كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

من قال بل هو في التطوعات والأقرب دخول الكل فيه
المسألة الرابعة ذكروا في كون القرض حسناً وجوهاً أحدها قال مقاتل يعني طيبة بها نفسه وثانيها قال الكلبي يعني يتصدق بها لوجه الله وثالثها قال بعض العلماء القرض لا يكون حسناً حتى يجمع أوصافاً عشرة الأول أن يكون من الحلال قال عليه الصلاة والسلام ( إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب ) وقال عليه الصلاة والسلام ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول ) والثاني أن يكون من أكرم ما يملكه دون أن ينفق الرديء قال الله تعالى وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ( البقرة 267 ) الثالث أن تتصدق به وأنت تحبه وتحتاج إليه بأن ترجو الحياة وهو المراد بقوله تعالى لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ ( البقرة 177 ) وبقول وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ ( الإنسان 8 ) على أحد التأويلات وقال عليه الصلاة والسلام ( الصدقة أن تعطي وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا ) والرابع أن تصرف صدقتك إلى الأحوج الأولى بأخذها ولذلك خص الله تعالى أقواماً بأخذها وهم أهل السهمان الخامس أن تكتم الصدقة ما أمكنك لأنه تعالى قال وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ( البقرة 271 ) السادس أن لا تتبعها مناً ولا أذى قال تعالى لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى ( البقرة 264 ) السابع أن تقصد بها وجه الله ولا ترائي كما قال إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( الليل 20 21 ) ولأن المرائي مذموم بالاتفاق الثامن أن تستحقر ما تعطي وإن كثر لأن ذلك قليل من الدنيا والدنيا كلها قليلة وهذا هو المراد من قوله تعالى وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ( المدثر 6 ) في أحد التأويلات التاسع أن يكون من أحب أموالك إليك قال تعالى لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) العاشر أن لا ترى عز نفسك وذل الفقير بل يكون الأمر بالعكس في نظرك فترى الفقير كأن الله تعالى أحال عليك رزقه الذي قبله بقوله وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ( هود 6 ) وترى نفسك تحت دين الفقير فهذه أوصاف عشرة إذا اجتمعت كانت الصدقة قرضاً حسناً وهذه الآية مفسرة في سورة البقرة
ثم إنه تعالى قال فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى أنه تعالى ضمن على هذا القرض الحسن أمرين أحدهما المضاعفة على ما ذكر في سورة البقرة وبين أن مع المضاعفة له أجر كريم وفيه قولان الأول وهو قول أصحابنا أن المضاعفة إشارة إلى أنه تعالى يضم إلى قدر الثواب مثله من التفضيل والأجر الكريم عبارة عن الثواب فإن قيل مذهبكم أن الثواب أيضاً تفضل فإذا لم يحصل الامتياز لم يتم هذا التفسير الجواب أنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ أن كل من صدر منه الفعل الفلاني فله قدر كذا من الثواب فذاك القدر هو الثواب فإذا ضم إليه مثله فذلك المثل هو الضعف والقول الثاني هو قول الجبائي من المعتزلة أن الأعواض تضم إلى الثواب فذلك هو المضاعفة وإنما وصف الأجر بكونه كريماً لأنه هو الذي جلب ذلك الضعف وبسببه حصلت تلك الزيادة فكان كريماً من هذا الوجه
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وابن عامر ( فيضعفه ) مشددة بغير ألف ثم إن ابن كثير قرأ بضم الفاء وابن

عامر بفتح الفاء وقرأ عاصم ( فيضاعفه ) بالألف وفتح الفاء وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي فيضاعفه بالألف وضم الفاء قال أبو علي الفارسي يضاعف ويضعف بمعنى إنما الشأن في تعليل قراءة الرفع والنصب أما الرفع فوجهه ظاهر لأنه معطوف على يُقْرِضُ أو على الإنقطاع من الأول كأنه قيل فهو يضاعف وأما قراء النصب فوجهها أنه لما قال مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ فكأنه قال أيقرض الله أحد قرضاً حسناً ويكون قوله فَيُضَاعِفَهُ جواباً عن الاستفهام فحينئذ ينصب
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
ثم قال تعالى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم وفيه مسائل
المسألة الأولى يَوْمَ تَرَى ظرف لقوله وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( الحديد 11 ) أو منصوب بأذكر تعظيماً لذلك اليوم
المسألة الثانية المراد من هذا اليوم هو يوم المحاسبة واختلفوا في هذا النور على وجوه أحدها قال قوم المراد نفس النور على ما روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن كل مثاب فإنه يحصل له النور على قدر عمله وثوابه في العظم والصغر ) فعلى هذا مراتب الأنوار مختلفة فمنهم من يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء ومنهم من نوره مثل الجبل ومنهم من لا يضيء له نور إلا موضع قدميه وأدناهم نوراً من يكون نوره على إبهامه ينطفىء مرة ويتقد أخرى وهذا القول منقول عن ابن مسعود وقتادة وغيرهما وقال مجاهد ما من عبد إلا وينادي يوم القيامة يا فلان ها نورك ويا فلان لا نور لك نعوذ بالله منه واعلم أنا بينا في سورة النور أن النور الحقيقي هو الله تعالى وأن نور العلم الذي هو نور البصيرة أولى بكونه نوراً من نور البصر وإذا كان كذلك ظهر أن معرفة الله هي النور في القيامة فمقادير الأنوار يوم القيامة على حسب مقادير المعارف في الدنيا القول الثاني أن المراد من النور ما يكون سبباً للنجاة وإنما قال بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كماأن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم القول الثالث المراد بهذا النور الهداية إلى الجنة كما يقال ليس لهذا الأمر نور إذا لم يكن المقصود حاصلاً ويقال هذا الأمر له نور ورونق إذا كان المقصود حاصلاً
المسألة الثالثة قرأ سهل بن شعيب وَبِأَيْمَانِهِم بكسر الهمزة والمعنى يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم حصل ذلك السعي ونظيره قوله تعالى ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ( الحج 10 ) أي ذلك كائن بذلك
ثم قال تعالى بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وفيه مسائل
المسألة الأولى حقيقة البشارة ذكرناها في تفسير قوله وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البقرة 25 يونس 2 ) ثم قالوا تقدير

الآية وتقول لهم الملائكة بشراكم اليوم كما قال وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 24 )
المسألة الثانية دلت هذه الآية على أن المؤمنين لا ينالهم أهوال يوم القيامة لأنه تعالى بين أن هذه صفتهم يوم القيامة من غير تخصيص
المسألة الثالثة احتج الكعبي على أن الفاسق ليس بمؤمن فقال لو كان مؤمناً لدخل تحت هذه البشارة ولو كان كذلك لقطع بأنه من أهل الجنة ولما لم يكن كذلك ثبت أنه ليس بمؤمن والجواب أن الفاسق قاطع بأنه من أهل الجنة لأنه إما أن لا يدخل النار أو إن دخلها لكنه سيخرج منها وسيدخل الجنة ويبقى فيها أبد الآباد فهو إذن قاطع بأنه من أهل الجنة فسقط هذا الاستدلال
المسألة الرابعة قوله ذالِكَ عائد إلى جميع ما تقدم وهو النور والبشرى بالجنات المخلدة
المسألة الخامسة قرىء ( ذلك الفوز ) بإسقاط كلمة هو
واعلم أنه تعالى لما شرح حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح حال المنافقين فقال
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَة ُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ
قوله يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَاءكُمْ لَّكُمْ نُوراً وفيه مسائل
المسألة الأولى يَوْمَ يَقُولُ بدل من يَوْمَ تَرَى ( الحديد 12 ) أو هو أيضاً منصوب باذكر تقديراً
المسألة الثانية قرأ حمزة وحده ( أنظرونا ) مكسورة الظاء والباقون ( أنظروا ) قال أبو علي الفارسي لفظ النظر يستعمل على ضروب أحدها أن تريد به نظرت إلى الشيء فيحذف الجار ويوصل الفعل كما أنشد أبو الحسن ظاهرات الجمال والحسن ينظرن
كما ينظر الأراك الظباء
والمعنى ينظرن إلى الأراك وثانيها أن تريد به تأملت وتدبرت ومنه قولك إذهب فانظر زيداً أيؤمن فهذا يراد به التأمل ومنه قوله تعالى انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاْمْثَالَ ( الأسراء 48 ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ ( النساء 50 ) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( الإسراء 21 ) قال وقد يتعدى هذا بإلى كقوله أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ( الغاشية 17 ) وهذا نص على التأمل وبين وجه الحكمة فيه وقد يتعدى بفي كقوله أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأعراف 185 ) وَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ ( الروم 8 ) وثالثها أن يراد بالنظر الرؤية كما في قوله ولما بدا حوران والآل دونه
نظرت فلم تنظر بعينك منظراً
والمعنى نظرت فلم تر بعينك منظراً تعرفه في الآل قال إلا أن هذا على سبيل المجاز لأنه دلت الدلائل على أن النظر عبارة عن تقلب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته فلما كانت الرؤية من توابع النظر ولوازمه غالباً أجرى على الرؤية لفظ النظر على سبيل إطلاق اسم السبب على المسبب قال ويجوز أن يكون قوله نظرت فلم تنظر كما يقال تكلمت وما تكلمت أي ما تكلمت بكلام مفيد فكذا هنا نظرت وما نظرت

نظراً مفيداً ورابعها أن يكون النظر بمعنى الانتظار ومنه قوله تعالى إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ( الأحزاب 53 ) أي غير منتظرين إدراكه وبلوغه وعلى هذا الوجه يكون نظرت معناه انتظرت ومجيء فعلت وافتعلت بمعنى واحد كثير كقولهم شويت واشتويت وحقرت واحتقرت إذا عرفت هذا فقوله انظُرُونَا يحتمل وجهين الأول أنظرونا أي انتظرونا لأنه يسرع بالمؤمنين إلى الجنة كالبروق الخاطفة والمنافقون مشاة والثاني أنظرونا أي أنظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به وأما قراءة ( أنظرونا ) مكسورة الظاء فهي من النظرة والإمهال ومنه قوله تعالى أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( الحجر 36 ) وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بإنظار المعسر والمعنى أنه جعل اتئادهم في المشي إلى أن يلحقوا بهم إنظاراً لهم
واعلم أن أبا عبيدة والأخفش كانا يطعنان في حصة هذه القراءة وقد ظهر الآن وجه صحتها
المسألة الثالثة اعلم أن الاحتمالات في هذا الباب ثلاثة أحدها أن يكون الناس كلهم في الظلمات ثم إنه تعالى يعطي المؤمنين هذه الأنوار والمنافقون يطلبونها منهم وثانيها أن تكون الناس كلهم في الأنوار ثم إن المؤمنين يكونون في الجنات فيمرون سريعاً والمنافقون يبقون وراءهم فيطلبون منهم الانتظار وثالثها أن يكون المؤمنون في النور والمنافقون في الظلمات ثم المنافقون يطلبون النور مع المؤمنين وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الاحتمالات قوم فإن كانت هذه الحالة إنما تقع عند الموقف فالمراد من قوله انظُرُونَا انظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم فقد أقبلوا عليهم ومتى أقبلوا عليهم وكانت أنوارهم من قدامهم استضاءوا بتلك الأنوار وإن كانت هذه الحالة إنما تقع عند مسير المؤمنين إلى الجنة كان المراد من قوله انظُرُونَا يحتمل أن يكون هو الانتظار وأن يكون النظر إليهم
المسألة الرابعة القبس الشعلة من النار أو السراج والمنافقون طمعوا في شيء من أنوار المؤمنين أن يقتبسوه كاقتباس نيران الدنيا وهو منهم جهل لأن تلك الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا فلما لم توجد تلك الأعمال في الدنيا امتنع حصول تلك الأنوار في الآخرة قال الحسن يعطى يوم القيامة كل أحد نوراً على قدر عمله ثم إنه يؤخذ من حر جهنم ومما فيه من الكلاليب والحسك ويلقى على الطريق فتمضي زمرة من المؤمنين وجوههم كالقمر ليلة البدر ثم تمضي زمرة أخرى كأضواء الكواكب في السماء ثم على ذلك تغشاهم ظلمة فتطفىء نور المنافقين فهنالك يقول المنافقون للمؤمنين انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ كقبس النار
المسألة الخامسة ذكروا في المراد من قوله تعالى قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً وجوهاً أحدها أن المراد منه ارجعوا إلى دار الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار هنالك فإن هذه الأنوار إنما تتولد من اكتساب المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة والتنزه عن الجهل والأخلاق الذميمة والمراد من ضرب السور هو امتناع العود إلى الدنيا وثانيها قال أبو أمامة الناس يكونون في ظلمة شديدة ثم المؤمنون يعطون الأنوار فإذا أسرع المؤمن في الذهاب قال المنافق انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ فيقال لهم ارْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً قال وهي خدعة خدع بها المنافقون كما قال يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النساء 142 ) فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم فيجدون السور مضروباً

بينهم وبين المؤمنين وثالثها قال أبو مسلم المراد من قول المؤمنين ارْجِعُواْ منع المنافقين عن الاستضاءة كقول الرجل لمن يريد القرب منه وراءك أوسع لك فعلى هذا القول المقصود من قوله ارْجِعُواْ أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب ألبتة لا أنه أمر لهم بالرجوع
قوله تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَة ُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اختلفوا في السور فمنهم من قال المراد منه الحجاب والحيلولة أي المنافقون منعوا عن طلب المؤمنين وقال آخرون بل المراد حائط بين الجنة والنار وهو قول قتادة وقال مجاهد هو حجاب الأعراف
المسألة الثانية الباء في قوله بِسُورٍ صلة وهو للتأكيد والتقدير ضرب بينهم سور كذا قاله الأخفش ثم قال لَّهُ بَابٌ أي لذلك السور باب بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَة ُ أي في باطن ذلك السور الرحمة والمراد من الرحمة الجنة التي فيها المؤمنين وَظَاهِرُهُ يعني وخارج السور مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ أي من قبله يأتيهم العذاب والمعنى أن ما يلي المؤمنين ففيه الرحمة وما يلي الكافرين يأتيهم من قبله العذاب والحاصل أن بين الجنة والنار حائط وهو السور ولذلك السور باب فالمؤمنون يدخلون الجنة من باب ذلك السور والكافرون يبقون في العذاب والنار
ثم قال تعالى
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الاٌّ مَانِى ُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية قولان الأول أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ في الدنيا والثاني أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ في العبادات والمساجد والصلوات والغزوات وهذا القول هو المتعين
المسألة الثانية البعد بين الجنة والنار كثير لأن الجنة في أعلى السموات والنار في الدرك الأسفل فهذا يدل على أن البعد الشديد لا يمنع من الإدراك ولا يمكن أن يقال إن الله عظم صوت الكفار بحيث يبلغ من أسفل السافلين إلى أعلى عليين لأن مثل هذا الصوت إنما يليق بالأشداء الأقوياء جداً والكفار موصوفون بالضعف وخفاء الصوت فعلمنا أن البعد لا يمنع من الإدراك على ما هو مذهبنا ثم حكى تعالى أن المؤمنين قالوا بلى كنتم معنا إلا أنكم فعلتم أشياء بسببها وقعتم في هذا العذاب أولها وَلَاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ أي بالكفر والمعاصي وكلها فتنة وثانيها قوله وَتَرَبَّصْتُمْ وفيه وجوه أحدها قال ابن

عباس تربصتم بالتوبة وثانيها قال مقاتل وتربصتم بمحمد الموت قلتم يوشك أن يموت فنستريح منه وثالثها كنتم تتربصون دائرة السوء لتلتحقوا بالكفار وتتخلصوا من النفاق وثالثها قوله وَارْتَبْتُمْ وفيه وجوه الأول شككتم في وعيد الله وثانيها شككتم في نبوة محمد وثالثها شككتم في البعث والقيامة ورابعها قوله وَغرَّتْكُمُ الاْمَانِى ُّ قال ابن عباس يريد الباطل وهو ما كانوا يتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ يعني الموت والمعنى ما زالوا في خدع الشيطان وغروره حتى أماتهم الله وألقاهم في النار
قوله تعالى وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ سماك بن حرب الْغُرُورِ بضم الغين والمعنى وغركم بالله الاغترار وتقديره على حذف المضاف أي غركم بالله سلامتكم منه مع الاغترار
المسألة الثانية الْغُرُورِ بفتح الغين هو الشيطان لإلقائه إليكم أن لا خوف عليكم من محاسبة ومجازاة
فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَة ٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِى َ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
الفدية ما يفتدى به وهو قولان الأول لا يؤخذ منكم إيمان ولا توبة فقد زال التكليف وحصل الإلجاء
الثاني بل المراد لا يقبل منكم فدية تدفعون بها العذاب عن أنفسكم كقوله تعالى وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَة ٌ ( البقرة 123 ) واعلم أن الفدية ما يفتدى به فهو يتناول الإيمان والتوبة والمال وهذا يدل على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً على ما تقوله المعتزلة لأنه تعالى بين أنه لا يقبل الفدية أصلاً والتوبة فدية فتكون الآية دالة على أن التوبة غير مقبولة أصلاً وإذا كان كذلك لم تكن التوبة واجبة القبول عقلاً أما قوله وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ففيه بحث وهو عطف الكافر على المنافق يقتضي أن لا يكون المنافق كافراً لوجوب حصول المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه والجواب المراد الذين أظهروا الكفر وإلا فالمنافق كافر
ثم قال تعالى مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِى َ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
وفي لفظ المولى ههنا أقوال أحدها قال ابن عباس مَوْلَاكُمْ أي مصيركم وتحقيقه أن المولى موضع الولي وهو القرب فالمعنى أن النار هي موضعكم الذي تقربون منه وتصلون إليه والثاني قال الكلبي يعني أولى بكم وهو قول الزجاج والفراء وأبي عبيدة واعلم أن هذا الذي قالوه معنى وليس بتفسير للفظ لأن لو كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة لصح استعمال كل واحد منهما في مكان الآخر فكان يجب أن يصح أن يقال هذا مولى من فلان كما يقال هذا أولى من فلان ويصح أن يقال هذا أولى فلان كما

يقال هذا مولى فلان ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنى وليس بتفسير وإنما نبهنا على هذه الدقيقة لأن الشريف المرتضى لما تسمك بإمامة علي بقوله عليه السلام ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) قال أحد معاني مولى معناه أولى واحتج في ذلك بأقوال أئمة اللغة في تفسير هذه الآية بأن مولى معناه أولى وإذا ثبت أن اللفظ محتمل له وجب حمله عليه لأن ما عداه إما بين الثبوت ككونه ابن العم والناصر أو بين الإنتفاء كالمعتق والمعتق فيكون على التقدير الأول عبثاً وعلى التقدير الثاني كذباً وأما نحن فقد بينا بالدليل أن قول هؤلاء في هذا الموضع معنى لا تفسير وحينئذ يسقط الاستدلال به وفي الآية وجه آخر وهو أن معنى قوله هِى َ مَوْلَاكُمْ أي لا مولى لكم وذلك لأن من كانت النار مولاه فلا مولى له كما يقال ناصره الخذلان ومعينه البكاء أي لا ناصر له ولا معين وهذا الوجه متأكد بقوله تعالى وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ( محمد 11 ) ومنه قوله تعالى يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ ( الكهف 29 )
( 16 )
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاٌّ مَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ الحسن ( ألما يأن ) قال ابن جني أصل لما لم ثم زيد عليها ما فلم نفي لقوله أفعل ولما نفي لقوله قد يفعل وذلك لأنه لما زيد في الإثبات قد لا جرم زيد في نفيه ما إلا أنهم لما ركبوا لم مع ما حدث لها معنى ولفظ أما المعنى فإنها صارت في بعض المواضع ظرفاً فقالوا لما قمت قام زيد أي وقت قيامك قام زيد وأما اللفظ فإنه يجوز أن تقف عليها دون مجزومها فيجوز أن تقول جئت ولما أي ولما يجيء ولا يجوز أن يقول جئت ولم
وأما الذين قرأوا أَلَمْ يَأْنِ فالمشهور ألم يأن من أنى الأمر يأني إذا جاء إناء أتاه أي وقته وقرىء ( ألم يئن ) من أن يئين بمعنى أنى يأني
المسألة الثانية اختلفوا في قوله أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ فقال بعضهم نزل في المنافقين الذين أظهروا الإيمان وفي قلوبهم النفاق المباين للخشوع والقائلون بهذا القول لعلهم ذهبوا إلى أن المؤمن لا يكون مؤمناً في الحقيقة إلا مع خشوع القلب فلا يجوز أن يقول تعالى ذلك إلا لمن ليس بمؤمن وقال آخرون بل المراد من هو مؤمن على الحقيقة لكن المؤمن قد يكون له خشوع وخشية وقد لا يكون كذلك ثم على هذا القول تحتمل الآية وجوهاً أحدها لعل طائفة من المؤمنين ما كان فيهم مزيد خشوع ولا رقة فحثوا عليه بهذه الآية وثانيها لعل قوماً كان فيهم خشوع كثير ثم زال منهم شدة ذلك الخشوع فحثوا على المعاودة إليها عن الأعمش قال إن الصحابة لما قدموا المدينة أصابوا ليناً في العيش ورفاهية ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا بهذه الآية وعن أبي بكر أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده

قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم فقال هكذا كنا حتى قست القلوب وأما قوله لِذِكْرِ اللَّهِ ففيه قولان الأول أن تقدير الآية أما حان للمؤمنين أن ترق قلوبهم لذكر الله أي مواعظ الله التي ذكرها في القرآن وعلى هذا الذكر مصدر أضيف إلى الفاعل والقول الثاني أن الذكر مضاف إلى المفعول والمعنى لذكرهم الله أي يجب أن يورثهم الذكر خشوعاً ولا يكونوا كمن ذكره بالغفلة فلا يخشع قلبه للذكر وقوله تعالى وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ فيه مسائل
المسألة الأولى ( ما ) في موضع جر بالعطف على الذكر وهو موصول والعائد إليه محذوف على تقدير وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ ثم قال ابن عباس في قوله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ يعني القرآن
المسألة الثانية قال أبو علي قرأ نافع وحفص والمفضل عن عاصم وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ خفيفة وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم وَمَا نَزَلَ مشددة وعن أبي عمرو وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ مرتفعة النون مكسورة الزاي والتقدير في القراءة الأولى أن تخشع قلوبهم لذكر الله ولما نزل من الحق وفي القراءة الثانية ولما نزله الله من الحق وفي القراءة الثالثة ولما نزل من الحق
المسألة الثالثة يحتمل أن يكون المراد من الحق هو القرآن لأنه جامع للوصفين الذكر والموعظة وإنه حق نازل من السماء ويحتمل أن يكون المراد من الذكر هو ذكر الله مطلقاً والمراد بما نزل من الحق هو القرآن وإنما قدم الخشوع بالذكر على الخشوع بما نزل من القرآن لأن الخشوع والخوف والخشية لا تحصل إلا عند ذكر الله فأما حصولها عند سماع القرآن فذاك لأجل اشتمال القرآن على ذكر الله ثم قال تعالى وَلاَ يَكُونُواْ قال الفراء هو في موضع نصب معناه ألم يأن أن تخشع قلوبهم وأن لا يكونوا قال ولو كان جزماً على النهي كان صواباً ويدل على هذا الوجه قراءة من قرأ بالتاء على سبيل الالتفات ثم قال كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ يريد اليهود والنصارى فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاْمَدُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في تفسير طول الأمد وجوهاً أحدها طالت المدة بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم وثانيها قال ابن عباس مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله وثالثها طالت أعمارهم في الغفلة فحصلت القسوة في قلوبهم بذلك السبب ورابعها قال ابن جبان الأمد ههنا الأمل البعيد والمعنى على هذا طال عليهم الأمد بطول الأمل أي لما طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم وخامسها قال مقاتل بن سليمان طال عليهم أمد خروج النبي عليه السلام وسادسها طال عهدهم بسماع التوراة والإنجيل فزال وقعهما عن قلوبهم فلا جرم قست قلوبهم فكأنه تعالى نهى المؤمنين عن أن يكونوا كذلك قاله القرظي
المسألة الثانية قرىء ( الأمد ) بالتشديد أي الوقت الأطول ثم قال وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ أي خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين وكأنه إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر

ثم قال تعالى
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْى ِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاٌّ يَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
وفيه وجهان الأول أنه تمثيل والمعنى أن القلوب التي ماتت بسبب القساوة فالمواظبة على الذكر سبب لعود حياة الخشوع إليها كما يحيي الله الأرض بالغيث والثاني أن المراد من قوله فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمَة ِ بعث الأموات فذكر ذلك ترغيباً في الخشوع والخضوع وزجراً عن القساوة
ثم قال تعالى
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو علي الفارسي قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ بالتخفيف وقرأ الباقون وحفص عن عاصم إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ بتشديد الصاد فيهما فعلى القراءة الأولى يكون معنى المصدق المؤمن فيكون المعنى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لأن إقراض الله من الأعمال الصالحة ثم قالوا وهذه القراءة أولى لوجهين الأول أن من تصدق لله وأقرض إذا لم يكن مؤمناً لم يدخل تحت الوعد فيصير ظاهر الآية متروكاً على قراءة التشديد ولا يصير متروكاً على قراءة التخفيف والثاني أن المتصدق هو الذي يقرض الله فيصير قوله إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ وقوله وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ شيئاً واحداً وهو تكرار أما على قراءة التخفيف فإنه لا يلزم التكرار وحجة من نقل وجهان أحدهما أن في قراءة أبي ءانٍ الْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ بالتاء والثاني أن قوله وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً اعتراض بين الخبر والمخبر عنه والاعتراض بمنزلة الصفة فهو للصدقة أشد ملازمة منه للتصديق وأجاب الأولون بأنا لا نحمل قوله وَأَقْرِضُواُ على الاعتراض ولكنا نعطفه على المعنى ألا ترى أن المصدقين والمصدقات معناه إن الذين صدقوا فصار تقدير الآية إن الذين صدقوا وأقرضوا الله
المسألة الثانية في الآية إشكال وهو أن عطف الفعل على الاسم قبيح فما الفائدة في التزامه ههنا قال صاحب الكشاف قوله وَأَقْرِضُواُ معطوف على معنى الفعل في المصدقين لأن اللام بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى صدقوا كأنه قيل إن الذين صدقوا وأقرضوا واعلم أن هذا لا يزيل الإشكال فإنه ليس فيه بيان أنه لم عدل عن ذلك اللفظ إلى هذا اللفظ والذي عندي فيه أن الألف واللام في المصدقين والمصدقات للمعهود فكأنه ذكر جماعة معينين بهذا الوصف ثم قبل ذكر الخبر أخبر عنهم بأنهم أتوا بأحسن أنواع الصدقة وهو الإتيان بالقرض الحسن ثم ذكر الخبر بعد ذلك وهو قوله يُضَاعَفُ لَهُمُ فقوله وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ هو المسمى بحشو اللوزنج كما في قوله إن الثمانين وبلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
المسألة الثالثة من قرأ الْمُصَدّقِينَ بالتشديد اختلفوا في أن المراد هو الواجب أو التطوع أو هما جميعاً أو المراد بالتصدق الواجب وبالإقراض التطوع لأن تسميته بالقرض كالدلالة على ذلك فكل هذه الاحتمالات مذكورة أما قوله يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ فقد تقدم القول فيه

وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
اعلم أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية حال المؤمنين والمنافقين وذكر الآن حال المؤمنين وحال الكافرين ثم في الآية مسألتان
المسألة الأولى الصديق نعت لمن كثر منه الصدق وجمع صدقاً إلى صدق في الإيمان بالله تعالى ورسله وفي هذه الآية قولان أحدهما أن الآية عامة في كل من آمن بالله ورسله وهو مذهب مجاهد قال كل من آمن بالله ورسله فهو صديق ثم قرأ هذه الآية ويدل على هذا ما روي عن ابن عباس في قوله هُمُ الصّدّيقُونَ أي الموحدون الثاني أن الآية خاصة وهو قول المقاتلين أن الصديقين هم الذين آمنوا بالرسل حين أتوهم ولم يكذبوا ساعة قط مثل آل ياسين ومثل مؤمن آل فرعون وأما في ديننا فهم ثمانية سبقوا أهل الأرض إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته
المسألة الثانية قوله وَالشُّهَدَاء فيه قولان الأول أنه عطف على الآية الأولى والتقدير إن الذين آمنوا بالله ورسله هم الصديقون وهم الشهداء قال مجاهد كل مؤمن فهو صديق وشهيد وتلا هذه الآية جذا القول اختلفوا في أنه لم سمي كل مؤمن شهيد فقال بعضهم لأن المؤمنين هم الشهداء عند ربهم على العباد في أعمالهم والمراد أنهم عدول الآخرة الذي تقبل شهادتهم وقال الحسن السبب في هذا الاسم أن كل مؤمن فإنه يشهد كرامة ربه وقال الأصم كل مؤمن شهيد لأنه قائم لله تعالى بالشهادة فيما تعبدهم به من وجوب الإيمان ووجوب الطاعات وحرمة الكفر والمعاصي وقال أبو مسلم قد ذكرنا أن الصديق نعت لمن كثر منه الصدق وجمع صدقاً إلى صدق في الإيمان بالله تعالى ورسله فصاروا بذلك شهداء على غيرهم القول الثاني أن قوله وَالشُّهَدَاء ليس عطفاً على ما تقدم بل هو مبتدأ وخبره قوله عِندَ رَبّهِمْ أو يكون ذلك صفة وخبره هو قوله لَهُمْ أَجْرُهُمْ وعلى هذا القول اختلفوا في المراد من الشهداء فقال الفراء والزجاج هم الأنبياء لقوله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) وقال مقاتل ومحمد بن جرير الشهداء هم الذين استشهدوا في سبيل الله وروى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما تعدون الشهداء فيكم قالوا المقتول فقال إن شهداء أمتي إذاً لقليل ثم ذكر أن المقتول شهيد والمبطون شهيد والمطعون شهيد ) الحديث
واعلم أنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين أتبعه بذكر حال الكافرين فقال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ

ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين ذكر بعده ما يدل على حقارة الدنيا وكمال حال الآخرة فقال
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَة ٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الاٌّ مْوَالِ وَالاٌّ وْلْادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى الاٌّ خِرَة ِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَة ٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المقصود الأصلي من الآية تحقير حال الدنيا وتعظيم حال الآخرة فقال الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر ولا شك أن هذه الأشياء أمور محقرة وأما الآخرة فهي عذاب شديد دائم أو رضوان الله على سبيل الدوام ولا شك أن ذلك عظيم
المسألة الثانية اعلم أن الحياة الدنيا حكمة وصواب ولذلك لما قال تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً قَالُواْ إِنّى عِلْمٍ مَالاً تَعْلَمُونَ ( البقرة 30 ) ولولا أنها حكمة وصواب لما قال ذلك ولأن الحياة خلقه كما قال الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) وأنه لا يفعل العبث على ما قال أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ( المؤمنين 115 ) وقال وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ولأن الحياة نعمة بل هي أصل لجميع النعم وحقائق الأشياء لا تختلف بأن كانت في الدنيا أو في الآخرة ولأنه تعالى عظم المنة بخلق الحياة فقال كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) فأول ما ذكر من أصناف نعمه هو الحياة فدل مجموع ما ذكرنا على أن الحياة الدنيا غير مذمومة بل المراد أن من صرف هذه الحياة الدنيا لا إلى طاعة الله بل إلى طاعة الله بل إلى طاعة الشيطان ومتابعة الهوى فذاك هو المذموم ثم إنه تعالى وصفها بأمور أولها أنها لَعِبٌ وهو فعل الصبيان الذين يتعبون أنفسهم جداً ثم إن تلك المتاعب تنقضي من غير فائدة وثانيها أنها لَهُوَ وهو فعل الشبان والغالب أن بعد انقضائه لا يبقى إلا الحسرة وذلك لأن العاقل بعد انقضائه يرى المال ذاهباً والعمر ذاهباً واللذة منقضية والنفس ازدادت شوقاً وتعطشاً إليه مع فقدانها فتكون المضار مجتمعة متوالية وثالثها أنها زِينَة ُ وهذا دأب النساء لأن المطلوب من الزينة تحسين القبيح وعمارة البناء المشرف على أن يصير خراباً والاجتهاد في تكميل الناقص ومن المعلوم أن العرضي لا يقاوم الذاتي فإذا كانت الدنيا منقضية لذاتها فاسدة لذاتها فكيف يتمكن العاقل من إزالة هذه المفاسد عنها قال ابن عباس المعنى أن الكافر يشتغل طول حياته بطلب زينة الدنيا دون العمل للآخرة وهذا كما قيل حياتك يا مغرور سهو وغفلة
ورابعها شَهَادَة ُ بَيْنِكُمْ بالصفات الفانية الزائلة وهو إما التفاخر بالنسب أو التفاخر بالقدرة والقوة والعساكر وكلها ذاهبة وخامسها قوله وَتَكَاثُرٌ فِى الاْمْوالِ وَالاْوْلْادِ قال ابن عباس يجمع المال في

سخط الله ويتباهى به على أولياء الله ويصرفه في مساخط الله فهو ظلمات بعضها فوق بعض وأنه لا وجه بتبعية أصحاب الدنيا يخرج عن هذه الأقسام وبين أن حال الدنيا إذا لم يخل من هذه الوجوه فيجب أن يعدل عنها إلى ما يؤدي إلى عمارة الآخرة ثم ذكر تعالى لهذه الحياة مثلاً فقال كَمَثَلِ غَيْثٍ يعني المطر ونظيره قوله تعالى وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا كَمَاء ( الكهف 45 ) والكاف في قوله كَمَثَلِ غَيْثٍ موضعة رفع من وجهين أحدهما أن يكون صفة لقوله لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَة ٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ والآخر أن يكون خبراً بعد خبر قاله الزجاج وقوله أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ فيه قولان الأول قال ابن مسعود المراد من الكفار الزراع قال الأزهري والعرب تقول للزارع كافر لأنه يكفر البذر الذي يبذره بتراب الأرض وإذا أعجب الزراع نباته مع علمهم به فهو في غاية الحسن الثاني أن المراد بالكفار في هذه الآية الكفار بالله وهم أشد إعجاباً بزينة الدنيا وحرثها من المؤمنين لأنهم لا يرون سعادة سوى سعادة الدنيا وقوله نَبَاتُهُ أي ما نبت من ذلك الغيث وباقي الآية مفسر في سورة الزمر
ثم إنه تعالى ذكر بعده حال الآخرة فقال وَفِى الاْخِرَة ِ عَذَابٌ شَدِيدٌ أي لمن كانت حياته بهذه الصفة ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته وذلك لأنه لما وصف الدنيا بالحقارة وسرعة الانقضاء بين أن الآخرة إما عذاب شديد دائم وإما رضوان وهو أعظم درجات الثواب ثم قال وَما الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ يعني لمن أقبل عليها وأعرض بها عن طلب الآخرة قال سعيد بن جبير الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم الوسيلة
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَة ٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ والأرض أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
ثم قال تعالى سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالاْرْضِ والمراد كأنه تعالى قال لتكن مفاخرتكم ومكاثرتكم في غير ما أنتم عليه بل احرصوا على أن تكون مسابقتكم في طلب الآخرة
واعلم أنه تعالى أمر بالمسارعة في قوله وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ ثم شرح ههنا كيفية تلك المسارعة فقال سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار وقوله وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ فيه مسألتان
المسألة الأولى لا شك أن المراد منه المسارعة إلى ما يوجب المغفرة فقال قوم المراد سابقوا إلى التوبة وقال آخرون المراد سابقوا إلى سائر ما كلفتم به فدخل فيه التوبة وهذا أصح لأن المغفرة والجنة لا ينالان إلا بالانتهاء عن جميع المعاصي والاشتغال بكل الطاعات
المسألة الثانية احتج القائلون بأن الأمر يفيد الفور بهذه الآية فقالوا هذه الآية دلت على وجوب المسارعة فوجب أن يكون التراخي محظوراً أما قوله تعالى وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالاْرْضِ وقال في آل عمران وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 133 ) فذكروا فيه وجوهاً أحدها أن السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكانت الجنة في عرضها هذا قول مقاتل وثانيها قال عطاء ( عن ) ابن عباس يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه الصفة وثالثها قال السدي إن الله

