه ذلك أيضا إلى ترك التكبر على الناس وإلى التأمل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر ويدعوه ذلك أيضا إلى ترك التكبر على الناس وإلى إظهار التواضع إلى كل أحد فلا جرم ذكر القيامة فقال فإذا جاءت الصاخة قال المفسرون يعني صيحة القيامة وهي النفخة الأخيرة قال الزجاج أصل الصخ في اللغة الطعن والصك يقال صخ رأسه بحجر أي شدخه والغراب يصخ بمنقاره في دبر البعير أي يطعن فمعنى الصاخة الصاكة بشدة صوتها لللآذان وذكر صاحب الكشاف وجها آخر فقال يقال صخ لحديثه مثل أصاخ له فوصفت النفخة بالصاخة مجازا لأن الناس يصخون لها أي يستمعون

ثم إنه تعالى وصف هول ذلك اليوم بقوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه وفيه مسألتان
المسألة الأولى يحتمل أن يكون المراد من الفرار ما يشعر به ظاهره وهو التباعد والاحتراز والسبب في ذلك الفرار الاحتراز عن المطالبة بالتبعات يقول الأخ ما واسيتني بمالك والأبوان يقولان قصرت في برنا والصاحبة تقول أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت والبنون يقولون ما علمتنا وما أرشدتنا وقيل أول من يفر من أخيه هابيل ومن أبويه إبراهيم ومن صاحبته نوح ولوط ومن ابنه نوح ويحتمل أن يكون المراد من الفرار ليس هو التباعد بل المعنى أنه يوم يفر المرء من موالاة أخيه لاهتمامه بشأنه وهو كقوله تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا البقرة 166 وأما الفرار من نصرته وهو كقوله تعالى يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا الدخان 41 وأما ترك السؤال وهو كقوله تعالى ولا يسأل حميم حميما المعارج 10
المسألة الثانية المراد أن الذين كان المرء في دار الدنيا يفر إليهم ويستجير بهم فإنه يفر منهم في دار الآخرة ذكروا في فائدة الترتيب كأنه قيل يوم يفر المرء من أخيه بل من أبويه فإنهما أقرب من الأخوين بل من الصاحبة والولد لأن تعلق القلب بهما من تعلقه بالأبوين
ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الفرار أتبعه بذكر سببه فقال تعالى لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه وفي قوله يغنيه وجهان الأول قال ابن قتيبة يغنيه أي يصرفه ويصده عن قرابته وأنشد سيغنيك حرب بني مالك
عن الفحش والجهل في المحفل
أي سيشغلك ويقال أغن عني وجهك أي اصرفه الثاني قال أهل المعاني يغنيه أي ذلك الهم الذي بسبب خاصة نفسه قد ملأ صدره فلم يبق فيه متسع لهم آخر فصار شبيها بالغني في أنه حصل عنده من ذلك المملوك شيء كثير
واعلم أنه تعالى لما ذكر حال يوم القيامة في الهول بين أن المكلفين فيه على قسمين منهم السعداء ومنهم الأشقياء فوصف السعداء بقوله تعالى وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة مسفرة مضيئة متهللة من أسفر الصبح إذا أضاء وعن ابن عباس من قيام الليل لما روي من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار وعن الضحاك من آثار الوضوء وقيل من طول ما اغبرت في سبيل الله وعندي أنه بسبب الخلاص من علائق الدنيا والاتصال بعالم القدس ومنازل الرضوان والرحمة ضاحكة قال الكلبي يعني بالفراغ من الحساب مستبشرة فرحة بما نالت من كرامة الله ورضاه واعلم أن قوله مسفرة إشارة إلى الخلاص عن هذا العالم وتبعاته وأما الضاحكة والمستبشرة فهما محمولتان على القوة النظرية والعملية أو على وجدان المنفعة ووجدان التعظيم

ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة
قال المبرد الغبرة ما يصيبب الإنسان من الغبار وقوله ترهقها اي تدركها عن قرب كقولك رهقت الجبل إذا لحقته لسرعة والرهق عجلة الهلاك والقترة سواد الدخان ولا يرى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه كما ترى وجوه الزنوج إذا غبرت وكأن الله تعالى جمع في وجوههم بين السواد والغبرة كما جمعوا بين الكفر والفجور والله أعلم
واعلم أن المرجئة والخوارج تمسكوا بهذه الآية أما المرجئة فقالوا إن هذه الآية دلت على أن أهل القيامة قسمان أهل الثواب وأهل العقاب دلت على أن أهل العقاب هم الكفرة وثبت بالدليل أن الفساق من أهل الصلاة ليسوا بكفرة وإذا لم يكونوا من الكفرة كانوا من أهل الثواب وذلك يدل على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس له عقاب وأما الخوارج فإنهم قالوا دلت سائر الدلائل على أن صاحب الكبيرة يعاقب ودلت هذه الآية على أن كل من يعاقب فإنه كافر فيلزم أن كل مذنب فإنه كافر والجواب أكثر ما في الباب أن المذكور ههنا هو هذا الفريقان وذلك لا يقتضي نفي الفريق الثالث والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلاه ته على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين

سورة التكوير
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءُودَة ُ سُئِلَتْ بِأَى ِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّة ُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أنه تعالى ذكر اثني عشر شيئا وقال إذا وقعت هذه الأشياء فهنالك علمت نفس ما أحضرت التكوير 14 فالأول قوله تعالى إذا الشمس كورت وفي التكوير وجهان أحدهما التلفيف على جهة الاستدارة كتكوير العمامة وفي الحديث { نعوذ بالله من الحور بعد الكور } أي من التشتت بعد الألفة والطي واللف والكور والتكوير واحد وسميت كارة القصار كارة لأنه يجمع ثيابه في ثوب واحد ثم إن الشيء الذي يلف لا شك أنه يصير مختفيا عن الأعين فعبر عن إزالة النور عن جرم الشمس وتصييرها غائبة عن الأعين بالتكوير فلهذا قال بعضهم كورت أي طمست وقال آخرون انكسفت وقال الحسن محي ضوؤها وقال المفضل بن سلمة كورت أي ذهب ضوؤها كأنها استترت في كارة الوجه الثاني في التكوير يقال كورت الحائط ودهورته إذا طرحته حتى يسقط قال الأصمعي يقال طعنه فكوره إذا صرعه فقوله إذا الشمس كورت أي ألقيت ورميت عن الفلك وفيه قول ثالث يروى عن عمر أنه لفظة مأخوذة من الفارسية فإنه يقال للأعمى كور وههنا سؤالان
السؤال الأول ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية الجواب بل على الفاعلية رافعها فعل مضمر يفسره كورت لأن إذا يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط
السؤال الثاني روي أن الحسن جلس بالبصرة إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن فحدث عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال { إن الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة } قال الحسن وما ذنبهما قال إني أحدثك عن رسول الله فسكت الحسن والجواب أن سؤال الحسن ساقط لأن الشمس والقمر

جمادان فإلقاؤهما في النار لا يكون سببا لمضرتهما ولعل ذلك يصير سببا لازدياد الحر في جهنم فلا يكون هذا الخبر على خلاف العقل
الثاني قوله تعالى إذا النجوم انكدرت أي تناثرت وتساقطت كما قال تعالى وإذا الكواكب انتثرت الانفطار 2 والأصل في الانكدار الانصباب قال الخليل يقال انكدر عليهم القول إذا جاءوا أرسالا فانصبوا عليهم قال الكلبي تمطر السماء يومئذ نجوما فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على وجه الأرض قال عطاء وذلك أنها في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من النور وتلك السلاسل في أيدي الملائكة فإذا مات في السماء والأرض تساقطت تلك السلاسل من أيدي الملائكة
الثالث قوله تعالى وإذا الجبال سيرت أي عن وجه الأرض كقوله وسيرت الجبال فكانت سرابا النبأ 20 أو في الهواء كقوله تمر مر السحاب النمل 88
الرابع قوله وإذا العشار عطلت فيه قولان
القول الأول المشهور أن ( العشار ) جمع عشراء كالنفاس في جمع نفساء وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة وهي أنفس ما يكون عند أهلها وأعزها عليهم و عطلت قال ابن عباس أهملها أهلها لما جاءهم من أهوال يوم القيامة وليس شيء أحب إلى العرب من النوق الحوامل وخوطب العرب بأمر العشار لأن أكثر مالها وعيشها من الإبل والغرض من ذلك ذهاب الأموال وبطلان الأملاك واشتغال الناس بأنفسهم كما قال يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم الشعراء 88 وقال لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة الأنعام 94
والقول الثاني أن العشار كناية عن السحاب تعطلت عما فيها من الماء وهذا وإن كان مجازا إلا أنه أشبه بسائ ما قبله وأيضا فالعرب تشبه السحاب بالحامل قال تعالى فالحاملات وقرا الذاريات 2
الخامس قوله تعالى وإذا الوحش حشرت كل شيء من دواب البر مما لا يستأنس فهو وحش والجمع الوحوش وحشرت جمعت من كل ناحية قال قتادة يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص قال المعتزلة إن الله تعالى يحشر الحيوانات كلها في ذلك اليوم ليعوضها على آلامها التي وصلت إليها في الدنيا بالموت والقتل وغير ذلك فإذا عوضت على تلك الآلام فإن شاء الله أن يبقى بعضها في الجنة إذا كان مستحسنا فعل وإن شاء أن يفنيه أفناه على ما جاء به الخبر وأما أصحابنا فعندهم أنه لا يجب على الله شيء بحكم الاستحقاق ولكنه تعالى يحشر الوحوش كلها فيقتص للجماء من القرناء ثم

يقال لها موتي فتموت والغرض من ذكر هذه القصة ههنا وجوه أحدها أنه تعالى إذا كان يوم القيامة يحشر كل الحيوانات إظهارا للعدل فكيف يجوز مع هذا أن لا يحشر المكلفين من الإنس والجن الثاني أنها تجتمع في موقف القيامة مع شدة نفرتها عن الناس في الدنيا وتبددها في الصحاري فدل هذا على أن اجتماعها إلى الناس ليس إلا من هول ذلك اليوم والثالث أن هذه الحيوانات بعضها غذاء للبعض ثم إنها في ذلك اليوم لا تجتمع ولا يتعرض بعضها لبعض وما ذاك إلا لشدة هول ذلك اليوم وفي الآية قول آخر لابن عباس وهو أن حشر الوحوش عبارة عن موتها يقال - إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم - حشرتهم السنة وقرئ حشرت بالتشديد
السادس قوله تعالى وإذا البحار سجرت قرئ بالتخفيف والتشديد وفيه وجوه أحدها أن أصل الكلمة من سجرت التنور إذا أوقدتها والشيء إذا وقد فيه نشف ما فيه من الرطوبة فحينئذ لا يبقى في البحار شيئا واحدا في غاية الحرارة والإحراق ويحتمل أن تكون الأرض لما نشفت مياه البحار ربت فارتفعت فاستوت برؤوس الجبال ويحتمل أن الجبال لما اندكت وتفرقت أجزاؤها وصارت كالتراب وقع ذلك التراب في أسفل الجبال فصار وجه الأرض مستويا مع البحار ويصير الكل بحرا مسجورا وثانيها أن يكون سجرت بمعنى فجرت وذلك لأن بين البحار حاجزا على ما قال مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان الرحمن 19 فإذا رفع الله ذلك الحاجز فاض البعض في البعض وصارت البحار بحرا واحدا وهو قول الكلبي وثالثها سجرت أوقدت قال القفال وهذا التأويل يحتمل وجوها الأول أن تكون جهنم في قعور البحار فهي الآن غير مسجورة لقيام الدنيا فإذا انتهت مدة الدنيا أوصل الله تأثير تلك النيران إلى البحار فصارت بالكلية مسجورة بسبب ذلك والثاني أن الله تعالى يلقي الشمس والقمر والكواكب في البحار فتصير البحار مسجورة بسبب ذلك والثالث أن يخلق الله تعالى بالبحار نيرانا عظيمة حتى تتسخن تلك المياه وأقول هذه الوجوه متكلفة لا حاجة إلى شيء منها لأن القادر على تخريب الدنيا وإقامة القيامة لا بد وأن يكون قادرا على أن يفعل بالبحار ما شاء من تسخين ومن قلب مياهها نيرانا من غير حاجة منه إلى أن يلقي فيها الشمس والقمر وأن يكون تحتها نار جهنم
واعلم أن هذه العلامات الست يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا ويمكن وقوعها أيضا بعد قيام القيامة وليس في اللفظ ما يدل على أحد الاحتمالين أما بالستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة
السابع قوله تعالى وإذا النفوس زوجت وفيه وجوه أحدها قرنت الأرواح بالأجساد وثانيها قال الحسن يصيرون فيها ثلاثة أزواج كما قال وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما اصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون الواقعة 8 وثالثها أنه

