كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

أما قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى من الناس من قال الرسول هو الذي حدث وأرسل والنبي هو الذي لم يرسل ولكنه ألهم أو رأى في النوم ومن الناس من قال إن كل رسول نبي وليس كل نبي يكون رسولاً وهو قول الكلبي والفراء وقالت المعتزلة كل رسول نبي وكل نبي رسول ولا فرق بينهما واحتجوا على فساد القول الأول بوجوه أحدها هذه الآية فإنها دالة على أن النبي قد يكون مرسلاً وكذا قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّبِى ٍّ ( الأعراف 94 ) وثانيها أن الله تعالى خاطب محمداً مرة بالنبي ومرة بالرسول فدل على أنه لا منافاة بين الأمرين وعلى القول الأول المنافاة حاصلة وثالثها أنه تعالى نص على أنه خاتم النبيين ورابعها أن اشتقاق لفظ النبي إما من النبأ وهو الخبر أو من قولهم نبأ إذا ارتفع والمعنيان لا يحصلان إلا بقبول الرسالة أما القول الثاني فاعلم أن شيئاً من تلك الوجوه لا يبطله بل هذه الآية دالة عليه لأنه عطف النبي على الرسول وذلك يوجب المغايرة وهو من باب عطف العام على الخاص وقال في موضع آخر وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ فِى الاْوَّلِينَ ( الزخرف 6 ) وذلك يدل على أنه كان نبياً فجعله الله مرسلاً وهو يدل على قولنا ( وقيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كم المرسلون فقال ثلثمائة وثلاثة عشرة فقيل وكم الأنبياء فقال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً الجم الغفير ) إذا ثبت هذا فنقول ذكروا في الفرق بين الرسول والنبي أموراً أحدها أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو إلى كتاب من قبله والثاني أن من كان صاحب المعجزة وصاحب الكتاب ونسخ شرع من قبله فهو الرسول ومن لم يكن مستجمعاً لهذه الخصال فهو النبي غير الرسول وهؤلاء

يلزمهم أن لا يجعلوا إسحق ويعقوب وأيوب ويونس وهرون وداود وسليمان رسلاً لأنهم ما جاءوا بكتاب ناسخ والثالث أن من جاءه الملك ظاهراً وأمره بدعوة الخلق فهو الرسول ومن لم يكن كذلك بل رأى في النوم كونه رسولاً أو أخبره أحد من الرسال بأنه رسول الله فهو النبي الذي لا يكون رسولاً وهذا هو الأولى
المسألة الثانية ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لما رأى إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيهم من الله ما يقارب بينه وبين قومه وذلك لحرصه على إيمانهم فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء ينفروا عنه وتمنى ذلك فأنزل الله تعالى سورة وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ( النجم 1 ) فقرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى بلغ قوله أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَواة َ الثَّالِثَة َ الاْخْرَى ( النجم 19 20 ) ألقى الشيطان على لسانه ( تلك العرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ) فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قراءته فقرأ السورة كلها فسجد وسجد المسلمون لسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة وأبي أحيحة سعيد بن العاصي فإنهما أخذا حفنة من التراب من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فلما أمسى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتاه جبريل عليه السلام فقال ماذا صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله وقلت ما لم أقل لك ا فحزن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً عظيماً حتى نزل قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ الآية هذا رواية عامة المفسرين الظاهريين أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول أما القرآن فوجوه أحدها قوله تعالى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ( الحاقة 44 46 ) وثانيها قوله بَدّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ( يونس 15 ) وثالثها قوله وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ يُوحَى فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية تلك الغرانيق العلي لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال وذلك لا يقوله مسلم ورابعها قوله تعالى وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِى َ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ( الإسراء 73 ) وكلمة كاد عند بعضهم معناه قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل وخامسها قوله وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ( الإسراء 74 ) وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل وسادسها قوله كَذالِكَ نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ( الفرقان 32 ) وسابعها قوله سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( الأعلى 6 ) وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال هذا وضع من الزنادقة وصنف فيه كتاباً وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم وأيضاً فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي عليه السلام قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق وأما المعقول فمن وجوه أحدها أن من جوز على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تعظيم الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان وثانيها أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلى ويقرأ القرآن عند الكعبة

آمناً أذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلاً أو في أوقات خلوة وذلك يبطل قولهم وثالثها أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجداً مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم ورابعها قوله فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءايَاتُهُ وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها فإذا أراد الله إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآناً فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى وخامسها وهو أقوى الوجوه أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ويبطل قوله تعالى يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة ولنشرع الآن في التفصيل فنقول التمني جاء في اللغة لأمرين أحدهما تمنى القلب والثاني القراءة قال الله تعالى وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِى َّ أي إلا قراءة لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف وإنما يعلمه قراءة وقال حسان تمنى كتاب الله أول ليلة
وآخرها لاقى حمام المقادر
قيل إنما سميت القراءة أمنية لأن القارىء إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى بها وقال أبو مسلم التمني هو التقدير وتمنى هو تفعل من منيت والمنية وفاة الإنسان في الوقت الذي قدره الله تعالى ومنى الله لك أي قدر لك وقال رواة اللغة الأمنية القراءة واحتجوا ببيت حسان وذلك راجع إلى الأصل الذي ذكرناه فإن التالي مقدر للحروف ويذكرها شيئاً فشيئاً فالحاصل من هذا البحث أن الأمنية إما القراءة وإما الخاطر أما إذا فسرناها بالقراءة ففيه قولان الأول أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيه ويشتبه على القارىء دون ما رووه من قوله تلك الغرانيق العلى الثاني المراد منه وقوع هذه الكلمة في قراءته ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه الأول أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يتكلم بقوله تلك الغرانيق العلى ولا الشيطان تكلم به ولا أحد تكلم به لكنه عليه السلام لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه ما رووه من قولهم تلك الغرانيق العلى وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير ما يقال وهذا الوجه ذهب إليه جماعة وهو ضعيف لوجوه أحدها أن التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما قد جرت العادة بسماعه فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه وثانيها أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم لبعض السامعين دون البعض فإن العادة مانعة من اتفاق الجم العظيم في الساعة الواحدة على خيال واحد فاسد في المحسوسات وثالثها لو كان كذلك لم يكن مضافاً إلى الشيطان الوجه الثاني قالوا إن ذلك الكلام كلام شيطان الجن وذلك بأن تلفظ بكلام من تلقاء نفسه أوقعه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا والذي يؤكده أنه لا خلاف في أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت الرسول عليه

السلام فيتكلم بهذه الكلمات في أثناء كلام الرسول عليه السلام وعند سكوته فإذا سمع الحاضرون تلك الكلمة بصوت مثل صوت الرسول وما رأوا شخصاً آخر ظن الحاضرون أنه كلام الرسول ثم هذا لا يكون قادحاً في النبوة لما لم يكن فعلاً له وهذا أيضاً ضعيف فإنك إذا جوزت أن يتكلم في أثناء الشيطان كلام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بما يشتبه على كل السامعين كونه كلاماً للرسول بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع فإن قيل هذا الاحتمال قائم في الكل ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله تعالى أن يشرح الحال فيه كما في هذه الواقعة إزالة للتلبيس قلنا لا يجب على الله إزالة الاحتمالات كما في المتشابهات وإذا لم يجب على الله ذلك تمكن الاحتمال من الكل الوجه الثالث أن يقال المتكلم بذلك بعض شياطين الإنس وهم الكفرة فإنه عليه السلام لما انتهى في قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع وذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها فقال بعض من حضر تلك الغرانيق العلى فاشتبه الأمر على القوم لكثرة لغط القوم وكثرة صياحهم وطلبهم تغليطه وإخفاء قراءته ولعل ذلك كان في صلاته لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته ويسمعون قراءته ويلغون فيها وقيل إنه عليه السلام كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات فألقى بعض الحاضرين ذلك الكلام في تلك الوقفات فتوهم القوم أنه من قراءة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أضاف الله تعالى ذلك إلى الشيطان لأنه بوسوسته يحصل أولاً ولأنه سبحانه جعل ذلك المتكلم في نفسه شيطاناً وهذا أيضاً ضعيف لوجهين أحدهما أنه لو كان كذلك لكان يجب على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إزالة الشبهة وتصريح الحق وتبكيت ذلك القائل وإظهار أن هذه الكلمة منه صدرت وثانيهما لو فعل ذلك لكان ذلك أولى بالنقل فإن قيل إنما لم يفعل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك لأنه كان قد أدى السورة بكمالها إلى الأمة من دون هذه الزيادة فلم يكن ذلك مؤدياً إلى التلبيس كما يؤدي سهوه في الصلاة بعد أن وصفها إلى اللبس قلنا إن القرآن لم يكن مستقراً على حالة واحدة في زمان حياته لأنه كان تأتيه الآيات فيلحقها بالسور فلم يكن تأدية تلك السورة بدون هذه الزيادة سبباً لزوال اللبس وأيضاً فلو كان كذلك لما استحق العتاب من الله تعالى على ما رواه القوم الوجه الرابع هو أن المتكلم بهذا هو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه فإنه إما أن يكون قال هذه الكلمة سهواً أو قسراً أو اختياراً أما الوجه الأول وهو أنه عليه السلام قال هذه الكلمة سهواً فكما يروى عن قتادة ومقاتل أنهما قالا إنه عليه السلام كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان فلما فرغ من السورة سجد وسجد كل من في المسجد وفرح المشركون بما سمعوه وأتاه جبريل عليه السلام فاستقرأه فلما انتهى إلى الغرانيق قال لم آتك بهذا فحزن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أن نزلت هذه الآية وهذا ضعيف أيضاً لوجوه أحدها أنه لو جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع وحينئذ تزول الثقة عن الشرع وثانيها أن الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة وطريقتها ومعناها فإنا نعلم بالضرورة أن واحداً لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها وثالثها هب أنه تكلم بذلك سهواً فكيف لم ينبه لذلك حين قرأها على جبريل عليه السلام وذلك ظاهر أما الوجه الثاني وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك قسراً وهو الذي قال قوم إن الشيطان أجبر النبي ( صلى الله عليه وسلم )

على أن يتكلم بهذا فهذا أيضاً فاسد لوجوه أحدها أن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي عليه السلام لكان اقتداره علينا أكثر فوجب أن يزيل الشيطان الناس عن الدين ولجاز في أكثر ما يتكلم به الواحد منا أن يكون ذلك بإجبار الشياطين وثانيها أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار لارتفع الأمان عن الوحي لقيام هذا الاحتمال وثالثها أنه باطل بدلالة قوله تعالى حاكياً عن الشيطان وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ ( إبراهيم 22 ) وقال تعالى إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ( النحل 99 100 ) وقال إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( الحجر 40 ) ولا شك أنه عليه السلام كان سيد المخلصين أما الوجه الثالث وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك اختياراً فههنا وجهان أحدهما أن نقول إن هذه الكلمة باطلة والثاني أن نقول إنها ليست كلمة باطلة أما على الوجه الأول فذكروا فيه طريقين الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء إن شيطاناً يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل عليه السلام وألقى عليه هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم فجاء جبريل عليه السلام فاستعرضه فقرأها فلما بلغ إلى تلك الكلمة قال جبريل عليه السلام أنا ما جئتك بهذه قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنه أتاني آت على صورتك فألقاها على لساني الطريق الثاني قال بعض الجهال إنه عليه السلام لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه ثم رجع عنها وهذان القولان لا يرغب فيهما مسلم ألبتة لأن الأول يقتضي أنه عليه السلام ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث والثاني يقتضي أنه كان خائناً في الوحي وكل واحد منهما خروج عن الدين أما الوجه الثاني وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فههنا أيضاً طرق الأول أن يقال الغرانيق هم الملائكة وقد كان ذلك قرآناً منزلاً في وصف الملائكة فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته الثاني أن يقال المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار فكأنه قال أشفاعتهن ترتجى الثالث أن يقال إنه ذكر الإثبات وأراد النفي كقوله تعالى يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) أي لا تضلوا كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله تعالى قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ( الأنعام 151 ) والمعنى أن تشركوا وهذان الوجهان الأخيران يعترض عليهما بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا يجوز أن يظهروا كلمة الكفر في جملة القرآن أو في الصلاة بناء على هذا التأويل ولكن الأصل في الدين أن لا يجوز عليهم شيء من ذلك لأن الله تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز عليهم ما يطعن في ذلك أو ينفر ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه الله تعالى على تركها كنحو الفظاظة والكتابة وقول الشعر فهذه الوجوه المذكورة في قوله تلك الغرانيق العلا قد طهر على القطع كذبها فهذا كله إذا فسرنا التمني بالتلاوة وأما إذا فسرناها بالخاطر وتمنى القلب فالمعنى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) متى تمنى بعض ما يتمناه من الأمور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه أحدها أنه يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا إنه عليه السلام كان يحب أن يتألفهم وكان يردد ذلك في نفسه فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه وهذا أيضاً

خروج عن الدين وبيانه ما تقدم وثانيها ما قال مجاهد من أنه عليه السلام كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير فنسخ الله ذلك بأن عرفه بأن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها وثالثها يحتمل أنه عليه السلام عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إن كان مجملاً فيلقى الشيطان في جملته ما لم يرده فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده الله تعالى بأدلته وآياته ورابعها معنى الآية إذا تمنى إذا أراد فعلاً مقرباً إلى الله تعالى ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه فيرجع إلى الله تعالى في ذلك وهو كقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( الأعراف 201 ) وكقوله وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ( الأعراف 200 ) ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتنة للكفار وذلك يبطله قوله تعالى لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ والجواب لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار فهذا آخر القول في هذه المسألة
المسألة الثالثة يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم من جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم فذلك هو المحكم وقال أبو مسلم معنى الآية أنه لم يرسل نبياً إلا إذا تمنى كأنه قيل وما أرسلنا إلى البشر ملكاً وما أرسلنا إليهم نبياً إلا منهم وما أرسلنا نبياً خلا عند تلاوته الوحي من وسوسة الشيطان وأن يلقي في خاطره وما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلمه صواب ذلك وبطلان ما يكون من الشيطان قال وفيما تقدم من قوله قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ تقوية لهذا التأويل فكأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة ولم يرسل الله تعالى مثلي ملكاً بل أرسل رجالاً فقد وسوس الشيطان إليهم فإن قيل هذا إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على الملائكة قلنا إذا كانت الملائكة أعظم درجة من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم بالوسوسة على الأنبياء استيلاؤهم بالوسوسة على الملائكة واعلم أنه سبحانه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين
البحث الأول كيفية إزالتها وذلك هو قوله تعالى فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فالمراد إزالته وإزالة تأثيره فهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام أما قوله ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءايَاتِهِ فإذا حمل التمني على القراءة فالمراد به آيات القرآن وإلا فيحمل على أحكام الأدلة التي لا يجوز فيها الغلط
البحث الثاني أنه تعالى بين أثر تلك الوسوسة ثم إنه سبحانه شرح أثرها في حق الكفار أولاً ثم في حق المؤمنين ثانياً أما في حق الكفار فهو قوله لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَة ً والمراد به تشديد التبعيد لأن عندما يظهر من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الاشتباه في القرآن سهواً يلزمهم البحث عن ذلك ليميزوا السهو من العمد وليعلموا أن العمد صواب والسهو قد لا يكون صواباً
أما قوله لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ ففيه سؤالان
السؤال الأول لم قال فِتْنَة ً لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ولم خصهم بذلك الجواب لأنهم مع

كفرهم يحتاجون إلى ذلك التدبر وأما المؤمنون فقد تقدم علمهم بذلك فلا يحتاجون إلى التدبر
السؤال الثاني ما مرض القلب الجواب أنه الشك والشبهة وهم المنافقون كما قال فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وأما القاسية قلوبهم فهم المشركون المصرون على جهلهم ظاهراً وباطناً
أما قوله تعالى وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ يريد أن هؤلاء المنافقين والمشركين فأصله وإنهم فوضع الظاهر موضع المضمر قضاء عليهم بالظلم والشقاق والمشاقة والمعاداة والمباعدة سواء وأما في حق المؤمنين فهو قوله وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ وفي الكناية ثلاثة أوجه أحدها أنها عائدة إلى نسخ ما ألقاه الشيطان عن الكلبي وثانيها أنه الحق أي القرآن عن مقاتل وثالثها أن تمكن الشيطان من ذلك الإلقاء هو الحق أما على قولنا فلأنه سبحانه وتعالى أي شيء فعل فقد تصرف في ملكه وملكه بضم الميم وكسرها فكان حقاً وأما على قول المعتزلة فلأنه سبحانه حكيم فتكون كل أفعاله صواباً فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم أي تخضع وتسكن لعلمهم بأن المقضي كائن وكل ميسر لما خلق له وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ إلى أن يتأولوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ويطلبوا ما أشكل منه من المجمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة وقرىء لهاد الذين آمنوا بالتنوين ولما بين سبحانه حال الكافرين أولاً ثم حال المؤمنين ثانياً عاد إلى شرح حال الكافرين مرة أخرى فقال وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَة ٍ مّنْهُ أي من القرآن أو من الرسول وذلك يدل على أن الأعصار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن هذا وصفه
أما قوله تعالى حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَة ُ بَغْتَة ً أي فجأة من دون أن يشعروا ثم جعل الساعة غاية لكفرهم وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء واختلف في المراد باليوم العقيم وفيه قولان أحدهما أنه يوم بدر وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لوجوه أربعة أحدها أن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن وثانيها أن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم على سبيل المجاز وثالثها هو الذي لا خير فيه يقال ريح عقيم إذا لم تنشىء مطراً ولم تلقح شجراً ورابعها أنه لا مثل له في عظم أمره وذلك لقتال الملائكة فيه القول الثاني أنه يوم القيامة وإنما وصف بالعقيم لوجوه أحدها أنهم لا يرون فيه خيراً وثانيها أنه لا ليل فيه فيستمر كاستمرار المرأة على تعطل الولادة وثالثها أن كل ذات حمل تضع حملها في ذلك اليوم فكيف يحصل الحمل فيه وهذا القول أولى لأنه لا يجوز أن يقول الله تعالى وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ويكون المراد يوم بدر لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر فإن قيل لما ذكر الساعة فلو حملتم اليوم العقيم على يوم القيامة لزم التكرار قلنا ليس كذلك لأن الساعة من مقدمات القيامة واليوم العقيم هو نفس ذلك اليوم وعلى أن الأمر لو كان كما قاله لم يكن تكراراً لأن في الأول ذكر الساعة وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم ويحتمل أن يكون المراد بالساعة وقت موت كل أحد وبعذاب يوم عقيم القيامة
أما قوله الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ فمن أقوى ما يدل على أن اليوم العقيم هو ذلك اليوم وأراد بذلك أنه لا مالك في ذلك اليوم سواه فهو بخلاف أيام الدنيا التي ملك الله الأمور غيره وبين أنه الحاكم بينهم لا حاكم سواه وذلك زجر عن معصيته ثم بين كيف يحكم بينهم وأنه يصير المؤمنين إلى جنات النعيم والكافرين

في العذاب المهين وقد تقدم وصف الجنة والنار فإن قيل التنوين في يومئذ عن أي جملة ينوب قلنا تقديره الملك يوم يؤمنون أو يوم تزول مريتهم لقوله تعالى وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَة ٍ مّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَة ُ
وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ذالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِى َ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن الملك له يوم القيامة وأنه يحكم بينهم ويدخل المؤمنين الجنات أتبعه بذكر وعده الكريم للمهاجرين وأفردهم بالذكر تفخيماً لشأنهم فقال عز من قائل وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ واختلفوا فيمن أريد بذلك فقال بعضهم من هاجر إلى المدينة طالباً لنصرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتقرباً إلى الله تعالى وقال آخرون بل المراد من جاهد فخرج مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو في سراياه لنصرة الدين ولذلك ذكر القتل بعده ومنهم من حمله على الأمرين واختلفوا من وجه آخر فقال قوم المراد قوم مخصوصون روى مجاهد أنها نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون فقاتلوهم وظاهر الكلام للعموم ثم إنه سبحانه وتعالى وصفهم برزقهم ومسكنهم أما الرزق فقوله تعالى لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرزِقِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى لا شبهة في أن الرزق الحسن هو نعيم الجنة وقال الأصم إنه العلم والفهم كقول شعيب عليه السلام وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ( هود 88 ) فهذا في الدنيا وفي الآخرة الجنة وقال الكلبي رزقاً حسناً حلالاً وهو الغنيمة وهذان الوجهان ضعيفان لأنه تعالى جعله جزاء على هجرتهم في سبيل الله بعد القتل والموت وبعدهما لا يكون إلا نعيم الجنة

المسألة الثانية لا بد من شرط اجتناب الكبائر في كل وعد في القرآن لأن هذا المهاجر لو ارتكب كبيرة لكان حكمه في المشيئة على قولنا ولخرج عن أن يكون أهلاً للجنة قطعاً على قول المعتزلة فإن قيل فما فضله على سائر المؤمنين في الوعد إن كان كما قلتم قلنا فضلهم يظهر لأن ثوابهم أعظم وقد قال تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ( الحديد 10 ) فمعلوم أن من هاجر مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وفارق دياره وأهله لتقويته ونصرة دينه مع شدة قوة الكفار وطهور صولتهم صار فعله كالسبب لقوة الدين وعلى هذا الوجه عظم محل الأنصار حتى صار ذكرهم والثناء عليهم تالياً لذكر المهاجرين لما آووه ونصروه
المسألة الثالثة اختلفوا في معنى قوله وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرزِقِينَ مع العلم بأن كل الرزق من عنده على وجوه أحدها التفاوت إنما كان بسبب أنه سبحانه مختص بأن يرزق ما لا يقدر عليه غيره وثانيها أن يكون المراد أنه الأصل في الرزق وغيره إنما يرزق بما تقدم من الرزق من جهة الله تعالى وثالثها أن غيره ينقل الرزق من يده إلى يد غيره لا أنه يفعل نفس الرزق ورابعها أن غيره إذا رزق فإنما يرزق لانتفاعه به إما لأجل أن يخرج عن الواجب وإما لأجل أن يستحق به حمداً أو ثناء وإما لأجل دفع الرقة الجنسية فكان الواحد منا إذا رزق فقد طلب العوض أما الحق سبحانه فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من شيء كمالاً زائداً فكان الرزق الصادر منه لمحض الإحسان وخامسها أن غيره إنما يرزق لو حصل في قلبه إرادة ذلك الفعل وتلك الإرادة من الله فالرازق في الحقيقة هو الله تعالى وسادسها أن المرزوق يكون تحت منة الرازق ومنة الله تعالى أسهل تحملاً من منة الغير فكان هو خَيْرُ الرَّازِقِينَ وسابعها أن الغير إذا رزق فلولا أن الله تعالى أعطى ذلك الإنسان أنواع الحواس وأعطاه السلامة والصحة والقدرة على الانتفاع بذلك الرزق لما أمكنه الانتفاع به ورزق الغير لا بد وأن يكون مسبوقاً برزق الله وملحوقاً به حتى يحصل الانتفاع وأما رزق الله تعالى فإنه لا حاجة به إلى رزق غيره فثبت أنه سبحانه خَيْرُ الرَّازِقِينَ
المسألة الرابعة قالت المعتزلة الآية تدل على أمور ثلاثة أحدها أن الله تعالى قادر وثانيها أن غير الله يصح منه أن يرزق ويملك ولولا كونه قادراً فاعلاً لما صح ذلك وثالثها أن الرزق لا يكون إلا حلالاً لأن قوله خَيْرُ الرَّازِقِينَ دلالة على كونهم ممدوحين والجواب لا نزاع في كون العبد قادراً فإن عندنا القدرة مع الداعي مؤثرة في الفعل بمعنى الاستلزام وأما الثالث فبحث لفظي وقد سبق الكلام فيه
المسألة الخامسة لما قال تعالى ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ فسوى بينهما في الوعد ظن قوم أن حال المقتول في الجهاد والميت على فراشه سواء وهذا إن أخذوه من الظاهر فلا دلالة فيه لأن الجمع بينهما في الوعد لا يدل على تفضيل ولا تسوية كما أن الجمع بين المؤمنين لا يدل على ذلك وإن أخذوه من دليل آخر فهو حق فإنه روى أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( المقتول في سبيل الله تعالى والمتوفى في سبيل الله بغير قتل هما في الخير والأجر شريكان ) ولفظ الشركة مشعر بالتسوية وإلا فلا يبقى لتخصيصهما بالذكر فائدة وروى أيضاً أن طوائف من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا يا رسول الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين وهذا يدل على التسوية لأنهم لما طلبوا مقدار الأجر فلولا التسوية لم يكن الجواب مفيداً أما المسكن فقوله تعالى لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ وفيه مسائل