تعالى شبه عرض الجنة بعرض السموات السبع والأرضين السبع ولا شك أن طولها أزيد من عرضها فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك ورابعها أن هذا تمثيل للعبادة بما يعقلونه ويقع في نفوسهم وأفكارهم وأكثر ما يقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض وهذا قول الزجاج وخامسها وهو اختيار ابن عباس أن الجنان أربعة قال تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) وقال وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( الرحمن 62 ) فالمراد ههنا تشبيه واحدة من تلك الجنان في العرض بالسموات السبع والأرضين السبع
ثم قال تعالى سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج جمهور الأصحاب بهذا على أن الجنة مخلوقة وقالت المعتزلة هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجهين الأول أن قوله تعالى أُكُلُهَا دَائِمٌ ( الرعد 35 ) يدل على أن من صفتها بعد وجودها أن لا تفنى لكنها لو كانت الآن موجودة لفنيت بدليل قوله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) الثاني أن الجنة مخلوقة وهي الآن في السماء السابعة ولا يجوز مع أنها في واحدة منها أن يكون عرضها كعرض كل السموات قالوا فثبت بهذين الوجهين أنه لا بد من التأويل وذلك من وجهين الأول أنه تعالى لما كان قادراً لا يصح المنع عليه وكان حكيماً لا يصح الخلف في وعده ثم إنه تعالى وعد على الطاعة بالجنة فكانت الجنة كالمعدة المهيأة لهم تشبيهاً لما سيقع قطعاً بالواقع وقد يقول المرء لصاحبه ( أعدت لك المكافأة ) إذا عزم عليها وإن لم يوجدها والثاني أن المراد إذا كانت الآخرة أعدها الله تعالى لهم كقوله تعالى وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 50 ) أي إذا كان يوم القيامة نادى الجواب أن قوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ عام وقوله أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ مع قوله أُكُلُهَا دَائِمٌ خاص والخاص مقدم على العام وأما قوله ثانياً الجنة مخلوقة في السماء السابعة قلنا إنها مخلوقة فوق السماء السابعة على ما قال عليه السلام في صفة الجنة ( سقفها عرش الرحمن ) وأي استبعاد في أن يكون المخلوق فوق الشيء أعظم منه أليس أن العرش أعظم المخلوقات مع أنه مخلوق فوق السماء السابعة
المسألة الثانية قوله سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ فيه أعظم رجاء وأقوى أمل إذ ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئاً آخر والمعتزلة وإن زعموا أن لفظ الإيمان يفيد جملة الطاعات بحكم تصرف الشرع لكنهم اعترفوا بأن لفظ الإيمان إذا عدي بحرف الباء فإنه باق على مفهومه الأصلي وهو التصديق فالآية حجة عليهم ومما يتأكد به ما ذكرناه قوله بعد هذه الآية ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء يعني أن الجنة فضل لا معاملة فهو يؤتيها من يشاء من عباده سواء أطاع أو عصى فإن قيل فيلزمكم أن تقطعوا بحصول الجنة لجميع العصاة وأن تقطعوا بأنه لا عقاب لهم قلنا نقطع بحصول الجنة لهم ولا نقطع بنفي العقاب عنهم لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة وبقوا فيها أبد الآباد فقد كانت الجنة معدة لهم فإن قيل فالمرتد قد آمن بالله فوجب أن يدخل تحت الآية قلت خص من العموم فيبقى العموم حجة فيما عداه

ثم قال تعالى ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء زعم جمهور أصحابنا أن نعيم الجنة تفضل محض لا أنه مستحق بالعمل وهذا أيضاً قول الكعبي من المعتزلة واحتجوا على صحة هذا المذهب بهذه الآية أجاب القاضي عنه فقال هذا إنما يلزم لو امتنع بين كون الجنة مستحقة وبين كونها فضلاً من الله تعالى فأما إذا صح اجتماع الصفتين فلا يصح هذا الاستدلال وإنما قلنا إنه لا منافاة بين هذين الوصفين لأنه تعالى هو المتفضل بالأمور التي يتمكن المكلف معها من كسب هذا الاستحقاق فلما كان تعالى متفضلاً بما يكسب أسباب هذا الاستحقاق كان متفضلاً بها قال ولما ثبت أن قوله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء لا بد وأن يكون مشروطاً بما يستحقه ولولا ذلك لم يكن لقوله من قبل سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ معنى
واعلم أن هذا ضعيف لأن كونه تعالى متفضلاً بأسباب ذلك الكسب لا يوجب كونه تعالى متفضلاً بنفس الجنة فإن من وهب من إنسان كاغداً ودواة وقلماً ثم إن ذلك الإنسان كتب بذلك المداد على ذلك الكاغد مصحفاً وباعه من الواهب لا يقال إن أداء ذلك الثمن تفضيل بل يقال إنه مستحق فكذا ههنا وأما قوله أولاً إنه لا بد من الاستحقاق وإلا لم يكن لقوله من قبل سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ معنى فجوابه أن هذا الاستدلال عجيب لأن للمتفضل أن يشرط في تفضله أي شرط شاء ويقول لا أتفضل إلا مع هذا الشرط
ثم قال تعالى وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ والمراد منه التنبيه على عظم حال الجنة وذلك لأن ذا الفضل العظيم إذا أعطى عطاء مدح به نفسه وأثنى بسببه على نفسه فإنه لا بد وأن يكون ذلك العطاء عظيماً
مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَة ٍ فِى الأرض وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
قال الزجاج إنه تعالى لما قال سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ ( الحديد 21 ) بين أن المؤدي إلى الجنة والنار لا يكون إلا بقضاء وقدر فقال مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَة ٍ والمعنى لا توجد مصيبة من هذه المصائب إلا وهي مكتوبة عند الله والمصيبة في الأرض هي قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمار وغلاء الأسعار وتتابع الجوع والمصيبة في الأنفس فيها قولان الأول أنها هي الأمراض والفقر وذهاب الأولاد وإقامة الحدود عليها والثاني أنها تتناول الخير والشر أجمع لقوله بعد ذلك لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَاكُمْ ( الحديد 23 ) ثم قال إِلاَّ فِى كِتَابٍ يعني مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه الآية دالة على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود مكتوبة في اللوح المحفوظ قال المتكلمون وإنما كتب كل ذلك لوجوه أحدها تستدل الملائكة بذلك المكتوب على كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع الأشياء قبل وقوعها وثانيها ليعرفوا حكمة الله فإنه تعالى مع علمه بأنهم يقدمون على تلك المعاصي خلقهم ورزقهم وثالثها ليحذروا من أمثال تلك المعاصي ورابعها ليشكروا الله تعالى على توفيقه إياهم على الطاعات وعصمته إياهم من المعاصي وقالت الحكماء إن الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم هم المدبرات أمراً وهم المقسمات أمراً إنما هي المبادىء لحدوث الحوادث في

هذا العالم السفلي بواسطة الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية فتصوراتها لانسياق تلك الأسباب إلى المسببات هو المراد من قوله تعالى إِلاَّ فِى كِتَابٍ
المسألة الثانية استدل جمهور أهل التوحيد بهذه الآية على أنه تعالى عالم بالأشياء قبل وقوعها خلافاً لهشام بن الحكم ووجه الاستدلال أنه تعالى لما كتبها في الكتاب قبل وقوعها وجاءت مطابقة لذلك الكتاب علمنا أنه تعالى عالماً بها بأسرها
المسألة الثالثة قوله وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ يتناول جميع مصائب الأنفس فيدخل فيها كفرهم ومعاصيهم فالآية دالة على أن جميع أعمالهم بتفاصيلها مكتوبة في اللوح المحفوظ ومثبتة في علم الله تعالى فكان الامتناع من تلك الأعمال محالاً لأن علم الله بوجودها مناف لعدمها والجمع بين المتنافيين محال فلما حصل العلم بوجودها وهذا العلم ممتنع الزوال كان الجمع بين عدمها وبين علم الله بوجودها محالاً
المسألة الرابعة أنه تعالى لم يقل إن جميع الحوادث مكتوبة في الكتاب لأن حركات أهل الجنة والنار غير متناهية فإثباتها في الكتاب محال وأيضاً خصص ذلك بالأرض والأنفس وما أدخل فيها أحوال السموات وأيضاً خصص ذلك بمصائب الأرض والأنفس لا بسعادات الأرض والأنفس وفي كل هذه الرموز إشارات وأسرار أما قوله مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا فقد اختلفوا فيه فقال بعضهم من قبل أن نخلق هذه المصائب وقال بعضهم بل المراد الأنفس وقال آخرون بل المراد نفس الأرض والكل محتمل لأن ذكر الكل قد تقدم وإن كان الأقرب نفس المصيبة لأنها هي المقصود وقال آخرون المراد من قبل أن نبرأ المخلوقات والمخلوقات وإن لم يتقدم ذكرها إلا أنها لظهورها يجوز عود الضمير إليها كما في قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ( يوسف 2 )
ثم قال تعالى إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وفيه قولان أحدهما إن حفظ ذلك على الله هين والثاني إن إثبات ذلك على كثرته في الكتاب يسير على الله وإن كان عسيراً على العباد ونظير هذه الآية قوله وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( فاطر 11 )
ثم قال تعالى
لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءَاتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه اللام تفيد جعل أول الكلام سبباً لآخره كما تقول قمت لأضربك فإنه يفيد أن القيام سبب للضرب وههنا كذلك لأنه تعالى بين أن إخبار الله عن كون هذه الأشياء واقعة بالقضاء والقدر ومثبتة في الكتاب الذي لا يتغير يوجب أن لا يشتد فرح الإنسان بما وقع وأن لا يشتد حزنه بما لم يقع وهذا هو المراد بقوله عليه السلام ( من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ) وتحقيق الكلام فيه أن على مذهب أهل السنة أن وقوع كل ما وقع واجب وعدم كل ما لم يقع واجب أيضاً لأسباب أربعة أحدها أن الله تعالى علم وقوعه فلو لم يقع انقلب العلم جهلاً ثانيها أن الله أراد وقوعه فلو لم يقع انقلبت

الإرادة تمنياً ثالثها أنه تعلقت قدرة الله تعالى بإيقاعه فلو لم يقع لانقلبت تلك القدرة عجزاً رابعها أن الله تعالى حكم بوقوعه بكلامه الذي هو صدق فلو لم يقع لانقلب ذلك الخبر الصدق كذباً فإذن هذا الذي وقع لو لم يقع لتغيرت هذه الصفات الأربعة من كمالها إلى النقص ومن قدمها إلى الحدوث ولما كان ذلك ممتنعاً علمنا أنه لا دافع لذلك الوقوع وحينئذ يزول الغم والحزن عند ظهور هذه الخواطر وهانت عليه المحن والمصائب وأما المعتزلة فهب أنهم ينازعون في القدرة والإرادة ولكنهم يوافقون في العلم والخير وإذا كان الجبر لازماً في هاتين الصفتين فأي فرق بين أن يلزم الجبر بسبب هاتين الصفتين وبين أن يلزم بسبب الصفات الأربع وأما الفلاسفة فالجبر مذهبهم وذلك لأنهم ربطوا حدوث الأفعال الإنسانية بالتصورات الذهنية والتخيلات الحيوانية ثم ربطوا تلك التصورات والتخيلات بالأدوار الفلكية التي لها مناهج مقدرة ويمتنع وقوع ما يخالفها وأما الدهرية الذين لا يثبتون شيئاً من المؤثرات فهم لا بد وأن يقولوا بأن حدوث الحوادث اتفاقي وإذا كان اتفاقياً لم يكن اختيارياً فيكون الجبر لازماً فظهر أنه لا مندوحة عن هذا لأحد من فرق العقلاء سواء أقروا به أو أنكروه فهذا بيان وجه استدلال أهل السنة بهذه الآية قالت المعتزلة الآية دالة على صحة مذهبنا في كون العيد متمكناً مختاراً وذلك من وجوه الأول أن قوله لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ يدل على أنه تعالى إنما أخبرهم بكون تلك المصائب مثبتة في الكتاب لأجل أن يحترزوا عن الحزن والفرح ولولا أنهم قادرون على تلك الأفعال لما بقي لهذه اللام فائدة والثاني أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لا يريد أن يقع منهم الحزن والفرح وذلك خلاف قول المجبرة إن الله تعالى أراد كل ذلك منهم والثالث أنه تعالى قال بعد هذه الآية وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وهذا يدل على أنه تعالى لا يريد ذلك لأن المحبة والإرادة سواء فهو خلاف قول المجبرة إن كل واقع فهو مراد الله تعالى الرابع أنه تعالى أدخل لام التعليل على فعله بقوله لّكَيْلاَ وهذا يدل على أن أفعال الله تعالى معللة بالغرض وأقول العاقل يتعجب جداً من كيفية تعلق هذه الآيات بالجبر والقدر وتعلق كلتا الطائفتين بأكثرها
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي قرأ أبو عمرو وحده بِمَا ءاتَاكُمْ قصراً وقرأ الباقون ءاتَاكُمُ ممدوداً حجة أبي عمرو أن ءاتَاكُمُ معادل لقوله فَاتَكُمْ فكما أن الفعل للغائب في قوله فَاتَكُمْ كذلك يكون الفعل للآني في قوله بِمَا ءاتَاكُمْ والعائد إلى الموصول في الكلمتين الذكر المرفوع بأنه فاعل وحجة الباقين أنه إذا مد كان ذلك منسوباً إلى الله تعالى وهو المعطي لذلك ويكون فاعل الفعل في ءاتَاكُمُ ضميراً عائداً إلى اسم الله سبحانه وتعالى والهاء محذوفة من الصلة تقديره بما آتاكموه
المسألة الثالثة قال المبرد ليس المراد من قوله يَسِيرٌ لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا نفي الأسى والفرح على الإطلاق بل معناه لا تحزنوا حزناً يخرجكم إلى أن تهلكوا أنفسكم ولا تعتدوا بثواب على فوات ما سلب منكم ولا تفرحوا فرحاً شديد يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا ودليل ذلك قوله تعالى وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فدل بهذا على أنه ذم الفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر وأما الفرح بنعمة الله والشكر عليها فغير مذموم وهذا كله معنى ما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا للمصيبة صبراً وللخير شكراً واحتج القاضي بهذه الآية على أنه تعالى لا يريد أفعال العباد والجواب عنه أن كثيراً من أصحابنا من فرق بين المحبة والإرادة فقال المحبة إرادة مخصوصة وهي إرادة الثواب فلا يلزم من نفي هذه الإرادة نفي مطلق الإرادة

ثم قال تعالى
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية قولان الأول أن هذا بدل من قوله كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ كأنه قال لا يحب المختال ولا يحب الذين يبخلون يريد الذين يفرحون الفرح المطغى فإذا رزقوا مالاً وحظاً من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم يبخلون به ولا يكفيهم أنهم بخلوا به بل يأمرون الناس بالبخل به وكل ذلك نتيجة فرحهم عند إصابته ثم قال بعد ذلك وَمَن يَتَوَلَّ عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي فإن الله غني عنه القول الثاني أن قوله الَّذِينَ يَبْخَلُونَ كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله وهو في صفة اليهود الذين كتموا صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويخلوا ببيان نعته وهو مبتدأ وخبره محذوف دل عليه قوله وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ وحذف الخبر كثير في القرآن كقوله وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي قرأ نافع وابن عامر فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ وحذفوا لفظ هُوَ وكذلك هُوَ في مصاحف أهل المدينة والشأم وقرأ الباقون هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ قال أبو علي ينبغي أن هو في هذه الآية فصلاً لا مبتدأ لأن الفصل حذفه أسهل ألا ترى أنه لا موضع للفصل من الإعراب وقد يحذف فلا يخل بالمعنى كقوله إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا ( الكهف 39 )
المسألة الثالثة قوله فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ معناه أن الله غني فلا يعود ضرر عليه ببخل ذلك البخيل وقوله الْحَمِيدِ كأنه جواب عن السؤال يذكر ههنا فإنه يقال لما كان تعالى عالماً بأنه يبخل بذلك المال ولا يصرفه إلى وجوه الطاعات فلم أعطاه ذلك المال فأجاب بأنه تعالى حميد في ذلك الإعطاء ومستحق حيث فتح عليه أبواب رحمته ونعمته فإن قصر العبد في الطاعة فإن وباله عائد إليه
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِى ٌّ عَزِيزٌ
ثم قال تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وفي تفسير البينات قولان الأول وهو قول مقاتل بن سليمان إنها هي المعجزات الظاهرة والدلائل القاهرة والثاني وهو قول مقاتل بن حيان أي أرسلناهم بالأعمال التي تدعوهم إلى طاعة الله وإلى الإعراض عن غير الله والأول هو الوجه الصحيح لأن نبوتهم إنما ثبتت بتلك المعجزات
ثم قال تعالى وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
واعلم أن نظير هذه الآية قوله اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَالْمِيزَانَ ( الشورى 17 ) وقال وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ

( الرحمن 7 ) وههنا مسائل
المسألة الأولى في وجه المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد وجوه أحدها وهو الذي أقوله أن مدار التكليف على أمرين أحدهما فعل ما ينبغي فعله والثاني ترك ما ينبغي تركه والأول هو المقصود بالذات لأن المقصود بالذات لو كان هو الترك لوجب أن لا يخلق أحد لأن الترك كان حاصلاً في الأزل وأما فعل ما ينبغي فعله فإما أن يكون متعلقاً بالنفس وهو المعارف أو بالبدن وهو أعمال الجوارح فالكتاب هو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال النفسانية لأن يتميز الحق من الباطل والحجة من الشبهة والميزان هو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال البدنية فإن معظم التكاليف الشاقة في الأعمال هو ما يرجع إلى معاملة الخلق والميزان هو الذي يتميز به العدل عن الظلم والزائد عن الناقص وأما الجديد ففيه بأس شديد وهو زاجر للخلق عما لا ينبغي والحاصل أن الكتاب إشارة إلى القوة النظرية والميزان إلى القوة العملية والحديد إلى دفع مالا ينبغي ولما كان أشرف الأقسام رعاية المصالح الروحانية ثم رعاية المصالح الجسمانية ثم الزجر عما لا ينبغي روعي هذا الترتيب في هذه الآية وثانيها المعاملة إما مع الخالق وطريقها الكتاب أو مع الخلق وهم إما الأحباب والمعاملة معهم بالسوية وهي بالميزان أو مع الأعداء والمعاملة معهم بالسيف والحديد وثالثها الأقوام ثلاثة أما السابقون وهم يعاملون الخلق بمقتضى الكتاب فينصفون ولا ينتصفون ويحترزون عن مواقع الشبهات وإما مقتصدون وهم الذين ينصفون وينتصفون فلا بد لهم من الميزان وإما ظالمون وهم الذين ينتصفون ولا ينصفون ولا بد لهم من الحديد والزجر ورابعها الإنسان إما أن يكون في مقام الحقيقة وهو مقام النفس المطمئنة ومقام المقربين فههنا لا يسكن إلا إلى الله ولا يعمل إلا بكتاب الله كما قال أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) وإما أن يكون في مقام الطريقة وهو مقام النفس اللوامة ومقام أصحاب اليمين فلا بد له من الميزان في معرفة الأخلاق حتى يحترز عن طرفي الإفراط والتفريط ويبقى على الصراط المستقيم وإما أن يكون في مقام الشريعة وهو مقام النفس الأمارة وههنا لا بد له من حديد المجاهدة والرياضات الشاقة وخامسها الإنسان إما أن يكون صاحب المكاشفة والوصول فلا أنس له إلا بالكتاب أو صاحب الطلب والاستدلال فلا بد له من ميزان الدليل والحجة أو صاحب العناد واللجاج فلا بد وأن ينفى من الأرض بالحديد وسادسها أن الدين هو إماالأصول وإما الفروع وبعبارة أخرى إما المعارف وإما الأعمال فالأصول من الكتاب وأما الفروع فالمقصود الأفعال التي فيها عدلهم ومصلحتهم وذلك بالميزان فإنه إشارة إلى رعاية العدل والحديد لتأديب من ترك ذينك الطريقين وسابعها الكتاب إشارة إلى ما ذكر الله في كتابه من الأحكام المقتضية للعدل والإنصاف والميزان إشارة إلى حمل الناس على تلك الأحكام المبنية على العدل والإنصاف وهو شأن الملوك والحديد إشارة إلى أنهم لو تمردوا لوجب أن يحملوا عليهما بالسيف وهذا يدل على أن مرتبة العلماء وهم أرباب الكتاب مقدمة على مرتبة الملوك الذين هم أرباب السيف ووجوه المناسبات كثيرة وفيما ذكرناه تنبيه على الباقي
المسألة الثانية ذكروا في إنزال الميزان وإنزال الحديد قولين الأول أن الله تعالى أنزلهما من السماء روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال مر قومك يزنوا به وعن ابن عباس نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من الحديد السندان والكلبتان والمقمعة والمطرقة والإبرة والمقعمة ما

يحدد به ويدل على صحة هذا ما روى ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض أنزل الحديد والنار والماء والملح ) والقول الثاني أن معنى هذا الإنزال الإنشاء والتهيئة كقوله تعالى وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ ( لزمر 6 ) قال قطرب أَنزَلْنَاهَا ( النور 1 ) أي هيأناها من النزل يقال أنزل الأمير على فلان نزلاً حسناً ومنهم من قال هذا من جنس قوله علفتها تبناً وماء بارداً وأكلت خبزاً ولبناً
المسألة الثالثة ذكر في منافع الميزان أن يقوم الناس بالقسط والقسط والإقساط هو الإنصاف وهو أن تعطى قسط غيرك كما تأخذ قسط نفسك والعادل مقسط قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( الحجرات 9 ) والقاسط الجائر قال تعالى وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ( الجن 15 ) وأما الحديد ففيه البأس الشديد فإن آلات الحروب متخذة منه وفيه أيضاً منافع كثيرة منها قوله تعالى وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة َ لَبُوسٍ لَّكُمْ ( الأنبياء 8 ) ومنها أن مصالح العالم إما أصول وإما فروع أما الأصول فأربعة الزراعة والحياكة وبناء البيوت والسلطنة وذلك لأن الإنسان مضطر إلى طعام يأكله وثوب يلبسه وبناء يجلس فيه والإنسان مدني بالطبع فلا تتم مصلحته إلا عند اجتماع جمع من أبناء جنسه يشتغل كل واحد منهم بمهم خاص فحينئذ ينتظم من الكل مصالح الكل وذلك الانتظام لا بد وأن يفضي إلى المزاحمة ولا بد من شخص يدفع ضرر البعض عن البعض وذلك هو السلطان فثبت أنه لا تنتظم مصلحة العالم إلا بهذه الحروف الأربعة أما الزراعة فمحتاجة إلى الحديد وذلك في كرب الأراضي وحفرها ثم عند تكون هذه الحبوب وتولدها لا بد من خبزها وتنقيتها وذلك لا يتم إلا بالحديد ثم الحبوب لا بد من طحنها وذلك لا يتم إلا بالحديد ثم لا بد من خبزها ولا يتم إلا بالنار ولا بد من المقدحة الحديدية وأما الفواكه فلا بد من تنظيفها عن قشورها وقطعها على الوجوه الموافقة للأكل ولا يتم ذلك إلا بالحديد وأما الحياكة فمعلوم أنه يحتاج في آلات الحياكة إلى الحديد ثم يحتاج في قطع الثياب وخياطتها إلى الحديد وأما البناء فمعلوم أن كمال الحال فيه لا يحصل إلا بالحديد وأما أسباب السلطنة فمعلوم أنها لا تتم ولا تكمل إلا بالحديد وعند هذا يظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد ويظهر أيضاً أن الذهب لا يقوم مقام الحديد في شيء من هذه المصالح فلو لم يوجد الذهب في الدنيا ما كان يختل شيء من مصالح الدنيا ولو لم يوجد الحديد لاختل جميع مصالح الدنيا ثم إن الحديد لما كانت الحاجة إليه شديدة جعله سهل الوجدان كثير الوجود والذهب لما قلت الحاجة إليه جعله عزيز الوجود وعند هذا يظهر أثر وجود الله تعالى ورحمته على عبيده فإن كل ما كانت حاجتهم إليه أكثر جعل وجدانه أسهل ولهذا قال بعض الحكماء إن أعظم الأمور حاجة إليه هو الهواء فإنه لو انقطع وصوله إلى القلب لحظة لمات الإنسان في الحال فلا جرم جعله الله أسهل الأشياء وجداناً وهيأ أسباب التنفس وآلاته حتى إن الإنسان يتنفس دائماً بمقتضى طبعه من غير حاجة فيه إلى تكلف عمل وبعد الهواء الماء إلا أنه لما كانت الحاجة إلى الماء أقل من الحاجة إلى الهواء جعل تحصيل الماء أشق قليلاً من تحصيل الهواء وبعد الماء الطعام ولما كانت الحاجة إلى الطعام أقل من الحاجة إلى الماء جعل تحصيل الطعام أشق من تحصيل الماء ثم تتفاوت الأطعمة في درجات الحاجة والعزة فكل ما كانت الحاجة إليه أشد كان وجدانه أسهل وكل ما كان وجدانه أعسر كانت الحاجة إليه أقل والجواهر لما كانت الحاجة إليها قليلة جداً لا جرم كانت عزيزة جداً فعلمنا أن كل شيء كانت الحاجة إليه أكثر كان وجدانه أسهل ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله تعالى أشد من الحاجة إلى كل شيء فنرجو من

فضله أن يجعلها أسهل الأشياء وجداناً قال الشاعر سبحان من خص العزيز بعزه
والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي
نفس فمحتاج إلى أنفاسه
ثم قال تعالى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِى ٌّ عَزِيزٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى المعنى وليعلم الله من ينصره أي ينصر دينه وينصر رسله باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين بالغيب أي غائباً عنهم قال ابن عباس ينصرونه ولا يبصرونه ويقرب منه قوله تعالى إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ( محمد 7 )
المسألة الثانية احتج من قال بحدوث علم الله بقوله وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ والجواب عنه أنه تعالى أراد بالعلم المعلوم فكأنه تعالى قال ولتقع نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام ممن ينصره
المسألة الثالثة قال الجبائي قوله تعالى لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ فيه دلالة على أنه تعالى أنزل الميزان والحديد ومراده من العباد أن يقوموا بالقسط وأن ينصروا الرسول وإذا كان هذا مراده من الكل فقد بطل قول المجبرة أنه أراد من بعضهم خلاف ذلك جوابه أنه كيف يمكن أن يريد من الكل ذلك مع علمه بأن ضده موجود وأن الجمع بين الضدين محال وأن المحال غير مراد
المسألة الرابعة لما كانت النصرة قد تكون ظاهرة كما يقع من منافق أو ممن مراده المنافع في الدنيا بين تعالى أن الذي أراده النصرة بالغيب ومعناه أن تقع عن إخلاص بالقلب ثم بين تعالى أنه قوي على الأمور عزيز لا يمانع
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّة َ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
قوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النُّبُوَّة َ وَالْكِتَابَ واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أرسل الرسل بالبينات والمعجزات وأنه أنزل الميزان والحديد وأمر الخلق بأن يقوموا بنصرتهم أتبع ذلك ببيان سائر الأشياء التي أنعم بها عليهم فبين أنه تعالى شرف نوحاً وإبراهيم عليهما السلام بالرسالة ثم جعل في ذريتهما النبوة والكتاب فما جاء بعدهما أحد بالنبوة إلا وكان من أولادهما وإنما قدم النبوة على الكتاب لأن كمال حال النبي أن يصير صاحب الكتاب والشرع
ثم قال تعالى فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ وفيه مسائل

المسألة الأولى فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ أي فمن الذرية أو من المرسل إليهم وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين والمعنى أن منهم مهتد ومنهم فاسق والغلبة للفساق وفي الفاسق ههنا قولان الأول أنه الذي ارتكب الكبيرة سواء كان كافراً أو لم يكن لأن هذا الاسم يطلق على الكافر وعلى من لا يكون كذلك إذا كان مرتكباً للكبيرة والثاني أن المراد بالفاسق ههنا الكافر لأن الآية دلت على أنه تعالى جعل الفساق بالضد من المهتدين فكأن المراد أن فيهم من قبل الدين واهتدى ومنهم من لم يقبل ولم يهتد ومعلوم أن من كان كذلك كان كافراً وهذا ضعيف لأن المسلم الذي عصى قد يقال فيه إنه لم يهتد إلى وجه رشده ودينه
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَءَاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَة ً وَرَحْمَة ً وَرَهْبَانِيَّة ً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَأاتَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
قوله تعالى ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَءاتَيْنَاهُ الإنجِيلَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى معنى قفاه أتبعه بعد أن مضى والمراد أنه تعالى أرسل بعضهم بعد بعض إلى أن انتهى إلى أيام عيسى عليه السلام فأرسله الله تعالى بعدهم وآتاه الإنجيل
المسألة الثانية قال ابن جني قرأ الحسن وَقَفَّيْنَا عَلَى بفتح الهمزة ثم قال هذا مثال لا نظير له لأن أفعيل وهو عندهم من نجلت الشيء إذا استخرجته لأنه يستخرج به الأحكام والتوراة فوعلة من ورى الزند يرى إذا أخرج النار ومثله الفرقان وهو فعلان من فرقت بين الشيئين فعلى هذا لا يجوز فتح الهمزة لأنه لا نظير له وغالب الظن أنه ما قرأه إلا عن سماع وله وجهان أحدهما أنه شاذ كما حكى بعضهم في البرطيل وثانيهما أنه ظن الإنجيل أعجمياً فحرف مثاله تنبيهاً على كونه أعجمياً
قوله تعالى وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَة ً وَرَحْمَة ً وَرَهْبَانِيَّة ً ابتَدَعُوهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق لله تعالى وكسب للعبد قالوا لأنه تعالى حكم بأن هذه الأشياء مجعولة لله تعالى وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية قال القاضي المراد بذلك أنه تعالى لطف بهم حتى قويت دواعيهم إلى الرهبانية التي هي تحمل الكلفة الزائدة على ما يجب من الخلوة واللباس الخشن والجواب أن هذا ترك للظاهر من غير دليل على أنا وإن سلمنا ذلك فهو يحصل مقصودنا أيضاً وذلك لأن حال الاستواء يمتنع حصول الرجحان وإلا فقد حصل الرجحان عند الاستواء والجمع بينهما متناقض وإذا كان الحصول عند الاستواء ممتنعاً كان عند المرجوحية أولى أن يصير ممتنعاً وإذا امتنع المرجوح وجب الراجح ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض
المسألة الثانية قال مقاتل المراد من الرأفة والرحمة هو أنهم كانوا متوادين بعضهم مع بعض كما وصف الله أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام بذلك في قوله رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( الفتح 29 )
المسألة الثالثة قال صاحب الكشاف قرىء ( رآفة ) على فعالة
المسألة الرابعة الرهبانية معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب كخشيان من خشي وقرىء ( ورهبانية ) بالضم كأنها نسبة إلى الرهبان وهو جمع راهب كراكب وركبان

والمراد من الرهبانية ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين مخلصين أنفسهم للعبادة ومتحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلوة واللباس الخشن والاعتزال عن النساء والتعبد في الغيران والكهوف عن ابن عباس أن في أيام الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام غير الملوك التوراة والإنجيل فساح قوم في الأرض ولبسوا الصوف وروى ابن مسعود أنه عليه السلام قال ( يا ابن مسعود أما علمت أن بني إسرائيل تفرقوا سبعين فرقة كلها في النار إلا ثلاث فرق فرقة آمنت بعيسى عليه السلام وقاتلوا أعداء الله في نصرته حتى قتلوا وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين فلبس العباء وخرجوا إلى القفار والفيافي وهو قوله وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَة ً إلى آخر الآية )
المسألة الخامسة لم يعن الله تعالى بابتدعوها طريقة الذم بل المراد أنهم أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها ولذلك قال تعالى بعده مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ
المسألة السادسة رهبانية منصوبة بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره ابتدعوا رهبانية ابتدعوها وقال أبو علي الفارسي الرهبانية لا يستقيم حملها على وَمَا جَعَلْنَا لأن ما يبتدعونه هم لا يجوز أن يكون مجعولاً لله تعالى وأقول هذا الكلام إنما يتم لو ثبت امتناع مقدور بين قادرين ومن أين يليق بأبي على أن يخوض في أمثال هذه الأشياء
ثم قال تعالى مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ أي لم نفرضها نحن عليهم
أما قوله إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوانِ اللَّهِ ففيه قولان أحدهما أنه استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله الثاني أنه استثناء متصل والمعنى أنا ما تعبدناهم بها إلا على وجه ابتغاء مرضاة الله تعالى والمراد أنها ليست واجبة فإن المقصود من فعل الواجب دفع العقاب وتحصيل رضا الله أما المندوب فليس المقصود من فعله دفع العقاب بل المقصود منه ليس إلا تحصيل مرضاة الله تعالى
أما قوله تعالى فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَئَاتَيْنَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ ففيه أقوال أحدها أن هؤلاء الذين ابتدعوا هذه الرهبانية ما رعوها حق رعايتها بل ضموا إليها التثليث والاتحاد وأقام أناس منهم على دين عيسى حتى أدركوا محمداً عليه الصلاة والسلام فآمنوا به فهو قوله ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ وثانيها أنا ما كتبنا عليهم تلك الرهبانية إلا ليتوسلوا بها إلى مرضاة الله تعالى ثم إنهم أتوا بتلك الأفعال لكن لا لهذا الوجه بل لوجه آخر وهو طلب الدنيا والرياء والسمعة وثالثها أنا لما كتباها عليهم تركوها فيكون ذلك ذماً لهم من حيث إنهم تركوا الواجب

ورابعها أن الذين لم يرعوها حق رعايتها هم الذين أدركوا محمداً عليه الصلاة والسلام ولم يؤمنوا به وقوله ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِرُسُلِنَا أي الذين آمنوا بمحمد وكثير منهم فاسقون يعني الذين لم يؤمنوا به ويدل على هذا ما روي أنه عليه السلام قال ( من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون ) وخامسها أن الصالحين من قوم عيسى عليه السلام ابتدعوا الرهبانية وانقرضوا عليها ثم جاء بعدهم قوم اقتدوا بهم في اللسان وما كانوا مقتدين بهم في العمل فهم الذين ما رعوها حق رعايتها قال عطاء لم يرعوها كما رعاها الحواريون ثم قال وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ والمعنى أن بعضهم قام برعايتها وكثير منهم أظهر الفسق وترك تلك الطريقة ظاهراً وباطناً
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه لما قال في الآية الأولى ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم أي من قوم عيسى أَجْرَهُمْ ( الحديد 27 ) قال في هذه الآية ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ والمراد به أولئك فأمرهم أن يتقوا الله ويؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام ثم قال يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ أي نصيبين من رحمته لإيمانكم أولاً بعيسى وثانياً بمحمد عليه الصلاة والسلام ونظيره قوله تعالى أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ ( القصص 54 ) عن ابن عباس أنه نزل في قوم جاءوا من اليمن من أهل الكتاب إلى الرسول وأسلموا فجعل الله لهم أجرين وههنا سؤالان
السؤال الأول ما الكفل في اللغة الجواب قال المؤرج الكفل النصيب بلغة هذيل وقال غيره بل هذه لغة الحبشة وقال المفضل بن مسلمة الكفل كساء يديره الراكب حول السنام حتى يتمكن من القعود على البعير
السؤال الثاني أنه تعالى لما آتاهم كفلين وأعطى المؤمنين كفلاً واحداً كان حالهم أعظم والجواب روى أن أهل الكتاب افتخروا بهذا السبب على المسلمين وهو ضعيف لأنه لا يبعد أن يكون النصيب الواحد أزيد قدراً من النصيبين فإن المال إذا قسم بنصفين كان الكفل الواحد نصفاً وإذا قسم بمائة قسم كان الكفل الواحد جزء من مائة جزء فالنصيب الواحد من القسمة الأولى أزيد من عشرين نصيباً من القسمة الثانية فكذا ههنا ثم قال تعالى وَيَجْعَل لَّكُمْ أي يوم القيامة نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وهو النور المذكور في قوله يَسْعَى نُورُهُم ( الحديد 12 ) وَيَغْفِرْ لَكُمْ ما أسلفتم من المعاصي وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَى ْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
فيه مسألتان
المسألة الأولى قال الواحدي هذه آية مشكلة وليس للمفسرين فيها كلام واضح في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها

واعلم أن أكثر المفسرين على أن ( لا ) ههنا صلة زائدة والتقدير ليعلم أهل الكتاب وقال أبو مسلم الأصفهاني وجمع آخرون هذه الكلمة ليست بزائدة ونحن نفسر الآية على القولين بعون الله تعالى وتوفيقه أما القول المشهور وهو أن هذه اللفظة زائدة فاعلم أنه لا بد ههنا من تقديم مقدمة وهي أن أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل كانوا يقولون الوحي والرسالة فينا والكتاب والشرع ليس إلا لنا والله تعالى خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جميع العالمين إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى لما أمر أهل الكتاب بالإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وعدهم بالأجر العظيم على ذلك الإيمان أتبعه بهذه الآية والغرض منها أن يزيل عن قلبهم اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم وغير حاصلة إلا في قومهم فقال إنما بالغنا في هذا البيان وأطنبنا في الوعد والوعيد ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ولا اعتراض عليه في ذلك أصلاً أما القول الثاني وهو أن لفظة ( لا ) غير زائدة فاعلم أن الضمير في قوله أَلاَّ يَقْدِرُونَ عائد إلى الرسول وأصحابه والتقدير لئلا يعلم أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله وأنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه فقد علموا أنهم يقدرون عليه ثم قال وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أي وليعلموا أن الفضل بيد الله فيصير التقدير إنا فعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله وإحسانه في أقوام معينين وليعتقدوا أن الفضل بيد الله واعلم أن هذا القول ليس فيه إلا أنا أضمرنا فيه زيادة فقلنا في قوله وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ تقدير وليعتقدوا أن الفضل بيد الله وأما القول الأول فقد افتقرنا فيه إلى حذف شيء موجد ومن المعلوم أن الإضمار أولى من الحذف لأن الكلام إذا افتقر إلى الإضمار لم يوهم ظاهره باطلاً أصلاً أماإذا افتقر إلى الحذف كان ظاهره موهماً للباطل فعلمنا أن هذا القول أولى والله أعلم
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف قرىء ( لكي يعلم ) و ( لكيلا يعلم ) و ( ليعلم ) و ( لأن يعلم ) بأدغام النون في الياء وحكى ابن جني في ( المحتسب ) عن قطرب أنه روي عن الحسن ( ليلا ) بكسر اللام وسكون الياء وحكى ابن مجاهد عنه ليلاً بفتح اللام وجزم الياء من غير همز قال ابن جني وما ذكر قطرب أقرب وذلك لأن الهمزة إذا حذفت بقي لنلا فيجب إدغام النون في اللام فيصير للا فتجتمع اللامات فتجعل الوسطى لسكونها وانكسار ما قبلها ياء فيصير ليلاً وأما رواية ابن مجاهد عنه فالوجه فيه أن لام الجر إذا أضفته إلى المضمر فتحته تقول له فمنهم من قاس المظهر عليه حكى أبو عبيدة أن بعضهم قرأ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ( إبراهيم 46 )
وأما قوله تعالى وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أي في ملكه وتصرفه واليد مثل يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء لأنه قارد مختار يفعل بحسب الاختيار وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ والعظيم لا بد وأن يكون إحسانه عظيماً والمراد تعظيم حال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في نبوته وشرعه وكتابه والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة المجادلة
وهي عشرون وآيتان مدنية
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
روي أن خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة بن الصامت رآها زوجها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم وكان بالرجل لمم فلما سلمت راودها فأبت فغضب وكان به خفة فظاهر منها فأتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما خلا سني وكثر ولدي جعلني كأمه وإن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليَّ جاعوا ثم ههنا روايتان يروي أنه عليه السلام قال لها ( ما عندي في أمرك شيء ) وروي أنه عليه السلام قال لها ( حرمت عليه ) فقالت يا رسول الله ما ذكر طلاقاً وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إليَّ فقال ( حرمت عليه ) فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووجدي وكلما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حرمت عليه ) هتفت وشكت إلى الله فبينما هي كذلك إذ تربد وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية ثم إنه عليه الصلاة والسلام أرسل إلى زوجها وقال ( ما حملك على ما صنعت فقال الشيطان فهل من رخصة فقال نعم وقرأ عليه الأربع آيات وقال له هل تستطيع العتق فقال لا والله فقال هل تستطيع الصوم فقال لا والله لولا أني آكل في اليوم مرة أو مرتين لكلَّ بصري ولظننت أني أموت فقال له هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً فقال لا والله يا رسول الله إلا أن تعينني منك بصدقة فأعانه بخمسة عشر صاعاً وأخرج أوس من عنده مثله فتصدق به على ستين مسكيناً ) واعلم أن في هذا الخبر مباحث
الأول قال أبو سليمان الخطابي ليس المراد من قوله في هذا الخبر ( وكان به لمم ) الخبل والجنون إذ لو كان به ذلك ثم ظاهر في تلك الحالة لم يكن يلزمه شيء بل معنى اللمم هنا الإلمام بالنساء وشدة

الحرص والتوقان إليهن
البحث الثاني أن الظهار كان من أشد طلاق الجاهلية لأنه في التحريم أوكد ما يمكن وإن كان ذلك الحكم صار مقرراً بالشرع كانت الآية ناسخة له وإلا لم يعد نسخاً لأن النسخ إنما يدخل في الشرائع لا في عادة الجاهلية لكن الذي روى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لها ( حرمت ) أو قال ( ما أراك إلا قد حرمت ) كالدلالة على أنه كان شرعاً وأما ما روي أنه توقف في الحكم فلا يدل على ذلك
البحث الثالث أن هذه الواقعة تدل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق ولم يبق له في مهمه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك المهم ولنرجع إلى التفسير أماقوله قَدْ سَمِعَ اللَّهُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قوله قَدْ معناه التوقع لأن رسول الله والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرج عنها
المسألة الثانية كان حمزة يدغم الدال في السين من قَدْ سَمِعَ وكذلك في نظائره واعلم أن الله تعالى حكى عن هذه المرأة أمرين أولهما المجادلة وهي قوله تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا أي تجادلك في شأن زوجها وتلك المجادلة أنه عليه الصلاة والسلام كلما قال لها ( حرمت عليه ) قالت والله ما ذكر طلاقاً وثانيهما شكواها إلى الله وهو قولها أشكو إلى الله فاقتي ووجدي وقولها إن لي صبية صغاراً ثم قال سبحانه وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما والمحاورة المراجعة في الكلام من حار الشيء يحور حوراً أي رجع يرجع رجوعاً ومنها نعوذ بالله من الحور بعد الكور ومنه فما أحار بكلمة أي فما أجاب ثم قال إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي يسمع كلام من يناديه ويبصر من يتضرع إليه
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
قوله تعالى الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ اعلم أن قوله الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ فيه مسألتان
المسألة الأولى ما يتعلق بالمباحث اللغوية والفقهية فنقول في هذه الآية بحثان
أحدهما أن الظهار ما هو الثاني أن المظاهر من هو وقوله مِن نّسَائِهِمْ فيه بحث وهو أن المظاهر منها من هي
أما البحث الأول وهو أن الظهار ما هو ففيه مقامان
المقام الأول في البحث عن هذه اللفظة بحسب اللغة وفيه قولان أحدهما أنه عبارة عن قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي فهو مشتق من الظهر
والثاني وهو صاحب النظم أنه ليس مأخوذاً من الظهر الذي هو عضو من الجسد لأنه ليس الظهر أولى بالذكر في هذا الموضع من سائر الأعضاء التي هي مواضع المباضعة والتلذذ بل الظهر ههنا مأخوذ من العلو ومنه قوله تعالى فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ ( الكهف 97 ) أي يعلوه وكل من علا شيئاً فقد

ظهره ومنه سمي المركوب ظهراً لأن راكبه يعلوه وكذلك امرأة الرجل ظهره لأنه يعلوها بملك البضع وإن لم يكن من ناحية الظهر فكأن امرأة الرجل مركب للرجل وظهر له ويدل على صحة هذا المعنى أن العرب تقول في الطلاق نزلت عن امرأتي أي طلقتها وفي قولهم أنت عليَّ كظهر أمي حذف وإضمار لأن تأويله ظهرك علي أي ملكي إياك وعلوي عليك حرام كما أن علوي على أمي وملكها حرام علي
المقام الثاني في الألفاظ المستعملة بهذا المعنى في عرف الشريعة الأصل في هذا الباب أن يقال أنت علي كظهر أمي فإما أن يكون لفظ الظهر ولفظ الأم مذكورين وإما أن يكون لفظ الأم مذكوراً دون لفظ الظهر وإما أن يكون لفظ الظهر مذكوراً دون لفظ الأم وإما أن لا يكون واحد منهما مذكوراً فهذه أقسام أربعة
القسم الأول إذا كانا مذكورين وهو معتبر بالاتفاق ثم لا مناقشة في الصلات إذا انتظم الكلام فلو قال أنت علي كظهر أمي أو أنت مني كظهر أمي فهذه الصلات كلها جائزة ولو لم يستعمل صلة وقال أنت كظهر أمي فقيل إنه صريح وقيل يحتمل أن يريد إنها كظهر أمه في حق غيره ولكن هذا الاحتمال كما لو قال لامرأته أنت طالق ثم قال أردت بذلك الإخبار عن كونها طالقاً من جهة فلان
القسم الثاني أن تكون الأم مذكورة ولا يكون الظهر مذكوراً وتفصيل مذهب الشافعي فيه أن الأعضاء قسمان منها ما يكون التشبيه بها غير مشعر بالإكرام ومنها ما يكون التشبيه بها مشعر بالإكرام أما الأول فهو كقوله أنت علي كرجل أمي أو كيد أمي أو كبطن أمي وللشافعي فيه قولان الجديد أن الظهار يثبت والقديم أنه لا يثبت أما الأعضاء التي يكون التشبيه بها سبباً للإكرام فهو كقوله أنت علي كعين أمي أو روح أمي فإن أراد الظهار كان ظهاراً وإن أراد الكرامة فليس بظهار فإن لفظه محتمل لذلك وإن أطلق ففيه تردد هذا تفصيل مذهب الشافعي وأما مذهب أبي حنيفة فقال أبو بكر الرازي في ( أحكام القرآن ) إذا شبه زوجته بعضو من الأم يحل له النظر إليه لم يكن ظهاراً وهو قوله أنت علي كيد أمي أو كرأسها أما إذا شبهها بعضو من الأم يحرم عليه النظر إليه كان ظهاراً كما إذا قال أنت علي كبطن أمي أو فخذها والأقرب عندي هو القول القديم للشافعي وهو أنه لا يصح الظهار بشيء من هذه الألفاظ والدليل عليه أن حل الزوجة كان ثابتاً وبراءة الذمة عن وجوب الكفارة كانت ثابتة والأصل في الثابت البقاء على ما كان ترك العمل به فيما إذا قال أنت علي كظهر أمي لمعنى مفقود في سائر الصور وذلك لأن اللفظ المعهود في الجاهلية هو قوله أنت علي كظهر أمي ولذلك سمي ظهاراً فكان هذا اللفظ بسبب العرف مشعراً بالتحريم ولم يوجد هذا المعنى في سائر الألفاظ فوجب البقاء على حكم الأصل
القسم الثالث ما إذا كان الظهر مذكوراً ولم تكن الأم مذكورة فهذا يدل على ثلاثة مراتب المرتبة الأولى أن يجري التشبيه بالمحرمات من النسب والرضاع وفيه قولان القديم أنه لا يكون ظهاراً والقول الجديد أنه يكون ظهاراً وهو قول أبي حنيفة المرتبة الثانية تشبيهها بالمرأة المحرمة تحريماً مؤقتاً مثل أن يقول لامرأته أنت علي كظهر فلانة وكان طلقها والمختار عندي أن شيئاً من هذا لا يكون ظهاراً ودليله ما ذكرناه في المسألة السالفة وحجة أبي حنيفة أنه تعالى قال وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ وظاهر هذه الآية يقتضي حصول الظهار بكل محرم فمن قصره على الأم فقد خص والجواب أنه تعالى لما قال بعده مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ

دل على أن المراد هو الظهار بذكر الأم ولأن حرمة الأم أشد من حرمة سائر المحارم فنقول المقتضي لبقاء الحل قائم على ما بيناه وهذا الفارق موجود فوجب أن لا يجوز القياس
القسم الرابع ما إذا لم يذكر لا الظهر ولا الأم كما لو قال أنت علي كبطن أختي وعلى قياس ما تقدم يجب أن لا يكون ذلك ظهاراً
البحث الثاني في المظاهر وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الشافعي رحمه الله الضابط أن كل من صح طلاقه صح ظهاره فعلى هذا ظهار الذمي عنده صحيح وقال أبو حنيفة لا يصح واحتج الشافعي بعموم قوله تعالى وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ وأما القياس فمن وجهين الأول أن تأثير الظهار في التحريم والذمي أهل لذلك بدليل صحة طلاقه وإذا ثبت هذا وجب أن يصح هذا التصرف منه قياساً على سائر التصرفات الثاني أن الكفارة إنما وجبت على المسلم زجراً له عن هذا الفعل الذي هو منكر من القور وزور وهذا المعنى قائم في حق الذمي فوجب أن يصح واحتجوا لقول أبي حنيفة بهذه الآية من وجهين الأول احتج أبو بكر الرازي بقوله تعالى وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ وذلك خطاب للمؤمنين فيدل على أن الظهار مخصوص بالمؤمنين الثاني من لوازم الظهار الصحيح وجوب الصوم على العائد العاجز عن الإعتاق بدليل قوله تعالى وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ إِلَى قَوْلُهُ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ( المجادلة 3 4 ) وإيجاب الصوم على الذمي ممتنع لأنه لو وجب لوجب إما مع الكفر وهو باطل بالإجماع أو بعد الإيمان وهو باطل لقوله عليه السلام ( الإسلام يجب ما قبله ) والجواب عن الأول من وجوه أحدها أن قوله مّنكُمْ خطاب مشافهة فيتناول جميع الحاضرين فلم قلتم إنه مختص بالمؤمنين سلمنا أنه مختص بالمؤمنين فلم قلتم إن تخصيصه بالمؤمنين في الذكر يدل على أن حال غيرهم بخلاف ذلك لا سيما ومن مذهب هذا القائل أن التخصيص بالذكر لا يدل على أن حال ما عداه بخلافه سلمنا بأنه يدل عليه لكن دلالة المفهوم أضعف من دلالة المنطوق فكان التمسك بعموم قوله وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ أولى سلمنا الاستواء في القوة لكن مذهب أبي حنيفة أن العام إذا ورد بعد الخاص كان ناسخاً للخاص والذي تمسكنا به وهو قوله وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ( المجادلة 3 ) متأخر في الذكر عن قوله الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ والظاهر أنه كان متأخراً في النزول أيضاً لأن قوله الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ ليس فيه بيان حكم الظهار وقوله وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ فيه بيان حكم الظهار وكون المبين متأخراً في النزول عن المجمل أولى والجواب عن الثاني من وجوه الأول أن لوازمه أيضاً أنه متى عجز عن الصوم اكتفى منه بالإطعام فههنا إن تحقق العجز وجب أن يكتفى منه بالإطعام وإن لم يتحقق العجز فقد زال السؤال والثاني أن الصوم يدل عن الإعتاق والبدل أضعف من المبدل ثم إن العبد عاجز عن الإعتاق مع أنه يصح ظهاره فإذا كان فوات أقوى اللازمين لا يوجب المنع مع صحة الظهار ففوات أضعف اللازمين كيف يمنع من القول بصحة الظهار الثالث قال القاضي حسين من أصحابنا إنه يقال إن أردت الخلاص من التحريم فأسلم وصم أما قوله عليه والسلام ( الإسلام يجب ما قبله ) قلنا إنه عام والتكليف بالتكفير خاص والخاص مقدم على العام وأيضاً فنحن لا نكلفه بالصوم بل نقول إذا أردت إزالة التحريم فصم وإلا فلا تصم

المسألة الثانية قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك رحمهم الله لا يصح ظهار المرأة من زوجها وهو أن تقول المرأة لزوجها أنت علي كظهر أمي وقال الأزواعي هو يمين تكفرها وهذا خطأ لأن الرجل لا يلزمه بذلك كفارة يمين وهو الأصل فكيف يلزم المرأة ذلك ولأن الظهار يوجب تحريماً بالقول والمرأة لا تملك ذلك بدليل أنها لا تملك الطلاق
المسألة الثالثة قال الشافعي وأبو حنيفة إذا قال أنت علي كظهر أمي اليوم بطل الظهار بمضي اليوم وقال مالك وابن أبي ليلى هو مظاهر أبداً لنا أن التحريم الحاصل بالظهار قابل للتوقيت وإلا لما انحل بالتفكير وإذا كان قابلاً للتوقيت فإذا وقته وجب أن يتقدر بحسب ذلك التوقيت قياساً على اليمين فهذا ما يتعلق من المسائل بقوله تعالى الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ أما قوله تعالى مِن نّسَائِهِمْ فيتعلق به أحكام المظاهر منه واختلفوا في أنه هل يصح الظهار عن الأمة فقال أبو حنيفة والشافعي لا يصح وقال مالك والأوزاعي يصح حجة الشافعي أن الحل كان ثابتاً والتكفير لم يكن واجباً والأصل في الثابت البقاء والآية لا تتناول هذه الصورة لأن قوله وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ( المجادلة 3 ) يتناول الحرائر دون الإماء والدليل عليه قوله أَوْ نِسَائِهِنَّ ( النور 31 ) والمفهوم منه الحرائر ولولا ذلك لما صح عطف قوله أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ لأن الشيء لا يعطف على نفسه وقال تعالى وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ( النساء 23 ) فكان ذلك على الزوجات دون ملك اليمين
المسألة الرابعة فيما يتعلق بهذه الآية من القراءات قال أبو علي قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ بغير الألف وقرأ عاصم يُظَاهِرُونَ بضم الياء وتخفيف الظاء والألف وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي يظاهرون بفتح الياء وبالألف مشددة الظاء قال أبو علي ظاهر من امرأته ظهر مثل ضاعف وضعف وتدخل التاء على كل واحد منهما فيصير تظاهر وتظهر ويدخل حرف المضارعة فيصير يتظاهر ويتظهر ثم تدغم التاء في الظاء لمقاربتها لها فيصير يظاهر ويظهر وتفتح الياء التي هي حرف المضارعة لأنها للمطاوعة كما يفتحها في يتدحرج الذي هو مطاوع دحرجته فتدحرج وإنما فتح الياء في يظاهر ويظهر لأنه المطاوع كما أن يتدحرج كذلك ولأنه على وزنهما وإن لم يكونا للإلحاق وأما قراءة عاصم يظاهرون فهو مشتق من ظاهر يظاهر إذا أتى بمثل هذا التصرف
المسألة الخامسة لفظة مّنكُمْ في قوله الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم في الظهار لأنه كان من أيمان أهل الجاهلية خاصة دون سائر الأمم وقوله تعالى مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ فيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية المفضل أُمَّهَاتِهِمْ بالرفع والباقون بالنصب على لفظ الخفض وجه الرفع أنه لغة تميم قال سيبويه وهو أقيس الوجهين وذلك أن النفي كالاستفهام فكما لا يغير الاستفهام الكلام عما كان عليه فكذا ينبغي أن لا يغير النفي الكلام عما كان عليه ووجه النصب أنه لغة أهل الحجاز والأخذ في التنزيل بلغتهم أولى وعليها جاء قوله مَا هَاذَا بَشَرًا ( يوسف 31 ) ووجهه من القياس أن ما تشبه ليس في أمرين أحدهما أن ( ما ) تدخل على المبتدأ والخبر كما أن ( ليس ) تدخل عليهما والثاني أن ( ما ) تنفي ما في الحال كما أن ( ليس ) تنفي ما في الحال وإذا حصلت المشابهة من وجهين وجب حصول المساواة في سائر الأحكام إلا ما خص بالدليل قياساً على باب مالا ينصرف
المسألة الثانية في الآية إشكال وهو أن من قال لامرأته أنت علي كظهر أمي فهو شبه الزوجة

بالأم ولم يقل إنها أم فكيف يليق أن يقال على سبيل الإبطال لقوله مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ وكيف يليق أن يقال وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً والجواب أما الكذب إنما لزم لأن قوله أنت علي كظهر أمي إما أن يجعله إخباراً أو إنشاء وعلى التقدير الأول أنه كذب لأن الزوجة محللة والأم محرمة وتشبيه المحللة بالمحرمة في وصف الحل والحرمة كذب وإن جعلناه إنشاء كان ذلك أيضاً كذباً لأن كونه إنشاء معناه أن الشرع جعله سبباً في حصول الحرمة فلما لم يرد الشرع بهذا التشبيه كان جعله إنشاء في وقوع هذا الحكم يكون كذباً وزوراً وقال بعضهم إنه تعالى إنما وصفه بكونه مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً لأن الأم محرمة تحريماً مؤبداً والزوجة لا تحرم عليه بهذا القول تحريماً مؤبداً فلا جرم كان ذلك منكراً من القول وزوراً وهذا الوجه ضعيف لأن تشبيه الشيء بالشيء لا يقتضي وقوع المشابهة بينهما من كل الوجوه فلا يلزم من تشبيه الزوجة بالأم في الحرمة تشبيهها بها في كون الحرمة مؤبدة لأن مسمى الحرمة أعم من الحرمة المؤبدة والمؤقتة
قوله تعالى إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً أما الكلام في تفسير لفظة اللائي فقد تقدم في سورة الأحزاب عند قوله وَمَا جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِى تُظَاهِرُونَ ( الأحزاب 4 ) ثم في الآية سؤالان وهو أن ظاهرها يقتضي أنه لا أم إلا الوالدة وهذا مشكل لأنه قال في آية آخرى وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ ( النساء 23 ) وفي آية أخرى وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( الأحزاب 6 ) ولا يمكن أن يدفع هذا السؤال بأن المعنى من كون المرضعة أماً وزوجة الرسول أماً حرمة النكاح وذلك لأنا نقول إن بهذا الطريق ظهر أنه لا يلزم من عدم الأمومة الحقيقية عدم الحرمة فإذاً لا يلزم من عدم كون الزوجة أماً عدم الحرمة وظاهر الآية يوهم أنه تعالى استدل بعدم الأمومة على عدم الحرمة وحينئذ يتوجه السؤال والجواب أنه ليس المراد من ظاهر الآية ما ذكره السائل بل تقدير الآية كأنه قيل الزوجة ليست بأم حتى تحصل الحرمة بسبب الأمومة ولم يرد الشرع بجعل هذا اللفظ سبباً لوقوع الحرمة حتى تحصل الحرمة فإذاً لا تحصل الحرمة هناك ألبتة فكان وصفهم لها بالحرمة كذباً وزوراً
ثم قال تعالى وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ إما من غير التوبة لمن شاء كما قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء أو بعد التوبة
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
قوله تعالى وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا قال الزجاج الَّذِينَ رفع بالابتداء وخبره فعليهم تحرير رقبة ولم يذكر عليهم لأن في الكلام دليلاً عليه وإن شئت أضمرت فكفارتهم تحرير رقبة أما قوله تعالى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فاعلم أنه كثر اختلاف الناس في تفسير هذه الكلمة ولا بد أولاً من بيان أقوال أهل العربية في هذه الكلمة وثانياً من بيان أقوال أهل الشريعة وفيها مسائل

المسألة الأولى قال الفراء لا فرق في اللغة بين أن يقال يعودون لما قالوا وإلى ما قالوا وفيما قالوا أبو علي الفارسي كلمة إلى واللام يتعاقبان كقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا ( الأعراف 43 ) وقال فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الْجَحِيمِ ( الصافات 23 ) وقال تعالى وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ ( هود 36 ) وقال بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ( الزلزلة 5 )
المسألة الثانية لفظ مَا قَالُواْ في قوله ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فيه وجهان أحدهما أنه لفظ الظهار والمعنى أنهم يعودون إلى ذلك اللفظ والثاني أن يكون المراد بقوله لِمَا قَالُواْ المقول فيه وهو الذي حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه ونظيره قوله تعالى وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ( مريم 80 ) أي ونرثه المقول وقال عليه السلام ( العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه ) وإنما هو عائد في الموهوب ويقول الرجل اللهم أنت رجاؤنا أي مرجونا وقال تعالى وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( الحجر 99 ) أي الموقن به وعلى هذا معنى قوله ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ أي يعودون إلى الشيء الذي قالوا فيه ذلك القول ثم إذا فسرنا هذا اللفظ بالوجه الأول فنقول قال أهل اللغة يجوز أن يقال عاد لما فعل أي فعله مرة أخرى ويجوز أن يقال عاد لما فعل أي نقض ما فعل وهذا كلام معقول لأن من فعل شيئاً ثم أراد أن يقال مثله فقد عاد إلى تلك الماهية لا محالة أيضاً وأيضاً من فعل شيئاً ثم أراد إبطاله فقد عاد إليه لأن التصرف في الشيء بالإعدام لا يمكن إلا بالعود إليه
المسألة الثالثة ظهر مما قدمنا أن قوله ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ يحتمل أن يكون المراد ثم يعودون إليه بالنقض والرفع والإزالة ويحتمل أن يكون المراد منه ثم يعودون إلى تكوين مثله مرة أخرى أما الاحتمال الأول فهو الذي ذهب إليه أكثر المجتهدين واختلفوا فيه على وجوه الأول وهو قول الشافعي أن معنى العود لما قالوا السكوت عن الطلاق بعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه وذلك لأنه لما ظاهر فقد قصد التحريم فإن وصل ذلك بالطلاق فقد تمم ما شرع منه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه فإذا سكت عن الطلاق فذاك يدل على أنه ندم على ما ابتدأ به من التحريم فحينئذ تجب عليه الكفارة واحتج أبو بكر الرازي في ( أحكام القرآن ) على فساد هذا القول من وجهين الأول أنه تعالى قال ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ وثم تقتضي التراخي وعلى هذا القول يكون المظاهر عائداً عقيب القول بلا تراخ وذلك خلاف مقتضى الآية الثاني أنه شبهها بالأم والأم لا يحرم إمساكها فتشبيه الزوجة بالأم لا يقتضي حرمة إمساك الزوجة فلا يكون إمساك الزوجة نقضاً لقوله أنت علي كظهر أمي فوجب أن لا يفسر العود بهذا الإمساك والجواب عن الأول أن هذا أيضاً وارد عى قول أبي حنيفة فإنه جعل تفسير العود استباحة الوطء فوجب أن لا يتمكن المظاهر من العود إليها بهذا التفسير عقيب فراغه من التلفظ بلفظ الظهار حتى يحصل التراخي مع أن الأمة مجمعة على أن له ذلك فثبت أن هذا الإشكال وارد عليه أيضاً ثم نقول إنه ما لم ينقض زمان يمكنه أن يطلقها فيه لا يحكم عليه بكونه عائداً فقد تأخر كونه عائداً عن كونه مظاهراً بذلك القدر من الزمان وذلك يكفي في العمل بمقتضى كلمة ثم والجواب عن الثاني أن الأم يحرم إمساكها على سبيل الزوجية ويحرم الاستمتاع بها فقوله أنت علي كظهر أمي ليس فيه بيان أن التشبيه وقع في إمساكها على سبيل الزوجية أو في الاستمتاع بها فوجب حمله على الكل فقوله أنت علي كظهر أمي يقتضي

تشبيهها بالأم في حرمة إمساكها على سبيل الزوجية فإذا لم يطلقها فقد أمسكها على سبيل الزوجية فكان هذا الإمساك مناقضاً لمقتضى قوله أنت علي كظهر أمي فوجب الحكم عليه بكونه عائداً وهذا كلام ملخص في تقرير مذهب الشافعي الوجه الثاني في تفسير العود وهو قول أبي حنيفة أنه عبارة عن استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة قالوا وذلك لأنه لما شبهها بالأم في حرمة هذه الأشياء ثم قصد استباحة هذه الأشياء كان ذلك مناقضاً لقوله أنت علي كظهر أمي واعلم أن هذا الكلام ضعيف لأنه لما شبهها بالأم لم يبين أنه في أي الأشياء شبهها بها فليس صرف هذا التشبيه إلى حرمة الاستمتاع وحرمة النظر أولى من صرفه إلى حرمة إمساكها على سبيل الزوجية فوجب أن يحمل هذا التشبيه على الكل وإذا كان كذلك فإذا أمسكها على سبيل الزوجية لحظة فقد نقض حكم قوله أنت علي كظهر أمي فوجب أن يتحقق العود الوجه الثالث في تفسير العود وهو قول مالك أن العود إليها عبارة عن العزم على جماعها وهذا ضعيف لأن القصة إلى جماعها لا يناقض كونها محرمة إنما المناقض لكونها محرمة القصد إلى استحلال جماعها وحينئذ نرجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله الوجه الرابع في تفسير العود وهو قول طاوس والحسن البصري أن العود إليها عبارة عن جماعها وهذا خطأ لأن قوله تعالى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا بفاء التعقيب في قوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ يقتضي كون التكفير بعد العود ويقتضي قوله مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا أن يكون التكفير قبل الجماع وإذا ثبت أنه لا بد وأن يكون التكفير بعد العود وقبل الجماع جب أن يكون العود غير الجماع واعلم أن أصحابنا قالوا العود المذكور ههنا هب أنه صالح للجماع أو للعزم على الجماع أو لاستباحة الجماع إلا أن الذي قاله الشافعي رحمه الله هو أقل ما ينطلق عليه الاسم فيجب تعليق الحكم عليه لأنه هو الذي به يتحقق مسمى العود وأما الباقي فزيادة لا دليل عليها ألبتة
الاحتمال الثاني في قوله ثُمَّ يَعُودُونَ أي يفعلون مثل ما فعلوه وعلى هذا الاحتمال في الآية أيضاً وجوه الأول قال الثوري العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام وتقريره أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار فجعل الله تعالى حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية فقال وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ يريد في الجاهلية ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ أي في الإسلام والمعنى أنهم يقولون في الإسلام مثل ما كانوا يقولونه في الجاهلية فكفارته كذا وكذا قال أصحابنا هذا القول ضعيف لأنه تعالى ذكر الظهار وذكر العود بعده بكلمة ثم وهذا يقتضي أن يكون المراد من العود شيئاً غير الظهار فإن قالوا المراد والذين كانوا يظاهرون من نسائهم قبل الإسلام والعرب تضمر لفظ كان كما في قوله وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّياطِينِ أي ما كانت تتلو الشياطين قلنا الإضمار خلاف الأصل القول الثاني قال أبو العالية إذا كرر لفظ الظهار فقد عاد فإن لم يكن يكرر لم يكن عوداً وهذا قول أهل الظاهر واحتجوا عليه بأن ظاهر قوله ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ يدل على إعادة ما فعلوه وهذا لا يكون إلا بالتكرير وهذا أيضاً ضعيف من وجهين الأول أنه لو كان المراد هذا لكان يقول ثم يعيدون ما قالوا الثاني حديث أوس فإنه لم يكرر الظهار إنما عزم على الجماع وقد ألزمه رسول الله الكفارة وكذلك حديث سلمة بن صخرة البياضي فإنه قال كنت لا أصبر عن الجماع فلما دخل شهر رمضان ظاهرت من امرأتي مخافة أن لا أصبر عنها بعد طلوع الفجر فظاهرت منها شهر رمضان كله ثم لم أصبر فواقعته فأتيت رسول الله

فأخبرته بذلك وقلت أمض في حكم الله فقال ( أعتق رقبة ) فأوجب الرسول عليه السلام عليه الكفارة مع أنه لم يذكر تكرار الظهار القول الثالث قال أبو مسلم الأصفهاني معنى العود هو أن يحلف على ما قال أولاً من لفظ الظهار فإنه إذا لم يحلف لم تلزمه الكفارة قياساً على مالو قال في بعض الأطعمة إنه حرام عليَّ كلحم الآدمي فإنه لا تلزمه الكفارة فأما إذا حلف عليه لزمه كفارة اليمين وهذا أيضاً ضعيف لأن الكفارة قد تجب بالإجماع في المناسك ولا يمين هناك وفي قتل الخطأ ولا يمين هناك
أما قوله تعالى فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ففيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا فيما يحرمه الظهار فللشافعي قولان أحدهما أنه يحرم الجماع فقط القول الثاني وهو الأظهر أنه يحرم جميع جهات الاستمتاعات وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ودليله وجوه الأول قوله تعالى فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فكان ذلك عاماً في جميع ضروب المسيس من لمس بيد أو غيرها والثاني قوله تعالى وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ألزمه حكم التحريم بسبب أنه شبهها بظهر الأم فكما أن مباشرة ظهر الأم ومسه يحرم عليه فوجب أن يكون الحال في المرأة كذلك الثالث روى عكرمة ( أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره بذلك فقال اعتزلها حتى تكفر )
المسألة الثانية اختلفوا فيمن ظاهر مراراً فقال الشافعي وأبو حنيفة لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد بالتكرار التأكيد فإنه يكون عليه كفارة واحدة وقال مالك من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة مائة فليس عليه إلا كفارة واحدة دليلنا أن قوله تعالى وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ يقتضي كون الظهار علة لإيجاب الكفارة فإذا وجد الظهار الثاني فقد وجدت علة وجوب الكفارة والظهار الثاني إما أن يكون علة للكفارة الأولى أو لكفارة ثانية والأول باطل لأن الكفارة وجبت بالظهار الأول وتكوين الكائن محال ولأن تأخر العلة عن الحكم محال فعلمنا أن الظهار الثاني يوجب كفارة ثانية واحتج مالك بأن قوله وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ يتناول من ظاهر مرة واحدة ومن ظاهر مراراً كثيرة ثم إنه تعالى أوجب عليه تحرير رقبة فعلمنا أن التكفير الواحد كاف في الظهار سواء كان مرة واحدة أو مراراً كثيرة والجواب أنه تعالى قال لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَة ِ مَسَاكِينَ ( المائدة 89 ) فهذا يقتضي أن لا يجب في الإيمان الكثيرة إلا كفارة واحدة ولما كان باطلاً فكذا ما قلتموه
المسألة الثالثة رجل تحته أربعة نسوة فظاهر منهن بكلمة واحدة وقال أنتن علي كظهر أمي للشافعي قولان أظهرهما أنه يلزمه أربع كفارات نظراً إلى عدد اللواتي ظاهر منهن ودليله ما ذكرنا أنه ظاهر عن هذه فلزمه كفارة بسبب هذا الظهار وظاهر أيضاً عن تلك فالظهار الثاني لا بد وأن يوجب كفارة أخرى
المسألة الرابعة الآية تدل على إيجاب الكفارة قبل المماسة فإن جامع قبل أن يكفر لم يجب عليه إلا كفارة واحدة وهو قول أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة والشافعي وسفيان وأحمد وإسحق رحمهم الله وقال بعضهم إذا واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان وهو قول عبدالرحمن بن مهدي دليلنا أن الآية دلت على أنه يجب على المظاهر كفارة قبل العود فههنا فاتت صفة القبلية فيبقى أصل وجوب الكفارة وليس في

الآية دلالة على أن ترك التقديم يوجب كفارة أخرى
المسألة الخامسة الأظهر أنه لا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفر فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينه وبينها ويجبره على التكفير وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع قال الفقهاء ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة وامتناع من إيفاء حقها
المسألة السادسة قال أبو حنيفة رحمه الله هذه الرقبة تجزىء سواء كانت مؤمنة أو كافرة لقوله تعالى فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ فهذا اللفظ يفيد العموم في جميع الرقاب وقال الشافعي لا بد وأن تكون مؤمنة ودليله وجهان الأول أن المشرك نجس لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) وكل نجس خبيث بإجماع الأمة وقال تعالى وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ( البقرة 267 ) الثاني أجمعنا على أن الرقبة في كفارة القتل مقيدة بالإيمان فكذا ههنا والجامع أن الإعتاق إنعام فتقييده بالإيمان يقتضي صرف هذا الإنعام إلى أولياء الله وحرمان أعداء الله وعدم التقييد بالإيمان قد يفضي إلى حرمان أولياء الله فوجب أن يتقيد بالإيمان تحصيلاً لهذه المصلحة
المسألة السابعة إعتاق المكاتب لا يجزىء عند الشافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة رحمه الله إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئاً جاز عن الكفارة وإذا أعتقه بعد أن يؤدي شيئاً فظاهر الرواية أنه لا يجزىء وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجزىء حجة أبي حنيفة أن المكاتب رقبة لقوله تعالى وَفِي الرّقَابِ ( البقرة 117 ) والرقبة مجزئة لقوله تعالى فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ حجة الشافعي أن المقتضى لبقاء التكاليف بإعتاق الرقبة قائم بعد إعتاق المكاتب وما لأجله ترك العمل به في محل الرقاب غير موجود ههنا فوجب أن يبقى على الأصل بيان المقتضي أن الأصل في الثابت البقاء على ما كان بيان الفارق أن المكاتب كالزائل عن ملك المولى وإن لم يزل عن ملكه لكنه يمكن نقصان في رقه بدليل أنه صار أحق بمكاسبه ويمتنع على المولى التصرفات فيه ولو أتلفه المولى يضمن قيمته ولو وطىء مكاتبته يغرم المهر ومن المعلوم أن إزالة الملك الخالص عن شوائب الضعف أشق على المالك من إزالة الملك الضعيف ولا يلزم من خروج الرجل عن العهدة بإعتاق العبد القن خروجه عن العهدة بإعتاق المكاتب والوجه الثاني أجمعنا على أنه لو أعتقه الوارث بعد موته لا يجزىء عن الكفارة فكذا إذا أعتقه المورث والجامع كون الملك ضعيفاً
المسألة الثامنة لو اشترى قريبه الذي يعتق عليه بنية الكفارة عتق عليه لكنه لا يقع عن الكفارة عند الشافعي وعند أبي حنيفة يقع حجة أبي حنيفة التمسك بظاهر الآية وحجة الشافعي ما تقدم
المسألة التاسعة قال أبو حنيفة الإطعام في الكفارات يتأدى بالتمكين من الطعام وعند الشافعي لا يتأدى إلا بالتمليك من الفقير حجة أبي حنيفة ظاهر القرآن وهو أن الواجب هو الإطعام وحقيقة الإطعام هو التمكين بدليل قول تعالى مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ( المائدة 89 ) وذلك يتأدى بالتمكين والتمليك فكذا ههنا وحجة الشافعي القياس عن الزكاة وصدقة الفطر
المسألة العاشرة قال الشافعي لكل مسكين مد من طعام بلده الذي يقتات منه حنطة أو شعيراً أو أرزاً أو تمراً أو أقطاً وذلك بمد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يعتبر مد حدث بعده وقال أبو حنيفة يعطى كل مسكين نصف

