كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

من هذه الأفعال والأحوال
المسألة الثامنة في أن الولي هل يعرف كونه ولياً قال الأستاذ أبو بكر بن فورك لا يجوز وقال الأستاذ أبو علي الدقاق وتلميذه أبو القاسم القشيري يجوز وحجة المانعين وجوه
الحجة الأولى لو عرف الرجل كونه ولياً لحصل له الأمن بدليل قوله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ لكن حصول الأمن غير جائز ويدل عليه وجوه أحدها قوله مالي فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ واليأس أيضاً غير جائز لقوله تعالى يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن ولقوله تعالى وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَة ِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ والمعنى فيه أن الأمن لا يحصل إلا عند اعتقاد العجز واليأس لا يحصل إلا عند اعتقاد البخل واعتقاد العجز والبخل في حق الله كفر فلا جرم كان حصول الأمن والقنوط كفراً الثاني أن الطاعات وإن كثرت إلا أن قهر الحق أعظم ومع كون القهر غالباً لا يحصل الأمن الثالث أن الأمن يقتضي زوال العبودية وترك الخدمة والعبودية يوجب العداوة والأمن يقتضي ترك الخوف الرابع أنه تعالى وصف المخلصين بقوله وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ قيل رغباً في ثوابنا ورهباً من عقابنا وقيل رغباً في فضلنا ورهباً من عدلنا وقيل رغباً في وصالنا ورهباً من فراقنا والأحسن أن يقال رغباً فينا ورهباً منا
الحجة الثانية على أن الولي لا يعرف كونه ولياً أن الولي إنما يصير ولياً لأجل أن الحق يحبه لا لأجل أنه يحب الحق وكذلك القول في العدو ثم إن محبة الحق وعداوته سران لا يطلع عليهما أحد فطاعات العباد ومعاصيهم لا تؤثر في محبة الحق وعداوته لأن الطاعات والمعاصي محدثة وصفات الحق قديمة غير متناهية والمحدث المتناهي لا يصير غالباً للقديم غير المتناهي وعلى هذا التقدير فربما كان العبد في الحال في عين المعصية إلا أن نصيبه من الأزل عين المحبة وربما كان العبد في الحال في عين الطاعة ولكن نصيبه من الأزل عين العداوة وتمام التحقيق أن محبته وعداوته صفة وصفة الحق غير معللة ومن كانت محبته لا لعلة فإنه يمتنع أن يصير عدواً بعلة المعصية ومن كانت عدواته لا لعلة يمتنع أن يصير محباً لعلة الطاعة ولما كانت محبة الحق وعداوته سرين لا يطلع عليهما لا جرم قال عيسى عليه السلام تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
الحجة الثالثة على أن الولي لا يعرف كونه ولياً أن الحكم بكونه ولياً وبكونه من أهل الثواب والجنة يتوقف على الخاتمة والدليل عليه قوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ولم يقل من عمل حسنة فله عشر أمثالها وهذا يدل على أن استحقاق الثواب مستفاد من الخاتمة لا من أول العمل والذي يؤكد ذلك أنه لو مضى عمره في الكفر ثم أسلم في آخر الأمر كان من أهل الثواب وبالضد وهذا دليل على أن العبرة بالخاتمة لا بأول العمل ولهذا قال تعالى قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ فثبت أن العبرة في الولاية والعداوة وكونه من أهل الثواب أو من أهل العقاب بالخاتمة فظهر أن الخاتمة غير معلومة لأحد فوجب القطع بأن الولي لا يعلم كونه ولياً أما الذين قالوا إن الولي قد يعرف كونه ولياً فقد احتجوا على صحة قولهم بأن الولاية لها ركنان أحدهما كونه في الظاهر منقاداً للشريعة الثاني كونه في الباطن مستغرقاً في نور الحقيقة فإذا حصل الأمران وعرف الإنسان حصولهما

عرف لا محالة كونه ولياً أما الانقياد في الظاهر للشريعة فظاهر وأما استغراق الباطن في نور الحقيقة فهو أن يكون فرحه بطاعة الله واستئناسه بذكر الله وأن لا يكون له استقرار مع شيء سوى الله والجواب أن تداخل الأغلاط في هذا الباب كثيرة غامضة والقضاء عسر والتجربة خطر والجزم غرور ودون الوصول إلى عالم الربوبية أستار تارة من النيران وأخرى من الأنوار والله العالم بحقائق الأسرار ولنرجع إلى التفسير
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَة ٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلاهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَاؤُلا ءِ قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَة ً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
اعلم أنه تعالى ذكر من قبل جملة من واقعتهم ثم قال نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقّ أي على وجه الصدق نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم كانوا جماعة من الشبان آمنوا بالله ثم قال تعالى في صفاتهم وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أي ألهمناها الصبر وثبتناها إِذْ قَامُواْ وفي هذا القيام أقوال الأول قال مجاهد كانوا عظماء مدينتهم فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد فقال رجل منهم أكبر القوم إني لأجد في نفسي شيئاً ما أظن أن أحداً يجده قالوا ما تجد قال أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض القول الثاني أنهم قاموا بين يدي ملكهم دقيانوس الجبار وقالوا ربنا رب السموات والأرض وذلك لأنه كان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى عصوا ذلك الجبار وأقروا بربوبية الله وصرحوا بالبراءة عن الشركاء والأنداد والقول الثالث وهو قول عطاء ومقاتل أنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم وهذا بعيد لأن الله استأنف قصتهم بقوله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ وقوله لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا معنى الشطط في اللغة مجاوزة الحد قال الفراء يقال قد أشط في السوم إذ جاوز الحد ولم يسمع إلا أشط يشط أشطاطاً وشططاً وحكى الزجاج وغيره شط الرجل وأشط إذا جاوز الحد ومنه قوله وَلاَ تُشْطِطْ ( ص 22 ) وأصل هذا من قولهم شطت الدار إذا بعدت فالشطط البعد عن الحق وهو ههنا منصوب على المصدر والمعنى لقد قلنا إذا قولاً شططاً أما قوله هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً هذا من قول أصحاب الكهف ويعنون الذين كانوا في زمان دقيانوس عبدوا الأصنام لَّوْلاَ يَأْتُونَ لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيّنٍ بحجة بينة

ومعنى عليهم أي على عبادة الآلهة ومعنى الكلام أن عدم البينة بعدم الدلائل على ذلك لا يدل على عدم المدلول ومن الناس من يحتج بعدم الدليل على عدم المدلول ويستدل على صحة هذه الطريقة بهذه الآية فقال إنه تعالى استدل على عدم الشركاء والأضداد بعدم الدليل عليها فثبت أن الاستدلال بعدم الدليل على عدم المدلول طريقة قوية ثم قال فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا يعني أن الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلم وافتراء على الله وكذب عليه وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتقليد
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ اللَّهَ فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّى ءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقًا وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَة ٍ مِّنْهُ ذالِكَ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا
اعلم أن المراد أنه قال بعضهم لبعض وَإِذَا اعْتَزَلْتُمُوهُمْ واعتزلتم الشيء الذي يعبدونه إلا الله فإنكم لم تعتزلوا عبادة الله فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ قال الفراء هو جواب إذ كما تقول إذ فعلت كذا فافعل كذا ومعناه إذهبوا إليه واجعلوه مأواكم يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ أي يبسطها عليكم وَيُهَيّىء لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا قرأن افع وابن عامر وعاصم في رواية مرفقاً بفتح الميم وكسر الفاء والباقون مرفقاً بكسر الميم وفتح الفاء قال الفراء وهما لغتان واشتقاقهما من الإرتفاق وكان الكسائي ينكر في مرفق الإنسان الذي في اليد إلا كسر الميم وفتح الفاء والفراء يجيزه في الأمر وفي اليد وقيل هما لغتان إلا أن الفتح أقيس والكسر أكثر وقيل المرفق ما ارتفقت به والمرفق بالفتح المرافق ثم قال تعالى وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ وفيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن عامر تَزْوَرُّ ساكنة الزاي المعجمة مشددة الراء مثل تحمر وقرأ عاصم وحمزة والكسائي تزاور بالألف والتخفيف والباقون تزاور بالتشديد والألف والكل بمعنى واحد والتزاور هو الميل والانحراف ومنه زاره إذا مال إليه والزور الميل عن الصدق وأما التشديد فأصله تتزاور سكنت التاء الثانية وأدغمت في الزاي وأما التخفيف فهو تفاعل من الزور وأما تزور فهو من الإزورار
البحث الثاني قوله وَتَرَى الشَّمْسَ أي أنت أيها المخاطب ترى الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم وليس المراد أن من خوطب بهذا يرى هذا المعنى ولكن العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو ومعناه أنك لو رأيته على هذه الصورة
البحث الثالث قوله ذَاتَ الْيَمِينِ أي جهة اليمين وأصله أن ذات صفة أقيمت مقام الموصوف لأنها

تأنيث ذو في قولهم رجل ذو مال وامرأة ذات مال والتقدير كأنه قيل تزاور عن كهفهم جهة ذات اليمين وأما قوله وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ ففيه بحثان
البحث الأول قال الكسائي قرضت المكان أي عدلت عنه وقال أبو عبيدة القرض في أشياء فمنها القطع وكذلك السير في البلاد أي إذا قطعها تقول لصاحبك هل وردت مكان كذا فيقول المجيب إنما قرضته فقوله تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ أي تعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال
البحث الثاني للمفسرين ههنا قولان القول الأول أن باب ذلك الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف وإذا غربت كانت على شماله فضوء الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل والمقصود أن الله تعالى صان أصحاب الكهف من أن يقع عليهم ضوء الشمس وإلا لفسدت أجسامهم فهي مصونة عن العفونة والفساد والقول الثاني أنه ليس المراد ذلك وإنما المراد أن الشمس إذا طلعت منع الله ضوء الشمس من الوقوع وكذا القول حال غروبها وكان ذلك فعلاً خارقاً للعادة وكرامة عظيمة خص الله بها أصحاب الكهف وهذا قول الزجاج واحتج على صحته بقوله ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ قال ولو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول لكان ذلك أمراً معتاداً مألوفاً فلم يكن ذلك من آيات الله وأما إذا حملنا الآية على هذا الوجه الثاني كان ذلك كرامة عجيبة فكانت من آيات الله واعلم أنه تعالى أخبر بعد ذلك أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح ونسيم الهواء قال وَهُمْ فِى فَجْوَة ٍ مّنْهُ أي من الكهف والفجوة متسع في مكان قال أبو عبيدة وجمعها فجوات ومنه الحديث ( فإذا وجد فجوة نص ) ثم قال تعالى ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وفيه قولان الذين قالوا إنه يمنع وصول ضوء الشمس بقدرته قالوا المراد من قوله ذلك أي ذلك التزاور والميل والذين لم يقولوا به قالوا المراد بقوله ذلك أي ذلك الحفظ الذي حفظهم الله في الغار تلك المدة الطويلة من آيات الله الدالة على عجائب قدرته وبدائع حكمته ثم بين تعالى أنه كما أن بقاءهم هذه المدة الطويلة مصوناً عن الموت والهلاك من تدبيراته ولطفه وكرمه فكذلك رجوعهم أولاً عن الكفر ورغبتهم في الإيمان كان بإعانة الله ولطفه فقال مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ مثل أصحاب الكهف وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا كدقيانوس الكافر وأصحابه ومناظرات أهل الجبر والقدر في هذه الآية معلومة
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا
اعلم أن معنى قوله وَتَحْسَبُهُمْ على ما ذكرناه في قوله وَتَرَى الشَّمْسَ أي لو رأيتهم لحسبتهم أَيْقَاظًا وهو جمع يقظ ويقظان قاله الأخفش وأبو عبيدة والزجاج وأنشدوا لرؤبة
ووجدوا إخوانهم أيقاظاً

ومثله قوله نجد ونجدان وأنجاد وهم رقود أي نائمون وهو مصدر سمي المفعول به كما يقال قوم ركوع وقعود وسجود يوصف الجمع بالمصدر ومن قال إنه جمع راقد فقد أبعد لأنه لم يجمع فاعل على فعول قال الواحدي وإنما يحسبون أَيْقَاظًا لأن أعينهم مفتحة وهم نيام وقال الزجاج لكثرة تقلبهم يظن أنهم أيقاظ والدليل عليه قوله تعالى وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشّمَالِ واختلفوا في مقدار مدة التقليب فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن لهم في كل عام تقليبتين وعن مجاهد يمكثون على أيمانهم تسع سنين ثم يقلبون على شمائلهم فيمكثون رقوداً تسع سنين وقيل لهم تقليبة واحدة في يوم عاشوراء وأقول هذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ولفظ القرآن لا يدل عليه وما جاء فيه خبر صحيح فكيف يعرف وقال ابن عباس رضي الله عنهما فائدة تقليبهم لئلا تأكل الأرض لحومهم ولا تبليهم وأقول هذا عجيب لأنه تعالى لما قدر على أن يمسك حياتهم مدة ثلثمائة سنة وأكثر فلم لا يقدر على حفظ أجسادهم أيضاً من غير تقليب وقوله ذَاتُ منصوبة على الظرف لأن المعنى نقلبهم في ناحية عَنِ الْيَمِينِ أو على ناحية الْيَمِينِ كما قلنا في قوله تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وقوله وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ قال ابن عباس وأكثر المفسرين قالوا إنهم هربوا ليلاً من ملكهم فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ومعه كلبه وقال كعب مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه فعاد ففعلوا مراراً فقال لهم الكلب ما تريدون مني لا تخشوا جانبي أنا أحب أحباء الله فناموا حتى أحرسكم وقال عبيد بن عمير كان ذلك كلب صيدهم ومعنى بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ أي يلقيهما على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين ومنه الحديث في الصلاة ( أنه نهى عن افتراش السبع ) وقال ( لا تفترش ذراعيك افتراش السبع ) قوله بِالوَصِيدِ يعني فناء الكهف قال الزجاج الوصيد فناء البيت وفناء الدار وجمعه وصائد ووصد وقال يونس والأخفش والفراء الوصيد والأصيد لغتان مثل الوكاف والإكاف وقال السدي الوصيد الباب والكهف لا يكون له باب ولا عتبة وإنما أراد أن الكلب منه بموضع العتبة من البيت ثم قال بِالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أي أشرفت عليهم يقال اطلعت عليهم أي أشرفت عليهم ويقال أطلعت فلاناً على الشيء فاطلع وقوله لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا قال الزجاج قوله فِرَاراً منصوب على المصدر لأن معنى وليت منهم فررت وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا أي فزعاً وخوفاً قيل في التفسير طالت شعورهم وأظفارهم وبقيت أعينهم مفتوحة وهم نيام فلهذا السبب لو رآهم الرائي لهرب منهم مرعوباً وقيل إنه تعالى جعلهم بحيث كل من رآهم فزع فزعاً شديداً فأما تفصيل سبب الرعب فالله أعلم به وهذا هو الأصح وقوله وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا قرأ نافع وابن كثير لملئت بتشديد اللام والهمزة والباقون بتخفيف اللام وروى عن ابن كثير بالتخفيف والمعنى واحد إلا أن في التشديد مبالغة قال الأخفش الخفيفة أجود في كلام العرب يقال ملأتني رعباً ولا يكادون يعرفون ملأتني ويدل على هذا أكثر استعمالهم كقوله
فيملأ بيتنا أقطاً وسمناً

وقول الآخر ومن مالىء عينيه من شيء غيره
إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
وقال الآخر
لا تملأ الدلو وعرق فيها
وقال الآخر
امتلأ الحوض وقال قطني
وقد جاء التثقيل أيضاً وأنشدوا للمخبل السعدي وإذا قتل النعمان بالناس محرما
فملأ من عوف بن كعب سلاسله
وقرأ ابن عامر والكسائي رعباً بضم العين في جميع القرآن والباقون بالإسكان
وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَاذِهِ إِلَى الْمَدِينَة ِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا
اعلم أن التقدير وكما زِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ فَضَرَبْنَا عَلَى ءاذَانِهِمْ وأنمناهم وأبقيناهم أحياء لا يأكلون ولا يشربون ونقلبهم فكذلك بعثناهم أي أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت ليتساءلوا بينهم تساءل تنازع واختلاف في مدة لبثهم فإن قيل هل يجوز أن يكون الغرض من بعثهم أن يتساءلوا ويتنازعوا قلنا لا يبعد ذلك لأنهم إذا تساءلوا انكشف لهم من قدرة الله تعالى أمور عجيبة وأحوال غريبة وذلك الانكشاف أمر مطلوب لذاته ثم قال تعالى قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم أي كم مقدار لبثنا في هذا الكهف لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال المفسرون إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله في آخر النهار فلذلك قالوا لبثنا يوماً فلما رأوا الشمس باقية قالوا أو بعض يوم ثم قال تعالى قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ قال ابن عباس هو رئيسهم يمليخا رد علم ذلك إلى الله تعالى لأنه لما نظر إلى أشعارهم وأظفارهم وبشرة وجوههم رأى فيها آثار التغير الشديد فعلم أن مثل ذلك التغير لا يحصل إلا في الأيام

الطويلة ثم قال فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَاذِهِ إِلَى الْمَدِينَة ِ قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم بورقكم ساكنة الراء مفتوحة الواو ومنهم من قرأ ( ها ) مكسورة الواو ساكنة الراء وقرأ ابن كثير بورقكم بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم القاف في الكاف وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين على هذه والورق اسم للفضة سواء كانت مضروبة أم لا ويدل عليه ما روى أن عرفجة اتخذ أنفاً من ورق وفيه لغات ورق وورق وورق مثل كبد وكبد وكبد ذكره الفراء والزجاج قال الفراء وكسر الواو أردؤها ويقال أيضاً للورق الرقة قال الأزهري أصله ورق مثل صلة وعدة قال المفسرون كانت معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم يعني بالمدينة التي يقال لها اليوم طرسوس وهذه الآية تدل على أن السعي في إمساك الزاد أمر مهم مشروع وأنه لا يبطل التوكل وقوله فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا قال ابن عباس يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوساً وفيهم قوم يخفون إيمانهم وقال مجاهد كان ملكهم ظالماً فقولهم أَزْكَى طَعَامًا يريدون أيها أبعد عن الغضب وقيل أيها أطيب وألذ وقيل أيها أرخص قال الزجاج قوله أَيُّهَا رفع بالابتداء و أَزْكَى خبره و طَعَامًا نصب على التمييز وقوله وَلْيَتَلَطَّفْ أي يكون ذلك في سر وكتمان يعني دخول المدينة وشراء الطعام وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا أي لا يخبرن بمكانكم أحداً من أهل المدينة إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ أي يطلعوا ويشرفوا على مكانكم أو على أنفسكم من قولهم ظهرت على فلان إذا علوته وظهرت على السطح إذا صرت فوقه ومنه قوله تعالى فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ( الصف 14 ) أي عالين وكذلك قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) أي ليعليه وقوله يَرْجُمُوكُمْ يقتلوكم والرجم بمعنى القتل كثير في التنزيل كقوله وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ( هود 91 ) وقوله أَن تَرْجُمُونِ ( الدخان 20 ) وأصله الرمي قال الزجاج أي يقتلوكم بالرجم والرجم أخبث أنواع القتل أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ أي يردوكم إلى دينهم وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا أي إذا رجعتم إلى دينهم لن تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة قال الزجاج قوله إِذًا أَبَدًا يدل على الشرط أي ولن تفلحوا إن رجعتم إلى ملتهم أبداً قال القاضي ما على المؤمن الفار بدينه أعظم من هذين فأحدهما فيه هلاك النفس وهو الرجم الذي هو أخبث أنواع القتل والآخر هلاك الدين بأن يردوا إلى الكفر فإن قيل أليس أنهم لو أكرهوا على الكفر حتى إنهم أظهروا الكفر لم يكن عليهم مضرة فكيف قالوا وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا قلنا يحتمل أن يكون المراد أنهم لو ردوا هؤلاء المسلمين إلى الكفر على سبيل الإكراه بقوا مظهرين لذلك الكفر مدة فإنه يميل قلبهم إلى ذلك الكفر ويصيرون كافرين في الحقيقة فهذا الاحتمال قائم فكان خوفهم منه والله أعلم
وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَة َ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَة ٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَة ٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً

اعلم أن المعنى كما زدناهم هدى وربطنا على قلوبهم وأنمناهم وقلبناهم وبعثناهم لما فيها من الحكم الظاهرة فكذلك أعثرنا عليهم أي أطلعنا غيرهم على أحوالهم يقال عثرت على كذا أي علمته وقالو إن أصل هذا أن من كان غافلاً عن شيء فعثر به نظر إليه فعرفه فكان العثار سبباً لحصول العلم والتبين فأطلق اسم السبب على المسبب واختلفوا في السبب الذي لأجله عرف الناس واقعة أصحاب الكهف على وجهين الأول أنه طالت شعورهم وأظفارهم طولاً مخالفاً للعادة وظهرت في بشرة وجوههم آثار عجيبة تدل على أن مدتهم قد طالت طولاً خارجاً عن العادة والثاني أن ذلك الرجل لما دخل إلى لسوق ليشتري الطعام وأخرج الدراهم لثمن الطعام قال صاحب الطعام هذه النقود غير موجودة في هذا اليوم وإنها كانت موجودة قبل هذا الوقت بمدة طويلة ودهر داهر فلعلك وجدت كنزاً واختلف الناس فيه وحملوا ذلك الرجل إلى ملك البلد فقال الملك من أين وجدت هذه الدراهم فقال بعت بها أمس شيئاً من التمر وخرجنا فراراً من الملك دقيانوس فعرف ذلك الملك أنه ما وجد كنزاً وأن الله بعثه بعد موته ثم قال تعالى لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني أنا إنما أطلعنا القوم على أحوالهم ليعلم القوم أن وعد الله حق بالبعث والحشر والنشر روى أن ملك ذلك الوقت كان ممن ينكر البعث إلا أنه كان مع كفرة منصفاً فجعل الله أمر الفتية دليلاً للملك وقيل بل اختلفت الأمة في ذلك الزمان فقال بعضهم الجسد والروح يبعثان جميعاً وقال آخرون الروح تبعث وأما الجسد فتأكله الأرض ثم إن ذلك الملك كان يتضرع إلى الله أن يظهر له آية يستدل بها على ما هو الحق في هذه المسألة فأطلعه الله تعالى على أمر أصحاب أهل الكهف فاستدل ذلك الملك بواقعتهم على صحة البعث للأجساد لأن انتباههم بعد ذلك النوم الطويل يشبه من يموت ثم يبعث فقوله إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ متعلق باعثرنا أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم واختلفوا في المراد بهذا التنازع فقيل كانوا يتنازعون في صحة البعث فالقائلون به استدلوا بهذه الواقعة على صحته وقالوا كما قدر الله على حفظ أجسادهم مدة ثلثمائة سنة وتسع سنين فكذلك يقدر على حشر الأجساد بعد موتها وقيل إن الملك وقومه لما رأوا أصحاب الكهف ووقفوا على أحوالهم عاد القوم إلى كهفهم فأماتهم الله فعند هذا اختلف الناس فقال قوم إنهم نيام كالكرة الأولى وقال آخرون بل الآن ماتوا والقول الثالث أن بعضهم قال الأولى أن يسد باب الكهف لئلا يدخل عليهم أحد ولا يقف على أحوالهم إنسان وقال آخرون بل الأولى أن يبني على باب الكهف مسجد وهذا القول يدل على أن أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله معترفين بالعبادة والصلاة والقول الرابع أن الكفار قالوا إنهم كانوا على ديننا فنتخذ عليهم بنياناً والمسلمون قالوا كانوا على ديننا فنتخذ عليهم مسجداً والقول الخامس أنهم تنازعوا في قدر مكثهم والسادس أنهم تنازعوا في عددهم وأسمائهم ثم قال تعالى رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ وهذا فيه وجهان أحدهما أنه من كلام المتنازعين كأنهم لما تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أسمائهم وأحوالهم ومدة لبثهم فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا ربهم أعلم بهم الثاني أن هذا من كلام الله تعالى ذكره رداً للخائضين في حديثهم من

أولئك المتنازعين ثم قال تعالى قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ قيل المراد به الملك المسلم وقيل أولياء أصحاب الكهف وقيل رؤساء البلد لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا نعبد الله فيه ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد ثم قال تعالى سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ الضمير في قوله سَيَقُولُونَ عائد إلى المتنازعين روى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد وكان يعقوبياً كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم وقال العاقب وكان نسطورياً كانوا خمسة سادسهم كلبهم وقال المسلمون كانوا سبعة وثامنهم كلبهم قال أكثر المفسرين هذا الأخير هو الحق ويدل عليه وجوه الأول أن الواو في قوله وَثَامِنُهُمْ هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وفي يده سيف ومنه قوله تعالى وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ( الحجر 4 ) وفائدتها توكيد ثبوت الصفة للموصوف والدلالة على أن اتصافه بها ) أمر ثابت مستقر فكانت هذه الواو دالة على صدق الذين قالوا إنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم وأنهم قالوا قولاً متقرراً متحققاً عن ثبات وعلم وطمأنينة نفس الوجه الثاني قالوا إنه تعالى خص هذا الموضع بهذا الحرف الزائد وهو الواو فوجب أن تحصل به فائدة زائدة صوناً للفظ عن التعطيل وكل من أثبت هذه الفائدة الزائدة قال المراد منها تخصيص هذا القول بالإثبات والتصحيح الوجه الثالث أنه تعالى أتبع القولين الأولين بقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه فوجب أن يكون المخصوص بالظن الباطل هو القولان الأولان وأن يكون القول الثالث مخالفاً لهما في كونهما رجماً بالظن والوجه الرابع أنه تعالى لما حكى قولهم وَيَقُولُونَ سَبْعَة ٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قال بعده قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فاتباع القولين الأولين بكونهما رجماً بالغيب وإتباع هذا القول الثالث بقوله قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ يدل على أن هذا القول ممتاز عن القولين الأولين بمزيد القوة والصحة والوجه الخامس أنه تعالى قال مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ وهذا يقتضي أنه حصل العلم بعدتهم لذلك القليل وكل من قال من المسلمين قولاً في هذا الباب قالوا إنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم فوجب أن يكون المراد من ذلك القليل هؤلاء الذين قالوا هذا القول كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول كانوا سبعة وأسماؤهم هذا يمليخا مكسلمينا مسلثينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك وكان عن يساره مرنوس ودبرنوس وسادنوس وكان الملك يستشير هؤلاء الستة في مهماته والسابع هو الراعي الذي وافقهم لما هربوا من ملكهم واسم كلبهم قطمير وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول أنا من ذلك العدد القليل وكان يقول إنهم سبعة وثامنهم كلبهم
الوجه السادس أنه تعالى لما قال وَيَقُولُونَ سَبْعَة ٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ والظاهر أنه تعالى لما حكى الأقوال فقد حكى كل ما قيل من الحق والباطل لأنه يبعد أنه تعالى ذكر الأقوال الباطلة ولم يذكر ما هو الحق فثبت أن جملة الأقوال الحقة والباطلة ليست إلا هذه الثلاثة ثم خص

الأولين بأنهما رجم بالغيب فوجب أن يكون الحق هو هذا الثالث الوجه السابع أنه تعالى قال لرسوله فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآء ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً فمنعه الله تعالى عن المناظرة معهم وعن استفتائهم في هذا الباب وهذا إنما يكون لو علمه حكم هذه الواقعة وأيضاً أنه تعالى قال مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ويبعد أن يحصل العلم بذلك لغير النبي ولا يحصل للنبي فعلمنا أن العلم بهذه الواقعة حصل للنبي عليه السلام والظاهر أنه لم يحصل ذلك العلم إلا بهذا الوحي لأن الأصل فيما سواه العدم وأن يكون الأمر كذلك فكان الحق هو قوله وَيَقُولُونَ سَبْعَة ٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ واعلم أن هذه الوجوه وإن كان بعضها أضعف من بعض إلا أنه لما تقوى بعضها ببعض حصل فيه كمال وتمام والله أعلم بقي في الآية مباحث
البحث الأول في الآية حذف والتقدير سيقولون هم ثلاثة فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه
البحث الثاني خص القول الأول بسين الاستقبال وهو قوله سيقولون والسبب فيه أن حرف العطف يوجب دخول القولين الآخرين فيه
البحث الثالث الرجم هو الرمي والغيب ما غاب عن الإنسان فقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ معناه أن يرى ما غاب عنه ولا يعرفه بالحقيقة يقال فلان يرمي بالكلام رمياً أي يتكلم من غير تدبر
البحث الرابع ذكروا في فائدة الواو في قوله وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ وجوهاً الوجه الأول ما ذكرنا أنه يدل على أن هذا القول أولى من سائر الأقوال وثانيها أن السبعة عند العرب أصل في المبالغة في العدد قال تعالى إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة ً وإذا كان كذلك فإذا وصلوا إلى الثمانية ذكروا لفظاً يدل على الاستئناف فقالوا وثمانية فجاء هذا الكلام على هذا القانون قالوا ويدل عليه نظيره في ثلاث آيات وهي قوله وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ ( التوبة 112 ) لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة وقوله حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا ( الزمر 73 ) لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة وقوله ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ( التحريم 5 ) هو العدد الثامن مما تقدم والناس يسمون هذه الواو واو الثمانية ومعناه ما ذكرناه قال القفال وهذا ليس بشيء والدليل عليه قوله تعالى هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبّرُ ( الحشر 23 ) ولم يذكر الواو في النعت الثامن ثم قال تعالى قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ وهذا هو الحق لأن العلم بتفاصيل كائنات العالم والحوادث التي حدثت في الماضي والمستقبل لا تحصل إلا عند الله تعالى وإلا عند من أخبره الله عنها وقال ابن عباس أنا من أولئك القليل قال القاضي إن كان قد عرفه ببيان الرسول صح وإن كان قد تعلق فيه بحرف الواو فضعيف ويمكن أن يقال الوجوه السبعة المذكورة وإن كانت لا تفيد الجزم إلا أنها تفيد الظن واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه القصة أتبعه بأن نهي رسوله عن شيئين عن المراء والاستفتاء أما النهي عن المراء فقوله فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآء ظَاهِرًا والمراد من المراء الظاهر أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه فوجب التوقف وترك القطع ونظيره قوله تعالى وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( العنكبوت 46 ) وأما النهي عن الاستفتاء فقوله وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً وذلك لأنه لما ثبت أنه ليس عندهم علم في هذا الباب وجب المنع من استفتائهم واعلم أن نفاة القياس تمسكوا بهذه الآية

قالوا لأن قوله رَجْماً بِالْغَيْبِ وضع الرجم فيه موضع الظن فكأنه قيل ظناً بالغيب لأنهم أكثروا أن يقولوا رجم بالظن مكان قولهم ظن حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين ألا ترى إلى قوله
وما هو عنها بالحديث المرجم
أي المظنون هكذا قاله صاحب الكشاف وذلك يدل على أن القول بالظن مذموم عند الله ثم إنه تعالى لما ذم هذه الطريقة رتب عليه من استفتاء هؤلاء الظانين فدل ذلك على أن الفتوى بالمظنون غير جائز عند الله وجواب مثبتي القياس عنه قد ذكرناه مراراً
وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى لاًّقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَدًا وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَة ٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِى ٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قال المفسرون إن القوم لما سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن المسائل الثلاثة قال عليه السلام أجيبكم عنها غداً ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي خمسة عشر يوماً وفي رواية أخرى أربعين يوماً ثم نزلت هذه الآية اعترض القاضي على هذا الكلام من وجهين الأول أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان عالماً بأنه إذا أخبر عن أنه سيفعل الفعل الفلاني غداً فربما جاءته الوفاة قبل الغد وربما عاقه عائق آخر عن الإقدام على ذلك الفعل غداً وإذا كان كل هذه الأمور محتملاً فلو لم يقل إن شاء الله ربما خرج الكلام مخالفاً لما عليه الوجود وذلك يوجب التنفير عنه وعن كلامه عليه السلام أما إذا قال إن شاء الله كان محترزاً عن هذا المحذور وإذا كان كذلك كان من البعيد أن يعد بشيء ولم يقل فيه إن شاء الله الثاني أن هذه الآية مشتملة على فوائد كثيرة وأحكام جمة فيبعد قصرها على هذا السبب ويمكن أن يجاب عن الأول أنه لا نزاع أن الأولى أن يقول إن شاء الله إلا أنه ربما اتفق له أنه نسي هذا الكلام لسبب من الأسباب فكان ذلك من باب ترك الأولى والأفضل وأن يجاب عن الثاني أن اشتماله على الفوائد الكثيرة لا يمنع من أن يكون سبب نزوله واحداً منها

المسألة الثانية قوله إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ليس فيه بيان أنه شاء الله ماذا وفيه قولان الأول التقدير وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ أن يأذن لك في ذلك القول والمعنى أنه ليس لك أن تخبر عن نفسك أنك تفعل الفعل الفلاني إلا إذا أذن الله لك في ذلك الإخبار القول الثاني أن يكون التقدير وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إلا أن تقول إِن شَاء اللَّهُ والسبب في أنه لا بد من ذكر هذا القول هو أن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غداً لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد ولم يبعد أيضاً لو بقي حياً أن يعوقه عن ذلك الفعل شيء من العوائق فإذا كان لم يقل إن شاء الله صار كاذباً في ذلك الوعد والكذب منفرد وذلك لا يليق بالأنبياء عليهم السلام فلهذا السبب أوجب عليه أن يقول إِن شَاء اللَّهُ حتى أن بتقدير أن يتعذر عليه الوفاء بذلك الموعود لم يصر كاذباً فلم يحصل التنفير
المسألة الثالثة اعلم أن مذهب المعتزلة أن الله تعالى يريد الإيمان والطاعة من العبد والعبد يريد الكفر والمعصية لنفسه فيقع مراد العبد ولا يقع مراد الله فتكون إرادة العبد غالبة وإرادة الله تعالى مغلوبة وأما عندنا فكل ما أراد الله تعالى فهو واقع فهو تعالى يريد الكفر من الكافر ويريد الإيمان من المؤمن وعلى هذا التقرير فإرادة الله تعالى غالبة وإرادة العبد مغلوبة إذا عرفت هذا فنقول إذا قال العبد لأفعلن كذا غداً إلا أن يشاء الله والله إنما يدفع عنه الكذب إذا كانت إرادة الله غالبة على إرادة العبد فإن على هذا القول يكون التقدير أن العبد قال أنا أفعل الفعل الفلاني إلا إذا كانت إرادة الله بخلافه فأنا على هذا التقدير لا أفعل لأن إرادة الله غالبة على إرادتي فعند قيام المانع الغالب لا أقوى على الفعل أما بتقدير أن تكون إرادة الله تعالى مغلوبة فإنها تلا تصلح عذراً في هذا الباب لأن المغلوب لا يمنع الغالب إذا ثبت هذا فنقول أجمعت الأمة على أنه إذا قال والله لأفعلن كذا ثم قال إن شاء الله دافعاً للحنث فلا يكون دافعاً للحنث إلا إذا كانت إرادة الله غالبة فلما حصل دفع الحنث بالإجماع وجب القطع بكون إرادة الله تعالى غالبة وأنه لا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله وأصحابنا أكدوا هذا الكلام في صورة معينة وهو أن الرجل إذا كان له على إنسان دين وكان ذلك المديون قادراً على أداء الدين فقال والله لأقضين هذا الدين غداً ثم قال إن شاء الله فإذا جاء الغد ولم يقض هذا الدين لم يحنث وعلى قول المعتزلة أنه تعالى يريد منه قضاء الدين وعلى هذا التقدير فقوله إِن شَاء اللَّهُ تعليق لذلك الحكم على شرط واقع فوجب أن يحنث ولما أجمعوا على أن لا يحنث علمنا أن ذلك إنما كان لأن الله تعالى ما شاء ذلك الفعل مع أن ذلك الفعل قد أمر الله به ورغب فيه وزجر عن الإخلال به وثبت أنه تعالى قد ينهى عن الشيء ويريده وقد يأمر بالشيء ولا يريده وهو المطلوب فإن قيل هب أن الأمر كما ذكرتم إلا أن كثيراً من الفقهاء قالوا إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم يقع الطلاق فما السبب فيه قلنا السبب هو أنه لما علق وقوع الطلاق على مشيئة الله لم يقع إلا إذا عرفنا وقوع الطلاق ولا نعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفنا أولاً حصول هذه المشيئة لكن مشيئة الله تعالى غيب فلا سبيل إلى العلم بحصولها إلا إذا علمنا أن متعلق المشيئة قد وقع وحصل وهو الطلاق فعلى هذا الطريق لا نعرف حصول المشيئة إلا إذا عرفنا وقوع الطلاق ولا نعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفنا وقوع المشيئة فيتوقف العلم بكل واحد منها على العلم بالآخرة وهو دور والدور باطل فلهذا السبب قالوا الطلاق غير واقع
المسألة الرابعة احتج القائلون بأن المعدوم شيء بقوله وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً أَن يَشَاء اللَّهُ قالوا الشيء الذي سيفعله الفاعل غداً سماه الله تعالى في الحال بأنه شيء لقوله

وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء ومعلوم أن الشيء الذي سيفعله الفاعل غداً فهو معدوم في الحال فوجب تسمية المعدوم بأنه شيء والجواب أن هذا الاستدلال لا يفيد إلا أن المعدوم مسمى بكونه شيئاً وعندنا أن السبب فيه أن الذي سيصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال كما أنه قال أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ( النحل 1 ) والمراد سيأتي أمر الله أما قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ففيه وجهان الأول أنه كلام متعلق بما قبله والتقدير أنه إذا نسي أن يقول إن شاء الله فليذكره إذا تذكره وعند هذا اختلفوا فقال ابن عباس رضي الله عنهما لو لم يحصل التذكر إلا بعد مدة طويلة ثم ذكر إن شاء الله كفى في دفع الحنث وعن سعيد بن جبير بعد سنة أو شهر أو أسبوع أو يوم وعن طاوس أنه يقدر على الاستثناء في مجلسه وعن عطاء يستثني على مقدار حلب الناقة الغزيرة وعند عامة الفقهاء أنه لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً واحتج ابن عباس بقوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ لأن الظاهر أن المراد من قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ هو الذي تقدم ذكره في قوله إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وقوله وَاذْكُر رَّبَّكَ غير مختص بوقت معين بل هو يتناول كل الأوقات فوجب أن يجب عليه هذا الذكر في أي وقت حصل هذا التذكر وكل من قال وجب هذا الذكر قال إنه إنما وجب لدفع الحنث وذلك يفيد المطلوب واعلم أن استدلال ابن عباس رضي الله عنهما ظاهر في أن الاستثناء لا يجب أن يكون متصلاً أما الفقهاء فقالوا إنا لو جوزنا ذلك لزم أن لا يستقر شيء من العقود والإيمان يحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رحمه الله خالف ابن عباس في الأستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال أبو حنيفة رحمه الله هذا يرجع عليك فإنك تأخذ البيعة بالإيمان أتفرض أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن المنصور كلامه ورضي به واعلم أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى تخصيص النص بالقياس وفيه ما فيه وأيضاً فلو قال إن شاء الله على سبيل الخفية بلسانه بحيث لا يسمعه أحد فهو معتبر ودافع للحنث بالإجماع مع أن المحذور الذي ذكرتم حاصل فيه فثبت أن الذي عولوا عليه ليس بقوي والأولى أن يحتجوا في وجوب كون الاستثناء متصلاً بأن الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعقد والعهد قال تعالى أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) وقال وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ ( الإسراء 34 ) فالآتي بالعهد يجب عليه الوفاء بمقتضاه لأجل هذه الآيات خالفنا هذا الدليل فيما إذا كان متصلاً لأن الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد بدليل أن لفظ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً فهو جار مجرى نصف اللفظ الواحدة فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة وعلى هذا التقدير فعند ذكر الاستثناء عرفنا أنه لم يلزم شيء بخلاف ما إذا كان الاستثناء متصلاً فإنه حصل الالتزام التام بالكلام فوجب عليه الوفاء بذلك الملتزم والقول الثاني أن قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ لا تعلق له بما قبله بل هو كلام مستأنف وعلى هذا القول ففيه وجوه أحدها واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء والمراد منه الترغيب في الاهتمام بذكر هذه الكلمة وثانيها واذكر ربك إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي وثالثها حمله بعضهم على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها وهذا القول بما فيه من الوجوه الثلاثة بعيد لأن تعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القضية وجعله كلاماً مستأنفاً يوجب صيرورة الكلاء مبتدأ منقطعاً وذلك لا يجوز ثم قال

تعالى وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبّى لاِقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَدًا وفيه وجوه الأول أن ترك قوله أَن يَشَاء اللَّهُ ليس بحسن وذكره أحسن من تركه وقوله لاِقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَدًا المراد منه ذكر هذه الجملة الثاني إذا وعدهم بشيء وقال معه إن شاء الله فيقول عسى أن يهديني ربي لشيء أحسن وأكمل مما وعدتكم به والثالث أن قوله لاِقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَدًا إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف ومعناه لعل الله يؤتيني من البينات والدلائل على صحة أني نبي من عند الله صادق القول في ادعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشداً من نبأ أصحاب الكهف وقد فعل الله ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك وأما قوله تعالى وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ مِئَة ٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِى ّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا فاعلم أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في قصة أصحاب الكهف وفي قوله وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ قولان الأول أن هذا حكاية كلام القوم والدليل عليه أنه تعالى قال سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وكذا إلى أن قال وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ أي أن أولئك الأقوام قالوا ذلك ويؤكده أنه تعالى قال بعده قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ وهذا يشبه الرد على الكلام المذكور قبله ويؤكده أيضاً ما روي في مصحف عبد الله وقالوا ولبثوا في كهفهم والقول الثاني أن قوله وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ هو كلام الله تعالى فإنه أخبر عن كمية تلك المدة وأما قوله سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ فهو كلام قد تقدم وقد تخلل بينه وبين هذه الآية ما يوجب انقطاع أحدهما عن الآخر وهو قوله فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآء ظَاهِرًا وقوله قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لا يوجب أن ما قبله حكاية وذلك لأنه تعالى أراد قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي ثلثمائة سنين بغير تنوين والباقون بالتنوين وذلك لأن قوله سِنِينَ عطف بيان لقوله ثلثمائة لأنه لما قال وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ لم يعرف أنها أيام أم شهور أم سنون فلما قال سنين صار هذا بياناً لقوله ثلثمائة فكان هذا عطف بيان له وقيل هو على التقديم والتأخير أي لبثوا سنين ثلثمائة وأما وجه قراءة حمزة فهو أن الواجب في الإضافة ثلثمائة سنة إلا أنه يجوز وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله نُنَبّئُكُم بِالاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً ( الكهف 103 )
المسألة الثالثة قوله وَازْدَادُواْ تِسْعًا المعنى وازدادوا تسع سنين فإن قالوا لم لم يقل ثلثمائة وتسع سنين وما الفائدة في قوله وَازْدَادُواْ تِسْعًا قلنا قال بعضهم كانت المدة ثلثمائة سنة من السنين الشمسية وثلثمائة وتسع سنين من القمرية وهذا مشكل لأنه لا يصح بالحساب هذا القول ويمكن أن يقال لعلهم لما استكملوا ثلثمائة سنة قرب أمرهم من الأنبياء ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين ثم قال قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ معناه أنه تعالى أعلم بمقدار هذه المدة من الناس الذين اختلفوا فيها وإنما كان أولى بأن يكون عالماً به لأنه موجد للسموات والأرض ومدبر للعالم وإذا كان كذلك كان عالماً بغيب

السموات والأرض فيكون عالماً بهذه الواقعة لا محالة ثم قال تعالى أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ وهذه كلمة تذكر في التعجب والمعنى ما أبصره وما أسمعه وقد بالغنا في تفسير كلمة التعجب في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ( البقرة 175 ) ثم قال تعالى مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِى ّ وفيه وجوه الأول ما لأصحاب الكهف من دون الله من ولي فإنه هو الذي يتولى حفظهم في ذلك النوم الطويل الثاني ليس لهؤلاء المختلفين في مدة لبث أهل الكهف ولي من دون الله يتولى أمرهم ويقيم لهم تدبير أنفسهم فإذا كانوا محتاجين إلى تدبير الله وحفظه فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير أعلامه الثالث أن بعض القوم لما ذكروا في هذا الباب أقوالاً على خلاف قول الله فقد استوجبوا العقاب فبين الله أنه ليس لهم من دونه ولي يمنع الله من إنزال العقاب عليهم ثم قال وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا والمعنى أنه تعالى لما حكم أن لبثهم هو هذا المقدار فليس لأحد أن يقول قولاً بخلافه والأصل أن الاثنين إذا كانا لشريكين فإن الاعتراض من كل واحد منهما على صاحبه يكثر ويصير ذلك مانعاً لكل واحد منهما من إمضاء الأمر على وفق ما يريده وحاصله يرجع إلى قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) فالله تعالى نفى ذلك عن نفسه بقوله تعالى وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا وقرأ ابن عامر ولا تشرك بالتاء والجزم على النهي والخطاب عطفاً على قوله وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء أو على قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ والمعنى ولا تسأل أحداً عما أخبرك الله به من عدة أصحاب الكهف واقتصر على حكمه وبيانه ولا تشرك أحداً في طلب معرفة تلك الواقعة وقرأ الباقون بالياء والرفع على الخبر والمعنى أنه تعالى لا يفعل ذلك
المسألة الرابعة اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف وفي مكانهم أما الزمان الذي حصلوا فيه فقيل إنهم كانوا قبل موسى عليه السلام وإن موسى ذكرهم في التوراة ولهذا السبب فإن اليهود سألوا عنهم وقيل إنهم دخلوا الكهف قبل المسيح وأخبر المسيح بخبرهم ثم بعثوا في الوقت الذي بين عيسى عليه السلام وبين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل إنهم دخلوا الكهف بعد المسيح وحكى القفال هذا القول عن محمد بن إسحق وقال قوم إنهم لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة وأما مكان هذا الكهف فحكى القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم أن الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف إلى الروم قال فوجه ملك الروم معي أقواماً إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه قال وإن الرجل الموكل بذلك الموضع فزعني من الدخول عليهم قال فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم قال وعرفت أنه تمويه واحتيال وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره ثم قال القفال والذي عندنا لا يعرف أن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف أو موضع آخر والذي أخبر الله عنه وجب القطع به ولا عبرة بقول أهل الروم إن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف وذكر في الكشاف عن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس رضي الله عنهما ليس لك ذلك قد منع الله من هو خير منك فقال لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً فقال لابن عباس لا أنتهي حتى أعلم حالهم فبعث أناساً فقال لهم اذهبوا فانظروا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً فأحرقتهم وأقول العلم بذلك الزمان وبذلك المكان ليس للعقل فيه مجال وإنما يستفاد ذلك من نص وذلك مفقود فثبت أنه لا سبيل إليه

المسألة الخامسة اعلم أن مدار القول بإثبات البعث والقيامة على أصول ثلاثة أحدها أنه تعالى قادر على كل الممكنات والثاني أنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات وثالثها أن كل ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات فإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث والقيامة فكذلك ها هنا ثبت أنه تعالى عالم قادر على الكل وثبت أن بقاء الإنسان حياً في النوم مدة يوم ممكن فكذلك بقاؤه مدة ثلثمائة سنة يجب أن يكون ممكناً بمعنى أن إله العالم يحفظه ويصونه عن الآفة وأما الفلاسفة فإنهم يقولون أيضاً لا يبعد وقوع أشكال فلكية غريبة توجب في هيولي عالم الكون والفساد حصول أحوال غريبة نادرة وأقول هذه السور الثلاثة المتعاقبة اشتمل كل واحد منها على حصول حالة عجيبة نادرة في هذا العالم فسورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بجسد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة إلى الشام وهو حالة عجيبة وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدة ثلثمائة سنة وأزيد وهو أيضاً حالة عجيبة وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب وهو أيضاً حالة عجيبة والمعتمد في بيان إمكان كل هذه العجائب والغرائب المذكورة في هذه السور الثلاثة المتوالية هو الطريقة التي ذكرناها ومما يدل على أن هذا المعنى من الممكنات أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من كتاب الشفاء أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف ثم قال أبو علي ويدل التاريخ على أنهم كانوا قبل أصحاب الكهف
وَاتْلُ مَآ أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا
اعلم أن من هذه الآية إلى قصة موسى والخضر كلام واحد في قصة واحدة وذلك أن أكابر كفار قريش احتجوا وقالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إن أردت أن نؤمن بك فاطرد من عندك هؤلاء الفقراء الذين آمنوا بك والله تعالى نهاه عن ذلك ومنعه عنه وأطنب في جملة هذه الآيات في بيان أن الذي اقترحوه والتمسوه مطلوب فاسد واقتراح باطل ثم إنه تعالى جعل الأصل في هذا الباب شيئاً واحداً وهو أن يواظب على تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه وعلى العمل به وأن لا يلتفت إلى اقتراح المقترحين وتعنت المتعنتين فقال وَاتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ وفي الآية مسألة وهي أن قوله اتْلُ يتناول القراءة ويتناول الإتباع فيكون المعنى الزم قراءة الكتاب الذي أوحى إليك والزم العمل به ثم قال لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ أي يمتنع تطرق التغيير والتبديل إليه وهذه الآية يمكن التمسك بها في إثبات أن تخصيص النص بالقياس غير جائز لأن قوله اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ كِتَابِ رَبّكَ معناه ألزم العمل بمقتضى هذا الكتاب وذلك يقتضي وجوب العمل بمقتضى ظاهره

فإن قيل فيجب ألا يتطرق النسخ إليه قلنا هذا هو مذهب أبي مسلم الأصفهاني فليس يبعد وأيضاً فالنسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالغاية فكيف يكون تبديلاً أما قوله وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا اتفقوا على أن الملتحد هو الملجأ قال أهل اللغة هو من لحد وألحد إذا مال ومنه قوله تعالى لّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ ( النحل 103 ) والملحد المائل عن الدين والمعنى ولن تجد من دونه ملجأ في البيان والرشاد
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَة َ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا
اعلم أن أكابر قريش اجتمعوا وقالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الفقراء من عندك فإذا حضرنا لم يحضروا وتعين لهم وقتاً يجتمعون فيه عندك فأنزل الله تعالى وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ( الأنعام 52 ) الآية فبين فيها إنه لا يجوز طردهم بل تجالسهم وتوافقهم وتعظم شأنهم ولا تلتفت إلى أقوال أولئك الكفار ولا تقيم لهم في نظرك وزناً سواء غابوا أو حضروا وهذه القصة منقطعة عما قبلها وكلام مبتدأ مستقل ونظير هذه الآية قد سبق في سورة الأنعام وهو قوله وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِمُ بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ ( الأنعام 52 ) ففي تلك الآية نهي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن طردهم وفي هذه الآية أمره بمجالستهم والمصابرة معهم فقوله وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أصل الصبر الحبس ومنه نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن المصبورة وهي البهيمة تحبس فترمي أما قوله مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عامر بالغدوة بضم الغين والباقون بالغداة وكلاهما لغة
المسألة الثانية في قوله بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ وجوه الأول المراد كونهم مواظبين على هذا العمل في كل الأوقات كقول القائل ليس لفلان عمل بالغداة والعشي إلا شتم الناس الثاني أن المراد صلاة الفجر والعصر الثالث المراد أن الغداة هي الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النوم إلى اليقظة وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من الموت إلى الحياة والعشي هو الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من اليقظة إلى النوم ومن الحياة إلى الموت والإنسان العاقل يكون في هذين الوقتين كثير الذكر لله عظيم الشكر لآلاء الله ونعمائه ثم قال وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ يقال عداه إذا جاوزه ومنه قولهم عدا طوره وجاء القوم عدا زيداً وإنما عدي بلفظة عن لأنها تفيد المباعدة فكأنه تعالى نهى عن تلك المباعدة وقرى وَلاَ تَعْدُ عَيْنَيْكَ ولا تعد عينيك من أعداه وعداه نقلاً بالهمزة وتثقيل الحشو ومنه قوله شعر
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له
والمقصود من الآية أنه تعالى نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أن يزدرى فقراء المؤمنين وأن تنبو عيناه عنهم لأجل رغبته في مجالسة الأغنياء وحسن صورتهم وقوله تُرِيدُ زِينَة َ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا نصب في موضع الحال يعني أنك ( إن ) فعلت ذلك لم يكن إقدامك عليه إلا لرغبتك في زينة الحياة الدنيا ولما بالغ في أمره بمجالسة الفقراء من المسلمين بالغ في النهي عن الالتفات إلى أقوال الأغنياء والمتكبرين فقال وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا وفيه مسائل

المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى هو الذي يخلق الجهل والغفلة في قلوب الجهال لأن قوله أَغْفَلْنَا يدل على هذا المعنى قالت المعتزلة المراد بقوله تعالى أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا أنا وجدنا قلبه غافلاً وليس المراد خلق الغفلة فيه والدليل عليه ما روي عن عمرو بن معديكرب الزبيدي أنه قال لبني سليم قاتلناكم فما أجبناكم وسألناكم فما ابخلناكم وهجوناكم فما أفحمناكم أي ما وجدناكم جبناء ولا بخلاء ولا مفحمين ثم نقول حمل اللفظ على هذا المعنى أولى ويدل عليه وجوه الأول أنه لو كان كذلك لما استحقوا الذم الثاني أنه تعالى قال بعد هذه الآية فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ولو كان تعالى خلق الغفلة في قلبه لما صح ذلك الثالث لو كان المراد هو أنه تعالى جعل قلبه غافلاً لوجب أن يقال ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه لأن على هذا التقدير يكون ذلك من أفعال المطاوعة وهي إنما تعطف بالفاء لا بالواو ويقال كسرته فانكسر ودفعته فاندفع ولا يقال وانكسر واندفع الرابع قوله تعالى وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ولو كان تعالى أغفل في الحقيقة قلبه لم يجز أن يضاف ذلك إلى اتباعه هواه والجواب قوله المراد من قوله أَغْفَلْنَا أي وجدناه غافلاً وليس المارد تحصيل الغفلة فيه قلنا الجواب عنه من وجهين الأول أن الاشتراك خلاف الأصل فوجب أن يعتقد أن وزن الأفعال حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر وجعله حقيقة في التكوين مجازاً في الوجدان أولى من العكس وبيانه من وجوه أحدها أن مجيء بناء الأفعال بمعنى التكوين أكثر من مجيئه بمعنى الوجدان والكثرة دليل الرجحان وثانيها أن مبادرة الفهم من هذا البناء إلى التكوين أكثر من مبادرته إلى الوجدان ومبادرة الفهم دليل الرجحان وثالثها أنا إن جعلناه حقيقة في التكوين أمكن جعله مجازاً في الوجدان لأن العلم بالشيء تابع لحصول المعلوم فجعل اللفظ حقيقة في المتبوع ومجازاً في التبع موافق للمعقول أما لو جعلناه حقيقة في الوجدان مجازاً في الإيجاد لزم جعله حقيقة في التبع مجازاً في الأصل وأنه عكس المعقول فثبت أن الأصل جعل هذا البناء حقيقة في الإيجاد لا في الوجدان الوجه الثاني في الجواب عن السؤال أنا نسلم كون اللفظ مشتركاً بالنسبة إلى الإيجاد وإلى الوجدان إلا أنا نقول يجب حمل قوله أَغْفَلْنَا على إيجاد الغفلة وذلك لأن الدليل العقلي دل على أنه يمتنع كون العبد موجداً للغفلة في نفسه والدليل عليه أنه إذا حاول إيجاد الغفلة فأما أن يحاول إيجاد مطلق الغفلة أو يحاول إيجاد الغفلة عن شيء معين والأول باطل وإلا لم يكن بأن تحصل له الغفلة عن هذا الشيء أولى بأن تحصل له الغفلة عن شيء آخر لأن الطبيعة المشترك فيها بين الأنواع الكثيرة تكون نسبتها إلى كل تلك الأنواع على السوية أما الثاني فهو أيضاً باطل لأن الغفلة عن كذا عبارة عن غفلة لا تمتاز عن سائر أقسام الغفلات إلا بكونها منتسبة إلى ذلك الشيء المعين بعينه فعلى هذا لا يمكنه أن يقصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا إلا إذا تصور أن تلك الغفلة غفلة عن كذا ولا يمكنه أن يتصور كون تلك الغفلة غفلة عن كذا إلا إذا تصور كذا لأن العلم بنسبة أمر إلى أمر آخر مشروط بتصور كل واحد من المنتسبين فثبت أنه لا يمكنه القصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا إلا مع الشعور بكذا لكن الغفلة عن كذا ضد الشعور بكذا فثبت أن العبد لا يمكنه إيجاد هذه اغفلة إلا عند اجتماع الضدين وذلك محال والموقوف على المحال محال فثبت أن العبد غير قادر على إيجاد الغفلة فوجب أن يكون خالق الغفلات وموجدها في العباد هو الله وهذه نكتة قاطعة في

إثبات هذا المطلوب وعند هذا يظهر أن المراد بقوله تعالى وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ هو إيجاد الغفلة لا وجدانها أما حديث المدح والذ فقد عارضناه مراراً وأطواراً بالعلم والداعي أما قوله تعالى بعد هذه الآية فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ فالبحث عنه سيأتي إن شاء الله تعالى أما قوله وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ لو كان المراد إيجاد الغفلة لوجب ذكر الفاء لا ذكر الواو فنقول هذا إنما يلزم لو كان خلق الغفلة في القلب من لوازمه حصول اتباع الهوى كما أن الكسر من لوازمه حصول الإنكسار وليس الأمر كذلك لأنه لا يلزم من حصول الغفلة عن الله حصول متابعة الهوى لاحتمال أن يصير غافلاً عن ذكر الله ومع ذلك فلا يتبع الهوى بل يبقى متوقفاً لا ينافي مقام الحيرة والدهشة والخوف من الكل فسقط هذا السؤال وذكر القفال في تأويل الآية على مذهب المعتزلة وجوهاً أخرى فأحدها أنه تعالى لما صب عليهم الدنيا صباً وأدى ذلك إلى رسوخ الغفلة في قلوبهم صح على هذا التأويل أنه تعالى حصل الغفلة في قلوبهم كما في قوله تعالى فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 ) والوجه الثاني أن معنى قوله أَغْفَلْنَا أي تركناه غافلاً فلم نسمه بسمة أهل الطهارة والتقوى وهو من قولهم بعير غفل أي لا سمة عليه وثالثها أن المراد من قوله أغفلنا قلبه أي خلاه مع الشيطان ولم يمنع الشيطان منه فيقال في الوجه الأول إن فتح باب لذات الدنيا عليه هل يؤثر في حصول الغفلة في قلبه أو لا يؤثر فإن أثر كان أثر إيصال اللذات إليه سبباً لحصول الغفلة في قلبه وذلك عين القول بأنه تعالى فعل ما يوجب حصول الغفلة في قلبه وإن كان لا تأثير له في حصول هذه الغفلة بطل إسناده إليه وقد يقال في الوجه الثاني إن قوله أغفلنا قلبه بمنزلة قوله سودنا قلبه وبيضنا وجهه ولا يفيد إلا ما ذكرناه ويقال في الوجه الثالث إن كان لتلك التخلية أثر في حصول تلك الغفلة فقد صح قولنا وإلا بطل استناد تلك الغفلة إلى الله تعالى
المسألة الثانية قوله وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ يدل على أن شر أحوال الإنسان أن يكون قلبه خالياً عن ذكر الحق ويكون مملوءاً من الهوى الداعي إلى الاشتغال بالخلق وتحقيق القول أن ذكر الله نور وذكر غيره ظلمة لأن الوجود طبيعة النور والعدم منبع الظلمة والحق تعالى واجب الوجود لذاته فكان النور الحق هو الله وما سوى الله فهو ممكن الوجود لذاته والإمكان طبيعة عدمية فكان منبع الظلمة فالقلب إذا أشرق فيه ذكر الله فقد حصل فيه النور والضوء والإشراق وإذا توجه القلب إلى الخلق فقد حصل فيه الظلم والظلمة بل الظلمات فلهذا السبب إذا أعرض القلب عن الحق وأقبل على الخلق فهو الظلمة الخالصة التامة فالإعراض عن الحق هو المراد بقوله أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا والإقبال على الخلق هو المراد بقوله وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
المسألة الثالثة قيل فُرُطًا أي مجاوزاً للحد من قولهم فرس فرط إذا كان متقدماً الخيل قال الليث الفرط الأمر الذي يفرط فيه يقال كل أمر فلان فرط وأنشد شعراً لقد كلفني شططا
وأمراً خائباً فرطا
أي مضيعاً فقوله وكان أمره فرطاً معناه أن الأمر الذي يلزمه الحفظ له والاهتمام به وهو أمر دينه يكون مخصوصاً بإيقاع التفريط والتقصير فيه وهذه الحالة صفة من لا ينظر لدينه وإنما عمله لدنياه فبين تعالى من حال الغافلين عن ذكر الله التابعين لهواهم أنهم مقصرون في مهماتهم معرضون عما وجب عليهم من التدبر

في الآيات والتحفظ بمهمات الدنيا والآخرة والحاصل أنه تعالى وصف أولئك الفقراء بالمواظبة على ذكر الله والإعراض عن غير ذكر الله فقال مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ووصف هؤلاء الأغنياء بالإعراض عن ذكر الله تعالى والإقبال على غير الله وهو قوله أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ثم أمر رسوله بمجالسة أولئك والمباعدة عن هؤلاء روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال كنت جالساً في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستر بعضاً من العرى وقارىء يقرأ القرآن فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ماذا كنتم تصنعون قلنا يا رسول الله كان واحد يقرأ من كتاب الله ونحن نستمع فقال عليه السلام ( الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت إلى أن أصبر نفسي معهم ) ثم جلس وسطنا وقال ( أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار خمسين ألف سنة )
وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير النظم وجوه الأول أنه تعالى لما أمر رسوله بأن لا يلتفت إلى أولئك الأغنياء الذين قالوا إن طردت الفقراء آمنا بك قال بعده وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ أي قل لهؤلاء إن هذا الدين الحق إنما أتى من عند الله فإن قبلتموه عاد النفع إليكم وإن لم تقبلوه عاد الضرر إليكم ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى والقبح والحسن والخمول والشهرة الوجه الثاني في تقرير النظم يمكن أن يكون المراد أن الحق ما جاء من عند الله والحق الذي جاءني من عنده أن أصبر نفسي مع هؤلاء الفقراء ولا أطردهم ولا ألتفت إلى الرؤساء وأهل الدنيا والوجه الثالث في تقرير النظم أن يكون المراد هو أن الحق الذي جاء من عند الله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وأن الله تعالى لم يأذن في طرد من آمن وعمل صالحاً لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار فإن قيل أليس أن العقل يقتضي ترجيح الأهم على المهم فطرد أولئك الفقراء لا يوجب إلا سقوط حرمتهم وهذا ضرر قليل أما عدم طردهم فإنه يوجب بقاء الكفار على الكفر وهذا ضرر عظيم قلنا أما عدم طردهم فإنه يوجب بقاء الكفار على الكفر فمسلم إلا أن من ترك الإيمان لأجل الحذر من مجالسة الفقراء فإيمانه ليس بإيمان بل هو نفاق قبيح فوجب على العاقل أن لا يلتفت إلى إيمان من هذا حاله وصفته
المسألة الثانية قالت المعتزلة قوله تعالى فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ صريح في أن الأمر في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية مفوض إلى العبد واختياره فمن أنكر ذلك فقد خالف صريح القرآن ولقد سألني بعضهم عن هذه الآية فقلت هذه الآية من أقوى الدلائل على صحة قولنا وذلك لأن الآية صريحة في

أن حصول الإيمان وحصول الكفر موقوف على حصول مشيئة الإيمان وحصول مشيئة الكفر وصريح العقل أيضاً يدل له فإن العقل الاختياري يمتنع حصوله بدون القصد إليه وبدون الاختيار له إذا عرفت هذا فنقول حصول ذلك القصد والاختيار إن كان بقصد آخر يتقدمه واختيار آخر يتقدمه لزمه أن يكون كل قصد واختيار مسبوقاً بقصد آخر إلى غير النهاية وهو محال فوجب انتهاء تلك القصود وتلك الاختيارت إلى قصد واختيار يخلقه الله تعالى في العبد على سبيل الضرورة عند حصول ذلك القصد الضروري والاختيار الضروري يوجب الفعل فالإنسان شاء أو لم يشأ إن لم تحصل في قلبه تلك المشيئة الجازمة الخالية عن المعارض لم يترتب الفعل وإذا حصلت تلك المشيئة الجازمة شاء أو لم يشأ يجب ترتب الفعل عليه فلا حصول المشيئة مترتب على حصول الفعل ولا حصول الفعل مترتب على المشيئة فالإنسان مضطر في صورة مختار ولقد قرر الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله هذا المعنى في باب التوكل من كتاب إحياء علوم الدين فقال فإن قلت إني أجد في نفسي وجداناً ضرورياً أني إن شئت الفعل قدرت على الفعل وإن شئت الترك قدرت على الترك فالفعل والترك بي لا بغيري وأجاب عنه وقال هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة وإن لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل بل العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا بسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار في هذا المقام فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضاً أمر لازم وهذا يدل على أن الكل من الله تعالى
المسألة الثالثة قوله فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ فيه فوائد
الفائدة الأولى الآية تدل على أن صدور الفعل عن الفاعل بدون القصد والداعي محال
الفائدة الثانية أن صيغة الأمر لا لمعنى الطلب في كتاب الله كثيرة ثم نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هذه الصيغة تهديد ووعيد وليست بتخيير
الفائدة الثالثة أنها تدل على أنه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضر بكفر الكافرين بل نفع الإيمان يعود عليهم وضرر الكفر يعود عليهم كما قال تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) واعلم أنه تعالى لما وصف الكفر والإيمان والباطل والحق أتبعه بذكر الوعيد على الكفر والأعمال الباطلة وبذكر الوعد على الإيمان والعمل الصالح أما الوعيد فقوله تعالى إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا يقول اعتدنا لمن ظلم نفسه ووضع العبادة في غير موضعها والأنفة في غير محلها فعندما استحسن بهواه وأنف عن قبول الحق لأجل أن الذين قبلوه فقراء ومساكين فهذا كله ظلم ووضع للشيء في غير موضعه فأخبر تعالى أنه أعد لهؤلاء الأقوام ناراً وهي الجحيم ثم وصف تعالى تلك النار بصفتين الصفة الأولى قوله وَأَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا والسرادق هو الحجزة التي تكون حول الفسطاط فأثبت للنار شيئاً شبيهاً بذلك يحيط بهم من جميع الجهات والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرجة يتفرجون بالنظر إلى ما وراءها من غير النار بل هي محيطة بهم من كل الجوانب وقال بعضهم المراد من هذا السرادق الدخان الذي وصفه الله في قوله انطَلِقُواْ إِلَى ظِلّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ ( المرسلات 30 ) وقالوا هذه الإحاطة بهم إنما تكون قبل دخولهم النار فيغشاهم هذا الدخان ويحيط بهم كالسرادق حول الفسطاط

والصفة الثانية لهذه النار قوله وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ قيل في حديث مرفوع إنه دردي الزيت وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه دخل بيت المال وأخرج نفاثة كانت فيه وأوقد عليها النار حتى تلألأت ثم قال هذا هو المهل قال أبو عبيدة والأخفش كل شيء أذبته من ذهب أو نحاس أو فضة فهو المهل وقيل إنه الصديد والقيح وقيل إنه ضرب من القطران ثم يحتمل أن تكون هذه الاستغاثة لأنهم إذا طلبوا ماء للشرب فيعطون هذا المهل قال تعالى تَصْلَى نَاراً حَامِيَة ً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءانِيَة ٍ ( الغاشية 4 5 ) ويحتمل أن يستغيثوا من حر جهنم فيطلبوا ماء يصبونه على أنفسهم للتبريد فيعطون هذا الماء قال تعالى حكاية عنهم أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء ( الأعراف 50 ) وقال في آية أخرى سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ( إبراهيم 50 ) فإذا استغاثوا من حر جهنم صب عليهم القطران الذي يعم كل أبدانهم كالقميص وقوله تعالى يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ وارد على سبيل الاستهزاء كقوله
تحية بينهم ضرب وجيع
ثم قال تعالى بِئْسَ الشَّرَابُ أي أن الماء الذي هو كالمهل بئس الشراب لأن المقصود بشرب الشراب تسكين الحرارة وهذا يبلغ في احتراق الأجسام مبلغاً عظيماً ثم قال تعالى وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا قال قائلون ساءت النار منزلاً ومجتمعاً للرفقة لأن أهل النار يجتمعون رفقاء كأهل الجنة قال تعالى في صفة أهل الجنة وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 ) وأما رفقاء النار فهم الكفار والشياطين والمعنى بئس الرفقاء هؤلاء وبئس موضع الترافق النار كما أنه نعم الرفقاء أهل الجنة ونعم موضع الرفقاء الجنة وقال آخرون مرتفقاً أي متكأ وسمي المرفق مرفقاً لأنه يتكأ عليه فالإتكاء إنما يكون للاستراحة والمرتفق موضع الاستراحة والله أعلم
أُوْلَائِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاٌّ رَآئِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد المبطلين أردفه بوعد المحقين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان لأن العطف يوجب المغايرة
المسألة الثانية قوله إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ظاهره يقتضي أنه يستوجب المؤمن بحسن عمله على الله أجراً وعند أصحابنا ذلك الاستيجاب حصل بحكم الوعد وعند المعتزلة لذات الفعل وهو باطل لأن نعم الله كثيرة وهي موجبة للشكر والعبودية فلا يصير الشكر والعبودية موجبين لثواب آخر لأن أداء

الواجب لا يوجب شيئاً آخر
المسألة الثالثة نظير قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ الخ قول الشاعر إن الخليفة إن الله سربله
سربال ملك به ترجى الخواتيم
كرر أن تأكيداً للأعمال والجزاء عليها
المسألة الرابعة أولئك خبر إن وإنا لا نضيع اعتراض ولك أن تجعل إنا لا نضيع وأولئك خبرين معاً ولك أن تجعل أولئك كلاماً مستأنفاً بياناً للأجر المبهم واعلم أنه تعالى لما أثبت الأجر المبهم أردفه بالتفصيل من وجوه أولها صفة مكانهم وهو قوله أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَارُ والعدن في اللغة عبارة عن الإقامة فيجوز أن يكون المعنى أولئك لهم جنات إقامة كما يقال هذه دار إقامة ويجوز أن يكون العدن إسماً لموضع معين من الجنة وهو وسطها وأشرف أماكنها وقد استقصينا فيه فيما تقدم وقوله جَنَّاتُ لفظ جمع فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) ويمكن أن يكون المراد أن نصيب كل واحد من المكلفين جنة على حدة وذكر أن من صفات تلك الجنات أن الأنهار تجري من تحتها وذلك لأن أفضل المساكن في الدنيا البساتين التي يجري فيها الأنهار وثانيها إن لباس أهل الدنيا إما لباس التحلي وإما لباس التستر أما لباس التحلي فقال تعالى في صفته يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ والمعنى أنه يحليهم الله تعالى ذلك أو تحليهم الملائكة وقال بعضهم على كل واحد منهم ثلاثة أسورة سوار من ذهب لأجل هذه الآية وسوار من فضة لقوله تعالى وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّة ٍ ( الإنسان 21 ) وسوار من لؤلؤ لقوله تعالى وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( الحج 23 ) وأما لباس التستر فقوله وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ والمراد من سندس الآخرة واستبرق الآخرة والأول هو الديباج الرقيق وهو الخز والثاني هو الديباج الصفيق وقيل أصله فارسي معرب وهو استبره أي غليظ فإن قيل ما السبب في أنه تعالى قال في الحلي يُحَلَّوْنَ على فعل ما لم يسم فاعله وقال في السندس والاستبرق ويلبسون فأضاف اللبس إليهم قلنا يحتمل أن يكون اللبس إشارة إلى ما استوجبوه بعملهم وأن يكون الحلي إشارة إلى ما تفضل الله عليهم ابتداء من زوائد الكرم وثالثها كيفية جلوسهم فقال في صفتها متكئين فيها على الأرائك قالوا الأرائك جمع أريكة وهي سرير في حجلة أما للسرير وحده فلا يسمى أريكة ولما وصف الله تعالى هذه الأقسام قال نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً والمراد أن يكون هذا في مقابلة ما تقدم ذكره من قوله وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا
وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لاًّحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّة َ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا فعسَى رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَة ٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هُنَالِكَ الْوَلَايَة ُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا

اعلم أن المقصود من هذا أن الكفار افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين فبين الله تعالى أن ذلك مما لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الفقير غنياً والغني فقيراً أما الذي يجب حصول المفاخرة به فطاعة الله وعبادته وهي حاصلة لفقراء المؤمنين وبين ذلك بضرب هذا المثل المذكور في الآية فقال وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ أي مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين كانا أخوين في بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه براطوس والآخر مؤمن اسمه يهوذا وقيل هما المذكوران في سورة الصافات في قوله تعالى قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ ( الصافات 51 ) ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فأخذ كل واحد منهما النصف فاشترى الكافر أرضاً فقال المؤمن اللهم إني أشتري منك أرضاً في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه داراً بألف فقال المؤمن اللهم إني اشتري منك داراً في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال المؤمن اللهم إني جعلت ألفاً صداقاً للحور العين ثم اشترى أخوه خدماً وضياعاً بألف فقال المؤمن

اللهم إني اشتريت منك الولدان بألف فتصدق به ثم أصابه حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله وقوله تعالى جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ فاعلم أن الله تعالى وصف تلك الجنة بصفات الصفة الأولى كونها جنة وسمى البستان جنة لاستتار ما يستتر فيها بظل الأشجار وأصل الكلمة من الستر والتغطية والصفة الثانية قوله وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ أي وجعلنا النخل محيطاً بالجنتين نظيره قوله تعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ( الزمر 75 ) أي واقفين حول العرش محيطين به والحفاف جانب الشيء والأحفة جمع فمعنى قول القائل حف به القوم أي صاروا في أحفته وهي جوانبه قال الشاعر له لحظات في حفافي سريره
إذا كرها فيها عقاب ونائل
قال صاحب ( الكشاف ) حفوه إذا طافوا به وحففته بهم أي جعلتهم حافين حوله وهو متعد إلى مفعول واحد فتزيده الباء مفعولاً ثانياً كقوله غشيته وغشيته به قال وهذه الصفة مما يؤثرها الدهاقين في كرومهم وهي أن يجعلوها محفوفة بالأشجار المثمرة وهو أيضاً حسن في المنظر الصفة الثالثة وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا والمقصود منه أمور أحدها أن تكون تلك الأرض جامعة للأقوات والفواكه وثانيها أن تكون تلك الأرض متسعة الأطراف متباعدة الأكناف ومع ذلك فإنها لم يتوسطها ما يقطع بعضها عن بعض وثالثها أن مثل هذه الأرض تأتي في كل وقت بمنفعة أخرى وهي ثمرة أخرى فكانت منافعها دارة متواصلة الصفة الرابعة قوله تعالى كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا كلا إسم مفرد معرفة يؤكد به مذكران معرفتان وكلتا اسم مفرد يؤكد به مؤنثان معرفتان وإذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة كقولك جاءني كلا أخويك ورأيت كلا أخويك ومررت بكلا أخويك وجاءني كلتا أختيك ورأيت كلتا أختيك ومررت بكلتا أختيك وإذا أضيفا إلى المضمر كانا في الرفع بالألف وفي الجر والنصب بالياء وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضاً وقوله اتَتْ أُكُلَهَا حمل على اللفظ لأن كلتا لفظه لفظ مفرد ولو قيل أتتا على المعنى لجاز وقوله وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا أي لم تنقص والظلم النقصان يقول الرجل ظلمني حقي أي نقصني الصفة الخامسة قوله تعالى وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً أي كان النهر يجري في داخل تلك الجنتين وفي قراءة يعقوب وفجرنا مخففة وفي قراءة الباقين وفجرنا مشددة والتخفيف هو الأصل لأنه نهر واحد والتشديد على المبالغة لأن النهر يمتد فيكون كأنهار و خِلَالَهُمَا أي وسطهما وبينهما ومنه قوله تعالى ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ ( التوبة 47 ) ومنه يقال خللت القوم أي دخلت بين القوم الصفة السادسة قوله تعالى وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ قرأ عاصم بفتح الثاء والميم في الموضعين وهو جمع ثمار أو ثمرة وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وسكون الميم في الحرفين والباقون بضم الثاء والميم في الحرفين ذكر أهل اللغة أنه بالضم أنواع الأموال من الذهب والفضة وغيرهما وبالفتح حمل الشجر قال قطرب كان أبو عمرو بن العلاء يقول الثمر المال والولد وأنشد للحارث بن كلدة ولقد رأيت معاشرا
قد أثمروا مالاً وولدا
مهلاً فداء لك الأقوام كلهم
ما أثمروه أمن مال ومن ولد

