كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

والقسم الثالث فهو جلوسهم على صفة التقابل والغرض منه استئناس البعض بالبعض فإن قاوا الجلوس على هذا الوجه موحش لأنه يكون كل واحد منهم مطلعاً على ما يفعله الآخر وأيضاً فالذي يقل ثوابه إذا اطلع على حال من يكثر ثوابه يتنغص عيشه قلنا أحوال الآخرة بخلاف أحوال الدنيا
والقسم الرابع أزواجهم فقال كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ الكاف فيه وجهان أن تكون مرفوعة والتقدير الأمر كذلك أو منصوبة والتقدير آتيناهم مثل ذلك قال أبو عبيدة جعلناهم أزواجاً كما يزوج البعل بالبعل أي جلعناهم اثنين اثنين واختلفوا في أن هذا اللفظ هل يدل على حصول عقد التزويج أم لا قال يونس قوله وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ أي قرناهم بهن فليس من عقد التزويج والعرب لا تقول تزوجت بها وإنما تقول تزوجتها قال الواحدي رحمه لله والتنزيل يدل على ما قال يونس وذلك قوله فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ( الأحزاب 37 ) ولو كان المراد تزوجت بها زوجناك بها وأيضاً فقول القائل زوجته به معناه أنه كان فرداً فزوجته بآخر كما يقال شفعته بآخر وأما الحور فقال الواحدي أصل الحور بياض والتحوير التبييض وقد ذكرنا ذلك في تفسير الحوارين وعين حوراء إذا اشتد بياض بياضها واشتد سواد سوادها ولا تسمى المرأة حوراء حتى يكون حور عينهيا بياضاً في لون الجسد والدليل على أن المراد بالحور في هذه الآية البيض قراءة ابن مسعود بعيس عين والعيس البيض وأما العين فجمع عيناء وهي التي تكون عظيمة العينين في النساء فقال الجبائي رجل أعين إذا كان ضخم العين واسعها والأنثى عيناء والجمع عين ثم اختلفوا في هؤلاء الحور العين فقال الحسن هن عجائزكم الدرد ينشئهن الله خلقاً آخر وقال أبو هريرة إنهن ليسوا من نساء الدنيا
والنوع الخامس من تنعمات أهل الجنة المأكول فقال يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَة ٍ ءامِنِينَ قالوا إنهم يأكلون جميع أنواع الفاكهة لأجل أنهم آمنون من التخم والأمراض
ولما وصف الله تعالى أنواع ما هم فيه من الخيرات والراحات بين أن حياتهم دائمة فقال لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَة َ الاْولَى وفيه سؤالان
السؤال الأول أنهم ما ذاقوا الموتة الأولى في الجنة فكيف حسن هذا الاستثناء وأجيب عنه من وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) أريد أن يقال لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع قوله إِلاَّ الْمَوْتَة َ الاْولَى موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل إن كانت الموتة الأولى يمكن ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها الثاني أن إلا بمعنى لكن والتقدير لا يذوقون فيها الموت لكن الموتة الأولى قد ذاقوها والثالث أن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس وفرحها بمعرفة الله تعالى وبطاعته ومحبته وإذا كان الأمر كذلك فإن الإنسان الذي فاز بهذه السعادة فهو في الدنيا في الجنة وفي الآخرة أيضاً في الجنة وإذا كان لأمر كذلك فقد وقعت الموتة الأولى حين كان الإنسان في لجنة الحقيقية التي هي جنة المعرفة بالله ولمحبة فذكر هذا الاستثناء كالتنبيه على قولنا إن الجنة الحقيقية هي حصول هذه الحالة لا الدار التي هي دار الأكل والشرب ولهذا السبب قال عليه السلام ( أنبياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار ) والرابع أن من جرب شيئاً ووقف عليه صح أن يقال إنه ذاقه وإذا صح أن يسمى العلم بالذوق صح أن يسمى تذكره أيضاً بالذوق فقوله لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَة َ الاْولَى يعني إلا الذوق

الحاصل بسبب تذكر الموتة الأولى
السؤال الثاني أليس أن أهل النار أيضاً لا يموتون فلم بشر أهل الجنة بهذا مع أهل النار يشاركونهم فيه والجواب أن البشارة ما وقعت بدوام الحياة مع سابقة حصول تلك الخيرات والسعادات فظهر الفرق
ثم قال تعالى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ قرىء ووقاهم بالتشديد فإن قالوا مقتضى الدليل أن يكون ذكر الوقاية عن عذاب الجحيم متقدمً على ذكر الفوز بالجنة لأن الذي وقى عن عذاب الجحيم قد يفوز وقد لا يفوز فإذا ذكر بعده أنه قاز بالجنة حصلت الفائدة أما الذي فاز بخيرات الجنة فقد تخلص عن عقاب الله لا محالة فلم يكن ذكر الفوم عن عذاب جهنم بعد الفوز بثواب الجنة مفيداً قلنا التقدير كأنه تعالى قال ووقاهم في أول الأمر عن عذاب الجحيم
ثم قال الْجَحِيمِ فَضْلاً مّن رَّبّكَ يعني كل ما وصل إليه المتقون من الخلاص عن النار والفوز بالجنة فإنما يحصل بتفضل الله واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الثواب يحصل تفضلاً من الله تعالى لا بطريق الاستحقاق لأنه تعالى لما عدد أقسام ثواب المتقين بين أنها بأسرها إنما حصلت على سبيل الفضل والإحسان من الله تعالى قال القاضي أكثر ههذ الأشياء وإن كانوا قد استحقوه بعملهم فهو بفضل الله لأنه تعالى تفضل بالتكليف وغرضه منه أن يصيرهم إلى هذه المنزلة فهو كمن أعطى غيره مالاً ليصل به إلى ملك ضيعة فإنه يقال في تلك الضيعة إنها من فضله قلنا مذهبك أن هذا الثواب حق لازم على الله وإنه تعالى لو أخل به لصار سفيهاً ولخرج به عن الإلهية فكيف يمكن وصف مثل هذا الشيء بأنه فضل من الله تعالى
ثم قال تعالى ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن التفضيل أعلى درجة من الثواب المستحق فإنه تعالى وصفه بكونه فضلاً من الله ثم وصف الفضل من الله بكونه فوزاً عظيماً ويدل عليه أيضاً أن الملك العظيم إذا أعطى الأجير أجرته ثم خلع على إنسان آخر فإن تلك الخلعة أعلى حالاً من إعطاء تلك الأجرة ولما بين الله تعالى الدلائل وشرح الوعد والوعيد قال فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ والمعنى أنه تعالى وصف القرآن في أول هذه السورة بكونه كتاباً مبيناً أي كثير البيان والفائدة وذكر في خاتمتها ما يؤكد ذلك فقال إن ذلك الكتاب المبين الكثير الفائدة إنما يسرناه بلسانك أي إنما أنزلنا عربياً بلغتك لعلّهم يتذكرون قال القاضي وهذا يدل على أنه أراد من الكل الإيمان والمعرفة وأنه ما أراد من أحد الكفر وأجاب أصحابنا أن الضمير في قوله لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ عائد إلى أقوام مخصوصين فنحن نحمل ذلك على المؤمنين
ثم قال فَارْتَقِبْ أي فانتظر ما يحل بهم إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ ما يحل بك متربصون بك الدوائر والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى تم تفسير هذه السورة ليلة الثلاثاء في نصف الليل الثاني عشر من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة يا دائم المعروف يا قديم الإحسان شهد لك إشراق العرش وضوء الكرسي ومعارج السموات وأنوار الثوابت والسيارات على منابرها المتوغلة في العلو الأعلى ومعارجها المقدسة عن غبار عالم الكون والفساد بأن الأول الحق الأزلي لا يناسبه شيء من علائق العقول وشوائب

الخواطر ومناسبات المحدثات فالقمر بسبب محوه مقر بالنقصان والشمس بشهادة المعارج بتغيراتها معترفة بالحاجة إلى تدبير الرحمن والطبائع مقهورة تحت القدرة القاهرة فالله في غيبيات المعارج العالية والمتغيرات شاهدة بعدم تغيره والمتعاقبات ناطقة بدوام سرمديته وكل ما نوجه عليه أنه مضى وسيأتي فهو خالقه وأعلى منه فبجوده الوجود وإيجاد وبإعدامه الفناء والفساد وكل ما سواه فهو تائه في جبروته نائر عند طلوع نور ملكوته وليس عند عقول الخلق إلا أنه بخلاف كل الخلق له العز والجلال والقدرة والكمال والجود والإفضال ربنا ورب مبادينا إياك نروم ولك نصلي ونصوم وعليك المعول وأنت المبدأ الأول سبحانك سبحانك

الجاثية
ثلاثون وسبع آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض لاّيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّة ٍ ءَايَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ءّايَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تَلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَى ِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله دحم تنزيل الكتاب وجوهاً الأول أن يكون وجوهاً الأول أن يكون حم مبتدأ و تَنزِيلُ الْكِتَابِ خبره وعلى هذا التقدير فلا بد من حذف مضاف والتقدير تنزيل حم تنزيل الكتاب و مِنَ اللَّهِ صلة للتنزيل الثاني أن يكون قوله حم في تقدير هذه حم ثم نقول تَنزِيلُ الْكِتَابِ واقع من الله العزيز الحكيم الثالث أن يكون حم قسماً أُمُّ الْكِتَابِ نعتاً له وجواب القسم إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ والتقدير وحم الذي هو تنزيل الكتاب أن الأمر كذا وكذا
المسألة الثانية قوله العَزِيزُ الحَكِيمُ يجوز جعلهما صفة للكتاب ويجوز جعلهما صفة لله تعالى إلا أن هذا الثاني أولى ويدل عليه وجوه الأول أنا إذا جعلناهما صفة لله تعالى كان ذلك حقيقة وإذا جعلناهما صفة للكتاب كان ذلك مجازاً والحقيقة أولى من المجاز الثاني أن زيادة القرب توجب

الرجحان الثالث أنا إذا جعلنا العزيز الحكيم صفة لله كان ذلك إشارة إلى الدليل الدال على أن الفرآن حق لأن كونه عزيزاً يدل على كونه قادراً على كل الممكنات وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات ويحصل لنا من مجموع كونه تعالى عزيزاً حكيماً كونه قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات وكل ما كان كذلك امتنع منه صدور العبث والباطل وإذا كان كذلك كان ظهور المعجز دليلاً على الصدق فثبت أنا إذا جعلنا كونه عزيزاً حكيماً صفتين لله تعالى يحصل منه هذه الفائدة وأما إذا جعلناهما صفتين للكتاب لم يحصل منه هذه الفائدة فكان الأول أولى والله أعلم
ثم قال تعالى إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لاَيَاتٍ لّلْمُؤْمِنِينَ وفيه مباحث
البحث الأول أن قوله إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لاَيَاتٍ يجوز إجراؤه على ظاهره لأنه حصل في ذوات السموات والأرض أحوال دالة على وجود الله تعالى مثل مقاديرها وكيفياتها وحركاتها وأيضاً الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار موجودة في السموات والأرض وهي آيات ويجوز أن يكون المعنى إن في خلق السموات والأرض كما صرّح به في سورة البقرة في قوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( البقرة 164 ) وهو يدل على وجود القادر المختار في تفسير قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 1 )
البحث الثاني قد ذكرنا الوجوه الكثيرة في دلالة السموات والأرض على وجود الإله القادر المختار في تفسير قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ولا بأس بإعادة بعضها فنقول إنها تدل على وجود الإله من وجوه الأول أنها أجسام لا تخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فهذه الأجسام حادثة وكل حادث فله محدث الثاني أنها مركبة من الأجزاء وتلك الأجزاء متماثلة لما بينا أن الأجسام متماثلة وتلك الأجزاء وقع بعضها في العمق دون السطح وبعضها في السطح دون العمق فيكون وقوع كل جزء في الموضع الذي وقع فيه من الجائزات وكل جائز فلا بد له من مرجح ومخصص الثالث أن الأفلاك والعناصر مع تماثلها في تمام الماهية الجسمية اختص كل واحد منها بصفة معينة كالحرارة والبرودة واللطافة والكثافة الفلكية والعنصرية فيكون ذلك أمراً جائزاً ولا بد لها من مرجح الرابع أن أجرام الكواكب مختلفة في الألوان مثل كمودة زحل وبياض المشتري وحمرة المريخ والضوء الباهر للشمس ودرية الزهرة وصفرة عطارد ومحو القمر وأيضاً فبعضها سعيدة وبعضها نحسة وبعضها نهاري ذكر وبعضها ليلي أنثى وقد بينا أن الأجسام في ذواتها متماثلة فوجب أن يكون اختلاف الصفات لأجل أن الإله القادر المختار خصص كل واحد منها بصفته المعينة الخامس أن كل فلك فإنه مختص بالحركة إلى جهة معينة ومختص بمقدار واحد من السرعة والبطء وكل ذكل أيضاً من الجائزات فلا بد من الفاعل المختار السادس أن كل فلك مختص بشيء معين وكل ذلك أيضاً من الجائزات فلا بد من الفاعل المختار وتمام الوجوه مذكور في تفسير تلك الآيات
البحث الثالث قوله لاَيَاتٍ لّلْمُؤْمِنِينَ يقتضي كون هذه الآيات مختصة بالمؤمنين وقالت المعتزلة إنها آيات للمؤمن والكافر إلا أنه ملا انتفع

بها المؤمن دون الكافر أضيف كونها آيات إلى المؤمنين ونظيره قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) فإنه هدى ً لكل الناس كما قال تعالى هُدًى لّلنَّاسِ ( البقرة 185 ) إلا أنه لما انتفع بها المؤمن خاصة لا جرم قيل هُدًى لّلْمُتَّقِينَ فكذا ههنا وقال الأصحاب الدليل والآية هو الذي يترتب على معرفته حصول العلم وذلك العلم إنما يحصل بخلق الله تعالى لا بإيجاب ذلك الدليل والله تعالى إنما خلق ذلك العلم للمؤمن لا للكافر فكان ذلك آية دليلاً في حق المؤمن لا في حق الكافر والله أعلم
ثم قال تعالى وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّة ٍ ءايَاتٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وفيه مباحث
البحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) قوله وَمَا يَبُثُّ عطف على الخلق المضاف لا على الضمير المضاف إليه لأن المضاف ضمير متصل مجرور والعطف عليه مستقبح فلا يقال مررت بك وزيد ولهذا طعنا في قراءة حمزة تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ( النساء 1 ) بالجر في قوله وَالاْرْحَامَ وكذلك إن الذيثن استقبحوا هذا العطف فلا يقولون مررت بك أنت وزيد
البحث الثاني قرأ حمزة الكسائي ءايَاتُ بكسر التاء وكذلك الذي بعده وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ ءايَاتٌ والباقون بالرفع فيهما أما الرفع فمن وجهين ذكرهما المبرد والزجاج وأبو علي أحدهما العطف على موضع إن وما عملت فيه لأن موضعهما رفع بالابتداء فيحمل الرفع فيه على الموضع كما تقول إن زيداً منطلق وعمر و أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ( التوبة 3 ) لأن معنى قوله أَنَّ اللَّهَ بَرِىء أن يقول الله برىء من المشركين ورسوله والوجه الثاني أن يكون قوله وَفِى خَلْقِكُمْ مستأنفاً ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة أخرى كما تقول إن زيداً منطلق وعمرو كاتب جعلت قولك وعمرو كاتب كلاماً آخر كما تقول زيد في الدار وأخرج غداً إلى بلد كذا فإنما حدثت بحديثين ووصلت أحدهما بالآخر بالواو وهذا الوجه هو اختيار أبي الحسن والفراء وأما وجه القراءة بالنصب فهو بالعطف على قوله إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ على معنى وإن في خلقكم لآيات ويقولون هذه القراءة إنها في قراءة أُبي وعبد الله لاَيَاتٍ ودخول اللام يدل على أن الكلام محمول على إن
البحث الثالث قوله وَفِى خَلْقِكُمْ معناه خلق الإنسان وقوله وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّة ٍ إشارة إلى خلق سائر الحيوانات ووجه دلالتها على وجود الإله القادر المختار أن الأجسام متساوية فاختصاص كل واحد من الأعضاء بكونه المعين وصفته المعينة وشكله المعين لا بد وأن يكون بتخصيص القادر المختار ويدخل في هذا الباب انتقاله من سن إلى سن آخر ومن حال إلى حال آخر والاستقصاء في هذا الباب قد تقدم
ثم قال تعالى وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وهذا الاختلاف يقع على وجوه أحدها تبدل النهار بالليل وبالضد منه وثانيها أنه تارة يزداد طول النهار على طول الليل وتارة بالعكس وبمقدار ما يزداد في النهار الصيفي يزداد في الليل الشتوي وثالثها اختلاف مطالع الشمس في أيام السنة
ثم قال تعالى وَمَا أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مَّن رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وهو يدل على القول بالفاعل المختار من وجوه أحدها إنشاء السحاب وإنزال المطر منه وثانيها تولد النبات من تلك الحبة الواقعة في الأرض وثالثها تولد الأنواع المختلفة وهي ساق الشجرة وأغصانها وأوراقها وثمارها ثم تلك الثمرة منها ما يكون القشر محيطاً باللب كالجوز واللوز ومنها ما يكون اللب محيطاً بالقشر كالمشمش والخوخ ومنها ما يكون خالياً من القشر كالتين فتولد أقسام النبات على كثرة أصنافها وتباين أقسامها يدل على صحة القول بالفاعل المختار الحكيم الرحيم

ثم قال وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وهي تنقسم إلى إقسام كثيرة بحسب تقسيمات مختلفة فمنها المشرقية والمغربية والشمالية والجنوبية ومنها الحارة والباردة ومنها الرياح النافعة والرياح الضارة ولما ذكر الله تعالى هذه الأنواع الكثيرة من الدلائل قال إنها آيات لقوم يعقلون
واعلم أن الله تعالى جمع هذه الدلائل في سورة البقرة فقال إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا ( البقرة 164 ) فذكر الله تعالى هذه الأقسام الثمانية من الدلائل والتفاوت بين الموضعين من وجوه الأول أنه تعالى قال في سورة البقرة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وقال ههنا إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ والصحيح عند أصحابنا أن الخلق عين المخلوق وقد ذكر لفظ الخلق في سورة البقرة ولم يذكره في هذه السورة تنبيهاً على أنه لا يتفاوت بين أن يقال السموات وبين أن يقال خلق السموات فيكون هذا دليلاً على أن الخلق عين المخلوق الثاني أنه ذكر هناك ثمانية أنواع من الدلائل وذكر ههنا ستة أنواع وأهمل منها الفلك والسحاب والسبب أن مدار حركة الفلك والسحاب على الرياح المختلفة فذكر الرياح الذي هو كالسبب يغني عن ذكرهما والتفاوت الثالث أنه جمع الكل وذكر لها مقطعاً واحداً وههنا رتبها على ثلاثة مقاطع والغرض التنبيه على أنه لا بد من إفرادكلواحد منها بنظر تام شاف الرابع أنه تعالى ذكر في هذا الموضوع ثلاثة مقاطع أولها يؤمنون وثانيها يوقنون وثالثها يعقلون وأظن أن سبب هذا الترتيب أنه قيل إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين بل أنتم من طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل وإن منتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل واعلم أن كثيراً من الفقهاء يقولون إنه ليس في القرآن العلوم التي يبحث عنها المتكلمون بل ليس فيه إلا ما يتعلق بالأحكام والفقه وذلك غفلة عظيمة لأنه ليس في القرآن سورة طويلة منفردة بذكر الأحكام وفيه سور كثيرة خصوصاً المكيات ليس فيها إلا ذكر دلائل التوحيد والنبوّة والبعث والقيامة وكل ذلك من علوم الأصوليين ومن تأمل علم أنه ليس في يد علماء الأصول إلا تفصيل ما اشتمل القرآن عليه على سبيل الإجمال
ثم قال تعالى تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ والمراد من قوله بِالْحَقّ هو أن صحتها معلومة بالدلائل العقلية وذلك لأن العلم بأنها حقة صحيحة إما أن يكون مستفاداً من النقل أو العقل والأول باطل لأن صحة الدلائل النقلية موقوفة على سبق العلم بإثبات الإله العالم القادر الحكيم وبإثبات النبوّة وكيفية دلالة المعجزات على صحتها فلو أثبتنا هذه الأصول بالدلائل النقلية لزم الدور وهو باطل ولما بطل هذا ثبت أن العلم بحقيقة هذه الدلائل لا يمكن تحصيله إلا بمحض العقل وإذا كان كذلك كان قوله تِلْكَ ءايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ ومن أعظم الدلائل على الترغيب في علم الأصول وتقرير المباحث العقلية
ثم قال تعالى تَلْكَ ءايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ يعني أن لم ينتفع بهذه الآيات فلا شيء بعده يجوز أن ينتفع به وأبطل بهذا قول من يزعم أن التقليد كاف وبين أنه يجب على المكلف التأمل في دلائل دين الله وقوله يُؤْمِنُونَ قرىء بالياء والتاء واختار أبو عبيدة الياء لأن قبله غيبة وهو قوله لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ

و لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإن قيل إن في أول الكلام خطاباً وهو قوله وَفِى خَلْقِكُمْ قلنا الغيبة التي ذكرنا أقرب إلى الحرف المختلف فيه والأقرب أولى ووجه قول من قرأ على الخطاب أن قل فيه مقدر أي قل لهم فبأي حديث بعد ذلك تؤمنون
وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ ءَايَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هَاذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بيّن الآيات للكفار وبين أنهم بأي حديث يؤمنون إذا لم يؤمنوا بها مع ظهورها أتبعه بوعيد عظيم لهم فقال وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ الأفاك الكذب والأثيم المبالغ في اقتراف الآثام واعلم ن هذا الأثيم له مقامان
المقام الأول أن يبقى مصراً على الإنكار والاستكبار فقال تعالى يَسْمَعُ ءايَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ أي يقيم على كفره إقاملاة بقوة وشدة مستكراً عن الإيمان بالآيات معجباً بما عنده قيل نزلت في النضر بن الحرث وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن والآية عامة في كل من كان موصوفاً بالصفة المذكورة فإن قالوا ما معنى ثم في قوله عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً قلنا نظيره قوله تعالى الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إلى قوله ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ ( الأنعام 1 ) ومعناه أنه تعالى لما كان خالقاً للسموات والأرض كان من المستبعد أن يقابل بالإنكار والإعراض
ثم قال تعالى كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا الأصل كأنه لم يسمعها ضمير الشأن ومحل الجملة النصب على الحال أي يصير مثل غير السامع
المقام الثاني أن ينتقل من مقام الإصرار والاستكبار إلى مقام الاستهزاء فقال وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءايَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً وكان من حق الكلام أن يقال اتخذه خزواً أي اتخذ ذلك الشيء هزواً إلا أنه تعالى قال اتَّخَذَهَا للإشعار بأن هذا الرجل إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله تعالى على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بذلك الواحد

ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ أولئك إشارة إلى كل أفاك أثيم لشموله جميع الأفاكين ثم وصف كيفية ذلك العذاب المهين فقال مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ أي من قدامهم جهنم قال صاحب ( الكشاف ) الوراء اسم للجهة التي توارى بها الشخص من خلف أو قدام ثم بيّن أن ما ملكوه في الدنيا لا ينفعهم فقال وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً
ثم بيّن أن أصنامهم لا تنفعهم فقال وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء
ثم قال وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ فإن قالوا إنه قال قبل هذه الآية لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ فما الفائدة في قوله بعده وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ قلنا كون العذاب مهيناً يدل على حصول الإهانة مع العذاب وكونه تظيماً يدل على كونه بالغاً إلى أقصى الغايات في كونه ضرراً
ثم قال هَاذَا هُدًى أي كامل في كونه هدى ً وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ رَبّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ والرجز أشد العذاب بدلالة قوله تعالى فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ السَّمَاء ( القرة 59 ) وقوله لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ ( الأعراف 134 ) وقرىء أَلِيمٌ بالجر والرفع أما الجر فتقديره لهم عذاب من عذاب أليم وإذاكان عذابهم من عذاب أليم كان عذابهم أليماً ومن رفع كان المعنى له عذاب أليم ويكون المراد من الرجز الرجس الذي هو النجاسة ومعنى النجاسة فيه قوله وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ ( إبراهيم 16 ) وكأن المعنى لهم عذاب من تجرع رجس أو شرب رجس فتكون من تبييناً للعذاب
اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِى َ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِى َ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
اعلم أنه تعالى ذكر الاستدلال بكيفية جريان الفلك على وجه البحر وذلك لا يحصل إلا بسبب تسخير ثلاثة أشياء أحدها الرياح التي تجري على وفق المراد ثانيها خلق وجه الماء على الملاسة التي تجري عليها الفلك ثالثها خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تغوص فيه
وهذه الأحوال الثلاثة لا يقدر عليها واحد من البشر فلا بد من موجد قادر عليها وهو الله سبحانه وتعالى وقوله وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ معناه إما بسبب التجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان أو لأجل استخراج اللحم الطري

ثم قال تعالى وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ والمعنى لولا أن الله تعالى أوقف أجرام السموات والأرض في مقارها وأحيازه لم حصل الانتفاع لأن بتقدير كون الأرض هابطة أو صاعدة لم يحصل الانتفاع بها وبتقدير كون الأرض من الذهب والفضة أو الحديد لم يحصل الانتفاع وكل ذلك قد بيناه فإن قيل ما معنى مِنْهُ في قوله جَمِيعاً مّنْهُ قلنا معناه أنها وقعة موقع الحال والمعنى أنه سخّر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه تعالى مكونها وموجودها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه قال صاحب ( الكشاف ) قرأ سلمة بن محارب منه على أن يكون منه فعل سخر على الإسناد المجازي أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذلك منه أو هو منه
واعلم أنه تعالى لم علم عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة أتبع ذلك بتعليم الأخلاق الفاضلة والأفعال الحميدة بقوله قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ والمراد بالذين لا يرجون أيام الله الكفار واختلفوا في سبب نزول الآية قال ابن عباس قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يعني عمر يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ يعني عبد لله بن أُبي وذلك أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال لها المريسيع فأرسل عبد الله غلامة ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له ما حبسك قال غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحد يستقي حتى ملأ قرب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقرب أبي بكر وملأ لمولاه فقال عبد الله ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك فبلغ قوله عمر فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله هذه الآية وقال مقاتل شتم رجل من كفار قريش عمر بمكة فهم أن يبطش به فأمر الله بالعفو والتجاوز وأنزل هذه الآية
وروى ميمون بن مهران أن فنحاص اليهودي لما أنزل قوله مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ( البقرة 245 ) قال احتاج رب محمد فسمع بذلك عمر فاشتمل على سيفه وخرج في طلبه فبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في طلبه حتى رده وقوله لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ قال ابن عباس لا يرجون ثواب الله ولا يخافون عقابه ولا يخشون مثل عقاب الأمم الخالية وذكرنا تفسير أيام الله عند قوله وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ( إبراهيم 5 ) وأكثر المفسرين يقولون إنه منسوخ وإنما قالوا ذلك لأنه يدخل تحت الغفران أو لا يقتلوا فما أمر الله بهذه المقاتلة كان نسخاً والأقرب أن يقل إنه محمول على ترك المنازعة في المحقرات على التجاوز عما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية والأفعال الموحشة
ثم قال تعالى لِيَجْزِى َ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أي لكي يجازي بالمغفرة قوماً يعملون الخير قإن قيل ما الفائدة في التنكير في قوله بَعْدَهَا قَوْماً مع أن المراد بهم هم المؤمنون المذكورون في قوله قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ قلنا التنكير يدل على تعظيم شأنهم كأنه قيل ليجزي قوماً وأي قوم من شأنهم الصفح عن السيئات والتجاوز عن المؤذيات وتحمل الوحشة وتجرع المكروه وقال آخرون معنى الآية قل للمؤمنين يتجاوزوا عن الكفار ليجزي الله الكفار بما كانوا يكسبون من الإثم كأنه قيل لهم لا تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن ثم ذكر الحكم العام فقال مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وهو مثل ضربه الله للذين يغفرون وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا مثل ضربه للكفار الذين كانوا يقدمون على إيذاء الرسول والمؤمنين وعلى ما لا يحل فبيّن تعالى أن العمل الصالح يعود بالنفع العظيم على فاعله والعمل الردىء يعود بالضرر على فاعله وأنه تعالى أمر بهذا ونهى عن ذلك لحظ العبد لا لنفع يرجع إليه وهذ ترغيب منه في العمل الصالح وزجر عن العمل الباطل

وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ وَءاتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الاٌّ مْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بِيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَة ٍ مِّنَ الاٌّ مْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِى ُّ الْمُتَّقِينَ هَاذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
اعلم أنه تعالى بيّن أنه أنعم بنعم كثيرة على بني إسرائيل مع أنه حصل بينهم الاختلاف على سبيل البغي والحسد والمقصود أن يبين أن طريقة قومه كطريقة من تقدم
واعلم أن النعم على قسمين نعم الدين ونعم الدنيا ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا فلهذا بدأ الله تعالى بذكر نعم الدين فقل وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إِسْراءيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ والأقرب أن كل واحد من هذه الثلاثة يجب أن يكنن مغايراً لصاحبه أما الكتاب فهو التوراة وأما الحكم ففيه وجوه يجوز أن يكون المراد العلم والحكمة ويجوز أن يكون المراد العلم بفصل الحكومات ويجوز أن يكون المراد معرفة أحكام الله تعالى وهو علم الفقه وأما النبوة فمعلومة وأما نعم الدنيا فهي المراد من قوله تعالى وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ وذلك لأنه تعالى وسع عليهم في الدنيا فأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم ثم أنزل عليهم المن والسلوى ولما بيّن تعالى أنه أعطاهم من نعم الدين ونعم الدنيا نصيباً وافراً قال وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ يعني أنهم كانوا أكبر درجة وأرفع منقبة ممن سواهم في وقتهم فلهذا المعنى قال المفسرون المراد وفضلناهم عن عالمي زمانهم
ثم قال تعالى وَءاتَيْنَاهُم بَيّنَاتٍ مّنَ الاْمْرِ وفيه وجوه الأول أنه آتاهم بينات من الأمر أي أدلة على أمور الدنيا الثاني قال ابن عباس يعني بيّن لهم من أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه يهاجر من تهامة إلى يثرب ويكون أنصاره أهل يثرب الثالث المراد وَءاتَيْنَاهُم بَيّنَاتٍ أي معجزات قاهرة على صحة نبوتهم والمراد

معجزات موسى عليه السلام
ثم قال تعالى فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وهذا مفسر في سورة حم عسق ( الشورى 1 2 ) والمقصود من ذكر هذا الكلام التعجب من هذه الحالة لأن حصول العم يوجب ارتفاع الخلاف وههنا صار مجيء العلم سبباً لحصول الاختلاف وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم وإنما المقصود منه طلب الرياسة والتقدم ثم ههنا احتمالات يريد أنهم علموا ثم عاندوا ويجوز أن يريد بالعلم الدلالة التي توصل إلى العلم والمعنى أنه تعالى وضع الدلائل والبينات التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق لكنهم على وجه الحسد والعناد اختلفوا وأظهروا النزاع
ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ والمرد أنه لا ينبغي أن يغتر المبطل بنعم الدنيا فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها فإنه سيرى في الآخرة ما يسؤوه وذلك كالزجر لهم ولما بيّن تعالى أنهم أعرضوا عن الحق لأجل البغي والسحد أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يعدل عن تلك الطريقة وأن يتمسك بالحق وأن لا يكون له غرض سوى إظهار الحق وتقرير الصدق فقال تعالى ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَة ٍ مّنَ الاْمْرِ أي على طريقة ومنهاج من أمر الدين فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل والبينات ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال وأديانهم المبنية على الأهواء والجهل قال الكلبي إن رؤساء قريش قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو بمكة ارجع إلى ملة آبائك فهم كانوا أفضل منك وأسن فأنزل الله تعالى هذه الآية
ثم قال تعالى إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة فصرت مستحقاً للعذاب فهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك ثم بيّن تعالى أن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا وفي الآخرة ولا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب وأما المتقون لامهتدون فالله وليهم وناصرهم وهم موالوه وما أبين الفرق بين الولايتين ولما بيّن الله تعالى هذه البيانات الباقية النافعة قال هَاذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وقد فسرناه في آخر سورة الأعراف والمعنى هذا القرآن بصائر للناس جعل ما فيه من البيانات الشافية والبينات الكافية بمنزلة البصائر في القلوب كما جعل في سائر الآيات روحاً وحياة وهو هدى من الضلالة ورحمة من العذاب لمن آمن وأيقن ولم بيّن لله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه الذي تقدم بيّن الفرق بينهما من وجه آخر فقال مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا وفيه مباحث
البحث الأول أَمْ كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على شيء آخر سواء كان ذلك المعطوف مذكوراً أو مضمراً والتقدير ههنا أفيعلم المشركون هذا أم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين
البحث الثاني الاجتراح الاكتساب ومنه الجوارح وفلان جارحة أهله أي كاسبهم قال تعالى وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ( الأنعام 60 )
البحث الثالث قال الكلبي نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم وفي ثلاثة من المشركين عتبة وشيبة والوليد بن عتبة قالوا للمؤمنين وا ما أنتم على شيء ولو كان ما

تقولون حقاً لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما أنا أفضل حالاً منكم في الدنيا فأنكر الله عليهم هذا الكلام وبيّن أنه لا يمكن أن يكون حال لمؤمن المطيع مساوياً لحال الكافر العاصي في درجات الثواب ومنازل السعادات
واعلم أن لفظ حَسِبَ يستدعي مفعولين أحدهما الضمير المذكور في قوله أَن نَّجْعَلَهُمْ والثاني الكاف في قوله كَالَّذِينَ ءامَنُواْ والمعنى أحسب هؤلاء المجترحين أن نجعلهم أمثال الذين آمنوا ونظيره قوله تعالى أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ( السجدة 18 ) وقوله إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاْشْهَادُ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَة ُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ ( غافر 51 52 ) وقوله تعالى أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( القلم 35 36 ) وقوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 )
ثم قال تعلى سَوَاء مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم صواء بالنصب والباقون بالرفع واختيار أبي عبيد النصب أما وجه القراءة بالرفع فهو أن قوله سَوَاء مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ مبتدأ والجملة في حكم المفرد في محل النصب على البدل من المفعول الثاني لقوله أَمْ نَجْعَلُ وهو الكاف في قوله كَالَّذِينَ ءامَنُواْ ونظيره قوله ظننت زيداً أبوه منطلق وأما وجه القراءة بالنصب فقال صاحب ( الكشاف ) أجرى سواء مجرى مستوياً فارتفع محياهم ومماتهم على الفاعلية وكان مفرداً غير جملة ومن قرأ وَمَمَاتُهُمْ بالنصب جعل مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ظرفين كمقدم الحاج وخفوق النجم أي سواء في محياهم وفي مماتهم قال أبو علي من نصب سواء جعل المحيا والممات بدلاً من الضمير المنصوب في نجعلهم فيصير التقدير أن نجعله ( محياهم ومماتهم سواء قال ويجوز أن نجعله حالاً ويكون المفعول الثاني هو الكاف في قوله كَالَّذِينَ
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بقوله مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ قال مجاهد عن ابن عباس يعني أحسبوا أن حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم كلا فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين وذلك لأن المؤمن ما دام يكون في الدينا فإنه يكون وليه هو الله وأنصاره المؤمنون وحجة الله معه والكافر بالضد منه كما ذكره في قوله وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وعند القرب إلى الموت فإن حال المؤمن ما ذكره في قوله تعالى الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ ( النمل 32 ) وحال الكافر ما ذكره في قوله الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ( النحل 28 ) وأما في القيامة فقال تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ ( عبس 38 41 ) فهذا هو الإشارة إلى بيان وقوع التفاوت بين الحالتين والوجه الثاني في تأويل الآية أن يكون المعنى إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة وذلك لأن المؤمن والكافر قد يستوي محياهم في الصحة والرزق والكفاية بل قد يكون الكافر أرجح حالاً من المؤمن وإنما يظهر الفرق بينهما في الممات والوجه الثالث في التأويل أن قوله سَوَاء مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ مستأنف على معنى أن نحيا المسيئين ومماتهم سواء فكذلك محيا المسحنين ومماتهم أي كل يموت على حسب ما عاش عليه ثم إنه تعالى صرح بإنكار تلك التسوية فقال سَاء مَا يَحْكُمُونَ وهو ظاهر

وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ والأرض بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَة ً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَقَالُواْ مَا هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِأابَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم إنه تعالى لما أفتى بأن المؤمن لا يساوي الكافر في درجات السعادات أتبعه بالدلالة الظاهرة على صحة هذه الفتوى فقال وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ ولو لم يوجد البحث لما كان ذلك بالحق بل كان بالباطل لأنه تعالى لما خلق الظالم وسلّطه على المظلوم الضعيف ثم لا ينتقم للمظلوم من الظالم كان ظالماً ولو كان ظالماً لبطل أنه خلق السموات والأرض بالحق وتمام تقرير هذه الدلائل مذكور في أول سورة يونس قال القاضي هذه الآية تدل على أن في مقدور الله ما لو حصل لكان ظلماً وذلك لا يصح إلا على مذهب المجبرة الذين يقولون لو فعل كحل شيء أراده لم يكن ظلماً وعلى قول من يقول إنه لا يوصف بالقدرة على الظلم وأجاب الأصحاب عنه بأن المراد فعل ما لو فعله غيره لكان ظلماً كما أن المراد من الابتلاء والاختبار فعل ما لو فعله غيره لكان ابتلاءً واختباراً وقوله تعالى ولتجزي فيه وجهان الأول أنه معطوف على قوله ءادَمَ بِالْحَقّ فيكون التقدير وخلق الله السموات والأرض لأجل إظهار الحق ولتجزى كل نفس الثاني أن يكون العطف على محذوف والتقدير وخلق الله السموات والأرض بالحق ليدل بهما على قدرته ولتجزى كل نفس والمعنى أن المقصود من خلق هذا العلم إظهار العدل والرحمة وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة وحصل التفاوت في الدرجات والدركات بين المحقين وبين المبطلين ثم عاد تعالى إلى شرح أحوال الكفار وقبائح طوائفهم فقال أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ يعني تركوا متابعة الهدى وأقبلوا على متابعة الهوى فكانوا يعبدون الهوى كما يعبد الرجل إلهه وقرىء إِلَاهَهُ هَوَاهُ كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه وذهب خلفه فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى يعبد كل وقت واحداً منها