صاع من بر أو دقيق أو سويق أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير ولا يجزئه دون ذلك حجة الشافعي أن ظاهر الآية يقتضي الإطعام ومراتب الإطعام مختلفة بالكمية والكيفية فليس حمل اللفظ على البعض أولى من حمله على الباقي فلا بد من حمله على أقل مالا بد منه ظاهراً وذلك هو المد حجة أبي حنيفة ما روي في حديث أوس بن الصامت ( لكل مسكين نصف صاع من بر ) وعن علي وعائشة قالا لكل مسكين مدان من بر ولأن المعتبر حاجة اليوم لكل مسكين فيكون نظير صدقة الفطر ولا يتأدى ذلك بالمد بل بما قلنا فكذلك هنا
المسألة الحادية عشرة لو أطعم مسكيناً واحداً ستين مرة لا يجزىء عند الشافعي وعند أبي حنيفة يجزىء حجة الشافعي ظاهر الآية وهو أنه أوجب إطعام ستين مسكيناً فوجب رعاية ظاهر الآية وحجة أبي حنيفة أن المقصود دفع الحاجة وهو حاصل وللشافعي أن يقول التحكمات غالبة على هذه التقديرات فوجب الامتناع فيها من القياس وأيضاً فلعل إدخال السرور في قلب ستين إنساناً أقرب إلى رضا الله تعالى من إدخال السرور في قلب الإنسان الواحد
المسألة الثانية عشرة قال أصحاب الشافعي إنه تعالى قال في الرقبة فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ وقال في الصوم فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً فذكر في الأول فَمَن لَّمْ يَجِدْ وفي الثاني فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فقالوا من ماله غائب لم ينتقل إلى الصوم بسبب عجزه عن الإعتاق في الحال أما من كان مريضاً في الحال فإنه ينتقل إلى الإطعام وإن كان مرضه بحيث يرجى زواله قالوا والفرق أنه قال في الانتقال إلى الإطعام فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ وهو بسبب المرض الناجز والعجز العاجل غير مستطيع وقال في الرقبة فَمَن لَّمْ يَجِدْ والمراد فمن لم يجد رقبة أو مالاً يشتري به رقبة ومن ماله غائب لا يسمى فاقداً للمال وأيضاً يمكن أن يقال في الفرق إحضار المال يتعلق باختياره وأما إزالة المرض فليس باختياره
المسألة الثالثة عشرة قال بعض أصحابنا الشبق المفرط والغلمة الهائجة عذر في الانتقال إلى الإطعام والدليل عليه أنه عليه السلام لما أمر الأعرابي بالصوم قال له وهل أتيت إلا من قبل الصوم فقال عليه السلام أطعم ) دل الحديث على أن الشبق الشديد عذر في الانتقال من الصوم إلى الإطعام وأيضاً الاستطاعة فوق الوسع والوسع فوق الطاقة فالاستطاعة هو أن يتمكن الإنسان من الفعل على سبيل السهولة ومعلوم أن هذا المعنى لا يتم مع شدة الشبق فهذه جملة مختصرة مما يتعلق بفقه القرآن في هذه الآية والله أعلم
قوله تعالى ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قال الزجاج ذالِكُمْ للتغليظ في الكفارة تُوعَظُونَ بِهِ أي أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ولا تعاودوه وقال غيره ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ أي تؤمرون به من الكفارة وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ من التكفير وتركه

فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
ثم ذكر تعالى حكم العاجز عن الرقبة فقال فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً فدلت الآية على أن التتابع شرط وذكر في تحرير الرقبة والصوم أنه لا بد وأن يوجدا من قبل أن يتماسا ثم ذكر تعالى أن من لم يستطع ذلك فإطعام ستين مسكيناً ولم يذكر أنه لا بد من وقوعه قبل المماسة إلا أنه كالأولين بدلالة الإجماع والمسائل الفقهية المفرعة على هذه الآية كثيرة مذكورة في كتاب الفقه
ثم قال تعالى ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ وفي قوله ذالِكَ وجهان الأول قال الزجاج إنه في محل الرفع والمعنى الفرض ذلك الذي وضعناه الثاني فعلنا ذلك البيان والتعليم للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه ولا تستمروا على أحكام الجاهلية من جعل الظهار أقوى أنواع الطلاق وفي الآية مسائل
المسألة الأولى استدلت المعتزلة باللام في قوله لّتُؤْمِنُواْ على أن فعل الله معلل بالغرض وعلى أن غرضه أن تؤمنوا بالله ولا تستمروا على ما كانوا عليه في الجاهلية من الكفر وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الإيمان وعدم الكفر
المسألة الثانية استدل من أدخل العمل في مسمى الإيمان بهذه الآية فقال أمرهم بهذه الأعمال وبين أنه أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين فدلت الآية على أن العمل من الإيمان ومن أنكر ذلك قال إنه تعالى لم يقل ( ذلك لتؤمنوا بالله بعمل هذه الأشياء ) ونحن نقول المعنى ذلك لتؤمنوا بالله بالإقرار بهذه الأحكام ثم إنه تعالى أكد في بيان أنه لا بد لهم من الطاعة وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي لمن جحد هذا وكذب به
إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في المحادة قولان قال المبرد أصل المحادة الممانعة ومنه يقال للبواب حداد وللمنوع الرزق محدود قال أبو مسلم الأصفهاني المحادة مفاعلة من لفظ الحديد والمراد المقابلة بالحديد سواء كان ذلك في الحقيقة أو كان ذلك منازعة شديدة شبيهة بالخصومة بالحديد أما المفسرون فقالوا يحادون أي يعادون ويشاقون وذلك تارة بالمحاربة مع أولياء الله وتارة بالتكذيب والصد عن دين الله
المسألة الثانية الضمير في قوله يُحَادُّونَ يمكن أن يكون راجعاً إلى المنافقين فإنهم كانوا يوادون

الكافرين ويظاهرون على الرسول عليه السلام فأذلهم الله تعالى ويحتمل سائر الكفار فأعلم الله رسوله أنهم كُبِتُواْ أي خذلوا قال المبرد يقال كبت الله فلاناً إذا أذله والمردود بالذل يقال له مكبوت ثم قال كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ من أعداء الرسل وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ تدل على صدق الرسول وَلِلْكَافِرِينَ بهذه الآيات عَذَابٌ مُّهِينٌ يذهب بعزهم وكبرهم فبين سبحانه أن عذاب هؤلاء المحادين في الدنيا الذل والهوان وفي الآخرة العذاب الشديد
ثم ذكر تعالى ما به يتكامل هذا الوعيد فقال
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ شَهِيدٌ
يَوْمٍ منصوب بينبئهم أو بمهين أو بإضمار اذكر تعظيماً لليوم وفي قوله جَمِيعاً قولان أحدهما كلهم لا يترك منهم أحد غير مبعوث والثاني مجتمعين في حال واحدة ثم قال فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ تجليلاً لهم وتوبيخاً وتشهيراً لحالهم الذي يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار لما يلحقهم من الخزي على رؤس الإشهاد وقوله أَحْصَاهُ اللَّهُ أي أحاط بجميع أحوال تلك الأعمال من الكمية والكيفية والزمان والمكان لأنه تعالى عالم بالجزئيات ثم قال وَنَسُوهُ لأنهم استحقروها وتهاونوا بها فلا جرم نسوها وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ أي مشاهد لا يخفى عليه شيء ألبتة
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة ٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات فقال
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ
قال ابن عباس أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم وأقول هذا حق لأن كونه تعالى عالماً بالأشياء لا يرى ولكنه معلوم بواسطة الدلائل وإنما أطلق لفظ الرؤية على هذا العلم لأن الدليل على كونه عالماً هو أن أفعاله محكمة متقنة منتسقة منتظمة وكل من كانت أفعاله كذلك فهو عالم
أما المقدمة الأولى فمحسوسة مشاهدة في عجائب السموات والأرض وتركيبات النبات والحيوان
أما المقدمة الثانية فبديهية ولما كان الدليل الدال على كونه تعالى كذلك ظاهراً لا جرم بلغ هذا العلم والاستدلال إلى أعلى درجات الظهور والجلاء صار جارياً مجرى المحسوس المشاهد فلذلك أطلق لفظ الرؤية فقال أَلَمْ تَرَ وأما أنه تعالى عالم بجميع المعلومات فلأن علمه علم قديم فلو تعلق بالبعض دون البعض من أن جميع المعلومات مشتركة في صحة المعلومية لافتقر ذلك العلم في ذلك التخصيص إلى مخصص وهو على الله تعالى محال فلا جرم وجب كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات واعلم أنه سبحانه قال يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ولم يقل يعلم ما في الأرض وما في السموات وفي رعاية هذا الترتيب سر عجيب
ثم إنه تعالى خص ما يكون من العباد من النجوى فقال

مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة ٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن جني قرأ أبو حيوة مَا تَكُونُواْ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ بالتاء ثم قال والتذكير الذي عليه العامة هو الوجه لما هناك من الشياع وعموم الجنسية كقولك ما جاءني من امرأة وما حضرني من جارية ولأنه وقع الفاصل بين الفاعل والمفعول وهو كلمة من ولأن النجوى تأنيثه ليس تأنيثاً حقيقياً وأما التأنيث فلأن تقدير الآية ما تكون نجوى كما يقال ما قامت امرأة وما حضرت جارية
المسألة الثانية قوله مَّا يَكُونُ من كان التامة أي ما يوجد ولا يحصل من نجوى ثلاثة
المسألة الثالثة النجوى التناجي وهو مصدر ومنه قوله تعالى لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ ( النساء 114 ) وقال الزجاج النجوى مشتق من النجوة وهي ما ارتفع ونجا فالكلام المذكور سراً لما خلا عن استماع الغير صار كالأرض المرتفعة فإنها لارتفاعها خلت عن اتصال الغير ويجوز أيضاً أن تجعل النجوى وصفاً فيقال قوم نجوى وقوله تعالى وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ( الإسراء 47 ) والمعنى هم ذوو نجوى فحذف المضاف وكذلك كل مصدر وصف به
المسألة الرابعة جر ثلاثة في قوله مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون مجروراً بالإضافة والثاني أن يكون النجوى بمعنى المتناجين ويكون التقدير ما يكون من متناجين ثلاثة فيكون صفة
المسألة الخامسة قرأ ابن أبي عبلة ( ثلاثة ) و ( خمسة ) بالنصب على الحال بإضمار يتناجون لأن نجوى يدل عليه
المسألة السادسة أنه تعالى ذكر الثلاثة والخمسة وأهمل أمر الأربعة في البين وذكروا فيه وجوهاً أحدها أن هذا إشارة إلى كمال الرحمة وذلك لأن الثلاثة إذا اجتمعوا فإذا أخذ إثنان في التناجي والمشاورة بقي الواحد ضائعاً وحيداً فيضيق قلبه فيقول الله تعالى أنا جليسك وأنيسك وكذلك الخمسة إذا اجتمعوا بقي الخامس وحيداً فريداً أما إذا كانوا أربعة لم يبق واحد منهم فريداً فهذا إشارة إلى أن كل من انقطع عن الخلق ما يتركه الله تعالى ضائعاً وثانيها أن العدد الفرد أشرف من الزوج لأن الله وتر يحب الوتر فخص الأعداد الفرد بالذكر تنبيهاً على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور وثالثها أن أقل مالا بد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تمهيد مصلحة ثلاثة حتى يكون الإثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات والثالث كالمتوسط الحاكم بينهما فحينئذ تكمل تلك المشورة ويتم ذلك الغرض وهكذا في كل جمع اجتمعوا للمشاورة فلا بد فيهم من واحد يكون حكماً مقبول القول فلهذا السبب لا بد

وأن تكون أرباب المشاورة عددهم فرداً فذكر سبحانه الفردين الأولين واكتفى بذكرهما تنبيهاً على الباقي ورابعها أن الآية نزلت في قوم من المنافقين اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين وكانوا على هذين العددين قال ابن عباس نزلت هذه الآية في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوماً يتحدثون فقال أحدهم هل يعلم الله ما تقول وقال الثاني يعلم البعض دون البعض وقال الثالث إن كان يعلم البعض فيعلم الكل وخامسها أن في مصحف عبدالله ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا الله رابعهم ولا أربعة إلا الله خامسهم ولا خمسة إلا الله سادسهم ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا أخذوا في التناجي )
المسألة السابعة قرىء وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ بالنصب على أن لا لنفي الجنس ويجوز أن يكون وَلاَ أَكْثَرَ بالرفع معطوفاً على محل ( لا ) مع ( أدنى ) كقولك لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة والثالث يجوز أن يكونا مرفوعين على الابتداء كقولك لا حول ولا قوة إلا بالله والرابع أن يكون ارتفاعهما عطفاً على محل مِن نَّجْوَى كأنه قيل ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم والخامس يجوز أن يكونا مجروروين عطفاً على نَجْوَى كأنه قيل ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم
المسألة الثامنة قرىء وَلا أَكْبَرَ بالباء المنقطعة من تحت
المسألة التاسعة المراد من كونه تعالى رابعاً لهم والمراد من كونه تعالى معهم كونه تعالى عالماً بكلامهم وضميرهم وسرهم وعلنهم وكأنه تعالى حاضر معهم ومشاهد لهم وقد تعالى عن المكان والمشاهدة
المسألة العاشرة قرأ بعضهم ثُمَّ يُنَبّئُهُم بسكون النون وأنبأ ونبأ واحد في المعنى وقوله ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ أي يحاسب على ذلك ويجازي على قدر الاستحقاق ثم قال أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ وهو تحذير من المعاصي وترغيب في الطاعات
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ
ثم إنه تعالى بين حال أولئك الذين نهوا عن النجوى فقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ واختلفوا في أنهم من هم فقال الأكثرون هم اليهود ومنهم من قال هم المنافقون ومنهم من قال فريق من الكفار والأول أقرب لأنه تعالى حكى عنهم فقال وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ وهذا الجنس فيما روي وقع من اليهود فقد كانوا إذا سلموا على الرسول عليه السلام قالوا السام عليك يعنون الموت والأخبار في ذلك متظاهرة وقصة عائشة فيها مشهورة
ثم قال تعالى وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ وفيه مسألتان

المسألة الأولى قال المفسرون إنه صح أن أولئك الأقوام كانوا يتناجون فيما بينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك فلما أكثروا ذلك شكا المسلمون ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وقوله وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ يحتمل وجهين أحدهما أن الإثم والعدوان هو مخالفتهم للرسل في النهي عن النجوى لأن الإقدام على المنهي يوجب الإثم والعدوان سيما إذا كان ذلك الإقدام لأجل المناصبة وإظهار التمرد والثاني أن الإثم والعدوان هو ذلك السر الذي كان يجري بينهم لأنه إما مكر وكيد بالمسلمين أو شيء يسوءهم
المسألة الثانية قرأ حمزة وحده ( ويتنجون ) بغير ألف والباقون يتناجون قال أبو علي ينتجون يفتعلون من النجوى والنجوى مصدر كالدعوى والعدوى فينتجون ويتناجون واحد فإن يفتعلون ويتفاعلون قد يجريان مجرى واحد كما يقال ازدوجوا واعتوروا وتزاوجوا وتعاوروا وقوله تعالى أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا ( الأعراف 38 ) وادركوا فادركوا افتعلوا وادركوا تفاعلوا وحجة من قرأ يتناجون قوله ءامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ ( المجادلة 12 ) وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى ( المجادلة 9 ) فهذا مطاوع ناجيتم وليس في هذا رد لقراءة حمزة ينتجون لأن هذا مثله في الجواز وقوله تعالى أَلَمْ تَرَ قال صاحب الكشاف قرىء ( ومعصيات الرسول ) والقولان ههنا كما ذكرناه في الإثم والعدوان وقوله وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ يعني أنهم يقولون في تحيتك السام عليك يا محمد والسام الموت والله تعالى يقول وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ( النمل 59 ) و اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ و مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ ثم ذكر تعالى أنهم يَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ يعني أنهم يقولون في أنفسهم إنه لو كان رسولاً فلم لا يعذبنا الله بهذا الاستخفاف
ثم قال تعالى حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ والمعنى أن تقدم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة أو بحسب المصلحة فإذا لم يقتض المشيئة تقديم العذاب ولم يقتض الصلاح أيضاً ذلك فالعذاب في القيامة كافيهم في الردع عما هم عليه
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَة ِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
قوله تعالى الْمَصِيرُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَة ِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى
اعلم أن المخاطبين بقوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ قولين وذلك لأنا إن حملنا قوله فيما تقدم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ( المجادلة 8 ) على اليهود حملنا في هذه الآية قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ على المنافقين أي يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم وإن حملنا ذلك على جميع الكفار من اليهود والمنافقين حملنا هذا على المؤمنين وذلك لأنه تعالى لما ذم اليهود والمنافقين على التناجي بالإثم والعدوان ومعصية

الرسول أتبعه بأن نهى أصحابه المؤمنين أن يسلكوا مثل طريقتهم فقال فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإثْمِ وهو ما يقبح مما يخصهم وَالْعُدْوَانِ وهو يؤدي إلى ظلم الغير أَلَمْ تَرَ وهو ما يكون خلافاً عليه وأمرهم أن يتناجوا بالبر الذي يضاد العدوان وبالتقوى وهو ما يتقي به من النار من فعل الطاعات وترك المعاصي واعلم أن القوم متى تناجوا بما هذه صفته قلت مناجاتهم لأن ما يدعو إلى مثل هذا الكلام يدعو إظهاره وذلك يقرب من قوله لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَة ٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ( النساء 114 ) وأيضاً فمتى عرفت طريقة الرجل في هذه المناجاة لم يتأذ من مناجاته أحد
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي إلى حيث يحاسب ويجازي وإلا فالمكان لا يجوز على الله تعالى
إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
قوله تعالى إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ الألف واللام في لفظ النَّجْوَى لا يمكن أن يكون للاستغراق لأن في النجوى ما يكون من الله ولله بل المراد منه المعهود السابق وهو النجوى بالإثم والعدوان والمعنى أن الشيطان يحملهم على أن يقدموا على تلك النجوى التي هي سبب لحزن المؤمنين وذلك لأن المؤمنين إذا رأوهم متناجين ثالوا ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا إلى الغزوات أنهم قتلوا وهزموا ويقع ذلك في قلوبهم ويحزنون له
ثم قال تعالى وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وفيه وجهان أحدهما ليس يضر التناجي بالمؤمنين شيئاً والثاني الشيطان ليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله وقوله إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فقيل بعلمه وقيل بخلقه وتقديره للأمراض وأحوال القلب من الحزن والفرح وقيل بأن يبين كيفية مناجاة الكفار حتى يزول الغم
ثم قال وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإن من توكل عليه لا يخيب أمله ولا يبطل سعيه
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
قوله تعالى الْمُؤْمِنُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما نهى عباده المؤمنين عما يكون سبباً للتباغض والتنافر أمرهم الآن بما يصير سبباً لزيادة المحبة والمودة وقوله تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض من قولهم افسح عني أي تنح ولا تتضاموا يقال بلدة فسيحة ومفازة فسيحة ولك فيه فسحة أي سعة
المسألة الثانية قرأ الحسن وداود بن أبي هند ( تفاسحوا ) قال ابن جني هذا لائق بالغرض لأنه إذا قيل ( تفسحوا ) فمعناه ليكن هناك تفسح وأما التفاسح فتفاعل والمراد ههنا المفاعلة فإنها تكون لما فوق الواحد كالمقاسمة والمكايلة وقرىء فِى الْمَجَالِسِ قال الواحدي والوجه التوحيد لأن المراد مجلس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو واحد ووجه الجمع أن يجعل لكل جالس مجلس على حدة أي موضع جلوس

المسألة الثالثة ذكروا في الآية أقوالاً الأول أن المراد مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يتضامون فيه تنافساً على القرب منه وحرصاً على استماع كلامه وعلى هذا القول ذكروا في سبب النزول وجوهاً الأول قال مقاتل بن حيان كان عليه السلام يوم الجمعة في الصفة وفي المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ينتظرون أن يوسع لهم فعرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما يحملهم على القيام وشق ذلك على الرسول فقال لمن حوله من غير أهل بدر قم يا فلان قم يا فلان فلم يزل يقيم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه وشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرفت الكراهية في وجوههم وطعن المنافقون في ذلك وقالوا والله ما عدل على هؤلاء إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه فنزلت هذه الآية يوم الجمعة الثاني روى عن ابن عباس أنه قال نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن الشماس وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم وكان يريد القرب من الرسول عليه الصلاة والسلام للوقر الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينه كلام ووصف للرسول محبة القرب منه ليسمع كلامه وإن فلاناً لم يفسح له فنزلت هذه الآية وأمر القوم بأن يوسعوا ولا يقوم أحد لأحد الثالث أنهم كانوا يحبون القرب من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان الرجل منهم يكره أن يضيق عليه فربما سأله أخوه أن يفسح له فيأبى فأمرهم الله تعالى بأن يتعاطفوا ويتحملوا المكروه وكان فيهم من يكره أن يمسه الفقراء وكان أهل الصفة يلبسون الصوف ولهم روائح القول الثاني وهو اختيار الحسن أن المراد تفسحوا في مجالس القتال وهو كقوله مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ( آل عمران 121 ) وكان الرجل يأتي الصف فيقول تفسحوا فيأبون لحرصهم على الشهادة والقول الثالث أن المراد جميع المجالس والمجامع قال القاضي والأقرب أن المراد منه مجلس الرسول عليه السلام لأنه تعالى ذكر المجلس على وجه يقتضي كونه معهوداً والمعود في زمان نزول الآية ليس إلا مجلس الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الذي يعظم التنافس عليه ومعلوم أن للقرب منه مزية عظيمة لما فيه من سماع حديثه ولما فيه من المنزلة ولذلك قال عليه السلام ( ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ) ولذلك كان يقدم الأفاضل من أصحابه وكانوا لكثرتهم يتضايقون فأمروا بالتفسح إذا أمكن لأن ذلك أدخل في التحبب وفي الاشتراك في سماع مالا بد منه في الدين وإذا صح ذلك في مجلسه فحال الجهاد ينبغي أن يكون مثله بل ربما كان أولى لأن الشديد البأس قد يكون متأخراً عن الصف الأول والحاجة إلى تقدمه ماسة فلا بد من التفسح ثم يقاس على هذا سائر مجالس العلم والذكر
أما قوله تعالى يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ فهو مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة
واعلم أن هذه الآية دلت على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه ولذلك قال عليه السلام ( لا يزال الله في عون العبد ما زال العبد في عون أخيه المسلم )

ثم قال تعالى ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس إذا قيل لكم ارتفعوا فارتفعوا واللفظ يحتمل وجوهاً أحدها إذا قيل لكم قوموا للتوسعة على الداخل فقوموا وثانيها إذا قيل قوموا من عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا تطولوا في الكلام فقوموا ولا تركزوا معه كما قال وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِى ّ ( الأحزاب 53 ) وهو قول الزجاج وثالثها إذا قيل لكم قوموا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير وتأهبوا له فاشتغلوا به وتأهبوا له ولا تتثاقلوا فيه قال الضحاك وابن زيد إن قوماً تثاقلوا عن الصلاة فأمروا بالقيام لها إذا نودي
المسألة الثانية قرىء انشُزُواْ بكسر الشين وبضمها وهما لغتان مثل يَعْكُفُونَ و يَعْكُفُونَ ( الأعراف 138 ) و يَعْرِشُونَ و يَعْرِشُونَ ( الأعراف 137 )
واعلم أنه تعالى لما نهاهم أولاً عن بعض الأشياء ثم أمرهم ثانياً ببعض الأشياء وعدهم على الطاعات فقال يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامر رسوله والعالمين منهم خاصة درجات ثم في المراد من هذه الرفعة قولان الأول وهو القول النادر أن المراد به الرفعة في مجلس الرسول عليه السلام والثاني وهو القول المشهور أن المراد منه الرفعة في درجات الثواب ومراتب الرضوان
واعلم أنا أطنبنا في تفسير قوله تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) في فضيلة العلم وقال القاضي لا شبهة أن علم العالم يقتضي لطاعته من المنزلة مالا يحصل للمؤمن ولذلك فإنه يقتدى بالعلم في كل أفعاله ولا يقتدى بغير العالم لأنه يعلم من كيفية الاحتراز عن الحرام والشبهات ومحاسبة النفس مالا يعرفه الغير ويعلم من كيفية الخشوع والتذلل في العبادة مالا يعرفه غيره ويعلم من كيفية التوبة وأوقاتها وصفاتها مالا يعرفه غيره ويتحفظ فيما يلزمه من الحقوق مالا يتحفظ منه غيره وفي الوجوه كثرة لكنه كما تعظم منزلة أفعاله من الطاعات في درجة الثواب فكذلك يعظم عقابه فيما يأتيه من الذنوب لمكان علمه حتى لا يمتنع في كثير من صغائر غيره أن يكون كبيراً منه
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَى ْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة ً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى هذا التكليف يشتمل على أنواع من الفوائد أولها إعظام الرسول عليه السلام وإعظام مناجاته فإن الإنسان إذا وجد الشيء مع المشقة استعظمه وإن وجده بالسهولة استحقره وثانيها

نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة قبل المناجاة وثالثها قال ابن عباس إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى شقوا عليه وأراد الله أن يخفف عن نبيه فلما نزلت هذه الآية شح كثير من الناس فكفوا عن المسألة ورابعها قال مقالت بن حيان إن الأغنياء غلبوا الفقراء على مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وأكثروا من مناجاته حتى كره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) طول جلوسهم فأمر الله بالصدقة عند المناجاة فأما الأغنياء فامتنعوا وأما الفقراء فلم يجدوا شيئاً واشتاقوا إلى مجلس الرسول عليه السلام فتمنوا أن لو كانوا يملكون شيئاً فينفقونه ويصلون إلى مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعند هذا التكليف ازدادت درجة الفقراء عند الله وانحطت درجة الأغنياء وخامسها يحتمل أن يكون المراد منه التخفيف عليه لأن أرباب الحاجات كانوا يلحون على الرسول ويشغلون أوقاته التي هي مقسومة على الإبلاغ إلى الأمة وعلى العبادة ويحتمل أنه كان في ذلك ما يشغل قلب بعض المؤمنين لظنه أن فلاناً إنما ناجى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأمر يقتضي شغل القلب فيما يرجع إلى الدنيا وسادسها أنه يتميز به محب الآخرة عن محب الدنيا فإن المال محك الدواعي
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أن تقديم الصدقة كان واجباً لأن الأمر للوجوب ويتأكد ذلك بقوله في آخر الآية فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه ومنهم من قال إن ذلك ما كان واجباً بل كان مندوباً واحتج عليه بوجهين الأول أنه تعالى قال ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض والثاني أنه لو كان ذلك واجباً لما أزيل وجوبه بكلام متصل به وهو قوله أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ ( المجادلة 13 ) إلى آخر الآية والجواب عن الأول أن المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر فالواجب أيضاً يوصف بذلك والجواب عن الثاني أنه لا يلزم من كون الآيتين متصلتين في التلاوة كونهما متصلتين في النزول وهذا كما قلنا في الآية الدالة على وجوب الاعتداد بأربعة أشهر وعشراً إنها ناسخة للاعتداد بحول وإن كان الناسخ متقدماً في التلاوة على المنسوخ ثم اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ فقال الكلبي ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من النهار ثم نسخ وقال مقاتل بن حيان بقي ذلك التكليف عشرة أيام ثم نسخ
المسألة الثالثة روي عن علي عليه السلام أنه قال إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم فكلما ناجيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قدمت بين يدي نجواي درهماً ثم نسخت فلم يعمل بها أحد وروي عن ابن جريج والكلبي وعطاء عن ابن عباس أنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجه أحد إلا علي عليه السلام تصدق بدينار ثم نزلت الرخصة قال القاضي والأكثر في الروايات أنه عليه السلام تفرد بالتصدق قبل مناجاته ثم ورد النسخ وإن كان قد روي أيضاً أن أفاضل الصحابة وجدوا الوقت وما فعلوا ذلك وإن ثبت أنه اختص بذلك فلأن الوقت لم يتسع لهذا الغرض وإلا فلا شبهة أن أكابر الصحابة لا يقعدون عن مثله وأقول على تقدير أن أفاضل الصحابة وجدوا الوقت وما فعلوا ذلك فهذا لا يجر إليهم طعناً وذلك الإقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير فإنه لا يقدر على مثله فيضيق قلبه ويوحش قلب الغني فإنه لما لم يفعل الغني ذلك وفعله غيره صار ذلك الفعل سبباً للطعن فيمن لم يفعل فهذا الفعل لما كان سبباً لحزن الفقراء ووحشة الأغنياء لم يكن في تركه كبير مضرة لأن الذي يكون سبباً للألفة أولى مما يكون سبباً للوحشة وأيضاً فهذه المناجاة ليست من الواجبات

ولا من الطاعات المندوبة بل قد بينا أنهم إنما كلفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة ولما كان الأولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة لم يكن تركها سبباً للطعن
المسألة الرابعة روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال لما نزلت الآية دعاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( ما تقول في دينار قلت لا يطيقونه قال كم قلت حبة أو شعيرة قال إنك لزهيد ) والمعنى إنك قليل المال فقدرت على حسب حالك
أما قوله تعالى ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ أي ذلك التقديم في دينكم وأطهر لأن الصدقة طهرة
أما قوله فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فالمراد منه الفقراء وهذا يدل على أن من لم يجد ما يتصدق به كان معفواً عنه
المسألة الخامسة أنكر أبو مسلم وقوع النسخ وقال إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات وإن قوماً من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقياً فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين فأمر بتقديم الصدقة على النجوى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيماناً حقيقياً عمن بقي على نفاقه الأصلي وإذا كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت لا جرم يقدر هذا التكليف بذلك الوقت وحاصل قول أبي مسلم أن ذلك التكليف كان مقدراً بغاية مخصوصة فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة فلا يكون هذا نسخاً وهذا الكلام حسن ما به بأس والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله أَءشْفَقْتُمْ ومنهم من قال إنه منسوخ بوجوب الزكاة
أَءَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَى ْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلواة َ وَءَاتُواْ الزَّكَواة َ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
والمعنى أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من إنفاق المال فإذ لم تفعلوا ما أمرتم به وتاب الله عليكم ورخص لكم في أن لا تفعلوه فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات فإن قيل ظاهر الآية يدل على تقصير المؤمنين في ذلك التكليف وبيانه من وجوه أولها قوله أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ وهو يدل على تقصيرهم وثانيها قوله فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وثالثها قوله وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قلنا ليس الأمر كما قلتم وذلك لأن القوم لما كلفوا بأن يقدموا الصدقة ويشغلوا بالمناجاة فلا بد من تقديم الصدقة فمن ترك

المناجاة يكون مقصراً وأما لو قيل بأنهم ناجوا من غير تقديم الصدقة فهذا أيضاً غير جائز لأن المناجاة لا تمكن إلا إذا مكن الرسول من المناجاة فإذا لم يمكنهم من ذلك لم يقدروا على المناجاة فعلمنا أن الآية لا تدل على صدور التقصير منهم فأما قوله أَءشْفَقْتُمْ فلا يمتنع أن الله تعالى علم ضيق صدر كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب فقال هذا القول وأما قوله وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فليس في الآية أنه تاب عليكم من هذا التقصير بل يحتمل أنكم إذا كنتم تائبين راجعين إلى الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة فقد كفاكم هذا التكليف أما قوله وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ يعني محيط بأعمالكم ونياتكم
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وينقلون إليهم أسرار المؤمنين مَّا هُم مّنكُمْ أيها المسلمون ولا من اليهود وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ والمراد من هذا الكذب إما ادعاؤهم كونهم مسلمين وإما أنهم كانوا يشتمون الله ورسوله ويكيدون المسلمين فإذا قيل لهم إنكم فعلتم ذلك خافوا على أنفسهم من القتل فيحلفون أنا ما قلنا ذلك وما فعلناه فهذا هو الكذب الذي يحلفون عليه
واعلم أن هذه الآية تدل على فساد قول الجاحظ إن الخبر الذي يكون مخالفاً للمخبر عنه إنما يكون كذباً لو علم المخبر كون الخبر مخالفاً للمخبر عنه وذلك لأن لو كان الأمر على ما ذهب إليه لكان قوله وَهُمْ يَعْلَمُونَ تكراراً غير مقيد يروى أن عبد الله بن نبتل المنافق كان يجالس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم يرفع حديثه إلى اليهود فبينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في حجرته إذ قال يدخل عليكم رجل ينظر بعين شيطان أو بعيني شيطان فدخل رجل عيناه زرقاوان فقال له لم تسبني فجعل يحلف فنزل قوله وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
والمراد منه عند بعض المحققين عذاب القبر
ثم قال تعالى
اتَّخَذْوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّة ً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ الحسن اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ بكسر الهمزة قال ابن جني هذا على حذف المضاف أي اتخذوا ظهار إيمانهم جنة عن ظهور نفاقهم وكيدهم للمسلمين أو جنة عن أن يقتلهم المسلمون فلما أمنوا من القتل اشتغلوا بصد الناس عن الدخول في الإسلام بإلقاء الشبهات في القلوب وتقبيح حال الإسلام

المسألة الثانية قوله تعالى فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ أي عذاب الآخر وإنما حملنا قوله أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً على عذاب القبر وقوله ههنا فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ على عذاب الآخر لئلا يلزم التكرار ومن الناس من قال المراد من الكل عذاب الآخرة وهو كقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ( النحل 88 )
لَّن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
روي أن واحداً منهم قال لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا فنزلت هذه الآية
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَى ْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ
قال ابن عباس إن المنافق يحلف لله يوم القيامة كذباً كما يحلف لأوليائه في الدنيا كذباً أما الأول فكقوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) وأما الثاني فهو كقوله وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ ( البقرة 56 ) والمعنى أنهم لشدة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنه يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب فكان هذا الحلف الذميم يبقى معهم أبداً وإليه الإشارة بقوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 ) قال الجبائي والقاضي إن أهل الآخرة لا يكذبون فالمراد من الآية أنهم يحلفون في الآخرة أنا ما كنا كافرين عند أنفسنا وعلى هذا الوجه لا يكون هذا الحلف كذباً وقوله أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ أي في الدنيا واعلم أن تفسير الآية بهذا الوجه لا شك أنه يقتضي ركاكة عظيمة في النظم وقد استقصينا هذه المسألة في سورة الأنعام في تفسير قوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 )
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَائِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ
قال الزجاج استحوذ في اللغة استولى يقال حاوزت الإبل وحذتها إذا استوليت عليها وجمعتها قال المبرد استحوذ على الشيء حواه وأحاط به وقالت عائشة في حق عمر كان أحوذياً أي سائساً ضابطاً للأمور وهو أحد ما جاء على الأصل نحو استصوب واستنوق أي ملكهم الشيطان واستولى عليهم ثم قال فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ واحتج القاضي به في خلق الأعمال من وجهين الأول ذلك النسيان لو حصل بخلق الله لكانت إضافتها إلى الشيطان كذباً والثاني لو حصل ذلك بخلق الله لكانوا كالمؤمنين في كونهم حزب الله لا حزب الشيطان
ثم قال تعالى
إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ فِى الاٌّ ذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لاّغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِى ٌّ عَزِيزٌ
أي في جملة من هو أذل خلق الله لأن ذل أحد الخصمين على حسب عز الخصم الثاني فلما كانت عزة الله غير متناهية كانت ذلة من ينازعه غير متناهية أيضاً ولما شرح ذلهم بين عز المؤمنين