المسألة الأولى قرىء مدخلاً بضم الميم وهو من الإدخال ومن قرأ بالفتح فالمراد الموضع
المسألة الثانية قيل في المدخل الذي يرضونه إنه خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم لها سبعون ألف مصراع وقال أبو القاسم القشيري هو أن يدخلهم الجنة من غير مكروه تقدم وقال ابن عباس رضي الله عنهما إنما قال يرضونه لأنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيرضونه ولا يبغون عنها حولاً ونظيره قوله تعالى وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ( التوبة 24 ) وقوله فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) وقوله ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً ( الفجر 28 ) وقوله وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ( التوبة 72 )
المسألة الثالثة إن قيل ما معنى وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ وما تعلقه بما تقدم قلنا يحتمل أنه عليم بما يستحقونه فيفعله بهم ويزيدهم ويحتمل أن يكون المراد أنه عليم بما يرضونه فيعطيهم ذلك في الجنة وأما الحليم فالمراد أنه لحلمه لا يعجل بالعقوبة فيمن يقدم على المعصية بل يمهل ليقع منه التوبة فيستحق منه الجنة
أما قوله ذالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِى َ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله ذالِكَ قد مضى الكلام فيه في هذه الآية في هذه السورة وقال الزجاج أي الأمر ما قصصنا عليك من إنجاز الوعد للمهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا
المسألة الثانية قوله ذالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِى َ عَلَيْهِ معناه قاتل من كان يقاتله ثم كان المقاتل مبغياً عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن وابتدىء بالقتال قال مقاتل نزلت في قوم من المشركين لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقال بعضهم لبعض إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون أن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم فوقع في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام ما وقع فأنزل الله تعالى هذه الآية وعفا عنهم وغفر لهم وههنا سؤالات
السؤال الأول أي تعلق لهذه الآية بما قبلها الجواب كأنه سبحانه وتعالى قال مع إكرامي لهم في الآخرة بهذا الوعد لا أدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم
السؤال الثاني هل يرجع ذلك إلى المهاجرين خاصة أو إليهم وإلى المؤمنين الجواب الأقرب أنه يعود إلى الفريقين فإنه تقدم ذكرهما وبين ذلك قوله تعالى لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ وبعد القتل والموت لا يمكن ذلك في الدنيا
السؤال الثالث ما المراد بالعقوبة المذكورة الجواب فيه وجهان أحدهما المراد ما فعله مشركو مكة مع المهاجرين بمكة من طلب آثارهم ورد بعضهم إلى غير ذلك فبين تعالى أن من عاقب هؤلاء الكفار بمثل ما فعلوا فسينصره عليهم وهذه النصرة المذكورة تقوي تأويل من تأوله على مجاهدة الكفار لا على القصاص لأن ظاهر النص لا يليق إلا بذلك والجواب الثاني أن هذه الآية في القصاص والجراحات وهي آية مدنية عن الضحاك

السؤال الرابع لم سمى ابتداء فعلهم بالعقوبة الجواب أطلق اسم العقوبة على الأول للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ
السؤال الخامس أي تعلق لقوله وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ بما تقدم الجواب فيه وجوه أحدها أن الله تعالى ندب المعاقب إلى العفو عن الجاني بقوله فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ( الشورى 40 ) وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ ( الشورى 40 ) فلما لم يأت بهذا المندوب فهو نوع إساءة فكأنه سبحانه قال إني قد عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها فإني أنا الذي أذنت لك فيه وثانيها أنه سبحانه وإن ضمن له النصر على الباغي لكنه عرض مع ذلك بما كان أولى به من العفو والمغفرة فلوح بذكر هاتين الصفتين وثالثها أنه سبحانه دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده
السؤال السادس أي تعلق لقوله ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ بما قبله والجواب من وجهين أحدهما ذلك أي ذلك النصر بسبب أنه قادر ومن آيات قدرته البالغة كونه خالقاً لليل والنهار ومتصرفاً فيهما فوجب أن يكون قادراً عالماً بما يجري فيهما وإذا كان كذلك كان قادراً على النصر مصيباً فيه وثانيها المراد أنه سبحانه مع ذلك النصر ينعم في الدنيا بما يفعله من تعاقب الليل والنهار وولوج أحدهما في الآخر
السؤال السابع ما معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل الجواب فيه وجهان أحدهما يحصل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك بغيبوبة الشمس وضياء ذلك في مكان ظلمة هذا بطلوعها كما يضيء البيت بالسراج ويظلم بفقده وثانيهما أنه سبحانه يزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات
السؤال الثامن أي تعلق لقوله وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ بما تقدم الجواب المراد أنه كما يقدر على ما لا يقدر عليه غيره فكذلك يدرك المسموع والمبصر ولا يجوز المنع عليه ويكون ذلك كالتحذير من الإقدام على ما لا يجوز في المسموع والمبصر
السؤال التاسع ما معنى قوله ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وأي تعلق له بما تقدم الجواب فيه وجهان أحدهما المراد أن ذلك الوصف الذي تقدم ذكره من القدرة على هذه الأمور إنما حصل لأجل أن الله هو الحق أي هو الموجود الواجب لذاته الذي يمتنع عليه التغير والزوال فلا جرم أتى بالوعد والوعيد ثانيهما أن ما يفعل من عبادته هو الحق وما يفعل من عبادة غيره فهو الباطل كما قال لَيْسَ لَهُ دَعْوَة ٌ فِى الدُّنْيَا وَلاَ فِى الاْخِرَة ِ ( غافر 43 )
السؤال العاشر أي تعلق لقوله وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ بما تقدم والجواب معنى العلي القاهر المقتدر الذي لا يغلب فنبه بذلك على أنه القادر على الضر والنفع دون سائر من يعبد مرغباً بذلك في عبادته زاجراً عن عبادة غيره فأما الكبير فهو العظيم في قدرته وسلطانه وذلك أيضاً يفيد كمال القدرة

المسألة الثالثة قوله لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إخبار عن الغيب فإنه وجد مخبره كما أخبر فكان من المعجزات
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمه الله من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه وقال أبو حنيفة رحمه الله بل يقتل بالسيف واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية فإن الله تعالى جوز للمظلوم أن يعاقب بمثل ما عوقب به ووعده النصر عليه
المسألة الخامسة قرأ نافع وابن عامر تَدْعُونَ بالتاء ههنا وفي لقمان وفي المؤمنين وفي العنكبوت وقرأ ابن كثير وأبو عمرو كلها بالياء على الخبر والعرب قد تنصرف من الخطاب إلى الإخبار ومن الإخبار إلى الخطاب
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّة ً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَّهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الأرض وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ
اعلم أنه تعالى لما دل على قدرته من قبل بما ذكره من ولوج الليل في النهار ونبه به على نعمه أتبعه بأنواع أخر من الدلائل على قدرته ونعمته وهي ستة
أولها قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الاْرْضُ مُخْضَرَّة ً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في قوله أَلَمْ تَرَ وجوهاً ثلاثة أحدها أن المراد هو الرؤية الحقيقية قالوا لأن الماء النازل من السماء يرى بالعين واخضرار النبات على الأرض مرئي وإذا أمكن حمل الكلام على حقيقته فهو أولى وثانيها أن المراد ألم تخبر على سبيل الاستفهام وثالثها المراد ألم تعلم والقول الأول ضعيف لأن الماء وإن كان مرئياً إلا أن كون الله منزلاً له من السماء غير مرئي إذا ثبت هذا وجب حمله على العلم لأن المقصود من تلك الرؤية هو العلم لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل
المسألة الثانية قرىء مُخْضَرَّة ً كمبقلة ومسبعة أي ذات خضرة وههنا سؤالات

السؤال الأول لم قال فَتُصْبِحُ الأرض ولم يقل فأصبحت الجواب لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان كما تقول أنعم على فلان عام كذا فأروح وأغد شاكراً له ولو قلت فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع
السؤال الثاني لم رفع ولم ينصب جواباً للاستفهام والجواب لو نصب لأعطى عكس ما هو الغرض لأن معناه إثبات الإخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الإخضرار مثاله أن تقول لصاحبك ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر وإن نصبته فأنت ناف لشكره شاك لتفريطه وإن رفعته فأنت مثبت للشكر
السؤال الثالث لم أورد تعالى ذلك دلالة على قدرته على الإعادة كما قال أبو مسلم الجواب يحتمل ذلك ويحتمل أنه نبه به على عظيم قدرته وواسع نعمه
السؤال الرابع ما تعلق قوله إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ بما تُقدم الجواب من وجوه أحدها أراد أنه رحيم بعباده ولرحمته فعل ذلك حتى عظم انتفاعهم به لأن الأرض إذا أصبحت مخضرة والسماء إذا أمطرت كان ذلك سبباً لعيش الحيوانات على اختلافها أجمع ومعنى خَبِيرٌ أنه عالم بمقادير مصالحهم فيفعل على قدر ذلك من دون زيادة ونقصان وثانيها قال ابن عباس لَطِيفٌ بأرزاق عباده خَبِيرٌ بما في قلوبهم من القنوط وثالثها قال الكلبي لَطِيفٌ في أفعاله خَبِيرٌ بأعمال خلقه ورابعها قال مقاتل لَطِيفٌ باستخراج النبت خَبِيرٌ بكيفية خلقه
الدلالة الثانية قوله تعالى لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ والمعنى أن كل ذلك منقاد له غير ممتنع من التصرف فيه وهو غني عن الأشياء كلها وعن حمد الحامدين أيضاً لأنه كامل لذاته والكامل لذاته غني عن كل ما عداه في كل الأمور ولكنه لما خلق الحيوان فلا بد في الحكمة من قطر ونبات فخلق هذه الأشياء رحمة للحيوانات وإنعاماً عليهم لا لحاجة به إلى ذلك وإذا كان كذلك كان إنعامه خالياً عن غرض عائد إليه فكان مستحقاً للحمد فكأنه قال إنه لكونه غنياً لم يفعل ما فعله إلا للإحسان ومن كان كذلك كان مستحقاً للحمد فوجب أن يكون حميداً فلهذا قال وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ
الدلالة الثالثة قوله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ أي ذلل لكم ما فيها فلا أصلب من الحجر ولا أحد من الحديد ولا أكثر هيبة من النار وقد سخرها لكم وسخر الحيوانات أيضاً حتى ينتفع بها من حيث الأكل والركوب والحمل عليها والانتفاع بالنظر إليها فلولا أن سخر الله تعالى الإبل والبقر مع قوتهما حتى يذللهما الضعيف من الناس ويتمكن منهما لما كان ذلك نعمة
الدلالة الرابعة قوله تعالى وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ والأقرب أن المراد وسخر لكم الفلك لتجري في البحر وكيفية تسخيره الفلك هو من حيث سخر الماء والرياح لجريها فلولا صفتهما على ما هما عليه لما جرت بل كانت تغوص أو تقف أو تعطب فنبه تعالى على نعمه بذلك وبأن خلق ما تعمل منه السفن وبأن بين كيف تعمل وإنما قال بأمره لأنه سبحانه لما كان المجرى لها بالرياح نسب ذلك إلى أمره توسعاً لأن ذلك يفيد تعظيمه بأكثر مما يفيد لو أضافه إلى فعل بناء على عادة الملوك في مثل هذه اللفظة
الدلالة الخامسة قوله تعالى وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الاْرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ

واعلم أن النعم المتقدمة لا تكمل إلا بهذه لأن السماء مسكن الملائكة فوجب أن يكون صلباً ووجب أن يكون ثقيلاً وما كان كذلك فلا بد من الهوى لولا مانع يمنع منه وهذه الحجة مبنية على ظاهر الأوهام وقوله تعالى أَن تَقَعَ قال الكوفيون كي لا تقع وقال البصريون كراهية أن تقع وهذا بناء على مسألة كلامية وهي أن الإرادات والكراهات هل تتعلق بالعدم فمن منع من ذلك صار إلى التأويل الأول والمعنى أنه أمسكها لكي لا تقع فتبطل النعم التي أنعم بها
أما قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ فالمعنى أن المنعم بهذه النعم الجامعة لمنافع الدنيا والدين قد بلغ الغاية في الإحسان والإنعام فهو إذن رؤوف رحيم
الدلالة السادسة قوله وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ والمعنى أن من سخر له هذه الأمور وأنعم عليه بها فهو الذي أحياه فنبه بالإحياء الأول على إنعام الدنيا علينا بكل ما تقدم ونبه بالإماتة والإحياء الثاني على نعم الدين علينا فإنه سبحانه وتعالى خلق الدنيا بسائر أحوالها للآخرة وإلا لم يكن للنعم على هذا الوجه معنى يبين ذلك أنه لولا أمر الآخرة لم يكن للزراعات وتكلفها ولا لركوب الحيوانات وذبحها إلى غير ذلك معنى بل كان تعالى يخلقه ابتداء من غير تكلف الزرع والسقي وإنما أجرى الله العادة بذلك ليعتبر به في باب الدين ولما فصل تعالى هذه النعم قال إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ وهذا كما قد يعدد المرء نعمه على ولده ثم يقول إن الولد لكفور لنعم الوالد زجراً له عن الكفران وبعثاً له على الشكر فلذلك أورد تعالى ذلك في الكفار فبين أنهم دفعوا هذه النعم وكفروا بها وجهلوا خالقها مع وضوح أمرها ونظيره قوله تعالى وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ ( سبأ 13 ) وقال ابن عباس رضي الله عنهما الإنسان ههنا هو الكافر وقال أيضاً هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل والعاص وأبي بن خلف والأولى تعميمه في كل المنكرين
لِّكُلِّ أُمَّة ٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِى الاٌّ مْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
إعلم أنه تعالى لما قدم ذكر نعمه وبين أنه رؤوف رحيم بعباده وإن كان منهم من يكفر ولا يشكر أتبعه بذكر نعمه بما كلف فقال لّكُلّ أُمَّة ٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى إنما حذف الواو في قوله لِكُلّ أُمَّة ٍ لأنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله فلا جرم حذف العاطف
المسألة الثانية في المنسك أقوال أحدها قال ابن عباس عيد ( اً ) يذبحون فيه وثانيها قرباناً ولفظ

المنسك مختص بالذبائح عن مجاهد وثالثها مألفاً يألفونه إما مكاناً معيناً أو زماناً معيناً لأداء الطاعات ورابعها المنسك هو الشريعة والمنهاج وهو قول ابن عباس في رواية عطاء واختيار القفال وهو الأقرب لقوله تعالى لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً ( المائدة 48 ) ولأن المنسك مأخوذ من النسك وهو العبادة وإذا وقع الإسم على كل عبادة فلا وجه للتخصيص فإن قيل هلا حملتموه على الذبح لأن المنسك في العرف لا يفهم منه إلا الذبح وهلا حملتموه على موضع العبادة أو على وقتها الجواب عن الأول لا نسلم أن المنسك في العرف مخصوص بالذبح والدليل عليه أن سائر ما يفعل في الحج يوصف بأنه مناسك ولأجله قال عليه السلام ( خذوا عني مناسككم ) وعن الثاني أن قوله هُمْ نَاسِكُوهُ أليق بالعبادة منه بالوقت والمكان
المسألة الثالثة زعم قوم أن المراد من قوله هُمْ نَاسِكُوهُ من كان في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) متمسكاً بشرع كاليهود والنصارى ولا يمتنع أن يريد كل من تعبد من الأمم سواء بقيت آثارهم أو لم تبق لأن قوله هُمْ نَاسِكُوهُ كالوصف للأمم وإن لم يعبدوا في الحال
أما قوله تعالى فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِى الاْمْرِ فقرىء فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ أي أثبت في دينك ثباتاً لا يطمعون أن يخدعوك ليزيلوك عنه وأما قوله فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ ففيه قولان أحدهما وهو قول الزجاج أنه نهى لهم عن منازعتهم كما تقول لا يضاربنك فلان أي لا تضاربه والثاني أن المراد أن عليهم اتباعك وترك مخالفتك وقد استقر الأمر الآن على شرعك وعلى أنه ناسخ لكل ما عداه فكأنه تعالى نهى كل أمة بقيت منها بقية أن تستمر على تلك العادة وألزمها أن تتحول إلى اتباع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فلذلك قال وَادْعُ إِلَى رَبّكَ أي لا تخص بالدعاء أمة دون أمة فكلهم أمتك فادعهم إلى شريعتك فإنك على هدى مستقيم والهدى يحتمل نفس الدين ويحتمل أدلة الدين وهو أولى كأنه قال ادعهم إلى هذا الدين فإنك من حيث الدلالة على طريقة واضحة ولهذا قال وَإِن جَادَلُوكَ والمعنى فإن عدلوا عن النظر في هذه الأدلة إلى طريقة المراء والتمسك بالعادة فقد بينت وأظهرت ما يلزمك فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ لأنه ليس بعد إيضاح الأدلة إلا هذا الجنس الذي يجري مجرى الوعيد والتحذير من حكم يوم القيامة الذي يتردد بين جنة وثواب لمن قبل وبين نار وعقاب لمن رد وأنكر فقال اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فتعرفون حينئذ الحق من الباطل والله أعلم
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَآءِ والأرض إِنَّ ذالِكَ فِى كِتَابٍ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذالِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

إعلم أنه تعالى لما قال من قبل فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( النساء 141 ) أتبعه بما به يعلم أنه سبحانه عالم بما يستحقه كل أحد منهم فيقع الحكم منه بينهم بالعدل لا بالجور فقال لرسوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاء وَالاْرْضِ وههنا مسائل
المسألة الأولى قوله أَلَمْ تَعْلَمْ هو على لفظ الاستفهام لكن معناه تقوية قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والوعد له وإيعاد الكافرين بأن كل فعلهم محفوظ عند الله لا يضل عنه ولا ينسى
المسألة الثانية الخطاب مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد سائر العباد ولأن الرسالة لا تثبت إلا بعد العلم بكونه تعالى عالماً بكل المعلومات إذ لو لم يثبت ذلك لجاز أن يشتبه عليه الكاذب بالصادق فحينئذ لا يكون إظهار المعجز دليلاً على الصدق وإذا كان كذلك استحال أن لا يكون الرسول عالماً بذلك فثبت أن المراد أن يكون خطاباً مع الغير
أما قوله إِنَّ ذالِكَ فِى كِتَابٍ ففيه قولان أحدهما وهو قول أبي مسلم أن معنى الكتاب الحفظ والضبط والشد يقال كتبت المزادة أكتبها إذا خرزتها فحفظت بذلك ما فيها ومعناه ومعنى الكتاب بين الناس حفظ ما يتعاملون به فالمراد من قوله إِنَّ ذالِكَ فِى كِتَابٍ أنه محفوظ عنده والتالي وهو قول الجمهور أن كل ما يحدثه الله في السموات والأرض فقد كتبه في اللوح المحفوظ قالوا وهذا أولى لأن القول الأول وإن كان صحيحاً نظراً إلى الاشتقاق لكن الواجب حمل اللفظ على المتعارف ومعلوم أن الكتاب هو ما تكتب فيه الأمور فكان حمله عليه أولى فإن قيل فقد يوهم ذلك أن علمه مستفاد من الكتاب وأيضاً فأي فائدة في ذلك الكتاب والجواب عن الأول أن كتبه تلك الأشياء في ذلك الكتاب مع كونها مطابقة للموجودات من أدل الدلائل على أنه سبحانه غني في علمه عن ذلك الكتاب وعن الثاني أن الملائكة ينظرون فيه ثم يرون الحوادث داخلة في الوجود على وفقه فصار ذلك دليلاً لهم زائداً على كونه سبحانه عالماً بكل المعلومات
أما قوله كِتَابٍ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فمعناه أن كتبه جملة الحوادث مع أنها من الغيب مما يتعذر على الخلق لكنها بحيث متى أرادها الله تعالى كانت فعبر عن ذلك بأنه يسير وإن كان هذا الوصف لا يستعمل إلا فينا من حيث تسهل وتصعب علينا الأمور وتعالى الله عن ذلك ثم بين سبحانه ما يقدم الكفار عليه مع عظيم نعمه ووضوح دلائله فقال وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فبين أن عبادتهم لغير الله تعالى ليست مأخوذة عن دليل سمعي وهو المراد من قوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً ولا عن دليل عقلي وهو المراد من قوله وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وإذا لم يكن كذلك فهو عن تقليد أو جهل أو شبهة فوجب في كل قول هذا شأنه أن يكون باطلاً فمن هذا الوجه يدل على أن الكافر قد يكون كافراً وإن لم يعلم كونه كافراً ويدل أيضاً على فساد التقليد
أما قوله وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ففيه وجهان أحدهما أنهم ليس لهم أحد ينتصر لهم من الله كما

قد تتفق النصرة في الدنيا والثاني ما لهم في كفرهم ناصر بالحجة فإن الحجة ليست إلا للحق واحتجت المعتزلة بهذه الآية في نفي الشفاعة والكلام عليه معلوم
أما قوله تعالى وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا بَيّنَاتٍ يعني من تقدم ذكره وهذه الآيات هي القرآن ووصفها بأنها بينات لكونها متضمنة للدلائل العقلية وبيان الأحكام فبين أنهم مع جهلهم إذا نبهوا على الأدلة وعرضت عليهم المعجزة ظهر في وجوههم المنكر والمراد دلالة الغيظ والغضب قال صاحب ( الكشاف ) المنكر الفظيع من التهجم والفجور والنشوز والإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام وقرىء تعرف على ما لم يسم فاعله وللمفسرين في المنكر عبارات أحدها قال الكلبي تعرف في وجوههم الكراهية للقرآن ثانيها قال ابن عباس رضي الله عنهما التجبر والترفع وثالثها قال مقاتل أنكروا أن يكون من الله تعالى
أما قوله تعالى يَكَادُونَ يَسْطُونَ فقال الخليل والفراء والزجاج السطو شدة البطش والوثوب والمعنى يهمون بالبطش والوثوب تعظيماً لإنكار ما خوطبوا به فحكى تعالى عظيم تمردهم على الأنبياء والمؤمنين ثم أمر رسوله بأن يقابلهم بالوعيد فقال قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذالِكُمُ النَّارُ قال صاحب ( الكشاف ) قوله مّن ذالِكُمُ أي من غيظكم على الناس وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلى عليكم فقوله مّن ذالِكُمُ فيه وجهان أحدهما المراد أن الذي ينالكم من النار التي تكادون تقتحمونها بسوء فعالكم أعظم مما ينالكم عند تلاوة هذه الآيات من الغضب ومن هذا الغم والثاني أن يكون المراد بِشَرّ مّن ذالِكُمُ ما تهمون به فيمن يحاجكم فإن أكبر ما يمكنكم فيه الإهلاك ثم بعده مصيرهم إلى الجنة وأنتم تصيرون إلى النار الدائمة التي لا فرج لكم عنها وأما النَّارِ فقال صاحب ( الكشاف ) قرىء النَّارِ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف كأن قائلاً يقول ما شر من ذلك فقيل النار أي هو النار وبالنصب على الاختصاص وبالجر على البدل من شر ثم بين سبحانه أنه وعدها الذين كفروا إذا ماتوا على كفرهم وهو بئس المصير قال صاحب ( الكشاف ) وَعَدَهَا اللَّهُ استئناف كلام ويحتمل أن تكون النار مبتدأ و وَعَدَهَا خبراً
ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِى ٌّ عَزِيزٌ
إعلم أنه سبحانه لما بين من قبل أنهم يعبدون من دون الله مالا حجة لهم فيه ولا علم ذكر في هذه الآية ما يدل على إبطال قولهم