وقوله وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ أي أنواع من المال من ثمر ماله إذا كثر وعن مجاهد الذهب والفضة أي كان مع الجنتين أشياء من النقود ولما ذكر الله تعالى هذه الصفات قال بعده فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً والمعنى أن المسلم كان يحاوره بالوعظ والدعاء إلى الإيمان بالله وبالبعث والمحاورة مراجعة الكلام من قولهم حار إذا رجع قال تعالى إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى ( الانشقاق 14 15 ) فذكر تعالى أن عند هذه المحاورة قال الكافر أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً والنفر عشيرة الرجل وأصحابه الذين يقومون بالذب عنه وينفرون معه وحاصل الكلام أن الكافر ترفع على المؤمن بجاهه وماله ثم إنه أراد أن يظهر لذلك المسلم كثرة ماله فأخبر الله تعالى عن هذه الحالة فقال وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وأراه إياها على الحالة الموجبة للبهجة والسرور وأخبره بصنوف ما يملكه من المال فإن قيل لم أفرد الجنة بعد التثنية قلنا المراد أنه ليس له جنة ولا نصيب في الجنة التي وعد المتقون المؤمنون وهذا الذي ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ولم يقصد الجنتين ولا واحداً منهما ثم قال تعالى وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وهو اعتراض وقع في أثناء الكلام والمراد التنبيه على أنه لما اعتز بتلك النعم وتوسل بها إلى الكفران والجحود لقدرته على البعث كان واضعاً تلك النعم في غير موضعها ثم حكى تعالى عن الكافر أنه قال وَمَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً فجمع بين هذين فالأول قطعه بأن تلك الأشياء لا تهلك ولا تبيد أبداً مع أنها متغيرة متبدلة فإن قيل هب أنه شك في القيامة فكيف قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً مع أن الحدس يدل على أن أحوال الدنيا بأسرها ذاهبة باطلة غير باقية قلنا المراد أنها لا تبيد مدة حياته ووجوده ثم قال وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً أي مرجعاً وعاقبة وانتصابه على التمييز ونظيره قوله تعالى وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى وقوله لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً والسبب في وقوع هذه الشبهة أنه تعالى لما أعطاه المال في الدنيا ظن أنه إنما أعطاه ذلك لكونه مستحقاً له والاستحقاق باق بعد الموت فوجب حصول العطاء والمقدمة الأولى كاذبة فإن فتح باب الدنيا على الإنسان يكون في أكثر الأمر للاستدراج والتملية قرأ نافع وابن كثير خيراً منهما والمقصود عود الكناية إلى الجنتين والباقون منها والمقصود عود الكناية إلى الجنة التي دخلها ثم ذكر تعالى جواب المؤمن فقال جل جلاله قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً وفيه بحثان
البحث الأول أن الإنسان الأول قال وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً وهذا الثاني كفره حيث قال أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ وهذا يدل على أن الشاك في حصول البعث كافر
البحث الثاني هذا الاستدلال يحتمل وجهين الأول يرجع إلى الطريقة المذكورة في القرآن وهو أنه تعالى لما قدر على الابتداء وجب أن يقدر على الإعادة فقوله خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً إشارة إلى خلق الإنسان في الابتداء الوجه الثاني أنه لما خلقك هكذا فلم يخلقك عبثاً وإنما خلقك للعبودية وإذا خلقك لهذا المعنى وجب أن يحصل للمطيع ثواب وللمذنب عقاب وتقريره ما ذكرناه في سورة يس ويدل على هذا الوجه قوله ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً أي هيأك هيئة تعقل وتصلح للتكليف فهل يجوز في العقل مع هذه الحالة إهماله أمرك ثم قال المؤمن لَكُنَّا هُوَ اللَّهُ رَبّى وفيه بحثان
البحث الأول قال أهل اللغة لكنا أصله لكن أنا فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن فاجتمعت النونان فادغمت نون لكن في النون التي بعدها ومثله

وتقلينني لكن إياك لا أقلى
أي لكن أنا لا أقليك وهو في قوله هُوَ اللَّهُ رَبّى ضمير الشأن وقوله اللَّهُ رَبّى جملة من المبتدأ والخبر واقعة في معرض الخبر لقوله هو فإن قيل قوله لَكُنَّا استدراك لماذا قلنا لقوله أَكَفَرْتَ كأنه قال لأخيه أكفرت بالله لكني مؤمن موحد كما تقول زيد غائب لكن عمرو حاضر
والبحث الثاني قرأ ابن عامر ويعقوب الحضرمي ونافع في رواية لَكُنَّا هُوَ اللَّهُ رَبّى في الوصل بالألف وفي قراءة الباقين لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبّى بغير ألف والمعنى واحد ثم قال المؤمن وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا ذكر القفال فيه وجوهاً أحدها إني لا أرى الفقر والغنى إلا منه فأحمده إذا أعطى وأصبر إذا ابتلي ولا أتكبر عندما ينعم علي ولا أرى كثرة المال والأعوان من نفسي وذلك لأن الكافر لما اعتز بكثرة المال والجاه فكأنه قد أثبت لله شريكاً في إعطاء العز والغنى وثانيها لعل ذلك الكافر مع كونه منكراً للبعث كان عابد صنم فبين هذا المؤمن فساد قوله بإثبات الشركاء وثالثها أن هذا الكافر لما عجز الله عن البعث والحشر فقد جعله مساوياً للخلق في هذا العجز وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك ثم قال المؤمن للكافر وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لاَ قُوَّة َ إِلاَّ بِاللَّهِ فأمره أن يقول هذين الكلامين الأول قوله مَا شَاء اللَّهُ وفيه وجهان الأول أن تكون ( ما ) شرطية ويكون الجزاء محذوفاً والتقدير أي شيء شاء الله كان والثاني أن تكون ما موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدأ محذوف وتقديره الأمر ما شاء الله واحتج أصحابنا بهذا على أن كل ما أراده الله وقع وكل ما لم يرده لم يقع وهذا يدل على أنه ما أراد الله الإيمان من الكافر وهو صريح في إبطال قول المعتزلة أجاب الكعبي عنه بأن تأويل قولهم ما شاء مما تولى فعله لا مما هو فعل العباد كما قالوا لا مرد لأمر الله لم يرد ما أمر به العباد ثم قال لا يمتنع أن يحصل في سلطانه ما لا يريده كما يحصل فيه ما نهى عنه واعلم أن الذي ذكر الكعبي ليس جواباً عن الاستدلال بل هو التزام المخالفة لظاهر النص وقياس الإرادة على الأمر باطل لأن هذا النص دال على أنه لا يوجد إلا ما أراده الله وليس في النصوص ما يدل على أنه لا يدخل في الوجود إلا ما أمر به فظهر الفرق وأجاب القفال عنه بأن قال هلا إذا دخلت بستانك قلت ما شاء الله كقول الإنسان هذه الأشياء الموجودة في هذا البستان ما شاء الله ومثله قوله سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وهم ثلاثة وقوله وَقُولُواْ حِطَّة ٌ ( البقرة 58 ) أي قولوا هذه حطة وإذا كان كذلك كان المراد من هذا الشيء الموجود في البستان شيء شاء الله تكوينه وعلى هذا التقدير لم يلزم أن يقال كل ما شاء الله وقع لأن هذا الحكم غير عام في الكل بل مختص بالأشياء المشاهدة في البستان وهذا التأويل الذي ذكره القفال أحسن بكثير مما ذكره الجبائي والكعبي وأقول إنه على جوابه لا يدفع الإشكال على المعتزلة لأن عمارة ذلك البستان ربما حصلت بالغصوب والظلم الشديد فلا يصح أيضاً على قول المعتزلة أن يقال هذا واقع بمشيئة الله اللهم إلا أن نقول المراد أن هذه الثمار حصلت بمشيئة الله تعالى إلا أن هذا تخصيص لظاهر النص من غير دليل والكلام الثاني الذي أمر المؤمن الكافر بأن يقوله هو قوله لاَ قُوَّة َ إِلاَّ بِاللَّهِ أي لا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله وإقداره والمقصود إنه قال المؤمن للكافر هلا قلت عند دخول جنتك الأمر ما شاء الله والكائن ما قدره الله

اعترافاً بأنها وكل خير فيها بمشيئة الله وفضله فإن أمرها بيده إن شاء تركها وإن شاء خربها وهلا قلت لا قوة إلا بالله إقراراً بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها فهو بمعونة الله وتأييده لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله ثم إن المؤمن لما علم الكافر الإيمان أجابه عن افتخاره بالمال والنفر فقال إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا من قرأ أقل بالنصب فقد جعل أنا فصلاً وأقل مفعولاً ثانياً ومن قرأ بالرفع جعل قوله أَنَاْ مبتدأ وقوله أَقُلْ خبر والجملة مفعولاً ثانياً لترن واعلم أن ذكر الولد ههنا يدل على أن المراد بالنفر المذكور في قوله وَأَعَزُّ نَفَراً الأعوان والأولاد كأنه يقول له إن كنت تراني أَقُلْ مَالاً وَوَلَدًا وأنصاراً في الدنيا الفانية فعسَى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ إما في الدنيا وإما في الآخرة ويرسل على جنتك حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء أي عذاباً وتخريباً والحسبان مصدر كالغفران والبطلان بمعنى الحساب أي مقداراً قدره الله وحسبه وهو الحكم بتخريبها قال الزجاج عذاب حسبان وذلك الحسبان حسبان ما كسبت يداك وقيل حسباناً أي مرامي الواحد منها حسبانة وهي الصواعق فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أي فتصبح جنتك أرضاً ملساء لا نبات فيها والصعيد وجه الأرض زلقاً أي تصير بحيث تزلق الرجل عليها زلقاً ثم قال أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا أي يغوص ويسفل في الأرض فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا أي فيصير بحيث لا تقدر على رده إلى موضعه قال أهل اللغة في قوله مَاؤُهَا غَوْرًا أي غائراً وهو نعت على لفظ المصدر كما يقال فلان زور وصوم للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ويقال نساء نوح أي نوائح ثم أخبر الله تعالى أنه حقق ما قدره هذا المؤمن فقال وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ وهو عبارة عن إهلاكه بالكلية وأصله من إحاطة العدو لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه ثم استعمل في كل إهلاك ومنه قوله إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ( يوسف 66 ) ومثله قولهم أتى عليه إذا أهلكه من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعلياً عليهم ثم قال تعالى فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ وهو كناية عن الندم والحسرة فإن من عظمت حسرته يصفق إحدى يديه على الأخرى وقد يمسح إحداهما على الأخرى وإنما يفعل هذا ندامة على ما أنفق في الجنة التي وعظه أخوه فيها وعذله وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا أي ساقطة على عروشها فيمكن أن يكون المراد بالعروش عروش الكرم فهذه العروش سقطت ثم سقطت الجدران عليها ويمكن أن يراد من العروش السقوف وهي سقطت على الجدران وحاصل الكلام أن هذه اللفظة كناية عن بطلانها وهلاكها ثم قال تعالى وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا والمعنى أن المؤمن لما قال لَكُنَّا هُوَ اللَّهُ رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا فهذا الكافر تذكر كلامه وقال وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا فإن قيل هذا الكلام يوهم أنه إنما هلكت جنته بشؤم شركه وليس الأمر كذلك لأن أنواع البلاء أكثرها إنما يقع للمؤمنين قال تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ( الزخرف 33 ) وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) وأيضاً فلما قال وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا فقد ندم على الشرك ورغب في التوحيد فوجب أن يصير مؤمناً فلم قال بعده وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَة ٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً والجواب عن السؤال الأول أنه لما عظمت حسرته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا وكان معرضاً في كل عمره عن طلب الدين فلما ضاعت الدنيا بالكلية بقي الحرمان عن الدنيا والدين عليه فلهذا السبب عظمت حسرته والجواب عن السؤال الثاني أنه إنما ندم على الشرك لاعتقاده أنه لو كان موحداً غير مشرك لبقيت عليه جنته فهو إنما رغب في التوحيد والرد عن الشرك لأجل طلب

الدنيا فلهذا السبب ما صار توحيده مقبولاً عند الله ثم قال تعالى وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَة ٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وفيه بحثان
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي ( ولم يكن له فئة ) بالياء لأن قوله فِئَة ٌ جمع فإذا تقدم على الكناية جاز التذكير ولأنه رعاية للمعنى والباقون بالتاء المنقوطة باثنتين من فوق لأن الكناية عائدة إلى اللفظة وهي الفئة
البحث الثاني المراد من قوله يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ هو أنه ما حصلت له فئة يقدرون على نصرته من دون الله أي هو الله تعالى وحده القادر على نصرته ولا يقدر أحد غيره أن ينصره ثم قال تعالى هُنَالِكَ الْوَلَايَة ُ لِلَّهِ الْحَقّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبَى
المسألة الأولى اختلف القراء في ثلاثة مواضع من هذه الآية أولها في لفظ الولاية ففي قراءة حمزة والكسائي بكسر الواو وفي قراءة الباقين بالفتح وحكى عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال كسر الواو لحن قال صاحب الكشاف الولاية بالفتح النصرة والتولي وبالكسر السلطان والملك وثانيها قرأ أبو عمرو والكسائي قوله الحق بالرفع والتقدير هنالك الولاية الحق لله وقرأ الباقون بالجر صفة لله وثالثها قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع والكسائي وابن عامر عقباً بضم القاف وقرأ عاصم وحمزة عقبى بتسكين القاف
المسألة الثانية هُنَالِكَ الْوَلَايَة ُ لِلَّهِ فيه وجوه الأول أنه تعالى لما ذكر من قصة الرجلين ما ذكر علمنا أن النصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر وعرفنا أن الأمر هكذا يكون في حق كل مؤمن وكافر فقال هُنَالِكَ الْوَلَايَة ُ لِلَّهِ الْحَقّ أي في مثل ذلك الوقت وفي مثل ذلك المقام تكون الولاية لله يوالي أولياءه فيغلبهم على أعدائه ويفوض أمر الكفار إليهم فقوله هنالك إشارة إلى الموضع والوقت الذي يريد الله إظهار كرامة أوليائه وإذلال أعدائه ( فيهما ) والوجه الثاني في التأويل أن يكون المعنى في مثل تلك الحالة الشديدة يتولى الله ويلتجيء إليه كل محتاج مضطر يعني أن قوله وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا كلمة ألجيء إليها ذلك الكافر فقالها جزعاً مما ساقه إليه شؤم كفره ولولا ذلك لم يقلها والوجه الثالث المعنى هنالك الولاية لله ينصر بها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم يعني أنه تعالى نصر بما فعل بالكافر أخاه المؤمن وصدق قوله في قوله فعسَى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء ويعضده قوله هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبَى أي لأوليائه والوجه الرابع أن قوله هنالك إشارة إلى الدار الآخرة أي في تلك الدار الآخرة الولاية لله كقوله لمن الملك اليوم لله ثم قال تعالى هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا أي في الآخرة لمن آمن به والتجأ إليه وَخَيْرٌ عُقْبَى أي هو خير عاقبة لمن رجاه وعمل لوجهه وقد ذكرنا أنه قرىء عقبى بضم القاف وسكونها وعقبى على فعلى وكلها بمعنى العاقبة
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ مُّقْتَدِرًا

اعلم أن المقصود اضرب مثلاً آخر يدل على حقارة الدنيا وقلة بقائها والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين فقال وَاضْرِبْ لَهُم أي لهؤلاء الذين افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين مَثَلُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ثم ذكر المثل فقال كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاْرْضِ وحينئذ يربو ذلك النبات ويهتز ويحسن منظره كما قال تعالى فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( الحج 5 ) ثم إذا انقطع ذلك مدة جف ذلك النبات وصار هشيماً وهو النبت المتكسر المتفتت ومنه قوله هشمت أنفه وهشمت الثريد وأنشد عمرو الذي هشم الثريد لأهله
ورجال مكة مسنتون عجاف
وإذا صار النبات كذلك طيرته الرياح وذهبت بتلك الأجزاء إلى سائر الجوانب وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء مُّقْتَدِرًا بتكوينه أولاً وتنميته وسطاً وإبطاله آخراً وأحوال الدنيا أيضاً كذلك تظهر أولاً في غاية الحسن والنضارة ثم تتزايد قليلاً قليلاً ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الهلاك والفناء ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به والباء في قوله فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاْرْضِ فيه وجوه الأول التقدير فاختلط بعض أنواع النبات بسائر الأنواع بسبب هذا الماء وذلك لأن عند نزول المطر يقوي النبات ويختلط بعضه بالبعض ويشتبك بعضه بالبعض ويصير في المنظر في غاية الحسن والزينة والثاني فاختلط ذلك الماء بالنبات واختلط ذلك النبات بالماء حتى روى ورف رفيفاً وكان حق اللفظ على هذا التفسير فاختلط بنبات الأرض ووجه صحته أن كل مختلطين موصوف كل واحد منها بصفة صاحبه
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَة ُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً
لما بين تعالى أن الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزوال والبوار والفناء بين تعالى أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا والمقصود إدخال هذا الجزء تحت ذلك الكل وسنعقد منه قياس الإنتاج وهو أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقضاء والانقراض ينتج إنتاجاً بديهياً أن المال والبنين سريعة الانقضاء والانقراض ومن المقتضى البديهي أن ما كان كذلك فإنه يقبح بالعاقل أن يفتخر به أو يفرح بسببه أو يقيم له في نظره وزناً فهذا برهان باهر على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد ثم ذكر ما يدل على رجحان أولئك الفقراء على أولئك الكفار من الأغنياء فقال وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً وتقرير هذا الدليل أن خيرات الدنيا منقرضة منقضية وخيرات الآخرة دائمة باقية والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي وهذا معلوم بالضرورة لا سيما إذا ثبت أن خيرات الدنيا خسيسة حقيرة وأن خيرات الآخرة عالية رفيعة لأن خيرات

الدنيا حسية وخيرات الآخرة عقلية والعقلية أشرف من الحسية بكثير بالدلائل المذكورة في تفسير قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ في بيان أن الإدراكات العقلية أفضل من الحسية وإذا كان كذلك كان مجموع السعادات العقلية والحسية هي السعادات الأخروية فوجب أن تكون أفضل من السعادات الحسية الدنيوية والله أعلم والمفسرون ذكروا في الباقيات الصالحات أقوالاً قيل إنها قولنا ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ) وللشيخ الغزالي رحمه الله في تفسير هذه الكلمات وجه لطيف فقال روي أن من قال سبحان الله حصل له من الثواب عشر مرات فإذا قال والحمد لله صارت عشرين فإذا قال ولا إله إلا الله صارت ثلاثين فإذا قال والله أكبر صارت أربعين قال وتحقيق القول فيه أن أعظم مراتب الثواب هو الاستغراق في معرفة الله وفي محبته فإذا قال سبحان الله فقد عرف كونه سبحانه منزهاً عن كل ما لا ينبغي فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة فإذا قال مع ذلك والحمد لله فقد أقر بأن الحق سبحانه مع كونه منزهاً عن كل ما لا ينبغي فهو المبدأ لإفادة كل ما ينبغي ولإفاضة كل خير وكمال فقد تضاعفت درجات المعرفة فلا جرم قلنا تضاعف الثواب فإذا قال مع ذلك ولا إله إلا الله فقد أقر بأن الذي تنزه عن كل ما لا ينبغي فهو المبدأ لكل ما ينبغي وليس في الوجود موجود هكذا إلا الواحد فقد صارت مراتب المعرفة ثلاثة فلا جرم صارت درجات الثواب ثلاثة فإذا قال والله أكبر معناه أنه أكبر وأعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله فقد صارت مراتب المعرفة أربعة لا جرم صارت درجات الثواب أربعة والقول الثاني أن الباقيات الصالحات هي الصلوات الخمس والقول الثالث أنها الطيب من القول كما قال تعالى وَهُدُواْ إِلَى الطَّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ ( الحج 24 ) والقول الرابع أن كل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بمعرفة الله وبمحبته وخدمته فهو الباقيات الصالحات وكل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بأحوال الخلق فهو خارج عن ذلك وذلك أن كل ما سوى الحق سبحانه فهو فان لذاته هالك لذاته فكان الاشتغال به والالتفات إليه عملاً باطلاً وسعياً ضائعاً أما الحق لذاته فهو الباقي لا يقبل الزوال لا جرم كان الاشتغال بمعرفة الله ومحبته وطاعته هو الذي يبقى بقاء لا يزول ولا يفنى ثم قال تعالى خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً أي كل عمل أريد به وجه الله فلا شك أن ما يتعلق به من الثواب وما يتعلق به من الأمل يكون خيراً وأفضل لأن صاحب تلك الأعمال يؤمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة
( 47 )
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرض بَارِزَة ً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا

اعلم أنه تعالى لما بين خساسة الدنيا وشرف القيامة أردفه بأحوال القيامة فقال وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ والمقصود منه الرد على المشركين الذي افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأعوان واختلفوا في الناصب لقوله وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ على وجوه أحدها أنه يكون التقدير واذكر لهم يَوْمٍ نُسَيّرُ الْجِبَالَ عطفاً على قوله وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( الكهف 45 ) الثاني أنه يكون التقدير وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ حصل كذا وكذا يقال لهم لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ لأن القول مضمر في هذا الموضع فكان المعنى أنه يقال لهم هذا في هذا الموضع الثالث أن يكون التقدير خَيْرٌ أَمَلاً في يَوْمٍ نُسَيّرُ الْجِبَالَ والأول أظهر إذا عرفت هذا فنقول إنه ذكر في الآية من أحوال القيامة أنواعاً النوع الأول قوله وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ وفيه بحثان
البحث الأول قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر تسير على فعل ما لم يسم فاعله الجبال بالرفع بإسناد تسير إليه اعتباراً بقوله تعالى وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ ( التكوير 3 ) والباقون نسير باسناد فعل التسيير إلى نفسه ( تعالى و ) الجبال بالنصب لكونه مفعول نسير والمعنى نحن نفعل بها ذلك اعتباراً بقوله وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً والمعنى واحد لأنها إذا سيرت فمسيرها ليس إلا الله سبحانه ونقل صاحب الكشاف قراءة أخرى وهي تسير الجبال بإسناد تسير إلى الجبال
البحث الثاني قوله وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ ليس في لفظ الآية ما يدل على أنها إلى أين تسير فيحتمل أن يقال إنه تعالى يسيرها إلى الموضع الذي يريده ولم يبين ذلك الموضع لخلقه والحق أن المراد أنه تعالى يسيرها إلى العدم لقوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً ( طه 105 107 ) ولقوله وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً ( الواقعة 5 6 ) و النوع الثاني من أحوال القيامة قوله تعالى وَتَرَى الاْرْضَ بَارِزَة ً وفي تفسيره وجوه أحدها أنه لم يبق على وجهها شيء من العمارات ولا شيء من الجبال ولا شيء من الأشجار فبقيت بارزة ظاهرة ليس عليها ما يسترها وهو المراد من قوله لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً وثانيها أن المراد من كونها بارزة أنها أبرزت ما في بطنها وقذفت الموتى المقبورين فيها فهي بارزة الجوف والبطن فحذف ذكر الجوف ودليله قوله تعالى وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ( الانشقاق 4 ) وقوله وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا ( الزلزلة 2 ) وقوله وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا وثالثها أن وجوه الأرض كانت مستورة بالجبال والبحار فلما أفنى الله تعالى الجبال والبحار فقد برزت وجوه تلك البقاع بعد أن كانت مستورة والنوع الثالث من أحوال القيامة قوله وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً والمعنى جمعناهم للحساب فلم نغادر منهم أحداً أي لم نترك من الأولين والآخرين أحداً إلا وجمعناهم لذلك اليوم ونظيره قوله تعالى قُلْ إِنَّ الاْوَّلِينَ وَالاْخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ( الواقعة 49 50 ) ومعنى لم نغادر لم نترك يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر ترك الوفاء ومنه الغدير لأنه ما تركته السيول ومنه سميت ضفيرة المرأة بالغديرة لأنها تجعلها خلفها
ولما ذكر الله تعالى حشر الخلق ذكر كيفية عرضهم فقال وَعُرِضُواْ عَلَى رَبّكَ صَفَّا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الصف وجوه أحدها أنه تعرض الخلق كلهم على الله صفاً واحداً ظاهرين بحيث لا يحجب بعضهم بعضاً قال القفال ويشبه أن يكون الصف راجعاً إلى الظهور والبروز ومنه اشتق الصفصف للصحراء وثانيها لا يبعد أن يكون الخلق صفوفاً يقف بعضهم وراء بعض مثل الصفوف

المحيطة بالكعبة التي يكون بعضها خلف بعض وعلى هذا التقدير فالمراد من قوله صفاً صفوفاً كقوله يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ( غافر 67 ) أي أطفالاً وثالثها صفاً أي قياماً كما قال تعالى فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ( الحج 36 ) قالوا قياماً
المسألة الثانية قالت المشبهة قوله تعالى وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ( الفجر 22 ) يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان وتعرض عليه أهل القيامة صفاً وكذلك قوله تعالى لَّقَدْ جِئْتُمُونَا يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان وأجيب عنه بأنه تعالى جعل وقوفهم في الموضع الذي يسألهم فيه عن أعمالهم ويحاسبهم عليها عرضاً عليه لا على أنه تعالى يحضر في مكان وعرضوا عليه ليراهم بعد أن لم يكن يراهم ثم قال تعالى لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وليس المراد حصول المساواة من كل الوجوه لأنهم خلقوا صغاراً ولا عقل لهم ولا تكليف عليهم بل المراد أنه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين في الدنيا على فقراء المؤمنين بالأموال والأنصار لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ عراة حفاة بغير أموال ولا أعوان ونظيره قوله تعالى لَّقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ وَتَرَكْتُمْ مَرَّة ٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وقال تعالى أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً إِلَى قَوْلُهُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ( مريم 77 80 ) ثم قال تعالى بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا أي كنتم مع التعزز على المؤمنين بالأموال والأنصار تنكرون البعث والقيامة فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا وشاهدتم أن البعث والقيامة حق ثم قال تعالى وَوُضِعَ الْكِتَابُ والمراد أنه يوضع في هذا اليوم كتاب كل إنسان في يده إما في اليمين أو في الشمال والمراد الجنس وهو صحف الأعمال فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ أي خائفين مما في الكتاب من أعمالهم الخبيثة وخائفين من ظهور ذلك لأهل الموقف فيفتضحون وبالجملة يحصل لهم خوف العقاب من الحق وخوف الفضيحة عند الخلق ويقولون يا ويلتنا ينادون هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات مَّالِ هَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا وهي عبارة عن الإحطاة بمعنى لا يترك شيئاً من المعاصي سواء كانت أو كبيرة إلا وهي مذكورة في هذا الكتاب ونظيره قوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( الانفطار 10 12 ) وقوله إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( الجاثية 29 ) وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة على تقدير أن المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة إِلاَّ أَحْصَاهَا إلا ضبطها وحصرها قال بعض العلماء ضجوا من الصغائر قبل الكبائر لأن تلك الصغائر هي التي جرتهم إلى الكبائر فاحترزوا من الصغائر جداً وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا في الصحف عتيداً أو جزاء ما عملوا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا معناه أنه لا يكتب عليه ما لم يفعل ولا يزيد في عقابه المستحق ولا يعذب أحداً بجرم غيره بقي في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الجبائي هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة في مسائل أحدها أنه لو عذب عباده من غير فعل صدر منهم لكان ظالماً وثانيها أنه لا يعذب الأطفال بغير ذنب وثالثها بطلان قولهم لله

أن يفعل ما يشاء ويعذب من غير جرم لأن الخلق خلقه إذ لو كان كذلك لما كان لنفي الظلم عنه معنى لأن بتقدير أنه إذا فعل أي شيء أراد لم يكن ظلماً منه لم يكن لقوله إنه لا يظلم فائدة فيقال له أما الجواب عن الأولين فهو المعارضة بالعلم والداعي وأما الجواب عن هذا الثالث فهو أنه تعالى قال مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) ولم يدل هذا على أن اتخاذ الولد صحيح عليه فكذا ههنا
المسألة الثانية عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يحاسب الناس في القيامة على ثلاثة يوسف وأيوب وسليمان فيدعو بالمملوك ويقول له ما شغلك عني فيقول جعلتني عبداً للآدمي فلم تفرغني فيدعو يوسف عليه السلام ويقول كان هذا عبداً مثلك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي فيؤمر به إلى النار ثم يدعو بالمبتلي فإذا قال شغلتني بالبلاء دعا بأيوب عليه السلام فيقول قد ابتليت هذا بأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي فيؤمر به إلى النار ثم يؤتى بالملك في الدنيا مع ما آتاه الله من الغنى والسعة فيقول ماذا عملت فيما آتيتك فيقول شغلني الملك عن ذلك فيدعى بسليمان عليه السلام فيقول هذا عبدي سليمان آتيته أكثر ما آتيتك فلم يشغله ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك ويؤمر به إلى النار ) وعن معاذ عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لن يزول قدم العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن جسده فيما أبلاه وعن عمره فيما أفناه وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه كيف عمل به )
المسألة الثالثة دلت الآية على إثبات صغائر وكبائر في الذنوب وهذا متفق عليه بين المسلمين إلا أنهم اختلفوا في تفسيره فقالت المعتزلة الكبيرة ما يزيد عقابه على ثواب فاعله والصغيرة ما ينقص عقابه عن ثواب فاعله واعلم أن هذا الحد إنما يصح لو ثبت أن الفعل يوجب ثواباً وعقاباً وذلك عندنا باطل لوجوه كثيرة ذكرناها في سورة البقرة في إبطال القول بالإحباط والتكفير بل الحق عندنا أن الطاعات محصورة في نوعين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فكل ما كان أقوى في كونه جهلاً بالله كان أعظم في كونه كبيرة وكل ما كان أقوى في كونه إضراراً بالغير كان أكثر في كونه ذنباً أو معصية فهذا هو الضبط
وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِى َ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا

وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من ذكر الآيات المتقدمة الرد على القوم الذين افتخروا بأموالهم وأعوانهم على فقراء المسلمين وهذه الآية المقصود من ذكرها عين هذا المعنى وذلك لأن إبليس إنما تكبر على آدم لأنه افتخر بأصله ونسبه وقال خلقتني من نار وخلقته من طين فأنا أشرف منه في الأصل والنسب فكيف أسجد وكيف أتواضع لها وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المسلمين بعين هذه المعاملة فقالوا كيف نجلس مع هؤلاء الفقراء مع أنا من أنساب شريفة وهم من أنساب نازلة ونحن أغنياء وهم فقراء فالله تعالى ذكر هذه القصة ههنا تنبيهاً على أن هذه الطريقة هي بعينها طريقة إبليس ثم إنه تعالى حذر عنها وعن الاقتداء بها في قوله أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء فهذا هو وجه النظم وهو حسن معتبر وذكر القاضي وجهاً آخر فقال إنه تعالى لما ذكر من قبل أمر القيامة وما يجري عند الحشر ووضع الكتاب وكأن الله تعالى يريد أن يذكر ههنا أنه ينادي المشركين ويقول لهم أين شركائي الذي زعمتم وكان قد علم تعالى أن إبليس هو الذي يحمل الإنسان على إثبات هؤلاء الشركاء لا جرم قدم قصته في هذه الآية إتماماً لذلك الغرض ثم قال القاضي وهذه القصة وإن كان تعالى قد كررها في سور كثيرة إلا أن في كل موضع منها فائدة مجددة
المسألة الثانية أنه تعالى بين في هذه الآية أن إبليس كان من الجن وللناس في هذه المسألة ثلاثة أقوال الأول أنه من الملائكة وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجن ولهم فيه وجوه الأول أن قبيلة من الملائكة يسمون بذلك لقوله تعالى وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّة ِ نَسَباً ( الصافات 158 ) وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ ( الأنعام 100 ) والثاني أن الجن سموا جناً للاستتار والملائكة كذلك فهم داخلون في الجن الثالث أنه كان خازن الجنة ونسب إلى الجنة كقولهم كوفي وبصري وعن سعيد بن جبير أنه كان من الجنانين الذين يعملون في الجنات حي من الملائكة يصوغون حلية أهل الجنة مذ خلقوا رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبير والقول الثاني أنه من الجن الذين هم الشياطين والذين خلقوا من نار وهو أبوهم والقول الثالث قول من قال كان من الملائكة فمسخ وغير وهذه المسألة قد أحكمناها في سورة البقرة وأصل ما يدل على أنه ليس من الملائكة أنه تعالى أثبت له ذرية ونسلاً في هذه الآية وهو قوله أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى والملائكة ليس لهم ذرية ولا نسل فوجب أن لا يكون إبليس من الملائكة بقي أن يقال إن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود فلو لم يكن إبليس من الملائكة فكيف تناوله ذلك الأمر وأيضاً لو لم يكن من الملائكة فكيف يصح استثناؤه منهم وقد أجبنا عن كل ذلك بالاستقصاء ثم قال تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ وفي ظاهره إشكال لأن الفاسق لا يفسق عن أمر ربه فلهذا السبب ذكروا فيه وجوهاً الأول قال الفراء ففسق عن أمر ربه أي خرج عن طاعته والعرب تقول فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها من البابين وقال رؤبة يهوين في نجد وغور غائرا
فواسقا عن قصدها جوائرا

الثاني حكى الزجاج عن الخليل وسيبويه أنه قال لما أمر فعصى كان سبب فسقه هو ذلك الأمر والمعنى أنه لولا ذلك الأمر السابق لما حصل الفسق فلأجل هذا المعنى حسن أن يقال فسق عن أمر ربه الثالث قال قطرب فسق عن أمر ربه رده كقوله واسأل القرية واسأل العير قال تعالى أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ وفيه مسائل
المسألة الأولى المقصود من هذا الكلام أن إبليس تكبر على آدم وترفع عليه لما ادعى أن أصله أشرف من أصل آدم فوجب أن يكون هو أشرف من آدم فكأنه تعالى قال لأولئك الكافرين الذين افتخروا على فقراء المسلمين بشرف نسبهم وعلو منصبهم إنكم في هذا القول اقتديتم بإبليس في تكبره على آدم فلما علمتم أن إبليس عدو لكم فكيف تقتدون به في هذه الطريقة المذمومة هذا هو تقرير الكلام فإن قيل إن هذا الكلام لا يتم إلا بإثبات مقدمات فأولها إثبات إبليس وثانيها إثبات ذرية إبليس وثالثها إثبات عداوة بين إبليس وذريته وبين أولاد آدم ورابعها أن هذا القول الذي قاله أولئك الكفار اقتدوا فيه بإبليس وكل هذه المقدمات الأربعة لا سبيل إلى إثباتها إلا بقول النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالجاهل بصدق النبي جاهل بها إذا عرفت هذا فنقول المخاطبون بهذه الآيات هل عرفوا كون محمد نبياً صادقاً أو ما عرفوا ذلك فإن عرفوا كونه نبياً صادقاً قبلوا قوله في كل ما يقوله فكلما نهاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قول انتهو عنه وحينئذ فلا حاجة إلى قصة إبليس وإن لم يعرفوا كونه نبياً جهلوا كل هذه المقدمات الأربعة ولم يعرفوا صحتها فحينئذ لا يكون في إيرادها عليهم فائدة والجواب أن المشركين كانوا قد سمعوا قصة إبليس وآدم من أهل الكتاب واعتقدوا صحتها وعلموا أن إبليس إنما تكبر على آدم بسبب نسبه فإذا أوردنا عليهم هذه القصة كان ذلك زاجراً لهم عما أظهروه مع فقراء المسلمين من التكبر والترفع
المسألة الثانية قال الجبائي في هذه الآية دلالة على أنه تعالى لا يريد الكفر ولا يخلقه في العبد إذ لو أراده وخلقه فيه ثم عاقبه عليه لكان ضرر إبليس أقل من ضرر الله عليهما فكيف يوبخهم بقوله بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً تعالى الله عنه علواً كبيراً بل على هذا المذهب لا ضرر البتة من إبليس بل الضرر كله من الله والجواب المعارضة بالداعي والعلم
المسألة الثالثة إنما قال للكفار المفتخرين بأنسابهم وأموالهم على فقراء المسلمين أفتتخذون إبليس وذريته أولياء من دون الله لأن الداعي لهم إلى ترك دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هو النخوة وإظهار العجب فهذا يدل على أن كل من أقدم على عمل أو قول بناء على هذا الداعي فهو متبع لإبليس حتى أن من كان غرضه في إظهار العلم والمناظرة التفاخر والتكبر والترفع فهو مقتد بإبليس وهو مقام صعب غرق فيه أكثر الخلق فنسأل الله الخلاص منه ثم قال تعالى بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً أي بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله به فأطاعه بدل طاعته ثم قال مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اختلفوا في أن الضمير في قوله مَّا أَشْهَدتُّهُمْ إلى من يعود فيه وجوه أحدها وهو الذي ذهب إليه الأكثرون أن المعنى ما أشهدت الذي اتخذتموهم أولياء خلق السموات والأرض ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( النساء 66 ) يعني ما أشهدتهم لأعتضد بهم والدليل عليه قوله وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً أي وما كنت متخذهم فوضع الظاهر موضع المضمر بياناً لإضلالهم وقوله عَضُداً أي أعواناً وثانيها وهو أقرب عندي أن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا

للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إن لم تطرد من مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل قوله تعالى مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم قوم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له لست بسلطان البلد ولا ذرية المملكة حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وفي هذه الآية المذكورة الأقرب هو ذكر أولئك الكفار وهو قوله تعالى بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً والمراد بالظالمين أولئك الكفار وثالثها أن يكون المراد من قوله مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ كون هؤلاء الكفار جاهلين بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة والشقاوة فكأنه قيل لهم السعيد من حكم الله بسعادته في الأزل والشقي من حكم الله بشقاوته في الأزل وأنتم غافلون عن أحوال الأزل كأنه تعالى قال مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وإذا جهلتم هذه الحالة فكيف يمكنكم أن تحكموا لأنفسكم بالرفعة والعلو والكمال ولغيركم بالدناءة والذل بل ربما صار الأمر في الدنيا والآخرة على العكس فيما حكمتم به
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وما كنت بالفتح والخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم وما ينبغي لك أن تعتز بهم وقرأ علي رضوان الله عليه مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ بالتنوين على الأصل وقرأ الحسن عَضُداً بسكون الضاد ونقل ضمتها إلى العين وقرىء عَضُداً بالفتح وسكون الضاد وعضداً بضمتين وعضداً بفتحتين جمع عاضد كخادم وخدم وراصد ورصد من عضده إذا قواه وأعانه واعلم أنه تعالى لما قرر أن القول الذي قالوه في الافتخار على الفقراء اقتداء بإبليس عاد بعده إلى التهويل بأحوال يوم القيامة فقال عَضُداً وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَائِى َ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ وفيه أبحاث
البحث الأول قرأ حمزة ( نقول ) بالنون عطفاً على قوله وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ و أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَمَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً والباقون قرأوا بالياء
البحث الثاني واذكر يوم نقول عطفاً على قوله وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ
البحث الثالث المعنى واذكر لهم يا محمد أحوالهم وأحوال آلهتهم يوم القيامة إذ يقول الله لهم نَادُواْ شُرَكَائِى َ أي ادعوا من زعمتم أنهم شركاء لي حيث أهلتموهم للعبادة ادعوهم يشفعوا لكم وينصروكم والمراد بالشركاء الجن فدعوهم ولم يذكر تعالى في هذه الآية أنهم كيف دعوا الشركاء لأنه تعالى بين ذلك في آية أخرى وهو أنهم قالوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا ( غافر 47 ) ثم قال تعالى فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ أي لم يجيبوهم إلى ما دعوهم إليه ولم يدفعوا عنهم ضرراً وما أوصلوا إليهم نفعاً ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً وفيه وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) الموبق المهلك من وبق يبق وبوقاً ووبقاً إذا هلك وأوبقه غيره فيجوز أن يكون مصدراً كالمورد والموعد وتقرير هذا الوجه أن يقال إن هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة كالملائكة وعيسى دعوا هؤلاء فلم يستجيبوا لهم

ثم حيل بينهم وبينهم فأدخل الله تعالى هؤلاء المشركين جهنم وأدخل عيسى الجنة وصار الملائكة إلى حيث أراد الله من دار الكرامة وحصل بين أولئك الكفار وبين الملائكة وعيسى عليه السلام هذا الموبق وهو ذلك الوادي في جهنم الوجه الثاني قال الحسن ( موبقاً ) أي عداوة والمعنى عداوة هي في شدتها هلاك ومنه قوله لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً الوجه الثالث قال الفراء البين المواصلة أي جعلنا مواصلتهم في الدنيا هلاكاً في يوم القيامة الوجه الرابع الموبق البرزخ البعيد أي جعلنا بين هؤلاء الكفار وبين الملائكة وعيسى برزخاً بعيداً يهلك فيه الساري لفرط بعده لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان ثم قال تعالى وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وفي هذا الظن قولان الأول أن الظن ههنا بمعنى العلم واليقين والثاني وهو الأقرب أن المعنى أن هؤلاء الكفار يرون النار من مكان بعيد فيظنون أنهم مواقعوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة لشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها كما قال إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ( الفرقان 12 ) وقوله مُّوَاقِعُوهَا أي مخالطوها فإن مخالطة الشيء لغيره إذا كانت قوية تامة يقال لها مواقعة ثم قال تعالى وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا أي لم يجدوا عن النار معدلاً إلى غيرها لأن الملائكة تسوقهم إليها
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَى ءٍ جَدَلاً وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّة ُ الاٌّ وَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا ءايَاتِى وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً
اعلم أن أولئك الكفرة لما افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم وبين تعالى بالوجوه الكثيرة أن قولهم فاسد وشبهتهم باطلة وذكر فيه المثلين المتقدمين قال بعده وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءانِ لِلنَّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ وهو إشارة إلى ما سبق والتصريف يقتضي التكرير والأمر كذلك لأنه تعالى أجاب عن شبهتهم التي ذكروها من وجوه كثيرة ومع تلك الجوابات الشافية والأمثلة المطابقة فهؤلاء الكفار لا يتركون المجادلة الباطلة فقال وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل وانتصاب قوله جدلاً على التمييز قال بعض المحققين والآية دالة على أن الأنبياء عليهم السلام جادلوهم في الدين حتى صاروا هم مجادلين لأن المجادلة لا تحصل إلا من الطرفين وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل ثم قال وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ وفيه بحثان

البحث الأول قالت المعتزلة الآية دالة على أنه لم يوجد ما يمنع من الإقدام على الإيمان وذلك يدل على فساد قول من يقول إنه حصل المانع قال أصحابنا العلم بأنه لا يؤمن مضاد لوجود الإيمان فإذا كان ذلك العلم قائماً كان المانع قائماً وأيضاً حصول الداعي إلى الكفر قائم وإلا لما وجب لأن الفعل الاختياري بدون الداعي محال ووجود الداعي إلى الكفر مانع من حصول الإيمان وإذا ثبت هذا ظهر أن المراد مقدار الموانع المحسوسة
البحث الثاني المعنى أنه لما جاءهم الهدى وهو الدليل الدال على صحة الإسلام وثبت أنه لا مانع لهم من الإيمان ولا من الاستغفار والتوبة والتخلية حاصلة والأعذار زائلة فلم لم يقدموا على الإيمان ثم قال تعالى إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّة ُ الاْوَّلِينَ وهو عذاب الاستئصال أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً قرأ حمزة وعاصم والكسائي قبلاً بضم القاف والباء جميعاً وهو جمع قبيل بمعنى ضروب من العذاب تتواصل مع كونهم أحياء وقيل مقابلة وعياناً والباقون قبلاً بكسر القاف وفتح الباء أي عياناً أيضاً وروى صاحب الكشاف قبلاً بفتحتين أي مستقبلاً والمعنى أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا عند نزول عذاب الاستئصال فيهلكوا أو أن يتواصل أنواع العذاب والبلاء حال بقائهم في الحياة الدنيا واعلم أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا على هذين الشرطين لأن العاقل لا يرضى بحصول هذين الأمرين إلا أن حالهم شبيه بحال من وقف العمل على هذين الشرطين ثم بين تعالى أنه إنما أرسل الرسل مبشرين بالثواب على الطاعة ومنذرين بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعاً وبين مع هذه الأحوال أنه يوجد من الكفار المجادلة بالباطل لغرض دحض الحق وهذا يدل على أن الأنبياء كانوا يجادلونهم لما بينا أن المجادلة إنما تحصل من الجانبين وبين تعالى أيضاً أنهم اتخذوا آيات الله وهي القرآن وإنذارات الأنبياء هزواً وكل ذلك يدل على استيلاء الجهل والقسوة قال النحويون ما في قوله وَمَا أُنْذِرُواْ يجوز أن تكون موصولة ويكون العائد من الصلة محذوفاً ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إنذارهم
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِأايِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِى َ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَة ِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا

إعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار جدالهم بالباطل وصفهم بعده بالصفات الموجبة للخزي والخذلان الصفة الأولى قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ أي لا ظلم أعظم من كفر من ترد عليه الآيات والبينات فيعرض عنها وينسى ما قدمت يداه أي مع إعراضه عن التأمل في الدلائل والبينات يتناسى ما قدمت يداه من الأعمال المنكرة والمذاهب الباطلة والمراد من النسيان التشاغل والتغافل عن كفره المتقدم الصفة الثانية ( قوله ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِى َ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن وقد مر تفسير هذه الآية على الاستقصاء في سورة الأنعام والعجب أن قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِى َ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ متمسك القدرية وقوله إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ إلى آخر الآية متمسك الجبرية وقلما نجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر والتجربة تكشف عن صدق قولنا وما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين ثم قال تعالى وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَة ِ الغفور البليغ المغفرة وهو إشارة إلى دفع المضار ذو الرحمة الموصوف بالرحمة وإنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة لا في الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار وهو تعالى قد ترك مضار لا نهاية لها مع كونه قادراً عليها أما فعل الرحمة فهو متناه لأن ترك ما لا نهاية له ممكن أما فعل ما لا نهاية له فمحال ويمكن أن يقال المراد أنه يغفر كثيراً لأنه ذو الرحمة ولا حاجة به إليها فيهبها من المحتاجين كثيراً ثم استشهد بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلاً من غير إمهال مع إفراطهم في عداوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ وهو إما يوم القيامة وإما في الدنيا وهو يوم بدر وسائر أيام الفتح ( وقوله ) لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً ( أي ) منجى ولا ملجأ يقال وأل إذا لجأ ووأل إليه إذا لجأ إليه ثم قال تعالى وَتِلْكَ الْقُرَى يريد قرى الأولين من ثمود وقوم لوط وغيرهم أشار إليها ليعتبروا وتلك مبتدأ والقرى صفة لأن أسماء الإشارة توصف بأصناف الأجناس وأهلكناهم خبر والمعنى وتلك أصحاب القرى أهلكناهم لما ظلموا مثل ظلم أهل مكة وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا أي وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر والمهلك الإهلاك أو وقته وقرىء لمهلكهم بفتح الميم واللام مفتوحة أو مكسورة أي لهلاكهم أو وقت هلاكهم والموعد وقت أو مصدر والمراد إنا عجلنا هلاكهم ومع ذلك لم ندع أن نضرب له وقتاً ليكونوا إلى التوبة أقرب
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِى َ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَاذَا نَصَباً قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَة ِ فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَالِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى ءَاثَارِهِمَا قَصَصًا

اعلم أن هذا ابتداء قصة ثالثة ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي أن موسى عليه السلام ذهب إلى الخضر عليه السلام ليتعلم منه العلم وهذا وإن كان كلاماً مستقلاً في نفسه إلا أنه يعين على ما هو المقصود في القصتين السابقتين أما نفع هذه القصة في الرد على الكفار الذين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار فهو أن موسى عليه السلام مع كثرة علمه وعمله وعلو منصبه واستجماع موجبات الشرف التام في حقه ذهب إلى الخضر لطلب العلم وتواضع له وذلك يدل على أن التواضع خير من التكبر وأما نفع هذه القصة في قصة أصحاب الكهف فهو أن اليهود قالوا لكفار مكة إن أخبركم محمد عن هذه القصة فهو نبي وإلا فلا وهذا ليس بشيء لأنه لا يلزم من كونه نبياً من عند الله تعالى أن يكون عالماً بجميع القصص والوقائع كما أن كون موسى عليه السلام نبياً صادقاً من عند الله لم يمنع من أمر الله إياه بأن يذهب إلى الخضر ليتعلم منه فظهر مما ذكرنا أن هذه القصة قصة مستقلة بنفسها ومع ذلك فهي نافعة في تقرير المقصود في القصتين المتقدمتين
المسألة الثانية أكثر العلماء على أن موسى المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران صاحب المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس صاحب موسى بن عمران وإنما هو صاحب موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب وقيل هو كان نبياً قبل موسى بن عمران فقال ابن عباس كذب عدو الله واعلم أنه كان ليوسف عليه السلام ولدان أفرائيم وميشا فولد افرائيم نون وولد نون يوشع بن نون وهو صاحب موسى وولي عهده بعد وفاته وأما ولد ميشا فقيل إنه جاءته النبوة قبل موسى بن عمران ويزعم أهل التوراة أنه هو الذي طلب هذا العلم ليتعلم والخضر هو الذي خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار وموسى بن ميشا معه هذا هو قول جمهور اليهود واحتج القفال على صحة قولنا إن موسى هذا هو صاحب التوراة قال إن الله تعالى ما ذكر موسى في كتابه إلا وأراد به صاحب التوراة فاطلاق هذا الإسم يوجب الإنصراف إليه ولو كان المراد شخصاً آخر مسمى بموسى غيره لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز وإزالة الشبهة كما أنه لما كان المشهور في العرف من أبي حنيفة رحمه الله هو الرجل المعين فلو ذكرنا هذا الاسم وأردنا به رجلاً سواء لقيدناه مثل أن نقول قال أبو حنيفة الدينوري وحجة الذين قالوا موسى هذا غير صاحب التوراة أنه تعالى بعد أن أنزل التوراة عليه وكلمه بلا واسطة وحج خصمه بالمعجزات القاهرة العظيمة التي لم يتفق مثلها لأكثر أكابر الأنبياء يبعد أن

يبعثه بعد ذلك لتعلم الاستفادة وأجيب عنه بأنه لا يبعد أن العالم الكامل في أكثر العلوم يجهل بعض الأشياء فيحتاج في تعلمها إلى من دونه وهذا أمر متعارف معلوم
المسألة الثالثة اختلفوا في فتى موسى فالأكثرون على أنه يوشع بن نون وروى القفال عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي هريرة عن أبي بن كعب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول فتاه يوشع بن نون والقول الثاني أن فتى موسى أخو يوشع وكان صاحباً لموسى عليه السلام في هذا السفر والقول الثالث روى عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ قال يعني عبده قال القفال واللغة تحتمل ذلك روى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي ) وهذا يدل على أنهم كانوا يسمون العبد فتى والأمة فتاة
المسألة الرابعة قيل إن موسى عليه السلام لما أعطي الألواح وكلمه الله تعالى قال من الذي أفضل مني وأعلم فقيل عبد لله يسكن جزائر البحر وهو الخضر وفي رواية أخرى أن موسى عليه السلام لما أوتي من العلم ما أوتي ظن أنه لا أحد مثله فأتاه جبريل عليه السلام وهو بساحل البحر قال يا موسى انظر إلى هذا الطير الصغير يهوي إلى البحر يضرب بمنقاره فيه ثم يرتفع فأنت فيما أوتيت من العلم دون قدر ما يحمل هذا الطير بمنقاره من البحر قال الأصوليون هذه الرواية ضعيفة لأن الأنبياء يجب أن يعلموا أن معلومات الله لا نهاية لها وأن يعلموا أن معلومات الخلق يجب كونها متناهية وكل قدر متناه فإن الزائد عليه ممكن فلا مرتبة من مراتب العلم إلا وفوقها مرتبة ولهذا قال تعالى وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ وإذا كانت هذه المقدمات معلومة فمن المستبعد جداً أن يقطع العاقل بأنه لا أحد أعلم مني لا سيما موسى عليه السلام مع علمه الوافر بحقائق الأشياء وشدة براءته عن الأخلاق الذميمة كالعجب والتيه والصلف والرواية الثالثة قيل إن موسى عليه السلام سأل ربه أي عبادك أحب إليك قال الذي يذكرني ولا ينساني قال فأي عبادك أقضى قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال فأي عبادك أعلم قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردي فقال موسى عليه السلام إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه فقال اعلم منك الخضر قال فأين أطلبه قال على الساحل عند الصخرة قال يا رب كيف لي به قال تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك فقال لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان ورقد موسى واضطرب الحوت وطفر إلى البحر فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فرجع من ذلك الموضع إلى الموضع الذي طفر الحوت فيه إلى البحر فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى عليه السلام فقال وأني بأرضك السلاما فعرفه نفسه فقال يا موسى أنا على علم علمني الله لا تعلمه أنت وأنت على علم علمك الله لا أعلمه أنا فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على حرفها فنقر في الماء فقال الخضر ما ينقص علمي وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر أقول نسبة ذلك القدر القليل الذي أخذه ذلك العصفور من ذلك الماء إلى كلية ماء البحر نسبة متناه إلى متناه ونسبة معلومات جميع المخلوقات إلى معلومات الله تعالى نسبة متناه إلى غير متناه فأين إحدى النسبتين من

الأخرى والله العالم بحقائق الأمور ونرجع إلى التفسير أما قوله تعالى لا أَبْرَحُ قال الزجاج قوله لا أَبْرَحُ ليس معناه لا أزول لأنه لو كان كذلك لم يقطع أرضاً أقول يمكن أن يجاب عنه بأن الزوال عن الشيء عبارة عن تركه والإعراض عنه يقال زال فلان عن طريقته في الجود أي تركها فقوله لا أبرح بمعنى لا أزول عن السير والذهاب بمعنى لا أترك هذا العمل وهذا الفعل وأقول المشهور عند الجمهور أن قوله لا أبرح معناه لا أزول والعرب تقول لا أبرح ولا أزال ولا انفك ولا افتأ بمعنى واحد قال القفال وقالوا أصل قولهم لا أبرح من البراح كما أن أصل لا أزال من الزوال يقال زال يزال ويزول كما يقال دام يدام ويدوم ومات يمات ويموت إلا أن المستعمل في هذه اللفظة يزال فقوله لا أبرح أي أقيم لأن البراح هو العدم فقوله لا أبرح يكون عدماً للعدم فيكون ثبوتاً فقوله لا أزال ولا أبرح يفيد الدوام والثبات على العمل فإن قيل إذا كان قوله لا أبرح بمعنى لا أزال فلا بد من الخبر قلنا حذف الخبر لأن الحال والكلام يدلان عليه أما الحال فلأنها كانت حال سفر وأما الكلام فلأن قوله حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ غاية مضروبة تستدعي شيئاً هي غاية له فيكون المعنى لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين ويحتمل أن يكون المعنى لا أبرح مما أنا عليه يعني ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ كما تقول لا أبرح المكان وأما مجمع البحرين فهو المكان الذي وعد فيه موسى بلقاء الخضر عليهما السلام وهو ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق وقيل غيره وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين فإن صح بالخبر الصحيح شيء فذاك وإلا فالأولى السكوت عنه ومن الناس من قال البحران موسى والخضر لأنهما كانا بحري العلم وقرىء مجمع بكسر الميم ثم قال أو أمضى حقباً أي أسير زماناً طويلاً وقيل الحقب ثمانون سنة وقد تكلمنا في هذا اللفظ في قوله تعالى لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً ( النبأ 23 ) وحاصل الكلام أن الله عز وجل كان أعلم موسى حال هذا العالم وما أعلمه موضعه بعينه فقال موسى عليه السلام لا أزال أمضي حتى يجتمع البحران فيصيرا بحراً واحداً أو أمضي دهراً طويلاً حتى أجد هذا العالم وهذا إخبار من موسى بأنه وطن نفسه على تحمل التعب الشديد والعناء العظيم في السفر لأجل طلب العلم وذلك تنبيه على أن المتعلم لو سافر من المشرق إلى المغرب لطلب مسألة واحدة لحق له ذلك ثم قال تعالى فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا والمعنى فانطلقا إلى أن بلغا مجمع بينهما والضمير في قوله بينهما إلى ماذا يعود فيه قولان الأول مجمع بينهما أي مجمع البحرين وهو كأنه إشارة إلى ( قول ) موسى لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أي فحقق ( الله ) ما قاله والقول الثاني أن المعنى فلما بلغ الموضع الذي يجتمع ( فيه ) موسى وصاحبه الذي كان يقصده لأن ذلك الموضع الذي وقع فيه نسيان الحوت هو الموضع الذي كان يسكنه الخضر أو يسكن بقربه ولأجل هذا المعنى لما رجع موسى وفتاه بعد أن ذكر الحوت صار إليه وهو معنى حسن والمفسرون على القول الأول ثم قال تعالى نَسِيَا حُوتَهُمَا وفيه مباحث
البحث الأول الروايات تدل على أنه تعالى بين لموسى عليه السلام أن هذا العالم موضعه مجمع البحرين إلا أنه تعالى جعل انقلاب الحوت حياً علامة على مسكنه المعين كمن يطلب إنساناً فيقال له إن موضعه محلة كذا من الري فإذا انتهيت إلى المحلة فسل فلاناً عن داره وأين ما ذهب بك فاتبعه فإنك تصل إليه فكذا ههنا قيل له إن موضعه مجمع البحرين فإذا وصلت إليه رأيت الحوت انقلب حياً وطفر إلى البحر فيحتمل أنه قيل له فهنالك موضعه ويحتمل أنه قيل له فاذهب على موافقة ذهاب ذلك الحوت فإنك تجده

إذا عرفت هذا فنقول إن موسى وفتاه لما بلغا مجمع بينهما طفرت السمكة إلى البحر وسارت وفي كيفية طفرها روايات أيضاً قيل إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملحة فطفرت وسارت وقيل إن يوشع توضأ في ذلك المكان فانتضح الماء على الحوت المالح فعاش ووثب في الماء وقيل انفجر ( ت ) هناك عين من الجنة ووصلت قطرات من تلك العين إلى السمكة فحييت وطفرت إلى البحر فهذا هو الكلام في صفة الحوت
البحث الثاني المراد من قوله نَسِيَا حُوتَهُمَا أنهما نسيا كيفية الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب فإن قيل انقلاب السمكة المالحة حية حالة عجيبة فلما جعل الله حصول هذه الحالة العجيبة دليلاً على الوصول إلى المطلوب فكيف يعقل حصول النسيان في هذا المعنى أجاب العلماء عنه بأن يوشع كان قد شاهد المعجزات القاهرة من موسى عليه السلام كثيراً فلم يبق لهذه المعجزة عنده وقع عظيم فجاز حصول النسيان وعندي فيه جواب آخر وهو أن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الضروري تنبيهاً لموسى عليه السلام على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله وحفظه على القلب والخاطر أما قوله فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً ففيه وجوه الأول أن يكون التقدير سرب في البحر سرباً إلا أنه أقيم قوله فاتخذ مقام قوله سرب والسرب هو الذهاب ومنه قوله وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ( الرعد 10 ) الثاني أن الله تعالى أمسك إجراء الماء على البحر وجعله كالطاق والكوة حتى سرى الحوت فيه فلما جاوز أي موسى وفتاه الموعد المعين وهو الوصول إلى الصخرة بسبب النسيان المذكور وذهبا كثيراً وتعبا وجاعا قَالَ لِفَتَاهُ ءاتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَاذَا نَصَباً قَالَ الفتى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَة ِ الهمزة في أرأيت همزة الاستفهام ورأيت على معناه الأصلي وقد جاء هذا الكلام على ما هو المتعارف بين الناس فإنه إذا حدث لأحدهم أمر عجيب قال لصاحبه أرأيت ما حدث لي كذلك ههنا كأنه قال أرأيت ما وقع لي منه إذ أوينا إلى الصخرة فحذف مفعول أرأيت لأن قوله فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ يدل عليه ثم قال وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وفيه مباحث
البحث الأول أنه اعتراض وقع بين المعطوف والمعطوف عليه والتقدير فإني نسيت الحوت واتخذ سبيله في البحر عجباً والسبب في وقوع هذا الاعتراض ما يجري مجرى العذر والعلة لوقوع ذلك النسيان
البحث الثاني قال الكعبي وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ يدل على أنه تعالى ما خلق ذلك النسيان وما أراده وإلا كانت إضافته إلى الله تعالى أوجب من إضافته إلى الشيطان لأنه تعالى إذا خلقه فيه لم يكن لسعي الشيطان في وجوده ولا في عدمه أثر قال القاضي والمراد بالنسيان أن يشتغل قلب الإنسان بوساوسه التي هي من فعله دون النسيان الذي يضاد الذكر لأن ذلك لا يصح أن يكون إلا من قبل الله تعالى
البحث الثالث قوله أن اذكره بدل من الهاء في أنسانيه أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان ثم قال وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا وفيه وجوه الأول أن قوله عجباً صفة لمصدر محذوف كأنه قيل واتخذ سبيله في البحر اتخاذاً عجباً ووجه كونه عجباً انقلابه من المكتل وصيرورته حياً وإلقاء نفسه في البحر على غفلة منهما والثاني أن يكون المراد منه ما ذكرنا أنه تعالى جعل الماء عليه كالطاق وكالسرب الثالث قيل إنه تم الكلام عند قوله وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ ثم قال بعده عجباً والمقصود منه تعجبه من تلك العجيبة

التي رآها ومن نسيانه لها وقيل إن قوله عجباً حكاية لتعجب موسى وهو ليس بقوله ثم قال تعالى قَالَ ذالِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ أي قال موسى ذلك الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب وهو لقاء الخضر وقوله نبغ أصله نبغي فحذفت الياء طلباً للتخفيف لدلالة الكسرة عليه وكان القياس أن لا يحذف لأنهم إنما يحذفون الياء في الأسماء وهذا فعل إلا أنه قد يجوز على ضعف القياس حذفها لأنها تحذف مع الساكن الذي يكون بعدها كقولك ما نبغي اليوم فلما حذفت مع الساكن حذفت أيضاً مع غير الساكن ثم قال فارتدا على آثارهما أي فرجعا وقوله قَصَصًا فيه وجهان أحدهما أنه مصدر في موضع الحال أي رجعا على آثارهما مقتصين آثارهما والثاني أن يكون مصدراً لقوله فارتدا على آثارهما لأن معناه فاقتصا على آثارهما وحاصل الكلام أنهما لما عرفا أنهما تجاوزا عن الموضع الذي يسكن فيه ذلك العالم رجعا وعادا إليه والله أعلم
فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَة ً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَى ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا فيه بحثان
البحث الأول قال الأكثرون إن ذلك العبد كان نبياً واحتجوا عليه بوجوه الأول أنه تعالى قال رَحْمَة ً مّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ والرحمة هي النبوة بدليل قوله تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة َ رَبّكَ ( الزخرف 32 ) وقوله وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ ( القصص 86 ) والمراد من هذه الرحمة النبوة ولقائل أن يقول نسلم أن النبوة رحمة أما لا يلزم أن يكون كل رحمة نبوة
الحجة الثانية قوله تعالى وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا وهذا يقتضي أنه تعالى علمه لا بواسطة تعليم معلم ولا إرشاد مرشد وكل من علمه الله لا بواسطة البشر وجب أن يكون نبياً يعلم الأمور بالوحي من الله وهذا الاستدلال ضعيف لأن العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله وذلك لا يدل على النبوة
الحجة الثالثة أن موسى عليه السلام قال هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن ( الكهف 66 ) والنبي لا يتبع غير النبي في التعليم وهذا أيضاً ضعيف لأن النبي لا يتبع غير النبي في العلوم التي باعتبارها صار نبياً أما في غير تلك العلوم فلا

الحجة الرابعة أن ذلك العبد أظهر الترفع على موسى حيث قال له صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وأما موسى فإنه أظهر التواضع له حيث قال لا أَعْصِى لَكَ أمْراً وكل ذكل يدل على أن ذلك العالم كان فوق موسى ومن لا يكون نبياً لا يكون فوق النبي وهذا أيضاً ضعيف لأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها فلم قلتم إن ذلك لا يجوز فإن قالوا لأنه يوجب التنفير قلنا فارسال موسى إلى التعلم منه بعد إنزال الله عليه التوراة وتكليمه بغير واسطة يوجب التنفير فإن قالوا إن هذا لا يوجب التنفير فكذا القول فيما ذكروه
الحجة الخامسة احتج الأصم على نبوته بقوله في أثناء القصة وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ومعناه فعلته بوحي الله وهو يدل على النبوة وهذا أيضاً دليل ضعيف وضعفه ظاهر
الحجة السادسة ما روي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال السلام عليك فقال وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل فقال موسى عليه السلام من عرفك هذا قال الذي بعثك إلي قالوا وهذا يدل على أنه إنما عرف ذلك بالوحي والوحي لا يكون إلا مع النبوة ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات والإلهامات
البحث الثاني قال الأكثرون إن ذلك العبد هو الخضر وقالوا إنما سمي بالخضر لأنه كان لا يقف موقفاً إلا أخضر ذلك الموضع قال الجبائي قد ظهرت الرواية أن الخضر إنما بعث بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل فإن صح ذلك لم يجز أن يكون هذا العبد هو الخضر وأيضاً فبتقدير أن يكون هذا العبد هو الخضر وقد ثبت أنه يجب أن يكون نبياً فهذا يقتضي أن يكون الخضر أعلى شأناً من موسى صاحب التوراة لأنا قد بينا أن الألفاظ المذكورة في هذه الآيات تدل على أن ذلك كان يترفع على موسى وكان موسى يظهر التواضع له إلا أن كون الخضر أعلى شأناً من موسى غير جائز لأن الخضر إما أن يقال إنه كان من بني إسرائيل أو ما كان من بني إسرائيل فإن قلنا إنه كان من بني إسرائيل ( فقد ) كان من أمة موسى لقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال لفرعون أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ ( الشعراء 17 ) والأمة لا تكون أعلى حالاً من النبي وإن قلنا إنه ما كان من بني إسرائيل لم يجز أن يكون أفضل من موسى لقوله تعالى لبني إسرائيل وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 47 ) وهذه الكلمات تقوي قول من يقول إن موسى هذا غير موسى صاحب التوراة
المسألة الثالثة قوله وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا يفيد أن تلك العلوم حصلت عنده من عند الله من غير واسطة والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية وللشيخ أبي حامد الغزالي رسالة في إثبات العلوم اللدنية وأقول تحقيق الكلام في هذا الباب أن نقول إذا أدركنا أمراً من الأمور وتصورنا حقيقة من الحقائق فإما أن نحكم عليه بحكم وهو التصديق أو لا نحكم وهو التصور وكل واحد من هذين القسمين فإما أن يكون نظرياً حاصلاً من غير كسب وطلب وإما أن يكون كسبياً أم العلوم النظرية فهي تحصل في النفس والعقل من غير كسب وطلب مثل تصورنا الألم واللذة والوجود والعدم ومثل تصديقنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وأن الواحد نصف الإثنين وأما العلوم الكسبية فهي التي لا تكون حاصلة في جوهر النفس ابتداء بل لا بد من طريق يتوصل به إلى اكتساب تلك العلوم وهذا الطريق

على قسمين أحدهما أن يتكلف الإنسان تركب تلك العلوم البديهية النظرية حتى يتوصل بتركبها إلى استعلام المجهولات وهذا الطريق هو المسمى بالنظر والتفكر والتدبر والتأمل والتروي والاستدلال وهذا النوع من تحصيل العلوم هو الطريق الذي لا يتم إلا بالجهد والطلب والنوع الثاني أن يسعى الإنسان بواسطة الرياضات والمجاهدات في أن تصير القوى الحسية والخيالية ضعيفة فإذا ضعفت قويت القوة العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية في جوهر العقل وحصلت المعارف وكملت العلوم من غير واسطة سعي وطلب في التفكر والتأمل وهذا هو المسمى بالعلوم اللدنية إذا عرفت هذا فنقول جواهر النفس الناطقة مختلفة بالماهية فقد تكون النفس نفساً مشرقة نورانية إلهية علوية قليلة التعلق بالجواذب البدنية والنوازع الجسمانية فلا جرم كانت أبداً شديدة الاستعداد لقبول الجلايا القدسية والأنوار الإلهية فلا جرم فاضت عليها من عالم الغيب تلك الأنوار على سبيل الكمال والتمام وهذا هو المراد بالعلم اللدني وهو المراد من قوله رَحْمَة ً مّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا قَالَ وأما النفس التي ما بلغت في صفاء الجوهر وإشراق العنصر فهي النفس الناقصة البليدة التي لا يمكنها تحصيل المعارف والعلوم إلا بمتوسط بشري يحتال في تعليمه وتعلمه والقسم الأول بالنسبة إلى القسم الثاني كالشمس بالنسبة إلى الأضواء الجزئية وكالبحر بالنسبة إلى الجداول الجزئية وكالروح الأعظم بالنسبة إلى الأرواح الجزئية فهذا تنبيه قليل على هذا المأخذ ووراءه أسرار لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب ثم قال تعالى قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو ويعقوب رَشَدًا بفتح الراء والشين وعن ابن عباس رضي الله عنهما بضم الراء والشين والباقون بضم الراء وتسكين الشين قال القفال وهي لغات في معنى واحد يقال رَشَد ورُشْد مثل نكر ونكر كما يقال سقم وسقم وشغل وشغل وبخل وبخل وعدم وعدم وقوله رَشَدًا أي علماً ذا رشد قال القفال قوله رَشَدًا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الرشد راجعاً إلى الخضر أي مما علمك الله وأرشدك به والثاني أن يرجع ذلك إلى موسى ويكون المعنى على أن تعلمني وترشدني مما علمت
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر فأحدها أنه جعل نفسه تبعاً له لأنه قال هَلْ أَتَّبِعُكَ وثانيها أن استأذن في إثبات هذا التبعية فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك وهذا مبالغة عظيمة في التواضع وثالثها أنه قال على أن تعلمني وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم ورابعها أنه قال تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ وصيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله وهذا أيضاً مشعر بالتواضع كأنه يقول له لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً في العلم لك بل أطلب منك أن تعطيني جزأً من أجزاء علمك كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزأً من أجزاء ماله وخامسها أن قوله مِمَّا عُلّمْتَ اعتراف بأن الله علمه ذلك العلم وسادسها أن قوله رَشَدًا طلب منه للإرشاد والهداية والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال وسابعها أن قوله تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ معناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهاً بإنعام الله تعالى عليك في هذا

التعليم ولهذا المعنى قيل أنا عبد من تعلمت منه حرفاً وثامنها أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير فإنا إذا قلنا لا إله إلا الله فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة فلا يجب كوننا متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها بل إنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإنما أتينا بها لأجل أنه عليه السلام أتى بها لا جرم كنا متابعين في فعل هذه الصلوات لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا ثبت هذا فنقول قوله هَلْ أَتَّبِعُكَ يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتياً بها وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض وتاسعها أن قوله اتَّبَعَكَ يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء وعاشرها أنه ثبت بالإخبار أن الخضر عرف أولاً أنه نبي بني إسرائيل وأنه هو موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه الله عز وجل من غير واسطة وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة وهذا هو اللائق به لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر فكان طلبه لها أشد وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد والحادي عشر أنه قال هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن فأثبت كونه تبعاً له أولاً ثم طلب ثانياً أن يعلمه وهذا منه ابتداء بالخدمة ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم والثاني عشر أنه قال هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئاً كان قال لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ولا غرض لي إلا طلب العلم ثم إنه تعالى حكى عن الخضر أنه قال إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المتعلم على قسمين متعلم ليس عنده شيء من العلم ولم يمارس القيل والقال ولم يتعود التقرير والاعتراض ومتعلم حصل العلوم الكثيرة ومارس الاستدلال والاعتراض ثم إنه يريد أن يخالط إنساناً أكمل منه ليبلغ درجة التمام والكمال والتعلم في هذا القسم الثاني شاق شديد وذلك لأنه إذا رأى شيئاً أو سمع كلاماً فربما كان ذلك بحسب الظاهر منكراً إلا أنه كان في الحقيقة حقاً صواباً فهذا المتعلم لأجل أنه ألف القيل والقال وتعود الكلام والجدال يغتر ظاهره ولأجل عدم كماله لا يقف على سره وحقيقته وحينئذ يقدم على النزاع والاعتراض والمجادلة وذلك مما يثقل سماعه على الأستاذ الكامل المتبحر فإذا اتفق مثل هذه الواقعة مرتين أو ثلاثة حصلت النفرة التامة والكراهة الشديدة وهذا هو الذي أشار إليه الخضر بقوله إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً إشارة إلى أنه ألف الكلام وتعود الإثبات والإبطال والاستدلال والاعتراض وقوله وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً إشارة إلى كونه غير عالم بحقائق الأشياء كما هي وقد ذكرنا أنه متى حصل الأمران صعب السكوت وعسر التعليم وانتهى الأمر بالآخرة إلى النفرة والكراهية وحصول التقاطع والتنافر
المسألة الثانية احتج أصحابنا بقوله إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً على أن الاستطاعة لا تحصل قبل