فقال كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر أَنَاْ وَرُسُلِى بفتح الياء والباقون لا يحركون قال أبو علي التحريك والإسكان جميعاً جائزان
المسألة الثانية غلبة جميع الرسل بالحجة مفاضلة إلا أن منهم من ضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالسيف ومنهم من لم يكن كذلك ثم قال إِنَّ اللَّهَ قَوِى ٌّ على نصرة أنبيائه عَزِيزٌ غالب لا يدفعه أحد عن مراده لأن كل ما سواه ممكن الوجود لذاته والواجب لذاته يكون غالباً للممكن لذاته قال مقاتل إن المسلمين قالوا إنا لنرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم فقال عبد الله بن أبي أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتموهم كلا والله إنهم أكثر جمعاً وعدة فأنزل الله هذه الآية
لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَائِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَائِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
المعنى أنه لا يجتمع الإيمان مع وداد أعداء الله وذلك لأن من أحب أحداً امتنع أن يحب مع ذلك عدوه وهذا على وجهين أحدهما أنهما لا يجتمعان في القلب فإذا حصل في القلب وداد أعداء الله لم يحصل فيه الإيمان فيكون صاحبه منافقاً والثاني أنهما يجتمعان ولكنه معصية وكبيرة وعلى هذا الوجه لا يكون صاحب هذا الوداد كافراً بسبب هذا الوداد بل كان عاصياً في الله فإن قيل أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالطتهم ومعاشرتهم فما هذه المودة المحرمة المحظورة قلنا المودة المحظورة هي إرادة منافسه ديناً ودنيا مع كونه كافراً فأما ما سوى ذلك فلا حظر فيه ثم إنه تعالى بالغ في المنع من هذه المودة من وجوه أولها ما ذكر أن هذه المودة مع الإيمان لا يجتمعان وثانيها قوله وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ والمراد أن الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع الميل ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مغلوباً مطروحاً بسبب الدين قال ابن عباس نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد وعمر بن لخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر وأبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز فقال النبي عليه الصلاة والسلام ( متعنا بنفسك ) ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير وعلي بن أبي طالب وعبيدة قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يوم بدر أخبر أن هؤلاء لم يوادوا أقاربهم

وعشائرهم غضباً لله ودينه وثالثها أنه تعالى عدد نعمه على المؤمنين فبدأ بقوله أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المعنى أن من أنعم الله عليه بهذه النعمة العظيمة كيف يمكن أن يحصل في قلبه مودة أعداء الله واختلفوا في المراد من قوله كِتَابَ أما القاضي فذكر ثلاثة أوجه على وفق قول المعتزلة أحدها جعل في قلوبهم علامة تعرف بها الملائكة ما هم عليه من الإخلاص وثانيها المراد شرح صدورهم للإيمان بالألطاف والتوفيق وثالثها قيل في كِتَابَ قضى أن قلوبهم بهذا الوصف واعلم أن هذه الوجوه الثلاثة نسلمها للقاضي ونفرع عليها صحة قولنا فإن الذي قضى الله به أخبر عنه وكتبه في اللوح المحفوظ لو لم يقع لانقلب خبر الله الصدق كذباً وهذا محال والمؤدي إلى المحال محال وقال أبو علي الفارسي معناه جمع والكتيبة الجمع من الجيش والتقدير أولئك الذين جمع الله في قلوبهم الإيمان أي استكملوا فلم يكونوا ممن يقولون نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ( النساء 150 ) ومتى كانوا كذلك امتنع أن يحصل في قلوبهم مودة الكفار وقال جمهور أصحابنا كِتَابَ معناه أثبت وخلق وذلك لأن الإيمان لا يمكن كتبه فلا بد من حمله على الإيجاد والتكوين
المسألة الثانية روى المفضل عن عاصم كِتَابَ على فعل مالم يسم فاعله والباقون كِتَابَ على إسناد الفعل إلى الفاعل والنعمة الثانية قوله وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وفيه قولان الأول قال ابن عباس نصرهم على عدوهم وسمى تلك النصرة روحاً لأن بها يحيا أمرهم والثاني قال السدي الضمير في قوله مِنْهُ عائد إلى الإيمان والمعنى أيدهم بروح من الإيمان يدل عليه قوله وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) النعمة الثالثة وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وهو إشارة إلى نعمة الجنة النعمة الرابعة قوله تعالى رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وهي نعمة الرضوان وهي أعظم النعم وأجل المراتب ثم لما عدد هذه النعم ذكر الأمر الرابع من الأمور التي توجب ترك الموادة مع أعداء الله فقال أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وهو في مقابلة قوله فيهم أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ ( المجادلة 19 )
واعلم أن الأكثرين اتفقوا على أن قوله لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما أراد فتح مكة وتلك القصة معروفة وبالجملة فالآية زجر عن التودد إلى الكفار والفساق
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يقول ( اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت لاَّ تَجِدُ قَوْماً إلى آخره ) والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيد المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين

سورة الحشر
وهي عشرون وأربع آيات مدنية
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لاِوَّلِ الْحَشْرِ صالح بنو النضير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أن لا يكونوا عليه ولا له فلما ظهر يوم بدر قالوا هو النبي المنعوت في التوراة بالنصر فلما هزم المسلمون يوم أحد تابوا ونكثوا فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة وحالفوا أبا سفيان عند الكعبة فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعباً غيلة وكان أخاه من الرضاعة ثم صحبهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف فقال لهم أخرجوا من المدينة فقالوا الموت أحب إلينا من ذلك فتنادوا بالحرب وقيل استمهلوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشرة أيام ليتجهزوا للخروج فبعث إليهم عبد الله بن أبي وقال لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ولئن خرجتم لنخرجن معكم فحصنوا الأزقة فحاصرهم إحدى وعشرون ليلة فلما قذف الله في قلوبهم الرعب وآيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح فأبى إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم فجلوا إلى الشأم إلى أريحاء وأزرعات إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة وههنا سؤالات
السؤال الأول ما معنى هذه اللام في قوله لاِوَّلِ الْحَشْرِ الجواب إنها هي اللام في قولك جئت لوقت كذا والمعنى أخرج الذين كفروا عند أول الحشر السؤال الثاني ما معنى أول الحشر الجواب أن الحشر هو أخراج الجمع من مكان إلى مكان وإما أنه لم سمي هذا الحشر بأول الحشر فبيانه من وجوه أحدها وهو قول ابن عباس والأكثرين إن هذا أول حشر أهل الكتاب أي أول مرة حشروا وأخرجوا من جزيرة العرب لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك لأنهم

كانوا أهل منعة وعز وثانيها أنه تعالى جعل إخراجهم من المدينة حشراً وجعله أول الحشر من حيث يحشر الناس للساعة إلى ناحية الشام ثم تدركهم الساعة هناك وثالثها أن هذا أول حشرهم وأما آخر حشرهم فهو إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام ورابعها معناه أخرجهم من ديارهم لأول ما يحشرهم لقتالهم لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله وخامسها قال قتادة هذا أول الحشر والحشر الثاني نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا وذكروا أن تلك النار ترى بالليل ولا ترى بالنهار
هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لاًّوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى الاٌّ بْصَارِ
قوله تعالى مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ
قال ابن عباس إن المسلمين ظنوا أنهم لعزتهم وقوتهم لا يحتاجون إلى أن يخرجوا من ديارهم وإنما ذكر الله تعالى ذلك تعظيماً لهذه النعمة فإن النعمة إذا وردت على المرء والظن بخلافه تكون أعظم فالمسلمون ما ظنوا أنهم يصلون إلى مرادهم في خروج هؤلاء اليهود فيتخلصون من ضرر مكايدهم فلما تيسر لهم ذلك كان توقع هذه النعمة أعظم
قوله تعالى وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ اللَّهِ
قالوا كانت حصونهم منيعة فظنوا أنها تمنعهم من رسول الله وفي الآية تشريف عظيم لرسول الله فإنها تدل على أن معاملتهم مع رسول الله هي بعينها نفس المعاملة مع الله فإن قيل ما الفرق بين قولك ظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم وبين النظم الذي جاء عليه قلنا في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم وفي تصيير ضميرهم إسماً وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالون بأحد يطمع في منازعتهم وهذه المعاني لا تحصل في قولك وظنوا أن حصونهم تمنعهم
قوله تعالى فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ في الآية مسائل
المسألة الأولى في الآية وجهان الأول أن يكون الضمير في قوله فَأَتَاهُمُ عائد إلى اليهود أي فأتاهم عذاب الله وأخذهم من حيث لم يحتسبوا والثاني أن يكون عائداً إلى المؤمنين أي فأتاهم نصر الله وتقويته من حيث لم يحتسبوا ومعنى لم يحتسبوا أي لم يظنوا ولم يخطر ببالهم وذلك بسبب أمرين أحدهما قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد أخيه غيلة وذلك مما أضعف قوتهم وفتت عضدهم وقل من شوكتهم والثاني بما قذف في قلوبهم من الرعب
المسألة الثانية قوله فَاتَاهُمُ اللَّهُ لا يمكن إجراؤه على ظاهره باتفاق جمهور العقلاء فدل على أن باب التأويل مفتوح وأن صرف الآيات عن ظواهرها بمقتضى الدلائل العقلية جائز
المسألة الثالثة قال صاحب الكشاف قرىء فَاتَاهُمُ اللَّهُ أي فآتاهم الهلاك واعلم أن هذه القراءة لا تدفع ما بيناه من وجوه التأويل لأن هذه القراءة لا تدفع القراءة الأولى فإنها ثابتة بالتواتر ومتى كانت ثابتة بالتواتر لا يمكن دفعها بل لا بد فيها من التأويل

قوله تعالى وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ قال أهل اللغة الرعب الخوف الذي يستوعب الصدر أي يملؤه وقذفه إثباته فيه وفيه قالوا في صفة الأسد مقذف كأنما قذف باللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه واعلم أن هذه الآية تدل على قولنا من أن الأمور كلها لله وذلك لأن الآية دلت على أن وقوع ذلك الرعب في قلوبهم كان من الله ودلت على أن ذلك الرعب سبباً في إقدامهم على بعض الأفعال وبالجملة فالفعل لا يحصل إلا عند حصول داعية متأكدة في القلب وحصول تلك الداعية لا يكون إلا من الله فكانت الأفعال بأسرها مسندة إلى الله بهذا الطريق
قوله تعالى يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو علي قرأ أبو عمرو وحده يُخْرِبُونَ مشددة وقرأ الباقون يُخْرِبُونَ خفيفة وكان أبو عمرو يقول الإخراب أن يترك الشيء خراباً والتخريب الهدم وبنو النضير خربوا وما أخربوا قال المبرد ولا أعلم لهذا وجهاً ويخربون هو الأصل خرب المنزل فإنما هو تكثير لأنه ذكر بيوتاً تصلح للقليل والكثير وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في الكلام فيجري كل واحد مجرى الآخر نحو فرحته وأفرحته وحسنه الله وأحسنه وقال الأعمش وأخربت من أرض قوم دياراً
وقال الفراء يُخْرِبُونَ بالتشديد يهدمون وبالتخفيف يخربون منها ويتركونها
المسألة الثانية ذكر المفسرون في بيان أنهم كيف كانوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين وجوهاً أحدها أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا مساكنهم ومنازلهم فجعلوا يخربونها من داخل والمسلمون من خارج وثانيها قال مقاتل إن المنافقين دسوا إليهم أن لا يخرجوا ودربوا على الأزقة وحصنوها فنقضوا بيوتهم وجعلوها كالحصون على أبواب الأزقة وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب وثالثها أن المسلمين إذا ظهروا على درب من دروبهم خربوه وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم وينقبونها من أدبارها ورابعها أن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد واليهود لما أيقنوا بالجلاء وكانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه أو الباب فيهدمون بيوتهم وينزعونها ويحملونها على الإبل فإن قيل ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين قلنا قال الزجاج لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم
قوله تعالى فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ
اعلم أنا قد تمسكنا بهذه الآية في كتاب ( المحصول من أصول الفقه ) على أن القياس حجة فلا نذكره

ههنا إلا أنه لا بد ههنا من بيان الوجه الذي أمر الله فيه بالاعتبار وفيه احتمالات أحدها أنهم اعتمدوا على حصونهم وعلى قوتهم وشوكتهم فأباد الله شوكتهم وأزال قوتهم ثم قال فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ولا تعتمدوا على شيء غير الله فليس للزاهد أن يتعمد على زهده فإن زهده لا يكون أكثر من زهد بلعام وليس للعالم أن يعتمد على علمه أنظر إلى ابن الراوندي مع كثرة ممارسته كيف صار بل لا اعتماد لأحد في شيء إلا على فضل الله ورحمته وثانيها قال القاضي المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الغدر والكفر والطعن في النبوة فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر والكفر في البلاء والجلاء والمؤمنين أيضاً يعتبرون به فيعدلون عن المعاصي
فإن قيل هذا الاعتبار إنما يصح لو قلنا إنهم غدروا وكفروا فعذبوا وكان السبب في ذلك العذاب هو الكفر والغدر إلا أن هذا القول فاسد طرداً وعكساً أما الطرد فلأنه رب شخص غدر وكفر وما عذب في الدنيا وأما العكس فلأن أمثال هذه المحن بل أشد منها وقعت للرسول عليه السلام ولأصحابه ولم يدل ذلك على سوء أديانهم وأفعالهم وإذا فسدت هذه العلة فقد بطل هذا الاعتبار وأيضاً فالحكم الثالث في الأصل هو أنهم يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ وإذا عللنا ذلك بالكفر والغدر يلزم في كل من غدر وكفر أن يخرب بيته بيده وبأيدي المسلمين ومعلوم أن هذا لا يصلح فعلمنا أن هذا الاعتبار غير صحيح والجواب أن الحكم الثابت في الأصل له ثلاث مراتب أولها كونه تخريباً للبيت بأيديهم وأيدي المؤمنين وثانيها وهو أعم من الأول كونه عذاباً في الدنيا وثالثها وهو أعم من الثاني كونه مطلق العذاب والغدر والكفر إنما يناسبان العذاب من حيث هو عذاب فأما خصوص كونه تخريباً أو قتلاً في الدنيا أو في الآخرة فذاك عديم الأثر فيرجع حاصل القياس إلى أن الذين غدروا وكفروا وكذبوا عذبوا من غير اعتبار أن ذلك العذاب كان في الدنيا أو في الآخرة والغدر والكفر يناسبان العذاب فعلمنا أن الكفر والغدر هما السببان في العذاب فأينما حصلا حصل العذاب من غير بيان أن ذلك العذاب في الدنيا أو في الآخرة ومتى قررنا القياس والاعتبار على هذا الوجه زالت المطاعن والنقوض وتم القياس على الوجه الصحيح
المسألة الثانية الاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد وسمي المعبر معبراً لأن به تحصل المجاوزة وسمي العلم المخصوص بالتعبير لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول وسميت الألفاظ عبارات لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع ويقال السعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ولهذا قال المفسرون الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها وفي قوله لَعِبْرَة ً لاِوْلِى الاْبْصَارِ وجهان الأول قال ابن عباس يريد يا أهل اللب والعقل والبصائر والثاني قال الفراء لَعِبْرَة ً لاِوْلِى الاْبْصَارِ يا من عاين تلك الواقعة المذكورة

وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ عَذَابُ النَّارِ
معنى الجلاء في اللغة الخروج من الوطن والتحول عنه فإن قيل أن لَوْلاَ تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره فيلزم من ثبوت الجلاء عدم التعذيب في الدنيا لكن الجلاء نوع من أنواع التعذيب فإذاً يلزم من ثبوت الجلاء عدمه وهو محال قلنا معناه ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا بالقتل كمافعل بإخوانهم بني قريظة وأما قوله وَلَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ عَذَابُ النَّارِ فهو كلام مبتدأ وغير معطوف على ما قبله إذ لو كان معطوفاً على ما قبله لزم أن لا يوجد لما بينا أن ( لولا ) تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
أما قوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فهو يقتضي أن علة ذلك التخريب هو مشاقة الله ورسوله فإن قيل لو كانت المشاقة علة لهذا التخريب لوجب أن يقال أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب ومعلوم أنه ليس كذلك قلنا هذا أحد ما يدل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها
ثم قال وَمَن يُشَاقّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ والمقصود منه الزجر
مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَة ٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَة ً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِى َ الْفَاسِقِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى مّن لّينَة ٍ بيان لِ مَا قَطَعْتُمْ ومحل مَا نصب بقطعتم كأنه قال أي شيء قطعتم وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لأنه في معنى اللينة
المسألة الثانية قال أبو عبيدة اللينة النخلة ما لم تكن عجوة أو برنية وأصل لينة لونة فذهبت الواو لكسرة اللام وجمعها ألوان وهي النخل كله سوى البرني والعجوة وقال بعضهم اللينة النخلة الكريمة كأنهم اشتقوها من اللين وجمعها لين فإن قيل لم خصت اللينة بالقطع قلنا إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشد
المسألة الثالثة قال صاحب الكشاف قرىء ( قوماً على أصلها ) وفيه وجهان أحدهما أنه جمع أصل كرهن ورهن واكتفى فيه بالضمة عن الواو وقرىء ( قائماً على أصوله ) ذهاباً إلى لفظ ما وقوله فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي قطعها بإذن الله وبأمره وَلِيُخْزِى َ الْفَاسِقِينَ أي ولأجل إخزاء الفاسقين أي اليهود أذن الله في قطعها
المسألة الرابعة روي أنه عليه الصلاة والسلام حين أمر أن يقطع نخلهم ويحرق قالوا يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها وكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء فنزلت هذه الآية والمعنى أن الله إنما أذن في ذلك حتى يزداد غيظ الكفار وتتضاعف حسرتهم بسبب نفاذ

حكم أعدائهم في أعز أموالهم
المسألة الخامسة احتج العلماء بهذه الآية على أن حصون الكفرة وديارهم لا بأس أن تهدم وتحرق وتغرق وترمى بالمجانيق وكذلك أشجارهم لا بأس بقلعها مثمرة كانت أو غير مثمرة وعن ابن مسعود قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال
المسألة السادسة روي أن رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون فسألهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال هذا تركتها لرسول الله وقال هذا قطعتها غيظاً للكفار فاستدلوا به على جواز الاجتهاد وعلى جوازه بحضرة الرسول
وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
قال المبرد يقال فاء يفيء إذا رجع وأفاءه الله إذا رده وقال الأزهري الفيء ما رده الله على أهل دينه من أموال من خالف أهل دينه بلا قتال إما بأن يجلوا عن أوطانهم ويخلوها للمسلمين أو يصالحوا على جزية يؤدونها عن رؤوسهم أو مال غير الجزية يفتدون به من سفك دمائهم كما فعله بنو النضير حين صالحوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أن لكل ثلاثة منهم حمل بعير مما شاءوا سوى السلاح ويتركوا الباقي فهذا المال هو الفيء وهو ما أفاء الله على المسلمين أي رده من الكفار إلى المسلمين وقوله مِنْهُمْ أي من يهود بني النضير قوله فَمَا أَوْجَفْتُمْ يقال وجف الفرس والبعير يجف وجفاً ووجيفاً وهو سرعة السير وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير السريع وقوله عَلَيْهِ أي على ما أفاء الله وقوله مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ الركاب ما يركب من الإبل واحدتها راحلة ولا واحد لها من لفظها والعرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير ويسمون راكب الفرس فارساً ومعنى الآية أن الصحابة طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم فذكر الله الفرق بين الأمرين وهو أن الغنيمة ما أتعبتم أنفسكم في تحصيلها وأوجفتم عليها الخيل والركاب بخلاف الفيء فإنكم ما تحملتم في تحصيله تعباً فكان الأمر فيه مفوضاً إلى الرسول يضعه حيث يشاء
ثم ههنا سؤال وهو أن أموال بني النضير أخذت بعد القتال لأنهم حوصروا أياماً وقاتلوا وقتلوا ثم صالحوا على الجلاء فوجب أن تكون تلك الأموال من جملة الغنيمة لا من جملة الفيء ولأجل هذا السؤال ذكر المفسرون ههنا وجهين الأول أن هذه الآية ما نزلت في قرى بني النضير لأنهم أوجفوا عليهم بالخيل والركاب وحاصرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمون بل هو في فدك وذلك لأن أهل فدك انجلوا عنه فصارت تلك القرى والأموال في يد الرسول عليه السلام من غير حرب فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ من غلة فدك نفقته ونفقة من يعوله ويجعل الباقي في السلاح والكراع فلما مات ادعت فاطمة عليها السلام أنه كان ينحلها فدكا فقال أبو بكر أنت أعز الناس علي فقراً وأحبهم إلي غنى لكني لا أعرف صحة قولك ولا يجوز أن أحكم بذلك فشهد لها أم أيمن ومولى للرسول عليه السلام فطلب منها أبو بكر الشاهد الذي يجوز قبول شهادته في الشرع فلم يكن فأجرى أبو بكر ذلك على ما كان يجريه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ينفق منه على من كان ينفق عليه الرسول ويجعل ما يبقى في السلاح والكراع وكذلك عمر جعله في يد علي ليجريه على هذا المجرى ورد ذلك في آخر عهد عمر إلى عمر وقال إن بنا غنى وبالمسلمين حاجة إليه وكان عثمان

رضي الله عنه يجريه كذلك ثم صار إلى علي فكان يجريه هذا المجرى فالأئمة الأربعة اتفقوا على ذلك والقول الثاني أن هذه الآية نزلت في بني النضير وقراهم وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة وإنما كانوا على ميلين من المدينة فمشوا إليها مشياً ولم يركب إلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان راكب جمل فلما كانت المقاتلة قليلة والخيل والركب غير حاصل أجراه الله تعالى مجرى مالم يحصل فيه المقاتلة أصلاً فخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بتلك الأموال ثم روى أنه قسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة ثم إنه تعالى ذكر حكم الفيء فقال
مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَى لاَ يَكُونَ دُولَة ً بَيْنَ الاٌّ غْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
قال صاحب الكشاف لم يدخل العاطف على هذه الجملة لأنها بيان للأولى فهي منها وغير أجنبية عنها واعلم أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله وَلِذِى الْقُرْبَى بنو هاشم وبنو المطلب قال الواحدي كان الفيء في زمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مقسوماً على خمسة أسهم أربعة منها لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة وكان الخمس الباقي يقسم على خمسة أسهم سهم منها لرسول الله أيضاً والأسهم الأربعة لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وأما بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فللشافعي فيما كان من الفيء لرسول الله قولان أحدهما أنه للمجاهدين المرصدين للقتال في الثغور لأنهم قاموا مقام رسول الله في رباط الثغور والقول الثاني أنه يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر يبدأ بالأهم فالأهم هذا في الأربعة أخماس التي كانت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأما السهم الذي كان له من خمس الفيء فإنه لمصالح المسلمين بلا خلاف وقوله تعالى كَى لاَ يَكُونَ دُولَة ً بَيْنَ الاْغْنِيَاء مِنكُمْ فيه مسائل
المسألة الأولى قال المبرد الدولة اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم يكون كذا مرة وكذا مرة والدولة بالفتح انتقال حال سارة إلى قوم عن قوم فالدولة بالضم اسم ما يتداول وبالفتح مصدر من هذا ويستعمل في الحالة السارة التي تحدث للإنسان فيقال هذه دولة فلان أي تداوله فالدولة اسم لما يتداول من المال والدولة اسم لما ينتقل من الحال ومعنى الآية كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها واقعاً في يد الأغنياء ودولة لهم
المسألة الثانية قرىء ( دولة ) و ( دولة ) بفتح الدال وضمها وقرأ أبو جعفر ( دولة ) مرفوعة الدال والهاء قال أبو الفتح يَكُونَ ههنا هي التامة كقوله وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ فَنَظِرَة ٌ ( البقرة 280 ) يعني كي لا يقع دولة جاهلية ثم قال وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ يعني ما أعطاكم الرسول من الفيء

فخذوه فهو لكم حلال وما نهاكم عن أخذه فانتهوا وَاتَّقُواْ اللَّهَ في أمر الفيء أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ على ما نهاكم عنه الرسول والأجود أن تكون هذه الآية عامة في كل ما آتى رسول الله ونهى عنه وأمر الفيء داخل في عمومه
لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ
اعلم أن هذا بدل من قوله وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ( الحشر 7 ) كأنه قيل أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء والمهاجرين الذين من صفتهم كذا وكذا ثم إنه تعالى وصفهم بأمور أولها أنهم فقراء وثانيها أنهم مهاجرون وثالثها أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم يعني أن كفار مكة أحوجوهم إلى الخروج فهم الذين أخرجوهم ورابعها أنهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً والمراد بالفضل ثواب الجنة وبالرضوان قوله وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ( التوبة 72 ) وخامسها قوله وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي بأنفسهم وأموالهم وسادسها قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ يعني أنهم لما هجروا لذات الدنيا وتحملوا شدائدها لأجل الدين ظهر صدقهم في دينهم وتمسك بعض العلماء بهذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه فقال هؤلاء الفقراء من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون لأبي بكر يا خليفة رسول الله والله يشهد على كونهم صادقين فوجب أن يكونوا صادقين في قولهم يا خليفة رسول الله ومتى كان الأمر كذلك وجب الجزم بصحة إمامته
ثم إنه تعالى ذكر الأنصار وأثنى عليهم حين طابت أنفسهم عن الفيء إذ للمهاجرين دونهم فقال
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَة ً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
والمراد من الدار المدينة وهي دار الهجرة تبوأها الأنصار قبل المهاجرين وتقدير الآية والذين تبوءوا المدينة والإيمان من قبلهم فإن قيل في الآية سؤالان أحدهما أنه لا يقال تبوأ الإيمان والثاني بتقدير أن يقال ذلك لكن الأنصار ما تبوءوا الإيمان قبل المهاجرين والجواب عن الأول من وجوه أحدها تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله ولقد رأيتك في الوغى
متقلداً سيفاً ورمحاً

وثانيها جعلوا الإيمان مستقراً ووطناً لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه كما أنهم لما سألوا سلمان عن نسبه فقال أنا ابن الإسلام وثالثها أنه سمى المدينة بالإيمان لأن فيها ظهر الإيمان وقوي والجواب عن السؤال الثاني من وجهين الأول أن الكلام على التقديم والتأخير والتقدير والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان والثاني أنه على تقدير حذف المضاف والتقدير تبوءوا الدار والإيمان من قبل هجرتهم ثم قال وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَة ً مّمَّا أُوتُواْ وقال الحسن أي حسداً وحرارة وغيظاً مما أوتي المهاجرون من دونهم وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحرارة لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة فأطلق اسم اللام على الملزوم على سبيل الكناية ثم قال وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ يقال آثره بكذا إذا خصه به ومفعول الإيثار محذوف والتقدير ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال للأنصار ( إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لكم من الغنيمة كما قسمت لهم وإن شئتم كان لهم الغنيمة ولكم دياركم وأموالكم فقالوا لا بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ولا نشاركهم في الغنيمة ) فأنزل الله تعالى وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ فبين أن هذا الإيثار ليس غنى عن المال ولكنه عن حاجة وخصاصة وهي الفقر وأصلها من الخصاص وهي الفرج وكل خرق في منخل أو باب أو سحاب أو برقع فهي خصاص الواحد خصاصة وذكر المفسرون أنواعاً من إيثار الأنصار للضيف بالطعام وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات ثم قال وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الشح بالضم والكسر وقد قرىء بهما
واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع فلما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال تعالى وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الظافرون بما أرادوا قال ابن زيد من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئاً أمره الله بإعطائه فقد وقى شح نفسه
وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
اعلم أن قوله وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ عطف أيضاً على المهاجرين وهم الذين هاجروا من بعد وقيل التابعون بإحسان وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة وذكر تعالى أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان وهو قوله يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ أي غشاً وحسداً وبغضاً
واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين لأنهم إما المهاجرون أ الأنصار أو الذين جاءوا من

بعدهم وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء كان خارجاً من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
قال المقاتلان يعني عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل ورفاعة بن زيد كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا يقولون لإخوانهم وهذه الأخوة تحتمل وجوهاً أحدها الأخوة في الكفر لأن اليهود والمنافقين كانوا مشتركين في عموم الكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها الأخوة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة وثالثها الأخوة بسبب ما بينهما من المشاركة في عداوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قالوا لليهود لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من المدينة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أي في خذلانكم أَحَداً أَبَداً ووعدوهم النصر أيضاً بقولهم وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ ثم إنه تعالى شهد على كونهم كاذبين في هذا القول فقال وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
ولما شهد على كذبهم على سبيل الإجمال أتبعه بالتفصيل فقال
لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاٌّ دْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
واعلم أنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها فعلم الموجودات في الأزمنة الثلاثة والمعدومات في الأزمنة الثلاثة وعلم في كل واحد من هذه الوجوه الستة أنه لو كان على خلاف ما وقع كيف كان يكون على ذلك التقدير فههنا أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا فهؤلاء المنافقون لا يخرجون معهم وقد كان الأمر كذلك لأن بني النضير لما أخرجوا لم يخرج معهم المنافقين وقوتلوا أيضاً فما نصروهم فأما قوله تعالى وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ فتقديره كما يقول المعترض الطاعن في كلام الغير لا نسلم أن الأمر كما تقول ولئن سلمنا أن الأمر كما تقول لكنه لا يفيد لك فائدة فكذا ههنا ذكر تعالى أنهم لا ينصرونهم وبتقدير أن ينصروا إلا أنهم لا بد وأن يتركوا تلك النصرة وينهزموا ويتركوا أولئك المنصورين

في أيدي الأعداء ونظير هذه الآية قوله وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فأما قوله ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ففيه وجهان الأول أنه راجع إلى المنافقين يعني لينهز من المنافقون ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ بعد ذلك أي يهلكهم الله ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم والثاني لينهزمن اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين
ثم ذكر تعالى أن خوف المنافقين من المؤمنين أشد من خوفهم من الله تعالى فقال
لاّنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَة ً فِى صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
أي لا يعلمون عظمة الله حتى يخشوه حق خشيته
لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَة ٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ
ثم قال تعالى لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَة ٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ يريد أن هؤلاء اليهود والمنافقين لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين إلا إذا كانوا في قرى محصنة بالخنادق والدروب أو من وراء جدر وذلك بسبب أن الله ألقى في قلوبهم الرعب وأن تأييد الله ونصرته معكم وقرىء جُدُرٍ بالتخفيف وجدار وجدر وجدر وهما الجدار
ثم قال تعالى بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ وفيه ثلاثة أوجه أحدها يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما يكون إذا كان بعضهم مع بعض فأما إذا قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة لأن الشجاع يجبن والعز يذل عند محاربة الله ورسوله وثانيها قال مجاهد المعنى أنهم إذا اجتمعوا يقولون لنفعلن كذا وكذا فهم يهددون المؤمنين ببأس شديد من وراء الحيطان والحصون ثم يحترزون عن الخروج للقتال فبأسهم فيما بينهم شديد لا فيما بينهم وبين المؤمنين وثالثها قال ابن عباس معناه بعضهم عدو للبعض والدليل على صحة هذا التأويل قوله تعالى تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى يعني تحسبهم في صورتهم مجتمعين على الألفة والمحبة أما قلوبهم فشتى لأن كل أحد منهم على مذهب آخر وبينهم عداوة شديدة وهذا تشجيع للمؤمنين على قتالهم وقوله ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ فيه وجهان الأول أن ذلك بسبب أنهم قوم لا يعقلون ما فيه الحظ لهم والثاني لا يعقلون أن تشيت القلوب مما يوهن قواهم
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
أي مثلهم كمثل أهل بدر في زمان قريب فإن قيل بم انتصب قَرِيبًا قلنا بمثل والتقدير كوجود مثل أهل بدر قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ أي سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله من قولهم كلأ وبيل أي وخيم سيىء العاقبة يعني ذاقوا عذاب القتل في الدنيا وَلَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ عَذَابُ أَلِيمٌ

ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلاً فقال
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّنكَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
أي مثل المنافقين الذين غروا بني النضير بقولهم لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ( الحشر 11 ) ثم خذلوهم وما وفوا بعهدهم كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ ثم تبرأ منه في العاقبة والمراد إما عموم دعوة الشيطان إلى الكفر وإما إغواء الشيطان قريشاً يوم بدر بقوله لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ إِلَى قَوْلُهُ إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ ( الأنفال 48 ) ثم قال
( 17 )
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال مقاتل فكان عاقبة المنافقين واليهود مثل عاقبة الشيطان والإنسان حيث صارا إلى النار
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف قرأ ابن مسعود ( خالدان فيها ) على أنه خبران و ( في النار ) لغو وعلى القراءة المشهورة الخبر هو الظرف وَأَنزَلْنَا فِيهَا حال وقرىء عَاقِبَتَهُمَا بالرفع ثم قال وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ أي المشركين لقوله تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 )
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
ثم إنه تعالى رجع إلى موعظة المؤمنين فقال الظَّالِمِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ الغد يوم القيامة سماه باليوم الذي يلي يومك تقريباً له ثم ذكر النفس والغد على سبيل التنكير أما الفائدة في تنكير النفس فاستقلال الأنفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة كأنه قال فلتنظر نفس واحدة في ذلك وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره كأنه قيل الغد لا يعرف كنهه لعظمه
ثم قال وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ كرر الأمر بالتقوى تأكيداً أو يحمل الأول على أداء الواجبات والثاني على ترك المعاصي
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
ثم قال تعالى وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ وفيه وجهان الأول قال المقاتلان نسوا حق الله فجعلهم ناسين حق أنفسهم حتى لم يسعوا لها بما ينفعهم عنده الثاني فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أي أراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم كقوله لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ ( إبراهيم 43 ) وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ( الحج 2 )
ثم قال أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ والمقصود منه الذم واعلم أنه تعالى لما أرشد المؤمنين إلى ما هو مصلحتهم يوم القيامة بقوله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ( الحشر 18 ) وهدد الكافرين بقوله كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ بين الفرق بين الفريقين فقال

لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمُ الْفَآئِزُونَ
واعلم أن التفاوت بين هذين الفريقين معلوم بالضرورة فذكر هذا الفرق في مثل هذا الموضع يكون الغرض منه التنبيه على عظم ذلك الفرق وفيه مسألتان
المسألة الأولى المعتزلة احتجوا على أن صاحب الكبيرة لا يدخل الجنة لأن الآية دلت على أن أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يستويان فلو دخل صاحب الكبيرة في الجنة لكان أصحاب النار وأصحاب الجنة يستويان وهو غير جائز وجوابه معلوم
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي وقد بينا وجهه في الخلافيات
لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاٌّ مْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
ثم إنه تعالى لما شرح هذه البيانات عظم أمر القرآن فقال
لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ والمعنى أنه لو جعل في الجبل عقل كما جعل فيكم ثم أنزل عليه القرآن لخشع وخضع وتشقق من خشية الله
ثم قال وَتِلْكَ الاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي الغرض من ذكر هذا الكلام التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار وغلظ طباعهم ونظير قوله ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِى َ كَالْحِجَارَة ِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً ( البقرة 74 ) واعلم أنه لما وصف القرآن بالعظم ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف أتبع ذلك بشرح عظمة الله فقال
هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ
وقيل السر والعلانية وقيل الدنيا والآخرة
اعلم أنه تعالى قدم الغيب على الشهادة في اللفظ وفيه سر عقلي أما المفسرون فذكروا أقوالاً في الغيب والشهادة فقيل الغيب المعدوم والشهادة الموجود ما غاب عن العباد وما شاهدوه
هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ
ثم قال هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ وكل ذلك قد تقدم تفسيره
ثم قال الْقُدُّوسُ قرىء بالضم والفتح وهو البليغ في النزاهة في الذات والصافات والأفعال والأحكام والأسماء وقد شرحناه في أول سورة الحديد ومضى شيء منه في تفسير قوله وَنُقَدّسُ لَكَ ( البقرة 30 ) وقال الحسن إنه الذي كثرت بركاته