أما قوله تعالى ضُرِبَ مَثَلٌ ففيه سؤالات
السؤال الأول الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلاً والجواب لما كان المثل في الأكثر نكتة عجيبة غريبة جاز أن يسمى كل ما كان كذلك مثلاً
السؤال الثاني قوله ضُرِبَ يفيد فيما مضى والله تعالى هو المتكلم بهذا الكلام ابتداء الجواب إذا كان ما يورد من الوصف معلوماً من قبل جاز ذلك فيه ويكون ذكره بمنزلة إعادة أمر قد تقدم
أما قوله فَاسْتَمِعُواْ لَهُ أي تدبروه حق تدبره لأن نفس السماع لا ينفع وإنما ينفع التدبر واعلم أن الذباب لما كان في غاية الضعف احتج الله تعالى به على إبطال قولهم من وجهين الأول قوله إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ قرىء يدعون بالياء والتاء ويدعون مبنياً للمفعول وَلَنْ أصل في نفي المستقبل إلا أنه ينفيه نفياً مؤكداً فكأنه سبحانه قال إن هذه الأصنام وإن اجتمعت لن تقدر على خلق ذبابة على ضعفها فكيف يليق بالعاقل جعلها معبوداً فقوله وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ نصب على الحال كأنه قال يستحيل أن يخلقوا الذباب حال اجتماعهم فكيف حال انفرداهم والثاني أن قوله وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ كأنه سبحانه قال أترك أمر الخلق والإيجاد وأتكلم فيما هو أسهل منه فإن الذباب إن سلب منها شيئاً فهي لا تقدر على استنقاذ ذلك الشيء من الذباب واعلم أن الدلالة الأولى صالحة لأن يتمسك بها في نفي كون المسيح والملائكة آلهة أما الثانية فلا فإن قيل هذا الاستدلال إما أن يكون لنفي كون الأوثان خالقة عالمة حية مدبرة أو لنفي كونها مستحقة للتعظيم والأول فاسد لأن نفي كونها كذلك معلوم بالضرورة فأي فائدة في إقامة الدلالة عليه وأما الثاني فهذه الدلالة لا تفيده لأنه لا يلزم من نفي كونها حية أن لا تكون معظمة فإن جهات التعظيم مختلفة فالقوم كانوا يعتقدون فيها أنها طلسمات موضوعة على صورة الكواكب أو أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين وكانوا يعظمونها على أن تعظيمها يوجب تعظيم الملائكة وأولئك الأنبياء المتقدمين والجواب أما كونها طلسمات موضوعة على الكواكب بحيث يحصل منها الإضرار والانتفاع فهو يبطل بهذه الدلالة فإنها لما لم تنفع نفسها في هذا القدر وهو تخليص النفس عن الذبابة فلأن لا تنفع غيرها أولى وأما أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين فقد تقرر في العقل أن تعظيم غير الله تعالى ينبغي أن يكون أقل من تعظيم الله تعالى والقوم كانوا يعظمونها غاية التعظيم وحينئذ كان يلزم التسوية بينها وبين الخالق سبحانه في التعظيم فمن ههنا صاروا مستوجبين للذم والملام
أما قوله تعالى ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ففيه قولان أحدهما المراد منه الصنم والذباب فالصنم كالطالب من حيث إنه لو طلب أن يخلقه ويستنقذ منه ما استلبه لعجز عنه والذباب بمنزلة المطلوب الثاني أن الطالب من عبد الصنم والمطلوب نفس الصنم أو عبادتها وهذا أقرب لأن كون الصنم طالباً ليس حقيقة بل هو على سبيل التقدير أما ههنا فعلى سبيل التحقيق لكن المجاز فيه حاصل لأن الوثن لا يصح أن يكون ضعيفاً لأن الضعف لا يجوز إلا على من يصح أن يقوى وههنا وجه ثالث وهو أن يكون معنى قوله ضِعْفَ لا من حيث القوة ولكن لظهور قبح هذا المذهب كما يقال للمرء عند المناظرة ما أضعف هذا المذهب وما أضعف هذا الوجه

أما قوله مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه حق تعظيمه حيث جعلوا هذه الأصنام على نهاية خساستها شريكة له في المعبودية وهذه الكلمة مفسرة في سورة الأنعام وهو قَوِى ٌّ لا يتعذر عليه فعل شيء و عَزِيزٌ لا يقدر أحد على مغالبته فأي حاجة إلى القول بالشريك قال الكلبي في هذه الآية ونظيرها في سورة الأنعام إنها نزلت في جماعة من اليهود وهم مالك ابن الصيف وكعب بن الأشرف وكعب بن أسد وغيرهم لعنهم الله حيث قالوا إنه سبحانه لما فرغ من خلق السموات والأرض أعيا من خلقها فاستلقى واستراح ووضع إحدى رجليه على الأخرى فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم ونزل قوله تعالى وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ واعلم أن منشأ هذه الشبهات هو القول بالتشبيه فيجب تنزيه ذات الله تعالى عن مشابهة سائر الذوات خلاف ما يقوله المشبهة وتنزيه صفاته عن مشابهة سائر الصفات خلاف ما يقوله الكرامية وتنزيه أفعاله عن مشابهة سائر الأفعال أعني الغرض والداعي واستحقاق المدح والذم خلاف ما تقوله المعتزلة قال الإمام أبو القاسم الأنصاري رحمه الله فهو سبحانه جبار النعت عزيز الوصف فالأوهام لا تصوره والأفكار لا تقدره والعقول لا تمثله والأزمنة لا تدركه والجهات لا تحويه ولا تحده صمدي الذت سرمدي الصفات
اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّ مُورُ
اعلم أنه سبحانه لما قدم ما يتعلق بالإلهيات ذكر ههنا ما يتعلق بالنبوات قال مقاتل قال الوليد ابن المغيرة أأنزل عليه الذكر من بيننا فأنزل الله تعالى هذه الآية وههنا سؤالان
السؤال الأول كلمة مِنْ للتبعيض فقوله اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ( فاطر 1 ) يقتضي أن تكون الرسل بعضهم لا كلهم وقوله جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً يقتضي كون كلهم رسلاً فوقع التناقض والجواب جاز أن يكون المذكور ههنا من كان رسلاً إلى بني آدم وهم أكابر الملائكة كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والحفظة صلوات الله عليهم وأما كل الملائكة فبعضهم رسل إلى البعض فزال التناقض
السؤال الثاني قال في سورة الزمر لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء ( الزمر 4 ) فدل على أن ولده يجب أن يكون مصطفى وهذه الآية دلت على أن بعض الملائكة وبعض الناس من المصطفين فيلزم بمجموع الآيتين إثبات الولد والجواب أن قوله لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى يدل على أن كل ولد مصطفى ولا يدل على أن كل مصطفى ولد فلا يلزم من دلالة هذه الآية على وجود مصطفى كونه ولداً وفي هذه الآية وجه آخر وهو أن المراد تبكيت من عبد غير الله تعالى من الملائكة كأنه سبحانه أبطل في الآية الأولى قول عبدة الأوثان وفي هذه الآية أبطل قول عبدة الملائكة فبين أن علو درجة

الملائكة ليس لكونهم آلهة بل لأن الله تعالى اصطفاهم لمكان عبادتهم فكأنه تعالى بين أنهم ما قدروا الله حق قدره أن جعلوا الملائكة معبودين مع الله ثم بين سبحانه بقوله إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أنه يسمع ما يقولون ويرى ما يفعلون ولذلك أتبعه بقوله يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ فقال بعضهم ما تقدم في الدنيا وما تأخر وقال بعضهم مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أمر الآخرة وَمَا خَلْفَهُمْ أمر الدنيا ثم أتبعه بقوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ فقوله يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إشارة إلى العلم التام وقوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ إشارة إلى القدرة التامة والتفرد بالإلهية والحكم ومجموعهما يتضمن نهاية الزجر عن الإقدام على المعصية
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَاذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَءَاتُواْ الزَّكَواة َ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
اعلم أنه سبحانه لما تكلم في الإلهيات ثم في النبوات أتبعه بالكلام في الشرائع وهو من أربع أوجه أولها تعيين المأمور وثانيها أقسام المأمور به وثالثها ذكر ما يوجب قبول تلك الأوامر ورابعها تأكيد ذلك التكليف
أما النوع الأول وهو تعيين المأمور فهو قوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وفيه قولان أحدهما المراد منه كل المكلفين سواء كان مؤمناً أو كافراً لأن التكليف بهذه الأشياء عام في كل المكلفين فلا معنى لتخصيص المؤمنين بذلك والثاني أن المراد بذلك المؤمنون فقط أما أولاً فلأن اللفظ صريح فيه وأما ثانياً فلأن قوله بعد ذلك هُوَ اجْتَبَاكُمْ وقوله هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ وقوله وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ كل ذلك لا يليق إلا بالمؤمنين أقصى ما في الباب أن يقال لما كان ذلك واجباً على الكل فأي فائدة في تخصيص المؤمنين لكنا نقول تخصيصهم بالذكر لا يدل على نفي ذلك عما عداهم بل قد دلت هذه الآية على كونهم على التخصيص مأمورين بهذه الأشياء ودلت سائر الآيات على كون الكل مأمورين بها ويمكن أن يقال فائدة التخصيص أنه لما جاء الخطاب العام مرة بعد أخرى ثم إنه ما قبله إلا المؤمنون خصهم الله تعالى بهذا الخطاب ليكون ذلك كالتحريض لهم على المواظبة على قبوله وكالتشريق لهم في ذلك الإقرار والتخصيص

أما النوع الثاني وهو المأمور به فقد ذكر الله أموراً أربعة الأول الصلاة وهو المراد من قوله ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وذلك لأن أشرف أركان الصلاة هو الركوع والسجود والصلاة هي المختصة بهذين الركنين فكان ذكرهما جارياً مجرى ذكر الصلاة وذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن الناس في أول إسلامهم كانوا يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية الثاني قوله وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وذكروا فيه وجوهاً أحدها اعبدوه ولا تعبدوا غيره وثانيها واعبدوا ربكم في سائر المأمورات والمنهيات وثالثها افعلوا الركوع والسجود وسائر الطاعات على وجه العبادة لأنه لا يكفي أن يفعل فإنه ما لم يقصد به عبادة الله تعالى لا ينفع في باب الثواب فلذلك عطف هذه الجملة على الركوع والسجود الثالث قوله تعالى وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ قال ابن عباس رضي الله عنهما يزيد به صلة الرحم ومكارم الأخلاق والوجه عندي في هذا الترتيب أن الصلاة نوع من أنواع العبادة والعبادة نوع من أنواع فعل الخير لأن فعل الخير ينقسم إلى خدمة المعبود الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر الله وإلى الإحسان الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق الله ويدخل فيه البر والمعروف والصدقة على الفقراء وحسن القول للناس فكأنه سبحانه قال كلفتكم بالصلاة بل كلفتكم بما هو أعم منها وهو العبادة بل كلفتكم بما هو أعم من العبادة وهو فعل الخيرات
أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فقيل معناه لتفلحوا والفلاح الظفر بنعيم الآخرة وقال الإمام أبو القاسم الأنصاري لعل كلمة للترجية فإن الإنسان قلما يخلو في أداء الفريضة من تقصير وليس هو على يقين من أن الذي أتي به هل هو مقبول عند الله تعالى والعواقب أيضاً مستورة ( وكل ميسر لما خلق له ) الرابع قوله تعالى وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ قال صاحب ( الكشاف ) فِى اللَّهِ أي في ذات الله ومن أجله يقال هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقاً وجداً ومنه حَقَّ جِهَادِهِ وههنا سؤالات
السؤال الأول ما وجه هذه الإضافة وكان القياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ والجواب الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت الإضافة إليه
السؤال الثاني ما هذا الجهاد الجواب فيه وجوه أحدها أن المراد قتال الكفار خاصة ومعنى حَقَّ جِهَادِهِ أن لا يفعل إلا عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الإسم أو الغنيمة والثاني أن يجاهدوا آخراً كما جاهدوا أولاً فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعبد الرحمن بن عوف أما علمت أنا كنا نقرأ وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ في آخر الزمان كما جاهدتموه في أوله فقال عبد الرحمن ومتى ذاك يا أمير المؤمنين قال إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء واعلم أنه يبعد أن تكون هذه الزيادة من القرآن وإلا لنقل كنقل نظائره ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما قاله كالتفسير للآية وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ وجاهدوا في الله حق جهاده كما جاهدتم أول مرة فقال عمر من الذي أمرنا بجهاده فقال قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس فقال صدقت والثالث قال ابن عباس حق جهاده لا تخافوا في الله لومة لائم والرابع قال الضحاك واعملوا لله حق عمله والخامس استفرغوا وسعكم في إحياء دين الله وإقامة حقوقه بالحرب باليد واللسان وجميع ما يمكن وردوا أنفسكم عن الهوى والميل والوجه السادس قال عبدالله بن المبارك حق جهاده

مجاهدة النفس والهوى ولما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من غزوة تبوك قال ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ) والأولى أن يحمل ذلك على كل التكاليف فكل ما أمر به ونهى عنه فالمحافظة عليه جهاد
السؤال الثالث هل يصح ما نقل عن مقاتل والكلبي أن هذه الآية منسوخة بقوله فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( التغابن 16 ) كما أن قوله اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ( آل عمران 102 ) منسوخ بذلك الجواب هذا بعيد لأن التكليف مشروط بالقدرة لقوله تعالى لاَ يُكَلّفُ لِلَّهِ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا فكيف يقول الله وجاهدوا في الله على وجه لا تقدرون عليه وكيف وقد كان الجهاد في الأول مضيقاً حتى لا يصح أن يفر الواحد من عشرة ثم خففه الله بقوله الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ أفيجوز مع ذلك أن يوجبه على وجه لا يطاق حتى يقال إنه منسوخ
النوع الثالث بيان ما يوجب قبول هذه الأوامر وهو ثلاثة الأول قوله هُوَ اجْتَبَاكُمْ ومعناه أن التكليف تشريف من الله تعالى للعبد فلما خصكم بهذا التشريف فقد خصكم بأعظم التشريفات واختاركم لخدمته والاشتغال بطاعته فأي رتبة أعلى من هذا وأي سعادة فوق هذا ويحتمل في اجتباكم خصكم بالهداية والمعونة والتيسير
أما قوله تعالى وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ فهو كالجواب عن سؤال يذكر وهو أن التكليف وإن كان تشريفاً واجباً كما ذكرتم لكنه شاق شديد على النفس فأجاب الله تعالى عنه بقوله وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ روي أن أبا هريرة رضي الله عنه قال كيف قال الله تعالى وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مع أنه منعنا عن الزنا والسرقة فقال ابن عباس رضي الله عنهما بلى ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الحرج في أصل اللغة الجواب روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لبعض هذيل ما تعدون الحرج فيكم قال الضيق وعن عائشة رضي الله عنها ( سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال الضيق )
السؤال الثاني ما المراد من الحرج في الآية الجواب قيل هو الإتيان بالرخص فمن لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً ومن لم يستطع ذلك فليؤم وأباح للصائح الفطر في السفر والقصر فيه وأيضاً فإنه سبحانه لم يبتل عبده بشيء من الذنوب إلا وجعل له مخرجاً منها إما بالتوبة أو بالكفارة وعن ابن عمر رضي الله عنهما ( إنه من جاءته رخصة فرغب عنها كلف يوم القيامة أن يحمل ثقل تنين حتى يقضي بين الناس ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا اجتمع أمران فأحبهما إلى الله تعالى أيسرهما ) وعن كعب أعطى الله هذه الأمة ثلاثاً لم يعطهم إلا للأنبياء ( جعلهم شهداء على الناس وما جعل عليهم في الدين من حرج وقال أدعوني أستجب لكم )
السؤال الثالث استدلت المعتزلة بهذه الآية في المنع من تكليف مالا يطاق فقالوا لما خلق الله الكفر والمعصية في الكافر والعاصي ثم نهاه عنهما كان ذلك من أعظم الحرج وذلك منفي بصريح هذا النص والجواب لما أمره بترك الكفر وترك الكفر يقتضي انقلاب علمه جهلاً فقد أمر الله المكلف بقلب علم الله جهلاً وذلك من أعظم الحرج ولما استوى القدمان زال السؤال

الموجب الثاني لقبول التكليف قوله مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وفي نصب الملة وجهان أحدهما وهو قول الفراء أنها منصوبة بمضمون ما تقدمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه والثاني أن يكون منصوباً على المدح والتعظيم أي أعني بالدين ملة أبيكم إبراهيم واعلم أن المقصود من ذكره التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام والعرب كانوا محبين لإبراهيم عليه السلام لأنهم من أولاده فكان التنبيه على ذلك كالسبب لصيروتهم منقادين لقبول هذا الدين وههنا سؤالات
السؤال الأول لم قال مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ولم يدخل في الخطاب المؤمنون الذين كانوا في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يكن من ولده والجواب من وجهين أحدهما لما كان أكثرهم من ولده كالرسول ورهطه وجميع العرب جاز ذلك وثانيهما وهو قول الحسن أن الله تعالى جعل حرمة إبراهيم عليه السلام على المسلمين كحرمة الوالد على ولده ومنه قوله تعالى النَّبِى ُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ( الأحزاب 6 ) فجعل حرمته كحرمة الوالد على الولد وحرمة نسائه كحرمة الوالدة على ما قال تعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( الأحزاب 6 )
السؤال الثاني هذا يقتضي أن تكون ملة محمد كملة إبراهيم عليهما السلام سواء فيكون الرسول ليس له شرع مخصوص ويؤكده قوله تعالى أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ الجواب هذا الكلام إنما وقع مع عبدة الأوثان فكأنه تعالى قال عبادة الله وترك الأوثان هي ملة إبراهيم فأما تفاصيل الشرائع فلا تعلق لها بهذا الموضع
السؤال الثالث ما معنى قوله تعالى هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ الجواب فيه قولان أحدهما أن الكناية راجعة إلى إبراهيم عليه السلام فإن لكل نبي دعوة مستجابة وهو قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّة ً مُّسْلِمَة ً لَّكَ ( البقرة 128 ) فاستجاب الله تعالى له فجعلها أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وروي أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأن الله تعالى سيبعث محمداً بمثل ملته وأنه ستسمى أمته بالمسلمين والثاني أن الكناية راجعة إلى الله تعالى في قوله هُوَ اجْتَبَاكُمْ فروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن الله سماكم المسلمين من قبل ) أي في كل الكتب وفي هذا أي في القرآن وهذا الوجه أقرب لأنه تعالى قال لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فبين أنه سماهم بذلك لهذا الغرض وهذا لا يليق إلا بالله ويدل عليه أيضاً قراءة أبي بن كعب اللَّهِ سَمَّاكُمُ والمعنى أنه سبحانه في سائر الكتب المتقدمة على القرآن وفي القرآن أيضاً بين فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم لأجل الشهادة المذكورة فلما خصكم الله بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه وهذا هو العلة الثالثة الموجبة لقبول التكليف وأما الكلام في أنه كيف يكون الرسول شهيداً علينا وكيف تكون أمته شهداء على الناس فقد تقدم في سورة البقرة وبينا أنه أخذ منه ما يدل على أن الإجماع حجة
النوع الرابع شرح ما يجري مجرى المؤكد لما مضى وهو قوله فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة

ويجب صرفها إلى المفروضات لأنها هي المعهودة واعتصموا بالله أي بدلائله العقلية والسمعية وألطافه وعصمته قال ابن عباس ( سلوا الله العصمة عن كل المحرمات ) وقال القفال اجعلوا الله عصمة لكم مما تحذرون هو مولاكم وسيدكم المتصرف فيكم فنم المولى ونعم البصير فكأنه سبحانه قال أنا مولاك بل أنا ناصرك وحسبك واعلم أن المعتزلة احتجوا بهذه الآيات من وجوه أحدها أن قوله لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ يدل على أنه سبحانه أراد الإيمان من الكل لأنه تعالى لا يجعل الشهيد على عباده إلا من كان عدلاً مرضياً فإذا أراد أن تكونوا شهداء على الناس فقد أراد تكونوا جميعاً صالحين عدولاً وقد علمنا أن منهم فاسقاً فدل ذلك على أن الله تعالى أراد من الفسق كونه عدلاً وثانيها قوله وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ وكيف يمكن الاعتصام به مع أن الشر لا يوجد إلا منه وثالثها قوله فَنِعْمَ الْمَوْلَى لأنه لو كان كما يقوله أهل السنة من أنه خلق أكثر عباده ليخلق فيهم الكفر والفساد ثم يعذبهم لما كان نعم المولى بل كان لا يوجد من شرار الموالي أحد إلا وهو شر منه فكان يجب أن يوصف بأنه بئس المولى وذلك باطل فدل على أنه سبحانه ما أراد من جميعهم إلا الصلاح فإن قيل لم لا يجوز أن يكون نعم المولى للمؤمنين خاصة كما أنه نعم النصير لهم خاصة قلنا إنه تعالى مولى المؤمنين والكافرين جميعاً فيجب أن يقال إنه نعم المولى للمؤمنين وبئس المولى للكافرين فإن ارتكبوا ذلك فقد ردوا القرآن والإجماع وصرحوا بشتم الله تعالى ورابعها أن قوله سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ يدل على إثبات الأسماء الشرعية وأنها من قبل الله تعالى لأنها لو كانت لغة لما أضيفت إلى الله تعالى على وجه الخصوص والجواب عن الأول وهو قوله كونه تعالى مريداً لكونه شاهداً يستلزم كونه مريداً لكونه عدلاً فنقول إن كانت إرادة الشيء مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكافر توجب أن تكون مستلزمة لإرادة جهل الله تعالى فيلزم كونه تعالى مريداً لجهل نفسه وإن لم يكن ذلك واجباً سقط الكلام
وأما قوله وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ فيقال هذا أيضاً وارد عليكم فإنه سبحانه خلق الشهوة في قلب الفاسق وأكدها وخلق المشتهي وقربه منه ورفع المانع ثم سلط عليه الشياطين من الإنس والجن وعلم أنه لا محالة يقع في الفجور والضلال وفي الشاهد كل من فعل ذلك فإنه يكون بئس المولى فإن صح قياس الغائب على الشاهد فهذا لازم عليكم وإن بطل سقط كلامكم بالكلية

سورة المؤمنون
مائة وثمان عشرة آية مكية
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَواة ِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لاًّمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَائِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
إعلم أنه سبحانه حكم بحصول الفلاح لمن كان مستجمعاً لصفات سبع وقبل الخوض في شرح تلك الصفات لا بد من بحثين
البحث الأول أن قَدْ نقيضة لما فقد تثبت المتوقع ولما تنفيه ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه
البحث الثاني الفلاح الظفر بالراد وقيل البقاء في الخير وأفلح دخل في الفلاح كأبشر دخل في البشارة ويقال أفلحه صيره إلى الفلاح وعليه قراءة طلحة بن مصرف أفلح على البناء للمفعول وعنه أفلحوا على لغة أكلوني البراغيث أو على الإبهام والتفسير

الصفة الأولى قوله الْمُؤْمِنُونَ وقد تقدم القول في الإيمان في سورة البقرة
الصفة الثانية قوله الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ واختلفوا في الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات ومنهم من جمع بين الأمرين وهو الأولى فالخاشع في صلاته لا بد وأن يحصل له مما يتعلق بالقلب من الأفعال نهاية الخضوع والتذلل للمعبود ومن التروك أن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سوى التعظيم ومما يتعلق بالجوارح أن يكون ساكناً مطرقاً ناظراً إلى موضع سجوده ومن التروك أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً ولكن الخشوع الذي يرى على الإنسان ليس إلا ما يتعلق بالجوارح فإن ما يتعلق بالقلب لا يرى قال الحسن وابن سيرين كان المسلمون يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يفعل ذلك فلما نزلت هذه الآية طأطأ وكان لا يجاوز بصره مصلاه فإن قيل فهل تقولون إن ذلك واجب في الصلاة قلنا إنه عندنا واجب ويدل عليه أمور أحدها قوله تعالى أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( محمد 24 ) والتدبر لا يتصور بدون الوقوف على المعنى وكذا قوله تعالى وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً ( المزمل 4 ) معناه قف على عجائبه ومعانيه وثانيها قوله تعالى إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ( طه 14 ) وظاهر الأمر للوجوب والغفلة تضاد الذكر فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيماً للصلاة لذكره وثالثها قوله تعالى وَلاَ تَكُنْ مّنَ الْغَافِلِينَ ( الأعراف 205 ) وظاهر النهي للتحريم ورابعها قوله حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ النساء 43 ) تعليل لنهي السكران وهو مطرد في الغافل المستغرق المهتم بالدنيا وخامسها قوله عليه السلام ( إنما الخشوع لمن تمسكن وتواضع ) وكلمة إنما للحصر وقوله عليه السلام ( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ) وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء وقال عليه السلام ( كم من قائم حظه من قيامه التعب والنصب ) وما أراد به إلا الغافل وقال أيضاً ( ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل ) وسادسها قال الغزالي رحمه الله المصلي يناجي ربه كما ورد به الخبر والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة ألبتة وبيانه أن الإنسان إذا أدى الزكاة حال الغفلة فقد حصل المقصود منها على بعض الوجوه وهو كسر الحرص وإغناء الفقير وكذا الصوم قاهر للقوى كاسر لسطوة الهوى التي هي عدوة الله تعالى فلا يبعد أن يحصل منه مقصوده مع الغفلة وكذا الحج أفعال شاقة وفيه من المجاهدة ما يحصل به الابتلاء سواء كان القلب حاضراً أو لم يكن أما الصلاة فليس فيها إلا ذكر وقراءة وركوع وسجود وقيام وقعود أما الذكر فإنه مناجاة مع الله تعالى فإما أن يكون المقصود منه كونه مناجاة أو المقصود مجرد الحروف والأصوات ولا شك في فساد هذا القسم فإن تحريك اللسان بالهذيان ليس فيه غرض صحيح فثبت أن المقصود منه المناجاة وذلك لا يتحقق إلا إذا كان اللسان معبراً عما في القلب من التضرعات فأي سؤال في قوله اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( الفاتحة 6 ) وكان القلب غافلاً عنه بل أقول لو حلف إنسان وقال والله لأشكرن فلاناً وأثنى عليه وأسأله حاجة ثم جرت الألفاظ الدالة على هذه المعاني على لسانه في اليوم لم يبر في يمينه ولو

