كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

البحث الثالث اختلفوا في المراد بهذا العذاب فقال بعضهم هو عذاب يوم القيامة لأنه اليوم الذي نصب لإحاطة العذاب بالمعذبين وقال بعضهم بل يدخل فيه عذاب الدنيا والآخرة وقال بعضهم بل المراد منه عذاب الاستئصال في الدنيا كما في حق سائر الأنبياء والأقرب دخول كل عذاب فيه وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدائرة بما في داخلها فينالهم من كل وجه وذلك مبالغة في الوعد كقوله وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ( الكهف 42 ) ثم قال مُّحِيطٍ وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ
فإن قيل وقع التكرير في هذه الآية من ثلاثة أوجه لأنه قال أولاً وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ثم قال أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وهذا عين الأول ثم قال وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وهذا عين ما تقدم فما الفائدة في هذا التكرير
قلنا إن فيه وجوهاً
الوجه الأول أن القوم كانوا مصرين على ذلك العمل فاحتج في المنع منه إلى المبالغة والتأكيد والتكرير يفيد التأكيد وشدة العناية والاهتمام
والوجه الثاني أن قوله وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ نهي عن التنقيص وقوله أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ أمر بإيفاء العدل والنهي عن ضد الشيء مغاير للأمر به وليس لقائل أن يقول النهي عن ضد الشيء أمر به فكان التكرير لازماً من هذا الوجه لأنا نقول الجواب من وجهين الأول أنه تعالى جمع بين الأمر والشيء وبين النهي عن ضده للمبالغة كما تقول صل قرابتك ولا تقطعهم فيدل هذا الجمع على غاية التأكيد الثاني أن نقول لا نسلم أن الأمر كما ذكرتم لأنه يجوز أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضاً عن أصل المعاملة فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحق ليدل ذلك على أنه تعالى لم يمنع عن المعاملات ولم ينه عن المبايعات وإنما منع من التطفيف وذلك لأن طائفة من الناس يقولون إن المبايعات لا تنفك عن التطفيف ومنع الحقوق فكانت المبايعات محرمة بالكلية فلأجل إبطال هذا الخيال منع تعالى في الآية الأولى من التطفيف وفي الآية الأخرى أمر بالإيفاء وأما قوله ثالثاً وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ فليس بتكرير لأنه تعالى خص المنع في الآية السابقة بالنقصان في المكيال والميزان ثم إنه تعالى عم الحكم في جميع الأشياء فظهر بهذا البيان أنها غير مكررة بل في كل واحد منها فائدة زائدة
والوجه الثالث أنه تعالى قال في الآية الأولى وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وفي الثانية قال أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ والإيفاء عبارة عن الإتيان به على سبيل الكمال والتمام لا يحصل ذلك إلا إذا أعطى قدراً زائداً على الحق ولهذا المعنى قال الفقهاء إنه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلا عند غسل جزء من أجزاء الرأس فالحاصل أنه تعالى في الآية الأولى نهى عن النقصان وفي الآية الثانية أمر بإعطاء قدر من الزيادة ولا يحصل الجزم واليقين بأداء الواجب إلا عند أداء ذلك القدر من الزيادة فكأنه تعالى نهى أولاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً لتحصل له تلك الزيادة وفي الثاني أمر بالسعي في تنقيص مال نفسه ليخرج باليقين عن العهدة وقوله بِالْقِسْطِ يعني بالعدل ومعناه الأمر بإيفاء الحق بحيث يحصل معه اليقين بالخروج عن العهدة فالأمر بإيتاء الزيادة على ذلك غير حاصل ثم قال وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ والبخس هو النقص في كل الأشياء وقد ذكرنا أن الآية الأولى دلت على المنع من النقص

في المكيال والميزان وهذه الآية دلت على المنع من النقص في كل الاْشياء ثم قال وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ
فإن قيل العثو الفساد التام فقوله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ جار مجرى أن يقال ولا تفسدوا في الأرض مفسدين
قلنا فيه وجوه الأول أن من سعى في إيصال الضرر إلى الغير فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ معناه ولا تسعوا في إفساد مصالح الغير فإن ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم والثاني أن يكون المراد من قوله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ مصالح دنياكم وآخرتكم والثالث ولا تعثوا في الأرض مفسدين مصالح الأديان ثم قال بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ قرىء تقية الله وهي تقواه ومراقبته التي تصرف عن المعاصي ثم نقول المعنى ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف يعني المال الحلال الذي يبقى لكم خير من تلك الزيادة الحاصلة بطريق البخس والتطفيف وقال الحسن بقية الله أي طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل لأن ثواب الطاعة يبقى أبداً وقال قتادة حظكم من ربكم خير لكم وأقول المراد من هذه البقية إما المال الذي يبقى عليه في الدنيا وإما ثواب الله وأما كونه تعالى راضياً عنه والكل خير من قدر التطفيف أما المال الباقي فلأن الناس إذا عرفوا إنساناً بالصدق والأمانة والبعد عن الخيانة اعتمدوا عليه ورجعوا في كل المعاملات إليه فيفتح عليه باب الرزق وإذا عرفوه بالخيانة والمكر انصرفوا عنه ولم يخالطوه ألبتة فتضيق أبواب الرزق عليه وأما إن حملنا هذه البقية على الثواب فالأمر ظاهر لأن كل الدنيا تفنى وتنقرض وثواب الله باق وأما إن حملناه على حصول رضا الله تعالى فالأمر فيه ظاهر فثبت بهذا البرهان أن بقية الله خير ثم قال إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وإنما شرط الإيمان في كونه خيراً لهم لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرين بالثواب والعقاب عرفوا أن السعي في تحصيل الثواب وفي الحذر من العقاب خير لهم من السعي في تحصيل ذلك القليل
واعلم أن المعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فهذه الآية تدل بظاهرها على أن من لم يحترز عن هذا التطفيف فإنه لا يكون مؤمناً
ثم قال تعالى وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وفيه وجهان الأول أن يكون المعنى إني نصحتكم وأرشدتكم إلى الخير وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي لا قدرة لي على منعكم عن هذا العمل القبيح الثاني أنه قد أشار فيما تقدم إلى أن الاشتغال بالبخس والتطفيف يوجب زوال نعمة الله تعالى فقال وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ يعني لو لم تتركوا هذا العمل القبيح لزالت نعم الله عنكم وأنا لا أقدر على حفظها عليكم في تلك الحالة
قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لاّنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ

في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم أصلاتك بغير واو والباقون ياشُعَيْبُ أَصَلَواتُكَ على الجمع
المسألة الثانية اعلم أن شعيباً عليه السلام أمرهم بشيئين بالتوحيد وترك البخس فالقوم أنكروا عليه أمره بهذين النوعين من الطاعة فقوله أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد وقوله قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس أما الأول فقد أشاروا فيه إلى التمسك بطريقة التقليد لأنهم استبعدوا منه أن يأمرهم بترك عبادة ما كان يعبد آباؤهم يعني الطريقة التي أخذناها من آبائنا وأسلافنا كيف نتركها وذلك تمسك بمحض التقليد
المسألة الثالثة في لفظ الصلاة وههنا قولان الأول المراد منه الدين والإيمان لأن الصلاة أظهر شعار الدين فجعلوا ذكر الصلاة كناية عن الدين أو نقول الصلاة أصلها من الإتباع ومنه أخذ المصلي من الخيل الذي يتلو السابق لأن رأسه يكون على صلوى السابق وهما ناحيتا الفخذين والمراد دينك يأمرك بذلك والثاني أن المراد منه هذه الأعمال المخصوصة روي أن شعيباً كان كثير الصلاة وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا فقصدوا بقولهم أصلاتك تأمرك السخرية والهزؤ وكما أنك إذا رأيت معتوهاً يطالع كتباً ثم يذكر كلاماً فاسداً فيقال له هذا من مطالعة تلك الكتب على سبيل الهزؤ والسخرية فكذا ههنا
فإن قيل تقدير الآية أصلواتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء وهم إنما ذكروا هذا الكلام على سبيل الإنكار وهم ما كانوا ينكرون كونهم فاعلين في أموالهم ما يشاؤن فكيف وجه التأويل
قلنا فيه وجهان الأول التقدير أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وأن نترك فعل ما نشاء وعلى هذا فقوله أَوْ أَن نَّفْعَلَ معطوف على ما في قوله مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا والثاني أن تجعل الصلاة آمرة وناهية والتقدير أصلواتك تأمرك بأن نترك عبادة الأوثان وتنهاك أن نفعل في أموالنا ما نشاء وقرأ ابن أبي عبلة أَوْ أَن تَفْعَلْ فِى أَمْوَالِنَا مَا تَشَاء بتاء الخطاب فيهما وهو ما كان يأمرهم به من ترك التطفيف والبخس والاقتناع بالحلال القليل وأنه خير من الحرام الكثير
ثم قال تعالى حكاية عنهم إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ وفيه وجوه
الوجه الأول أن يكون المعنى إنك لأنت السفيه الجاهل إلا أنهم عكسوا ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية به كما يقال للبخيل الخسيس لو رآك حاتم لسجد لك
والوجه الثاني أن يكون المراد إنك موصوف عند نفسك وعند قومك بالحلم والرشد
والوجه الثالث أنه عليه السلام كان مشهوراً عندهم بأنه حليم رشيد فلما أمرهم بمفارقة طريقتهم قالوا له إنك لأنت الحليم الرشيد المعروف الطريقة في هذا الباب فكيف تنهانا عن دين ألفيناه من آبائنا وأسلافنا والمقصود استبعاد مثل هذا العمل ممن كان موصوفاً بالحلم والرشد وهذا الوجه أصوب الوجوه

قَالَ ياقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وَياقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى حكى عن شعيب عليه السلام ما ذكره في الجواب عن كلماتهم فالأول قوله قَالَ ياقَوْمِ أَرَءيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ وفيه وجوه الأول أن قوله إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى إشارة إلى ما آتاه الله تعالى من العلم والهداية والدين والنبوة وقوله وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال فإنه يروى أن شعيباً عليه السلام كان كثير المال
واعلم أن جواب إن الشرطية محذوف والتقدير أنه تعالى لما آتاني جميع السعادات الروحانية وهي البينة والسعادات الجسمانية وهي المال والرزق الحسن فهل يسعني مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه وأن أخالفه في أمره ونهيه وهذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم وذلك لأنهم قالوا له إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ فكيف يليق بك مع حلمك ورشدك أن تنهانا عن دين آبائنا فكأنه قال إنما أقدمت على هذا العمل لأن نعم الله تعالى عندي كثيرة وهو أمرني بهذا التبليغ والرسالة فكيف يليق بي مع كثرة نعم الله تعالى على أن أخالف أمره وتكليفه الثاني أن يكون التقدير كأنه يقول لما ثبت عندي أن الاشتغال بعبادة غير الله والاشتغال بالبخس والتطفيف عمل منكر ثم أنا رجل أريد إصلاح أحوالكم ولا أحتاج إلى أموالكم لأجل أن الله تعالى آتاني رزقاً حسناً فهل يسعني مع هذه الأحوال أن أخون في وحي الله تعالى وفي حكمه الثالث قوله إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى أي ما حصل عنده من المعجزة وقوله وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا المراد أنه لا يسألهم أجراً ولا جعلاً وهو الذي ذكره سائر الأنبياء من قولهم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ
المسألة الثانية قوله وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا يدل على أن ذلك الرزق إنما حصل من عند الله تعالى وبإعانته وأنه لا مدخل للكسب فيه وفيه تنبيه على أن الإعزاز من الله تعالى والإذلال من الله تعالى وإذا كان الكل من الله تعالى فأنا لا أبالي بمخالفتكم ولا أفرح بموافقتكم وإنما أكون على تقرير دين الله تعالى

وإيضاح شرائع الله تعالى
وأما الوجه الثاني من الأجوبة التي ذكرها شعيب عليه السلام فقوله وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ قال صاحب ( الكشاف ) يقال خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه وخالفني عنه إذا ولَّى عنه وأنت قاصده ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول خالفني إلى الماء يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذهب عنه صادراً ومنه قوله وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم فهذا بيان اللغة وتحقيق الكلام فيه أن القوم اعترفوا بأنه حليم رشيد وذلك يدل على كمال العقل وكمال العقل يحمل صاحبه على اختيار الطريق الأصوب الأصلح فكأنه عليه السلام قال لهم لما اعترفتم بكمال عقلي فاعلموا أن الذي اختاره عقلي لنفسي لا بد وأن يكون أصوب الطرق وأصلحها والدعوة إلى توحيد الله تعالى وترك البخس والنقصان يرجع حاصلهما إلى جزأين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله تعالى وأنا مواظب عليهما غير تارك لهما في شيء من الأحوال ألبتة فلما اعترفتم لي بالحلم والرشد وترون أني لا أترك هذه الطريقة فاعلموا أن هذه الطريقة خير الطرق وأشرف الأديان والشرائع
وأما الوجه الثالث من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ والمعنى ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وقوله مَا اسْتَطَعْتُ فيه وجوه الأول أنه ظرف والتقدير مدة استطاعتي للإصلاح وما دمت متمكناً منه لا آلو فيه جهداً والثاني أنه بدل من الإصلاح أي المقدار الذي استطعت منه والثالث أن يكون مفعولاً له أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أن القوم كانوا قد أقروا بأنه حليم رشيد وإما أقروا له بذلك لأنه كان مشهوراً فيما بين الخلق بهذه الصفة فكأنه عليه السلام قال لهم إنكم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلا في الإصلاح وإزالة الفساد والخصومة فلما أمرتكم بالتوحيد وترك إيذاء الناس فاعلموا أنه دين حق وأنه ليس غرضي منه إيقاع الخصومة وإثارة الفتنة فإنكم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق ولا أدور إلا على ما يوجب الصلح والصلاح بقدر طاقتي وذلك هو الإبلاغ والإنذار وأما الإجبار على الطاعة فلا أقدر عليه ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وبين بهذا أن توكله واعتماده في تنفيذ كل الأعمال الصالحة على توفيق الله تعالى وهدايته
واعلم أن قوله عليه السلام توكلت إشارة إلى محض التوحيد لأن قوله عليه السلام توكلت يفيد الحصر وهو أنه لا ينبغي للإنسان أن يتوكل على أحد إلا على الله تعالى وكيف وكل ما سوى الحق سبحانه ممكن لذاته فإن بذاته ولا يحصل إلا بإيجاده وتكوينه وإذا كان كذلك لم يجز التوكل إلا على الله تعالى وأعظم مراتب معرفة المبدأ هو الذي ذكرناه وأما قوله وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فهو إشارة إلى معرفة المعاد وهو أيضاً يفيد الحصر لأن قوله وَإِلَيْهِ أُنِيبُ يدل على أنه لا مرجع للخلق إلا إلى الله تعالى وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان إذا ذكر شعيب عليه السلام قال ( ذاك خطيب الأنبياء ) لحسن مراجعته في كلامه بين قومه
وأما الوجه الرابع من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله أُنِيبُ وَياقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم

قال صاحب ( الكشاف ) جرم مثل كسب في تعديته تارة إلى مفعول واحد وأخرى إلى مفعولين يقال جرم ذنباً وكسبه وجرمه ذنباً وكسبه إياه ومنه قوله تعالى لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم أي لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب وقرأ ابن كثير يَجْرِمَنَّكُمْ بضم الياء من أجرمته ذنباً إذا جعلته جارماً له أي كاسباً له وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد وعلى هذا فلا فرق بين جرمته ذنباً وأجرمته إياه والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما إلا أن المشهورة أفصح لفظاً كما أن كسبه مالاً أفصح من أكسبه
إذا عرفت هذا فنقول المراد من الآية لا تكسبنكم معاداتكم إياي أي يصيبكم عذاب الاستئصال في الدنيا مثل ما حصل لقوم نوح عليه السلام من الغرق ولقوم عود من الريح العقيم ولقوم صالح من الرجفة ولقوم لوط من الخسف
وأما قوله وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ ففيه وجهان الأول أن المراد نفي البعد في المكان لأن بلاد قوم لوط عليه السلام قريبة من مدين والثاني أن المراد نفي البعد في الزمان لأن إهلاك قوم لوط عليه السلام أقرب الإهلاكات التي عرفها الناس في زمان شعيب عليه السلام وعلى هذين التقديرين فإن القرب في المكان وفي الزمان يفيد زيادة المعرفة وكمال الوقوف على الأحوال فكأنه يقول اعتبروا بأحوالهم واحذروا من مخالفة الله تعالى ومنازعته حتى لا ينزل بكم مثل ذلك العذاب
فإن قيل لم قال وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ وكان الواجب أن يقال ببعيدين
أجاب عنه صاحب ( الكشاف ) من وجهين الأول أن يكون التقدير ما إهلاكهم شيء بعيد الثاني أنه يجوز أن يسوى في قريب وبعيد وكثير وقليل بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما
وأما الوجه الخامس من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله واستغفروا ربكم من عبادة الأوثان ثم توبوا إليه عن البخس والنقصان إن ربي رحيم بأوليائه ودود قال أبو بكر الأنباري الودود في أسماء الله تعالى المحب لعباده من قولهم وددت الرجل أوده وقال الأزهري في ( كتاب شرح أسماء الله تعالى ) ويجوز أن يكون ودود فعولاً بمعنى مفعول كركوب وحلوب ومعناه أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه لكثرة إفضاله وإحسانه على الخلق
واعلم أن هذا الترتيب الذي راعاه شعيب عليه السلام في ذكر هذه الوجوه الخمسة ترتيب لطيف وذلك لأنه بين أولاً أن ظهور البينة له وكثرة إنعام الله تعالى عليه في الظاهر والباطن يمنعه عن الخيانة في وحي الله تعالى ويصده عن التهاون في تكاليفه ثم بين ثانياً أنه مواظب على العمل بهذه الدعوة ولو كانت باطلة لما اشتغل هو بها مع اعترافكم بكونه حليماً رشيداً ثم بين صحته بطريق آخر وهو أنه كان معروفاً بتحصيل موجبات الصلاح وإخفاء موجبات الفتن فلو كانت هذه الدعوة باطلة لمااشتغل بها ثم لما بين صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال لا ينبغي أن تحملكم عداوتي على مذهب ودين تقعون بسببه في العذاب الشديد من الله تعالى كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين ثم إنه لما صحح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولاً وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ثم بين لهم أن سبق الكفر والمعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم من الإيمان والطاعة لأنه تعالى رحيم ودود يقبل الإيمان والتوبة من الكافر والفاسق لأن رحمته وحبه لهم يوجب ذلك وهذا التقرير في غاية الكمال

قَالُواْ ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ
اعلم أنه عليه السلام لما بالغ في التقرير والبيان أجابوه بكلمات فاسدة فالأول قولهم قَالُواْ ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول أنه عليه السلام كان يخاطبهم بلسانهم فلم قالوا مَا نَفْقَهُ والعلماء ذكروا عنه أنواعاً من الجوابات فالأول أن المراد ما نفهم كثيراً مما تقول لأنهم كانوا لا يلقون إليه أفهامهم لشدة نفرتهم عن كلامه وهو كقوله وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ ( الأنعام 25 ) الثاني أنهم فهموه بقلوبهم ولكنهم ما أقاموا له وزناً فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة كما يقول الرجل لصاحبه إذ لم يعبأ بحديثه ما أدري ما تقول الثالث أن هذه الدلائل التي ذكرها ما أقنعتهم في صحة التوحيد والنبوة والبعث وما يجب من ترك الظلم والسرقة فقولهم مَا نَفْقَهُ أي لم نعرف صحة الدلائل التي ذكرتها على صحة هذه المطالب
المسألة الثانية من الناس من قال الفقه اسم لعلم مخصوص وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه واحتجوا بهذه الآية وهي قوله مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ فأضاف الفقه إلى القول ثم صار اسماً لنوع معين من علوم الدين ومنهم من قال إنه اسم لمطلق الفهم يقال أوتي فلان فقهاً في الدين أي فهماً وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) أي يفهمه تأويله
والنوع الثاني من الأشياء التي ذكروها قولهم وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وفيه وجهان الأول أنه الضعيف الذي يتعذر عليه منع القوم عن نفسه والثاني أن الضعيف هو الأعمى بلغة حمير واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه الأول أنه ترك للظاهر من غير دليل والثاني أن قوله فِينَا يبطل هذا الوجه ألا ترى أنه لو قال إنا لنراك أعمى فينا كان فاسداً لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم الثالث أنهم قالوا بعد ذلك وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ فنفوا عنه القوة التي أثبتوها في رهطه ولما كان المراد بالقوة التي أثبتوها للرهط هي النصرة وجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النصرة والذين حملوا اللفظ على ضعف البصر لعلهم إنما حملوه عليه لأنه سبب للضعف
واعلم أن أصحابنا يحوزون العمى على الأنبياء إلا أن هذا اللفظ لا يحسن الاستدلال به في إثبات هذا المعنى لما بيناه وأما المعتزلة فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال إنه لا يجوز لكونه متعبداً فإنه لا يمكنه الاحتراز عن النجاسات ولأنه ينحل بجواز كونه حاكماً وشاهداً فلأن يمنع من النبوة كان أولى والكلام فيه لا يليق بهذه الآية لأنا بينا أن الآية لا دلالة فيها على هذا المعنى
والنوع الثالث من الأشياء التي ذكروها قولهم وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وفيه مسألتان

المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى السبعة وقد كان رهطه على ملتهم قالوا لولا حرمة رهطك عندنا بسبب كونهم على ملتنا لرجمناك والمقصود من هذا الكلام أنهم بينوا أنه لا حرمة له عندهم ولا وقع له في صدورهم وأنهم إنما لم يقتلوه لأجل احترامهم رهطه
المسألة الثانية الرجم في اللغة عبارة عن الرمي وذلك قد يكون بالحجارة عند قصد القتل ولما كان هذا الرجم سبباً للقتل لا جرم سموا القتل رجماً وقد يكون بالقول الذي هو القذف كقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ ( الكهف 22 ) وقوله وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ( سبأ 53 ) وقد يكون بالشتم واللعن ومنه قوله الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( النحل 98 ) وقد يكون بالطرد كقوله رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( الملك 5 )
إذا عرفت هذا ففي الآية وجهان الأول لَرَجَمْنَاكَ لقتلناك الثاني لشتمناك وطردناك
النوع الرابع من الأشياء التي ذكروها قولهم وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ومعناه أنك لما لم تكن علينا عزيزاً سهل علينا الإقدام على قتلك وإيذائك
واعلم أن كل هذه الوجوه التي ذكروها ليست دافعاً لما قرره شعيب عليه السلام من الدلائل والبينات بل هي جارية مجرى مقابلة الدليل والحجة بالشتم والسفاهة
قَالَ ياقَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَياقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ
اعلم أن الكفار لما خوفوا شعيباً عليه السلام بالقتل والإيذاء حكى الله تعالى عنه ما ذكره في هذا المقام وهو نوعان من الكلام
النوع الأول قوله قَالَ ياقَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ والمعنى أن القوم زعموا أنهم تركوا إيذاءه رعاية لجانب قومه فقال أنتم تزعمون أنكم تتركون قتلي إكراماً لرهطي والله تعالى أولى أن يتبع أمره فكأنه يقول حفظتكم إياي رعاية لأمر الله تعالى أولى من حفظكم إياي رعاية لحق رهطي
وأما قوله وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً فالمعنى أنكم نسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به قال صاحب ( الكشاف ) والظهري منسوب إلى الظهر والكسر من تغيرات النسب ونظيره قولهم في النسبة إلى الأمس إمسي بكسر الهمزة وقوله إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ يعني أنه عالم بأحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها

والنوع الثاني قوله قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ والمكانة الحالة يتمكن بها صاحبها من عمله والمعنى اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة وكل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إلي فإني أيضاً عامل بقدر ما آتاني الله تعالى من القدرة
ثم قال سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى لقائل أن يقول لم لم يقل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ والجواب إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل وإما بحذف الفاء فإنه يجعله جواباً عن سؤال مقدر والتدير أنه لما قال قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ فكأنهم قالوا فماذا يكون بعد ذلك فقال سَوْفَ تَعْلَمُونَ فظهر أن حذف حرف الفاء ههنا أكمل في باب الفظاعة والتهويل ثم قال وَارْتَقِبُواْ إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ والمعنى فانتظروا العاقبة إني معكم رقيب أي منتظر والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب والصريم بمعنى الضارب والصارم أو بمعنى المراقب كالعشير والنديم أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع
وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَة ٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ
روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لم يعذب الله تعالى أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم وقوم شعيب أخذتهم من فوقهم وقوله وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا يحتمل أن يكون المراد منه ولما جاء وقت أمرنا ملكاً من الملائكة بتلك الصيحة ويحتمل أن يكون المراد من الأمر العقاب وعلى التقديرين فأخبر الله أنه نجى شعيباً ومن معه من المؤمنين برحمة منه وفيه وجهان الأول أنه تعالى إنما خلصه من ذلك العذاب لمحض رحمته تنبيهاً على أن كل ما يصل إلى العبد فليس إلا بفضل الله ورحمته والثاني أن يكون المراد من الرحمة الإيمان والطاعة وسائر الأعمال الصالحة وهي أيضاً ما حصلت إلا بتوفيق الله تعالى ثم وصف كيفية ذلك العذاب فقال وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ وإنما ذكر الصيحة بالألف واللام إشارة إلى المعهود السابق وهي صيحة جبريل عليه السلام فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ والجاثم الملازم لمكانه الذي لا يتحول عنه يعني أن جبريل عليه السلام لما صاح بهم تلك الصيحة زهق روح كل واحد منهم بحيث يقع في مكانه ميتاً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أي كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين
ثم قال تعالى أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ وقد تقدم تفسير هذه اللفظة وإنما قاس حالهم على ثمود لما ذكرنا أنه تعالى عذبهم مثل عذاب ثمود

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ لَعْنَة ً وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ
واعلم أن هذه هي القصة السابعة من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي آخر القصص من هذه السورة أما قوله بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ففيه وجوه الأول أن المراد من الآيات التوراة مع ما فيها من الشرائع والأحكام ومن السلطان المبين المعجزات القاهرة الباهرة والتقدير ولقد أرسلنا موسى بشرائع وأحكام وتكاليف وأيدناه بمعجزات قاهرة وبينات باهرة الثاني أن الآيات هي المعجزات والبينات وهو كقوله إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بِهَاذَا ( يونس 68 ) وقوله مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ( النجم 23 ) وعلى هذا التقدير ففي الآية وجهان الأول أن هذه الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوته الثاني أن يراد السلطان المبين العصا لأنه أشهرها وذلك لأنه تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات وهي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص من الثمرات والأنفس ومنهم من أبدل نقص الثمرات والأنفس بإظلال الجبل وفلق البحر واختلفوا في أن الحجة لم سميت بالسلطان فقال بعض المحققين لأن صاحب الحجة يقهر من لا حجة معه عند النظر كما يقهر السلطان غيره فلهذا توصف الحجة بأنها سلطان وقال الزجاج السلطان هو الحجة والسلطان سمي سلطاناً لأنه حجة الله في أرضه واشتقاقه من السليط والسليط ما يضاء به ومن هذا قيل للزيت السليط وفيه قول ثالث وهو أن السلطان مشتق من التسليط والعلماء سلاطين بسبب كمالهم في القوة العلمية والملوك سلاطين بسبب ما معهم من القدرة والمكنة إلا أن سلطنة العلماء أكمل وأقوى من سلطنة الملوك لأن سلطنة العلماء لا تقبل النسخ والعزل وسلطنة الملوك تقبلهما ولأن سلطنة الملوك تابعة لسلطنة العلماء وسلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنة
فإن قيل إذا حملتم الآيات المذكورة في قوله بِئَايَاتِنَا على المعجزات والسلطان أيضاً على الدلائل والمبين أيضاً معناه كونه سبباً للظهور فما الفرق بين هذه المراتب الثلاثة
قلنا الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات التي تفيد الظن وبين الدلائل التي تفيد اليقين وأما السلطان فهو اسم لما يفيد القطع واليقين إلا أنه اسم للقدر المشترك بين الدلائل التي تؤكد بالحس وبين الدلائل التي لم تتأكد بالحس وأما الدليل القاطع الذي تأكد بالحس فهو السلطان المبين ولما كانت

معجزات موسى عليه السلام هكذا لا جرم وصفها الله بأنها سلطان مبين ثم قال إِلَى فِرْعَوْنَ يعني وأرسلنا موسى بآياتنا بمثل هذه الآيات إلى فرعون وملائه أي جماعته ثم قال وَمَلإِيْهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ ويحتمل أن يكون المراد أمره إياهم بالكفر بموسى ومعجزاته ويحتمل أن يكون المراد من الأمر الطريق والشأن
ثم قال تعالى وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي بمرشد إلى خير وقيل رشيد أي ذي رشد
واعلم أن بعد طريق فرعون من الرشد كان ظاهراً لأنه كان دهرياً نافياً للصانع والمعاد وكان يقول لا إله للعالم وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم وعبوديته رعاية لمصلحة العالم وأنكر أن يكون الرشد في عبادة الله ومعرفته فلما كان هو نافياً لهذين الأمرين كان خالياً عن الرشد بالكلية ثم إنه تعالى ذكر صفته وصفة قومه فقال يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وفيه بحثان
البحث الأول من حيث اللغة يقال قدم فلان فلاناً بمعنى تقدمه ومنه قادمة الرجل كما يقال قدمه بمعنى تقدمه ومنه مقدمة الجيش
والبحث الثاني من حيث المعنى وهو أن فرعون كان قدوة لقومه في الضلال حال ما كانوا في الدنيا وكذلك مقدمهم إلى النار وهم يتبعونه أو يقال كما تقدم قومه في الدنيا فأدخلهم في البحر وأغرقهم فكذلك يتقدمهم يوم القيامة فيدخلهم النار ويحرقهم ويجوز أيضاً أن يريد بقوله وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي وما أمره بصالح حميد العاقبة ويكون قوله يَقْدُمُ قَوْمَهُ تفسيراً لذلك وأيضاحاً له أي كيف يكون أمره رشيداً مع أن عاقبته هكذا
فإن قيل لم لم يقل يقدم قومه فيوردهم النار بل قال يقدم قومه فأوردهم النار بلفظ الماضي
قلنا لأن الماضي قد وقع ودخل في الوجود فلا سبيل ألبتة إلى دفعه فإذا عبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل على غاية المبالغة ثم قال وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وفيه بحثان
البحث الأول لفظ ( النار ) مؤنث فكان ينبغي أن يقال وبئست الورد المورود إلا أن لفظ ( الورد ) مذكر فكان التذكير والتأنيث جائزين كما تقول نعم المنزل دارك ونعمت المنزل دارك فمن ذكر غلب المنزل ومن أنث بنى على تأنيث الدار هكذا قاله الواحدي
البحث الثاني الورد قد يكون بمعنى الورود فيكون مصدراً وقد يكون بمعنى الوارد قال تعالى وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ( مريم 86 ) وقد يكون بمعنى المورود عليه كالماء الذي يورد عليه قال صاحب ( الكشاف ) الورد المورود الذي حصل وروده فشبه الله تعالى فرعون بمن يتقدم الواردة إلى الماء وشبه أتباعه بالواردين إلى الماء ثم قال بئس الورد الذي يوردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضده
ثم قال وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ لَعْنَة ً وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ والمعنى أنهم أتبعوا في هذه الدنيا لعنة وفي يوم القيامة أيضاً ومعناه أن اللعن من الله ومن الملائكة والأنبياء ملتصق بهم في الدنيا وفي الآخرة لا يزول عنهم ونظيره قوله في سورة القصص وَأَتْبَعْنَاهُم فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً وَيَوْمَ القِيَامَة ِ هُمْ مّنَ الْمَقْبُوحِينَ ( القصص 42 )
ثم قال بِئْسَ الرّفْدُ الْمَرْفُودُ والرفد هو العطية وأصله الذي يعين على المطلوب سأل نافع بن

الأزرق ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله بِئْسَ الرّفْدُ الْمَرْفُودُ قال هو اللعنة بعد اللعنة قال قتادة ترادفت عليهم لعنتان من الله تعالى لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة وكل شيء جعلته عوناً لشيء فقد رفدته به
ذَالِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتَهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَى ْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ
اعلم أنه تعالى لما ذكر قصص الأولين قال ذالِكَ مِنْ أَنْبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ والفائدة في ذكرها أمور أولها أن الانتفاع بالدليل العقلي المحض إنما يحصل للإنسان الكامل وذلك إنما يكون في غاية الندرة فأما إذا ذكرت الدلائل ثم أكدت بأقاصيص الأولين صار ذكر هذه الأقاصيص كالموصل لتلك الدلائل العقلية إلى العقول
الوجه الثاني أنه تعالى خلط بهذه الأقاصيص أنواع الدلائل التي كان الأنبياء عليهم السلام يتمسكون بها ويذكر مدافعات الكفار لتلك الدلائل وشبهاتهم في دفعها ثم يذكر عقيبهما أجوبة الأنبياء عنها ثم يذكر عقيبها أنهم لما أصروا واستكبروا وقعوا في عذاب الدنيا وبقي عليهم اللعن والعقاب في الدنيا وفي الآخرة فكان ذكر هذه القصص سبباً لإيصال الدلائل والجوابات عن الشبهات إلى قلوب المنكرين وسبباً لإزالة القسوة والغلظة عن قلوبهم فثبت أن أحسن الطرق في الدعوة إلى الله تعالى ما ذكرناه
الفائدة الثالثة أنه عليه السلام كان يذكر هذه القصص من غير مطالعة كتب ولا تلمذ لأحد وذلك معجزة عظيمة تدل على النبوة كما قررناه
الفائدة الرابعة إن الذين يسمعون هذه القصص يتقرر عندهم أن عاقبة الصديق والزنديق والموافق والمنافق إلى ترك الدنيا والخروج عنها إلا أن المؤمن يخرج من الدنيا مع الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة والكافر يخرج من الدنيا مع اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة فإذا تكررت هذه الأقاصيص على السمع فلا بد وأن يلين القلب وتخضع النفس وتزول العداوة ويحصل في القلب خوف يحمله على النظر والاستدلال فهذا كلام جليل في فوائد ذكر هذه القصص
أما قوله ذالِكَ مِنْ أَنْبَاء الْقُرَى ففيه أبحاث
البحث الأول أو قوله ذالِكَ إشارة إلى الغائب والمراد منه ههنا الإشارة إلى هذه القصص التي تقدمت وهي حاضرة إلا أن الجواب عنه ما تقدم في قوله ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ( البقرة 2 )
البحث الثاني أن لفظ ( ذلك ) يشار به إلى الواحد والاثنين والجماعة لقوله تعالى لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ ( البقرة 68 )

وأيضاً يحتمل أن يكون المراد ذلك الذي ذكرناه هو كذا وكذا
البحث الثالث قال صاحب ( الكشاف ) ( ذلك ) مبتدأ مِنْ أَنْبَاء الْقُرَى خبر نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خبر بعد خبر أي ذلك المذكور بعض أنبار القرى مقصوص عليك ثم قال مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ والضمير في قوله مِنْهَا يعود إلى القرى شبه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه وما عفا منها وبطر بالحصيد والمعنى أن تلك القرى بعضها بقي منه شيء وبعضها هلك وما بقي منه أثر ألبتة
ثم قال تعالى وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وفيه وجوه الأول وما ظلمناهم بالعذاب والإهلاك ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية الثاني أن الذي نزل بالقوم ليس بظلم من الله بل هو عدل وحكمة لأجل أن القوم أولاً ظلموا أنفسهم بسبب إقدامهم على الكفر والمعاصي فاستوجبوا لأجل تلك الأعمال من الله ذلك العذاب الثالث قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد وما نقصناهم من النعيم في الدنيا والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفوا بحقوق الله تعالى
ثم قال فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَى ْء أي ما نفعتهم تلك الآلهة في شيء ألبتة
ثم قال وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ قال ابن عباس رضي الله عنهما غير تخسير يقال تب إذا خسر وتببه غيره إذا أوقعه في الخسران والمعنى أن الكفار كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين على تحصيل المنافع ودفع المضار ثم إنه تعالى أخبر أنهم عند مساس الحاجة إلى المعين ما وجدوا منها شيئاً لا جلب نفع ولا دفع ضر ثم كما لم يجدوا ذلك فقد وجدوا ضده وهو أن ذلك الاعتقاد زال عنهم به منافع الدنيا والآخرة وجلب إليهم مضار الدنيا والآخرة فكان ذلك من أعظم موجبات الخسران
وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِى َ ظَالِمَة ٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاٌّ خِرَة ِ ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لاًّجَلٍ مَّعْدُودٍ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم والجحدري إِذْ أَخَذَ الْقُرَى بألف واحدة وقرأ الباقون بألفين
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما أخبر الرسول عليه السلام في كتابه بما فعل بأمم من تقدم من الأنبياء لما خالفوا الرسل وردوا عليهم من عذاب الاستئصال وبين أنهم ظلموا أنفسهم فحل بهم العذاب في الدنيا قال بعده وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِى َ ظَالِمَة ٌ فبين أن عذابه ليس بمقتصر على من تقدم بل الحال في أخذ كل الظالمين يكون كذلك وقوله وَهِى َ ظَالِمَة ٌ الضمير فيه عائد إلى القرى وهو في