وقوله السَّلَامُ فيه وجهان الأول أنه بمعنى السلامة ومنه دار السلام وسلام عليكم وصف به مبالغة في كونه سليماً من النقائص كما يقال رجاء وغياث وعدل فإن قيل فعلى هذا التفسير لايبقى بين القدوس وبين السلام فرق والتكرار خلاف الأصل قلنا كونه قدوساً إشارة إلى براءته عن جميع العيوب في الماضي والحاضر كونه سليماً إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب في الزمان المستقبل فإن الذي يطرأ عليه شيء من العيوب فإنه تزول سلامته ولا يبقى سليماً الثاني أنه سلام بمعنى كونه موجباً للسلامة
وقوله الْمُؤْمِنُ فيه وجهان الأول أنه الذي آمن أولياءه عذابه يقال آمنه يؤمنه فهو مؤمن والثاني أنه المصدق إما على معنى أنه يصدق أنبياءه بإظهار المعجزة لهم أو لأجل أن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يشهدون لسائر الأنبياء كما قال لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( البقرة 143 ) ثم إن الله يصدقهم في تلك الشهادة وقرىء بفتح الميم يعني المؤمن به على حذف الجار كما حذف في قوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( الأعراف 155 )
وقوله الْمُهَيْمِنُ قالوا معناه الشاهد الذي لا يغيب عنه شيء ثم في أصله قولان قال الخليل وأبو عبيدة هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيب على الشيء وقال آخرون مهيمن أصله مؤيمن من آمن يؤمن فيكون بمعنى المؤمن وقد تقدم استقصاؤه عند قوله وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ( المائدة 48 ) وقال ابن الأنباري المهيمن القائم على خلقه برزقه وأنشد ألا إن خير الناس بعد نبيه
مهيمنه التاليه في العرف والنكر
قال معناه القائم على الناس بعده
وما الْعَزِيزُ فهو إما الذي لا يوجد له نظير وإما الغالب القاهر
وأما الْجَبَّارُ ففيه وجوه أحدها أنه فعال من جبر إذا أغنى الفقير وأصلح الكسير قال الأزهري وهو لعمري جابر كل كسير وفقير وهو جابر دينه الذي ارتضاه قال العجاج قد جبر الدين الإله فجبر
والثاني أن يكون الجبار من جبره على كذا إذا أكرهه على ما أراده قال السدي إنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما أراده قال الأزهري هي لغة تميم وكثير من الحجازيين يقولونها وكان الشافعي يقول جبره السلطان على كذا بغير ألف وجعل الفراء الجبار بهذا معنى من أجبره وهي اللغة المعروفة في الإكراه فقال لم أسمع فعالاً من أفعل إلا في حرفين وهما جبار من أجبر ودراك من أدرك وعلى هذا القول الجبار هو القهار الثالث قال ابن الأنباري الجبار في صفة الله الذي لا ينال ومنه قيل للنخلة التي فاتت يد المتناول جبارة الرابع قال ابن عباس الجبار هو الملك العظيم قال الواحدي هذا الذي ذكرناه من معاني الجبار في صفة الله وللجبار معان في صفة الخلق أحدها المسلط كقوله وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ( ق 45 ) والثاني العظيم الجسم كقوله إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ ( المائدة 22 ) والثالث المتمرد عن عبادة الله كقوله وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً مريم 32 ) والرابع القتال كقوله بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ( الشعراء 130 ) وقوله إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاْرْضِ ( القصص 19 )

أما قوله الْمُتَكَبّرُ ففيه وجوه أحدها قال ابن عباس الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله وثانيها قال قتادة المتعظم عن كل سوء وثالثها قال الزجاج الذي تعظم عن ظلم العباد ورابعها قال ابن الأنباري المتكبرة ذو الكبرياء والكبرياء عند العرب الملك ومنه قوله تعالى وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِى الاْرْضِ ( يونس ) 78 ) واعلم أن المتكبر في حق الخلق اسم ذم لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر وذلك نقص في حق الخلق لأنه ليس له كبر ولا علو بل ليس معه إلا الحقارة والذلة والمسكنة فإذا أظهر العلو كان كاذباً فكان ذلك مذموماً في حقه أما الحق سبحانه فله جميع أنواع العلو والكبرياء فإذا أظهره فقد أرشد العباد إلى تعريف جلاله وعلوه فكان ذلك في غاية المدح في حقه سبحانه ولهذا السبب لما ذكر هذا الإسم
قال سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ كأنه قيل إن المخلوقين قد يتكبرون ويدعون مشاركة الله في هذا الوصف لكنه سبحانه منزه عن التكبر الذي هو حاصل للخلق لأنهم ناقصون بحسب ذواتهم فادعاؤهم الكبر يكون ضم نقصان الكذب إلى النقصان الذاتي أما الحق سبحانه فله العلو والعزة فإذا أظهره كان ذلك ضم كمال إلى كمال فسبحان الله عما يشركون في إثبات صفة المتكبرية للخلق
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِى ءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الاٌّ سْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
ثم قال هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ والخلق هو التقدير معناه أنه يقدر أفعاله على وجوه مخصوصة فالخالقية راجعة إلى صفة الإرادة
ثم قال الْبَارِىء وهو بمنزلة قولنا صانع وموجد إلا أنه يفيد اختراع الأجسام ولذلك يقال في الخلق برية ولا يقال في الأعراض التي هي كاللون والطعم
وأما الْمُصَوّرُ فمعناه أنه يخلق صور الخلق على ما يريد وقدم ذكر الخالق على البارىء لأن ترجيح الإرادة مقدم على تأثير القدرة وقدم البارىء على المصور لأن إيجاد الذوات مقدم على إيجاد الصفات
ثم قال تعالى لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى وقد فسرناه في قوله وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى ( الأعراف 180 )
أما قوله يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فقد مر تفسيره في أول سورة الحديد والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً

سورة الممتحنة
وهي ثلاث عشرة آية مدنية
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّة ِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّة ِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ
الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّة ِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن من جملة ما يتحقق به التعلق بما قبلها هو أنهما يشتركان في بيان حال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع الحاضرين في زمانه من اليهود والنصارى وغيرهم فإن بعضهم أقدموا على الصلح واعترفوا بصدقه ومن جملتهم بنو النضير فإنهم قالوا والله إنه النبي الذي وجدنا نعته وصفته في التوراة وبعضهم أنكروا ذلك وأقدموا على القتال إما على التصريح وإما على الإخفاء فإنهم مع أهل الإسلام في الظاهر ومع أهل الكفر في الباطن وأما تعلق الأول بالآخر فظاهر لما أن آخر تلك السورة يشتمل على الصفات الحميدة لحضرة الله تعالى من الوحدانية وغيرها وأول هذه السورة مشتمل على حرمة الاختلاط مع من لم يعترف بتلك الصفات
المسألة الثانية أما سبب النزول فقد روي أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة لما كتب إلى أهل مكة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتجهز للفتح ويريد أن يغزوكم فخذوا حذركم ثم أرسل ذلك الكتاب مع امرأة مولاة لبني هاشم يقال لها سارة جاءت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة إلى المدينة فقال عليه السلام أمسلمة جئت قالت لا قال أمهاجرة جئت قالت لا قال فما جاء بك قالت قد ذهب الموالي يوم بدر أي قتلوا في ذلك اليوم فاحتجت حاجة شديدة فحث عليها بني المطلب فكسوها وحملوها وزودوها فأتاها حاطب وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً واستحملها ذلك الكتاب إلى أهل مكة فخرجت سائرة فأطلع الله الرسول عليه السلام على ذلك فبعث علياً وعمر وعماراً وطلحة والزبير خلفها وهم فرسان فأدركوها وسألوها عن ذلك فأنكرت وحلفت فقال علي عليه السلام والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله وسل سيفه فأخرجته من عقاص شعرها فجاءوا بالكتاب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعرضه على حاطب فاعترف وقال إن لي بمكة أهلاً ومالاً فأردت أن أتقرب منهم وقد علمت أن الله تعالى ينزل بأسه عليهم فصدقه وقبل عذره فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ما يدريك يا عمر لعل الله تعالى قد اطلع على أهل بدر

فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر وقال الله ورسوله أعلم فنزلت وأما تفسير الآية فالخطاب في ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ قد مر وكذلك في الإيمان أنه في نفسه شيء واحد وهو التصديق بالقلب أو أشياء كثيرة وهي الطاعات كما ذهب إليه المعتزلة وأما قوله تعالى لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ فاتخذ يتعدى إلى مفعولين وهما عدوي وأولياء والعدو فعول من عدا كعفو من عفا ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد والعداوة ضد الصداقة وهما لا يجتمعان في محل واحد في زمان واحد من جهة واحدة لكنهما يرتفعان في مادة الإمكان وعن الزجاج والكرابيسي عَدُوّى أي عدو ديني وقال عليه السلام ( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) وقال عليه السلام لأبي ذر ( يا أبا ذر أي عرا الإيمان أوثق فقال الله ورسوله أعلم فقال الموالاة في الله والحب في الله والبغض في الله ) وقوله تعالى تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّة ِ فيه مسألتان
المسألة الأولى قوله تُلْقُونَ بماذا يتعلق نقول فيه وجوه الأول قال صاحب النظم هو وصف النكرة التي هي أولياء قاله الفراء والثاني قال في الكشاف يجوز أن يتعلق بلا تتخذوا حالاً من ضميره وأولياء صفة له الثالث قال ويجوز أن يكون استئنافاً فلا يكون صلة لأولياء والباء في المودة كهي في قوله تعالى وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ( الحج 25 ) والمعنى تلقون إليهم أخبار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسره بالمودة التي بينكم وبينهم ويدل عليه تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّة ِ
المسألة الثانية في الآية مباحث الأول اتخاذ العدو ولياً كيف يمكن وقد كانت العداوة منافية للمحبة والمودة والمحبة المودة من لوازم ذلك الاتخاذ نقول لا يبعد أن تكون العداوة بالنسبة إلى أمر والمحبة والمودة بالنسبة إلى أمر آخر ألا ترى إلى قوله تعالى إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ ( التغابن 14 ) والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أولادنا أكبادنا ) الثاني لما قال عَدُوّى فلم لم يكتف به حتى قال وَعَدُوَّكُمْ لأن عدو الله إنما هو عدو المؤمنين نقول الأمر لازم من هذا التلازم وإنما لا يلزم من كونه عدواً للمؤمنين أن يكون عدواً لله كما قال إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ الثالث لم قال عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ ولم يقل بالعكس فنقول العداوة بين المؤمن والكافر بسبب محبة الله تعالى ومحبة رسوله فتكون محبة العبد من أهل الإيمان لحضرة الله تعالى لعلة ومحبة حضرة الله تعالى للعبد لا لعلة لما أنه غني على الإطلاق فلا حاجة به إلى الغير أصلاً والذي لا لعلة مقدم على الذي لعلة ولأن الشيء إذا كان له نسبة إلى الطرفين فالطرف الأعلى مقدم على الطرف الأدنى الرابع قال أَوْلِيَاء ولم يقل ولياً والعدو والولي بلفظ فنقول كما أن المعرف بحرف التعريف يتناول كل فرد فكذلك المعرف بالإضافة الخامس منهم من قال الباء زائدة وقد مر أن الزيادة في القرآن لا تمكن والباء مشتملة على الفائدة فلا تكون زائدة في الحقيقة

ثم قال تعالى وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى
وَقَدْ كَفَرُواْ الواو للحال أي وحالهم أنهم كفروا بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الدين الْحَقّ وقيل من القرآن يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ يعني من مكة إلى المدينة أَن تُؤْمِنُواْ أي لأن تؤمنوا بِاللَّهِ رَبّكُمْ وقوله إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ قال الزجاج هو شرط جوابه متقدم وهو لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء وقوله جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاء مَرْضَاتِى منصوبان لأنهما مفعولان لهما تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّة ِ عن مقاتل بالنصيحة ثم ذكر أنه لا يخفى عليه من أحوالهم شيء فقال وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ من المودة للكفار وَمَا أَعْلَنتُمْ أي أظهرتم ولا يبعد أن يكون هذا عاماً في كل ما يخفى ويعلن قال بعضهم هو أعلم بسرائر العبد وخفاياه وظاهره وباطنه من أفعاله وأحواله وقوله وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ يجوز أن تكون الكناية راجعة إلى الإسرار وإلى الإلقاء وإلى اتخاذ الكفار أولياء لما أن هذه الأفعال مذكورة من قبل وقوله تعالى فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ فيه وجهان الأول عن ابن عباس أنه عدل عن قصد الإيمان في اعتقاده وعن مقاتل قد أخطأ قصد الطريق عن الهدى ثم في الآية مباحث
الأول إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ متعلق بلا تتخذوا يعني لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي وتسرون استئناف معناه أي طائل لكم في إسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي
الثاني لقائل أن يقول رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ الآية قضية شرطية ولو كان كذلك فلا يمكن وجود الشرط وهو قوله إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ بدون ذلك النهي ومن المعلوم أنه يمكن فنقول هذا المجموع شرط لمقتضى ذلك النهي لا للنهي بصريح اللفظ ولا يمكن وجود المجموع بدون ذلك لأن ذلك موجود دائماً فالفائدة في ابتغاء مرضاتي ظاهرة إذ الخروج قد يكون ابتغاء لمرضاة الله وقد لا يكون
الثالث قال تعالى بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ولم يقل بما أسررتم وما أعلنتم مع أنه أليق بما سبق وهو تُسِرُّونَ فنقول فيه من المبالغة ما ليس في ذلك فإن الإخفاء أبلغ من الإسرار دل عليه قوله يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى ( طه 7 ) أي أخفى من السر
الرابع قال بِمَا أَخْفَيْتُمْ قدم العلم بالإخفاء على الإعلان مع أن ذلك مستلزم لهذا من غير عكس هذا بالنسبة إلى علمنا لا بالنسبة إلى علمه تعالى إذ هما سيان في علمه كما مر ولأن المقصود هو بيان ما هو الأخفى وهو الكفر فيكون مقدماً
الخامس قال تعالى وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ ما الفائدة في قوله مّنكُمْ ومن المعلوم أن من فعل هذا الفعل فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ نقول إذا كان المراد من مّنكُمْ من المؤمنين فظاهر لأن من يفعل ذلك الفعل لا يلزم أن يكون مؤمناً

ثم إنه أخبر المؤمنين بعداوة كفار أهل مكة فقال
إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّو ءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
يَثْقَفُوكُمْ يظفروا بكم ويتمكنوا منكم يَكُونُواْ لَكُمْ في غاية العداوة وهو قول ابن عباس وقال مقاتل يظهروا عليكم يصادقوكم وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالضرب وَأَلْسِنَتَهُمْ بالشتم وَوَدُّواْ أن ترجعوا إلى دينهم والمعنى أن أعداء الله لا يخلصون المودة لأولياء الله لما بينهم من المباينة لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ لما عوتب حاطب على ما فعل اعتذر بأن له أرحاماً وهي القرابات والأولاد فيما بينهم وليس له هناك من يمنع عشيرته فأراد أن يتخذ عندهم يداً ليحسنوا إلى من خلفهم بمكة من عشيرته فقال لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ الذين توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم مخافة عليهم ثم قال يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وبين أقاربكم وأولادكم فيدخل أهل الإيمان الجنة وأهل الكفر النار وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي بما عمل حاطب ثم في الآية مباحث
الأول ما قاله صاحب الكشاف إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء كيف يورد جواب الشرط مضارعاً مثله ثم قال وَوَدُّواْ بلفظ الماضي نقول الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب فإن فيه نكتة كأنه قيل وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم
الثاني يَوْمُ الْقِيَامَة ِ ظرف لاي شيء قلنا لقوله لَن تَنفَعَكُمْ أو يكون ظرفاً ليفصل وقرأ ابن كثير يُفَصّلُ بضم الياء وفتح الصاد و يُفَصّلُ على البناء للفاعل وهو الله و ( نفصل ) و ( نفصل ) بالنون
الثالث قال تعالى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ولم يقل خبير مع أنه أبلغ في العلم بالشيء والجواب أن الخبير أبلغ في العلم والبصير أظهر منه فيه لما أنه يجعل عملهم كالمحسوس بحس البصر والله أعلم
ثم قال تعالى
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَة ُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لاًّبِيهِ لاّسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَى ْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
اعلم أن الأسوة ما يؤتسى به مثل القدوة لما يقتدى به يقال هو أسوتك أي أنت مثله وهو مثلك وجمع الأسوة أسى فالأسوة اسم لكل ما يقتدى به قال المفسرون أخبر الله تعالى أن إبراهيم وأصحابه تبرءوا من قومهم وعادوهم وقالوا لهم أَنَاْ بَرَاء مّنكُمْ وأمر أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يأنسوا بهم وبقوله قال الفراء يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم في التبرئة من أهله في قوله تعالى إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بَرَاء مّنكُمْ وقوله تعالى إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وهو مشرك وقال مجاهد نهوا أن يتأسوا باستغفار

إبراهيم لأبيه فيستغفرون للمشركين وقال مجاهد وقتادة ائتسوا بأمر إبراهيم كله إلا في استغفاره لأبيه وقيل تبرءوا من كفار قومكم فإن لكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه من المؤمنين في البراءة من قومهم لا في الاستغفار لأبيه وقال ابن قتيبة يريد أن إبراهيم عاداهم وهجرهم في كل شيء إلا في قوله لأبيه لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وقال ابن الأنباري ليس الأمر على ما ذكره بل المعنى قد كانت لكم أسوة في كل شيء فعله إلا في قوله لأبيه لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وقوله تعالى وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَى ْء هذا من قول إبراهيم لأبيه يقول له ما أغنى عنك شيئاً ولا أدفع عنك عذاب الله إن أشركت به فوعده الاستغفار رجاء الإسلام وقال ابن عباس كان من دعاء إبراهيم وأصحابه رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا الآية أي في جميع أمورنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا رجعنا بالتوبة عن المعصية إليك إذ المصير ليس إلا إلى حضرتك وفي الآية مباحث
الأول لقائل أن يقول حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ ما الفائدة في قوله وَحْدَهُ والإيمان به وبغيره من اللوازم كما قال تعالى كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ( البقرة 285 ) فنقول الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر من لوازم الإيمان بالله وحده إذ المراد من قوله وَحْدَهُ هو وحده في الألوهية ولا نشك في أن الإيمان بألوهية غيره لا يكون إيماناً بالله إذ هو الإشراك في الحقيقة والمشرك لا يكون مؤمناً
الثاني قوله تعالى إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ استثناء من أي شيء هو نقول من قوله أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ لما أنه أراد بالأسوة الحسنة قولهم الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذوه سنة يستنون بها
الثالث إن كان قوله لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مستثنى من القول الذي سبق وهو أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ فما بال قوله وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَى ْء وهو غير حقيق بالاستثناء ألا ترى إلى قوله تعالى قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ اللَّهِ شَيْئاً ( الفتح 11 ) نقول أراد الله تعالى استثناء جملة قوله لأبيه والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده مبني عليه وتابع له كأنه قال أنا استغفر لك وما وسعي إلا الاستغفار
الرابع إذا قيل بم اتصل قوله رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا نقول بما قبل الاستثناء وهو من جملة الأسوة الحسنة ويجوز أن يكون المعنى هو الأمر بهذا القول تعليماً للمؤمنين وتتميماً لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفرة والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم تنبيهاً على الإنابة إلى حضرة الله تعالى والاستعاذة به
الخامس إذا قيل ما الفائدة في هذا الترتيب فنقول فيه من الفوائد مالا يحيط به إلا هو والظاهر من تلك الجملة أن يقال التوكل لأجل الإفادة وإفادة التوكل مفتقرة إلى التقوى قال تعالى وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ( الطلاق 2 ) والتقوى الإنابة إذ التقوى الاحتراز عما لا ينبغي من الأمور والإشارة إلى أن المرجع والمصير للخلائق حضرته المقدسة ليس إلا فكأنه ذكر الشيء وذكر عقيبه ما يكون من اللوازم لإفادة ذلك كما ينبغي والقراءة في بَرَاء على أربعة أوجه برآء كشركاء وبراء كظراف وبراء على إبدال الضم من الكسر كرخال وبراء على الوصف بالمصدر والبراء والبراءة مثل الطماء والطماءة

ثم قال تعالى
رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاٌّ خِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّة ً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قوله رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً من دعاء إبراهيم قال ابن عباس لا تسلط علينا أعداءنا فيظنوا أنهم على الحق وقال مجاهد لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك وقيل لا تبسط عليهم الرزق دوننا فإن ذلك فتنة لهم وقيل قوله لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً أي عذاباً أي سبباً يعذب به الكفرة وعلى هذا ليست الآية من قول إبراهيم وقوله تعالى وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا الآية من جملة ما مر فكأنه قيل لأصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ثم أعاد ذكر الأسوة تأكيداً للكلام فقال لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ أي في إبراهيم والذين معه وهذا هو الحث عن الائتساء بإبراهيم وقومه قال ابن عباس كانوا يبغضون من خالف الله ويحبون من أحب الله وقوله تعالى لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ بدل من قوله لَكُمْ وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة وَمَن يَتَوَلَّ أي يعرض عن الائتساء بهم ويميل إلى مودة الكفار فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِى ُّ عن مخالفة أعدائه الْحَمِيدِ إلى أوليائه أما قوله عَسَى اللَّهُ فقال مقاتل لما أمر الله تعالى المؤمنين بعداوة الكفار شددوا في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقاربهم والبراءة منهم فأنزل الله تعالى قوله عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مّنْهُم أي من كفار مكة مَّوَدَّة َ وذلك بميلهم إلى الإسلام ومخالطتهم مع أهل الإسلام ومناكحتهم إياهم وقيل تزوج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أم حبيبة فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان واسترخت شكيمته في العداوة وكانت أم حبيبة قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة فتنصر وراودها على النصرانية فأبت وصبرت على دينها ومات زوجها فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى النجاشي فخطبها عليه وساق عنه إليها أربعمائة دينار وبلغ ذلك أباها فقال ذلك الفحل لا يفدغ أنفه و عَسَى وعد من الله تعالى وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّة ً يريد نفراً من قريش آمنوا بعد فتح مكة منهم أبو سفيان بن حرب وأبو سفيان بن الحرث والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام والله تعالى قادر على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ بهم إذا تابوا وأسلموا ورجعوا إلى حضرة الله تعالى قال بعضهم لا تهجروا كل الهجر فإن الله مطلع على الخفيات والسرائر ويروى أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما
ومن المباحث في هذه الحكمة هو أن قوله تعالى رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً إذا كان تأويله لا تسلط علينا أعداءنا مثلاً فلم ترك هذا وأتى بذلك فنقول إذا كان ذلك بحيث يحتمل أن يكون عبارة عن هذا فإذا أتى به فكأنه أتى بهذا وذلك وفيه من الفوائد ما ليس في الاقتصار على واحد من تلك التأويلات
الثاني لقائل أن يقول ما الفائدة في قوله تعالى وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا وقد كان الكلام مرتباً إذا قيل لا تجعلنا فتنة للذين كفروا إنك أنت العزيز الحكيم فنقول إنهم طلبوا البراءة عن الفتنة والبراءة عن الفتنة لا

يمكن وجودها بدون المغفرة إذ العاصي لو لم يكن مغفوراً كان مقهوراً بقهر العذاب وذلك فتنة إذ الفتنة عبارة عن كونه مقهوراً و الْحَمِيدِ قد يكون بمعنى الحامد وبمعنى المحمود فالمحمود أي يستحق الحمد من خلقه بما أنعم عليهم والحامد أي يحمد الخلق ويشكرهم حيث يجزيهم بالكثير من الثواب عن القليل من الأعمال
ثم إنه تعالى بعدما ذكر من ترك انقطاع المؤمنين بالكلية عن الكفار رخص في صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار فقال
لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
اختلفوا في المراد من الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فالأكثرون على أنهم أهل العهد الذين عاهدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على ترك القتال والمظاهرة في العداوة وهم خزاعة كانوا عاهدوا الرسول على أن لا يقاتلوه ولا يخرجوه فأمر الرسول عليه السلام بالبر والوفاء إلى مدة أجلهم وهذا قول ابن عباس والمقاتلين والكلبي وقال مجاهد الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا وقيل هم النساء والصبيان وعن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في أسماء بنت أبي بكر قدمت أمها فتيلة عليها وهي مشركة بهدايا فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول فأمرها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها وعن ابن عباس أنهم قوم من بني هاشم منهم العباس أخرجوا يوم بدر كرهاً وعن الحسن أن المسلمين استأمروا رسول الله في أقربائهم من المشركين أن يصلوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل الآية في المشركين وقال قتادة نسختها آية القتال وقوله أَن تَبَرُّوهُمْ بدل من الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وكذلك أَن تَوَلَّوْهُمْ بدل من الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء وهذا رحمة لهم لشدتهم في العداوة وقال أهل التأويل هذه الآية تدل على جواز البر بين المشركين والمسلمين وإن كانت الموالاة منقطعة وقوله تعالى وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ قال ابن عباس يريد بالصلة وغيرها إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ يريد أهل البر والتواصل وقال مقاتل أن توفوا لهم بعهدهم وتعدلوا ثم ذكر من الذين ينهاهم عن صلتهم فقال إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدّينِ أَن تَوَلَّوْهُمْ وفيه لطيفة وهي أنه يؤكد قوله تعالى لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ

بم ثن قال تعالى
في نظم هذه الآيات وجه حسن معقول وهو أن المعاند لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة إما أن يستمر عناده أو يرجى منه أن يترك العناد أو يترك العناد ويستسلم وقد بين الله تعالى في هذه الآيات أحوالهم وأمر المسلمين أن يعاملوهم في كل حالة على ما يقتضيه الحال
أما قوله تعالى قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ فِى إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بَرَاء مّنكُمْ ( الممتحنة 4 ) فهو إشارة إلى الحالة الأولى ثم قوله عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّة ً ( الممتحنة 7 ) إشارة إلى الحالة الثانية ثم قوله الظَّالِمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ إشارة إلى الحالة الثالثة ثم فيه لطيفة وتنبيه وحث على مكارم الأخلاق لأنه تعالى ما أمر المؤمنين في مقابلة تلك الأحوال الثلاث بالجزاء إلا بالتي هي أحسن وبالكلام إلا بالذي هو أليق
واعلم أنه تعالى سماهن مؤمنات لصدور ما يقتضي الإيمان وهو كلمة الشهادة منهن ولم يظهر منهن ما هو المنافي له أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان والامتحان وهو الابتلاء بالحلف والحلف لأجل غلبة الظن بإيمانهن وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول للممتحنة ( بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج بالله ما خرجت رغبة من أرض إلى أرض بالله ما خرجت التماس دنيا بالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله ) وقوله اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ منكم والله يتولى السرائر فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ العلم الذي هو عبارة عن الظن الغالب بالحلف وغيره فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أي تردوهن إلى أزواجهن المشركين وقوله تعالى لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءاتُوهُم مَّا أَنفَقُواْ أي أعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور وذلك أن الصلح عام الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة يرد إليهم ومن أتى مكة منكم لم يرد إليكم وكتبوا بذلك العهد كتاباً وختموه فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحديبية فأقبل زوجها مسافر المخزومي وقيل صيفي بن الراهب فقال يا محمد أردد علي امرأتي فإنك قد شرطت لنا شرطاً أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف فنزلت بياناً لأن الشرط إنما كان للرجال دون النساء وعن الزهري أنه قال إنها جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي عاتق فجاء أهلها يطلبون من رسول

الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يرجعها إليهم وكانت هربت من زوجها عمرو بن العاس ومعها أخواها عمارة والوليد فرد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخويها وحبسها فقالوا أرددها علينا فقال عليه السلام ( كان الشرط في الرجال دون النساء ) وعن الضحاك أن العهد كان إن يأتك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا وإن دخلت في دينك ولها زوج ردت على زوجها الذي أنفق عليها وللنبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الشرط مثل ذلك ثم نسخ هذا الحكم وهذا العهد واستحلفها الرسول عليه السلام فحلفت وأعطى زوجها ما أنفق ثم تزوجها عمر وقوله تعالى وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءاتُوهُم مَّا أَنفَقُواْ وَلاَ أي مهورهن إذ المهر أجر البضع وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ والعصمة ما يعتصم به من عهد وغيره ولا عصمة بينكم وبينهن ولا علقة النكاح كذلك وعن ابن عباس أن اختلاف الدارين يقطع العصمة وقيل لا تقعدوا للكوافر وقرىء تُمْسِكُواْ بالتخفيف والتشديد و تُمْسِكُواْ أي ولا تتمسكوا وقوله تعالى ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ وهو إذا لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ولم يدفعوها إليكم فعليهم أن يغرموا صداقها كما يغرم لهم وهو قوله تعالى ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ أي بين المسلمين والكفار وفي الآية مباحث
الأول قوله فَامْتَحِنُوهُنَّ أمر بمعنى الوجوب أو بمعنى الندب أو بغير هذا وذلك قال الواحدي هو بمعنى الاستحباب
الثاني ما الفائدة في قوله اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ وذلك معلوم من غير شك نقول فائدته بيان أن لا سبيل إلى ما تطمئن به النفس من الإحاطة بحقيقة إيمانهن فإن ذلك مما استأثر به علام الغيوب
الثالث ما الفائدة في قوله وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ويمكن أن يكون في أحد الجانبين دون الآخر نقول هذا باعتبار الإيمان من جانبهن ومن جانبهم إذ الإيمان من الجانبين شرط للحل ولأن الذكر من الجانبين مؤكد لارتفاع الحل وفيه من الإفادة مالا يكون في غيره فإن قيل هب أنه كذلك لكن يكفي قوله فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لأنه لا يحل أحدهما للآخر فلا حاجة إلى الزيادة عليه والمقصود هذا لا غير نقول التلفظ بهذا اللفظ لا يفيد ارتفاع الحل من الجانبين بخلاف التلفظ بذلك اللفظ وهذا ظاهر
البحث الرابع كيف سمى الظن علماً في قوله فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ نقول إنه من باب أن الظن الغالب وما يفضي إليه الاجتهاد والقياس جار مجرى العلم وأن صاحبه غير داخل في قوله وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( الإسراء 36 )
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْألُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْألُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِن فَاتَكُمْ شَى ْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ
روى عن الزهري ومسروق أن من حكم الله تعالى أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة

إذا صارت إليهم ويسأل الكفار من المسلمين مهر من صارت إلينا من نسائهم مسلمة فأقر المسلمون بحكم الله وأبى المشركون فنزلت وَإِن فَاتَكُمْ شَى ْء مّنْ أَزْواجِكُمْ أي سبقكم وانفلت منكم قال الحسن ومقاتل نزلت في أم حكيم بنت أبي سفيان ارتدت وتركت زوجها عباس بن تميم القرشي ولم ترتد امرأة من غير قريش غيرها ثم عادت إلى الإسلام وقوله تعالى فَعَاقَبْتُمْ أي فغنمتم على قول ابن عباس ومسروق ومقاتل وقال أبو عبيدة أصبتم منهم عقبى وقال المبرد فَعَاقَبْتُمْ أي فعلتم ما فعل بكل يعني ظفرتم وهو من قولك العقبى لفلان أي العاقبة وتأويل العاقبة الكرة الأخيرة ومعنى عاقبتم غزوتم معاقبين غزواً بعد غزو وقيل كانت العقبى لكم والغلبة فأعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا عليهن من المهر وهو قوله فَاتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ وقرىء ( فأعقبتم ) بالتشديد و ( فعقبتم ) بالتخفيف بفتح القاف وكسرها
ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر أسفل منه يبايع النساء بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويبلغهن عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفاً من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعرفها فقال عليه الصلاة والسلام ( أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً فرفعت هند رأسها وقالت والله لقد عبدنا الأصنام وإنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على الإسلام والجهاد فقط فقال عليه الصلاة والسلام ولا تسرقن فقالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هناة فما أدري أتحل لي أم لا فقال أبو سفيان ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعرفها فقال لها وإنك لهند بنت عتبة قالت نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال ولا تزنين فقالت أتزن الحرة وفي رواية مازنت منهن امرأة قط فقال ولا تقتلن أولادكن فقالت ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر فضحك رضي الله عنه حتى استلقى وتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ولا تأتين ببهتان تفترينه وهو أن تقذف على زوجها ما ليس منه فقالت هند والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق فقال ولا تعصينني في معروف فقالت والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصينك في شيء ) وقوله وَلاَ يَسْرِقْنَ يتضمن النهي عن الخيانة في الأموال والنقصان من العبادة فإنه يقال أسرق من السارق من سرق من صلاته وَلاَ يَزْنِينَ يحتمل حقيقة الزنا ودواعيه أيضاً على ما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( اليدان تزنيان والعينان

تزنيان والرجلان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) وقوله وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ أراد وأد البنات الذي كان يفعله أهل الجاهلية ثم هو عام في كل نوع من قتل الولد وغيره وقوله وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ نهى عن النميمة أي لا تنم إحداهن على صاحبها فيورث القطيعة ويحتمل أن يكون نهياً عن إلحاق الولد بأزواجهن قال ابن عباس لا تلحق بزوجها ولداً ليس منه قال الفراء كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هذا ولدي منك فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن وذلك أن الولد إذا رضعته الأم سقط بين يديها ورجليها وليس المعنى نهيهن عن الزنا لأن النهي عن الزنا قد تقدم وقوله وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ أي كل أمر وافق طاعة الله وقيل في أمر بر وتقوى وقيل في كل أمر فيه رشد أي ولا يعصينك في جميع أمرك وقال ابن المسيب والكلبي وعبد الرحمن بن زيد وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ أي مما تأمرهن به وتنهاهن عنه كالنوح وتمزيق الثياب وجز الشعر ونتفه وشق الجيب وخمش الوجه ولا تحدث الرجال إلا إذا كان ذا رحم محرم ولا تخلو برجل غير محرم ولا تسافر إلا مع ذي رحم محرم ومنهم من خص هذا المعروف بالنوح وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستقاء بالنجوم والنياحة ) وقال ( النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة عليها سربال من قطران ودرع من جرب ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ) وقوله فَبَايِعْهُنَّ جواب إِذَا أي إذا بايعنك على هذه الشرائط فبايعهن واختلفوا في كيفية المبايعة فقالوا كان يبايعهن وبين يده وأيديهن ثوب وقيل كان يشترط عليهن البيعة وعمر يصافحهن قاله الكلبي وقيل بالكلام وقيل دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم غمسن أيديهن فيه وما مست يد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يد امرأة قط وفي الآية مباحث
البحث الأول قال تعالى إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ ولم يقل فامتحنوهن كما قال في المهاجرات والجواب من وجهين أحدهما أن الامتحان حاصل بقوله تعالى عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ إلى آخره وثانيهما أن المهاجرات يأتين من دار الحرب فلا اطلاع لهن على الشرائع فلا بد من الامتحان وأما المؤمنات فهن في دار الإسلام وعلمن الشرائع فلا حاجة إلى الامتحان
الثاني ما الفائدة في قوله تعالى بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وما وجهه نقول من قال المرأة إذا التقطت ولداً فإنما التقطت بيدها ومشت إلى أخذه برجلها فإذا أضافته إلى زواجها فقد أتت ببهتان تفترينه بين يديها ورجليها وقيل يفترينه على أنفسهن حيث يقلن هذا ولدنا وليس كذلك إذ الولد ولد الزنا وقيل الولد إذا وضعته أمه سقط بين يديها ورجليها
الثالث ما وجه الترتيب في الأشياء المذكورة وتقديم البعض منها على البعض في الآية نقول قدم الأقبح على ما هو الأدنى منه في القبح ثم كذلك إلى آخره وقيل قدم من الأشياء المذكورة ما هو الأظهر فيما بينهم

ثم قال تعالى
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الاٌّ خِرَة ِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ
قال ابن عباس يريد حاطب ابن أبي بلتعة يقول لا تتولوا اليهود والمشركين وذلك لأن جمعاً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين لحاجتهم إليهم فنهوا عن ذلك ويئسوا من الآخرة يعني أن اليهود كذبت محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وهم يعرفون أنه رسول الله وأنهم أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم إياه فهم يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور والتقييد بهذا القيد ظاهر لأنهم إذا ماتوا على كفرهم كان العلم بخذلانهم وعدم حظهم في الآخرة قطعياً وهذا هو قول الكلبي وجماعة يعني الكفار الذين ماتوا يئسوا من الجنة ومن أن يكون لهم في الآخرة خير وقال الحسن يعني الأحياء من الكفار يئسوا من الأموات وقال أبو إسحق يئس اليهود الذين عاندوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما يئس الكفار الذين لا يؤمنون بالبعث من موتاهم
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة الصف
أربع عشرة آية مكية
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
وجه التعلق بما قبلها هو أن في تلك السورة بيان الخروج جهاداً في سبيل الله وابتغاء مرضاته بقوله إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاء مَرْضَاتِى ( الممتحنة 1 ) وفي هذه السورة بيان ما يحمل أهل الإيمان ويحثهم على الجهاد بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ( الصف 4 ) وأما الأول بالآخر فكأنه قال إن كان الكفرة بجهلهم يصفون لحضرتنا المقدسة بما لا يليق بالحضرة فقد كانت الملائكة وغيرهم من الإنس والجن يسبحون لحضرتنا كما قال سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ أي شهد له بالربوبية والوحدانية وغيرهما من الصفات الحميدة جميع ما في السموات والأرض و الْعَزِيزُ من عز إذا غلب وهو الذي يغلب على غيره أي شيء كان ذلك الغير ولا يمكن أن يغلب عليه غيره و الْحَكِيمُ من حكم على الشيء إذا قضى عليه وهو الذي يحكم على غيره أي شيء كان ذلك الغير ولا يمكن أن يحكم عليه غيره فقوله سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يدل على الربوبية والوحدانية إذن ثم إنه تعالى قال في البعض من السور سَبَّحَ للَّهِ ( الحديد 1 الحشر 1 ) وفي البعض يُسَبّحُ ( الجمعة 1 التغاب 1 ) وفي البعض سَبِّحِ ( الأعلى 1 ) بصيغة الأمر ليعلم أن تسبيح حضرة الله تعالى دائم غير منقطع لما أن الماضي يدل عليه في الماضي من الزمان والمستقبل يدل عليه في المستقبل من الزمان والأمر يدل عليه في الحال وقوله تعالى اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ منهم من قال هذه الآية في حق جماعة من المؤمنين وهم الذين أحبوا أن يعملوا بأحب الأعمال إلى الله فأنزل الله تعالى الْمُشْرِكُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَة ٍ ( الصف 10 ) الآية و إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ ( الصف 4 ) فأحبوا الحياة وتولوا يوم أحد فأنزل الله تعالى لِمَ تَقُولُونَ مَالاً تَفْعَلُونَ