يضم كل صنف من كان في طبقته من الرجال والنساء فيضم المبرز في الطاعات إلى مثله والمتوسط إلى مثله وأهل المعصية إلى مثله فالتزويج أن يقرن الشيء بمثله والمعنى أن يضم كل واحد إلى طبقته في الخير والشر ورابعها يضم كل رجل إلى من كان يلزمه من ملك وسلطان كما قال احشروا الذين ظلموا وأزواجهم الصافات 22 قيل فزدناهم من الشياطين وخامسها قال ابن عباس زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين وسادسها قرن كل امرئ بشيعته اليهودي باليهودي والنصراني بالنصراني وقد ورد فيه خبر مرفوع وسابعها قال الزجاج قرنت النفوس بأعمالها واعلم أنك إذا تأملت في الأقوال التي ذكرناها أمكنك أن تزيد عليها ما شئت
الثامن قوله تعالى وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت فيه مسائل
المسألة الأولى وأد يئد مقلوب من آد يئود أودا ثقل قال تعالى ولا يؤوده حفظهما البقرة 255 أي يثقله لأنه إثقال بالتراب كان الرجل إذا ولدت له بنت فاراد بقار حياتها ألبسها جبة من صوف أو شعر لترعى له الإبل والغنم في البادية وإن أراد قتلها تركها حتى إذا بلغت قامتها ستة أشبار فيقول لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أقاربها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها إلى البئر فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى يستوي البئر بالأرض وقيل كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمتها في الحفرة وإذا ولدت ابنا أمسكته وههنا سؤالان
السؤال الأول ما الذي حملهم على وأد البنات الجواب الخوف من لحوق العار بهم من أجلهم أو الخوف من الإملاق كما قال تعالى ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق الإسراء 31 وكانوا يقولون إن الملائكة بنات الله فألحقوا البنات بالملائكة وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد فافتخر الفرزدق به في قوله ومنا الذي منع الوائدات
فأحيا الوئيد فلم توأد
السؤال الثاني فما معنى سؤال الموءودة عن ذنبها الذي قتلت به وهلا شئل الوائد عن موجب قتله لها الجوال سؤالها وجوابها تبكيب لقاتلها وهو كتبكيت النصارى في قوله لعيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي ألهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق المائدة 116
المسألة الثانية قرئ سألت أي خاصمت عن نفسها وسألت الله أو قاتلها وقرئ قتلت بالتشديد فإن قيل اللفظ المطابق أن يقال سئلت بأي ذنب قتلت ومن قرأ سألت فالمطابق أن يقرأ بأي ذنب قتلت فما الوجه في القراءة المشهورة قلنا الجواب من وجهين الأول تقدير الآية وإذا الموءودة سئلت أي سئل الوائدون عن أحوالها بأي ذنب قتلت والثاني أن الإنسان قد يسأل عن حال نفسه عند المعاينة بلفظ المغايبة كما إذا أردت أن تسال زيدا عن حال من أحواله فتقول ماذا فعل زيد في ذلك المعنى ويكون زيد هو المسئول وهو المسؤول عنه فكذا ههنا

التاسع قوله تعالى وإذا الصحف نشرت قرئ بالتخفيف والتشديد يريد صحف الأعمال تطوي صحيفة الإنسان عند موته ثم تنشر إذا حوسب ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها أي فرقت بينهم
العاشر قوله تعالى وإذا السماء كشطت أي كشفت وأزيلت عما فوقها وهو الجنة وعرش الله كما يكشط الإهاب عن الذبيحة والغطاء عن الشيء وقرأ ابن مسعود قشطت واعتقاب القاف والكاف كثير يقال لبكت الثريد ولبقته والكافور والقافور قال الفراء نزعت فطويت
الحادي عشر قوله تعالى وإذا الجحيم سعرت أوقدت إيقادا شديدا وقرئ سعرت بالتشديد للمبالغة قيل سعرها غضب الله وخطايا بني آدم واحتج بهذه الآية من قال النار غير مخلوقة الآن قالوا لأنها تدل على أن تسعيرها معلق بيوم القيامة
الثاني عشر قوله تعالى وإذا الجنة أزلفت أي أدنيت من المتقين كقوله وأزلفت الجنة للمتقين الشعراء 90
ولما ذكر الله تعالى هذه الأمور الأثنى عشر ذكر الجزاء المرتب على الشروط الذي هو مجموع هذه الأشياء فقال علمت نفس ما أحضرت ومن المعلوم أن العمل لا يمكن إحضاره فالمراد إذن ما أحضرته في صحائفها وما أحضرته عند المحاسبة وعند الميزان من آثار تلك الأعمال والمراد ما أحضرت من استحقاق الجنة والنار ( فإن قيل ) كل نفس تعلم ما أحضرت لقوله يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محتضرا آل عمران 30 فما معنى قوله علمت نفس قلنا الجواب من وجهين الأول أن هذا هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط وإن كان اللفظ موضوعا للقليل ومنه قوله تعالى ربما يود الذين كفروا الحجر 2 كمن يسأل فاضلا مسألة ظاهرة ويقول هل عندك فيها شيء فيقول ربما حضر شيء وغرضه الإشارة إلى أن عنده في تلك المسألة ما لا يقول به غيره فكذا ههنا الثاني لعل الكفار كانوا يتعبون أنفسهم في الأشياء التي يعتقدونها طاعات ثم بدا لهم يوم القيامة خلاف ذلك فهو المراد من هذه الآية

قوله تعالى فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس الكلام في قوله لاَ أُقْسِمُ قد تقدم في قوله لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ( القيامة 1 ) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ فيه قولان الأول وهو المشهور الظاهرة أنها النجوم الخنس جمع خانس والخنوس والانقباض والاستخفاء تقول خنس من بين القوم وانخنس وفي الحديث ( الشيطان يوسوس إلى العبد فإذا ذكر الله خنس ) أي انقبض ولذلك سمي الخناس والكنس جمع كانس وكانسة يقال كنس إذا دخل الكناس وهو مقر الوحش يقال كنس الظباء في كنسها وتكنست المرأة إذا دخلت هودجها تشبه بالظبي إذا دخل الكناس ثم اختلفوا في خنوس النجوم وكنوسها على ثلاثة أوجه فالقول الأظهر أن ذلك إشارة إلى رجوع الكواكب الخمسة السيارة واستقامتها فرجوعها هو الخنوس وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس ولا شك أن هذه حالة عجيبة وفيها أسرار عظيمة باهرة القول الثاني ما روي عن علي عليه السلام وعطاء ومقاتل وقتادة أنها هي جميع الكواكب وخنوسها عبارة عن غيبوبتها عن البصر في النهار وكنوسها عبارة عن ظهورها للبصر في الليل أي تظهر في أماكنها كالوحش في كنسها والقول الثالث أن السبعة السيارة تختلف مطالعها ومغاربها على ما قال تعالى أُقْسِمُ بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ( المعارج 40 ) ولا شك أن فيها مطلعاً واحداً ومغرباً واحداً هما أقرب المطالع والمغارب إلى سمت رؤوسنا ثم إنها تأخذ في التباعد من ذلك المطلع إلى سائر المطالع طول السنة ثم ترجع إليه فخنوسها عبارة عن تباعدها عن ذلك المطلع وكنوسها عبارة عن عودها إليه فهذا محتمل فعلى القول الأول يكون القسم واقعاً بالخمسة المتحيرة وعلى القول الثاني يكون القسم واقعاً بجميع الكواكب وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرته يكون القسم واقعاً بالسبعة السيارة والله أعلم بمراده
والقول الثاني أن الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وهو قول ابن مسعود والنخعي أنها بقر الوحش وقال سعيد بن جبير هي الظباء وعلى هذا الخنس من الخنس في الأنف وهو تقعير في الأنف فإن البقر والظباء أنوفها على هذه الصفة والكنس جمع كانس وهي التي تدخل الكناس والقول هو الأول والدليل عليه أمران
وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ
الأول أنه قال بعد ذلك الْكُنَّسِ وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وهذا بالنجوم أليق منه ببقر الوحش
الثاني أن محل قسم الله كلما كان أعظم وأعلى رتبة كان أولى ولا شك أن الكواكب أعلى رتبة من بقر الوحش
الثالث أن ( الخنس ) جمع خانس من الخنوس وإما جمع خنساء وأخنس من الخنس خنس بالسكون والتخفيف ولا يقال الخنس فيه بالتشديد إلا أن يجعل الخنس في الوحشية أيضاً من الخنوس وهو اختفاؤها في الكناس إذا غابت عن الأعين
قوله تعالى وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ذكر أهل اللغة أن عسعس من الأضداد يقال عسعس الليل إذا أقبل وعسعس إذا أدبر وأنشدوا في ورودها بمعنى أدبر قول العجاج حتى إذا الصبح لها تنفسا
وانجاب عنها ليلها وعسعسا
وأنشد أبو عبيدة في معنى أقبل

مدرجات الليل لما عسعسا
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ
ثم منهم من قال المراد ههنا أقبل الليل لأن على هذا التقدير يكون القسم واقعاً بإقبال الليل وهو قوله إِذَا عَسْعَسَ وبإدباره أيضاً وهو قوله وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ومنهم من قال بل المراد أدبر وقوله وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ أي امتد ضوءه وتكامل فقوله وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ( التكوير 17 ) إشارة إلى أول طلوع الصبح وهو مثل قوله وَالَّيْلِ إِذَا أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ( المدثر 34 33 ) وقوله وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إشارة إلى تكامل طلوع الصبح فلا يكون فيه تكرار
وأما قوله تعالى وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ أي إذا أسفر كقوله وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ( المدثر 34 ) ثم في كيفية المجاز قولان
أحدهما أنه إذا أقبل الصبح أقبل بأقباله روح ونسيم فجعل ذلك نفساً له على المجاز وقيل تنفس الصبح
والثاني أنه شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي جلس بحيث لا يتحرك واجتمع الحزن في قلبه فإذا تنفس وجد راحة فههنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس وهو استعارة لطيفة
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه فقال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وفيه قولان
الأول وهو المشهور أن المراد أن القرآن نزل به جبريل فإن قيل ههنا إشكال قوي وهو أنه حلف أنه قول جبريل فوجب علينا أن نصدقه في ذلك فإن لم نقطع بوجوب حمل اللفظ على الظاهر فلا أقل من الاحتمال وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن هذا القرآن يحتمل أن يكون كلام جبريل لا كلام الله وبتقدير أن يكون كلام جبريل يخرج عن كونه معجزاً لاحتمال أن جبريل ألقاه إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل الإضلال ولا يمكن أن يجاب عنه بأن جبريل معصوم لا يفعل الإضلال لأن العلم بعصمة جبريل مستفاد من صدق النبي وصدق النبي مفرع على كون القرآن معجزاً وكون القرآن معجزاً يتفرع على عصمة جبريل فيلزم الدور وهو محال والجواب الذين قالوا بأن القرآن إنما كان معجزاً للصرفة إنما ذهبوا إلى ذلك المذهب فراراً من هذا السؤال لأن الإعجاز على ذلك القول ليس في الفصاحة بل في سلب تلك العلوم والدواعي عن القلوب وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى
القول الثاني أن هذا الذي أخبركم به محمد من أمر الساعة على ما ذكر في هذه السورة ليس بكهانة ولا ظن ولا افتعال إنما هو قول جبريل أتاه به وحياً من عند الله تعالى واعلم أنه تعالى وصف جبريل ههنا بصفات ست أولها أنه رسول ولا شك أنه رسول الله إلى الأنبياء فهو رسول وجميع الأنبياء أمته وهو المراد من قوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ ( النحل 2 ) وقال نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 194 193 ) وثانيها أنه كريم ومن كرمه أنه يعطي أفضل العطايا وهو المعرفة والهداية والإرشاد

ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ
وثالثها قوله ذِى قُوَّة ٍ ثم منهم من حمله على الشدة روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجبريل ( ذكر الله قوتك فماذا بلغت قال رفعت قريات قوم لوط الأربع على قوادم جناحي حتى إذا سمع أهل السماء نباح الكلاب وأصوات الدجاج قلبتها ) وذكر مقاتل أن شيطاناً يقال له الأبيض صاحب الأنبياء قصد أن يفتن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فدفعه جبريل دفعة رقيقة وقع بها من مكة إلى أقصى الهند ومنهم من حمله على القوة في أداء طاعة الله وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف وعلى القوة في معرفة الله وفي مطالعة جلال الله
ورابعها قوله تعالى عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ وهذه العندية ليست عندية المكان مثل قوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وليست عندية الجهة بدليل قوله ( أنا عند المنكسرة قلوبهم ) بل عندية الإكرام والتشريف والتعظيم وأما مَّكِينٍ فقال الكسائي يقال قد مكن فلان عند فلان بضم الكاف مكناً ومكانة فعلى هذا المكين هو ذو الجاه الذي يعطي ما يسأل
مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ
وخامسها قوله تعالى مُّطَاعٍ ثَمَّ اعلم أن قوله ثُمَّ إشارة إلى الظرف المذكور أعني عِندَ ذِى الْعَرْشِ ( التكوير 20 ) والمعنى أنه عند الله مطاع في ملائكته المقربين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه وقرىء ثُمَّ تعظيماً للأمانة وبياناً لأنها أفضل صفاته المعدودة
وسادسها قوله أَمِينٌ أي هو أَمِينٌ على وحي الله ورسالاته قد عصمه الله من الخيانة والزلل
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالاٍّ فُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ
ثم قال تعالى وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ واحتج بهذه الآية من فضل جبريل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال إنك إذا وازنت بين قوله إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ( التكوير 21 19 ) وبين قوله وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ظهر التفاوت العظيم وَلَقَدْ رَءاهُ بِالاْفُقِ الْمُبِينِ يعني حيث تطلع الشمس في قول الجميع وهذا مفسر في سورة النجم وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أي وما محمد ( على الغيب بظنين ) والغيب ههنا القرآن وما فيه من الأنباء والقصص والظنين المتهم يقال ظننت زيدا في معنى اتهمته وليس من الظن الذي يتعدى إلى مفعولين والمعنى ما محمد على القرآن بمتهم أي هو ثقة فيما يؤدي عن الله ومن قرأ بالضاد فهو من البخل يقال ضننت به أضن أي بخلت والمعنى ليس ببخيل فيما أنزل الله قال الفراء يأتيه غيب السماء وهو شيء نفيس فلا يبخل به عليكم وقال أبو علي الفارسي المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لوجهين أحدهما أن الكفار لم يبخلوه وإنما اتهموه فنفي التهمة أولى من نضي البخل وثانيها قوله والغيب ههنا القرآن وما فيه من الأنباء والقصص والظنين المتهم يقال ظننت زيدا في معنى اتهمته وليس من الظن الذي يتعدى إلى مفعولين والمعنى ما محمد على القرآن بمتهم أي هو ثقة فيما يؤدي عن الله ومن قرأ بالضاد فهو من البخل يقال ضننت به أضن أي بخلت والمعنى ليس ببخيل فيما أنزل الله قال الفراء يأتيه غيب السماء وهو شيء نفيس فلا يبخل به عليكم وقال أبو علي الفارسي المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لوجهين أحدهما أن الكفار لم يبخلوه وإنما اتهموه فنفي التهمة أولى من نضي البخل وثانيها قوله عَلَى الْغَيْبِ ولو كان المراد البخل لقال بالغيب لأنه يقال فلان ضنين بكذا وقلما يقال على كذا
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ
ثم قال تعالى وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ كان أهل مكة يقولون إن هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسانه فنفى الله ذلك فإن قيل القول بصحة النبوة موقوف على نفي هذا الاحتمال فكيف يمكن نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي قُلْنَا بينا أن على القول بالصرفة لا تتوقف صحة النبوة على نفي هذا الاحتمال فلا جرم يمكن نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي

فَأيْنَ تَذْهَبُونَ
ثم قال تعالى فَأيْنَ تَذْهَبُونَ وهذا استضلال لهم يقال لتارك الجادة اعتسافاً أين تذهب مثلت حالهم بحالة في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل والمعنى أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم قال الفراء العرب تقول إلى أين تذهب وأين تذهب وتقول ذهبت الشام وانطلقت السوق واحتج أهل الاعتزال بهذه الآية وجهه ظاهر
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
ثم بين أن القرآن ما هو فقال إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ أي هو بيان وهداية للخلق أجمعين
لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ
ثم قال لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وهو بدل من العالمين والتقدير إن هو إلا ذكر لمن شاء منكم أن يستقيم وفائدة هذا الإبدال أن الذين شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر فكأنه لم يوعظ به غيرهم والمعنى أن القرآن إنما ينتفع به من شاء أن يستقيم ثم بين أن مشيئة الاستقامة موقوفة على مشيئة الله
وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
أي إلا أن يشاء الله تعالى أن يعطيه تلك المشيئة لأن فعل تلك المشيئة صفة محدثة فلا بد في حدوثها من مشيئة أخرى فيظهر من مجموع هذه الآيات أن فعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة وهذه الإرادة موقوفة الحصول على أن يريد الله أن يعطيه تلك الإرادة والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء فأفعال العباد في طرفي ثبوتها وانتفائها موقوفة على مشيئة الله وهذا هو قول أصحابنا وقول بعض المعتزلة إن هذه الآية مخصوصة بمشيئة القهر والإلجاء ضعيف لأنا بينا أن المشيئة الاختيارية شيء حادث فلا بد له من محدث فيتوقف حدوثها على أن يشاء محدثها إيجادها وحينئذ يعود الإلزام والله أعلم بالصواب

سورة الانفطار
تسع عشرة آية مكية
إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ
اعلم أن المراد أنه إذا وقعت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة فهناك يحصل الحشر والنشر وفي تفسير هذه الآيات مقامات الأول في تفسير كل واحد من هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة وهي ههنا أربعة اثنان منها تتعلق بالعلويات واثنان آخران تتعلق بالسفليات الأول قوله إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ أي انشقت وهو كقوله وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء الْغَمَامِ ( الفرقان 25 ) إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ( الإنشقاق 1 ) فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَة ً كَالدّهَانِ ( الرحمن 37 ) وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْواباً و السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ ( المزمل 18 ) قال الخليل ولم يأت هذا على الفعل بل هو كقولهم مرضع وحائض ولو كان على الفعل لكان منفطرة كما قال إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ أما الثاني وهو قوله وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ فالمعنى ظاهر لأن عند انتقاض تركيب السماء لا بد من انتثار الكواكب على الأرض
واعلم أنا ذكرنا في بعض السورة المتقدمة أن الفلاسفة ينكرون إمكان الخرق والالتئام على الأفلاك ودليلنا على إمكان ذلك أن الأجسام متماثلة في كونها أجساماً فوجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر إنما قلنا إنها متماثلة لأنه يصح تقسيمها إلى السماوية والأرضية ومورد التقسيم مشترك بين القسمين فالعلويات والسفليات مشتركة في أنها أجسام وإنما قلنا إنه متى كان كذلك وجب أن يصح على العلويات ما يصح على السفليات لأن المتماثلات حكمها واحد فمتى يصح حكم على واحد منها وجب أن

يصح على الباقي وأما الإثنان السفليان فأحدهما قوله وَإِذَا الْبِحَارُ فُجّرَتْ وفيه وجوه أحدهما أنه ينفذ بعض البحار في البعض بارتفاع الحاجز الذي جعله الله برزخاً وحينئذ يصير الكل بحراً واحداً وإنما يرتفع ذلك الحاجز لتزلزل الأرض وتصدعها وثانيها أن مياه البحار الآن راكدة مجتمعة فإذا فجرت تفرقت وذهب ماؤها وثالثها قال الحسن فجرت أي يبست
واعلم أن على الوجوه الثلاثة فالمراد أنه تتغير البحار عن صورتها الأصلية وصفتها وهو كما ذكر أنه تغير الأرض عن صفتها في قوله يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( ابراهيم 48 ) وتغير الجبال عن صفتها في قوله فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ( طه 106 105 ) ورابعها قرأ بعضهم فُجّرَتْ بالتخفيف وقرأ مجاهد فُجّرَتْ على البناء للفاعل والتخفيف بمعنى بغت لزوال البرزخ نظراً إلى قوله لاَّ يَبْغِيَانِ ( الرحمن 20 ) لأن البغي والفجور أخوان
وأما الثاني فقوله وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ فاعلم أن بعثر وبحثر بمعنى واحد ومركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما والمعنى أثيرت وقلب أسفلها أعلاها وباطنها ظاهرها ثم ههنا وجهان أحدهما أن القبور تبعثر بأن يخرج ما فيها من الموتى أحياء كما قال تعالى وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا ( الزلزلة 2 ) والثاني أنها تبعثر لإخراج ما في بطنها من الذهب والفضة وذلك لأن من أشراط الساعة أن تخرج الأرض أفلاذ كبدها من ذهبها وفضتها ثم يكون بعد ذلك خروج الموتى والأول أقرب لأن دلالة القبور على الأول أتم
المقام الثاني في فائدة هذا الترتيب واعلم أن المراد من هذه الآيات بيان تخريب العالم وفناء الدنيا وانقطاع التكاليف والسماء كالسقف والأرض كالبناء ومن أراد تخريب دار فإنه يبدأ أولاً بتخريب السقف وذلك هو قوله إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ثم يلزم من تخريب السماء انتثار الكواكب وذلك هو قوله وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ثم إنه تعالى بعد تخريب السماء والكواكب يخرب كل ما على وجه الأرض وهو قوله وَإِذَا الْبِحَارُ فُجّرَتْ ثم إنه تعالى يخرب آخر الأمر الأرض التي هي البناء وذلك هو قوله وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ فإنه إشارة إلى قلب الأرض ظهراً لبطن وبطناً لظهر
المقام الثالث في تفسير قوله عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ وفيه احتمالان الأول أن المراد بهذه الأمور ذكر يوم القيامة ثم فيه وجوه أحدها وهو الأصح أن المقصود منه الزجر عن المعصية والترغيب في الطاعة أي يعلم كل أحد في هذا اليوم ماقدم فلم يقصر فيه وما أخر فقصر فيه لأن قوله مَّا قَدَّمَتْ يقتضي فعلاً و مَا يقتضي تركاً فهذا الكلام يقتضي فعلاً وتركاً وتقصيراً وتوفيراً فإن كان قدم الكبائر وأخر العمل الصالح فمأواه النار وإن كان قدم العمل الصالح وأخر الكبائر فمأواه الجنة وثانيها ما قدمت من عمل أدخله في الوجود وماأخرت من سنة يستن بها من بعده من خير أو شر وثالثها قال الضحاك ما قدمت من الفرائض وما أخرت أي ما ضيعت ورابعها قال أبو مسلم ما قدمت من الأعمال في أول عمرها وما أخرت في آخر عمرها فإن قيل وفي أي موقف من مواقف القيامة يحصل هذا العلم قلنا أما العلم الإجمالي فيحصل في أول زمان الحشر لأن المطيع يرى آثار السعادة والعاصي يرى آثار الشقاوة في أول الأمر وأما العلم التفصيل فإنما يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة

الاحتمال الثاني أن يكون المراد قيل قيام القيامة بل عند ظهور أشراط الساعة وانقطاع التكاليف وحين لا ينفع العمل بعد ذلك كما قال رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا فيكون ما عمله الإنسان إلى تلك الغاية هو أول أعماله وآخرها لأنه لا عمل له بعد ذلك وهذا القول ذكره القفال
ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَى ِّ صُورَة ٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ
اعلم أنه سبحانه لما أخبر في الآية الأولى عن وقوع الحشر والنشر ذكر في هذه الآية ما يدل عقلاً على إمكانه أو على وقوعه وذلك من وجهين الأول أن الإله الكريم الذي لا يجوز من كرمه أن يقطع موائد نعمه عن المذنبين كيف يجوز في كرمه أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم الثاني أن القادر الذي خلق هذه البنية الإنسانية ثم سواها وعدلها إما أن يقال إنه خلقها لا لحكمة أو لحكمة فإن خلقها لا لحكمة كان ذلك عبثاً وهو غير جائز على الحكيم وإن خلقها لحكمة فتلك الحكمة إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى أو إلى العبد والأول باطل لأنه سبحانه متعال عن الاستكمال والانتفاع فتعين الثاني وهو أنه خلق الخلق لحكمة عائدة إلى العبد وتلك الحكمة إما أن تظهر في الدنيا أو في دار سوى الدنيا والأول باطل لأن الدنيا دار بلاء وامتحان لا دار الانتفاع والجزاء ولما بطل كل ذلك ثبت أنه لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى فثبت أن الاعتراف بوجود الإله الكريم الذي يقدر على الخلق والتسوية والتعديل يوجب على العاقل أن يقطع بأنه سبحانه يبعث الأموات ويحشرهم وذلك يمنعهم من الاعتراف بعدم الحشر والنشر وهذا الاستدلال هو الذي ذكر بعينه في سورة التين حيث قال لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ إلى أن قال فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ ( التين 7 4 ) وهذه المحاجة تصلح مع العرب الذين كانوا مقرين بالصانع وينكرون الإعادة وتصلح أيضاً مع من ينفي الإبتداء والإعادة معاً لأن الخلق المعدل يدل على الصانع وبواسطته يدل على صحة القول بالحشر والنشر فإن قيل بناء هذا الاستدلال على أنه تعالى حكيم ولذلك قال في سورة التين بعد هذا الاستدلال أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ( التين 8 ) فكان يجب أن يقول في هذه السورة ما غرك بربك الحكيم الجواب أن الكريم يجب أن يكون حكيماً لأن إيصال النعمة إلى الغير لو لم يكن مبنياً على داعية الحكمة لكان ذلك تبذيراً لا كرماً أما إذا كان مبنياً على داعية الحكمة فحينئذ يسمى كرماً إذا ثبت هذا فنقول كونه كريماً يدل على وقوع الحشر من وجهين كما قررناه أما كونه حكيماً فإنه يدل على وقوع الحشر من هذا الوجه الثاني فكان ذكر الكريم ههنا أولى من ذكر الحكيم هذا هو تمام الكلام في كيفية النظم ولنرجع إلى التفسير أما قوله الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ ففيه قولان أحدهما أنه الكافر لقوله من بعد ذلك كَلاَّ بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ ( الإنفطار 9 ) وقال عطاء عن ابن عباس نزلت في الوليد بن المغيرة وقال الكلبي ومقاتل نزلت في ابن الأسد بن كلدة بن أسيد وذلك أنه ضرب

النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يعاقبه الله تعالى وأنزل هذه الآية والقول الثاني أنه يتناول جميع العصاة وهو الأقرب لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ أما قوله مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ فالمراد الذي خدعك وسول لك الباطل حتى تركت الواجبات وأتيت بالمحرمات والمعنى ما الذي أمنك من عقابه يقال غره بفلان إذا أمنه المحذور من جهته مع أنه غير مأمون وهو كقوله لا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( لقمان 33 ) هذا إذا حملنا قوله الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ على جميع العصاة وأما إذا حملناه على الكافر فالمعنى ما الذي دعاك إلى الكفر والجحد بالرسل وإنكار الحشر والنشر وههنا سؤالات
الأول أن كونه كريماً يقتضي أن يغتر الإنسان بكرمه بدليل المعقول والمنقول أما المعقول فهو أن الجود إفادة ما ينبغي لا لعوض فلما كان الحق تعالى جواداً مطلقاً لم يكن مستعيضاً ومتى كان كذلك استوى عنده طاعة المطيعين وعصيان المذنبين وهذا يوجب الاغترار لأنه من البعيد أن يقدم الغني على إيلام الضعيف من غير فائدة أصلاً وأما المنقول فما روي عن علي عليه السلام أنه دعا غلامه مرات فلم يجبه فنظر فإذا هو بالباب فقال له لم لم تجبني فقال لثقتي بحلمك وأمني من عقوبتك فاستحسن جوابه وأعتقه وقالوا أيضاً من كرم الرجل سوء أدب غلمانه ولما ثبت أن كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله ههنا مانعاً من الاغترار به والجواب من وجوه أحدها أن معنى الآية أنك لماكنت ترى حلم الله على خلقه ظننت أن ذلك لأنه لا حساب ولا دار إلا هذه الدار فما الذي دعاك إلى هذا الاغترار وجرأك على إنكار الحشر والنشر فإن ربك كريم فهو لكرمه لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدة التوبة وتأخيراً للجزاء إلى أن يجمع الناس في الدار التي جعلها لهم للجزاء فالحاصل أن ترك المعاجلة بالعقوبة لأجل الكرم وذلك لا يقتضي الاغترار بأنه لا دار بعد هذه الدار وثالثها أن كرمه لما بلغ إلى حيث لا يمنع من العاصي موائد لطفه فبأن ينتقم للمظلوم من الظالم كان أولى فإذن كونه كريماً يقتضي الخوف الشديد من هذا الاعتبار وترك الجراءة والاغترار وثالثها أن كثرة الكرم توجب الجد والاجتهاد في الخدمة والاستحياء من الاغترار والتواني ورابعها قال بعض الناس إنما قال بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ليكون ذلك جواباً عن ذلك السؤال حتى يقول غرني كرمك ولولا كرمك لما فعلت لأنك رأيت فسترت وقدرت فأمهلت وهذا الجواب إنما يصح إذا كان المراد من قوله الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ ليس الكافر
السؤال الثاني ما الذي ذكره المفسرون في سبب هذا الاغترار قلنا وجوه أحدها قال قتادة سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان له وثانيها قال الحسن غره حمقه وجهله وثالثها قال مقاتل غره عفو الله عنه حين لم يعاقبه في أول أمره وقيل للفضيل بن عياض إذا أقامك الله يوم القيامة وقال لك مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ماذا تقول قال أقول غرتني ستورك المرخاة
السؤال الثالث ما معنى قراءة سعيد بن جبير ما أغرك قلنا هو إما على التعجب وإما على الاستفهام من قولك غر الرجل فهو غار إذا غفل ومن قولك بيتهم العدو وهم غارون وأغره غيره جعله غاراً أما قوله تعالى الَّذِى خَلَقَكَ فاعلم أنه تعالى لما وصف نفسه بالكرم ذكر هذه الأمور الثلاثة كالدلالة على تحقق ذلك الكرم أولها الخلق وهو قوله الَّذِى خَلَقَكَ ولا شك أنه كرم وجود لأن الوجود خير

من العدم والحياة خير من الموت وهو الذي قال كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) وثانيها قوله فَسَوَّاكَ أي جعلك سوياً سالم الأعضاء تسمع وتبصر ونظيره قوله أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ( الكهف 37 ) قال ذو النون سواك أي سخر لك المكونات أجمع وما جعلك مسخراً لشيء منها ثم أنطق لسانك بالذكر وقلبك بالعقل وروحك بالمعرفة وسرك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي وفضك على كثير ممن خلق تفضيلاً وثالثها قوله فَعَدَلَكَ وفيه بحثان
البحث الأول قال مقاتل يريد عدل خلقك في العينين والأذنين واليدين والرجلين فلم يجعل إحدى اليدين أطول ولا إحدى العينين أوسع وهو كقوله بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّى َ بَنَانَهُ ( القيامة 4 ) وتقريره ما عرف في علم التشريح أنه سبحانه ركب جانبي هذه الجثة على التسوي حتى أنه لا تفاوت بين نصفيه لا في العظام ولا في أشكالها ولا في ثقبها ولا في الأوردة والشرايين والأعصاب النافذة فيها والخارجة منها واستقصاء القول فيه لا يليق بهذا العلم وقال عطاء عن ابن عباس جعلك قائماً معتدلاً حسن الصورة لا كالبهيمة المنحنية وقال أبو علي الفارسي عدل خلقك فأخرجك في أحسن التقويم وبسبب ذلك الاعتدال جعلك مستعداً لقبول العقل والقدرة والفكر وصيرك بسبب ذلك مستولياً على جميع الحيوان والنبات وواصلاً بالكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم
البحث الثاني قرأ الكوفيون فعدلك بالتخفيف وفيه وجوه أحدها قال أبو علي الفارسي أن يكون المعنى عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت والثاني قال الفراء فَعَدَلَكَ أي فصرفك إلى أي صورة شاء ثم قال والتشديد أحسن الوجهين لأنك تقول عدلتك إلى كذا كما تقول صرفتك إلى كذا ولا يحسن عدلتك فيه ولا صرفتك فيه ففي القراءة الأولى جعل في من قوله مَا يُجَادِلُ صُورَة ٍ صلة للتركيب وهو حسن وفي القراءة الثانية جعله صلة لقوله فَعَدَلَكَ وهو ضعيف واعلم أن اعتراض القراء إنما يتوجه على هذا الوجه الثاني فأما على الوجه الأول الذي ذكره أبو علي الفارسي فغير متوجه والثالث نقل القفال عن بعضهم أنهما لغتان بمعنى واحد أما قوله مَا يُجَادِلُ صُورَة ٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ففيه مباحث الأول ما هل هي مزيدة أم لا فيه قولان الأول أنها ليست مزيدة بل هي في معنى الشرط والجزاء فيكون المعنى في أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك وبناء على هذا الوجه قال أبو صالح ومقاتل المعنى إن شاء ركبك في غير صورة الإنسان من صورة كلب أو صورة حمار أو خنزير أو قرد والقول الثاني أنها صلة مؤكدة والمعنى في أي صورة تقتضيها مشيئته وحكمته من الصور المختلفة فإنه سبحانه يركبك على مثلها وعلى هذا القول تحتمل الآية وجوهاً أحدها أن المراد من الصور المختلفة شبه الأب والأم أو أقارب الأب أو أقارب الأم ويكون المعنى أنه سبحانه يركبك على مثل صور هؤلاء ويدل على صحة هذا ما روى أنه عليه السلام قال في هذا الآية ( إذا استقرت النطفة في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم ) والثاني وهو الذي ذكره الفراء والزجاج أن المراد من الصور المختلفة الاختلاف بحسب الطول والقصر والحسن والقبح والذكورة والأنوثة ودلالة هذه الحالة على الصانع القادر في غاية الظهور لأن النطفة جسم متشابه الأجزاء وتأثير طبع الأبوين فيه على السوية فالفاعل المؤثر بالطبيعة في القابل المتشابه لا يفعل إلا فعلاً واحداً فلما اختلفت الآثار والصفات دل ذلك الاختلاف على أن المدبر هو القادر المختار قال القفال

اختلاف الخلق والألوان كاختلاف الأحوال في الغنى والفقر والصحة والسقم فكما أنا نقطع أنه سبحانه إنما ميز البعض عن البعض في الغنى والفقر وطول العمر وقصره بحكمة بالغة لا يحيط بكنهها إلا هو فكذلك نعلم أنه إنما جعل البعض مخالفاً للبعض في الخلق والألوان بحكمة بالغة وذلك لأن بسبب هذا الاختلاف يتميز المحسن عن المسيء والقريب عن الأجنبي ثم قال ونحن نشهد شهادة لا شك فيها أنه سبحانه لم يفرق بين المناظر والهيئات إلا لما علم من صلاح عباده فيه وإن كنا جاهلين بعين الصلاح القول الثالث قال الواسطي المراد صورة المطيعين والعصاة فليس من ركبه على صورة الولاية كمن ركبه على صورة العداوة قال آخرون إنه إشارة إلى صفاء الأرواج وظلمتها وقال الحسن منهم من صوره ليستخلصه لنفسه ومنهم من صوره ليشغله بغيره مثال الأول أنه خلق آدم ليخصه بألطاف بره وإعلاء قدره وأظهر روحه من بين جماله وجلاله وتوجه بتاج الكرامة وزينه برداء الجلال والهيبة
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ
قوله تعالى كَلاَّ بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ اعلم أنه سبحانه لما بين بالدلائل العقلية على صحة القول بالبعث والنشور على الجملة فرع عليها شرح تفاصيل الأحوال المتعلقة بذلك وهو أنواع
النوع الأول أنه سبحانه زجرهم عن ذلك الاغترار بقوله كَلاَّ و بَلِ حرف وضع في اللغة لنفي شيء قد تقدم وتحقق غيره فلا جرم ذكروا في تفسير كَلاَّ وجوهاً الأول قال القاضي معناه أنكم لا تستقيمون على توجيه نعمي عليكم وإرشادي لكم بل تكذبون بيوم الدين الثاني كلا أي ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله ثم كأنه قال وإنكم لا ترتدعون عن ذلك بل تكذبون بالدين أصلاً الثالث قال القفال كلا أي ليس الأمر كما تقولون من أنه لا بعث ولا نشور لأن ذلك يوجب أن الله تعالى خلق الخلق عبثاً وسدى وحاشاه من ذلك ثم كأنه قال وإنكم لا تنتفعون بهذا البيان بل تكذبون وفي قوله تُكَذّبُونَ بِالدّينِ وجهان الأول أن يكون المراد من الدين الإسلام والمعنى أنكم تكذبون بالجزاء على الدين والإسلام الثاني أن يكون المراد من الدين الحساب والمعنى أنكم تكذبون بيوم الحساب
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
النوع الثاني قوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
والمعنى التعجب من حالهم كأنه سبحانه قال إنكم تكذبون بيوم الدين وهو يوم الحساب والجزاء وملائكة الله موكلون بكم يكتبون أعمالكم حتى تحاسبوا بها يوم القيامة ونظيره قوله تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ق 18 17 ) وقوله تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً ( الأنعام 61 ) ثم ههنا مباحث
الأول من الناس من طعن في حضور الكرام الكاتبين من وجوه أحدها أن هؤلاء الملائكة إما أن يكونوا مركبين من الأجسام اللطيفة كالهواء والنسيم والنار أو من الأجسام الغليظة فإن كان الأول لزم أن