الفعل قالوا لو كانت الاستطاعة على الفعل حاصلة قبل حصول الفعل لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة لموسى عليه السلام قبل حصول الصبر فيلزم أن يصير قوله إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً كذباً ولما بطل ذلك علمنا أن الاستطاعة لا توجد قبل الفعل أجاب الجبائي عنه أن المراد من هذا القول أنه يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه يقال في العرف إن فلاناً لا يستطيع أن يرى فلاناً و ( لا ) أن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك ونظيره قوله تعالى مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ أي كان يشق عليهم الاستماع فيقال له هذا عدول عن الظاهر من غير دليل وإنه لا يجوز وأقول مما يؤكد هذا الاستدلال الذي ذكره الأصحاب قوله تعالى وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً استبعد حصول الصبر على ما لم يقف الإنسان على حقيقته ولو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكانت القدرة على العلم حاصلة قبل حصول ذلك العلم ولو كان كذلك لما كان حصول الصبر عند عدم ذلك العلم مستبعداً لأن القادر على الفعل لا يبعد منه إقدامه على ذلك الفعل ولما حكم الله باستبعاده علمنا أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل ثم حكى الله تعالى عن موسى أنه قال سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج الطاعنون في عصمة الله الأنبياء بهذه الآية فقالوا إن الخضر قال لموسى إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً وقال موسى سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً وكل واحد من هذين القولين يكذب الآخر فيلزم إلحاق الكذب بأحدهما وعلى التقديرين فيلزم صدور الكذب عن الأنبياء عليهم السلام والجواب أن يحمل قوله إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً على الأكثر الأغلب وعلى هذا التقدير فلا يلزم ما ذكروه
المسألة الثانية لفظة إن كان كذا تفيد الشك فقوله سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا معناه ستجدني صابراً إن شاء الله كوني صابراً وهذا يقتضي وقوع الشك في أن الله هل يريد كونه صابراً أم لا ولا شك أن الصبر في مقام التوقف واجب فهذا يقتضي أن الله تعالى قد لا يريد من العبد ما أوجبه عليه وهذا يدل على صحة قولنا إن الله تعالى قد يأمر بالشيء مع أنه لا يريده قالت المعتزلة هذه الكلمة إنما تذكر رعاية للأدب فيما يريد الإنسان أن يفعله في المستقبل فيقال لهم هذا الأدب إن صح معناه فقد ثبت المطلوب وإن فسد فأي أدب في ذكر هذا الكلام الباطل
المسألة الثالثة قوله تعالى وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً يدل على أن ظاهر الأمر يفيد الوجوب لأن تارك المأمور به عاص بدلالة هذه الآية والعاصي يستحق العقاب لقوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ( الجن 23 ) وهذا يدل على أن ظاهر الأمر يفيد الوجوب
المسألة الرابعة قول الخضر لموسى عليه السلام وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً نسبة إلى قلة العلم والخبر وقول موسى له سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً تواضع شديد وإظهار للتحمل التام والتواضع الشديد وكل ذلك يدل على أن الواجب على المتعلم إظهار التواضع بأقصى الغايات وأما المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعاً وإرشاداً إلى الخير فالواجب عليه ذكره فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة وذلك يمنعه من التعلم ثم قال فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي لا تستخبرني عما تراه مني مما لا تعلم وجهه حتى أكون أنا

المبتدىء لتعليمك إياه وإخبارك به وفي قراءة ابن عامر فلا تسألن محركة اللام مشددة النون بغير ياء وروى عنه لا تسألني مثقلة مع الياء وهي قراءة نافع وفي قراءة الباقين لا تسألن خفيفة والمعنى واحد
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَة ِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً
اعلم أن موسى وذلك العالم لما تشارطا على الشرط المذكور وسارا فانتهيا إلى موضع احتاجا فيه إلى ركوب السفينة فركباها وأقدم ذلك العالم على خرق السفينة وأقول لعله أقدم على خرق جدار السفينة لتصير السفينة بسبب ذلك الخرق معيبة ظاهرة العيب فلا يتسارع الغرق إلى أهلها فعند ذلك قال موسى له أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا وفيه بحثان
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي أَعِزَّة َ أَهْلِهَا بفتح الياء على إسناد الغرق إلى الأهل والباقون لتغرق أهلها على الخطاب والتقدير لتغرق أنت أهل هذه السفينة
البحث الثاني أن موسى عليه السلام لما شاهد ذلك الأمر المنكر بحسب الظاهر نسي الشرط المتقدم فلهذا المعنى قال ما قال واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجهين الأول أنه ثبت بالدليل أن ذلك العالم كان من الأنبياء ثم قال موسى عليه السلام أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا فإن صدق موسى في هذا القول دل ذلك على صدور الذنب العظيم عن ذلك النبي وإن كذب دل على صدور الكذب عن موسى عليه السلام الثاني أنه التزم أن لا يعترض على ذلك العالم وجرت العهود المؤكدة لذلك ثم إنه خالف تلك العهود وذلك ذنب والجواب عن الأول أنه لما شاهد موسى عليه السلام منه الأمر الخارج عن العادة قال هذا الكلام لا لأجل أنه اعتقد فيه أنه فعل قبيحاً بل لأنه أحب أن يقف على وجهه وسببه وقد يقال في الشيء العجيب الذي لا يعرف سببه إنه أمر يقال أمر الأمر إذا عظم وقال الشاعر
داهية دهياء
وعلى الثاني أنه فعل بناء على النسيان ثم إنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنه لما خالف الشرط لم يزد على أن قال أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً فعند هذا اعتذر موسى عليه السلام بقوله لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي بشيء وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً يقال رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه أي ولا تغشني من أمري عسراً وهو اتباعه إياه يعني ولا تعسر على متابعتك ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة وقرىء عُسْراً بضمتين
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّة ً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَى ْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْراً

اعلم أن لفظ الغلام قد يتناول الشاب البالغ بدليل أنه يقال رأى الشيخ خير من مشهد الغلام جعل الشيخ نقيضاً للغلام وذلك يدل على أن الغلام هو الشاب وأصله من الاغتلام وهو شدة الشبق وذلك إنما يكون في الشباب وأما تناول هذا اللفظ للصبي الصغير فظاهر وليس في القرآن كيف لقياه هل كان يلعب مع جمع من الغلمان الصبيان أو كان منفرداً وهل كان مسلماً أو كان كافراً وهل كان منعزلاً وهل كان بالغاً أو كان صغيراً وكان اسم الغلام بالصغير أليق وإن احتمل الكبير إلا أن قوله بِغَيْرِ نَفْسٍ أليق بالبالغ منه بالصبي لأن الصبي لا يقتل وإن قتل وأيضاً فهل قتله بأن حز رأسه أو بأن ضرب رأسه بالجدار أو بطريق آخر فليس في لفظ القرآن ما يدل على شيء من هذه الأقسام فعند هذا قال موسى عليه السلام أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّة ً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً وفيه مباحث
البحث الأول قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو زاكية بالألف والباقون زكية بغير ألف قال الكسائي الزاكية والزكية لغتان ومعناهما الطاهرة وقال أبو عمرو الزاكية التي لم تذنب والزكية التي أذنبت ثم تابت
البحث الثاني ظاهر الآية يدل على أن موسى عليه السلام استبعد أن يقتل النفس إلا لأجل القصاص بالنفس وليس الأمر كذلك لأنه قد يحل دمه بسبب من الأسباب وجوابه أن السبب الأقوى هو ذلك
البحث الثالث النكر أعظم من الإمر في القبح وهذا إشارة إلى أن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة لأن ذلك ما كان اتلافاً للنفس لأنه كان يمكن أن لا يحصل الغرق أما ههنا حصل الإتلاف قطعاً فكان أنكر وقيل إن قوله لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا أي عجباً والنكر أعظم من العجب وقيل النكر ما أنكرته العقول ونفرت عنه النفوس فهو أبلغ في تقبيح الشيء من الإمر ومنهم من قال الإمر أعظم قال لأن خرق السفينة يؤدي إلى إتلاف نفوس كثيرة وهذ القتل ليس إلا إتلاف شخص واحد وأيضاً الإمر هو الداهية العظيمة فهو أبلغ من النكر وأنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنه ما زاد على أن ذكره ما عاهده عليه فقال أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً وهذا عين ما ذكره في المسألة الأولى إلا أنه زاد ههنا لفظة لك لأن هذه اللفظة تؤكد التوبيخ فعند هذا قال موسى إِن سَأَلْتُكَ عَن شَى ْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى مع العلم بشدة حرصه على مصاحبته وهذا كلام نادم شديد الندامة ثم قال قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً والمراد منه أنه يمدحه بهذه الطريقة من حيث احتمله مرتين أولاً وثانياً مع قرب المدة وبقي مما يتعلق بالقراءة في هذه الآية ثلاثة مواضع الأول قرأ نافع برواية ورش وقالون وابن عامر وأبو بكر عن عاصم نكراً بضم الكاف في جميع القرآن والباقون ساكنة الكاف حيث كان وهما لغتان الثاني الكل قرأوا لا تُصَاحِبْنِى بالألف إلا يعقوب

فإنه قرأ ( لا تصحبني ) من صحب والمعنى واحد الثالث في لَّدُنّى قراءات الأولى قراءة نافع وأبي بكر في بعض الروايات عن عاصم مِن لَّدُنّى بتخفيف النون وضم الدال الثانية قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم لندي مشددة النون وضم الدال الثالثة قرأ أبو بكر عن عاصم بالإشمام وغير إشباع الرابعة مِن لَّدُنّى بضم اللام وسكون الدال في بعض الروايات عن عاصم وهذه القراءات كلها لغات في هذه اللفظة
فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَة ٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قَالَ هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً
اعلم أن تلك القرية هي أنطاكية وقيل هي الأيلة وههنا سؤالات الأول إن الاستطعام ليس من عادة الكرام فكيف أقدم عليه موسى وذلك العالم لأن موسى كان من عادته عرض الحاجة وطلب الطعام ألا ترى أنه تعالى حكى عنه أنه قال في قصة موسى عند ورود ماء مدين رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَى َّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ( القصص 24 ) الجواب أن إقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كل الشرائع بل ربما وجب ذلك عند خوف الضرر الشديد السؤال الثاني لم قال حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَة ٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا وكان من الواجب أن يقال استطعما منهم والجواب أن التكرير قد يكون للتأكيد كقول الشاعر ليت الغراب غداة ينعب دائما
كان الغراب مقطع الأوداج
السؤال الثالث إن الضيافة من المندوبات فتركها ترك للمندوب وذلك أمر غير منكر فكيف يجوز من موسى عليه السلام مع علو منصبه أنه غضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه مع ذلك العالم في قوله إِن سَأَلْتُكَ عَن شَى ْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى وأيضاً مثل هذا الغضب لأجل ترك الأكل في ليلة واحدة لا يليق بأدون الناس فضلاً عن كليم الله الجواب أما قوله الضيافة من المندوبات قلنا قد تكون من المندوبات وقد تكون من الواجبات بأن كان الضيف قد بلغ في الجوع إلى حيث لو لم يأكل لهلك وإذا كان التقدير ما ذكرناه لم يكن الغضب الشديد لأجل ترك الأكل يوماً فإن قالوا ما بلغ في الجوع إلى حد الهلاك بدليل أنه قال لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وكان يطلب على إصلاح ذلك الجدار أجرة ولو كان قد بلغ في الجوع إلى حد الهلاك لما قدر على ذلك العمل فكيف يصح منه طلب الأجرة قلنا لعل ذلك الجوع كان شديداً إلا أنه ما بلغ حد الهلاك ثم قال تعالى فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا وفيه بحثان
البحث الأول يضيفوهما يقال ضافه إذا كان له ضيفاً وحقيقته مال إليه من ضاف السهم عن الغرض ونظيره زاره من الإزورار وأضافه وضيفه أنزله وجعله ضيفه وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا أهل قرية لئاماً

البحث الثاني رأيت في كتب الحكايات أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحمل من الذهب وقالوا يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء تاءاً حتى تصير القراءة هكذا فأتوا أن يضيفوهما أي أتوا لأن يضيفوهما أي كان إتيان أهل تلك القرية إليهما لأجل الضيافة وقالوا غرضنا منه أن يندفع عنا هذا اللؤم فامتنع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إن تغيير هذه النقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله وذلك يوجب القدح في الإلهية فعلمنا أن تغيير النقطة الواحدة من القرآن يوجب بطلان الربوبية والعبودية ثم قال تعالى فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ أي فرأيا في القرية حائطاً مائلاً فإن قيل كيف يجوز وصف الجدار بالإرادة مع أن الإرادة من صفات الأحياء قلنا هذا اللفظ ورد على سبيل الاستعارة وله نظائر في الشعر قال يريد الرمح صدر أبي براء
ويرغب عن دماء بني عقيل
وأنشد الفراء إن دهراً يلف شملي بجمعل
لزمان يهم بالإحسان
في مهمة فلقت به هاماتها
فلق الفؤوس إذا أردن نصولا
ونظيره من القرآن قوله تعالى وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ وقوله أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ وقوله قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ وقوله أَن يَنقَضَّ يقال انقض إذا أسرع سقوطه من انقضاض الطائر وهو انفعل مطاوع قضضته وقيل انقض فعل من النقض كأحمر من الحمرة وقرىء أن ينقض من النقض وأن ينقاض من انقاضت العين إذا انشقت طولاً وأما قوله فَأَقَامَهُ قيل نقضه ثم بناه وقيل أقامه بيده وقيل مسحه بيده فقام واستوى وكان ذلك من معجزاته واعلم أن ذلك العالم لما فعل ذلك وكانت الحالة حالة اضطرار وافتقار إلى الطعام فلأجل تلك الضرورة نسي موسى ما قاله من قوله إِن سَأَلْتُكَ عَن شَى ْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى فلا جرم قال لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي طلبت على عملك أجرة تصرفها في تحصيل المطعوم وتحصيل سائر المهمات وقرىء لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً والتاء تخذت أصل كما في تبع واتخذ افتعل منه كقولنا اتبع من قولنا تبع واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر هذا الكلام قال العالم هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ وههنا سؤالات السؤال الأول قوله هذه إشارة إلى ماذا والجواب من وجهين الأول أن موسى عليه السلام قد شرط أنه إن سأله بعد ذلك سؤالاً آخر يحصل الفراق حيث قال إِن سَأَلْتُكَ عَن شَى ْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى فلما ذكر هذا السؤال فارقه ذلك العالم وقال هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ أي هذا الفراق الموعود الثاني أن يكون قوله هذا إشارة إلى السؤال الثالث أي هذا الاعتراض هو سبب الفراق السؤال الثاني ما معنى قوله هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ الجواب معناه هذا فراق حصل بيني وبينك فأضيف المصدر إلى الظرف حكى القفال عن بعض أهل العربية أن البين هو الوصل لقوله تعالى لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ فكان المعنى هذا فراق بيننا أي اتصالنا كقول القائل أخزى الله الكاذب مني ومنك أي أحدنا هكذا قاله الزجاج ثم قال العالم لموسى عليه السلام سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً أي سأخبرك بحكمة هذه المسائل الثلاثة وأصل التأويل راجع إلى قولهم آل الأمر إلى كذا أي صار إليه فإذا قيل ما تأويله فالمعنى ما مصيره

أَمَّا السَّفِينَة ُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَة ٍ غَصْباً وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَواة ً وَأَقْرَبَ رُحْماً وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَة ِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَة ً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذه المسائل الثلاثة مشتركة في شيء واحد وهو أن أحكام الأنبياء صلوات الله عليهم مبنية على الظواهر كما قال عليه السلام ( نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ) وهذا العالم ما كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور بل كانت مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر وذلك لأن الظاهر أنه يحرم التصرف في أموال الناس وفي أرواحهم في المسألة الأولى وفي الثانية من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف لأن تخريق السفينة تنقيص لملك الإنسان من غير سبب ظاهر وقتل الغلام تفويت لنفس معصومة من غير سبب ظاهر والإقدام على إقامة ذلك الجدار المائل في المسألة الثالثة تحمل التعب والمشقة من غير سبب ظاهر وفي هذه المسائل الثلاثة ليس حكم ذلك العالم فيها مبنياً عن الأسباب الظاهرة المعلومة بل كان ذلك الحكم مبنياً على أسباب معتبرة في نفس الأمر وهذا يدل على أن ذلك العالم كان قد آتاه الله قوة عقلية قدر بها أن يشرف على بواطن الأمور ويطلع بها على حقائق الأشياء فكانت مرتبة موسى عليه السلام في معرفة الشرائع والأحكام بناء الأمر على الظواهر وهذا العالم كانت مرتبته الوقوف على بواطن الأشياء وحقائق الأمور والإطلاع على أسرارها الكامنة فبهذا الطريق ظهر أن مرتبته في العلم كانت فوق مرتبة موسى عليه السلام إذا عرفت هذا فنقول المسائل الثلاثة مبنية على حرف واحد وهو أن عند تعارض الضررين يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة
أما المسألة الأولى فلأن ذلك العالم علم أنه لو لم يعب تلك السفينة بالتخريق لغصبها ذلك الملك وفاتت منافعها عن ملاكها بالكلية فوقع التعارض بين أن يخرقها ويعيبها فتبقى مع ذلك على ملاكها وبين أن لا يخرقها فيغصبها الملك فتفوت منافعها بالكلية على ملاكها ولا شك أن الضرر الأول أقل فوجب تحمله لدفع الضرر الثاني الذي هو أعظمهما

وأما المسألة الثانية فكذلك لأن بقاء ذلك الغلام حياً كان مفسدة للوالدين في دينهم وفي دنياهم ولعله علم بالوحي أن المضار الناشئة من قتل ذلك الغلام أقل من المضار الناشئة بسبب حصول تلك المفاسد للأبوين فهلذا السبب أقدم على قتله
والمسألة الثالثة أيضاً كذلك لأن المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على إقامة ذلك الجدار ضررها أقل من سقوطه لأنه لو سقط لضاع مال تلك الأيتام وفيه ضرر شديد فالحاصل أن ذلك العالم كان مخصوصاً بالوقوف على بواطن الأشياء وبالأطلاع على حقائقها كما هي عليها في أنفسها وكان مخصوصاً ببناء الأحكام الحقيقية على تلك الأحوال الباطنة وأما موسى عليه السلام فما كان كذلك بل كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور فلا جرم ظهر التفاوت بينهما في العلم فإن قال قائل فحاصل الكلام أنه تعالى أطلعه على بواطن الأشياء وحقائقها في نفسها وهذا النوع من العلم لا يمكن تعلمه وموسى عليه السلام إنما ذهب إليه ليتعلم منه العلم فكان من الواجب على ذلك العالم أن يظهر له علماً يمكن له تعلمه وهذه المسائل الثلاثة علوم لا يمكن تعلمها فما الفائدة في ذكرها وإظهارها والجواب أن العلم بظواهر الأشياء يمكن تحصيله بناء على معرفة الشرائع الظاهرة وأما العلم ببواطن الأشياء فإنما يمكن تحصيله بناء على تصفية الباطن وتجريد النفس وتطهير القلب عن العلائق الجسدانية ولهذا قال تعالى في صفة علم ذلك العالم وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ( الكهف 65 ) ثم إن موسى عليه السلام لما كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله إلى هذا العالم ليعلم موسى عليه السلام أن كمال الدرجة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظواهر إلى علوم الباطن المبنية على الإشراف على البواطن والتطلع على حقائق الأمور
المسألة الثانية اعلم أن ذلك العالم أجاب عن المسألة الأولى بقوله أَمَّا السَّفِينَة ُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَة ٍ غَصْباً وفيه فوائد الفائدة الأولى أن تلك السفينة كانت لأقوام محتاجين متعيشين بها في البحر والله تعالى سماهم مساكين واعلم أن الشافعي رحمه الله احتج بهذه الآية على أن حال الفقير في الضر والحاجة أشد من حال المسكين لأنه تعالى سماهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة الفائدة الثانية أن مراد ذلك العالم من هذا الكلام أنه ما كان مقصودي من تخريق تلك السفينة تغريق أهلها بل مقصودي أن ذلك الملك الظالم كان يغصب السفن الخالية عن العيوب فجعلت هذه السفينة معيبة لئلا يغصبها ذلك الظالم فإن ضرر هذا التخريق أسهل من الضرر الحاصل من ذلك الغصب فإن قيل وهل يجوز للأجنبي أن يتصرف في ملك الغير لمثل هذا الغرض قلنا هذا مما يختلف أحواله بحسب اختلاف الشرائع فلعل هذا المعنى كان جائزاً في تلك الشريعة وأما في شريعتنا فمثل هذا الحكم غير بعيد فإنا إذا علمنا أن الذين يقطعون الطريق ويأخذون جميع ملك الإنسان فإن دفعنا إلى قاطع الطريق بعض ذلك المال سلم الباقي فحينئذ يحسن منا أن ندفع بعض مال ذلك الإنسان إلى قاطع الطريق ليسلم الباقي وكان هذا منا يعد إحساناً إلى ذلك المالك الفائدة الثالثة أن ذلك التخريق وجب أن يكون واقعاً على وجه لا تبطل به تلك السفينة بالكلية إذ لو كان كذلك لم يكن الضرر الحاصل من غصبها أبلغ من الضرر الحاصل من تخريقها وحينئذ لم يكن تخريقها جائزاً الفائدة الرابعة لفظ الوراء على قوله وَكَانَ وَرَاءهُم فيه قولان الأول أن المراد منه وكان أمامهم ملك يأخذ هكذا قاله الفراء

وتفسيره قوله تعالى مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ ( الجاثية 10 ) أي أمامهم وكذلك قوله تعالى وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ( الإنسان 27 ) وتحقيقه أن كل ما غاب عنك فقد توارى عنك وأنت متوار عنه فكل ما غاب عنك فهو وراءك وأمام الشيء وقدامه إذا كان غائباً عنه متوارياً عنه فلم يبعد إطلاق لفظ وراء عليه والقول الثاني يحتمل أن يكون الملك كان من وراء الموضع الذي يركب منه صاحبه وكان مرجع السفينة عليه
وأما المسألة الثانية وهي قتل الغلام فقد أجاب العالم عنها بقوله وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ قيل إن ذلك الغلام كان بالغاً وكان يقطع الطريق ويقدم على الأفعال المنكرة وكان أبواه يحتاجان إلى دفع شر الناس عنه والتعصب له وتكذيب من يرميه بشيء من المنكرات وكان يصير ذلك سبباً لوقوعهما في الفسق وربما أدى ذلك الفسق إلى الكفر وقيل إنه كان صبياً إلا أن الله تعالى علم منه أنه لو صار بالغاً لحصلت منه هذه المفاسد وقوله فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً الخشية بمعنى الخوف وغلبة الظن والله تعالى قد أباح له قتل من غلب على ظنه تولد مثل هذا الفساد منه وقوله أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً فيه قولان الأول أن يكون المراد أن ذلك الغلام يحمل أبويه على الطغيان والكفر كقوله وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً ( الكهف 73 ) أي لا تحملني على عسر وضيق وذلك لأن أبويه لأجل حب ذلك الولد يحتاجان إلى الذب عنه وربما احتاجا إلى موافقته في تلك الأفعال المنكرة والثاني أن يكون المعنى أن ذلك الولد كان يعاشرهما معاشرة الطغاة الكفار فإن قيل هل يجوز الإقدام على قتل الإنسان لمثل هذا الظن قلنا إذا تأكد ذلك الظن بوحي الله جاز ثم قال تعالى فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَواة ً أي أردنا أن يرزقهما الله تعالى ولداً خيراً من هذا الغلام زكاة أي ديناً وصلاحاً وقيل إن ذكره الزكاة ههنا على مقابلة قول موسى عليه السلام أَقَتَلْتَ نَفْسًا نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ فقال العالم أردنا أن يرزق الله هذين الأبوين خيراً بدلاً عن ابنهما هذا ولداً يكون خيراً منه كما ذكرته من الزكاة ويكون المراد من الزكاة الطهارة فكأن موسى عليه السلام قال أقتلت نفساً طاهرة لأنها ما وصلت إلى حد البلوغ فكانت زاكية طاهرة من المعاصي فقال العالم إن تلك النفس وإن كانت زاكية طاهرة في الحال إلا أنه تعالى علم منها أنها إذا بلغت أقدمت على الطغيان والكفر فأردنا أن يجعل لهما ولداً أعظم زكاة وطهارة منه وهو الذي يعلم الله منه أنه عند البلوغ لا يقدم على شيء من هذه المحظورات ومن قال إن ذلك الغلام كان بالغاً قال المراد من صفة نفسه بكونها زاكية أنه لم يظهر عليه ما يوجب قتله ثم قال وَأَقْرَبَ رُحْماً أي يكون هذا البدل أقرب عطفاً ورحمة بأبويه بأن يكون أبر بهما وأشفق عليهما والرحم الرحمة والعطف روى أنه ولدت لهما جارية تزوجها نبي فولدت نبياً هدى الله على يديه أمة عظيمة
بقي من مباحث هذه الآية موضعان في القراءة الأول قرأ نافع وأبو عمرو يبدلهما بفتح الباء وتشديد الدال وكذلك في التحريم أَن يُبْدِلَهُ أَزْواجاً وفي القلم عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا والباقون ساكنة الباء خفيفة الدال وهما لغتان أبدل يبدل وبدل يبدل الثاني قراءة ابن عامر في إحدى الروايتين عن أبي عمرو رحماً بضم الحاء والباقون بسكونها وهما لغتان مثل نكر ونكر وشغل وشغل
وأما المسألة الثالثة وهي إقامة الجدار فقد أجاب العالم عنها بأن الداعي له إليها أنه كان تحت ذلك الجدار كنز وكان ذلك ليتيمين في تلك المدينة وكان أبوهما صالحاً ولما كان ذلك الجدار مشرفاً على السقوط

ولو سقط لضاع ذلك الكنز فأراد الله إبقاء ذلك الكنز على ذينك اليتيمين رعاية لحقهما ورعاية لحق صلاح أبيهما فأمرني بإقامة ذلك الجدار رعاية لهذه المصالح وفي الآية فوائد الفائدة الأولى أنه تعالى سمى ذلك الموضع قرية حيث قال إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَة ٍ وسماه أيضاً مدينة حيث قال وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَة ِ الفائدة الثانية اختلفوا في هذا الكنز فقيل إنه كان مالاً وهذا هو الصحيح لوجهين الأول أن المفهوم من لفظ الكنز هو المال والثاني أن قوله وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا يدل على أن ذلك الكنز هو المال وقيل إنه كان علماً بدليل أنه قال وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً والرجل الصالح يكون كنزه العلم لا المال إذ كنز المال لا يليق بالصلاح بدليل قوله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( التوبة 34 ) وقيل كان لوحاً من ذهب مكتوب فيه عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله الفائدة الثالثة قوله وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً يدل على أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء وعن جعفر بن محمد كان بين الغلامين وبين الأب الصالح سبعة آباء وعن الحسن ابن علي أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما بم حفظ الله مال الغلامين قال بصلاح أبيهما قال فأبي وجدي خير منه قال قد أنبأنا الله أنكم قوم خصمون وذكروا أيضاً أن ذلك الأب الصالح كان الناس يضعون الودائع إليه فيردها إليهم بالسلامة فإن قيل اليتيمان هل عرف أحد منهما حصول الكنزل تحت ذلك الجدار أو ما عرف أحد منهما فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار وإن كان الثاني فكيف يمكنهم بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز والانتفاع به الجواب لعل اليتيمين كانا جاهلين به إلا أن وصيهما كان عالماً به ثم ( إن ) ذلك الوصي غاب وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السقوط ولما قرر العالم هذه الجوابات قال رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ يعني إنما فعلت هذه الفعال لغرض أن تظهر رحمة الله تعالى لأنها بأسرها ترجع إلى حرف واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى كما قررناه ثم قال وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى يعني ما فعلت ما رأيت من هذه الأحوال عن أمري واجتهادي ورأيي وإنما فعلته بأمر الله ووحيه لأن الإقدام على تنقيص أموال الناس وإراقة دمائهم لا يجوز إلا بالوحي والنص القاطع بقي في الآية سؤال وهو أنه قال فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وقال فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَواة ً وقال فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا كيف اختلفت الإضافة في هذه الإرادات الثلاث وهي كلها في قصة واحدة وفعل واحد والجواب أنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه فقال أردت أن أعيبها ولما ذكر القتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيهاً على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية ولما ذكر رعاية مصالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله تعالى لأن المتكفل بمصالح الأبناء لرعاية حق الآباء ليس إلا الله سبحانه وتعالى
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَى ْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً

اعلم أن هذا هو القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وفيها مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا في أول هذه السورة أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وعن الروح فالمراد من قوله وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ ( الكهف 83 ) هو ذلك السؤال
المسألة الثانية اختلف الناس في أن ذا القرنين من هو وذكروا فيه أقوالاً الأول أنه هو الاسكندر بن فيلبوس اليوناني قالوا والدليل عليه أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب بدليل قوله حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَة ٍ ( الكهف 86 ) وأيضاً بلغ ملكه أقصى المشرق بدليل قوله حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ( الكهف 90 ) وأيضاً بلغ ملكه أقصى الشمال بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال وبدليل أن السد المذكور في القرآن يقال في كتب التواريخ إنه مبني في أقصى الشمال فهذا الإنسان المسمى بذي القرنين في القرآن قد دل القرآن على أن ملكه بلغ أقصى المغرب والمشرق وهذا هو تمام القدر المعمور من الأرض ومثل هذا الملك البسيط لا شك أنه على خلاف العادات وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلداً على وجه الدهر وأن لا يبقى مخفياً مستتراً والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر وذلك لأنه لما مات أبوه جمع ملوك الروم بعد أن كانوا طوائف ثم جمع ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العراقيون والقبط والبربر ثم توجه نحو دارا بن دارا وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حرسه فاستولى الإسكندر على ممالك الفرس ثم قصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلاً ملك الأرض بالكلية أو ما يقرب منها وثبت بعلم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني ثم ذكروا في سبب تسميته بهذا الإسم وجوهاً الأول أنه لقب بهذا اللقب لأجل بلوغه قرني الشمس أي مطلعها ومغربها كما لقب أردشير بن بهمن بطويل اليدين لنفوذ أمره حيث أراد والثاني أن الفرس قالوا إن دارا الأكبر كان قد تزوج بابنة فيلبوس فلما قرب منها وجد منها رائحة منكرة فردها على أبيها فيلبوس وكانت قد حملت منه بالإسكندر فولدت الإسكندر بعد عودها إلى أبيها فبقي الإسكندر عند فيلبوس وأظهر فيلبوس أنه ابنه وهو في الحقيقة ابن دارا الأكبر قالوا والدليل عليه أن الإسكندر لما أدرك دارا بن دارا وبه رمق وضع رأسه في حجره وقال لدارا يا أبي أخبرني عمن فعل هذا لأنتقم لك منها فهذا ما قاله الفرس قالوا وعلى هذا التقدير فالإسكندر أبوه دارا الأكبر وأمه بنت فيلبوس فهو إنما تولد من أصلين

مختلفين الفرس والروم وهذا الذي قاله الفرس إنما ذكروه لأنهم أرادوا أن يجعلوه من نسل ملوك العجم حتى لا يكون ملك مثله من نسب غير نسب ملوك العجم وهو في الحقيقة كذب وإنما قال الإسكندر لدارا يا أبي على سبيل التواضع وأكرم دارا بذلك الخطاب والقول الثاني قال أبو الريحان الهروي المنجم في كتابه الذي سماه بالآثار الباقية عن القرون الخالية قيل إن ذا القرنين هو أبو كرب شمر بن عبير بن أفريقش الحميري فإنه بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال قد كان ذو القرنين قبلي مسلما
ملكاً علا في الأرض غير مفندي
بلغ المشارق والمغارب يبتغي
أسباب ملك من كريم سيد
ثم قال أبو الريحان ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلو أساميهم من ذي كذا كذي النادي وذي نواس وذي النون وغير ذلك والقول الثالث أنه كان عبداً صالحاً ملكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة وإن كنا لا نعرف أنه من هو ثم ذكروا في تسميته بذي القرنين وجوهاً الأول سأل ابن الكوا علياً رضي الله عنه عن ذي القرنين وقال أملك هو أم نبي فقال لا ملك ولا نبي كان عبداً صالحاً ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمى بذي القرنين وملك ملكه الثاني سمي بذي القرنين لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس الثالث قيل كان صفحتاً رأسه من نحاس الرابع كان على رأسه ما يشبه القرنين الخامس ( كان ) لتاجه قرنان السادس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمي ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا يعني شرقها وغربها السابع كان له قرنان أي ضفيرتان الثامن أن الله تعالى سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتمده الظلمة من ورائه التاسع يجوز أن يلقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً كأنه ينطح أقرانه العاشر رأى في المنام كأنه صعد الفلك فتعلق بطرفي الشمس وقرنيها وجانبيها فسمي لهذا السبب بذي القرنين الحادي عشر سمي بذلك لأنه دخل النور والظلمة والقول الرابع أن ذا القرنين ملك من الملائكة عن عمر أنه سمع رجلاً يقول يا ذا القرنين فقال اللهم اغفر أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسموا بأسماء الملائكة ا فهذا جملة ما قيل في هذا الباب والقول الأول أظهر لأجل الدليل الذي ذكرناه وهو أن مثل هذا الملك العظيم يجب أن يكون معلوم الحال عند أهل الدنيا والذي هو معلوم الحال بهذا الملك العظيم هو الإسكندر فوجب أن يكون المراد بذي القرنين هو هو إلا أن فيه إشكالاً قوياً وهو أنه كان تلميذ أرسططاليس الحكيم وكان على مذهبه فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسططاليس حق وصدق وذلك مما لا سبيل إليه والله أعلم
المسألة الثالثة اختلفوا في ذي القرنين هل كان من الأنبياء أم لا منهم من قال إنه كان نبياً واحتجوا عليه بوجوه الأول قوله إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاْرْضِ والأولى حمله على التمكين في الدين والتمكين الكامل في الدين هو النبوة والثاني قوله وَاتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَى ْء سَبَباً ومن جملة الأشياء النبوة فمقتضى العموم في

قوله وَاتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَى ْء سَبَباً هو أنه تعالى آتاه في النبوة سبباً الثالث قوله تعالى قُلْنَا ياذَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً والذي يتكلم الله معه لا بد وأن يكون نبياً ومنهم من قال إنه كان عبداً صالحاً وما كان نبياً
المسألة الرابعة في دخول السين في قوله سَأَتْلُواْ معناه إني سأفعل هذا إن وفقني الله تعالى عليه وأنزل فيه وحياً وأخبرني عن كيفية تلك الحال وأما قوله تعالى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاْرْضِ فهذا التمكين يحتمل أن يكون المراد منه التمكين بسبب النبوة ويحتمل أن يكون المراد منه التمكين بسبب الملك من حيث إنه ملك مشارق الأرض ومغاربها والأول أولى لأن التمكين بسبب النبوة أعلى من التمكين بسبب الملك وحمل كلام الله على الوجه الأكمل الأفضل أولى ثم قال وَاتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَى ْء سَبَباً قالوا السبب في أصل اللغة عبارة عن الحبل ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى المقصود وهو يتناول العلم والقدرة والآلة فقوله وَاتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَى ْء سَبَباً معناه أعطيناه من كل شيء من الأمور التي يتوصل بها إلى تحصيل ذلك الشيء ثم إن الذين قالوا إنه كان نبياً قالوا من جملة الأشياء النبوة فهذه الآية تدل على أنه تعالى أعطاه الطريق الذي به يتوصل إلى تحصيل النبوة والذين أنكروا كونه نبياً قالوا المراد به وآتيناه من كل شيء يحتاج إليه في إصلاح ملكه سبباً إلا أن لقائل أن يقول إن تخصيص العموم خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا بدليل ثم قال فَأَتْبَعَ سَبَباً ومعناه أنه تعالى لما أعطاه من كل شيء سببه فإذا أراد شيئاً أتبع سبباً يوصله إليه ويقربه منه قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو فاتبع بتشديد التاء وكذلك ثم اتبع أي سلك وسار والباقون فأتبع بقطع الألف وسكون التاء مخففة
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَة ٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً
اعلم أن المعنى أنه أراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً يوصله إليه حتى بلغه أما قوله وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَة ٍ ففيه مباحث
الأول قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم في عين حامية بالألف من غير همزة أي حارة وعن أبي ذر قال كنت رديف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال أتدري يا أبا ذر أين تغرب هذه قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تغرب في عين حامية وهي قراءة ابن مسعود وطلحة

وابن عامر والباقون حمئة وهي قراءة ابن عباس واتفق أن ابن عباس كان عند معاوية فقرأ معاوية حامية بألف فقال ابن عباس حمئة فقال معاوية لعبد الله بن عمر كيف تقرأ قال كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب قال في ماء وطين كذلك نجده في التوراة والحمئة ما فيه ماء وحمأة سوداء واعلم أنه لا تنافي بين الحمئة والحامية فجائز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعاً
البحث الثاني أنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها ولا شك أن الشمس في الفلك وأيضاً قال وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود وأيضاً الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض إذا ثبت هذا فنقول تأويل قوله تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَة ٍ من وجوه الأول أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر هذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره الثاني أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها فالناظر إلى الشمس يتخيل كأنها تغيب في تلك البحار ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية وهي أيضاً حمئة لكثرة ما فيها من الحمأة السوداء والماء فقوله تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَة ٍ إشارة إلى أن الجانب الغربي من الأرض قد أحاط به البحر وهو موضع شديد السخونة الثالث قال أهل الأخبار إن الشمس تغيب في عين كثيرة الماء والحمأة وهذا في غاية البعد وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفاً قمرياً فإذا اعتبرناه ورأينا أن المغربيين قالوا حصل هذا الكسوف في أول الليل ورأينا المشرقيين قالوا حصل في أول النهار فعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد ووقت الظهر في بلد آخر ووقت الضحوة في بلد ثالث ووقت طلوع الشمس في بلد رابع ونصف الليل في بلد خامس وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقراء والاعتبار وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال إنها تغيب في الطين والحمأة كلاماً على خلاف اليقين وكلام الله تعالى مبرأ عن هذه التهمة فلم يبق إلا أن يصار إلى التأويل الذي ذكرناه ثم قال تعالى وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً الضمير في قوله عندها إلى ماذا يعود فيه قولان الأول أنه عائد إلى الشمس ويكون التأنيث للشمس لأن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان هذا الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس والقول الثاني أن يكون الضمير عائداً إلى العين الحامية وعلى هذا القول فالتأويل ما ذكرناه ثم قال تعالى قُلْنَا ياذَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً وفيه مباحث
الأول أن قوله تعالى قُلْنَا ياذَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً يدل على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة وذلك يدل على أنه كان نبياً وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء فهو عدول عن الظاهر
البحث الثاني قال أهل الأخبار في صفة ذلك الموضع أشياء عجيبة قال ابن جريج هناك مدينة لها إثنا عشر ألف باب لولا أصوات أهلها سمع الناس وجبة الشمس حين تغيب
البحث الثالث قوله تعالى قُلْنَا ياذَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً يدل على أن