وقيل في حق من يقول قاتلت ولم يقاتل وطعنت ولم يطعن وفعلت ولم يفعل وقيل إنها في حق أهل النفاق في القتال لأنهم تمنوا القتال فلما أمر الله تعالى به قالوا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ ( النساء 77 ) وقيل إنها في حق كل مؤمن لأنهم قد اعتقدوا الوفاء بما وعدهم الله به من الطاعة والاستسلام والخضوع والخشوع فإذا لم يوجد الوفاء بما وعدهم خيف عليهم في كل زلة أن يدخلوا في هذه الآية ثم في هذه الجملة مباحث
الأول قال تعالى سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الحديد 1 الحشر 1 ) في أول هذه السورة ثم قاله تعالى في أول سورة أخرى وهذا هو التكرار والتكرار عيب فكيف هو فنقول يمكن أن يقال كرره ليعلم أنه في نفس الأمر غير مكرر لأن ما وجد منه التسبيح عند وجود العالم بإيجاد الله تعالى فهو غير ما وجد منه التسبيح بعد وجود العالم وكذا عند وجود آدم وبعد وجوده
الثاني قال سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ولم يقل سبح لله السموات والأرض وما فيهما مع أن في هذا من المبالغة ما ليس في ذلك فنقول إنما يكون كذلك إذا كان المراد من التسبيح التسبيح بلسان الحال مطلقاً أما إذا كان المراد هو التسبيح المخصوص فالبعض يوصف كذا فلا يكون كما ذكرتم
الثالث قال صاحب الكشاف لَمْ هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك بم وفيم وعم ومم وإنما حذفت الألف لأن ( ما ) والحرف كشيء واحد وقد وقع استعمالها في كلام المستفهم ولو كان كذلك لكان معنى الاستفهام واقعاً في قوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ مَالاً تَفْعَلُونَ والاستفهام من الله تعالى محال وهو عالم بجميع الأشياء فنقول هذا إذا كان المراد من الاستفهام طلب الفهم أما إذا كان المراد إلزام من أعرض عن الوفاء ما وعد أو أنكر الحق وأصر على الباطل فلا
ثم قال تعالى
كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
والمقت هو البغض ومن استوجب مقت الله لزمه العذاب قال صاحب الكشاف المقت أشد البغض وأبلغه وأفحشه وقال الزجاج ءانٍ في موضع رفع و مَقْتاً منصوب على التمييز والمعنى كبر قولكم ما لا تفعلون مقتاً عند الله وهذا كقوله تعالى كَبُرَتْ كَلِمَة ً ( الكهف 5 )
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ
قرأ زيد بن علي يُقَاتَلُونَ بفتح التاء وقرىء ( يقتلون ) أن يصفون صفاً والمعنى يصفون أنفسهم عند القتال كأنهم بنيان مرصوص قال الفراء مرصوص بالرصاص يقال رصصت البناء إذا لا يمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة وقال الليث يقال رصصت البناء إذا ضممته والرص انضمام الأشياء بعضها إلى بعض وقال ابن عباس يوضع الحجر على الحجر ثم يرص بأحجار صغار ثم يوضع اللبن عليه

فتسميه أهل مكة المرصوص وقال أبو إسحق أعلم الله تعالى أنه يحب من يثبت في الجهاد ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص وقال ويجوز أن يكون على أن يستوي شأنهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة وموالاة بعضهم بعضاً كالبنيان المرصوص وقيل ضرب هذا المثل للثبات يعني إذا اصطفوا ثبتوا كالبنيان المرصوص الثابت المستقر وقيل فيه دلالة على فضل القتال راجلاً لأن العرب يصطفون على هذه الصفة ثم المحبة في الظاهر على وجهين أحدهما الرضا عن الخلق وثانيها الثناء عليهم بما يفعلون ثم ما وجه تعلق الآية بما قبلها وهو قوله تعالى كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن نقول تلك الآية مذمة المخالفين في القتال وهم الذين وعدوا بالقتال ولم يقاتلوا وهذه الآية محمدة الموافقين في القتال وهم الذين قاتلوا في سبيل الله وبالغوا فيه
ثم قال تعالى
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
معناه اذكر لقومك هذه القصة و إِذْ منصوب بإضمار اذكر أي حين قال لهم تُؤْذُونَنِى وكانوا يؤذونه بأنواع الأذى قولاً وفعلاً فقالوا أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً ( النساء 153 ) لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ ( البقرة 61 ) وقيل قد رموه بالأدرة وقوله تعالى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ اللَّهِ في موضع الحال أي تؤذونني عالمين علماً قطعياً أني رسول الله وقضية علمكم بذلك موجبة للتعظيم والتوقير وقوله فَلَمَّا زَاغُواْ أي مالوا إلى غير الحق أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي أمالها عن الحق وهو قول ابن عباس وقال مقاتل زَاغُواْ أي عدلوا عن الحق بأبدانهم أَزَاغَ اللَّهُ أي أمال الله قلوبهم عن الحق وأضلهم جزاء ما عملوا ويدل عليه قوله تعالى وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ قال أبو إسحق معناه والله لا يهدي من سبق في عمله أنه فاسق وفي هذا تنبيه على عظيم إيذاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حتى إنه يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى وَقَدْ معناه التوكيد كأنه قال وتعلمون علماً يقينياً لا شبهة لكم فيه
ثم قال تعالى
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى إِسْرَاءِيلَ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَى َّ مِنَ التَّوْرَاة ِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
قوله إِنّى رَسُولُ اللَّهِ أي اذكروا أني رسول الله أرسلت إليكم بالوصف الذي وصفت به في التوراة ومصدقاً بالتوراة وبكتب الله وبأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يصدق بالتوراة على مثل

تصديقي فكأنه قيل له ما اسمه فقال اسمه أحمد فقوله يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ جملتان في موضع الجر لأنهما صفتان للنكرة التي هي رسول وفي بَعْدِى اسْمُهُ قراءتان تحريك الياء بالفتح على الأصل وهو الاختيار عند الخليل وسيبويه في كل موضع تذهب فيه الياء لالتقاء ساكنين وإسكانها كما في قوله تعالى وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِى َ فمن أسكن في قوله مِن بَعْدِى اسْمُهُ حذف الياء من اللفظ لالتقاء الساكنين وهما الياء والسين من اسمه قاله المبرد وأبو علي وقوله تعالى أَحْمَدُ يحتمل معنيين أحدهما المبالغة في الفاعل يعني أنه أكثر حمداً لله من غيره وثانيهما المبالغة من المفعول يعني أنه يحمد بما فيه من الإخلاص والأخلاق الحسنة أكثر ما يحمد غيره
ولنذكر الآن بعض ما جاء به عيسى عليه السلام بمقدم سيدنا محمد عليه السلام في الإنجيل في عدة مواضع أولها في الإصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا ( وأنا أطلب لكم إلى أبي حتى يمنحكم ويعطيكم الفارقليط حتى يكون معكم إلى الأبد والفارقليط هو روح الحق اليقين ) هذا لفظ الإنجيل المنقول إلى العربي وذكر في الإصحاح الخامس عشر هذا اللفظ ( وأما الفارقليط روح القدس يرسله أبي باسمي ويعلمكم ويمنحكم جميع الأشياء وهو يذكركم ما قلت لكم ) ثم ذكر بعد ذلك بقليل ( وإني قد خبرتكم بهذا قبل أن يكون حتى إذا كان ذلك تؤمنون ) وثانيها ذكر في الإصحاح السادس عشر هكذا ( ولكن أقول لكم الآن حقاً يقيناً انطلاقي عنكم خير لكم فإن لم أنطلق عنكم إلى أبي لم يأتكم الفارقليط وإن انطلقت أرسلته إليكم فإذا جاء هو يفيد أهل العالم ويدينهم ويمنحهم ويوقفهم على الخطيئة والبر والدين ) وثالثها ذكر بعد ذلك بقليل هكذا ( فإن لي كلاماً كثيراً أريد أن أقوله لكم ولكن لا تقدرون على قبوله والاحتفاظ به ولكن إذا جاء روح الحق إليكم يلهمكم ويؤيدكم بجميع الحق لأنه ليس يتكلم بدعة من تلقاء نفسه ) هذا ما في الإنجيل فإن قيل المراد بفارقليط إذا جاء يرشدهم إلى الحق ويعلمهم الشريعة وهو عيسى يجيء بعد الصلب نقول ذكر الحواريون في آخر الإنجيل أن عيسى لما جاء بعد الصلب ما ذكر شيئاً من الشريعة وما علمهم شيئاً من الأحكام وما لبث عندهم إلا لحظة وما تكلم إلا قليلاً مثل أنه قال ( أنا المسيح فلا تظنوني ميتاً بل أنا ناج عند الله ناظر إليكم وإني ما أوحي بعد ذلك إليكم ) فهذا تمام الكلام وقوله تعالى فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيّنَاتِ قيل هو عيسى وقيل هو محمد ويدل على أن الذي جاءهم بالبينات جاءهم بالمعجزات والبينات التي تبين أن الذي جاء به إنما جاء به من عند الله وقوله تعالى هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ أي ساحر مبين وقوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي من أقبح ظلماً ممن بلغ افتراؤه المبلغ الذي يفتري على الله الكذب وأنهم قد علموا أن ما نالوه من نعمة وكرامة فإنما نالوه من الله تعالى ثم كفروا به وكذبوا على الله وعلى رسوله وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يوافقهم الله للطاعة عقوبة لهم
وفي الآية بحث وهو أن يقال بم انتصب مُصَدّقاً و مُبَشّرًا أبما في الرسول من معنى الإرسال أم إِلَيْكُمْ نقول بل بمعنى الإرسال لأن إليكم صلة للرسول

ثم قال تعالى
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ
لِيُطْفِئُواْ أي أن يطفئوا وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك جئتك لإكرامك كما زيدت اللام في لا أباً لك تأكيداً لمعنى الإضافة في أباك وإطفاء نور الله تعالى بأفواههم تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن هَاذَا سَاحِرٌ ( الصف 6 ) مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه كذا ذكره في الكشاف وقوله وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ قرىء بكسر الراء على الإضافة والأصل هو التنوين قال ابن عباس يظهر دينه وقال صاحب الكشاف متم الحق ومبلغه غايته وقيل دين الله وكتاب الله ورسول الله وكل واحد من هذه الثلاثة بهذه الصفة لأنه يظهر عليهم من الآثار وثانيها أن نور الله ساطع أبداً وطالع من مطلع لا يمكن زواله أصلاً وهو الحضرة القدسية وكل واحد من الثلاثة كذلك وثالثها أن النور نحو العلم والظلمة نحو الجهل أو النور الإيمان يخرجهم من الظلمات إلى النور أو الإسلام هو النور أو يقال الدين وضع إلهي سائق لأولي الألباب إلى الخيرات باختيارهم المحمود وذلك هو النور والكتاب هو المبين قال تعالى تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( الشعراء 2 ) فالإبانة والكتاب هو النور أو يقال الكتاب حجة لكونه معجزاً والحجة هو النور فالكتاب كذلك أو يقال في الرسول إنه النور وإلا لما وصف بصفة كونه رحمة للعالمين إذ الرحمة بإظهار ما يكون من الأسرار وذلك بالنور أو نقول إنه هو النور لأنه بواسطته اهتدى الخلق أو هو النور لكونه مبيناً للناس ما نزل إليهم والمبين هو النور ثم الفوائد في كونه نوراً وجوه منها أنه يدل على علو شأنه وعظمة برهانه وذلك لوجهين أحدهما الوصف بالنور وثانيهما الإضافة إلى الحضرة ومنها أنه إذا كان نوراً من أنوار الله تعالى كان مشرقاً في جميع أقطار العالم لأنه لا يكون مخصوصاً ببعض الجوانب فكان رسولاً إلى جميع الخلائق لما روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( بعثت إلى الأحمر والأسود ) فلا يوجد شخص من الجن والإنس إلا ويكون من أمته إن كان مؤمناً فهو من أمة المتابعة وإن كان كافراً فهو من أمة الدعوة
وقوله تعالى وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ أي اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين وقوله بِالْهُدَى لمن اتبعه وَدِينِ الْحَقّ قيل الحق هو الله تعالى أي دين الله وقيل نعت للدين أي والدين هو الحق وقيل الذي يحق أن يتبعه كل أحد و لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ يريد الإسلام وقيل ليظهره أي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالغلبة وذلك بالحجة وههنا مباحث
الأول وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ والتمام لا يكون إلا عند النقصان فكيف نقصان هذا النور فنقول إتمامه بحسب النقصان في الأثر وهو الظهور في سائر البلاد من المشارق إلى المغارب إذ الظهور لا يظهر إلا بالإظهار وهو الإتمام يؤيده قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ( المائدة 3 ) وعن أبي هريرة أن ذلك عند نزول عيسى من السماء قال مجاهد

الثاني قال ههنا مُتِمُّ نُورِهِ ( النور 35 ) وقال في موضع آخر مَثَلُ نُورِهِ وهذا عين ذلك أو غيره نقول هو غيره لأن نور الله في ذلك الموضع هو الله تعالى عند أهل التحقيق وهنا هو الدين أو الكتاب أو الرسول
الثالث قال في الآية المتقدمة وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ وقال في المتأخرة وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ فما الحكمة فيه فنقول إنهم أنكروا الرسول وما أنزل إليه وهو الكتاب وذلك من نعم الله والكافرون كلهم في كفران النعم فلهذا قال وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ولأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك والمراد من الكافرين ههنا اليهود والنصارى والمشركون وهنا ذكر النور وإطفاءه واللائق به الكفر لأنه الستر والتغطية لأن من يحاول الإطفاء إنما يريد الزوال وفي الآية الثانية ذكر الرسول والإرسال ودين الحق وذلك منزلة عظيمة للرسول عليه السلام وهي اعتراض على الله تعالى كما قال ألا قل لمن ظل لي حاسدا
أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فعله
كأنه لم ترض لي ما وهب
والاعتراض قريب من الشرك ولأن الحاسدين للرسول عليه السلام كان أكثرهم من قريش وهم المشركون ولما كان النور أعم من الدين والرسول لا جرم قابله بالكافرين الذين هم جميع مخالفي الإسلام والإرسال والرسول والدين أخص من النور قابله بالمشركين الذين هم أخص من الكافرين
ثم قال تعالى
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَة ٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
إعلم أن قوله تعالى هَلْ أَدُلُّكُمْ في معنى الأمر عند الفراء يقال هل أنت ساكت أي اسكت وبيانه أن هل بمعنى الاستفهام ثم يتدرج إلى أن يصير عرضاً وحثاً والحث كالإغراء والإغراء أمر وقوله تعالى عَلَى تِجَارَة ٍ هي التجارة بين أهل الإيمان وحضرة الله تعالى كما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ ( التوبة 111 ) دل عليه تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ والتجارة عبارة عن معاوضة الشيء بالشيء وكما أن التجارة تنجي التاجر من محنة الفقر ورحمة الصير على ما هو من لوازمه فكذلك هذه التجارة وهي التصديق بالجنان والإقرار باللسان كما قيل في تعريف الإيمان فلهذا قال بلفظ التجارة وكما أن التجارة في الربح والخسران فكذلك في هذا فإن من آمن وعمل صالحاً فله الأجر والربح الوافر واليسار المبين ومن أعرض عن العمل الصالح فله التحسر والخسران المبين وقوله تعالى تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قرىء مخففاً ومثقلاً وَتُؤْمِنُونَ استئناف كأنهم قالوا كيف نعمل فقال تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وهو خبر في معنى الأمر ولهذا أجيب بقوله يَغْفِرْ لَكُمْ وقوله تعالى وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ والجهاد بعد هذين الوجهين ثلاثة جهاد فيما بينه وبين نفسه وهو قهر النفس ومنعها عن

اللذات والشهوات وجهاد فيما بينه وبين الخلق وهو أن يدع الطمع منهم ويشفق عليهم ويرحمهم وجهاد فيما بينه بين الدنيا وهو أن يتخذها زاداً المادة فتكون على خمسة أوجه وقوله تعالى ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ يعني الذي أمرتم به من الإيمان بالله تعالى والجهاد في سبيله خير لكم من أن تتبعوا أهواءكم إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ أي أن كنتم تنتفعون بما عملتم فهو خير لكم وفي الآية مباحث
الأول لم قال تُؤْمِنُونَ بلفظ الخبر نقول للإيذان بوجوب الامتثال عن ابن عباس قالوا لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملنا فنزلت هذه الآية فمكثوا ما شاء الله يقولون يا ليتنا نعلم ما هي فدلهم الله عليها بقوله تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
الثاني ما معنى إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ نقول إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ أنه خير لكم كان خيراً لكم وهذه الوجوه للكشاف وأما الغير فقال الخوف من نفس العذاب لا من العذاب الأليم إذ العذاب الأليم هو نفس العذاب مع غيره والخوف من اللوازم كقوله تعالى وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( آل عمران 175 ) ومنها أن الأمر بالإيمان كيف هو بعد قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فنقول يمكن أن يكون المراد من هذه الآية المنافقين وهم الذين آمنوا في الظاهر ويمكن أن يكون أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بالكتب المتقدمة فكأنه قال يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة آمنوا بالله وبمحمد رسول الله ويمكن أن يكون أهل الإيمان كقوله فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ( التوبة 124 ) لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً ( الفتح 4 ) وهو الأمر بالثبات كقوله يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( إبراهيم 27 ) وهو الأمر بالتجدد كقوله خَبِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ( النساء 136 ) وفي قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من جدد وضوءه فكأنما جدد إيمانه ) ومنها أن رجاء النجاة كيف هو إذا آمن بالله ورسوله ولم يجاهد في سبيل الله وقد علق بالمجموع ومنها أن هذا المجموع وهو الإيمان بالله ورسوله والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله خبر في نفس الأمر
ثم قال تعالى
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
اعلم أن قوله تعالى غَفَرَ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جواب قوله تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( الصف 11 ) لما أنه في معنى الأمر كما مر فكأنه قال آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله يغفر لكم وقيل جوابه ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ ( الصف 11 ) وجزم يَغْفِرْ لَكُمْ لما أنه ترجمة ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ومحله جزم كقوله تعالى لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن ( المنافقون 10 ) لأن محل فَأَصَّدَّقَ جزم على قوله لَوْلا أَخَّرْتَنِى وقيل جزم يَغْفِرْ لَكُمْ بهل لأنه في معنى الأمر وقوله تعالى وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ إلى آخر الآية من جملة ما قدم بيانه في التوراة ولا يبعد أن يقال إن الله تعالى رغبهم في هذه الآية إلى مفارقة مساكنهم وإنفاق أموالهم والجهاد وهو قوله يَغْفِرْ لَكُمْ وقوله تعالى ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني ذلك

الجزاء الدائم هو الفوز العظيم وقد مر وقوله تعالى وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا أي تجارة أخرى في العاجل مع ثواب الآجل قال الفراء وخصلة أخرى تحبونها في الدنيا مع ثواب الآخرة وقوله تعالى نَصْرٌ مّن اللَّهِ هو مفسر للأخرى لأنه يحسن أن يكون نَصْرٌ مّن اللَّهِ مفسراً للتجارة إذ النصر لا يكون تجارة لنا بل هو ريح للتجارة وقوله تعالى وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أي عاجل وهو فتح مكة وقال الحسن هو فتح فارس والروم وفي تُحِبُّونَهَا شيء من التوبيخ على محبة العاجل ثم في اة ية مباحث
الأول قوله تعالى وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ عطف على تؤمنون لأنه في معنى الأمر كأنه قيل آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك ويقال أيضاً بم نصب من قرأ نَصْراً مِنَ اللَّهِ يَكُونَ قَرِيبًا ( الصف 11 ) فيقال على الاختصاص أو على تنصرون نصراً ويفتح لكم فتحاً أو على يغفر لكم ويدخلكم ويؤتكم خيراً ويرى نصراً وفتحاً هكذا ذكر في الكشاف
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَأامَنَت طَّآئِفَة ٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَة ٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ
ثم قال تعالى الْمُؤْمِنِينَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنَّصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ
قوله كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ أمر بإدامة النصرة والثبات عليه أي ودوموا على ما أنتم عليه من النصرة ويدل عليه قراءة ابن مسعود كُونُواْ أَنتُمْ أَنْصَارُ اللَّهِ فأخير عنهم بذلك أي أنصار دين الله وقوله كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ قال مقاتل يعني من يمنعني من الله وقال عطاء من ينصر دين الله ومنهم من قال أمر الله المؤمنين أن ينصروا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كما نصر الحواريون عيسى عليه السلام وفيه إشارة إلى أن النصر بالجهاد لا يكون مخصوصاً بهذه الأمة والحواريون أصفياؤه وأول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلاً وحواري الرجل صفيه وخلصاؤه من الحور وهو البياض الخالص وقيل كانوا قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها وأما الأنصار فعن قتادة أن الأنصار كلهم من قريش أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن عوف وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ثم في الآية مباحث
البحث الأول التشبيه محمول على المعنى والمراد كونوا كما كان الحواريون
الثاني ما معنى قوله مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ نقول يجب أن يكون معناه مطابقاً لجواب الحواريين والذي يطابقه أن يكون المعنى من عسكري متوجهاً إلى نصرة الله وإضافة أَنصَارِى خلاف إضافة أَنْصَارُ اللَّهِ لما أن المعنى في الأول الذين ينصرون الله وفي الثاني الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله

الثالث أصحاب عيسى قالوا نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وأصحاب محمد لم يقولوا هكذا نقول خطاب عيسى عليه السلام بطريق السؤال فالجواب لازم وخطاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بطريق الإلزام فالجواب غير لازم بل اللازم هو امتثال هذا الأمر وهو قوله تعالى كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ
ثم قال تعالى يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنَّصَارِى
قال ابن عباس يعني الذين آمنوا في زمن عيسى عليه السلام والذين كفروا كذلك وذلك لأن عيسى عليه السلام لما رفع إلى السماء تفرقوا ثلاث فرق فرقة قالوا كان الله فارتفع وفرقة قالوا كان ابن الله فرفعه إليه وفرقة قالوا كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه وهم المسلمون واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس واجتمعت الطائفتان الكافرتان على الطائفة المسلمة فقتلوهم وطردوهم في الأرض فكانت الحالة هذه حتى بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فظهرت المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ وقال مجاهد فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ يعني من اتبع عيسى وهو قول المقاتلين وعلى هذا القول معنى الآية أن من آمن بعيسى ظهروا على من كفروا به فأصبحوا غالبين على أهل الأديان وقال إبراهيم أصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأن عيسى كلمة الله وروحه قال الكلبي ظاهرين بالحجة والظهور بالحجة هو قول زيد بن علي رضي الله عنه والله أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين

بداية الجزء الثلاثين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

سورة الجمعة
وهي إحدى عشرة آية مدنية
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أنه تعالى قال في أول تلك السورة سَبَّحَ للَّهِ ( الصف 1 ) بلفظ الماضي وذلك لا يدل على التسبيح في المستقبل فقال في أول هذه السورة بلفظ المستقبل ليدل على التسبيح في زماني الحاضر والمستقبل وأما تعلق الأول بالآخر فلأنه تعالى ذكر في آخر تلك السورة أنه كان يؤيد أهل الإيمان حتى صاروا عالين على الكفار وذلك على وفق الحكمة لا للحاجة إليه إذ هو غني على الإطلاق ومنزه عما يخطر ببال الجهلة في الآفاق وفي أول هذه السورة ما يدل على كونه مقدساً ومنزهاً عما لا يليق بحضرته العالية بالاتفاق ثم إذا كان خلق السموات والأرض بأجمعهم في تسبيح حضرة الله تعال فله الملك كما قال تعالى يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ لَهُ الْمُلْكُ ( التغابن 1 ) ولا ملك أعظم من هذا وهو أنه خالقهم ومالكهم وكلهم في قبضة قدرته وتحت تصرفه يسبحون له آناء الليل وأطراف النهار بل في سائر الأزمان كما مر في أول تلك السورة ولما كان الملك كله له فهو الملك على الإطلاق ولما كان الكل بخلقه فهو المالك والمالك والملك أشرف من المملوك فيكون متصفاً بصفات يحصل منها الشرف فلا مجال لما ينافيه من الصفات فيكون قدوساً فلفظ الْمَلِكُ إشارة إلى إثبات ما يكون من الصفات العالية ولفظ الْقُدُّوسُ هو إشارة إلى نفي مالا يكون منها وعن الغزالي الْقُدُّوسُ المنزه عما يخطر ببال أوليائه وقد مر تفسيره وكذلك العَزِيزُ الحَكِيمُ ثم الصفات المذكورة قرئت بالرفع على المدح أي هو الملك القدوس ولو قرئت بالنصب لكان وجهاً كقول العرب الحمد لله أهل الحمد كذا ذكره في ( الكشاف ) ثم في الآية مباحث
الأول قال تعالى يُسَبّحُ لِلَّهِ ولم يقل يسبح الله فما الفائدة نقول هذا من جملة ما يجري فيه

اللفظان كشكره وشكر له ونصحه ونصح له
الثاني الْقُدُّوسُ من الصفات السلبية وقيل معناه المبارك
الثالث لفظ الْحَكِيمُ يطلق على الغير أيضاً كما قيل في لقمان إنه حكيم نقول الحكيم عند أهل التحقيق هو الذي يضع الأشياء ( في ) مواضعها والله تعالى حكيم بهذا المعنى
ثم إنه تعالى بعدما فرغ من التوحيد والتنزيه شرع في النبوة فقال
هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ
الأمي منسوب إلى أمة العرب لما أنهم أمة أميون لا كتاب لهم ولا يقرأون كتاباً ولا يكتبون وقال ابن عباس يريد الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم وقيل الأميون الذين هم على ما خلقوا عليه وقد مر بيانه وقرىء الأمين بحذف ياء النسب كما قال تعالى رَسُولاً مّنْهُمْ ( المؤمنون 32 ) يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) نسبه من نسبهم وهو من جنسهم كما قال تعالى لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ( التوبة 128 ) قال أهل المعاني وكان هو ( صلى الله عليه وسلم ) أيضاً أمياً مثل الأمة التي بعث فيهم وكانت البشارة به في الكتب قد تقدمت بأنه النبي الأمي وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالكتابة فكانت حاله مشاكلة لحال الأمة الذين بعث فيهم وذلك أقرب إلى صدقة
وقوله تعالى يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ أي بيناته التي تبين رسالته وتظهر نبوته ولا يبعد أن تكون الآيات هي الآيات التي تظهر منها الأحكام الشرعية والتي يتميز بها الحق من الباطل وَيُزَكّيهِمْ أي يطهرهم من خبث الشرك وخبث ما عداه من الأقوال والأفعال وعند البعض يُزَكّيهِمْ أي يصلحهم يعني يدعوهم إلى اتباع ما يصيرون به أزكياء أتقياء وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ والكتاب ما يتلى من الآيات والحكمة هي الفرائض وقيل الْحِكْمَة َ السنة لأنه كان يتلو عليهم آياته ويعلمهم سننه وقيل الْكِتَابِ الآيات نصاً والحكمة ما أودع فيها من المعاني ولا يبعد أن يقال الكتاب آيات القرآن والحكمة وجه التمسك بها وقوله تعالى وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ظاهر لأنهم كانوا عبدة الأصنام وكانوا في ضلال مبين وهو الشرك فدعاهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى التوحيد والإعراض عما كانوا فيه وفي هذه الآية مباحث
أحدها احتجاج أهل الكتاب بها قالوا قوله بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يدل على أنه عليه السلام كان رسولاً إلى الأميين وهم العرب خاصة غير أنه ضعيف فإنه لا يلزم من تخصيص الشيء بالذكر نفي ما عداه ألا ترى إلى قوله تعالى وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ( العنكبوت 48 ) أنه لا يفهم منه أنه يخطه بشماله ولأنه

لو كان رسولاً إلى العرب خاصة كان قوله تعالى كَافَّة ً لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ( سبإ 28 ) لا يناسب ذلك ولا مجال لهذا لما اتفقوا على ذلك وهو صدق الرسالة المخصوصة فيكون قوله تعالى كَافَّة ً النَّاسِ دليلاً على أنه عليه الصلاة والسلام كان رسولاً إلى الكل
ثم قال تعالى
وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
وَءاخَرِينَ عطف على الأميين يعني بعث في آخرين منهم قال المفسرون هم الأعاجم يعنون بهم غير العرب أي طائفة كانت قاله ابن عباس وجماعة وقال مقاتل يعني التابعين من هذه الأمة الذين لم يلحقوا بأوائلهم وفي الجملة معنى جميع الأقوال فيه كل من دخل في الإسلام بعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى يوم القيامة فالمراد بالأميين العرب وبالآخرين سواهم من الأمم وقوله وَءاخَرِينَ مجرور لأنه عطف على المجرور يعني الأميين ويجوز أن ينتصب عطفاً على المنصوب في وَيُعَلّمُهُمُ ( الجمعة 2 ) أي ويعلمهم ويعلم آخرين منهم أي من الأميين وجعلهم منهم لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم فالمسلمون كلهم أمة واحدة وإن اختلف أجناسهم قال تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 ) وأما من لم يؤمن بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يدخل في دينه فإنهم كانوا بمعزل عن المراد بقوله وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ وإن كان النبي مبعوثاً إليهم بالدعوة فإنه تعالى قال في الآية الأولى وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ ( الجمعة 2 ) وغير المؤمنين ليس من جملة من يعلمه الكتاب والحكمة وَهُوَ الْعَزِيزُ من حيث جعل في كل واحد من البشر أثر الذل له والفقر إليه والحكيم حيث جعل في كل مخلوق ما يشهد بوحدانيته قوله تعالى ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قال ابن عباس يريد حيث ألحق العجم وابناءهم بقريش يعني إذا آمنوا ألحقوا في درجة الفضل بمن شاهد الرسول عليه السلام وشاركوهم في ذلك وقال مقاتل ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يعني الإسلام يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وقال مقاتل بن حيان يعني النبوة فضل الله يؤتيه من يشاء فاختص بها محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) والله ذو المن العظيم على جميع خلقه في الدنيا بتعليم الكتاب والحكمة كما مر وفي الآخرة بتفخيم الجزاء على الأعمال
ثم إنه تعالى ضرب لليهود الذين أعرضوا عن العمل بالتوراة والإيمان بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) مثلاً فقال
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاة َ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
اعلم أنه تعالى لما أثبت التوحيد والنبوة وبين في النبوة أنه عليه السلام بعث إلى الأميين واليهود لما أوردوا تلك الشبهة وهي أنه عليه السلام بعث إلى العرب خاصة ولم يبعث إليهم بمفهوم الآية أتبعه الله تعالى بضرب المثل للذين أعرضوا عن العمل بالتوراة والإيمان بالنبي عليه السلام والمقصود منه أنهم لما

لم يعملوا بما في التوراة شبهوا بالحمار لأنهم لو عملوا بمقتضاها لانتفعوا بها ولم يوردوا تلك الشبهة وذلك لأن فيها نعت الرسول عليه السلام والبشارة بمقدمه والدخول في دينه وقوله حُمّلُواْ التَّوْرَاة َ أي حملوا العمل بما فيها وكلفوا القيام بها وحملوا وقرىء بالتخفيف والتثقيل وقال صاحب ( النظم ) ليس هو من الحمل على الظهر وإنما هو من الحمالة بمعنى الكفالة والضمان ومنه قيل للكفيل الحميل والمعنى ضمنوا أحكام التوراة ثم لم يضمنوها ولم يعملوا بما فيها قال الأصمعي الحميل الكفيل وقال الكسائي حملت له حمالة أي كفلت به والأسفار جمع سفر وهو الكتاب الكبير لأنه يسفر عن المعنى إذا قرىء ونظيره شبر وأشبار شبه اليهود إذ لم ينتفعوا بما في التوراة وهي دالة على الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالحمار الذي يحمل الكتب العلمية ولا يدري ما فيها وقال أهل المعاني هذا المثل مثل من يفهم معاني القرآن ولم يعمل به وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ولهذا قال ميمون بن مهران يا أهل القرآن اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم ثم تلا هذه الآية وقوله تعالى لَمْ يَحْمِلُوهَا أي لم يؤدوا حقها ولم يحملوها حق حملها على ما بيناه فشبههم والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون بها بحمار يحمل كتباً وليس له من ذلك إلا ثقل الحمل من غير انتفاع مما يحمله كذلك اليهود ليس لهم من كتابهم إلا وبال الحجة عليهم ثم ذم المثل والمراد منه ذمهم فقال بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ أي بئس القوم مثلاً الذين كذبوا كما قال سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ ( الأعراف 177 ) وموضع الذين رفع ويجوز أن يكون جراً وبالجملة لما بلغ كذبهم مبلغاً وهو أنهم كذبوا على الله تعالى كان في غاية الشر والفساد فلهذا قال بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ والمراد بالآيات ههنا الآيات الدالة على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قول ابن عباس ومقاتل وقيل الآيات التوراة لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا أشبه هنا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قال عطاء يريد الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء وههنا مباحث
البحث الأول ما الحكمة في تعيين الحمار من بين سائر الحيوانات نقول لوجوه منها أنه تعالى خلق الْخَيْلِ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة ً والزينة في الخيل أكثر وأظهر بالنسبة إلى الركوب وحمل الشيء عليه وفي البغال دون وفي الحمار دون البغال فالبغال كالمتوسط في المعاني الثلاثة وحينئذ يلزم أن يكون الحمار في معنى الحمل أظهر وأغلب بالنسبة إلى الخيل والبغال وغيرهما من الحيوانات ومنها أن هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة وذلك في الحمار إظهر ومنها أن في الحمار من الذل والحقارة مالا يكون في الغير والغرض من الكلام في هذا المقام تعيير القوم بذلك وتحقيرهم فيكون تعيين الحمار أليق وأولى ومنها أن حمل الأسفار على الحمار أتم وأعم وأسهل وأسلم لكونه ذلولاً سلس القياد لين الانقياد يتصرف فيه الصبي الغبي من غير كلفة ومشقة وهذا من جملة ما يوجب حسن الذكر بالنسبة إلى غيره ومنها أن رعاية الألفاظ والمناسبة بينها من اللوازم في الكلام وبين لفظي الأسفار والحمار مناسبة لفظية لا توجد في الغير من الحيوانات فيكون ذكره أولى
الثاني يَحْمِلُ ما محله نقول النصب على الحال أو الجر على الوصف كما قال في ( الكشاف ) إذا الحمار كاللئيم في قوله

ولقد أمر على اللئيم يسبني
فمررت ثمة قلت لا يعنيني
الثالث قال تعالى بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ كيف وصف المثل بهذا الوصف نقول الوصف وإن كان في الظاهر للمثل فهو راجع إلى القوم فكأنه قال بئس القوم قوماً مثلهم هكذا
ثم إنه تعالى أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بهذا الخطاب لهم وهو قوله تعالى
قُلْ ياأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
هذه الآية من جملة ما مر بيانه وقرىء فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ بكسر الواو و هَادُواْ أي تهودوا وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه فلو كان قولكم حقاً وأنتم على ثقة فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه قال الشاعر ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
فهم يطلبون الموت لا محالة إذا كانت الحالة هذه وقوله تعالى وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ أي بسبب ما قدموا من الكفر وتحريف الآيات وذكر مرة بلفظ التأكيد وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ومرة بدون لفظ التأكيد وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ وقوله أَبَدًا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ أي بظلمهم من تحريف الآيات وعنادهم لها ومكابرتهم إياها
ثم قال تعالى
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يعني أن الموت الذي تفرون منه بما قدمت أيديكم من تحريف الآيات وغيره ملاقيكم لا محالة ولا ينفعكم الفرار ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة يعني ما أشهدتم الخلق من التوراة والإنجيل وعالم بما غيبتم عن الخلق من نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما أسررتم في أنفسكم من تكذيبكم رسالته وقوله تعالى فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إما عياناً مقروناً بلقائكم يوم القيامة أو بالجزاء إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر فقوله إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ هو التنبيه على السعي فيما ينفعهم في الآخرة وقوله فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هو الوعيد البليغ والتهديد الشديد ثم في الآية مباحث
البحث الأول أدخل الفاء لما أنه في معنى الشرط والجزاء وفي قراءة ابن مسعود مُلَاقِيكُمْ من غير فَإِنَّهُ