ثم قال تعالى وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ يعني على علم بأن جوهر روحه لا يقبل الصلاح ونظيره في جانب التعظيم قوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) وتحقيق الكلام فيه أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة فمنها مشرقة نورانية علوية إلهية ومنها كدرة ظلمانية سفلية عظيمة الميل إلى الشهوات الجسمانية فهو تعالى يقابل كلاً منهم بحسب ما يليق بجوهره وماهيته وهو المراد من قوله وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ في حق المردودين وبقوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ في حق المقبولين
ثم قال وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَة ً فقوله وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ هو المذكور في قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إلى قوله لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 ) وقوله وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَة ً هو المراد من قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة ٌ ( البقرة 7 ) وكل ذلك قد مرّ تفسيره في سورة البقرة باللاستقصاء والتفاوت بين الآيتين أنه في هذه الآية قدم ذكر السمع على القلب وفي سورة البقرة قدم القلب على السمع والفرق أن الإنسان قد يسمع كلاماً فيقع في قلبه منه أثر مثل أن جماعة من الكفار كانوا يلقون إلى الناس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شاعر وكاهن وأنه يطلب الملك والرياسة فالسامعون إذا سمعوا ذلك أبغضوه ونفرت قلوبهم عنه وأما كفار مكة فهم كانوا يبغضونه بقلوبهم بسبب الحسد الشديد فكانوا يستمعون إليه ولو سمعوا كلامه ما فهموا منه شيئاً نافعاً ففي الصورة الأولى كان الأثر يصعد من البدن إلى جوهر النفس وفي الصورة الثانية كان الأثر ينزل من جوهر النفس إلى قرار البدن فلما اختلف القسمان لا جرم أرشد الله تعالى إلى كلا هذين القسمين بهذين الترتيبين اللذين نبهنا عليهما ولما ذكر الله تعالى هذا الكلام قال فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أي من بعد أن أضله الله أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ أيها الناس قال الواحدي وليس يبقى للقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة لأن الله تعالى صرّح بمنعه إياهم عن الهدى حين أخبر أنه ختم على سمع هذا الكافر وقلبه وبصره وأقول هذه المناظرة قد سبقت بالاستقصاء في أول سورة البقرة
واعلم أنه تعالى حكى عنهم بعد ذلك شبهتهم في إنكار القيامة وفي إنكار الإله القادر أما شبهتهم في إنكار القيامة فهي قوله تعالى وَقَالُواْ مَا هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا فإن قالوا الحياة مقدمة على الموت في الدينا فمنكرو القيامة كان يجب أن يقولوا نحيا ونموت فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة قلنا فيه وجوه الأول المراد بقوله نَمُوتُ حال كونهم نطفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات وبقوله نحيا ما حصل بعد ذلك في الدينا الثاني نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا الثالث يموت بعض ويحيا بعض الرابع وهو الذي خطر بالبال عند كتابة هذا الموضع أنه تعالى قدم ذكر الحياة فقال وَقَالُواْ مَا هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ثم قال بعده نَمُوتُ وَنَحْيَا يعني أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا ومنها ما لم يطرأ الموت عليها وذلك في حق الأحياء الذين لم يموتوا بعد وأما شبهتهم في إنكار الإله الفاعل المختار فهو قولهم وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ يعني تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة وإذا وقعت على وجه آخر حصل الموت فالموجب للحياة والموت تأثيرات الطبائع وحركات الأفلاك ولا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله وبين إنكار البعث والقيامة

ثم قال تعالى دوما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون والمعنى أن قبل النظر ومعرفة الدليل الاحتمالات بأسرها قائمة فالذي قالوه يحتمل وضده أيضاً يحتمل وذلك هو أن يكون القول بالبعث والقيامة حقاً وأن يكون القول بوجود الإله الحكيم حقاً فإنهم لم يذكروا شبهة ضعيفة ولا قوية في أن هذا الاحتمال الثاني باطل ولكنه خطر ببالهم ذلك الاحتمال الأول فجزموة به وأصروا عليه من غير حجة ولا بينة فثبت أنه ليس علم ولا جزم ولا يقين في صحة القول الذي اختاروه بسبب الظن والحسبان وميل القلب إليه من غير موجب وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بغير حجة وبيّنة قول باطل فاسد وأن متابعة الظن والحسبان منكر عند الله تعالى
ثم قال تعالى والمعنى أن قبل النظر ومعرفة الدليل الاحتمالات بأسرها قائمة فالذي قالوه يحتمل وضده أيضاً يحتمل وذلك هو أن يكون القول بالبعث والقيامة حقاً وأن يكون القول بوجود الإله الحكيم حقاً فإنهم لم يذكروا شبهة ضعيفة ولا قوية في أن هذا الاحتمال الثاني باطل ولكنه خطر ببالهم ذلك الاحتمال الأول فجزموة به وأصروا عليه من غير حجة ولا بينة فثبت أنه ليس علم ولا جزم ولا يقين في صحة القول الذي اختاروه بسبب الظن والحسبان وميل القلب إليه من غير موجب وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بغير حجة وبيّنة قول باطل فاسد وأن متابعة الظن والحسبان منكر عند الله تعالى
ثم قال تعالى وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا بَيّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِئَابَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء حجتهم بالنصب والرفع على تقديم خبر كان وتأخيره
المسألة الثانية سمى قولهم حجة لوجوه الأول أنه في زعمهم حجة الثاني أن يكون المراد من كان حجتهم هذا فليس ألبتة حجة كقوله
تحية بينهم ضرب وجيع
( أي ليس بينهم تحية لمنافاة الضرب للتحية ) الثالث أنهم ذكروها في معرض الاحتجاج بها
المسألة الثالثة أن حجتهم على إنكار البعث أن قالوا لو صح ذلك فائتوا بآبائنا الذين ماتوا ليشهودوا لنا بصحة البعث
واعلم أن هذه الشبهة ضعيفة جداً لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال وجب أن يكون ممتنع الحصول فإن حصول كل واحد منا كان معدوماً من الأزل إلى الوقت الذي حصلنا فيه ولو كان عدم الحصول في وقت معين يدل على امتناع الحصول لكان عدم حصولنا كذلك وذلك باطل بالاتفاق
ثم قال تعالى قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ فإن قيل هذا الكلام مذكور لأجل جواب من يقول مَا هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ فهذا القائل كان منكراً لوجود الإله ولوجود يوم القيامة فكيف يجوز إبطال كلامه بقوله قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ وهل هذا إلا إثبات للشيء بنفسه وهو باطل قلنا إنه تعالى ذكر الاستدلال بحدوث الحيوان والإنسان على وجود الفاعل الحكيم في القرآن مراراً وأطواراً فقوله ها هنا قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ إشارة إلى تلك الدلائل التي بيّنها وأوضحها مرارً وليس المقصود من ذكر هذا الكلام إثبات الإله بقول الإله بل المقصود منه التنبيه على ما الدليل الحق القاطع في نفس الأمر
ولما ثبت أن الإحياء من الله تعالى وثبت أن الإعادا مثل الإحياء الأول وثبت أن القادر على الشيء قادر على مثله ثبت أنه تعالى قادر على الإعادة وثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها وثبت أن القادر الحكيم أخبر عن وقت وقوعها فوجب القطع بكونها حقة
وأما قوله تعالى ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فهو إشارة إلى ما تقدم ذكره في الآية المتقدمة وهو أن كونه تعال عادلاً خالقاً بالحق منزّهاً عن الجور والظلم يقتضي صحة البعث والقيامة

ثم قال تعالى وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أي لكن أكثر الناس لا يعلمون دلالة حدوث الإنسان والحيوان والنبات على وجود الإله القادر الحكيم ولا يعلمون أيضاً أنه تعالى لما كان قادراً على الإيجاد ابتداءً وجب أن يكون قادراً على الإعادة ثانياً
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاَعة ُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّة ٍ جَاثِيَة ً كُلُّ أمَّة ٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ
واعلم أنه تعالى لما احتج بكونه قادراً على الإحياء في المرة الأولى وعلى كونه قادراً على الإحياء في المرة الثانية في الآيات المتقدمة عمم الدليل فقال وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي لله القدرة على جميع الممكنات سواء كانت من السموات أو من الأرض وإذا ثبت كونه تعالى قادراً على كل الممكنات وثبت أن حصول الحياة في هذه الذات ممكن إذ لو لم يكن ممكناً لما حصل في المرة الأولى فيلزم من هاتين المقدمتين كونه تعالى قادراً على الإحياء في المرة الثانية
ولما بيّن تعالى إمكان القول بالحشر والنشر بهذين الطريقين ذكر تفاصيل أحوال القيامة فأولها قوله تعالى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاَعة ُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وفيه أبحاث
البحث الأول عامل النصب في يوم تقوم يخسر ويومئذ بدل من يوم تقوم
البحث الثاني قد ذكرنا في مواضع من هذا الكتاب أن الحياة والعقل والصحة كأنها رأس المال والتصرف فيها لطلب سعادة الآخرة يجري مجرى تصرف التاجر في رأس المال لطلب الربح والكفار قد أتعبوا أنفسهم في هذه التصرفات وما وجدوا منها إلا الحرمان والخذلان فكان ذلك في الحقيقة نهاية الخسران وثانيها قوله تعالى وَتَرَى كُلَّ أُمَّة ٍ جَاثِيَة ً قال الليث الجثو الجلوس على الركب كما يجثى بين يدي الحاكم قال الزجاج ومثله جذا يجذو قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء جاذية قال أهل اللغة والجذو أشد استيفازاً من الجثو لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه وعن ابن عباس جاثية مجتمعة مرتقبة لما يعمل بها
ثم قال تعالى كُلُّ أمَّة ٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا على الابتداء وكل أمة على الإبدال من كل أمة وقوله إِلَى كِتَابِهَا أي إلى صحائف أعمالها فاكتفى باسم الجسني كقوله تعالى وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ

( الكهف 49 ) والظاهر أنه يدخل فيه المؤمنون والكافرون لقوله تعالى بعد ذلك فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ
ثم قال تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فإن قيل الجثو على الركبة إنما يليق بالخائف والمؤمنون لا خوف عليهم يوم القيامة قلنا إن المحق الآمن قد يشارك المبطل في مثل هذه الحالة إلى أن يظهر كونه محقاً
ثم قال تعالى الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ والتقدير يقال لهم اليوم تجزون فإن قيل كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله تعالى قلنا لا منافاة بين الأمرين لأنه كتابهم بمعنى أنه الكتاب المشتمل على أعمالهم وكتاب الله بمعنى أنه هو الذي أمر الملائكة بكتبه يَنطِقُ عَلَيْكُم أي يشهد عليكم بما عملتم من غير زيادة ولا نقصان إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ الملائكة مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ أي نستكتبهم أعمالكم
ثم بيّن أحوال المطيعين فقال فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكر بعد وصفهم بالإيمان كونهم عاملين للصالحات فوجب أن يكون عمل الصالحات مغايراً للإيمان زائداً عليه
المسألة الثانية قالت المعتزلة علق الدخول في رحمة الله على كونه آتياً بالإيمان والأعمال الصالحة والمعلق على مجموع أمرين يكون عدماً عند عدم أحدهما فعند عدم الأعمال الصالحة وجب أن لا يحصل الفوز بالجنة وجوابنا أن تعليق الحكم على الوصف لا يدل على عدم الحكم عند عدم الوصف
المسألة الثالثة سمى الثواب رحمة والرحمة إنما تصح تسميتها بهذا الاسم إذا لم تكن واجبة فوجب أن لا يكون الثواب واجباً على الله تعالى
ثم قال تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكر الله المؤمنين والكافرين ولم يذكر قسماً ثالثاً وهذا يدل على أن مذهب المعتزلة إثبات المنزلتين باطل
المسألة الثانية أنه تعالى علل أن استحقاق العقوبة بأن آياته تليت عليهم فاستكبروا عن قبولها وهذا يدل على استحقاق العقوبة لا يحصل إلا بعد مجيء الشرع وذلك يدل على أن الواجبات لا تجب إلا بالشرع خلافاً لما يقوله المعتزلة من أن بعض الواجبات قد يجب بالعقل
المسألة الثالثة جواب أَمَّا محذوف والتقدير وأما الذين كفروا فيقال لهم أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم عن قبول الحق وكنتم قوماً مجرمين فإن قالوا كيف يحسن وصف الكافر بكونه مجرماً في معرض الطعن فيه والذم له قلنا معناه أنهم مع كونهم كفاراً ما كانوا عدولاً في أديان أنفسهم بل كانوا فساقاً في ذلك الدين والله أعلم

وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَة ُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَة ُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأرض رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرىء والساعة رفعاً ونصباً قال الزجاج من نصب عطف على الوعد ومن رفع فعلى معنى وقيل الساعة لا ريب فيها قال الأخفش الرفع أجود في المعنى وأكثر في كلام العرب إذا جاء بعد خبر إن لأنه كلام مستقل بنفسه بعد مجيء الكلام الأول بتمامه
المسألة الثانية حكى الله تعالى عن الكفار أنهم إذا قيل إن وعد الله بالثواب والعقاب حق وإن الساعة آتية لا ريب فيها قالوا ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين
أقول الأغلب على الظن أن القوم كانوا في هذه المسألة على قولين منهم من كان قاطعاً بنفي البعث والقيامة وهم الذين ذكرهم الله في الآية المتقدمة بقوله وَقَالُواْ مَا هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( الجاثية 24 ) ومنهم من كان شاكاً متحيراً فيه لأنهم لكثرة ما سمعوه من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحبته صاروا شاكين فيه وهم الذين أرادهم الله بهذه الآية والذي يدل عليه أنه تعالى حكى مذهب أولئك القاطعين ثم أتبعه بحكاية قول هؤلاء فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأول
ثم قال تعالى وَبَدَا لَهُمْ أي في الآخرة سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وقد كانوا من قبل يعدونها حسنات فصار ذلك أول خسرانهم وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ وهذا كالدليل على أن هذه الفرقة لما قالوا ءانٍ تَظُنُّ إِلاَّ ظَنّا إنما ذكروه على سبيل الاستهزاء والسخرية وعلى هذا الوجه فهذا الفريق شر من الفريق الأول لأن الأولين كانوا منكرين وما كانوا مستهزئين وهذا الفريق ضموا إلى الإصرار على الإنكار الاستهزاء
ثم قال تعالى وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا وفي تفسير هذا النسيان وجهان الأول نترككم في العذاب كما تركتم الطاعة التي هي الزاد ليوم المعاد الثاني نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالى به كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم ولم تلتفتوا إليه بل جعلتموه كالشيء الذي يطرح نسياً

منسياً فجمع الله تعالى عليهم من وجوه العذاب الشديد ثلاثة أشياء فأولها قطع رحمة الله تعالى عنهم بالكلية وثانيها أنه يصير مأواهم النار وثالثها الاستغراق في حب الدنيا والإعراض بالكلية عن الآخرة وهو المراد من قوله تعالى وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا
ثم قال تعالى فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا قرأ حمزة والكسائي يُخْرِجُونَ بفتح الياء والباقون بضمها وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه ولما تم الكلام في هذه المباحث الشريفة الروحانية ختم السورة بتحميد الله تعالى فقال فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَرَبّ الاْرْضِ رَبّ الْعَالَمِينَ أي فاحمدوا الله الذي هو خالق السموات والأرض بل خالق كل العالمين من الأجسام والأرواح والذوات والصفات فإنت هذه الربوبية توجب الحمد والثناء على كل أحد من المخلوقين والمربوبين
ثم قال تعالى وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وهذا مشعر بأمرين أحدهما أن التكبير لا بد وأن يكون بعد التحميد والإشارة إلى أن الحامدين إذا حمدوه وجب أن يقرفوا أنه أعلى وأكبر من أن يكون الحمد الذي ذكروه لائقاً بإنعامه بل هو أكبر من حمد الحامدين وأياديه أعلى وأجل من شكر الشاكرين والثاني أن هذا الكبرياء له لا لغيره لأن واجب الوجود لذاته ليس إلا هو
ثم قال تعالى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يعني أنه لكمال قدرته يقدر على خلق أي شيء أراد ولكمال حكمته يخص كل نوع من مخلوقاته بآثار الحكمة والرحمة والفضل والكرم وقوله وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يفيد الحصر فهذا يفيد أن الكامل في القدرة وفي الحكمة وفي الرحمة ليس إلا هو وذلك يدل على أنه لا إله للخلق إلا هو ولا محسن ولا متفضل إلا هو

بداية الجزء الثامن والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

27
سورة الأحقافوهي ثلاثون وخمس آيات مكية وقيل أربع وثلاثون اية
حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ ائْتُونِى بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَآ أَوْ أَثَارَة ٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أن نظم أول هذه السورة كنظم أول سورة الجاثية وقد ذكرنا ما فيه
وأما قوله مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ فهذا يدل على إثبات الإله بهذا العالم ويدل على أن ذلك الإله يجب أن يكون عادلاً رحيماً بعباده ناظراً لهم محسناً إليهم ويدل على أن القيامة حق
أما المطلب الأول وهو إثبات الإله بهذا العالم وذلك لأن الخلق عبارة عن التقدير وآثار التقدير ظاهرة في السماوات والأرض من الوجوه العشرة المذكورة في سورة الأنعام وقد بينا أن تلك الوجوه تدل على وجود الإله القادر المختار

وأما المطلب الثاني وهو إثبات أن إله العالم عادل رحيم فيدل عليه قوله تعالى إِلاَّ بِالْحَقّ لأن قوله إِلاَّ بِالْحَقّ معناه إلا لأجل الفضل والرحمة والإحسان وأن الإله يجب أن يكون فضله زائداً وأن يكون إحسانه راجحاً وأن يكون وصول المنافع منه إلى المحتاجين أكثر من وصول المضار إليهم قال الجبائي هذا يدل على أن كل ما بين السماوات والأرض من القبائح فهو ليس من خلقه بل هو من أفعال عباده وإلا لزم أن يكون خالقاً لكل باطل وذلك ينافي قوله مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الدخان 39 ) أجاب أصحابنا وقالوا خلق الباطل غير والخلق بالباطل غير فنحن نقول إنه هو الذي خلق الباطل إلا أنه خلق ذلك الباطل بالحق لأن ذلك تصرف من الله تعالى في ملك نفسه وتصرف المالك في ملك نفسه يكون بالحق لا بالباطل قالوا والذي يقرر ما ذكرناه أن قوله تعالى مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا يدل على كونه تعالى خالقاً لكل أعمال العباد لأن أعمال العباد من جملة ما بين السماوات والأرض فوجب كونها مخلوقة لله تعالى ووقوع التعارض في الآية الواحدة محال فلم يبق إلا أن يكون المراد ما ذكرناه فإن قالوا أفعال العباد أعراض والأعراض لا توصف بأنها حاصلة بين السماوات والأرض فنقول فعلى هذا التقدير سقط ما ذكرتموه من الاستدلال والله أعلم
وأما المطلب الثالث فهو دلالة الآية على صحة القول بالبعث والقيامة وتقريره أنه لو لم توجد القيامة لتعطل استيفاء حقوق المظلومين من الظالمين ولتعطل توفية الثواب على المطيعين وتوفية العقاب على الكافرين وذلك يمنع من القول بأنه تعالى خلق السماوات والأرض وما بينها لابالحق
وأما قوله تعالى وَأَجَلٌ مُّسَمًّى فالمراد أنه ما خلق هذه الأشياء إلا بالحق وإلا لأجل مسمى وهذا يدل على أن إلاه العالم ما خلق هذا العالم ليبقى مخلداً سرمداً بل إنما خلقه ليكون داراً للعمل ثم إنه سبحانه يفنيه ثم يعيده فيقع الجزاء في الدار الآخرة فعلى هذا الأجل المسمى هو الوقت الذي عينه الله تعالى لإفناء الدنيا
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ والمراد أن مع نصب الله تعالى هذه الدلائل ومع إرسال الرسل وإنزال الكتب ومع مواظبة الرسل على الترغيب والترهيب والإعذار والإنذار بقي هؤلاء الكفار معرضين عن هذه الدلائل غير ملتفتين إليها وهذا يدل على وجوب النظر والاستدلال وعلى أن الإعراض عن الدليل مذموم في الدين والدنيا
واعلم أنه تعالى لما قرر هذا الأصل الدال على إثبات الإله وعلى إثبات كونه عادلاً رحيماً وعلى إثبات البعث والقيامة بنى عليه التفاريع
فالفرع الأول الرد على عبدة الأصنام فقال قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وهي الأصنام أَرُونِى َ أي أخبروني مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ والمراد أن هذه الأصنام هل يعقل أن يضاف إليها خلق جزء من أجزاء هذا العالم فإن لم يصح ذلك فهل يجوز أن يقال إنها أعانت إلاه العالم في خلق جزء من أجزاء هذا العالم ولما كان صريح العقل حاكماً بأنه لا يجوز إسناد خلق جزء من أجزاء هذا

العالم إليها وإن كان ذلك الجزء أقل الأجزاء ولا يجوز أيضاً إسناد الإعانة إليها في أقل الأفعال وأذلها فحينئذ صح أن الخالق الحقيقي لهذا العالم هو الله سبحانه وأن المنعم الحقيقي بجميع أقسام النعم هو الله سبحانه والعبادة عبارة عن الإتيان بأكمل وجوه التعظيم وذلك لا يليق إلا بمن صدر عنه أكمل وجوه الإنعام فلما كان الخالق الحق والمنعم الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى وجب أن لا يجوز الإتيان بالعبادة والعبودية إلا له ولأجله بقي أن يقال إنا لا نعبدها لأنها تستحق هذه العبادة بل إنما نعبدها لأجل أن الإله الخالق المنعم أمرنا بعبادتها فعند هذا ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذا السؤال فقال ائْتُونِى بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَاذَا أَوْ أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ وتقرير هذا الجواب أن ورود هذا الأمر لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي والرسالة فنقول هذا الوحي الدال على الأمر بعبادة هذه الأوثان إما أن يكون على محمد أو في سائر الكتب الإلاهية المنزلة على سائر الأنبياء وإن لم يوجد ذلك في الكتب الإلاهية لكنه من تقابل العلوم المنقولة عنهم والكل باطل أما إثبات ذلك بالوحي إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهو معلوم البطلان وأما إثباته بسبب اشتمال الكتب الإلاهية المنزلة على الأنبياء المتقدمين عليه فهو أيضاً باطل لأنه علم بالتواتر الضروري إطباق جميع الكتب الإلاهية على المنع من عبادة الأصنام وهذا هو المراد من قوله تعالى ائْتُونِى بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَاذَا وأما إثبات ذلك بالعلوم المنقولة عن الأنبياء سوى ما جاء في الكتب فهذا أيضاً باطل لأن العلم الضروري حاصل بأن أحداً من الأنبياء ما دعا إلى عبادة الأصنام وهذا هو المراد من قوله أَوْ أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ ولما بطل الكل ثبت أن الاشتغال بعبادة الأصنام عمل باطل وقول فاسد وبقي في قوله تعالى أَوْ أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ نوعان من البحث
النوع الأول البحث اللغوي قال أبو عبيدة والفراء والزجاج أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ أي بقية وقال المبرد أَثَارَة ٍ ما يؤثر من علم أي بقية وقال المبرد أَثَارَة ٍ تؤثر مِنْ عِلْمٍ كقولك هذا الحديث يؤثر عن فلان ومن هذا المعنى سميت الأخبار بالآثار يقال جاء في الأثر كذا وكذا قال الواحدي وكلام أهل اللغة في تفسير هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال الأول البقية واشتقاقها من أثرت الشيء أثيره إثارة كأنها بقية تستخرج فتثار الثاني من الأثر الذي هو الرواية والثالث هو الأثر بمعنى العلامة قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء أَثَارَة ٍ أي من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم وقرىء أَثَارَة ٍ بالحركات الثلاث مع سكون الثاء فالإثرة بالكسر بمعنى الأثر وأما الإثر فالمرأة من مصدر أثر الحديث إذا رواه وأما الأثرة بالضم فاسم ما يؤثر كالخطبة اسم لما يخطب به وهاهنا قول آخر في تفسير قوله تعالى أَوْ أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال أَوْ أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ هو علم الخط الذي يخط في الرمل والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه علم علمه ) وعلى هذا الوجه فمعنى الآية ائتوني بعلم من قبل هذا الخط الذي تخطونه في الرمل يدل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام فإن صح تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم والله تعالى أعلم

وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
اعلم أنه تعالى بيّن فيما سبق أن القول بعبادة الأصنام قول باطل من حيث إنها لا قدرة لها ألبتة على الخلق والفعل والإيجاد والإعدام والنفع والضر فأردفه بدليل آخر يدل على بطلان ذلك المذهب وهي أنها جمادات فلا تسمع دعاء الداعين ولا تعم حاجات المحتاجين وبالجملة فالدليل الأول كان إشارة إلى نفي العلم من كل الوجوه وإذا انتفى العلم والقدرة من كل الوجوه لم تبق عبادة معلومة ببديهة العقل فقوله وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ استفهام على سبيل الإنكار والمعنى أنه لا أمراً أبعد عن الحق وأقرب إلى الجهل ممن يدعوا من دون الله الأصنام فيتخذها آلهة ويعبدها وهي إذا دعيت لا تسمع ولا تصح منها الإجابة لا في الحال ولا بعد ذلك اليوم إلى يوم القيامة وإنما جعل ذلك غاية لأن يوم القيامة قد قيل إنه تعالى يحييها وتقع بينها وبين من يعبدها مخاطبة فلذلك جعله تعالى حداً وإذا قامت القيامة وحشر الناس فهذه الأصنام تعادي هؤلاء العابدين واختلفوا فيه فالأكثرون على أنه تعالى يحيي هذه الأصنام يوم القيامة وهي تظهر عداوة هؤلاء العابدين وتتبرأ منهم وقال بعضهم بل المراد عبدة الملائكة وعيسى فإنهم في يوم القيامة يظهرون عداوة هؤلاء العابدين فإن قيل ما المراد بقوله تعالى وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وكيف يعقل وصف الأصنام وهي جمادات بالغفلة وأيضاً كيف جاز وصف الأصنام بما لا يليق إلا بالعقلاء وهي لفظة من وقوله هُمْ غَافِلُونَ قلنا إنهم لما عبدوها ونزلوها منزلة من يضر وينفع صح أن يقال فيها إنها بمنزلة الغافل الذي لا يسمع ولا يجيب وهذا هو الجواب أيضاً عن قوله إن لفظة من ولفظة هُمْ كيف يليق بها وأيضاً يجوز أن يريد كل معبود من دون الله من الملائكة وعيسى وعزير والأصنام إلا أنه غلب غير الأوثان على الأوثان
واعلم أنه تعالى لما تكلم في تقرير التوحيد ونفي الأضداد والأنداد تكلم في النبوة وبيّن أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كلما عرض عليهم نوعاً من أنواع المعجزات زعموا أنه سحر فقال وإذا تتلى عليهم الآيات البينة وعرضت عليهم المعجزات الظاهرة سموها بالسحر ولما بيّن أنهم يسمون المعجزة بالسحر بيّن أنهم متى سمعوا القرآن قالوا إن محمداً افتراه واختلقه من عند نفسه ومعنى الهمزة في أم للإنكار والتعجب كأنه قيل دع هذا واسمع القول المنكر العجيب ثم إنه تعالى بيّن بطلان شبهتهم فقال إن افتريته على سبيل الفرض فإن الله تعالى يعاجلني بعقوبة بطلان ذلك الافتراء وأنتم لا تقدرون على دفعه عن معاجلتي بالعقوبة فكيف أقدم على

هذه الفرية وأعرض نفسي لعقابه يقال فلان لا يملك نفسه إذا غضب ولا يملك عنانه إذا صمم ومثله فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ( المائدة 17 ) وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ( المائدة 41 ) ومن قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أملك لكم من الله شيئاً )
ثم قال تعالى هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ أي تندفعون فيه من القدح في وحي الله تعالى والطعن في آياته وتسميته سحراً تارة وفرية أخرى كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ يشهد لي بالصدق ويشهد عليكم بالكذب والجحود ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد لهم على إقامتهم في الطعن والشتم
ثم قال وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ بمن رجع عن الكفر وتاب واستعان بحكم الله عليهم مع عظم ما ارتكبوه
قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَأامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَة ً وَهَاذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة ً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ وَعَلَى وَالِدَى َّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى إِنَّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَاتِهِمْ فِى أَصْحَابِ الْجَنَّة ِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالاٌّ حْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم في كون القرآن معجزاً بأن قالوا إنه يختلقه من عند نفسه ثم ينسبه إلى أنه كلام الله على سبيل الفرية حكى عنهم نوعاً آخر من الشبهات وهو أنهم كانوا يقترحون منه معجزات عجيبة قاهرة ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات فأجاب الله تعالى عنه بأن قال قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ والبدع والبديع من كل شيء المبدأ والبدعة ما اخترع مما لم يكن موجوداً قبله بحكم السنة وفيه وجوه الأول مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ أي ما كنت أولهم فلا ينبغي أن تنكروا إخباري بأني رسول الله إليكم ولا تنكروا دعائي لكم إلى التوحيد ونهيي عن عبادة الأصنام فإن كل الرسل إنما بعثوا بهذا الطريق الوجه الثاني أنهم طلبوا منه معجزات عظيمة وأخباراً عن الغيوب فقال قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ والمعنى أن الإتيان بهذه المعجزات القاهرة والإخبار عن هذه الغيوب ليس في وسع البشر وأنا من جنس الرسل واحد منهم لم يقدر على ما تريدونه فكيف أقدر عليه الوجه الثالث أنهم كانوا يعيبونه أنه

يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وبأن أتباعه فقراء فقال قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ وكلهم كانوا على هذه الصفة وبهذه المثابة فهذه الأشياء لا تقدح في نبوتي كما لا تقدح في نبوتهم
ثم قال وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير الآية وجهان أحدهما أن يحمل ذلك على أحوال الدنيا والثاني أن يحمل على أحوال الآخرة أما الأول ففيه وجوه الأول لا أدري ما يصير إليه أمري وأمركم ومن الغالب منا والمغلوب والثاني قال ابن عباس في رواية الكلبي لما اشتد البلاء بأصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك ورأوا أن ذلك فرج مما هم فيه من أذى المشركين ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك فقالوا يا رسول الله ما رأينا الذي قلت ومتى نهاجر إلى الأرض التي رأيتها في المنام فسكت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى مَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ وهو شيء رأيته في المنام وأنا لا أتبع إلا ما أوحاه الله إليّ الثالث قال الضحاك لا أدري ما تؤمرون به ولا أؤمر به في باب التكاليف والشرائع والجهاد ولا في الابتلاء والامتحان وإنما أنذركم بما أعلمني الله به من أحوال الآخرة في الثواب والعقاب والرابع المراد أنه يقول لا أدري ما يفعل بي في الدنيا أأموت أم أقتل كما قتل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم أم يفعل بكم ما فعل بسائر الأمم أما الذين حملوا هذه الآية على أحوال الآخرة فروي عن ابن عباس أنه قال لما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به وبنا فأنزل الله تعالى إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ إلى قوله وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً ( الفتح 1 5 ) فبيّن تعالى ما يفعل به وبمن أتبعه ونسخت هذه الآية وأرغم الله أنف المنافقين والمشركين وأكثر المحققين استبعدوا هذا القول واحتجوا عليه بوجوهالأول أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا بد وأن يعلم من نفسه كونه نبياً ومتى علم كونه نبياً علم أنه لا تصدر عنه الكبائر وأنه مغفور له وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكاً في أنه هل هو مغفور له أم لا الثاني لا شك أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء فلما قل في هذا إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( الأحقاف 17 ) فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأتقياء وقدوة الأنبياء والأولياء شاكاً في أنه هل هو من المغفورين أو من المعذبين الثالث أنه تعالى قال اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) والمراد منه كمال حاله ونهاية قربه من حضرة الله تعالى ومن هذا حاله كيف يليق به أن يبقى شاكاً في أنه من المعذبين أو من المغفورين فثبت أن هذا القول ضعيف
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء مَّا يَفْعَلُ يفتح الياء أي يفعل الله عزّ وجلّ فإن قالوا مَّا يَفْعَلُ مثبت وغير منفي وكان وجه الكلام أن يقال ما يفعل بي وبكم قلنا التقدير ما أدري ما يفعل بي وما أدري ما يفعل بكم
ثم قال تعالى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ يعني إني لا أقول قولاً ولا أعمل عملاً إلا بمقتضى الوحي واحتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما قال قولاً ولا عمل عملاً إلا بالنص الذي أوحاه الله إليه فوجب أن يكون حالنا كذلك بيان الأول قوله تعالى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ بيان الثاني قوله تعالى

وَاتَّبِعُوهُ ( الأعراف 158 ) وقوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ( النور 63 )
ثم قال تعالى وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ كانوا يطالبونه بالمعجزات العجيبة وبالإخبار عن الغيوب فقال قل وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ والقادر على تلك الأعمال الخارجة عن قدرة البشر والعالم بتلك الغيوب ليس إلا الله سبحانه
ثم قال تعالى قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَئَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى جواب الشرط محذوف والتقدير أن يقال إن كان هذا الكتاب من عند الله ثم كفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على صحته ثم استكبرتم لكنتم من الخاسرين ثم حذف هذا الجواب ونظيره قولك إن أحسنت إليك وأسأت إليّ وأقبلت عليك وأعرضت عني فقد ظلمتني فكذا ههنا التقدير أخبروني إن ثبت أن القرآن من عند الله بسبب عجز الخلق عن معارضته ثم كفرتم به وحصل أيضاً شهادة أعلم بني إسرائيل بكونه معجزاً من عند الله فلو استكبرتم وكفرتم ألستم أضل الناس وأظلمهم واعلم أن جواب الشرط قد يحذف في بعض الآيات وقد يذكر أما الحذف فكما في هذه الآية وكما في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الاْرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى ( الرعد 31 ) وأما المذكور فكما في قوله تعالى قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ ( فصلت 52 ) وقوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء ( القصص 71 )
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بقوله تعالى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إِسْراءيلَ على قولين الأول وهو الذي قال به الأكثرون أن هذا الشاهد عبد الله بن سلاّم روى صاحب ( الكشاف ) أنه لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة نظر إلى وجهه فعلم أنه ليس بوجه كذاب وتأمله وتحقق أنه هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المنتظر فقال له إني سائلك عن ثلاث ما يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعات وما أول طعام يأكله أهل الجنة والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزع له وإن سبق ماء المرأة نزع لها ) فقال أشهد أنك لرسول الله حقاً ثم قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي رجل عبد الله فيكم فقالوا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا فقال أرأيتم إن أسلم عبد الله فقالوا أعاذه الله من ذلك فخرج عبد الله فقال أشهد أن لا إلاه إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقالوا شرنا وابن شرنا وانتقصوه فقال هذا ما كنت أخاف يا رسول الله فقال سعد بن أبي وقاص ما سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلاّم وفيه نزل وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى مِثْلِهِ
واعلم أن الشعبي ومسروقاً وجماعة آخرين أنكروا أن يكون الشاهد المذكور في هذه الآية هو عبد الله بن سلاّم قالوا لأن إسلامه كان بالمدينة قبل وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعامين وهذه السورة مكية فكيف يمكن حمل هذه الآية المكية على واقعة حدثت في آخر عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة وأجاب الكلبي بأن السورة مكية إلا هذه الآية فإنها مدنية وكانت الآية تنزل فيؤمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يضعها في سورة كذا فهذا

الآية نزلت بالمدينة وإن الله تعالى أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يضعها في هذه السورة المكية في هذا الموضع المعين ولقائل أن يقول إن الحديث الذي رويتم عن عبد الله بن سلاّم مشكل وذلك لأن ظاهر الحديث يوهم أنه لما سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن المسائل الثلاثة وأجاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بتلك الجوابات من عبد الله بن سلاّم لأجل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر تلك الجوابات وهذا بعيد جداً لوجهين الأول أن الإخبار عن أول أشراط الساعة وعن أول طعام يأكله أهل الجنة إخبار عن وقوع شيء من الممكنات وما هذا سبيله فإنه لا يعرف كون ذلك الخبر صدقاً إلا إذا عرف أولاً كون المخبر صادقاً فلو أنا عرفنا صدق المخبر يكون ذلك الخبر صدقاً لزم الدور وإنه محال والثاني أنا نعلم بالضرورة أن الجوابات المذكورة عن هذه المسائل لا يبلغ العلم بها إلى حد الإعجاز ألبتة بل نقول الجوابات القاهرة عن المسائل الصعبة لما لم تبلغ إلى حد الإعجاز فأمثال هذه الجوابات عن هذه السؤالات كيف يمكن أن يقال إنها بلغت إلى حد الإعجاز والجواب يحتمل أنه جاء في بعض كتب الأنبياء المتقدمين أن رسول آخر الزمان يسأل عن هذه المسائل وهو يجيب عنها بهذه الجوابات وكان عبد الله بن سلام عالماً بهذا المعنى فلما سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأجاب بتلك الأجوبة عرف بهذا الطريق كونه رسولاً حقاً من عند الله وعلى هذا الوجه فلا حاجة بنا إلى أن نقول العلم بهذه الجوابات معجز والله أعلم
القول الثاني في تفسير قوله تعالى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إِسْراءيلَ أنه ليس المراد منه شخصاً معيناً بل المراد منه أن ذكر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) موجود في التوراة والبشارة بمقدمه حاصلة فيها فتقدير الكلام لو أن رجلاً منصفاً عارفاً بالتوراة أقر بذلك واعترف به ثم إنه آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأنكرتم ألستم كنتم ظالمين لأنفسكم ضالين عن الحق فهذا الكلام مقرر سواء كان المراد بذلك الشاهد شخصاً معيناً أو لم يكن كذلك لأن المقصود الأصلي من هذا الكلام أنه ثبت بالمعجزات القاهرة أن هذا الكتاب من عند الله وثبت أن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومع هذين الأمرين كيف يليق بالعقل إنكار نبوته
المسألة الثالثة قوله تعالى عَلَى مِثْلِهِ ذكروا فيه وجوهاً والأقرب أن نقول إنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لهم أرأيتم إن كان هذا القرآن من عند الله كما أقول وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثل ما قلت فآمن واستكبرتم ألستم كنتم ظالمين أنفسكم
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تهديد وهو قائم مقام الجواب المحذوف والتقدير قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به فإنكم لا تكونون مهتدين بل تكونون ضالين
المسألة الثانية قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أنه تعالى إنما منعهم الهداية بناء على الفعل القبيح الذي صدر منهم أولاً فإن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ صريح في أنه تعالى لا يهديهم لكونهم ظالمين أنفسهم فوجب أن يعتقدوا في جميع الآيات الواردة في المنع من الإيمان والهداية أن يكون الحال فيها كما ههنا والله أعلم
ثم قال تعالى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه شبهة أخرى للقوم في إنكار نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي سبب نزوله وجوه الأول أن