تنتقض بنيتهم بأدنى سبب من هبوب الرياح الشديدة وإمرار اليد والكم والسوط في الهواء وإن كان الثاني وجب أن نراهم إذ لو جاز أن يكونوا حاضرين ولا نراهم لجاز أن يكون بحضرتنا شموس وأقمار وفيلات وبوقات ونحن لا نراها ولا نسمعها وذلك دخول في التجاهل وكذا القول في إنكار صحائفهم وذواتهم وقلمهم وثانيها أن هذا الاستكتاب إن كان خالياً عن الفوائد فهو عبث وذلك غير جائز على الله تعالى وإن كان فيه فائدة فتلك الفائدة إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى أو إلى العبد والأول محال لأنه متعال عن النفع والضر وبهذا يظهر بطلان قول من يقول إنه تعالى إنما استكتبها خوفاً من النسيان الغلط والثاني أيضاً محال لأن أقصى ما في الباب أن يقال فائدة هذا الاستكتاب أن يكونوا شهداء على الناس وحجة عليهم يوم القيامة إلا أن هذه الفائدة ضعيفة لأن الإنسان الذي علم أن الله تعالى لا يجور ولا يظلم لا يحتاج في حقه إلى إثبات هذه الحجة والذي لا يعلم ذلك لا ينتفع بهذه الحجة لاحتمال أنه تعالى أمرهم بأن يكتبوا تلك الأشياء عليه ظلماً وثالثها أن أفعال القلوب غير مرئية ولا محسوسة فتكون هي من باب المغيبات والغيب لا يعلمه إلا الله تعالى على ما قال وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) وإذا لم تكن هذه الأفعال معلومة للملائكة استحال أن يكتبوها والآية تقضي أن يكونوا كاتبين علينا كل ما نفعله سواء كان ذلك من أفعال القلوب أم لا والجواب عن الأول أن هذه الشبهة لا تزال إلا على مذهبنا بناء على أصلين أحدهما أن البنية ليست شرطاً للحياة عندنا والثاني أي عند سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول سائر الشرائط لا يجب الإدراك فعلى الأصل الأول يجوز أن تكون الملائكة أجراماً لطيفة تتمزق وتتفرق ولكن تبقى حياتها مع ذلك وعلى الأصل الثاني يجوز أن يكونوا أجساماً كثيفة لكنا لا نراها والجواب عن الثاني أن الله تعالى إنما أجرى أموره مع عباده على ما يتعاملون به فيما بينهم لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى عندهم ولما كان الأبلغ عندهم في المحاسبة إخراج كتاب بشهود خوطبوا بمثل هذا فيما يحاسبون به يوم القيامة فيخرج لهم كتب منشورة ويحضر هناك ملائكة يشهدون عليهم كما يشهد عدول السلطان على من يعصيه ويخالف أمره فيقولون له أعطاك الملك كذا وكذا وفعل بك كذا وكذا ثم قد خلفته وفعلت كذا وكذا فكذا ههنا والله أعلم بحقيقة ذلك الجواب عن الثالث أن غاية ما في الباب تخصيص هذا العموم بأفعال الجوارح وذلك غير ممتنع
البحث الثاني أن قوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ وإن كان خطاب مشافهة إلا أن الأمة مجمعة على أن هذا الحكم عام في حق كل المكلفين ثم ههنا احتمالان
أحدهما أن يكون هناك جمع من الحافظين وذلك الجمع يكونون حافظين لجميع بني آدم من غير أن يختص واحد من الملائكة بواحد من بني آدم
وثانيهما أن يكون الموكل بكل واحد منهم غير الموكل بالآخرة ثم يحتمل أن يكون الموكل بكل واحد من بني آدم واحداً من الملائكة لأنه تعالى قابل الجمع بالجمع وذلك يقتضي مقابلة الفرد بالفرد ويحتمل أن يكون الموكل بكل واحد منهم جمعاً من الملائكة كما قيل إثنان بالليل وإثنان بالنهار أو كما قيل إنهم خمسة
البحث الثالث أنه تعالى وصف هؤلاء الملائكة بصفات أولها كونهم حافظين وثانيها كونهم

كراماً وثالثها كونهم كاتبين ورابعها كونهم يعلمون ما تفعلون وفيه وجهان أحدهما أنهم يعلمون تلك الأفعال حتى يمكنهم أن يكتبوها وهذا تنبيه على أن الإنسان لا يجوز له الشهادة إلا بعد العلم والثاني أنهم يكتبونها حتى يكونوا عالمين بها عند أداء الشهادة
واعلم أن وصف الله إياهم بهذه الصفات الخمسة يدل على أنه تعالى أثنى عليهم وعظم شأنهم وفي تعظيمهم تعظيم لأمر الجزاء وأنه عند الله تعالى من جلائل الأمور ولولا ذلك لما وكل بضبط ما يحاسب عليه هؤلاء العظماء الأكابر قال أبو عثمان من يزجره من المعاصي مراقبة الله إياه كيف يرده عنها كتابة الكرام الكاتبين
إِنَّ الاٌّ بْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ
النوع الثالث من تفاريع مسألة الحشر قوله تعالى إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّينِ وَهُمْ عَنْهُمْ بِغَائِبِينَ
اعلم أن الله تعالى لما وصف الكرام الكاتبين لأعمال العباد ذكر أحوال العاملين فقال إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وهو نعيم الجنة وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ وهو النار وفيه مسألتان
المسألة الأولى أن القاطعين بوعيد أصحاب الكبائر تمسكوا بهذه الآية فقالوا صاحب الكبيرة فاجر والفجار كلهم في الجحيم لأن لفظ الجحيم إذا دخل عليه الألف واللام أفاد الاستغراق والكلام في هذه المسألة قد استقصيناه في سورة البقرة وههنا نكت زائدة لا بد من ذكرها قالت الوعيدية حصلت في هذه الآية وجوه دالة على دوام الوعيد أحدها قوله تعالى يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّينِ ويوم الدين يوم الجزاء ولا وقت إلا ويدخل فيه كما تقول يوم الدنيا ويوم الآخرة الثاني قال الجبائي لو خصصنا قوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ لكان بعض الفجار يصيرون إلى الجنة ولو صاروا إليها لكانوا من الأبرار وهذا يقتضي أن لا يتميز الفجار عن الأبرار وذلك باطل لأن الله تعالى ميز بين الأمرين فإذن يجب أن لا يدخل الفجار الجنة كما لا يدخل الأبرار النار والثالث أنه تعالى قال وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ وهو كقوله وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ( المائدة 37 ) وإذا لم يكن هناك موت ولا غيبة فليس بعدهما إلا الخلود في النار أبد الآبدين ولما كان اسم الفاجر يتناول الكافر والمسلم صاحب الكبيرة ثبت بقاء أصحاب الكبائر أبداً في النار وثبت أن الشفاعة للمطيعين لا لأهل الكبائر والجواب عنه أنا بينا أن دلالة ألفاظ العموم على الاستغراق دلالة ظنية ضعيفة والمسألة قطعية والتمسك بالدليل الظني في المطلوب القطعي غير جائز بل ههنا ما يدل على قولنا لأن استعمال الجمع المعرف بالألف واللام في المعهود السابق شائع في اللغة فيحتمل أن يكون اللفظ ههنا عائداً إلى الكافرين الذين تقدم ذكرهم من المكذبين بيوم الدين والكلام في ذلك قد تقدم على سبيل الاستقصاء سلمنا أن العموم يفيد القطع لكن لا نسلم أن صاحب الكبيرة فاجر والدليل عليه قوله تعالى في حق الكفار أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الْفَجَرَة ُ ( عبس 42 ) فلا يخلو إما أن يكون المراد أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الذين يكونون من جنس الفجرة أو المراد أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ وهم الْفَجَرَة ُ والأول باطل لأن كل كافر فهو فاجر بالإجماع فتقييد الكافر بالكافر الذي يكون من جنس

الفجرة عبث وإذا بطل هذا القسم بقي الثاني وذلك يفيد الحصر وإذا دلت هذه الآية على أن الكفار هم الفجرة لا غيرهم ثبت أن صاحب الكبيرة ليس بفاجر على الإطلاق سلمنا إن الفجار يدخل تحته الكافر والمسلم لكن قوله وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ معناه أن مجموع الفجار لا يكونون غائبين ونحن نقول بموجبه فإن أحد نوعي الفجار وهم الكفار لا يغيبون وإذا كان كذلك ثبت أن صدق قولنا إن الفجار بأسرهم لا يغيبون يكفي فيه أن لا يغيب الكفار فلا حاجة في صدقه إلى أن لا يغيب المسلمون سلمنا ذلك لكن قوله وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ يقتضي كونهم في الحال في الجحيم وذلك كذب فلا بد من صرفه عن الظاهر فهم يحملونه على أنهم بعد الدخول في الجحيم يصدق عليهم قوله وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ونحن نحمل ذلك على أنهم في الحال ليسوا غائبين عن استحقاق الكون في الجحيم إلا أن ثبوت الاستحقاق لا ينافي العفو سلمنا ذلك لكنه معارض بالدلائل الدالة على العفو وعلى ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر والترجيح لهذا الجانب لأن دليلهم لا بد وأن يتناول جميع الفجار في جميع الأوقات وإلا لم يحصل مقصودهم ودليلنا يكفي في صحته تناوله لبعض الفجار في بعض الأوقات فدليلهم لا بد وأن يكون عاماً ودليلنا لا بد وأن يكون خاصاً والخاص مقدم على العام والله أعلم
المسألة الثانية فيه تهديد عظيم للعصاة حكي أن سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة وهو يريد مكة فقال لأبي حازم كيف القدوم على الله غداً قال أما المحسن فكالغائب يقدم من سفره على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه قال فبكى ثم قال ليت شعري ما لنا عند الله فقال أبو حازم أعرض عملك على كتاب الله قال في أي مكان من كتاب الله قال إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ وقال جعفر الصادق عليه السلام النعيم المعرفة والمشاهدة والجحيم ظلمات الشهوات وقال بعضهم النعيم القناعة والجحيم الطمع وقيل النعيم التوكل والجحيم الحرص وقيل النعيم الاشتغال بالله والجحيم الاشتغال بغير الله تعالى
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالاٌّ مْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ
النوع الرابع من تفاريع الحشر تعظيم يوم القيامة وهو قوله تعالى وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في الخطاب في قوله وَمَا أَدْرَاكَ فقال بعضهم هو خطاب للكافر على وجه الزجر له وقال الأكثرون إنه خطاب للرسول وإنما خاطبه بذلك لأنه ما كان عالماً بذلك قبل الوحي
المسألة الثانية الجمهور على أن التكرير في قوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ لتعظيم ذلك اليوم وقال الجبائي بل هو لفائدة مجددة إذ المراد بالأول أهل النار والمراد بالثاني أهل الجنة كأنه قال وما أدراك ما يعامل به الفجار في يوم الدين ثم ما أدراك ما يعامل به الأبرار في يوم الدين وكرر يوم الدين تعظيماً لما يفعله تعالى من الأمرين بهذين الفريقين