جرى على لسانه في ظلمة الليل وذلك الإنسان حاضر وهو لا يعرف حضوره ولا يراه لا يصير باراً في يمينه ولا يكون كلامه خطاباً معه ما لم يكن حاضراً بقلبه ولو جرت هذه الكلمات على لسانه وهو حاضر في بياض النهار إلا أن المتكلم غافل لكونه مستغرق الهم بفكر من الأفكار ولم يكن له قصد توجيه الخطاب عليه عند نطقه لم يصر باراً في يمينه ولا شك أن المقصود من القراءة الأذكار والحمد والثناء والتضرع والدعاء والمخاطب هو الله تعالى فإذا كان القلب محجوباً بحجاب الغفلة وكان غافلاً عن جلال الله وكبريائه ثم إن لسانه يتحرك بحكم العادة فما أبعد ذلك عن القبول وأما الركوع والسجود فالمقصود منهما التعظيم ولو جاز أن يكون تعظيماً لله تعالى مع أنه غافل عنه لجاز أن يكون تعظيماً للصنم الموضوع بين يديه وهو غافل عنه ولأنه إذا لم يحصل التعظيم لم يبق إلا مجرد حركة الظهر والرأس وليس فيها من المشقة ما يصير لأجله عماداً للدين وفاصلاً بين الكفر والإيمان ويقدم على الحج والزكاة والجهاد وسائر الطاعات الشاقة ويجب القتل بسببه على الخصوص وبالجملة فكل عاقل يقطع بأن مشاهدة الخواص العظيمة ليس أعمالها الظاهرة إلا أن ينضاف إليها مقصود هذه المناجاة فدلت هذه الاعتبارات على أن الصلاة لا بد فيها من الحضور وسابعها أن الفقهاء اختلفوا فيما ينويه بالسلام عند الجماعة والانفراد هل ينوي الحضور أو الغيبة والحضور معاً فإذا احتيج إلى التدبر في معنى السلام الذي هو آخر الصلاة فلأن يحتاج إلى التدبر في معنى التكبير والتسبيح التي هي الأشياء المقصودة من الصلاة بالطريق الأولى واحتج المخالف بأن اشتراط الخضوع والخشوع على خلاف اجتماع الفقهاء فلا يلتفت إليه والجواب من وجوه أحدها أن الحضور عندنا ليس شرطاً للأجزاء بل شرط للقبول والمراد من الإجزاء أن لا يجب القضاء والمراد من القبول حكم الثواب والفقهاء إنما يبحثون عن حكم الإجزاء لا عن حكم الثواب وغرضنا في هذا المقام هذا ومثاله في الشاهد من استعار منك ثوباً ثم رده على الوجه الأحسن فقد خرج عن العهدة واستحق المدح ومن رماه إليك على وجه الاستخفاف خرج عن العهدة ولكنه استحق الذم كذا من عظم الله تعالى حال أدائه العبادة صار مقيماً للفرض مستحقاً للثواب ومن استهان بها صار مقيماً للفرض ظاهراً لكنه استحق الذم وثانيها أنا نمنع هذا الإجماع أما المتكلمون فقد اتفقوا على أنه لا بد من الحضور والخشوع واحتجوا عليه بأن السجود لله تعالى طاعة وللصنم كفر وكل واحد منهما يماثل الآخر في ذاته ولوازمه فلا بد من أمر لأجله صار السجود في إحدى الصورتين طاعة وفي الأخرى معصية قالوا وما ذاك إلا القصد والإرادة والمراد من القصد إيقاع تلك الأفعال لداعية الامتثال وهذه الداعية لا يمكن حصولها إلا عند الحضور فلهذا اتفقوا على أنه لا بد من الحضور أما الفقهاء فقد ذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في تنبيه الغافلين أن تمام القراءة أن يقرأ بغير لحن وأن يقرأ بالتفكر وأما الغزالي رحمه الله فإنه نقل عن أبي طالب المكي عن بشر الحافي أنه قال من لم يخشع فسدت صلاته وعن الحسن رحمه الله كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع وعن معاذ بن جبل من عرف من على يمينه وشماله متعمداً وهو في الصلاة فلا صلاة له وروي أيضاً مسنداً قال عليه السلام ( إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها ) وقال عبد الواحد بن زيد أجمعت العلماء على أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل وادعى فيه الإجماع إذا ثبت هذا فنقول هب أن الفقهاء بأسرهم حكموا بالجواز أليس الأصوليون وأهل الورع ضيقوا الأمر فيها فهلا أخذت بالاحتياط فإن بعض العلماء اختار

الإمامة فقيل له في ذلك فقال أخاف إن تركت الفاتحة أن يعاتبني الشافعي وإن قرأتها مع الإمام أن يعاتبني أبو حنيفة فاخترت الإمامة طلباً للخلاص عن هذا الاختلاف والله أعلم
الصفة الثالثة قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وفي اللغو أقوال أحدها أنه يدخل فيه كل ما كان حراماً أو مكروهاً أو كان مباحاً ولكن لا يكون بالمرء إليه ضرورة وحاجة وثانيها أنه عبارة عن كل ما كان حراماً فقط وهذا التفسير أخص من الأول وثالثها أنه عبارة عن المعصية في القول والكلام خاصة وهذا أخص من الثاني ورابعها أنه المباح الذي لا حاجة إليه واحتج هذا القائل بقوله تعالى لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ ( المائدة 89 ) فكيف يحمل ذلك على المعاصي التي لا بد فيها من المؤاخذة واحتج الأولون بأن اللغو إنما سمي لغواً بما أنه يلغي وكل ما يقتضي الدين إلغاءه كان أولى باسم اللغو فوجب أن يكون كل حرام لغواً ثم اللغو قد يكون كفراً لقوله لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ ( فصلت 26 ) وقد يكون كذباً لقوله لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة ً ( الغاشية 11 ) وقوله لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ( الواقعة 25 ) ثم إنه سبحانه وتعالى مدحهم بأنهم يعرضون عن هذا اللغو والإعراض عنه هو بأن لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه وعلى هذا الوجه قال تعالى وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) واعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس الذين هما قاعدتا بناء التكليف وهو أعلم
الصفة الرابعة قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَواة ِ فَاعِلُونَ وفي الزكاة قولان أحدهما قول أبي مسلم أن فعل الزكاة يقع على كل فعل محمود مرضي كقوله قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ( الأعلى 14 ) وقوله فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( النجم 32 ) ومن جملته ما يخرج من حق المال وإنما سمى بذلك لأنها تطهر من الذنوب لقوله تعالى تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ( التوبة 103 ) والثاني وهو قول الأكثرين أنه الحق الواجب في الأموال خاصة وهذا هو الأقرب لأن هذه اللفظة قد اختصت في الشرع بهذا المعنى فإن قيل إنه لا يقال في الكلام الفصيح إنه فعل الزكاة قلنا قال صاحب ( الكشاف ) الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى فالعين القدر الذي يخرجه المزكى من النصاب إلى الفقير والمعنى فعل المزكى الذي هو التزكية وهو الذي أراده الله تعالى فجعل المزكين فاعلين له ولا يسوغ فيه غيره لأنه ما من مصدر إلا يعبر عن معناه بالفعل ويقال لمحدثه فاعل يقال للضارب فاعل الضرب وللقاتل فاعل القتل وللمزكى فاعل الزكاة وعلى هذا الكلام كله يجوز أن يراد بالزكاة العين ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء فإن قيل إن الله تعالى هناك لم يفصل بين الصلاة والزكاة فلم فصل ههنا بينهما بقوله وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ قلنا لأن الإعراض عن اللغو من متممات الصلاة
الصفة الخامسة قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ وفيه سؤالات
السؤال الأول لم لم يقل إلا عن أزواجهم الجواب قال الفراء معناه إلا من أزواجهم وذكر صاحب ( الكشاف ) فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه في موضع الحال أي إلا والين على أزواجهم أو قوامين عليهن من قولك كان فلان على فلانة ونظيره كان زياد على البصرة أي والياً عليها ومنه قولهم فلانة تحت فلان ومن ثم

سميت المرأة فراشاً والمعنى أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم وثانيها أنه متعلق بمحذوف يدل عليه غير ملومين كأنه قيل يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه وهو قول الزجاج وثالثها أن تجعله صلة لحافظين
السؤال الثاني هلا قيل من ملكت الجواب لأنه اجتمع في السرية وصفان أحدهما الأنوثة وهي مظنة نقصان العقل والآخر كونها بحيث تباع وتشتري كسائر السلع فلاجتماع هذين الوصفين فيها جعلت كأنها ليست من العقلاء
السؤال الثالث هذه الآية تدل على تحريم المتعة على ما يروى عن القاسم بن محمد الجواب نعم وتقريره أنها ليست زوجة له فوجب أن لا تحل له وإنما قلنا إنها ليست زوجة له لأنهما لا يتوارثان بالإجماع ولو كانت زوجة له لحصل التوارث لقوله تعالى وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ( النساء 12 ) وإذا ثبت أنها ليست بزوجة له وجب أن لا تحل له لقوله تعالى إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وهو أعلم
السؤال الرابع أليس لا يحل له في الزوجة وملك اليمين الاستمتاع في أحوال كحال الحيض وحال العدة وفي الأمة حال تزويجها من الغير وحال عدتها وكذا الغلام داخل في ظاهر قوله وتعالى أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ والجواب من وجهين أحدهما أن مذهب أبي حنيفة رحمه الله أن الاستثناء من النفي لا يكون إثباتاً واحتج عليه بقوله عليه السلام ( لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بولي ) فإن ذلك لا يقتضي حصول الصلاة بمجرد حصول الطهور وحصول النكاح بمجرد حصول الولي وفائدة الاستثناء صرف الحكم لا صرف المحكوم به فقوله وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ معناه أنه يجب حفظ الفروج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات الثاني أنا إن سلمنا أن الاستثناء من النفي إثبات فغايته أنه عام دخله التخصيص بالدليل فيبقى فيما وراءه حجة
أما قوله تعالى فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ يعني الكاملون في العدوان المتناهون فيه
الصفة السادسة قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ قرأ نافع وابن كثير لأمانتهم واعلم أنه يسمى الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهداً ومنه قوله تعالى ظَلِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وقال وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ( الأنفال 27 ) وإنما تؤدي العيون دون المعاني فكان المؤتمن عليه الأمانة في نفسه والعهد ما عقده على نفسه فيما يقربه إلى ربه ويقع أيضاً على ما أمر الله تعالى به كقوله الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا ( آل عمران 183 ) والراعي القائم على الشيء لحفظ وإصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية ويقال من راعى هذا الشيء أي موليه واعلم أن الأمانة تتناول كل ما تركه يكون داخلاً في الخيانة وقد قال تعالى تَشْكُرُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ( الأنفال 270 ) فمن ذلك العبادات التي المرء مؤتمن عليها وكل العبادات تدخل في ذلك لأنها إما أن تخفي أصلاً كالصوم وغسل الجنابة وإسباغ الوضوء أو تخفي كيفية إتيانه بها وقال عليه السلام ( أعظم الناس خيانة من لم يتم صلاته ) وعن ابن مسعود رضي الله عنه ( أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة ) ومن جملة ذلك ما يلتزمه بفعل أو قول فيلزمه الوفاء به كالودائع والعقود وما يتصل بهما ومن ذلك

الأقوال التي يحرم بها العبيد والنساء لأنه مؤتمن في ذلك ومن ذلك أن يراعى أمانته فلا يفسدها بغصب أو غيره وأما العهد فإنه دخل فيه العقود والإيمان والنذور فبين سبحانه أن مراعاة هذه الأمور والقيام بها معتبر في حصول الفلاح
الصفة السابعة قوله وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَواتِهِمْ يُحَافِظُونَ وإنما أعاد تعالى ذكرها لأن الخشوع والمحافظة متغايران غير متلازمين فإن الخشوع صفة للمصلي في حال الأداء لصلاته والمحافظة إنما تصح حال ما لم يؤدها بكمالها بل المراد بالمحافظة التعهد لشروطها من وقت وطهارة وغيرهما والقيام على أركانها وإتمامها حتى يكون ذلك دأبه في كل وقت ثم لما ذكر الله تعالى مجموع هذه الأمور قال أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وههنا سؤالات
السؤال الأول لم سمي ما يجدونه من الثواب والجنة بالميراث مع أنه سبحانه حكم بأن الجنة حقهم في قوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ الجواب من وجوه الأول ما روي عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهو أبين على ما يقال فيه وهو أنه لا مكلف إلا أعد الله له في النار ما يستحقه إن عصى وفي الجنة ما يستحقه إن أطاع وجعل لذلك علامة فإذا آمن منهم البعض ولم يؤمن البعض صار منزل من لم يؤمن كالمنقول إلى المؤمنين وصار مصيرهم إلى النار الذي لا بد معه من حرمان الثواب كموتهم فسمى ذلك ميراثاً لهذا الوجه وقد قال الفقهاء إنه لا فرق بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر فيه الملك في أنه يورث عنه كذلك قالوا في الدية التي تجب بالقتل إنها تورث مع أنه ما ملكها على التحقيق وذلك يشهد بما ذكرنا فإن قيل إنه تعالى وصف كل الذي يستحقونه إرثاً وعلى ما قلتم يدخل في الإرث ما كان يستحقه غيرهم لو أطاع قلنا لا يمتنع أنه تعالى جعل ما هو منزلة لهذا المؤمن بعينه منزلة لذلك الكافر لو أطاع لأنه عند ذلك وكان يزيد في المنازل فإذا آمن هذا عدل بذلك إليه وثانيها أن انتقال الجنة إليهم بدون محاسبة ومعرفة بمقاديره يشبه انتقال المال إلى الوارث وثالثها أن الجنة كانت مسكن أبينا آدم عليه السلام فإذا انتقلت إلى أولاده صار ذلك شبيهاً بالميراث
السؤال الثاني كيف حكم على الموصوفين بالصفات السبع بالفلاح مع أنه تعالى ما تمم ذكر العبادات الواجبة كالصوم والحج والطهارة والجواب أن قوله وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ يأتي على جميع الواجبات من الأفعال والتروك كما قدمنا والطهارات دخلت في جملة المحافظة على الصلوات الخمس لكونها من شرائطها
السؤال الثالث أفيدل قوله تعالى أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ على أنه لا يدخلها غيرهم الجواب أن قوله هُمُ الْوارِثُونَ يفيد الحصر لكنه يجب ترك العمل به لأنه ثبت أن الجنة يدخلها الأطفال والمجانين والولدان والحور العين ويدخلها الفساق من أهل القبلة بعد العفو لقوله تعالى وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء
السؤال الرابع أفكل الجنة هو الفردوس الجواب الفردوس هو الجنة بلسان الحبشة وقيل بلسان الروم وروى أبو موسى الأشعري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الفردوس مقصورة الرحمن فيها الأنهار والأشجار )

وروى أبو أمامة عنه عليه السلام أنه قال ( سلوا الله الفردوس فإنها أعلى الجنان وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش )
السؤال الخامس هل تدل الآية على أن هذه الصفات هي التي لها ولأجلها يكونون مؤمنين أم لا الجواب ادعى القاضي أن الأمر كذلك بناء على مذهبه أن الإيمان اسم شرعي موضوع لأداء كل الواجبات وعندنا أن الآية لا تدل على ذلك لأن قوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ مثل قد أفلح الناس الأذكياء العدول فإن هذا لا يدل على أن الزكاة والعدالة داخلان في مسمى الناس فكذا ههنا
السؤال السادس روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لما خلق الله تعالى جنة عدن قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون ) وقال كعب ( خلق الله آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده ثم قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون ) وروي أنه عليه السلام قال ( إذا أحسن العبد الوضوء وصلى الصلاة لوقتها وحافظ على ركوعها وسجودها ومواقيتها قالت حفظك الله كما حافظت علي وشفعت لصاحبها وإذا أضاعها قالت أضاعك الله كما ضيعتني وتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها ) الجواب أما كلام الجنة فالمراد به أنها أعدت للمؤمنين فصار ذلك كالقول منها وهو كقوله تعالى قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) وأما أنه تعالى خلق الجنة بيده فالمراد تولى خلقها لا أنه وكله إلى غيره وأما أن الصلاة تثنى على من قام بحقها فهو في الجواز أبعد من كلام الجنة لأن الصلاة حركات وسكنات ولا يصح عليها أن تتصور وتتكلم فالمراد منه ضرب المثل كما يقول القائل للمنعم إن إحسانك إلي ينطق بالشكر
السؤال السابع هل تدل الآية على أن الفردوس مخلوقة الجواب قال القاضي دل قوله تعالى أُكُلُهَا دَائِمٌ ( الرعد 35 ) على أنها غير مخلوقة فوجب تأويل هذه الآية كأنه تعالى قال إذا كان يوم القيامة يخلق الله الجنة ميراثاً للمؤمنين أو وإذا خلقها تقول على مثال ما تأولنا عليه قوله تعالى وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 50 ) وهذا ضعيف لأنه ليس إضمار ما ذكره في هذه الآية أولى من أن يضمر في قوله أُكُلُهَا دَائِمٌ ( الرعد 35 ) ثم إن أكلها دائم يوم القيامة وإذا تعارض هذان الظاهران فنحن نتمسك في أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( آل عمران 133 )
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَة َ مُضْغَة ً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَة َ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ تُبْعَثُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ

اعلم أنه سبحانه لما أمر بالعبادات في الآية المتقدمة والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الإله الخالق لا جرم عقبها بذكر ما يدل على وجوده واتصافه بصفات الجلال والوحدانية فذكر من الدلائل أنواعاً
النوع الأول الاستدلال يتقلب الإنسان في أدوار الخلقة وأكوان الفطرة وهي تسعة
المرتبة الأولى قوله سبحانه تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ والسلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر فُعالة وهو بناء يدل على القلة كالقُلامة والقُمامة واختلف أهل التفسير في الإنسان فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل المراد منه آدم عليه السلام فآدم سل من الطين وخلقت دريته من ماء مهين ثم جعلنا الكناية راجعة إلى الإنسان الذي هو ولد آدم والإنسان شامل لآدم عليه السلام ولولده وقال آخرون الإنسان ههنا ولد آدم والطين ههنا اسم آدم عليه السلام والسلالة هي الأجزاء الطينية المبثوثة في أعضائه التي لما اجتمعت وحصلت في أوعية المنى صارت منياً وهذا التفسير مطابق لقوله تعالى وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَة ٍ مّن مَّاء مَّعِينٍ ( السجدة 7 8 ) وفيه وجه آخر وهو أن الإنسان إنما يتولد من النطفة وهي إنما تتولد من فضل الهضم الرابع وذلك إنما يتولد من الأغذية وهي إما حيوانية وإما نياتية والحيوانية تنتهي إلى النباتية والنبات إنما يتولد من صفو الأرض والماء فالإنسان بالحقيقة يكون متولداً من سلالة من طين ثم إن تلك السلالة بعد أن تواردت على أطوار الخلقة وأدوار الفطرة صارت منياً وهذا التأويل مطابق للفظ ولا يحتاج فيه إلى التكلفات
المرتبة الثانية قوله تعالى ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ومعنى جعل الإنسان نطفة أنه خلق جوهر الإنسان أولاً طيناً ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في أصلاب الآباء فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة فصار الرحم قراراً مكيناً لهذه النطفة والمراد بالقرار موضع القرار وهو المستقر فسماه بالمصدر ثم وصف الرحم بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها كقولك طريق سائر أو لمكانتها في نفسها لأنها تمكنت من حيث هي وأحرزت
المرتبة الثالثة قوله تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً أي حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفات العلقة وهي الدم الجامد
المرتبة الرابعة قوله تعالى فَخَلَقْنَا الْعَلَقَة َ مُضْغَة ً أي جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم كأنها مقدار ما يمضغ كالغرفة وهي مقدار ما يغترف وسمى التحويل خلقاً لأنه سبحانه يفني بعض أعراضها ويخلق أعراضاً غيرها فسمى خلق الأعراض خلقاً لها وكأنه سبحانه وتعالى يخلق فيها أجزاء زائدة
المرتبة الخامسة قوله فَخَلَقْنَا الْمُضْغَة َ عِظَاماً أي صيرناها كذلك وقرأ ابن عامر عظماً والمراد منه الجمع كقوله وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً
المرتبة السادسة قوله تعالى فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً وذلك لأن اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة لها
المرتبة السابعة قوله تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً أي خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً وكان جماداً وناطقاً وكان أبكم وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه وأودع باطنه وظاهره

بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطرة وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين ولا شرح الشارحين وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال هو تصريف الله إياه بعد الولادة في أطواره في زمن الطفولية وما بعدها إلى استواء الشباب وخلق الفهم والعقل وما بعده إلى أن يموت ودليل هذا القول إنه عقبه بقوله ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيّتُونَ وهذا المعنى مروي أيضاً عن ابن عباس وابن عمر وإنما قال أَنشَأْنَاهُ لأنه جعل إنشاء الروح فيه وإتمام خلقه إنشاء له قالوا في الآية دلالة على بطلان قول النظام في أن الإنسان هو الروح لا البدن فإنه سبحانه بين أن الإنسان هو المركب من هذه الصفات وفيها دلالة أيضاً على بطلان قول الفلاسفة الذين يقولون إن الإنسان شيء لا ينقسم وإنه ليس بجسم
أما قوله فَتَبَارَكَ اللَّهُ أي فتعالى الله فإن البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة وكل ما زاد على الشيء فقد علاه ويجوز أن يكون المعنى والبركات والخيرات كلها من الله تعالى وقيل أصله من البروك وهو الثبات فكأنه قال والبقاء والدوام والبركات كلها منه فهو المستحق للتعظيم والثناء وقوله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ أي أحسن المقدرين تقديراً فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه وههنا مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة لولا أن الله تعالى قد يكون خالقاً لفعله إذا قدره لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين والخلق في اللغة هو كل فعل وجد من فاعله مقدراً لا على سهو وغفلة والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه قال الكعبي هذه الآية وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد كما أنه يجوز أن يقال رب الدار ولا يجوز أن يقال رب بلا إضافة ولا يقول العبد لسيده هو ربي ولا يقال إنما قال الله تعالى ذلك لأنه سبحانه وصف عيسى عليه السلام بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير لأنا نجيب عنه من وجهين أحدهما إن ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح الثاني أنه إذا صح وصف عيسى بأنه يخلق صح وصف غيره من المصورين أيضاً بأنه يخلق وأجاب أصحابنا بأن هذه الآية معارضة بقول الله تعالى اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الزمر 62 ) فوجب حمل هذه الآية على أنه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ في اعتقادكم وظنكم كقوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 ) أي هو أهون عليه في اعقتادكم وظنكم والجواب الثاني هو أن الخالق هو المقدر لأن الخلق هو التقدير والآية تدل على أنه سبحانه أحسن المقدرين والتقدير يرجع معناه إلى الطن والحسبان وذلك في حق الله سبحانه محال فتكون الآية من المتشابهات والجواب الثالث أن الآية تقتضي كون العبد خالقاً بمعنى كونه مقدراً لكن لم قلت بأنه خالق بمعنى كونه موجداً
المسألة الثانية قالت المعتزلة الآية تدل على أن كل ما خلقه حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن الخالقين وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون خالقاً للكفر والمعصية فوجب أن يكون العبد هو الموجد لهما والجواب من الناس من حمل الحسن على الإحكام والاتقان في التركيب والتأليف ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه يحسن من الله تعالى كل الأشياء لأنه ليس فوقه أمر ونهي حتى يكون ذلك مانعاً له عن فعل شيء
المسألة الثالثة روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عبدالله بن سعد بن أبي سرح كان