الحقيقة عائد إلى أهلها ونظيره قوله وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَة ٍ كَانَتْ ظَالِمَة ً ( الأنبياء 11 ) وقوله وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ( القصص 58 )
واعلم أنه تعالى لما بين كيفية أخذ الأمم المتقدمة ثم بين أنه إنما يأخذ جميع الظالمين على ذلك الوجه أتبعه بما يزيده تأكيداً وتقوية فقال إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فوصف ذلك العذاب بالإيلام وبالشدة ولا منغصة في الدنيا إلا الألم ولا تشديد في الدنيا وفي الآخرة وفي الوهم والعقل إلا تشديد الألم
واعلم أن هذه الآية تدل على أن من أقدم على ظلم فإنه يجب عليه أن يتدارك ذلك بالتوبة والإنابة لئلا يقع في الأخذ الذي وصفه الله تعالى بأنه أليم شديد ولا ينبغي أن يظن أن هذه الأحكام مختصة بأولئك المتقدمين لأنه تعالى لما حكى أحوال المتقدمين قال وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِى َ ظَالِمَة ٌ فبين أن كل من شارك أولئك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي فلا بد وأن يشاركهم في ذلك الأخذ الأليم الشديد
ثم قال تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاْخِرَة ِ قال القفال تقرير هذا الكلام أن يقال إن هؤلاء إنما عذبوا في الدنيا لأجل تكذيبهم الأنبياء وإشراكهم بالله فإذا عذبوا في الدنيا على ذلك وهي دار العمل فلأن يعذبوا عليه في الآخرة التي هي دار الجزاء كان أولى
واعلم أن كثيراً ممن تنبه لهذا البحث من المفسرين عولوا على هذا الوجه بل هو ضعيف وذلك لأن على هذا الوجه الذي ذكره القفال يكون ظهور عذاب الاستئصال في الدنيا دليلاً على أن القول بالقيامة والبعث والنشر حق وصدق وظاهر الآية يقتضي أن العلم بأن القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بظهور عذاب الاستئصال وهذا المعنى كالمضاد لما ذكره القفال لأن القفال يجعل العلم بعذاب الاستئصال أصلاً للعلم بأن القيامة حق فبطل ما ذكره القفال والأصوب عندي أن يقال العلم بأن القيامة حق موقوف على العلم بأن المدبر لوجود هذه السموات والأرضين فاعل مختار لا موجب بالذات وما لم يعرف الإنسان أن إله العالم فاعل مختار وقادر على كل الممكنات وأن جميع الحوادث الواقعة في السموات والأرضين لا تحصل إلا بتكوينه وقضائه لا يمكنه أن يعتبر بعذاب الاستئصال وذلك لأن الذين يزعمون أن المؤثر في وجود هذا العالم موجب بالذات لا فاعل مختار يزعمون أن هذه الأحوال التي ظهرت في أيام الأنبياء مثل الغرق والحرق والخسف والمسخ والصيحة كلها إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب واتصال بعضها ببعض وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ لا يكون حصولها دليلاً على صدق الأنبياء فأما الذي يؤمن بالقيامة فلا يتم ذلك الإيمان إلا إذا اعتقد أنه إله العالم فاعل مختار وأنه عالم بجميع الجزئيات وإذا كان الأمر كذلك لزم القطع بأن حدوث هذه الحوادث الهائلة والوقائع العظيمة إنما كان بسبب أن إله العالم خلقها وأوجدها وأنها ليست بسبب طوالع الكواكب وقراناتها وحينئذ ينتفع بسماع هذه القصص ويستدل بها على صدق الأنبياء فثبت بهذا صحة قوله إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاْخِرَة ِ
ثم قال تعالى ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ
واعلم أنه تعالى لما ذكر الآخرة وصف ذلك اليوم بوصفين أحدهما أنه يوم مجموع له الناس والمعنى أن خلق الأولين والآخرين كلهم يحشرون في ذلك اليوم ويجمعون والثاني أنه يوم مشهود قال

ابن عباس رضي الله عنهما يشهده البر والفاجر وقال آخرون يشهده أهل السماء وأهل الأرض والمراد من الشهود الحضور والمقصود من ذكره أنه ربما وقع في قلب إنسان أنهم لما جمعوا في ذلك الوقت لم يعرف كل أحد إلا واقعة نفسه فبين تعالى أن تلك الوقائع تصير معلومة للكل بسبب المحاسبة والمساءلة
ثم قال تعالى وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ والمعنى أن تأخير الآخرة وإفناء الدنيا موقوف على أجل معدود وكل ماله عدد فهو متناه وكل ما كان متناهياً فإنه لا بد وأن يفنى فيلزم أن يقال إن تأخير الآخرة سينتهي إلى وقت لا بد وأن يقيم الله القيامة فيه وأن تخرب الدنيا فيه وكل ما هو آت قريب
يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِى ٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة يَأْتِ بحذف الياء والباقون بإثبات الياء قال صاحب ( الكشاف ) وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل ونحوه قولهم لا أدر حكاه الخليل وسيبويه
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) فاعل يأتي هو الله تعالى كقوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ( البقرة 210 ) وقوله أَوْ يَأْتِى َ رَبُّكَ ( الأنعام 158 ) ويعضده قراءة من قرأ وَمَا بالياء أقول لا يعجبني هذا التأويل لأن قوله حَكِيمٌ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ حكاه الله تعالى عن أقوام والظاهر أنهم هم اليهود وذلك ليس فيه حجة وكذا قوله أَوْ يَأْتِى َ رَبُّكَ أما ههنا فهو صريح كلام الله تعالى وإسناد فعل الإتيان إليه مشكل
فإن قالوا فما قولك في قوله تعالى وَجَاء رَبُّكَ
قلنا هناك تأويلات وأيضاً فهو صريح فلا يمكن دفعه فوجب الامتناع منه بل الواجب أن يقال المراد منه يوم يأتي الشيء المهيب الهائل المستعظم فحذف الله تعالى ذكره بتعيينه ليكون أقوى في التخويف
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) العامل في انتصاب الظرف هو قوله لاَ تَكَلَّمُ أو إضمار اذكر

أما قوله لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ففيه حذف والتقدير لا تكلم نفس فيه إلا بإذن الله تعالى
فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين سائر الآيات التي توهم كونها مناقضة لهذه الآية منها قوله تعالى يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ( النحل 111 ) ومنها أنهم يكذبون ويحلفون بالله عليه وهو قولهم وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) ومنها قوله تعالى وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ ( الصافات 24 ) ومنها قوله هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذُونَ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( المرسلات 35 )
والجواب من وجهين الأول أنه حيث ورد المنع من الكلام فهو محمول على الجوابات الحقية الصحيحة الثاني أن ذلك اليوم يوم طويل وله مواقف ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم وفي بعضها يكفون عن الكلام وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم
أما قوله فَمِنْهُمْ شَقِى ٌّ وَسَعِيدٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الضمير في قوله فَمِنْهُمْ لأهل الموقف ولم يذكر لأنه معلوم ولأن قوله لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يدل عليه لأنه قد مر ذكر الناس في قوله مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ ( هود 103 )
المسألة الثانية قوله فَمِنْهُمْ شَقِى ٌّ وَسَعِيدٌ يدل ظاهره على أن أهل الموقف لا يخرجون عن هذين القسمين
فإن قيل أليس في الناس مجانين وأطفال وهم خارجون عن هذين القسمين
قلنا المراد من يحشر ممن أطلق للحساب وهم لا يخرجون عن هذين القسمين
فإن قيل قد احتج القاضي بهذه الآية على فساد ما يقال إن أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النار فما قولكم فيه
قلنا لما سلم أن الأطفال والمجانين خارجون عن هذين القسمين لأنهم لا يحاسبون فلم لا يجوز أيضاً أن يقال إن أصحاب الأعراف خارجون عنه لأنهم أيضاً لا يحاسبون لأن الله تعالى علم من حالهم أن ثوابهم يساوي عذابهم فلا فائدة في حسابهم
فإن قيل القاضي استدل بهذه الآية أيضاً على أن كل من حضر عرصة القيامة فإنه لا بد وأن يكون ثوابه زائداً أو يكون عقابه زائداً فأما من كان ثوابه مساوياً لعقابه فإنه وإن كان جائزاً في العقل إلا أن هذا النص دل على أنه غير موجود
قلنا الكلام فيه ما سبق من أن السعيد هو الذي يكون من أهل الثواب والشقي هو الذي يكون من أهل العقاب وتخصيص هذين القسمين بالذكر لا يدل على نفي القسم الثالث والدليل على ذلك أن أكثر الآيات مشتملة على ذكر المؤمن والكافر فقط وليس فيه ذكر ثالث لا يكون لا مؤمناً ولا كافراً مع أن القاضي أثبته فإذا لم يلزم من عدم ذكر ذلك الثالث عدمه فكذلك لا يلزم من ذكر هذا الثالث عدمه

المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد وعلى بعضهم بأنه شقي ومن حكم الله عليه بحكم وعلم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذباً وعلمه جاهلاً وذلك محال فثبت أن السعيد لا ينقلب شقياً وأن الشقي لا ينقلب سعيداً وتقرير هذا الدليل مر في هذا الكتاب مراراً لا تحصى وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لما نزل قوله تعالى فَمِنْهُمْ شَقِى ٌّ وَسَعِيدٌ قلت يا رسول الله فعلى ماذا نعمل على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه فقال ( على شيء قد فرغ منه يا عمر وجفت به الأقلام وجرت به الأقدار ولكن كل ميسر لما خلق له ) وقالت المعتزلة نقل عن الحسن أنه قال فمنهم شقي بعمله وسعيد بعمله
قلنا الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات وأيضاً فلا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلاً بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقياً
واعلم أنه تعالى لما قسم أهل القيامة إلى هذين القسمين شرح حال كل واحد منهما فقال فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في الفرق بين الزفير والشهيق وجوهاً
الوجه الأول قال الليث الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ولم يخرجه والشهيق أن يخرج ذلك النفس وقال الفراء يقال للفرس إنه عظيم الزفرة أي عظيم البطن وأقول إن الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلب فإذا انحصر الروح قويت الحرارة وعظمت وعند ذلك يحتاج الإنسان إلى النفس القوي لأجل أن يستدخل هواء كثيراً بارداً حتى يقوى على ترويح تلك الحرارة فلهذا السبب يعظم في ذلك الوقت استدخال الهواء في داخل البدن وحينئذ يرتفع صدره وينتفخ جنباه ولما كانت الحرارة الغريزية والروح الحيواني محصوراً داخل القلب استولت البرودة على الأعضاء الخارجة فربما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهواء الكثير المستنشق فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصراً في الصدر ويقرب من أن يختنق الإنسان منه وحينئذ تجتهد الطبيعة في إخراج ذلك الهواء فعلى قياس قول الأطباء الزفير هو استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه والشهيق هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطبيعة في إخراجه وكل واحدة من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد وغم عظيم
الوجه الثاني في الفرق بين الزفير والشهيق قال بعضهم الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار بالنهيق وأما الشهيق فهو بمنزلة آخر صوت الحمار
الوجه الثالث قال الحسن قد ذكرنا أن الزفير عبارة عن الارتفاع فنقول الزفير لهيب جهنم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلوا إلى أعلى درجات جهنم وطمعوا في أن يخرجوا منها ضربتهم الملائكة بمقامع من حديد ويردونهم إلى الدرك الأسفل من جهنم وذلك قوله تعالى كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا فارتفاعهم في النار هو الزفير وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق
الوجه الرابع قال أبو مسلم الزفير ما يجتمع في الصدر من النفس عند البكاء الشديد فينقطع النفس

والشهيق هوا لذي يظهر عند اشتداد الكربة والحزن وربما تبعهما الغشية وربما حصل عقيبه الموت
الوجه الخامس قال أبو العالية الزفير في الحلق والشهيق في الصدر
الوجه السادس قال قوم الزفير الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف
الوجه السابع قال ابن عباس رضي الله عنهما لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ يريد ندامة ونفساً عالية وبكاء لا ينقطع وحزناً لا يندفع
الوجه الثامن الزفير مشعر بالقوة والشهيق بالضعف على ما قررناه بحسب اللغة
إذا عرفت هذا فنقول لم يبعد أن يكون المراد من الزفير قوة ميلهم إلى عالم الدنيا وإلى اللذات الجسدانية والمراد من الشهيق ضعفهم عن الاستسعاد بعالم الروحانيات والاستكمال بالأنوار الإلهية والمعارج القدسية
ثم قال تعالى خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلا إِنَّ رَبَّكَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال قوم إن عذاب الكفار منقطع ولها نهاية واحتجوا بالقرآن والمعقول أما القرآن فآيات منها هذه الآية والاستدلال بها من وجهين الأول أنه تعالى قال مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ دل هذا النص على أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات والأرض ثم توافقنا على أن مدة بقاء السموات والأرض متناهية فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة الثاني أن قوله إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ استثناء من مدة عقابهم وذلك يدل على زوال ذلك العذاب في وقت هذا الاستثناء ومما تمسكوا به أيضاً قوله تعالى في سورة عم يتساءلون لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً ( النبأ 23 ) بين تعالى أن لبثهم في ذلك العذاب لا يكون إلا أحقاباً معدودة
وأما العقل فوجهان الأول أن معصية الكافر متناهية ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم وأنه لا يجوز الثاني أن ذلك العقاب ضرر خال عن النفع فيكون قبيحاً بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يرجع إلى الله تعالى لكونه متعالياً عن النفع والضرر ولا إلى ذلك المعاقب لأنه في حقه ضرر محض ولا إلى غيره لأن أهل الجنة مشغولون بلذاتهم فلا فائدة لهم في الالتذاذ بالعذاب الدائم في حق غيرهم فثبت أن ذلك العذاب ضرر خال عن جميع جهات النفع فوجب أن لا يجوز وأما الجمهور الأعظم من الأمة فقد اتفقوا على أن عذاب الكافر دائم وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسك بهذه الآية أما قوله خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فذكروا عنه جوابين الأول قالوا المراد سموات الآخرة وأرضها قالوا والدليل على أن في الآخرة سماء وأرضاً قوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( إبراهيم 48 ) وقوله وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّة ِ حَيْثُ نَشَاء ( الزمر 74 ) وأيضاً لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم وذلك هو الأرض والسموات
ولقائل أن يقول التشبيه إنما يحسن ويجوز إذا كان حال المشبه به معلوماً مقرراً فيشبه به غيره تأكيداً لثبوت الحكم في المشبه ووجود السموات والأرض في الآخرة غير معلوم وبتقدير أن يكون وجوده معلوماً إلا أن بقاءها على وجه لا يفنى ألبتة غير معلوم فإذا كان أصل وجودهما مجهولاً لأكثر الخلق ودوامهما أيضاً

مجهولاً للأكثر كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدوام كلاماً عديم الفائدة أقصى ما في الباب أن يقال لما ثبت بالقرآن وجود سموات وأرض في الآخرة وثبت دوامهما وجب الاعتراف به وحينئذ يحسن التشبيه إلا أنا نقول لما كان الطريق في إثبات دوام سموات أهل الآخرة ودوام أرضهم هو السمع ثم السمع دل على دوام عقاب الكافر فحينئذ الدليل الذي دل على ثبوت الحكم في الأصل حاصل بعينه في الفرع وفي هذه الصورة أجمعوا على أن القياس ضائع والتشبيه باطل فكذا ههنا
والوجه الثاني في الجواب قالوا إن العرب يعبرون عن الدوام والأبد بقولهم ما دامت السموات والأرض ونظيره أيضاً قولهم ما اختلف الليل والنهار وما طما البحر وما أقام الجبل وأنه تعالى خاطب العرب على عرفهم في كلامهم فلما ذكروا هذه الأشياء بناء على اعتقادهم أنها باقية أبد الآباد علمنا أن هذه الألفاظ بحسب عرفهم تفيد الأبد والدوام الخالي عن الانقطاع
ولقائل أن يقول هل تسلمون أن قول القائل خالدين فيها ما دامت السموات والأرض يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السموات أو تقولون إنه لا يدل على هذا المعنى فإن كان الأول فالإشكال لازم لأن النص لما دل على أنه يجب أن تكون مدة كونهم في النار مساوية لمدة بقاء السموات ويمنع من حصول بقائهم في النار بعد فناء السموات ثم ثبت أنه لا بد من فناء السموات فعندها يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقاب وأما إن قلتم هذا الكلام لا يمنع بقاء كونهم في النار بعد فناء السموات والأرض فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتة فثبت أن هذا الجواب على كلا التقديرين ضائع
واعلم أن الجواب الحق عندي في هذا الباب شيء آخر وهو أن المعهود من الآية أنه متى كانت السموات والأرض دائمتين كان كونهم في النار باقياً فهذا يقتضي أن كلما حصل الشرط حصل المشروط ولا يقتضي أنه إذا عدم الشرط يعدم المشروط ألا ترى أنا نقول إن كان هذا إنساناً فهو حيوان
فإن قلنا لكنه إنسان فإنه ينتج أنه حيوان أما إذا قلنا لكنه ليس بإنسان لم ينتج أنه ليس بحيوان لأنه ثبت في علم المنطق أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئاً فكذا ههنا إذا قلنا متى دامت السموات دام عقابهم فإذا قلنا لكن السموات دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلاً أما إذا قلنا لكنه ما بقيت السموات لم يلزم عدم دوام عقابهم
فإن قالوا فإذا كان العقاب حاصلاً سواء بقيت السموات أو لم تبق لم يبق لهذا التشبيه فائدة
قلنا بل فيه أعظم الفوائد وهو أنه يدل على نفاذ ذلك العذاب دهراً دهراً وزماناً لا يحيط العقل بطوله وامتداده فأما أنه هل يحصل له آخر أم لا فذلك يستفاد من دلائل أخر وهذا الجواب الذي قررته جواب حق ولكنه إنما يفهمه إنسان ألف شيئاً من المعقولات
وأما الشبهة الثانية وهي التمسك بقوله تعالى إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ فقد ذكروا فيه أنواعاً من الأجوبة
الوجه الأول في الجواب وهو الذي ذكره ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء قالوا هذا استثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله ألبتة كقولك والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك مع أن عزيمتك تكون على ضربه فكذا ههنا وطولوا في تقرير هذا الجواب وفي ضرب الأمثلة فيه وحاصله ما ذكرناه

ولقائل أن يقول هذا ضعيف لأنه إذا قال لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك معناه لأضربنك إلا إذا رأيت أن الأولى ترك مضرب وهذا لا يدل ألبتة على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا بخلاف قوله خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء ربك فههنا اللفظ يدل على أن هذه المشيئة قد حصلت جزماً فكيف يحصل قياس هذا الكلام على ذلك الكلام
الوجه الثاني في الجواب أن يقال إن كلمة إِلا ههنا وردت بمعنى سوى والمعنى أنه تعالى لما قال خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فهم منه أنهم يكونون في النار في جميع مدة بقاء السموات والأرض في الدنيا ثم قال سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم فذكر أولاً في خلودهم ماليس عند العرب أطول منه ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له بقوله إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ المعنى إلا ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها
الوجه الثالث في الجواب وهو أن المراد من هذا الاستثناء زمان وقوفهم في الموقف فكأنه تعالى قال فأما الذين شقوا ففي النار إلا وقت وقوفهم للمحاسبة فإنهم في ذلك الوقت لا يكونون في النار وقال أبو بكر الأصم المراد إلا ما شاء ربك وهو حال كونهم في القبر أو المراد إلا ما شاء ربك حال عمرهم في الدنيا وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة والمعنى خالدين فيها بمقدار مكثهم في الدنيا أو في البرزخ أو مقدار وقوفهم للحساب ثم يصيرون إلى النار
الوجه الرابع في الجواب قالوا الاستثناء يرجع إلى قوله لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ( هود 106 ) وتقريره أن نقول قوله لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا يفيد حصول الزفير والشهيق مع الخلود فإذا دخل الاستثناء عليه وجب أن يحصل وقت لا يحصل فيه هذا المجموع لكنه ثبت في المعقولات أنه كما ينتفي المجموع بانتفاء جميع أجزائه فكذلك ينتفي بانتفاء فرد واحد من أجزائه فإذا انتهوا آخر الأمر إلى أن يصيروا ساكنين هامدين خامدين فحينئذ لم يبق لهم زفير وشهيق فانتفى أحد أجزاء ذلك المجموع فحينئذ يصح ذلك الاستثناء من غير حاجة إلى الحكم بانقطاع كونهم في النار
الوجه الخامس في الجواب أن يحمل هذا الاستثناء على أن أهل العذاب لا يكونون أبداً في النار بل قد ينقلون إلى البرد والزمهرير وسائر أنواع العذاب وذلك يكفي في صحة هذا الاستثناء
الوجه السادس في الجواب قال قوم هذا الاستثناء يفيد إخراج أهل التوحيد من النار لأن قوله فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ يفيد أن جملة الأشقياء محكوم عليهم بهذا الحكم ثم قوله إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ يوجب أن لا يبقى ذلك الحكم على ذلك المجموع ويكفي في زوال حكم الخلود عن المجموع زواله عن بعضهم فوجب أن لا يبقى حكم الخلود لبعض الأشقياء ولما ثبت أن الخلود واجب للكفار وجب أن يقال الذين زال حكم الخلود عنهم هم الفساق من أهل الصلاة وهذا كلام قوي في هذا الباب
فإن قيل فهذا الوجه إنما يتعين إذا فسدت سائر الوجوه التي ذكرتموها فما الدليل على فسادها وأيضاً فمثل هذا الاستثناء مذكور في جانب السعداء فإنه تعالى قال وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ

قلنا إنا بهذا الوجه بينا أن هذه الآية لا تدل على انقطاع وعيد الكفار ثم إذا أردنا الاستدلال بهذه الآية على صحة قولنا في أنه تعالى يخرج الفساق من أهل الصلاة من النار
قلنا أما حمل كلمة ( إلا ) على سوى فهو عدول عن الظاهر وأما حمل الاستثناء على حال عمر الدنيا والبرزخ والموقف فبعيد أيضاً لأن الاستثناء وقع عن الخلود في النار ومن المعلوم أن الخلود في النار كيفية من كيفيات الحصول في النار فقبل الحصول في النار امتنع حصول الخلود في النار وإذا لم يحصل الخلود لم يحصل المستثنى منه وامتنع حصول الاستثناء وأما قوله الاستثناء عائد إلى الزفير والشهيق فهذا أيضاً ترك للظاهر فلم يبق للآية محمل صحيح إلا هذا الذي ذكرناه وأما قوله المراد من الاستثناء نقله من النار إلى الزمهرير فنقول لو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يحصل العذاب بالزمهرير إلا بعد انقضاء مدة السموات والأرض والأخبار الصحيحة دلت على أن النقل من النار إلى الزمهرير وبالعكس يحصل في كل يوم مراراً فبطل هذا الوجه وأما قوله إن مثل هذا الاستثناء حاصل في جانب السعداء فنقول أجمعت الأمة على أنه يمتنع أن يقال إن أحداً يدخل الجنة ثم يخرج منها إلى النار فلأجل هذا الإجماع افتقرنا فيه إلى حمل ذلك الاستثناء على أحد تلك التأويلات أما في هذه الآية لم يحصل هذا الإجماع فوجب إجراؤها على ظاهرها فهذا تمام الكلام في هذه الآية
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الاستثناء قال إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ وهذا يحسن انطباقه على هذه الآية إذا حملنا الاستثناء على إخراج الفساق من النار كأنه تعالى يقول أظهرت القهر والقدرة ثم أظهرت المغفرة والرحمة لأني فعال لما أريد وليس لأحد عليَّ حكم ألبتة
ثم قال وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم سُعِدُواْ بضم السين والباقون بفتحها وإنما جاز ضم السين لأنه على حذف الزيادة من أسعد ولأن سعد لا يتعدى وأسعد يتعدى وسعد وأسعد بمعنى ومنه المسعود من أسماء الرجال
المسألة الثانية الاستثناء في باب السعداء يجب حمله على أحد الوجوه المذكورة فيما تقدم وههنا وجه آخر وهو أنه ربما اتفق لبعضهم أن يرفع من الجنة إلى العرش وإلى المنازل الرفيعة التي لا يعلمها إلا الله تعالى قال الله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ ( التوبة 72 ) وقوله عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ فيه مسألتان
المسألة الأولى جذه يجذه جذاً إذا قطعه وجذ الله دابرهم فقوله غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي غير مقطوع ونظيره قوله تعالى في صفة نعيم الجنة لاَّ مَقْطُوعَة ٍ وَلاَ مَمْنُوعَة ٍ ( الواقعة 33 )
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما صرح في هذه الآية أنه ليس المراد من هذا الاستثناء كون هذه الحالة منقطعة فلما خص هذا الموضع بهذا البيان ولم يذكر ذلك في جانب الأشقياء دل ذلك على أن المراد من ذلك الاستثناء هو الانقطاع فهذا تمام الكلام في هذه الآية

فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَة ٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَاؤُلا ءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءَابَاؤهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ
اعلم أنه تعالى لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء وأحوال السعداء شرح للرسول عليه الصلاة والسلام أحوال الكفار من قومه فقال فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَة ٍ والمعنى فلا تكن إلا أنه حذف النون لكثرة الاستعمال ولأن النون إذا وقع على طرف الكلام لم يبق عند التلفظ به إلا مجرد الغنة فلا جرم أسقطوه والمعنى فلا تك في شك من حال ما يعبدون في أنها لا تضر ولا تنفع
ثم قال تعالى مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ والمراد أنهم أشبهوا آباءهم في لزوم الجهل والتقليد
ثم قال وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ فيحتمل أن يكون المراد إنا موفوهم نصيبهم أي ما يخصهم من العذاب ويحتمل أن يكون المراد أنهم وإن كفروا وأعرضوا عن الحق فإنا موفوهم نصيبهم من الرزق والخيرات الدنيوية ويحتمل أيضاً أن يكون المراد إنا موفوهم نصيبهم من إزالة العذر وإزاحة العلل وإظهار الدلائل وإرسال الرسل وإنزال الكتب ويحتمل أيضاً أن يكون الكل مراداً
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِى َ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى إصرار كفار مكة على إنكار التوحيد بين أيضاً إصرارهم على إنكار نبوته عليه السلام وتكذيبهم بكتابه وبين تعالى أن هؤلاء الكفار كانوا على هذه السيرة الفاسدة مع كل الأنبياء عليهم السلام وضرب لذلك مثلاً وهو أنه لما أنزل التوراة على موسى عليه السلام اختلفوا فيه فقبله بعضهم وأنكره آخرون وذلك يدل على أن عادة الخلق هكذا
ثم قال تعالى وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وفيه وجوه الأول أن المراد ولولا ما تقدم من حكم الله تعالى بتأخير عذاب هذه الأمة إلى يوم القيامة لكان الذي يستحقه هؤلاء الكفار عند عظيم كفرهم إنزال عذاب الاستئصال عليهم لكن المتقدم من قضائه أخر ذلك عنهم في دنياهم الثاني لولا كلمة سبقت من ربك وهي أن الله تعالى إنما يحكم بين المختلفين يوم القيامة وإلا لكان من الواجب تمييز المحق عن المبطل في دار الدنيا الثالث وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ وهي أن رحمته سبقت غضبه وأن إحسانه راجح على قهره وإلا لقضى بينهم ولما قرر تعالى هذا المعنى قال وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ يعني أن كفار قومك لفي شك من هذا القرآن مريب

ثم قال تعالى وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى المعنى أن من عجلت عقوبته ومن أخرت ومن صدق الرسل ومن كذب فحالهم سواء في أنه تعالى يوفيهم جزاء أعمالهم في الآخرة فجمعت الآية الوعد والوعيد فإن توفية جزاء الطاعات وعد عظيم وتوفية جزاء المعاصي وعيد عظيم وقوله تعالى إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ توكيد الوعد والوعيد فإنه لما كان عالماً بجميع المعلومات كان عالماً بمقادير الطاعات والمعاصي فكان عالماً بالقدر اللائق بكل عمل من الجزاء فحينئذ لا يضيع شيء من الحقوق والأجزية وذلك نهاية البيان
المسألة الثانية قرأ أبو عمرو والكسائي وإن مشددة النون لَّمّاً خفيفة قال أبو علي اللام في لَّمّاً هي التي تقتضيه إن وذلك لأن حرف إن يقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقوله إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( النحل 18 ) وقوله إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً ( الحجر 77 ) واللام الثانية هي التي تجيء بعد القسم كقولك والله لتفعلن ولما اجتمع لامان دخلت ما لتفصل بينهما فكلمة ما على هذا التقدير زائدة وقال الفراء ما موصولة بمعنى من وبقية التقرير كما تقدم ومثله وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ ( النساء 72 )
والقراءة الثانية في هذه الآية قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا مخففتان والسبب فيه أنهم أعملوا إن مخففة كما تعمل مشددة لأن كلمة إن تشبه الفعل فكما يجوز أعمال الفعل تاماً ومحذوفاً في قولك لم يكن زيد قائماً ولم يك زيد قائماً فكذلك أن وإن
والقراءة الثالثة قرأ حمزة وابن عامر وحفص وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا ( الفجر 19 ) مشددتان قالوا وأحسن ما قيل فيه إن أصل لما بالتنوين كقوله أَكْلاً لَّمّاً والمعنى أن كلاً ملمومين أي مجموعين كأنه قيل وإن كلاً جميعاً
المسألة الثالثة سمعت بعض الأفاضل قال إنه تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التوكيدات أولها كلمة ءانٍ وهي للتأكيد وثانيها كلمة ( كل ) وهي أيضاً للتأكيد وثالثها اللام الداخلة على خبر ءانٍ وهي تفيد التأكيد أيضاً ورابعها حرف مَا إذا جعلناه على قول الفراء موصولاً وخامسها القسم المضمر فإن تقدير الكلام وإن جميعهم والله ليوفينهم وسادسها اللام الثانية الداخلة على جواب القسم وسابعها النون المؤكدة في قوله لَيُوَفّيَنَّهُمْ فجميع هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد في هذه الكلمة الواحدة تدل على أن أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر ثم أردفه بقوله إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وهو من أعظم المؤكدات
فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعلى لما أطنب في شرح الوعد والوعيد قال لرسوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ

وهذ الكلمة كلمة جامعة في كل ما يتعلق بالعقائد والأعمال سواء كان مختصاً به أو كان متعلقاً بتبليغ الوحي وبيان الشرائع ولا شك أن البقاء على الاستقامة الحقيقية مشكل جداً وأنا أضرب لذلك مثالاً يقرب صعوبة هذا المعنى إلى العقل السليم وهو أن الخط المستقيم الذي يفصل بين الظل وبين الضوء جزء واحد لا يقبل القسمة في العرض إلا أن عين ذلك الخط مما لا يتميز في الحس عن طرفيه فإنه إذا قرب طرف الظل من طرف الضوء اشتبه البعض بالبعض في الحس فلم يقع الحس على إدراك ذلك الخط بعينه بحيث يتميز عن كل ما سواه
إذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية فأولها معرفة الله تعالى وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقى العبد مصوناً في طرف الإثبات عن التشبيه وفي طرف النفي عن التعطيل في غاية الصعوبة واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك وأيضاً فالقوة الغضبية والقوة الشهوانية حصل لكل واحدة منهما طرفا إفراط وتفريط وهما مذمومان والفاصل هو المتوسط بينهما بحيث لا يميل إلى أحد الجانبين والوقوف عليه صعب ثم العمل به أصعب فثبت أن معرفة الصراط المستقيم في غاية الصعوبة بتقدير معرفته فالبقاء عليه والعمل به أصعب ولما كان هذا المقام في غاية الصعوبة لا جرم قال ابن عباس ما نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جميع القرآن آية أشد ولا أشق عليه من هذه الآية ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( شيبتني هود وأخواتها وعن بعضهم قال رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في النوم فقلت له روي عنك أنك قلت شيبتني هود وأخواتها فقال ( نعم ) فقلت وبأي آية فقال بقوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية أصل عظيم في الشريعة وذلك لأن القرآن لما ورد بالأمر بأعمال الوضوء مرتبة في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيها لقوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل والبقر من البقر وجب اعتبارها وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به وعندي أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس لأنه لما دل عموم النص على حكم وجب الحكم بمقتضاه لقوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ والعمل بالقياس انحراف عنه ثم قال وَمَن تَابَ مَعَكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي من في محل الرفع من وجوه الأول أن يكون عطفاً على الضمير المستتر في قوله فَاسْتَقِمْ وأغنى الوصل بالجار عن تأكيده بضمير المتصل في صحة العطف أي فاستقم أنت وهم والثاني أن يكون عطفاً على الضمير فى أمرت والثالث أن يكون ابتداء على تقدير ومن تاب معك فليستقم
المسألة الثانية أن الكافر والفاسق يجب عليهما الرجوع عن الكفر والفسق ففي تلك الحالة لا يصح اشتغالهما بالاستقامة وأما التائب عن الكفر والفسق فإنه يصح منه الاشتغال بالاستقامة على مناهج دين الله تعالى والبقاء على طريق عبودية الله تعالى ثم قال وَلاَ تَطْغَوْاْ ومعنى الطغيان أن يجاوز المقدار قال ابن عباس يريد تواضعوا لله تعالى ولا تتكبروا على أحد وقيل ولا تطغوا في القرآن فتحلوا حرامه وتحرموا حلاله وقيل لا تتجاوزوا ما أمرتم به وحد لكم وقيل ولا تعدلوا عن طريق شكره والتواضع له عند عظم نعمه عليكم والأولى دخول الكل فيه ثم قال وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ والركون هو السكون إلى الشيء والميل إليه بالمحبة ونقيضه النفور عنه وقرأ العامة بفتح التاء والكاف والماضي من هذا ركن كعلم

وفيه لغة أخرى ركن يركن قال الأزهري وليست بفصيحة قال المحققون الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم وتحسين تلك الطريقة وتزيينها عندهم وعند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب فأما مداخلتهم لدفع ضرر أو اجتلاب منفعة عاجلة فغير داخل في الركون ومعنى قوله فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ أي أنكم إن ركنتم إليهم فهذه عاقبة الركون ثم قال لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء أي ليس لكم أولياء يخلصونكم من عذاب الله
ثم قال ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ والمراد لا تجدون من ينصركم من تلك الواقعة
واعلم أن الله تعالى حكم بأن من ركن إلى الظلمة لا بد وأن تمسه النار وإذا كان كذلك فكيف يكون حال الظالم في نفسه
وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذَاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما أمره بالاستقامة أردفه بالأمر بالصلاة وذلك يدل على أن أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى رأيت في بعض ( كتب القاضي أبي بكر الباقلاني ) أن الخوارج تمسكوا بهذه الآية في إثبات أن الواجب ليس إلا الفجر والعشاء من وجهين
الوجه الأول أنهما واقعان على طرفي النهار والله تعالى أوجب إقامة الصلاة طرفي النهار فوجب أن يكون هذا القدر كافياً
فإن قيل قوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ يوجب صلوات أخرى
قلنا لا نسلم فإن طرفي النهار موصوفان بكونهما زلفاً من الليل فإن ما لا يكون نهاراً يكون ليلاً غاية ما في الباب أن هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف إلا أن ذلك كثير في القرآن والشعر
الوجه الثاني أنه تعالى قال إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ وهذا يشعر بأن من صلى طرفي النهار كان إقامتهما كفارة لكل ذنب سواهما فبتقدير أن يقال إن سائر الصلوات واجبة إلا أن إقامتهما يجب أن تكون كفارة لترك سائر الصلوات واعلم أن هذا القول باطل بإجماع الأمة فلا يلتفت إليه
المسألة الثانية كثرت المذاهب في تفسير طرفي النهار والأقرب أن الصلاة التي تقام في طرفي النهار وهي الفجر والعصر وذلك لأن أحد طرفي النهار طلوع الشمس والطرف الثاني منه غروب الشمس فالطرف الأول هو صلاة الفجر والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب لأنها داخلة تحت قوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ فوجب حمل الطرف الثاني على صلاة العصر

إذا عرفت هذا كانت الآية دليلاً على قول أبي حنيفة رحمه الله في أن التنوير بالفجر أفضل وفي أن تأخير العصر أفضل وذلك لأن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب إقامة الصلاة في طرفي النهار وبينا أن طرفي النهار هما الزمان الأول لطلوع الشمس والزمان الثاني لغروبها وأجمعت الأمة على أن إقامة الصلاة في ذلك الوقت من غير ضرورة غير مشروعة فقد تعذر العمل بظاهر هذه الآية فوجب حمله على المجاز وهو أن يكون المراد أقم الصلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النهار لأن ما يقرب من الشيء يجوز أن يطلق عليه اسمه وإذا كان كذلك فكل وقت كان أقرب إلى طلوع الشمس وإلى غروبها كان أقرب إلى ظاهر اللفظ وإقامة صلاة الفجر عند التنوير أقرب إلى وقت الطلوع من إقامتها عند التغليس وكذلك إقامة صلاة العصر عندما يصير ظل كل شيء مثليه أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عندما يصير ظل كل شيء مثله والمجاز كلما كان أقرب إلى الحقيقة كان حمل اللفظ عليه أولى فثبت أن ظاهر هذه الآية يقوي قول أبي حنيفة في هاتين المسألتين
وأما قوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ فهو يقتضي الأمر بإقامة الصلاة في ثلاث زلف من الليل لأن أقل الجمع ثلاثة وللمغرب والعشاء وقتان فيجب الحكم بوجوب الوتر حتى يحصل زلف ثلاثة يجب إيقاع الصلاة فيها وإذا ثبت وجوب الوتر في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وجب في حق غيره لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ ( سبأ 20 ) ونظير هذه الآية بعينها قوله سبحانه وتعالى وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ( طه 30 ) فالذي هو قبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر والذي هو قبل غروبها هو صلاة العصر
ثم قال تعالى وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ فَسَبّحْ وهو نطير قوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ
المسألة الثالثة قال المفسرون نزلت هذه الآية في رجل أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ما تقولون في رجل أصاب من امرأة محرمة كلما يصيبه الرجل من امرأته غير الجماع فقال عليه الصلاة والسلام ( ليتوضأ وضوءاً حسناً ثم ليقم وليصل ) فأنزل الله تعالى هذه الآية فقيل للنبي عليه الصلاة والسلام هذا له خاصة فقال ( بل هو للناس عامة ) وقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ قال الليث زلفة من أول الليل طائفة والجمع الزلف قال الواحدي وأصل الكلمة من الزلفى والزلفى هي القربى يقال أزلفته فازدلف أي قربته فاقترب
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء زلفاً بضمتين و زلفاً بإسكان اللام وزلفى بوزن قربى فالزلف جمع زلفة كظلم جمع ظلمة والزلف بالسكون نحو بسرة وبسر والزلف بضمتين نحو يسر في يسر والزلفى بمعنى الزلفة كما أن القربى بمعنى القربة وهو ما يقرب من آخر النهار من نحو يسر في يسر والزلفى بمعنى الزلفة كما أن القربى بمعنى القربة وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل وقيل في تفسير قوله النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ وقرباً من الليل ثم قال إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الحسنات قولان الأول قال ابن عباس المعنى أن الصلوات الخمس كفارات لسائر الذنوب بشرط الاجتناب عن الكبائر والثاني روي عن مجاهد أن الحسنات هي قول العبد سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
المسألة الثانية احتج من قال إن المعصية لا تضر مع الإيمان بهذه الآية وذلك لأن الإيمان أشرف الحسنات وأجلها وأفضلها ودلت الآية على أن الحسنات يذهبن السيئات فالإيمان الذي هو أعلى الحسنات درجة يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان فلأن يقوى على المعصية التي هي أقل