المسألة الثالثة في يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ قراءتان الرفع والنصب أما الرفع ففيه وجهان أحدهما على البدل من يوم الدين والثاني أن يكون بإضمار هو فيكون المعنى هو يوم لا تملك وأما النصب ففيه وجوه أحدها بإضمار يدانون لأن الدين يدل عليه وثانيها بإضمار اذكروا وثالثها ما ذكره الزجاج يجوز أن يكون في موضع رفع إلا أنه يبنى على الفتح لإضافته إلى قوله لاَ تَمْلِكُ وما أضيف إلى غير المتمكن قد يبنى على الفتح وإن كان في موضع رفع أو جر كما قال لم يمنع الشرب منهم غير أن نطقت
حمامة في غصون ذات أو قال
فبنى غير على الفتح لما أضيف إلى قوله إن نطقت قال الواحدي والذي ذكره الزجاج من البناء على الفتح إنما يجوز عند الخليل وسيبويه إذا كانت الإضافة إلى الفعل الماضي نحو قولك على حين عاتبت أما مع الفعل المستقبل فلا يجوز البناء عندهم ويجوز ذلك في قول الكوفيين وقد ذكرنا هذه المسألة عند قوله هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ( المائدة 119 ) ورابعها ما ذكره أبو علي وهو أن اليوم لما جرا في أكثر الأمر ظرفاً ترك على حالة الأكثرية والدليل عليه إجماع القراء والعرب في قوله مّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذالِكَ ( الأعراف 168 ) ولا يرفع ذلك أحد ومما يقوي النصب قوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة ُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ ( القارعة 4 3 ) وقوله يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( الذاريات 13 12 ) فالنصب في يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ مثل هذا
المسألة الرابعة تمسكوا في نفي الشفاعة للعصاة بقوله يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وهو كقوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ( البقرة 48 ) والجواب عنه قد تقدم في سورة البقرة
المسألة الخامسة أن أهل الدنيا كانوا يتغلبون على الملك ويعين بعضهم بعضاً في أمور ويحمي بعضهم بعضاً فإذا كان يوم القيامة بطل ملك بنى الدنيا وزالت رياستهم فلا يحمي أحد أحداً ولا يغني أحد عن أحد ولا يتغلب أحد على ملك ونظيره قوله وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وقوله مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 4 ) وهو وعيد عظيم من حيث إنه عرفهم أنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأعوان وشفعاء قال الواحدي والمعنى أن الله تعالى لم يملك في ذلك اليوم أحداً شيئاً من الأمور كما ملكهم في دار الدنيا قال الواسطي في قوله يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً إشارة إلى فناء غير الله تعالى وهناك تذهب الرسالات والكلمات والغايات فمن كانت صفته في الدنيا كذلك كانت دنياه أخراه
وأما قوله وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ فهو إشارة إلى أن البقاء والوجود لله والأمر كذلك في الأزل وفي اليوم وفي الآخرة ولم يتغير من حال إلى حال فالتفاوت عائد إلى أحوال الناظر لا إلى أحوال المنظور إليه فالكاملون لا تتفاوت أحوالهم بحسب تفاوت الأوقات كما قال لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً وكحارثة لما أخبر بحضرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( كأني أنظر وكأني وكأني ) والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين

سورة المطففين
ثلاثون وست آيات مكية
وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
اعلم أن اتصال أول هذه السورة بآخر السورة المتقدمة ظاهر لأنه تعالى بين في آخر تلك السورة أن يوم القيامة يوم من صفته أنه لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر كله لله وذلك يقتضي تهديداً عظيماً للعصاة فلهذا أتبعه بقوله وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ والمراد الزجر عن التطفيف وهو البخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية وذلك لأن الكثير يظهر فيمنع منه وذلك القليل إن ظهر أيضاً منع منه فعلمنا أن التطيف هو البخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية وههنا مسائل
المسألة الأول الويل كلمة تذكر عند وقوع البلاء يقال ويل لك وويل عليك
المسألة الثانية في اشتقاق لفظ المطفف قولان الأول أن طف الشيء هو جانبه وحرفه يقال طف الوادي والإناء إذا بلغ الشيء الذي فيه حرفه ولم يمتلىء فهو طفافه وطفافه وطففه ويقال هذا طف المكيال وطفافه إذا قارب ملأه لكنه بعد لم يمتلىء ولهذا قيل الذي يسيء الكيل ولا يوفيه مطفف يعني أنه إنما يبلغ الطفاف والثاني وهو قول الزجاج أنه إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف لأنه يكون الذي لا يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف وههنا سؤالات
الأول وهو أن الاكتيال الأخذ بالكيل كالاتزان الأخذ بالوزن ثم إن اللغة المعتادة أن يقال اكتلت من فلان ولا يقال اكتلت على فلان فما الوجه فيه ههنا
الجواب من وجهين الأول لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً فيه إضرار بهم وتحامل عليهم أقيم على مقام من الدالة على ذلك الثاني قال الفراء المراد اكتالوا من الناس وعلى ومن في هذا الموضع

يعتقبان لأنه حق عليه فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال أخذت ما عليك وإذا قال اكتلت منك فهو كقوله استوفيت منك
السؤال الثاني هو أن اللغة المعتادة أن يقال كالوا لهم أو وزنوا لهم ولا يقال كلته ووزنته فما وجه قوله تعالى وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ والجواب من وجوه الأول أن المراد من قوله ( كالوهم أو وزنوهم ) كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل قال الكسائي والفراء وهذا من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم يقولون زنى كذا كلى كذا ويقولون صدتك وصدت لك وكسبتك وكسبت لك فعلى هذا الكناية في كالوهم ووزنوهم في موضع نصب الثاني أن يكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والتقدير وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوا موزونهم الثالث يروى عن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يجعلان الضميرين توكيداً لما في كالوا ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادا وزعم الفراء والزجاج أنه غير جائز لأنه لو كان بمعنى كالوهم لكان في المصحف ألف مثبتة قبل هم واعترض صاحب ( الكشاف ) على هذه الحجة فقال إن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الحظ والجواب أن إثبات هذه الألف لو لم يكن معتاداً في زمان الصحابة فكان يجب إثباتها في سائر الأعصار لما أنا نعلم مبالغتهم في ذلك فثبت أن إثبات هذه الألف كان معتاداً في زمان الصحابة فكان يجب إثباته ههنا
السؤال الثالث ما السبب في أنه قال وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ ولم يقل إذا انزنوا ثم قال وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ فجمع بينهما أن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فأحدهما يدل على الآخر
السؤال الرابع اللغة المعتادة أن يقال خسرته فما الوجه في أخسرته الجواب قال الزجاج أخسرت الميزان وخسرته سواء أي نقصته وعن المؤرج يخسرون ينقصون بلغة قريش
المسألة الثالثة عن عكرمة عن ابن عباس قال لما قدم نبي الله المدينة كانوا من أبخس الناس كيلا فأنزل الله تعالى هذه الآية فأحسنوا الكيل بعد ذلك وقيل كان أهل المدينة تجاراً يطففون وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة فنزلت هذه الآية فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقرأها عليهم وقال ( خمس بخمس ) قيل يا رسول الله وما خمس بخمس قال ما نقص قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر )
المسألة الرابعة الذم إنما لحقهم بمجموع أنهم يأخذون زائداً ويدفعون ناقصاً ثم اختلف العلماء فقال بعضهم هذه الآية دالة على الوعيد فلا تتناول إلا إذا بلغ التطفيف حد الكثير وهو نصاب السرقة وقال آخرون بل ما يصغر ويكبر دخل تحت الوعيد لكن بشرط أن لا يكون معه توبة ولا طاعة أعظم منها وهذا هو الأصح
المسألة الخامسة احتج أصحاب الوعيد بعموم هذه الآية قالوا وهذه الآية واردة في أهل الصلاة لا في الكفار والذي يدل عليه وجهان الأول أنه لو كان كافراً لكان ذلك الكفر أولى باقتضاء هذا الويل من

التطفيف فلم يكن حينئذ للتطفيف أثر في هذا الويل لكن الآية دالة على أن الموجب لهذا الويل هو التطفيف الثاني أنه تعالى قال للمخاطبين بهذه الآية أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ( المطففين 5 4 ) فكأنه تعالى هدد المطففين بعذاب يوم القيامة والتهديد بهذا لا يحصل إلا مع المؤمن فثبت بهذين الوجهين أن هذا الوعيد مختص بأهل الصلاة والجواب عنه ما تقدم مراراً ومن لواحق هذه المسألة أن هذا الوعيد يتناول من يفعل ذلك ومن يعزم عليه إذ العزم عليه أيضاً من الكبائر واعلم أن أمر المكيال والميزان عظيم وذلك لأن عامة الخلق يحتاجون إلى المعاملات وهي مبنية على أمر المكيال والميزان فلهذا السبب عظم الله أمره فقال وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ ( الرحمن 9 7 ) وقال وَلَقَدْ أَرْسَلنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ( الحديد 25 ) وعن قتادة ( أوف يا ابن آدم الكيل كما تحب أن يوفي لك واعدل كما تحب أن يعدل لك ) وعن الفضيل بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة وقال أعرابي لعبد الملك بن مروان قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففينا أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم في أخذ القليل فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ الكثير وتأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن
أَلا يَظُنُّ أُوْلَائِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
اعلم أنه تعالى وبخ هؤلاء المطففين فقال أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ الذين يطففون أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ وهو يوم القيامة وفي الظن ههنا قولان الأول أن المراد منه العلم وعلى هذا التقدير يحتمل أن يكون المخاطبون بهذا الخطاب من جملة المصدقين بالبعث ويحتمل أن لا يكونوا كذلك أما الاحتمال الأول فهو ما روي أن المسلمين من أهل المدينة وهم الأوس والخزرج كانوا كذلك وحين ورد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان ذلك شائعاً فيهم وكانوا مصدقين بالبعث والنشور فلا جرم ذكروا به وأما إن قلنا بأن المخاطبين بهذه الآية ما كانوا مؤمنين بالبعث إلا أنهم كانوا متمكنين من الاستدلال عليه لما في العقول من إيصال الجزاء إلى المحسن والمسيء أو إمكان ذلك إن لم يثبت وجوبه وهذا مما يجوز أن يخاطب به من ينكر البعث والمعنى ألا يتفكرون حتى يعلموا أنهم مبعوثون لكنهم قد أعرضوا عن التفكر وأراحوا أنفسهم عن متاعبه ومشاقه وإنما يجعل العلم الاستدلال ظناً لأن أكثر العلوم الاستدلالية راجع إلى الأغلب في الرأي ولم يكن كالشك الذي يعتدل الوجهان فيه لا جرم سمي ذلك ظناً القول الثاني أن المراد من الظن ههنا هو الظن نفسه لا العلم ويكون المعنى أن هؤلاء المطففين هب أنهم لا يجزمون بالبعث ولكن لا أقل من الظن فإن الأليق بحكمة الله ورحمته ورعايته مصالح خلقه أن لا يهمل أمرهم بعد الموت بالكلية وأن يكون لهم حشر ونشر وأن هذا الظن كاف في حصول الخوف كأنه سبحانه وتعالى يقول هب أن هؤلاء لا يقطعون به أفلا يظنونه أيضاً فأما قوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء يَوْمٍ بالنصب والجر أما النصب فقال الزجاج يوم منصوب بقوله

مَّبْعُوثُونَ والمعنى ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة وقال الفراء وقد يكون في موضع خفض إلا أنه أضيف إلى يفعل فنصب وهذا كما ذكرنا في قوله يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ وأما الجر فلكونه بدلاً من يَوْمٍ عَظِيمٍ
المسألة الثانية هذا القيام له صفات
الصفة الأولى سببه وفيه وجوه أحدها وهو الأصح أن الناس يقومون لمحاسبة رب العالمين فيظهر هناك هذا التطفيف الذي يظن أنه حقير فيعرف هناك كثرته واجتماعه ويقرب منه قوله تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) وثانيها أنه سبحانه يرد الأرواح إلى أجسادها فتقوم تلك الأجساد من مراقدها فذاك هو المراد من قوله يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وثالثها قال أبو مسلم معنى يَقُومُ النَّاسُ هو كقوله وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( البقرة 238 ) أي لعبادته فقوله يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ أي لمحض أمره وطعته لا لشيء آخر على ما قرره في قوله وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ
الصفة الثانية كيفية ذلك القيام روي عن ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ قال ( يقوم أحدكم في رشحه إلى أنصاف أذنيه ) وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ بكى نحيباً حتى عجز عن قراءة ما بعده )
الصفة الثالثة كمية ذلك القيام روى عنه عليه السلام أنه قال ( يقوم الناس مقدار ثلثمائة سنة من الدنيا لا يؤمر فيهم بأمر ) وعن ابن مسعود ( يمكثون أربعين عاماً ثم يخاطبون ) وقال ابن عباس وهو في حق المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة
واعلم أنه سبحانه جمع في هذه الآية أنواعاً من التهديد فقال أولا وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ ( المطففين 1 ) وهذه الكلمة تذكر عند نزول البلاء ثم قال ثانياً أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ وهو استفهام بمعنى الإنكار ثم قال ثالثاً لِيَوْمٍ عَظِيمٍ والشيء الذي يستعظمه الله لا شك أنه في غاية العظمة ثم قال رابعاً يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وفيه نوعان من التهديد أحدهما كونهم قائمين مع غاية الخشوع ونهاية الذلة والانكسار والثاني أنه وصف نفسه بكونه رباً للعالمين ثم ههنا سؤال وهو كأنه قال قائل كيف يليق بك مع غاية عظمتك أي تهيء هذا المحفل العظيم الذي هو محفل القيلة لأجل الشيء الحقير الطفيف فكأنه سبحانه يجيب فيقول عظمة الإلهية لا تتم إلا بالعظمة في القدرة والعظمة في الحكمة فعظمة القدرة ظهرت بكوني رباً للعالمين لكن عظمة الحكمة لا تظهر إلا بأن انتصف للمظلوم من الظالم بسبب ذلك القدر الحقير الطفيف فإن الشيء كلما كان أحقر وأصغر كان العلم الواصل إليه أعظم وأتم فلأجل إظهار العظمة في الحكمة أحضرت خلق الأولين والآخرين في محفل القيامة وحاسبت المطفف لأجل ذلك القدر الطفيف وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل وفي إظهار العيب وإخفائه وفي طلب الإنصاف والانتصاف ويقال من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه فليس بمنصب والمعاشرة والصحبة من هذه الجملة والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة ومن طلب حق نفسه من الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلبه لنفسه فهو من هذه الجملة والفتى من يقضي حقوق الناس ولا يطلب من أحد لنفسه حقاً

كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
واعلم أنه سبحانه لما بين عظم هذا الذنب أتبعه بذكر لواحقه وأحكامه فأولها قوله كَلاَّ والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً الأول أنه ردع وتنبيه أي ليس الأمر على ماهم عليه من التطفيف والغفلة عن ذكر البعث والحساب فليرتدعوا وتمام الكلام ههنا الثاني قال أبو حاتم كَلاَّ ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقاً إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجّينٍ وهو قول الحسن
النوع الثاني أنه تعالى وصف كتاب الفجار بالخيبة والحقارة على سبيل الاستخفاف بهم وههنا سؤالات
السؤال الأول السجين اسم علم لشيء معين أو اسم مشتق عن معنى قلنا فيه قولان
الأول وهو قول جمهور المفسرين أنه اسم علم على شيء معين ثم اختلفوا فيه فالأكثرون على أنه الأرض السابعة السفلى وهو قول ابن عباس في رواية عطاء وقتادة ومجاهد والضحاك وابن زيد وروى البراء أنه عليه السلام قال ( سجين أسفل سبع أرضين ) قال عطاء الخراساني وفيها إبليس وذريته وروى أبو هريرة أنه عليه السلام قال ( سجين جب في جهنم ) وقال الكلبي ومجاهد سجين صخرة تحت الأرض السابعة
القول الثاني أنه مشتق وسمي سجيناً فعيلاً من السجن وهو الحبس والتضييق كما يقال فسيق من الفسق وهو قول أبي عبيدة والمبرد والزجاج قال الواحدي وهذا ضعيف والدليل على أن سجيناً ليس مما كانت العرب تعرفه قوله وَمَا أَدْرَاكَ أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت وقومك ولا أقول هذا ضعيف فلعله إنما ذكر ذلك تعظيماً لأمر سجين كما في قوله بِغَائِبِينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ ( الإنفطار 17 ) قال صاحب ( الكشاف ) والصحيح أن السجين فعيل مأخوذ من السجن ثم إنه ههنا اسم علم منقول من صف كحاتم وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف إذا عرفت هذا فنقول قد ذكرنا أن الله تعالى أجرى أموراً مع عباده على ما تعارفوه من التعامل فيما بينهم وبين عظمائهم فالجنة موصوفة بالعلو والصفاء والفسحة وحضور الملائكة المقربين والسجين موصوف بالتسفل والظلمة والضيق وحضور الشياطين

الملعونين ولا شك أن العلو والصفاء والفسحة وحضور الملائكة المقربين كل ذلك من صفات الكمال والعزة وأضدادها من صفات النقص والذلة فلما أريد وصف الكفرة وكتابهم بالذلة والحقارة قيل إنه في موضع التسفل والظلمة والضيق وحضور الشياطين ولما وصف كتاب الأبرار بالعزة قيل إنه لَفِى عِلّيّينَ ( المطففين 18 ) و يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ
السؤال الثاني قد أخبر الله عن كتاب الفجار بأنه فِى سِجّينٍ ثم فسر سجيناً ب كِتَابٌ مَّرْقُومٌ فكأنه قيل إن كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه أجاب القفال فقال قوله كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ليس تفسيراً لسجين بل التقدير كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وإن كتاب الفجار كتاب مرقوم فيكون هذا وصفاً لكتاب الفجار بوصفين أحدهما أنه في سجين والثاني أنه مرقوم ووقع قوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ فيما بين الوصفين معترضاً والله أعلم والأولى أن يقال وأي استبعاد في كون أحد الكتابين في الآخر إما بأن يوضع كتاب الفجار في الكتاب الذي هو الأصل المرجوع إلى في تفصيل أحوال الأشقياء أو بأن ينقل ما في كتاب الفجار إلى ذلك الكتاب المسمى بالسجين وفيه وجه ثالث وهو أن يكون المراد من الكتاب الكتابة فيكون في المعنى كتابة الفجار في سجين أي كتابة أعمالهم في سجين ثم وصف السجين بأنه كِتَابٌ مَّرْقُومٌ فيه جميع أعمال الفجار
السؤال الثالث ما معنى قوله كِتَابٌ مَّرْقُومٌ قلنا فيه وجوه أحدها مرقوم أي مكتوبة أعمالهم فيه وثانيها قال قتادة رقم لهم بسوء أي كتب لهم بإيجاب النار وثالثها قال القفال يحتمل أن يكون المراد أنه جعل ذلك الكتاب مرقوماً كما يرقم التاجر ثوبه علامة لقيمته فكذلك كتاب الفاجر جعل مرقوماً برقم دال على شقاوته ورابعها المرقوم ههنا المختوم قال الواحدي وهو صحيح لأن الختم علامة فيجوز أن يسمى المرقوم مختوماً وخامسها أن المعنى كتاب مثبت عليهم كالرقم في الثوب ينمحي أما قوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ففيه وجهان أحدهما أنه متصل بقوله يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ أي يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( المطففين 83 ) ويل لمن كذب بأخبار الله والثاني أن قوله مَّرْقُومٌ معناه رقم برقم يدل على الشقاوة يوم القيامة ثم قال وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ في ذلك اليوم من ذلك الكتاب ثم إنه تعالى أخبر عن صفة من يكذب بيوم الدين فقال وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ومعناه أنه لا يكذب بيوم الدين إلا من كان موصوفاً بهذه الصفات الثلاثة فأولها كونه معتدياً والاعتداء هو التجاوز عن المنهج الحق وثانيها الأثيم وهو مبالغة في ارتكاب الإثم والمعاصي وأقول الإنسان له قوتان قوة نظرية وكمالها في أن يعرف الحق لذاته وقوة عملية وكمالها في أن يعرف الخير لأجل العمل به وضد الأول أن يصف الله تعالى بما لا يجوز وصفه به فإن كل من منع من إمكان البعث والقيامة إنما منع إما لأنه لم يعلم تعلق علم الله بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات أو لأنه لم يعلم تعلق قدرة الله بجميع الممكنات فهذا الاعتداء ضد القوة العملية هو الاشتغال بالشهوة والغضب وصاحبه هو الأثيم وذلك لأن المشتغل بالشهوة والغضب قلما يتفرغ للعبادة والطاعة وربما صار ذلك مانعاً له عن الإيمان بالقيامة
وأما الصفة الثالثة للمكذبين بيوم الدين فهو قوله إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ والمراد منه الذين ينكرون النبوة والمعنى إذا تلي عليه القرآن قال أساطير الأولين وفيه وجهان أحدهما أكاذيب

الأولين والثاني أخبار الأولين وأنه عنهم أخذ أي يقدح في كون القرآن من عند الله بهذا الطريق وههنا بحث آخر وهو أن هذه الصفات الثلاثة هل المراد منها شخص معين أولاً فيه قولان الأول وهو قول الكلبي أن المراد منه الوليد بن المغيرة وقال آخرون إنه النضر بن الحارث واحتج من قال إنه الوليد بأنه تعالى قال في سورة ن وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ إلى قوله مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إلى قوله إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( ن 15 10 ) فقيل إنه الوليد بن المغيرة وعلى هذا التقدير يكون المعنى وما يكذب بيوم الدين من قريش أو من قومك إلا كل معتد أثيم وهذا هو الشخص المعين والقول الثاني أنه عام في حق جميع الموصوفين بهذه الصفات أما قوله تعالى كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فالمعنى ليس الأمر كما يقوله من أن ذلك أساطير الأولين بل أفعالهم الماضية صارت سبباً لحصول الرين في قلوبهم ولأهلهم اللغة في تفسير لفظة الرين وجوه ولأهل التفسير وجوه أخر أما أهل اللغة فقال أبو عبيدة ران على قلوبنهم غلب عليها والخمر ترين على عقل السكران والموت يرين على الميت فيذهب به قال الليث ران النعاس والخمر في الرأس إذا رسخ فيه وهو يريد رينا وريوناً ومن هذا حديث عمر في أسيفع جهينة لما ركبه الدين ( أصبح قد رين به ) قال أبو زيد يقال رين بالرجل يران به ريناً إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه قال أبو معاذ النحوي الرين أن يسود القلب من الذنوب والطبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرين والأقفال أشد من الطبع وهو أن يقفل على القلب قال الزجاج ران على قلوبهم بمعنى غطى على قلوبهم يقال ران على قلبه الذنب يرين ريناً أي غشيه والرين كالصدإ يغشى القلب ومثله العين أما أهل التفسير فلهم وجوه قال الحسن ومجاهد هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه فيموت القلب وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إياكم والمحقرات من الذنوب فإن الذنب على الذنب يوقد على صاحبه جحيماً ضخمة ) وعن مجاهد القلب كالكف فإذا أذنب الذنب انقبض وإذا أذنب ذنباً آخر انقبض ثم يطبع عليه وهو الرين وقال آخرون كلما أذنب الإنسان حصلت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب كله وروي هذا مرفوعاً في حديث أبي هريرة قلت لا شك أن تكرر الأفعال سبب لحصول ملكة نفسانية فإن من أراد تعلم الكتابة فكلما كان إتيانه بعمل الكتابة أكثر كان اقتداره على عمل الكتابة أتم إلى أن يصير بحيث يقدر على الإتيان بالكتابة من غير روية ولا فكرة فهذه الهيئة النفسانية لما تولدت من تلك الأعمال الكثيرة كان لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الهيئة النفسانية إذا عرفت هذا فنقول إن الإنسان إذا واظب على الإتيان ببعض أنواع الذنوب حصلت في قلبه ملكة نفسانية على الإتيان بذلك الذنب ولا معنى للذنب إلا ما يشغلك بغير الله وكل ما يشغلك بغير الله فهو ظلمة فإذن الذنوب كلها ظلمات وسواد ولكل واحد من الأعمال السالفة التي أورث مجموعها حصول تلك الملكة أثر في حصولها فذلك هو المراد من قولهم كلما أذنب الإنسان حصلت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب ولما كانت مراتب الملكات في الشدة والضعف مختلفة لا جرم كانت مراتب هذا السواد والظلمة مختلفة فبعضها يكون ريناً وبعضها طبعاً وبعضها أقفالاً قال القاضي ليس المراد من الرين أن قلبهم قد تغير وحصل فيه منع بل المراد أنهم صاروا لإيقاع الذنب حالاً بعد حال متجرئين عليه وقويت دواعيهم إلى ترك التوبة وترك الإقلاع فاستمروا وصعب الأمر عليهم ولذلك بين أن علة الرين كسبهم ومعلوم إن إكثارهم من اكتساب الذنوب لا يمنع من الإقلاع والتوبة وأقول قد بينا أن صدور الفعل حال استواء الداعي