الثاني أن يقال الموت ملاقيهم على كل حال فروا أو لم يفروا فما معنى الشرط والجزاء قيل إن هذا على جهة الرد عليهم إذ ظنوا أن الفرار ينجيهم وقد صرح بهذا المعنى وأفصح عنه بالشرط الحقيقي في قوله ومن هاب أسباب المنايا تناله < / 1 }
ولو نال أسباب السماء بسلم
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِى َ لِلصَّلَواة ِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَة ِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ فَانتَشِرُواْ فِى الأرض وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
وجه التعلق بما قبلها هو أن الذين هادوا يفرون من الموت لمتاع الدنيا وطيباتها والذين آمنوا يبيعون ويشرون لمتاع الدنيا وطيباتها كذلك فنبههم الله تعالى بقوله فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ أي إلى ما ينفعكم في الآخرة وهو حضور الجمعة لأن الدنيا ومتاعها فانية والآخرة وما فيها باقية قال تعالى وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( الأعلى 17 ) ووجه آخر في التعلق قال بعضهم قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث افتخروا بأنهم أولياء الله واحباؤه فكذبهم بقوله فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( الجمعة 6 ) وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً وبالسبت وليس للمسلمين مثله فشرع الله تعالى لهم الجمعة وقوله تعالى إِذَا نُودِى َ يعني النداء إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة وهو قول مقاتل وأنه كما قال لأنه لم يكن في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نداء سواء كان إذا جلس عليه الصلاة والسلام على المنبر أذن بلال على باب المسجد وكذا على عهد أبي بكر وعمر وقوله تعالى لِلصَّلَواة ِ أي لوقت الصلاة يدل عليه قوله مِن يَوْمِ الْجُمُعَة ِ ولا تكون الصلاة من اليوم وإنما يكون وقتها من اليوم قال الليث الجمعة يوم خص به لاجتماع الناس في ذلك اليوم ويجمع على الجمعات والجمع وعن سلمان رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سميت الجمعة جمعة لأن آدم جمع فيه خلقه ) وقيل لما أنه تعالى فرغ فيها من خلق الأشياء فاجتمعت فيها المخلوقات قال الفراء وفيها ثلاث لغات التخفيف وهي قراءة الأعمش والتثقيل وهي قراءة العامة ولغة لبني عقيل وقوله تعالى فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ أي فامضوا وقيل فامشوا وعلى هذا معنى السعي المشي لا العدو وقال الفراء المضي والسعي والذهاب في معنى واحد وعن عمر أنه سمع رجلاً يقرأ فَاسْعَوْاْ قال من أقرأك هذا قال أبي قال لا يزال يقرأ بالمنسوخ لو كانت فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي وقيل المراد بالسعي القصد دون العدو والسعي التصرف في كل عمل ومنه قوله تعالى فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْى َ قال الحسن والله ما هو سعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب وسعي بالنية وسعي بالرغبة ونحو هذا والسعي ههنا هو العمل عند قوم وهو مذهب مالك والشافعي إذ السعي

في كتاب الله العمل قال تعالى وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الاْرْضِ ( البقرة 205 ) وَأَنْ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ( الليل 4 ) أي العمل وروي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن ائتوها وعليكم السكينة ) واتفق الفقهاء على ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( كان ) متى أتى الجمعة أتى على هينة ) وقوله إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ الذكر هو الخطبة عند الأكثر من أهل التفسير وقيل هو الصلاة وأما الأحكام المتعلقة بهذه الآية فإنها تعرف من الكتب الفقهية وقوله تعالى وَذَرُواْ الْبَيْعَ قال الحسن إذا أذن المؤذن يوم الجمعة لم يحل الشراء والبيع وقال عطاء إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء وقال الفراء إنما حرم البيع والشراء إذا نودي للصلاة لمكان الاجتماع ولندرك له كافة الحسنات وقوله تعالى ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ أي في الآخرة إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ما هو خير لكم وأصلح وقوله تعالى فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ أي إذا صليتم الفريضة يوم الجمعة فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ هذا صيغة الأمر بمعنى الإباحة لما أن إباحة الانتشار زائلة بفرضية أداء الصلاة فإذا زال ذلك عادت الإباحة فيباح لهم أن يتفرقوا في الأرض ويبتغوا من فضل الله وهو الرزق ونظيره لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ ( البقرة 198 ) وقال ابن عباس إذا فرغت من الصلاة فإن شئت فاخرج وإن شئت فصل إلى العصر وإن شئت فاقعد كذلك قوله وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ فإنه صيغة أمر بمعنى الإباحة أيضاً لجلب الرزق بالتجارة بعد المنع بقوله تعالى وَذَرُواْ الْبَيْعَ وعن مقاتل أحل لهم ابتغاء الرزق بعد الصلاة فمن شاء خرج ومن شاء لم يخرج وقال مجاهد إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وقال الضحاك هو إذن من الله تعالى إذا فرغ فإن شاء خرج وإن شاء قعد والأفضل في الابتغاء من فضل الله أن يطلب الرزق أو الولد الصالح أو العلم النافع وغير ذلك من الأمور الحسنة والظاهر هو الأول وعن عراك بن مالك أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد ( و ) قال اللهم أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين وقوله تعالى وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً قال مقاتل باللسان وقال سعيد بن جبير بالطاعة وقال مجاهد لا يكون من الذاكرين كثيراً حتى يذكره قائماً وقاعداً ومضطجعاً والمعنى إذا رجعتم إلى التجارة وانصرفتم إلى البيع والشراء مرة أخرى فاذكروا الله كثيراً قال تعالى رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَة ٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وعن عمر رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا أتيتم السوق فقولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير فإن من قالها كتب الله له ألف ألف حسنة وحط عنه ألف ألف خطيئة ورفع له ألف ألف درجة ) وقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ من جملة ما قد مر مراراً وفي الآية مباحث
البحث الأول ما الحكمة في أن شرع الله تعالى في يوم الجمعة هذا التكليف فنقول قال القفال هي أن الله عز وجل خلق الخلق فأخرجهم من العدم إلى الوجود وجعل منهم جماداً ونامياً وحيواناً فكان ما سوى الجماد أصنافاً منها بهائم وملائكة وجن وإنس ثم هي مختلفة المساكن من العلو والسفل فكان أشرف العالم السفلي هم الناس لعجيب تركيبهم ولما كرمهم الله تعالى به من النطق وركب فيهم من العقول والطباع التي بها غاية التعبد بالشرائع ولم يخف موضع عظم المنة وجلالة قدر الموهبة لهم فأمروا بالشكر على هذه الكرامة في يوم من الأيام السبعة التي فيها أنشئت الخلائق وتم وجودها ليكون في اجتماعهم في ذلك اليوم تنبيه على عظم ماأنعم الله تعالى به عليهم وإذا كان شأنهم لم يخل من حين ابتدئوا من نعمة تتخللهم وإن منة الله مثبتة عليهم قبل استحقاقهم لها ولكل أهل ملة من الملل المعروفة

يوم منها معظم فلليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد وللمسلمين يوم الجمعة روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يوم الجمعة هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فلليهود غداً وللنصارى بعد غد ) ولما جعل يوم الجمعة يوم شكر وإظهار سرور وتعظيم نعمة احتيج فيه إلى الاجتماع الذي به تقع شهرته فجمعت الجماعات له كالسنة في الأعياد واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيراً بالنعمة وحثاً على استدامتها بإقامة ما يعود بآلاء الشكر ولما كان مدار التعظيم إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع ولم تجز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى إلى الاجتماع والله أعلم
الثاني كيف خص ذكر الله بالخطبة وفيها ذكر الله وغير الله نقول المراد من ذكر الله الخطبة والصلاة لأن كل واحدة منهما مشتملة على ذكر الله وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة والثناء عليهم والدعاء لهم فذلك ذكر الشيطان
الثالث قوله وَذَرُواْ الْبَيْعَ لم خص البيع من جميع الأفعال نقول لأنه من أهم ما يشتغل به المرء في النهار من أسباب المعاش وفيه إشارة إلى ترك التجارة ولأن البيع والشراء في الأسواق غالباً والغفلة على أهل السوق أغلب فقوله وَذَرُواْ الْبَيْعَ تنبيه للغافلين فالبيع أولى بالذكر ولم يحرم لعينه ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة
الرابع ما الفرق بين ذكر الله أولاً وذكر الله ثانياً فنقول الأول من جملة مالا يجتمع مع التجارة أصلاً إذ المراد منه الخطبة والصلاة كما مر والثاني من جملة ما يجتمع كما في قوله تعالى رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَة ٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ( النور 37 )
ثم قال تعالى
وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَة ِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَازِقِينَ
قال مقاتل إن دحية بن خليفة الكلبي أقبل بتجارة من الشام قبل أن يسلم وكان معه من أنواع التجارة وكان يتلقاه أهل المدينة بالطبل والصفق وكان ذلك في يوم الجمعة والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس وتركوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يبق إلا إثنا عشر رجلاً أو أقل كثمانية أو أكثر كأربعين فقال عليه السلام لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة ونزلت الآية وكان من الذين معه أبو بكر وعمر وقال الحسن أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدمت عير والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخطب يوم الجمعة فسمعوا بها وخرجوا إليها فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو اتبع آخرهم أولهم لالتهب الوادي عليهم ناراً ) قال قتادة فعلوا ذلك ثلاث مرات وقوله تعالى أَوْ لَهْواً وهو الطبل وكانوا إذا أنكحوا الجواري يضربون المزامير فمروا يضربون فتركوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقوله انفَضُّواْ إِلَيْهَا أي تفرقوا وقال المبرد مالوا إليها وعدلوا نحوها والضمير في ( إليها ) للتجارة وقال الزجاج انفضوا إليه وإليها ومعناهما واحد كقوله تعالى وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ ( البقرة 45 )

واعتبر هنا الرجوع إلى التجارة لما أنها أهم إليهم وقوله تعالى وَتَرَكُوكَ قَائِماً اتفقوا على أن هذا القيام كان في الخطبة للجمعة قال جابر ما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الخطبة إلا وهو قائم وسئل عبد الله أكان النبي يخطب قائماً أو قاعداً فقرأ وَتَرَكُوكَ قَائِماً وقوله تعالى قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ أي ثواب الصلاة والثبات مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَارَة ِ من اللهو الذي مر ذكره والتجارة التي جاء بها دحية وقوله تعالى وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ هو من قبيل أحكم الحاكمين وأحسن الخالقين والمعنى إن أمكن وجود الرازقين فهو خير الرازقين وقيل لفظ الرازق لا يطلق على غيره إلا بطريق المجاز ولا يرتاب في أن الرازق بطريق الحقيقة خير من الرازق بطريق المجاز وفي الآية مباحث
البحث الأول أن التجارة واللهو من قبيل ما لا يرى أصلاً ولو كان كذلك كيف يصح وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً نقول ليس المراد إلا ما يقرب منه اللهو والتجارة ومثله حتى يسمع كلام الله إذ الكلام غير مسموع بل المسموع صوت يدل عليه
الثاني كيف قال انفَضُّواْ إِلَيْهَا وقد ذكر شيئين وقد مر الكلام فيه وقال صاحب ( الكشاف ) تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه
الثالث أن قوله تعالى وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ مناسب للتجارة التي مر ذكرها لا للهو نقول بل هو مناسب للمجموع لماأن اللهو الذي مر ذكره كالتبع للتجارة لما أنهم أظهروا ذلك فرحاً بوجود التجارة كما مر والله أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين

سورة المنافقون
إحدى عشرة آية مدنية
إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ
وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أن تلك السورة مشتملة على ذكر بعثة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وذكر من كان يكذبه قلباً ولساناً بضرب المثل كما قال مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُواْ التَّوْرَاة َ ( الجمعة 5 ) وهذه السورة على ذكر من كان يكذبه قلباً دون اللسان ويصدقه لساناً دون القلب وأما الأول بالآخر فذلك أن في آخر تلك السورة تنبيهاً لأهل الإيمان على تعظيم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ورعاية حقه بعد النداء لصلاة الجمعة وتقديم متابعته في الأداء على غيره وأن ترك التعظيم والمتابعة من شيم المنافقين والمنافقون هم الكاذبون كما قال في أول هذه السورة إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ يعني عبد الله بن أبي وأصحابه قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وتم الخبر عنهم ثم ابتدأ فقال وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ أي أنه أرسلك فهو يعلم أنك لرسوله وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ أضمروا غير ما أظهروا وإنه يدل على أن حقيقة الإيمان بالقلب وحقيقة كل كلام كذلك فإن من أخبر عن شيء واعتقد بخلافه فهو كاذب لما أن الكذب باعتبار المخالفة بين الوجود اللفظي والوجود الذهني كما أن الجهل باعتبار المخالفة بين الوجود الذهني والوجود الخارجي ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم نشهد إنك لرسول الله وسماهم الله كاذبين لما أن قولهم يخالف اعتقادهم وقال قوم لم يكذبهم الله تعالى في قولهم نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ إنما كذبهم بغير هذا من الأكاذيب الصادرة عنهم في قوله تعالى يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ ( التوبة 74 ) الآية و يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ ( التوبة 56 ) وجواب إذا قَالُواْ نَشْهَدُ أي

أنهم إذا أتوك شهدوا لك بالرسالة فهم كاذبون في تلك الشهادة لما مر أن قولهم يخالف اعتقادهم وفي الآية مباحث
البحث الأول أنهم قالوا نشهد إنك لرسول الله فلو قالوا نعلم إنك لرسول الله أفاد مثل ما أفاد هذا أم لا نقول ما أفاد لأن قولهم نشهد إنك لرسول الله صريح في الشهادة على إثبات الرسالة وقولهم نعلم ليس بصريح في إثبات العلم لما أن علمهم في الغيب عند غيرهم
ثم قال تعالى
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّة ً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
قوله اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّة ً أي ستراً ليستتروا به عما خافوا على أنفسهم من القتل قال في ( الكشاف ) اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّة ً يجوز أن يراد أن قولهم نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ يمين من أيمانهم الكاذبة لأن الشهادة تجري مجرى الحلف في التأكيد يقول الرجل أشهد وأشهد بالله وأعزم وأعزم بالله في موضع أقسم وأولى وبه استشهد أبو حنيفة على أن أشهد يمين ويجوز أن يكون وصفاً للمنافقين في استخفافهم بالإيمان فإن قيل لم قالوا نشهد ولم يقولوا نشهد بالله كما قلتم أجاب بعضهم عن هذا بأنه في معنى الحلف من المؤمن وهو في المتعارف إنما يكون بالله فلذلك أخبر بقوله نشهد عن قوله بالله
وقوله تعالى فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أي أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله وقيل صدوا أي صرفوا ومنعوا الضعفة عن اتباع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سَاء أي بئس مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ حيث آثروا الكفر على الإيمان وأظهروا خلاف ما أضمروا مشاكلة للمسلمين
وقوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا ذلك إشارة إلى قوله سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قال مقاتل ذلك الكذب بأنهم آمنوا في الظاهر ثم كفروا في السر وفيه تأكيد لقوله وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وقوله فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ لا يتدبرون ولا يستدلون بالدلائل الظاهرة قال ابن عباس ختم على قلوبهم وقال مقاتل طبع على قلوبهم بالكفر فهم لا يفقهون القرآن وصدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل إنهم كانوا يظنون أنهم على الحق فأخبر تعالى أنهم لا يفقهون أنه طبع على قلوبهم ثم في الآية مباحث
البحث الأول أنه تعالى ذكر أفعال الكفرة من قبل ولم يقل إنهم ساء ما كانوا يعملون فلم قلنا هنا نقول إن أفعالهم مقرونة بالأيمان الكاذبة التي جعلوها جنة أي سترة لأموالهم ودمائهم عن أن يستبيحها المسلمون كما مر
الثاني المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم فما معنى قوله تعالى ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ

نقول قال في ( الكشاف ) ثلاثة أوجه أحدها ءامَنُواْ نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ثُمَّ كَفَرُواْ ثم ظهر كفرهم بعد ذلك وثانيها ءامَنُواْ نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ثُمَّ كَفَرُواْ نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام كقوله تعالى وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وثالثها أن يراد أهل الذمة منهم
الثالث الطبع على القلوب لا يكون إلا من الله تعالى ولما طبع الله على قلوبهم لا يمكنهم أن يتدبروا ويستدلوا بالدلائل ولو كان كذلك لكان هذا حجة لهم على الله تعالى فيقولون إعراضنا عن الحق لغفلتنا وغفلتنا بسبب أنه تعالى طبع على قلوبنا فنقول هذا الطبع من الله تعالى لسوء أفعالهم وقصدهم الإعراض عن الحق فكأنه تعالى تركهم في أنفسهم الجاهلة وأهوائهم الباطلة
ثم قال تعالى
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَة ٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَة ٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
اعلم أن قوله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ يعني عبد الله بن أبي ومغيث بن قيس وجد بن قيس كانت لهم أجسام ومنظر تعجبك أجسامهم لحسنها وجمالها وكان عبد الله بن أبي جسيماً صبيحاً فصيحاً وإذا قال سمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قوله وهو قوله تعالى وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ أي ويقولوا إنك لرسول الله تسمع لقولهم وقرىء يسمع على البناء للمفعول ثم شبههم بالخشب المسندة وفي الخشب التخفيف كبدنة وبدن وأسد وأسد والتثقيل كذلك كثمرة وثمر وخشبة وخشب ومدرة ومدر وهي قراءة ابن عباس والتثقيل لغة أهل الحجاز والخشب لا تعقل ولا تفهم فكذلك أهل النفاق كأنهم في ترك التفهم والاستبصار بمنزلة الخشب وأما المسندة يقال سند إلى شيء أي مال إليه وأسنده إلى الشيء أي أماله فهو مسند والتشديد للمبالغة وإنما وصف الخشب بها لأنها تشبه الأشجار القائمة التي تنمو وتثمر بوجه ما ثم نسبهم إلى الجبن وعابهم به فقال يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَة ٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ وقال مقاتل إذا نادى مناد في العسكر وانفلتت دابة أو نشدت ضالة مثلاً ظنوا أنهم يرادون بذلك لما في قلوبهم من الرعب وذلك لأنهم على وجل من أن يهتك الله أستارهم ويكشف أسرارهم يتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة ثم أعلم ( الله ) رسوله بعداوتهم فقال هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ أن تأمنهم على السر ولا تلتفت إلى ظاهرهم فإنهم الكاملون في العداوة بالنسبة إلى غيرهم وقوله تعالى قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ مفسر وهو دعاء عليهم

وطلب من ذاته أن يلعنهم ويخزيهم وتعليم للمؤمنين أن يدعوا بذلك و أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي يعدلون عن الحق تعجباً من جهلهم وضلالتهم وظنهم الفاسد أنهم على الحق
وقوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ قال الكلبي لما نزل القرآن على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بصفة المنافقين مشى إليه عشائرهم من المؤمنين وقالوا لهم ويلكم افتضحتم بالنفاق وأهلكتم أنفسكم فأتوا رسول الله وتوبوا إليه من النفاق واسألوه أن يستغفر لكم فأبوا ذلك وزهدوا في الاستغفار فنزلت وقال ابن عباس لما رجع عبد الله بن أبي من أحد بكثير من الناس مقته المسلمون وعنفوه وأسمعوه المكروه فقال له بنو أبيه لو أتيت رسول ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يستغفر لك ويرضى عنك فقال لا أذهب إليه ولا أريد أن يستغفر لي وجعل يلوي رأسه فنزلت وعند الأكثرين إنما دعى إلى الاستغفار لأنه قال لَيُخْرِجَنَّ الاْعَزُّ مِنْهَا الاْذَلَّ ( المنافقون 8 ) وقال لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ ( المنافقون 7 ) فقيل له تعال يستغفر لك رسول الله فقال ماذا قلت فذلك قوله تعالى لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ وقرىء لَوَّوْاْ بالتخفيف والتشديد للكثرة والكناية قد تجعل جمعاً والمقصود واحد وهو كثير في أشعار العرب قال جرير لا بارك الله فيمن كان يحسبكم
إلا على العهد حتى كان ما كانا
وإنما خاطب بهذا امرأة وقوله تعالى وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ أي عن استغفار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر تعالى أن استغفاره لا ينفعهم فقال سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ قال قتادة نزلت هذه الآية بعد قوله اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وذلك لأنها لما نزلت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خيرني ربي فلأزيدنهم على السبعين ) فأنزل الله تعالى لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ قال ابن عباس المنافقين وقال قوم فيه بيان أن الله تعالى يملك هداية وراء هداية البيان وهي خلق فعل الاهتداء فيمن علم منه ذلك وقيل معناه لا يهديهم لفسقهم وقالت المعتزلة لا يسميهم المهتدين إذا فسقوا وضلوا وفي الآية مباحث
البحث الأول لم شبههم بالخشب المسندة لا بغيره من الأشياء المنتفع بها نقول لاشتمال هذا التشبيه على فوائد كثيرة لا توجد في الغير الأولى قال في ( الكشاف ) شبهوا في استنادهم وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحائط ولأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع وما دام متروكاً فارغاً غير منتفع به أسند إلى الحائط فشبهوا به في عدم الانتفاع ويجوز أن يراد بها الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحائط شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جداوهم الثانية الخشب المسندة في الأصل كانت غصناً طرياً يصلح لأن يكون من الأشياء المنتفع بها ثم تصير غليظة يابسة والكافر والمنافق كذلك كان في الأصل صالحاً لكذا وكذا ثم يخرج عن تلك الصلاحية الثالثة الكفرة من جنس الإنس حطب كما قال تعالى حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ( الأنبياء 98 ) والخشب المسندة حطب أيضاً الرابعة أن الخشب المسندة إلى الحائط أحد طرفيها إلى جهة والآخر إلى جهة أخرى والمنافقون كذلك لأن المنافق أحد طرفيه وهو الباطن إلى جهة أهل الكفر والطرف الآخر وهو الظاهر إلى جهة أهل الإسلام الخامسة المعتمد عليه الخشب المسندة ما يكون من الجمادات والنباتات والمعتمد عليه للمنافقين كذلك وإذا كانوا من المشركين إذ هو الأصنام إنها من الجمادات أو النباتات
الثاني من المباحث أنه تعالى شبهم بالخشب المسندة ثم قال من بعد ما ينافي هذا التشبيه وهو

قوله تعالى يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَة ٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ ( المنافقون 4 ) والخشب المسندة لا يحسبون أصلاً نقول لا يلزم أن يكون المشبه والمشبه به يشتركان في جميع الأوصاف فهم كالخشب المسندة بالنسبة إلى الانتفاع وعدم الانتفاع وليسوا كالخشب المسندة بالنسبة إلى الاستماع وعدم الاستماع للصيحة وغيرها
الثالث قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ولم يقل القوم الكافرين أو المنافقين أو المستكبرين مع أن كل واحد منهم من جملة ما سبق ذكره نقول كل أحد من تلك الأقوام داخل تحت قوله الْفَاسِقِينَ أي الذين سبق ذكرهم وهم الكافرون والمنافقون والمستكبرون
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَة ِ لَيُخْرِجَنَّ الاٌّ عَزُّ مِنْهَا الاٌّ ذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
أخبر الله تعالى بشنيع مقالتهم فقال هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ كذا وكذا وينفضوا أي يتفرقوا وقرىء حَتَّى يَنفَضُّواْ من أنفض القوم إذا فنيت أزوادهم قال المفسرون اقتتل أجير عمر مع أجير عبد الله بن أبي في بعض الغزوات فأسمع أجير عمر عبد الله بن أبي المكروه واشتد عليه لسانه فغضب عبد الله وعنده رهط من قومه فقال أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أقبل على قومه فقال لو أمسكتم النفقة عن هؤلاء يعني المهاجرين لأوشكوا أن يتحولوا عن دياركم وبلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فنزلت وقرىء لَيُخْرِجَنَّ بفتح الياء وقرأ الحسن وابن أبي عيلة لَنَخْرُجَنَّ بالنون ونصب الأعز والأذل وقوله تعالى وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قال مقاتل يعني مفاتيح الرزق والمطر والنبات والمعنى أن الله هو الرزاق قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( يونس 31 ) وقال أهل المعاني خزائن الله تعالى مقدوراته لأن فيها كل ما يشاء مما يريد إخراجه وقال الجنيد خزائن الله تعالى في السموات الغيوب وفي الأرض القلوب وهو علام الغيوب ومقلب القلوب وقوله تعالى وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ أي لا يفقهون أن أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ي س 82 ) وقوله يقولون لَئِن رَّجَعْنَا أي من تلك الغزوة وهي غزوة بني المصطلق إلى المدينة فرد الله تعالى عليه وقال وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ أي الغلبة والقوة ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين وعزهم بنصرته إياهم وإظهار دينهم على سائر الأديان وأعلم رسوله بذلك ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك ولو علموه ما قالوا مقالتهم هذه قال صاحب ( الكشاف ) وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وهم الأخصاء بذلك كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلاً قال له إن الناس يزعمون أن

فيك تيهاً قال ليس بتيه ولكنه عزة فإن هذا العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه وتلا هذه الآية قال بعض العارفين في تحقيق هذا المعنى العزة غير الكبر ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها عن أن يضعها لأقسام عاجلة دنيوية كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلها فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة وتختلف من حيث الحقيقة كاشتباه التواضع بالضعة والتواضع محمود والضعة مذمومة والكبر مذموم والعزة محمودة ولما كانت غير مذمومة وفيها مشاكلة للكبر قال تعالى ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وفيه إشارة خفية لإثبات العزة بالحق والوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الضعة وقوف على صراط العزة المنصوب على متن نار الكبر فإن قيل قال في الآية الأولى لاَّ يَفْقَهُونَ وفي الأخرى لاَّ يَعْلَمُونَ فما الحكمة فيه فنقول ليعلم بالأول قلة كياستهم وفهمهم وبالثاني كثرة حماقتهم وجهلهم ولا يفقهون من فقه يفقه كعلم يعلم ومن فقه يفقه كعظم يعظم والأول لحصول الفقه بالتكلف والثاني لا بالتكلف فالأول علاجي والثاني مزاجي
ثم قال تعالى
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
لاَ تُلْهِكُمْ لا تشغلكم كما شغلت المنافقين وقد اختلف المفسرون منهم من قال نزلت في حق المنافقين ومنهم من قال في حق المؤمنين وقوله عَن ذِكْرِ اللَّهِ عن فرائض الله تعالى نحو الصلاة والزكاة والحج أو عن طاعة الله تعالى وقال الضحاك الصلوات الخمس وعند مقاتل هذه الآية وما بعدها خطاب للمنافقين الذين أفروا بالإيمان وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ أي ألهاه ماله وولده عن ذكر الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أي في تجارتهم حيث باعوا الشريف الباقي بالخسيس الفاني وقيل هم الخاسرون في إنكار ما قال به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من التوحيد والبعث
وقال الكلبي الجهاد وقيل هو القرآن وقيل هو النظر في القرآن والتفكر والتأمل فيه وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ قال ابن عباس يريد زكاة المال ومن للتبعيض وقيل المراد هو الإنفاق الواجب مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي دلائل الموت وعلاماته فيسأل الرجعة إلى الدنيا وهو قوله رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ وقيل حضهم على إدامة الذكر وأن لا يضنوا بالأموال أي هلا أمهلتني وأخرت أجلي إلى زمان

قليل وهو الزيادة في أجله حتى يتصدق ويتزكى وهو قوله تعالى فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ قال ابن عباس هذا دليل على أن القوم لم يكونوا مؤمنين إذ المؤمن لا يسأل الرجعة وقال الضحاك لا ينزل بأحد لم يحج ولم يؤد الزكاة الموت إلا وسأل الرجعة وقرأ هذه الآية وقال صاحب ( الكشاف ) من قبل أن يعاين ما ييأس معه من الإمهال ويضيق به الخناق ويتعذر عليه الإنفاق ويفوت وقت القبول فيتحسر على المنع ويعض أنامله على فقد ما كان متمكناً منه وعن ابن عباس تصدقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل وقوله وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ قال ابن عباس أحج وقرىء فأكون وهو على لفظ فأصدق وأكون قال المبرد وأكون على ما قبله لأن قوله فَأَصَّدَّقَ جواب للاستفهام الذي فيه التمني والجزم على موضع الفاء وقرأ أبي فأتصدق على الأصل وأكن عطفاً على موضع فأصدق وأنشد سيبويه أبياتاً كثيرة في الحمل على الموضع منها معاوى إننا بشر فأسجح
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فنصب الحديد عطفاً على المحل والباء في قوله بالجبال للتأكيد لا لمعنى مستقبل يجوز حذفه وعكسه قول ابن أبي سلمى بدا لي أني لست مدرك ماضي
ولا سابق شيئاً إذا كان جاثياً
توهم أنه قال بمدرك فعطف عليه قوله سابق عطفاً على المفهوم وأما قراءة أبي عمرو وأكون فإنه حمله على اللفظ دون المعنى ثم أخبر تعالى أنه لا يؤخر من انقضت مدته وحضر أجله فقال الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ نَفْساً يعني عن الموت إذا جاء أجلها قال في ( الكشاف ) هذا نفي للتأخير على وجه التأكيد الذي معناه منافاة المنفي وبالجملة فقوله لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ تنبيه على الذكر قبل الموت وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ تنبيه على الشكر لذلك وقوله تعالى وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أي لو رد إلى الدنيا ما زكى ولا حج ويكون هذا كقوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 ) والمفسرون على أن هذا خطاب جامع لكل عمل خيراً أو شراً وقرأ عاصم يعملون بالياء على قوله وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ نَفْساً لأن النفس وإن كان واحداً في اللفظ فالمراد به الكثير فحمل على المعنى والله أعلم وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين

سورة التغابن
ثمان عشرة آية مكية
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
وجه التعلق بما قبلها ظاهر لما أن تلك السورة للمنافقين الكاذبين وهذه السورة للمنافقين الصادقين وأيضاً تلك السورة مشتملة على بطالة أهل النفاق سراً وعلانية وهذه السورة على ما هو التهديد البالغ لهم وهو قوله تعالى يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ وأما الأول بالآخر فلأن في آخر تلك السورة التنبيه على الذكر والشكر كما مر وفي أول هذه إشارة إلى أنهم إن أعرضوا عن الذكر والشكر قلنا من الخلق قوم يواظبون على الذكر والشكر دائماً وهم الذين يسبحون كما قال تعالى يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وقوله تعالى لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ معناه إذا سبح لله ما في السموات وما في الأرض فله الملك وله الحمد ولما كان له الملك فهو متصرف في ملكه والتصرف مفتقر إلى القدرة فقال وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ وقال في ( الكشاف ) قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله تعالى وذلك لأن الملك في الحقيقة له لأنه مبدىء لكل شيء ومبدعه والقائم به والمهيمن عليه كذلك الحمد فإن أصول النعم وفروعها منه وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده وقوله تعالى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ قيل معناه وهو على كل شيء أراده قدير وقيل قدير يفعل ما يشاء بقدر ما يشاء لا يزيد عليه ولا ينقص وقد مر ذلك وفي الآية مباحث
الأول أنه تعالى قال في الحديد سَبِّحِ ( الحديد ) والحشر والصف كذلك وفي الجمعة والتغابن يُسَبّحُ لِلَّهِ فما الحكمة فيه نقول الجواب عنه قد تقدم
البحث الثاني قال في موضع سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الحشر 1 ) وفي موضع

آخر سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الحديد 1 ) فما الحكمة فيه قلنا الحكمة لا بد منها ولا نعلمها كما هي لكن نقول ما يخطر بالبال وهو أن مجموع السموات والأرض شيء واحد وهو عالم مؤلف من الأجسام الفلكية والعنصرية ثم الأرض من هذا المجموع شيء والباقي منه شيء آخر فقوله تعالى يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ بالنسبة إلى هذا الجزء من المجموع وبالنسبة إلى ذلك الجزء منه كذلك وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال قال تعالى في بعض السور كذا وفي البعض هذا ليعلم أن هذا العالم الجسماني من وجه شيء واحد ومن وجه شيئان بل أشياء كثيرة والخلق في المجموع غير ما في هذا الجزء وغير ما في ذلك أيضاً ولا يلزم من وجود الشيء في المجموع أن يوجد في كل جزء من أجزائه إلا بدليل منفصل فقوله تعالى سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ على سبيل المبالغة من جملة ذلك الدليل لما أنه يدل على تسبيح ما في السموات وعلى تسبيح ما في الأرض كذلك بخلاف قوله تعالى سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
ثم قال تعالى
هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ
قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه تعالى خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمناً وكافراً وقال عطاء إنه يريد فمنكم مصدق ومنكم جاحد وقال الضحاك مؤمن في العلانية كافر في السر كالمنافق وكافر في العلانية مؤمن في السر كعمار بن ياسر قال الله تعالى إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ( النحل 106 ) وقال الزجاج فمنكم كافر بأنه تعالى خلقه وهو من أهل الطبائع والدهرية ومنكم مؤمن بأنه تعالى خلقه كما قال قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَى ّ شَى ْء خَلَقَهُ ( عيس 17 18 ) وقال أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ( الكهف 37 ) وقال أبو إسحاق خلقكم في بطون أمهاتكم كفاراً ومؤمنين وجاء في بعض التفاسير أن يحي خلق في بطن أمه مؤمناً وفرعون خلق في بطن أمه كافراً دل عليه قوله تعالى أَنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقاً بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وقوله تعالى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي عالم بكفركم وإيمانكم اللذين من أعمالكم والمعنى أنه تعالى تفضل عليكم بأصل النعم التي هي الخلق فأنظروا النظر الصحيح وكونوا بأجمعكم عباداً شاكرين فما فعلتم مع تمكنكم بل تفرقتم فرقاً فمنكم كافر ومنكم مؤمن وقوله تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ أي بالإرادة القديمة على وفق الحكمة ومنهم من قال بالحق أي للحق وهو البعث وقوله وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ يحتمل وجهين أحدهما أحسن أي أتقن وأحكم على وجه لا يوجد بذلك الوجه في الغير وكيف يوجد وقد وجد في أنفسهم من القوى الدالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته دلالة مخصوصة لحسن هذه الصورة وثانيهما أن نصرف الحسن إلى حسن المنظر فإن من نظر في قد الإنسان وقامته وبالنسبة بين أعضائه فقد علم أن صورته أحسن صورة وقوله تعالى وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي البعث وإنما أضافه

إلى نفسه لأنه هو النهاية في خلقهم والمقصود منه ثم قال تعالى وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ لأنه لا يلزم من خلق الشيء أن يكون مصوراً بالصورة ولا يلزم من الصورة أن تكون على أحسن الصور ثم قال وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي المرجع ليس إلا له وقوله تعالى يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ نبه بعلمه ما في السموات والأرض ثم بعلمه ما يسره العباد وما يعلنونه ثم بعلمه ما في الصدور من الكليات والجزئيات على أنه لا يخفى عليه شيء لما أنه تعالى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة ألبتة أزلاً وأبداً وفي الآية مباحث
الأول أنه تعالى حكيم وقد سبق في علمه أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر والإصرار عليه فأي حكمة دعته إلى خلقهم نقول إذا علمنا أنه تعالى حكيم علمنا أن أفعاله كلها على وفق الحكمة وخلق هذه الطائفة فعله فيكون على وفق الحكمة ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة
الثاني قال وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وقد كان من أفراد هذا النوع من كان مشوه الصورة سمج الخلقة نقول لا سماجة ثمة لكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطاً بيناً لا يظهر حسنه وإلا فهو داخل في حيز الحسن غير خارج عن حده
الثالث قوله تعالى وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يوهم الانتقال من جانب إلى جانب وذلك لا يمكن إلا أن يكون الله في جانب فكيف هو قلت ذلك الوهم بالنسبة إلينا وإلى زماننا لا بالنسبة إلى ما يكون في نفس الأمر فإن نفس الأمر بمعزل عن حقيقة الانتقال من جانب إلى جانب إذا كان المنتقل إليه منزهاً عن الجانب وعن الجهة
ثم قال تعالى
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَالِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِى ٌّ حَمِيدٌ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
اعلم أن قوله أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُواْ خطاب لكفار مكة وذلك إشارة إلى الويل الذي ذاقوه في الدنيا وإلى ما أعد لهم من العذاب في الآخرة فقوله فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ أي شدة أمرهم مثل قوله ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ وقوله ذالِكَ بِأَنَّهُ أي بأن الشأن والحديث أنكروا أن يكون الرسول بشراً ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجراً فكفروا وتولوا وكفروا بالرسل وأعرضوا واستغنى الله عن طاعتهم وعبادتهم من الأزل وقوله تعالى وَاللَّهُ غَنِى ٌّ حَمِيدٌ من جملة ما سبق والحميد بمعنى المحمود أي المستحق للحمد بذاته ويكون بمعنى الحامد وقوله تعالى زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ قال في ( الكشاف ) الزعيم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66