السيئات درجة كان أولى فإن لم يفد إزالة العقاب بالكلية فلا أقل من أن يفيد إزالة العذاب الدائم المؤبد
ثم قال تعالى ذالِكَ ذِكْرَى لِلذكِرِينَ فقوله ذالِكَ إشارة إلى قوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ إلى آخرها ذِكْرَى لِلذكِرِينَ عظة للمتعظين وإرشاد للمسترشدين
ثم قال وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قيل على الصلاة وهو كقوله وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ( طه 132 )
فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّة ٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين أن الأمم المتقدمين حل بهم عذاب الاستئصال بين أن السبب فيه أمران
السبب الأول أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض فقال تعالى فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ والمعنى فهلا كان وحكي عن الخليل أنه قال كل ما كان في القرآن من كلمة لولا فمعناه هلا إلا التي في الصافات قال صاحب ( الكشاف ) وما صحت هذه الرواية عنه بدليل قوله تعالى في غير الصافات لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَة ٌ ن رَّبّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء ( القلم 49 ) لَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ ( الفتح 25 ) لَّوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ( الإسراء 74 ) وقوله أُوْلُواْ بَقِيَّة ٍ فالمعنى أولو فضل وخير وسمي الفضل والجود بقية لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار هذا اللفظ مثلاً في الجودة يقال فلان من بقية القيوم أي من خيارهم ومنه قولهم في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله تعالى وقرىء أُوْلُواْ بَقِيَّة ٍ بوزن لقية من بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره والبقية المرة من مصدره والمعنى فلولا كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله تعالى ثم قال إِلاَّ قَلِيلاً ولا يمكن جعله استثناء متصلاً لأنه على هذا التقدير يكون ذلك ترغيباً لأولي البقية في النهي عن الفساد إلا القليل من الناجين منهم كما تقول هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم تريد استثناء الصلحاء من المرغبين في قراءة القرآن وإذا ثبت هذا قلنا إنه استثناء منقطع والتقدير لكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهواعن الفساد وسائرهم تاركون للنهي
والسبب الثاني لنزول عذاب الاستئصال قوله وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ والترفه النعمة وصبي مترف إذا كان منعم البدن والمترف الذي أبطرته النعمة وسعة المعيشة وأراد بالذين ظلموا تاركي النهي عن المنكرات أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتبعوا طلب الشهوات واللذات واشتغلوا بتحصيل الرياسات وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ أي واتبعوا حراماً أترفوا فيه ثم قال وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ومعناه ظاهر

وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّة ً وَاحِدَة ً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَة ُ رَبِّكَ لاّمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
اعلم أنه تعالى بين أنه ما أهلك أهل القرى إلا بظلم وفيه وجوه
الوجه الأول أن المراد من الظلم ههنا الشرك قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) والمعنى أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم والحاصل أن عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين للشرك والكفر بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساؤا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم ولهذا قال الفقهاء إن حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة والمساهلة وحقوق العباد مبناها على الضيق والشح ويقال في الأثر الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم فمعنى الآية وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ أي لا يهلكهم بمجرد شركهم إذا كانوا مصلحين يعامل بعضهم بعضاً على الصلاح والسداد وهذا تأويل أهل السنة لهذه الآية قالوا والدليل عليه أن قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب إنما نزل عليهم عذاب الاستئصال لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق
والوجه الثاني في التأويل وهو الذي تختاره المعتزلة هو أنه تعالى لو أهلكهم حال كونهم مصلحين لما كان متعالياً عن الظلم فلا جرم لا يفعل ذلك بل إنما يهلكهم لأجل سوء أفعالهم
ثم قال تعالى وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّة ً وَاحِدَة ً والمعتزلة يحملون هذه الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار وقد سبق الكلام عليه
ثم قال تعالى وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ والمراد افتراق الناس في الأديان والأخلاق والأفعال
واعلم أنه لا سبيل إلى استقصاء مذاهب العالم في هذا الموضع ومن أراد ذلك فليطالع كتابنا الذي سميناه ( بالرياض المونقة ) إلا أنا نذكر ههنا تقسيماً جامعاً للمذاهب فنقول الناس فريقان منهم من أقر بالعلوم الحسية كعلمنا بأن النار حارة والشمس مضيئة والعلوم البديهية كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ومنهم من أنكرهما والمنكرون هم السفسطائية والمقرون هم الجمهور الأعظم من أهل

العالم وهم فريقان منهم من سلم أنه يمكن تركيب تلك العلوم البديهية بحيث يستنتج منها نتائج علمية نظرية ومنهم من أنكره وهم الذين ينكرون أيضاً النظر إلى العلوم وهم قليلون والأولون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم وهم فريقان منهم من لا يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلاً وهم الأقلون ومنهم من يثبت له مبدأ وهؤلاء فريقان منهم من يقول ذلك المبدأ موجب بالذات وهم جمهور الفلاسفة في هذا الزمان ومنهم من يقول إنه فاعل مختار وهم أكثر أهل العالم ثم هؤلاء فريقان منهم من يقول إنه ما أرسل رسولاً إلى العباد ومنهم من يقول إنه أرسل الرسول فالأولون هم البراهمة
والقسم الثاني أرباب الشرائع والأديان وهم المسلمون والنصارى واليهود والمجوس وفي كل واحد من هذه الطوائف اختلافات لا حدَّ لها ولا حصر والعقول مضطربة والمطالب غامضة ومنازعات الوهم والخيال غير منقطعة ولما حسن من بقراط أن يقول في صناعة الطب العمر قصير والصناعة طويلة والقضاء عسر والتجربة خطر فلأن يحسن ذكره في هذه المطالب العالية والمباحث الغامضة كان ذلك أولى
فإن قيل إنكم حملتم قوله تعالى وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ على الاختلاف في الأديان فما الدليل عليه ولم لا يجوز أن يحمل على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمال
قلنا الدليل عليه أن ما قبل هذه الآية هو قوله وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فيجب حمل هذا الاختلاف على ما يخرجهم من أن يكونوا أمة واحدة وما بعد هذه الآية هو قوله إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ فيجب حمل هذا الاختلاف على معنى يصح أن يستثنى منه قوله إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وذلك ليس إلا ما قلنا
ثم قال تعالى إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى وذلك لأن هذه الآية تدل على أن زوال الاختلاف في الدين لا يحصل إلا لمن خصه الله برحمته وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العذر فإن كل ذلك حاصل في حق الكفار فلم يبق إلا أن يقال تلك الرحمة هو أنه سبحانه خلق فيه تلك الهداية والمعرفة قال القاضي معناه إلا من رحم ربك بأن يصير من أهل الجنة والثواب فيرحمه الله بالثواب ويحتمل إلا من رحمة الله بألطافه فصار مؤمناً بألطافه وتسهيله وهذان الجوابان في غاية الضعف
أما الأول فلأن قوله وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ يفيد أن ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة فوجب أن تكون هذه الرحمة جارية مجرى السبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف والثواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف فالاختلاف جار مجرى المسبب له ومجرى المعلول فحمل هذه الرحمة على الثواب بعيد
وأما الثاني وهو حمل هذه الرحمة على الألطاف فنقول جميع الألطاف التي فعلها في حق المؤمن فهي مفعولة أيضاً في حق الكافر وهذه الرحمة أمر مختص به المؤمن فوجب أن يكون شيئاً زائداً على تلك الألطاف وأيضاً فحصول تلك الألطاف هل يوجب رجحان وجود الإيمان على عدمه أو لا يوجبه فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان فلم يك لطفاً فيه وإن أوجب الرجحان فقد بينا في ( الكتب العقلية ) أنه متى حصل الرجحان فقد وجب وحينئذ يكون حصول الإيمان

من الله ومما يدل على أن حصول الإيمان لا يكون إلا بخلق الله أنه ما لم يتميز الإيمان عن الكفر والعلم عن الجهل امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم وإنما يحصل هذا الامتياز إذا علم كون أحد هذين الاعتقادين مطابقاً للمعتقد وكون الآخر ليس كذلك وإنما يصح حصول هذا العلم أن لو عرف أن ذلك المعتقد في نفسه كيف يكون وهذا يوجب أنه لا يصح من العبد القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالماً وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محال فثبت أن زوال الاختلاف في الدين وحصول العلم والهداية لا يحصل إلا بخلق الله تعالى وهو المطلوب
ثم قال تعالى وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وفيه ثلاثة أقوال
القول الأول قال ابن عباس وللرحمة خلقهم وهذا اختيار جمهور المعتزلة قالوا ولا يجوز أن يقال وللاختلاف خلقهم ويدل عليه وجوه الأول أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى من عوده إلى أبعدهما وأقرب المذكورين ههنا هو الرحمة والاختلاف أبعدهما والثاني أنه تعالى لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك الإيمان لكان لا يجوز أن يعذبهم عليه إذ كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف الثالث إذا فسرنا الآية بهذا المعنى كان مطابقاً لقوله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 )
فإن قيل لو كان المراد وللرحمة خلقهم لقال ولتلك خلقهم ولم يقل ولذلك خلقهم
قلنا إن تأنيث الرحمة ليس تأنيثاً حقيقياً فكان محمولاً على الفضل والغفران كقوله هَاذَا رَحْمَة ٌ مّن رَّبّى ( الكهف 98 ) وقوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ( الأعراف 56 )
والقول الثاني أن المراد وللاختلاف خلقهم
والقول الثالث وهو المختار أنه خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا وأهل العذاب لأن يختلفوا وخلق الجنة وخلق لها أهلاً وخلق النار وخلق لها أهلاً والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه الأول الدلائل القاطعة الدالة على أن العلم والجهل لا يمكن حصولهما في العبد إلا بتخليق الله تعالى الثاني أن يقال إنه تعالى لما حكم على البعض بكونهم مختلفين وعلى الآخرين بأنهم من أهل الرحمة وعلم ذلك امتنع انقلاب ذلك وإلا لزم انقلاب العلم جهلاً وهو محال الثالث أنه تعالى قال بعده وَتَمَّتْ كَلِمَة ُ رَبّكَ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وهذا تصريح بأنه تعالى خلق أقواماً للهداية والجنة وأقواماً آخرين للضلالة والنار وذلك يقوي هذا التأويل
وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِى هَاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَة ٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ

اعلم أنه تعالى لما ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة
الفائدة الأولى تثبيت الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى وذلك لأن الإنسان إذا ابتلى بمحنة وبلية فإذا رأى له فيه مشاركاً خف ذلك على قلبه كما يقال المصيبة إذا عمت خفت فإذا سمع الرسول هذه القصص وعلم أن حال جميع الأنبياء صلوات الله عليهم مع أتباعهم هكذا سهل عليه تحمل الأذى من قومه وأمكنه الصبر عليه
والفائدة الثانية قوله وَجَاءكَ فِى هَاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَة ٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وفي قوله فِى هَاذِهِ وجوه أحدها في هذه السورة وثانيها في هذه الآية وثالثها في هذه الدنيا وهذا بعيد غير لائق بهذا الموضع
واعلم أنه لا يلزم من تخصيص هذ السورة بمجيء الحق فيها أن يكون حال سائر السور بخلاف ذلك لاحتمال أن يكون الحق المذكور في هذه السورة أكمل حالاً مما ذكر في سائر السور ولو لم يكن فيها إلا قوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ( هود 112 ) لكان الأمر كما ذكرنا ثم إنه تعالى بين أنه جاء في هذه السورة أمور ثلاثة الحق والموعظة والذكرى
أما الحق فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة
وأما الذكرى فهي إشارة إلى الإرشاد إلى الأعمال الباقية الصالحة
وأما الموعظة فهي إشارة إلى التنفير من الدنيا وتقبيح أحوالها في الدار الآخرة والمذكرة لما هنالك من السعادة والشقاوة وذلك لأن الروح إنما جاء من ذلك العالم إلا أنه لاستغراقه في محبة الجسد في هذا العالم نسي أحوال ذلك العالم فالكلام الإلهي يذكره أحوال ذلك العالم فلهذا السبب صح إطلاق لفظ الذكر عليه
ثم ههنا دقيقة أخرى عجيبة وهي أن المعارف الإلهية لا بد لها من قابل ومن موجب وقابلها هو القلب والقلب ما لم يكن كامل الاستعداد لقبول تلك المعارف الإلهية والتجليات القدسية لم يحصل الانتفاع بسماع الدلائل فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر إصلاح القلب وهو تثبيت الفؤاد ثم لما ذكر صلاح حال القابل أردفه بذكر الموجب وهو مجيء هذه السورة المشتملة على الحق والموعظة والذكرى وهذا الترتيب في غاية الشرف والجلالة
وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاٌّ مْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

اعلم أنه تعالى لما بلغ الغاية في الأعذار والإنذار والترغيب والترهيب أتبع ذلك بأن قال للرسول وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ولم تؤثر فيهم هذه البيانات البالغة اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وهذا عين ما حكاه الله تعالى عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه والمعنى افعلوا كل ما تقدرون عليه في حقي من الشر فنحن أيضاً عاملون وقوله اعْمَلُواْ وإن كانت صيغته صيغة الأمر إلا أن المراد منها التهديد كقوله تعالى لإبليس وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ( الإسراء 64 ) وكقوله فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( الكهف 29 ) وانتظروا ما يعدكم الشيطان من الخذلان فإنا منتظرون ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان قال ابن عباس رضي الله عنهما وَانْتَظِرُواْ الهلاك فإنا منتظرون لكم العذاب ثم إنه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشريفة المقدسة فقال وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
واعلم أن مجموع مايحتاج الإنسان إلى معرفته أمور ثلاثة وهي الماضي والحاضر والمستقبل أما الماضي فهو أن يعرف الموجود الذي كان موجوداً قبله وذلك الموجود المتقدم عليه هو الذي نقله من العدم إلى الوجود وذلك هو الإله تعالى وتقدس
واعلم أن حقيقة ذات الإله وكنه هويته غير معلومة للبشر ألبتة وإنما المعلوم للبشر صفاته ثم إن صفاته قسمان صفات الجلال وصفات الإكرام أما صفات الجلال فهي سلوب كقولنا إنه ليس بجوهر ولا جسم ولا كذا ولا كذا وهذه السلوب في الحقيقة ليست صفات الكمال لأن السلوب عدم والعدم المحض والنفي الصرف لا كمال فيه فقولنا لا تأخذه سنة ولا نوم إنما أفاد الكلام لدلالته على العلم المحيط الدائم المبرأ عن التغير ولولا ذلك كان عدم النوم ليس يدل على كمال أصلاً ألا ترى أن الميت والجماد لا تأخذه سنة ولا نوم وقوله وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ( الأنعام 14 ) إنما أفاد الجلال والكمال والكبرياء لأن قوله وَلاَ يُطْعَمُ يفيد كونه واجب الوجود لذاته غنياً عن الطعام والشراب بل عن كل ما سواه فثبت أن صفات الكمال والعز والعلو هي الصفات الثبوتية وأشرف الصفات الثبوتية الدالة على الكمال والجلال صفتان العلم والقدرة فلهذا السبب وصف الله تعالى ذاته في هذه الآية بهما في معرض التعظيم والثناء والمدح أما صفة العلم فقوله وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمراد أن علمه نافذ في جميع الكليات والجزئيات والمعدومات والموجودات والحاضرات والغائبات وتمام البيان والشرح في دلالة هذا اللفظ على نهاية الكمال ما ذكرناه في تفسير قوله سبحانه وتعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) وأما صفة القدرة فقوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاْمْرُ كُلُّهُ والمراد أن مرجع الكل إليه وإنما يكون كذلك لو كان مصدر الكل ومبدأ الكل هو هو والذي يكون مبدأ لجميع الممكنات وإليه يكون مرجع كل المحدثات والكائنات كان عظيم القدرة نافذ المشيئة قهاراً للعدم بالوجود والتحصيل جباراً له بالقوة والفعل والتكميل فهذان الوصفان هما المذكوران في شرح جلال المبدأ ونعت كبريائه
والمرتبة الثانية من المراتب التي يجب على الإنسان كونه عالماً بها أن يعرف ما هو مهم له في زمان حياته في الدنيا وما ذلك إلا تكميل النفس بالمعارف الروحانية والجلايا القدسية وهذه المرتبة لها بداية ونهاية أما بدايتها فالاشتغال بالعبادات الجسدانية والروحانية أما العبادات الجسدانية فأفضل الحركات

الصلاة وأكمل السكنات الصيام وأنفع البر الصدقة
وأما العبادة الروحانية فهي الفكر والتأمل في عجائب صنع الله تعالى في ملكوت السموات والأرض كما قال تعالى وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 191 ) وأما نهاية هذه المرتبة فالانتهاء من الأسباب إلى مسببها وقطع النظر عن كل الممكنات والمبدعات وتوجيه حدقة العقل إلى نور عالم الجلال واستغراق الروح في أضواء عالم الكبرياء ومن وصل إلى هذه الدرجة رأى كل ما سواه مهرولاً تائهاً في ساحة كبريائه هالكاً فانياً في فناء سناء أسمائه وحاصل الكلام أن أول درجات السير إلى الله تعالى هو عبودية الله وآخرها التوكل على الله فلهذا السبب قال فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ
والمرتبة الثالثة من المراتب المهمة لكل عامل معرفة المستقبل وهو أنه يعرف كيف يصير حاله بعد انقضاء هذه الحياة الجسمانية وهل لأعماله أثر في السعادة والشقاوة وإليه الإشارة بقوله تعالى وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ والمقصود أنه لا يضيع طاعات المطيعين ولا يهمل أحوال المتمردين الجاحدين وذلك بأن يحضروا في موقف القيامة ويحاسبوا على النقير والقطمير ويعاتبوا في الصغير والكبير ثم يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنة وفريق في السعير فظهر أن هذه الآية وافية بالإشارة إلى جميع المطالب العلوية والمقاصد القدسية وأنه ليس وراءها للعقول مرتقى ولا للخواطر منتهى والله الهادي للصواب تمت السورة بحمد الله وعونه وقد وجد بخط المصنف رضي الله عنه في النسخة المنتقل منها ثم تفسير هذه السورة قبل طلوع الصبح ليلة الاثنين من شهر رجب ختمه الله بالخير والبركة سنة إحدى وستمائة وقد كان لي ولد صالح حسن السيرة فتوفى في الغربة في عنفوان شبابه وكان قلبي كالمحترق لذلك السبب فأنا أنشد الله إخواني في الدين وشركائي في طلب اليقين وكل من نظر في هذا الكتاب وانتفع به أن يذكر ذلك الشاب بالرحمة والمغفرة وأن يذكر هذا المسكين بالدعاء وهو يقول رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ( آل عمران 8 ) وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة يوسف
مكية إلا الآيات 1 و 2 و 3 و 7 فمدنية
وآياتها 111 نزلت بعد سورة هود
ال ر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
وقد ذكرنا في أول سورة يونس تفسير الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( يونس 1 ) فقوله تِلْكَ إشارة إلى آيات هذه السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة المسماة الر هي الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا وهو القرآن وإنما وصف القررن بكونه مبيناً لوجوه الأول أن القرآن معجزة قاهرة وآية بينة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أنه بين فيه الهدى والرشد والحلال والحرام ولما بينت هذه الأشياء فيه كان الكتاب مبيناً لهذه الأشياء الثالث أنه بينت فيه قصص الأولين وشرحت فيه أحوال المتقدمين
ثم قال إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وفيه مسائل
المسألة الأولى روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن كيفية قصة يوسف فأنزل الله تعالى هذه الآية وذكر فيها أنه تعالى عبر عن هذه القصة بألفاظ عربية ليتمكنوا من فهمها ويقدروا على تحصيل المعرفة بها والتقدير إنا أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف في حال كونه قرآناً عربياً وسمى بعض القرآن قرآناً لأن القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض
المسألة الثانية احتج الجبائي بهذه الآية على كون القرآن مخلوقاً من ثلاثة أوجه الأول أن قوله إنا أنزلناه يدل عليه فإن القديم لا يجوز تنزيله وإنزاله وتحويله من حال إلى حال الثاني أنه تعالى وصفه بكونه عربياً والقديم لا يكون عربياً ولا فارسياً الثالث أنه لما قال إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا دل على أنه تعالى كان قادراً على أن ينزله لا عربياً وذلك يدل على حدوثه الرابع أن قوله تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ يدل

على أنه مركب من الآيات والكلمات وكل ما كان مركباً كان محدثاً
والجواب عن هذه الوجوه بأسرها أن نقول إنها تدل على أن المركب من الحروف والكلمات والألفاظ والعبارات محدث وذلك لا نزاع فيه إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر فسقط هذا الاستدلال
المسأل الثالثة احتج الجبائي بقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فقال كلمة ( لعل ) يجب حملها على الجزم والتقدير إنا أنزلناه قرآناً عربياً لتعقلوا معانيه في أمر الدين إذ لا يجوز أن يراد بلعلكم تعقلون الشك لأنه على الله محال فثبت أن المراد أنه أنزله لإرادة أن يعرفوا دلائله وذلك يدل على أنه تعالى أراد من كل العباد أن يعقلوا توحيده وأمر دينه من عرف منهم ومن لم يعرف بخلاف قول المجبرة
والجواب هب أن الأمر ما ذكرتم إلا أنه يدل على أنه تعالى أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفية هذه القصة ولكن لم قلتم إنها تدل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَاذَا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى روى سعيد بن جبير أنه تعالى لما أنزل القرآن على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان يتلوه على قومه فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فنزلت هذه السورة فتلاها عليهم فقالوا لو حدثتنا فنزل اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً ( الزمر 23 ) فقالوا لو ذكرتنا فنزل أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ( الحديد 16 )
المسألة الثانية القصص اتباع الخبر بعضه بعضاً وأصله في اللغة المتابعة قال تعالى وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ ( القصص 11 ) أي اتبعي أثره وقال تعالى فَارْتَدَّا عَلَى ءاثَارِهِمَا قَصَصًا ( الكهف 64 ) أي اتباعاً وإنما سميت الحكاية قصصاً لأن الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئاً فشيئاً كما يقال تلا القرآن إذا قرأه لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية والقصص في هذه الآية يحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الاقتصاص يقال قص الحديث يقصه قصاً وقصصاً إذا طرده وساقه كما يقال أرسله يرسله إرسالاً ويجوز أن يكون من باب تسمية المفعول بالمصدر كقولك هذا قدرة الله تعالى أي مقدوره وهذا الكتاب علم فلان أي معلومه وهذا رجاؤنا أي مرجونا فإن حملناه على المصدر كان المعنى نقص عليك أحسن الاقتصاص وعلى هذا التقدير فالحسن يعود إلى حسن البيان لا إلى القصة والمراد من هذا الحسن كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حد الإعجاز ألا ترى أن هذه القصة مذكورة في كتب التواريخ مع أن شيئاً منها لا يشابه هذه السورة في الفصاحة والبلاغة وإن حملناه على المفعول كان معنى كونه أحسن القصص لما فيه من العبر والنكت والحكم والعجائب التي ليست في غيرها فإن إحدى الفوائد التي في هذه القصة أنه لا دافع لقضاء

الله تعالى ولا مانع من قدر الله تعالى وأنه تعالى إذا قضى للإنسان بخير ومكرمة فلو أن أهل العالم اجتمعوا عليه لم يقدروا على دفعه
والفائدة الثانية دلالتها على أن الحسد سبب للخذلان والنقصان
والفائدة الثالثة أن الصبر مفتاح الفرج كما في حق يعقوب عليه السلام فإنه لما صبر فاز بمقصوده وكذلك في حق يوسف عليه السلام
فأما قوله بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَاذَا الْقُرْءانَ فالمعنى بوحينا إليك هذا القرآن وهذا التقدير إن جعلنا ( ما ) مع الفعل بمنزلة المصدر
ثم قال وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ يريد من قبل أن نوحي إليك لَمِنَ الْغَافِلِينَ عن قصة يوسف وإخوته لأنه عليه السلام إنما علم ذلك بالوحي ومنهم من قال المراد أنه كان من الغافلين عن الدين والشريعة قبل ذلك كما قال تعالى مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 )
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاًّبِيهِ ياأَبتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى تقدير الآية اذكر إِذْ قَالَ يُوسُفُ قال صاحب ( الكشاف ) الصحيح أنه اسم عبراني لأنه لو كان عربياً لانصرف لخلوه عن سبب آخر سوى التعريف وقرأ بعضهم يُوسُفَ بكسر السين وَيُوسُفَ بفتحها وأيضاً روى في يونس هذه اللغات الثلاث وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا قيل من الكريم فقولوا الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام )
المسألة الثانية قرأ ابن عامر يا أبت بفتح التاء في جميع القرآن والباقون بكسر التاء أما الفتح فوجهه أنه كان في الأصل يا أبتاه على سبيل الندبة فحذفت الألف والهاء وأما الكسر فأصله يا أبي فحذفت الياء واكتفى بالكسرة عنها ثم أدخل هاء الوقف فقال يا أبت ثم كثر استعماله حتى صار كأنه من نفس الكلمة فأدخلوا عليه الإضافة وهذا قول ثعلب وابن الأنباري
واعلم أن النحويين طولوا في هذه المسألة ومن أراد كلامهم فليطالع ( كتبهم )
المسألة الثالثة أن يوسف عليه السلام رأى في المنام أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر سجدت له وكان له أحد عشر نفراً من الأخوة ففسر الكواكب بالأخوة والشمس والقمر بالأب والأم والسجود بتواضعهم له ودخولهم تحت أمره وإنما حملنا قوله لاِبِيهِ ياأَبتِ إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا على الرؤيا لوجهين الأول أن الكواكب لا تسجد في الحقيقة فوجب حمل هذا الكلام على الرؤيا والثاني قول يعقوب عليه السلام لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ( يوسف 5 ) وفي الآية سؤالات

السؤال الأول قوله رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ فقوله سَاجِدِينَ لا يليق إلا بالعقلاء والكواكب جمادات فكيف جازت اللفظة المخصوصة بالعقلاء في حق الجمادات
قلنا إن جماعة من الفلاسفة الذين يزعمون أن الكواكب أحياء ناطقة احتجوا بهذه الآية وكذلك احتجوا بقوله تعالى وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) والجمع بالواو والنون مختص بالعقلاء وقال الواحدي إنه تعالى لما وصفها بالسجود صارت كأنها تعقل فأخبر عنها كما يخبر عمن يعقل كما قال في صفة الأصنام وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ( الأعراف 198 ) وكما في قوله نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النمل 18 )
السؤال الثاني قال إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثم أعاد لفظ الرؤيا مرة ثانية وقال رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ فما الفائدة في هذا التكرير
الجواب قال القفال رحمه الله ذكر الرؤية الأولى لتدل على أنه شاهد الكواكب والشمس والقمر والثانية لتدل على مشاهدة كونها ساجدة له وقال بعضهم إنه لما قال إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فكأنه قيل له كيف رأيت فقال رأيتهم لي ساجدين وقال آخرون يجوز أن يكون أحدهما من الرؤية والآخر من الرؤية وهذا القائل لم يبين أن أيهما يحمل على الرؤيا وأيهما الرؤيا فذكر قولاً مجملاً غير مبين
السؤال الثالث لم أخر الشمس والقمر
قلنا أخرهما لفضلهما على الكواكب لأن التخصيص بالذكر يدل على مزيد الشرف كما في قوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 )
السؤال الرابع المراد بالسجود نفس السجود أو التواضع كما في قوله
ترى الأكم فيه سجداً للحوافر
قلنا كلاهما محتمل والأصل في الكلام حمله على حقيقته ولا مانع أن يرى في المنام أن الشمس والقمر والكواكب سجدت له
السؤال الخامس متى رأى يوسف عليه السلام هذه الرؤيا
قلنا لا شك أنه رآها حال الصغر فأما ذلك الزمان بعينه فلا يعلم إلا بالأخبار قال وهب رأى يوسف عليه السلام وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى ابتلعتها فذكر ذلك لأبيه فقال إياك أن تذكر هذا لأخوتك ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال لا تذكرها لهم فيكيدوا لك كيداً وقيل كان بين رؤيا يوسف ومصير أخوته إليه أربعون سنة وقيل ثمانون سنة
واعلم أن الحكماء يقولون إن الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها عن قريب والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين قالوا والسبب في ذلك أن رحمة الله تقتضي أن لا يحصل الإعلام بوصول الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل وأما الإعلام بالخير فإنه يحصل متقدماً على ظهوره بزمان طويل حتى

تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حصول ذلك الخير أكثر وأتم
السؤال السادس قال بعضهم المراد من الشمس والقمر أبوه وخالته فما السبب فيه
قلنا إنما قالوا ذلك من حيث ورد في الخبر أن والدته توفيت وما دخلت عليه حال ما كان بمصر قالوا ولو كان المراد من الشمس والقمر أباه وأمه لما ماتت لأن رؤيا الأنبياء عليهم السلام لا بد وأن تكون وحياً وهذه الحجة غير قوية لأن يوسف عليه السلام ما كان في ذلك الوقت من الأنبياء
السؤال السابع وما تلك الكواكب
قلنا روى صاحب ( الكشاف ) أن يهودياً جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل جبريل عليه السلام وأخبره بذلك فقال عليه الصلاة والسلام لليهودي ( إن أخبرتك هل تسلم ) قال نعم قال ( جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين رآها يوسف والشمس والقمر نزلت من السماء وسجدت له ) فقال اليهودي أي والله إنها لأسماؤها
واعلم أن كثيراً من هذه الأسماء غير مذكور في الكتب المصنفة في صورة الكواكب والله أعلم بحقيقة الحال
قَالَ يابُنَى َّ لاَ تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاٌّ حَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حفص أَوْ بَنِى بفتح الياء والباقون بالكسر
المسألة الثانية أن يعقوب عليه السلام كان شديد الحب ليوسف وأخيه فحسده إخوته لهذا السبب وظهر ذلك المعنى ليعقوب عليه السلام بالأمارات الكثيرة فلما ذكر يوسف عليه السلام هذه الرؤيا وكان تأويلها أن إخوته وأبويه يخضعون له فقال لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأويلها فيكيدوا لك كيداً
المسألة الثالثة قال الواحدي الرؤيا مصدر كالبشرى والسقيا والشورى إلا أنه لما صار اسماً لهذا المتخيل في المنام جرى مجرى الأسماء قال صاحب ( الكشاف ) الرؤيا بمعنى الرؤية إلا أنها مختصة

بما كان منها في المنام دون اليقطة فلا جرم فرق بينهما بحرفي التأنيث كما قيل القربة والقربى وقرىء روياك بقلب الهمزة واواً وسمع الكسائي يقرأ رياك ورياك بالإدغام وضم الراء وكسرها وهي ضعيفة
ثم قال تعالى فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا وهو منصوب بإضمار أن والمعنى إن قصصتها عليهم كادوك
فإن قيل فلم لم يقل فيكيدوك كما قال فَكِيدُونِى ( هود 55 )
قلنا هذه اللام تأكيد للصلة كقوله لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ وكقولك نصحتك ونصحت لك وشكرتك وشكرت لك وقيل هي من صلة الكيد على معنى فيكيدوا كيداً لك قال أهل التحقيق وهذا يدل على أنه قد كان لهم علم بتعبير الرؤيا وإلا لم يعلموا من هذه الرؤيا ما يوجب حقداً وغضباً
ثم قال إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ والسبب في هذا الكلام أنهم لو أقدموا على الكيد لكان ذلك مضافاً إلى الشيطان ونظيره قول موسى عليه السلام هذا من عمل الشيطان ثم إن يعقوب عليه السلام قصد بهذه النصيحة تعبير تلك الرؤيا وذكروا أموراً أولها قوله وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ يعني وكما اجتباك بمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبر شأن كذلك يجتبيك لأمور عظام قال الزجاج الاجتباء مشتق من جبيت الشيء إذا خلصته لنفسك ومنه جبيت الماء في الحوض واختلفوا في المراد بهذا الاجتباء فقال الحسن يجتبيك ربك بالنبوة وقال آخرون المراد منه إعلاء الدرجة وتعظيم المرتبة فأما تعيين النبوة فلا دلالة في اللفظ عليه وثانيها قوله وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ وفيه وجوه الأول المراد منه تعبير الرؤيا سماه تأويلاً لأنه يؤل أمره إلى ما رآه في المنام يعني تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم قالوا إنه عليه السلام كان في علم التعبير غاية والثاني تأويل الأحاديث في كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدمين كما أن الواحد من علماء زماننا يشتغل بتفسير القرآن وتأويله وتأويل الأحاديث المروية عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والثالث الأحاديث جمع حديث والحديث هو الحادث وتأويلها مآلها ومآل الحوادث إلى قدرة الله تعالى وتكوينه وحكمته والمراد من تأويل الأحاديث كيفية الاستدلال بأصناف المخلوقات الروحانية والجسمانية على قدرة الله تعالى وحكمته وجلالته وثالثها قوله وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءالِ يَعْقُوبَ
واعلم أن من فسر الاجتباء بالنبوة لا يمكنه أن يفسر إتمام النعمة ههنا بالنبوة أيضاً وإلا لزم التكرار بل يفسر إتمام النعمة ههنا بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة أما سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والحشم وإجلاله في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد وأما سعادات الآخرة فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى وأما من فسر الاجتباء بنيل الدرجات العالية فههنا يفسر إتمام النعمة بالنبوة ويتأكيد هذا بأمور الأول أن إتمام النعمة عبارة عما به تصير النعمة تامة كاملة خالية عن جهات النقصان وما ذاك في حق البشر إلا بالنبوة فإن جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة ناقص بالنسبة إلى كمال النبوة فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوة والثاني قوله كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ ومعلوم أن النعمة التامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحق عن سائر البشر ليس إلا النبوة فوجب أن يكون المراد بإتمام النعمة هو النبوة

واعلم أنا لما فسرنا هذه الآية بالنبوة لزم الحكم بأن أولاد يعقوب كلهم كانوا أنبياء وذلك لأنه قال وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءالِ يَعْقُوبَ وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب فلما كان المراد من إتمام النعمة هو النبوة لزم حصولها لآل يعقوب ترك العمل به في حق من عدا أبناءه فوجب أن لا يبقى معمولاً به في حق أولاده وأيضاً أن يوسف عليه السلام قال إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وكان تأويله أحد عشر نفساً لهم فضل وكمال ويستضيء بعلمهم ودينهم أهل الأرض لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب وبها يهتدى وذلك يقتضي أن يكون جملة أولاد يعقوب أنبياء ورسلاً
فإن قيل كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه السلام
قلنا ذاك وقع قبل النبوة وعندنا العصمة إنما تعتبر في وقت النبوة لا قبلها
القول الثاني أن المراد من قوله وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ خلاصه من المحن ويكون وجه التشبيه في ذلك بإبراهيم وإسحق عليهما السلام هو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النار وعلى ابنه إسحق بتخليصه من الذبح
والقول الثالث أن إتمام النعمة هو وصل نعمة الله عليه في الدنيا بنعم الآخرة بأن جعلهم في الدنيا أنبياء وملوكاً ونقلهم عنها إلى الدرجات العلى في الجنة
واعلم أن القول الصحيح هو الأول لأن النعمة التامة في حق البشر ليست إلا النبوة وكل ما سواها فهي ناقصة بالنسبة إليها ثم إنه عليه السلام لما وعده بهذه الدرجات الثلاثة ختم الكلام بقوله إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فقوله عَلِيمٌ إشارة إلى قوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) وقوله حَكِيمٌ إشارة إلى أن الله تعالى مقدس عن السفه والعبث لا يضع النبوة إلا في نفس قدسية وجوهرة مشرقة علوية
فإن قيل هذه البشارات التي ذكرها يعقوب عليه السلام هل كان قاطعاً بصحتها أم لا فإن كان قاطعاً بصحتها فكيف حزن على يوسف عليه السلام وكيف جاز أن يشتبه عليه أن الذئب أكله وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه وكيف قال لإخوته وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون مع علمه بأن الله سبحانه سيجتبيه ويجعله رسولاً فأما إذا قلنا إنه عليه السلام ما كان عالماً بصحة هذه الأحوال فكيف قطع بها وكيف حكم بوقوعها حكماً جازماً من غير تردد
قلنا لا يبعد أن يكون قوله وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ مشروطاً بأن لا يكيدوه لأن ذكر ذلك قد تقدم وأيضاً فبتقدير أن يقال إنه عليه السلام كان قاطعاً بأن يوسف عليه السلام سيصل إلى هذه المناصب إلا أنه لا يمتنع أن يقع في المضايق الشديدة ثم يتخلص منها ويصل إلى تلك المناصب فكان خوفه لهذا السبب ويكون معنى قوله وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذّئْبُ ( يوسف 13 ) الزجر عن التهاون في حفظه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه
لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَاتٌ لِّلسَّآئِلِينَ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ

في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى ذكر صاحب ( الكشاف ) أسماء إخوة يوسف يهودا روبيل شمعون لاوي ربالون يشجر دينة دان نفتالي جاد آشر ثم قال السبعة الأولون من ليا بنت خالة يعقوب والأربعة الآخرون من سريتين زلفة وبلهة فلما توفيت ليا تزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف
المسألة الثانية قوله لّلسَّائِلِينَ إِذْ قرأ ابن كثير آية بغير ألف حمله على شأن يوسف والباقون ءايَاتُ على الجمع لأن أمور يوسف كانت كثيرة وكل واحد منها آية بنفسه
المسألة الثالثة ذكروا في تفسير قوله تعالى لّلسَّائِلِينَ إِذْ وجوهاً الأول قال ابن عباس دخل حبر من اليهود على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسمع منه قراءة يوسف فعاد إلى اليهود فأعلمهم أنه سمعها منه كما هي في التوراة فانطلق نفر منهم فسمعوا كما سمع فقالوا له من علمك هذه القصة فقال الله علمني فنزل لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَاتٌ لّلسَّائِلِينَ وهذا الوجه عندي بعيد لأن المفهوم من الآية أن في واقعة يوسف آيات للسائلين وعلى هذا الوجه الذي نقلناه ما كانت الآيات في قصة يوسف بل كانت الآيات في أخبار محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عنها من غير سبق تعلم ولا مطالعة وبين الكلامين فرق ظاهر والثاني أن أهل مكة أكثرهم كانوا أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام وكانوا ينكرون نبوته ويظهرون العداوة الشديدة معه بسبب الحسد فذكر الله تعالى هذه القصة وبين أن إخوة يوسف بالغوا في إيذائه لأجل الحسد وبالآخرة فإن الله تعالى نصره وقواه وجعلهم تحت يده ورايته ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل كانت زجراً له عن الإقدام على الحسد والثالث أن يعقوب لما عبر رؤيا يوسف وقع ذلك التعبير ودخل في الوجود بعد ثمانين سنة فكذلك أن الله تعالى لما وعد محمداً عليه الصلاة والسلام بالنصر والظفر على الأعداء فإذا تأخر ذلك الموعود مدة من الزمان لم يدل ذلك على كون محمد عليه الصلاة والسلام كاذباً فيه فذكر هذه القصة نافع من هذا الوجه الرابع أن إخوة يوسف بالغوا في إبطال أمره ولكن الله تعالى لما وعده بالنصر والظفر كان الأمر كما قدره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء فكذلك واقعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن الله لما ضمن له إعلاء الدرجة لم يضره سعي الكفار في إبطال أمره وأما قوله لّلسَّائِلِينَ فاعلم أن هذه القصة فيها آيات كثيرة لمن سأل عنها وهو كقوله تعالى فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ ( فصلت 10 )
ثم قال تعالى إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله لِيُوسُفَ اللام لام الابتداء وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر لا شبهة فيه وأخوه هو بنيامين وإنما قالوا أخوه وهم جميعاً إخوة لأن أمهما كانت واحدة والعصبة والعصابة العشرة فصاعداً وقيل إلى الأربعين سموا بذلك لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ونقل عن علي عليه السلام أنه قرأ وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ بالنصب قيل معناه ونحن نجتمع عصبة
المسألة الثانية المراد منه بيان السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف وذلك أن يعقوب كان يفضل

يوسف وأخاه على سائر الأولاد في الحب وأنهم تأذوا منه لوجوه الأول أنهم كانوا أكبر سناً منهما وثانيها أنهم كانوا أكثر قوة وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما وثالثها أنهم قالوا إنا نحن القائمون بدفع المفاسد والآفات والمشتغلون بتحصيل المنافع والخيرات إذا ثبت ما ذكرناه من كونهم متقدمين على يوسف وأخيه في هذه الفضائل ثم إنه عليه السلام كان يفضل يوسف وأخاه عليهم لا جرم قالوا إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ يعني هذا حيف ظاهر وضلال بين وههنا سؤالات
السؤال الأول إن من الأمور المعلومة أن تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد ويورث الآفات فلما كان يعقوب عليه السلام عالماً بذلك فلم أقدم على هذا التفضيل وأيضاً الأسن والأعلم والأنفع أفضل فلم قلب هذه القضية
والجواب أنه عليه السلام ما فضلهما على سائر الأولاد إلا في المحبة والمحبة ليست في وسع البشر فكان معذوراً فيه ولا يلحقه بسبب ذلك لوم
السؤال الثاني أن أولاد يعقوب عليه السلام إن كانوا قد آمنوا بكونه رسولاً حقاً من عند الله تعالى فكيف اعترضوا عليه وكيف زيفوا طريقته وطعنوا في فعله وإن كانوا مكذبين لنبوته فهذا يوجب كفرهم
والجواب أنهم كانوا مؤمنين بنبوة أبيهم مقرين بكونه رسولاً حقاً من عند الله تعالى إلا أنهم لعلهم جوزوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد الاجتهاد ثم إن اجتهادهم أدى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد وذلك لأنهم كانوا يقولون هما صبيان ما بلغا العقل الكامل ونحن متقدمون عليهما في السن والعقل والكفاية والمنفعة وكثرة الخدمة والقيام بالمهمات وإصراره على تقديم يوسف علينا يخالف هذا الدليل وأما يعقوب عليه السلام فلعله كان يقول زيادة المحبة ليست في الوسع والطاقة فليس لله علي فيه تكليف وأما تخصيصهما بمزيد البر فيحتمل أنه كان لوجوه أحدها أن أمهما ماتت وهما صغار وثانيها لأنه كان يرى فيه من آثار الرشد والنجابة ما لم يجد في سائر الأولاد وثالثها لعله عليه السلام وإن كان صغيراً إلا أنه كان يخدم أباه بأنواع من الخدم أشرف وأعلى بما كان يصدر عن سائر الأولاد والحاصل أن هذه المسألة كانت اجتهادية وكانت مخلوطة بميل النفس وموجبات الفطرة فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخر أو في عرضه
السؤال الثالث أنهم نسبوا أباهم إلى الضلال المبين وذلك مبالغة في الذم والطعن ومن بالغ في الطعن في الرسول كفر لا سيما إذا كان الطاعن ولداً فإن حق الأبوة يوجب مزيد التعظيم
والجواب المراد منه الضلال عن رعاية المصالح في الدنيا لا البعد عن طريق الرشد والصواب
السؤال الرابع أن قولهم لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا محض الحسد والحسد من أمهات الكبائر لا سيما وقد أقدموا على الكذب بسبب ذلك الحسد وعلى تضييع ذلك الأخ الصالح وإلقائه في ذل العبودية وتبعيده عن الأب المشفق وألقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم وأقدموا على الكذب فما بقيت خصلة مذمومة ولا طريقة في الشر والفساد إلا وقد أتوا بها وكل ذلك يقدح في العصمة والنبوة
والجواب الأمر كما ذكرتم إلا أن المعتبر عندنا عصمة الأنبياء عليهم السلام في وقت حصول النبوة وأما قبلها فذلك غير واجب والله أعلم

اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَة ِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَة ِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ
واعلم أنه لما قوي الحسد وبلغ النهاية قالوا لا بد من تبعيد يوسف عن أبيه وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين القتل أو التغريب إلى أرض يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه ولا وجه في الشر يبلغه الحاسد أعظم من ذلك ثم ذكروا العلة فيه وهي قولهم يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ والمعنى أن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه فإذا أفقده أقبل علينا بالميل والمحبة وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ وفيه وجوه الأول أنهم علموا أن ذلك الذي عزموا عليه من الكبائر فقالوا إذا فعلنا ذلك تبنا إلى الله ونصير من القوم الصالحين والثاني أنه ليس المقصود ههنا صلاح الدين بل المعنى يصلح شأنكم عند أبيكم ويصير أبوكم محباً لكم مشتغلاً بشأنكم الثالث المراد أنكم بسبب هذه الوحشة صرتم مشوشين لا تتفرغون لإصلاح مهم فإذا زالت هذه الوحشة تفرغتم لإصلاح مهماتكم واختلفوا في أن هذا القائل الذي أمر بالقتل من كان على قولين أحدهما أن بعض إخوته قال هذا والثاني أنهم شاوروا أجنبياً فأشار عليهم بقتله ولم يقل ذلك أحد من إخوته فأما من قال بالأول فقد اختلفوا فقال وهب إنه شمعون وقال مقاتل روبيل
فإن قيل كيف يليق هذا بهم وهم أنبياء
قلنا من الناس من أجاب عنه بأنهم كانوا في هذا الوقت مراهقين وما كانوا بالغين وهذا ضعيف لأنه يبعد من مثل نبي الله تعالى يعقوب عليه السلام أن يبعث جماعة من الصبيان من غير أن يكون معهم إنسان عاقل يمنعهم من القبائح وأيضاً أنهم قالوا وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ وهدا يدل على أنهم قبل التوبة لا يكونون صالحين وذلك ينافي كونهم من الصبيان ومنهم من أجاب بأن هذا من باب الصغائر وهذا أيضاً بعيد لأن إيذاء الأب الذي هو نبي معصوم والكذب معه والسعي في إهلاك الأخ الصغير كل واحد من ذلك من أمهات الكبائر بل الجواب الصحيح أن يقال إنهم ما كانوا أنبياء وإن كانوا أنبياء إلا أن هذه الواقعة إنما أقدموا عليها قبل النبوة
ثم إنه تعالى حكى أن قائلاً قال لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ قيل إنه كان روبيل وكان ابن خالة يوسف وكان أحسنهم رأياً فيه فمنعهم عن القتل وقيل يهودا وكان أقدمهم في الرأي والفضل والسن
ثم قال وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَة ِ الْجُبّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع فِى غَيَابَة ِ الْجُبّ على الجمع في الحرفين هذا والذي بعده والباقون غَيَابَة ِ على الواحد في الحرفين أما وجه الغيابات فهو أن للجب أقطاراً ونواحي فيكون فيها غيابات ومن وحد قال المقصود موضوع واحد من الجب يغيب فيه يوسف فالتوحيد أخص وأدل على المعنى

المطلوب وقرأ الجحدري فِى غَيَابَة ِ الْجُبّ
المسألة الثانية قال أهل اللغة الغيابة كل ما غيب شيئاً وستره فغيابة الجب غوره وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله والجب البئر التي ليست بمطوية سميت جباً لأنها قطعت قطعاً ولم يحصل فيها غير القطع من طي أو ما أشبه ذلك وإنما ذكرت الغيابة مع الجب دلالة على أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين فأفاد ذكر الغيابة هذا المعنى إذ كان يحتمل أن يلقى في موضع من الجب لا يحول بينه وبين الناظرين
المسألة الثالثة الألف واللام في الجب تقتضي المعهود السابق اختلفوا في ذلك الجب فقال قتادة هو بئر ببيت المقدس وقال وهب هو بأرض الأردن وقال مقاتل هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب وإنما عينوا ذلك الجب للعلة التي ذكروها وهي قولهم يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَة ِ وذلك لأن تلك البئر كانت معروفة وكانوا يردون عليها كثيراً وكان يعلم أنه إذا طرح فيها يكون إلى السلامة أقرب لأن السيارة إذا جازوا وردوها وإذا وردوها شاهدوا ذلك الإنسان فيها وإذا شاهدوه أخرجوه وذهبوا به فكان إلقاؤه فيها أبعد عن الهلاك
المسألة الرابعة الالتقاط تناول الشيء من الطريق ومنه اللقطة واللقيط وقرأ الحسن تلتقطه بالتاء على المعنى لأن بعض السيارة أيضاً سيارة والسيارة الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسفر قال ابن عباس يريد المارة وقوله السَّيَّارَة ِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ فيه إشارة إلى أن الأولى أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك وأما إن كان ولا بد فاقتصروا على هذا القدر ونظيره قوله تعالى وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ( النحل 126 ) يعني الأولى أن لا تفعلوا ذلك
قَالُواْ يَاأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
اعلم أن هذا الكلام يدل على أن يعقوب عليه السلام كان يخافهم على يوسف ولولا ذلك وإلا لما قالوا هذا القول
واعلم أنهم لما أحكموا العزم ذكروا هذا الكلام وأظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف وفي غاية الشفقة عليه وكانت عادتهم أن يغيبوا عنه مدة إلى الرعي فسألوه أن يرسله معهم وقد كان عليه السلام يحب تطييب قلب يوسف فاغتر بقولهم وأرسله معهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) لاَ تَأْمَنَّا قرىء بإظهار النونين وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام والمعنى لم تخافنا عليه ونحن نحبه ونريد الخير به

المسألة الثانية في يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ خمس قراآت
القراءة الأولى قرأ ابن كثير بالنون وبكسر عين نرتع من الارتعاء ويلعب بالياء والارتعاء افتعال من رعيت يقال رعت الماشية الكلأ ترعاه رعياً إذا أكلته وقوله نرتع الارتعاء للإبل والمواشي وقد أضافوه إلى أنفسهم لأن المعنى نرتع إبلنا ثم نسبوه إلى أنفسهم لأنهم هم السبب في ذلك الرعي والحاصل أنهم أضافوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم لأنهم بالغون كاملون وأضافوا اللعب إلى يوسف لصغره
القراءة الثانية قرأ نافع كلاهما بالياء وكسر العين من يرتع أضاف الارتعاء إلى يوسف بمعنى أنه يباشر رعي الإبل ليتدرب بذلك فمرة يرتع ومرة يلعب كفعل الصبيان
القراءة الثالثة قرأ أبو عمرو وابن عامر نرتع بالنون وجزم العين ومثله نلعب قال ابن الأعرابي الرتع الأكل بشره وقيل إنه الخصب وقيل المراد من اللعب الإقدام على المباحات وهذا يوصف به الإنسان وأما نلعب فروي أنه قيل لأبي عمرو كيف يقولون نلعب وهم أنبياء فقال لم يكونوا يومئذ أنبياء وأيضاً جاز أن يكون المراد من اللعب الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر كما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال لجابر ( فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك ) وأيضاً كان لعبهم الاستباق والغرض منه تعلم المحاربة والمقاتلة مع الكفار والدليل عليه قولهم إنا ذهبنا نستبق وإنما سموه لعباً لأنه في صورته
القراءة الرابعة قرأ أهل الكوفة كليهما بالياء وسكون العين ومعناه إسناد الرتع واللعب إلى يوسف عليه السلام
القراءة الخامسة غَداً يَرْتَعْ بالياء وَنَلْعَبُ بالنون وهذا بعيد لأنهم إنما سألوا إرسال يوسف معهم ليفرح هو باللعب لا ليفرحوا باللعب والله أعلم
قَالَ إِنِّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ إِنَّآ إِذَا لَّخَاسِرُونَ
اعلم أنهم لما طلبوا منه أن يرسل يوسف معهم اعتذر إليهم بشيئين أحدهما أن ذهابهم به ومفارقتهم إياه مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة والثاني خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم أو لعبهم لقلة اهتمامهم به قيل إنه رأى في النوم أن الذئب شد على يوسف فكان يحذره فمن هذا ذكر ذلك وكأنه لقنهم الحجة وفي أمثالهم البلاء موكل بالمنطق وقيل الذئاب كانت في أراضيهم كثيرة وقرىء الذّئْبُ بالهمز على الأصل وبالتفخيف وقيل اشتقاقه من تذاءبت الريح إذا أتت من كل جهة فلما ذكر يعقوب عليه السلام هذا الكلام أجابوا بقولهم لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ إِنَّا إِذَا لَّخَاسِرُونَ وفيه سؤالات
السؤال الأول ما فائدة اللام في قوله لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ

والجواب من وجهين الأول أن كلمة إن تفيد كون الشرط مستلزماً للجزاء أي إن وقعت هذه الواقعة فنحن خاسرون فهذه اللام دخلت لتأكيد هذا الاستلزام الثاني قال صاحب ( الكشاف ) هذه اللام تدل على إضمار القسم تقديره والله لئن أكله الذئب لكنا خاسرين
السؤال الثاني ما فائدة الواو في قوله وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ
الجواب أنها واو الحال حلفوا لئن حصل ما خافه من خطف الذئب أخاهم من بينهم وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب إنهم إذاً لقوم خاسرون
السؤال الثالث ما المراد من قولهم إِنَّا إِذَا لَّخَاسِرُونَ
الجواب فيه وجوه الأول خاسرون أي هالكون ضعفاً وعجزاً ونظيره قوله تعالى لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ( المؤمنون 34 ) أي لعاجزون الثاني أنهم يكونون مستحقين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار وأن يقال خسرهم الله تعالى ودمرهم حين أكل الذئب أخاهم وهم حاضرون الثالث المعنى أنا إن لم نقدر على حفظ أخينا فقد هلكت مواشينا وخسرناها الرابع أنهم كانوا قد أتعبوا أنفسهم في خدمة أبيهم واجتهدوا في القيام بمهماته وإنما تحملوا تلك المتاعب ليفوزوا منه بالدعاء والثناء فقالوا لو قصرنا في هذه الخدمة فقد أحبطنا كل تلك الأعمال وخسرنا كل ما صدر منا من أنواع الخدمة
السؤال الرابع أن يعقوب عليه السلام اعتذر بعذرين فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر
والجواب أن حقدهم وغيظهم كان بسبب العذر الأول وهو شدة حبه له فلما سمعوا ذكر ذلك المعنى تغافلوا عنه
فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَة ِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
اعلم أنه لا بد من الإضمار في هذه الآية في موضعين الأول أن تقدير الآية قالوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ إِنَّا إِذَا لَّخَاسِرُونَ فأذن له وأرسله معهم ثم يتصل به قوله فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ والثاني أنه لا بد لقوله فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَة ِ الْجُبّ من جواب إذ جواب لما غير مذكور وتقديره فجعلوه فيها وحذف الجواب في القرآن كثير بشرط أن يكون المذكور دليلاً عليه وههنا كذلك قال السدي إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة الشديدة وجعل هذا الأخ يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه ولا يرى فيهم رحيماً فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يقول يا يعقوب لو تعلم ما يصنع بابنك فقال يهودا أليس قد أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه فانطلقوا به إلى الجب يدلونه فيه وهو متعلق بشفير البئر فنزعوا قميصه وكان غرضهم أن يلطخوه بالدم ويعرضوه على يعقوب فقال لهم ردوا علي قميصي لأتوارى به فقالوا ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً لتؤنسك ثم دلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه ليموت

وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم آوى إلى صخرة فقام بها وهو يبكي فنادوه فظن أنه رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فقام يهودا فمنعهم وكان يهودا يأتيه بالطعام وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال يا شاهداً غير غائب ويا قريباً غير بعيد ويا غالباً غير مغلوب اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً وروي أن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار جرد عن ثيابه فجاءه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحق وإسحق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة وعلقها في عنق يوسف عليه السلام فجاء جبريل عليه السلام فأخرجه وألبسه إياه
ثم قال تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ قولان أحدهما أن المراد منه الوحي والنبوة والرسالة وهذا قول طائفة عظيمة من المحققين ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه عليه السلام هل كان في ذلك الوقت بالغاً أو كان صبياً قال بعضهم إنه كان في ذلك الوقت بالغاً وكان سنه سبع عشرة سنة وقال آخرون إنه كان صغيراً إلا أن الله تعالى أكمل عقله وجعله صالحاً لقبول الوحي والنبوة كما في حق عيسى عليه السلام
والقول الثاني إن المراد من هذا الوحي الإلهام كما في قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى ( القصص 7 ) وقوله وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ( النحل 68 ) والأول لأن الظاهر من الوحي ذلك
فإن قيل كيف يجعله نبياً في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة
قلنا لا يمتنع أن يشرفه بالوحي والتنزيل ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وتسكين نفسه وإزالة الغم والوحشة عن قلبه
المسألة الثانية في قوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ قولان الأول المراد أن الله تعالى أوحى إلى يوسف إنك لتخبرن إخوتك بصنيعهم بعد هذا اليوم وهم لا يشعرون في ذلك الوقت إنك يوسف والمقصود تقوية قلبه بأنه سيحصل له الخلاص عن هذه المحنة ويصير مستولياً عليهم ويصيرون تحت قهره وقدرته وروي أنهم حين دخلوا عليه لطلب الحنطة وعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فظن فقال إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف فطرحتموه في البئر وقلتم لأبيكم أكله الذئب والثاني أن المراد إنا أوحينا إلى يوسف عليه السلام في البئر بأنك تنبىء إخوتك بهذه الأعمال وهم ما كانوا يشعرون بنزول الوحي عليه والفائدة في إخفاء نزول ذلك الوحي عنهم أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله
المسألة الثالثة إذا حملنا قوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ على التفسير الأول كان هذا أمراً من الله تعالى نحو يوسف في أن يستر نفسه عن أبيه وأن لا يخبره بأحوال نفسه فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه طول تلك المدة مع علمه بوجد أبيه به خوفاً من مخالفة أمر الله تعالى وصبر على تجرع تلك المرارة فكان الله سبحانه وتعالى قد قضى على يعقوب عليه السلام أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليكثر رجوعه إلى الله تعالى وينقطع تعلق فكره عن الدنيا فيصل إلى درجة عالية في العبودية لا يمكن الوصول إليها إلا بتحمل المحن الشديدة والله أعلم

وَجَآءُو ا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ قَالُواْ يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
اعلم أنهم لما طرحوا يوسف في الجب رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء باكين ورواه ابن جني عشا بضم العين والقصر وقال عشوا من البكاء فعند ذلك فزع يعقوب وقال هل أصابكم في غنمكم شيء قالوا لا قال فما فعل يوسف قالوا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ فبكى وصاح وقال أين القميص فطرحه على وجهه حتى تخضب وجهه من دم القميص وروي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت فقال الشعبي يا أبا أمية ما تراها تبكي قال قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق واختلفوا في معنى الاستباق قال الزجاج يسابق بعضهم بعضاً في الرمي ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ( لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر ) يعني بالنصل الرمي وأصل السبق في الرمي بالسهم هو أن يرمي اثنان ليتبين أيهما يكون أسبق سهماً وأبعد غلوة ثم يوصف المتراميان بذلك فيقال استبقا وتسابقا إذا فعلا ذلك ليتبين أيهما أسبق سهماً ويدل على صحة هذا التفسير ما روي أن في قراءة عبدالله إِنَّا ذَهَبْنَا
والقول الثاني في تفسير الاستباق ما قاله السدي ومقاتل ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ نشتد ونعدو ليتبين أينا أسرع عدواً
فإن قيل كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون وهذا من فعل الصبيان
قلنا الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو ولأنه كالآلة لهم في محاربة العدو ومدافعة الذئب إذا اختلس الشاة وقوله فَأَكَلَهُ الذّئْبُ قيل أكل الذئب يوسف وقيل عرَّضوا وأرادوا أكل الذئب المتاع والوجه هو الأول
ثم قالوا وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى ليس المعنى أن يعقوب عليه السلام لا يصدق من يعلم أنه صادق بل المعنى لو كنا عندك من أهل الثقة والصدق لاتهمتنا في يوسف لشدة محبتك إياه ولظننت أنا قد كذبنا والحاصل أنا وإن كنا صادقين لكنك لا تصدقنا لأنك تتهمنا وقيل المعنى إنا وإن كنا صادقين فإنك لا تصدقنا لأنه لم تظهر عندك أمارة تدل على صدقنا

المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإيمان في أصل اللغة عبارة عن التصديق لأن المراد من قوله وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا أي بمصدق وإذا ثبت أن الأمر كذلك في أصل اللغة وجب أن يبقى في عرف الشرع كذلك وقد سبق الاستقصاء فيه في أول سورة البقرة في تفسير قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 )
ثم قال تعالى وَجَاءوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى إنما جاؤا بهذا القميص الملطخ بالدم ليوهم كونهم صادقين في مقالتهم قيل ذبحوا جدياً ولطخوا ذلك القميص بدمه قال القاضي ولعل غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في غيابة الجب أن يفعلوا هذا توكيداً لصدقهم لأنه يبعد أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان فلو خرقوه مع لطخه بالدم لكان الإيهام أقوى فلما شاهد يعقوب القميص صحيحاً علم كذبهم
المسألة الثانية قوله وَجَاءوا عَلَى قَمِيصِهِ أي وجاؤا فوق قميصه بدم كما يقال جاؤا على جمالهم بأحمال
المسألة الثالثة قال أصحاب العربية وهم الفراء والمبرد والزجاج وابن الأنباري بِدَمٍ كَذِبٍ أي مكذوب فيه إلا أنه وصف بالمصدر على تقدير دم ذي كذب ولكنه جعل نفسه كذباً للمبالغة قالوا والمفعول والفاعل يسميان بالمصدر كما يقال ماء سكب أي مسكوب ودرهم ضرب الأمير وثوب نسج اليمن والفاعل كقوله إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً ( الملك 30 ) ورجل عدل وصوم ونساء نوح ولما سميا بالمصدر سمي المصدر أيضاً بهما فقالوا للعقل المعقول وللجلد المجلود ومنه قوله تعالى بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ ( القلم 6 ) وقوله إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ( سبأ 7 ) قال الشعبي قصة يوسف كلها في قميصه وذلك لأنهم لما ألقوه في الجب نزعوا قميصه ولطخوه بالدم وعرضوه على أبيه ولما شهد الشاهد قال إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ ( يوسف 26 ) ولما أتي بقميصه إلى يعقوب عليه السلام فألقى على وجهه ارتد بصيراً ثم ذكر تعالى أن أخوة يوسف لما ذكروا ذلك الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم قال يعقوب عليه السلام بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا
قال ابن عباس معناه بل زينت لكم أنفسكم أمراً والتسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه قال الأزهري كأن التسويل تفعيل من سؤال الإنسان وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمز وقال صاحب ( الكشاف ) سَوَّلَتْ سهلت من السول وهو الاسترخاء
إذا عرفت هذا فنقول قوله بَلِ رد لقولهم أَكَلَهُ الذّئْبُ كأنه قال ليس كما تقولون بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ في شأنه أمْراً أي زينت لكم أنفسكم أمراً غير ما تصفون واختلفوا في السبب الذي به عرف كونهم كاذبين على وجوه لأول أنه عرف ذلك بسبب أنه كان يعرف الحسد الشديد في قلوبهم والثاني أنه كان عالماً بأنه حي لأنه عليه الصلاة والسلام قال ليوسف وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ( يوسف 6 )

وذلك دليل قاطع على أنهم كاذبون في ذلك
القول الثالث قال سعيد بن جبير لما جاؤا على قميصه بدم كذب وما كان متخرقاً قال كذبتم لو أكله الذئب لخرق قميصه وعن السدي أنه قال إن يعقوب عليه السلام قال إن هذا الذئب كان رحيماً فكيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه وقيل إنه عليه السلام لما قال ذلك قال بعضهم بل قتله اللصوص فقال كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منه إلى قتله فلما اختلفت أقوالهم عرف بسبب ذلك كذبهم ثم قال يعقوب عليه السلام فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى منهم من قال إنه مرفوع بالابتداء وخبره محذوف والتقدير فصبر جميل أولى من الجزع ومنهم من أضمر المبتدأ قال الخليل الذي أفعله صبر جميل وقال قطرب معناه فصبري صبر جميل وقال الفراء فهو صبر جميل
المسألة الثانية كان يعقوب عليه السلام قد سقط حاجباه وكان يرفعهما بخرقة فقيل له ما هذا فقال طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي وروي عن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك أنها قالت والله لئن حلفت لا تصدقوني وإن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ فأنزل الله عز وجل في عذرها ما أنزل
المسألة الثالثة عن الحسن أنه سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فقال ( صبر لا شكوى فيه فمن بث لم يصبر ) ويدل عليه من القرآن قوله تعالى إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ ( يوسف 86 ) وقال مجاهد فصبر جميل أي من غير جزع وقال الثوري من الصبر أن لا تحدث بوجعك ولا بمصيبتك ولا تزكي نفسك وههنا بحث وهو أن الصبر على قضاء الله تعالى واجب فأما الصبر على ظلم الظالمين ومكر الماكرين فغير واجب بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير وههنا أن إخوة يوسف لما ظهر كذبهم وخيانتهم فلم صبر يعقوب على ذلك ولم لم يبالغ في التفتيش والبحث سعياً منه في تخليص يوسف عليه السلام عن البلية والشدة إن كان في الأحياء وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه فثبت أن الصبر في المقام مذموم
ومما يقوي هذا السؤال أنه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بأنه حي سليم لأنه قال له وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ ( يوسف 6 ) والظاهر أنه إنما قال هذا الكلام من الوحي وإذا كان عالماً بأنه حي سليم فكان من الواجب أن يسعى في طلبه وأيضاً إن يعقوب عليه السلام كان رجلاً عظيم القدر في نفسه وكان من بيت عظيم شريف وأهل العلم كانوا يعرفونه ويعتقدون فيه ويعظمونه فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في أنه عليه السلام مع شدة رغبته في حضور يوسف عليه السلام ونهاية حبه له لم يطلبه مع أن طلبه كان من الواجبات فثبت أن هذا الصبر في هذا المقام مذموم عقلاً وشرعاً

والجواب عنه أن نقول لا جواب عنه إلا أن يقال إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديداً للمحنة عليه وتغليظاً للأمر عليه وأيضاً لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص وأنه لو بالغ في البحث فربما أقدموا على إيذائه وقتله وأيضاً لعله عليه السلام علم أن الله تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة ثم لم يرد هتك أستار سرائر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن انتقم فإنه يحترق قلبه على الولد الذي ينتقم منه فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر إلى الله تعالى بالكلية
المسألة الرابعة قوله تعالى فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يدل على أن الصبر على قسمين منه ما قد يكون جميلاً وما قد يكون غير جميل فالصبر الجميل هو أن يعرف أن منزل ذلك البلاء هو الله تعالى ثم يعلم أن الله سبحانه مالك الملك ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملك نفسه فيصير استغراق قلبه في هذا المقام مانعاً له من إظهار الشكاية
والوجه الثاني أنه يعلم أن منزل هذا البلاء حكيم لا يجهل وعالم لا يغفل عليم لا ينسى رحيم لا يطغى وإذا كان كذلك فكان كل ما صدر عنه حكمة وصواباً فعند ذلك يسكت ولا يعترض
والوجه الثالث أنه ينكشف له أن هذا البلاء من الحق فاستغراقه في شهود نور المبلى يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء ولذلك قيل المحبة التامة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء لأنها لو ازدادت بالوفاء لكان المحبوب هو النصيب والحظ وموصل النصيب لا يكون محبوباً بالذات بل بالعرض فهذا هو الصبر الجميل أما إذا كان الصبر لا لأجل الرضا بقضاء الحق سبحانه بل كان لسائر الأغراض فذلك الصبر لا يكون جميلاً والضابط في جميع الأفعال والأقوال والاعتقادات أن كل ما كان لطلب عبودية الله تعالى كان حسناً وإلا فلا وههنا يظهر صدق ما روي في الأثر ( استفت قلبك ولو أفتاك المفتون ) فليتأمل الرجل تأملاً شافياً أن الذي أتى به هل الحاصل والباعث عليه طلب العبودية أم لا فإن أهل العلم لو أفتونا بالشيء مع أنه لا يكون في نفسه كذلك لم يظهر منه نفع ألبتة ولما ذكر يعقوب قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قال وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ والمعنى أن إقدامه على الصبر لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا فكأنه وقعت المحاربة بين الصنفين فما لم تحصر إعانة الله تعالى لم تحصل الغلبة فقوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يجري مجرى قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ ( الفاتحة 5 ) وقوله وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ يجري مجرى قوله وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( الفاتحة 5 )
وَجَاءَتْ سَيَّارَة ٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يابُشْرَى هَاذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَة ً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَة ٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَاهِدِينَ

اعلم أنه تعالى بين كيف سهل السبيل في خلاص يوسف من تلك المحنة فقال وَجَاءتْ سَيَّارَة ٌ يعني رفقة تسير للسفر قال ابن عباس جاءت سيارة أي قوم يسيرون من مدين إلى مصر فأخطؤا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق فهبطوا على أرض فيها جب يوسف عليه السلام وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة وقيل كان ماؤه ملحاً فعذب حين ألقي فيه يوسف عليه السلام فأرسلوا رجلاً يقال له مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء والوارد الذي يرد الماء ليستقي القوم فَأَدْلَى دَلْوَهُ ونقل الواحدي عن عامة أهل اللغة أنه يقال أدلى دلوه إذا أرسلها في البئر ودلاها إذا نزعها من البئر يقال أدلى يدلي إدلاء إذا أرسل ودلا يدلو دلواً إذا جذب وأخرج والدلو معروف والجمع دلاء قَالَ يَاءادَمُ بُشْرى ً هَاذَا غُلاَمٌ وههنا محذوف والتقدير فظهر يوسف قال المفسرون لما أدلى الوارد دلوه وكان يوسف في ناحية من قعر البئر تعلق بالحبل فنظر الوارد إليه ورأى حسنه نادى فقال يا بشرى وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي بُشْرى ً بغير الألف وبسكون الياء والباقون يا بشراي بالألف وفتح الياء على الإضافة
المسألة الثانية في قوله الرّيَاحَ بُشْرى ً قولان
القول الأول أنها كلمة تذكر عند البشارة ونظيره قولهم يا عجباً من كذا وقوله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ وعلى هذا القول ففي تفسير النداء وجهان الأول قال الزجاج معنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب تنبيه المخاطبين وتوكيد القصة فإذا قلت يا عجباه فكأنك قلت اعجبوا الثاني قال أبو علي كأنه يقول يا أيتها البشرى هذا الوقت وقتك ولو كنت ممن يخاطب لخوطبت الآن ولأمرت بالحضور
واعلم أن سبب البشارة هو أنهم وجدوا غلاماً في غاية الحسن وقالوا نبيعه بثمن عظيم ويصير ذلك سبباً لحصول الغنى
والقول الثاني وهو الذي ذكره السدي أن الذي نادى صاحبه وكان اسمه فقال يا بشرى كما تقول يا زيد وعن الأعمش أنه قال دعا امرأة اسمها بشرى الرّيَاحَ بُشْرى ً قال أبو علي الفارسي إن جعلنا البشرى اسماً للبشارة وهو الوجه جاز أن يكون في محل الرفع كما قيل يا رجل لاختصاصه بالنداء وجاز أن يكون في موضع النصب على تقدير أنه جعل ذلك النداء شائعاً في جنس البشرى ولم يخص كما تقول يا رجلاً خَامِدُونَ ياحَسْرَة ً عَلَى الْعِبَادِ ( يس 30 )
وأما قوله تعالى وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَة ً ففيه مسألتان
المسألة الأولى الضمير في وَأَسَرُّوهُ إلى من يعود فيه قولان الأول أنه عائد إلى الوارد وأصحابه أخفوا من الرفقة أنهم وجدوه في الجب وذلك لأنهم قالوا إن قلنا للسيارة التقطناه شاركونا فيه وإن قلنا اشتريناه سألونا الشركة فالأصوب أن نقول إن أهل الماء جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر والثاني نقل عن ابن عباس أنه قال وَأَسَرُّوهُ يعني إخوة يوسف أسروا شأنه والمعنى أنهم أخفوا كونه

أخاً لهم بل قالوا إنه عبد لنا أبق منا وتابعهم على ذلك يوسف لأنهم توعدوه بالقتل بلسان العبرانية والأول أولى لأن قوله وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَة ً يدل على أن المراد أسروه حال ما حكموا بأنه بضاعة وذلك إنما يليق بالوارد لا بإخوة يوسف
المسألة الثانية البضاعة القطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت اللحم إذا قطعته قال الزجاج وبضاعة منصوبة على الحال كأنه قال وأسروه حال ما جعلوه بضاعة
ثم قال تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ والمراد منه أن يوسف عليه السلام لما رأى الكواكب والشمس والقمر في النوم سجدت له وذكر ذلك حسده إخوته عليه واحتالوا في إبطال ذلك الأمر عليه فأوقعوه في البلاء الشديد حتى لا يتيسر له ذلك المقصود وأنه تعالى جعل وقوعه في ذلك البلاء سبباً إلى وصوله إلى مصر ثم تمادت وقائعه وتتابع الأمر إلى أن صار ملك مصر وحصل ذلك الذي رآه في النوم فكان العمل الذي عمله الأعداء في دفعه عن ذلك المطلوب صيره الله تعالى سبباً لحصول ذلك المطلوب فلهذا المعنى قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
ثم قال تعالى وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَة ٍ أما قوله وَشَرَوْهُ ففيه قولان
القول الأول المراد من الشراء هو البيع وعلى هذا التقدير ففي ذلك البائع قولان
القول الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما إن إخوة يوسف لما طرحوا يوسف في الجب ورجعوا عادوا بعد ثلاث يتعرفون خبره فلما لم يروه في الجب ورأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا هذا عبدنا أبق منا فقالوا لهم فبيعوه منا فباعوه منهم والمراد من قوله وَشَرَوْهُ أي باعوه يقال شريت الشيء إذا بعته وإنما وجب حمل هذا الشراء على البيع لأن الضمير في قوله وَشَرَوْهُ وفي قوله وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهِدِينَ عائد إلى شيء واحد لكن الضمير في قوله وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهِدِينَ عائد إلى الإخوة فكذا في قوله وَشَرَوْهُ يجب أن يكون عائداً إلى الإخوة وإذا كان كذلك فهم باعوه فوجب حمل هذا الشراء على البيع
والقول الثاني أن بائع يوسف هم الذين استخرجوه من البئر وقال محمد بن إسحق ربك أعلم أإخوته باعوه أم السيارة وههنا قول آخر وهو أنه يحتمل أن يقال المراد من الشراء نفس الشراء والمعنى أن القوم اشتروه وكانوا فيه من الزاهدين لأنهم علموا بقائن الحال أن إخوة يوسف كذابون في قولهم إنه عبدنا وربما عرفوا أيضاً أنه ولد يعقوب فكرهوا شراءه خوفاً من الله تعالى ومن ظهور تلك الواقعة إلا أنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة لأنهم اشتروه بثمن قليل مع أنهم أظهروا من أنفسهم كونهم فيه من الزاهدين وغرضهم أن يتوصلوا بذلك إلى تقليل الثمن ويحتمل أيضاً أن يقال إن الأخوة لما قالوا إنه عبدنا أبق صار المشتري عديم الرغبة فيه قال مجاهد وكانوا يقولون استوثقوا منه لئلا يأبق
ثم اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاث
الصفة الأولى كونه بخساً قال ابن عباس يريد حراماً لأن ثمن الحر حرام وقال كل بخس في كتاب الله نقصان إلا هذا فإنه حرام قال الواحدي سموا الحرام بخساً لأنه ناقص البركة وقال قتادة بخس