هذا كلام كفار مكة قالوا إن عامة من يتبع محمداً الفقراء والأراذل مثل عمار وصهيب وابن مسعود ولو كان هذا الدين خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الثاني قيل لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع لو كان هذا خيراً ما سبقنا إليه رعاء ألبهم الثالث قيل إن أمة لعمر أسلمت وكان عمر يضربها حتى يفتر ويقول لولا أني فترت لزدتك ضرباً فكان كفار قريش يقولون لو كان ما يدعو محمد إليه حقاً ما سبقتنا إليه فلانة الرابع قيل كان اليهود يقولون هذا الكلام عند إسلام عبد الله بن سلاّم
المسألة الثانية اللام في قوله تعالى لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ذكروا فيه وجهين الأول أن يكون المعنى وقال الذين كفروا للذين آمنوا على وجه الخطاب كما تقول قال زيد لعمرو ثم تترك الخطاب وتنتقل إلى الغيبة كقوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ( يونس 22 ) الثاني قال صاحب ( الكشاف ) لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لأجلهم يعني أن الكفار قالوا لأجل إيمان الذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه وعندي فيه وجه الثالث وهو أن الكفار لما سمعوا أن جماعة آمنوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاطبوا جماعة من المؤمنين الحاضرين وقالوا لهم لو كان هذا الدين خيراً لما سبقنا إليه أولئك الغائبون الذين أسلموا
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا الكلام أجاب عنه بقوله وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَاذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ والمعنى أنهم لما لم يقفوا على وجه كونه معجزاً فلا بد من عامل في الظرف في قوله وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ ومن متعلق لقوله فَسَيَقُولُونَ وغير مستقيم أن يكون فَسَيَقُولُونَ هو العامل في الظرف لتدافع دلالتي المضي والاستقبال فما وجه هذا الكلام وأجاب عنه بأن العامل في إذ محذوف لدلالة الكلام عليه والتقدير وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ ظهر عنادهم فَسَيَقُولُونَ هَاذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ
ثم قال تعالى وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَة ً كتاب موسى مبتدأ ومن قبله ظرف واقع خبراً مقدماً عليه وقوله إِمَاماً نصب على الحال كقولك في الدار زيد قائماً وقرىء وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى والتقدير وآتينا الذي قبله التوراة ومعنى إِمَاماً أي قدوة وَرَحْمَة ً يؤتم به في دين الله وشرائعه كما يؤتم بالإمام وَرَحْمَة ً لمن آمن به وعمل بما فيه ووجه تعلق هذا الكلام بما قبله أن القوم طعنوا في صحة القرآن وقالوا لو كان خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الصعاليك وكأنه تعالى قال الذي يدل على صحة القرآن أنكم لا تنازعون في أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام وجعل هذا الكتاب إماماً يقتدى به ثم إن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا سلمتم كون التوراة إماماً يقتدى به فاقبلوا حكمه في كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حقاً من الله
ثم قال تعالى وَهَاذَا كِتَابٌ مُّصَدّقٌ لّسَاناً عَرَبِيّاً أي هذا القرآن مصدق لكتاب موسى في أن محمداً رسول حقاً من عند الله وقوله تعالى لّسَاناً عَرَبِيّاً نصب على الحال ثم قال لّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قال ابن عباس مشركي مكة وفي قوله لّتُنذِرَ قراءتان التاء لكثرة ما ورد من هذا المعنى بالمخاطبة كقوله تعالى لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( الأعراف 2 ) والياء لتقدم ذكر الكتاب فأسند الإنذار إلى الكتاب كما أسند إلى الرسول وقوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ إلى قوله لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ ( الكهف 1 2 )

ثم قال تعالى وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ قال الزجاج الأجود أن يكون قوله وَبُشْرَى في موضع رفع والمعنى وهو بشرى للمحسنين قال ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى لّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ وحاصل الكلام أن المقصود من إنزال هذا الكتاب إنذار المعرضين وبشارة المطيعين
إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة ً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ وَعَلَى وَالِدَى َّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى إِنَّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَاتِهِمْ فِى أَصْحَابِ الْجَنَّة ِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما قرر دلائل التوحيد والنبوّة وذكر شبهات المنكرين وأجاب عنها ذكر بعد ذلك طريقة المحقين والمحققين فقال إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ وقد ذكرنا تفسير هذه الكلمة في سورة السجدة والفرق بين الموضعين أن في سورة السجدة ذكر أن الملائكة ينزلون ويقولون أَن لا تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ ( فصلت 30 ) وهاهنا رفع الواسطة من البين وذكر أنه لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ فإذا جمعنا بين الآيتين حصل من مجموعهما أن الملائكة يبلغون إليهم هذه البشارة وأن الحق سبحانه يسمعهم هذه البشارة أيضاً من غير واسطة
واعلم أن هذه الآيات دالة على أن من آمن بالله وعمل صالحاً فإنهم بعد الحشر لا ينالهم خوف ولا حزن ولهذا قال أهل التحقيق إنهم يوم القيامة آمنون من الأهوال وقال بعضهم خوف العقاب زائل عنهم أما خوف الجلال والهيبة فلا يزول ألبتة عن العبد ألا ترى أن الملائكة مع علو درجاتهم وكمال عصمتهم لا يزول الخوف عنهم فقال تعالى يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ( النحل 50 ) وهذه المسألة سبقت بالاستقصاء في آيات كثيرة منها قوله تعالى لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 )

ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قالت المعتزلة هذه الآية تدل على مسائل أولها قوله تعالى أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ وهذا يفيد الحصر وهذا يدل على أن أصحاب الجنة ليسوا إلا الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة قبل التوبة لا يدخل الجنة وثانيها قوله تعالى جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وهذا يدل على فساد قول من يقول الثواب فضل لا جزاء وثالثها أن قوله تعالى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يدل على إثبات العمل للعبد ورابعها أن هذا يدل على أنه يجوز أن يحصل الأثر في حال المؤثر أو أي أثر كان موجوداً قبل ذلك بدليل أن العمل المتقدم أوجب الثواب المتأخر وخامسها كون العبد مستحقاً على الله تعالى وأعظم أنواع هذا النوع الإحسان إلى الوالدين لا جرم أردفه بهذا المعنى فقال تعالى وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وقد تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة العنكبوت وفي سورة لقمان وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي بِوالِدَيْهِ إِحْسَاناً والباقون حَسَنًا
واعلم أن الإحسان خلاف الإساءة والحسن خلاف القبيح فمن قرأ إِحْسَاناً فحجته قوله تعالى في سورة بني إسرائيل وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 43 ) والمعنى أمرناه بأن يوصل إليهما إحساناً وحجة القراءة الثانية قوله تعالى في العنكبوت وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ( العنكبوت 8 ) ولم يختلفوا فيه والمراد أيضاً أنا أمرناه بأن يوصل إليهما فعلاً حسناً إلا أنه سمى ذلك الفعل الحسن بالحسن على سبيل المبالغة كما يقال هذا الرجل علم وكرم وانتصب حسناً على المصدر لأن معنى وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ أمرناه أن يحسن إليهما إِحْسَاناً
ثم قال تعالى حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي كَرْهاً بضم الكاف والباقون بفتحها قيل هما لغتان مثل الضعف والضعف والفقر والفقر ومن غير المصادر الدف والدف والشهد والشهد قال الواحدي الكره مصدر من كرهت الشيء أكرهه والكره الاسم كأنه الشيء المكروه قال تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ( البقرة 216 ) فهذا بالضم وقال أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً ( النساء 19 ) فهذا في موضع الحال ولم يقرأ الثانية بغير الفتح فما كان مصدراً أو في موضع الحال فالفتح فيه أحسن وما كان اسماً نحو ذهبت به على كره كان الضم فيه أحسن
المسألة الثانية قال المفسرون حملته أمه على مشقة ووضعته في مشقة وليس يريد ابتداء الحمل فإن ذلك لا يكون مشقة وقد قال تعالى فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا ( الأعراف 189 ) يريد ابتداء الحمل فإن ذلك لا يكون مشقة فالحمل نطفة وعلقة ومضغة فإذا أثقلت فحينئذ حَمَلَتْهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً يريد شدة الطلق
المسألة الثالثة دلت الآية على أن حق الأم أعظم لأنه تعالى قال أولاً وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً فذكرهما معاً ثم خص الأم بالذكر فقال حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وذلك يدل على أن حقها أعظم وأن وصول المشاق إليها بسبب الولد أكثر والأخبار مذكورة في هذا الباب

ثم قال تعالى وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا من باب حذف المضاف والتقدير ومرة حمله وفصاله ثلاثون شهراً والفصال الفطام وهو فصله عن اللبن فإن قيل المراد بيان مدة الرضاعة لا الفطام فكيف عبّر عنه بالفصال قلنا لما كان الرضاع يليه الفصال ويلائمه لأنه ينتهي ويتم به سمي فصالاً
المسألة الثانية دلت الآية على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً قال وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( البقرة 233 ) فإذا أسقطت الحولين الكاملين وهي أربعة وعشرون شهراً من الثلاثين بقي أقل مدة الحمل ستة أشهر روي عن عمر أن امرأة رفعت إليه وكانت قد ولدت لستة أشهر فأمر برجمها فقال علي لا رجم عليها وذكر الطريق الذي ذكرناه وعن عثمان أنه هم بذلك فقرأ ابن عباس عليه ذلك
واعلم أن العقل والتجربة يدلان أيضاً على أن الأمر كذلك قال أصحاب التجارب إن لتكوين الجنين زماناً مقدراً فإذا تضاعف ذلك الزمان تحرك الجنين فإذا انضاف إلى ذلك المجموع مثلاه انفصل الجنين عن الأم فلنفرض أنه يتم خلقه في ثلاثين يوماً فإذا تضاعف ذلك الزمان حتى صار ستين تحرك الجنين فإذا تضاعف إلى هذا المجموع مثلاه وهو مائة وعشرون حتى صار المجموع مائة وثمانين وهو ستة أشهر فحينئذ ينفصل الجنين فلنفرض أنه يتم خلقه في خمسة وثلاثين يوماً فيتحرك في سبعين يوماً فإذا انضاف إليه مثلاه وهو مائة وأربعون يوماً صار المجموع مائة وثمانين وعشرة أيام وهو سبعة أشهر انفصل الولد ولنفرض أنه يتم خلقه في أربعين يوماً فيتحرك في ثمانين يوماً فينفصل عند مائتين وأربعين يوماً وهو ثمانية أشهر ولنفرض أنه تمت الخلقة في خمسة وأربعين يوماً فيتحرك في تسعين يوماً فينفصل عند مائتين وسبعين يوماً وهو تسعة أشهر فهذا هو الضبط الذي ذكره أصحاب التجارب قال جالينوس إن كنت شديد التفحص عن مقادير أزمنة الحمل فرأيت امرأة ولدت في المائة والأربع والثمانين ليلة وزعم أو علي بن سينا أنه شاهد ذلك فقد صار أقل مدة الحمل بحسب نص القرآن وبحسب التجارب الطيبة شيئاً واحداً وهو ستة أشهر وأما أكثر مدة الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه قال أبو علي بن سينا في الفصل السادس من المقالة التاسعة من عنوان الشفاء بلغني من حيث وثقت به كل الثقة أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ولداً قد نبتت أسنانه وعاش وحكي عن أرسطاطاليس أنه قال أزمنة الولادة وحبل الحيوان مضبوطة سوى الإنسان فربما وضعت الحبلى لسبعة أشهر وربما وضعت في الثامن وقلما يعيش المولود في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر والغالب هو الولادة بعد التاسع قال أهل التجارب والذي قلناه من أنه إذا تضاعف زمان التكوين تحرك الجنين وإذا انضم إلى المجموع مثلاه انفصل الجنين إنما قلناه بحسب التقريب لا بحسب التحديد فإنه ربما زاد أو نقص بحسب الأيام لأنه لم يقم على هذا الضبط برهان إنما هو تقريب ذكروه بحسب التجربة والله أعلم
ثم قال المدة التي فيها تتم خلقة الجنين تنقسم إلى أقسام فأولها أن الرحم إذا اشتملت على المني ولم تقذفه إلى الخارج استدار المني على نفسه منحصراً إلى ذاته وصار كالكرة ولما كان من شأن المني أن يفسده الحركات لا جرم يثخن في هذا الوقت وبالحري أن خلق المني من مادة تجف بالحر إذا كان الغرض منه تكون الحيوان واستحصاف أجزائه ويصير المني زبداً في اليوم السادس وثانيها ظهور النقط الثلاثة

الدموية فيه إحداها في الوسط وهو الموضع الذي إذا تمت خلقته كان قلباً والثاني فوق وهو الدماغ والثالث على اليمين وهو الكبد ثم إن تلك النقط تتباعد ويظهر فيما بينها خيوط حمر وذلك يحصل بعد ثلاثة أيام أخرى فيكون المجموع تسعة أيام وثالثها أن تنفذ الدموية في الجميع فيصير علقة وذلك بعد ستة أيام أخرى حتى يصير المجموع خمسة عشر يوماً ورابعها أن يصير لحماً وقد تميزت الأعضاء الثلاثة وامتدت رطوبة النخاع وذلك إنما يتم باثني عشر يوماً فيكون المجموع سبعة وعشرين يوماً وخامسها أن ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الضلوع والبطن يميز الحس في بعض ويخفى في بعض وذلك يتم في تسعة أيام أخرى فيكون المجموع ستة وثلاثين يوماً وسادسها أن يتم انفصال هذه الأعضاء بعضها عن بعض ويصير بحيث يظهر ذلك الحس ظهوراً بيناً وذلك يتم في أربعة أيام أخرى فيكون المجموع أربعين يوماً وقد يتأخر إلى خمسة وأربعين يوماً قال والأقل هو الثلاثون فصارت هذه التجارب الطبية مطابقة لما أخبر عنه الصادق المصدوق في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً ) قال أصحاب التجارب إن السقط بعد الأربعين إذا شق عنه السلالة ووضع في الماء البارد ظهر شيء صغير متميز الأطراف
المسألة الثالثة هذه الآية دلّت على أقل الحمل وعلى أكثر مدة الرضاع أما أنها تدل على أقل مدة الحمل فقد بيناه وأما أنها تدل على أكثر مدة الرضاع فلقوله تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة َ ( البقرة 233 ) والفقهاء ربطوا بهذين الضابطين أحكاماً كثيرة في الفقه وأيضاً فإذا ثبت أن أقل مدة الحمل هو الأشهر الستة فبتقدير أن تأتي المرأة بالولد في هذه الأشهر يبقى جانبها مصوناً عن تهمة الزنا والفاحشة وبتقدير أن يكون أكثر مدة الرضاع ما ذكرناه فإذا حصل الرضاع بعد هذه المدة لا يترتب عليها أحكام الرضاع فتبقى المرأة مستورة عن الأجانب وعند هذا يظهر أن المقصود من تقدير أقل الحمل ستة أشهر وتقدير أكثر الرضاع حولين كاملين السعي في دفع المضار والفواحش وأنواع التهمة عن المرأة فسبحان من له تحت كل كلمة من هذا الكتاب الكريم أسرار عجيبة ونفائس لطيفة تعجز العقول عن الإحاطة بكمالها
وروى الواحدي في ( البسيط ) عن عكرمة أنه قال إذا حملت تسعة أشهر أرضعته أحداً وعشرين شهراً وإذا حملت ستة أشهر أرضعته أربعة وعشرين شهراً والصحيح ما قدمناه
ثم قال تعالى حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة ً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلف المفسرون في تفسير الأشد قال ابن عباس في رواية عطاء يريد ثماني عشرة سنة والأكثرون من المفسرين على أنه ثلاثة وثلاثون سنة واحتج الفراء عليه بأن قال أن الأربعين أقرب في النسق إلى ثلاث وثلاثين منها إلى ثمانية عشر ألا ترى أنك تقول أخذت عامة المال أو كله فيكون أحسن من قولك أخذت أقل المال أو كله ومثله قوله تعالى رَبّهِ سَبِيلاً إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ( المزمل 20 ) فبعض هذه الأقسام قريب من بعض فكذا هاهنا وقال الزجاج الأولى حمله على ثلاث وثلاثين سنة لأن هذا الوقت الذي يكمل فيه بدن الإنسان وأقول تحقيق الكلام في هذا الباب أن يقال إن مراتب سن الحيوان ثلاثة وذلك لأن بدن الحيوان لا يتكون إلا برطوبة غريزية وحرارة غريزية ولا شك أن الرطوبة الغريزية

غالبة في أول العمر وناقصة في آخر العمر والانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلا إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدتين فثبت أن مدة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام أولها أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية وحينئذ تكون الأعضاء قابلة للتمدد في ذواتها وللزيادة بحسب الطول والعرض والعمق وهذا هو سن النشوء والنماء
والمرتبة الثانية وهي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافية بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة ولا نقصان وهذا هو سن الوقوف وهو سن الشباب
والمرتبة الثالثة وهي المرتبة الأخيرة أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بحفظ الحرارة الغريزية ثم هذا النقصان على قسمين فالأول هو النقصان الخفي وهو سن الكهولة والثاني هو النقصان الظاهر وهو سن الشيخوخة فهذا ضبط معلوم ثم ههنا مقدمة أخرى وهي أن دور القمر إنما يكمل في مدة ثمانية وعشرين يوماً وشيء فإذا قسمنا هذه المدة بأربعة أقسام كان كل قسم منها سبعة فلهذا السبب قدروا الشهر بالأسابيع الأربعة ولهذه الأسابيع تأثيرات عظيمة في اختلاف أحوال هذا العالم إذا عرفت هذا فنقول إن المحققين من أصحاب التجارب قسموا مدة سن النماء والنشوء إلى أربعة أسابيع ويحصل للآدمي بحسب انتهاء كل سابوع من هذه السوابيع الأربعة نوع من التغير يؤدي إلى كماله أما عند تمام السوابيع الأول من العمر فتصلب أعضاءه بعض الصلابة وتقوى أفعاله أيضاً بعض القوة وتتبدل أسنانه الضعيفة الواهية بأسنان قوية وتكون قوة الشهوة في هذا السابوع أقوى في الهضم مما كان قبل ذلك وأما في نهاية السابوع الثاني فتقوى الحرارة وتقل الرطوبات وتتسع المجاري وتقوى قوة الهضم وتقوى الأعضاء وتصلب قوة وصلابة كافية ويتولد فيه مادة الزرع وعند هذا يحكم الشرع عليه بالبلوغ على قول الشافعي رضي الله عنه وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه لأن هذا الوقت لما قويت الحرارة الغريزية قلت الرطوبات واعتدل الدماغ فتكمل القوى النفسانية التي هي الفكر والذكر فلا جرم يحكم عليه بكمال العقل فلا جرم حكمت الشريعة بالبلوغ وتوجه التكاليف الشرعية فما أحسن قول من ضبط البلوغ الشرعي بخمس عشرة سنة
واعلم أنه يتفرع على حصول هذه الحالة أحوال في ظاهر البدن أحدها انفراق طرف الأرنبة لأن الرطوبة الغريزية التي هناك تنتقص فيظهر الانفراق وثانيها نتوء الحنجرة وغلظ الصوت لأن الحرارة التي تنهض في ذلك الوقت توسع الحنجرة فتنتوء ويغلظ الصوت وثالثها تغير ريح الإبط وهي الفضلة العفينة التي يدفعها القلب إلى ذلك الموضع وذلك لأن القلب لما قويت حرارته لا جرم قويت على إنضاج المادة ودفعها إلى اللحم الغددي الرخو الذي في الإبط ورابعها نبات الشعر وحصول الاحتلام وكل ذلك لأن الحرارة قويت فقدرت على توليد الأبخرة المولدة للشعر وعلى توليد مادة الزرع وفي هذا الوقت تتحرك الشهوة في الصبايا وينهد ثديهن وينزل حيضهن وكل ذلك بسبب أن الحرارة الغريزية التي فيهن قويت في آخر هذا السابوع وأما في السابوع الثالث فيدخل في حد الكمال وينبت للذكر اللحية ويزداد حسنه وكماله وأما في السابوع الرابع فلا تزال هذه الأحوال فيه متكاملة متزايدة وعند انتهاء السابوع الرابع نهاية أن لا يظهر الازدياد أما مدة سن الشباب وهي مدة الوقوف السابوع واحد فيكون المجموع خمسة وثلاثين سنة ولما كانت هذه المدة إما قد

تزداد وإما قد تنقص بحسب الأمزجة جعل الغاية فيه مدة أربعين سنة وهذا هو السن الذي يحصل فيه الكمال اللائق بالإنسان شرعاً وطباً فإن في هذا الوقت تسكن أفعال القوى الطبيعية بعض السكون وتنتهي له أفعال القوة الحيوانية غايتها وتبتدىء أفعال القوة النفسانية بالقوة والكمال وإذا عرفت هذه المقدمة ظهر لك أن بلوغ الإنسان وقت الأشد شيء وبلوغه إلى الأربعين شيء آخر فإن بلوغه إلى وقت الأشد عبارة عن الوصول إلى آخر سن النشوء والنماء وأن بلوغه إلى الأربعين عبارة عن الوصول إلى آخر مدة الشباب ومن ذلك الوقت تأخذ القوى الطبيعية والحيوانية في الانتقاص وتأخذ القوة العقلية والنطقية في الاستكمال وهذا أحد ما يدل على أن النفس غير البدن فإن البدن عند الأربعين يأخذ في الانتقاص والنفس من وقت الأربعين تأخذ في الاستكمال ولو كانت النفس عين البدن لحصل للشيء الواحد في الوقت الواحد الكمال والنقصان وذلك محال وهذا الكلام الذي ذكرناه ولخصناه مذكور في صريح لفظ القرآن لأنا بينا أن عند الأربعين تنتهي الكمالات الحاصلة بسبب القوى الطبيعية والحيوانية وأما الكمالات الحاصلة بحسب القوى النطقية والعقلية فإنها تبتدىء بالاستكمال والدليل عليه قوله تعالى حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة ً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ وَعَلَى والِدَى َّ فهذا يدل على أن توجه الإنسان إلى عالم العبودية والاشتغال بطاعة الله إنما يحصل من هذا الوقت وهذا تصريح بأن القوة النفسانية العقلية النطقية إنما تبتدىء بالاستكمال من هذا الوقت فسبحان من أودع في هذا الكتاب الكريم هذه الأسرار الشريفة المقدسة قال المفسرون لم يبعث نبي قط إلا بعد أربعين سنة وأقول هذا مشكل بعيسى عليه السلام فإن الله جعله نبياً من أول عمره إلا أنه يجب أن يقال الأغلب أنه ما جاءه الوحي إلا بعد الأربعين وهكذا كان الأمر في حق رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) ويروى أن عمر بن عبد العزيز لما بلغ أربعين سنة كان يقول اللّهم أوزعني أن أشكر نعمتك إليّ تمام الدعاء وروي أنه جاء جبريل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ققال ( يؤمر الحافظان أن أرفقا بعبدي من حداثة سنه حتى إذا بلغ الأربعين قيل احفظا وحققا ) فكان راوي هذا الحديث إذا ذكر هذا الحديث بكى حتى تبتل لحيته رواه القاضي في ( التفسير )
المسألة الثانية اعلم أن قوله حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة ً يدل على أن الإنسان كالمحتاج إلى مراعاة الوالدين له إلى قريب من هذه المدة وذلك لأن العقل كالناقص فلا بد له من رعاية الأبوين على رعاية المصالح ودفع الآفات وفيه تنبيه على أن نعم الوالدين على الولد بعد دخوله في الوجود تمتد إلى هذه المدة الطويلة وذلك يدل على أن نعم الوالدين كأنه يخرج عن وسع الإنسان مكافأتهما إلا بالدعاء والذكر الجميل
المسألة الثالثة حكى الواحدي عن ابن عباس وقوم كثير من متأخري المفسرين ومتقدميهم أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه قالوا والدليل عليه أن الله تعالى قد وقت الحمل والفصال ههنا بمقدار يعلم أنه قد ينقص وقد يزيد عنه بسبب اختلاف الناس في هذه الأحوال فوجب أن يكون المقصود منه شخصاً واحداً حتى يقال إن هذا التقدير آخبار عن حاله فيمكن أن يكون أبو بكر كان حمله وفصاله هذا القدر
ثم قال تعالى في صفة ذلك الإنسان حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة ً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ وَعَلَى والِدَى َّ

ومعلوم أنه ليس كل إنسان يقول هذا القول فوجب أن يكون المراد من هذه الآية إنساناً معيناً قال هذا القول وأما أبو بكر فقد قال هذا القول في قريب من هذا السن لأنه كان أقل سناً من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بسنتين وشيء والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث عند الأربعين وكان أبو بكر قريباً من الأربعين وهو قد صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآمن به فثبت بما ذكرناه أن هذه الآيات صالحة لأن يكون المراد منها أبو بكر وإذا ثبت القول بهذه الصلاحية فنقول ندعي أنه هو المراد من هذه الآية ويدل عليه أنه تعالى قال في آخر هذه الآية أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَاتِهِمْ فِى أَصْحَابِ الْجَنَّة ِ وهذا يدل على أن المراد من هذه الآية أفضل الخلق لأن الذي يتقبل الله عنه أحسن أعماله ويتجاوز عن كل سيئاته يجب أن يكون من أفاضل الخلق وأكابرهم وأجمعت الأمة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إما أبو بكر وإما علي ولا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن هذه الآية إنما تليق بمن أتى بهذه الكلمة عند بلوغ الأشد وعند القرب من الأربعين وعلي بن أبي طالب ما كان كذلك لأنه إنما آمن في زمان الصبا أو عند القرب من الصبا فثبت أن المراد من هذه الآية هو أبو بكر والله أعلم
المسألة الرابعة قوله تعالى أَوْزِعْنِى قال ابن عباس معناه ألهمني قال صاحب ( الصحاح ) أوزعته بالشيء أغريته به فأوزع به فهو موزع به أي مغرى به واستوزعت الله شكره فأوزعني أي استلهمته فألهمني
المسألة الخامسة اعلم أنه تعالى حكى عن هذا الداعي أنه طلب من الله تعالى ثلاثة أشياء أحدها أن يوفقه الله للشكر على نعمه والثاني أن يوفقه للإتيان بالطاعة المرضية عند الله الثالث أن يصلح له في ذريته وفي ترتيب هذه الأشياء الثلاثة على الوجه المذكور وجهان الأول أنا بينا أن مراتب السعادات ثلاثة أكملها النفسانية وأوسطها البدنية وأدونها الخارجية والسعادات النفسانية هي اشتغال القلب بشكر آلاء الله ونعمائه والسعادات البدنية هي اشتغال البدن بالطاعة والخدمة والسعادات الخارجية هي سعادة الأهل والولد فلما كانت المراتب محصورة في هذه الثلاثة لا جرم رتبها الله تعالى على هذا الوجه
والسبب الثاني لرعاية هذا الترتيب أنه تعالى قدم الشكر على العمل لأن الشكر من أعمال القلوب والعمل من أعمال الجوارح وعمل القلب أشرف من عمل الجارحة وأيضاً المقصود من الأعمال الظاهرة أحوال القلب قال تعالى إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ( طه 14 ) بين أن الصلاة مطلوبة لأجل أنها تفيد الذكر فثبت أن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح والأشرف يجب تقديمه في الذكر وأيضاً الاشتغال بالشكر اشتغال بقضاء حقوق النعم الماضية والاشتغال بالطاعة الظاهرة اشتغال بطلب النعم المستقبلة وقضاء الحقوق الماضية يجري مجرى قضاء الدين وطلب المنافع المستقبلة طلب للزوائد ومعلوم أن قضاء الدين مقدم على سائر المهمات فلهذا السبب قدم الشكر على سائر الطاعات وأيضاً أنه قدم طلب التوفيق على الشكر وطلب التوفيق على الطاعة على طلب أن يصلح له ذريته وذلك لأن المطلوبين الأولين اشتغال بالتعظيم لأمر الله والمطلوب الثالث اشتغال بالشفقة على خلق الله ومعلوم أن التعظيم لأمر الله يجب تقديمه على الشفقة على خلق الله
المسألة السادسة قال أصحابنا إن العبد طلب من الله تعالى أن يلهمه الشكر على نعم الله وهذا يدل

على أنه لا يتم شيء من الطاعات والأعمال إلا بإعانة الله تعالى ولو كان العبد مستقلاً بأفعاله لكان هذا الطلب عبثاً وأيضاً المفسرون قالوا المراد من قوله أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ هو الإيمان أو الإيمان يكون داخلاً فيه والدليل عليه قوله تعالى اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ( الفاتحة 6 7 ) والمراد صراط الذين أنعمت عليهم بنعمة الإيمان وإذا ثبت هذا فنقول العبد يشكر الله على نعمة الإيمان فلو كان الإيمان من العبد لا من الله لكان ذلك شكراً لله تعالى على فعله لا على فعل غيره وذلك قبيح لقوله تعالى وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ( آل عمران 188 ) فإن قيل فهب أن يشكر الله على ما أنعم به عليه فكيف يشكره على النعم التي أنعم بها على والديه وإنما يجب على الرجل أن يشكر ربه على ما يصل إليه من النعم قلنا كل نعمة وصلت من الله تعالى إلى والديه فقد وصل منها أثر إليه فلذلك وصاه الله تعالى على أن يشكر ربه على الأمرين
وأما المطلوب الثاني من المطالب المذكورة في هذا الدعاء فهو قوله وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ
واعلم أن الشيء الذي يعتقد أن الإنسان فيه كونه صالحاً على قسمين أحدهما الذي يكون صالحاً عنده ويكون صالحاً أيضاً عند الله تعالى والثاني الذي يظنه صالحاً ولكنه لا يكون صالحاً عند الله تعالى فلما قسم الصالح في ظنه إلى هذين القسمين طلب من الله أن يوفقه لأن يأتي بعمل صالح يكون صالحاً عند الله ويكون مرضياً عند الله
والمطلوب الثالث من المطالب المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى لأن ذلك من أجل نعم الله على الوالد كما قال إبراهيم عليه السلام وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ ( إبراهيم 35 ) فإن قيل ما معنى فِى في قوله وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى قلنا تقدير الكلام هب لي الصلاح في ذريتي وأوقعه فيهم
واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الداعي أنه طلب هذه الأشياء الثلاثة قال بعد ذلك إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ والمراد أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة وإلا مع كونه من المسلمين فتبين أني إنما أقدمت على هذا الدعاء بعد أن تبت إليك من الكفر ومن كل قبيح وبعد أن دخلت في الإسلام والانقياد لأمر الله تعالى ولقضائه
واعلم أن الذين قالوا إن هذه الآية نزلت في أبي بكر قالوا إن أبا بكر أسلم والداه ولم يتفق لأحد من الصحابة والمهاجرين إسلام الأبوين إلا له فأبوه أبو قحافة عثمان بن عمرو وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو وقوله وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ قال ابن عباس فأجابه الله إليه فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة ولم يترك شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه وقوله تعالى وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى قال ابن عباس لم يبق لأبي بكر ولد من الذكور والإناث إلا وقد آمنوا ولم يتفق لأحد من الصحابة أن أسلم أبواه وجميع أولاده الذكور والإناث إلا لأبي بكر
ثم قال تعالى أُوْلَائِكَ أي أهل هذا القول الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ قرىء بضم الياء على بناء الفعل للمفعول وقرىء بالنون المفتوحة وكذلك نتجاوز وكلاهما في المعنى واحد لأن الفعل وإن كان مبنياً للمفعول فمعلوم أنه لله سبحانه وتعالى فهو كقوله يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ( الأنفال 38 ) فبيّن تعالى بقوله

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ أن من تقدم ذكره ممن يدعو بهذا الدعاء ويسلك هذه الطريقة التي تقدم ذكرها نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ والتقبل من الله هو إيجاب الثواب له على عمله فإن قيل ولم قال تعالى أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ والله يتقبل الأحسن وما دونه قلنا الجواب من وجوه الأول المراد بالأحسن الحسن كقوله تعالى وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ ( الزمر 55 ) كقولهم الناقص والأشج أعدلا بني مروان أي عادلا بني مروان الثاني أن الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب ولا عقاب والأحسن ما يغاير ذلك وهو وكل ما كان مندوباً واجباً
ثم قال تعالى وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَاتِهِمْ والمعنى أنه تعالى يتقبل طاعاتهم ويتجاوز عن سيئاتهم ثم قال فِى أَصْحَابِ الْجَنَّة ِ قال صاحب ( الكشاف ) ومعنى هذا الكلام مثل قولك أكرمني الأمير في مائتين من أصحابه يريد أكرمني في جملة من أكرم منهم وضمني في عدادهم ومحله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين منهم وقوله وَعْدَ الصّدْقِ مصدر مؤكد لأن قوله نَتَقَبَّلُ وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز والمقصود بيان أنه تعالى يعامل من صفته ما قدمناه بهذا الجزاء وذلك وعد من الله تعالى فبيّن أنه صدق ولا شك فيه
وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ
اعلم أنه تعالى لما وصف الولد البار بوالديه في الآية المتقدمة وصف الولد العاق لوالديه في هذه الآية فقال يُوعَدُونَ وَالَّذِى قَالَ لِوالِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَا وفي هذه الآية قولان الأول أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قالوا كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى وهو أُفّ لَّكُمَا واحتج القائلون بهذا القول على صحته بأنه لما كتب معاوية إلى مروان يبايع الناس ليزيد قال عبد الرحمن بن أبي بكر لقد جئتم بها هرقلية أتبايعون لأبنائكم فقال مروان يا أيها الناس هو الذي قال الله فيه وَالَّذِى قَالَ لِوالِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَا والقول الثاني أنه ليس المراد من شخص معين بل المراد منه كل من كان موصوفاً بهذه الصفة وهو كل من دعاه أبواه إلى

الدين الحق فأباه وأنكره وهذا القول هو الصحيح عندنا ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى وصف هذا الذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني بقوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْجِنّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ ولا شك أن عبد الرحمن آمن وحسن إسلامه وكان من سادات المسلمين فبطل حمل الآية عليه فإن قالوا روي أنه لما دعاه أبواه إلى الإسلام وأخبراه بالبعث بعد الموت قال أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ من القبر يعني أبعث بعد الموت وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى يعني الأمم الخالية فلم أر أحداً منهم بعث فأين عبد الله بن جدعان وأين فلان وفلان إذا عرفت هذا فنقول قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ المراد هؤلاء الذين ذكرهم عبد الرحمن من المشركين الذين ماتوا قبله وهم الذين حق عليهم القول وبالجملة فهو عائد إلى المشار إليهم بقوله وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى لا إلى المشار إليه بقوله وَالَّذِى قَالَ لِوالِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَا هذا ما ذكره الكلبي في دفع ذلك الدليل وهو حسن والوجه الثاني في إبطال ذلك القول ما روي أن مروان لما خطب عبد الرحمن بن أبي بكر بذلك الكلام سمعت عائشة ذلك فغضبت وقالت والله ما هو به ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه الوجه الثالث وهو الأقوى أن يقال إنه تعالى وصف الولد البار بأبويه في الآية المتقدمة ووصف الولد العاق لأبويه في هذه الآية وذكر من صفات ذلك الولد أنه بلغ في العقوق إلى حيث لما دعاه أبواه إلى الدين الحق وهو الإقرار بالبعث والقيامة أصر على الإنكار وأبى واستكبر وعول في ذلك الإنكار على شبهات خسيسة وكلمات واهية وإذا كان كذلك كان المراد كل ولد اتصف بالصفات المذكورة ولا حاجة ألبتة إلى تخصيص اللفظ المطلق بشخص معين قال صاحب ( الكشاف ) قرىء أُفّ بالفتح والكسر بغير تنوين وبالحركات الثلاث مع التنوين وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر كما إذا قال حس علم أنه متوجع واللام للبيان معناه هذا التأفيف لكما خاصة ولأجلكما دون غيركما وقرىء أَتَعِدَانِنِى بنونين وأتعداني بأحدهما وأتعداني بالإدغام وقرأ بعضهم أتعدانني بفتح النون كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرين والياء ففتح الأولى تحرياً للتخفيف كما تحراه من أدغم ومن طرح أحدهما
ثم قال أَنْ أَخْرِجْ أي أن أبعث وأخرج من الأرض وقرىء أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى يعني ولم يبعث منهم أحد
ثم قال وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ أي الوالدان يستغيثان الله فإن قالوا كان الواجب أن يقال يستغيثان بالله قلنا الجواب من وجهين الأول أن المعنى أنهما يستغيثان الله من كفره وإنكاره فلما حذف الجار وصل الفعل الثاني يجوز أن يقال الباء حذف لأنه أريد بالاستغاثة ههنا الدعاء على ما قاله المفسرون عَبْدُ اللَّهِ فلما أريد بالاستغاثة الدعاء حذف الجار لأن الدعاء لا يقتضيه وقوله وَيْلَكَ أي يقولان له ويلك مِن وصدق بالبعث وهو دعاء عليه بالثبور والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك
ثم قال إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حق فيقول لهما ما هذا الذي تقولان من أمر البعث وتدعوانني إليه إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي حقت عليهم كلمة العذاب ثم ههنا قولان

فالذين يقولون المراد بنزول الآية عبد الرحمن بن أبي بكر قالوا المراد بهؤلاء الذين حقت عليهم كلمة العذاب هم القرون الذين خلوا من قبله والذين قالوا المراد به ليس عبد الرحمن بل كل ولد كان موصوفاً بالصفة المذكورة قالوا هذا الوعيد مختص بهم وقوله فِى أُمَمٍ نظير لقوله فِى أَصْحَابِ الْجَنَّة ِ وقد ذكرنا أنه نظير لقوله أكرمني الأمير في أناس من أصحابه يريد أكرمني في جملة من أكرم منهم
ثم قال إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ وقرىء أن بالفتح على معنى آمن بأن وعد الله حق
ثم قال وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ وفيه قولان الأول أن الله تعالى ذكر الولد البار ثم أردفه بذكر الولد العاق فقوله وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ خاص بالمؤمنين وذلك لأن المؤمن البار بوالديه له درجات متفاوتة ومراتب مختلفة في هذا الباب والقول الثاني أن قوله لِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ عائد إلى الفريقين والمعنى ولكل واحد من الفريقين درجات في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية فإن قالوا كيف يجوز ذكر لفظ الدرجات في أهل النار وقد جاء في الأثر الجنة الدرجات والنار دركات قلنا فيه وجوه الأول يجوز أن يقال ذلك على جهة التغليب الثاني قال ابن زيد درج أهل الجنة يذهب علواً ودرج أهل النار ينزلوا هبوطاً الثالث أن المراد بالدرجات المراتب المتزايدة إلا أن زيادات أهل الجنة في الخيرات والطاعات وزيادات أهل النار في المعاصي والسيئات
ثم قال تعالى وَلِيُوَفّيَهُمْ وقرىء بالنون وهذا تعليل معلله محذوف لدلالة الكلام عليه كأنه وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم قدر جزاءهم على مقادير أعمالهم فجعل الثواب درجات والعقاب دركات ولما بيّن الله تعالى أنه يوصل حق كل أحد إليه بين أحوال أهل العقاب أولاً فقال وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ قيل يدخلون النار وقيل تعرض عليهم النار ليروا أهوالها أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا قرأ ابن كثير أَذْهَبْتُمْ استفهام بهمزة ومدة وابن عامر استفهام بهمزتين بلا مدة والباقون أَذْهَبْتُمْ بلفظ الخبر والمعنى أن كل ما قدر لكم من الطيبات والراحات فقد استوفيتموه في الدنيا وأخذتموه فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها وعن عمر لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباساً ولكني أستبقي طيباتي وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعاً فقال ( أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ويستر بيته كما تستر الكعبة قالوا نحن يومئذ خير قال بل أنتم اليوم خير ) رواه صاحب ( الكشاف ) قال الواحدي إن الصالحين يؤثرون التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل إلا أن هذه الآية لا تدل على المنع من التنعم لأن هذه الآية وردت في حق الكافر وإنما وبخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا ولم يؤد شكر المنعم بطاعته والإيمان به وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه والدليل عليه قوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ ( الأعراف 32 ) نعم لا ينكر أن الاحتراز عن التنعم أولى لأن النفس إذا اعتادت التنعم صعب عليها الاحتراز والإنقباض وحينئذ فربما حمله الميل إلى تلك الطيبات على فعل ما لا ينبغي وذلك مما يجر بعضه إلى بعض ويقع في البعد عن الله تعالى بسببه
ثم قال تعالى فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ أي الهوان وقرىء عذاب الهوان بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ

فعلل تعالى ذلك العذاب بأمرين أولهما الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب الثاني الفسق وهو ذنب الجوارح وقدم الأول على الثاني لأن أحوال القلوب أعظم وقعاً من أعمال الجوارح ويمكن أن يكون المراد من الاستكبار أنهم يتكبرون عن قبول الدين الحق ويستنكفون عن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وأما الفسق فهو المعاصي واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع قالوا لأنه تعالى علل عذابهم بأمرين أولهما الكفر وثانيهما الفسق وهذا الفسق لا بد وأن يكون مغايراً لذلك الكفر لأن العطف يوجب المغايرة فثبت أن فسق الكفار يوجب العقاب في حقهم ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيات والله أعلم
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالاٌّ حْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَاكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَى ْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَة ً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَى ْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِأايَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
اعلم أنه تعالى لما أورد أنواع الدلائل في إثبات التوحيد والنبوّة وكان أهل مكة بسبب استغراقهم في لذات الدنيا واشتغالهم بطلبها أعرضوا عنها ولم يلتفتوا إليها ولهذا السبب قال تعالى في حقهم وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا فلما كان الأمر كذلك بين أن قوم عاد كانوا أكثر أموالاً وقوة وجاهاً منهم ثم إن الله تعالى سلّط العذاب عليهم بسبب شؤم كفرهم فذكر هذه القصة ههنا

ليعتبر بها أهل مكة فيتركوا الاغترار بما وجدوه من الدنيا ويقبلوا على طلب الدين فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذه القصة في هذا الموضع وهو مناسب لما تقدم لأن من أراد تقبيح طريقة عند قوم كان الطريق فيه ضرب الأمثال وتقديره أن من واظب على تلك الطريقة نزل به من البلاء كذا وكذا وقوله تعالى وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ أي واذكر يا محمد لقومك أهل مكة هوداً عليه السلام إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ أي حذرهم عذاب الله إن لم يؤمنوا وقوله بِالاْحْقَافِ قال أبو عبيدة الحقف الرمل المعوج ومنه قيل للمعوج محقوف وقال الفراء الأحقاف واحدها حقف وهو الكثيب المكسر غير العظيم وفيه اعوجاج قال ابن عباس الأحقاف وادٍ بين عمان ومهرة والنذر جمع نذير بمعنى المنذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ من قبله وَمِنْ خَلْفِهِ من بعده والمعنى أن هوداً عليه السلام قد أنذرهم وقال لهم أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم العذاب
واعلم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره
ثم حكى تعالى عن الكفار أنهم قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا الإفك الصرف يقال أفكه عن رأيه أي صرفه وقيل بل المراد لتزيلنا بضرب من الكذب عَنْ ءالِهَتِنَا وعن عبادتها فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا معاجلة العذاب على الشرك إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في وعدك فعند هذا قال هود إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وإنما صلح هذا الكلام جواباً لقولهم فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا لأن قولهم فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا استعجال منهم لذلك العذاب فقال لهم هود لا علم عندي بالوقت الذي يحصل فيه ذلك العذاب إنما علم ذلك عند الله تعالى وَأُبَلّغُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وهو التحذير عن العذاب وأما العلم بوقته فما أوحاه الله إليّ وَلَاكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وهذا يحتمل وجوهاً الأول المراد أنكم لا تعلمون أن الرسل لم يبعثوا سائلين عن غير ما أذن لهم فيه وإنما بعثوا مبلغين الثاني أراكم قوماً تجهلون من حيث إنكم بقيتم مصرين على كفركم وجهلكم فيغلب على ظني أنه قرب الوقت الذي ينزل عليكم العذاب بسبب هذ الجهل المفرط والوقاحة التامة الثالث إِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ حيث تصرون على طلب العذاب وهب أنه لم يظهر لكم كوني صادقاً ولكن لم يظهر أيضاً لكم كوني كاذباً فالإقدام على الطلب الشديد لهذا العذاب جهل عظيم
ثم قال تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ ذكر المبرّد في الضمير في رأوه قولين أحدهما أنه عائد إلى غير مذكور وبينه قوله عَارِضاً كما قال مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة ٍ ( فاطر 45 ) ولم يذكر الأرض لكونها معلومة فكذا هاهنا الضمير عائد إلى السحاب كأنه قيل فلما رأوا السحاب عارضاً وهذا اختيار الزجاج ويكون من باب الإضمار لا على شريطة التفسير والقول الثاني أن يكون الضمير عائداً إلى ما في قوله فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا أي فلما رأوا ما يوعدون به عارضاً قال أبو زيد العارض السحابة التي ترى في ناحية السماء ثم تطبق وقوله مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قال المفسرون كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياماً فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من وادٍ يقال له المغيث فَلَمَّا رَأَوْهُ مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ استبشروا و قَالُواْ هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا والمعنى ممطر إيانا قيل كان هود قاعداً في قومه فجاء سحاب مكثر فقالوا هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا فقال بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ من العذاب ثم بيّن ماهيته فقال رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ثم وصف تلك الريح فقال تُدَمّرُ كُلَّ شَى ْء أي تهلك كل شيء من الناس والحيوان والنبات بِأَمْرِ رَبّهَا والمعنى أن هذا ليس من باب تأثيرات الكواكب والقرانات بل هو أمر حدث ابتداء بقدرة الله تعالى لأجل تعذيبكم

فَأَصْبَحُواْ يعني عاداً لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى روي أن الريح كانت تحمل الفسطاط فترفعها في الجو حتى يرى كأنها جرادة وقيل أول من أبصر العذاب امرأة منهم قالت رأيت ريحاً فيها كشهب النار وروي أن أول ما عرفوا به أنه عذاب أليم أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رجالهم ومواشيهم يطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم فعلقت الريح الأبواب وصرعتهم وأحال الله عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين ثم كشفت الريح عنهم فاحتملتهم فطرحتهم في البحر وروي أن هوداً لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطاً إلى جنب عين تنبع فكانت الريح التي تصيبهم ريحاً لينة هادئة طيبة والريح التي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطيرهم إلى السماء وتضربهم على الأرض وأثر المعجزة إنما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما أمر الله خازن الرياح أن يرسل على عاد إلا مثل مقدار الخاتم ) ثم إن ذلك القدر أهلكهم بكليتهم والمقصود من هذا الكلام إظهار كمال قدرة الله تعالى وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال ( اللّهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها ومن شر ما أرسلت به )
المسألة الثالثة قرأ عاصم وحمزة لاَ يُرَى بالياء وضمها مَسَاكِنِهِمْ بضم النون قال الكسائي معناه لا يرى شيء إلا مساكنهم وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائي لاَّ تَرَى على الخطاب أي لا ترى أنت أيها المخاطب وفي بعض الروايات عن عاصم لاَّ تَرَى بالتاء مَسَاكِنِهِمْ بضم النون وهي قراءة الحسن والتأويل لا ترى من بقايا عاد أشياء إلا مساكنهم وقال الجمهور هذه القراءة ليست بالقوية
ثم قال تعالى كَذالِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ والمقصود منه تخويف كفار مكة فإن قيل لما قال الله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( الأنفال 33 ) فكيف يبقى التخويف حاصلاً قلنا قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ إنما أنزل في آخر الأمر فكان التخويف حاصلاً قبل نزوله
ثم إنه تعالى خوف كفار مكة وذكر فضل عاد بالقوة والجسم عليهم فقال وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ قال المبرّد ما في قوله فِيمَا بمنزلة الذي و ءانٍ بمنزلة ما والتقدير ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه والمعنى أنهم كانوا أشد منكم قوة وأكثر منكم أموالاً وقال ابن قتيبة كلمة إن زائدة والتقدير ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وهذا غلط لوجوه الأول أن الحكم بأن حرفاً من كتاب الله عبث لا يقول به عاقل والثاني أن المقصود من هذا الكلام أنهم كانوا أقوى منكم قوة ثم إنهم مع زيادة القوة ما نجوا من عقاب الله فكيف يكون حالكم وهذا المقصود إنما يتم لو دلّت الآية على أنهم كانوا أقوى قوة من قوم مكة الثالث أن سائر الآيات تفيد هذا المعنى قال تعالى هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ( مريم 74 ) وقال قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّة ً وَءاثَاراً فِى الاْرْضِ ( غافر 82 )
ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَة ً والمعنى أنا فتحنا عليهم أبواب النعم وأعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في تأمل العبر وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها فلا جرم ما أغنى سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من عذاب الله شيئاً

ثم بيّن تعالى أنه إنما لم يغن عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم لأجل أنهم كانوا يجحدون بآيات الله وقوله إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بمنزلة التعليل ولفظ إذ قد يذكر لإفادة التعليل تقول ضربته إذ أساء والمعنى ضربته لأنه أساء وفي هذه الآية تخويف لأهل مكة فإن قوم عاد لما اغتروا بدنياهم وأعرضوا عن قبول الدليل والحجة نزل بهم عذاب الله ولم تغن عنهم قوتهم ولا كثرتهم فأهل مكة مع عجزهم وضعفهم أولى بأن يحذروا من عذاب الله تعالى ويخافوا
ثم قال تعالى وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ يعني أنهم كانوا يطلبون نزول العذاب وإنما كانوا يطلبونه على سبيل الاستهزاء والله أعلم
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الاٌّ يَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً ءَالِهَة َ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
اعلم أن المراد ولقد أهلكنا ما حولكم يا كفار مكة من القرى وهي قرى عاد وثمود باليمن والشام وَصَرَّفْنَا الاْيَاتِ بيناها لهم لَعَلَّهُمْ أي لعلّ أهل القرى يرجعون فالمراد بالتصريف الأحوال الهائلة التي وجدت قبل الإهلاك قال الجبائي قوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ معناه لكي يرجعوا عن كفرهم دل بذلك على أنه تعالى أراد رجوعهم ولم يرد إصرارهم والجواب أنه فعل ما لو فعله غيره لكان ذلك لأجل الإرادة المذكورة وإنما ذهبنا إلى هذا التأويل للدلائل الدالة على أنه سبحانه مريد لجميع الكائنات
ثم قال تعالى فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً ءالِهَة َ القربان ما يتقرب به إلى الله تعالى أي اتخذوهم شفعاء متقرباً بهم إلى الله حيث قالوا هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 18 ) وقالوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) وفي إعراب الآية وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) أحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الذين هو محذوف والثاني آلهة وقرباناً حال وقيل عليه إن الفعل المتعدي إلى مفعولين لا يتم إلا بذكرهما لفظاً والحال مشعر بتمام الكلام ولا شك أن إتيان الحال بين المفعولين على خلاف الأصل الثاني قال بعضهم قُرْبَاناً مفعول ثان قدم على المفعول الأول وهو آلهة فقيل عليه إنه يؤدي إلى خلو الكلام عن الراجع إلى الذين والثالث قال بعض المحققين يضمر أحد مفعولي اتخذوا وهو الراجع إلى الذين ويجعل قرباناً مفعولاً ثانياً وآلهة عطف بيان إذا عرفت الكلام في الإعراب فنقول المقصود أن يقال إن أولئك الذين أهلكهم الله هلا نصرهم الذين عبدوهم وزعموا أنهم متقربون بعبادتهم إلى الله ليشفعوا لهم بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ أي غابوا عن نصرتهم وذلك إشارة إلى أن كون آلهتهم ناصرين لهم أمر ممتنع
ثم قال تعالى وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ أي وذلك الامتناع أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب في إثبات الشركاء له قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء إِفْكِهِمْ والإفك

والأفك كالحذر والحذر وقرىء وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ بفتح الفاء والكاف أي ذلك الاتخاذ الذي هذا أثره وثمرته صرفهم عن الحق وقرىء إِفْكِهِمْ على التشديد للمبالغة أفكهم جعلهم آفكين وآفكهم أي قولهم الإفك أي ذو الإفك كما تقول قول كاذب
ثم قال وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ والتقدير وذلك إفكهم وافتراؤهم في إثبات الشركاء لله تعالى والله أعلم
وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِى َ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُواْ ياقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ياقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِى َ اللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِى َ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأرض وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَائِكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بيّن أن في الإنس من آمن وفيهم من كفر بيّن أيضاً أن الجن فيهم من آمن وفيهم من كفر وأن مؤمنهم معرض للثواب وكافرهم معرض للعقاب وفي كيفية هذه الواقعة قولان الأول قال سعيد بن جبير كانت الجن تستمع فلما رجموا قالوا هذا الذي حدث في السماء إنما حدث لشيء في الأرض فذهبوا يطلبون السبب وكان قد اتفق أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما أيس من أهل مكة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن نخل قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر فمرّ به نفر من أشراف جن نصيبين لأن إبليس بعثهم ليعرفوا السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم فسمعوا القرآن وعرفوا أن ذلك هو السبب والقول الثاني أن الله تعالى أمر رسوله أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن فصرف الله إليه نفراً من الجن ليستمعوا منه القرآن وينذروا قومهم
ويتفرع على ما ذكرناه فروع الأول نقل عن القاضي في تفسيره الجن أنه قال إنهم كانوا يهوداً لأن في الجن ( مللاً ) كما في الإنس من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام وأطبق المحققون على أن الجن مكلفون سئل ابن عباس هل للجن ثواب فقال نعم لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها الفرع الثاني قال صاحب ( الكشاف ) النفر دون العشرة ويجمع على أنفار ثم روى

محمد بن جرير الطبري عن ابن عباس أن أولئك الجن كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رسلاً إلى قومهم وعن زر ابن حبيش كانوا تسعة أحدهم ذوبعة وعن قتادة ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من ساوة الفرع الثالث اختلفوا في أنه هل كان عبد الله بن مسعود مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة الجن والروايات فيه مختلفة ومشهورة الفرع الرابع روى القاضي في ( تفسيره ) عن أنس قال ( كنت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جبال مكة إذ أقبل شيخ متوكىء على عكازة فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مشية جني ونغمته فقال أجل فقال من أي الجن أنت فقال أنا هامة بن هيم بن لاقيس بن إبليس فقال لا أرى بينك وبين إبليس إلا أبوين فكم أتى عليك فقال أكلت عمر الدنيا إلا أقلها وكنت وقت قتل قابيل هابيل أمشي بين الآكام وذكر كثيراً مما مرّ به وذكر في جملته أن قال قال لي عيسى بن مريم إن لقيت محمداً فأقرئه مني السلام وقد بلغت سلامه وآمنت بك فقال عليه السلام وعلى عيسى السلام وعليك يا هامة ما حاجتك فقال إن موسى عليه السلام علمني التوراة وعيسى علمني الإنجيل فعلمني القرآن فعلمه عشر سور وقبض ( صلى الله عليه وسلم ) ولم ينعه ) قل عمر بن الخطاب ولا أراه إلا حياً واعلم أن تمام الكلام في قصة الجن مذكور في سورة الجن
المسألة الثانية اختلفوا في تفسير قوله وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ فقال بعضهم لما لم يقصد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قراءة القرآن عليهم فهو تعالى ألقى في قلوبهم ميلا وداعية إلى استماع القرآن فلهذا السبب قال وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ
ثم قال تعالى فَلَمَّا حَضَرُوهُ الضمير للقرآن أو لرسول الله قَالُواْ أي قال بعضهم لبعض أَنصِتُواْ أي اسكتوا مستمعين يقال أنصت لكذا واستنصت له فلما فرغ من القراءة وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ينذرونهم وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم لأنهم لا يدعون غيرهم إلى استماع القرآن والتصديق به إلا وقد آمنوا فعنده قَالُواْ يأَبَانَا قَوْمُنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى ووصفوه بوصفين الأول كونه مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ أي مصدقاً لكتب الأنبياء والمعنى أن كتب سائر الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة إلى التوحيد والنبوّة والمعاد والأمر بتطهير الأخلاق فكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني الثاني قوله يَهْدِى إِلَى الْحَقّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ
واعلم أن الوصف الأول يفيد أن هذا الكتاب يماثل سائر الكتب الإلاهية في الدعوة إلى هذه المطالب العالية الشريفة والوصف الثاني يفيد أن هذه المطالب التي اشتمل القرآن عليها مطلب حقة صدق في أنفسها يعلم كل أحد بصريح عقله كونها كذلك سواء وردت الكتب الإلاهية قبل ذلك بها أو لم ترد فإن قالوا كيف قالوا مِن بَعْدِ مُوسَى قلنا قد نقلنا عن الحسن إنه قال إنهم كانوا على اليهودية وعن ابن عباس أن الجن ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا من بعد موسى ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا مُّسْتَقِيمٍ ياقَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِى َ اللَّهِ واختلفوا في أنه هل المراد بداعي الله الرسول أو الواسطة التي تبلغ عنه والأقرب أنه هو الرسول لأنه هو الذي يطلق عليه هذا الوصف
واعلم أن قوله أَجِيبُواْ دَاعِى َ اللَّهِ فيه مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية تدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان مبعوثاً إلى الجن كما كان مبعوثاً إلى الإنس قال مقاتل ولم يبعث الله نبياً إلى الإنس والجن قبله

المسألة الثانية قوله أَجِيبُواْ دَاعِى َ اللَّهِ أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان إلا أنه أعاد ذكر الإيمان على التعيين لأجل أنه أهم الأقسام وأشرفها وقد جرت عادة القرآن بأنه يذكر اللفظ العام ثم يعطف عليه أشرف أنواعه كقوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ ( البقرة 98 ) وقوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الأحزاب 70 ) ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الإيمان وهي قوله يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال بعضهم كلمة مِنْ ههنا زائدة والتقدير يغفر لكم ذنوبكم وقيل بل الفائدة فيه أن كلمة مِنْ ههنا لابتداء الغاية فكان المعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب ثم ينتهي إلى غفران ما صدر عنكم من ترك الأولى والأكمل
المسألة الثانية اختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا فقيل لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يقال لهم كونوا تراباً مثل البهائم واحتجوا على صحة هذا المذهب بقوله تعالى وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( الأحقاف 31 ) وهو قول أبي حنيفة والصحيح أنهم في حكم بني آدم فيستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وهذا القول قول ابن أبي ليلى ومالك وجرت بينه وبين أبي حنيفة في هذا الباب مناظرة قال الضحاك يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون والدليل على صحة هذا القول أن كل دليل على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حق الجن والفرق بين البابين بعيد جداً
واعلم أن ذلك الجني لما أمر قومه بإجابة الرسول والإيمان به حذرهم من تلك تلك الإجابة فقال وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِى َ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الاْرْضَ أي لا ينجي منه مهرب ولا يسبق قضاءه سابق ونظيره قوله تعالى وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الاْرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً ( الجن 12 ) ولا نجد له أيضاً ولياً ولا نصيراً ولا دافعاً من دون الله ثم بيّن أنهم في ضلال مبين
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَمْ يَعْى َ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْى ِ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى ذكر في أول السورة ما يدل على وجود الإله القادر الحكيم المختار ثم فرع عليه فرعين الأول إبطال قول عبدة الأصنام والثاني إثبات النبوّة وذكر شبهاتهم في الطعن في النبوة وأجاب عنها ولما كان أكثر إعراض كفار مكة عن قبول الدلائل بسبب اغترارهم بالدنيا واستغراقهم في استيفاء طيباتهم وشهواتها وبسبب أنه كان يثقل عليهم الانقياد لمحمد والاعتراف بتقدمه عليهم ضرب لذلك مثلاً وهم قوم عاد فإنهم كانوا أكمل في منافع الدنيا من قوم محمد فلما أصروا على الكفر أبادهم الله وأهلكهم

فكان ذلك تخويفاً لأهل مكة بإصرارهم على إنكار نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ثم لما قرر نبوته على الإنس أردفه بإثبات نبوته في الجن وإلى ههنا قد تم الكلام في التوحيد وفي النبوة ثم ذكر عقيبهما تقرير مسألة المعاد ومن تأمل في هذا البيان الذي ذكرناه علم أن المقصود من كل القرآن تقرير التوحيد والنبوّة والمعاد وأما القصص فالمراد من ذكرها ما يجري مجرى ضرب الأمثال في تقرير هذه الأصول
المسألة الثانية المقصود من هذه الآية إقامة الدلالة على كونه تعالى قادراً على البعث والدليل عليه أنه تعالى أقام الدلائل في أول هذه السورة على أنه هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ولا شك أن خلقها أعظم وأفخم من إعادة هذا الشخص حياً بعد أن صار ميتاً والقادر على الأقوى الأكمل لا بد وأن يكون قادراً على الأقل والأضعف ثم ختم الآية بقوله إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ والمقصود منه أن تعلق الروح بالجسد أمر ممكن إذ لو لم يكن ممكناً في نفسه لما وقع أولاً والله تعالى قادر على كل الممكنات فوجب كونه قادراً على تلك الإعادة وهذه الدلائل يقينية ظاهرة
المسألة الثالثة في قوله تعالى بِقَادِرٍ إدخاله الباء على خبر إن وإنما جاز ذلك لدخول حرف النفي على أن وما يتعلق بها فكأنه قيل أليس الله بقادر قال الزجاج لو قلت ما ظننت أن زيداً بقائم جاز ولا يجوز ظننت أن زيداً بقائم والله أعلم
المسألة الرابعة يقال عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه ومنه أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ ( ق 15 )
واعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة على صحة القول بالحشر والنشر ذكر بعض أحوال الكفار فقال وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقّ قَالُواْ بَلَى وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ فقوله أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقّ التقدير يقال لهم أليس هذا بالحق والمقصود التهكم بهم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( الصافات 59 )
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَة ً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ
واعلم أنه تعالى لما قرر المطالب الثلاثة وهي التوحيد والنبوة والمعاد وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأن الكفار كانوا يؤذونه ويوجسون صدره فقال تعالى فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أي أولو الجد والصبر والثبات وفي الآية قولان
الأول أن تكون كلمة مِنْ للتبعيض ويراد بأولو العزم بعض الأنبياء قيل هم نوح صبر على أذى قومه وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه وإبراهيم على النار وذبح الولد وإسحاق على الذبح ويعقوب على فقدان الولد وذهاب البصر ويوسف على الجب والسجن وأيوب على الضر وموسى قال له قومه إِنَّا لَمُدْرَكُونَ كَلاَّ إِنَّ مَعِى َ رَبّى سَيَهْدِينِ ( الشعراء 61 62 ) وداود بكى على زلته أربعين سنة وعيسى لم

يضع لبنة على لبنة وقال إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها وقال الله تعالى في آدم وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 115 ) وفي يونس وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ( القلم 48 )
والقول الثاني أن كل الرسل أولو عزم ولم يبعث الله رسولاً إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال وعقل ولفظة من في قوله مَّنَ الرُّسُلِ تبيين لا تبعيض كما يقال كسيته من الخز وكأنه قيل اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم ووصفهم بالعزم لصبرهم وثباتهم
ثم قال وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ومفعول الاستعجال محذوف والتقدير لا تستعجل لهم بالعذاب قيل إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ضجر من قومه بعض الضجر وأحب أن ينزل الله العذاب بمن أبى من قومه فأمر بالصبر وترك الاستعجال ثم أخبر أن ذلك العذاب منهم قريب وأنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر وعند نزول ذلك العذاب بهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار والمعنى أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من النهار أو كأن لم يكن لهول ما عاينوا أو لأن الشيء إذا مضى صار كأنه لم يكن وإن كان طويلاً قال الشاعر كأن شيئاً لم يكن إذا مضى
كأن شيئاً لم يزل إذا أنى
واعلم أنه ههنا ثم قال تعالى يلاغ أي هذا بلاغ ونظيره قوله تعالى الْحِسَابِ هَاذَا بَلَاغٌ لّلنَّاسِ ( إبراهيم 25 ) أي هذا الذي وعظتم به فيه كفاية في الموعظ أو هذا تبليغ من الرسل فهل يهلك إلا الخارجون عن الاتعاظ به والعمل بموجبه والله أعلم

سورة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
( ثلاثون وتسع آيات مكية
الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
أول هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة فإن آخرها قوله تعالى فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( الأحقاف 35 ) فإن قال قائل كيف يهلك الفاسق وله أعمال صالحة كإطعام الطعام وصلة الأرحام وغير ذلك مما لا يخلو عنه الإنسان في طول عمره فيكون في إهلاكه إهدار عمله وقد قال تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ( الزلزله 7 ) وقال تعالى الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ أي لم يبق لهم عمل ولم يوجد فلم يمتنع الإهلاك وسنبين كيف إبطال الأعمال مع تحقيق القول فيه وتعالى الله عن الظلم وفي التفسير مسائل
المسألة الأولى من المراد بقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ قلنا فيه وجوه الأول هم الذين كانوا يطعمون الجيش يوم بدر منهم أبو جهل والحرث ابنا هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وغيرهم الثاني كفار قريش الثالث أهل الكتاب الرابع هو عام يدخل فيه كل كافر
المسألة الثانية في الصد وجهان أحدهما صدوا أنفسهم معناه أنهم صدوا أنفسهم عن السبيل ومنعوا عقولهم من اتباع الدليل وثانيهما صدوا غيرهم ومنعوهم كما قال تعالى عن المستضعفين يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ( سبأ 31 ) وعلى هذا بحث وهو أن إضلال الأعمال مرتب على الكفر والصد والمستضعفون لم يصدوا فلا يضل أعمالهم فنقول التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه ولا سيما إذا كان المذكور أولى بالذكر من غيره وههنا الكافر الصاد أدخل في الفساد فصار هو أولى بالذكر أو نقول كل من كفر صار صاداً لغيره أما المستكبر فظاهر وأما المستضعف فلأنه

بمتابعته أثبت للمستكبر ما يمنعه من اتباع الرسول فإنه بعد ما يكون متبوعاً يشق عليه بأن يصير تابعاً ولأن كل من كفر صار صاداً لمن بعده لأن عادة الكفار اتباع المتقدم كما قال عنهم بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّة ٍ وَإِنَّا عَلَى ( الزخرف 22 ) أو مقتدون فإن قيل فعلى هذا كل كافر صاد فما الفائدة في ذكر الصد بعد الكفر نقول هو من باب ذكر السبب وعطف المسبب عليه تقول أكلت كثيراً وشبعت والكفر على هذا سبب الصد ثم إذا قلنا بأن المراد منه أنهم صدوا أنفسهم ففيه إشارة إلى أن ما في الأنفس من الفطرة كان داعياً إلى الإيمان والامتناع لمانع وهو الصد لنفسه
المسألة الثالثة في المصدود عنه وجوه الأول عن الإنفاق على محمد عليه السلام وأصحابه الثاني عن الجهاد الثالث عن الإيمان الرابع عن كل ما فيه طاعة الله تعالى وهو اتباع محمد عليه السلام وذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الصراط المستقيم هاد إليه وهو صراط الله قال تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ ( الشورى 52 53 ) فمن منع من اتباع محمد عليه السلام فقد صد عن سبيل الله
المسألة الرابعة في الإضلال وجوه الأول المراد منه الإبطال ووجهه هو أن المراد أنه أضله بحيث لا يجده فالطالب إنما يطلبه في الوجود وما لا يوجد في الوجود فهو معدوم فإن قيل كيف يبطل الله حسنة أوجدها نقول إن الابطال على وجوه أحدها يوازن بسيئاتهم الحسنات التي صدرت منهم ويسقطها بالموازنة ويبقي لهم سيئات محضة لأن الكفر يزيد على غير الإيمان من الحسنات والإيمان يترجح على غير الكفر من السيئات وثانيها أبطلها لفقد شرط ثبوتها وإثباتها وهو الإيمان لأنه شرط قبول العمل قال تعالى مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ( غافر 40 ) وإذا لم يقبل الله العمل لا يكون له وجود لأن العمل لا بقاء له في نفسه بل هو يعدم عقيب ما يوجد في الحقيقة غير أن الله تعالى يكتب عنده بفضله أن فلاناً عمل صالحاً وعندي جزاؤه فيبقى حكماً وهذا البقاء حكماً خير من البقاء الذي للأجسام التي هي محل الأعمال حقيقة فإن الأجسام وإن بقيت غير أن مآلها إلى الفناء والعمل الصالح من الباقيات عند الله أبداً وإذا ثبت هذا تبين أن الله بالقبول متفضل وقد أخبر أني لا أقبل إلا من مؤمن فمن عمل وتعب من غير سبق الإيمان فهو المضيع تعبه لا الله تعالى وثالثها لم يعمل الكافر عمله لوجه الله تعالى فلم يأت بخير فلا يرد علينا قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ( الزلزلة 7 ) وبيانه هو أن العمل لا يتميز إلا بمن له العمل لا بالعامل ولا بنفس العمل وذلك لأن من قام ليقتل شخصاً ولم يتفق قتله ثم قال ليكرمه ولم يتفق الإكرام ولا القتل وأخبر عن نفسه أنه قام في اليوم الفلاني لقتله وفي اليوم الآخر لإكرامه يتميز القيامان لا بالنظر إلى القيام فإنه واحد ولا بالنظر إلى القائم فإنه حقيقة واحدة وإنما يتميز بما كان لأجله القيام وكذلك من قام وقصد بقيامه إكرام الملك وقام وقصد بقيامه إكرام بعض العوام يتميز أحدهما عن الآخر بمنزلة العمل لكن نسبة الله الكريم إلى الأصنام فوق نسبة الملوك إلى العوام فالعمل للأصنام ليس بخير ثم إن اتفق أن يقصد واحد بعمله وجه الله تعالى ومع ذلك يعبد الأوثان لا يكون عمله خيراً لأن مثل ما أتى به لوجه الله أتى به للصنم المنحوت فلا تعظيم الوجه الثاني الإضلال هو جعله مستهلكاً وحقيقته هو أنه إذا كفر وأتى للأحجار والأخشاب بالركوع والسجود فلم يبق لنفسه حرمة وفعله لا يبقى معتبراً بسبب كفره وهذا كمن يخدم عند الحارس والسايس إذا قام فالسلطان لا يعمل قيامه تعظيماً لخسته كذلك الكافر وأما المؤمن فبقدر ما يتكبر على غير الله يظهر تعظيمه لله كالملك الذي لا ينقاد لأحد إذا انقاد في وقت لملك من الملوك يتبين به عظمته الوجه الثالث أضله أي أهمله وتركه

كما يقال أضل بعيره إذا تركه مسيباً فضاع
ثم إن الله تعالى لما بيّن حال الكفار بيّن حال المؤمنين فقال
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ
فيه مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا مراراً أن الله تعالى كلما ذكر الإيمان والعمل الصالح رتب عليهما المغفرة والأجر كما قال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( الحج 50 ) وقال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ( العنكبوت 70 ) وقلنا بأن المغفرة ثواب الإيمان والأجر على العمل الصالح واستوفينا البحث فيه في سورة العنكبوت فنقول ههنا جزاء ذلك قوله كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ إشارة إلى ما يثيب على الإيمان وقوله وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ إشارة إلى ما يثيب على العمل الصالح
المسألة الثانية قالت المعتزلة تكفير السيئات مرتب على الإيمان والعمل الصالح فمن آمن ولم يفعل الصالحات يبقى في العذاب خالداً فنقول لو كان كما ذكرتم لكان الإضلال مرتباً على الكفر والضد فمن يكفر لا ينبغي أن تضل أعماله أو نقول قد ذكرنا أن الله رتب أمرين على أمرين فمن آمن كفر سيئاته ومن عمل صالحاً أصلح باله أو نقول أي مؤمن يتصور أنه غير آت بالصالحات بحيث لا يصدر عنه صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا إطعام وعلى هذا فقوله وَعَمِلُواْ عطف المسبب على السبب كما قلنا في قول القائل أكلت كثيراً وشبعت
المسألة الثالثة قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَءامَنُواْ مع أن قوله آمنوا وعملوا الصالحات أفاد هذا المعنى فما الحكمة فيه وكيف وجهه فنقول أما وجهه فبيانه من وجوه الأول قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أي بالله ورسوله واليوم الآخر وقوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ أي بجميع الأشياء الواردة في كلام الله ورسوله تعميم بعد أمور خاصة وهو حسن تقول خلق الله السماوات والأرض وكل شيء إما على معنى وكل شيء غير ما ذكرنا وإما على العموم بعد ذكر الخصوص الثاني أن يكون المعنى آمنوا وآمنوا من قبل بما نزل على محمد وهو الحق المعجز الفارق بين الكاذب والصادق يعني آمنوا أولاً بالمعجز وأيقنوا بأن القرآن لا يأتي به غير الله فآمنوا وعملوا الصالحات والواو للجمع المطلق ويجوز أن يكون المتأخر ذكراً متقدماً وقوعاً وهذا كقول القائل آمن به وكان الإيمان به واجباً أو يكون بياناً لإيمانهم كأنهم وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَءامَنُواْ أي آمنوا وآمنوا بالحق كما يقول القائل خرجت وخرجت مصيباً أي وكان خروجي جيداً حيث نجوت من كذا وربحت كذا فكذلك لما قال آمنوا بين أن إيمانهم كان أمر الله وأنزل الله لا بما كان باطلاً من عند غير الله الثالث ما قاله أهل المعرفة وهو أن العلم العمل والعمل العلم فالعلم يحصل ليعمل به لما جاء إذا عمل العالم العمل الصالح علم ما لم يكن يعلم فيعلم الإنسان مثلاً قدرة الله بالدليل وعلمه وأمره فيحمله الأمر على

الفعل ويحثه عليه علمه فعلمه بحاله وقدرته على ثوابه وعقابه فإذا أتى بالعمل الصالح علم من أنواع مقدورات الله ومعلومات الله تعالى ما لم يعلمه أحد إلا باطلاع الله عليه وبكشفه ذلك له فيؤمن وهذا هو المعنى في قوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَة َ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ ( الفتح 4 ) فإذا آمن المكلف بمحمد بالبرهان وبالمعجزة وعمل صالحاً حمله علمه على أن يؤمن بكل ما قاله محمد ولم يجد في نفسه شكاً وللمؤمن في المرتبة الأولى أحوال وفي المرتبة الأخيرة أحوال أما في الإيمان بالله ففي الأول يجعل الله معبوداً وقد يقصد غيره في حوائجه فيطلب الرزق من زيد وعمر ويجعل أمراً سبباً لأمر وفي الأخيرة يجعل الله مقصوداً ولا يقصد غيره ولا يرى إلا منه سره وجهره فلا ينيب إلى شيء في شيء فهذا هو الإيمان الآخر بالله وذلك الإيمان الأول
وأما ما في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيقول أولاً هو صادق فيما ينطق ويقول آخر لا نطق له إلا بالله ولا كلام يسمع منه إلا وهو من الله فهو في الأول يقول بالصدق ووقوعه منه وفي الثاني يقول بعدم إمكان الكذب منه لأن حاكي كلام الغير لا ينسب إليه الكذب ولا يمكن إلا في نفس الحكاية وقد علم هو أنه حاك عنه كما قاله وأما في المرتبة الأولى فيجعل الحشر مستقبلاً والحياة العاجلة حالاً وفي المرتبة الأخيرة يجعل الحشر حالاً والحياة الدنيا ماضياً فيقسم حياة نفسه في كل لحظة ويجعل الدنيا كلها عدماً لا يلتفت إليها ولا يقبل عليها
المسألة الرابعة قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَءامَنُواْ هو في مقابلة قوله في حق الكافر وَصُدُّواْ ( محمد 1 ) لأنا بينا في وجه أن المراد بهم صدوا عن اتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا حث على اتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهم صدوا أنفسهم عن سبيل الله وهو محمد عليه السلام وما أنزل عليه وهؤلاء حثوا أنفسهم على اتباع سبيله لا جرم حصل لهؤلاء ضد ما حصل لأولئك فأضل الله حسنات أولئك وستر على سيئات هؤلاء
المسألة الخامسة قوله تعالى وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ هل يمكن أن يكون من ربهم وصفاً فارقاً كما يقال رأيت رجلاً من بغداد فيصير وصفاً للرجل فارقاً بينه وبين من يكون من الموصل وغيره نقول لا لأن كل ما كان من الله فهو الحق فليس هذا هو الحق من ربهم بل قوله مّن رَّبّهِمُ خبر بعد خبر كأنه قال وهو الحق وهو من ربهم أو إن كان وصفاً فارقاً فهو على معنى أنه الحق النازل من ربهم لأن الحق قد يكون مشاهداً فإن كون الشمس مضيئة حق وهو ليس نازل من الرب بل هو علم حاصل بطريق يسره الله تعالى لنا
ثم قال تعالى كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ أي سترها وفيه إشارة إلى بشارة ما كانت تحصل بقوله أعدمها ومحاها لأن محو الشيء لا ينبىء عن إثبات أمر آخر مكانه وأما الستر فينبىء عنه وذلك لأن من يريد ستر ثوب بال أو وسخ لا يستره بمثله وإنما يستره بثوب نفيس نظيف ولا سيما الملك الجواد إذا ستر على عبد من عبيده ثوبه البالي أمر بإحضار ثوب من الجنس العالي لا يحصل إلا بالثمن الغالي فيلبس هذا هو الستر بينه وبين المحبوبين وكذلك المغفرة فإن المغفرة والتكفير من باب واحد في المعنى وهذا هو المذكور في قوله تعالى فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( الفرقان 70 ) وقوله وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ إشارة إلى ما ذكرنا من أنه يبدلها حسنة فإن قيل كيف تبدل السيئة حسنة نقول معناه أنه يجزيه بعد سيئاته ما يجزى المحسن على إحسانه فإن قال الإشكال باق وباد وما زال بل زاد فإن الله تعالى لو أثاب على