يكتب هذه الآيات لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما انتهى إلى قوله تعالى خَلْقاً ءاخَرَ عجب من ذلك فقال فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اكتب فهكذا نزلت ) فشك عبدالله وقال إن كان محمد صادقاً فيما يقول فإنه يوحى إلي كما يوحى إليه وإن كان كاذباً فلا خير في دينه فهرب إلى مكة فقيل إنه مات على الكفر وقيل إنه أسلم يوم الفتح وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هكذا نزلت يا عمر وكان عمر يقول وافقني ربي في أربع في الصلاة خلف المقام وفي ضرب الحجاب على النسوة وقولي لهن لتنتهن أو ليبدلنه الله خيراً منكن فنزل قوله تعالى عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مّنكُنَّ ( التحريم 5 ) والرابع قلت فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فقال هكذا نزلت قال العارفون هذه الواقعة كانت سبب السعادة لعمر وسبب الشقاوة لعبد الله كما قال تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ( البقرة 26 ) فإن قيل فعلى كل الروايات قد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن وذلك يقدح في كونه معجزاً كما ظنه عبدالله والجواب هذا غير مستبعد إذا كان قدره القدر الذي لا يظهر فيه الإعجاز فسقطت شبهة عبدالله
المرتبة الثامنة قوله ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيّتُونَ قرأ ابن أبي عبلة وابن محيصن لمائتون والفرق بين الميت والمائت أن الميت كالحي صفة ثابتة وأما المائت فيدل على الحدوث تقول زيد ميت الآن ومائت غداً وكقولك يموت ونحوهما ضيق وضائق في قوله إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ( هود 12 )
المرتبة التاسعة قوله ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ تُبْعَثُونَ فالله سبحانه جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه دليلين أيضاً على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الحكمة في الموت وهلا وصل نعيم الآخرة وثوابها بنعيم الدنيا فيكون ذلك في الأنعام أبلغ والجواب هذا كالمفسدة في حق المكلفين لأنه متى عجل للمرء الثواب فيما يتحمله من المشقة في الطاعات صار إتيانه بالطاعات لأجل تلك المنافع لا لأجل طاعة الله يبين ذلك أنه لو قيل لمن يصلي ويصوم إذا فعلت ذلك أدخلناك الجنة في الحال فإنه لا يأتي بذلك الفعل إلا لطلب الجنة فلاجرم أخره الله تعالى وبعده بالإماتة ثم الإعادة ليكون العبد عابداً لربه بطاعته لا لطلب الانتفاع
السؤال الثاني هذه الآية تدل على نفي عذاب القبر لأنه قال ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ تُبْعَثُونَ ولم يذكر بين الأمرين الإحياء في القبر والإماتة والجواب من وجهين الأول أنه ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة والثاني أن الغرض من ذكر هذه الأجناس الثلاثة الإنشاء والإماتة والإعادة والذي ترك ذكره فهو من جنس الإعادة
النوع الثاني من الدلائل الاستدلال بخلقة السموات وهو قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ( المؤمنون 17 )
فقوله سَبْعَ طَرَائِقَ ( المؤمنون 17 ) أي سبع سموات وإنما قيل لها طرائق لتطارقها بمعنى كون بعضها فوق بعض

يقال طارق الرجل نعليه إذا أطبق نعلاً على نعل وطارق بين ثوبين إذا لبس ثوباً فوق ثوب هذا قول الخليل والزجاج والفراء قال الزجاج هو كقوله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً ( نوح 15 ) وقال علي بن عيسى سميت بذلك لأنها طرائق للملائكة في العروج والهبوط والطيران وقال آخرون لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها والوجه في إنعامه علينا بذلك أنه تعالى جعلها موضعاً لأرزاقنا بإنزال الماء منها وجعلها مقراً للملائكة ولأنها موضع الثواب ولأنها مكان إرسال الأنبياء ونزول الوحي
أما قوله وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ( المؤمنون 17 ) ففيه وجوه أحدها ما كنا غافلين بل كنا للخلق حافظين من أن تسقط عليهم الطرائق السبع فتهلكهم وهذا قول سفيان بن عيينة وهو كقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ ( فاطر 41 ) وثانيها إنما خلقناها فوقهم لننزل عليهم الأرزاق والبركات منها عن الحسن وثالثها أنا خلقنا هذه الأشياء فدل خلقنا لها على كمال قدرتنا ثم بين كمال العلم بقوله وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ( المؤمنون 17 ) يعني عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم وذلك يفيد نهاية الزجر ورابعها وما كنا عن خلق السموات غافلين بل نحن لها حافظون لئلا تخرج عن التقدير الذي أردنا كونها عليه كقوله تعالى مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ( الملك 3 )
واعلم أن هذه الآية دالة على كثير من المسائل إحداها أنها دالة على وجود الصانع فإن انقلاب هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى تضاد الأولى مع إمكان بقائها على تلك الصفة يدل على أنه لابد من محول ومغير وثانيتها أنها تدل على فساد القول بالطبيعة فإن شيئاً من تلك الصفات لو حصل بالطبيعة لوجب بقاؤها وعدم تغيرها ولو قلت إنما تغيرت تلك الصفات لتغير تلك الطبيعة افتقرت تلك الطبيعة إلى خالق وموجود وثالثتها تدل على أن المدبر قادر عالم لأن الموجب والجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة ورابعتها تدل على أنه عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات وخامستها تدل على جواز الحشر والنشر نظراً إلى صريح الآية ونظراً إلى أن الفاعل لما كان قادراً على كل الممكنات وعالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على إعادة التركيب إلى تلك الأجزاء كما كانت وسادستها أن معرفة الله تعالى يجب أن تكون استدلالية لا تقليدية وإلا لكان ذكر هذه الدلائل عبثاً
النوع الثالث الاستدلال بنزول الأمطار وكيفية تأثيراتها في النبات
وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأرض وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَة ٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَة ً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلأَكِلِيِنَ

اعلم أن الماء في نفسه نعمة وأنه مع ذلك سبب لحصول النعم فلا جرم ذكره الله تعالى أولاً ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانياً
أما قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فقد اختلفوا في السماء فقال الأكثرون من المفسرين إنه تعالى ينزل الماء في الحقيقة من السماء وهو الظاهر من اللفظ ويؤكده قوله وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( الذاريات 22 ) وقال بعضهم المراد السحاب وسماه سماء لعلوه والمعنى أن الله تعالى أصعد الأجزاء المائية من قعر الأرض إلى البحار ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد ثم إن تلك الذرات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله تعالى على قدر الحاجة إليه ولولا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في قعر الأرض ولا بماء البحار لملوحته ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض لأن البحار هي الغاية في العمق واعلم أن هذه الوجوه إنما يتمحلها من ينكر الفاعل المختار فأما من أقربه فلا حاجة به إلى شيء منها
أما قوله تعالى بِقَدَرٍ فمعناه بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة في الزرع والغرس والشرب أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم ومصالحهم
أما قوله فَأَسْكَنَّاهُ فِى الاْرْضِ قيل معناه جعلناه ثابتاً في الأرض قال ابن عباس رضي الله عنهما أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل ثم يرفعها عند خروج يأجوج ومأجوج ويرفع أيضاً القرآن
أماقوله وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ أي كما قدرنا على إنزاله فكذلك نقدر على رفعه وإزالته قال صاحب ( الكشاف ) وقوله عَلَى ذَهَابٍ بِهِ من أوقع النكرات وأخرها للفصل والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه وفيه إيذان بكمال اقتدار المذهب وأنه لا يعسر عليه شيء وهو أبلغ في الإيعاد من قوله قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ ( الملك 30 ) ثم إنه سبحانه لما نبه على عظيم نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وإنما ذكر تعالى النخيل والأعناب لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام ومقام الأدام ومقام الفواكه رطباً ويابساً وقوله لَّكُمْ فِيهَا فَواكِهُ كَثِيرَة ٌ أي في الجنات فكما أن فيها النخيل والأعناب ففيها الفواكه الكثيرة وقوله وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ قال صاحب ( الكشاف ) يجوز أن يكون هذا من قولهم فلان يأكل من حرفة يحترفها ومن صنعة يعملها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه كأنه قال وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها تتعيشون
أما قوله تعالى وَشَجَرَة ً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء فهو عطف على جنات وقرئت مرفوعة على الابتداء أي ومما أنشأنا لكم شجرة قال صاحب ( الكشاف ) طور سيناء وطور سينين لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون وإما أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامرىء القيس وبعلبك فيمن أضاف فمن كسر سين سيناء فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث لأنها بقعة وفعلاء لا يكون

ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء ومن فتح لم يصرفه لأن ألفه للتأنيث كصحراء وقيل هو جبل فلسطين وقيل بين مصر وأيلة ومنه نودي موسى عليه السلام وقرأ الأعمش سينا على القصر
أما قوله تعالى تَنبُتُ بِالدُّهْنِ فهو في موضع الحل أي تنبت وفيها الدهن كما يقال ركب الأمير بجنده أي ومعه الجند وقرىء تنبت وفيه وجهان أحدهما أن أنبت بمعنى نبت قال زهير ف رأيت ذوي لحاجات حول بيوتهم
قطيناً لهم حتى إذا أنبت البقل
والثاني أن مفعوله محذوف أي تنبت زيتونها وفيه الزيت قال المفسرون وإنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل لأن منها تشعبت في البلاد وانتشرت ولأن معظمها هناك أما قوله وَصِبْغٍ لّلاكِلِيِنَ فعطف على الدهن أي إدام للآكلين والصبغ والصباغ ما يصطبغ به أي يصبغ به الخبز وجملة القول أنه سبحانه وتعالى نبه على إحسانه بهذه الشجرة لأنها تخرج هذه الثمرة التي يكثر بها الانتفاع وهي طرية ومدخرة وبأن تعصر فيظهر الزيت منها ويعظم وجوه الانتفاع به
النوع الرابع الاستدلال بأحوال الحيوانات
وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاٌّ نْعَامِ لَعِبْرَة ً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَة ٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
إعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر أن فيها عبرة مجملاً ثم أردفه بالتفصيل من أربعة أوجه أحدها قوله نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهَا والمراد منه جميع وجوه الانتفاع بألبانها ووجه الاعتبار فيه أنها تجتمع في الضروع وتتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله تعالى فتستحيل إلى طهارة وإلى لون وطعم موافق للشهوة وتصير غذاء فمن استدل بذلك على قدرة الله وحكمته كان ذلك معدوداً في النعم الدينية ومن انتفع به فهو في نعمة الدنيا وأيضاً فهذه الألبان التي تخرج من بطونها إلى ضروعها تجدها شراباً طيباً وإذا ذبحتها لم تجد لها أثراً وذلك يدل على عظيم قدرة الله تعالى قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء تسقيكم بتاء مفتوحة أي تسقيكم الأنعام وثانيها قوله وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَة ٌ وذلك بيعها والانتفاع بأثمانها وما يجري مجرى ذلك وثالثها قوله وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ يعني كما تنتفعون بها وهي حية تنتفعون بها بعد الذبح أيضاً بالأكل ورابعها قوله وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ لأن وجه الانتفاع بالإبل في المحمولات على البر بمنزلة الانتفاع بالفلك في البحر ولذلك جمع بين الوجهين في إنعامه لكي يشكر على ذلك ويستدل به واعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد أردفها بالقصص كما هو العادة في سائر السور وهي ههنا

القصة الأولى قصة نوح عليه السلام
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَؤُا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاّنزَلَ مَلَائِكَة ً مَّا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى ءَابَآئِنَا الاٌّ وَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّة ٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ
قال قوم إن نوحاً كان اسمه يشكر ثم سمي نوحاً لوجوه أحدها لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك فأهلكهم بالطوفان فندم على ذلك وثانيها لمراجعة ربه في شأن ابنه وثالثها أنه مر بكلب مجذوم فقال له إخساً يا قبيح فعوتب على ذلك فقال الله له أعبتني إذ خلقته أم عبت الكلب وهذه الوجوه مشكلة لما ثبت أن الأعلام لا تفيد صفة في المسمى
أما قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ فالمعنى أنه سبحانه أرسله بالدعاء إلى عبادة الله تعالى وحده ولا يجوز أن يدعوهم إلى ذلك إلا وقد دعاهم إلى معرفته أولاً لأن عبادة من لا يكون معلوماً غير جائزة وإنما يجوز ويجب بعد المعرفة
أما قوله مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ فالمراد أن عبادة غير الله لا تجوز إذ لا إله سواه ومن حق العبادة أن تحسن لمن أنعم بالخلق والإحياء وما بعدهما فإذا لم يصح ذلك إلا منه تعالى فكيف يعبد ما لا يضر ولا ينفع وقرىء غيره بالرفع على المحل وبالجر على اللفظ ثم إنه لما لم ينفع فيهم هذا الدعاء واستمروا على عبادة غير الله تعالى حذرهم بقوله أَفَلاَ تَتَّقُونَ لأن ذلك زجر ووعيد باتقاء العقوبة لينصرفوا عما هم عليه ثم إنه سبحانه حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة نوح عليه السلام
الشبهة الأولى قولهم مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وهذه الشبهة تحتمل وجهين أحدهما أن يقال إنه لما كان مساوياً لسائر الناس في القوة والفهم والعلم والغنى والفقر والصحة والمرض امتنع كونه رسولاً لله لأن الرسول لا بد وأن يكون عظيماً عند الله تعالى وحبيباً له والحبيب لا بد وأن يختص عن غير الحبيب بمزيد الدرجة والمعزة فلما فقدت هذه الأشياء علمنا انتفاء الرسالة والثاني أن يقال هذا الإنسان مشارك لكم في جميع الأمور ولكنه أحب الرياسة والمتبوعية فلم يجد إليهما سبيلاً إلا بادعاء النبوة فصار ذلك شبهة لهم في القدح في نبوته فهذا الاحتمال متأكد بقوله تعالى خبراً عنهم يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي يريد أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم كقوله تعالى وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِى الاْرْضِ

الشبهة الثانية قولهم وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاَنزَلَ مَلَائِكَة ً وشرحه أن الله تعالى لو شاء إرشاد البشر لوجب أن يسلك الطريق الذي يكون أشد إفضاء إلى المقصود ومعلوم أن بعثة الملائكة أشد إفضاء إلى هذا المقصود من بعثة البشر لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم وكثرة علومهم فالخلق ينقادون إليهم ولا يشكون في رسالتهم فلما لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أرسل رسولاً ألبتة
الشبهة الثالثة قولهم مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ وقوله بهذا إشارة إلى نوح عليه السلام أو إلى ما كلمهم به من الحث على عبادة الله تعالى أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام أو بمثل هذا الذي يدعى وهو بشر أنه رسول الله وشرح هذه الشبهة أنهم كانوا أقواماً لا يعولون في شيء من مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول الآباء فلما لم يجدوا في نبوة نوح عليه السلام هذه الطريقة حكموا بفسادها قال القاضي يحتمل أن يريدوا بذلك كونه رسولاً مبعوثاً لأنه لا يمتنع فيما تقدم من زمان آبائهم أنه كان زمان فترة ويحتمل أن يريدوا بذلك دعاءهم إلى عبادة الله تعالى وحده لأن آباءهم كانوا على عبادة الأوثان
الشبهة الرابعة قولهم إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّة ٌ والجنة الجنون أو الجن فإن جهال العوام يقولون في المجنون زال عقله بعمل الجن وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام فإنه عليه الصلاة والسلام كان يفعل أفعالاً على خلاف عاداتهم فأولئك الرؤساء كانوا يقولون للعوام إنه مجنون ومن كان مجنوناً فكيف يجوز أن يكون رسولاً
الشبهة الخامسة قولهم فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ وهذا يحتمل أن يكون متعلقاً بما قبله أي أنه مجنون فاصبروا إلى زمان حتى يظهر عاقبة أمره فإن أفاق وإلا قتلتموه ويحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً وهو أن يقولوا لقومهم اصبروا فإنه إن كان نبياً حقاً فالله ينصره ويقوي أمره فنحن حينئذ نتبعه وإن كان كاذباً فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه فهذه مجموع الشبه التي حكاها الله تعالى عنهم واعلم أنه سبحانه ما ذكر الجواب عنها لركاكتها ووضوح فسادها وذلك لأن كل عاقل يعلم أن الرسول لا يصير رسولاً إلا لأنه من جنس الملك وإنما يصير كذلك بأن يتميز من غيره بالمعجزات فسواء كان من جنس الملك أو من جنس البشر فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولاً بل جعل الرسول من جملة البشر أولى لما مر بيانه في السور المتقدمة وهو أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة وأما قولهم يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ فإن أرادوا به إرادته لإظهار فضله حتى يلزمهم الانقياد لطاعته فهذا واجب على الرسول وأن إرادوا به أن يرتفع عليهم على سبيل التجبر والتكبر والانقياد فالأنبياء منزهون عن ذلك وأما قولهم ما سمعنا بهذا فهو استدلال بعدم التقليد على عدم وجود الشيء وهو في غاية السقوط لأن وجود التقليد لا يدل على وجود الشيء فعدمه من أين يدل على عدمه وأما قولهم به جنة فقد كذبوا لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله وأما قولهم فتربصوا به فضعيف لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته وهي المعجزة وجب عليهم قبول قوله في الحال ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته لأن الدولة لا تدل على الحقية وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر ولما كانت هذه الأجوبة في نهاية الظهور لا جرم تركها الله سبحانه
قَالَ رَبِّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ إِنَّ فِى ذالِكَ لأَيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ

أما قوله رَبّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ ففيه وجوه أحدها أن في نصره إهلاكهم فكأنه قال أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي وثانيها انصرني بدل ما كذبوني كما تقول هذا بذاك أي بدل ذلك ومكانه والمعنى أبدلني من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم وثالثها انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( الأعراف 59 ) ولما أجاب الله دعاءه قال فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا أي بحفظنا وكلئنا كأن معه من الله حافظاً بكلؤه بعينه لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه مفسد عمله ومنه قولهم عليه من الله عين كالئة وهذه الآية دالة على فساد قول المشبهة في تمسكهم بقوله عليه السلام ( إن الله خلق آدم على صورته ) لأن ثبوت الأعين يمنع من ذلك واختلفوا في أنه عليه السلام كيف صنع الفلك فقيل إنه كان نجاراً وكان عالماً بكيفية اتخاذها وقيل إن جبريل عليه السلام علمه عمل السفينة ووصف له كيفية اتخاذها وهذا هو الأقرب لقوله بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا
أما قوله فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا فاعلم أن لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم والدليل عليه أنك إذا قلت هذا أمر بقي الذهن يتردد بين المفهومين وذلك يدل على كونه حقيقة فيهما وتمام تقريره مذكور في كتاب المحصول في الأصول ومن الناس من قال إنما سماه أمراً على سبيل التعظيم والتفخيم مثل قوله ثُمَّ قَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً
أما قوله وَفَارَ التَّنُّورُ فاختلفوا في التنور فالأكثرون على أنه هو التنور المعروف روي أنه قيل لنوح إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب وقيل كان تنور آدم وكان من حجارة فصار إلى نوح واختلف في مكانه فعن الشعبي في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة وكان نوح عليه السلام عمل السفينة في وسط المسجد وقيل بالشام بموضع يقال له عين وردة وقيل بالهند القول الثاني أن التنور وجه الأرض عن ابن عباس رضي الله عنهما الثالث أنه أشرف موضع في الأرض أي أعلاه عن قتادة والرابع وَفَارَ التَّنُّورُ أي طلع للفجر عن علي عليه السلام وقيل إن فوران التنور كان عند طلوع الفجر والخامس هو مثل قولهم حمى الوطيس والسادس أنه الموضع المنخفض من السفينة الذي يسيل الماء إليه عن الحسن رحمه الله والقول الأول هو

الصواب لأن العدول عن الحقيقة إلى المجاز من غير دليل لا يجوز واعلم أن الله تعالى جعل فوران التنور علامة لنوح عليه السلام حتى يركب عنده السفينة طلباً لنجاته ونجاة من آمن به من قومه
أما قوله فَاسْلُكْ فِيهَا أي أدخل فيها يقال سلك فيه أي دخل فيه وسلك غيره وأسلكه مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي من كل زوجين من الحيوان الذي يحضره في الوقت اثنين الذكر والأنثى لكي لا ينقطع نسل ذلك الحيوان وكل واحد منهما زوج لا كما تقوله العامة من أن الزوج هو الاثنان روي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض وقرىء من كل بالتنوين أي من كل أمة زوجين واثنين تأكيد وزيادة بيان
أما قوله وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أي وأدخل أهلك ولفظ على إنما يستعمل في المضار قال تعالى لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة 286 ) واعلم أن هذه الآية تدل على أمرين أحدهما أنه سبحانه أمره بإدخال سائر من آمن به وإن لم يكن من أهله وقيل المراد بأهله من آمن دون من يتصل به نسباً أو سبباً وهذا ضعيف وإلا لما جاز استثناء قوله إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ والثاني أنه قال وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ يعني كنعان فإنه سبحانه لما أخبر بإهلاكهم وجب أن ينهاه عن أن يسأله في بعضهم لأنه إن أجابه إليه فقد صير خبره الصدق كذباً وإن لم يجبه إليه كان ذلك تحقيراً لشأن نوح عليه السلام فلذلك قال إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ أي الغرق نازل بهم لا محالة
أما قوله فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ قال ابن عباس رضي الله عنهما كان في السفينة ثمانون إنساناً نوح وامرأته سوى التي غرقت وثلاثة بنين سام وحام ويافث وثلاث نسوة لهم واثنان وسبعون إنساناً فكل الخلائق نسل من كان في السفينة
أما قوله فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى إنما قال فَقُلْ ولم يقل فقولوا لأن نوحاً كان نبياً لهم وإماماً لهم فكان قوله قولاً لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة وإظهار كبرياء الربوبية وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي
المسألة الثانية قال قتادة علمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ( هود 41 ) وعند ركوب الدابة سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ( الزخرف 13 ) وعند النزول وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ( المؤمنون 29 ) قال الأنصاري وقال لنبينا وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ ( الإسراء 80 ) وقال فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ( النحل 98 ) كأنه سبحانه أمرهم أن لا يكونوا عن ذكره وعن الاستعاذة به في جميع أحوالهم غافلين
المسألة الثالثة هذه مبالغة عظيمة في تقبيح صورتهم حيث أتبع النهي عن الدعاء لهم الأمر بالحمد على إهلاكهم والنجاة منهم كقوله تعالى فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الأنعام 45 ) وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق لأنه سبحانه كان عرفه أنه بذلك ينجيه ومن تبعه فيصح أن يقول نَجَّانَا من حيث جعله آمناً بهذا الفعل ووصف قومه بأنهم الظالمون لأن الكفر منهم ظلم لأنفسهم لقوله إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) ثم إنه سبحانه بعد أن أمره بالحمد على إهلاكهم