ظلم والظلم نقصان يقال ظلمه أي نقصه وقال عكرمة والشعبي قليل وقيل ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً وقيل كانت الدراهم زيوفاً ناقصة العيار قال الواحدي رحمه الله تعالى وعلى الأقوال كلها فالبخس مصدر وضع موضع الاسم والمعنى بثمن مبخوس
الصفة الثانية قوله دَراهِمَ مَعْدُودَة ٍ قيل تعد عداً ولا توزن لأنهم كانوا لا يزنون إلا إذا بلغ أوقية وهي الأربعون ويعدون ما دونها فقيل للقليل معدود لأن الكثيرة يمتنع من عدها لكثرتها وعن ابن عباس كانت عشرين درهماً وعن السدي اثنين وعشرين درهماً قالوا والإخوة كانوا أحد عشر فكل واحد منهم أخذ درهمين إلا يهوذا لم يأخذ شيئاً
الصفة الثالثة قوله وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهِدِينَ ومعنى الزهد قلة الرغبة يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه وأصله القلة يقال رجل زهيد إذا كان قليل الطمع وفيه وجوه أحدها أن إخوة يوسف باعوه لأنهم كانوا فيه من الزاهدين والثاني أن السيارة الذين باعوه كانوا فيه من الزاهدين لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بأي شيء يبيعه أو لأنهم خافوا أن يظهر المستحق فينزعه من يدهم فلا جرم باعوه بأوكس الأثمان والثالث أن الذين اشتروه كانوا فيه من الزاهدين وقد سبق توجيه هذه الأقوال فيما تقدم والضمير في قوله فِيهِ يحتمل أن يكون عائد إلى يوسف عليه السلام ويحتمل أن يكون عائداً إلى الثمن البخس والله أعلم
وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأرض وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاٌّ حَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه إما من الإخوة أو من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر وباعه هناك وقيل إن الذي اشتراه قطفير أو إطفير وهو العزيز الذي كان يلي خزائن مصر والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف عليه السلام فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله الملك والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة وقيل كان الملك في أيامه فرعوه موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيّنَاتِ ( غافر 34 ) وقيل فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف وقيل اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وفيل أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه ما يساويه في الوزن من المسك والورق والحرير فابتاعه قطفير بذلك الثمن وقالوا اسم تلك المرأة زليخا وقيل راعيل

واعلم أن شيئاً من هذه الروايات لم يدل عليه القرآن ولم يثبت أيضاً في خبر صحيح وتفسير كتاب الله تعالى لا يتوقف على شيء من هذه الروايات فالأليق بالعاقل أن يحترز من ذكرها
المسألة الثانية قوله أَكْرِمِى مَثْوَاهُ ( يوسف 23 ) أي منزله ومقامه عندك من قولك ثويت بالمكان إذا أقمت به ومصدره الثواء والمعنى اجعلي منزله عندك كريماً حسناً مرضياً بدليل قوله إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاى َّ وقال المحققون أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه يدل على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال والتعظيم وهو كما يقال سلام الله على المجلس العالي ولما أمرها بإكرام مثواه علل ذلك بأن قال عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا أي يقوم بإصلاح مهماتنا أو نتخذه ولداً لأنه كان لا يولد له ولد وكان حصوراً
ثم قال تعالى وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ أي كما أنعمنا عليه بالسلامة من الجب مكناه بأن عطفنا عليه قلب العزيز حتى توصل بذلك إلى أن صار متمكناً من الأمر والنهي في أرض مصر
واعلم أن الكمالات الحقيقية ليست إلا القدرة والعلم وأنه سبحانه لما حاول إعلاء شأن يوسف ذكره بهذين الوصفين أما تكميله في صفة القدرة والمكنة فإليه الإشارة بقوله مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ وأما تكميله في صفة العلم فإليه الإشارة بقوله وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ وقد تقدم تفسير هذه الكلمة
واعلم أنا ذكرنا أنه عليه السلام لما ألقى في الجب قال تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا ( يوسف 15 ) وذلك يدل ظاهراً على أنه تعالى أوحى إليه في ذلك الوقت وعندنا الإرهاص جائز فلا يبعد أن يقال إن ذلك الوحي إليه في ذلك الوقت ما كان لأجل بعثته إلى الخلق بل لأجل تقوية قلبه وإزالة الحزن عن صدره ولأجل أن يستأنس بحضور جبريل عليه السلام ثم إنه تعالى قال ههنا وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ والمراد منه إرساله إلى الخلق بتبليغ التكاليف ودعوة الخلق إلى الدين الحق ويحتمل أيضاً أن يقال إن ذلك الوحي الأول كان لأجل الرسالة والنبوة ويحمل قوله وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ على أنه تعالى أوحى إليه بزيادات ودرجات يصير بها كل يوم أعلى حالاً مما كان قبله وقال ابن مسعود أشد النار فراسة ثلاثة العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا والمرأة لما رأت موسى فقالت إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَجِرْهُ ( القصص 26 ) وأبو بكر حين استخلف عمر
ثم قال تعالى وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وفيه وجهان الأول غالب على أمر نفسه لأنه فعال لما يريد لا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في أرضه وسمائه والثاني والله غالب على أمر يوسف يعني أن انتظام أموره كان إلهياً وما كان بسعيه وإخوته أرادوا به كل سوء ومكروه والله أراد به الخير فكان كما أراد الله تعالى ودبر ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الأمر كله بيد الله واعلم أن من تأمل في أحوال الدنيا وعجائب أحوالها عرف وتيقن أن الأمر كله لله وأن قضاء الله غالب
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى وجه النظم أن يقال بين تعالى أن إخوته لما أساؤا إليه ثم إنه صبر على تلك الشدائد والمحن مكنه الله تعالى في الاْرض ثم لما بلغ أشده آتاه الله الحكم والعلم والمقصود بيان أن جميع ما فاز به من النعم كان كالجزاء على صبره على تلك المحن ومن الناس من قال إن النبوة جزاء على الأعمال الحسنة ومنهم من قال إن من اجتهد وصبر على بلاء الله تعالى وشكر نعماء الله تعالى وجد منصب الرسالة واحتجوا على صحة قولهم بأنه تعالى لما ذكر صبر يوسف على تلك المحن ذكر أنه أعطاه النبوة والرسالة
ثم قال تعالى وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وهذا يدل على أن كل من أتى بالطاعات الحسنة التي أتى بها يوسف فإن الله يعطيه تلك المناصب وهذا بعيد لاتفاق العلماء على أن النبوة غير مكتسبة
واعلم أن من قال إن يوسف ما كان رسولاً ولا نبياً ألبتة وإنما كان عبداً أطاع الله تعالى فأحسن الله إليه وهذا القول باطل بالإجماع وقال الحسن إنه كان نبياً من الوقت الذي قال الله تعالى في حقه وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا ( يوسف 15 ) وما كان رسولاً ثم إنه صار رسولاً من هذا الوقت أعني قوله وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ( يوسف 22 ) ومنهم من قال إنه كان رسولاً من الوقت الذي ألقى في غيابة الجب
المسألة الثانية قال أبو عبيدة تقول العرب بلغ فلان أشده إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان وهذا اللفظ يستعمل في الواحد والجمع يقال بلغ أشده وبلغوا أشدهم وقد ذكرنا تفسير الأشد في سورة الأنعام عند قوله حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ( الأنعام 152 ) وأما التفسير فروى ابن جرير عن مجاهد عن ابن عباس ولما بلغ أشده قال ثلاثاً وثلاثين سنة وأقول هذه الرواية شديدة الانطباق على القوانين الطبية وذلك لأن الأطباء قالوا إن الإنسان يحدث في أول الأمر ويتزايد كل يوم شيئاً فشيئاً إلى أن ينتهي إلى غاية الكمال ثم يأخذ في التراجع والانتقاص إلى أن لا يبقى منه شيء فكانت حالته شبيهة بحال القمر فإنه يظهر هلالاً ضعيفاً ثم لا يزال يزداد إلى أن يصير بدراً تاماً ثم يتراجع إلى أن ينتهي إلى العدم والمحاق
إذا عرفت هذا فنقول مدة دور القمر ثمانية وعشرون يوماً وكسر فإذا جعلت هذه الدورة أربعة أقسام كان كل قسم منها سبعة أيام فلا جرم رتبوا أحوال الأبدان على الأسابيع فالإنسان إذا ولد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب إلى أن يتم له سبع سنين ثم إذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم والذكاء والقوة ثم لا يزال في الترقي إلى أن يتم له أربع عشرة سنة فإذا دخل في السنة الخامسة عشرة دخل في الأسبوع الثالث وهناك يكمل العقل ويبلغ إلى حد التكليف وتتحرك فيه الشهوة ثم لا يزال يرتقي على هذه الحالة إلى أن يتم السنة الحادية والعشرين وهناك يتم الأسبوع الثالث ويدخل في السنة الثانية والعشرين وهذا الأسبوع آخر أسابيع النشوء والنماء فإذا تمت السنة الثامنة والعشرون فقد تمت مدة النشوء والنماء وينتقل الإنسان منه إلى زمان الوقوف وهو الزمان الذي يبلغ الإنسان فيه أشده وبتمام هذا الأسبوع الخامس يحصل للإنسان خمسة وثلاثون سنة ثم إن هذه المراتب مختلفة في الزيادة والنقصان فهذا الأسبوع الخامس الذي هو أسبوع الشدة والكمال يبتدأ من السنة التاسعة والعشرين إلى الثالثة والثلاثين وقد يمتد إلى الخامسة والثلاثين فهذا هو الطريق المعقول في هذا الباب والله أعلم بحقائق الأشياء
المسألة الثالثة في تفسير الحكم والعلم وفيه أقوال

القول الأول أن الحكم والحكمة أصلهما حبس النفس عن هواها ومنعها مما يشينها فالمراد من الحكم الحكمة العملية والمراد من العلم الحكمة النظرية وإنما قدم الحكمة العملية هنا على العملية لأن أصحاب الرياضات يشتغلون بالحكمة العملية ثم يترقون منها إلى الحكمة النظرية وأما أصحاب الأفكار العقلية والأنظار الروحانية فإنهم يصلون إلى الحكمة النظرية أولاً ثم ينزلون منها إلى الحكمة العملية وطريقة يوسف عليه السلام هو الأول لأنه صبر على البلاء والمحنة ففتح الله عليه أبواب المكاشفات فلهذا السبب قال اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا
القول الثاني الحكم هو النبوة لأن النبي يكون حاكماً على الخلق والعلم علم الدين
والقول الثالث يحتمل أن يكون المراد من الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على نفسه الأمارة بالسوء مستعلية عليها قاهرة لها ومتى صارت القوة الشهوانية والغضبية مقهورة ضعيفة فاضت الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس وتحقيق القول في هذا الباب أن جوهر النفس الناطقة خلقت قابلة للمعارف الكلية والأنوار العقلية إلا أنه قد ثبت عندنا بحسب البراهين العقلية وبحسب المكاشفات العلوية أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة بالماهيات فمنها ذكية وبليدة ومنها حرة ونذلة ومنها شريفة وخسيسة ومنها عظيمة الميل إلى عالم الروحانيات وعظيمة الرغبة في الجسمانيات فهذه الأقسام كثيرة وكل واحد من هذه المقامات قابل للأشد والأضعف والأكمل والأنقص فإذا اتفق أن كان جوهر النفس الناطقة جوهراً مشرقاً شريفاً شديد الاستعداد لقبول الأضواء العقلية واللوائح الإلهية فهذه النفس في حال الصغر لا يظهر منها هذه الأحوال لأن النفس الناطقة إنما تقوى على أفعالها بواسطة استعمال الآلات الجسدانية وهذه الآلات في حال الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها فإذا كبر الإنسان واستولت الحرارة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت فصارت تلك الآلات البدنية صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية وإذا كانت النفس في أصل جوهرها شريفة فعند كمال الآلات البدنية تكمل معارفها وتقوى أنوارها ويعظم لمعان الأضواء فيها فقوله وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية وقوله اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا إشارة إلى استكمال النفس في قوتها العملية والنظرية والله أعلم
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاٌّ بْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاى َّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
اعلم أن يوسف عليه السلام كان في غاية الجمال والحسن فلما رأته المرأة طمعت فيه ويقال أيضاً إن زوجها كان عاجزاً يقال راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حاول كل واحد منها الوطء والجماع وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ والسبب أن ذلك العمل لا يؤتى به إلا في المواضع المستورة لا سيما إذا كان حراماً ومع قيام الخوف الشديد وقوله وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ أي أغلقتها قال الواحدي وأصل هذا من قولهم في كل شيء تشبث في شيء فلزمه قد غلق يقال غلق في الباطل وغلق في غضبه ومنه غلق الرهن

ثم يعدى بالألف فيقال أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه قال المفسرون وإنما جاء غلقت على التكثير لأنها غلقت سبعة أبواب ثم دعته إلى نفسها ثم قال تعالى وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي هيت لك اسم للفعل نحو رويداً وصه ومه ومعناه هلم في قول جميع أهل اللغة وقال الأخفش هَيْتَ لَكَ مفتوحة الهاء والتاء ويجوز أيضاً كسر التاء ورفعها قال الواحدي قال أبو الفضل المنذري أفادني ابن التبريزي عن أبي زيد قال هيت لك بالعبرانية هيالح أي تعال عربه القرآن وقال الفراء إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى بكة فتكلموا بها قال ابن الأنباري وهذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران كما اتفقت لغة العرب والروم في ( القسطاس ) ولغة العرب والفرس في السجيل ولغة العرب والترك في ( الغساق ) ولغة العرب والحبشة في ( ناشئة الليل )
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان هَيْتَ بكسر الهاء وفتح التاء وقرأ ابن كثير هَيْتَ لَكَ مثل حيث وقرأ هشام بن عمار عن أبي عامر أَحْلَلْنَا لَكَ بكسر الهاء وهمز الياء وضم التاء مثل جئت من تهيأت لك والباقون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء ثم إنه تعالى قال إن المرأة لما ذكرت هذا الكلام قال يوسف عليه السلام مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاى َّ فقوله مَعَاذَ اللَّهِ أي أعوذ بالله معاذاً والضمير في قوله أَنَّهُ للشأن والحديث رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاى َّ أي ربي وسيدي ومالكي أحسن مثواي حين قال لك أكرمي مثواه فلا يليق بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة القبيحة إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الذين يجازون الإحسان بالإساءة وقيل أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم أو لأن عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه وههنا سؤالات
السؤال الأول أن يوسف عليه السلام كان حراً وما كان عبداً لأحد فقوله إِنَّهُ رَبّى يكون كذباً وذلك ذنب وكبيرة
والجواب أنه عليه السلام أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر وعلى وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبداً له وأيضاً أنه رباه وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة فعنى بكونه رباً له كونه مربياً له وهذا من باب المعاريض الحسنة فإن أهل الظاهر يحملونه على كونه رباً له وهو كان يعني به أنه كان مربياً له ومنعماً عليه
السؤال الثاني هل يدل قول يوسف عليه السلام مَعَاذَ اللَّهِ على صحة مذهبنا في القضاء والقدر
والجواب أنه يدل عليه دلالة ظاهرة لأن قوله عليه السلام أعوذ بالله معاذاً طلب من الله أن يعيذه من ذلك العمل وتلك الإعاذة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل والآلة وإزاحة الأعذار وإزالة الموانع وفعل الألطاف لأن كل ما كان في مقدور الله تعالى من هذا الباب فقد فعله فيكون ذلك إما طلباً لتحصيل الحاصل أو طلباً لتحصيل الممتنع وأنه محال فعلمنا أن تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من الله تعالى لا معنى لها إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة وأن يزيل عن قلبه داعية المعصية وذلك هو المطلوب والدليل على أن المراد ما ذكرناه ما نقل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما وقع بصره على زينب قال ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) وكان المراد منه تقوية داعية الطاعة وإزالة داعية المعصية فكذا ههنا وكذا

قوله عليه السلام ( قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ) فالمراد من الأصبعين داعية الفعل وداعية الترك وهاتان الداعيتان لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى وإلا لافتقرت إلى داعية أخرى ولزم التسلسل فثبت أن قول يوسف عليه السلام مَعَاذَ اللَّهِ من أدل الدلائل على قولنا والله أعلم
السؤال الثالث ذكر يوسف عليه السلام في الجواب عن كلامها ثلاثة أشياء أحدها قوله مَعَاذَ اللَّهِ والثاني قوله تعالى عنه إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاى َّ والثالث قوله إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فما وجه تعلق بعض هذا الجواب ببعض
والجواب هذا الترتيب في غاية الحسن وذلك لأن الانقياد لأمر الله تعالى وتكليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه وألطافه في حق العبد فقوله مَعَاذَ اللَّهِ إشارة إلى أن حق الله تعالى يمنع عن هذا العمل وأيضاً حقوق الخلق واجبة الرعاية فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقي يقبح مقابلة إنعامه وإحسانه بالإساءة وأيضاً صون النفس عن الضرر واجب وهذه اللذة لذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا وعذاب شديد في الآخرة واللذة القليلة إذا لزمها ضرر شديد فالعقل يقتضي تركها والاحتزاز عنها فقوله إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ إشارة إليه فثبت أن هذه الجوابات الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه الترتيب
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّو ءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
اعلم أن هذه الآية من المهمات التي يجب الاعتناء بالبحث عنها وفي هذه الآية مسائل
المسألة الأولى في أنه عليه السلام هل صدر عنه ذنب أم لا وفي هذه المسألة قولان الأول أن يوسف عليه السلام هم بالفاحشة قال الواحدي في كتاب ( البسيط ) قال المفسرون الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم هم يوسف أيضاً بهذه المرأة هما صحيحاً وجلس منها مجلس الرجل من المرأة فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة عنه قال جعفر الصادق رضي الله عنه بإسناده عن علي عليه السلام أنه قال طمعت فيه وطمع فيها فكان طمعه فيها أنه هم أن يحل التكة وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن وعنه أيضاً أنها استلقت له وجلس بين رجليها ينزع ثيابه ثم إن الواحدي طول في كلمات عديمة الفائدة في هذا الباب وما ذكر آية يحتج بها ولا حديثاً صحيحاً يعول عليه في تصحيح هذه المقالة وما أمعن النظر في تلك الكلمات العارية عن الفائدة روي أن يوسف عليه السلام لما قال ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ( يوسف 52 ) قال له جبريل عليه السلام ولا حين هممت يا يوسف فقال يوسف عند ذلك وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى ( يوسف 53 ) ثم قال والذين أثبتوا هذا العمل ليوسف كانوا أعرف بحقوق الأنبياء عليهم السلام وارتفاع منازلهم عند الله تعالى من الذين نفوا لهم عنه فهذا خلاصة كلامه في هذا الباب

والقول الثاني أن يوسف عليه السلام كان بريئاً عن العمل الباطل والهم المحرم وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين وبه نقول وعنه نذب
واعلم أن الدلائل الدالة على وجوب عصمة الأنبياء عليهم السلام كثيرة ولقد استقصيناها في سورة البقرة في قصة آدم عليه السلام فلا نعيدها إلا أنا نزيد ههنا وجوهاً
فالحجة الأولى أن الزنا من منكرات الكبائر والخيانة في معرض الأمانة أيضاً من منكرات الذنوب وأيضاً مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموجبة للفضيحة التامة والعار الشديد أيضاً من منكرات الذنوب وأيضاً الصبي إذا تربى في حجر إنسان وبقي مكفي المؤنة مصون العرض من أول صباه إلى زمان شبابه وكما قوته فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المعظم من منكرات الأعمال
إذا ثبت هذا فنقول إن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام كانت موصوفة بجميع هذه الجهات الأربع ومثل هذه المعصية لو نسبت إلى أفسق خلق الله تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه فكيف يجوز إسنادها إلى الرسول عليه الصلاة والسلاما المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة ثم إنه تعالى قال في غير هذه الواقعة كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء ( يوسف 24 ) وذلك يدل على أن ماهية السوء والفحشاء مصروفة عنه ولا شك أن المعصية التي نسبوها إليه أعظم أنواع وأفحش أقسام الفحشاء فكيف يليق برب العالمين أن يشهد في عين هذه الواقعة بكونه بريئاً من السوء مع أنه كان قد أتى بأعظم أنواع السوء والفحشاء وأيضاً فالآية تدل على قولنا من وجه آخر وذلك لأنا نقول هب أن هذه الآية لا تدل على نفي هذه المعصية عنه إلا أنه لا شك أنها تفيد المدح العظيم والثناء البالغ فلا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكى عن إنسان إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم الدمائح والأثنية عقيب أن حكى عنه ذلك الذنب العظيم فإن مثاله ما إذا حكى السلطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب وأفحش الأعمال ثم إنه يذكره بالمدح العظيم والثناء البالغ عقيبه فإن ذلك يستنكر جداً فكذا ههنا والله أعلم الثالث أن الأنبياء عليهم السلام متى صدرت منهم زلة أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوها بإظهار الندامة والتوبة والتواضع ولو كان يوسف عليه السلام أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بالتوبة والاستغفار ولو أتى بالتوبة لحكى الله تعالى عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع وحيث لم يوجد شيء من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب ولا معصية الرابع أن كل من كان له تعلق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف عليه السلام من المعصية
واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة يوسف عليه السلام وتلك المرأة وزوجها والنسوة والشهود ورب العالمين شهد ببراءته عن الذنب وإبليس أقر ببراءته أيضاً عن المعصية وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ لم يبق للمسلم توقف في هذا الباب أما بيان أن يوسف عليه السلام ادعى البراءة عن الذنب فهو قوله عليه السلام هِى َ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى ( يوسف 26 ) وقوله عليه السلام رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَى َّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ ( يوسف 33 ) وأما بيان أن المرأة اعترفت بذلك فلأنها قالت للنسوة وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ( يوسف 32 ) وأيضاً قالت قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ ( يوسف 51 ) وأما بيان أن زوج المرأة أقر بذلك فهو قوله إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ ( يوسف 28 29 )

وأما الشهود فقوله تعالى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ( يوسف 26 ) وأما شهادة الله تعالى بذلك فقوله كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ( يوسف 24 ) فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات أولها قوله لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء واللام للتأكيد والمبالغة والثاني قوله وَالْفَحْشَاء أي كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء والثالث قوله إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا مع أنه تعالى قال وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ( الفرقان 63 ) والرابع قوله الْمُخْلَصِينَ وفيه قراءتان تارة باسم الفاعل وأخرى باسم المفعول فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتياً بالطاعات والقربات مع صفة الأخلاص ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه واصطفاه لحضرته وعلى كلا الوجهين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهاً عما أضافوه إليه وأما بيان أن إبليس أقر بطهارته فلأنه قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ( ص 82 83 ) فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى ( ص 82 83 ) فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ فكان هذا إقراراً من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريقة الهدى وعند هذا نقول هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة إن كانوا من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته ولعلهم يقولون كنا في أول الأمر تلامذة إبليس إلى أن تخرجنا عليه فزدنا عليه في السفاهة كما قال الخوارزمي فوكنت امرأ من جند إبليس فارتقى
بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده
طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
فثبت بهذه الدلائل أن يوسف عليه السلام برىء عما يقوله هؤلاء الجهال
وإذا عرفت هذا فنقول الكلام على ظاهر هذه الآية يقع في مقامين
المقام الأول أن نقول لا نسلم أن يوسف عليه السلام هم بها والدليل عليه أنه تعالى قال وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ وجواب لَوْلاَ ههنا مقدم وهو كما يقال قد كنت من الهالكين لولا أن فلاناً خلصك وطعن الزجاج في هذا الجواب من وجهين الأول أن تقديم جواب لَوْلاَ شاذ وغير موجود في الكلام الفصيح الثاني أن لَوْلاَ يجاب جوابها باللام فلو كان الأمر على ما ذكرتم لقال ولقد همت ولهم بها لولا وذكر غير الزجاج سؤالاً ثالثاً وهو أنه لو لم يوجد الهم لما كان لقوله لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ فائدة
واعلم أن ما ذكره الزجاج بعيد لأنا نسلم أن تأخير جواب لَوْلاَ حسن جائز إلا أن جوازه لا يمنع من جواز تقديم هذا الجواب وكيف ونقل عن سيبويه أنه قال إنهم يقدمون الأهم فالأهم والذي هم بشأنه أعنى فكان الأمر في جواز التقديم والتأخير مربوطاً بشدة الاهتمام وأما تعيين بعض الألفاظ بالمنع فذلك مما لا يليق بالحكمة وأيضاً ذكر جواب لَوْلاَ باللام جائز أما هذا لا يدل على أن ذكره بغير اللام لا يجوز ثم إنا نذكر آية أخرى تدل على فساد قول الزجاج في هذين السؤالين وهو قوله تعالى إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ( القصص 10 )

وأما السؤال الثالث وهو أنه لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ فائدة فنقول بل فيه أعظم الفوائد وهو بيان أن ترك الهم بها ما كان لعدم رغبته في النساء وعدم قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل ثم نقول إن الذي يدل على أن جواب لَوْلاَ ما ذكرناه أن لَوْلاَ تستدعي جواباً وهذا المذكور يصلح جواباً له فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال إنا نضمر له جواباً وترك الجواب كثير في القرآن لأنا نقول لا نزاع أنه كثير في القرآن إلا أن الأصل أن لا يكون محذوفاً وأيضاً فالجواب إنما يحسن تركه وحذفه إذا حصل في اللفظ ما يدل على تعينه وههنا بتقدير أن يكون الجواب محذوفاً فليس في اللفظ ما يدل على تعين ذلك الجواب فإن ههنا أنواعاً من الإضمارات يحسن إضمار كل واحد منها وليس إضمار بعضها أولى من إضمار الباقي فظهر الفرق والله أعلم
المقام الثاني في الكلام على هذه الآية أن نقول سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول إن قوله وَهَمَّ بِهَا لا يمكن حمله على ظاهره لأن تعليق الهم بذات المرأة محال لأن الهم من جنس القصد والقصد لا يتعلق بالذوات الباقية فثبت أنه لا بد من إضمار فعل مخصوص يجعل متعلق ذلك الهم وذلك الفعل غير مذكور فهم زعموا أن ذلك المضمر هو إيقاع الفاحشة بها ونحن نضمر شيئاً آخر يغاير ما ذكروه وبيانه من وجوه الأول المراد أنه عليه السلام هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح لأن الهم هو القصد فوجب أن يحمل في حق كل أحد على القصد الذي يليق به فاللائق بالمرأة القصد إلى تحصيل اللذة والتنعيم والتمتع واللائق بالرسول المبعوث إلى الخلق القصد إلى زجر العاصي عن معصيته وإلى الأمر بالمعروف النهي عن المنكر يقال هممت بفلان أي بضربه ودفعه
فإن قالوا فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ فائدة
قلنا بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين الأول أنه تعالى أعلم يوسف عليه السلام أنه لو هم بدفعها لقتلته أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله فأعلمه الله تعالى أن الامتناع من ضربها أولى صوناً للنفس عن الهلاك والثاني أنه عليه السلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به فكان يتمزق ثوبه من قدام وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن ولو كان ثوبه ممزقاً من خلف لكانت المرأة هي الخائنة فالله تعالى أعلمه بهذا المعنى فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هارباً عنها حتى صارت شهادة الشاهد حجة له على براءته عن المعصية
الوجه الثاني في الجواب أن يفسر الهم بالشهوة وهذا مستعمل في اللغة الشائعة يقول القائل فيما لا يشتهيه مايهمني هذا وفيما يشتهيه هذا أهم الأشياء إلي فسمى الله تعالى شهوة يوسف عليه السلام هماً فمعنى الآية ولقد اشتهته واشتهاها لولا أن رأى برهان ربه لدخل ذلك العمل في الوجود الثالث أن يفسر الهم بحديث النفس وذلك لأن المرأة الفائقة في الحسن والجمال إذا تزينت وتهيأت للرجل الشاب القوي فلا بد وأن يقع هناك بين الحكمة والشهوة الطبيعية وبين النفس والعقل مجاذبات ومنازعات فتارة تقوى داعية الطبيعة والشهوة وتارة تقوى داعية العقل والحكمة فالهم عبارة عن جواذب الطبيعة ورؤية البرهان عبارة عن جواذب العبودية ومثال ذلك أن الرجل الصالح الصائم في الصيف الصائف إذا رأى الجلاب المبرد بالثلج فإن طبيعته تحمله على شربه إلا أن دينه وهداه يمنعه منه فهذا لا يدل على حصول

الذنب بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبودية أكمل فقد ظهر بحمد الله تعالى صحة هذا القول الذي ذهبنا إليه ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرد التصلف وتعديد أسماء المفسرين ولو كان قد ذكر في تقرير ذلك القول شبهة لأجبنا عنها إلا أنه ما زاد على الرواية عن بعض المفسرين
واعلم أن بعض الحشوية روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما كذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ) فقلت الأولى أن لا نقبل مثل هذه الأخبار فقار على طريق الاستنكار فإن لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة فقلت له يا مسكين إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم عليه السلام وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ولا شك أن صون إبراهيم عليه السلام عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب
إذا عرفت هذا الأصل فنقول للواحدي ومن الذي يضمن لنا أن الذين نقلوا هذا القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين أم كاذبين والله أعلم
المسألة الثانية في أن المراد بذلك البرهان ما هو أما المحققون المثبون للعصمة فقد فسروا رؤية البرهان بوجوه الأول أنه حجة الله تعالى في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب والثاني أن الله تعالى طهر نفوس الأنبياء عليهم السلام عن الأخلاق الذميمة بل نقول إنه تعالى طهر نفوس المتصلين به عنها كما قال إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) فالمراد برؤية البرهان هو حصول تلك الأخلاق وتذكير الأحوال الرادعة لهم عن الإقدام على المنكرات والثالث أنه رأى مكتوباً في سقف البيت وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً وَسَاء سَبِيلاً ( الإسراء 32 ) والرابع أنه النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش والدليل عليه أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا لمنع الخلق عن القبائح والفضائح فلو أنهم منعوا الناس عنها ثم أقدموا على أقبح أنواعها وأفحش أقسامها لدخلوا تحت قوله تعالى الْحَكِيمُ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 2 3 ) وأيضاً أن الله تعالى عير اليهود بقوله أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 44 ) وما يكون عيباً في حق اليهود كيف ينسب إلى الرسول المؤيد بالمعجزات
وأما الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عليه السلام فقد ذكروا في تفسير ذلك البرهان أموراً الأول قالوا إن المرأة قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب فقال يوسف لم فعلت ذلك قالت أستحي من إلهي هذا أن يراني على معصية فقال يوسف أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت فوالله لا أفعل ذلك أبداً قالوا فهذا هو البرهان الثاني نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه تمثل له يعقوب فرآه عاضاً على أصابعه ويقول له أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء فاستحى منه قال وهو قول عكرمة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين قال سعيد بن جبير تمثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله والثالث قالوا إنه سمع في الهواء قائلاً يقول يا ابن يعقوب لا تكن كالطير يكون له ريش فإذا زنا ذهب ريشه والرابع نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لم ينزجر برؤية صورة يعقوب حتى ركضه جبريل عليه السلام فلم يبق فيه شيء من الشهوة إلا خرج ولما نقل الواحدي هذه الروايات تصلف وقال هذا الذي ذكرناه قول أئمة التفسير الذين أخذوا التأويل عمن شاهد

التنزيل فيقال له إنك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها فأين هذا من الحجة والدليل وأيضاً فإن ترادف الدلائل على الشيء الواحد جائز وأنه عليه الصلاة والسلام كان ممتنعاً عن الزنا بحسب الدلائل الأصلية فلما انضاف إليها هذه الزواجر قوي الانزجار وكمل الاحتراز والعجب أنهم نقلوا أن جرواً دخل حجرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبقي هناك بغير عمله قالوا فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول عليه أربعين يوماً وههنا زعموا أن يوسف عليه السلام حال اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل عليه السلام والعجب أنهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام ولو أن أفسق الخلق وأكفرهم كان مشتغلاً بفاحشة فإذا دخل عليه رجل على زي الصالحين استحيا منه وفر وترك ذلك العمل وههنا أنه رأى يعقوب عليه السلام عض على أنامله فلم يلتفت إليه ثم إن جبريل عليه السلام على جلالة قدره دخل عليه فلم يمتنع أيضاً عن ذلك القبيح بسبب حضوره حتى احتاج جبريل عليه السلام إلى أن يركضه على ظهره فنسأل الله أن يصوننا عن الغي في الدين والخذلان في طلب اليقين فهذا هو الكلام المخلص في هذه المسألة والله أعلم
المسألة الثالثة في الفرق بين السوء والفحشاء وفيه وجوه الأول أن السوء جناية اليد والفحشاء هو الزنا الثاني السوء مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بالشهوة والفحشاء هو الزنا أما قوله إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ أي الذين أخلصوا دينهم لله تعالى ومن فتح اللام أراد الذين خلصهم الله من الأسواء ويحتمل أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السلام الذي قال الله فيهم إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَة ٍ ( ص 46 )
المسألة الرابعة قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو الْمُخْلَصِينَ بكسر اللام في جميع القرآن والباقون بفتح اللام
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُو ءًا إِلاَ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِى َ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنها أنها هَمَّتْ أتبعه بكيفية طلبها وهربه فقال وَاسُتَبَقَا الْبَابَ والمراد أنه

هرب منها وحاول الخروج من الباب وعدت المرأة خلفه لتجذبه إلى نفسها والاستباق طلب السبق إلى الشيء ومعناه تبادر إلى الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه فإن سبق يوسف فتح الباب وخرج وإن سبقت المرأة أمسكت الباب لئلا يخرج وقوله وَاسُتَبَقَا الْبَابَ أي استبقا إلى الباب كقوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً ( الأعراف 155 ) أي من قومه
واعلم أن يوسف عليه السلام سبقها إلى الباب وأراد الخروج والمرأة تعدو خلقه فلم تصل إلا إلى دبر القميص فقدته أي قطعته طولاً وفي ذلك الوقت حضر زوجها وهو المراد من قوله وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ أي صادفا بعلها تقول المرأة لبعلها سيدي وإنما لم يقل سيدهما لأن يوسف عليه السلام ما كان مملوكاً لذلك الرجل في الحقيقة فعند ذلك خافت المرأة من التهمة فبادرت إلى أن رمت يوسف بالفعل القبيح وقالت مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ والمعنى ظاهر وفي الآية لطائف إحداها أن ( ما ) يحتمل أن تكون نافية أي ليس جزاؤه إلا السجن ويجوز أيضاً أن تكون استفهامية يعني أي شيء جزاؤه إلا أن يسجن كما تقول من في الدار إلا زيد وثانيها أن حبها الشديد ليوسف حملها على رعاية دقيقتين في هذا الموضع وذلك لأنها بدأت بذكر السجن وأخرت ذكر العذاب لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب وأيضاً أنها لم تذكر أن يوسف يجب أن يعامل بأحد هذين الأمرين بل ذكرت ذلك ذكراً كلياً صوناً للمحبوب عن الذكر بالسوء والألم وأيضاً قالت إِلا أَن يُسْجَنَ والمراد أن يسجن يوماً أو أقل على سبيل التخفيف
فأما الحبس الدائم فإنه لا يعبر بهذه العبارة بل يقال يجب أن يجعل من المسجونين ألا ترى أن فرعون هكذا قال حين تهدد موسى عليه السلام في قوله لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ( الشعراء 29 ) وثالثها أنها لما شاهدت من يوسف عليه السلام أنه استعصم منها أنه كان في عنفوان العمر وكمال القوة ونهاية الشهوة عظم اعتقادها في طهارته ونزاهته فاستحيت أن تقول إن يوسف عليه السلام قصدني بالسوء وما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب على سبيل التصريح بل اكتفت بهذا التعريض فانظر إلى تلك المرأة ما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب وأن هؤلاء الحشوية يرمونه بعد قريب من أربعة آلاف سنة بهذا الذنب القبيح ورابعها أن يوسف عليه السلام أراد يضربها ويدفعها عن نفسه وكان ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السوء فقولها مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ جارياً مجرى التعريض فلعلها بقلبها كانت تريد إقدامه على دفعها ومنعها وفي ظاهر الأمر كانت توهم أنه قصدني بما لا ينبغي
واعلم أن المرأة لما ذكرت هذا الكلام ولطخت عرض يوسف عليه السلام احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال هي راودتني عن نفسي وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر
واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق فالأول أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد والثاني أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدواً شديداً ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه والثالث أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه وأما يوسف عليه السلام فما كان

عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى الرابع أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر وذلك أيضاً مما يقوي الظن الخامس أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاماً مجملاً مبهماً وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهماً لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإن الخائن خائف السادس قيل إن زوج المرأة كان عاجزاً وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلاً آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله هي راودتني عن نفسي وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر
واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق فالأول أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد والثاني أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدواً شديداً ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه والثالث أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه وأما يوسف عليه السلام فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى الرابع أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر وذلك أيضاً مما يقوي الظن الخامس أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاماً مجملاً مبهماً وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهماً لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإن الخائن خائف السادس قيل إن زوج المرأة كان عاجزاً وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلاً آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر
واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق فالأول أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد والثاني أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدواً شديداً ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه والثالث أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه وأما يوسف عليه السلام فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى الرابع أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر وذلك أيضاً مما يقوي الظن الخامس أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاماً مجملاً مبهماً وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهماً لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإن الخائن خائف السادس قيل إن زوج المرأة كان عاجزاً وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلاً آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا وفي هذا الشاهد ثلاثة أقوال الأول أنه كان لها ابن عم وكان رجلاً حكيماً واتفق في ذلك الوقت أنه كان مع الملك يريد أن يدخل عليها فقال قد سمعنا الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنا لا ندري أيكما قدام صاحبه فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب وإن كان من خلفه فالرجل صادق وأنت كاذبة فلما نظروا إلى القميص ورأوا الشق من خلفه قال ابن عمها إِنَّهُ مِنَ كَيْدَكُمْ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ أي من عملكن ثم قال ليوسف أعرض عن هذا واكتمه وقال لها استغفري لذنبك وهذا قول طائفة عظيمة من المفسرين والثاني وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والضحاك إن ذلك الشاهد كان صبياً أنطقه الله تعالى في المهد فقال ابن عباس تكلم في المهد أربعة صغار شاهد يوسف وابن ماشطة بنت فرعون وعيسى بن مريم وصاحب جريج الراهب قال الجبائي والقول الأول أولى لوجوه الأول أنه تعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام لكان مجرد قوله إنها كاذبة كافياً وبرهاناً قاطعاً لأنه من البراهين القاطعة القاهرة والاستدلال بتمزيق القميص من قبل ومن دبر دليل ظني ضعيف والعدول عن الحجة القاطعة حال حضورها وحصولها إلى الدلالة الظنية لا يجوز الثاني أنه تعالى قال وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا وإنما قال من أهلها ليكون أولى بالقبول في حق المرأة لأن الظاهر من حال من يكون من أقرباء المرأة ومن أهلها أن لا يقصدها بالسوء والإضرار فالمقصود بذكر كون ذلك الرجل من أهلها تقوية قول ذلك الرجل وهذه الترجيحات إنما يصار إليها عند كون الدلالة ظنية ولو كان هذا القول صادراً عن الصبي الذي في المهد لكان قوله حجة قاطعة ولا يتفاوت الحال بين أن يكون من أهلها وبين أن لا يكون من أهلها وحينئذ لا يبقى لهذا القيد أثر والثالث أن لفظ الشاهد لا يقع في العرف إلا على من تقدمت له معرفة بالواقعة وإحاطة بها
والقول الثالث أن ذلك الشاهد هو القميص قال مجاهد الشاهد كون قميصه مشقوقاً من دبر وهذا في غاية الضعف لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل واعلم أن القول الأول عليه أيضاً إشكال وذلك لأن العلامة المذكورة لا تدل قطعاً على براءة يوسف عليه السلام عن المعصية لأن من المحتمل أن الرجل قصد المرأة لطلب الزنا فالمرأة غضبت عليه فهرب الرجل فعدت المرأة خلف الرجل وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً فعلى هذا الوجه يكون القميص متخرقاً من دبر مع أن المرأة تكون برية عن الذنب والرجل يكون مذنباً

وجوابه أنا بينا أن علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين فضموا إليها هذه العلامة الأخرى لا لأجل أن يعولوا في الحكم عليها بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقويات والمرجحات
ثم إنه تعالى أخبر وقال فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ وذلك يحتمل السيد الذي هو زوجها ويحتمل الشاهد فلذلك اختلفوا فيه قال إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ أي أن قولك ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً من كيدكن إن كيدكن عظيم
فإن قيل إنه تعالى لما خلق الإنسان ضعيفاً فكيف وصف كيد المرأة بالعظم وأيضاً فكيد الرجال قد يزيد على كيد النساء
والجواب عن الأول أن خلقة الإنسان بالنسبة إلى خلقة الملائكة والسموات والكواكب خلقة ضعيفة وكيد النسوات بالنسبة إلى كيد البشر عظيم ولا منافاة بين القولين وأيضاً فالنساء لهن في هذا الباب من المكر والحيل ما لا يكون للرجال ولأن كيدهن في هذا الباب يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال
واعلم أنه لما ظهر للقوم براءة يوسف عليه السلام عن ذلك الفعل المنكر حكى تعالى عنه أنه قال يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا فقيل إن هذا من قول العزيز وقيل إنه من قول الشاهد ومعناه أعرض عن ذكر هذه الواقعة حتى لا ينتشر خبرها ولا يحصل العار العظيم بسببها وكما أمر يوسف بكتمان هذه الواقعة أمر المرأة بالاستغفار فقال وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ وظاهر ذلك طلب المغفرة ويحتمل أن يكون المراد من الزوج ويكون معنى المغفرة العفو والصفح وعلى هذا التقدير فالأقرب أن قائل هذا القول هو الشاهد ويحتمل أن يكون المراد بالاستغفار من الله لأن أولئك الأقوام كانوا يثبتون الصانع إلا أنهم مع ذلك كانوا يعبدون الأوثان بدليل أن يوسف عليه السلام قال مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا ( يوسف 29 ) وعلى هذا التقدير فيجوز أن يكون القائل هو الزوج وقوله إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ نسبة لها إلى أنها كانت كثيرة الخطأ فيما تقدم وهذا أحد ما يدل على أن الزوج عرف في أول الأمر أن الذنب للمرأة لا ليوسف لأنه كان يعرف عنها إقدامها على ما لا ينبغي وقال أبو بكر الأصم إن ذلك لزوج كان قليل الغيرة فاكتفى منها بالاستغفار قال صاحب ( الكشاف ) وإنما قال من الخاطئين بلفظ التذكير تغليباً للذكور على الإناث ويحتمل أن يقال المراد إنك من نسل الخاطئين فمن ذلك النسل سرى هذا العرق الخبيث فيك والله أعلم
وَقَالَ نِسْوَة ٌ فِى الْمَدِينَة ِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَة ٍ مَّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ

وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لم لم يقل وَقَالَتِ نِسْوَة ٌ قلنا لوجهين الأول أن النسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي فلذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث الثاني قال الواحدي تقديم الفعل يدعو إلى إسقاط علامة التأنيث على قياس إسقاط علامة التثنية والجمع
المسألة الثانية قال الكلبي هن أربع امرأة ساقي العزيز وامرأة خبازه وامرأة صاحب سجنه وامرأة صاحب دوابه وزاد مقاتل وامرأة الحاجب والأشبه أن تلك الواقعة شاعت في البلد واشتهرت وتحدث بها النساء وامرأة العزيز هي هذه المرأة المعلومة تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ الفتى الحدث الشاب والفتاة الجارية الشابة قَدْ شَغَفَهَا حُبّا وفيه مسألتان
المسألة الأولى أن الشغاف فيه وجوه الأول أن الشغاف جلدة محيطة بالقلب يقال لها غلاف القلب يقال شغفت فلاناً إذا أصبت شغافه كما تقول كبدته أي أصبت كبده فقوله شَغَفَهَا حُبّا أي دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب والثاني أن حبه أحاط بقلبها مثل إحاطة الشغاف بالقلب ومعنى إحاطة ذلك الحب بقلبها هو أن اشتغالها بحبه صار حجاباً بينها وبين كل ما سوى هذه المحبة فلا تعقل سواه ولا يخطر ببالها إلا إياه والثالث قال الزجاج الشغاف حبة القلب وسويداء القلب والمعنى أنه وصل حبه إلى سويداء قلبها وبالجملة فهذا كناية عن الحب الشديد والعشق العظيم
المسألة الثانية قرأ جماعة من الصحابة والتابعين شعفها بالعين قال ابن السكيت يقال شعفه الهوى إذا بلغ إلى حد الاحتراق وشعف الهناء البعير إذا بلغ منه الألم إلى حد الاحتراق وكشف أبو عبيدة عن هذا المعنى فقال الشعف بالعين إحراق الحب القلب مع لذة يجدها كما أن البعير إذا هنىء بالقطران يبلغ منه مثل ذلك ثم يستروح إليه وقال ابن الأنباري الشعف رؤوس الجبال ومعنى شعف بفلان إذا ارتفع حبه إلى أعلى المواضع من قلبه
المسألة الثالثة قوله حبها نصب على التمييز
ثم قال حُبّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ أي في ضلال عن طريق الرشد بسبب حبها إياه كقوله إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ ( يوسف 8 )
ثم قال تعالى فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المراد من قوله فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أنها سمعت قولهن وإنما سمي قولهن مكراً لوجوه الأول أن النسوة إنما ذكرت ذلك الكلام استدعاء لرؤية يوسف عليه السلام والنظر إلى وجهه لأنهن عرفن أنهن إذا قلن ذلك عرضت يوسف عليهن ليتمهد عذرها عندهن الثاني أن امرأة العزيز أسرت إليهن حبها ليوسف وطلبت منهن كتمان هذا السر فلما أظهرن السر كان ذلك غدراً ومكراً الثالث أنهن وقعن في غيبتها والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفية فأشبهت المكر
المسألة الثانية أنها لما سمعت أنهن يلمنها على تلك المحبة المفرطة أرادت إبداء عذرها فاتخذت

مائدة ودعت جماعة من أكابرهن وأعتدت لهن متكأ وفي تفسيره وجوه الأول المتكأ النمرق الذي يتكأ عليه الثاني أن المتكأ هو الطعام قال العتبي والأصل فيه أن من دعوته ليطعم عندك فقد أعددت له وسادة تسمى الطعام متكأ على الاستعارة والثالث متكأ أترجاً وهو قول وهب وأنكر أبو عبيد ذلك ولكنه محمول على أنها وضعت عندهن أنواع الفاكهة في ذلك المجلس والرابع متكأ طعاماً يحتاج إلى أن يقطع بالسكين لأن الطعام متى كان كذلك احتاج الإنسان إلى أن يتكأ عليه عند القطع ثم نقول حاصل ذلك أنها دعت أولئك النسوة وأعدت لكل واحدة منهن مجلساً معيناً وآتت كل واحدة منهن سكيناً أي لأجل أكل الفاكهة أو لأجل قطع اللحم ثم إنها أمرت يوسف عليه السلام بأن يخرج إليهن ويعبر عليهن وأنه عليه السلام ما قدر على مخالتها خوفاً منها فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وههنا مسائل
المسألة الأولى في أَكْبَرْنَهُ قولان الأول أعظمنه والثاني أكبرن بمعنى حضن قال الأزهري والهاء للسكت يقال أكبرت المرأة إذا حاضت وحقيقته دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر إلى حد الكبر وفيه وجه آخر وهو أن المرأة إذا خافت وفزعت فربما أسقطت ولدها فحاضت فإن صح تفسير الإكبار بالحيض فالسبب فيه ما ذكرناه وقوله قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ كناية عن دهشتهن وحيرتهن والسبب في حسن هذه الكناية أنها لما دهشت فكانت تظن أنها تقطع الفاكهة وكانت تقطع يد نفسها أو يقال إنها لما دهشت صارت بحيث لا تميز نصابها من حديدها وكانت تأخذ الجانب الحاد من ذلك السكين بكفها فكان يحصل الجراحة في كفها
المسألة الثالثة اتفق الأكثرون على أنهن إنما أكبرنه بحسب الجمال الفائق والحسن الكامل قيل كان فضل يوسف على الناس في الفضل والحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( مررت بيوسف عليه السلام ليلة عرج بي إلى السماء فقلت لجبريل عليه السلام من هذا فقال هذا يوسف فقيل يا رسول الله كيف رأيته قال كالقمر ليلة البدر ) وقيل كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من السماء عليها وقيل كان يشبه آدم يوم خلقه ربه وهذا القول هو الذي اتفقوا عليه وعندي أنه يحتمل وجهاً آخر وهو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأين عليه نور النبوة وسيما الرسالة وآثار الخضوع والاحتشام وشاهدن منها مهابة النبوة وهيئة الملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح وعدم الاعتداد بهن وكان الجمال العظيم مقروناً بتلك الهيبة والهيئة فتعجبن من تلك الحالة فلا جرم أكبرنه وعظمنه ووقع الرعب والمهابة منه في قلوبهن وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه أولى
فإن قيل فإذا كان الأمر كذلك فكيف ينطبق على هذا التأويل قولها فَذالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وكيف تصير هذه الحالة عذراً لها في قوة العشق وإفراط المحبة
قلنا قد تقرر أن الممنوع متبوع فكأنها قالت لهن مع هذا الخلق العجيب وهذه السيرة الملكية الطاهرة المطهرة فحسنه يوجب الحب الشديد وسيرته الملكية توجب اليأس عن الوصول إليه فلهذا السبب وقعت في المحبة والحسرة والأرق والقلق وهذا الوجه في تأويل الآية أحسن والله أعلم
المسألة الثالثة قرأ أبو عمرو وَقُلْنَ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ بإثبات الألف بعد الشين وهي رواية الأصمعي عن نافع

وهي الأصل لأنها من المحاشاة وهي التنحية والتبعيد والباقون بحذف الألف للتخفيف وكثرة دورها على الألسن اتباعاً للمصحف ( وحاشا ) كلمة يفيد معنى التنزيه والمعنى ههنا تنزيه الله تعالى من المعجز حيث قدر على خلق جميل مثله أما قوله حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله
المسألة الرابعة قوله مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ فيه وجهان
الوجه الأول وهو المشهور أن المقصود منه إثبات الحسن العظيم له قالوا لأنه تعالى ركز في الطباع أن لا حي أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا حي أقبح من الشيطان ولذلك قال تعالى في صفة جهنم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشَّياطِينِ ( الصافات 65 ) وذلك لما ذكرنا أنه تقرر في الطباع أن أقبح الأشياء هو الشيطان فكذا ههنا تقرر في الطباع أن أحسن الأحياء هو الملك فلما أرادت النسوة المبالغة في وصف يوسف عليه السلام بالحسن لا جرم شبهنه بالملك
والوجه الثاني وهو الأقرب عندي أن المشهور عند الجمهور أن الملائكة مطهرون عن بواعث الشهوة وجواذب الغضب ونوازع الوهم والخيال فطعامهم توحيد الله تعالى وشرابهم الثناء على الله تعالى ثم إن النسوة لما رأين يوسف عليه السلام لم يلتفت إليهن ألبتة ورأين عليه هيبة النبوة وهيبة الرسالة وسيما الطهارة قلن إنا ما رأينا فيه أثراً من أثر الشهوة ولا شيئاً من البشرية ولا صفة من الإنسانية فهذا قد تطهر عن جميع الصفات المغروزة في البشر وقد ترقى عن حد الإنسانية ودخل في الملكية
فإن قالوا فإن كان المراد ما ذكرتم فكيف يتمهد عذر تلك المرأة عند النسوة فالجواب قد سبق والله أعلم
المسألة الخامسة القائلون بأن الملك أفضل من البشر احتجوا بهذه الآية فقالوا لا شك إنهن إنما ذكرت هذا الكلام في معرض تعظيم يوسف عليه السلام فوجب أن يكون إخراجه من البشرية وإدخاله في الملكية سبباً لتعظيم شأنه وإعلاء مرتبته وإنما يكون الأمر كذلك لو كان الملك أعلى حالاً من البشر ثم نقول لا يخلو إما أن يكون المقصود بيان كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الظاهر أو كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الباطن والأول باطل لوجهين الأول أنهم وصفوه بكونه كريماً وإنما يكون كريماً بسبب الأخلاق الباطنة لا بسبب الخلقة الظاهرة والثاني أنا نعلم بالضرورة أن وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكة ألبتة أما كونه بعيداً عن الشهوة والغضب معرضاً عن اللذات الجسمانية متوجهاً إلى عبودية الله تعالى مستغرق القلب والروح فيه فهو أمر مشترك فيه بين الإنسان الكامل وبين الملائكة
وإذا ثبت هذا فنقول تشبيه الإنسان بالملك في الأمر الذي حصلت المشابهة فيه على سبيل الحقيقة أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل المشابهة فيه ألبتة فثبت أن تشبيه يوسف عليه السلام بالملك في هذه الآية إنما وقع في الخلق الباطن لا في الصورة الظاهرة وثبت أنه متى كان الأمر كذلك وجب أن يكون الملك أعلى حالاً من الإنسان من هذه الفضائل فثبت أن الملك أفضل من البشر والله أعلم
المسألة السادسة لغة أهل الحجاز إعمال ( ما ) عمل ليس وبها ورد قوله مَا هَاذَا بَشَرًا ومنها قوله مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ( المجادلة 2 )

ومن قرأ على لغة بني تميم قرأ مَا هَاذَا بَشَرًا وهي قراءة ابن مسعود وقرىء مَا هَاذَا بَشَرًا أي ما هو بعبد مملوك للبشر إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ثم نقول ما هذا بشراً أي حاصل بشراً بمعنى هذا مشترى وتقول هذا لك بشراً أم بكراً والقراءة المعتبرة هي الأولى لموافقتها المصحف ولمقابلة البشر للملك
قَالَتْ فَذالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّاغِرِينَ
اعلم أن النسوة لما قلن في امرأة العزيز قد شغفها حباً إنا لنراها في ضلال مبين عظم ذلك عليها فجمعتهن فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فعند ذلك ذكرت أنهن باللوم أحق لأنهن بنظرة واحدة لحقهن أعظم مما نالها مع أنه طال مكثه عندها
فإن قيل فلم قالت فَذالِكُنَّ مع أن يوسف عليه السلام كان حاضراً
والجواب عنه من وجوه الأول قال ابن الأنباري أشارت بصيغة ذلكن إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس والثاني وهو الذي ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أحسن ما قيل إن النسوة كن يقلن إنها عشقت عبدها الكنعاني فلما رأينه ووقعن في تلك الدهشة قالت هذا الذي رأيتموه هو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني فيه يعني أنكن لم تتصورنه حق تصوره ولو حصلت في خيالكن صورته لتركتن هذه الملامة
واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة في شدة محبتها له كشفت عن حقيقة الحال فقالت وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ
واعلم أن هذا تصريح بأنه عليه السلام كان بريئاً عن تلك التهمة وعن السدي أنه قال فَاسَتَعْصَمَ بعد حل السراويل وما الذي يحمله على إلحاق هذه الزيادة الفاسدة الباطلة بنص الكتاب
ثم قال وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصَّاغِرِينَ والمراد أن يوسف عليه السلام إن لم يوافقها على مرادها يوقع في السجن وفي الصغار ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس عظيم الخطر مثل يوسف عليه السلام وقوله وَلَيَكُونًا كان حمزة والكسائي يقفان على وَلَيَكُونًا بالألف وكذلك قوله لَنَسْفَعاً ( العلق 15 ) والله أعلم
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَى َّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

واعلم أن المرأة لما قالت وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصَّاغِرِينَ ( يوسف 32 ) وسائر النسوة سمعن هذا التهديد فالظاهر أنهن اجتمعن على يوسف عليه السلام وقلن لا مصلحة لك في مخالفة أمرها وإلا وقعت في السجن وفي الصغار فعند ذلك اجتمع في حق يوسف عليه السلام أنواع من الوسوسة أحدها أن زليخا كانت في غاية الحسن والثاني أنها كانت ذات مال وثروة وكانت على عزم أن تبذل الكل ليوسف بتقدير أن يساعدها على مطلوبها والثالث أن النسوة اجتمعن عليه وكل واحدة منهن كانت ترغبه وتخوفه بطريق آخر ومكر النساء في هذا الباب شديد والرابع أنه عليه السلام كان خائفاً من شرها وإقدامها على قتله وإهلاكه فاجتمع في حق يوسف جميع جهات الترغيب على موافقتها وجميع جهات التخويف على مخالفتها فخاف عليه السلام أن تؤثر هذه الأسباب القوية الكثيرة فيه
واعلم أن القوة البشرية والطاقة الإنسانية لا تفي بحصول هذه العصمة القوية فعند هذا التجأ إلى الله تعالى وقال رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَى َّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وقرىء السّجْنِ بالفتح على المصدر وفيه سؤالان
السؤال الأول السجن في غاية المكروهية وما دعونه إليه في غاية المطلوبية فكيف قال المشقة أحب إلي من اللذة
والجواب أن تلك اللذة كانت تستعقب آلاماً عظيمة وهي الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة وذلك المكروه وهو اختيار السجن كان يستعقب سعادات عظيمة وهي المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة فلهذا السبب قال السّجْنُ أَحَبُّ إِلَى َّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ
السؤال الثاني أن حبسهم له معصية كما أن الزنا معصية فكيف يجوز أن يحب السجن مع أنه معصية
والجواب تقدير الكلام أنه إذا كان لا بد من التزام أحد الأمرين أعني الزنا والسجن فهذا أولى لأنه متى وجب التزام أحد شيئين كل واحد منهما شر فأخفهما أولاهما بالتحمل
ثم قال وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ أصب إليهن أمل إليهن يقال صبا إلى اللهو يصبو صبواً إذا مال واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإنسان لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى عنها قالوا لأن هذه الآية تدل على أنه تعالى إن لم يصرفه عن ذلك القبيح وقع فيه وتقريره أن القدرة والداعي إلى الفعل والترك إن استويا امتنع الفعل لأن الفعل رجحان لأحد الطرفين ومرجوحية للطرف الآخر وحصولهما حال استواء الطرفين جمع بين النقيضين وهو محال وإن حصل الرجحان في أحد الطرفين فذلك الرجحان ليس من العبد وإلا لذهبت المراتب إلى غير النهاية بل هو من الله تعالى فالصرف عبارة عن جعله مرجوحاً لأنه متى صار مرجوحاً صار ممتنع الوقوع لأن الوقوع رجحان فلو وقع حال المرجوحية لحصل الرجحان حال حصول المرجوحية وهو يقتضي حصول الجمع بين النقيضين وهو محال

فثبت بهذا أن انصراف العبد عن القبيح ليس إلا من الله تعالى ويمكن تقرير هذا الكلام من وجه آخر وهو أنه كان قد حصل في حق يوسف عليه السلام جميع الأسباب المرغبة في تلك المعصية وهو الانتفاع بالمال والجاه والتمتع بالمنكوح والمطعوم وحصل في الإعراض عنها جميع الأسباب المنفرة ومتى كان الأمر كذلك فقد قويت الدواعي في الفعل وضعفت الدواعي في الترك فطلب من الله سبحانه وتعالى أن يحدث في قلبه أنواعاً من الدواعي المعارضة النافية لدواعي المعصية إذ لو لم يحصل هذا المعارض لحصل المرجح للوقوع في المعصية خالياً عما يعارضه وذلك يوجب وقوع الفعل وهو المراد بقوله أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن زوج المرأة لما ظهر له براءة ساحة يوسف عليه السلام فلا جرم لم يتعرض له فاحتالت المرأة بعد ذلك بجميع الحيل حتى تحمل يوسف عليه السلام على موافقتها على مرادها فلم يلتفت يوسف إليها فلما أيست منه احتالت في طريق آخر وقالت لزوجها إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس يقول لهم إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر وإما أن تحبسه كما حبستني فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة فهذا هو المراد من قوله ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ لأن البداء عبارة عن تغير الرأي عما كان عليه في الأول والمراد من الآيات براءته بقد القميص من دبر وخمش الوجه وإلزام الحكم أياها بقوله إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ( يوسف 28 ) وذكرنا أنه ظهرت هناك أنواع أخر من الآيات بلغت مبلغ القطع ولكن القوم سكتوا عنها سعياً في إخفاء الفضيحة
المسألة الثالثة قوله بدالهم فعل وفاعله في هذا الموضع قوله الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ وظاهر هذا الكلام يقتضي إسناد الفعل إلى فعل آخر إلا أن النحويين اتفقوا على أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يجوز فإذا قلت خرج ضرب لم يفد ألبتة فعند هذا قالوا تقدير الكلام ثم بدا لهم سجنه إلا أنه أقيم هذا الفعل مقام ذلك الاسم وأقول الذوق يشهد بأن جعل الفعل مخبر عنه لا يجوز وليس لأحد أن يقول الفعل خبراً فجعل الخبر مخبراً عنه لا يجوز لأنا نقول الاسم قد يكون خبراً كقولك زيد قائم فقائم اسم وخبر فعلمنا أن كون الشيء خبراً لا ينافي كونه مخبراً عنه بل نقول في هذا المقام شكوك أحدها أنا إذا قلنا ضرب فعل

فالمخبر عنه بأنه فعل هو ضرب فالفعل صار مخبراً عنه
فإن قالوا المخبر عنه هو هذه الصيغة وهي اسم فنقول فعلى هذا التقدير يلزم أن يكون المخبر عنه بأنه فعل اسم لا فعل وذلك كذب وباطل بل نقول المخبر عنه بأنه فعل إن كان فعلاً فقد ثبت أن الفعل يصح الإخبار عنه وإن كان اسماً كان معناه أنا أخبرنا عن الاسم بأنه فعل ومعلوم أنه باطل وفي هذا الباب مباحث عميقة ذكرناها في ( كتب المعقولات )
المسألة الثالثة قال أهل اللغة الحين وقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه وعلى الطويل وقال ابن عباس يريد إلى انقطاع المقالة وما شاع في المدينة من الفاحشة ثم قيل الحين ههنا خمس سنين وقيل بل سبع سنين وقال مقاتل بن سليمان حبس يوسف اثنتي عشر سنة والصحيح أن هذه المقادير غير معلومة وإنما القدر المعلوم أنه بقي محبوساً مدة طويلة لقوله تعالى وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة ٍ ( يوسف 45 )
أما قوله تعالى وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ فههنا محذوف والتقدير لما أرادوا حبسه حبسوه وحذف ذلك لدلالة قوله وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ عليه قيل هما غلامان كانا للملك الأكبر بمصر أحدهما صاحب طعامه والآخر صاحب شرابه رفع إليه أن صاحب طعامه يريد أن يسمه وظن أن الآخر يساعده عليه فأمر بحبسهما بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول كيف عرفا أنه عليه السلام عالم بالتعبير
والجواب لعله عليه السلام سألهما عن حزنهما وغمهما فذكرا إنا رأينا في المنام هذه الرؤيا ويحتمل أنهما رأياه وقد أظهر معرفته بأمور منها تعبير الرؤيا فعندها ذكرا له ذلك
السؤال الثاني كيف عرف أنهما كانا عبدين للملك
الجواب لقوله فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا ( يوسف 41 ) أي مولاه ولقوله اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ ( يوسف 42 )
السؤال الثالث كيف عرف أن أحدهما صاحب شراب الملك والآخر صاحب طعامه
والجواب رؤيا كل واحد منهما تناسب حرفته لأن أحدهما رأى أنه يعصر الخمر والآخر كأنه يحمل فوق رأسه خبزاً
السؤال الرابع كيف وقعت رؤية المنام
والجواب فيه قولان
القول الأول أن يوسف عليه السلام لما دخل السجن قال لأهله إني أعبر الأحلام فقال أحد الفتيين هلم فلنخبر هذا العبد العبراني برؤيا نخترعها له فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئاً قال ابن مسعود ما كانا رأيا شيئاً وإنما تحالما ليختبرا علمه
والقول الثاني قال مجاهد كانا قد رأيا حين دخلا السجن رؤيا فأتيا يوسف عليه السلام فسألاه عنها

فقال الساقي أيها العالم إني رأيت كأني في بستان فإذا بأصل عنبة حسنة فيها ثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وكأن كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيتها الملك فشربه فذلك قوله إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا وقال صاحب الطعام إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها خبز وألوان وأطعمه وإذا سباع الطير تنهش منه فذلك قوله تعالى وَقَالَ الآخَرُ إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ
السؤال الخامس كيف عرف يوسف عليه السلام أن المراد من قوله إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا رؤيا المنام
الجواب لوجوه الأول أنه لو لم يقصد النوم كان ذكر قوله أَعْصِرُ يغنيه عن ذكر قوله أَرَانِى والثاني دل عليه قوله نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ( يوسف 36 )
السؤال السادس كيف يعقل عصر الخمر
الجواب فيه ثلاثة أقوال أحدها أن يكون المعنى أعصر عنب خمر أي العنب الذي يكون عصيره خمراً فحذف المضاف الثاني أن العرب تسمي الشيء باسم ما يؤل إليه إذا انكشف المعنى ولم يلتبس يقولون فلان يطبخ دبساً وهو يطبخ عصيراً والثالث قال أبو صالح أهل عمان يسمون العنب بالخمر فوقعت هذه اللفظة إلى أهل مكة فنطقوا بها قال الضحاك نزل القرآن بألسنة جميع العرب
السؤال السابع ما معنى التأويل في قوله نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ
الجواب تأويل الشيء ما يرجع إليه وهو الذي يؤل إليه آخر ذلك الأمر
السؤال الثامن ما المراد من قوله إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
الجواب من وجوه الأول معناه إنا نراك تؤثر الإحسان وتأتي بمكارم الأخلاق وجميع الأفعال الحميدة قيل إنه كان يعود مرضاهم ويؤنس حزينهم فقالوا إنك من المحسنين أي في حق الشركاء والأصحاب وقيل إنه كان شديد المواظبة على الطاعات من الصوم والصلاة فقالوا إنك من المحسنين في أمر الدين ومن كان كذلك فإنه يوثق بما يقوله في تعبير الرؤيا وفي سائر الأمور وقيل المراد إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ في علم التعبير وذلك لأنه متى عبر لم يخط كما قال وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ ( يوسف 101 )
السؤال التاسع ما حقيقة علم التعبير
الجواب القرآن والبرهان يدلان على صحته أما القرآن فهو هذه الآية وأما البرهان فهو أنه قد ثبت أنه سبحانه خلق جوهر النفس الناطقة بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك ومطالعة اللوح المحفوظ والمانع لها من ذلك اشتغالها بتدبير البدن وفي وقت النوم يقل هذا التشاغل فتقوى على هذه المطالعة فإذا وقعت الروح على حالة من الأحوال تركت آثاراً مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الروحاني إلى عالم الخيال فالمعبر يستدل بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات العقلية فهذا كلام مجمل وتفصيله مذكور في ( الكتب العقلية ) والشريعة مؤكدة له روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الرؤيا ثلاثة رؤيا ما يحدث به الرجل

نفسه ورؤيا تحدث من الشيطان ورؤيا التي هي الرؤيا الصادقة حقة ) وهذا تقسيم صحيح في العلوم العقلية وقال عليه السلام ( رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة )
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّة َ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالاٌّ خِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّة َ ءَابَآءِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَى ْءٍ ذالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المذكور في هذه الآية ليس بجواب لما سألا عنه فلا بد ههنا من بيان الوجه الذي لأجله عدل عن ذكر الجواب إلى هذا الكلام والعلماء ذكروا فيه وجوهاً الأول أنه لما كان جواب أحد السائلين أنه يصلب ولا شك أنه متى سمع ذلك عظم حزنه وتشتد نفرته عن سماع هذا الكلام فرأى أن الصلاح أن يقدم قبل ذلك ما يؤثر معه بعلمه وكلامه حتى إذا جاء بها من بعد ذلك خرج جوابه عن أن يكون بسبب تهمة وعداوة الثاني لعله عليه السلام أراد أن يبين أن درجته في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدوا فيه وذلك لأنهم طلبوا منه علم التعبير ولا شك أن هذا العلم مبني على الظن والتخمين فبين لهما أنه لا يمكنه الإخبار عن الغيوب على سبيل القطع واليقين مع عجز كل الخلق عنه وإذا كان الأمر كذلك فبأن يكون فائقاً على كل الناس في علم التعبير كان أولى فكان المقصود من ذكر تلك المقدمة تقرير كونه فائقاً في علم التعبير واصلاً فيه إلى ما لم يصل غيره والثالث قال السدي لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ في النوم بين ذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس بمقصور على شيء دون غيره ولذلك قال إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ الرابع لعله عليه السلام لما علم أنهما اعتقدا فيه وقبلا قوله فأورد عليهما ما دل على كونه رسولاً من عند الله تعالى فإن الاشتغال بإصلاح مهمات الدين أولى من الاشتغال بمهمات الدنيا والخامس لعله عليه السلام لما علم أن ذلك الرجل سيصلب اجتهد في أن يدخله في الإسلام حتى لا يموت على الكفر ولا يستوجب العقاب الشديد لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَة ٍ وَيَحْيَى مَنْ حَى َّ عَن بَيّنَة ٍ ( الأنفال 42 ) والسادس قوله لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ محمول على اليقظة والمعنى أنه لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا أخبرتكما أي طعام هو وأي لون هو وكم هو وكيف يكون عاقبته أي إذا أكله الإنسان فهو يفيد الصحة أو السقم وفيه وجه آخر قيل كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً فأرسله إليه فقال يوسف لا يأتيكما طعام ألا أخبرتكما أن فيه سماً أم لا هذا هو المراد من قوله لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ وحاصله راجع إلى أنه ادعى الإخبار عن الغيب وهو يجري مجرى قوله عيسى عليه السلام

أُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ ( آل عمران 49 ) فالوجوه الثلاثة الأول لتقرير كونه فائقاً في علم التعبير والوجوه الثلاثة الأخر لتقرير كونه نبياً صادقاً من عند الله تعالى
فإن قيل كيف يجوز حمل الآية على ادعاء المعجزة مع أنه لم يتقدم ادعاء للنبوة
قلنا إنه وإن لم يذكر ذلك لكن يعلم أنه لا بد وأن يقال إنه كان قد ذكره وأيضاً ففي قوله ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى وفي قوله وَاتَّبَعْتُ مِلَّة َ ءابَاءي ما يدل على ذلك
ثم قال تعالى ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى أي لست أخبركما على جهة الكهانة والنجوم وإنما أخبرتكما بوحي من الله وعلم حصل بتعليم الله
ثم قال إِنّى تَرَكْتُ مِلَّة َ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول في قوله إِنّى تَرَكْتُ مِلَّة َ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ توهم أنه عليه السلام كان في هذه الملة فنقول جوابه من وجوه الأول أن الترك عبارة عن عدم التعرض للشيء وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضاً فيه والثاني وهو الأصح أن يقال إنه عليه السلام كان عبداً لهم بحسب زعمهم واعتقادهم الفاسد ولعله قبل ذلك كان لا يظهر التوحيد والإيمان خوفاً منهم على سبيل التقية ثم إنه أظهره في هذا الوقت فكان هذا جارياً مجرى ترك ملة أولئك الكفرة بحسب الظاهر
المسألة الثانية تكرير لفظ هُمْ في قوله وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ لبيان اختصاصهم بالكفر ولعل إنكارهم للمعاد كان أشد من إنكارهم للمبدأ فلأجل مبالغتهم في إنكار المعاد كرر هذا اللفظ للتأكيد
واعلم أن قوله إِنّى تَرَكْتُ مِلَّة َ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إشارة إلى علم المبدأ وقوله وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ إشارة إلى علم المعاد ومن تأمل في القرآن المجيد وتفكر في كيفية دعوة الأنبياء عليهم السلام علم أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب صرف الخلق إلى الإقرار بالتوحيد وبالمبدأ والمعاد وإن ما وراء ذلك عبث
ثم قال تعالى وَاتَّبَعْتُ مِلَّة َ ءابَاءي إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وفيه سؤالات
السؤال الأول ما الفائدة في ذكر هذا الكلام
الجواب أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وتحدى بالمعجزة وهو علم الغيب قرن به كونه من أهل بيت النبوة وأن أباه وجده وجد أبيه كانوا أنبياء الله ورسله فإن الإنسان متى ادعى حرفة أبيه وجده لم يستبعد ذلك منه وأيضاً فكما أن درجة إبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب كان أمراً مشهوراً في الدنيا فإذا ظهر أنه ولدهم عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال فكان انقيادهم له أتم وأثر قلوبهم بكلامه أكمل
السؤال الثاني لما كان نبياً فكيف قال إني اتبعت ملة آبائي والنبي لا بد وأن يكون مختصاً بشريعة نفسه
قلنا لعل مراده التوحيد الذي لم يتغير وأيضاً لعله كان رسولاً من عند الله إلا أنه كان على شريعة إبراهيم عليه السلام
السؤال الثالث لم قال مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَى ْء وحال كل المكلفين كذلك