سكان آخر المغرب كانوا كفاراً فخير الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب لهم إن أقاموا على كفرهم وبين المن عليهم والعفو عنهم وهذا التخيير على معنى الإجتهاد في أصلح الأمرين كما خير نبيه عليه السلام بين المن على المشركين وبين قتلهم وقال الأكثرون هذا التعذيب هو القتل وأما اتخاذ الحسنى فيهم فهو تركهم أحياء ثم قال ذو القرنين أَمَّا مَن ظَلَمَ نَفْسَهُ أي ظلم نفسه بالإقامة على الكفر والدليل على أن هذا هو المراد أنه ذكر في مقابلته وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثم قال فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ أي بالقتل في الدنيا ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً أي منكراً فظيعاً وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم جَزَاء الْحُسْنَى بالنصب والتنوين والباقون بالرفع والإضافة فعلى القراءة الأولى يكون التقدير فله الحسنى جزاء كما تقول لك هذا الثوب هبة وأما على القراءة الثانية ففي التفسير وجهان الأول فله جزاء الفعلة الحسنى والفعلة الحسنى هي الإيمان والعمل الصالح والثاني أن يكون التقدير فله جزاء المثوبة الحسنى ويكون المعنى فله ذا الجزاء الذي هو المثوبة الحسنى والجزاء موصوف بالمثوبة الحسنى وإضافة الموصوف إلى الصفة مشهورة كقوله وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ ( الأنعام 32 ) و حَقُّ الْيَقِينِ ( الواقعة 95 ) ثم قال وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً أي لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل الميسر من الزكاة والخراج وغيرهما وتقدير هذا يسر كقوله قَوْلاً مَّيْسُورًا ( الإسراء 28 ) وقرىء يسراً بضمتين
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً
اعلم أنه تعالى لما بين أولاً أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مغرب الشمس أتبعه ببيان أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مطلع الشمس فبين الله تعالى أنه وجد الشمس تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً وفيه قولان الأول أنه ليس هناك شجر ولا جبل ولا أبنية تمنع من وقوع شعاع الشمس عليهم فلهذا السبب إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب واغلة في الأرض أو غاصوا في الماء فيكون عند طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرف في المعاش وعند غروبها يشتغلون بتحصيل مهمات المعاش حالهم بالضد من أحوال سائر الخلق والقول الثاني أن معناه أنه لا ثياب لهم ويكونون كسائر الحيوانات عراة أبداً ويقال في كتب الهيئة إن حال أكثر الزنج كذلك وحال كل من يسكن البلاد القريبة من خط الاستواء كذلك وذكر في كتب التفسير أن بعضهم قال سافرت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء القوم فقيل بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه الواحدة ويلبس الأخرى ولما قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصلة فغشي علي ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن فلما طلعت الشمس إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سرباً لهم فلما ارتفع النهار جعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج ثم قال تعالى كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً وفيه وجوه الأول أي كذلك فعل ذو القرنين اتبع هذه الأسباب حتى بلغ ما بلغ وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به والثاني كذلك جعل

الله أمر هؤلاء القوم على ما قد أعلم رسوله عليه السلام في هذا الذكر والثالث كذلك كانت حالته مع أهل المطلع كما كانت مع أهل المغرب قضى في هؤلاء كما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين والرابع أنه تم الكلام عند قوله كذلك والمعنى أنه تعالى قال أمر هؤلاء القوم كما وجدهم عليه ذو القرنين ثم قال بعده وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً أي كنا عالمين بأن الأمر كذلك
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُواْ ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى بِقُوَّة ٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا
اعلم أن ذا القرنين لما بلغ المشرق والمغرب أتبع سبباً آخر وسلك الطريق حتى بلغ بين السدين وقد آتاه الله من العلم والقدرة ما يقوم بهذه الأمور وههنا مباحث
الأول قرأ حمزة والكسائي السدين بضم السين وسداً بفتحها حيث كان وقرأ حفص عن عاصم بالفتح فيهما في كل القرآن وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالضم فيهما في كل القرآن وقرأ ابن كثير وأبو عمرو السدين وسداً ههنا بفتح السين فيهما وضمها في يس في الموضعين قال الكسائي هما لغتان وقيل ما كان من صنعة بني آدم فهو السد بفتح السين وما كان من صنع الله فهو السد بضم السين والجمع سدد وهو قول أبي عبيدة وابن الأنباري قال صاحب الكشاف السد بالضم فعل بمعنى مفعول أي هو مما فعله الله وخلقه والسد بالفتح مصدر حدث يحدثه الناس
البحث الثاني الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال وقيل جبلان بين أرمينية وبين أذربيجان وقيل هذا المكان في مقطع أرض الترك وحكى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً إليه من ناحية الخزر فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع وذكر ابن خردا ( ذبة ) في كتاب المسالك والممالك أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن من حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند قال أبو الريحان مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة والله أعلم بحقيقة الحال
البحث الثالث أن ذا القرنين لما بلغ ما بين السدين وجد من دونهما أي من ورائهما مجاوزاً عنهما قَوْماً أي أمة من الناس لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قرأ حمزة والكسائي يفقهون بضم الياء وكسر القاف

على معنى لا يمكنهم تفهيم غيرهم والباقون بفتح الياء والقاف والمعنى أنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم وما كانوا يفهمون اللسان الذي يتكلم به ذو القرنين ثم قال تعالى قَالُواْ يأَبَانَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ فإن قيل كيف فهم ذو القرنين منهم هذا الكلام بعد أن وصفهم الله بقوله لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً والجواب أن نقول كاد فيه قولان الأول أن إثباته نفي ونفيه إثبات فقوله لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً لا يدل على أنهم لا يفهمون شيئاً بل يدل على أنهم قد يفهمون على مشقة وصعوبة والقول الثاني أن كاد معناه المقاربة وعلى هذا القول فقوله لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً أي لا يعلمون وليس لهم قرب من أن يفقهوا وعلى هذا القول فلا بد من إضمار وهو أن يقال لا يكادون يفهمونه إلا بعد تقريب ومشقة من إشارة ونحوها وهذه الآية تصلح أن يحتج بها على صحة القول الأول في تفسير كاد
البحث الرابع في يأجوج ومأجوج قولان الأول أنهما إسمان أعجميان موضوعان بدليل منع الصرف والقول الثاني أنهما مشتقان وقرأ عاصم يأجوج ومأجوج بالهمز وقرأ الباقون ياجوج وماجوج وقرىء في رواية آجوج ومأجوج والقائلون بكون هذين الإسمين مشتقين ذكروا وجوهاً الأول قال الكسائي يأجوج مأخوذ من تأجج النار وتلهبها فلسرعتهم في الحركة سموا بذلك ومأجوج من موج البحر الثاني أن يأجوج مأخوذ من تأجج الملح وهو شدة ملوحته فلشدتهم في الحركة سموا بذلك الثالث قال القتيبي هو مأخوذ من قولهم أج الظليم في مشيه يئج أجاً إذا هرول وسمعت حفيفه في عدوه الرابع قال الخليل الأج حب كالعدس والمج مج الريق فيحتمل أن يكونا مأخوذين منهما واختلفوا في أنهما من أي الأقوام فقيل إنهما من الترك وقيل يَأْجُوجَ من الترك وَمَأْجُوجَ من الجيل والديلم ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة بكون طول أحدهم شبراً ومنهم من وصفهم بطول القامة وكبر الجثة وأثبتوا لهم مخاليب في الأظفار وأضراساً كأضراس السباع واختلفوا في كيفية إفسادهم في الأرض فقيل كانوا يقتلون الناس وقيل كانوا يأكلون لحوم الناس وقيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون لهم شيئاً أخضر وبالجملة فلفظ الفساد محتمل لكل هذه الأقسام والله أعلم بمراده ثم إنه تعالى حكى عن أهل ما بين السدين أنهم قالوا لذي القرنين فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا قرأ حمزة والكسائي خراجاً والباقون خرجاً قيل الخراج والخرج واحد وقيل هما أمران متغايران وعلى هذا القول اختلفوا قيل الخرج بغير ألف هو الجعل لأن الناس يخرج كل واحد منهم شيئاً منه فيخرج هذا أشياء وهذا أشياء والخراج هو الذي يجبيه السلطان كل سنة وقال الفراء الخراج هو الإسم الأصلي والخرج كالمصدر وقال قطرب الخرج الجزية والخراج في الأرض فقال ذو القرنين مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى أي ما جعلني مكيناً من المال الكثير واليسار الواسع خير مما تبذلون من الخراج فلا حاجة بي إليه وهو كما قال سليمان عليه السلام فَمَا ءاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مّمَّا ءاتَاكُمْ ( النمل 36 ) قرأ ابن كثير ( ما مكنني ) بنونين على الإظهار والباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام ثم قال ذو القرنين فَأَعِينُونِى بِقُوَّة ٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا أي لا حاجة لي في مالكم ولكن أعينوني برجال وآلة أبني بها السد وقيل المعنى أعينوني بمال أصرفه إلى هذا المهم ولا أطلب المال لآخذه لنفسي والردم هو السد يقال ردمت الباب أي سددته وردمت الثوب رقعته لأنه يسد الخرق بالرقعة والردم أكثر من السد من قولهم ثوب مردوم أي وضعت عليه رقاع

ءَاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْبًا قَالَ هَاذَا رَحْمَة ٌ مِّن رَّبِّى فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّى جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقّاً
اعلم أن ءاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ قطعة قال الخليل الزبرة من الحديد القطعة الضخمة قراءة الجميع آتوني بمد الألف إلا حمزة فإنه قرأ ائتوني من الإتيان وقد روى ذلك عن عاصم والتقدير ائتوني بزبر الحديد ثم حذف الباء كقوله شكرته وشكرت له وكفرته وكفرت له وقوله حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ فيه إضمار أي فأتوه بها فوضع تلك الزبر بعضها على بعض حتى صارت بحيث تسد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ثم وضع المنافخ عليها حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً واعلم أن هذا معجز قاهر لأن هذه الزبر الكثيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر الحيوان على القرب منها والنفخ عليها لا يمكن إلا مع القرب منها فكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين عليها قال صاحب الكشاف قيل بعدما بين السَّدَّيْنِ مائة فرسخ والصدفان بفتحتين جانبا الجبلين لأنهما يتصادفان أي يتقابلان وقرىء بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ بضمتين والصدفين بضمة وسكون والقطر النحاس المذاب لأنه يقطر وقوله عَلَيْهِ قِطْراً منصوب بقوله أَفْرِغْ وتقديره آتوني قطراً أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ثم قال فَمَا اسْطَاعُواْ فحذف التاء للخفة لأن التاء قريبة المخرج من الطاء وقرىء فَمَا بقلب السين صاداً اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ أن يعلوه أي ما قدروا على الصعود عليه لأجل ارتفاعه وملاسته ولا على نقبه لأجل صلابته وثخانته ثم قال ذو القرنين هَاذَا رَحْمَة ٌ مّن رَّبّى فقوله هذا إشارة إلى السد أي هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده أو هذا الاقتدار والتمكين من تسويته فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى يعني فإذا دنا مجيء القيامة جعل السد دكاً أي مدكوكاً مسوى بالأرض وكل ما انبسط بعد الارتفاع فقد اندك وقرىء دكاء بالمد أي أرضاً مستوية وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً وههنا آخر حكاية ذي القرنين
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَآءٍ عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً
اعلم أن الضمير في قوله بعضهم عائد إلى يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وقوله يَوْمَئِذٍ فيه وجوه الأول أن يوم السد

ماج بعضهم في بعض خلفه لما منعوا من الخروج الثاني أن عند الخروج يموج بعضهم في بعض قيل إنهم حين يخرجون من وراء السد يموجون مزدحمين في البلاد يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الشجر ويأكلون لحوم الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس ثم يبعث الله عليهم حيوانات فتدخل آذانهم فيموتون والقول الثالث أن المراد من قوله يَوْمَئِذٍ يوم القيامة وكل ذلك محتمل إلا أن الأقرب أن المراد الوقت الذي جعل الله ذلك السد دكاً فعنده ماج بعضهم في بعض وبعده نفخ في الصور وصار ذلك من آيات القيامة والكلام في الصور قد تقدم وسيجيء من بعد وأما عرض جهنم وإبرازه حتى يصير مكشوفاً بأهواله فذلك يجري مجرى عقاب الكفار لما يتداخلهم من الغم العظيم وبين تعالى أنه يكشفه للكافرين الذين عموا وصموا أما العمى فهو المراد من قوله كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاء عَن ذِكْرِى والمراد منه شدة انصرافهم عن قبول الحق وأما الصمم فهو المراد من قوله وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً يعني أن حالتهم أعظم من الصمم لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء زالت عنهم تلك الاستطاعة واحتج الأصحاب بقوله وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً على أن الاستطاعة مع الفعل وذلك لأنهم لما لم يسمعوا لم يستطيعوا قال القاضي المراد منه نفرتهم عن سماع ذلك الكلام واستثقالهم إياه كقول الرجل لا أستطيع النظر إلى فلان
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَآءَ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالاٌّ خْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُوْلَائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَزْناً ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتَّخَذُوا ءَايَاتِى وَرُسُلِى هُزُواً
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بين من حال الكافرين أنهم أعرضوا عن الذكر وعن استماع ما جاء به الرسول أتبعه بقوله أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَاء والمراد أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر الآيات وتمردهم عن قبول أمره وأمر رسوله وهو استفهام على سبيل التوبيخ
المسألة الثانية قرأ أبو بكر ولم يرفعه إلى عاصم أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بسكون السين ورفع الباء وهي من الأحرف التي خالف فيها عاصماً وذكر أنه قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعلى هذا التقدير فقوله حسب مبتدأ أن يتخذوا خبر والمعنى أفكافيهم وحسبهم أن يتخذوا كذا وكذا وأما الباقون

فقرأوا فحسب على لفظ الماضي وعلى هذا التقدير ففيه حذف والمعنى أفحسب الذين كفروا اتخاذ عبادي أولياء نافعاً
المسألة الثالثة في العباد أقوال قيل أراد عيسى والملائكة وقيل هم الشياطين يوالونهم ويطيعونهم وقيل هي الأصنام سماهم عباداً كقوله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ثم قال تعالى إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً وفي النزل قولان الأول قال الزجاج إنه المأوى والمنزل والثاني أنه الذي يقام للنزيل وهو الضيف ونظيره قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ثم ذكر تعالى ما نبه به على جهل القوم فقال قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا قيل إنهم هم الرهبان كقوله تعالى عَامِلَة ٌ نَّاصِبَة ٌ وعن مجاهد أهل الكتاب وعن علي أن ابن الكواء سأله عنهم فقال هم أهل حروراء والأصل أن يقال هو الذي يأتي بالأعمال يظنها طاعات وهي في أنفسها معاصي وإن كانت طاعات لكنها لا تقبل منهم لأجل كفرهم فأولئك إنما أتوا بتلك الأعمال لرجاء الثواب وإنما أتبعوا أنفسهم فيها لطلب الأجر والفوز يوم القيامة فإذا لم يفوزوا بمطالبهم بين أنهم كانوا ضالين ثم إنه تعالى بين صنعهم فقال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى لقاء الله عبارة عن رؤيته بدليل أنه يقال لقيت فلاناً أي رأيته فإن قيل اللقاء عبارة عن الوصول قال تعالى فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( القمر 12 ) وذلك في حق الله تعالى محال فوجب حمله على لقاء ثواب الله والجواب أن لفظ اللقاء وإن كان في الأصل عبارة عن الوصول والملاقاة إلا أن استعماله في الرؤية مجاز ظاهر مشهور والذي يقولونه من أن المراد منه لقاء ثواب الله فهو لا يتم إلا بالإضمار ومن المعلوم أن حمل اللفظ على المجاز المتعارف المشهور أولى من حمله على ما يحتاج معه إلى الإضمار
المسألة الثانية استدلت المعتزلة بقوله تعالى فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ على أن القول بالإحباط والتكفير حق وهذه المسألة قد ذكرناه بالاستقصاء في سورة البقرة فلا نعيدها ثم قال تعالى فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَزْناً وفيه وجوه الأول أنا نزدري بهم وليس لهم عندنا وزن ومقدار الثاني لا نقيم لهم ميزاناً لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين لتمييز مقدار الطاعات ومقدار السيئات الثالث قال القاضي إن من غلبت معاصيه صار ما في فعله من الطاعة كأن لم يكن فلا يدخل في الوزن شيء من طاعته وهذا التفسير بناء على قوله بالإحباط والتكفير ثم قال تعالى ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ فقوله ذالِكَ أي ذلك الذي ذكرناه وفصلناه من أنواع الوعيد هو جزاؤهم على أعمالهم الباطلة وقوله جَهَنَّمَ عطف بيان لقوله جَزَآؤُهُمْ ثم بين تعالى أن ذلك الجزاء جزاء على مجموع أمرين أحدهما كفرهم الثاني أنهم أضافوا إلى الكفر أن اتخذوا آيات الله واتخذوا رسله هزواً فلم يقتصروا على الرد عليهم وتكذيبهم حتى استهزأوا بهم
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد ولما ذكر في الكفار أن جهنم نزلهم أتبعه بذكر ما يرغب في الإيمان والعمل الصالح فقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً
المسألة الثانية عطف عمل الصالحات على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه وذلك يدل على أن الأعمال الصالحة مغايرة للإيمان
المسألة الثالثة عن قتادة الفردوس وسط الجنة وأفضلها وعن كعب ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وعن مجاهد الفردوس هو البستان بالرومية وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها درجة ومنها الأنهار الأربعة والفردوس من فوقها فإذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإن فوقها عرش الرحمن ومنها تتفجر أنهار الجنة )
المسألة الرابعة قال بعضهم إنه تعالى جعل الجنة بكليتها نزلاً للمؤمنين والكريم إذا أعطى النزل أولاً فلا بد أن يتبعه بالخلعة وليس بعد الجنة بكليتها إلا رؤية الله فإن قالوا أليس أنه تعالى جعل في الآية الأولى جملة جهنم نزلا الكافرين ولم يبق بعد جملة جهنم عذاب آخر فكذلك ههنا جعل جملة الجنة نزلاً للمؤمنين مع أنه ليس له شيء آخر بعد الجنة والجواب قلنا للكافر بعد حصول جهنم مرتبة أعلى منها وهو كونه محجوباً عن رؤية الله كما قال تعالى كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ( المطففين 15 16 ) فجعل الصلاء بالنار متأخر في المرتبة عن كونه محجوباً عن الله ثم قال تعالى لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً الحول التحول يقال حال من مكانه حولاً كقوله عاد في حبها عوداً يعني لا مزيد على سعادات الجنة وخيراتها حتى يريد أشياء غيرها وهذا الوصف يدل على غاية الكمال لأن الإنسان في الدنيا إذا وصل إلى أي درجة كانت في السعادات فهو طامح الطرف إلى ما هو أعلى منها
قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَة ِ رَبِّهِ أَحَدَا
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواع الدلائل والبينات وشرح أقاصيص

الأولين نبه على كمال حال القرآن فقال قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَاتِ رَبّى والمداد اسم لما تمد به الدواة من الحبر ولما يمد به السراج من السليط والمعنى لو كتبت كلمات علم الله وحكمه وكان البحر مداداً لها والمراد بالبحر الجنس لنفد قبل أن تنفد الكلمات تقرير الكلام أن البحار كيفما فرضت في الاتساع والعظمة فهي متناهية ومعلومات الله غير متناهية والمتناهي لا يفي البتة بغير المتناهي قرأ حمزة والكسائي ينفد بالياء لتقدم الفعل على الجمع والباقون بالتاء لتأنيث كلمات وروي أن حيي بن أخطب قال في كتابكم وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 269 ) ثم تقرأون وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 85 ) فنزلت هذه الآية يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله
المسألة الثانية احتج المخالفون على الطعن في قول أصحابنا أن كلام الله تعالى واحد بهذه الآية وقالوا إنها صريحة في إثبات كلمات الله تعالى وأصحابنا حملوا الكلمات على متعلقات علم الله تعالى قال الجبائي وأيضاً قوله قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبّى يدل على أن كلمات الله تعالى قد تنفد في الجملة وما ثبت عدمه امتنع قدمه وأيضاً قال لَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مِدَاداً وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يجيء بمثل كلامه والذي يجاء به يكون محدثاً والذي يكون المحدث مثلاً له فهو أيضاً محدث وجواب أصحابنا أن المراد منه الألفاظ الدالة على تعلقات تلك الصفة الأزلية واعلم أنه تعالى لما بين كمال كلام الله أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يسلك طريقة التواضع فقال قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ أي لا امتياز بيني وبينكم في شيء من الصفات إلا أن الله تعالى أوحى إلي أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد والآية تدل على مطلوبين الأول أن كلمة إِنَّمَا تفيد الحصر وهي قوله أَنَّمَا إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ والثاني أن كون الإله تعالى إِلَهاً واحِداً يمكن إثباته بالدلائل السمعية وقد قررنا هذين المطلوبين في سائر السور بالوجوه القوية ثم قال فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ والرجاء هو ظن المنافع الواصلة إليه والخوف ظن المضار الواصلة إليه وأصحابنا حملوا لقاء الرب على رؤيته والمعتزلة حملوه على لقاء ثواب الله وهذه المناظرة قد تقدمت والعجب أنه تعالى أورد في آخر هذه السورة ما يدل على حصول رؤية الله في ثلاث آيات أولها قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ ( الكهف 105 ) وثانيها قوله كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ( الكهف 107 ) وثالثها قوله فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ ولا بيان أقوى من ذلك ثم قال فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً أي من حصل له رجاء لقاء الله فليشتغل بالعمل الصالح ولما كان العمل الصالح قد يؤتي به لله وقد يؤتى به للرياء والسمعة لا جرم اعتبر فيه قيدان أن يؤتى به لله وأن يكون مبرأ عن جهات الشرك فقال وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَة ِ رَبّهِ أَحَدَا قيل نزلت هذه الآية في جندب بن زهير قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني أعمل العمل لله تعالى فإذا اطلع عليه أحد سرني ) فقال عليه الصلاة والسلام ( إن الله لا يقبل ما شورك فيه ) وروي أيضاً أنه قال له ( لك أجران أجر السر وأجر العلانية ) فالرواية الأولى محمولة على ما إذا قصد بعمله الرياء والسمعة والرواية الثانية محمولة على ما إذا قصد أن يقتدى به والمقام الأول مقام المبتدئين والمقام الثاني مقام الكاملين والحمد ( صلى الله عليه وسلم ) رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين

سورة مريم
عليها السلام
( وهي ثمان وتسعون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص
قبل الخوض في القراءات لا بد من مقدمات ثلاثة المقدمة الأولى أن حروف المعجم على نوعين ثنائي وثلاثي وقد جرت عادة العرب أن ينطقوا بالثنائيات مقطوعة ممالة فيقولوا با تا ثا وكذلك أمثالها وأن ينطقوا بالثلاثيات التي في وسطها الألف مفتوحة مشبعة فيقولوا دال ذال صاد ضاد وكذلك أشكالها أما الزاي وحده من بين حروف المعجم فمعتاد فيه الأمران فإن من أظهر ياءه في النطق حتى يصير ثلاثياً لم يمله ومن لم يظهر ياءه في النطق حتى يشبه الثنائي يمله أما المقدمة الثانية ينبغي أن يعلم أن إشباع الفتحة في جميع المواضع أصل والإمالة فرع عليه ولهذا يجوز إشباع كل ممال ولا يجوز إمالة كل مشبع من الفتحات المقدمة الثالثة للقراء في القراءات المخصوصة بهذا الموضع ثلاثة طرق أحدها أن يتمسكوا بالأصل وهو إشباع فتحة الهاء والياء وثانيها أن يميلوا الهاء والياء وثالثها أن يجمعوا بين الأصل والفرع فيقع الاختلاف بين الهاء والياء فيفتحوا أحدهما أيهما كان ويكسروا الآخر ولهم في السبب الموجب لهذا الاختلاف قولان الأول أن الفتحة المشبعة أصل والإمالة فرع مشهور كثير الاستعمال فأشبع أحدهما وأميل الآخر ليكون جامعاً لمراعاة الأصل والفرع وهو أحسن من مراعاة أحدهما وتضييع الآخر القول الثاني أن الثنائية من حروف المعجم إذا كانت مقطوعة كانت بالإمالة وإذا كانت موصولة كانت بالإشباع وها ويا في قوله تعالى كهيعص مقطوعان في اللفظ موصولان في الخط فأميل أحدهما وأشبع الآخر ليكون كلا الجانبين مرعياً جانب القطع اللفظي وجانب الوصل الخطي إذا عرفت هذا فنقول فيه قراءات إحداها وهي القراءة المعروفة فيه فتحة الهاء والياء جميعاً وثانيها كسر الهاء وفتح الياء وهي قراءة أبي عمرو وابن مبادر والقطعي عن أيوب وإنما كسروا الهاء دون الياء ليكون فرقاً بينه وبين الهاء الذي للتنبيه فإنه لا يكسر قط وثالثها فتح الهاء وكسر الياء وهو قراءة حمزة والأعمش وطلحة والضحاك عن

عاصم وإنما كسروا الياء دون الهاء لأن الياء أخت الكسرة وإعطاء الكسرة أختها أولى من إعطائها إلى أجنبية مفتوحة للمناسبة ورابعها إمالتهما جميعاً وهي قراءة الكسائي والمفضل ويحيى عن عاصم والوليد بن أسلم عن ابن عامر والزهري وابن جرير وإنما أمالوهما للوجهين المذكورين في إمالة الهاء وإمالة الياء وخامسها قراءة الحسن وهي ضم الهاء وفتح الياء وعنه أيضاً فتح الهاء وضم الياء وروى صاحب ( الكشاف ) عن الحسن بضمهما فقيل له لم تثبت هذه الرواية عن الحسن لأنه أورد ابن جنى في كتاب ( المكتسب ) أن قراءة الحسن ضم أحدهما وفتح الآخر لا على التعيين وقال بعضهم إنما أقدم الحسن على ضم أحدهما لا على التعيين لأنه تصور أن عين الفعل في الهاء والياء ألف منقلب عن الواو كالدار والمال وذلك لأن هذه الألفات وإن كانت مجهولة لأنها لا اشتقاق لها فإنها تحمل على ما هو مشابه لها في اللفظ والألف إذا وقع عيناً فالواجب أن يعتقد أنه منقلب عن الواو لأن الغالب في اللغة ذلك فلما تصور الحسن أن ألف الهاء والياء منقلب عن الواو جعله في حكم الواو وضم ما قبله لأن الواو أخت الضمة وسادسها ها يا بإشمامهما شيئاً من الضمة
المسألة الثالثة قرأ أبو جعفر كهيعص يفصل الحروف بعضها من بعض بأدنى سكتة مع إظهار نون العين وباقي القراء يصلون الحروف بعضها ببعض ويخفون النون
المسألة الثالثة القراءة المعروفة صاد ذكر بالإدغام وعن عاصم ويعقوب بالإظهار
البحث الثاني المذاهب المذكورة في هذه الفواتح قد تقدمت لكن الذي يختص بهذا الموضع ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله تعالى كهيعص ثناء من الله على نفسه فمن الكاف وصفه بأنه كاف ومن الهاء هاد ومن العين عالم ومن الصاد صادق وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً أنه حمل الكاف على الكبير والكريم ويحكى أيضاً عنه أنه حمل الياء على الكريم مرة وعلى الحكيم أخرى وعن الربيع بن أنس في الياء أنه من مجير وعن ابن عباس رضي الله عنهما في العين أنه من عزيز ومن عدل وهذه الأقوال ليست قوية لما بينا أنه لا يجوز من الله تعالى أن يودع كتابه ما لا تدل عليه اللغة لا بالحقيقة ولا بالمجاز لأنا إن جوزنا ذلك فتح علينا قول من يزعم أن لكل ظاهر باطناً واللغة لا تدل على ما ذكروه فإنه ليست دلالة الكاف أولى من دلالته على الكريم أو الكبير أو على اسم آخر من أسماء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو الملائكة أو الجنة أو النار فيكون حمله على بعضها دون البعض تحكماً لا تدل عليه اللغة أصلاً
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ
فيه مسائل
المسألة الأولى في لفظة ذكر أربع قراءات صيغة المصدر أو الماضي مخففة أو مشددة أو الأمر أما صيغة المصدر فلا بد فيها من كسر رحمة ربك على الإضافة ثم فيها ثلاثة أوجه أحدها نصب الدال من عبده والهمزة من زكرياء وهو المشهور وثانيها برفعهما والمعنى وتلك الرحمة هي عبده زكرياء عن ابن عامر

وثالثها بنصب الأول وبرفع الثاني والمعنى رحمة ربك عبده وهو زكرياء وأما صيغة الماضي بالتشديد فلا بد فيها من نصب رحمة وأما صيغة الماضي بالتخفيف ففيها وجهان أحدهما رفع الباء من ربك والمعنى ذكر ربك عبده زكرياء وثانيها نصب الباء من ربك والرفع في عبده زكرياء وذلك بتقديم المفعول على الفاعل وهاتان القراءتان للكلبي وأما صيغة الأمر فلا بد من نصب رحمة وهي قراءة ابن عباس واعلم أن على تقدير جعله صيغة المصدر والماضي يكون التقدير هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك
المسألة الثانية يحتمل أن يكون المراد من قوله رحمة ربك أعني عبده زكرياء ثم في كونه رحمة وجهان أحدهما أن يكون رحمة على أمته لأنه هداهم إلى الإيمان والطاعات والآخر أن يكون رحمة على نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى أمة محمد لأن الله تعالى لما شرح لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) طريقه في الإخلاص والإبتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى صار ذلك لفظاً داعياً له ولأمته إلى تلك الطريقة فكان زكرياء رحمة ويحتمل أن يكون المراد أن هذه السورة فيها ذكر الرحمة التي رحم بها عبدة زكرياء
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً
قوله تعالى إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً راعى سنة الله في إخفاء دعوته لأن الجهر والإخفاء عند الله سيان فكان الإخفاء أولى لأنه أبعد عن الرياء وأدخل في الإخلاص وثانيها أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في زمان الشيخوخة وثالثها أسره من مواليه الذين خافهم ورابعها خفي صوته لضعفه وهرمه كما جاء في صفة الشيخ صوته خفات وسمعه تارات فإن قيل من شرط النداء الجهر فكيف الجمع بين كونه نداء وخفياً والجواب من وجهين الأول أنه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت إلا أن الصوت كان ضعيفاً لنهاية الضعف بسبب الكبر فكان نداء نظراً إلى قصده وخفياً نظراً إلى الواقع الثاني أنه دعا في الصلاة لأن الله تعالى أجابه في الصلاة لقوله تعالى فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَة ُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى ( آل عمران 39 ) فكون الإجابة في الصلاة يدل على كون الدعاء في الصلاة فوجب أن يكون النداء فيها خفياً
قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِى َ مِن وَرَآئِى وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً
القراءة فيها مسائل
المسألة الأولى قرىء وَهَنَ بالحركات الثلاث
المسألة الثانية إدغام السين في الشين ( من الرأس شيباً ) عن أبي عمرو
المسألة الثالثة وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِى َ بفتح الياء وعن الزهري بإسكان الياء من الموالي وقرأ عثمان

وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وسعيد بن جبير وزيد بن ثابت وابن عباس خفت بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر التاء وهذا يدل على معنيين أحدهما أن يكون ورائي بمعنى بعدي والمعنى أنهم قلوا وعجزوا عن إقامة الدين بعده فسأل ربه تقويتهم بولي يرزقه والثاني أن يكون بمعنى قدامي والمعنى أنهم خفوا قدامه ودرجوا ولم يبق من به تقو واعتضاد
المسألة الرابعة القراءة المعروفة مِن وَرَائِى بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة وعن حميد بن مقسم كذلك لكن بفتح الياء وقرأ ابن كثير وراي كعصاي
المسألة الخامسة من يرثني ويرث وجوه أحدها القراءة المعروفة بالرفع فيهما صفة وثانيها وهي قراءة أبي عمرو والكسائي والزهري والأعمش وطلحة بالجزم فيهما جواباً للدعاء وثالثها عن علي ابن أبي طالب وابن عباس وجعفر بن محمد والحسن وقتادة وَلِيّاً يَرِثُنِى جزم وارث بوزن فاعل ورابعها عن ابن عباس يَرِثُنِى وارث من آل يعقوب وخامسها عن الجحدري وَيَرِثُ تصغير وارث على وزن أفيعل ( اللغة ) الوهن ضعف القوة قال في ( الكشاف ) شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وأنارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه كل مأخذ كاشتعال النار ثم أخرجه مخرج الاستعارة ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس وأخرج الشيب مميزاً ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا فمن ثم فصحت هذه الجملة وأما الدعاء فطلب الفعل ومقابله الإجابة كما أن مقابل الأمر الطاعة وأما أصل التركيب في ( ولي ) فيدل على معنى القرب والدنو يقال وليته أليه ولياً أي دنوت وأوليته أدنيته منه وتباعد ما بعده وولي ومنه قول ساعدة ( ابن جؤبة )
وعدت عواد دون وليك تشغب
وكل مما يليك وجلست مما ايليه ومنه الولي وهو المطر الذي يلي الوسمي والولية البرذعة لأنها تلي ظهر الدابة وولي اليتيم والقتيل وولي البلد لأن من تولى أمراً فقد قرب منه وقوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ من قولهم ولاه بركنه أي جعله مما يليه أما ولي عني إذا أدبر فهو من باب تثقيل الحشو للسلب وقولهم فلان أولى من فلان أي أحق أفعل التفضيل من الوالي أو الولي كالأدنى والأقرب من الداني والقريب وفيه معنى القرب أيضاً لأن من كان أحق بالشيء كان أقرب إليه والمولى اسم لموضع الولي كالمرمى والمبني اسم لموضع والمرمي والبناء وأما العاقر فهي التي لا تلد والعقر في اللغة الجرح ومنه أخذ العاقر لأنه نقص أصل الخلقة وعقرت الفرس بالسيف إذا ضربت قوائمه وأما الآل فهم خاصة الرجل الذين يؤول أمرهم إليه ثم قد يؤول أمرهم إليه للقرابة تارة وللصحبة أخرى كآل فرعون وللموافقة في الدين كآل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واعلم أن زكرياء عليه السلام قدم على السؤال أموراً ثلاثة أحدها كونه ضعيفاً والثاني أن الله تعالى ما رد دعاءه البتة والثالث كون المطلوب بالدعاء سبباً للمنفعة في الدين ثم بعد تقرير هذه الأمور الثلاثة صرح بالسؤال

أما المقام الأول وهو كونه ضعيفاً فأثر الضعف إما أن يظهر في الباطن أو في الظاهر والضعف الذي يظهر في الباطن يكون أقوى مما يظهر في الظاهر فلهذا السبب ابتدأ ببيان الضعف الذي في الباطن وهو قوله وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى وتقريره هو أن العظام أصلب الأعضاء التي في البدن وجعلت كذلك لمنفعتين إحداهما لأن تكون أساساً وعمداً يعتمد عليها سائر الأعضاء الأخر إذ كانت الأعضاء كلها موضوعة على العظام والحامل يجب أن يكون أقوى من المحمول والثانية أنه احتيج إليها في بعض المواضع لأن تكون جنة يقوى بها ما سواها من الأعضاء بمنزلة قحف الرأس وعظام الصدر وما كان كذلك فيجب أن يكون صلباً ليكون صبوراً على ملاقاة الآفات بعيداً من القبول لها إذا ثبت هذا فنقول إذا كان العظم أصلب الأعضاء فمتى وصل الأمر إلى ضعفها كان ضعف ما عداها مع رخاوتها أولى ولأن العظم إذا كان حاملاً لسائر الأعضاء كان تطرق الضعف إلى الحامل موجباً لتطرقه إلى المحمول فلهذا السبب خص العظم بالوهن من بين سائر الأعضاء وأما أثر الضعف في الظاهر فذلك استيلاء الشيب على الرأس فثبت أن هذا الكلام يدل على استيلاء الضعف على الباطن والظاهر وذلك مما يزيد الدعاء توكيداً لما فيه من الارتكان على حول الله وقوته والتبري عن الأسباب الظاهرة المقام الثاني أنه ما كان مردود الدعاء ألبتة ووجه التوسل به من وجهين أحدهما ما روي أن محتاجاً سأل واحداً من الأكابر وقال أنا الذي أحسنت إلى وقت كذا فقال مرحباً بمن توسل بنا إلينا ثم قضى حاجته وذلك أنه إذا قبله أولا فلو أنه رده ثانياً لكان الرد محبطاً للأنعام الأول والمنعم لا يسعى في إحباط أنعامه والثاني وهو أن مخالفة العادة شاقة على النفس فإذا تعود الإنسان إجابة الدعاء فلو صار مردوداً بعد ذلك لكان في غاية المشقة ولأن الجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشق فقال زكرياء عليه السلام إنك ما رددتني في أول الأمر مع أني ما تعودت لطفك وكنت قوي البدن قوي القلب فلو رددتني الآن بعد ما عودتني القبول مع نهاية ضعفي لكان ذلك بالغاً إلى الغاية القصوى في ألم القلب واعلم أن العرب تقول سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها وشقي بها إذا خاب ولم ينلها ومعنى بدعائك أي بدعائي إياك فإن الفعل قد يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى المقام الثالث بيان كون المطلوب منتفعاً به في الدين وهو قوله وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِى َ مِن وَرَائِى وفيه أبحاث الأول قال ابن عباس والحسن إني خفت الموالي أي الورثة من بعدي وعن مجاهد العصبة وعن أبي صالح الكلالة وعن الأصم بنو العم وهم الذين يلونه في النسب وعن أبي مسلم المولي يراد به الناصر وابن العم والمالك والصاحب وهو ههنا من يقوم بميراثه مقام الولد والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده إما في السياسة أو في المال الذي كان له أو في القيام بأمر الدين فقد كانت العادة جارية أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب فإنه كان متعيناً في الحياة الثاني اختلفوا في خوفه من الموالي فقال بعضهم خافهم على إفساد الدين وقال بعضهم بل خاف أن ينتهي أمره إليهم بعد موته في مال وغيره مع أنه عرف من حالهم قصورهم في العلم والقدرة عن القيام بذلك المنصب وفيه قول ثالث وهو أنه يحتمل أن يكون الله تعالى قد اعلمه أنه لم يبق من أنبياء بني إسرائيل نبي له أب إلا واحد فخاف أن يكون ذلك من بني عمه إذ لم يكن له ولد فسأل الله تعالى أن يهب له ولداً يكون هو ذلك النبي وذلك يقتضي أن