أمره بأن يدعو لنفسه فقال وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً وقرىء مُنزَلاً بمعنى إنزالاً أو موضع إنزال كقوله ليدخلنهم مدخلاً يرضونه واختلفوا في المنزل على قولين أحدهما أن المراد هو نفس السفينة فمن ركبها خلصته مما جرى على قومه من الهلاك والثاني أن المراد أن ينزله الله بعد خروجه من السفينة من الأرض منزلاً مباركاً والأول أقرب لأنه أمر بهذا الدعاء في حال استقراره في السفينة فيجب أن يكون المنزل ذلك دون غيره ثم بين سبحانه بقوله وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ أن الإنزال في الأمكنة قد يقع من غير الله كما يقع من الله تعالى وإن كان هو سبحانه خير من أنزل لأنه يحفظ من أنزله في سائر أحواله ويدفع عنه المكاره بحسب ما يقتضيه الحكم والحكمة ثم بين سبحانه أن فيما ذكره من قصة نوح وقومه لآيات ودلالات وعبراً في الدعاء إلى الإيمان والزجر عن الكفر فإن إظهار تلك المياه العظيمة ثم الإذهاب بها لا يقدر عليه إلا القادر على كل المقدورات وظهور تلك الواقعة على وفق قول نوح عليه السلام يدل على المعجز العظيم وإفناء الكفار وبقاء الأرض لأهل الدين والطاعة من أعظم أنواع العبر
أما قوله وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ فيمكن أن يكون المراد وإن كنا لمبتلين فيما قبل ويحتمل أن يكون وإن كنا لمبتلين فيما بعد وهذا هو الأقرب لأنه كالحقيقة في الاستقبال وإذا حمل على ذلك احتمل وجوهاً أحدها أن يكون المراد المكلفين في المستقبل أي فيجب فيمن كلفناه أن يعتبر بهذا الذي ذكرناه وثانيها أن يكون المراد لمعاقبين لمن سلك في تكذيب الأنبياء مثل طريقة قوم نوح وثالثها أن يكون المراد كما نعاقب من كذب بالغرق وغيره فقد نمتحن بالغرق من لم يكذب على وجه المصلحة لا على وجه التعذيب لكي لا يقدر أن كل الغرق يجري على وجه واحد
القصة الثانية قصة هود أو صالح عليهما السلام
ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الاٌّ خِرَة ِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِى الْحَيواة ِ الدُّنْيَا مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّ مْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

اعلم أن هذه القصة هي قصة هود عليه السلام في قول ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين واحتجوا عليه بحكاية الله تعالى قول هود عليه السلام وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ( الأعراف 69 ) ومجيء قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء وقال بعضهم المراد بهم صالح وثمود لأن قومه الذين كذبوه هم الذين هلكوا بالصيحة أما كيفية الدعوى فكما تقدم في قصة نوح عليه السلام وههنا سؤالات
السؤال الأول حق أُرْسِلَ أن يتعدى بإلى كأخواته التي هي وجه وأنفذ وبعث فلم عدى في القرآن بإلى تارة وبفي أخرى كقوله تعالى كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّة ٍ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة ٍ ( الأعراف 94 ) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً ( المؤمنون 32 ) أي في عاد وفي موضع آخر وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ( هود 50 ) الجواب لم يعد بفي كما عدي بإلى ولكن الأمة أو القرية جعلت موضعاً للإرسال وعلى هذا المعنى جاء بعث في قوله وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَة ٍ نَّذِيراً ( الفرقان 51 )
السؤال الثاني هل يصح ما قاله بعضهم أن قوله أَفَلاَ تَتَّقُونَ غير موصول بالأول وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه وردوا عليه بعد إقامة الحجة عليهم فعند ذلك قال لهم مخوفاً مما هم عليه أَفَلاَ تَتَّقُونَ هذه الطريقة مخافة العذاب الذي أنذرتكم به الجواب يجوز أن يكون موصولاً بالكلام الأول بأن رآهم معرضين عن عبادة الله مشتغلين بعبادة الأوثان فدعاهم إلى عبادة الله وحذرهم من العقاب بسبب إقبالهم على عبادة الأوثان ثم اعلم أن الله تعالى حكى صفات أولئك القوم وحكى كلامهم أما الصفات فثلاث هي شر الصفات أولها الكفر بالخالق سبحانه وهو المراد من قوله كَفَرُواْ وثانيها الكفر بيوم القيامة وهو المراد من قوله وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الاْخِرَة ِ وثالثها الانغماس في حب الدنيا وشهواتها وهو المراد من قوله وَقَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ أي نعمناهم فإن قيل ذكر الله مقالة قوم هود في جوابه في سورة الأعراف وسورة هود بغير واو قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة ٍ ( الأعراف 66 ) قالوا مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا ( هود 27 ) وههنا مع الواو فأي فرق بينهما قلنا الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال فما قال قومه فقيل له كيت وكيت وأما الذي مع الواو فعطف لما قالوه على ما قاله ومعناه أنه اجتمع في هذه الواقعة هذا الكلام الحق وهذا الكلام الباطل وأما شبهات القوم فشيئان أولهما قولهم مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وقد مر شرح هذه الشبهة في القصة الأولى وقوله مِمَّا تَشْرَبُونَ أي من مشروبكم أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه وهو قوله وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ فجعلوا اتباع الرسول خسراناً ولم يجعلوا عبادة الأصنام خسراناً أي لئن كنتم أعطيتموه الطاعة من غير

أن يكون لكم بإزائها منفعة فذلك هو الخسران وثانيهما أنهم طعنوا في صحة الحشر والنشر ثم طعنوا في نبوته بسبب إتيانه بذلك أما الطعن في صحة الحشر فهو قولهم أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّ مْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ معادون أحياء للمجازاة ثم لم يقتصروا على هذا القدر حتى قرنوا به الاستبعاد العظيم وهو قولهم هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ثم أكدوا الشبهة بقولهم إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا ولم يريدوا بقولهم نموت ونحيا الشخص الواحد بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا وأنه لا إعادة ولا حشر فلذلك قالوا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمَبْعُوثِينَ ولما فرغوا من الطعن في صحة الحشر بنوا عليه الطعن في نبوته فقالوا لما أتى بهذا الباطل فقد افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ثم لما قرروا الشبهة الطاعنة في نبوته قالوا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ لأن القوم كالتبع لهم واعلم أن الله تعالى ما أجاب عن هاتين الشبهتين لظهور فسادهما أما الشبهة الأولى فقد تقدم بيان ضعفها وأما الثانية فلأنهم استبعدوا الحشر ولا يستبعد الحشر لوجهين الأول أنه سبحانه لما كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على الحشر والنشر والثاني وهو أنه لولا الإعادة لكن تسليط القوى على الضعيف في الدنيا ظلماً وهو غير لائق بالحكيم على ما قرره سبحانه في قوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( طه 15 ) وههنا مسائل
المسألة الأولى ثنى إنكم للتوكيد وحسن ذلك الفصل ما بين الأول والثاني بالظرف ومخرجون خبر عن الأول وفي قراءة ابن مسعود وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ( المؤمنون 35 )
المسألة الثانية قرىء هَيْهَاتَ بالفتح والكسر كلها بتنوين وبلا تنوين وبالسكون على لفظ الوقف
المسألة الثالثة هي في قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه من بيانه وأصله إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ثم وضع هي موضع الحياة لأن الخبر يدل عليه ومنه ( قول الشاعر ) هي النفس ما حملتها تتحمل
والمعنى لا حياة إلا هذه الحياة ولأن إن النافية دخلت على هي التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس
واعلم أن ذلك الرسول لما يئس من قبول الأكابر والأصاغر فزع إلى ربه وقال رَبّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ وقد تقدم تفسيره فأجابه الله تعالى فيما سأل وقال عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ( المؤمنون 40 ) والأقرب أن يكون المراد بأن يظهر لهم علامات الهلاك فعند ذلك يحصل منهم الحسرة والندامة على ترك القبول ويكون الوقت وقت إيمان اليأس فلا ينتفعون بالندامة وبين تعالى الهلاك الذي أنزله عليهم بقوله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ بِالْحَقّ وذكروا في الصيحة وجوهاً أحدها أن جبريل عليه السلام صاح بهم وكانت الصيحة عظيمة فماتوا عندها وثانيها الصيحة هي الرجفة عن ابن عباس رضي الله عنهما وثالثها الصيحة هي نفس العذاب والموت كما يقال فيمن يموت دعي فأجاب عن الحسن ورابعها أنه العذاب المصطلم قال الشاعر

صاخ الزمان بآل برمك صيحة
خروا لشدتها على الأذقان
والأول أولى لأنه هو الحقيقة
وأما قوله بِالْحَقّ فمعناه أنه دمرهم بالعدل من قولك فلان يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضاياه وقال المفضل بالحق أي بما لا يدفع كقوله وَجَاءتْ سَكْرَة ُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ
أما قوله فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء فالغثاء حميل السيل مما بلي واسود من الورق والعيدان ومنه قوله تعالى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى
وأما قوله تعالى فَبُعْداً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قوله بُعْدًا وسحقاً ودمراً ونحوها مصادر موضوعة مواضع أفعالها وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها ومعنى بعداً بعدوا أي هلكوا يقال بعد بعداً وبعداً بفتح العين نحو رشد رشداً ورشداً بفتح الشين والله أعلم
المسألة الثانية قوله بُعْدًا بمنزلة اللعن الذي هو التبعيد من الخير والله تعالى ذكر ذلك على وجه الاستخفاف والإهانة لهم وقد نزل بهم العذاب دالاً بذلك على أن الذي ينزل بهم في الآخرة من البعد من النعيم والثواب أعظم مما حل بهم حالاً ليكون ذلك عبرة لمن يجيء بعدهم
القصة الثالثة
ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءَاخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّة ً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ
إعلم أنه سبحانه يقص القصص في القرآن تارة على سبيل التفصيل كما تقدم وأخرى على سبيل الإجمال كههنا وقيل المراد قصة لوط وشعيب وأيوب ويوسف عليهم السلام
فأما قوله ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءاخَرِينَ فالمعنى أنه ما أخلى الديار من مكلفين أنشأهم وبلغهم حد التكليف حتى قاموا مقام من كان قبلهم في عمارة الدنيا
أما قوله مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَخِرُونَ فيحتمل في هذا الأجل أن يكون المراد آجال حياتها وتكليفها ويحتمل آجال موتها وهلاكها وإن كان الأظهر في الأجل إذا أطلق أن يراد به وقت الموت فبين أن كل أمة لها آجال مكتوبة في الحياة والموت لا يتقدم ولا يتأخر منبهاً بذلك على أنه عالم بالأشياء قبل كونها فلا توجد إلا على وفق العلم ونظيره قوله تعالى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

وههنا مسألتان
المسألة الأولى قال أصحابنا هذه الآية تدل على أن المقتول ميت بأجله إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدم الأجل أو تأخر وذلك ينافيه هذا النص
المسألة الثانية قال الكعبي المراد من قوله مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أي لا يتقدمون الوقت المؤقت لعذابهم إن لم يؤمنوا ولا يتأخرون عنه ولا يستأصلهم إلا إذا علم منهم أنهم لا يزدادون إلا عناداً وأنهم لا يلدون مؤمناً وأنه لا نفع في بقائهم لغيرهم ولا ضرر على أحد في هلاكهم وهو كقول نوح عليه السلام إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ( نوح 27 )
أما قوله تعالى ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا فالمعنى أنه كما أنشأنا بعضهم بعد بعض أرسل إليهم الرسل على هذا الحد قرأ ابن كثير تترى منونة والباقون بغير تنوين وهو اختيار أكثر أهل اللغة لأنها فعلى من المواترة وهي المتابعة وفعلى لا ينون كالدعوى والتقوى والتاء بدل من الواو فإنه مأخوذ من الوتر وهو الفرد قال الواحدي تترى على القراءتين مصدر أو اسم أقيم مقام الحال لأن المعنى متواترة
أما قوله تعالى كُلَّمَا جَاءهُمْ أُمَّة ً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ( المؤمنون 44 ) يعني أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة فلذلك قال فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أي بالهلاك
( وقوله ) وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ يمكن أن يكون المراد جمع الحديث ومنه أحاديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى أنه سبحانه بلغ في إهلاكهم مبلغاً صاروا معه أحاديث فلا يرى منهم عين ولا أثر ولم يبق منهم إلا الحديث الذي يذكر ويعتبر به
ويمكن أيضاً أن يكون جمع أحدوثة مثل الأضحوكة والأعجوبة وهي ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً
ثم قال فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ على وجه الدعاء والذم والتوبيخ ودل بذلك على أنهم كما أهلكوا عاجلاً فهلاكهم بالتعذيب آجلاً على التأبيد مترقب وذلك وعيد شديد
القصة الرابعة قصة موسى عليه السلام
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِأايَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ

اختلفوا في الاْيَاتِ فقال ابن عباس رضي الله عنهما هي الآيات التسع وهي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وانفلاق البحر والسنون والنقص من الثمرات وقال الحسن قوله بِئَايَاتِنَا أي بديننا واحتج بأن المراد بالآيات لو كانت هي المعجزات والسلطات المبين أيضاً هو المعجز فحينئذ يلزم عطف الشيء على نفسه والأقرب هو الأول لأن لفظ الآيات إذا ذكر في الرسل فالمراد منها المعجزات وأما الذي احتجوا به فالجواب عنه من وجوه أحدها أن المراد بالسلطان المبين يجوز أن يكون أشرف معجزاته وهو العصا لأنه قد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربها بها وكونها حارساً وشمعة وشجرة مثمرة ودلواً ورشاء فلأجل انفراد العصا بهذه الفضائل أفردت بالذكر كقوله جبريل وميكال وثانيها يجوز أن يكون المراد بالآيات نفس تلك المعجزات وبالسلطان المبين كيفية دلالتها على الصدق وذلك لأنها وإن شاركت سائر آيات الأنبياء في كونها آيات فقد فارقتها في قوة دلالتها على قوة موسى عليه السلام وثالثها أن يكون المراد بالسلطان المبين استيلاء موسى عليه السلام عليهم في الاستدلال على وجود الصانع وإثبات النبوة وأنه ما كان يقيم لهم قدراً ولا وزناً
واعلم أن الآية تدل على أن معجزات موسى عليه السلام كانت معجزات هرون عليه السلام أيضاً وأن النبوة كما أنها مشتركة بينهما فكذلك المعجزات ثم إنه سبحانه حكى عن فرعون وقومه صفتهم ثم ذكر شبهتهم أما صفتهم فأمران أحدهما الاستكبار والأنفة والثاني أنهم كانوا قوماً عالين أي رفيعي الحال في أمور الدنيا ويحتمل الاقتدار بالكثرة والقوة وأما شبهتهم فهي قولهم أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ قال صاحب ( الكشاف ) لم يقل مثلينا كما قال إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ ( النساء 14 ) ولم يقل أمثالهم وقال كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ( آل عمران 110 ) ولم يقل أخيار أمة كل ذلك لأن الإيجاز أحب إلى العرب من الإكثار والشبهة مبنية على أمرين أحدهما كونهما من البشر وقد تقدم الجواب عنه والثاني أن قوم موسى وهرون كانوا كالخدم والعبيد لهم قال أبو عبيدة العرب تسمى كل من دان لملك عابداً له ويحتمل أن يقال إنه كان يدعي الإلهية فادعى أن الناس عباده وأن طاعتهم له عبادة على الحقيقة ثم بين سبحانه أنه لما خطرت هذه الشبهة ببالهم صرحوا بالتكذيب وهو المراد من قوله فَكَذَّبُوهُمَا
ولما كان ذلك التكذيب كالعلة لكونهم من المهلكين لا جرم رتبه عليه بفاء التعقيب فقال وكانوا ممن حكم الله عليهم بالغرق فإن حصول الغرق لم يكن حاصلاً عقيب التكذيب إنما الحاصل عقيب التكذيب حكم الله تعالى بكونهم كذلك في الوقت اللائق به
أما قوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ فقال القاضي معناه أنه سبحانه خص موسى عليه السلام بالكتاب الذي هو التوراة لا لذلك التكذيب لكن لكي يهتدوا به فلما أصروا على الكفر مع البيان العظيم استحقوا أن يهلكوا واعترض صاحب ( الكشاف ) عليه فقال لا يجوز أن يرجع الضمير في لعلهم إلى فرعون وملائه لأن التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملائه بدليل قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاْولَى ( القصص 43 ) بل المعنى الصحيح ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يعملون بشرائعها ومواعظها فذكر موسى والمراد آل موسي كما يقال هاشم وثقيف والمراد قولهما

القصة الخامسة قصة عيسى وقصة مريم عليهما السلام
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَة ً وَءَاوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَة ٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ
اعلم أن ابن مريم هو عيسى عليه السلام جعله الله تعالى آية بأن خلقه من غير ذكر وأنطقه في المهد في الصغر وأجرى على يديه إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وأما مريم فقد جعلها الله تعالى آية لأنها حملته من غير ذكر وقال الحسن تكلمت مريم في صغرها كما تكلم عيسى عليه السلام وهو قولها هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( آل عمران 37 ) ولم تلقم ثدياً قط قال القاضي إن ثبت ذلك فهو معجزة لزكريا عليه السلام لأنها لم تكن نبية قلنا القاضي إنما قال ذلك لأن عنده الإرهاص غير جائز وكرامات الأولياء غير جائزة وعندنا هما جائزان فلا حاجة إلى ما قال والأقرب أنه جعلهما آية بنفس الولادة لأنه ولد من غير ذكر وولدته من دون ذكر فاشتركا جميعاً في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة والذي يدل على أن هذا التفسير أولى وجهان أحدهما أنه تعالى قال وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَة ً لأن نفس الإعجاز طهر فيهما لا أنه ظهر على يدهما وهذا أولى من أن يحمل على الآيات التي ظهرت على يده نحو إحياء الموتى وذلك لأن الولادة فيه وفيها آية فيهما وكذلك أن نطقا في المهد وما عدا ذلك من الآيات ظهر على يده لا أنه آية فيه الثاني أنه تعالى قال آية ولم يقل آيتين وحمل هذا اللفظ على الأمر الذي لا يتم إلا بمجموعهما أولى وذلك هو أمر الولادة لا المعجزات التي كان عيسى عليه السلام مستقلاً بها
أما قوله تعالى وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَة ً أي جعلنا مأواهما الربوة والربوة والرباوة في راءيهما الحركات الثلاث وهي الأرض المرتفعة ثم قال قتادة وأبو العالية هي إيلياء أرض بيت المقدس وقال أبو هريرة رضي الله عنه إنها الرملة وقال الكلبي وابن زيد هي بمصر وقال الأكثرون إنها دمشق وقال مقاتل والضحاك هي غوطة دمشق والقرار المستقر من ( كل ) أرض مستوية مبسوطة وعن قتادة ذات ثمار وماء يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها والمعين الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض فنبه سبحانه على كمال نعمه عليها بهذا اللفظ على اختصاره ثم في المعين قولان أحدهما أنه مفعول لأنه لظهوره يدرك بالعين من عانه إذا أدركه بعينه وقال الفراء والزجاج إن شئت جعلته فعيلاً من الماعون ويكون أصله من المعن والماعون فاعول منه قال أبو علي والمعين السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى والماعون ما سهل على معطيه ثم قالوا وسبب الإيواء أنها فرت بإبنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة سنة وإنما ذهب بهما ابن عمها يوسف ثم رجعت إلى أهلها بعد أن مات ملكهم وههنا آخر القصص والله أعلم
ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّة ً وَاحِدَة ً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ

إعلم أن ظاهر قوله لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ خطاب مع كل الرسل وذلك غير ممكن لأن الرسل إنما أرسلوا متفرقين في أزمنة متفرقة مختلفة فكيف يمكن توجيه هذا الخطاب إليهم فلهذا الإشكال اختلفوا في تأويله على وجوه أحدها أن المعنى الإعلام بأن كل رسول فهو في زمانه نودي بهذا المعنى ووصى به ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق بأن يؤخذ به ويعمل عليه وثانيها أن المراد نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل وإنما ذكر على صيغة الجمع كما يقال للواحد أيها القوم كفوا عني أذاكم ومثله الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ( آل عمران 173 ) وهو نعيم بن مسعود كأنه سبحانه لما خاطب محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك بين أن الرسل بأسرهم لو كانوا حاضرين مجتمعين لما خوطبوا إلا بذلك ليعلم رسولنا أن هذا التثقيل ليس عليه فقط بل لازم على جميع الأنبياء عليهم السلام وثالثها وهو قول محمد بن جرير أن المراد به عيسى عليه السلام لأنه إنما ذكر ذلك بعدما ذكر مكانه الجامع للطعام والشراب ولأنه روى أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه والقول الأول أقرب لأنه أوفق للفظ الآية ولأنه روي عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقدح من لبن في شدة الحر عند فطره وهو صائم فرده الرسول إليها وقال من أين لك هذا فقالت من شاة لي ثم رده وقال من أين هذه الشاة فقالت اشتريتها بمالي فأخذه ثم إنها جاءته وقالت يا رسول الله لم رددته فقال عليه السلام بذلك أمرت الرسل أن لا يأكلوا إلا طيباً ولا يعملوا إلا صالحاً
أما قوله تعالى مّنَ الطَّيّبَاتِ ففيه وجهان الأول أنه الحلال وقيل طيبات الرزق حلال وصاف وقوام فالحلال الذي لا يعصى الله فيه والصافي الذي لا ينسى الله فيه والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل والثاني أنه المستطاب المستلذ من المأكل والفواكه فبين تعالى أنه وإن ثقل عليهم بالنبوة وبما ألزمهم القيام بحقها فقد أباح لهم أكل الطيبات كما أباح لغيرهم واعلم أنه سبحانه كما قال لمرسلين وَمَعِينٍ يأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ فقال للمؤمنين يَعْقِلُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ واعلم أن تقديم قوله كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ على قوله وَاعْمَلُواْ صَالِحاً كالدلالة على أن العمل الصالح لا بد وأن يكون مسبوقاً بأكل الحلال فأما قوله إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فهو تحذير من مخالفة ما أمرهم به وإذا كان ذلك تحذيراً للرسل مع علو شأنهم فبأن يكون تحذيراً لغيرهم أولى
أما قوله وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّة ً واحِدَة ً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فقد فسرناه في سورة الأنبياء وفيه مسألتان
المسألة الأولى المعنى أنه كما يجب اتفاقهم على أكل الحلال والأعمال الصالحة فكذلك هم متفقون على التوحيد وعلى الاتقاء من معصية الله تعالى فإن قيل لما كانت شرائعهم مختلفة فكيف يكون دينهم واحداً قلنا المراد من الدين ما لا يختلفون فيه من معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأما الشرائع فإن الاختلاف فيها لا يسمى اختلافاً في الدين فكما يقال في الحائض والطاهر من النساء إن دينهن واحد وإن افترق تكليفهما فكذا ههنا ويدل على ذلك قوله وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فكأنه نبه بذلك على أن دين الجميع

واحد فيما يتصل بمعرفة الله تعالى واتقاء معاصيه فلا مدخل للشرائع وإن اختلفت في ذلك
المسألة الثانية قرىء وإن بالكسر على الاستئناف وإن بمعنى ولأن وإن مخففة من الثقيلة وأمتكم مرفوعة معها
أما قوله تعالى فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً فالمعنى فإن أمم الأنبياء عليهم السلام تقطعوا أمرهم بينهم وفي قوله فَتَقَطَّعُواْ معنى المبالغة في شدة اختلافهم والمراد بأمرهم ما يتصل بالدين
أما قوله زُبُراً فقرىء زبراً جمع زبور أي كتباً مختلفة يعني جعلوا دينهم أدياناً وزبراً قطعاً استعيرت من زبر الفضة والحديد وزبراً مخففة الباء كرسل في رسل قال الكلبي ومقاتل والضحاك يعني مشركي مكة والمجوس واليهود والنصارى
أما قوله تعالى كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فمعناه أن كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه ديناً لنفسه معجب به يرى المحق أنه الرابح وأن غيره المبطل الخاسر ولما ذكر الله تعالى تفرق هؤلاء في دينهم أتبعه بالوعيد وقال فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حين حتى الخطاب لنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( فدع هؤلاء الكفار في جهلهم والغمرة الماء الذي يغمر القامة فكأن ما هم فيه من الجهل والحيرة صار غامراً ساتراً لعقولهم ) وعن علي عليه السلام فِى لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ وذكروا في الحين وجوهاً أحدها إلى حين الموت وثانيها إلى حين المعاينة وثالثها إلى حين العذاب والعادة في ذلك أن يذكر في الكلام والمراد به الحالة التي تقترن بها الحسرة والندامة وذلك يحصل إذا عرفهم الله بطلان ما كانوا عليه وعرفهم سوء منقلبهم ويحصل أيضاً عند المحاسبة في الآخرة ويحصل عند عذاب القبر والمساءلة فيجب أن يحمل على كل ذلك
ولما كان القوم في نعم عظيمة في الدنيا جاز أن يظنوا أن تلك النعم كالثواب المعجل لهم على أديانهم فبين سبحانه أن الأمر بخلاف ذلك فقال أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْراتِ قرىء يمدهم ويسارع بالياء والفاعل هو الله سبحانه وفي المعنى وجهان أحدهما أن هدا الإمداد ليس إلا استدراجاً لهم في المعاصي واستجراراً لهم في زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة في الخيرات وبل للاستدراك لقوله أَيَحْسَبُونَ يعني بل هم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا في ذلك أهو استدراج أم مسارعة في الخير وهذه الآية كقوله وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ ( التوبة 85 ) روي عن يزيد بن ميسرة أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء ( أيفرح عبدي أن أبسط له الدنيا وهو أبعد له مني ويجزع أن أقبض عنه الدنيا وهو أقرب له مني ) ثم تلا أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ وعن الحسن لما أتى عمر بسوار كسرى فأخذه ووضعه في يد سراقة فبلغ منكبه فقال عمر اللهم إني قد علمت أن نبيك عليه الصلاة والسلام كان يحب أن يصيب مالاً لينفقه في سبيلك فزويت ذلك عنه نظراً ثم إن أبا بكر كان يحب ذلك اللهم لا يكن ذلك مكراً منك بعمر ثم تلا أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ الوجه الثاني وهو أنه سبحانه إنما أعطاهم هذه النعم ليكونوا فارغي البال متمكنين من الاشتغال بكلف الحق فإذا أعرضوا عن الحق والحالة هذه كان لزوم الحجة عليهم أقوى فلذلك قال بَل لاَّ يَشْعُرُونَ

إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْية ِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِأايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَائِكَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ
إعلم أنه تعالى لما ذم من تقدم ذكره بقوله أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْراتِ ثم قال بَل لاَّ يَشْعُرُونَ بين بعده صفات من يسارع في الخيرات ويشعر بذلك وهي أربعة
الصفة الأولى قوله إِنَّ الَّذِينَ هُم مّنْ خَشْية ِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ والإشفاق يتضمن الخشية مع زيادة رقة وضعف فمنهم من قال جمع بينهما للتأكيد ومنهم من حمل الخشية على العذاب والمعنى الذين هم من عذاب ربهم مشفقون وهو قول الكلبي ومقاتل ومنهم من حمل الإشفاق على أثره وهو الدوام في الطاعة والمعنى الذين هم من خشية ربهم دائمون في طاعته جادون في طلب مرضاته والتحقيق أن من بلغ في الخشية إلى حد الإشفاق وهو كمال الخشية كان في نهاية الخوف من سخط الله عاجلاً ومن عقابة آجلاً فكان في نهاية الاحتراز عن المعاصي
الصفة الثانية قوله وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ واعلم أن آيات الله تعالى هي المخلوقات الدالة على وجوده والإيمان بها هو التصديق بها والتصديق بها إن كان بوجودها فذلك معلوم بالضرورة وصاحب هذا التصديق لا يستحق المدح وإن كان بكونها آيات ودلائل على وجود الصانع فذلك مما لا يتوصل إليه إلا بالنظر والفكر وصاحبه لا بد وأن يصير عارفاً بوجود الصانع وصفاته وإذا حصلت المعرفة بالقلب حصل الإقرار باللسان ظاهراً وذلك هو الإيمان
الصفة الثالثة قوله وَالَّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله تعالى لأن ذلك داخل في قوله وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ بل المراد منه نفي الشرك الخفي وهو أن يكون مخلصاً في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله تعالى وطلب رضوانه والله أعلم
الصفة الرابعة قوله وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ معناه يعطون ما أعطوا فدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه سواء كان ذلك من حق الله تعالى كالزكاة والكفارة وغيرهما أو من حقوق الآدميين كالودائع والديون وأصناف الإنصاف والعدل وبين أن ذلك إنما ينفع إذا فعلوه وقلوبهم وجلة لأن من يقدم على العبادة وهو وجل من تقصيره وإخلاله بنقصان أو غيره فإنه يكون لأجل ذلك الوجل مجتهداً في أن يوفيها حقها في الأداء وسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق وهو على ذلك يخاف الله تعالى فقال عليه الصلاة والسلام ( لا يا ابنة

الصديق ولكن هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله تعالى )
واعلم أن ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغي
والصفة الثانية دلت على ترك الرياء في الطاعات
والصفة الثالثة دلت على أن المستجمع لتلك الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير وذلك هو نهاية مقامات الصديقين رزقنا الله سبحانه الوصول إليها فإن قيل أفتقولون إن قوله وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ يرجع إلى يؤتون أو يرجع إلى كل ما تقدم من الخصال قلنا بل الأولى أن يرجع إلى الكل لأن العطية ليست بذلك أولى من سائر الأعمال إذ المراد أن يؤدي ذلك على وجل من تقصيره فيكون مبالغاً في توفيته حقه فأما إذا قرىء وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا ءاتَواْ فالقول فيه أظهر إذ المراد بذلك أي شيء أتوه وفعلوه من تحرز عن معصية وإقدام على إيمان وعمل فإنهم يقدمون عليه مع الوجل ثم إنه سبحانه بين علة ذلك الوجل وهي علمهم بأنهم إلى ربهم راجعون أي للمجازاة والمساءلة ونشر الصحف وتتبع الأعمال وأن هناك لا تنفع الندامة فليس إلا الحكم القاطع من جهة مالك الملك ثم إنه سبحانه لما ذكر هذه الصفات للمؤمنين المخلصين قال بعده أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وفيه وجهان أحدهما أن المراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها لئلا تفوت عن وقتها ولكيلا تفوتهم دون الاحترام والثاني أنهم يتعجلون في الدنيا أنواع النفع ووجوه الإكرام كما قال فَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاْخِرَة ِ ( آل عمران 148 ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النُّبُوَّة َ وَالْكِتَابَ ( العنبكوت 27 ) لأنهم إذا سورع لهم بها فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها وهذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين وقرىء يسرعون في الخيرات
أما قوله وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ فالمعنى فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها أو وهم لها سابقون أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر والمعنى وهم لها كما يقال أنت لها وهي لك ثم قال سابقون أي وهم سابقون
وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَة ٍ مِّنْ هَاذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذالِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأرُونَ لاَ تَجْأرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ
اعلم أنه سبحانه لما ذكر كيفية أعمال المؤمنين المخلصين ذكر حكمين من أحكام أعمال العباد

فالأول قوله وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وفي الوسع قولان أحدهما أنه الطاقة عن المفضل والثاني أنه دون الطاقة وهو قول المعتزلة ومقاتل والضحاك والكلبي واحتجوا عليه بأن الوسع إنما سمى وسعاً لأنه يتسع عليه فعله ولا يصعب ولا يضيق فبين أن أولئك المخلصين لم يكلفوا أكثر مما عملوا قال مقاتل من لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً ومن لم يستطع جالساً فليوم إيماء لأنا لا نكلف نفساً إلا وسعها واستدلت المعتزلة به في نفي تكليف ما لا يطاق وقد تقدم القول فيه الثاني قوله وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ونظيره قوله هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ ( الجاثية 29 ) وقوله لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 )
واعلم أنه تعالى شبه الكتاب بمن يصدر عنه البيان فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرب بما فيه كما يعرب وينطق الناطق إذا كان محقاً فإن قيل هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك الكتاب إما أن يكونوا محيلين الكذب على الله تعالى أو مجوزين ذلك عليه فإن أحالوه عليه فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد وإن جوزوه عليه لم يثقوا بذلك الكتاب لتجويزهم أنه سبحانه كتب فيه خلاف ما حصل فعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب قلنا يفعل الله ما يشاء وعلى أنه لا يبعد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة
وأما قوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ فنظيره قوله وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( الكهف 49 ) فقالت المعتزلة الظلم إما أن يكون بالزيادة في العقاب أو بالنقصان من الثواب أو بأن يعذب على ما لم يعلم أو بأن يكلفهم ما لا يطيقون فتكون الآية دالة على كون العبد موجداً لفعله وإلا لكان تعذيبه عليه ظلماً ودالة على أنه سبحانه لا يكلف ما لا يطاق الجواب أنه لما كلف أبا لهب أن يؤمن والإيمان يقتضي تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه أن أبا لهب لا يؤمن فقد كلفه بأن يؤمن بأنه لا يؤمن فيلزمكم كل ما ذكرتموه
وأما قوله تعالى بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَة ٍ مّنْ هَاذَا ففيه قولان أحدهما أنه راجع إلى الكفار وهم الذين يليق بهم قوله بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَة ٍ مّنْ هَاذَا ولا يليق ذلك بالمؤمنين إذ المراد في غمرة من هذا الذي بيناه في القرآن أو من هذا الكتاب الذي ينطق بالحق أو من هذا الذي هو وصف المشفقين ولهم أي لهؤلاء الكفار أعمال من دون ذلك أي أعمال سوى ذلك أي سوى جهلهم وكفرهم ثم قال بعضهم أراد أعمالهم في الحال وقال بعضهم بل أراد المستقبل وهذا أقرب لأن قوله هُمْ لَهَا عَامِلُونَ إلى الاستقبال أقرب وإنما قال هُمْ لَهَا عَامِلُونَ لأنها مثبتة في علم الله تعالى وفي حكم الله وفي اللوح المحفوظ فوجب أن يعملوها ليدخلوا بها النار لما سبق لهم من الله من الشقاوة القول الثاني وهو اختيار أبي مسلم أن هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه سبحانه قال بعد وصفهم وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يحفظ أعمالهم يَنطِقُ بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بل نوفر عليهم ثواب كل أعمالهم بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَة ٍ مّنْ هَاذَا هو أيضاً وصف لهم بالحيرة كأنه قال وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في جعل أعمالهم مقبولة أو مردودة ولهم أعمال من دون ذلك أي لهم أيضاً من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه إما أعمالاً قد عملوها في الماضي أو سيعملونها في المستقبل ثم إنه سبحانه رجع بقوله

حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إلى وصف الكفار
واعلم أن قول أبي مسلم أولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به من ذكر المشفقين كان أولى من رده إلى ما بعد منه خصوصاً وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أن أعماله محفوظة كما قد يحذر بذلك من الشر وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبول عمله أورده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر فإن قيل فما المراد بقوله من هذا وهو إشارة إلى ماذا قلنا هو إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم مع أنهما مستوليان على قلوبهم
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ فقال صاحب ( الكشاف ) حتى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام والكلام الجملة الشرطية
واعلم أنه لا شبهة ( في ) أن الضمير في مترفيهم راجع إلى من تقدم ذكره من الكفار لأن العذاب لا يليق إلا بهم وفي هذا العذاب وجهان أحدهما أراد بالعذاب ما نزل بهم يوم بدر والثاني أنه عذاب الآخرة ثم بين سبحانه أن المنعمين منهم إذا نزل بهم العذاب يجأرون أي يرتفع صوتهم بالاستغاثة والضجيج لشدة ما هم عليه ويقال لهم على وجه التبكيت لاَ تَجْئَرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ فلا يدفع عنكم ما يريد إنزاله بكم دل بذلك سبحانه على أنهم سينتهون يوم القيامة إلى هذه الدرجة من الحسرة والندامة وهو كالباعث لهم في الدنيا على ترك الكفر والإقدام على الإيمان والطاعة فإنهم الآن ينتفعون بذلك
قَدْ كَانَتْ ءَايَتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ الاٌّ وَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّة ٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَازِقِينَ
اعلم أنه سبحانه لما بين فيما قبل أنه لا ينصر أولئك الكفار أتبعه بعلة ذلك وهي أنه متى تليت آيات الله عليهم أتوا بأمور ثلاثة أحدها أنهم كانوا على أعقابهم ينكصون وهذا مثل يضرب فيمن تباعد عن الحق كل

التباعد وهو قوله فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ أي تنفرون عن تلك الآيات وعمن يتلوها كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إلى ورائه وثانيها قوله مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ والهاء في به إلى ماذا تعود فيه وجوه أولها إلى البيت العتيق أو الحرم كانوا يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم والذي يسوغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت وإن لم يكن لهم مفخرة إلا أنهم ولاته والقائمون به وثانيها المراد مستكبرين بهذا التراجع والتباعد وثالثها أن تتعلق الباء بسامراً أي يسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه وهذا هو الأمر الثالث الذي يأتون به عند تلاوة القرآن عليهم وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحراً وشعراً وسب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويهجرون والسامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع وقرىء سمراً وسامراً يهجرون من أهجر في منطقه إذا أفحش والهجر بالفتح الهذيان والهجر بالضم الفحش أو من هجر الذي هو مبالغة في هجر إذا هدى ثم إنه سبحانه لما وصف حالهم رد عليهم بأن بين أن إقدامهم على هذه الأمور لا بد وأن يكون لأحد أمور أربعة أحدها أن لا يتأملوا في دليل ثبوته وهو المراد من قوله أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ فبين أن القول الذي هو القرآن كان معروفاً لهم وقد مكنوا من التأمل فيه من حيث كان مبايناً لكلام العرب في الفصاحة ومبرأ عن التناقض في طول عمره ومن حيث ينبه على ما يلزمهم من معرفة الصانع ومعرفة الوحدانية فل لا يتدبرون فيه ليتركوا الباطل ويرجعوا إلى الحق وثانيها أن يعتقدوا أن مجيء الرسل أمر على خلاف العادة وهو المراد من قوله أَمْ جَاءهُمْ تَهْجُرُونَ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ وذلك لأنهم عرفوا بالتواتر أن الرسل كانت تتواتر على الأمم وتظهر المعجزات عليها وكانت الأمم بين مصدق ناج وبين مكذب هالك بعذاب الاستئصال أفما دعاهم ذلك إلى تصديق الرسول وثالثها أن لا يكونوا عالمين بديانته وحسن خصاله قبل ادعائه للنبوة وهو المراد من قوله أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ نبه سبحانه بذلك على أنهم عرفوا منه قبل ادعائه الرسالة كونه في نهاية الأمانة والصدق وغاية الفرار من الكذب والأخلاق الذميمة فكيف كذبوه بعد أن اتفقت كلمتهم على تسميته بالأمين ورابعها أن يعتقدوا فيه الجنون فيقولون إنما حمله على ادعائه الرسالة جنونه وهو المراد من قوله أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّة ٌ وهذا أيضاً ظاهر الفساد لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة أنه أعفل الناس والمجنون كيف يمكنه أن يأتي بمثل ما أتى به من الدلائل القاطعة والشرائع الكاملة ولقد كان من المبغضين له عليه السلام من سماه بذلك وفيه وجهان أحدهما أنهم نسبوه إلى ذلك من حيث كان يطمع في انقيادهم له وكان ذلك من أبعد الأمور عندهم فنسبوه إلى الجنون لذلك والثاني أنهم قالوا ذلك إيهاماً لعوامهم لكي لا ينقادوا له فأوردوا ذلك مورد الاستحقار له ثم إنه سبحانه بعد أن عد هذه الوجوه ونبه على فسادها قال بَلْ جَاءهُمْ بِالْحَقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ من حيث تمسكوا بالتقليد ومن حيث علموا أنهم لو أقروا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لزالت مناصبهم ولاختلت رياساتهم فلذلك كرهوه فإن قيل قوله وَأَكْثَرُهُمُ فيه دليل على أن أقلهم لا يكرهون الحق قلنا كان فيهم من يترك الإيمان أنفة من توبيخ قومه وأن يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة للحق كما حكى عن أبي طالب ثم بين سبحانه أن الحق لا يتبع الهوى بل الواجب على المكلف أن يطرح الهوى ويتبع الحق فبين سبحانه أن اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم فقال وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَن فِيهِنَّ وفي تفسيره وجوه الأول أن القوم كانوا يرون أن الحق في اتخاذ آلهة مع الله تعالى لكن لو

صح ذلك لوقع الفساد في السموات والأرض على ما قررناه في دليل التمانع في قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) والثاني أن أهواءهم في عبادة الأوثان وتكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهما منشأ المفسدة والحق هو الإسلام فلو اتبع الإسلام قولهم لعلم الله حصول المفاسد عند بقاء هذا العالم وذلك يقتضي تخريب العالم وإفناءه والثالث أن آراءهم كانت متناقضة فلو اتبع الحق أهواءهم لوقع التناقض ولاختل نظام العالم عن القفال
أما قوله بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فقيل إنه القرآن والأدلة وقيل بل شرفهم وفخرهم بالرسول وكلا القولين متقارب لأن في مجيء الرسول بيان الأدلة وفي مجيء الأدلة بيان الرسول فأحدهما مقرون بالآخر وقيل الذكر هو الوعظ والتحذير وقيل هو الذي كانوا يتمنونه ويقولون لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاْوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( الصافات 168 169 ) وقرىء بذكراهم ثم بين سبحانه أنه عليه الصلاة والسلام لا يطمع فيهم حتى يكون ذلك سبباً للنفرة فقال أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ وقرىء خراجاً قال أبو عمرو بن العلاء الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك أداؤه والوجه أن الخرج أخص من الخراج كقولك خراج القرية وخرج الكردة زيادة اللفظ لزيادة المعنى ولذلك حسنت قراءة من قرأ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ يعني أم تسألهم على هدايتهم قليلاً من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخلق خير فنبه سبحانه بذلك على أن هذه التهمة بعيدة عنه فلا يجوز أن ينفروا عن قبول قوله لأجلها فنبه سبحانه بهذه الآيات على أنهم غير معذورين ألبته وأنهم محجوجون من جميع الوجوه قال الجبائي دل قوله تعالى وَهُوَ خَيْرُ الرزِقِينَ على أن أحداً من العباد لا يقدر على مثل نعمه ورزقه ولا يساويه في الإفضال على عباده ودل أيضاً على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضاً ولولا ذلك لما جاز أن يقول وَهُوَ خَيْرُ الرزِقِينَ
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
إعلم أنه سبحانه وتعالى لما زيف طريقة القوم أتبعه ببيان صحة ما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ لأن ما دل الدليل على صحته فهو في باب الاستقامة أبلغ من الطريق المستقيم وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ عَنِ الصّراطِ لَنَاكِبُونَ أي لعادلون عن هذا الطريق لأن طريق الاستقامة واحدة وما يخالفه فكثير
أما قوله تعالى وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ ففيه وجوه أحدها المراد ضرر الجوع وسائر مضار الدنيا وثانيها المراد ضرر القتل والسبي وثالثها أنه ضرر الآخرة وعذابها فبين أنهم قد بلغوا في التمرد والعناد المبلغ الذي لا مرجع فيه إلى دار الدنيا وأنهم لَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 ) لشدة لجاجهم فيما هم عليه من الكفر

أما قوله تعالى لَّلَجُّواْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ فالمعنى لتمادوا في ضلالهم وهم متحيرون
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاٌّ بْصَارَ وَالاٌّ فْئِدَة َ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِى يُحَاى ِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
اختلفوا في قوله وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ على وجوه أحدها أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة منغ الميرة عن أهل مكة فأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا الجلود والجيف فجاء أبو سفيان إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ألست تزعم أنك بعثت رحمة العالمين ثم قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فادع الله يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله هذه الآية والمعنى أخذناهم بالجوع فما أطاعوا وثانيها هو الذي نالهم يوم بدر من القتل والأسر يعني أن ذلك مع شدته ما دعاهم إلى الإيمان عن الأصم وثالثها المراد من عذب من الأمم الخوالي فَمَا اسْتَكَانُواْ أي مشركي العرب لربهم عن الحسن ورابعها أن شدة الدنيا أقرب إلى المكلف من شدة الآخرة فإذا لم تؤثر فيهم شدة الدنيا فشدة الآخرة كذلك وهذا يدل على أنهم لَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 )
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ ففيه وجهان أحدهما حتى إذا فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشد من القتل والأسر والثاني إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون كقوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ مُّبْلِسُونَ والإبلاس اليأس من كل خير وقيل السكون مع التحسير وههنا سؤالات
السؤال الأول ما وزن استكان الجواب استفعل من السكون أي انتقل من كون إلى كون كما قيل استحال إذا انتقل من حال إلى حال ويجوز أن يكون افتعل من السكون أشبعت فتحة عينه
السؤال الثاني لم جاء اسْتَكَانُواْ بلفظ الماضي و يَتَضَرَّعُونَ بلفظ المستقبل الجواب لأن المعنى امتحناهم فما وجدنا منهم عقيب المحنة استكانة وما من عادة هؤلاء أن يتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد وقرىء فتحنا
السؤال الثالث العطف لا يحسن إلا مع المجانسة فأي مناسبة بين قوله وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وبين ما قبله الجواب كأنه سبحانه لما بين مبالغة أولئك الكفار في الأعراض عن سماع الأدلة

ورؤية العبر والتأمل في الحقائق قال للمؤمنين وهو الذي أعطاكم هذه الأشياء ووقفكم عليها تنبيهاً على أن من لم يستعمل هذه الأعضاء فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها كما قال تعالى فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَى ْء إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِئَايَاتِ اللَّهِ تنبيهاً على أن حرمان أولئك الكفار ووجدان هؤلاء المؤمنين ليس إلا من الله واعلم أنه سبحانه بين عظيم نعمه من وجوه أحدها بإعطاء السمع والأبصار والأفئدة وخص هذه الثلاثة بالذكر لأن الاستدلال موقوف عليها ثم بين أنه يقل منهم الشاكرون قال أبو مسلم وليس المراد أن لهم شكراً وإن قل لكنه كما يقال للكفور الجاحد للنعمة ما أقل شكر فلان وثانيها قوله وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاْرْضِ قيل في التفسير خَلَقَكُمْ قال أبو مسلم ويحتمل بسطكم فيها ذرية بعضكم من بعض حتى كثرتم كقوله تعالى ذُرّيَّة َ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ( الإسراء 3 ) فنقول هو الذي جعلكم في الأرض متناسلين ويحشركم يوم القيامة إلى دار لا حاكم فيها سواه فجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشراً إليه لا بمعنى المكان وثالثها قوله وَهُوَ الَّذِى يُحى ِ وَيُمِيتُ أي نعمة الحياة وإن كانت من أعظم النعم فهي منقطعة وأنه سبحانه وإن أنعم بها فالمقصود منها الانتقال إلى دار الثواب ورابعها قوله وَلَهُ اخْتِلَافُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ووجه النعمة بذلك معلوم ثم إنه سبحانه حذر من ترك النظر في هذه الأمور فقال أَفَلاَ تَعْقِلُونَ لأن ذلك دلالة الزجر والتهديد وقرىء أَفَلاَ يَعْقِلُونَ
بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الاٌّ وَّلُونَ قَالُوا أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا هَاذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ
اعلم أنه سبحانه لما أوضح القول في دلائل التوحيد عقبه بذكر المعاد فقال بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الاْوَّلُونَ في إنكار البعث مع وضوح الدلائل ونبه بذلك على أنهم إنما أنكروا ذلك تقليداً للأولين وذلك يدل على فساد القول بالتقليد ثم حكى الشبهة عنهم من وجهين أحدهما قولهم أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ وهو مشهور وثانيهما قولهم لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هَاذَا مِن قَبْلُ كأنهم قالوا إن هذا الوعد كما وقع منه عليه الصلاة والسلام فقد وقع قديماً من الأنبياء ثم لم يوجد مع طول العهد فظنوا أن الإعادة