والجواب ليس المراد بقوله مَا كَانَ لَنَا أنه حرم ذلك عليهم بل المراد أنه تعالى ظهر آباءه عن الكفر ونظيره قوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 )
السؤال الرابع ما الفائدة في قوله مِن شَى ْء
الجواب أن أصناف الشرك كثيرة فمنهم من يعبد الأصنام ومنهم من يعبد النار ومنهم من يعبد الكواكب ومنهم من يعبد العقل والنفس والطبيعة فقوله مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَى ْء رد على كل هؤلاء الطوائف والفرق وإرشاد إلى الدين الحق وهو أنه لا موجد إلا الله ولا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله
ثم قال ذالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وفيه مسألة وهي أنه قال مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَى ْء
ثم قال ذالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ فقوله ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم من عدم الإشراك فهذا يدل على أن عدم الإشراك وحصول الإيمان من الله ثم بين أن الأمر كذلك في حقه بعينه وفي حق الناس ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون ويجب أن يكون المراد أنهم لا يشكرون الله على نعمة الإيمان حكي أن واحداً من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر وقال هل تشكر الله على الإيمان أم لا فإن قلت لا فقد خالفت الإجماع وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلاً له فقال له بشر إنا نشكره على أنه تعالى أعطانا القدرة والعقل والآلة فيجب علينا أن نشكره على إعطاء القدرة والآلة فأما أن نشكره على الإيمان مع أن الإيمان ليس فعلاً له فذلك باطل وصعب الكلام على بشر فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس وقال إنا لا نشكر الله على الإيمان بل الله يشكرنا عليه كما قال أُولائِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ( الإسراء 19 ) فقال بشر لما صعب الكلام سهل
واعلم أن الذين ألزمه ثمامة باطل بنص هذه الآية وذلك لأنه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة وإنما ذكره على سبيل الذم فدل هذا على أنه يجب على كل مؤمن أن يشكر الله تعالى على نعمة الإيمان وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة قال القاضي قوله ذالِكَ إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيد فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بألطافه وتسهيله ويحتمل أن يكون إشارة إلى النبوة
والجواب أن ذلك إشارة إلى المذكور السابق وذاك هو ترك الإشراك فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى والقاضي يصرفه إلى الألطاف والتسهيل فكان هذا تركاً للظاهر وأما صرفه إلى النبوة فبعيد لأن اللفظ الدال على الإشارة يجب صرفه إلى أقرب المذكورات وهو ههنا عدم الإشراك
ياصَاحِبَى ِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله يَشْكُرُونَ ياصَاحِبَى ِ السّجْنِ يريد صاحبي في السجن ويحتمل أيضاً أنه لما حصلت مرافقتهما في السجن مدة قليلة أضيفا إليه وإذا كانت المرافقة القليلة كافية في كونه صاحباً فمن عرف الله وأحبه طول عمره أولى بأن يبقى عليه اسم المؤمن العارف المحب
المسألة الثانية اعلم أنه عليه السلام لما ادعى النبوة في الآية الأولى وكان إثبات النبوة مبنياً على إثبات الإلهيات لا جرم شرع في هذه الآية في تقرير الإلهيات ولما كان أكثر الخلق مقرين بوجود الإله العالم القادر وإنما الشأن في أنهم يتخذون أصناماً على صورة الأرواح الفلكية ويعبدونها ويتوقعون حصول النفع والضر منها لا جرم كان سعي أكثر الأنبياء في المنع من عبادة الأوثان فكان الأمر على هذا القانون في زمان يوسف عليه السلام فلهذا السبب شرع ههنا في ذكر ما يدل على فساد القول بعبادة الأصنام وذكر أنواعاً من الدلائل والحجج
الحجة الأولى قوله مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا وتقرير هذه الحجة أن نقول إن الله تعالى بين أن كثرة الآلهة توجب الخلل والفساد في هذا العالم وهو قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) فكثرة الآلهة توجب الفساد والخلل وكون الإله واحداً يقتضي حصول النظام وحسن الترتيب فلما قرر هذا المعنى في سائر الآيات قال ههنا مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار
والحجة الثانية أن هذه الأصنام معمولة لا عاملة ومقهورة لا قاهرة فإن الإنسان إذا أراد كسرها وإبطالها قدر عليها فهي مقهورة لا تأثير لها ولا يتوقع حصول منفعة ولا مضرة من جهتها وإله العالم فعال قهار قادر يقدر على إيصال الخيرات ودفع الشرور والآفات فكان المراد أن عبادة الآلهة المقهورة الذليلة خير أم عبادة الله الواحد القهار فقوله ءأَرْبَابٌ إشارة إلى الكثرة فجعل في مقابلته كونه تعالى واحداً وقوله مُّتَّفَرّقُونَ إشارة إلى كونها مختلفة في الكبر والصغر واللون والشكل وكل ذلك إنما حصل بسبب أن الناحت والصانع يجعله على تلك الصورة فقوله مُّتَّفَرّقُونَ إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة وجعل في مقابلته كونه تعالى قهاراً فبهذا الطريق الذي شرحناه اشتملت هذه الآية على هذين النوعين الظاهرين
والحجة الثالثة أن كونه تعالى واحداً يوجب عبادته لأنه لو كان له ثان لم نعلم من الذي خلقنا ورزقنا ودفع الشرور والآفات عنا فيقع الشك في أنا نعبد هذا أم ذاك وفيه إشارة إلى ما يدل على فساد القول بعبادة الأوثان وذلك لأن بتقدير أن تحصل المساعدة على كونها نافعة ضارة إلا أنها كثيرة فحينئذ لا نعلم أن نفعنا ودفع الضرر عنا حصل من هذا الصنم أو من ذلك الآخر أو حصل بمشاركتهما ومعاونتهما وحينئذ يقع الشك في أن المستحق للعبادة هو هذا أم ذاك أما إذا كان المعبود واحداً ارتفع هذا الشك وحصل اليقين في

أنه لا يستحق للعبادة إلا هو ولا معبود للمخلوقات والكائنات إلا هو فهذا أيضاً وجه لطيف مستنبط من هذه الآية
الحجة الرابعة أن بتقدير أن يساعد على أن هذه الأصنام تنفع وتضر على ما يقوله أصحاب الطلسمات إلا أنه لا نزاع في أنها تنفع في أوقات مخصوصة وبحسب آثار مخصوصة والإله تعالى قادر على جميع المقدورات فهو قهار على الإطلاق نافذ المشيئة والقدرة في كل الممكنات على الإطلاق فكان الاشتغال بعبادته أولى
الحجة الخامسة وهي شريفة عالية وذلك لأن شرط القهار أن لا يقهره أحد سواه وأن يكون هو قهاراً لكل ما سواه وهذا يقتضي أن يكون الإله واجب الوجود لذاته إذ لو كان ممكناً لكان مقهوراً لا قاهراً ويجب أن يكون واحداً إذ لو حصل في الوجود واجبان لما كان قاهراً لكل ما سواه فالإله لا يكون قهاراً إلا إذا كان واجباً لذاته وكان واحداً وإذا كان المعبود يجب أن يكون كذلك فهذا يقتضي أن يكون الإله شيئاً غير الفلك وغير الكواكب وغير النور والظلمة وغير العقل والنفس فأما من تمسك بالكواكب فهي أرباب متفرقون وهي ليست موصوفة بأنها قهارة وكذا القول في الطبائع والأرواح والعقول والنفوس فهذا الحرف الواحد كاف في إثبات هذا التوحيد المطلق وأنه مقام عال فهذا مجموع الدلائل المستنبطة من هذه الآية بقي فيها سؤالان
السؤال الأول لم سماها أرباباً وليست كذلك
والجواب لاعتقادهم فيها أنها كذلك وأيضاً الكلام خرج على سبيل الفرض والتقدير والمعنى أنها إن كانت أرباباً فهي خير أم الله الواحد القهار
السؤال الثاني هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين الله تعالى حتى يقال إنها خير أم الله الواحد القهار
الجواب أنه خرج على سبيل الفرض والمعنى لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم الله الواحد القهار
ثم قال مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ وفيه سؤال وهو أنه تعالى قال فيما قبل هذه الآية مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا وذلك يدل على وجود هذه المسميات ثم قال عقيب تلك الآية مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا وهذا يدل على أن المسمى غير حاصل وبينهما تناقض
الجواب أن الذات موجودة حاصلة إلا أن المسمى بالإله غير حاصل وبيانه من وجهين الأول أن ذوات الأصنام وإن كانت موجودة إلا أنها غير موصوفة بصفات الإلهية وإذا كان كذلك كان الشيء الذي هو مسمى بالإله في الحقيقة غير موجود ولا حاصل الثاني يروى أن عبدة الأوثان مشبهة فاعتقدوا أن الإله هو النور الأعظم وأن الملائكة أنوار صغيرة ووضعوا على صورة تلك الأنوار هذه الأثان ومعبودهم في الحقيقة هو تلك الأنوار السماوية وهذا قول المشبهة فإنهم تصوروا جسماً كبيراً مستقراً على العرش ويعبدونه وهذا المتخيل غير موجود ألبتة فصح أنهم لا يعبدون إلا مجرد الأسماء

واعلم أن جماعة ممن يعبدون الأصنام قالوا نحن لا نقول إن هذه الأصنام آلهة للعالم بمعنى أنها هي التي خلقت العالم إلا أنا نطلق عليها اسم الإله ونعبدها ونعظمها لاعتقادنا أن الله أمرنا بذلك فأجاب الله تعالى عنه فقال أما تسميتها بالآلهة فما أمر الله تعالى بذلك وما أنزل في حصول هذه التسمية حجة ولا برهاناً ولا دليلاً ولا سلطاناً وليس لغير الله حكم واجب القبول ولا أمر واجب الالتزام بل الحكم والأمر والتكليف ليس إلا له ثم إنه أمر أن ألا تعبدوا إلا أياه وذلك لأن العبادة نهاية التعظيم والإجلال فلا تليق إلا بمن حصل منه نهاية الإنعام وهو الإله تعالى لأن منه الخلق والإحياء والعقل والرزق والهداية ونعم الله كثيرة وجهات إحسانه إلى الخلق غير متناهية ثم إنه تعالى لما بين هذه الأشياء قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وتفسيره أن أكثر الخلق يسندون حدوث الحوادث الأرضية إلى الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية لأجل أنه تقرر في العقول أن الحادث لا بد له من سبب فإذا رأوا أن تغير أحوال هذا العالم في الحر والبرد والفصول الأربعة إنما يحصل عند تغير أحوال الشمس في أرباع الفلك ربطوا الفصول الأربعة بحركة الشمس ثم لما شاهدوا أن أحوال النبات والحيوان مختلفة بحسب اختلاف الفصول الأربعة ربطوا حدوث النبات وتغير أحوال الحيوان باختلاف الفصول الأربعة فبهذا الطريق غلب على طباع أكثر الخلق أن المدبر لحدوث الحوادث في هذا العالم هو الشمس والقمر وسائر الكواكب ثم إنه تعالى إذا وفق إنساناً حتى ترقى من هذه الدرجة وعرف أنها في ذواتها وصفاتها مفتقرة إلى موجد ومبدع قاهر قادر عليم حكيم فذلك الشخص يكون في غاية الندرة فلهذا قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
ياصَاحِبَى ِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الاٌّ خَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِى َ الاٌّ مْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ
اعلم أنه عليه السلام لما قرر أمر التوحيد والنبوة عاد إلى الجواب عن السؤال الذي ذكراه والمعنى ظاهر وذلك لأن الساقي لما قص رؤياه على يوسف وقد ذكرنا كيف قص عليه قال له يوسف ما أحسن ما رأيت أما حسن العنبة فهو حسن حالك وأما الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيردك إلى عملك فتصير كما كنت بل أحسن وقال للخباز لما قص عليه بئسما رأيت السلال الثلاث ثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيصلبك وتأكل الطير من رأسك ثم نقل في التفسير أنهما قالا ما رأينا شيئاً فقال قُضِى َ الاْمْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ واختلف فيما لأجله قالا ما رأينا شيئاً فقيل إنهما وضعا هذا الكلام ليختبرا علمه بالتعبير مع أنهما ما رأيا شيئاً وقيل إنهما لما كرها ذلك الجواب قالا ما رأينا شيئاً
فإن قيل هذا الجواب الذي ذكره يوسف عليه السلام ذكره بناء على الوحي من قبل الله تعالى أو بناء على علم التعبير والأول باطل لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نقل أنه إنما ذكره على سبيل التعبير وأيضاً قال تعالى وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا ( يوسف 42 ) ولو كان ذلك التعبير مبنياً على الوحي لكان الحاصل منه

القطع واليقين لا الظن والتخمين والثاني أيضاً باطل لأن علم التعبير مبني على الظن والحسبان
الجواب لا يبعد أن يقال إنهما لما سألاه عن ذلك المنام صدقا فيه أو كذبا فإن الله تعالى أوحى إليه أن عاقبة كل واحد منهما تكون على الوجه المخصوص فلما نزل الوحي بذلك الغيب عند ذلك السؤال وقع في الظن أنه ذكره على سبيل التعبير ولا يبعد أيضاً أن يقال إنه بنى ذلك الجواب على علم التعبير وقوله قُضِى َ الاْمْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ما عنى به أن الذي ذكره واقع لا محالة بل عنى به أنه حكمه في تعبير ما سألاه عنه ذلك الذي ذكره
وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن الموصوف بالظن هو يوسف عليه السلام أو الناجي فعلى الأول كان المعنى وقال الرجل الذي ظن يوسف عليه السلام كونه ناجياً وعلى هذا القول وجهان الأول أن تحمل هذا الظن على العلم واليقين وهذا إذا قلنا بأنه عليه السلام إنما ذكر ذلك التعبير بناء على الوحي قال هذا القائل وورود لفظ الظن بمعنى اليقين كثير في القرآن قال تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ رَّبُّهُمْ ( البقرة 46 ) وقال إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ( الحاقة 20 ) والثاني أن تحمل هذا الظن على حقيقة الظن وهذا إذا قلنا إنه عليه السلام ذكر ذلك التعبير لا بناء على الوحي بل على الأصول المذكورة في ذلك العلم وهي لا تفيد إلا الظن والحسبان
والقول الثاني أن هذا الظن صفة الناجي فإن الرجلين السائلين ما كانا مؤمنين بنبوة يوسف ورسالته ولكنهما كانا حسني الاعتقاد فيه فكان قوله لا يفيد في حقهما إلا مجرد الظن
المسألة الثانية قال يوسف عليه السلام لذلك الرجل الذي حكم بأنه يخرج من الحبس ويرجع إلى خدمة الملك اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ أي عند الملك والمعنى اذكر عنده أنه مظلوم من جهة إخوته لما أخرجوه وباعوه ثم إنه مظلوم في هذه الواقعة التي لأجلها حبس فهذا هو المراد من الذكر
ثم قال تعالى فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبّهِ وفيه قولان الأول أنه راجع إلى يوسف والمعنى أن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر ربه وعلى هذا القول ففيه وجهان أحدهما أن تمسكه بغير الله كان مستدركاً عليه وتقريره من وجوه الأول أن مصلحته كانت في أن لا يرجع في تلك الواقعة إلى أحد من المخلوقين وأن لا يعرض حاجته على أحد سوى الله وأن يقتدي بجده إبراهيم عليه السلام فإنه حين وضع في المنجنيق ليرمى إلى النار جاءه جبريل عليه السلام وقال هل من حاجة فقال أما إليك فلا فلما رجع يوسف إلى المخلوق لا جرم وصف الله ذلك بأن الشيطان أنساه ذلك التفويض وذلك التوحيد ودعاه إلى

عرض الحاجة إلى المخلوقين ثم لما وصفه بذلك ذكر أنه بقي لذلك السبب في السجن بضع سنين والمعنى أنه لما عدل عن الانقطاع إلى ربه إلى هذا المخلوق عوقب بأن لبث في السجن بضع سنين وحاصل الأمر أن رجوع يوسف إلى المخلوق صار سبباً لأمرين أحدهما أنه صار سبباً لاستيلاء الشيطان عليه حتى أنساه ذكر ربه الثاني أنه صار سبباً لبقاء المحنة عليه مدة طويلة
الوجه الثاني أن يوسف عليه السلام قال في إبطال عبادة الأوثان مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا ثم إنه ههنا أثبت رباً غيره حيث قال اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ ومعاذ الله أن يقال إنه حكم عليه بكونه رباً بمعنى كونه إلهاً بل حكم عليه بالربوبية كما يقال رب الدار ورب الثوب على أن إطلاق لفظ الرب عليه بحسب الظاهر يناقض نفي الأرباب
الوجه الثالث أنه قال في تلك الآية ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء وذلك نفي للشرك على الإطلاق وتفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى فههنا الرجوع إلى غير الله تعالى كالمناقض لذلك التوحيد
واعلم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فهذا وإن كان جائزاً لعامة الخلق إلا أن الأولى بالصديقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية وأن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب
الوجه الثاني في تأويل الآية أن يقال هب أنه تمسك بغير الله وطلب من ذلك الساقي أن يشرح حاله عند ذلك الملك إلا أنه كان من الواجب عليه أن لا يخلي ذلك الكلام من ذكر الله مثل أن يقول إن شاء الله أو قدر الله فلما أخلاه عن هذا الذكر وقع هذا الاستدراك
القول الثاني أن يقال إن قوله فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبّهِ راجع إلى الناجي والمعنى أن الشيطان أنسى ذلك الفتى أن يذكر يوسف للملك حتى طال الأمر فَلَبِثَ فِى السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ بهذا السبب ومن الناس من قال القول الأول أولى لما روي عنه عليه السلام قال ( رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ) وعن قتادة أن يوسف عليه السلام عوقب بسبب رجوعه إلى غير الله وعن إبراهيم التيمي أنه لما انتهى إلى باب السجن قال له صاحبه ما حاجتك قال أن تذكرني عند رب سوى الرب الذي قال يوسف وعن مالك لما قال يوسف للساقي اذكرني عند ربك قيل يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلن حبسك فبكى يوسف وقال طول البلاء أنساني ذكر المولى فقلت هذه الكلمة فويل لإخوتي
قال مصنف الكتاب فخر الدين الرازي رحمه الله والذي جربته من أول عمري إلى آخره أن الإنسان كلما عول في أمر من الأمور على غير الله صار ذلك سبباً إلى البلاء والمحنة والشدة والرزية وإذا عول العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق ذلك المطلوب على أحسن الوجوه فهذه التجربة قد استمرت لي من أول عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه إلى السابع والخمسين فعند هذا استقر قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله تعالى وإحسانه ومن الناس من رجح القول الثاني لأن صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل أولى من صرفها إلى يوسف الصديق ولأن الاستعانة بالعباد في التخلص من الظلم جائزة
واعلم أن الحق هو القول الأول وما ذكره هذا القائل الثاني تمسك بظاهر الشريعة وما قرره القائل

الأول تمسك بأسرار الحقيقة ومكارم الشريعة ومن كان له ذوق في مقام العبودية وشرب من مشرب التوحيد عرف أن الأمر كما ذكرناه وأيضاً ففي لفظ الآية ما يدل على أن هذا القول ضعيف لأنه لو كان المراد ذلك لقال فأنساه الشيطان ذكره لربه
المسألة الثالثة الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة في الشريعة لا إنكار عليه إلا أنه لما كان ذلك مستدركاً من المحققين المتوغلين في بحار العبودية لا جرم صار يوسف عليه السلام مؤاخذاً به وعند هذا نقول الذي يصير مؤاخذاً بهذا القدر لأن يصير مؤاخذاً بالإقدام على طلب الزنا ومكافأة الإحسان بالإساءة كان أولى فلما رأينا الله تعالى آخذه بهذا القدر ولم يؤاخذه في تلك القضية ألبتة وما عابه بل ذكره بأعظم وجوه المدح والثناء علمنا أنه عليه السلام كان مبرأ مما نسبه الجهال والحشوية إليه
المسألة الرابعة الشيطان يمكنه إلقاء الوسوسة وأما النسيان فلا لأنه عبارة عن إزالة العلم عن القلب والشيطان لا قدرة له عليه وإلا لكان قد أزال معرفة الله تعالى عن قلوب بني آدم
وجوابه أنه يمكنه من حيث إنه بوسوسته يدعو إلى سائر الأعمال واشتغال الإنسان بسائر الأعمال يمنعه عن استحضار ذلك العلم وتلك المعرفة
المسألة الخامسة قوله فَلَبِثَ فِى السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ فيه بحثان
البحث الأول بحسب اللغة قال الزجاج اشتقاقه من بضعت بمعنى قطعت ومعناه القطعة من العدد قال الفراء ولا يذكر البضع إلا مع عشرة أو عشرين إلى التسعين وذلك يقتضي أن يكون مخصوصاً بما بين الثلاثة إلى التسعة وقال هكذا رأيت العرب يقولون وما رأيتهم يقولون بضع ومائة وروى الشعبي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه ( كم البضع ) قالوا الله ورسوله أعلم قال ( ما دون العشرة ) واتفق الأكثرون على أن المراد ههنا ببضع سنين سبع سنين قالوا إن يوسف عليه السلام حين قال لذلك الرجل اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ كان قد بقي في السجن خمس سنين ثم بقي بعد ذلك سبع سنين قال ابن عباس رضي الله عنهما لما تضرع يوسف عليه السلام إلى ذلك الرجل كان قد اقترب وقت خروجه فلما ذكر ذلك لبث في السجن بعده سبع سنين وروي أن الحسن روى قوله صلوات الله عليه وسلامه ( رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها لما لبث في السجن هذه المدة الطويلة ) ثم بكى الحسن وقال نحن إذا نزل بنا أمر تضرعنا إلى الناس
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّى أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى فِى رُؤْيَاى َ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاٌّ حْلَامِ بِعَالِمِينَ

اعلم أنه تعالى إذا أراد شيئاً هيأ له أسباباً ولما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر في النوم سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعاً أخر يابسات فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فجمع الكمنة وذكرها لهم وهو المراد من قوله يَابِسَاتٍ يأَيُّهَا الْمَلا أَفْتُونِى فِى رُؤْيَاى َ فقال القوم هذه الرؤيا مختلطة فلا تقدر على تأويلها وتعبيرها فهذا ظاهر الكلام وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الليث العجف ذهاب السمن والفعل عجف يعجف والذكر أعجف والأنثى عجفاء والجمع عجاف في الذكران والإناث وليس في كلام العرب أفعل وفعلاء جمعاً على فعال غير أعجف وعجاف وهي شاذة حملوها على لفظ سمان فقالوا سمان وعجاف لأنهما نقيضان ومن دأبهم حمل النظير على النظير والنقيض على النقيض واللام في قوله لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ على قول البعض زائدة لتقدم المفعول على الفعل وقال صاحب ( الكشاف ) يجوز أن تكون الرؤيا خبر كان كما تقول كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه وتعبرون خبراً آخر أو حالاً ويقال عبرت الرؤيا أعبرها وعبرتها تعبيراً إذا فسرتها وحكى الأزهري أن هذا مأخوذ من العبر وهو جانب النهر ومعنى عبرت النهر والطريق قطعته إلى الجانب الآخر فقيل لعابر الرؤيا عابر لأنه يتأمل جانبي الرؤيا فيتفكر في أطرافها وينتقل من أحد الطرفين إلى الآخر والأضغاث جمع الضغث وهو الحزمة من أنواع النبت والحشيش بشرط أن يكون مما قام على ساق واستطال قال تعالى وَخُذْ بِيَدِكَ ( ص 44 )
إذا عرفت هذا فنقول الرؤيا إن كانت مخلوطة من أشياء غير متناسبة كانت شبيهة بالضغث
المسألة الثانية أنه تعالى جعل تلك الرؤيا سبباً لخلاص يوسف عليه السلام من السجن وذلك لأن الملك لما قلق واضطرب بسببه لأنه شاهد أن الناقص الضعيف استولى على الكامل القوي فشهدت فطرته بأن هذا ليس بجيد وأنه منذر بنوع من أنواع الشر إلا أنه ما عرف كيفية الحال فيه والشيء إذا صار معلوماً من وجه وبقي مجهولاً من وجه آخر عظم تشوف الناس إلى تكميل تلك المعرفة وقويت الرغبة في إتمام الناقص لا سيما إذا كان الإنسان عظيم الشأن واسع المملكة وكان ذلك الشيء دالاً على الشر من بعض الوجوه فبهذا الطريق قوى الله داعية ذلك الملك في تحصيل العلم بتعبير هذه الرؤيا ثم إنه تعالى أعجز المعبرين اللذين حضروا عند ذلك الملك عن جواب هذه المسألة وعماه عليهم ليصير ذلك سبباً لخلاص يوسف من تلك المحنة
واعلم أن القوم ما نفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بعلم التعبير بل قالوا إن علم التعبير على قسمين منه ما تكون الرؤيا فيه منتسقة منتظمة فيسهل الانتقال من الأمور المتخيلة إلى الحقائق العقلية الروحانية ومنه ما تكون فيه مختلطة مضطربة ولا يكون فيها ترتيب معلوم وهو المسمى بالأضغاث والقوم قالوا إن رؤيا الملك من قسم الأضغاث ثم أخبروا أنهم غير عالمين بتعبير هذا القسم وكأنهم قالوا هذه الرؤيا مختلطة من أشياء كثيرة وما كان كذلك فنحن لا نهتدي إليها ولا يحيط عقلنا بها وفيها إيهام أن الكامل في هذا العلم والمتبحر فيه قد يهتدي إليها فعند هذه المقالة تذكر ذلك الشرابي واقعة يوسف فإنه كان يعتقد فيه كونه متبحراً في هذا العلم

وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة ٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ
اعلم أن الملك لما سأل الملأ عن الرؤيا واعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب قال الشرابي إن في الحبس رجلاً فاضلاً صالحاً كثير العلم كثير الطاعة قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في الكل وما أخطأ في حرف فإن أذنت مضيت إليه وجئتك بالجواب فهذا هو قوله بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا
وأما قوله وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة ٍ فنقول سيجيء اذكر في تفسير قوله تعالى مِن مُّدَّكِرٍ ( القمر 51 ) في سورة القمر قال صاحب ( الكشاف ) وَادَّكَرَ بالدال هو الفصيح عن الحسن وَاذْكُرْ بالذال أي تذكر وأما الأمة ففيه وجوه الأول بَعْدَ أُمَّة ٍ أي بعد حين وذلك لأن الحين إنما يحصل عند اجتماع الأيام الكثيرة كما أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم فالحين كان أمة من الأيام والساعات والثاني قرأ الأشهب العقيلي بَعْدَ أُمَّة ٍ بكسر الهمزة والإمة النعمة قال عدي
ثم بعد الفلاح والملك والإمة وارتهم هناك القبور
والمعنى بعدما أنعم عليه بالنجاة الثالث قرىء بَعْدَ أُمُّهُ أي بعد نسيان يقال أمه يأمه أمها إذا نسي والصحيح أنها بفتح الميم وذكره أبو عبيدة بسكون الميم وحاصل الكلام أنه إما أن يكون المراد وادكر بعد مضي الأوقات الكثيرة من الوقت الذي أوصاه يوسف عليه السلام بذكره عند الملك والمراد وادكر بعد وجدان النعمة عند ذلك الملك أو المراد وادكر بعد النسيان
فإن قيل قوله وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة ٍ يدل على أن الناسي هو الشرابي وأنتم تقولون الناسي هو يوسف عليه السلام
قلنا قال ابن الأنباري اذكر بمعنى ذكر وأخبر وهذا لا يدل على سبق النسيان فلعل الساقي إنما لم يذكره للملك خوفاً من أن يكون ذلك اذكاراً لذنبه الذي من أجله حبسه فيزداد الشر ويحتمل أيضاً أن يقال حصل النسيان ليوسف عليه السلام وحصل أيضاً لذلك الشرابي وأما قوله فَأَرْسِلُونِ خطاب إما للملك والجمع أو للملك وحده على سبيل التعظيم أما قوله يُوسُفُ أَيُّهَا الصّدِيقُ ففيه محذوف والتقدير فأرسل وأتاه وقال أيها الصديق والصديق هو البالغ في الصدق وصفه بهذه الصفة لأنه لم يجرب عليه كذباً وقيل لأنه صدق في تعبير رؤياه وهذا يدل على أن من أراد أن يتعلم من رجل شيئاً فإنه يجب عليه أن يعظمه وأن يخاطبه بالألفاظ المشعرة بالإجلال ثم إنه أعاد السؤال بعين اللفظ الذي ذكره الملك ونعم ما فعل فإن تعبير الرؤيا قد يختلف بسبب اختلاف اللفظ كما هو مذكور في ذلك العلم

أما قوله تعالى لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فالمراد لعلي أرجع إلى الناس بفتواك لعلهم يعلمون فضلك وعلمك وإنما قال لعلي أرجع إلى الناس بفتواك لأنه رأى عجز سائر المعبرين عن جواب هذه المسألة فخاف أن يعجز هو أيضاً عنها فلهذا السبب قال لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ
اعلم أنه عليه السلام ذكر تعبير تلك الرؤيا فقال تَزْرَعُونَ وهو خبر بمعنى الأمر كقوله وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ( البقرة 228 ) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ ( البقرة 233 ) وإنما يخرج الخبر بمعنى الأمر ويخرج الأمر في صورة الخير للمبالغة في الإيجاب فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه والدليل على كونه في معنى الأمر قوله فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ وقوله دَأَبًا قال أهل اللغة الدأب استمرار الشيء على حالة واحدة وهو دائب بفعل كذا إذا استمر في فعله وقد دأب يدأب دأباً ودأباً أي زراعة متوالية في هذه السنين قال أبو علي الفارسي الأكثرون في دأب الإسكان ولعل الفتحة لغة فيكون كشمع وشمع ونهر ونهر قال الزجاج وانتصب دأباً على معنى تدأبون دأباً وقيل إنه مصدر وضع في موضع الحال وتقديره تزرعون دائبين فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون كل ما أردتم أكله فدوسوه ودعوا الباقي في سنبله حتى لا يفسد ولا يقع السوس فيه لأن إبقاء الحبة في سنبله يوجب بقاءها على الصلاح ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ أي سبع سنين مجدبات والشداد الصعاب التي تشتد على الناس وقوله يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ هذا مجاز فإن السنة لا تأكل فيجعل أكل أهل تلك السنين مسنداً إلى السنين وقوله إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ الإحصان الإحراز وهو إلقاء الشيء في الحصن يقال أحصنه إحصاناً إذا جعله في حرز والمراد إلا قليلاً مما تحرزون أي تدخرون وكلها ألفاظ ابن عباس رضي الله عنهما وقوله ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ قال المفسرون السبعة المتقدمة سنو الخصب وكثرة النعم والسبعة الثانية سنو القحط والقلة وهي معلومة من الرؤيا وأما حال هذه السنة فما حصل في ذلك المنام شيء يدل عليه بل حصل ذلك من الوحي فكأنه عليه السلام ذكر أنه يحصل بعد السبعة المخصبة والسبعة المجدبة سنة مباركة كثيرة الخير والنعم وعن قتادة زاده الله علم سنة
فإن قيل لما كانت العجاف سبعاً دل ذلك على أن السنين المجدبة لا تزيد على هذا العدد ومن المعلوم أن الحاصل بعد انقضاء القحط هو الخصب وكان هذا أيضاً من مدلولات المنام فلم قلتم إنه حصل بالوحي والإلهام
قلنا هب أن تبدل القحط بالخصب معلوم من المنام أما تفصيل الحال فيه وهو قوله فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ

لا يعلم إلا بالوحي قال ابن السكيت يقال غاث الله البلاد يغيثها غيثاً إذا أنزل فيها الغيث وقد غيثت الأرض تغاث وقوله يُغَاثُ النَّاسُ معناه يمطرون ويجوز أن يكون من قولهم أغاثه الله إذا أنقذه من كرب أو غم ومعناه ينقذ الناس فيه من كرب الجدب وقوله وَفِيهِ يَعْصِرُونَ أي يعصرون السمسم دهناً والعنب خمراً والزيتون زيتاً وهذا يدل على ذهاب الجدب وحصول الخصب والخير وقيل يحلبون الضروع وقرىء يَعْصِرُونَ من عصره إذا نجاه وقيل معناه يمطرون من أعصرت السحابة إذا عصرت بالمطر ومنه قوله وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً ( النبأ 14 )
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَة ِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُو ءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ اأنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ
اعلم أنه لما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير الذي ذكره يوسف عليه السلام استحسنه الملك فقال ائتوني به وهذا يدل على فضيلة العلم فإنه سبحانه جعل علمه سبباً لخلاصه من المحنة الدنيوية فكيف لا يكون العلم سبباً للخلاص من المحن الأخروية فعاد الشرابي إلى يوسف عليه السلام قال أجب الملك فأبى يوسف عليه السلام أن يخرج من السجن إلا بعد أن ينكشف أمره وتزول التهمة بالكلية عنه وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه لما أخبرتهم حتى اشترطت أن يخرجوا لي ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة وبادرتهم إلى الباب ولما ابتغيت العذر أنه كان حليماً ذا أناة )
واعلم أن الذي فعله يوسف من الصبر والتوقف إلى أن تفحص الملك عن حاله هو اللائق بالحزم والعقل وبيانه من وجوه الأول أنه لو خرج في الحال فربما كان يبقى في قلب الملك من تلك التهمة أثرها فلما التمس من الملك أن يتفحص عن حال تلك الواقعة دل ذلك على براءته من تلك التهمة فبعد خروجه لا يقدر أحد أن يلطخه بتلك الرذيلة وأن يتوسل بها إلى الطعن فيه الثاني أن الإنسان الذي بقي في السجن اثنتي عشرة سنة إذا طلبه الملك وأمر بإخراجه الظاهر أنه يبادر بالخروج فحيث لم يخرج عرف منه كونه في نهاية العقل والصبر والثبات وذلك يصير سبباً لأن يعتقد فيه بالبراءة عن جميع أنواع التهم ولأن يحكم بأن كل ما قيل فيه كان كذباً وبهتاناً الثالث أن التماسه من الملك أن يتفحص عن حاله من تلك

النسوة يدل أيضاً على شدة طهارته إذ لو كان ملوثاً بوجه ما لكان خائفاً أن يذكر ما سبق الرابع أنه حين قال للشرابي اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ فبقي بسبب هذه الكلمة في السجن بضع سنين وههنا طلبه الملك فلم يلتفت إليه ولم يقم لطلبه وزناً واشتغل بإظهار براءته عن التهمة ولعله كان غرضه عليه السلام من ذلك أن لا يبقى في قلبه التفات إلى رد الملك وقبوله وكان هذا العمل جارياً مجرى التلافي لما صدر من التوسل إليه في قوله اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ ليظهر أيضاً هذا المعنى لذلك الشرابي فإنه هو الذي كان واسطة في الحالتين معاً
أما قوله وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن كثير والكسائي فسله بغير همز والباقون رَبّكَ فَاسْأَلْهُ بالهمز وقرأ عاصم برواية أبي بكر عنه النّسْوَة ِ بضم النون والباقون بكسر النون وهما لغتان
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية فيها أنواع من اللطائف أولها أن معنى الآية فسل الملك يأن يسأل ما شأن تلك النسوة وما حالهن ليعلم براتي عن تلك التهمة إلا أنه اقتصر على أن يسأل الملك عن تلك الواقعة لئلا يشتمل اللفظ على ما يجري مجرى أمر الملك بعمل أو فعل وثانيها أنه لم يذكر سيدته مع أنها هي التي سعت في إلقائه في السجن الطويل بل اقتصر على ذكر سائر النسوة وثالثها أن الظاهر أن أولئك النسوة نسبنه إلى عمل قبيح وفعل شنيع عند الملك فاقتصر يوسف عليه السلام على مجرد قوله مَا بَالُ النّسْوَة ِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وما شكا منهن على سبيل التعيين والتفصيل ثم قال يوسف بعد ذلك إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ وفي المراد من قوله إِنَّ رَبّى وجهان الأول أنه هو الله تعالى لأنه تعالى هو العالم بخفيات الأمور والثاني أن المراد الملك وجعله رباً لنفسه لكونه مربياً وله وفيه إشارة إلى كون ذلك الملك عالماً بكيدهن ومكرهن
واعلم أن كيدهن في حقه يحتمل وجوهاً أحدها أن كل واحدة منهن ربما طمعت فيه فلما لم تجد المطلوب أخذت تطعن فيه وتنسبه إلى القبيح وثانيها لعل كل واحدة منهن بالغت في ترغيب يوسف في موافقة سيدته على مرادها ويوسف علم أن مثل هذه الخيانة في حق السيد المنعم لا تجوز فأشار بقوله إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ إلى مبالغتهن في الترغيب في تلك الخيانة وثالثها أنه استخرج منهن وجوهاً من المكر والحيل في تقبيح صورة يوسف عليه السلام عند الملك فكان المراد من هذا اللفظ ذاك ثم إنه تعالى حكى عن يوسف عليه السلام أنه لما التمس ذلك أمر الملك بإحضارهن وقال لهن مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ وفيه وجهان الأول أن قوله إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ وإن كانت صيغة الجمع فالمراد منها الواحدة كقوله تعالى الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ( آل عمران 173 ) والثاني أن المراد منه خطاب الجماعة ثم ههنا وجهان الأول أن كل واحدة منهن راودت يوسف عن نفسها والثاني أن كل واحدة منهن راودت يوسف لأجل امرأة العزيز فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه وعند هذا السؤال قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء وهذا كالتأكيد لما ذكرن في أول الأمر في حقه وهو قولهن مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ
واعلم أن امرأة العزيز كانت حاضرة وكانت تعلم أن هذه المناظرات والتفحصات إنما وقعت بسببها ولأجلها فكشفت عن الغطاء وصرحت بالقول الحق وقالت الآن حصص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين

وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه شهادة جازمة من تلك المرأة بأن بوسف صلوات الله عليه كان مبرأ عن كل الذنوب مطهراً عن جميع العيوب وههنا دقيقة وهي أن يوسف عليه السلام راعى جانب امرأة العزيز حيث قال مَا بَالُ النّسْوَة ِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فذكرهن ولم يذكر تلك المرأة ألبتة فعرفت المرأة أنه إنما ترك ذكرها رعاية لحقها وتعظيماً لجانبها وإخفاء للأمر عليها فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء والوطاء واعترفت بأن الذنب كله كان من جانبها وأن يوسف عليه السلام كان مبرأ عن الكل ورأيت في بعض الكتب أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر فأمر القاضي بأن يكشف عن وجهها حتى تتمكن الشهود من إقامة الشهادة فقال الزوج لا حاجة إلى ذلك فإني مقر بصدقها في دعواها فقالت المرأة لما أكرمتني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمتك من كل حق لي عليك
المسألة الثانية قال أهل اللغة حَصْحَصَ الْحَقُّ معناه وضح وانكشف وتمكن في القلوب والنفوس من قولهم حصحص البعير في بروكه إذا تمكن واستقر في الأرض قال الزجاج اشتقاقه في اللغة من الحصة أي بانت حصة الحق من حصة الباطل
المسألة الثالثة اختلفوا في أن قوله ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ كلام من وفيه أقوال
القول الأول وهو قول الأكثرين أنه قول يوسف عليه السلام قال الفراء ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة عليه ومثاله قوله تعالى إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَة ً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّة َ أَهْلِهَا أَذِلَّة ً ( النمل 34 ) وهذا كلام بلقيس ثم إنه تعالى قال وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وأيضاً قوله تعالى رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ( آل عمران 9 ) كلام الداعي
ثم قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ بقي على هذا القول سؤالات
السؤال الأول قوله ذالِكَ إشارة إلى الغائب والمراد ههنا الإشارة إلى تلك الحادثة الحاضرة
والجواب أجبنا عنه في قوله ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 2 ) وقيل ذلك إشارة إلى ما فعله من رد الرسول كأنه يقول ذلك الذي فعلت من ردي الرسول إنما كان ليعلم الملك أني لم أخنه بالغيب
السؤال الثاني متى قال يوسف عليه السلام هذا القول
الجواب روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك قال ذلك ليعلم وإنما ذكره على لفظ الغيبة تعظيماً للملك عن الخطاب والأولى أنه عليه السلام إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه لأن ذكر هذا الكلام في حضرة الملك سوء أدب
السؤال الثالث هذه الخيانة وقعت في حق العزيز فكيف يقول ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ
والجواب قيل المراد ليعلم الملك أني لم أخن العزيز بالغيبة وقيل إنه إذا خان وزيره فقد خانه من بعض الوجوه وقيل إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن قال ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب ثم ختم الكلام بقوله وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى يُحِبُّ الخَائِنِينَ ولعل المراد منه أني لو كنت خائناً لما خلصني الله تعالى من هذه الورطة وحيث خلصني منها ظهر أني كنت مبرأ عما نسبوني إليه
والقول الثاني أن قوله ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ كلام امرأة العزيز والمعنى أني وإن أحلت الذنب عليه عند حضوره لكني ما أحلت الذنب عليه عند غيبته أي لم أقل فيه وهو في السجن خلاف