يكون خائفاً من أمر يهتم بمثله الأنبياء وإن لم يدل على تفصيل ذلك ولا يمتنع أن زكرياء كان إليه مع النبوة السياسة من جهة الملك وما يتصل بالإمامة فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما أما قوله وَإِنّي خِفْتُ فهو وإن خرج على لفظ الماضي لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضاً كذلك يقول الرجل قد خفت أن يكون كذا وخشيت أن يكون كذا أي أنا خائف لا يريد أنه قد زال الخوف عنه وهكذا قوله وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا أي أنها عاقر في الحال وذلك لأن العاقر لا تحول ولوداً في العادة ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلام بتقادم العهد في ذلك وغرض زكرياء من هذا الكلام بيان استبعاد حصول الولد فكان إيراده بلفظ الماضي أقوى وإلى هذا يرجع الأمر في قوله وإني خفت الموالي من ورائي لأنه إنما قصد به الإخبار وعن تقادم الخوف ثم استغنى بدلالة الحال وما يوجب مسألة الوارث وإظهار الحاجة عن الإخبار بوجود الخوف في الحال وأيضاً فقد يوضع الماضي مكان المستقبل وبالعكس قال الله تعالى وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى ( المائدة 116 ) والله أعلم وأما قوله من ورائي ففيه قولان الأول قال أبو عبيدة أي قدامي وبين يدي وقال آخرون أي بعد موتي وكلاهما محتمل فإن قيل كيف خافهم من بعده وكيف علم أنهم يبقون بعده فضلاً من أن يخاف شرهم قلنا إن ذلك قد يعرف بالأمارات والظن وذلك كاف في حصول الخوف فربما عرف ببعض الإمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد والشر واختلف في تفسير قوله فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً فالأكثرون على أنه طلب الولد وقال آخرون بل طلب من يقوم مقامه ولداً كان أو غيره والأقرب هو الأول لثلاثة أوجه الأول قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عنه قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّة ً طَيّبَة ً ( آل عمران 38 ) والثاني قوله في هذه السورة هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ والثالث قوله تعالى في سورة الأنبياء وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً ( الأنبياء 89 ) وهذا يدل على أنه سأل الولد لأنه قد أخبر في سورة مريم أن له موالي وأنه غير منفرد عن الورثة وهذا وإن أمكن حمله على وارث يصلح أن يقوم مقامه لكن حمله على الولد أظهر واحتج أصحاب القول الثالث بأنه لما بشر بالولد استعظم على سبيل التعجب فقال أنى يكون لي غلام ولو كان دعاؤه لأجل الولد لما استعظم ذلك ( الجواب ) أنه عليه السلام سأل عما يوهب له أيوهب له وهو وامرأته على هيئتهما أو يوهب بأن يحولا شابين يكون لمثلهما ولد وهذا يحكي عن الحسن وقال غيره إن قول زكرياء عليه السلام في الدعاء وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا إنما هو على معنى مسألته ولداً من غيرها أو منها بأن يصلحها الله للولد فكأنه عليه السلام قال إني أيست أن يكون لي منها ولد فهب لي من لدنك ولياً كيف شئت إما بأن تصلحها فيكون الولد منها أو بأن تهب لي من غيرها فلما بشر بالغلام سأل أيرزق منها أو من غيرها فأخبر بأنه يرزق منها واختلفوا في المراد بالميراث على وجوه أحدها أن المراد بالميراث في الموضعين هو وراثة المال وهذا قول ابن عباس والحسن والضحاك وثانيها أن المراد به في الموضعين وراثة النبوة وهو قول أبي صالح وثالثها يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوة وهو قول السدي ومجاهد والشعبي وروي أيضاً عن ابن عباس والحسن والضحاك ورابعها يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوة وهو مروي عن مجاهد واعلم أن هذه الروايات ترجع إلى أحد أمور خمسة وهي المال ومنصب الحبورة والعلم والنبوة والسيرة الحسنة ولفظ الإرث مستعمل في كلها أما في المال

فلقوله تعالى وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمولَهُمْ وأما في العلم فلقوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْراءيلَ الْكِتَابَ ( غافر 53 ) وقال عليه السلام ( العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم ) وقال تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودُ ( النمل 15 6 ) وهذا يحتمل وراثة الملك ووراثة النبوة وقد يقال أورثني هذا غماً وحزناً وقد ثبت أن اللفظ محتمل لتلك الوجوه واحتج من حمل اللفظ على وراثة المال بالخبر والمعقول أما الخبر فقوله عليه السلام ( رحم الله زكريا ما كان له من يرثه ) وظاهره يدل على أن المراد إرث المال وأما المعقول فمن وجهين الأول أن العلم والسيرة والنبوة لا تورث بل لا تحصل إلا بالاكتساب فوجب حمله على المال الثاني أنه قال وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً ولو كان المراد من الإرث إرث النبوة لكان قد سأل جعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رضياً وهو غير جائز لأن النبي لا يكون إلا رضياً معصوماً وأما قوله عليه السلام ( إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ) فهذا لا يمنع أن يكون خاصاً به واحتج من حمله على العلم أو المنصب والنبوة بما علم من حال الأنبياء أن اهتمامهم لا يشتد بأمر المال كما يشتد بأمر وقيل لعله أوتي من الدنيا ما كان عظيم النفع في الدين فلهذا كان مهتماً به أما قوله النبوة كيف تورث قلنا المال إنما يقال ورثه الابن بمعنى قام فيه مقام أبيه وحصل له من فائدة التصرف فيه ما حصل لأبيه وإلا فملك المال من قبل الله لا من قبل المورث فكذلك إذا كان المعلوم في الإبن أن يصير نبياً بعده فيقوم بأمر الدين بعده جاز أن يقال ورثه أما قوله عليه السلام ( إنا معشر الأنبياء ) فهذا وإن جاز حمله على الواحد كما في قوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) لكنه مجاز وحقيقته الجمع والعدول عن الحقيقة من غير موجب لا يجوز لا سيما وقد روي قوله ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث ) والأولى أن يحمل ذلك على كل ما فيه نفع وصلاح في الدين وذلك يتناول النبوة والعلم والسيرة الحسنة والمنصب النافع في الدين والمال الصالح فإن كل هذه الأمور مما يجوز توفر الدواعي على بقائها ليكون ذلك النفع دائماً مستمراً السابع اتفق أكثر المفسرين على أن يعقوب ههنا هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام لأن زوجة زكرياء هي أخت مريم وكانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهوذا بن يعقوب وأما زكرياء عليه السلام فهو من ولد هرون أخى موسى عليه السلام وهرون وموسى عليهما السلام من ولد لاوي بن يعقوب بن إسحق وكانت النبوة في سبط يعقوب لأنه هو إسرائيل ( صلى الله عليه وسلم ) وقال بعض المفسرين ليس المراد من يعقوب ههنا ولد إسحق بن إبراهيم عليه السلام بل يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان وكان آل يعقوب أخوال يحيى بن زكرياء وهذا قول الكلبي ومقاتل وقال الكلبي كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا رأس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده حبورته ويرث من بني ماثان ملكهم واعلم أنهم ذكروا في تفسير الرضى وجوهاً أحدها أن المراد واجعله رضياً من الأنبياء وذلك لأن كلهم مرضيون فالرضي منهم مفضل على جملتهم فائق لهم في كثير من أمورهم فاستجاب الله تعالى له ذلك فوهب له سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين لم يعص ولم يهم بمعصية وهذا غاية ما يكون به المرء رضياً وثانيها المراد بالرضي أن يكون رضياً في أمته لا يتلقى بالتكذيب ولا يواجه بالرد وثالثها المراد بالرضي أن لا يكون متهماً في شيء ولا

يوجد فيه مطعن ولا ينسب إليه شيء من المعاصي ورابعها أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قالا في الدعاء رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ( البقرة 182 ) وكانا في ذلك الوقت مسلمين وكأن المراد هناك ثبتنا على هذا أو المراد اجعلنا فاضلين من أنبيائك المسلمين فكذا ههنا واحتج أصحابنا في مسألة خلق الأفعال بهذه الآية لأنه إنما يكون رضياً بفعله فلما سأل الله تعالى جعله رضياً دل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فإن قيل المراد منه أن يلطف له بضروب الألطاف فيختار ما يصير مرضياً فينسب ذلك إلى الله تعالى والجواب من وجهين الأول أن جعله رضياً لو حملناه على جعل الألطاف وعندها يصير المرء باختياره رضياً لكان ذلك مجازاً وهو خلاف الأصل والثاني أن جعل تلك الألطاف واجبة على الله تعالى لا يجوز الإخلال به وما كان واجباً لا يجوز طلبه بالدعاء والتضرع
يازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً
فيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في من المنادي بقوله يا زكريا فالأكثرون على أنه هو الله تعالى وذلك لأن ما قبل هذه الآية يدل على أن زكريا عليه السلام إنما كان يخاطب الله تعالى ويسأله وهو قوله رَبّ إِنّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى ( مريم 4 ) وقوله وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً ( مريم 4 ) وقوله فَهَبْ لِى ( مريم 5 ) وما بعدها يدل على أنه كان يخاطب الله تعالى وهو يقول رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ إذا كان ما قبل هذه الآية وما بعدها خطاباً مع الله تعالى وجب أن يكون النداء من الله تعالى وإلا لفسد النظم ومنهم من قال هذا نداء الملك واحتج عليه بوجهين الأول قوله تعالى في سورة آل عمران فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَة ُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى ( آل عمران 39 ) الثاني أن زكريا عليه السلام لما قال أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ ( مريم 8 9 ) وهذا لا يجوز أن يكون كلام الله فوجب أن يكون كلام الملك والجواب عن الأول أنه يحتمل أن يقال حصل النداءان نداء الله ونداء الملائكة وعن الثاني أنا نبين إن شاء تعالى أن قوله قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ يمكن أن يكون كلام الله
المسألة الثانية فإن قيل إن كان الدعاء بإذن فما معنى البشارة وإن كان بغير إذن فلماذا أقدم عليه والجواب هذا أمر يخصه فيجوز أن يسأل بغير إذن ويحتمل أنه أذن له فيه ولم يعلم وقته فبشر به
المسألة الثالثة اختلف المفسرون في قوله لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً على وجهين أحدهما وهو قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة أنه لم يسم أحد قبله بهذا الاسم الثاني أن المراد بالسمي النظير كما في قوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( مريم 65 ) واختلفوا في ذلك على وجوه أحدها أنه سيد وحصور لم يعص ولم يهم بمعصية كأنه جواب لقوله وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً ( مريم 6 ) فقيل له إنا نبشرك بغلام لم نجعل له من قبل شبيهاً في الدين ومن كان هكذا فهو في غاية الرضا وهذا الوجه ضعيف لأنه يقتضي تفضيله على الأنبياء الذين كانوا قبله كآدم ونوح وإبراهيم وموسى وذلك باطل بالإتفاق وثانيها أن كل الناس إنما يسميهم آباؤهم وأمهاتهم بعد دخولهم في الوجود وأما يحيى عليه السلام فإن الله تعالى هو الذي سماه

قبل دخوله في الوجود فكان ذلك من خواصه فلم يكن له مثل وشبيه في هذه الخاصية وثالثها أنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر واعلم أن الوجه الأول أولى وذلك لأن حمل السمي على النظير وإن كان يفيد المدح والتعظيم ولكنه عدول عن الحقيقة من غير ضرورة وإنه لا يجوز وأما قول الله تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً فهناك إنما عدلنا عن الظاهر لأنه قال فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( مريم 65 ) ومعلوم أن مجرد كونه تعالى مسمى بذلك الاسم لا يقتضي وجوب عبادته فلهذه العلة عدلنا عن الظاهرة أما ههنا لا ضرورة في العدول عن الظاهر فوجب اجراؤه عليه ولأن في تفرده بذلك الاسم ضرباً من التعظيم لأنا نشاهد أن الملك إذا كان له لقب مشهور فإن حاشيته لا يتلقبون به بل يتركونه تعظيماً له فكذلك ههنا
المسألة الرابعة في أنه عليه السلام سمي بيحيى روى الثعلبي فيه وجوهاً أحدها عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أحيا به عقر أمه وثانيها عن قتادة أن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان والطاعة والله تعالى سمى المطيع حياً والعاصي ميتاً بقوله تعالى أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الأنعام 122 ) وقال إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا ( الأنفال 24 ) وثالثها إحياؤه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية لما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من أحد إلا وقد عصى أو هم إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها ) ورابعها عن أبي القاسم بن حبيب أنه استشهد وأن الشهداء أحياء عند ربهم لقوله تعالى أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ ( آل عمران 169 ) وخامسها ما قاله عمرو بن عبد الله المقدسي أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام أن قل ليسارة وكان اسمها كذلك بأني مخرج منها عبداً لا يهم بمعصية اسمه حيي فقال هبي له من اسمك حرفاً فوهبته حرفاً من اسمها فصار يحيى وكان اسمها يسارة فصار اسمها سارة وسادسها أن يحيى عليه السلام أول من آمن بعيسى فصار قلبه حياً بذلك الإيمان وذلك أن أم يحيى كانت حاملاً به فاستقبلتها مريم وقد حملت بعيسى فقالت لها أم يحيى يا مريم أحامل أنت فقالت لماذا تقولين فقالت إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك وسابعها أن الدين يحيا به لأنه إنما سأله زكريا لأجل الدين واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة لأن أسماء الألقاب لا يطلب فيها وجه الإشتقاق ولهذا قال أهل التحقيق أسماء الألقاب قائمة مقام الإشارات وهي لا تفيد في المسمى صفة البتة
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي عتياً وصلياً وجثياً وبكياً بكسر العين والصاد والجيم والباء وقرأ حفص عن عاصم بكياً بالضم والباقي بالكسر والباقون جميعاً بالضم وقرأ ابن مسعود بفتح العين والصاد من عتياً وصلياً وقرأ أبي بن كعب وابن عباس عسياً بالسين غير المعجمة والله أعلم
المسألة الثانية في الألفاظ وهي ثلاثة الأول الغلام الإنسان الذكر في ابتداء شهوته للجماع ومنه اغتلم إذا اشتدت شهوته للجماع ثم يستعمل في التلميذ يقال غلام ثعلب الثاني العتي والعبسي واحد

تقول عتا يعتو عتواً وعتياً فهو عات وعسا يعسو عسواً وعسياً فهو عاص والعاسي هو الذي غيره طول الزمان إلى حال البؤس وليل عات طويل وقيل شديد الظلمة الثالث لم يقل عاقرة لأن ما كان على فاعل من صفة المؤنث مما لم يكن للمذكر فإنه لا تدخل فيه الهاء نحو امرأة عاقر وحائض قال الخليل هذه الصفات مذكرة وصف بها المؤنث كما وصفوا المذكر بالمؤنث حين قالوا رجل ملحة وربعة وغلام نفعة
المسألة الثالثة في هذه الآية سؤالان الأول أن زكريا عليه السلام لم تعجب بقوله أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ مع أنه هو الذي طلب الغلام السؤال الثاني أن قوله أنى يكون لي غلام لم يكن هذا مذكوراً بين أمته لأنه كان يخفي هذه الأمور عن أمته فدل على أنه ذكره في نفسه وهذا التعجب يدل على كونه شاكاً في قدرة الله تعالى على ذلك وذلك كفر وهو غير جائز على الأنبياء عليهم السلام والجواب عن السؤال الأول أما على قول من قال إنه لم يطلب خصوص الولد فالسؤال زائل وأما على قول من قال إنه طلب الولد فالجواب عنه أن المقصود من قوله أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ هو التعجب من أنه تعالى يجعلهما شابين ثم يرزقهما الولد أو يتركهما شيخين ويرزقهما الولد مع الشيخوخة بطريق الاستعلام لا بطريق التعجب والدليل عليه قوله تعالى وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ( الأنبياء 89 90 ) وما هذا الإصلاح إلا أنه أعاد قوة الولادة وقد تقدم تقرير هذا الكلام وذكر السدي في الجواب وجهاً آخر فقال إنه لما سمع النداء بالبشارة جاءه الشيطان فقال إن هذا الصوت ليس من الله تعالى بل هو من الشيطان يسخر منك فلما شك زكريا قال أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ واعلم أن غرض السدي من هذا أن زكريا عليه السلام لو علم أن المبشر بذلك هو الله تعالى لما جاز له أن يقول ذلك فارتكب هذا وقال بعض المتكلمين هذا باطل قطعاً إذ لو جوز الأنبياء في بعض ما يرد عن الله تعالى أنه من الشيطان لجوزوا في سائره ولزالت الثقة عنهم في الوحي وعنا فيما يوردونه إلينا ويمكن أن يجاب عنه بأن هذا الاحتمال قائم في أول الأمر وإنما يزول بالمعجزة فلعل المعجزة لم تكن حاصلة في هذه الصورة فحصل الشك فيها دون ما عداها والله أعلم والجواب عن السؤال الثاني من وجوه الأول أن قوله إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى ( مريم 7 ) ليس نصاً في كون ذلك الغلام ولداً له بل يحتمل أن زكريا عليه السلام راعى الأدب ولم يقل هذا الكلام هل يكون لي ولد أم لا بل ذكر أسباب تعذر حصول الولد في العادة حتى أن تلك البشارة إن كانت بالولد فالله تعالى يزيل الإبهام ويجعل الكلام صريحاً فلما ذكر ذلك صرح الله تعالى بكون ذلك الولد منه فكان الغرض من كلام زكريا هذا لا أنه كان شاكاً في قدرة الله تعالى عليه الثاني أنه ما ذكر ذلك للشك لكن على وجه التعظيم لقدرته وهذا كالرجل الذي يرى صاحبه قد وهب الكثير الخطير فيقول أنى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا من ملككا تعظيماً وتعجباً الثالث أن من شأن من بشر بما يتمناه أن يتولد له فرط السرور به عند أول ما يرد علي استثبات ذلك الكلام إما لأن شدة فرحه به توجب ذهوله عن مقتضيات العقل والفكر وهذا كما أن امرأة إبراهيم عليه السلام بعد أن بشرت باسحق قالت وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عَجِيبٌ قَالُواْ ( هود 72 ) فأزيل تعجبها بقوله أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( هود 73 ) وإما طلباً للالتذاذ بسماع ذلك الكلام مرة أخرى وإما مبالغة في تأكيد التفسير
قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى َّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً

وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله قَالَ رَبُّكَ هُوَ هَيّنٌ وجوه أحدها أن الكاف رفع أي الأمر كذلك تصديقاً له ثم ابتدأ قال ربك وثانيها نصب يقال وذلك إشارة إلى مبهم تفسيره هو علي هين وهو كقوله تعالى وَقَضَيْنَا إِلَيْكَ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( الحجر 66 ) وثالثها أن المراد لا تعجب فإنه كذلك قال ربك لا خلف في قوله ولا غلط ثم قال بعده هو علي هين بدليل خلقتك من قبل ولم تك شيئاً ورابعها أن اذكرنا أن قوله أنى يكون لي غلام معناه تعطيني الغلام بأن تجعلني وزوجتي شابين أو بأن تتركنا على الشيخوخة ومع ذلك تعطينا الولد وقوله كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ أي نهب الولد مع بقائك وبقاء زوجتك على الحاصلة في الحال
المسألة الثانية قرأ الحسن وهو علي هين وهذا لا يخرج إلا على الوجه الأول أي الأمر كما قلت ولكن قال ربك هو مع ذلك علي هين
المسألة الثالثة إطلاق لفظ الهين في حق الله تعالى مجاز لأن ذلك إنما يجوز في حق من يجوز أن يصعب عليه شيء ولكن المراد أنه إذا أراد شيئاً كان
المسألة الرابعة في وجه الاستدلال بقوله تعالى وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً فنقول إنه لما خلقه من العدم الصرف والنفي المحض كان قادراً على خلق الذوات والصفات والآثار وأما الآن فخلق الولد من الشيخ والشيخة لا يحتاج فيه إلا إلى تبديل الصفات والقادر على خلق الذوات والصفات والآثار معاً أولى أن يكون قادراً على تبديل الصفات وإذا أوجده عن عدم فكذا يرزقه الولد بأن يعيد إليه وإلى صاحبته القوة التي عنها يتولد الماءان اللذان من اجتماعهما يخلق الولد ولذلك قال فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ( الأنبياء 90 ) فهذا وجه الاستدلال
المسألة الخامسة الجمهور على أن قوله قال كذلك قال ربك يقتضي أن القائل لذلك ملك مع الاعتراف بأن قوله رَضِيّاً يازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ ( مريم 7 ) قول الله تعالى وقوله هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ قول الله تعالى وهذا بعيد لأنه إذا كان ما قبل هذا الكلام وما بعده قول الله تعالى فكيف يصح إدراج هذه الألفاظ فيما بين هذين القولين والأولى أن يقال قائل هذا القول أيضاً هو الله تعالى كما أن الملك العظيم إذا وعد عبده شيئاً عظيماً فيقول العبد من أين يحصل لي هذا فيقول إن سلطانك ضمن لك ذلك كأنه ينبه بذلك على أن كونه سلطاناً مما يوجب عليه الوفاء بالوعد فكذا ههنا
قَالَ رَبِّ اجْعَل لِى ءَايَة ً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم طلب الآية لتحقيق البشارة وهذا بعيد لأن بقول الله تعالى قد تحققت البشارة فلا يكون إظهار الآية أقوى من ذلك من صريح القول وقال آخرون البشارة بالولد وقعت مطلقة فلا يعرف وقتها بمجرد البشارة فطلب الآية ليعرف بها وقت الوقوع وهذا هو الحق

المسألة الثانية اتفقوا على أن تلك الآية هي تعذر الكلام عليه فإن مجرد السكوت مع القدرة على الكلام لا يكون معجزة ثم اختلفوا على قولين أحدهما أنه اعتقل لسانه أصلاً والثاني أنه امتنع عليه الكلام مع القوم على وجه المخاطبة مع أنه كان متمكناً من ذكر الله ومن قراءة التوراة وهذا القول عندي أصح لأن اعتقال اللسان مطلقاً قد يكون لمرض وقد يكون من فعل الله فلا يعرف زكريا عليه السلام أن ذلك الاعتقال معجزاً إلا إذا عرف أنه ليس لمرض بل لمحض فعل الله تعالى مع سلامة الآلات وهذا مما لا يعرف إلا بدليل آخر فتفتقر تلك الدلالة إلى دلالة أخرى أما لو اعتقل لسانه عن الكلام مع القوم مع اقتداره على التكلم بذكر الله تعالى وقراءة التوراة علم بالضرورة أن ذلك الاعتقال ليس لعلة ومرض بل هو لمحض فعل الله فيتحقق كونه آية ومعجزة ومما يقوي ذلك قوله تعالى أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً فَخَرَجَ خص ذلك بالتكلم مع الناس وهذا يدل بطريق المفهوم أنه كان قادراً على التكلم مع غير الناس
المسألة الثالثة اختلفوا في معنى سَوِيّاً فقال بعضهم هو صفة لليالي الثلاث وقال أكثر المفسرين هو صفة لزكريا والمعنى آيتك أن لا تكلم الناس في هذه المدة مع كونك سوياً لم يحدث بك مرض
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَة ً وَعَشِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ قيل كان له موضع ينفرد فيه بالصلاة والعبادة ثم ينتقل إلى قومه فعند ذلك أوحى إليهم وقيل كان موضعاً يصلي فيه هو وغيره إلا أنهم كانوا لا يدخلونه للصلاة إلا بإذنه وأنهم اجتمعوا ينتظرون خروجه للإذن فخرج إليهم وهو لا يتكلم فأوحى إليهم
المسألة الثانية لا يجوز أن يكون المراد من قوله أوحى إليهم الكلام لأن الكلام كان ممتنعاً عليه فكان المراد غير الكلام وهو أن يعرفهم ذلك إما بالإشارة أو برمز مخصوص أو بكتابة لأن كل ذلك يفهم منه المراد فعلموا أنه قد كان ما بشر به فكما حصل السرور له حصل لهم فظهر لهم إكرام الله تعالى له بالإجابة واعلم أن الأشبه بالآية هو الإشارة لقوله تعالى في سورة آل عمران ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ( آل عمران 41 ) والرمز لا يكون كناية للكلام
المسألة الثالثة اتفق المفسرون على أنه أراد بالتسبيح الصلاة وهو جائز في اللغة يقال سبحه الضحى أي صلاة الضحى وعن عائشة رضي الله عنها في صلاة الضحى ( إني لأسبحها ) أي لأصليها إذا ثبت هذا فنقول روي عن أبي العالية أن البكرة صلاة الفجر والعشي صلاة العصر ويحتمل أن يكون إنما كانوا يصلون معه في محرابه هاتين الصلاتين فكان يخرج إليهم فيأذن لهم بلسانه فلما اعتقل لسانه خرج إليهم كعادته فأذن لهم بغير كلام والله أعلم
يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة ٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَواة ً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً

اعلم أنه تعالى وصف يَحْيَى في هذه الآية بصفات تسع الصفة الأولى كونه مخاطباً من الله تعالى بقوله وَعَشِيّاً يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة ٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن قوله وَعَشِيّاً يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ يدل على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك فحذف ذكره لدلالة الكلام عليه
المسألة الثانية الكتاب المذكور يحتمل أن يكون هو التوراة التي هي نعمة الله على بني إسرائيل لقوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إِسْراءيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ ( الجاثية 16 ) ويحتمل أن يكون كتاباً خص الله به يحيى كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك والأول أولى لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى ولا معهود ههنا إلا التوراة
المسألة الثالثة قوله بِقُوَّة ٍ ليس المراد منه القدرة على الأخذ لأن ذلك معلوم لكل أحد فيجب حمله على معنى يفيد المدح وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به والإحجام عن المنهي عنه الصفة الثانية قوله تعالى وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً اعلم أن في الحكم أقوالاً الأول أنه الحكمة ومنه قول الشاعر واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت
إلى حمام سراع وارد الثمد
وهو الفهم في التوراة والفقه في الدين والثاني وهو قول معمر أنه العقل روي أنه قال ما للعب خلقنا والثالث أنه النبوة فإن الله تعالى أحكم عقله في صباه وأوحى إليه وذلك لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى عليهما السلام وهما صبيان لا كما بعث موسى ومحمداً عليهما السلام وقد بلغا الأشد والأقرب حمله على النبوة لوجهين الأول أن الله تعالى ذكر في هذه الآية صفات شرفه ومنقبته ومعلوم أن النبوة أشرف صفات الإنسان فذكرها في معرض المدح أولى من ذكر غيرها فوجب أن تكون نبوته مذكورة في هذه الآية ولا لفظ يصلح للدلالة على النبوة إلا هذه اللفظة فوجب حملها عليها الثاني أن الحكم هو ما يصلح لأن يحكم به على غيره ولغيره على الإطلاق وذلك لا يكون إلا بالنبوة فإن قيل كيف يعقل حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا قلنا هذا السائل إما أن يمنع من خرق العادة أو لا يمنع منه فإن منع منه فقد سد باب النبوات لأن بناء الأمر فيها على المعجزات ولا معنى لها إلا خرق العادات وإن لم يمنع فقد زال هذا الاستبعاد فإنه ليس استبعاد صيرورة الصبي عاقلاً أشد من استبعاد انشقاق القمر وانفلاق البحر الصفة الثالثة قوله تعالى وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا اعلم أن الحنان أصله من الحنين وهو الارتياح والجزع للفراق كما يقال حنين الناقة وهو صوتها إذا اشتاقت إلى ولدها ذكر الخليل ذلك في الحديث ( أنه عليه السلام كان يصلي إلى جذع من المسجد فلما اتخذ له المنبر وتحول إليه حنت تلك الخشبة حتى سمع حنينها ) فهذا هو الأصل ثم قيل تحنن فلان على فلان إذا تعطف عليه ورحمه وقد اختلف الناس في وصف الله بالحنان فأجازه بعضهم وجعله بمعنى الرؤوف الرحيم ومنهم من أباه لما يرجع إليه أصل الكلمة قالوا لم يصح الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى إذا عرفت هذا فنقول الحنان هنا فيه وجهان

أحدهما أن يجعل صفة لله وثانيهما أن يجعل صفة ليحيى أما إذا جعلناه صفة لله تعالى فنقول التقدير وآتيناه الحكم حناناً أي رحمة منا ثم ههنا احتمالات الأول أن يكون الحنان من الله ليحيى المعنى آتيناه الحكم صبياً ثم قال وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا أي إنما آتيناه الحكم صبياً حناناً من لدنا عليه أي رحمة عليه وزكاة أي وتزكية له وتشريفاً له الثاني أن يكون الحنان من الله تعالى لزكريا عليه السلام فكأنه تعالى قال إنما استجبنا لزكريا دعوته بأن أعطيناه ولداً ثم آتيناه الحكم صبياً وحناناً من لدنا عليه أي على زكريا فعلنا ذلك وَزَكَواة ً أي وتزكية له عن أن يصير مردود الدعاء والثالث أن يكون الحنان من الله تعالى لأمة يحيى عليه السلام كأنه تعالى قال وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَانًا منا على أمته لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده أما إذا جعلناه صفة ليحيى عليه السلام ففيه وجوه الأول آتيناه الحكم والحنان على عبادنا أي التعطف عليهم وحسن النظر على كافتهم فيما أوليه من الحكم عليهم كما وصف نبيه فقال فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ( آل عمران 159 ) وقال حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ ( التوبة 128 ) ثم أخبر تعالى أنه آتاه زكاة ومعناه أن لا تكون شفقته داعية له إلى الإخلال بالواجب لأن الرأفة واللين ربما أورثا ترك الواجب ألا ترى إلى قوله تعالى وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ ( النور 2 ) وقال قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة ً ( التوبة 123 ) وقال أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَة َ لائِمٍ ( المائدة 54 ) فالمعنى إنما جعلنا له التعطف على عباد الله مع الطهارة عن الإخلال بالواجبات ويحتمل آتيناه التعطف على الخلق والطهارة عن المعاصي فلم يعص ولم يهم بمعصية وفي الآية وجه آخر وهو المنقول عن عطاء بن رباح وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا والمعنى آتيناه الحكم صبياً تعظيماً إذ جعلناه نبياً وهو صبي ولا تعظيم أكثر من هذا والدليل عليه ما روى أنه مر ورقة بن نوفل على بلال وهو يعذب قد ألصق ظهره برمضاء البطحاء ويقول أحد أحد فقال والذي نفسي بيده لئن قتلتموه لأتخذنه حناناً أي معظماً الصفة الرابعة قوله وَزَكَواة ً وفيه وجوه أحدها أن المراد وآتيناه زكاة أي عملاً صالحاً زكياً عن ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جريج وثانيها زكاة لمن قبل منه حتى يكونوا أزكياء عن الحسن وثالثها زكيناه بحسن الثناء كما تزكى الشهود الإنسان ورابعها صدقة تصدق الله بها على أبويه عن الكبي وخامسها بركة ونماء وهو الذي قال عيسى عليه الصلاة والسلام وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنتُ ( مريم 31 ) واعلم أن هذا يدل على أن فعل العبد خلق لله تعالى لأنه جعل طهارته وزكاته من الله تعالى وحمله على الألطاف بعيد لأنه عدول عن الظاهر الصفة الحامسة قوله وَكَانَ تَقِيّا وقد عرفت معناه وبالجملة فإنه يتضمن غاية المدائح لأنه هو الذي يتقي نهي الله فيجتنبه ويتقي أمره فلا يهمله وأولى الناس بهذا الوصف من لم يعص الله ولا يهم بمعصية وكان يحيى عليه الصلاة والسلام كذلك فإن قيل ما معنى وَكَانَ تَقِيّا وهذا حين ابتداء تكليفه قلنا إنما خاطب الله تعالى بذلك الرسول وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله عليه الصفة السادسة قوله وَبَرّا بِوالِدَيْهِ وذلك لأنه لا عبادة بعد تعظيم الله تعالى مثل تعظيم الوالدين ولهذا السبب قال وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) الصفة السابعة قوله وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً والمراد وصفه بالتواضع ولين الجانب وذلك من صفات المؤمنين كقوله تعالى وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ( الحجر 88 ) وقال

تعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( آل عمران 159 ) ولأن رأس العبادات معرفة الإنسان نفسه بالذل ومعرفة ربه بالعظمة والكمال ومن عرف نفسه بالذل وعرف ربه بالكمال كيف يليق به الترفع والتجبر ولذلك فإن إبليس لما تجبر وتمرد صار مبعداً عن رحمة الله تعالى وعن الدين وقيل الجبار هو الذي لا يرى لأحد على نفسه حقاً وهو من العظم والذهاب بنفسه عن أن يلزمه قضاء حق أحد وقال سفيان في قوله جَبَّاراً عَصِيّاً إنه الذي يقبل على الغضب والدليل عليه قوله تعالى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاْمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاْرْضِ ( القصص 19 ) وقيل كل من عاقب على غضب نفسه من غير حق فهو جبار لقوله تعالى وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ( الشعراء 130 ) الصفة الثامنة قوله عَصِيّاً وهو أبلغ من العاصي كما أن العليم أبلغ من العالم الصفة التاسعة قوله وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً وفيه أقوال أحدها قال محمد بن جرير الطبري وَسَلَامٌ عَلَيْهِ أي أمان من الله يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم وَيَوْمَ يَمُوتُ أي وأمان عليه من عذاب القبر وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً أي ومن عذاب القيامة وثانيها قال سفيان بن عيينة أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوماً ما شاهدهم قط ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم فأكرم الله يحيى عليه الصلاة والسلام فخصه بالسلام عليه في هذه المواطن الثلاثة وثالثها قال عبد الله بن نفطوية وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ أي أول ما يرى الدنيا وَيَوْمَ يَمُوتُ أي أول يوم يرى فيه أول أمر الآخرة وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً أي أول يوم يرى فيه الجنة والنار وهو يوم القيامة وإنما قال حَياً تنبيهاً على كونه من الشهداء لقوله تعالى بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) فروع الأول هذا لاسلام يمكن أن يكون من الله تعالى وأن يكون من الملائكة وعلى التقديرين فدلالة شرفه وفضله لا تختلف لأن الملائكة لا يسلمون إلا عن أمر الله تعالى الثاني ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء عليهم السلام كقوله سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ ( الصافات 79 ) سَلَامٌ عَلَى إِبْراهِيمَ ( الصافات 109 ) لأنه قال و يَوْمَ وُلِدَ وليس ذلك لسائر الأنبياء عليهم السلام الثالث روي أن عيسى عليه السلام قال ليحيى عليه السلام أنت أفضل مني لأن الله تعالى سلم عليك وأنا سلمت على نفسي وهذا ليس يقوى لأن سلام عيسى على نفسه يجري مجرى سلام الله على يحيى لأن عيسى معصوم لا يفعل إلا ما أمره الله به الرابع السلام عليه يوم ولد لا بد وأن يكون تفضلاً من الله تعالى لأنه لم يتقدم منه ما يكون ذلك جزاء له وأما السلام عليه يوم يموت ويوم يبعث في المحشر فقد يجوز أن يكون ثواباً كالمدح والتعظيم والله تعالى أعلم القول في فوائد هذه القصة الفائدة الأولى تعليم آداب الدعاء وهي من جهات أحدها قوله نِدَاء خَفِيّاً ( مريم 3 ) وهو يدل على أن أفضل الدعاء ما هذا حاله ويؤكد قوله تعالى ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف 55 ) ولأن رفع الصوت مشعر بالقوة والجلادة وإخفاء الصوت مشعر بالضعف والانكسار وعمدة الدعاء الإنكسار والتبري عن حول النفس وقوتها والاعتماد على فضل الله تعالى وإحسانه وثانيها أن المحتسب أن يذكر في مقدمة الدعاء عجز النفس وضعفها كما في قوله تعالى عنه وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ( مريم 4 ) ثم يذكر كثرة نعم الله