السيئة كما يثيب عن الحسنة لكان ذلك حثاً على السيئة نقول ما قلنا إنه يثيب على السيئة وإنما قلنا إنه يثيب بعد السيئة بما يثيب على الحسنة وذلك حيث يأتي المؤمن بسيئة ثم يتنبه ويندم ويقف بين يدي ربه معترفاً بذنبه مستحقراً لنفسه فيصير أقرب إلى الرحمة من الذي لم يذنب ودخل على ربه مفتخراً في نفسه فصار الذنب شرطاً للندم والثواب ليس على السيئة وإنما هو على الندم وكأن الله تعالى قال عبدي أذنب ورجع إليّ ففعله شيء لكن ظنه بي حسن حيث لم يجد ملجأ غيري فاتكل على فضلي والظن عمل القلب والفعل عمل البدن واعتبار عمل القلب أولى ألا ترى أن النائم والمغمى عليه لا يلتفت إلى عمل بدنه والمفلوج الذي لا حركة له يعتبر قصد قلبه ومثال الروح والبدن راكب دابة يركض فرسه بين يدي ملك يدفع عنه العدو بسيفه وسنانه والفرس يلطخ ثوب الملك بركضه في استنانه فهل يلتفت إلى فعل الدابة مع فعل الفارس بل لو كان الراكب فارغاً الفرس يؤذي بالتلويث يخاطب الفارس به فكذلك الروح راكب والبدن مركوب فإن كانت الروح مشغولة بعبادة الله وذكره ويصدر من البدن شيء لا يلتفت إليه بل يستحسن منه ذلك ويزاد في تربية الفرس الراكض ويهجر الفرس الواقف وإن كان غير مشغول فهو مؤاخذ بأفعال البدن ثم قال تعالى
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ
فيه مسائل
المسألة الأولى في الباطل وجوه الأول ما لا يجوز وجوده وذلك لأنهم اتبعوا إلاهاً غير الله وإلاه غير الله محال الوجود وهو الباطل وغاية الباطل لأن الباطل هو المعدوم يقال بطل كذا أي عدم والمعدوم الذي لا يجوز وجوده ولا يمكن أن يوجد ولا يجوز أن يصير حقاً موجوداً فهو في غاية البطلان فعلى هذا فالحق هو الذي لا يمكن عدمه وهو الله تعالى وذلك لأن الحق هو الموجود يقال تحقق الأمر أي وجد وثبت والموجود الذي لا يجوز عدمه هو في غاية الثبوت الثاني الباطل الشيطان بدليل قوله تعالى لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ( ص 85 ) فبيّن أن الشيطان متبوع وأتباعه هم الكفار والفجار وعلى هذا فالحق هو الله لأنه تعالى جعل في مقابلة حزب الشيطان حزب الله الثالث الباطل هو قول كبرائهم ودين آبائهم كما قال تعالى عنهم بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّة ٍ وَإِنَّا عَلَى ( الزحرف 22 ) ومقتدون فعلى هذا الحق ما قاله النبي عليه السلام عن الله الرابع الباطل كل ما سوى الله تعالى لأن الباطل والهالك بمعنى واحد و كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) وعلى هذا فالحق هو الله تعالى أيضاً
المسألة الثانية لو قال قائل من ربهم لا يلائم إلا وجهاً واحداً من أربعة أوجه وهو قولنا المراد من الحق هو ما أنزل الله وما قال النبي عليه السلام من الله فأما على قولنا الحق هو الله فكيف يصح قوله اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبّهِمْ

نقول على هذا مّن رَّبّهِمُ لا يكون متعلقاً بالحق وإنما يكون تعلقه بقوله بقوله تعالى اتَّبَعُواْ أي اتبعوا أمر ربهم أي من فضل الله أو هداية ربهم اتبعوا الحق وهو الله سبحانه
المسألة الثالثة إذا كان الباطل هو المعدوم الذي لا يجوز وجوده فكيف يمكن اتباعه نقول لما كانوا يقولون إنما يفعلون للأصنام وهي آلهة وهي تؤجرهم بذلك كانوا متبعين في زعمهم ولا متبع هناك
المسألة الرابعة قال في حق المؤمنين اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبّهِمْ وقال في حق الكفار اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ من آلهتهم أو الشيطان نقول أما آلهتهم فلأنهم لا كلام لهم ولا عقل وحيث ينطقهم الله ينكرون فعلهم كما قال تعالى وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ( فاطر 14 ) وقال تعالى وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ( الأحقاف 6 ) والله تعالى رضي بفعلهم وثبتهم عليه ويحتمل أن يقال قوله مّن رَّبّهِمُ عائد إلى الأمرين جميعاً أي من ربهم اتبع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق أي من حكم ربهم ومن عند ربهم
ثم قال تعالى كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ وفيه أيضاً مسائل
المسألة الأولى أي مثل ضربه الله تعالى حتى يقول كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ نقول فيه وجهان أحدهما إضلال أعمال الكفار وتكفير سيئات الأبرار الثاني كون الكافر متبعاً للباطل وكون المؤمن متبعاً للحق ويحتمل وجهين آخرين أحدهما على قولنا مّن رَّبّهِمُ أي من عند ربهم اتبع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق نقول هذا مثل يضرب عليه جميع الأمثال فإن الكل من عند الله الإضلال وغيره والاتباع وغيره وثانيهما هو أن الله تعالى لما بيّن أن الكافر يضل الله عمله والمؤمن يكفر الله سيئاته وكان بين الكفر والإيمان مباينة ظاهرة فإنهما ضدان نبه على أن السبب كذا أي ليس الإضلال والتكفير بسبب المضادة والاختلاف بل بسبب اتباع الحق والباطل وإذا علم السبب فالفعلان قد يتحدان صورة وحقيقة وأحدهما يورث إبطال الأعمال والآخر يورث تكفير السيئات بسبب أن أحدهما يكون فيه اتباع الحق والآخر اتباع الباطل فإن من يؤمن ظاهراً وقلبه مملوء من الكفر ومن يؤمن بقلبه وقلبه مملوء من الإيمان اتحد فعلاهما في الظاهر وهما مختلفان بسبب اتباع الحق واتباع الباطل لا بدع من ذلك فإن من يؤمن ظاهراً وهو يسر الكفر ومن يكفر ظاهراً بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان اختلف الفعلان في الظاهر وإبطال الأعمال لمن أظهر الإيمان بسبب أن اتباع الباطل من جانبه فكأنه تعالى قال الكفر والإيمان مثلان يثبت فيهما حكمان وعلم سببه وهو اتباع الحق والباطل فكذلك اعلموا أن كل شيء اتبع فيه الحق كان مقبولاً مثاباً عليه وكل أمر اتبع فيه الباطل كان مردوداً معاقباً عليه فصار هذا عاماً في الأمثال على أنا نقول قوله كَذالِكَ لا يستدعي أن يكون هناك مثل مضروب بل معناه أنه تعالى لما بيّن حال الكافر وإضلال أعماله وحال المؤمن وتكفير سيئاته وبيّن السبب فيهما كان ذلك غاية الإيضاح فقال كَذالِكَ أي مثل هذا البيان يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ويبين لهم أحوالهم
المسألة الثانية الضمير في قوله أَمْثَالَهُمْ عائد إلى من فيه وجهان أحدهما إلى الناس كافة قال تعالى يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ على أنفسهم وثانيهما إلى الفريقين السابقين في الذكر معناه يضرب الله للناس أمثال الفريقين السابقين

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَالِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَاكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
ثم قال تعالى فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى الفاء في قوله فَإِذَا لَقِيتُمُ يستدعي متعلقاً يتعلق به ويترتب عليه فما وجه التعلق بما قبله نقول هو من وجوه الأول لما بيّن أن الذين كفروا أضل الله أعمالهم واعتبار الإنسان بالعمل ومن لم يكن له عمل فهو همج فإن صار مع ذلك يؤذي حسن إعدامه فَإِذَا لَقِيتُمُ بعد ظهور أن لا حرمة لهم وبعد إبطال أعمالهم فاضربوا أعناقهم الثاني إذا تبين تباين الفريقين وتباعد الطريقين وأن أحدهما يتبع الباطل وهو حزب الشيطان والآخر يتبع الحق وهو حزب الرحمن حق القتال عند التحزب فإذا لقيتموهم فاقتلوهم الثالث أن من الناس من يقول لضعف قلبه وقصور نظره إيلام الحيوان من الظلم والطغيان ولا سيما القتل الذي هو تخريب بنيان فيقال رداً عليهم لما كان اعتبار الأعمال باتباع الحق والباطل فمن يقتل في سبيل الله لتعظيم أمر الله لهم من الأجر ما للمصلي والصائم فإذا لقيتم الذين كفروا فاقتلوهم ولا تأخذكم بهما رأفة فإن ذلك اتباع للحق والاعتبار به لا بصورة الفعل
المسألة الثانية فَضَرْبَ منصوب على المصدر أي فاضربوا ضرب الرقاب
المسألة الثالثة ما الحكمة في اختيار ضرب الرقبة على غيرها من الأعضاء نقول فيه لما بيّن أن المؤمن ليس يدافع إنما هو دافع وذلك أن من يدفع الصائل لا ينبغي أن يقصد أولاً مقتله بل يتدرج ويضرب على غير المقتل فإن اندفع فذاك ولا يترقى إلى درجة الإهلاك فقال تعالى ليس المقصود إلا دفعهم عن وجه الأرض وتطهير الأرض منهم وكيف لا والأرض لكم مسجد والمشركون نجس والمسجد يطهر من النجاسة فإذاً ينبغي أن يكون قصدكمم أولاً إلى قتلهم بخلاف دفع الصائل والرقبة أظهر المقاتل لأن قطع الحلقوم والأوداج مستلزم للموت لكن في الحرب لا يتهيأ ذلك والرقبة ظاهرة في الحرب ففي ضربها حز العنق وهو مستلزم للموت بخلاف سائر المواضع ولا سيما في الحرب وفي قوله لَقِيتُمُ ما ينبىء عن مخالفتهم الصائل لأن قوله لَقِيتُمُ يدل على أن القصد من جانبهم بخلاف قولنا لقيكم ولذلك قال في غير هذا الموضع وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ( البقرة 191 )
المسألة الرابعة قال ههنا ضُرِبَ الرّقَابِ بإظهار المصدر وترك الفعل وقال في الأنفال فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ ( الأنفال 12 ) بإظهار الفعل وترك المصدر فهل فيه فائدة نقول نعم ولنبينها بتقديم مقدمة وهي أن المقصود أولاً في بعض السور قد يكون صدور الفعل من فاعل ويتبعه المصدر ضمناً إذ لا يمكن أن يفعل فاعل إلا ويقع منه المصدر في الوجود وقد يكون المقصود أولاً المصدر ولكنه لا يوجد إلا من فاعل فيطلب منه أن يفعل مثاله من قال إني حلفت أن أخرج من المدينة فيقال له فاخرج صار المقصود منه صدور الفعل منه والخروج في نفسه غير مقصود الانتفاء ولو أمكن أن يخرج من غير تحقق الخروج منه لما كان

عليه إلا أن يخرج لكن من ضرورات الخروج أن يخرج فإذا قال قائل ضاق بي المكان بسبب الأعداء فيقال له مثلاً الخروج يعني الخروج فاخرج فإن الخروج هو المطلوب حتى لو أمكن الخروج من غير فاعل لحصل الغرض لكنه محال فيتبعه الفعل إذا عرفت هذا فنقول في الأنفال الحكاية عن الحرب الكائنة وهم كانوا فيها والملائكة أنزلوا لنصرة من حضر في صف القتال فصدور الفعل منه مطلوب وههنا الأمر وارد وليس في وقت القتال بدليل قوله تعالى فَإِذَا لَقِيتُمُ والمقصود بيان كون المصدر مطلوباً لتقدم المأمور على الفعل قال فَضَرْبَ الرّقَابِ وفيما ذكرنا تبيين فائدة أخر وهي أن الله تعالى قال هناك وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ( الأنفال 12 ) وذلك لأن الوقت وقت القتال فأرشدهم إلى المقتل وغيره إن لم يصيبوا المقتل وههنا ليس وقت القتال فبيّن أن المقصود القتل وغرض المسلم ذلك
المسألة الخامسة حَتَّى لبيان غاية الأمر لا لبيان غاية القتل أي حتى إذا اثخنتموهم لا يبقى الأمر بالقتل ويبقى الجواز ولو كان لبيان القتل لما جاز القتل والقتل جائز إذا التحق المثخن بالشيخ الهرم والمراد كما إذا قطعت يداه ورجلاه فنهى عن قتله
ثم قال تعالى فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ أمر إرشاد
ثم قال تعالى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء وفيه مسائل
المسألة الأولى ( إما ) وإنما للحصر وحالهم بعد الأسر غير منحصر في الأمرين بل يجوز القتل والاسترقاق والمن والفداء نقول هذا إرشاد فذكر الأمر العام الجائز في سائر الأجناس والاسترقاق غير جائز في أسر العرب فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان معهم فلم يذكر الاسترقاق وأما القتل فلأن الظاهر في المثخن الإزمان ولأن القتل ذكره بقوله فَضَرْبَ الرّقَابِ فلم يبق إلا الأمران
المسألة الثانية مناً وفداءً منصوبان لكونهما مصدرين تقديره فإما تمنون مناً وإما تفدون فداءً وتقديم المن على الفداء إشارة إلى ترجيح حرمة النفس على طلب المال والفداء يجوز أن يكون مالاً يكون وأن يكون غيره من الأسرى أو شرطاً يشرط عليهم أو عليه وحده
المسألة الثالثة إذا قدرنا الفعل وهو تمنون أو تفدون على تقدير المفعول حتى نقول إما تمنون عليهم منا أو تفدونهم فداء نقول لا لأن المقصود المن والفداء لا عليهم وبهم كما يقول القائل فلان يعطي ويمنع ولا يقال يعطي زيداً ويمنع عمراً لأن غرضه ذكر كونه فاعلاً لا بيان المفعول وكذلك ههنا المقصود إرشاد المؤمنين إلى الفضل
ثم قال تعالى حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا
وفي تعلق حَتَّى وجهان أحدهما تعلقها بالقتل أي اقتلوهم حتى تضع وثانيهما بالمن والفداء ويحتمل أن يقال متعلقة بشدوا الوثاق وتعلقها بالقتل أظهر وإن كان ذكره أبعد وفي الأوزار وجهان أحدهما السلاح والثاني الآثام وفيه مسائل
المسألة الأولى إن كان المراد الإثم فكيف تضع الحرب الإثم والإثم على المحارب وكذلك السؤال في السلاح لكنه على الأول أشد توجهاً فيقول تضع الحرب الأوزار لا من نفسها بل تضع الأوزار

التي على المحاربين والسلاح الذي عليهم
المسألة الثانية هل هذا كقوله تعالى وَاسْئَلِ ( يوسف 82 ) حتى يكون كأنه قال حتى تضع أمة الحرب أو فرقة الحرب أوزارها نقول ذلك محتمل في النظر الأول لكن إذا أمعنت في المعنى تجد بينهما فرقاً وذلك لأن المقصود من قوله فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر يحارب حزباً من أحزاب الإسلام ولو قلنا حتى تضع أمة الحرب جاز أن يضعوا الأسلحة ويتركوا الحرب وهي باقية بمادتها كما تقول خصومتي ما انفصلت ولكني تركتها في هذه الأيام وإذا أسندنا الوضع إلى الحرب يكون معناه إن الحرب لم يبق
المسألة الثالثة لو قال حتى لا يبقى حزب أو ينفر من الحرب هل يحصل معنى قوله حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا نقول لا والتفاوت بين العبارتين مع قطع النظر عن النظم بل النظر إلى نفس المعنى كالتفاوت بين قولك انقرضت دولة بني أُمية وقولك لم يبق من دولتهم أثر ولا شك أن الثاني أبلغ فكذلك ههنا قوله تعالى أَوْزَارَهَا معناه آثارها فإن من أوزار الحرب آثارها
المسألة الرابعة وقت وضع أوزار الحرب متى هو نقول فيه أقوال حاصلها راجع إلى أن ذلك الوقت هو الوقت الذي لا يبقى فيه حزب من أحزاب الإسلام وحزب من أحزاب الكفر وقيل ذلك عند قتال الدجال ونزول عيسى عليه السلام
ثم قال تعالى ذالِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ
في معنى ذلك وجهان أحدهما الأمر ذلك والمبتدأ محذوف ويحتمل أن يقال ذلك واجب أو مقدم كما يقول القائل إن فعلت فذاك أي فذاك مقصود ومطلوب ثم بيّن أن قتالهم ليس طريقاً متعيناً بل الله لو أراد أهلكهم من غير جند
قوله تعالى وَلَاكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ
أي ولكن ليكلفكم فيحصل لكم شرف باختياره إياكم لهذا الأمر فإن قيل ما التحقيق في قولنا التكليف ابتلاء وامتحان والله يعلم السر وأخفى وماذا يفهم من قوله وَلَاكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ نقول فيه وجوه الأول أن المراد منه يفعل ذلك فعل المبتلين أي كما يفعل المبتلى المختبر ومنها أن الله تعالى يبلو ليظهر الأمر لغيره إما للملائكة وإما للناس والتحقيق هو أن الابتلاء والامتحان والاختبار فع يظهر بسببه أمر غيره متعين عند العقلاء بالنظر إليه قصداً إلى ظهوره وقولنا فعل يظهر بسببه أمر ظاهر الدخول في مفهوم الابتداء لأن ما لا يظهر بسببه شيء أصلاً لا يسمى ابتلاء أما قولنا أمر غير متعين عند العقلاء وذلك لأن من يضرب بسيفه على القثاء والخيار لا يقال إنه يمتحن لأن الأمر الذي يظهر منه متعين وهو القطع والقد بقسمين فإذا ضرب بسيفه سبعاً يقال يمتحن بسيفه ليدفع عن نفسه وقد يقده وقد لا يقده وأما قولنا ليظهر منه ذلك فلأن من يضرب سبعاً بسيفه ليدفعه عن نفسه لا يقال إنه ممتحن لأن ضربه ليس لظهور أمر متعين إذا علم هذا فنقول الله تعالى إذا أمرنا بفعل يظهر بسببه أمر غير متعين وهو إما الطاعة أو المعصية في العقول ليظهر ذلك يكون ممتحناً وإن كان عالماً به لكون عدم العلم مقارناً فينا لابتلائنا فإذا ابتلينا وعدم العلم فينا مستمر أمرنا وليس من ضرورات الابتلاء فإن قيل الابتلاء فائدته حصول العلم عند المبتلى فإذا كان الله تعالى عالماً فأية فائدة

فيه نقول ليس هذا سؤال يختص بالابتلاء فإن قول القائل لم ابتلى كقول القائل لم عاقب الكافر وهو مستغن ولم خلق النار محرقة وهو قادر على أن يخلقها بحيث تنفع ولا تضر وجوابه لا يسأل عما يفعل ونقول حينئذ ما قاله المتقدمون إنه لظهور الأمر المتعين لإلاه وبعد هذا فنقول المبتلى لا حاجة له إلى الأمر الذي يظهر من الابتلاء فإن الممتحن للسيف فيما ذكرنا من الصورة لا حاجة له إلى قطع ما يجرب السيف فيه حتى أنه لو كان محتاجاً كما ضربنا من مثال دفع السبع بالسيف لا يقال إنه يمتحن وقوله لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ إشارة إلى عدم الحاجة تقريراً لقوله ذالِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
قرىء قتلوا وقاتلوا والكل مناسب لما تقدم أما من قرأ قتلوا فلأنه لما قال فَضَرْبَ الرّقَابِ ومعناه فاقتلوهم بين ما للقاتل بقوله وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ رداً على من زعم أن القتل فساد محرم إذ هو إفناء من هو مكرم فقال عملهم ليس كحسنة الكافر يبطل بل هو فوق حسنات الكافر أضل الله أعمال الكفار ولن يضل القاتلين فكيف يكون القتل سيئة وأما من قرأ قَاتَلُواْ فهو أكثر فائدة وأعم تناولاً لأنه يدخل فيه من سعى في القتل سواء قتل أو لم يقتل وأما من قرأ وَالَّذِينَ قُتِلُواْ على البناء للمفعول فنقول هي مناسبة لما تقدم من وجوه أحدها هو أنه تعالى لما قال فَضَرْبَ الرّقَابِ أي اقتلوا والقتل لا يتأتى إلا بالإقدام وخوف أن يقتل المقدم يمنعه من الإقدام فقال لا تخافوا القتل فإن من يقتل في سبيل الله له من الأجر والثواب ما لا يمنع المقاتل من القتال بل يحثه عليه وثانيها هو أنه تعالى لما قال لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ والمبتلى بالشيء له على كل وجه من وجوه الأثر الظاهر بالابتلاء حال من الأحوال فإن السيف الممتحن تزيد قيمته على تقدير أن يقطع وتنقص على تقدير أن لا يقطع فحال المبتلين ماذا فقال إن قتل فله أن لا يضل عمله ويهدى ويكرم ويدخل الجنة وأما إن قتل فلا يخفى عاجلاً وآجلاً وترك بيانه على تقدير كونه قاتلاً لظهوره وبين حاله على تقدير كونه مقتولاً وثالثها هو أنه تعالى لما قال لِيَبْلُوَكُمْ ولا يبتلي الشيء النفيس بما يخاف منه هلاكه فإن السيف المهند العضب الكبير القيمة لا يجرب بالشيء الصلب الذي يخاف عليه منه الانكسار ولكن الآدمي مكرم كرمه الله وشرفه وعظمه فلماذا ابتلاه بالقتال وهو يفضي إلى القتل والهلاك إفضاء غير نادر فكيف يحسن هذا الابتلاء فنقول القتل ليس بإهلاك بالنسبة إلى المؤمن فإنه يورث الحياة الأبدية فإذا ابتلاه بالقتال فهو على تقدير أن يقتل مكرم وعلى تقدير أن لا يقتل هذا إن قاتل وإن لم يقاتل فالموت لا بد منه وقد فوت على نفسه الأجر الكبير
وأما قوله تعالى فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ قد علم معنى الإضلال بقي الفرق بين العبارتين في حق الكافر والضال قال أَضَلَّ ( محمد 1 ) وقال في حق المؤمن الداعي لَنْ يُضِلَّ لأن المقاتل داع إلى الإيمان لأن قوله حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا قد ذكر أن معناه حتى لم يبق إثم بسبب حرب وذلك حيث يسلم الكافر فالمقاتل يقول إما أن تسلم وإما أن تقتل فهو داع والكافر صاد وبينهما تباين وتضاد فقال في حق الكافر أضل بصيغة الماضي ولم يقل يضل إشارة إلى أن عمله حيث وجد عدم وكأنه لم يوجد من أصله وقال في حق المؤمن فلن يضل ولم يقل ما أضل إشارة إلى أن عمله كلما ثبت عليه أثبت له فلن يضل للتأبيد وبينهما غاية الخلاف كما أن بين الداعي والصاد غاية التباين والتضاد فإن قيل ما معنى الفاء في قوله فَلَن يُضِلَّ

جوابه لأن في قوله تعالى وَالَّذِينَ قُتِلُواْ معنى الشرط
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
إن قرىء قَاتِلُواْ أو قَاتَلُواْ فالهداية محمولة على الآجلة والعاجلة وإن قرىء قَاتِلُواْ فهو الآخرة سَيَهْدِيهِمْ طريق الجنة من غير وقفة من قبورهم إلى موضع حبورهم
وقوله وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
قد تقدم تفسيره في قوله تعالى إِصْلَاحٍ بَالَهُمْ ( محمد 2 ) والماضي والمستقبل راجع إلى أن هناك وعدهم ما وعدهم بسبب الإيمان والعمل الصالح وذلك كان واقعاً منهم فأخبر عن الجزاء بصيغة تدل على الوقوع وههنا وعدهم بسبب القتال والقتل فكان في اللفظ ما يدل على الاستقبال لأن قوله تعالى فَإِذَا لَقِيتُمُ ( محمد 4 ) يدل على الاستقبال فقال وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ثم قال تعالى
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّة َ عَرَّفَهَا لَهُمْ
وكأن الله تعالى عند حشرهم يهديهم إلى طريق الجنة ويلبسهم في الطريق خلع الكرامة وهو إصلاح البال وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّة َ فهو على ترتيب الوقوع
وأما قوله عَرَّفَهَا لَهُمْ ففيه وجوه أحدها هو أن كل أحد يعرف منزلته ومأواه حتى أن أهل الجنة يكونون أعرف بمنازلهم فيها من أهل الجمعة ينتشرون في الأرض كل أحد يأوي إلى منزله ومنهم من قال الملك الموكل بأعماله يهديه الوجه الثاني عَرَّفَهَا لَهُمْ أي طيبها يقال طعام معرف الوجه الثالث قال الزمخشري يحتمل أن يقال عرفها لهم حددها من عرف الدار وأرفها أي حددها وتحديدها في قوله وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 133 ) ويحتمل أن يقال المراد هو قوله تعالى وَتِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا ( الزخرف 72 ) مشيراً إليها معرفاً لهم بأنها هي تلك وفيه وجه آخر وهو أن يقال معناه عَرَّفَهَا لَهُمْ قبل القتل فإن الشهيد قبل وفاته تعرض عليه منزلته في الجنة فيشتاق إليها ووجه ثان معناه وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّة َ ولا حاجة إلى وصفها فإنه تعالى عَرَّفَهَا لَهُمْ مراراً ووصفها ووجه ثالث وهو من باب تعريف الضالة فإن الله تعالى لما قال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ ( التوبة 111 ) فكأنه تعالى قال من يأخذ الجنة ويطلبها بماله أو بنفسه فالذي قتل سمع التعريف وبذل ما طلب منه عليها فأدخلها ثم إنه تعالى لما بيّن ما على القتال من الثواب والأجر وعدهم بالنصر في الدنيا زيادة في الحث ليزداد منهم الإقدام فقال
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
وفي نصر الله تعالى وجوه الأول إن تنصروا دين الله وطريقه والثاني إن تنصروا حزب الله وفريقه الثالث المراد نصرة الله حقيقة فنقول النصرة تحقيق مطلوب أحد المتعاديين عند الاجتهاد والأخذ في تحقيق علامته فالشيطان عدو الله يجتهد في

تحقيق الكفر وغلبة أهل الإيمان والله يطلب قمع الكفر وإهلاك أهله وإفناء من اختار الإشراك بجهله فمن حقق نصرة الله حيث حقق مطلوبه لا تقول حقق مراده فإن مراد الله لا يحققه غيره ومطلوبه عند أهل السنة غير مراده فإنه طلب الإيمان من الكافر ولم يرده وإلا لوقع
ثم قال يَنصُرْكُمُ فإن قيل فعلام قلت إذا نصر المؤمنين الله تعالى فقد حقق ما طلبه فكيف يحقق ما طلبه العبد وهو شيء واحد فنقول المؤمن ينصر الله بخروجه إلى القتال وإقدامه والله ينصره بتقويته وتثبيت أقدامه وإرسال الملائكة الحافظين له من خلفه وقدامه ثم قال تعالى
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
هذا زيادة في تقوية قلوبهم لأنه تعالى لما قال وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ ( محمد 7 ) جاز أن يتوهم أن الكافر أيضاً يصير ويثبت للقتال فيدوم القتال والحراب والطعان والضراب وفيه المشقة العظيمة فقال تعالى لكم الثبات ولهم الزوال والتغير والهلاك فلا يكون الثبات وسببه ظاهر لأن آلهتهم جمادات لا قدرة لها ولا ثبات عند من له قدرة فهي غير صالحة لدفع ما قدره الله تعالى عليهم من الدمار وعند هذا لا بد عن زوال القدم والعثار وقال في حق المؤمنين وَيُثَبّتْ بصيغة الوعد لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء وقال في حقهم بصيغة الدعاء وهي أبلغ من صيغة الإخبار من الله لأن عثارهم واجب لأن عدم النصرة من آلهتهم واجب الوقوع إذ لا قدرة لها والتثبيت من الله ليس بواجب الوقوع لأنه قادر مختار يفعل ما يشاء
وقوله وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ إشارة إلى بيان مخالفة موتاهم لقتلى المسلمين حيث قال في حق قتلاهم فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ( محمد 4 ) وقال في موتى الكافرين وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ثم بيّن الله تعالى سبب ما اختلفوا فيه فقال
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
وفيه وجوه الأول المراد القرآن ووجهه هو أن كيفية العمل الصالح لا تعلم بالعقل وإنما تدرك بالشرع والشرع بالقرآن فلما أعرضوا لم يعرفوا العمل الصالح وكيفية الإتيان به فأتوا بالباطل فأحبط أعمالهم الثاني كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ من بيان التوحيد كما قال الله تعالى عنهم اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا ( الصافات 36 ) وقال تعالى أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إلى أن قال إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ( ص 5 7 ) وقال تعالى وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ ( الزمر 45 ) ووجهه أن الشرك محبط للعمل قال الله تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وكيف لا والعمل من المشرك لا يقع لوجه الله فلا بقاء له في نفسه ولا بقاء له ببقاء من له العمل لأن ما سوى وجه الله تعالى هالك محبط الثالث كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ من بيان أمر الآخرة فلم يعملوا لها والدنيا وما فيها ومآلها باطل فأحبط الله أعمالهم

أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا
فيه مناسبة للوجه الثالث يعني فينظروا إلى حالهم ويعلموا أن الدنيا فانية
وقوله دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي أهلك عليهم متاع الدنيا من الأموال والأولاد والأزواج والأجساد
وقوله تعالى وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد لهم أمثالها في الدنيا وحينئذ يكون المراد من الكافرين هم الكافرون بمحمد عليه الصلاة والسلام وثانيهما أن يكون المراد لهم أمثالها في الآخرة فيكون المراد من تقدم كأنه يقول دمر الله عليهم في الدنيا ولهم في الآخرة أمثالها وفي العائد إليه ضمير المؤنث في قوله أَمْثَالُهَا وجهان أحدهما هو المذكور وهو العاقبة وثانيهما هو المفهوم وهو العقوبة لأن التدمير كان عقوبة لهم فإن قيل على قولنا المراد للكافرين بمحمد عليه السلام أمثال ما كان لمن تقدمهم من العاقبة يرد سؤال وهو أن الأولين أهلكوا بوقائع شديدة كالزلازل والنيران وغيرهما من الرياح والطوفان ولا كذلك قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نقول جاز أن يكون عذابهم أشد من عذاب الأولين لكون دين محمد أظهر بسبب تقدم الأنبياء عليهم السلام عليه وإخبارهم عنه وإنذارهم به على أنهم قتلوا وأسروا بأيديهم من كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم والقتل بيد المثل آلم من الهلاك بسبب عام وسؤال آخر إذا كان الضمير عائداً إلى العاقبة فكيف يكون لها أمثال قلنا يجوز أن يقال المراد العذاب الذي هو مدلول العاقبة أو الألم الذي كانت العاقبة عليه ثم قال تعالى
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ
ذالِكَ يحتمل أن يكون إشارة إلى النصر وهو اختيار جماعة ذكره الواحدي ويحتمل وجهاً آخر أغرب من حيث النقل وأقرب من حديث العقل وهو أنا لما بينا أن قوله تعالى وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ( محمد 10 ) إشارة إلى أن قوم محمد عليه الصلاة والسلام أهكلوا بأيدي أمثالهم الذين كانوا لا يرضون بمجالستهم وهو آلم من الهلاك بالسبب العام قال تعالى ذالِكَ أي الإهلاك والهوان بسبب أن الله تعالى ناصر المؤمنين والكافرون اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر وتركوا الله فلا ناصر لهم ولا شك أن من ينصره الله تعالى يقدر على القتل والأسر وإن كان له ألف ناصر فضلاً عن أن يكون لا ناصر لهم فإن قيل كيف الجمع بين قوله تعالى لاَ مَوْلَى لَهُمْ وبين قوله مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( الأنعام 62 ) نقول المولى ورد بمعنى السيد والرب والناصر فحيث قال لاَ مَوْلَى لَهُمْ أراد لا ناصر لهم وحيث قال مَوْلَاهُمُ الْحَقّ أي ربهم ومالكهم كما قال تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ ( النساء 1 ) وقال رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ ( الشعراء 26 ) وفي الكلام تباين عظيم بين الكافر والمؤمن لأن المؤمن ينصره الله وهو خير الناصرين والكافر لا مولى له بصيغة نافية للجنس فليس له ناصر وإنه شر الناصرين ثم قال تعالى
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الاٌّ نْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ

لما بيّن الله تعالى حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بيّن حالهم في الآخرة وقال إنه يدخل المؤمن الجنة والكافر النار وفيه مسائل
المسألة الأولى كثيراً ما يقتصر الله على ذكر الأنهار في وصف الجنة لأن الأنهار يتبعها الأشجار والأشجار تتبعها الثمار ولأنه سبب حياة العالم والنار سبب الإعدام وللمؤمن الماء ينظر إليه وينتفع به وللكافر النار يتقلب فيها ويتضرر بها
المسألة الثانية ذكرنا مراراً أن من في قوله مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ يحتمل أن يكون صلة معناه تجري تحتها الأنهار ويحتمل أن يكون المراد أن ماءها منها لا يجري إليها من موضع آخر فيقال هذا النهر منبعه من أين يقال من عين كذا من تحت جبل كذا
لمسألة الثالثة قال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ خصهم بالذكر مع أن المؤمن أيضاً له التمتع بالدنيا وطيباتها نقول من يكون له ملك عظيم ويملك شيئاً يسيراً أيضاً لا يذكر إلا بالملك العظيم يقال في حق الملك العظيم صاحب الضيعة الفلانية ومن لا يملك إلا شيئاً يسيراً فلا يذكر إلا به فالمؤمن له ملك الجنة فمتاع الدنيا لا يلتفت إليه في حقه والكافر ليس له إلا الدنيا ووجه آخر الدنيا للمؤمن سجن كيف كان ومن يأكل في السجن لا يقال إنه يتمتع فإن قيل كيف تكون الدنيا سجناً مع ما فيها من الطيبات نقول للمؤمن في الآخرة طيبات معدة وإخوان مكرمون نسبتها ونسبتهم إلى الدنيا ومن فيها تتبين بمثال وهو أن من يكون له بستان فيه من كل الثمرات الطيبة في غاية اللذة وأنهار جارية في غاية الصفاء ودور وغرف في غاية الرفعة وأولاده فيها وهو قد غاب عنهم سنين ثم توجه إليهم وهم فيها فلما قرب منهم عوق في أجمة فيها من بعض الثمار العفصة والمياه الكدرة وفيها سباع وحشرات كثيرة فهل يكون حاله فيها كحال مسجون في بئر مظلمة وفي بيت خراب أم لا وهل يجوز أن يقال له اترك ما هو لك وتعلل بهذه الثمار وهذه الأنهار أم لا كذلك حال المؤمن وأما الكافر فحاله كحال من يقدم إلى القتل فيصبر عليه أياماً في مثل تلك الأجمة التي ذكرناها يكون في جنة ونسبة الدنيا إلى الجنة والنار دون ما ذكرنا من المثال لكنه ينبىء ذا البال عن حقيقة الحال
وقوله تعالى كَمَا تَأْكُلُ الاْنْعَامُ يحتمل وجوهاً أحدها أن الأنعام يهمها الأكل لا غير والكافر كذلك والمؤمن يأكل ليعمل صالحاً ويقوى عليه وثانيها الأنعام لا تستدل بالمأكول على خالقها والكافر كذلك وثالثها الأنعام تعلف لتسمن وهي غافلة عن الأمر لا تعلم أنها كلما كانت أسمن كانت أقرب إلى الذبح والهلاك وكذلك الكافر ويناسب ذلك قوله تعالى وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ
المسألة الرابعة قال في حق المؤمن إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بصيغة الوعد وقال في حق الكافر وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ بصيغة تنبىء عن الاستحقاق لما ذكرنا أن الإحسان لا يستدعي أن يكون عن استحقاق فالمحسن إلى من لم يوجد منه ما يوجب الإحسان كريم والمعذب من غير استحقاق ظالم

وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَة ٍ هِى َ أَشَدُّ قُوَّة ً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ
لما ضرب الله تعالى لهم مثلاً بقوله أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ ( محمد 10 ) ولم ينفعهم مع ما تقدم من الدلائل ضرب للنبي عليه السلام مثلاً تسلية له فقال وَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ هِى َ أَشَدُّ قُوَّة ً مّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ وكانوا أشد من أهل مكة كذلك نفعل بهم فاصبر كما صبر رسلهم وقوله فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ قال الزمخشري كيف قوله فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ مع أن الإهلاك ماض وقوله فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ للحال والاستقبال والجواب أنه محمول على الحكاية والحكاية كالحال الحاضر ويحتمل أن يقال أهلكناهم في الدنيا فلا ناصر لهم ينصرهم ويخلصهم من العذاب الذي هم فيه ويحتمل أن يقال قوله فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ عائد إلى أهل قرية محمد عليه السلام كأنه قال أهلكنا من تقدم أهل قريتك ولا ناصر لأهل قريتك ينصرهم ويخلصهم مما جرى على الأولين
أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُو ءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ
اعلم أن هذا إشارة إلى الفرق بين النبي عليه السلام والكفار ليعلم أن إهلاك الكفار ونصرة النبي عليه السلام في الدنيا محقق وأن الحال يناسب تعذيب الكافر وإثابة المؤمن وقوله عَلَى بَيّنَة ٍ فرق فارق وقوله مّن رَّبّهِ مكمل له وذلك أن البينة إذا كانت نظرية تكون كافية للفرق بين المتمسك بها وبين القائل قولاً لا دليل عليه فإذا كانت البينة منزلة من الله تعالى تكون أقوى وأظهر فتكون أعلى وأبهر ويحتمل أن يقال قوله مّن رَّبّهِ ليس المراد إنزالها منه بل المراد كونها من الرب بمعنى قوله يَهْدِى مَن يَشَآء ( المدثر 31 ) وقولنا الهداية من الله وكذلك قوله تعالى كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فرق فارق وقوله وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ تكملة وذلك أن من زين له سوء عمله وراجت الشبهة عليه في مقابلة من يتبين له البرهان وقبله لكن من راجت الشبهة عليه قد يتفكر في الأمر ويرجع إلى الحق فيكون أقرب إلى من هو على البرهان وقد يتبع هواه ولا يتدبر في البرهان ولا يتفكر في البيان فيكون في غاية البعد فإذن حصل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمن مع الكافر في طرفي التضاد وغاية التباعد حتى مدهم بالبينة والكافر له الشبهة وهو مع الله وأولئك مع الهوى وعلى قولنا مّن رَّبّهِ معناه الإضافة إلى الله كقولنا الهداية من الله فقوله اتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ مع ذلك القول يفيد معنى قوله تعالى مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ ( النساء 79 ) وقوله كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ بصيغة التوحيد محمول على لفظة من وقوله وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ محمول على معناه فإنها للجميع والعموم وذلك لأن التزيين للكل على حد واحد فحمل على اللفظ لقربه منه في الحس والذكر وعند اتباع الهوى كل أحد يتبع هوى نفسه فظهر التعدد فحمل على المعنى
مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّة ٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَة ٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ

قوله تعالى مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ
لما بيّن الفرق بين الفريقين في الاهتداء والضلال بيّن الفرق بينهما في مرجعهما ومآلهما وكما قدم من على البينة في الذكر على من اتبع هواه قدم حاله في مآله على حال من هو بخلاف حاله وفي التفسير مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى مَّثَلُ الْجَنَّة ِ يستدعي أمراً يمثل به فما هو نقول فيه وجوه الأول قول سيبويه حيث قال المثل هو الوصف معناه وصف الجنة وذلك لا يقتضي ممثلاً به وعلى هذا ففيه احتمالان أحدهما أن يكون الخبر محذوفاً ويكون مَّثَلُ الْجَنَّة ِ مبتدأ تقديره فيما قصصناه مثل الجنة ثم يستأنف ويقول فِيهَا أَنْهَارٌ وكذلك القول في سورة الرعد يكون قوله تعالى تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ( الرعد 35 ) ابتداء بيان والاحتمال الثاني أن يكون فيها أنهار وقوله تَجْرِى مِن تَحْتِهَا خبراً كما يقال صف لي زيداً فيقول القائل زيد أحمر قصير والقول الثاني أن المثل زيادة والتقدير الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار الوجه الثاني ههنا الممثل به محذوف غير مذكور وهو يحتمل قولين أحدهما قال الزجاج حيث قال مَّثَلُ الْجَنَّة ِ جنة تجري فِيهَا أَنْهَارٌ كما يقال مثل زيد رجل طويل أسمر فيذكر عين صفات زيد في رجل منكر لا يكون هو في الحقيقة إلا زيداً الثاني من القولين هو أن يقال معناه مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ مثل عجيب أو شيء عظيم أو مثل ذلك وعلى هذا يكون قوله فِيهَا أَنْهَارٌ كلاماً مستأنفاً محققاً لقولنا مثل عجيب الوجه الثالث الممثل به مذكور وهو قول الزمخشري حيث قال كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ مشبه به على طريقة الإنكار وحينئذ فهذا كقول القائل حركات زيد أو أخلاقه كعمرو وكذلك على أحد التأويلين إما على تأويل كحركات عمرو أو على تأويل زيد في حركاته كعمر وكذلك على أحد التأويلين إما على تأويل كحركات عمرو أو على تأويل زيد في حركاته كعمر وكذلك ههنا كأنه تعالى قال مثل الجنة كمن هو خالد في النار وهذا أقصى ما يمكن أن يقرر به قول الزمخشري وعلى هذا فقوله تعالى فِيهَا أَنْهَارٌ وما بعد هذا جمل اعتراضية وقعت بين المبتدأ والخبر كما يقال نظير زيد فيه مروءة وعنده علم وله أصل عمرو
ثم قال تعالى فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّة ٍ لّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مّنْ
اختار الأنهار من الأجناس الأربعة وذلك لأن المشروب إما أن يشرب لطعمه وإما أن يشرب لأمر غير عائد إلى الطعم فإن كان للطعم فالطعوم تسعة المر والمالح والحريف والحامض والعفص والقابض والتفه والحلو والدسم ألذها الحلو والدسم لكن أحلى الأشياء العسل فذكره وأما أدسم الأشياء فالدهن لكن الدسومة إذا تمحضت لا تطيب للأكل ولا للشرب فإن الدهن لا يؤكل ولا يشرب كما هو في الغالب وأما اللبن فيه الدسم الكائن في غيره وهو طيب للأكل وبه تغذية الحيوان أولاً فذكره الله تعالى وأما ما يشرب لا

لأمر عائد إلى الطعم فالماء والخمر فإن الخمر فيها أمر يشربها الشارب لأجله هي كريهة الطعم باتفاق من يشربها وحصول التواتر به ثم عرى كل واحد من الأشياء الأربعة عن صفات النقص التي هي فيها وتتغير بها الدنيا فالماء يتغير يقال أسن الماء يأسن على وزن أمن يأمن فهو آسن وأسن اللبن إذا بقي زماناً تغير طعمه والخمر يكرهه الشارب عند الشرب والعسل يشوبه أجزاء من الشمع ومن النحل يموت فيه كثيراً ثم إن الله تعالى خلط الجنسين فذكر الماء الذي يشرب لا للطعم وهو عام الشرب وقرن به اللبن الذي يشرب لطعمه وهو عام الشرب إذ ما من أحد إلا وكان شربه اللبن ثم ذكر الخمر الذي يشرب لا للطعم وهو قليل الشرب وقرن به العسل الذي يشرب للطعم وهو قليل الشرب فإن قيل العسل لا يشرب نقول شراب الجلاب لم يكن إلا من العسل والسكر قريب الزمان ألا ترى أن السكنجبين من ( سركه وانكبين ) وهو الخل والعسل بالفارسية كما أن استخراجه كان أولاً من الخل والعسل ولم يعرف السكر إلا في زمان متأخر ولأن العسل اسم يطلق على غير عسل النحل حتى يقال عسل النحل للتمييز والله أعلم
المسألة الثانية قال في الخمر لَذَّة ٍ لّلشَّارِبِينَ ولم يقل في اللبن لم يتغير طعمه للطاعمين ولا قال في العسل مصفى للناظرين لأن اللذة تختلف باختلاف الأشخاص فرب طعام يلتذ به شخص ويعافه الآخر فقال لَذَّة ٍ لّلشَّارِبِينَ بأسرهم ولأن الخمر كريهة الطعم فقال لَذَّة ٍ أي لا يكون في خمر الآخرة كراهة الطعم وأما الطعم واللون فلا يختلفان باختلاف الناس فإن الحلو والحامض وغيرهما يدركه كل أحد كذلك لكنه قد يعافه بعض الناس ويلتذ به البعض مع اتفاقهم على أن له طعماً واحداً وكذلك اللون فلم يكن إلى التصريح بالتعميم حاجة وقوله لَذَّة ٍ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون تأنيث لذ يقال طعام لذ ولذيذ وأطعمة لذة ولذيذة وثانيهما أن يكون ذلك وصفاً بنفس المعنى لا بالمشتق منه كما يقال للحليم هو حلم كله وللعاقل كله
ثم قال تعالى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَة ٌ مّن رَّبّهِمْ
بعد ذكر المشروب أشار إلى المأكول ولما كان في الجنة الأكل للذة لا للحاجة ذكر الثمار فإنها تؤكل للذة بخلاف الخبز واللحم وهذا كقوله تعالى في سورة الرعد مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا ( الرعد 35 ) حيث أشار إلى المأكول والمشروب وههنا لطيفة وهي أنه تعالى قال فيها وِظِلُّهَا ولم يقل ههنا ذلك نقول قال ههنا وَمَغْفِرَة ٌ والظل فيه معنى الستر والمغفرة كذلك ولأن المغفور تحت نظر من رحمة الغافر يقال نحن تحت ظل الأمير وظلها هو رحمة الله ومغفرته حيث لا يمسهم حر ولا برد
المسألة الثالثة المتقي لا يدخل الجنة إلا بعد المغفرة فكيف يكون لهم فيها مغفرة فنقول الجواب عنه من وجهين الأول ليس بلازم أن يكون المعنى لهم مغفرة من ربهم فيها بل يكون عطفاً على قوله ( لهم ) كأنه تعالى قال لهم الثمرات فيها ولهم المغفرة قبل دخولها والثاني هو أن يكون المعنى لهم فيها مغفرة أي

رفع التكليف عنهم فيأكلون من غير حساب بخلاف الدنيا فإن الثمار فيها على حساب أو عقاب ووجه آخر وهو أن الآكل في الدنيا لا يخلو عن استنتاج قبيح أو مكروه كمرض أو حاجة إلى تبرز فقال وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَة ٌ لا قبيح على الآكل بل مستور القبائح مغفور وهذا استفدته من المعلمين في بلادنا فإنهم يعودون الصبيان بأن يقولون وقت حاجتهم إلى إراقة البول وغيره يا معلم غفر الله لك فيفهم المعلم أنهم يطلبون الإذن في الخروج لقضاء الحاجة فيأذن لهم فقلت في نفسي معناه هو أن الله تعالى في الجنة غفر لمن أكل وأما في الدنيا فلأن للأكل توابع ولوازم لا بد منها فيفهم من قولهم حاجتهم
ثم قال تعالى كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ وفيه أيضاً مسائل
المسألة الأولى على قول من قال مَّثَلُ الْجَنَّة ِ معناه وصف الجنة فقوله كَمَنْ هُوَ بماذا يتعلق نقول قوله لَّهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَراتِ يتضمن كونهم فيها فكأنه قال هو فيها كمن هو خالد في النار فالمشبه يكون محذوفاً مدلولاً عليه بما سبق ويحتمل أن يقال ما قيل في تقرير قول الزمخشري أن المراد هذه الجنة التي مثلها ما ذكرنا كمقام من هو خالد في النار
المسألة الثانية قال الزجاج قوله تعالى كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ راجع إلى ما تقدم كأنه تعالى قال أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار فهل هو صحيح أم لا نقول لنا نظر إلى اللفظ فيمكن تصحيحه بتعسف ونظر إلى المعنى لا يصح إلا بأن يعود إلى ما ذكرناه أما التصحيح فبحذف كمن في المرة الثانية أو جعله بدلاً عن المتقدم أو بإضمار عاطف يعطف كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ على كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ أو كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ وأما التعسف فبيّن نظراً إلى الحذف وإلى الإضمار مع الفاصل الطويل بين المشبه والمشبه به وأما طريقة البدل ففاسدة وإلا لكان الاعتماد على الثاني فيكون كأنه قال أفمن كان على بينة كمن هو خالد وهو سمج في التشبيه تعالى كلام الله عن ذلك والقول في إضمار العاطف كذلك لأن المعطوف أيضاً يصير مستقلاً في التشبيه اللّهم إلا أن يقال المجموع بالمجموع كأنه يقول أفمن كان على بينة من ربه وهو في الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار وعلى هذا تقع المقابلة بين من هو على بينة من ربه وبين من زين له سوء عمله وبين من في الجنة وبين من هو خالد في النار وقد ذكرناه فلا حاجة إلى خلط الآية بالآية وكيف وعلى ما قاله تقع المقابلة بين من هو في النار وسقوا ماءً حميماً وبين من هو على بينة من ربه وأية مناسبة بينهما بخلاف ما ذكرناه من الوجوه الأخر فإن المقابلة بين الجنة التي فيها الأنهار وبين النار التي فيها الماء الحميم وذلك تشبيه إنكار مناسب
المسألة الثالثة قال كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ حملاً على اللفظ الواحد وقال وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً على المعنى وهو جمع وكذلك قال من قبل كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ ( محمد 14 ) على التوحيد والإفراد وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ على الجمع فما الوجه فيه نقول المسند إلى من إذا كان متصلاً فرعاية اللفظ أولى لأنه هو المسموع إذا كان مع انفصال فالعود إلى المعنى أولاً لأن اللفظ لا يبقى في السمع والمعنى يبقى في ذهن السامع فالحمل في الثاني على المعنى أولى وحمل الأول على اللفظ أولى فإن قيل كيف قال في سائر المواضع مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ( سبأ 37 ) و فَمَن تَابَ وَأَصْلَحَ ( المائدة 39 ) نقول إذا كان المعطوف مفرداً أو شبيهاً

بالمعطوف عليه في المعنى فالأولى أن يختلفا كما ذكرت فإنه عطف مفرد على مفرد وكذلك لو قال كمن هو خالد في النار ومعذب فيها لأن المشابهة تنافي المخالفة وأما إذا لم يكن كذلك كما في هذا الموضع فإن قوله السَّمَاء مَاء جملة غير مشابهة لقوله هُوَ خَالِدٌ وقوله تعالى وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً بيان لمخالفتهم في سائر أحوال أهل الجنة فلهم أنهار من ماء غير آسن ولهم ماء حميم فإن قيل المشابهة الإنكارية بالمخالفة على ما ثبت وقد ذكرت البعض وقلت بأن قوله عَلَى بَيّنَة ٍ في مقابلة زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ و مّن رَّبّهِ في مقابلة قوله وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ والجنة في مقابلة النار في قوله خَالِدٌ فِى النَّارِ والماء الحميم في مقابلة الأنهار فأين ما يقابل قوله وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَة ٌ فنقول تقطع الأمعاء في مقابلة مغفرة لأنا بينا على أحد الوجوه أن المغفرة التي في الجنة هي تعرية أكل الثمرات عما يلزمه من قضاء الحاجة والأمراض وغيرها كأنه قال للمؤمن أكل وشرب مطهر طاهر لا يجتمع في جوفهم فيؤذيهم ويحوجهم إلى قضاء حاجة وللكافر ماء حميم في أول ما يصل إلى جوفهم يقطع أمعاءهم ويشتهون خروجه من جوفهم وأما الثمار فلم يذكر مقابلها لأن في الجنة زيادة مذكورة فحققها بذكر أمر زايد
المسألة الرابعة الماء الحار يقطع أمعاءهم لأمر آخر غير الحرارة وهي الحدة التي تكون في السموم المدوفة وإلا فمجرد الحرارة لا يقطع فإن قيل قوله تعالى فَقَطَّعَ بالفاء يقتضي أن يكون القطع بما ذكر نقول نعم لكنه لا يقتضي أن يقال يقطع لأنه ماء حميم فحسب بل ماء حميم مخصوص يقطع ثم قال تعالى
وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ
لما بيّن الله تعالى حال الكافر ذكر حال المنافق بأنه من الكفار وقوله وَمِنْهُمُ يحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى الناس كما قال تعالى في سورة البقرة وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ ( البقرة 8 ) بعد ذكر الكفار ويحتمل أن يكون راجعاً إلى أهل مكة لأن ذكرهم سبق في قوله تعالى هِى َ أَشَدُّ قُوَّة ً مّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ ( محمد 13 ) ويحتمل أن يكون راجعاً إلى معنى قوله كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً ( محمد 15 ) يعني ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك وقوله حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ على ما ذكرنا حمل على المعنى الذي هو الجمع ويستمع حمل على اللفظ وقد سبق التحقيق فيه وقوله حَتَّى للعطف في قول المفسرين وعلى هذا فالعطف بحتى لا يحسن إلا إذا كان المعطوف جزءاً من المعطوف عليه إما أعلاه أو دونه كقول القائل أكرمني الناس حتى الملك وجاء الحاج حتى المشاة وفي الجملة ينبغي أن يكون المعطوف عليه من حيث المعنى ولا يشترط في العطف بالواو ذلك فيجوز أن تقول في الواو جاء الحاج وما علمت ولا يجوز مثل ذلك في حتى إذا علمت هذا فوجه التعلق ههنا هو أن قوله

حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ يفيد معنى زائداً في الاستماع كأنه يقول يستمعون استماعاً بالغاً جيداً لأنهم يستمعون وإذا خرجوا يستعيدون من العلماء كما يفعله المجتهد في التعلم الطالب للتفهم فإن قلت فعلى هذا يكون هذا صفة مدح لهم وهو ذكرهم في معرض الذم نقول يتميز بما بعده وهو أحد أمرين إما كونهم بذلك مستهزئين كالذكي يقول للبليد أعد كلامك حتى أفهمه ويرى في نفسه أنه مستمع إليه غاية الاستماع وكل أحد يعلم أنه مستهزىء غير مستفيد ولا مستعيد وإما كونهم لا يفهمون مع أنهم يستمعون ويستعيدون ويناسب هذا الثاني قوله تعالى كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ( الأعراف 101 ) والأول يؤكده قوله تعالى وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ( البقرة 14 ) والثاني يؤكده قوله تعالى قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( الحجرات 14 ) وقوله ءانِفاً قال بعض المفسرين معناه الساعة ومنه الاستئناف وهو الابتداء فعلى هذا فالأولى أن يقال يقولون ماذا قال آنفاً بمعنى أنهم يستعيدون كلامه من الابتداء كما يقول المستعيد للمعيد أعد كلامك من الابتداء حتى لا يفوتني شيء منه
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ
أي تركوا اتباع الحق إما بسبب عدم الفهم أو بسبب عدم الاستماع للاستفادة واتبعوا ضده ثم قال تعالى
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ
لما بيّن الله تعالى أن المنافق يستمع ولا ينتفع ويستعيد ولا يستفيد بين أن حال المؤمن المهتدي بخلافه فإنه يستمع فيفهم ويعمل بما يعلم والمنافق يستعيد والمهتدي يفسر ويعيد وفيه فائدتان إحداهما ما ذكرنا من بيان التباين بين الفريقين وثانيهما قطع عذر المنافق وإيضاح كونه مذموم الطريقة فإنه لو قال ما فهمته لغموضه وكونه معمى يرد عليه ويقول ليس كذلك فإن المهتدي فهم واستنبط لوازمه وتوابعه فذلك لعماء القلوب لا لخفاء المطلوب وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الفاعل للزيادة في قوله زَادَهُمْ نقول فيه وجوه الأول المسموع من النبي عليه الصلاة والسلام من كلام الله وكلام الرسول يدل عليه قوله وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ( محمد 16 ) فإنه يدل على مسموع والمقصود بيان التباين بين الفريقين فكأنه قال هم لم يفهموه وهؤلاء فهموه والثاني أن الله تعالى زادهم ويدل عليه قوله تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( محمد 16 ) وكأنه تعالى طبع على قلوبهم فزادهم عمى والمهتدين زاده هدى ً والثالث استهزاء المنافق زاد المهتدي هدى ووجهه أنه تعالى لما قال وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ قال وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ اتباعهم الهدى هدى فإنهم استقبحوا فعلهم فاجتنبوه
المسألة الثانية ما معنى قوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ نقول فيه وجوه منقولة ومستنبطة أما المنقولة فنقول قيل فيه إن المراد آتاهم ثواب تقواهم وقيل آتاهم نفس تقواهم من غير إضمار يعني بيّن لهم التقوى وقيل آتاهم توفيق العمل بما علموا وأما المستنبط فنقول يحتمل أن يكون المراد به بيان حال

المستمعين للقرآن الفاهمين لمعانيه المفسرين له بياناً لغاية الخلاف بين المنافق فإنه استمع ولم يفهمه وستعاد ولم يعلمه والمهتدي فإنه علمه وبينه لغيره ويدل عليه قوله تعالى زَادَهُمْ هُدًى ولم يقل اهتداء والهدى مصدر من هدى قال الله تعالى فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) أي خذ بما هدوا واهتد كما هدوا وعلى هذا فقوله تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ معناه جنبهم عن القول في القرآن بغير برهان وحملهم على الاتقاء من التفسير بالرأي وعلى هذا فقوله زَادَهُمْ هُدًى معناه كانوا مهتدين فزادهم على الاهتداء هدى حتى ارتقوا من درجة المهتدين إلى درجة الهادين ويحتمل أن يقال قوله زَادَهُمْ هُدًى إشارة إلى العلم وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ إشارة إلى الأخذ بالاحتياط فيما لم يعلموه وهو مستنبط من قوله تعالى فَبَشّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ( الزمر 17 18 ) وقوله وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ ( آل عمران 7 )
المعنى الثالث يحتمل أن يكون المراد بيان أن المخلص على خطر فهو أخشى من غيره وتحقيقه هو أنه لما قال زَادَهُمْ هُدًى أفاد أنهم ازداد علمهم وقال تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) فقال آتاهم خشيتهم التي يفيدها العلم
والمعنى الرابع تقواهم من يوم القيامة كما قال تعالى كَفُورٍ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ ( لقمان 33 ) ويدل عليه قوله تعالى فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَة َ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَة ً ( محمد 18 ) كأن ذكر الساعة عقيب التقوى يدل عليه
المعنى الخامس آتاهم تقواهم التقوى التي تليق بالمؤمن وهي التقوى التي لا يخاف معها لومة لائم
ثم قال تعالى الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ ( الأحزاب 39 ) وكذلك قوله تعالى مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 1 ) وهذا الوجه مناسب لأن الآية لبيان تباين الفريقين وهذا يحقق ذلك من حيث إن المنافق كان يخشى الناس وهم الفريقان المؤمنون والكافرون فكان يتردد بينهما ويرضي الفريقين ويسخط الله فقال الله تعالى المؤمن المهتدي بخلاف المنافق حيث علم ذاك ولم يعلم ذلك واتقى الله لا غير واتقى ذلك غير الله
فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَة َ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَة ً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ
يعني الكافرون والمنافقون لا ينظرون إلا الساعة وذلك لأن البراهين قد صحت والأمور قد اتضحت وهم لم يؤمنوا فلا يتوقع منهم الإيمان إلا عند قيام الساعة وهو من قبيل بدل الاشتمال على تقدير لا ينظرون

إلا الساعة إتيانها بغتة وقرىء فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَة َ أَن تَأْتِيَهُمْ على الشرط وجزاؤه لا ينفعهم ذكراهم يدل عليه قوله تعالى فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ وقد ذكرنا أن القيامة سميت بالساعة لساعة الأمور الواقعة فيها من البعث والحشر والحساب
وقوله فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا يحتمل وجهين أحدهما لبيان غاية عنادهم وتحقيقه هو أن الدلائل لما ظهرت ولم يؤمنوا لم يبق إلا إيمان اليأس وهو عند قيام الساعة لكن أشراطها بانت فكان ينبغي أن يؤمنوا ولم يؤمنوا فهم في لجة الفساد وغاية العناد ثانيهما يكون لتسلية قلوب المؤمنين كأنه تعالى لما قال فَهَلْ يَنظُرُونَ فهم منه تعذيبهم والساعة عند العوام مستبطأة فكأن قائلاً قال متى الساعة فقد جاء أشراطها كقوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَة ُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ( القمر 1 ) والأشراط العلامات قال المفسرون هي مثل انشقاق القمر ورسالة محمد عليه السلام ويحتمل أن يقال معنى الأشراط البينات الموضحة لجواز الحشر مثل خلق الإنسان ابتداء وخلق السماوات والأرض كما قال تعالى أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ( ي س 81 ) والأول هو التفسير
ثم قال تعالى فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ يعني لا تنفعهم الذكرى إذ لا تقبل التوبة ولا يحسب الإيمان والمراد فكيف لهم الحال إذا جاءتهم ذكراهم ومعنى ذلك يحتمل أن يكون هو قوله تعالى هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( الأنبياء 103 ) هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ ( الصافات 21 ) فيذكرون به للتحسر وكذلك قوله تعالى وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أَبْوابُهَا وَقَالَ ( الزمر 71 )
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلأ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ
ولبيان المناسبة وجوه الأول هو أنه تعالى لما قال فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا ( محمد 18 ) قال فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ يأتي بالساعة كما قال تعالى أَزِفَتِ الاْزِفَة ُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَة ٌ وثانيها فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا وهي آتية فكأن قائلاً قال متى هذا فقال فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ فلا تشتغل به واشتغل بما عليك من الاستغفار وكن في أي وقت مستعداً للقائها ويناسبه قوله تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ الثالث فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ينفعك فإن قيل النبي عليه الصلاة والسلام كان عالماً بذلك فما معنى الأمر نقول عنه من وجهين أحدهما فاثبت على ما أنت عليه من العلم كقول القائل لجالس يريد القيام اجلس أي لا تقم ثانيهما الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام والمراد قومه والضمير في أنه للشأن وتقدير هذا هو أنه عليه السلام لما دعا القوم إلى الإيمان ولم يؤمنوا ولم يبق شيء يحملهم على الإيمان إلا ظهور الأمر بالبعث والنشور وكان ذلك مما يحزن النبي عليه الصلاة والسلام فسلى قلبه وقال أنت كامل في نفسك مكمل لغيرك فإن لم يكمل بك قوم لم يرد الله تعالى بهم خيراً فأنت في نفسك عامل بعلمك وعلمك حيث تعلم أن الله واحد وتستغفر وأنت بحمد الله مكمل وتكمل المؤمنين والمؤمنات وأنت تستغفر لهم فقد حصل لك الوصفان فاثبت على ما أنت عليه ولا يحزنك كفرهم وقوله تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الخطاب معه والمراد المؤمنون وهو بعيد لإفراد المؤمنين والمؤمنات بالذكر وقال بعض الناس لِذَنبِكِ أي لذنب أهل بيتك وللمؤمنين والمؤمنات أي الذين ليسوا منك بأهل بيت

وثالثهما المراد هو النبي والذنب هو ترك الأفضل الذي هو بالنسبة إليه ذنب وحاشاه من ذلك وثالثها وجه حسن مستنبط وهو أن المراد توفيق العمل الحسن واجتناب العمل السيء ووجهه أن الاستغفار طلب الغفران والغفران هو الستر على القبيح ومن عصم فقد ستر عليه قبائح الهوى ومعنى طلب الغفران أن لا تفضحنا وذلك قد يكون بالعصمة منه فلا يقع فيه كما كان للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقد يكون بالستر عليه بعد الوجود كما هو في حق المؤمنين والمؤمنات وفي هذه الآية لطيفة وهي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) له أحوال ثلاثة حال مع الله وحال مع نفسه وحال مع غيره فأما مع الله وحده وأما مع نفسك فاستغفر لذنبك واطلب العصمة من الله وأما مع المؤمنين فاستغفر لهم واطلب الغفران لهم من الله وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ يعني حالكم في الدنيا وفي الآخرة وحالكم في الليل والنهار
وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَة ٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَة ٌ مُّحْكَمَة ٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِى ِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ
لما بيّن الله حال المنافق والكافر والمهتدي المؤمن عند استماع الآيات العلمية من التوحيد والحشر وغيرهما بقوله وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ( محمد 16 ) وقوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) بين حالهم في الآيات العملية فإن المؤمن كان ينتظر ورودها ويطلب تنزيلها وإذا تأخر عنه التكليف كان يقول هلا أمرت بشيء من العبادة خوفاً من أن لا يؤهل لها والمنافق إذا نزلت السورة أو الآية وفيها تكليف شق عليه ليعلم تباين الفريقين في العلم والعمل حيث لا يفهم المنافق العلم ولا يريد العمل والمؤمن يعلم ويحب العمل وقولهم لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَة ٌ المراد منه سورة فيها تكليف بمحن المؤمن والمنافق
ثم إنه تعالى أنزل سورة فيها القتال فإنه أشق تكليف وقوله سُورَة ٌ مُّحْكَمَة ٌ فيها وجوه أحدها سورة لم تنسخ ثانيها سورة فيها ألفاظ أُريدت حقائقها بخلاف قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه 5 ) وقوله فِى جَنبِ اللَّهِ ( الزمر 56 ) فإن قوله تعالى فَضَرْبَ الرّقَابِ ( محمد 4 ) أراد القتل وهو أبلغ من قوله فَاقْتُلُوهُمْ ( البقرة 191 ) وقوله وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ( النساء 91 ) صريح وكذلك غير هذا من آيات القتال وعلى الوجهين فقوله مُّحْكَمَة ٌ فيها فائدة زائدة من حيث إنهم لا يمكنهم أن يقولوا المراد غير ما يظهر منه أو يقولوا هذه آية وقد نسخت فلا نقاتل وقوله رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أي المنافقين يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِى ّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ لأن عند التكليف بالقتال لا يبقى لنفاقهم فائدة فإنهم قيل القتال كانوا يترددون إلى القبيلتين وعند الأمر بالقتال لم يبق لهم إمكان ذلك فَأَوْلَى لَهُمْ دعاء كقول القائل فويلٌ لهم ويحتمل

أن يكون هو خبر لمبتدأ محذوف سبق ذكره وهو الموت كأن الله تعالى لما قال نَظَرَ الْمَغْشِى ّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ قال فالموت أولى لهم لأن الحياة التي لا في طاعة الله ورسوله الموت خير منها وقال الواحدي يجوز أن يكون المعنى فأولى لهم طاعة أي الطاعة أولى لهم
طَاعَة ٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الاٌّ مْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ
ثم قال تعالى طَاعَة ٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ
كلام مستأنف محذوف الخبر تقديره خير لهم أي أحسن وأمثل لا يقال طاعة نكرة لا تصلح للابتداء لأنا نقول هي موصوفة بدل عليه قوله وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فإنه موصوف فكأنه تعالى قال طَاعَة ٌ مخلصة وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ خير وقيل معناه قالوا طَاعَة ٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ أي قولهم أمرنا طَاعَة ٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ويدل عليه قراءة أُبي يَقُولُونَ طَاعَة ٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ
وقوله فَإِذَا عَزَمَ الاْمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ
جوابه محذوف تقديره فَإِذَا عَزَمَ الاْمْرُ خالفوا وتخلفوا وهو مناسب لمعنى قراءة أُبي كأنه يقول في أول الأمر قالوا سمعاً وطاعة وعند آخر الأمر خالفوا وأخلفوا موعدهم ونسب العزم إلى الأمر والعزم لصاحب الأمر معناه فإذا عزم صاحب الأمر هذا قول الزمخشري ويحتمل أن يقال هو مجاز كقولنا جاء الأمر وولى فإن الأمر في الأول يتوقع أن لا يقع وعند إظلاله وعجز الكاره عن إبطاله فهو واقع فقال عَزَمَ والوجهان متقاربان وقوله تعالى فَلَوْ صَدَقُواْ فيه وجهان على قولنا المراد من قوله طاعة أنهم قالوا طاعة فمعناه لو صدقوا في ذلك القول وأطاعوا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وعلى قولنا طَاعَة ٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ خير لهم وأحسن فمعناه لَوْ صَدَقُواْ في إيمانهم واتباعهم الرسول لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ
وهذه الآية فيها إشارة إلى فساد قول قالوه وهو أنهم كانوا يقولون كيف نقاتل والقتل إفساد والعرب من ذوي أرحامنا وقبائلنا فقال تعالى إِن تَوَلَّيْتُمْ لا يقع منكم إلا الفساد في الأرض فإنكم تقتلون من تقدرون عليه وتنهبونه والقتال واقع بينكم أليس قتلكم البنات إفساداً وقطعاً للرحم فلا يصح تعللكم بذلك مع أنه خلاف ما أمر الله وهذا طاعة وفيه مسائل
المسألة الأولى في استعمال عسى ثلاثة مذاهب أحدها الإتيان بها على صورة فعل ماضٍ معه فاعل تقول عسى زيد وعسينا وعسوا وعسيت وعسيتما وعسيتم وعست وعستا والثاني أن يؤتى بها على صورة فعل مع مفعول تقول عساه وعساهما وعساك وعساكما وعساي وعسانا والثالث الإتيان بها من غير أن يقرن بها شيء تقول عسى زيد يخرج وعسى أنت تخرج وعسى أنا أخرج والكل له وجه وما عليه كلام الله أوجه وذلك لأن عسى من الأفعال الجامدة واقتران الفاعل بالفعل أولى من اقتران المفعول لأن الفاعل كالجزء من الفعل ولهذا لم يجز فيه أربع متحركات في مثل قول القائل نصرت وجوز في مثل قولهم نصرك ولأن كل فعل له فاعل سواء كان لازماً أو متعدياً ولا كذلك المفعول به فعسيت وعساك كعصيت وعصاك في اقتران الفاعل بالفعل والمفعول به وأما قول من قال عسى أنت تقوم وعسى أن أقوم فدون ما ذكرنا للتطويل الذي فيه
المسألة الثانية الاستفهام للتقرير المؤكد فإنه لو قال على سبيل الإخبار عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ لكان للمخاطب أن ينكره فإذا قال بصيغة الاستفهام كأنه يقول أنا أسألك عن هذا وأنت لا تقدر أن تجيب إلا بلا أو

نعم فهو مقرر عندك وعندي
المسألة الثالثة عسى للتوقيع والله تعالى عالم بكل شيء فنقول فيه ما قلنا في لعل وفي قوله لِنَبْلُوَهُمْ ( الكهف 7 ) إن بعض الناس قال يفعل بكم فعل المترجي والمبتلي والمتوقع وقال آخرون كل من ينظر إليهم يتوقع منهم ذلك ونحن قلنا محمول على الحقيقة وذلك لأن الفعل إذا كان ممكناً في نفسه فالنظر إليه غير مستلزم لأمر وإنما الأمر يجوز أن يحصل منه تارة ولا يحصل منه أخرى فيكون الفعل لذلك الأمر المطلوب على سبيل الترجي سواء كان الفاعل يعلم حصول الأمر منه وسواء أن لم يكن يعلم مثاله من نصب شبكة لاصطياد الصيد يقال هو متوقع لذلك فإن حصل له العلم بوقوعه فيه بإخبار صادق أنه سيقع فيه أو بطريق أخرى لا يخرج عن التوقع غاية ما في الباب أن في الشاهد لم يحصل لنا العلم فيما نتوقعه فيظن أن عدم العلم لازم للمتوقع وليس كذلك بل المتوقع هو المنتظر لأمر ليس بواجب الوقوع نظراً لذلك الأمر فحسب سواء كان له به علم أو لم يكن وقوله إِن تَوَلَّيْتُمْ فيه وجهان أحدهما أنه من الولاية يعني إن أخذتم الولاية وصار الناس بأمركم أفسدتم وقطعتم الأرحام وثانيهما هو من التولي الذي هو الإعراض وهذا مناسب لما ذكرنا أي كنتم تتركون القتال وتقولون فيه الإفساد وقطع الأرحام لكون الكفار أقاربنا فلا يقع منكم إلا ذلك حيث تقاتلون على أدنى شيء كما كان عادة العرب الأول يؤكده قراءة علي عليه السلام توليتم أي إن تولاكم ولاة ظلمة جفاة غشمة ومشيتم تحت لوائهم وأفسدتم بإفسادهم معهم وقطعتم أرحامكم والنبي عليه السلام لا يأمركم إلا بالإصلاح وصلة الأرحام فلم تتقاعدون عن القتال وتتباعدون في الضلال
أَوْلَائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ
إشارة لمن سبق ذكرهم من المنافقين أبعدهم الله عنه أو عن الخير فأصمهم فلا يسمعون الكلام المستبين وأعماهم فلا يتبعون الصراط المستقيم وفيه ترتيب حسن وذلك من حيث إنهم استمعوا الكلام العلمي ولم يفهموه فهم بالنسبة إليه صم أصمهم الله وعند الأمر بالعمل تركوه وعللوا بكونه إفساداً وقطعاً للرحم وهم كانوا يتعاطونه عند النهي عنه فلم يروا حالهم عليه وتركوا اتباع النبي الذي يأمرهم بالإصلاح وصلة الأرحام ولو دعاهم من يأمر بالإفساد وقطيعة الرحم لاتبعوه فهم عمي أعماهم الله وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال أصمهم ولم يقل أصم آذانهم وقال وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ولم يقل أعماهم وذلك لأن العين آلة الرؤية ولو أصابها آفة لا يحصل الإبصار والأذن لو أصابها آفة من قطع أو قلع تسمع الكلام لأن الأذن خلقت وخلق فيها تعاريج ليكثر فيها الهواء المتموج ولا يقرع الصماخ بعنف فيؤذي كما يؤذي الصوت القوي فقال أصمهم من غير ذكر الأذن وقال أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ مع ذكر العين لأن البصر ههنا بمعنى العين ولهذا جمعه بالأبصار ولو كان مصدراً لما جمع فلم يذكر الأذن إذ لا مدخل لها في الإصمام والعين لها مدخل في الرؤية بل هي الكل ويدل عليه أن الآفة في غير هذه المواضع لما أضافها إلى الأذن سماها وقراً كما قال تعالى وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى ( فصلت 5 ) وقال كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً ( لقمان 7 ) والوقر دون الصم وكذلك الطرش

أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ
ولنذكر تفسيرها في مسائل
المسألة الأولى لما قال الله تعالى فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ( محمد 23 ) كيف يمكنهم التدبر في القرآن قال تعالى أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ وهو كقول القائل للأعمى أبصر وللأصم اسمع فنقول الجواب عنه من ثلاثة أوجه مترتبة بعضها أحسن من البعض الأول تكليفه ما لا يطاق جائز والله أمر من علم أنه لا يؤمن بأن يؤمن فكذلك جاز أن يعميهم ويذمهم على ترك التدبر الثاني أن قوله أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ المراد منه الناس الثالث أن نقول هذه الآية وردت محققة لمعنى الآية المتقدمة فإنه تعالى قال أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ( محمد 23 ) أي أبعدهم عنه أو عن الصدق أو عن الخير أو غير ذلك من الأمور الحسنة فَأَصَمَّهُمْ لا يسمعون حقيقة الكلام وأعماهم لا يتبعون طريق الإسلام فإذن هم بين أمرين إما لا يتدبرون القرآن فيبعدون منه لأن الله تعالى لعنهم وأبعدهم عن الخير والصدق والقرآن منهما الصنف الأعلى بل النوع الأشرف وأما يتدبرون لكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة تقديره أفلا يتدبرون القرآن لكونهم ملعونين مبعودين أم على قلوب أقفال فيتدبرون ولا يفهمون وعلى هذا لا نحتاج أن نقول أم بمعنى بل بل هي على حقيقتها للاستفهام واقعة في وسط الكلام والهمزة أخذت مكانها وهو الصدر وأم دخلت على القلوب التي في وسط الكلام
المسألة الثانية قوله عَلَى قُلُوبٍ على التنكير ما الفائدة فيه نقول قال الزمخشري يحتمل وجهين أحدهما أن يكون للتنبيه على كونه موصوفاً لأن النكرة بالوصف أولى من المعرفة فكأنه قال أم على قلوب قاسية أو مظلمة الثاني أن يكون للتبعيض كأنه قال أم على بعض القلوب لأن النكرة لا تعم تقول جاءني رجال فيفهم البعض وجاءني الرجال فيفهم الكل ونحن نقول التنكير للقلوب للتنبيه على الإنكار الذي في القلوب وذلك لأن القلب إذا كان عارفاً كان معروفاً لأن القلب خلق للمعرفة فإذا لم تكن فيه المعرفة فكأنه لا يعرف وهذا كما يقول القائل في الإنسان المؤذي هذا ليس بإنسان هذا سبع ولذلك يقال هذا ليس بقلب هذا حجر إذا علم هذا فالتعريف إما بالألف واللام وإما بالإضافة واللام لتعريف الجنس أو للعهد ولم يمكن إرادة الجنس إذ ليس على قلب قفل ولا تعريف العهد لأن ذلك القلب ليس ينبغي أن يقال له قلب وأما بالإضافة بأن نقول على قلوب أقفالها وهي لعدم عود فائدة إليهم كأنها ليست لهم فإن قيل فقد قال خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( البقرة 7 ) وقال فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ ( الزمر 22 ) فنقول الأقفال أبلغ من الختم فترك الإضافة لعدم انتفاعهم رأساً
المسألة الثالثة في قوله أَقْفَالُهَا بالإضافة ولم يقل أقفال كما قال قُلُوبٍ لأن الأقفال كانت من شأنها فأضافها إليها كأنها ليست إلا لها وفي الجملة لم يضف القلوب إليهم لعدم نفعها إياهم وأضاف الأقفال إليها لكونها مناسبة لها ونقول أراد به أقفالاً مخصوصة هي أقفال الكفر والعناد