الحق ثم إنها بالغت في تأكيد الحق بهذا القول وقالت وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ يعني أني لما أقدمت على الكيد والمكر لا جرم افتضحت وأنه لما كان بريئاً عن الذنب لا جرم طهره الله تعالى عنه قال صاحب هذا القول والذي يدل على صحته أن يوسف عليه السلام ما كان حاضراً في ذلك المجلس حتى يقال لما ذكرت المرأة قولها قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ ففي تلك الحالة يقول يوسف ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول من ذلك المجلس إلى السجن ويذكر له تلك الحكاية ثم إن يوسف يقول ابتداء ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ومثل هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين ما جاء ألبتة في نثر ولا نظم فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة
المسألة الرابعة هذه الآية دالة على طهارة يوسف عليه السلام من الذنب من وجوه كثيرة الأول أن الملك لما أرسل إلى يوسف عليه السلام وطلبه فلو كان يوسف متهماً بفعل قبيح وقد كان صدر منه ذنب وفحش لاستحال بحسب العرف والعادة أن يطلب من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة لأنه لو كان قد أقدم على الذنب ثم إنه يطلبه من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة كان ذلك سعياً منه في فضيحة نفسه وفي تجديد العيوب التي صارت مندرسة مخفية والعاقل لا يفعل ذلك وهب أنه وقع الشك لبعضهم في عصمته أو في نبوته إلا أنه لا شك أنه كان عاقلاً والعاقل يمتنع أن يسعى في فضيحة نفسه وفي حمل الأعداء على أن يبالغوا في إظهار عيوبه والثاني أن النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته ونزاهته حيث قلن حَاشَ للَّهِ مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ( يوسف 31 ) وفي المرة الثانية حيث قلن حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء والثالث أن امرأة العزيز أقرت في المرة الأولى بطهارته حيث قالت وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ( يوسف 32 ) وفي المرة الثانية في هذه الآية
واعلم أن هذه الآية دالة على طهارته من وجوه أولها قول المرأة أَنَاْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ وثانيها قولها وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وهو إشارة إلى أنه صادق في قوله هِى َ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى ( يوسف 26 ) وثالثها قول يوسف عليه السلام ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ والحشوية يذكرون أنه لما قال يوسف هذا الكلام قال جبريل عليه السلام ولا حين هممت وهذا من رواياتهم الخبيثة وما صحت هذه الرواية في كتاب معتمد بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريف ظاهر القرآن ورابعها قوله وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ يعني أن صاحب الخيانة لا بد وأن يفتضح فلو كنت خائناً لوجب أن افتضح وحيث لم افتضح وخلصني الله تعالى من هذه الورطة فكل ذلك يدل على أني ما كنت من الخائنين وههنا وجه آخر وهو أقوى من الكل وهو أن في هذا الوقت تلك الواقعة صارت مندرسة وتلك المحنة صارت منتهية فإقدامه على قوله ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ مع أنه خانه بأعظم وجوه الخيانة إقدام على وقاحة عظيمة وعلى كذب عظيم من غير أن يتعلق به مصلحة بوجه ما والإقدام على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاً لا يليق بأحد من العقلاء فكيف يليق إسناده إلى سيد العقلاء وقدوة الأصفياء فثبت أن هذه الآية تدل دلالة قاطعة على براءته مما يقوله الجهال والحشوية
وَمَآ أُبَرِّى ءُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَة ٌ بِالسُّو ءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّى إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ

وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن تفسير هذه الآية يختلف بحسب اختلاف ما قبلها لأنا إن قلنا إن قوله ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ( يوسف 52 ) كلام يوسف كان هذا أيضاً من كلام يوسف وإن قلنا إن ذلك من تمام كلام المرأة كان هذا أيضاً كذلك ونحن نفسر هذه الآية على كلا التقديرين أما إذا قلنا إن هذا كلام يوسف عليه السلام فالحشوية تمسكوا به وقالوا إنه عليه السلام لما قال ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال جبريل عليه السلام ولا حين هممت بفك سراويلك فعند ذلك قال يوسف وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَة ٌ بِالسُّوء أي بالزنا إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى أي عصم ربي إِنَّ رَبّى غَفُورٌ للهم الذي هممت به رَّحِيمٌ أي لو فعلته لتاب علي
واعلم أن هذا الكلام ضعيف فإنا بينا أن الآية المتقدمة برهان قاطع على براءته عن الذنب بقي أن يقال فما جوابكم عن هذه الآية فنقول فيه وجهان
الوجه الأول أنه عليه السلام لما قال ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ كان ذلك جارياً مجرى مدح النفس وتزكيتها وقال تعالى فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( النجم 32 ) فاستدرك ذلك على نفسه بقوله وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى والمعنى وما أزكي نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ميالة إلى القبائح راغبة في المعصية
والوجه الثاني في الجواب أن الآية لا تدل ألبتة على شيء مما ذكروه وذلك لأن يوسف عليه السلام لما قال أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بين أن ترك الخيانة ما كان لعدم الرغبة ولعدم ميل النفس والطبيعة لأن النفس أمارة بالسوء والطبيعة تواقة إلى الذات فبين بهذا الكلام أن الترك ما كان لعدم الرغبة بل لقيام الخوف من الله تعالى أما إذا قلنا إن هذا الكلام من بقية كلام المرأة ففيه وجهان الأول وما أبرىء نفسي عن مراودته ومقصودها تصديق يوسف عليه السلام في قوله هِى َ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى الثاني أنها لما قالت ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ( يوسف 52 ) قالت وما أبرىء نفسي عن الخيانة مطلقاً فإني قد خنته حين قد أحلت الذنب عليه وقلت مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( يوسف 25 ) وأودعته السجن كأنها أرادت الاعتذار مما كان
فإن قيل جعل هذا الكلام كلاماً ليوسف أولى أم جعله كلاماً للمرأة
قلنا جعله كلاماً ليوسف مشكل لأن قوله قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الئَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ( يوسف 51 ) كلام موصول بعضه ببعض إلى آخره فالقول بأن بعضه كلام المرأة والبعض كلام يوسف مع تخلل الفواصل الكثيرة بين القولين وبين المجلسين بعيد وأيضاً جعله كلاماً للمرأة مشكل أيضاً لأن قوله وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَة ٌ بِالسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى كلام لا يحسن صدوره إلا ممن احترز عن المعاصي ثم يذكر هذا الكلام على سبيل كسر النفس وذلك لا يليق بالمرأة التي استفرغت جهدها في المعصية
المسألة الثانية قالوا مَا في قوله إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى بمعنى ( من ) والتقدير إلا من رحم ربي وما ومن كل واحد منهما يقوم مقام الآخر كقوله تعالى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) وقال

وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ ( النور 45 ) وقوله إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى استثناء متصل أو منقطع فيه وجهان الأول أنه متصل وفي تقريره وجهان الأول أن يكون قوله إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى أي إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة الثاني إلا ما رحم ربي أي إلا وقت رحمة ربي يعني أنها أمارة بالسوء في كل وقت إلا في وقت العصمة
والقول الثاني أنه استثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة كقوله وَلَّاهُمْ يُنصَرُونَ ( البقرة 48 ) إِلاَّ رَحْمَة ً مّنَّا ( يس 44 )
المسألة الثالثة اختلف الحكماء في أن النفس الإمارة بالسوء ما هي والمحققون قالوا إن النفس الإنسانية شيء واحد ولها صفات كثيرة فإذا مالت إلى العالم الإلهي كانت نفساً مطمئنة وإذا مالت إلى الشهوة والغضب كانت أمارة بالسوء وكونها أمارة بالسوء يفيد المبالغة والسبب فيه أن النفس من أول حدوثها قد ألفت المحسوسات والتذت بها وعشقتها فأما شعورها بعالم المجردات وميلها إليه فذلك لا يحصل إلا نادراً في حق الواحد فالواحد وذلك الواحد فإنما يحصل له ذلك التجرد والانكشاف طول عمره في الأوقات النادرة فلما كان الغالب هو انجذابها إلى العالم الجسداني وكان ميلها إلى الصعود إلى العالم الأعلى نادراً لا جرم حكم عليها بكونها أمارة بالسوء ومن الناس من زعم أن النفس المطمئنة هي النفس العقلية النطقية وأما النفس الشهوانية والغضبية فهما مغايرتان للنفس العقلية والكلام في تحقيق الحق في هذا الباب مذكور في المعقولات
المسألة الرابعة تمسك أصحابنا في أن الطاعة والإيمان لا يحصلان إلا من الله بقوله إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى قالوا دلت الآية على أن انصراف النفس من الشر لا يكون إلا برحمته ولفظ الآية مشعر بأنه متى حصلت تلك الرحمة حصل ذلك الانصراف فنقول لا يمكن تفسير هذه الرحمة بإعطاء العقل والقدرة والألطاف كما قاله القاضي لأن كل ذلك مشترك بين الكافر والمؤمن فوجب تفسيرها بشيء آخر وهو ترجيح داعية الطاعة على داعية المعصية وقد أثبتنا ذلك أيضاً بالبرهان القاطع وحينئذ يحصل منه المطلوب
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآئِنِ الأرض إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في هذا الملك فمنهم من قال هو العزيز ومنهم من قال بل هو الريان الذي هو الملك الأكبر وهذا هو الأظهر لوجهين الأول أن قول يوسف اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الاْرْضِ يدل عليه الثاني أن قوله أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصاً له وقد كان يوسف عليه السلام قبل ذلك خالصاً للعزيز فدل هذا على أن هذا الملك هو الملك الأكبر

المسألة الثانية ذكروا أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام وهو في الحبس وقال ( قل اللهم اجعل لي من عندك فرجاً ومخرجاً وارزقني من حيث لا أحتسب ) فقبل الله دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن وتقرير الكلام أن الملك عظم اعتقاده في يوسف لوجوه أحدها أنه عظم اعتقاده في علمه وذلك لأنه لما عجز القوم عن الجواب وقدر هو على الجواب الموافق الذي يشهد العقل بصحته مال الطبع إليه وثانيها أنه عظم اعتقاده في صبره وثباته وذلك لأنه بعد أن بقي في السجن بضع سنين لما أذن له في الخروج ما أسرع إلى الخروج بل صبر وتوقف وطلب أولاً ما يدل على براءة حاله عن جميع لتهم وثالثها أنه عظم اعتقاده في حسن أدبه وذلك لأنه اقتصر على قوله مَا بَالُ النّسْوَة ِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ( يوسف 50 ) وإن كان غرضه ذكر امرأة العزيز فستر ذكرها وتعرض لأمر سائر النسوة مع أنه وصل إليه من جهتها أنواع عظيمة من البلاء وهذا من الأدب العجيب ورابعها براءة حاله عن جميع أنواع التهم فإن الخصم أقر له بالطهارة والنزاهة والبراءة عن الجرم وخامسها أن الشرابي وصف له جده في الطاعات واجتهاده في الإحسان إلى الذين كانوافي السجن وسادسها أنه بقي في السجن بضع سنين وهذه الأمور كل واحد منها يوجب حسن الاعتقاد في الإنسان فكيف مجموعها فلهذا السبب حسن اعتقاد الملك فيه وإذا أراد الله شيئاً جمع أسبابه وقواها
إذا عرفت هذا فنقول لما ظهر للملك هذه الأحوال من يوسف عليه السلام رغب أن يتخذه لنفسه فقال ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى روي أن الرسول قال ليوسف عليه السلام ثم إلى الملك متنظفاً من درن السجن بالثياب النظيفة والهيئة الحسنة فكتب على باب السجن هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ولما دخل عليه قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم دخل عليه وسلم ودعا له بالعبرانية والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الاشتراك وهذا الملك طلب أن يكون يوسف له وحده وأنه لا يشاركه فيه غيره لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة الرفيعة فلما علم الملك أنه وحيد زمانه وفريد أقرانه أراد أن ينفرد به
روي أن الملك قال ليوسف عليه السلام ما من شيء إلا وأحب أن تشركني فيه إلا في أهلي وفي أن لا تأكل معي فقال يوسف عليه السلام أما ترى أن آكل معك وأنا يوسف بن يعقوب بن إسحق الذبيح بن إبراهيم الخليل عليه السلام ثم قال فَلَمَّا كَلَّمَهُ وفيه قولان أحدهما أن المراد فلما كلم الملك يوسف عليه السلام قالوا لأن في مجالس الملوك لا يحسن لأحد أن يبتدىء بالكلام وإنما الذي يبتدىء به هو الملك والثاني أن المراد فلما كلم يوسف الملك قيل لما صار يوسف إلى الملك وكان ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة فلما رآه الملك حدثاً شاباً قال للشرابي هذا هو الذي علم تأويل رؤياي مع أن السحرة والكهنة ماعلموها قال نعم فأقبل على يوسف وقال إني أحب أن أسمع تأويل الرؤيا منك شفاهاً فأجاب بذلك الجواب شفاهاً وشهد قلبه بصحته فعند ذلك قال له إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ يقال فلان مكين عند فلان بين المكانة أي المنزلة وهي حالة يتمكن بها صاحبها مما يريد وقوله أَمِينٌ أي قد عرفنا أمانتك وبراءتك مما نسبت إليه
واعلم أن قوله مِكِينٌ أَمِينٌ كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب وذلك لأنه لا بد

في كونه مكيناً من القدرة والعلم أما القدرة فلأن بها يحصل المكنة وأما العلم فلأن كونه متمكناً من أفعال الخير لا يحصل إلا به إذ لو لم يكن عالماً بما ينبغي وبما لا ينبغي لا يمكنه تخصيص ما ينبغي بالفعل وتخصيص ما لا ينبغي بالترك فثبت أن كونه مكيناً لا يحصل إلا بالقدرة والعلم أما كونه أميناً فهو عبارة عن كونه حكيماً لا يفعل الفعل لداعي الشهوة بل إنما يفعله لداعي الحكمة فثبت أن كونه مكيناً أميناً يدل على كونه قادراً وعلى كونه عالماً بمواقع الخير والشر والصلاح والفساد وعلى كونه بحيث يفعل لداعي الحكمة لا لداعية الشهوة وكل من كان كذلك فإنه لا يصدر عنه فعل الشر والسفه فلهذا المعنى لما حاولت المعتزلة إثبات أنه تعالى لا يفعل القبيح قالوا إنه تعالى لا يفعل القبيح لأنه تعالى عالم بقبح القبيح عالم بكونه غنياً عنه وكل من كان كذلك لم يفعل القبيح قالوا وإنما يكون غنياً عن القبيح إذا كان قادراً وإذا كان منزهاً عن داعية السفه فثبت أن وصفه بكونه مكيناً أميناً نهاية ما يمكن ذكره في هذا الباب ثم حكى تعالى أن يوسف عليه السلام قال في هذا المقام اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الاْرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال المفسرون لما عبر يوسف عليه السلام رؤيا الملك بين يديه قال له الملك فما ترى أيها الصديق قال أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنون المجدبة بعنا الغلات فيحصل بهذا الطريق مال عظيم فقال الملك ومن لي بهذا الشغل فقال يوسف اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الاْرْضِ أي على خزائن أرض مصر وأدخل الألف واللام على الأرض والمراد منه المعهود السابق روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية أنه قال ( رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لأستعمله من ساعته لكنه لما قال ذلك أخره عنه سنة ) وأقول هذا من العجائب لأنه لما تأبى عن الخروج من السجن سهل الله عليه ذلك على أحسن الوجوه ولما تسارع في ذكر الالتماس أخر الله تعالى ذلك المطلوب عنه وهذا يدل على أن ترك التصرف والتفويض بالكلية إلى الله تعالى أولى
المسألة الثانية لقائل أن يقول لم طلب يوسف الإمارة والنبي عليه الصلاة والسلام قال لعبد الرحمن بن سمرة ( لا تسأل الإمارة ) وأيضاً فكيف طلب الإمارة من سلطان كافر وأيضاً لم لم يصبر مدة ولم أظهر الرغبة في طلب الأمارة في الحالة وأيضاً لم طلب أمر الخزائن في أول الأمر مع أن هذا يورث نوع تهمة وأيضاً كيف جوز من نفسه مدح نفسه بقوله إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ مع أنه تعالى يقول فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( النجم 32 ) وأيضاً فما الفائدة في قوله إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ وأيضاً لم ترك الاستثناء في هذا فإن الأحسن أن يقول إني حفيظ عليم إن شاء الله بدليل قوله تعالى وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الكهف 23 24 ) فهذه أسئلة سبعة لا بد من جوابها فنقول الأصل في جواب هذه المسائل أن التصرف في أمور الخلق كان واجباً عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان إنما قلنا إن ذلك التصرف كان واجباً عليه لوجوه الأول أنه كان رسولاً حقاً من الله تعالى إلى الخلق والرسول يجب عليه رعاية مصالح الأمة بقدر الإمكان والثاني وهو أنه عليه السلام علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضيق الشديد الذي ربما أفضى إلى هلاك الخلق العظيم فلعله تعالى أمره بأن يدبر في ذلك ويأتي بطريق لأجله يقل ضرر ذلك القحط في حق الخلق والثالث أن السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم أمر مستحسن في العقول

وإذا ثبت هذا فنقول إنه عليه السلام كان مكلفاً برعاية مصالح الخلق من هذه الوجوه وما كان يمكنه رعايتها إلا بهذا الطريق وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فكان هذا الطريق واجباً عليه ولما كان واجباً سقطت الأسئلة بالكلية وأما ترك الاستثناء فقال الواحدي كان ذلك من خطيئة أوجبت عقوبة وهي أنه تعالى أخر عنه حصول ذلك المقصود سنة وأقول لعل السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء لاعتقد فيه الملك أنه إنما ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي فلأجل هذا المعنى ترك الاستثناء وأما قوله لم مدح نفسه فجوابه من وجوه الأول لا نسلم أنه مدح نفسه لكنه بين كونه موصوفاً بهاتين الصفتين النافعتين في حصول هذا المطلوب وبين البابين فرق وكأنه قد غلب على ظنه أنه يحتاج إلى ذكر هذا الوصف لأن الملك وإن علم كماله في علوم الدين لكنه ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر ثم نقول هب أنه مدح نفسه إلا أن مدح النفس إنما يكون مذموماً إذا قصد الرجل به التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل فأما على غير هذا الوجه فلا نسلم أنه محرم فقوله تعالى فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( النجم 32 ) المراد منه تزكية النفس حال مايعلم كونها غير متزكية والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى أما إذا كان الإنسان عالماً بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه والله أعلم
قوله ما الفائدة في وصفه نفسه بأنه حفيظ عليم
قلنا إنه جار مجرى أن يقول حفيظ بجميع الوجوه التي منها يمكن تحصيل الدخل والمال عليم بالجهات التي تصلح لأن يصرف المال إليها ويقال حفيظ بجميع مصالح الناس عليم بجهات حاجاتهم أو يقال حفيظ لوجوه أياديك وكرمك عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والخضوع وهذا باب واسع يمكن تكثيره لمن أراده
وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأرض يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاّجْرُ الاٌّ خِرَة ِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن يوسف عليه السلام لما التمس من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لم يحك الله عن الملك أنه قال قد فعلت بل الله سبحانه قال وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ فههنا المفسرون قالوا في الكلام محذوف وتقديره قال الملك قد فعلت إلا أن تمكين الله له في الأرض يدل على أن الملك الملك قد أجابه إلى ما سأل وأقول ما قالوه حسن إلا أن ههنا ما هو أحسن منه وهو أن إجابة الملك له سبب في عالم الظاهر وأما المؤثر الحقيقي فليس إلا أنه تعالى مكنه في الأرض وذلك لأن ذلك الملك كان متمكناً من القبول ومن الرد فنسبة قدرته إلى القبول وإلى الرد على التساوي وما دام يبقى هذ التساوي امتنع حصول القبول فلا بد وأن يترجح القبول على الرد في خاطر ذلك الملك وذلك الترجح لا يكون إلا

بمرجح يخلقه الله تعالى إذا خلق الله تعالى ذلك المرجح حصل القبول لا محالة فالتمكن ليوسف في الأرض ليس إلا من خلق الله تعالى في قلب ذلك الملك بمجموع القدرة والداعية الجازمة اللتين عند حصولهما يجب الأثر فلهذا السبب ترك الله تعالى ذكر إجابة الملك واقتصر على ذكر التمكين الإلهي لأن المؤثر الحقيقي ليس إلا هو
المسألة الثانية روي أن الملك توجه وأخرج خاتم الملك وجعله في أصبعه وقلد بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت فقال يوسف عليه السلام أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي وجلس على السرير ودانت له القوم وعزل الملك قطفير زوج المرأة المعلومة ومات بعد ذلك وزوجه الملك امرأته فلما دخل عليها قال أليس هذا خيراً مما طلبت فوجدها عذراء فولدت له ولدين أفرايم وميشا وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء وأسلم على يده الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم سنين فقالوا والله ما رأينا ملكاً أعظم شأناً من هذا الملك حتى صار كل الخلق عبيداً له فلما سمع ذلك قال إني أشهد الله أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم وكان لا يبيع لأحد ممن يطلب الطعام أكثر من حمل البعير لئلا يضيق الطعام على الباقين هكذا رواه صاحب ( الكشاف ) والله أعلم
المسألة الثالثة قوله وَكَذالِكَ الكاف منصوبة بالتمكين وذلك إشارة إلى ما تقدم يعني به ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملك وإنجائنا إياه من غم الحبس وقوله مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع وقوله يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء يتبوأ في موضع نصب على الحال تقديره مكناه متبوأ وقرأ ابن كثير نَشَاء بالنون مضافاً إلى الله تعالى والباقون بالياء مضافاً إلى يوسف
واعلم أن قوله يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء يدل على أنه صار في الملك بحيث لا يدافعه أحد ولا ينازعه منازع بل صار مستقلاً بكل ما شاء وأراد ثم بين تعالى ما يؤكد أن ذلك من قبله فقال نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً أن ذلك التمكين كان من الله لا من أحد سواه وهو قوله كَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ ثم أكد ذلك ثانياً بقوله نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وفيه فائدتان
الفائدة الأولى أن هذا يدل على أن الكل من الله تعالى قال القاضي تلك المملكة لما لم تتم إلا بالأمور فعلها الله تعالى صارت كأنها حصلت من قبله تعالى
وجوابه أنا ندعي أن نفس تلك المملكة إنما حصلت من قبل الله تعالى لأن لفظ القرآن يدل على قولنا والبرهان القاطع الذي ذكرناه يقوي قولنا فصرف هذا اللفظ إلى المجاز لا سبيل إليه
الفائدة الثانية أنه أتاه ذلك بمحض المشيئة الإلهية والقدرة النافذة قال القاضي هذه الآية تدل على أنه تعالى يجري أمر نعمه على ما يقتضيه الصلاح

قلنا الآية تدل على أن الأمور معلقة بالمشيئة الإلهية والقدرة المحضة فأمارعاية قيد الصلاح فأمر اعتبرته أنت من نفسك مع أن اللفظ لا يدل عليه
ثم قال تعالى وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وذلك لأن إضاعة الأجر إما أن يكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق الله تعالى فكانت الإضاعة ممتنعة
واعلم أن هذا شهادة من الله تعالى على أن يوسف عليه السلام كان من المحسنين ولو صدق القول بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال إنه كان من المحسنين فههنا لزم إما تكذيب الله في حكمه على يوسف بأنه كان من المحسنين وهو عين الكفر أو لزم تكذيب الحشوي فيما رواه وهو عين الإيمان والحق
ثم قال تعالى وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ وفيه مسائل
المسألة الأول في تفسير هذه الآية قولان
القول الأول المراد منه أن يوسف عليه السلام وإن كان قد وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا إلا أن الثواب الذي أعده الله له في الآخرة خير وأفضل وأكمل وجهات الترجيح قد ذكرناها في هذا الكتاب مراراً وأطواراً وحاصل تلك الوجوه أن الخير المطلق هو الذي يكون نفعاً خالصاً دائماً مقروناً بالتعظيم وكل هذه القيود الأربعة حاصلة في خيرات الآخرة ومفقودة في خيرات الدنيا
القول الثاني أن لفظ الخير قد يستعمل لكون أحد الخيرين أفضل من الآخر كما يقال الجلاب خير من الماء وقد يستعمل لبيان كونه في نفسه خيراً من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل كما يقال الثريد خير من الله يعني الثريد خير من الخيرات حصل بإحسان من الله
إذا ثبت هذا فقوله وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ إن حملناه على الوجه الأول لزم أن تكون ملاذ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضاً وأما إن حملناه على الوجه الثاني لزم أن لا يقال إن منافع الدنيا أيضاً خيرات بل لعله يفيد أن خير الآخرة هو الخير وأما ما سواه فعبث
المسألة الثانية لا شك أن المراد من قوله وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ شرح حال يوسف عليه السلام فوجب أن يصدق في حقه أنه من الذين آمنوا وكانوا يتقون وهذا تنصيص من الله عز وجل على أنه كان في الزمان السابق من المتقين وليس ههنا زمان سابق ليوسف عليه السلام يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله فيه وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ( يوسف 24 ) فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين وأيضاً قوله وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان من المحسنين وقوله إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ شهادة من الله تعالى على أنه من المخلصين فثبت أن الله تعالى شهد بأن يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين والجاهل الحشوي يقول إنه كان من الأخسرين المذنبين ولا شك أن من لم يقل بقول الله سبحانه وتعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين
المسألة الثالثة قال القاضي قوله تعالى وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ يدل على بطلان قول المرجئة الذين يزعمون أن الثواب يحصل في الآخرة لمن لم يتق الكبائر

قلنا هذا ضعيف لأنا إن حملنا لفظ خير على أفعل التفضيل لزم أن يكون الثواب الحاصل للمتقين أفضل ولا يلزم أن لا يحصل لغيرهم أصلاً وإن حملناه على أصل معنى الخيرية فهذا يدل على حصول هذا الخير للمتقين ولا يدل على أن غيرهم لا يحصل لهم هذا الخير
وَجَآءَ إِخْوَة ُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ
اعلم أنه لما عم القحط في البلاد ووصل أيضاً إلى البلدة التي كان يسكنها يعقوب عليه السلام وصعب الزمان عليهم فقال لبنيه إن بمصر رجلاً صالحاً يمير الناس فاذهبوا إليه بدراهمكم وخذوا الطعام فخرجوا إليه وهم عشرة ودخلوا على يوسف عليه السلام وصارت هذه الواقعة كالسبب في اجتماع يوسف عليه السلام مع إخوته وظهور صدق ما أخبر الله تعالى عنه في قوله ليوسف عليه السلام حال ما ألقوه في الجب لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( يوسف 15 ) وأخبر تعالى أن يوسف عرفهم وهم ما عرفوه ألبتة أما أنه عرفهم فلأنه تعالى كان قد أخبره في قوله لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ بأنهم يصلون إليه ويدخلون عليه وأيضاً الرؤيا التي رآها كانت دليلاً على أنهم يصلون إليه فلهذا السبب كان يوسف عليه السلام مترصداً لذلك الأمر وكان كل من وصل إلى بابه من البلاد البعيدة يتفحص عنهم ويتعرف أحوالهم ليعرف أن هؤلاء الواصلين هل هم إخوته أم لا فلما وصل إخوة يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم تفحصاً ظهر له أنهم إخوته وأما أنهم ما عرفوه فلوجوه الأول أنه عليه السلام أمر حجابه بأن يوقفوهم من البعد وما كان يتكلم معهم إلا بالواسطة ومتى كان الأمر كذلك لا جرم أنهم لم يعرفوه لا سيما مهابة الملك وشدة الحاجة يوجبان كثرة الخوف وكل ذلك مما يمنع من التأمل التام الذي عنده يحصل العرفان والثاني هو أنهم حين ألقوه في الجب كان صغيراً ثم إنهم رأوه بعد وفور اللحية وتغير الزي والهيئة فإنهم رأوه جالساً على سريره وعليه ثياب الحرير وفي عنقه طوق من ذهب وعلى رأسه تاج من ذهب والقوم أيضاً نسوا واقعة يوسف عليه السلام لطول المدة فيقال إن من وقت ما ألقوه في الجب إلى هذا الوقت كان قد مضى أربعون سنة وكل واحد من هذه الأسباب يمنع من حصول المعرفة لا سيما عند اجتماعها والثالث أن حصول العرفان والتذكير بخلق الله تعالى فلعله تعالى ما خلق ذلك العرفان والتذكير في قلوبهم تحقيقاً لما أخبره عنه بقوله لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وكان ذلك من معجزات يوسف عليه السلام
ثم قال تعالى وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قال الليث جهزت القوم تجهيزاً إذا تكلفت لهم جهازهم

للسفر وكذلك جهاز العروس والميت وهو ما يحتاج إليه في وجهه قال وسمعت أهل البصرة يقولون الجهاز بالكسر قال الأزهري القراء كلهم على فتح الجيم والكسر لغة ليست بجيدة قال المفسرون حمل لكل رجل منهم بعيراً وأكرمهم أيضاً بالنزول وأعطاهم ما احتاجوا إليه في السفر فذلك قوله جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ ثم بين تعالى أنه لما جهزهم بجهازهم قال ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ
واعلم أنه لا بد من كلام سابق حتى يصير ذلك الكلام سبباً لسؤال يوسف عن حال أخيهم وذكروا فيه وجوهاً
الوجه الأول وهو أحسنها إن عادة يوسف عليه السلام مع الكل أن يعطيه حمل بعير لا أزيد عليه ولا أنقص وإخوة يوسف الذين ذهبوا إليه كانوا عشرة فأعطاهم عشرة أحمال فقالوا إن لنا أباً شيخاً كبيراً وأخاً آخر بقي معه وذكروا أن أباهم لأجل سنه وشدة حزنه لم يحضر وأن أخاهم بقي في خدمة أبيه ولا بد لهما أيضاً من شيء من الطعام فجهز لهما أيضاً بعيرين آخرين من الطعام فلما ذكروا ذلك قال يوسف فهذا يدل على أن أحب أبيكم له أزيد من حبه لكم وهذا شيء عجيب لأنكم مع جمالكم وعقلكم وأدبكم إذا كانت محبة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم دل هذا على أن ذلك أعجوبة في العقل وفي الفضل والأدب فجيئوني به حتى أراه فهذا السبب محتمل مناسب
والوجه الثاني أنهم لما دخلوا عليه عليه السلام وأعطاهم الطعام قال لهم من أنتم قالوا نحن قوم رعاة من أهل الشام أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال لعلكم جئتم عيوناً فقالوا معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد شيخ صديق نبي اسمه يعقوب قال كم أنتم قالوا كنا اثني عشر فهلك منا واحد وبقي واحد مع الأب يتسلى به عن ذلك الذي هلك ونحن عشرة وقد جئناك قال فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخ لكم من أبيكم ليبلغ إلي رسالة أبيكم فعند هذا أقرعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا في يوسف فخلفوه عنده
والوجه الثالث لعلهم لما ذكروا أباهم قال يوسف فلم تركتموه وحيداً فريداً قالوا ما تركناه وحيداً بل بقي عنده واحد فقال لهم لم استخلصه لنفسه ولم خصه بهذا المعنى لأجل نقص في جسده فقالوا لا بل لأجل أنه يحبه أكثر من محبته لسائر الأولاد فعند هذا قال يوسف لما ذكرتم أن أباكم رجل عالم حكيم بعيد عن المجازفة ثم إنه خصه بمزيد المحبة وجب أن يكون زائداً عليكم في الفضل وصفات الكمال مع أني أراكم فضلاء علماء حكماء فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ فائتوني به والسبب الثاني ذكره المفسرون والأول والثالث محتمل والله أعلم
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه قال أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الْكَيْلَ أي أتمه ولا أبخسه وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم وأنا خير المنزلين أي خير المضيفين لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم وأقول هذا الكلام يضعف الوجه الثاني وهو الذي نقلناه عن المفسرين لأن مدار ذلك الوجه على أنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم جواسيس ولو شافههم بذلك الكلام فلا يليق به أن يقوم لهم أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ وأيضاً يبعد من يوسف عليه السلام مع كونه صديقاً أن يقول لهم أنتم جواسيس وعيون مع أنه

يعرف براءتهم عن هذه التهمة لأن البهتان لا يليق بحال الصديق
ثم قال فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ
واعلم أنه عليه السلام لما طلب منهم إحضار ذلك الأخ جمع بين الترغيب والترهيب أما الترغيب فهو قوله أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ وأما الترهيب فهو قوله فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ وذلك لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى تحصيل الطعام وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده فإذا منعهم من الحضور عنده كان ذلك نهاية الترهيب والتخويف ثم إنهم لما سمعوا هذا الكلام من يوسف قالوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ أي سنجتهد ونحتال على أن ننزعه من يده وإنا لفاعلون هذه المراودة والغرض من التكرير التأكيد ويحتمل أن يكون وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ أن نجيئك به ويحتمل وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ كل ما في وسعنا من هذا الباب
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ
في الآية مسائل
المسائل الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم لفتيانه بالألف والنون والباقون لفتيته بالتاء من غير ألف وهما لغتان كالصبيان والصبية والإخوان والإخوة قال أبو علي الفارسي الفتية جمع فتى في العدد القليل والفتيان للكثير فوجه البناء الذي للعدد القليل أن الذين يحيطون بما يجعلون بضاعتهم فيه من رحالهم يكونون قليلين لأن هذا من باب الأسرار فوجب صونه إلا عن العدد القليل ووجه الجمع الكثير أنه قال لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ والرحال تفيد العدد الكثير فوجب أن يكون الذين يباشرون ذلك العمل كثيرين
المسألة الثانية اتفق الأكثرون على أن إخوة يوسف ما كانوا عالمين بجعل البضاعة في رحالهم ومنهم من قال إنهم كانوا عارفين به وهو ضعيف لأن قوله لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا يبطل ذلك ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم على وجوه الأول أنهم متى فتحوا المتاع فوجدوا بضاعتهم فيه علموا أن ذلك كان كرماً من يوسف وسخاء محضاً فيبعثهم ذلك على العود إليه والحرص على معاملته الثاني خاف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى الثالث أراد به التوسعة على

أبيه لأن الزمان كان زمان القحط الرابع رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع شدة حاجتهم إلى الطعام لؤم الخامس قال الفراء إنهم متى شاهدوا بضاعتهم في رحالهم وقع في قلوبهم أنهم وضعوا تلك البضاعة في رحالهم على سبيل السهو وهم أنبياء وأولاد الأنبياء فرجعوا ليعرفوا السبب فيه أو رجعوا ليردوا المال إلى مالكه السادس أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم به عيب ولا منة السابع مقصوده أن يعرفوا أنه لا يطلب ذلك الأخ لأجل الإيذاء والظلم ولا لطلب زيادة في الثمن الثامن أراد أن يعرف أبوه أنه أكرمهم وطلبه له لمزيد الإكرام فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه التاسع أراد أن يكون ذلك المال معونة لهم على شدة الزمان وكان يخاف اللصوص من قطع الطريق فوضع تلك الدراهم في رحالهم حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم العاشر أراد أن يقابل مبالغتهم في الإساءة بمبالغته في الإحسان إليهم
ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم لما رجعوا إلى أبيهم قالوا قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ وفيه قولان الأول أنهم لما طلبوا الطعام لأبيهم وللأخ الباقي عنده منعوا منه فقولهم مَنَعَ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إشارة إليه والثاني أنه منع الكيل في المستقبل وهو إشارة إلى قول يوسف فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى ( يوسف 60 ) والدليل على أن المراد ذلك قولهم فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ قرأ حمزة والكسائي يكتل بالياء والباقون بالنون والقراءة الأولى تقوى القول الأول والقراءة الثانية تقوي القول الثاني ثم قالوا وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ضمنوا كونهم حافظين له فلما قالوا ذلك قال يعقوب عليه السلام هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ والمعنى أنكم ذكرتم قبل هذا الكلام في يوسف وضمنتم لي حفظه حيث قلتم وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( يوسف 12 ) ثم ههنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه فهل يكون ههنا أماني إلا ما كان هناك يعني لما لم يحصل الأمان هناك فكذلك لا يحصل ههنا
ثم قال فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ قرأ حمزة والكسائي حَافِظًا بالألف على التمييز والتفسير على تقدير هو خير لكم حافظاً كقولهم هو خيرهم رجلاً ولله دره فارساً وقيل على الحال والباقون حَافِظًا بغير ألف على المصدر يعني خيركم حفظاً يعني حفظ الله لبنيامين خير من حفظكم وقرأ الأعمش فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وقرأ أبو هريرة رضي الله عنه خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ وقيل معناه وثقت بكم في حفظ يوسف عليه السلام فكان ما كان فالآن أتوكل على الله في حفظ بنيامين
فإن قيل لم بعثه معهم وقد شاهد ما شاهد
قلنا لوجوه أحدها أنهم كبروا ومالوا إلى الخير والصلاح وثانيها أنه كان يشاهد أنه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسد والحقد مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام وثالثها أن ضرورة القحط أحوجته إلى ذلك ورابعها لعله تعالى أوحى إليه وضمن حفظه وإيصاله إليه
فإن قيل هل يدل قوله فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا على أنه أذن في ذهاب ابنه بنيامين في ذلك الوقت
قلنا الأكثرون قالوا يدل عليه وقال آخرون لا يدل عليه وفيه وجهان الأول التقدير أنه لو أذن في خروجه معهم لكان في حفظ الله لا في حفظهم الثاني أنه لما ذكر يوسف قال فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا أي ليوسف لأنه كان يعلم أنه حي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66