على ما في قوله وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً ( مريم 4 ) وثالثها أن يكون الدعاء لأجل شيء متعلق بالدين لا لمحض الدنيا كما قال وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِى َ مِن وَرَائِى ( مريم 5 ) ورابعها أن يكون الدعاء بلفظ يا رب على ما في هذا الموضع الفائدة الثانية ظهور درجات زكريا ويحيى عليهما السلام أما زكريا فأمور أحدها نهاية تضرعه في نفسه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكلية وثانيها إجابة الله تعالى دعاءه وثالثها أن الله تعالى ناداه وبشره أو الملائكة أو حصل الأمران معاً ورابعها اعتقال لسانه عن الكلام دون التسبيح وخامسها أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام طلب الآيات لقوله رب اجعل لي آية الفائدة الثالثة كونه تعالى قادراً على خلق الولد وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة رداً على أهل الطبائع الفائدة الرابعة صحة الاستدلال في الدين لقوله تعالى وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً الفائدة الخامسة أن المعدوم ليس بشيء والآية نص في ذلك فإن قيل المراد ولم تك شيئاً مذكوراً كما في قوله تعالى هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ( الإنسان 1 ) قلنا الإضمار خلاف الأصل وللخصم أن يقول الآية تدل على أن الإنسان لم يكن شيئاً ونحن نقول به لأن الإنسان عبارة عن جواهر متألفة قامت بها أعراض مخصوصة والجواهر المتألفة الموصوفة بالأعراض المخصوصة غير ثابتة في العدم إنما الثابت هو أعيان تلك الجواهر مفردة غير مركبة وهي ليست بإنسان فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب الفائدة السادسة أن الله تعالى ذكر هذه القصة في سورة آل عمران وذكرها في هذا الموضع فلنعتبر حالها في الموضعين فنقول الأول أنه تعالى بين في هذه السورة أنه دعا ربه ولم يبين الوقت وبينه في آل عمران بقوله كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ مَرْيَمَ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّة ً طَيّبَة ً ( آل عمران 37 38 ) والمعنى أن زكريا عليه السلام لما رأى خرق العادة في حق مريم عليها السلام طمع فيه في حق نفسه فدعا الثاني وهو أن الله تعالى صرح في آل عمران بأن المنادي هو الملائكة لقوله فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَة ُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ ( آل عمران 39 ) وفي هذه السورة الأظهر أن المنادي بقوله رَضِيّاً يازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ ( مريم 7 ) هو الله تعالى وقد بينا أنه لا منافاة بين الأمرين الثالث أنه قال في آل عمران أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ ( آل عمران 40 ) فذكر أولاً كبر نفسه ثم عقر المرأة وهو في هذه السورة قال أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً ( مريم 8 ) وجوابه أن الواو لا تقتضي الترتيب الرابع قال في آل عمران وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وقال ههنا وقد بلغت من الكبر وجوابه أن ما بلغك فقد بلغته الخامس قال في آل عمران أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر ( آل عمران 41 ) وقال ههنا ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ( مريم 10 ) وجوابه دلت الآيتان على أن المراد ثلاثة أيام بلياليهن والله أعلم القصة الثانية قصة مريم وكيفية ولادة عيسى عليه السلام اعلم أنه تعالى إنما قدم قصة يحيى على قصة عيسى

عليهما السلام لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد لا من الأب البتة وأحسن الطرق في التعليم والتفهيم الأخذ من الأقرب فالأقرب مترقياً إلى الأصعب فالأصعب
وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى إذ بدل من مريم بدل اشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه أن المقصود بذكر مريم ذكر وقت هذا الوقوع لهذه القصة العجيبة فيه
المسألة الثانية النبذ أصله الطرح والإلقاء والانتباذ افتعال منه ومنه فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ( آل عمران 187 ) وانتبذت تنحت يقال جلس نبذة من الناس ونبذة بضم النون وفتحها أي ناحية وهذا إذا جلس قريباً منك حتى لو نبذت إليه شيئاً وصل إليه ونبذت الشيء رميته ومنه النبيذ لأنه يطرح في الإناء وأصله منبوذ فصرف إلى فعيل ومنه قيل للقيط منبوذ لأنه يرمى به ومنه النهي عن المنابذة في البيع وهو أن يقول إذا نبذت إليك هذا الثوب أو الحصاة فقد وجب البيع إذ عرفت هذا فنقول قوله تعالى إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً معناه تباعدت وانفردت على سرعة إلى مكان يلي ناحية الشرق ثم بين تعالى أنها مع ذلك اتخذت من دون أهلها حجاباً مستوراً وظاهر ذلك أنها لم تقتصر على أن انفردت إلى موضع بل جعلت بينها وبينهم حائلاً من حائط أو غيره ويحتمل أنها جعلت بين نفسها وبينهم ستراً وهذا الوجه الثاني أظهر من الأول ثم لا بد من احتجابها من أن يكون لغرض صحيح وليس مذكوراً واختلف المفسرون فيه على وجوه الأول أنها لما رأت الحيض تباعدت عن مكانها المعتاد للعبادة لكي تنتظر الطهر فتغتسل وتعود فلما طهرت جاءها جبريل عليه السلام والثاني أنها طلبت الخلوة لئلا تشتغل عن العبادة والثالث قعدت في مشرقة للاغتسال من الحيض محتجبة بشيء يسترها والرابع أنها كان لها في منزل زوج أختها زكرياء محراب على حدة تسكنه وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها فتمنت ( على ) الله ( أن ) تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها فانفرج السقف لها فخرجت إلى المفازة فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك وخامسها عطشت فخرجت إلى المفازة لتستقي واعلم أن كل هذه الوجوه محتمل وليس في اللفظ ما يدل على ترجيح واحد منها
المسألة الثالثة المكان الشرقي هو الذي يلي شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها وعن ابن عباس رضي الله عنهما إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقوله تعالى مَكَاناً شَرْقِياً فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة
المسألة الرابعة أنها لما جلست في ذلك المكان أرسل الله إليها الروح واختلف المفسرون في هذا الروح فقال الأكثرون إنه جبريل عليه السلام وقال أبو مسلم إنه الروح الذي تصور في بطنها بشراً والأول أقرب لأن جبريل عليه السلام يسمى روحاً قال الله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 )

وسمي روحاً لأنه روحاني وقيل خلق من الروح وقيل لأن الدين يحيا به أو سماه الله تعالى بروحه على المجاز محبة له وتقريباً كما تقول لحبيبك روحي وقرأ أبو حيوة روحنا بالفتح لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المتقين في قوله فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّة ٍ نَعِيمٍ ( الواقعة 88 89 ) أو لأنه من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا وذا روحنا وإذا ثبت أنه يسمى روحاً فهو هنا يجب أن يكون المراد به هو لأنه قال إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ( مريم 19 ) ولا يليق ذلك إلا بجبريل عليه السلام واختلفوا في أنه كيف ظهر لها فالأول أنه ظهر لها على صورة شاب أمرد حسن الوجه سوي الخلق والثاني أنه ظهر لها على صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وكل ذلك محتمل ولا دلالة في اللفظ على التعيين ثم قال وإنما تمثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه فلو ظهر لها في صورة الملائكة لنفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه ثم ههنا إشكالات أحدهما وهو أنه لو جاز أن يظهر الملك في صورة إنسان معين فحينئذ لا يمكننا القطع بأن هذا الشخص الذي أراه في الحال هو زيد الذي رأيته بالأمس لاحتمال أن الملك أو الجني تمثل في صورته وفتح هذا الباب يؤدي إلى السفسطة لا يقال هذا إنما يجوز في زمان جواز البعثة فأما في زماننا هذا فلا يجوز لأنا نقول هذا الفرق إنما يعلم بالدليل فالجاهل بذلك الدليل يجب أن لا يقطع بأن هذا الشخص الذي أراه الآن هو الشخص الذي رأيته بالأمس وثانيها أنه جاء في الأخبار أن جبريل عليه السلام شخص عظيم جداً فذلك الشخص العظيم كيف صار بدنه في مقدار جثة الإنسان أبأن تساقطت أجزاؤه وتفرقت بنيته فحينئذ لا يبقى جبريل أو بأن تداخلت أجزاؤه وذلك يوجب تداخل الأجزاء وهو محال وثالثها وهو أنا لو جوزنا أن يتمثل جبريل عليه السلام في صورة الآدمي فلم لا يجوز تمثله في صورة جسم أصغر من الآدمي حتى الذباب والبق والبعوض ومعلوم أن كل مذهب جر إلى ذلك فهو باطل ورابعها أن تجويزه يفضي إلى القدح في خبر التواتر فلعل الشخص الذي حارب يوم بدر لم يكن محمداً بل كان شخصاً آخر تشبه به وكذا القول في الكل والجواب عن الأول أن ذلك التجويز لازم على الكل لأن من اعترف بافتقار العالم إلى الصانع المختار فقد قطع بكونه تعالى قادراً على أن يخلق شخصاً آخر مثل زيد في خلقته وتخطيطه وإذا جوزنا ذلك فقد لزم الشك في أن زيداً المشاهد الآن هو الذي شاهدناه بالأمس أم لا ومن أنكر الصانع المختار وأسند الحوادث إلى اتصالات الكواكب وتشكلات الفلك لزمه تجويز أن يحدث اتصال غريب في الأفلاك يقتضي حدوث شخص مثل زيد في كل الأمور وحينئذ يعود التجويز المذكور ( وعن الثاني ) أنه لا يمتنع أن يكون جبريل عليه السلام له أجزاء أصلية وأجزاء فاضلة والأجزاء الأصلية قليلة جداً فحينئذ يكون متمكناً من التشبه بصورة الإنسان هذا إذا جعلناه جسمانياً أما إذا جعلناه روحانياً فأي استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغير ( وعن الثالث ) أن أصل التجويز قائم في العقل وإنما عرف فساده بدلائل السمع وهو الجواب عن السؤال الرابع والله أعلم
قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً
وفيه وجوه أحدها أرادت أن كان يرجى منك أن تتقي الله ويحصل ذلك بالاستعاذة به فإني عائذة به منك وهذا في نهاية الحسن لأنها علمت أنه لا تؤثر

الاستعاذة إلا في التقي وهو كقوله وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( البقرة 278 ) أي أن شرط الإيمان يوجب هذا لا أن الله تعالى يخشى في حال دون حال وثانيها أن معناه ما كنت تقياً حيث استحللت النظر إلي وخلوت بي وثالثها أنه كان في ذلك الزمان إنسان فاجر اسمه تقى يتبع النساء فظنت مريم عليها السلام أن ذلك الشخص المشاهد هو ذلك التقي والأول هو الوجه
قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى لما علم جبريل خوفها قال إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ ليزول عنها ذلك الخوف ولكن الخوف لا يزول بمجرد هذا القول بل لا بد من دلالة تدل على أنه جبريل عليه السلام وما كان من الناس فههنا يحتمل أن يكون قد ظهر معجز عرفت به جبريل عليه السلام ويحتمل أنها من جهة زكريا عليه السلام عرفت صفة الملائكة فلما قال لها إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ أظهر لها من باطن جسده ما عرفت أنه ملك فيكون ذلك هو العلم وسأل القاضي عبد الجبار في تفسيره نفسه فقال إذا لم تكن نبية عندكم وكان من قولكم أن الله تعالى لم يرسل إلى خلقه إلا رجالاً فكيف يصح ذلك وأجاب أن ذلك إنما وقع في زمان زكريا عليه السلام وكان رسولاً وكل ذلك كان عالماً به وهذا ضعيف لأن المعجز إذا كان مفعولاً للنبي فأقل ما فيه أن يكون عليه السلام عالماً به وزكريا ما كان عنده علم بهذه الوقائع فكيف يجوز جعله معجزاً له بل الحق أن ذلك إما أن يكون كرامة لمريم أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام
المسألة الثانية قرأ ابن عامر ونافع ليهب بياء مفتوحة بعد اللام أي ليهب الله لك والباقون بهمزة مفتوحة بعدها أما قوله لأهب لك ففي مجازه وجهان الأول أن الهبة لما جرت على يده بأن كان هو الذي نفخ في جيبها بأمر الله تعالى جعل نفسه كأنه هو الذي وهب لها وإضافة الفعل إلى ما هو سبب له مستعمل قال تعالى في الأصنام إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) الثاني أن جبريل عليه السلام لما بشرها بذلك كانت تلك البشارة الصادقة جارية مجرى الهبة فإن قال قائل ما الدليل على أن جبريل عليه السلام لا يقدر على تركيب الأجزاء وخلق الحياة والعقل والنطق فيها والذي يقال فيه إن جبريل عليه السلام جسم والجسم لا يقدر على هذه الأشياء أما أنه جسم فلأنه محدث وكل محدث إما متحيز أو قائم بالمتحيز وأما أن الجسم لا يقدر على هذه الأشياء فلأنه لو قدر جسم على ذلك لقدر عليه كل جسم لأن الأجسام متماثلة وهو ضعيف لأن للخصم أن يقول لا نسلم أن كل محدث إما متحيز أو قائم به بل ههنا موجودات قائمة بأنفسها لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز ولا يلزم من كونها كذلك كونها أمثالاً لذات الله تعالى لأن الاشتراك في الصفات الثبوتية لا يقتضي التماثل فكيف في الصفات السلبية سلمنا كونه جسماً فلم قلت الجسم لا يقدر عليه قوله الأجسام متماثلة قلنا نعني به أنها متماثلة في كونها حاصلة في الأحياز ذاهبة في الجهات أو نعني به أنها متماثلة في تمام ماهياتها والأول مسلم لكن حصولها في الأحياز صفات لتلك الذوات والاشتراك في الصفات لا يوجب الاشتراك في ماهيات المواصفات سلمنا أن الأجسام متماثلة فلم لا يجوز أن يقال إن الله تعالى خص بعضها بهذه القدرة دون البعض حتى أنه يصح منها ذلك ولا يصح من البشر ذلك والجواب

الحق أن المعتمد في دفع هذا الاحتمال اجماع الأمة فقط والله أعلم
المسألة الثالثة الزكي يفيد أموراً ثلاثة الأول أنه الطاهر من الذنوب والثاني أنه ينمو على التزكية لأنه يقال فيمن لا ذنب له زكي وفي الزرع النامي زكي والثالث النزاهة والطهارة فيما يجب أن يكون عليه ليصح أن يبعث نبياً وقال بعض المتكلمين الأولى أن يحمل على الكل وهو ضعيف لما عرفت في أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز حمله على المعنيين سواء كان حقيقة فيهما أو في أحدهما مجازاً وفي الآخر حقيقة
المسألة الرابعة سماه زكياً مع أنه لم يكن له شيء من الدنيا وأنت إذا نظرت في سوقك فمن لم يملك شيئاً فهو شقي عندك وإنما الزكي من يملك المال والله يقول كان زكياً لأن سيرته الفقر وغناه الحكمة والكتاب وأنت فإنما تسمى بالزكي من كانت سيرته الجهل وطريقته المال
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى َّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَة ً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَة ً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى أنها إنما تعجبت بما بشرها جبريل عليه السلام لأنها عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل والعادات عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور وإن جوزوا خلاف ذلك في القدرة فليس في قولها هذا دلالة على أنها لم تعلم أنه تعالى قادر على خلق الولد ابتداء وكيف وقد عرفت أنه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحد ولأنها كانت منفردة بالعبادة ومن يكون كذلك لا بد من أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك
المسألة الثانية لقائل أن يقول قولها وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ يدخل تحته قولها وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً فلماذا أعادتها ومما يؤكد هذا السؤال أن في سورة آل عمران قالت رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء ( آل عمران 47 ) فلم تذكر البغاء والجواب من وجوه أحدها أنها جعلت المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه لقوله مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ( الأحزاب 49 ) والزنا ليس كذلك إنما يقال فجر بها أو ما أشبه ذلك ولا يليق به رعاية الكنايات وثانيها أن أعادتها لتعظيم حالها كقوله حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَواة ِ الْوُسْطَى ( البقرة 238 ) وقوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فكذا ههنا إن من لم تعرف من النساء بزوج فأغلظ أحوالها إذا أتت بولد أن تكون زانية فأفراد ذكر البغاء بعد دخوله في الكلام الأول لأنه أعظم ما في بابه
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) البغي الفاجرة التي تبغي الرجال وهو فعول عند المبرد بغوي فأدغمت الواو في الياء وقال ابن جني في كتاب ( التمام ) هو فعيل ولو كان فعولاً لقيل بغوا كما قيل نهوا عن المنكر

المسألة الرابعة أن جبريل عليه السلام أجابها بقوله قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ وهو كقوله في آل عمران كَذالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( آل عمران 47 ) لا يمتنع عليه فعل ما يريد خلقه ولا يحتاج في إنشائه إلى الآلات والمواد
المسألة الخامسة الكناية في هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ وفي قوله وَلِنَجْعَلَهُ ءايَة ً لّلْنَّاسِ تحتمل وجهين الأول أن تكون راجعة إلى الخلق أي أن خلقه علي هين ولنجعل خلقه آية للناس إذ ولد من غير ذكر ورحمة منا يرحم عبادنا بإظهار هذه الآيات حتى تكون دلائل صدقه أبهر فيكون قبول قوله أقرب الثاني أن ترجع الكنايات إلى الغلام وذلك لأنها لما تعجبت من كيفية وقوع هذا الأمر على خلاف العادة أعلمت أن الله تعالى جاعل ولدها آية على وقوع ذلك الأمر الغريب فأما قوله تعالى وَرَحْمَة ً مّنَّا فيحتمل أن يكون معطوفاً على وَلِنَجْعَلَهُ ءايَة ً لّلْنَّاسِ أي فعلنا ذلك وَرَحْمَة ً مّنَّا فعلنا ذلك ويحتمل أن يكون معطوفاً على الآية أي ولنجعله آية ورحمة فعلنا ذلك
المسألة السادسة قوله وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً المراد منه أنه معلوم لعلم الله تعالى فيمتنع وقوع خلافه لأنه لو لم يقع لانقلب علم الله جهلاً وهو محال والمفضي إلى المحال محال فخلافه محال فوقوعه واجب وأيضاً فلأن جميع الممكنات منتهية في سلسلة القضاء والقدر إلى واجب الوجود والمنتهي إلى الواجب انتهاء واجباً يكون واجب الوجود وإذا كان واجب الوجود فلا فائدة في الحزن والأسف وهذا هو سر قوله عليه السلام ( من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب )
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَة ِ قَالَتْ يالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَاذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكر الله تعالى أمر النفخ في آيات فقال فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ( التحريم 12 ) أي في عيسى عليه السلام كما قال لآدم عليه السلام وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( الحجر 29 ) وقال فنفخنا فيها لأن عيسى عليه السلام كان في بطنها واختلفوا في النافخ فقال بعضهم كان النفخ من الله تعالى لقوله فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وظاهره يفيد أن النافخ هو الله تعالى لقوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) ومقتضى التشبيه حصول المشابهة إلا فيما أخرجه الدليل وفي حق آدم النافخ هو الله تعالى لقوله تعالى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فكذا ههنا وقال آخرون النافخ هو جبريل عليه السلام لأن الظاهر من قول جبريل عليه السلام لاِهَبَ لَكِ ( مريم 19 ) أنه أمر أن يكون من قبله حتى يحصل الحمل لمريم عليها السلام فلا بد من إحالة النفخ إليه ثم اختلفوا في كيفية ذلك النفخ على قولين الأول قول وهب إنه نفخ جبريل في جيبها حتى وصلت إلى الرحم الثاني في ذيلها فوصلت إلى الفرج الثالث قول السدي أخذ بكمها فنفخ في جنب درعها فدخلت النفخة صدرها فحملت فجاءتها أختها امرأة زكريا

تزورها فالتزمتها فلما التزمتها علمت أنها حبلى وذكرت مريم حالها فقالت امرأة زكريا إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله تعالى مُصَدّقاً بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ ( آل عمران 39 ) الرابع أن النفخة كانت في فيها فوصلت إلى بطنها فحملت في الحال إذ عرفت هذا ظهر أن في الكلام حذفاً وهو وكان أمراً مقضياً فنفخ فيها فحملته
المسألة الثانية قيل حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة وقيل بنت عشرين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل وليس في القرآن ما يدل على شيء من هذه الأحوال
المسألة الثالثة فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي اعتزلت وهو في بطنها كقوله تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ( المؤمنون 20 ) أي تنبت والدهن فيها واختلفوا في علة الإنتباذ على وجوه أحدها ما رواه الثعلبي في ( العرائس ) عن وهب قال إن مريم لما حملت بعيسى عليه السلام كان معها ابن عم لها يقال له يوسف النجار وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون وكان يوسف ومريم يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم في أهل زمانهما أحد أشد اجتهاداً ولا عبادة منهما وأول من عرف حمل مريم يوسف فتحير في أمرها فكلما أراد أن يتهمها ذكر صلاحها وعبادتها وأنها لم تغب عنه ساعة قط وإذا أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر بها من الحمل فأول ما تكلم أنه قال إنه وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على كتمانه فغلبني ذلك فرأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري فقالت قل قولاً جميلاً قال أخبريني يا مريم هل ينبت زرع بغير بذر وهل تنبت شجرة من غير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر قالت نعم ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر وهذا البذر إنما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة أو تقول إن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها فقال يوسف لا أقول هذا ولكني أقول إن الله قادر على ما يشاء فيقول له كن فيكون فقالت له مريم أو لم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى فعند ذلك زالت التهمة عن قلبه وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل وضيق القلب فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن أخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له فلما بلغت تلك البلاد أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة وذلك في زمان برد فاحتضنتها فوضعت عندها وثانيها أنها استحيت من زكريا فذهبت إلى مكان بعيد لا يعلم بها زكريا وثالثها أنها كانت مشهورة في بني إسرائيل بالزهد لنذر أمها وتشاح الأنبياء في تربيتها وتكفل زكريا بها ولأن الرزق كان يأتيها من عند الله تعالى فلما كانت في نهاية الشهرة استحيت من هذه الواقعة فذهبت إلى مكان بعيد لا يعلم بها زكريا ورابعها أنها خافت على ولدها لو ولدته فيما بين أظهرهم واعلم أن هذه الوجوه محتملة وليس في القرآن ما يدل على شيء منها
المسألة الرابعة اختلفوا في مدة حملها على وجوه الأول قول ابن عباس رضي الله عنهما إنها كانت تسعة أشهر كما في سائر النساء بدليل أن الله تعالى ذكر مدائحها في هذا الموضع فلو كانت عادتها في مدة حملها بخلاف عادات النساء لكان ذلك أولى بالذكر الثاني أنها كانت ثمانية أشهر ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى ابن مريم عليه السلام الثالث وهو قول عطاء وأبي العالية والضحاك سبعة أشهر

الرابع أنها كانت ستة أشهر الخامس ثلاث ساعات حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة السادس وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً كانت مدة الحمل ساعة واحدة ويمكن الاستدلال عليه من وجهين الأول قوله تعالى فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ ( مريم 23 ) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ ( مريم 23 ) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا ( مريم 24 ) والفاء للتعقيب فدلت هذه الفاءات على أن كل واحد من هذه الأحوال حصل عقيب الآخر من غير فصل وذلك يوجب كون مدة الحمل ساعة واحدة لا يقال انتباذها مكاناً قصياً كيف يحصل في ساعة واحدة لأنا نقول السدي فسره بأنها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها الثاني أن الله تعالى قال في وصفه إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( آل عمران 59 ) فثبت أن عيسى عليه السلام كما قال الله تعالى له كُنْ فَيَكُونُ وهذا مما لا يتصور فيه مدة الحمل وإنما تعقل تلك المدة في حق من يتولد من النطفة
المسألة الخامسة قَصِيّاً أي بعيد من أهلها يقال مكان قاص وقصي بمعنى واحد مثل عاص وعصي ثم اختلفوا فقيل أقصى الدار وقيل وراء الجبل وقيل سافرت مع ابن عمها يوسف وقد تقدمت هذه الحكاية
المسألة السادسة قال صاحب ( الكشاف ) أجاء منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء فإنك لا تقول جئت المكان وأجاءنيه زيد كما تقول بلغنيه وأبلغته والمعنى أن طلقها ألجأها إلى جذع النخلة ثم يحتمل أنها إنما ذهبت إلى النخلة طلباً لسهولة الولادة للتشبث بها ويحتمل للتقوية والاستناد إليها ويحتمل للتستر بها ممن يخشى منه القالة إذا رآها ولذلك حكى الله عنها أنها تمنت الموت
المسألة السابعة قال في ( الكشاف ) قرأ ابن كثير في رواية المخاض بالكسر يقال مخضت الحامل ومخاضاً وهو تمخض الولد في بطنها
المسألة الثامنة قال في ( الكشاف ) كان جذع نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمر ولا خضرة وكان الوقت شتاء والتعريف إما أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة مشهور عند الناس فإذا قيل جذع النخلة فهم منه ذلك دون سائره وإما أن يكون تعريف الجنس أي إلى جذع هذه الشجرة خاصة كان الله أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو أشد الأشياء موافقة للنفساء ولأن النخلة أقل الأشياء صبراً على البرد ولا تثمر إلا عند اللقاح وإذا قطعت رأسها لم تثمر فكأنه تعالى قال كما أن الأنثى لا تلد إلا مع الذكر فكذا النخلة لا تثمر إلا عند اللقاح ثم إني أظهر الرطب من غير اللقاح ليدل ذلك على جواز ظهور الولد من غير ذكر
المسألة التاسعة لم قالت قَالَتْ يالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَاذَا مع أنها كانت تعلم أن الله تعالى بعث جبريل إليها وخلق ولدها من نفخ جبريل عليه السلام ووعدها بأن يجعلها وابنها آية للعالمين والجواب من وجهين الأول قال وهب أنساها كربة الغربة وما سمعته من الناس ( من ) بشارة الملائكة بعيسى عليه السلام الثاني أن عادة الصالحين إذا وقعوا في بلاء أن يقولوا ذلك وروى عن أبي بكر أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال طوبى لك يا طائر تقع على الشجرة وتأكل من الثمرا وددت أبي ثمرة ينقرها الطائرا وعن عمر أنه أخذ تبنة من

الأرض وقال ليتني هذه التبنة يا ليتني لم أك شيئاً وقال علي يوم الجمل يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة وعن بلال ليت بلال لم تلده أمه فثبت أن هذا الكلام يذكره الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم الثالث لعلها قالت ذلك لكي لا تقع المعصية ممن يتكلم فيها وإلا فهي راضية بما بشرت به
المسألة العاشرة قال صاحب ( الكشاف ) النسي ما من حقه أن يطرح وينسى كخرقة الطمث ونحوها كالذبح اسم ما من شأنه أن يذبح كقوله وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( الصافات 107 ) تمنت لو كانت شيئاً تافهاً لا يؤبه به ومن حقه أن ينسى في العادة وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة نسياً بالفتح والباقون نسياً بالكسر قال الفراء هما لغتان كالوتر والوتر والجسر والجسر وقرأ محمد بن كعب القرظي نسيئاً بالهمزة وهو الحليب المخلوط بالماء ينساه أهله لقلته وقرأ الأعمش منسياً بالكسر على الإتباع كالمغير والمنخر والله أعلم
فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَة ِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى فناداها من تحتها القراءة المشهورة فناداها وقرأ زر وعلقمة فخاطبها وفي الميم فيها قراءتان فتح الميم وهو المشهور وكسره وهو قراءة نافع وحمزة والكسائي وحفص وفي المنادي ثلاثة أوجه الأول أنه عيسى عليه السلام وهو قول الحسن وسعيد بن جبير والثاني أنه جبريل عليه السلام وأنه كان كالقابلة للولد والثالث أن المنادي على القراءة بالكسر هو الملك وعلى القراءة بالفتح هو عيسى عليه السلام وهو مروي عن ابن عيينة وعاصم والأول أقرب لوجوه الأول أن قوله فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا بفتح الميم إنما يستعمل إذا كان قد علم قبل ذلك أن تحتها أحداً والذي علم كونه حاصلاً تحتها هو عيسى عليه السلام فوجب حمل اللفظ عليه وأما القراءة بكسر الميم فهي لا تقتضي كون المنادي جبريل عليه السلام فقد صح قولنا الثاني أن ذلك الموضع موضع اللوث والنظر إلى العورة وذلك لا يليق بالملائكة الثالث أن قوله فناداها فعل ولا بد وأن يكون فاعله قد تقدم ذكره ولقد تقدم قبل هذه الآية ذكر جبريل وذكر عيسى عليهما السلام إلا أن ذكر عيسى أقرب لقوله تعالى فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ ( مريم 22 ) والضمير ههنا عائد إلى المسيح فكان حمله عليه أولى والرابع وهو دليل الحسن بن علي عليه السلام أن عيسى عليه السلام لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق فما كانت تشير إلى عيسى عليه السلام بالكلام فأما من قال المنادي هو عيسى عليه السلام فالمعنى أنه تعالى أنطقه لها حين وضعته تطييباً لقلبها وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد في أول الأمر ما بشرها به جبريل عليه السلام من علو شأن ذلك الولد ومن قال المنادي جبريل عليه السلام قال إنه أرسل إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أول الأمر ليكون ذلك تذكيراً لها بما تقدم من أصناف البشارات وأما

قوله مِن تَحْتِهَا فإن حملناه على الولد فلا سؤال وإن حملناه على الملك ففيه وجهان الأول أن يكونا معاً في مكان مستو ويكون هناك مبدأ معين كتلك النخلة ههنا فكل من كان أقرب منها كان فوق وكل من كان أبعد منها كان تحت وفسر الكلبي قوله تعالى إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ( الأحزاب 10 ) بذلك وعلى هذا الوجه قال بعضهم إنه ناداها من أقصى الوادي والثاني أن يكون موضع أحدهما أعلى من موضع الآخر فيكون صاحب العلو فوق صاحب السفل وعلى هذا الوجه روي عن عكرمة أنها كانت حين ولدت على مثل رابية وفيه وجه ثالث يحكى عن عكرمة وهو أن جبريل عليه السلام ناداها من تحت النخلة ثم على التقديرات الثلاثة يحتمل أن تكون مريم قد رأته وأنها ما رأته وليس في اللفظ ما يدل على شيء من ذلك
المسألة الثانية اتفق المفسرون إلا الحسن وعبد الرحمن بن زيد أن السري هو النهر والجدول سمي بذلك لأن الماء يسري فيه وأما الحسن وابن زيد فجعلا السري عيسى والسري هو النبيل الجليل يقال فلان من سروات قومه أي من أشرافهم وروي أن الحسن رجع عنه وروي عن قتادة وغيره أن الحسن تلا هذه الآية وبجنبه حميد بن عبد الرحمن الحميري قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً فقال إن كان لسرياً وإن كان لكريماً فقال له حميد يا أبا سعيد إنما هو الجدول فقال له الحسن من ثم تعجبنا مجالستك واحتج من حمله على النهر بوجهين أحدهما أنه سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن السري فقال هو الجدول والثاني أن قوله فَكُلِى وَاشْرَبِى يدل على أنه نهر حتى ينضاف الماء إلى الرطب فتأكل وتشرب واحتج من حمله ( على ) عيسى بوجهين الأول أن النهر لا يكون تحتها بل إلى جانبها ولا يجوز أن يجاب عنه بأن المراد منه أنه جعل النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كما في قوله وَهَاذِهِ الاْنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى ( الزخرف 51 ) لأن هذا حمل للفظ على مجازه ولو حملناه على عيسى عليه السلام لم يحتج إلى هذا المجاز الثاني أنه موافق لقوله تعالى وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَة ً وَءاوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَة ٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ( المؤمنون 50 ) والجواب عنه ما تقدم أن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق وكل من كان أبعد منه كان من تحت فرعان الأول إن حملنا السري على النهر ففيه وجهان أحدهما أن جبريل عليه السلام ضرب برجله فظهر ماء عذب والثاني أنه كان هناك ماء جار والأول أقرب لأن قوله قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً مشعر بالحدوث في ذلك الوقت ولأن الله تعالى ذكره تعظيماً لشأنها وذلك لا يثبت إلا على الوجه الذي قلناه الثاني اختلفوا في أن السري هو النهر مطلقاً وهو قول أبي عبيدة والفراء أو النهر الصغير على ما هو قول الأخفش
المسألة الثالثة قال القفال الجذع من النخلة هو الأسفل وما دون الرأس الذي عليه الثمرة وقال قطرب كل خشبة في أصل شجرة فهي جذع وأما الباء في قوله بجذع النخلة فزائدة والمعنى هزي إليك أي حركي جذع النخلة قال الفراء العرب تقول هزه وهز به وخذ الخطام وخذ بالخطام وزوجتك فلانة وبفلانة وقال الأخفش يجوز أن يكون على معنى هزي إليك رطباً بجذع النخلة أي على جذعها إذا عرفت هذا فنقول قد تقدم أن الوقت كان شتاء وأن النخلة كانت يابسة واختلفوا في أنه هل أثمر الرطب وهو على حاله أو تغير وهل أثمر مع الرطب غيره والظاهر يقتضي أنه صار نخلة لقوله بجذع النخلة وأنه ما أثمر إلا الرطب
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) تساقط فيه تسع قراءات تساقط بادغام التاء وتتساقط بإظهار

التاءين وتساقط بطرح الثانية ويساقط بالياء وإدغام التاء وتساقط وتسقط ويسقط وتسقط ويسقط التاء للنخلة والياء للجذع
المسألة الخامسة رطباً تمييز أو مفعول على حسب القراءة الجني المأخوذ طرياً وعن طلحة بن سليمان جنياً بكسر الجيم للأتباع والمعنى جمعنا لك في السري والرطب فائدتين إحداهما الأكل والشرب والثانية سلوة الصدر بكونهما معجزتين فإن قال قائل فتلك الأفعال الخارقة للعادات لمن قلنا قالت المعتزلة إنها كانت معجزة لزكريا وغيره من الأنبياء وهذا باطل لأن زكرياء عليه السلام ما كان له علم بحالها ومكانها فكيف بتلك المعجزات بل الحق أنها كانت كرامات لمريم أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام
المسألة السادسة فكلي واشربي وقري عيناً قرىء بكسر القاف لغة نجد ونقول قدم الأكل على الشرب لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال منها من الدماء ثم قال وقري عيناً وههنا سؤال وهو أن مضرة الخوف أشد من مضرة الجوع والعطش والدليل عليه أمران أحدهما أن الخوف ألم الروح والجوع ألم البدن وألم الروح أقوى من ألم البدن والثاني ما روي أنه أجيعت شاة ثم قدم العلف إليها وربط عندها ذئب فبقيت الشاة مدة مديدة لا تتناول العلف مع جوعها الشديد خوفاً من الذئب ثم كسرت رجلها وقدم العلف إليها فتناولت العلف مع ألم البدن دلت هذه الحكاية على أن ألم الخوف أشد من ألم البدن إذا ثبت هذا فنقول فلم قدم الله تعالى في الحكاية دفع ضرر الجوع والعطش على دفع ضرر الخوف والجواب أن هذا الخوف كان قليلاً لأن بشارة جبريل عليه السلام كانت قد تقدمت فما كانت تحتاج إلى التذكير مرة أخرى
المسألة السابعة قال صاحب ( الكشاف ) قرأ ترئن بالهمزة ابن الرومي عن أبي عمرو وهذا من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمز وحرف اللين في الإبدال صَوْماً صمتاً وفي مصحف عبد الله صمتاً وعن أنس بن مالك مثله وقيل صياماً إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم فعلى هذا كان ذكر الصوم دالاً على الصمت وهذا النوع من النذر كان جائزاً في شرعهم وهل يجوز مثل هذا النذر في شرعنا قال القفال لعله يجوز لأن الاحتراز عن كلام الآدميين وتجريد الفكر لذكر الله تعالى قربة ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق وتعذيب النفس كنذر القيام في الشمس وروي أنه دخل أبو بكر على امرأة قد نذرت أنها لا تتكلم فقال أبو بكر إن الإسلام هدم هذا فتكلمي والله أعلم
المسألة الثامنة أمرها الله تعالى بأن تنذر الصوم لئلا تشرع مع من اتهمها في الكلام لمعنيين أحدهما أن كلام عيسى عليه السلام أقوى في إزالة التهمة من كلامها وفيه دلالة على أن تفويض الأمر إلى الأفضل أولى والثاني كراهة مجادلة السفهاء وفيه أن السكوت عن السفيه واجب ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهاً
المسألة التاسعة اختلفوا في أنها هل قالت معهم إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فقال قوم إنها ما تكلمت معهم بذلك لأنها كانت مأمورة بأن تأتي بهذا النذر عند رؤيتها فإذا أتت بهذا النذر فلو تكلمت معهم بعد ذلك لوقعت في المناقضة ولكنها أمسكت وأومأت برأسها وقال آخرون إنها ما نذرت في الحال بل صبرت حتى أتاها القوم فذكرت لهم إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً وهذه الصيغة وإن

كانت عامة إلا أنها صارت بالقرينة مخصوصة في حق هذا الكلام
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ياأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أنها كيف أتت بالولد على أقوال الأول ما روي عن وهب قال أنساها كرب الولادة وما سمعته من الناس ما كان من كلام الملائكة من البشارة بعيسى عليه السلام فلما كلمها جاءها مصداق ذلك فاحتملته وأقبلت به إلى قومها الثاني ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف انتهى بمريم إلى غار فأدخلها فيه أربعين يوماً حتى طهرت من النفاس ثم أتت به قومها تحمله فكلمها عيسى في الطريق فقال يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه وهذان الوجهان محتملان وليس في القرآن ما يدل على التعيين
المسألة الثانية الفريء البديع وهو من فري الجلد يروى أنهم لما رأوها ومعها عيسى عليه السلام قالوا لها لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً فيحتمل أن يكون المراد شيئاً عجيباً خارجاً عن العادة من غير تعيير وذم ويحتمل أن يكون مرادهم شيئاً عظيماً منكراً فيكون ذلك منهم على وجه الذم وهذا أظهر لقولهم بعده فَرِيّاً ياأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً لأن هذا القول ظاهره التوبيخ وأما هرون ففيه أربعة أقوال الأول أنه رجل صالح من بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح والمراد أنك كنت في الزهد كهرون فكيف صرت هكذا وهو قول قتادة وكعب وابن زيد والمغيرة بن شعبة ذكر أن هرون الصالح تبع جنازته أربعون ألفاً كلهم يسمون هرون تبركاً به وباسمه الثاني أنه أخو موسى عليه السلام وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنما عنوا هرون النبي وكانت من أعقابه وإنما قيل أخت هرون كما يقال يا أخا همدان أي يا واحداً منهم والثالث كان رجلاً معلناً بالفسق فنسبت إليه بمعنى التشبيه لا بمعنى النسبة الرابع كان لها أخ يسمى هرون من صلحاء بني إسرائيل فعيرت به وهذا هو الأقرب لوجهين الأول أن الأصل في الكلام الحقيقة وإنما يكون ظاهر الآية محمولاً على حقيقتها لو كان لها أخ مسمى بهرون الثاني أنها أضيفت إليه ووصف أبواها بالصلاح وحينئذ يصير التوبيخ أشد لأن من كان حال أبويه وأخيه هذه الحالة يكون صدور الذنب عنه أفحش
المسألة الثالثة القراءة المشهورة مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وقرأ عمرو بن رجاء التميمي ( ما كان أباك امرؤ سوء

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66