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ
إشارة إلى أهل الكتاب الذي تبين لهم الحق في التوراة بنعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبعثه وارتدوا أو إلى كل من ظهرت له الدلائل وسمعها ولم يؤمن وهم جماعة منعهم حب الرياسة عن اتباع محمد عليه السلام وكانوا يعلمون أنه الحق الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ سهل لهم وَأَمْلَى لَهُمْ يعني قالوا نعيش أياماً ثم نؤمن به وقرىء وَأَمْلَى لَهُمْ فإن قيل الإملاء والإمهال وحد الآجال لا يكون إلا من الله فكيف يصح قراءة من قرأ وَأَمْلَى لَهُمْ فإن المملي حينئذ يكون هو الشيطان نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما جاز أن يكون المراد وَأَمْلَى لَهُمْ الله فيقف على سَوَّلَ لَهُمْ وثانيها هو أن المسول أيضاً ليس هو الشيطان وإنما أسند إليه من حيث إن الله قدر على يده ولسانه ذلك فذلك الشيطان يمليهم ويقول لهم في آجالكم فسحة فتمتعوا برياستكم ثم في آخر الأمر تؤمنون وقرىء وَأَمْلَى لَهُمْ بفتح الياء وضم الهمزة على البناء للمفعول
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الاٌّ مْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ
قال بعض المفسرين ذلك إشارة إلى الإملاء أي ذلك الإملاء بسبب أنهم قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ وهو اختيار الواحدي وقال بعضهم ذالِكَ إشارة إلى التسويل ويحتمل أن يقال ذلك الارتداد بسبب أنهم قالوا سَنُطِيعُكُمْ وذلك لأنا نبين أن قوله سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الاْمْرِ هو أنهم قالوا نوافقكم على أن محمداً ليس بمرسل وإنما هو كاذب ولكن لا نوافقكم في إنكار الرسالة والحشر والإشراك بالله من الأصنام ومن لم يؤمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهو كافر وإن آمن بغيره لا بل من لم يؤمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا يؤمن بالله ولا برسله ولا بالحشر لأن الله كما أخبر عن الحشر وهو جائز أخبر عن نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام وهي جائزة فإذا لم يصدق الله في شيء لا ينفي الكذب بقول الله في غيره فلا يكون مصدقاً موقناً بالحشر ولا برسالة أحد من الأنبياء لأن طريق معرفتهم واحد والمراد من الذين كرهوا ما نزل الله هم المشركون والمنافقون وقيل المراد اليهود فإن أهل مكة قالوا لهم نوافقكم في إخراج محمد وقتله وقتال أصحابه والأول أصح لأن قوله كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ لو كان مسنداً إلى أهل الكتاب لكان مخصوصاً ببعض ما أنزل الله وإن قلنا بأنه مسند إلى المشركين يكون عاماً لأنهم كرهوا ما نزل الله وكذبوا الرسل بأسرهم وأنكروا الرسالة رأساً وقوله سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الاْمْرِ يعني فيما يتعلق بمحمد من الإيمان به فلا نؤمن والتكذيب به فنكذبه كما تكذبونه والقتال معه وأما الإشراك بالله واتخاذ الأنداد له من الأصنام وإنكار الحشر والنبوة فلا وقوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ قال أكثرهم المراد منه هو أنهم قالوا ذلك سراً فأفشاه الله وأظهره لنبيه عليه الصلاة والسلام والأظهر أن يقال وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ وهو ما في قلوبهم من العلم بصدق محمد عليه

الصلاة والسلام فإنهم كانوا مكابرين معاندين وكانوا يعرفون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما يعرفون أبناءهم وقرىء إِسْرَارَهُمْ بكسر الهمزة على المصدر وما ذكرنا من المعنى ظاهر على هذه القراءة فإنهم كانوا يسرون نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وعلى قولنا المراد من الذين ارتدوا المنافقون فكانوا يقولون للمجاهدين من الكفار سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الاْمْرِ ( محمد 26 ) وكانوا يسرون أنهم إن غلبوا انقلبوا كما قال الله تعالى ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم وقال تعالى وقال تعالى فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَة ٍ حِدَادٍ ( الأحزاب 15 )
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَة ُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ
اعلم أنه لما قال الله تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ( محمد 26 ) قال فهب أنهم يسرون والله لا يظهره اليوم فكيف يبقى مخفياً وقت وفاتهم أو نقول كأنه تعالى قال وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ وهب أنهم يختارون القتال لما فيه الضراب والطعان مع أنه مفيد على الوجهين جميعاً إن غلبوا فالمال في الحال والثواب في المآل وإن غلبوا فالشهادة والسعادة فكيف حالهم إذا ضرب وجوههم وأدبارهم وعلى هذا فيه لطيفة وهي أن القتال في الحال إن أقدم المبارزة فربما يهزم الخصم ويسلم وجهه وقفاه وإن لم يهزمه فالضرب على وجهه إن صبر وثبت وإن لم يثبت وانهزم فإن فات القرن فقد سلم وجهه وقفاه وإن لم يفته فالضرب على قفاه لا غير ويوم الوفاة لا نصرة له ولا مفر فوجهه وظهره مضروب مطعون فكيف يحترز عن الأذى ويختار العذاب الأكبر
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
قوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى ذكر أمرين ضرب الوجه وضرب الأدبار وذكر بعدهما أمرين آخرين اتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه فكأنه تعالى قابل الأمرين فقال يضربون وجوههم حيث أقبلوا على سخط الله فإن المتسع للشيء متوجه إليه ويضربون أدبارهم لأنهم تولوا عما فيه رضا الله فإن الكاره للشيء يتولى عنه وما أسخط الله يحتمل وجوهاً الأول إنكار الرسول عليه الصلاة والسلام ورضوانه الإقرار به والإسلام الثاني الكفر هو ما أسخط الله والإيمان يرضيه يدل عليه قوله تعالى إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِى ٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ اللَّهُ لَكُمْ ( الزمر 7 ) وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة ِ

إلى أن قال رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ( البينة 7 8 ) الثالث ما أسخط الله تسويل الشيطان ورضوان الله التعويل على البرهان والقرآن فإن قيل هم ما كانوا يكرهون رضوان الله بل كانوا يقولون إن ما نحن عليه فيه رضوان الله ولا نطلب إلا رضاء الله وكيف لا والمشركون بإشراكهم كانوا يقولون إنا نطلب رضاء الله كما قالوا لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) وقالوا فَيَشْفَعُواْ لَنَا ( الأعراف 53 ) فنقول معناه كرهوا ما فيه رضاء الله تعالى
وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال مَا أَسْخَطَ اللَّهَ ولم يقل ما أرضى الله وذلك لأن رحمة الله سابقة فله رحمة ثابتة وهي منشأ الرضوان وغضب الله متأخر فهو يكون على ذنب فقال رِضْوَانَهُ لأنه وصف ثابت لله سابق ولم يقل سخط الله بل مَا أَسْخَطَ اللَّهَ إشارة إلى أن السخط ليس ثبوته كثبوت الرضوان ولهذا المعنى قال في اللعان في حق المرأة وَالْخَامِسَة َ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( النور 9 ) يقال غضب الله مضافاً لأن لعانه قد سبق مظهر الزنا بقوله وأيمانه وقبله لم يكن لله غضب و رضوان الله أمر يكون منه الفعل وغضب الله أمر يكون من فعله ولنضرب له مثالاً الكريم الذي رسخ الكرم في نفسه يحمله الكرم على الأفعال الحسنة فإذا كثر من السيء الإساءة فغضبه لا لأمر يعود إليه بل غضبه عليه يكون لإصلاح حالة وزجراً لأمثاله عن مثل فعاله فيقال هو كان الكريم فكرمه لما فيه من الغريزة الحسنة لكن فلاناً أغضبه وظهر منه الغضب فيجعل الغضب ظاهراً من الفعل والفعل الحسن ظاهراً من الكرم فالغضب في الكريم بعد فعل والفعل منه بعد كرم ومن هذا يعرف لطف قوله مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ
ثم قال تعالى فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ حيث لم يطلبوا إرضاء الله وإنما طلبوا إرضاء الشيطان والأصنام
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
قوله تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
هذا إشارة إلى المنافقين و أَمْ تستدعي جملة أخرى استفهامية إذا كانت للاستفهام لأن كلمة أَمْ إذا كانت متصلة استفهامية تستدعي سبق جملة أخرى استفهامية يقال أزيد في الدار أم عمرو وإذا كانت منقطعة لا تستدعي ذلك يقال إن هذا لزيد أم عمرو وكما يقال بل عمرو والمفسرون على أنها منقطعة ويحتمل أن يقال إنها استفهامية والسابق مفهوم من قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فكأنه تعالى قال أحسب الذين كفروا أن لن يعلم الله إسرارهم أم حسب المنافقون أن لن يظهرها والكل قاصر وإنما يعلمها ويظهرها ويؤيد هذا أن المتقطعة لا تكاد تقع في صدر الكلام فلا يقال ابتداء بل جاء زيد ولا أم جاء عمرو والإخراج بمعنى الإظهار فإنه إبراز والأضغان هي الحقود والأمراض واحدها ضغن
وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
ثم قال تعالى وَلَوْ نَشَاء لارَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
لما كان مفهوم قوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ( محمد 29 ) أن الله يظهر ضمائرهم ويبرز سرائرهم كأن قائلاً قال فلم لم يظهر فقال أخرناه لمحض المشيئة لا لخوف منهم كما لا تفشى أسرار الأكابر خوفاً منهم وَلَوْ نَشَاء لارَيْنَاكَهُمْ أي لا مانع لنا والإراءة بمعنى التعريف وقوله

فلتعرفنهم لزيادة فائدة وهي أن التعريف قد يطلق ولا يلزمه المعرفة يقال عرفته ولم يعرف وفهمته ولم يفهم فقال ههنا لارَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم يعني عرفناهم تعريفاً تعرفهم به إشارة إلى قوة التعريف واللام في قوله فَلَعَرَفْتَهُم هي التي تقع في جزاء لو كما في قوله لارَيْنَاكَهُمْ أدخلت على المعرفة إشارة إلى أن المعرفة كالمرتبة على المشيئة كأنه قال ولو نشاء لعرفتهم ليفهم أن المعرفة غير متأخرة عن التعريف فتفيد تأكيد التعريف أي لو نشاء لعرفناك تعريفاً معه المعرفة لا بعده وأما اللام في قوله تعالى وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ جواب لقسم محذوف كأنه قال ولتعرفنهم والله وقوله فِى لَحْنِ الْقَوْلِ فيه وجوه أحدها في معنى القول وعلى هذا فيحتمل أن يكون المراد من القول قولهم أي لتعرفنهم في معنى قولهم حيث يقولون ما معناه النفاق كقولهم حين مجيء النصر إنا كنا معكم وقولهم لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ِ لَيُخْرِجَنَّ ( المنافقون 8 ) وقولهم إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَة ٌ ( الأحزاب 13 ) وغير ذلك ويحتمل أن يكون المراد قول الله عزّ وجل أي لتعرفنهم في معنى قول الله تعالى حيث قال ما تعلم منه حال المنافقين كقوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ ( النور 62 ) وقوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ( الأنفال 2 ) إلى غير ذلك وثانيها في ميل القول عن الصواب حيث قالوا ما لم يعتقدوا فأمالوا كلامهم حيث قالوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ وقالوا إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَة ٌ وَمَا هِى َ بِعَوْرَة ٍ ( الأحزاب 13 ) وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاْدْبَارَ ( الأحزاب 15 ) إلى غير ذلك وثالثها في لحن القول أي في الوجه الخفي من القول الذي يفهمه النبي عليه السلام ولا يفهمه غيره وهذا يحتمل أمرين أيضاً والنبي عليه السلام كان يعرف المنافق ولم يكن يظهر أمره إلى أن أذن الله تعالى له في إظهار أمرهم ومنع من الصلاة على جنائزهم والقيام على قبورهم وأما قوله بِسِيمَاهُمْ فالظاهر أن المراد أن الله تعالى لو شاء لجعل على وجوههم علامة أو يمسخهم كما قال تعالى وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ ( ي س 67 ) وروي أن جماعة منهم أصبحوا وعلى جباههم مكتوب هذا منافق وقوله تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ وعد للمؤمنين وبيان لكون حالهم على خلاف حال المنافق فإن المنافق كان له قول بلا عمل والمؤمن كان له عمل ولا يقول به وإنما قوله التسبيح ويدل عليه قوله تعالى رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ( البقرة 286 ) وقوله رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَاتِنَا ( آل عمران 193 ) وكانوا يعملون الصالحات ويتكلمون في السيئات مستغفرين مشفقين والمنافق كان يتكلم في الصالحات كقوله إِنَّا مَعَكُمْ ( البقرة 14 ) قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا ( الحجرات 14 ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا ( البقرة 8 ) ويعمل السيء فقال تعالى الله يسمع أقوالهم الفارغة ويعلم أعمالكم الصالحة فلا يضيع
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ
أي لنأمرنكم بما لا يكون متعيناً للوقوع بل بما يحتمل الوقوع ويحتمل عدم الوقوع كما يفعل المختبر وقوله تعالى حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ أي نعلم المجاهدين من غير المجاهدين ويدخل في علم الشهادة فإنه تعالى قد علمه علم الغيب وقد ذكرنا ما هو التحقيق في الابتلاء وفي قوله حَتَّى نَعْلَمَ وقوله

الْمُجَاهِدِينَ أي المقدمين على الجهاد وَالصَّابِرِينَ أي الثابتين الذين لا يولون الأدبار وقوله وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ يحتمل وجوهاً أحدها قوله مِنَ ( البقرة 8 ) لأن المنافق وجد منه هذا الخبر والمؤمن وجد منه ذلك أيضاً وبالجهاد يعلم الصادق من الكاذب كما قال تعالى أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( الحجرات 15 ) وثانيها إخبارهم من عدم التولية في قوله وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاْدْبَارَ ( الأحزاب 15 ) إلى غير ذلك فالمؤمن وفى بعهده وقاتل مع أصحابه في سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص والمنافق كان كالهباء ينزعج بأدنى صيحة وثالثها المؤمن كان له أخبار صادقة مسموعة من النبي عليه السلام كقوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ( الفتح 27 ) لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 ) و ءانٍ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( الصافات 173 ) وللمنافق أخبار أراجيف كما قال تعالى في حقهم وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَة ِ ( الأحزاب 60 ) فعند تحقق الإيجاف يتبين الصدق من الإرجاف
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَآقُّواْ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ
فيه وجهان أحدهما هم أهل الكتاب قريظة والنضير والثاني كفار قريش يدل على الأول قوله تعالى مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى قيل أهل الكتاب تبين لهم صدق محمد عليه السلام وقوله لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً تهديد معناه هم يظنون أن ذلك الشقاق مع الرسول وهم به يشاقونه وليس كذلك بل الشقاق مع الله فإن محمداً رسول الله ما عليه إلا البلاغ فإن ضروا يضروا الرسل لكن الله منزه عن أن يتضرر بكفر كافر وفسق فاسق وقوله وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ قد علم معناه فإن قيل قد تقدم في أول السورة أن الله تعالى أحبط أعمالهم فكيف يحبط في المستقبل فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن المراد من قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( محمد 1 ) في أول السورة المشركون ومن أول الأمر كانوا مبطلين وأعمالهم كانت على غير شريعة والمراد من الذين كفروا ههنا أهل الكتاب وكانت لهم أعمال قبل الرسول فأحبطها الله تعالى بسبب تكذيبهم الرسول ولا ينفعهم إيمانهم بالحشر والرسل والتوحيد والكافر المشرك أحبط عمله حيث لم يكن على شرع أصلاً ولا كان معترفاً بالحشر الثاني هو أن المراد بالأعمال ههنا مكايدهم في القتال وذلك في تحقق منهم والله سيبطله حيث يكون النصر للمؤمنين والمراد بالأعمال في أول السورة هو ما ظنوه حسنة
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ
العطف ههنا من باب عطف المسبب على السبب يقال اجلس واسترح وقم وامش لأن طاعة الله تحمل على طاعة الرسول وهذا إشارة إلى العمل بعد حصول العلم كأنه تعالى قال يا أيها الذين آمنوا علمتم الحق فافعلوا الخير وقوله وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ يحتمل وجوهاً أحدها دوموا على ما أنتم عليه ولا تشركوا فتبطل أعمالكم قال تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) الوجه الثاني لاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ

بترك طاعة الرسول كما أبطل الكتاب أعمالهم بتكذيب الرسول وعصيانه ويؤيده قوله تعالى عَلِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ إلى أن قال أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ( الحجرات 2 ) الثالث لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى ( البقرة 264 ) كما قال تعالى يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَى َّ إِسْلَامَكُمْ ( الحجرات 17 ) وذلك أن من يمن بالطاعة على الرسول كأنه يقول هذا فعلته لأجل قلبك ولولا رضاك به لما فعلت وهو مناف للاخلاص والله لا يقبل إلا العمل الخالص
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
بيّن أن الله لا يغفر الشرك وما دون ذلك يغفره إن شاء حتى لا يظن ظان أن أعمالهم وإن بطلت لكن فضل الله باق يغفر لهم بفضله وإن لم يغفر لهم بعملهم
إِنَّا كُلَّ شَى ْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
لما بيّن أن عمل الكافر الذي له صورة الحسنات محبط وذنبه الذي هو أقبح السيئات غير مغفور بين أن لا حرمة في الدنيا ولا في الآخرة وقد أمر الله تعالى بطاعة الرسول بقوله
لما بيّن أن عمل الكافر الذي له صورة الحسنات محبط وذنبه الذي هو أقبح السيئات غير مغفور بين أن لا حرمة في الدنيا ولا في الآخرة وقد أمر الله تعالى بطاعة الرسول بقوله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ( النساء 59 ) وأمر بالقتال بقوله فَلاَ تَهِنُواْ أي لا تضعفوا بعد ما وجد السبب في الجد في الأمر والاجتهاد في الجهاد فقاله فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وفي الآيات ترتيب في غاية الحسن وذلك لأن قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ( التغابن 120 ) يقتضي السعي في القتال لأن أمر الله وأمر الرسول ورد بالجهاد وقد أمروا بالطاعة فذلك يقتضي أن لا يضعف المكلف ولا يكسل ولا يهن ولا يتهاون ثم إن بعد المقتضي قد يتحقق مانع ولا يتحقق المسبب والمانع من القتال إما أخروي وإما دنيوي فذكر الأخروي وهو أن الكافر لا حرمة له في الدنيا والآخرة لأنه لا عمل له في الدنيا ولا مغفرة له في الآخرة فإذا وجد السبب ولم يوجد المانع ينبغي أن يتحقق المسبب ولم يقدم المانع الدنيوي على قوله فَلاَ تَهِنُواْ إشارة إلى أن الأمور الدنيوية لا ينبغي أن تكون مانعة من الإتيان فلا تهنوا فإن لكم النصر أو عليكم بالعزيمة على تقدير الاعتزام للهزيمة
ثم قال تعالى بعد ذلك المانع الدنيوي مع أنه لا ينبغي أن يكون مانعاً ليس بموجود أيضاً حيث أَنتُمْ الاْعْلَوْنَ والأعلون والمصطفون في الجمع حالة الرفع معلوم الأصل ومعلوم أن الأمر كيف آل إلى هذه الصيغة في التصريف وذلك لأن أصله في الجمع الموافق أعليون ومصطفيون فسكنت الياء لكونها حرف علة فتحرك ما قبلها والواو كانت ساكنة فالتقى ساكنان ولم يكن بد من حذف أحدهما أو تحريكه والتحريك كان يوقع في المحذور الذي اجتنب منه فوجب الحذف والواو كانت فيه لمعنى لا يستفاد إلا منها وهو الجمع فأسقطت الياء وبقي أعلون وبهذا الدليل صار في الجر أعلين ومصطفين وقوله تعالى وَاللَّهُ مَعَكُمْ هداية وإرشاد يمنع الملكف من الإعجاب بنفسه وذلك لأنه تعالى لما قال وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ كان ذلك سبب الافتخار فقال وَاللَّهُ مَعَكُمْ يعني ليس ذلك من أنفسكم بل من الله أو نقول لما قال وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ

فكان المؤمنون يرون ضعف أنفسهم وقلتهم مع كثرة الكفار وشوكتهم وكان يقع في نفس بعضهم أنهم كيف يكون لهم الغلبة فقال إن الله معكم لا يبقى لكم شك ولا ارتياب في أن الغلبة لكم وهذا كقوله تعالى لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 ) وقوله وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( الصافات 273 ) وقوله وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وعد آخر وذلك لأن الله لما قال إن الله معكم كان فيه أن النصرة بالله لا بكم فكان القائل يقول لم يصدر مني عمل له اعتبار فلا أستحق تعظيماً فقال هو ينصركم ومع ذلك لا ينقص من أعمالكم شيئاً ويجعل كأن النصرة جعلت بكم ومنكم فكأنكم مستقلون في ذلك ويعطيكم أجر المستبد والترة النقص ومنه الموتر كأنه نقص منه ما يشفعه ويقول عند القتال إن قتل من الكافرين أحد فقد وتروا في أهلهم وعملهم حيث نقص عددهم وضاع عملهم والمؤمن إن قتل فإنما ينقص من عدده ولم ينقص من عمله وكيف ولم ينقص من عدده أيضاً فإنه حي مرزوق فرح بما هو إليه مسوق
إِنَّمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْألْكُمْ أَمْوَالَكُمْ
زيادة في التسلية يعني كيف تمنعك الدنيا من طلب الآخرة بالجهاد وهي لا تفوتك لكونك منصوراً غالباً وإن فاتتك فعملك غير موتر فكيف وما يفوتك فإن فات فائت ولم يعوض لا ينبغي لك أن تلتفت إليها لكونها لعباً ولهواً وقد ذكرنا في اللعب واللهو مراراً أن اللعب ما تشتغل به ولا يكون فيه ضرورة في الحال ولا منفعة في المآل ثم إن استعمله الإنسان ولم يشتغله عن غيره ولم يثنه عن أشغاله المهمة فهو لعب وإن شغله ودهشه عن مهماته فهو لهو ولهذا يقال ملاهي لآلات الملاهي لأنها مشغلة عن الغير ويقال لما دونه لعب كاللعب بالشطرنج والحمام وقد ذكرنا ذلك غير مرة وقوله وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ إعادة للوعد والإضافة للتعريف أي الأجر الذي وعدكم بقوله أَجْرٌ كَرِيمٌ ( ي س 11 ) وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( هود 11 ) وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( آل عمران 172 ) وقوله وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ يحتمل وجوهاً أحدها أن الجهاد لا بد له من إنفاق فلو قال قائل أنا لا أنفق مالي فيقال له الله لا يسئلكم ظمالكم في الجهات المعينة من الزكاة والغنيمة وأموال المصالح فيها تحتاجون إليه من المال لا تراعون بإخراجه وثانيها الأموال لله وهي في أيديكم عارية وقد طلب منكم أو أجاز لكم في صرفها في جهة الجهاد فلا معنى لبخلكم بماله وإلى هذا إشارة بقوله تعالى وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الحديد 10 ) أي الكل لله وثالثها لا يسألكم أموالكم كلها وإنما يسألكم شيئاً يسيراً منها وهو ربع العشر وهو قليل جداً لأن العشر هو الجزء الأقل إذ ليس دونه جزء وليس اسماً مفرداً وأما الجزء من أحد عشر ومن إثنى عشر و ( إلى ) مائة جزء لما لم يكن ملتفتاً إليه لم يوضع له اسم مفرد
ثم إن الله تعالى لم يوجب ذلك في رأس المال بل أوجب ذلك في الربح الذي هو من فضل الله

وعطائه وإن كان رأس المال أيضاً كذلك لكن هذا المعنى في الربح أظهر ولما كان المال منه ما ينفق للتجارة فيه ومنه ما لا ينفق وما أنفق منه للتجارة أحد قسميه وهو يحتمل أن تكون التجارة فيه رابحة ويحتمل أن لا تكون رابحة فصار القسم الواحد قسمين فصار في التقدير كان الربح في ربعه فأوجب ( ربع ) عشر الذي فيه الربح وهو عشر فهو ربع العشر وهو الواجب فعلم أن الله لا يسألكم أموالكم ولا الكثير منه
ؤإِن يَسْألْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ
الفاء في قوله فَيُحْفِكُمْ للإشارة إلى أن الإحفاء يتبع السؤال بياناً لشح الأنفس وذلك لأن العطف بالواو قد يكون للمثلين وبالفاء لا يكون إلا للمتعاقبين أو متعلقين أحدهما بالآخر فكأنه تعالى بيّن أن الإحفاء يقع عقيب السؤال لأن الإنسان بمجرد السؤال لا يعطي شيئاً وقوله تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ يعني ما طلبها ولو طلبها وألح عليكم في الطلب لبخلتم كيف وأنتم تبخلون باليسير لا تبخلون بالكثير وقوله وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ يعني بسببه فإن الطالب وهو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه يطلبونكم وأنتم لمحبة المال وشح الأنفس تمتنعون فيفضي إلى القتال وتظهر به الضغائن
هَآ أَنتُمْ هَاؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم
( يعني ) قد طلبت منكم اليسير فبخلتم فكيف لو طلبت منكم الكل وقوله هَؤُلاء يحتمل وجهين أحدهما أن تكون موصولة كأنه قال أنتم هؤلاء الذين تدعون لتنفقوا في سبيل الله وثانيهما هَؤُلاء وحدها خبر أَنتُمْ كما يقال أنت هذا تحقيقاً للشهرة والظهور أي ظهر أثركم بحيث لا حاجة إلى الإخبار عنكم بأمر مغاير ثم يبتدىء تَدْعُونَ وقوله تَدْعُونَ أي إلى الإنفاق إما في سبيل الله تعالى بالجهاد وإما في صرفه إلى المستحقين من إخوانكم وبالجملة ففي الجهتين تخذيل الأعداء ونصرة الأولياء فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ثم بيّن أن ذلك البخل ضرر عائد إليه فلا تظنوا أنهم لا ينفقونه على غيرهم بل لا ينفقونه على أنفسهم فإن من يبخل بأجرة الطبيب وثمن الدواء وهو مريض فلا يبخل إلا على نفسه ثم حقق ذلك بقوله وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ غير محتاج إلى مالكم وأتمه بقوله وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء حتى لا تقولوا إنا أيضاً أغنياء عن القتال ودفع حاجة الفقراء فإنهم لا غنى لهم عن ذلك في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فلأنه لولا القتال لقتلوا فإن الكافر إن يغز يغز والمحتاج إن لم يدفع حاجته يقصده لا سيما أباح الشارع للمضطر ذلك وأما في الآخرة فظاهر فكيف لا يكون فقيراً وهو موقوف مسؤول يوم لا ينفع مال ولا بنون
ثم قال تعالى وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم بيان الترتيب من وجهين

أحدهما أنه ذكره بياناً للاستغناء كما قال تعالى إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( إبراهيم 19 ) وقد ذكر أن هذا تقرير بعد التسليم كأنه تعالى يقول الله غني عن العالم بأسره فلا حاجة له إليكم فإن كان ذاهب يذهب إلى أن ملكه بالعالم وجبروته يظهر به وعظمته بعباده فنقول هب أن هذا الباطل حق لكنكم غير متعينين له بل الله قادر على أن يخلق خلقاً غيركم يفتخرون بعبادته وعالماً غير هذا يشهد بعظمته وكبريائه وثانيهما أنه تعالى لما بيّن الأمور وأقام عليها البراهين وأوضحها بالأمثلة قال إن أطعتم فلكم أجوركم وزيادة وإن تتولوا لم يبق لكم إلا الإهلاك فإن ما من نبي أنذر قومه وأصروا على تكذيبه إلا وقد حق عليهم القول بالإهلاك وطهر الله الأرض منهم وأتى بقوم آخرين طاهرين وقوله ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم فيه مسألة نحوية يتبين منها فوائد عزيزة وهي أن النحاة قالوا يجوز في المعطوف على جواب الشرط بالواو والفاء وثم الجزم والرفع جميعاً قال الله تعالى ههنا وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم بالجزم وقال في موضع آخر وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ( آل عمران 111 ) بالرفع بإثبات النون وهو مع الجواز ففيه تدقيق وهو أن ههنا لا يكون متعلقاً بالتولي لأنهم إن لم يتولوا يكونون ممن يأتي بهم الله على الطاعة وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين كون من يأتي بهم مطيعين وأما هناك سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون فلم يكن للتعليق هناك وجه فرفع بالابتداء وههنا جزم للتعليق
وقوله ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم في الوصف ولا في الجنس وهو لائق الوجه الثاني وفيه وجوه أحدها قوم من العجم ثانيها قوم من فارس روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عمن يستبدل بهم إن تولوا وسلمان إلى جنبه فقال ( هذا وقومه ) ثم قال ( لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لناله رجال من فارس ) و ثالثها قوم من الأنصار والله أعلم

سورة الفتح
وهي عشرون وتسع آيات مدنية
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً
فيه مسائل
المسألة الأولى في الفتح وجوه أحدها فتح مكة وهو ظاهر وثانيها فتح الروم وغيرها وثالثها المراد من الفتح صلح الحديبية ورابعها فتح الإسلام بالحجة والبرهان والسيف والسنان وخامسها المراد منه الحكم كقوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ ( الأعراف 89 ) وقوله ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ ( سبأ 26 ) والمختار من الكل وجوه أحدها فتح مكة والثاني فتح الحديبية والثالث فتح الإسلام بالآية والبيان والحجة والبرهان والأول مناسب لآخر ما قبلها من وجوه أحدها أنه تعالى لما قال أَضْغَانَكُمْ هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إلى أن قال وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ( محمد 38 ) بيّن تعالى أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم ثانيها لما قال وَاللَّهُ مَعَكُمْ وقال وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ ( محمد 35 ) بيّن برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلون ثالثها لما قال تعالى فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ ( محمد 35 ) وكان معناه لا تسألوا الصلح من عندكم بل اصبروا فإنهم يسألون الصلح ويجتهدون فيه كما كان يوم الحديبية وهو المراد بالفتح في أحد الوجوه وكما كان فتح مكة حيث أتى صناديد قريش مستأمنين ومؤمنين ومسلمين فإن قيل إن كان المراد فتح مكة فمكة لم تكن قد فتحت فكيف قال تعالى فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً بلفظ الماضي نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما فتحنا في حكمنا وتقديرنا ثانيهما ما

قدره الله تعالى فهو كائن فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمر لا دافع له واقع لا رافع له
المسألة الثانية قوله لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ينبىء عن كون الفتح سبباً للمغفرة والفتح لا يصلح سبباً للمغفرة فما الجواب عنه نقول الجواب عنه من وجوه الأول ما قيل إن الفتح لم يجعله سبباً للمغفرة وحدها بل هو سبب لاجتماع الأمور المذكورة وهي المغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصرة كأنه تعالى قال ليغفر للك الله ويتم نعمته ويهديك وينصرك ولا شك أن الاجتماع لم يثبت إلا بالفتح فإن النعمة به تمت والنصرة بعده قد عمت الثاني هو أن فتح مكة كان سبباً لتطهير بيت الله تعالى من رجس الأوثان وتطهير بيته صار سبباً لتطهير عبده الثالث هو أن بالفتح يحصل الحج ثم بالحج تحصل المغفرة ألا ترى إلى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال في الحج ( اللّهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً ) الرابع المراد منه التعريف تقديره إنا فتحنا لك ليعرف أنك مغفور معصوم فإن الناس كانوا علموا بعد عام الفيل أن مكة لا يأخذها عدو الله المسخوط عليه وإنما يدخلها ويأخذها حبيب الله المغفور له
المسألة الثالثة لم يكن للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذنب فماذا يغفر له قلنا الجواب عنه قد تقدم مراراً من وجوه أحدها المراد ذنب المؤمنين ثانيها المراد ترك الأفضل ثالثها الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بالسهو والعمد وهو يصونهم عن العجب رابعها المراد العصمة وقد بينا وجهه في سورة القتال
المسألة الرابعة ما معنى قوله وَمَا تَأَخَّرَ نقول فيه وجوه أحدها أنه وعد النبي عليه السلام بأنه لا يذنب بعد النبوة ثانيها ما تقدم على الفتح وما تأخر عن الفتح ثالثها العموم يقال اضرب من لقيت ومن لا تلقاه مع أن من لا يلقى لا يمكن ضربه إشارة إلى العموم رابعها من قبل النبوة ومن بعدها وعلى هذا فما قبل النبوة بالعفو وما بعدها بالعصمة وفيه وجوه أُخر ساقطة منها قول بعضهم ما تقدم من أمر مارية وما تأخر من أمر زينب وهو أبعد الوجوه وأسقطها لعدم التئام الكلام وقوله تعالى وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ يحتمل وجوهاً أحدها هو أن التكاليف عند الفتح تمت حيث وجب الحج وهو آخر التكاليف والتكاليف نعم ثانيها يتم نعمته عليك بإخلاء الأرض لك عن معانديك فإن يوم الفتح لم يبق للنبي عليه الصلاة والسلام عدو ذو اعتبار فإن بعضهم كانوا أهلكوا يوم بدر والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح ثالثها ويتم نعمته عليك في الدنيا باستجابة دعائك في طلب الفتح وفي الآخرة بقول شفاعتك في الذنوب ولو كانت في غاية القبح وقوله تعالى وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُّسْتَقِيماً يحتمل وجوهاً أظهرها يديمك على الصراط المستقيم حتى لا يبقى من يلتفت إلى قوله من المضلين أو ممن يقدر على الإكراه على الكفر وهذا يوافق قوله تعالى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً ( المائدة 3 ) حيث أهلكت المجادلين فيه وحملتهم على الإيمان وثانيها أن يقال جعل الفتح سبباً للهداية إلى الصراط المستقيم لأنه سهل على المؤمنين الجهاد لعلمهم بالفوائد العاجلة بالفتح والآجلة بالوعد والجهاد سلوك سبيل الله ولهذا يقال للغازي في سبيل الله مجاهد وثالثها ما ذكرنا أن المراد التعريف أي ليعرف أنك على صراط مستقيم من حيث إن الفتح لا يكون إلا على يد من يكون على صراط الله بدليل حكاية الفيل وقوله وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً ظاهر لأن بالفتح ظهر النصر واشتهر الأمر وفيه مسألتان إحداهما لفظية والأخرى معنوية

أما المسألة اللفظية فهي أن الله وصف النصر بكونه عزيزاً والعزيز من له النصر والجواب من وجهين أحدهما ما قاله الزمخشري أنه يحتمل وجوهاً ثلاثة الأول معناه نصر إذ عز كقوله فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) أي ذات رضى الثاني وصف النصر بما يوصف به المنصور إسناداً مجازياً يقال له كلام صادق كما يقال له متكلم صادق الثالث المراد نصراً عزيزاً صاحبه الوجه الثاني من الجواب أن نقول إنما يلزمنا ما ذكره الزمخشري من التقديرات إذا قلنا العزة من الغلبة والعزيز الغالب وأما إذا قلنا العزيز هو النفيس القليل النظير أو المحتاج إليه القليل الوجود يقال عز الشيء إذا قل وجوده مع أنه محتاج إليه فالنصر كان محتاجاً إليه ومثله لم يوجد وهو أخذ بيت الله من الكفار المتمكنين فيه من غير عدد
أما المسألة المعنوية وهي أن الله تعالى لما قال لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ أبرز الفاعل وهو الله ثم عطف عليه بقوله وَيُتِمُّ وبقوله وَيَهْدِيَكَ ولم يذكر لفظ الله على الوجه الحسن في الكلام وهو أن الأفعال الكثيرة إذا صدرت من فاعل يظهر اسمه في الفعل الأول ولا يظهر فيما بعده تقول جاء زيد وتكلم وقام وراح ولا تقول جاء زيد وقعد زيد اختصاراً للكلام بالاقتصار على الأول وههنا لم يقل وينصرك نصراً بل أعاد لفظ الله فنقول هذا إرشاد إلى طريق النصر ولهذا قلما ذكر الله النصر من غير إضافة فقال تعالى بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ ( الروم 5 ) ولم يقل بالنصر ينصر وقال هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ ( الأنفال 62 ) ولم يقل بالنصر وقال إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ( النصر 1 ) وقال نَصْرٌ مّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ( الصف 13 ) ولم يقل نصر وفتح وقال وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( الأنفا 10 ) وهذا أدل الآيات على مطلوبنا وتحقيقه هو أن النصر بالصبر والصبر بالله قال تعالى وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ ( النحل 127 ) وذلك لأن الصبر سكون القلب واطمئنانه وذلك بذكر الله كما قال تعالى أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) فلما قال ههنا وينصرك الله أظهر لفظ الله ذكراً للتعليم أن بذكر الله يحصل اطمئنان القلوب وبه يحصل الصبر وبه يتحقق النصر وههنا مسألة أخرى وهو أن الله تعالى قال إِنَّا فَتَحْنَا ثم قال لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ولم يقل إنا فتحنا لنغفر لك تعظيماً لأمر الفتح وذلك لأن المغفرة وإن كانت عظيمة لكنها عامة لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) وقال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) ولئن قلنا بأن المراد من المغفرة في حق النبي عليه السلام العصمة فذلك لم يختص بنبينا بل غيره من الرسل كان معصوماً وإتمام النعمة كذلك قال الله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ( المائدة 3 ) وقال خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ( البقرة 47 ) وكذلك الهداية قال الله تعالى يَهْدِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء فعمم وكذلك النصر قال الله تعالى وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ( الصافات 171 172 ) وأما الفتح فلم يكن لأحد غير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فعظمه بقوله تعالى إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً وفيه التعظيم من وجهين أحدهما إنا وثانيهما لك أي لأجلك على وجه المنة

هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَة َ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
لما قال تعالى وَيَنصُرَكَ اللَّهُ ( الفتح 3 ) بين وجه النصر وذلك لأن الله تعالى قد ينصر رسله بصيحة يهلك بها أعداءهم أو رجفة تحكم عليهم بالفناء أو جند يرسله من السماء أو نصر وقوة وثبات قلب يرزق المؤمنين به ليكون لهم بذلك الثواب الجزيل فقال هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَة َ أي تحقيقاً للنصر وفي السكينة وجوه أحدها هو السكون الثاني الوقار لله ولرسول الله وهو من السكون الثالث اليقين والكل من السكون وفيه مسائل
المسألة الأولى السكينة هنا غير السكينة في قوله تعالى وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَة َ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ ( البقرة 248 ) في قول أكثر المفسرين ويحتمل هي تلك المقصود منها على جميع الوجوه اليقين وثبات القلوب
المسألة الثانية السكينة المنزّلة عليهم هي سبب ذكرهم الله كما قال تعالى أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 )
المسألة الثالثة قال الله تعالى في حق الكافرين وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ( الأحزاب 26 ) بلفظ القذف المزعج وقال في حق المؤمنين أَنزَلَ السَّكِينَة َ بلفظ الإنزال المثبت وفيه معنى حكمي وهو أن من علم شيئاً من قبل وتذكره واستدام تذكره فإذا وقع لا يتغير ومن كان غافلاً عن شيء فيقع دفعة يرجف فؤاده ألا ترى أن من أخبر بوقوع صيحة وقيل له لا تنزعج منها فوقعت الصيحة لا يرجف ومن لم يخبر به و أخبر وغفل عنه يرتجف إذا وقعت فكذلك الكافر أتاه الله من حيث لا يحتسب وقذف في قلبه فارتجف والمؤمن أتاه من حيث كان يذكره فسكن وقوله تعالى لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ فيه وجوه أحدها أمرهم بتكاليف شيئاً بعد شيء فآمنوا بكل وحد منها مثلاً أمروا بالتوحيد فآمنوا وأطاعوا ثم أمروا بالقتال والحج فآمنوا وأطاعوا فازدادوا إيماناً مع إيمانهم ثانيها أنزل السكينة عليهم فصبروا فرأوا عين اليقين بما علموا من النصر علم اليقين إيماناً بالغيب فازدادوا إيماناً مستفاداً من الشهادة مع إيمانهم المستفاد من الغيب ثالثها ازدادوا بالفروع مع إيمانهم بالأصول فإنهم آمنوا بأن محمداً رسول الله وأن الله واحد والحشر كائن وآمنوا بأن كل ما يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صدق وكل ما يأمر الله تعالى به واجب رابعها ازدادوا إيماناً استدلالياً مع إيمانهم الفطري وعلى هذا الوجه نبين لطيفة وهي أن الله تعالى قال في حق الكافر إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( آل عمران 178 ) ولم يقل مع كفرهم لأن كفرهم عنادي وليس في الوجود كفر فطري لينضم إليه الكفر العنادي بل الكفر ليس إلا عنادياً وكذلك الكفر بالفروع لا يقال انضم إلى الكفر بالأصول لأن من ضرورة الكفر بالأصول الكفر بالفروع وليس من ضرورة الإيمان بالأصول الإيمان بالفروع بمعنى الطاعة والانقياد فقال لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وقوله وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فكان قادراً على إهلاك عدوه بجنوده بل بصيحة ولم يفعل بل أنزل السكينة على المؤمنين ليكون إهلاك أعدائهم بأيديهم فيكون لهم الثواب وفي جنود السماوات والأرض وجوه أحدها ملائكة السماوات والأرض ثانيها من في السماوات من الملائكة ومن في الأرض من الحيوانات والجن وثالثها الأسباب السماوية والأرضية حتى يكون

سقوط كسف من السماء والخسف من جنوده وقوله تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لما قال وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وعددهم غير محصور أثبت العلم إشارة إلى أنه لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ ( سبأ 3 ) وأيضاً لما ذكر أمر القلوب بقوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَة َ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ والإيمان من عمل القلوب ذكر العلم إشارة إلى أنه يعلم السر وأخفى وقوله حَكِيماً بعد قوله عَلِيماً إشارة إلى أنه يفعل على وفق العلم فإن الحكيم من يعمل شيئاً متقناً ويعلمه فإن من يقع منه صنع عجيب اتفاقاً لا يقال له حكيم ومن يعلم ويعمل على خلاف العلم لا يقال له حكيم وقوله تعالى
لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً
يستدعي فعلاً سابقاً لّيُدْخِلَ فإن من قال ابتداء لتكرمني لا يصح ما لم يقل قبله جئتك أو ما يقوم مقامه وفي ذلك الفعل وجوه وضبط الأحوال فيه بأن تقول ذلك الفعل إما أن يكون مذكوراً بصريحه أو لا يكون وحينئذ ينبغي أن يكون مفهوماً فإما أن يكون مفهوماً من لفظ يدل عليه بل فهم بقرينة حالية فإن كان مذكوراً فهو يحتمل وجوهاً أحدها قوله لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً ( الفتح 4 ) كأنه تعالى أنزل السكينة ليزدادوا إيماناً بسبب الإنزال ليدخلهم بسبب الإيمان جنّات فإن قيل فقوله وَيُعَذّبَ ( الفتح 6 ) عطف على قوله لّيُدْخِلَ وازدياد إيمانهم لا يصلح سبباً لتعذيبهم نقول بلى وذلك من وجهين أحدهما أن التعذيب مذكور لكونه مقصوداً للمؤمنين كأنه تعالى يقول بسبب ازديادكم في الإيمان يدخلكم في الآخرة جنّات ويعذب بأيديكم في الدنيا الكفار والمنافقين الثاني تقديره ويعذب بسبب ما لكم من الازدياد يقال فعلته لأجرب به العدو والصديق أي لأعرف بوجوده الصديق وبعدمه العدو فكذلك ليزداد المؤمن إيماناً فيدخله الجنة ويزداد الكافر كفراً فيعذبه به ووجه آخر ثالث وهو أن سبب زيادة إيمان المؤمنين بكثرة صبرهم وثباتهم فيعيى المنافق والكافر معه ويتعذب وهو قريب مما ذكرنا الثاني قوله وَيَنصُرَكَ اللَّهُ ( الفتح 3 ) كأنه تعالى قال وينصرك الله بالمؤمنين ليدخل المؤمنين جنّات الثالث قوله لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ ( الفتح 2 ) على قولنا المراد ذنب المؤمن كأنه تعالى قال ليغفر لك ذنب المؤمنين ليدخل المؤمنين جنات وأما إن قلنا هو مفهوم من لفظ غير صريح فيحتمل وجوهاً أيضاً أحدها قوله حَكِيماً ( الفتح 4 ) يدل على ذلك كأنه تعالى قال الله حكيم فعل ما فعل ليدخل المؤمنين جنات وثانيها قوله تعالى وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ( الفتح 2 ) في الدنيا والآخرة فيستجيب دعاءك في الدنيا ويقبل شفاعتك في العقبى لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ ثالثها قوله إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ ( الفتح 1 ) ووجهه هو أنه روي أن المؤمنين قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) هنيئاً لك إن الله غفر لك فماذا لنا فنزلت هذه الآية كأنه تعالى قال إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك وفتحنا للمؤمنين ليدخلهم جنّات وأما إن قلنا إن ذلك مفهوم من غير مقال بل من قرينة الحال فنقول هو الأمر بالقتال لأن من ذكر الفتح والنصر علم أن الحال حال القتال فكأنه تعالى قال إن الله تعالى أمر بالقتال ليدخل المؤمنين أو نقول عرف من قرينة الحال أن الله اختار المؤمنين ليدخلهم جنّات

المسألة الرابعة قال ههنا وفي بعض المواضع الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وفي بعض المواضع اكتفى بذكر المؤمنين ودخلت المؤمنات فيهم كما في قوله تعالى وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( الأحزاب 47 ) وقوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( المؤمنون 1 ) فما الحكمة فيه نقول في المواضع التي فيها ما يوهم اختصاص المؤمنين بالجزاء الموعود به مع كون المؤمنات يشتركن معهم ذكرهن الله صريحاً وفي المواضع التي ليس فيها ما يوهم ذلك اكتفى بدخولهم في المؤمنين فقوله وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ مع أنه علم من قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّة ً لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ( سبأ 28 ) العموم لا يوهم خروج المؤمنات عن البشارة وأما ههنا فلما كان قوله تعالى لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ لفعل سابق وهو إما الأمر بالقتال أو الصبر فيه أو النصر للمؤمنين أو الفتح بأيديهم على ما كان يتوهم لأن إدخال المؤمنين كان للقتال والمرأة لا تقاتل فلا تدخل الجنة الموعود بها صرح الله بذكرهن وكذلك في المنافقات والمشركات والمنافقة والمشركة لم تقاتل فلا تعذب فصرّح الله تعالى بذكرهن وكذلك في قوله تعالى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( الأحزاب 35 ) لأن الموضع موضع ذكر النساء وأحوالهن لقوله وَلاَ تَبَرَّجْنَ وَأَقِمْنَ وَءاتِينَ وَأَطِعْنَ ( الأحزاب 33 ) وقوله وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ ( الأحزاب 34 ) فكان ذكرهن هناك أصلاً لكن الرجال لما كان لهم ما للنساء من الأجر العظيم ذكرهم وذكرهن بلفظ مفرد من غير تبعية لما بينا أن الأصل ذكرهن في ذلك الموضع
المسألة الخامسة قال الله تعالى وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ بعد ذكر الإدخال مع أن تكفير السيئات قبل الإدخال نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما الواو لا تقتضي الترتيب الثاني تكفر السيئات والمغفرة وغيرهما من توابع كون المكلف من أهل الجنة فقدم الإدخال في الذكر بمعنى أنه من أهل الجنة الثالث وهو أن التكفير يكون بإلباس خلع الكرامة وهي في الجنة وكان الإنسان في الجنة تزال عنه قبائح البشرية الجرمية كالفضلات والمعنوية كالغضب والشهوة وهو التكفير وتثبت فيه الصفات الملكية وهي أشرف أنواع الخلع وقوله تعالى وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً فيه وجهان أحدهما مشهور وهو أن الإدخال والتكفير في الله فوز عظيم يقال عندي هذا الأمر على هذا الوجه أي في اعتقادي وثانيهما أغرب منه وأقرب منه عقلاً وهو أن يجعل عند الله كالوصف لذلك كأنه تعالى يقول ذلك عند الله أي بشرط أن يكون عند الله تعالى ويوصف أن يكون عند الله فوز عظيم حتى أن دخول الجنة لو لم يكن فيه قرب من الله بالعندية لما كان فوزاً
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَة ُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً

واعلم أنه قدم المنافقين على المشركين في الذكر في كثير من المواضع لأمور أحدها أنهم كانوا أشد على المؤمنين من الكافر المجاهر لأن المؤمن كان يتوقى المشرك المجاهر وكان يخالط المنافق لظنه بإيمانه وهو كان يفشي أسراره وإلى هذا أشار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ( أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك ) والمنافق على صورة الشيطان فإنه لا يأتي الإنسان على أني عدوك وإنما يأتيه على أني صديقك والمجاهر على خلاف الشيطان من وجه ولأن المنافق كان يظن أن يتخلص للمخادعة والكافر لا يقطع بأن المؤمن إن غلب يفديه فأول ما أخبر الله أخبر عن المنافق وقول الظَّانّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْء هذا الظن يحتمل وجوهاً أحدها هو الظن الذي ذكره الله في هذه السورة بقوله بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ ( الفتح 12 ) ثانيها ظن المشركين بالله في الإشراك كما قال تعالى إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ إلى أن قال إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئاً ( النجم 23 28 ) ثالثها ظنهم أن الله لا يرى ولا يعلم كما قال وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ ( فصلت 22 ) والأول أصح أو نقول المراد جميع ظنونهم حتى يدخل فيه ظنهم الذي ظنوا أن الله لا يحيي الموتى وأن العالم خلقه باطل كما قال تعالى ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ص 27 ) ويؤيد هذا الوجه الألف واللام الذي في السوء وسنذكره في قوله ظَنَّ السَّوْء وفيه وجوه أحدها ما اختاره المحققون من الأدباء وهو أن السوء صار عبارة عن الفساد والصدق عبارة عن الصلاح يقال مررت برجل سوء أي فاسد وسئلت عن رجل صدق أي صالح فإذا كان مجموع قولنا رجل سوء يؤدي معنى قولنا فاسد فالسوء وحده يكون بمعنى الفساد وهذا ما اتفق عليه الخليل والزجاج واختاره الزمخشري وتحقيق هذا أن السوء في المعاني كالفساد في الأجساد يقال ساء مزاجه وساء خلقه وساء ظنه كما يقال فسد اللحم وفسد الهواء بل كان ما ساء فقد فسد وكل ما فسد فقد ساء غير أن أحدهما كثير الاستعمال في المعاني والآخر في الأجرام قال الله تعالى ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ ( الروم 41 ) وقال سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( التوبة 9 ) هذا ما يظهر لي من تحقيق كلامهم
ثم قال تعالى عَلَيْهِمْ دَائِرَة ُ السَّوْء أي دائرة الفساد وحاق بهم الفساد بحيث لا خروج لهم منه
ثم قال تعالى وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ زيادة في الإفادة لأن من كان به بلاء فقد يكون مبتلى به على وجه الامتحان فيكون مصاباً لكي يصير مثاباً وقد يكون مصاباً على وجه التعذيب فقوله وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إشارة إلى أن الذي حاق بهم على وجه التعذيب وقوله وَلَعَنَهُمُ زيادة إفادة لأن المغضوب عليه قد يكون بحيث يقنع الغاضب بالعتب والشتم أو الضرب ولا يفضي غضبه إلى إبعاد المغضوب عليه من جنابه وطرده من بابه وقد يكون بحيث يفضي إلى الطرد والإبعاد فقال وَلَعَنَهُمُ لكون الغضب شديداً ثم لما بيّن حالهم في الدنيا بيّن مآلهم في العقبى قال وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً وقوله سَاءتْ إشارة لمكان التأنيث في جهنم يقال هذه الدار نعم المكان وقوله تعالى وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الفتح 4 ) قد تقدم تفسيره وبقي فيه مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في الإعادة نقول لله جنود الرحمة وجنود العذاب أو جنود الله إنزالهم قد يكون للرحمة وقد يكون للعذاب فذكرهم أولى لبيان الرحمة بالمؤمنين قال تعالى وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ( الأحزاب 43 ) وثانياً لبيان إنزال العذاب على الكافرين

المسألة الثانية قال هناك وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( الفتح 4 ) وهنا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً لأن قوله وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الفتح 4 ) قد بينا أن المقصود من ذكرهم الإشارة إلى شدة العذاب فذكر العزة كما قال تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ ( الزمر 37 ) وقال تعالى فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ ( القمر 42 ) وقال تعالى الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
المسألة الثالثة ذكر جنود السماوات والأرض قبل إدخال المؤمنين الجنة وذكرهم ههنا بعد ذكر تعذيب الكفار وإعداد جنهم نقول فيه ترتيب حسن لأن الله تعالى ينزل جنود الرحمة فيدخل المؤمنين مكرمين معظمين الجنة ثم يلبسهم خلع الكرامة بقوله وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ ( الفتح 5 ) كما بينا ثم تكون لهم القربى والزلفى بقوله وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وبعد حصول القرب والعندية لا تبقى واسطة الجنود فالجنود في الرحمة أولاً ينزلون ويقربون آخراً وأما في الكافر فيغضب عليه أولاً فيبعد ويطرد إلى البلاد النائية عن ناحية الرحمة وهي جهنم ويسلط عليهم ملائكة العذاب وهم جنود الله كما قال تعالى عَلَيْهَا مَلَئِكَة ٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ( التحريم 6 ) ولذلك ذكر جنود الرحمة أولاً والقربة بقوله عند الله آخراً وقال ههنا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمُ وهو الإبعاد أولاً وجنود السماوات والأرض آخراً
إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً
قال المفسرون شَاهِداً على أمتك بما يفعلون كما قال تعالى وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) والأولى أن يقال إن الله تعالى قال إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وعليه يشهد أنه لا إلاه إلا الله كما قال تعالى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ ( آل عمران 18 ) وهم الأنبياء عليهم السلام الذين آتاهم الله علماً من عنده وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ولذلك قال تعالى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد 19 ) أي فاشهد وقوله وَمُبَشّراً لمن قبل شهادته وعمل بها ويوافقه فيها وَنَذِيرًا لمن رد شهادته ويخالفه فيها ثم بيّن فائدة الإرسال على الوجه الذي ذكره فقال لّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن تكون الأمور الأربعة المذكورة مرتبة على الأمور المذكورة من قبل فقوله لّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مرتب على قوله إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ لأن كونه مرسلاً من الله يقتضي أن يؤمن المكلف بالله والمرسل وبالمرسل وقوله شَاهِداً يقتضي أن يعزر الله ويقوي دينه لأن قوله شَاهِداً على ما بينا معناه أنه يشهد أنه لا إلاه إلا هو فدينه هو الحق وأحق ن يتبع وقوله مُبَشّرًا يقتضي أن يوقر الله لأن تعظيم الله عنده على شبه تعظيم الله إياه وقوله نَذِيراً يقتضي أن ينزه عن السوء والفحشاء مخافة عذابه الأليم وعقابه الشديد وأصل الإرسال مرتب على أصل الإيمان ووصف الرسول يترتب عليه وصف المؤمن وثانيهما أن يكون كل واحد مقتضياً للأمور الأربعة فكونه مرسلاً يقتضي أن يؤمن المكلف بالله ورسوله

ويعزره ويوقره ويسبحه وكذلك كونه شَاهِداً بالوحدانية يقتضي الأمور المذكورة وكذلك كونه مُبَشّرًا وَنَذِيرًا لا يقال إن اقتران اللام بالفعل يستدعي فعلاً مقدماً يتعلق به ولا يتعلق بالوصف وقوله لّتُؤْمِنُواْ يستدعي فعلاً وهو قوله إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ فكيف تترتب الأمور على كونه شَاهِداً وَمُبَشّراً لأنا نقول يجوز الترتيب عليه معنى لا لفظاً كما أن القائل إذا قال بعثت إليك عالماً لتكرمه فاللفظ ينبىء عن كون البعث سبب الإكرام وفي المعنى كونه عالماً هو السبب للإكرام ولهذا لو قال بعثت إليك جاهلاً لتكرمه كان حسناً وإذا أردنا الجمع بين اللفظ والمعنى نقول الإرسال الذي هو إرسال حال كونه شاهداً كما تقول بعث العالم سبب جعله سبباً لا مجرد البعث ولا مجرد العالم في الآية مسائل
المسألة الأولى قال في الأحزاب إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ( الأحزاب 45 46 ) وههنا اقتصر على الثلاثة من الخمسة فما الحكمة فيه نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن ذلك المقام كان مقام ذكره لأن أكثر السورة في ذكر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأحواله وما تقدمه من المبايعة والوعد والدخول ففصل هنالك ولم يفصل ههنا ثانيهما أن نقول الكلام مذكور ههنا لأن قوله شَاهِداً لما لم يقتض أن يكون داعياً لجواز أن يقول مع نفسه أشهد أن لا إلاه إلا الله ولا يدعو الناس قال هناك وداعياً لذلك وههنا لما لم يكن كونه شَاهِداً منبئاً عن كونه داعياً قال لّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ دليل على كونه سراجاً لأنه أتى بما يجب من التعظيم والاجتناب عما يحرم من السوء والفحشاء بالتنزيه وهو التسبيح
المسألة الثانية قد ذكرنا مراراً أن اختيار البكرة والأصيل يحتمل أن يكون إشارة إلى المداومة ويحتمل أن يكون أمراً بخلاف ما كان المشركون يعملونه فإنهم كانوا يجتمعون على عبادة الأصنام في الكعبة بكرة ً وعشية فأمروا بالتسبيح في أوقات كانوا يذكرون فيها الفحشاء والمنكر
المسألة الثالثة الكنايات المذكور في قوله تعالى وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ راجعة إلى الله تعالى أو إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والأصح هو الأول
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
لما بيّن أنه مرسل ذكر أن من بايعه فقد بايع الله وقوله تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يحتمل وجوهاً وذلك أن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد وإما أن تكون بمعنيين فإن قلنا إنها بمعنى واحد ففيه وجهان أحدهما يَدُ اللَّهِ بمعنى نعمة الله عليهم فوق إحسانهم إلى الله كما قال تعالى بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَانِ ( الحجرات 17 ) وثانيهما يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ أي نصرته إياهم أقوى وأعلى من نصرتهم إياه يقال اليد لفلان أي الغلبة والنصرة والقهر وأما إن قلنا إنها بمعنيين فنقول في حق الله تعالى

بمعنى الحفظ وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة واليد كناية عن الحفظ مأخوذ من حال المتبايعين إذا مد كل واحد منهما يده إلى صاحبه في البيع والشراء وبينهما ثالث متوسط لا يريد أن يتفاسخا العقد من غير إتمام البيع فيضع يده على يديهما ويحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد ولا يترك أحدهما يترك يد الآخر فوضع اليد فوق الأيدي صار سبباً للحفظ على البيعة فقال تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يحفظهم على البيعة كما يحفظ ذلك المتوسط أيدي المتبايعين وقوله تعالى فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ أما على قولنا المراد من اليد النعمة أو الغلبة والقوة فلأن من نكث فوت على نفسه الإحسان الجزيل في مقابلة العمل القليل فقد خسر ونكثه على نفسه وأما على قولنا المراد الحفظ فهو عائد إلى قوله إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يعني من يبايعك أيها النبي إذا نكث لا يكون نكثه عائداً إليك لأن البيعة مع الله ولا إلى الله لأنه لا يتضرر بشيء فضرره لا يعود إلا إليه قال وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وقد ذكرنا أن العظم في الأجرام لا يقال إلا إذا اجتمع فيه الطول البالغ والعرض الواسع والسمك الغليظ فيقال في الجبل الذي هو مرتفع ولا اتساع لعرضه جبل عال أو مرتفع أو شاهق فإذا انضم إليه الاتساع في الجوانب يقال عظيم والأجر كذلك لأن مآكل الجنة تكون من أرفع الأجناس وتكون في غاية الكثرة وتكون ممتدة إلى الأبد لا انقطاع لها فحصل فيه ما يناسب أن يقال له عظيم والعظيم في حق الله تعالى إشارة إلى كماله في صفاته كما أنه في الجسم إشارة إلى كماله في جهاته
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الاٌّ عْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
لما بيّن حال المنافقين ذكر المتخلفين فإن قوماً من الأعراب امتنعوا عن الخروج مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لظنهم أنه يهزم فإنهم قالوا أهل مكة يقاتلون عن باب المدينة فكيف يكون حالهم إذا دخلوا بلادهم وأحاط بهم العدو فاعتذروا وقولهم شَغَلَتْنَا أَمْوالُنَا وَأَهْلُونَا فيه أمران يفيدان وضوح العذر أحدهما ( قولهم ) أَمْوَالِنَا ولم يقولوا شغلتنا الأموال وذلك لأن جمع المال لا يصلح عذراً ( لأنه ) لا نهاية له وأما حفظ ما جمع من الشتات ومنع الحاصل من الفواتت يصلح عذراً فقالوا شَغَلَتْنَا أَمْوالُنَا أي ما صار مالاً لنا لا مطلق الأموال وثانيهما قوله تعالى وَأَهْلُونَا وذلك لو أن قائلاً قال لهم المال لا ينبغي أن يبلغ إلى درجة يمنعكم حفظه من متابعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لكان لهم أن يقولوا فالأهل يمنع الاشتغال بهم وحفظهم عن أهم الأمور ثم إنهم مع العذر تضرعوا وقالوا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يعني فنحن مع إقامة العذر معترفون بالإساءة فاستغفر لنا واعف عنا في أمر الخروج فكذبهم الله تعالى فقال يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وهذا

يحتمل أمرين أحدهما أن يكون التكذيب راجعاً إلى قولهم فَاسْتَغْفِرْ لَنَا وتحقيقه هو أنهم أظهروا أنهم يعتقدون أنهم مسيئون بالتخلف حتى استغفروا ولم يكن في اعتقادهم ذلك بل كانوا يعتقدون أنهم بالتخلف محسنون ثانيهما قالوا شَغَلَتْنَا إشارة إلى أن امتناعنا لهذا لا غير ولم يكن ذلك في اعتقادهم بل كانوا يعتقدون امتناعهم لاعتقاد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنون يقهرون ويغلبون كما قال بعده بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً ( الفتح 12 ) وقوله قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً معناه أنكم تحترزون عن الضر وتتركون أمر الله ورسوله وتقعدون طلباً للسلامة ولو أراد بكم الضرر لا ينفعكم قعودكم من الله شيئاً أو معناه أنكم تحترزون عن ضرر القتال والمقاتلين وتعتقدون أن أهليكم وبلادكم تحفظكم من العدو فهب أنكم حفظتم أنفسكم عن ذلك فمن يدفع عنكم عذاب الله في الآخرة مع أن ذلك أولى بالاحتراز وقد ذكرنا في سورة ي س في قوله تعالى إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرّ ( ي س 23 ) أنه في صورة كون الكلام مع المؤمن أدخل الباء على الضر فقال إِنْ أَرَادَنِى َ اللَّهُ بِضُرّ ( الزمر 38 ) وقال وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ ( الأنعام 17 ) وفي صورة كون الكلام مع الكافر أدخل الباء عل الكافر فقال ههنا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً وقال مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ مّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً ( الأحزاب 17 ) وقد ذكرنا الفرق الفائق هناك ولا نعيده ليكون هذا باعثاً على مطالعة تفسير سورة يّس فإنها درج الدرر اليتيمة بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي بما تعملون من إظهار الحرب وإضمار غيره
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً
يعني لم يكن تخلفكم لما ذكرتم بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ وأن مخففة من الثقيلة أي ظننتم أولاً فزين الشيطان ظنكم عندكم حتى قطعتم به وذلك لأن الشبهة قد يزينها الشيطان ويضم إليها مخايلة يقطع بها الغافل وإن كان لا يشك فيها العاقل وقوله تعالى وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْء يحتمل وجهين أحدهما أن يكون هذا العطف عطفاً يفيد المغايرة فقوله وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْء غير الذي في قوله بَلْ ظَنَنْتُمْ وحينئذ يحتمل أن يكون الظن الثاني معناه وظننتم أن الله يخلف وعده أو ظننتم أن الرسول كاذب في قوله وثانيهما أن يكون قوله وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْء هو ما تقدم من ظن أن لا ينقلبوا ويكون على حد قول القائل علمت هذه المسألة وعلمت

كذا أي هذه المسألة لا غيرها وذلك كأنه قال بل ظننتم ظن أن لن ينقلب وظنكم ذلك فاسد وقد بينا التحقيق في ظن السوء وقوله تعالى وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً يحتمل وجهين أحدهما وصرتم بذلك الظن بائرين هالكين وثانيهما أنتم في الأصل بائرون وظننتم ذلك الظن الفاسد
وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً
على قولنا وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْء ( الفتح 12 ) ظن آخر غير ما في قوله بَلْ ظَنَنْتُمْ ظاهر لأنا بينا أن ذلك ظنهم بأن الله يخلف وعده أو ظنهم بأن الرسول كاذب فقال وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ويظن به خلفاً وبرسوله كذباً فإنا أعتدنا له سعيراً وفي قوله لِلْكَافِرِينَ بدلاً عن أن يقول فإنا أعتدنا له فائدة وهي التعميم كأنه تعالى قال ومن لم يؤمن بالله فهو من الكافرين وإنا أعتدنا للكافرين سعيراً
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
بعد ما ذكر من له أجر عظيم من المبايعين ومن له عذاب أليم من الظانين الضالين أشار إلى أنه يغفر للأولين بمشيئته ويعذب الآخرين بمشيئته وغفرانه ورحمته أعم وأشمل وأتم وأكمل وقوله تعالى وَاللَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يفيد عظمة الأمرين جميعاً لأن من عظم ملكه يكون أجره وهبته في غاية العظم وعذابه وعقوبته كذلك في غاية النكال والألم
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
ثم قال تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ
أوضح الله كذبهم بهذا حيث كانوا عندما يكون السير إلى مغانم يتوقعونها يقولون من تلقاء أنفسهم ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ فإذا كان أموالهم وأهلوهم شغلتهم يوم دعوتكم إياهم إلى أهل مكة فما بالهم لا يشتغلون بأموالهم يوم الغنيمة والمراد من المغانم مغانم أهل خيبر وفتحها وغنم المسلمون ولم يكن معهم إلا من كان معه في المدينة وفي قوله سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ وعد المبايعين الموافقين بالغنيمة والمتخلفين المخالفين بالحرمان

وقوله تعالى يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ
يحتمل وجوهاً أحدها هو ما قال الله إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية وعاهد بها لا غير وهو الأشهر عند المفسرين والأظهر نظراً إلى قوله تعالى كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ ثانيها يريدون أن يبدلوا كلام الله وهو قوله وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ( الفتح 6 ) وذلك لأنهم لو اتبعوكم لكانوا في حكم بيعة أهل الرضوان الموعودين بالغنيمة فيكونون من الذين رضي الله عنهم كما قال تعالى لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ِ ( الفتح 18 ) فلا يكونون من الذين غضب الله عليهم فيلزم تبديل كلام الله ثالثها هو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما تخلف القوم أطلعه الله على باطنهم وأظهر له نفاقهم وأنه يريد أن يعاقبهم وقال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِى َ عَدُوّا ( التوبة 83 ) فأرادوا أن يبدلوا ذلك الكلام بالخروج معه لا يقال فالآية التي ذكرتم واردة في غزوة تبوك لا في هذه الواقعة لأنا نقول قد وجد ههنا بقوله لَّن تَتَّبِعُونَا على صيغة النفي بدلاً عن قوله لا تتبعونا على صيغة النهي معنى لطيف وهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بنى على إخبار الله تعالى عنهم النفي لوثوقه وقطعه بصدقه فجزم وقال لَّن تَتَّبِعُونَا يعني لو أذنتكم ولو أردتم واخترتم لا يتم لكم ذلك لما أخبر الله تعالى
ثم قال تعالى فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا
رداً على قوله تعالى كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ كأنهم قالوا ما قال الله كذلك من قبل بل تحسدوننا وبل للاضراب والمضروب عنه محذوف في الموضعين أما ههنا فهو بتقدير ما قال الله وكذلك فإن قيل بماذا كان الحسد في اعتقادهم نقول كأنهم قالوا نحن كنا مصيبين في عدم الخروج حيث رجعوا من الحديبية من غير حاصل ونحن استرحنا فإن خرجنا معهم ويكون فيه غنيمة يقولون هم غنموا معنا ولم يتعبوا معنا
ثم قال تعالى رداً عليهم كما ردوا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً أي لم يفقهوا من قولك لا تخرجوا إلا ظاهر النهي ولم يفهموا من حكمه إلا قليلاً فحملوه على ما أرادوه وعللوه بالحسد
قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاٌّ عْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً
لما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قُل لَّن تَتَّبِعُونَا ( الفتح 15 ) وقال فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا ( التوبة 83 ) فكان المخلفون جمعاً كثيراً من قبائل متشعبة دعت الحاجة إلى بيان قبول توبتهم فإنهم لم يبقوا على ذلك ولم يكونوا من الذين مردوا على النفاق بل منهم من حسن حاله وصلح باله فجعل لقبول توبتهم علامة وهو أنهم يدعون إلى قتال قوم أولي بأس شديد ويطيعون بخلاف حال ثعلبة حيث امتنع من أداء الزكاة ثم أتى بها ولم يقبل منه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واستمر عليه الحال ولم يقبل منه أحد من الصحابة كذلك كان يستمر حال هؤلاء لولا أنه تعالى بيّن أنهم يدعون فإن كانوا يطيعون يؤتون الأجرر الحسن وما كان أحد من الصحابة يتركهم يتبعونه والفرق بين حال ثعلبة وبين حال هؤلاء من وجهين أحدهما أن ثعلبة جاز أن يقال حاله لم يكن يتغير في علم الله فلم يبين لتوبته علامة والأعراب تغيرت فإن بعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يبق من المنافقين على النفاق أحد على مذهب أهل السنة وثانيهما أن الحاجة إلى بيان حال الجمع الكثير والجم الغفير أمس لأنه لولا البيان لكان

يفضي الأمر إلى قيام الفتنة بين فرق المسلمين وفي قوله سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ وجوه أشهرها وأظهرها أنهم بنو حنيفة حيث تابعوا مسيلمة وغزاهم أبو بكر وثانيها هم فارس والروم غزاهم عمر ثالثها هوازن وثقيف غزاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأقوى الوجوه هو أن الدعاء كان من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإن كان الأظهر غيره أما الدليل على قوة هذا الوجه هو أن أهل السنة اتفقوا على أن أمر العرب في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ظهر ولم يبق إلا كافر مجاهر أو مؤمن تقي طاهر وامتنع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الصلاة على موتى المنافقين وترك المؤمنون مخالطتهم حتى إن عبادة بن كعب مع كونه بين المؤمنين لم يكلمه المؤمنون مدة وما ذكره الله علامة لظهور حال من كان منافقاً فإن كان ظهر حالهم بغير هذا فلا معنى لجعل هذا علامة وإن ظهر بهذا الظهور كان في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن النبي عليه الصلاة والسلام لو امتنع من قبولهم لاتباعه لامتنع أبو بكر وعمر لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ ( الأعراف 158 ) وقوله فَاتَّبِعُونِى ( مريم 43 ) فإن قيل هذا ضعيف لوجهين أحدهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لَّن تَتَّبِعُونَا ( الفتح 15 ) وقال لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا ( التوبة 83 ) فكيف كانوا يتبعونه مع النفي الثاني قوله تعالى أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ ولم يبق بعد ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام حرب قوم أولي بأسٍ شديد فإن الرعب استولى على قلوب الناس ولم يبق الكفار بعده شدة وبأس واتفاق الجمهور يدل على القوة والظهور نقول أما الجواب عن الأول فمن وجهين أحدهما أن يكون ذلك مقيداً تقديره لن تخرجوا معي أبداً وأنتم على ما أنتم عليه ويجب هذا التقييد لأنا أجمعنا على أن منهم من أسلم وحسن إسلامه بل الأكثر ذلك وما كان يجوز للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول لهم لستم مسلمين لقوله تعالى وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( النساء 94 ) ومع القول بإسلامهم ما كان يجوز أن يمنعهم ما كان من الجهاد في سبيل الله مع وجوبه عليهم وكان ذلك مقيداً وقد تبيّن حسن حالهم فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعاهم إلى جهاد فأطاعه قوم وامتنع آخرون وظهر أمرهم وعلم من استمر على الكفر ممن استقر قلبه على الإيمان الثاني المراد من قوله لَّن تَتَّبِعُونَا ( الفتح 15 ) في هذا القتال فحسب وقوله لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ ( التوبة 83 ) كان في غير هذا وهم المنافقون الذين تخلفوا في غزوة تبوك وأما اتفاق الجمهور فنقول لا مخالفة بيننا وبينهم لأنا نقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعاهم أولاً وأبو بكر رضي الله عنه أيضاً دعاهم بعد معرفته جواز ذلك من فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنما نحن نثبت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعاهم فإن قالوا أبو بكر رضي الله عنه دعاهم لم يكن بين القولين تناف وإن قالوا لم يدعهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فالنفي والجزم به في غاية البعد لجواز أن يكون ذلك قد وقع وكيف لا والنبي عليه الصلاة والسلام قال من كلام الله إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى ( آل عمران 31 ) وقال وَاتَّبِعُونِ هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( الزخرف 61 ) ومنهم من أحب الله واختار اتباع النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن بقاء جمعهم على النفاق والكفر بعد ما اتسعت دائرة الإسلام واجتمعت العرب على الإيمان بعيد ويوم قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لَّن تَتَّبِعُونَا كان أكثر العرب على الكفر والنفاق لأنه كان قبل فتح مكة وقبل أخذ حصون كثيرة
وأما قوله لم يبق للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حرب مع أولي بأس شديد قلنا لا نسلم ذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عام الحديبية دعاهم إلى الحرب لأنه خرج محرماً ومعه الهدى ليعلم قريش أنه لا يطلب القتال وامتنعوا فقال ستدعون إلى الحرب ولا شك أن من يكون خصمه مسلحاً محارباً أكثر بأساً ممن يكون على خلاف ذلك فكان قد علم من حال مكة أنهم لا يوقرون حاجاً ولا معتمراً فقوله أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني أولي سلاح من آلة الحديد فيه بأس شديد ومن قال بأن الداعي أبو بكر وعمر تمسك بالآية على خلافتهما ودلالتها ظاهرة وحينئذ

تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ إشارة إلى أن أحدهما يقع وقرىء أَوْ بالنصب بإضمار أن على معنى تقاتلونهم إلى أن يسلموا والتحقيق فيه هو أن لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ لا تجيء إلا بين المتغايرين وتنبىء عن الحصر فيقال العدد زوج أو فرد ولهذا لا يصح أن يقال هو زيد أو عمرو ولهذا يقال العدد زوج أو خمسة أو غيرهما إذا علم هذا فقال القائل لألزمنك أو تقضيني حقي يفهم منه أن الزمان انحصر في قسمين قسم يكون فيه الملازمة وقسم يكون فيه قضاء الحق فلا يكون بين الملازمة وقضاء الحق زمان لا يوجد فيه الملازمة ولا قضاء الحق فيكون في قوله لألزمنك أو تقضيني كما حكي في قول القائل لألزمنك إلى أن تقضيني لامتداد زمان الملازمة إلى القضاء وهذا ما يضعف قول القائل الداعي هو عمر والقوم فارس والروم لأن الفريقين يقران بالجزية فالقتال معهم لا يمتد إلى الإسلام لجواز أن يؤدوا الجزية وقوله تعالى فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ فيه فائدة لأن التولي إذا كان بعذر كما قال تعالى لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ ( النور 61 ) لا يكون للمتولي عذاب أليم فقال وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ يعني إن كان توليكم بناء على الظن الفاسد والاعتقاد الباطل كما كان حيث قلتم بألسنتكم لا بقلوبكم شَغَلَتْنَا أَمْوالُنَا ( الفتح 11 ) فالله يعذبكم عذاباً أليماً
لَّيْسَ عَلَى الاٌّ عْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاٌّ عْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً
بين من يجوز له التخلف وترك الجهاد وما بسببه يجوز ترك الجهاد وهو ما يمنع من الكر والفر وبين ذلك ببيان ثلاثة أصناف الأول الاْعْمَى فإنه لا يمكنه الإقدام على العدو والطلب ولا يمكنه الاحتراز والهرب والأعرج كذلك والمريض كذلك وفي معنى الأعرج الأقطع والمقعد بل ذلك أولى بأن يعذر ومن به عرج لا يمنعه من الكر والفر لا يعذر وكذلك المرض القليل الذي لا يمنع من الكر والفر كالطحال والسعال إذ به يضعف وبعض أوجاع المفاصل لا يكون عذراً وفيه مسائل
المسألة الأولى أن هذه أعذار تكون في نفس المجاهد ولنا أعذار خارجة كالفقر الذي لا يتمكن صاحبه من استصحاب ما يحتاج إليه والاشتغال بمن لولاه لضاع كطفل أو مريض والأعذار تعلم من الفقه ونحن نبحث فيما يتعلق بالتفسير في بيان مسائل
المسألة الأولى ذكر الأعذار التي في السفر لأن غيرها ممكن الإزالة بخلاف العرج والعمى
المسألة الثانية اقتصر منها على الأصناف الثلاثة لأن العذر إما أن يكون بإخلال في عضو أو بإخلال في القوة والذي بسبب إخلال العضو فإما أن يكون بسبب اختلال في العضو الذي به الوصول إلى العدو

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66