إلى الفعل والداعي إلى الترك محال لامتناع ترجيح الممكن من غير مرجح فبأن يكون ممتنعاً حال المرجوحية كان أولى ولما سلم القاضي أنهم صاروا بسبب الأفعال السالفة راجحاً فوجب أن يكون الإقلاع في هذه الحالة ممتنعاً وتمام الكلام قد تقدم مراراً في هذا الكتاب
أما قوله تعالى كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ فاعلم أنهم ذكروا في كَلاَّ وجوهاً أحدها قال صاحب ( الكشاف ) كَلاَّ ردع عن الكسب الرائن عن قلوبهم وثانيها قال القفال إن الله تعالى حكى في سائر السور عن هذا المعتدي الأثيم أنه كان يقول إن كانت الآخرة حقاً فإن الله تعالى يعطيه مالاً وولداً ثم إنه تعالى كذبه في هذه المقالة فقال أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ( مريم 78 ) قال وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ( فصلت 50 ) ولما كان هذا مما قد تردد ذكره في القرآن ترك الله ذكره ههنا وقال كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ أي ليس الأمر كما يقولون من أن لهم في الآخرة حسنى بل هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وثانيها أن يكون ذلك تكريراً وتكون كَلاَّ هذه هي المذكورة في قوله كَلاَّ بَلْ رَانَ أما قوله إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ فقد احتج الأصحاب على أن المؤمنين يرونه سبحانه قالوا ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة وفيه تقرير آخر وهو أنه تعالى ذكر هذا الحجاب في معرض الوعيد والتهديد للكفار وما يكون وعيداً وتهديداً للكفار لا يجوز حصوله في حق المؤمن فوجب أن لا يحصل هذا الحجاب في حق المؤمن أجابت المعتزلة عن هذا من وجوه أحدها قال الجبائي المراد أنهم عن رحمة ربهم محجوبون أي ممنوعون كما يقال في الفرائض الإخوة يحجبون الأم على الثلث ومن ذلك يقال لمن يمنع عن الدخول هو حاجب لأنه يمنع من رؤيته وثانيها قال أبو مسلم لَّمَحْجُوبُونَ أي غير مقربين والحجاب الرد وهو ضد القبول والمعنى هؤلاء المنكرون للبعث غير مقبولين عند الله وهو المراد من قوله تعالى وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ ( آل عمران ) وثالثها قال القاضي الحجاب ليس عبارة عن عدم الرؤية فإنه قد يقال حجب فلان عن الأمير وإن كان قد رآه من البعد وإذا لم يكن الحجاب عبارة عن عدم الرؤية سقط الاستدلال بل يجب أن يحمل على صيرورته ممنوعاً عن وجدان رحمته تعالى ورابعها قال صاحب ( الكشاف ) كونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للمكرمين لديهم ولا يحجب عنهم إلا المهانون عندهم والجواب لا شك أن من منع من رؤية شيء يقال إنه حجب عنه وأيضاً من منع من الدخول على الأمير يقال إنه حجب عنه وأيضاً يقال الأم حجبت عن الثلث بسبب الإخوة وإذا وجدنا هذه الاستعمالات وجب جعل اللفظ حقيقة في مفهوم مشترك بين هذه المواضع دفعاً للاشتراك في اللفظ وذلك هو المنع ففي الصورة الأولى حصل المنع من الرؤية وفي الثاني حصل المنع من الوصول إلى قربه وفي الثالثة حصل المنع من استحقاق الثلث فيصير تقدير الآية كلا إنهم عن ربهم يومئذ لممنوعون والمنع إنما يتحقق بالنسبة إلى ما يثبت للعبد بالنسبة إلى الله تعالى وهو إما العلم وإما الرؤية ولا يمكن حمله على العلم لأنه ثابت بالاتفاق للكفار فوجب

حمله على الرؤية أما صرفه إلى الرحمة فهو عدول عن الظاهر من غير دليل وكذا ما قاله صاحب ( الكشاف ) ترك للظاهر من غير دليل ثم الذي يؤكد ما ذكرناه من الدليل أقوال المفسرين قال مقاتل معنى الآية أنهم بعد العرض والحساب لا يرون ربهم والمؤمنون يرون ربهم وقال الكلبي يقول إنهم عن النظر إلى رؤية ربهم لمحجوبون والمؤمن لا يحجب عن رؤية ربه وسئل مالك بن أنس عن هذه الآية فقال لما حجب أعداءه فلم يروه لا بد وأن يتجلى لأوليائه حتى يروه وعن الشافعي لما حجب قوماً بالسخط دل على أن قوماً يرونه بالرضا أما قوله تعالى ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ فالمعنى لما صاروا محجوبين في عرصة القيامة إما عن رؤية الله على قولنا أو عن رحمة الله وكرامته على قول المعتزلة فعند ذلك يؤمر بهم إلى النار ثم إذا دخلوا النار وبخوا بتكذيبهم بالبعث والجزاء فقيل لهم هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ في الدنيا والآن قد عاينتموه فذوقوه
كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاٌّ بْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الفجار المطففين أتبعه بذكر حال الأبرار الذين لا يطففون فقال كَلاَّ أي ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجار من إنكار البعث ومن أن كتاب الله أساطير الأولين واعلم أن لأهل اللغة في لفظ عِلّيّينَ أقوالاً ولأهل التفسير أيضاً أقوالاً أما أهل اللغة قال أبو الفتح الموصلي عِلّيّينَ جمع علي وهو فعيل من العلو وقال الزجاج إعراب هذا الاسم كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع كما تقول هذه قنسرون ورأيت قنسرين وأما المفسرون فروي عن ابن عباس أنها السماء الرابعة وفي رواية أخرى إنها السماء السابعة وقال قتادة ومقاتل هي قائمة العرش اليمنى فوق السماء السابعة وقال الضحاك هي سدرة المنتهى وقال الفراء يعني ارتفاعاً بعد ارتفاع لا غاية له وقال الزجاج أعلى الأمكنة وقال آخرون هي مراتب عالية محفوظة بالجلالة قد عظمها الله وأعلى شأنها وقال آخرون عند كتاب أعمال الملائكة وظاهر القرآن يشهد لهذا القول الأخير لأنه تعالى قال لرسوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ تنبيهاً له على أنه معلوم له وأنه سيعرفه ثم قال كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ فبين أن كتابهم في هذا الكتاب المرقوم الذي يشهده المقربون من الملائكة فكأنه تعالى كما وكلهم باللوح المحفوظ فكذلك يوكلهم بحفظ كتب الأبرار في جملة ذلك الكتاب الذي هو أم الكتاب على وجه الإعظام له ولا يمتنع أن الحفظة إذا صعدت بكتب الأبرار فإنهم يسلمونها إلى هؤلاء المقربين فيحفظونها كما يحفظون كتب أنفسهم أو ينقلون ما في تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب الذي وكلوا بحفظه ويصير علمهم شهادة لهؤلاء الأبرار فلذلك يحاسبون حساباً يسيراً لأن هؤلاء المقربين يشهدون لهم بما حفظوه من أعمالهم وإذا كان هذا الكتاب في السماء صح قول من تأول ذلك على أنه في السماء العالية فتتقارب الأقوال في ذلك وإذا كان الذي ذكرناه أولى
واعلم أن المعتمد في تفسير هذه الآية ما بينا أن العلو والفسحة والضياء والطهارة من علامات السعادة

والسفل والضيق والظلمة من علامات الشقاوة فلما كان المقصود من وضع كتاب الفجار في أسفل السافلين وفي أضيق المواضع إذلال الفجار وتحقير شأنهم كان المقصود من وضع كتاب الأبرار في أعلى عليين وشهادة الملائكة لهم بذلك إجلالهم وتعظيم شأنهم وفي الآية وجه آخر وهو أن المراد من الكتاب الكتابة فيكون المعنى أن كتابة أعمال الأبرار في عليين ثم وصف عليين بأنه كتاب مرقوم فيه جميع أعمال الأبرار وهو قول أبي مسلم
أما قوله تعالى كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ففيه تأويلان أحدهما أن المراد بالكتاب المرقوم كتاب أعمالهم والثاني أنه كتاب موضوع في عليين كتب فيه ما أعد الله لهم من الكرامة والثواب واختلفوا في ذلك الكتاب فقال مقاتل إن تلك الأشياء مكتوبة لهم في ساق العرش وعن ابن عباس أنه مكتوب في لوح من زبرجد معلق تحت العرش وقال آخرون هو كتاب مرقوم بما يوجب سرورهم وذلك بالضد من رقم كتاب الفجار بما يسوءهم ويدل على هذا المعنى قوله يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يعني الملائكة الذي هم في عليين يشهدون ويحضرون ذلك المكتوب ومن قال إنه كتاب الأعمال قال يشهد ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين المقربون من الملائكة كرامة للمؤمن
إِنَّ الاٌّ بْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الاٌّ رَآئِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَة َ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما عظم كتابهم في الآية المتقدمة عظم بهذه الآية منزلتهم فقال إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ ثم وصف كيفية ذلك النعيم بأمور ثلاثة أولها قوله عَلَى الاْرَائِكِ يَنظُرُونَ قال القفال الأرائك الأسرة في الحجال ولا تسمى أريكة فيما زعموا إلا إذا كانت كذلك وعن الحسن كنا لا ندري ما الأريكة حتى لقينا رجلاً من أهل اليمن أخبرنا أن الأريكة عندهم ذلك
أما قوله يُنظَرُونَ ففيه ثلاثة أوجه أحدها ينظرون إلى أنواع نعمهم في الجنة من الحور العين والولدان وأنواع الأطعمة والأشربة والملابس والمراكب وغيرها قال عليه السلام ( يلحظ المؤمن فيحيط بكل ما آتاه الله وإن أدناهم يتراءى له مثل سعة الدنيا ) والثاني قال مقاتل ينظرون إلى عدوهم حين يعذبون في النار والثالث إذا اشتهوا شيئاً نظروا إليه فيحضرهم ذلك الشيء في الحال واعلم أن هذه الأوجه الثلاثة من باب أنواع جنس واحد وهو المنظور إليه فوجب حمل اللفظ على الكل ويخطر ببالي تفسير رابع وهو أشرف من الكل وهو أنهم ينظرون إلى ربهم ويتأكد هذا التأويل بما إنه قال بعد هذه الآية تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَة َ النَّعِيمِ والنظر المقرون بالنضرة هو رؤية الله تعالى على ما قال وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ

( القيامة 23 22 ) ومما يؤكد هذا التأويل أنه يجب الابتداء بذكر أعظم اللذات وما هو إلا رؤية الله تعالى وثانيها قوله تعالى تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَة َ النَّعِيمِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المعنى إذا رأيتهم عرفت أنهم أهل النعمة بسبب ما ترى في وجوههم من القرائن الدالة على ذلك ثم في تلك القرائن قولان
أحدهما أنه ما يشاهد في وجوههم من الضحك والاستبشار على ما قال تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ ( عبس 39 38 )
والثاني قال عطاء إن الله تعالى يزيد في وجوههم من النور والحسن والبياض ما لا يصفه واصف وتفسير النضرة قد سبق عند قوله نَّاضِرَة ٌ
المسألة الثانية قرىء تَعْرِفُ على البناء للمفعول جَنَّاتِ النَّعِيمِ بالرفع
وثالثها قوله يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في بيان أن الرحيق ما هو قال الليث الرحيق الخمر وأنشد لحسان
بردى يصفق بالرحيق السلسل
وقال أبو عبيدة والزجاج الرحيق من الخمر ما لا غش فيه ولا شيء يفسده ولعله هو الخمر الذي وصفه الله تعالى بقوله لّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ ( الصافات 47 )
المسألة الثانية ذكر الله تعالى لهذا الرحيق صفات
الصفة الأولى قوله رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ وفيه وجوه الأول قال القفال يحتمل أن هؤلاء يسقون من شراب مختوم قد ختم عليه تكريماً له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان وهناك خمر آخر تجري منها أنهار كما قال وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّة ٍ لّلشَّارِبِينَ ( محمد 15 ) إلا أن هذا المختوم أشرف في الجاري الثاني قال أبو عبيدة والمبرد والزجاج المختوم الذي له ختام أي عاقبة والثالث روي عن عبدالله في مختوم أنه ممزوج قال الواحدي وليس بتفسير لأن الختم لا يكون تفسيره المزج ولكن لما كانت له عاقبة هي ريح المسك فسره بالممزوج لأنه لو لم يمتزج بالمسك لما حصل فيه ريح المسك الرابع قال مجاهد مختوم مطين قال الواحدي كان مراده من الختم بالطين هو أن لا تمسه يد إلى أن يفك ختمه الأبرار والأقرب من جميع هذه الوجوه الوجه الأول الذي ذكره القفال الصفة الثانية لهذا الرحيق قوله خِتَامُهُ مِسْكٌ وفيه وجوه الأول قال القفال معناه أن الذي يختم به رأس قارورة ذلك الرحيق هو المسك كالطين الذي يختم به رؤوس القوارير فكان ذلك المسك رطب ينطبع فيه الخاتم وهذا الوجه مطابق للوجه الأول الذي حكيناه عن القفال في تفسير قوله مَّخْتُومٍ الثاني المراد من قوله خِتَامُهُ مِسْكٌ أي عاقبته المسك أي يختم له آخره بريح المسك وهذا الوجه مطابق للوجه الذي حكيناه عن أبي عبيدة في تفسير قوله مَّخْتُومٍ كأنه تعالى قال من رحيق له عاقبة ثم فسر تلك العاقبة فقال تلك العاقبة مسك أي من شربه كان ختم شربه على ريح المسك وهذا قول علقمة والضحاك وسعيد بن جبير ومقاتل وقتادة قالوا إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك والمعنى لذاذة

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66