تكون في دار الدنيا ثم قالوا لما كان كذلك فهو من أساطير الأولين والأساطير جمع أسطار والأسطار جمع سطر أي ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له وجمع أسطورة أوفق
قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَى ْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
اعلم أنه يمكن أن يكون المقصود من هذه الآيات الرد على منكري الإعادة وأن يكون المقصود الرد على عبدة الأوثان وذلك لأن القوم كانوا مقرين بالله تعالى فقالوا نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله زلفى ثم إنه سبحانه احتج عليهم بأمور ثلاثة أحدها قوله قُل لّمَنِ الاْرْضُ وَمَن فِيهَا ووجه الاستدلال به على الإعادة أنه تعالى لما كان خلقاً للأرض ولمن فيها من الأحياء وخالقاً لحياتهم وقدرتهم وغيرها فوجب أن يكون قادراً على أن يعيدهم بعد أن أفناهم ووجه الاستدلال به على نفي عبادة عبادة الأوثان من حيث إن عبادة من خلقكم وخلق الأرض وكل ما فيها من النعم هي الواجبة دون عبادة ما لا يضر ولا ينفع وقوله أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ معناه الترغيب في التدبر ليعلموا بطلان ما هم عليه وثانيها قوله مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ووجه الاستدلال على الأمرين كما تقدم وإنما قال أَفَلاَ تَتَّقُونَ تنبيهاً على أن اتقاء عذاب الله لا يحصل إلا بترك عبادة الأوثان والاعتراف بجواز الإعادة وثالثها قوله تعالى قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَى ْء
إعلم أنه سبحانه لما ذكر الأرض أولاً والسماء ثانياً عمم الحكم ههنا فقال من بيده ملكوت كل شيء ويدخل في الملكوت الملك والملك على سبيل المبالغة وقوله وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ يقال أجرت فلاناً على فلان إذا أغثته منه ومنعته يعني وهو يغيث من يشاء ممن يشاء ولا يغيث أحد منه أحداً
أما قوله تعالى فَأَنَّى تُسْحَرُونَ فالمعنى أنى تخدعون عن توحيده وطاعته والخادع هو الشيطان والهوى ثم بين تعالى بقوله بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقّ أنه قد بالغ في الحجاج عليهم بهذه الآيات وغيرها وهم مع ذلك كاذبون وذلك كالتوعد والتهديد وقرىء أتيتهم وأتيتهم بالضم والفتح وههنا سؤالات
السؤال الأول قرىء قُل لِلَّهِ في الجواب الأول باللام لا غير وقرىء الله في الأخيرين بغير اللام في مصاحف أهل الحرمين والكوفة والشام وباللام في مصاحف أهل البصرة فما الفرق الجواب لا فرق في المعنى لأن قولك من ربه ولمن هو في معنى واحد
السؤال الثاني كيف قال إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ثم حكى عنهم سيقولون الله وفيه تناقض الجواب لا تناقض لأن قوله إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ لا ينفي عملهم بذلك وقد يقال مثل ذلك في الحجاج على وجه التأكيد لعلمهم والبعث على اعترافهم بما يورد من ذلك
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّى مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ السَّيِّئَة َ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ

إعلم أنه سبحانه ادعى أمرين أحدهما قوله مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وهو كالتنبيه على أن ذلك من قول هؤلاء الكفار فإن جمعاً منهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله والثاني قوله وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ وهو قولهم باتخاذ الأصنام آلهة ويحتمل أن يريد به إبطال قول النصارى والثنوية ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر الدليل المعتمد بقوله إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ والمعنى لانفرد على ( ذلك ) كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه واستبد به ولرأيتم ملك كل واحد منهم متميزاً عن ملك الآخر ولغلب بعضهم على بعض كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متميزة وهم متغالبون وحيث لم تروا أثر التمايز في الممالك والتغالب فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء فإن قيل إِذَا لا يدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب فكيف وقع قوله لذهب جزاء وجواباً ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل قلنا الشرط محذوف وتقديره ولو كان معه آلهة وإنما حذف لدلالة قوله وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ عليه ثم إنه سبحانه نزه نفسه عن قولهم بقوله سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ من إثبات الولد والشريك
أما قوله عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ فقرىء بالجر صفة لله وبالرفع خبر مبدتأ محذوف والمعنى أنه سبحانه هو المختص بعلم الغيب والشهادة فغيره وإن علم الشهادة فلن يعلم معها الغيب والشهادة التي يعلمها لا يتكامل بها النفع إلا مع العلم بالغيب وذلك كالوعيد لهم فلذلك قال فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم أمره سبحانه بالانقطاع إليه وأن يدعوه بقوله رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قال صاحب ( الكشاف ) ما والنون مؤكدتان أي إن كان ولا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة فلا تجعلني قريناً لهم ولا تعذبني بعذابهم فإن قيل كيف يجوز أن يجعل الله نبيه المعصوم مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم قلنا يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه وما أحسن قول الحسن في قول الصديق وليتكم ولست بخيركم مع أنه كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه وإنما ذكر رب مرتين مرة قبل الشرط ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع
أما قوله تعالى وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ففيه قولان أحدهما أنهم كانوا ينكرون الوعد بالعذاب ويضحكون منه فقيل لهم إن الله قادر على إنجاز ما وعد ويحتمل عذاباً في الدنيا مؤخراً

عن أيامه عليه السلام فلذلك قال بعضهم هو في أهل البغى وبعضهم في الكفار الذين قوتلوا بعد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أن المراد عذاب الآخرة
أما قوله ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ السَّيّئَة َ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ فالمراد منه أن الأولى به عليه السلام أن يعامل به الكفار فأمر باحتمال ما يكون منهم من التكذيب وضروب الأذى وأن يدفعه بالكلام الجميل كالسلام وبيان الأدلة على أحسن الوجوه وبين له أنه أعلم بحالهم منه عليه السلام وأنه سبحانه لما لم يقطع نعمه عنهم فينبغي أن يكون هو عليه السلام مواظباً على هذه الطريقة قال صاحب ( الكشاف ) قوله ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ السَّيّئَة َ ( المؤمنون 96 ) أبلغ من أن يقال بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل والمعنى الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الطاقة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء السيئة وقيل هذه الآية منسوخة بآية السيف وقيل محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دين أو مروءة
وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّى أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَة ٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
اعلم أنه سبحانه لما أدب رسوله بقوله ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ السَّيّئَة َ ( المؤمنون 96 ) أتبعه بما به يقوى على ذلك وهو الاستعاذة بالله من أمرين أحدهما من همزات الشياطين والهمزات جمع الهمزة وهو الدفع والتحريك الشديد وهو كالهز والأز ومنه مهماز الرائض وهمزاته هو كيده بالوسوسة ويكون ذلك منه في الرسول بوجهين أحدهما بالوسوسة والآخر بأن يبعث أعداءه على إيذائه وكذلك القول في المؤمنين لأن الشيطان يكيدهم بهذين الوجهين ومعلوم أن من ينقطع إلى الله تعالى ويسأله أن يعيذه من الشيطان فإنه يجب أن يكون متذكراً متيقظاً فيما يأتي ويذر فيكون نفس هذا الانقطاع إلى الله تعالى داعية إلى التمسك بالطاعة وزاجراً عن المعصية قال الحسن كان عليه السلام يقول بعد استفتاح الصلاة ( لا إله إلا الله ثلاثاً الله أكبر ثلاثاً اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفثه ونفخه فقيل يا رسول الله وما همزه قال الموتة التي تأخذ ابن آدم أي الجنون الذي يأخذ ابن آدم قيل فما نفثه قال الشعر قيل فما نفخه قال الكبر وثانيها قوله وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ وفيه وجهان أحدهما أن يحضرون عند قراءة القرآن لكي يكون متذكراً فيقل سهوه وقال آخرون بل استعاذ بالله من نفس حضورهم لأنه الداعي إلى وسوستهم كما يقول المرء أعوذ بالله من خصومتك بل أعوذ بالله من لقائك وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد اشتكى إليه رجل أرقاً يجده فقال ( إذا أردت النوم فقل أعوذ بالله وبكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده

ومن همزات الشياطين وأن يحضرون )
أما قوله حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) حتى متعلق بيصفون أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم مستعيناً بالله على الشيطان أنه يستزله عن الحلم والله أعلم
المسألة الثانية اختلفوا في قوله حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ فالأكثرون على أنه راجع إلى الكفار وقال الضحاك كنت جالساً عند ابن عباس فقال من لم يترك ولم يحج سأل الرجعة عند الموت فقال واحد إنما يسأل ذلك الكفار فقال ابن عباس رضي الله عنهما أنا أقرأ عليك به قرآناً وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ( المنافقون 10 ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعنده يقول رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ) والأقرب هو الأول إذا عرف المؤمن منزلته في الجنة فإذا شاهدها لا يتمنى أكثر منها ولولا ذلك لكان أدونهم ثواباً يغتم بفقد ما يفقد من منزلة غيره وأما ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من قوله وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فهو إخبار عن حال الحياة في الدنيا لا عن حال الثواب فلا يلزم على ما ذكرنا
المسألة الثالثة اختلفوا في وقت مسألة الرجعة فالأكثرون على أنه يسأل في حال المعاينة لأنه عندها يضطر إلى معرفة الله تعالى وإلى أنه كان عاصياً ويصير ملجأ إلى أنه لا يفعل القبيح بأن يعلمه الله تعالى أنه لو رامه لمنع منه ومن هذا حاله يصير كالممنوع من القبائح بهذا الإلجاء فعند ذلك يسأل الرجعة ويقول رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ وقال آخرون بل يقول ذلك عند معاينة النار في الآخرة ولعل هذا القائل إنما ترك ظاهر هذه الآية لما أخبر الله تعالى في كتابه عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة لكن ذلك مما لا يمنع أن يكونوا سائلين الرجعة في حال المعاينة والله تعالى يقول حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ فعلق قولهم هذا بحال حضور الموت وهو حال المعاينة فلا وجه لترك هذا الظاهر
المسألة الرابعة اختلفوا في قوله سبحانه وتعالى ارْجِعُونِ من المراد به فقال بعضهم الملائكة الذين يقبضون الأرواح وهم جماعة فلذلك ذكره بلفظ الجمع وقال آخرون بل المراد هو الله تعالى لأن قوله رب بمنزلة أن يقول يا رب وإنما ذكر بلفظ الجمع للتعظيم كما يخاطب العظيم بلفظه فيقول فعلنا وصنعنا وقال الشاعر
فإن شئت حرمت النساء سواكم
ومن يقول بالأول يجعل ذكر الرب للقسم فكأنه عند المعاينة قال بحق الرب ارجعون وههنا سؤالات
السؤال الأول كيف يسألون الرجعة وقد علموا صحة الدين بالضرورة ومن الدين أن لا رجعة الجواب أنه وإن كان كذلك فلا يمتنع أن يسألوه لأن الاستعانة بهذا الجنس من المسألة تحسن وإن علم أنه

لا يقع فأما إرادته للرجعة فلا يمتنع أيضاً على سبيل ما يفعله المتمني
السؤال الثاني ما معنى قوله لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحاً أفيجوز أن يسأل الرجعة مع الشك الجواب ليس المراد بلعل الشك فإنه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة إن أعطى ما سأل بل هو مثل من قصر في حق نفسه وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير فيقول مكنوني من التدارك لعلي أتدارك فيقول هذه الكلمة مع كونه جازماً بأنه سيتدارك ويحتمل أيضاً أن الأمر المستقبل إذا لم يعرفوه أوردوا الكلام الموضوع للترجي والظن دون اليقين فقد قال تعالى وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 )
السؤال الثالث ما المراد بقوله فيما تركت الجواب قال بعضهم فيما خلفت من المال ليصير عند الرجعة مؤدياً لحق الله تعالى منه والمعقول من قوله تَرَكْتُ التركة وقال آخرون بل المراد أعمل صالحاً فيما قصرت فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية والحقوق وهذا أقرب كأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه ويطيعوا في كل ما عصوا
السؤال الرابع ما المراد بقوله كلا الجواب فيه قولان أحدهما أنه كالجواب لهم في المنع مما طلبوا كما يقال لطالب الأمر المستبعد هيهات روي أنه عليه السلام قال لعائشة رضي الله عنها ( إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى دار الدنيا فيقول إلى دار الهموم والأحزان لا بل قدوماً على الله وأما الكافر فيقال له نرجعك فيقول ارجعون فيقال له إلى أي شيء ترغب إلى جمع المال أو غرس الغراس أو بناء البنيان أو شق الأنهار فيقول لعلي أعمل صالحاً فيما تركتا فيقول فيقول الجبار كلا ) الثاني يحتمل أن يكون على وجه الإخبار بأنهم يقولون ذلك وأن هذا الخبر حق فكأنه قال حقاً إنها كلمة هو قائلها والأقرب الأول
أما قوله إِنَّهَا كَلِمَة ٌ هُوَ ففيه وجهان الأول أنه لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه الثاني أنه قائلها وحده ولا يجاب إليها ولا يسمع منه
أما قوله تعالى قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فالبرزخ هو الحاجز والمانع كقوله في البحرين بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ( الرحمن 20 ) أي فهؤلاء صائرون إلى حالة مانعة من التلافي حاجزة عن الاجتماع وذلك هو الموت وليس المعنى أنهم يرجعون يوم البعث إنما هو إقناط كلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة
فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ ءَايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ

إعلم أنه سبحانه لما قال وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( المؤمنون 100 ) ذكر أحوال ذلك اليوم فقال فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ وفيه ثلاثة أقوال أحدها أن الصور آلة إذا نفخ فيها يظهر صوت عظيم جعله الله تعالى علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قرن ينفخ فيه وثانيها أن المراد من الصور مجموع الصور والمعنى فإذا نفخ في الصور أرواحها وهو قول الحسن فكان يقرأ بفتح الواو والفتح والكسر عن أبي رزين وهو حجة لمن فسر الصور بجمع صورة وثالثها أن النفخ في الصور استعارة والمراد منه البعث والحشر والأول أولى للخبر وفي قوله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى ( الزمر 68 ) دلالة على أنه ليس المراد نفع الروح والإحياء لأن ذلك لا يتكرر
أما قوله فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ فمن المعلوم أنه سبحانه إذا أعادهم فالأنساب ثابتة لأن المعاد هو الولد والوالد فلا يجوز أن يكون المراد نفي النسب في الحقيقة بل المراد نفي حكمه وذلك من وجوه أحدها أن من حق النسب أن يقع به التعاطف والتراحم كما يقال في الدنيا أسألك بالله والرحم أن تفعل كذا فنفى سبحانه ذلك من حيث إن كل أحد من أهل النار يكون مشغولاً بنفسه وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب وهكذا الحال في الدنيا لأن الرجل متى وقع في الأمر العظيم من الآلام ينسى ولده ووالده وثانيها أن من حق النسب أن يحصل به التفاخر في الدنيا وأن يسأل بعضهم عن كيفية نسب البعض وفي الآخرة لا يتفرغون لذلك وثالثها أن يجعل ذلك استعارة عن الخوف الشديد فكل امرىء مشغول بنفسه عن بنيه وأخيه وفصيلته التي تؤويه فكيف بسائر الأمور قال ابن مسعود رضي الله عنه يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وينادي مناد ألا إن هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة حينئذ أن يثبت لها حق على أمها أو أختها أو أبيها أو أخيها أو ابنها أو زوجها فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ وعن قتادة لا شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء ثم تلا يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ ( عبس 34 ) وعن الشعبي قال قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله أما نتعارف يوم القيامة أسمع الله تعالى يقول فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ فقال عليه الصلاة والسلام ( ثلاث مواطن تذهل فيها كل نفس حين يرمي إلى كل إنسان كتابه وعند الموازين وعلى جسر جهنم ) وطعن بعض الملحدة فقال قوله وَلاَ يَتَسَاءلُونَ وقوله وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ( المعارج 10 ) يناقض قوله وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ( الصافات 27 ) وقوله يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ( يونس 45 ) الجواب عنه من وجوه أحدها أن يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة ففيه أزمنة وأحوال مختلفة فيتعارفون ويتساءلون في بعضها ويتحيرون في بعضها لشدة الفزع وثانيها أنه إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شغلوا بأنفسهم عن التساؤل فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ ( يس 52 ) وثالثها المراد لا يتساءلون بحقوق النسب ورابعها أن قوله لاَ يَتَسَاءلُونَ صفة للكفار وذلك لشدة خوفهم

أما قوله فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها واعلم أنه سبحانه قد بين أن بعد النفخ في الصور تكون المحاسبة وشرح أحوال السعداء والأشقياء وقيل لما بين سبحانه أنه ليس في الآخرة إلا ثقل الموازين وخفتها وجب أن يكون كل مكلف لا بد وأن يكون من أهل الجنة وأهل الفلاح أو من أهل النار فيبطل بذلك القول بأن فيهم من لا يستحق الثواب والعقاب أو من يتساوى له الثواب والعقاب ثم إنه سبحانه شرح حال السعداء بقوله فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( المؤمنون 102 ) وفي الموازين أقوال أحدها أنه استعارة من العدل وثانيها أن الموازين هي الأعمال الحسنة فمن أتي بما له قدر وخطر فهو الفائز الظافر ومن أتى بما لا وزن له كقوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَة ٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْانُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ( النور 39 ) فهو خالد في جهنم قال ابن عباس رضي الله عنهما الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال أي الصالحات التي لها وزن وقدر عند الله تعالى من قوله فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَزْناً ( الكهف 105 ) أي قدراً وثالثها أنه ميزان له لسان وكفتان يوزن فيه الحسنات في أحسن صورة والسيئات في أقبح صورة فمن ثقلت حسناته سيق إلى الجنة ومن ثقلت سيئاته فإلى النار وتمام الكلام في هذا الباب قد تقدم في سورة الأنبياء عليهم السلام وأما الأشقياء فقد وصفهم الله تعالى بأمور أربعة أحدها أنهم خسروا أنفسهم قال ابن عباس رضي الله عنهما غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين وقيل امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب وثانيها قوله فِى جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ودلالته على خلود الكفار في النار بينة قال صاحب ( الكشاف ) فِى جَهَنَّمَ خَالِدُونَ بدل من خسروا أنفسهم أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف وثالثها قوله تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ قال ابن عباس رضي الله عنهما أي تضرب وتأكل لحومهم وجلودهم قال الزجاج اللفح والنفخ واحد إلا أن اللفح أشد تأثيراً ورابعها قوله وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ والكلوح أن تتقلص الشفتان ويتباعدا عن الأسنان كما ترى الرؤوس المشوية وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته ) وقرىء ( كلحون ) ثم إنه سبحانه لما شرح عذابهم حكى ما يقال لهم عند ذلك تقريعاً وتوبيخاً وهو قوله تعالى أَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ ثم إنكم كنتم تكذبون بها مع وضوحها فلا جرم صرتم مستحقين لما أنتم فيه من العذاب الأليم قالت المعتزلة الآية تدل على أنهم إنما وقعوا في ذلك العذاب لسوء أفعالهم ولو كان فعل العباد بخلق الله تعالى لما صح ذلك والجواب أن القادر على الطاعة والمعصية إن صدرت المعصية عنه لا لمرجح ألبتة كان صدورها عنه اتفاقياً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق العقاب وإن كان لمرجح فذاك المرجح ليس من فعله وإلا لزم التسلسل فحينئذ يكون صدور تلك الطاعة عند اضطرارياً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق الثواب
قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ

اعلم أنه سبحانه لما قال أَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ ( المؤمنون 105 ) ذكروا ما يجري مجرى الجواب عنه وهو من وجهين الأول قولهم رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) غلبت علينا ملكتنا من قولك غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك والشقاوة سوء العاقبة قرىء ( شقوتنا ) و ( شقاوتنا ) بفتح الشين وكسرها فيهما قال أبو مسلم الشقوة من الشقاء كجرية الماء والمصدر الجري وقد يجيء لفظ فعله والمراد به الهيئة والحال فيقول جلسة حسنة وركبة وقعدة وذلك من الهيئة وتقول عاش فلان عيشة طيبة ومات ميتة كريمة وهذا هو الحال والهيئة فعلى هذا المراد من الشقوة حال الشقاء
المسألة الثانية قال الجبائي المراد أن طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة فأطلق اسم المسبب على السبب وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم قلنا إنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذات المحرمة وطلب تلك اللذات حصل باختيارهم أو لا باختيارهم فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث فإن استغنى عن المؤثر فلم لا يجوز في كل الحوادث ذلك وحينئذ ينسد عليك باب إثبات الصانع وإن افتقر إلى محدث فمحدثه إما العبد أو الله تعالى فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه أحدها أن قدرة العبد صالحة للفعل والترك فإن توقف صدور تلك الإرادة عنها إلى مرجح آخر عاد الكلام فيه ولزم التسلسل وإن لم يتوقف على المرجح فقد جوزت رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وذلك يسد باب إثبات الصانع وثانيها أن العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال ولا كيفيتها والجاهل بالشيء لا يكون محدثاً له وإلا لبطلت دلالة الإحكام والإتقان على العلم والثاني أن أحداً في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل بل لا يقصد إلا تحصيل العلم فالكافر ما قصد إلا تحصيل العلم فإن كان الموجد لفعله هو فوجب أن لا يحصل إلا ما قصد إيقاعه لكنه لم يقصد إلا العلم فكيف حصل الجهل فثبت أن الموجد للدواعي والبواعث هو الله تعالى ثم إن الداعية إن كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة وإن كانت سائقة إلى الشر كانت شقاوة الوجه الثاني لهم في الجواب قولهم وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ وهذا الضلال الذي جعلوه كالعلة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس ذلك التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه ولما بطل ذلك لم يبق إلا أن يكون ذلك الضلال عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم وما ذاك إلا

خلق الداعي إلى الضلال ثم إن القوم لما أوردوا هذين العذرين قال لهم سبحانه اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ وهذا هو صريح قولنا في أن المناظرة مع الله تعالى غير جائزة بل لا يسأل عما يفعل قال القاضي في قوله رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا دلالة على أنه لا عذر لهم إلا الاعتراف فلو كان كفرهم من خلقه تعالى وبإرادته وعلموا ذلك لكانوا بأن يذكروا ذلك أجدر وإلى العذر أقرب فنقول قد بينا أن الذي ذكروه ليس إلا ذلك ولكنهم مقرون أن لا عذر لهم فلا جرم قال لهم اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ
أما قوله رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ فالمعنى أخرجنا من هذه الدار إلى دار الدنيا فإن عدنا إلى الأعمال السيئة فإنا ظالمون فإن قيل كيف يجوز أن يطلبوا ذلك وقد علموا أن عقابهم دائم قلنا يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون ذلك على وجه الغوث والاسترواح
أما قوله وَأَنزَلْنَا فِيهَا فالمعنى ذلوا فيها وانزجروا كما يزجر الكلاب إذا زجرت يقال خسأ الكلب وخسأ بنفسه
أما قوله وَلاَ تُكَلّمُونِ فليس هذا نهياً لأنه لا تكليف في الآخرة بل المراد لا تكلمون في رفع العذاب فإنه لا يرفع ولا يخفف قيل هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا ( السجدة 12 ) فيجابون حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى ( السجدة 13 ) فينادون ألف سنة ثانية رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فيجابون ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِى َ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ( غافر 12 ) فينادون ألف ثالثة وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ( الزخرف 77 ) فيجابون إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ ( الزخرف 77 ) فينادون ألفاً رابعة رَبَّنَا أَخْرِجْنَا فيجابون أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ ( إبراهيم 44 ) فينادون ألفاً خامسة أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً ( فاطر 37 ) فيجابون أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ ( فاطر 37 ) فينادون ألفاً سادسة رَبّ ارْجِعُونِ ( المؤمنون 99 ) فيجابون وَأَنزَلْنَا فِيهَا ثم بين سبحانه وتعالى أن فزعهم بأمر يتصل بالمؤمنين وهو قوله إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً فوصف تعالى أحد ما لأجه عذبوا وبعدوا من الخير وهو ما عاملوا به المؤمنين وفي حرف أبي إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ بالفتح بمعنى لأنه وقرأ نافع وأهل المدينة وأهل الكوفة عن عاصم بضم السين في جميع القرآن وقرأ الباقون بالكسر ههنا وفي ص قال الخليل وسيبويه هما لغتان كدرى ودرى وقال الكسائي والفراء الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول والضم بمعنى السخرية قال مقاتل إن رؤساء قريش مثل أبي جهل وعتبة وأبي بن خلف كانوا يستهزئون بأصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويضحكون بالفقراء منهم مثل بلال وخباب وعمار وصهيب والمعنى اتخذتموهم هزواً حتى أنسوكم بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ذكرى وأكد ذلك بقوله وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ثم بين سبحانه ما يقتضي فيهم الأسف والحسرة بأن وصف ما جازى به أولئك المؤمنين فقال إِنِى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ قرأ حمزة والكسائي أنهم بالكسر والباقون بالفتح فالكسر استئناف أي قد فازوا حيث صبروا فجوزوا بصبرهم أحسن الجزاء والفتح على أنه في موضع المفعول الثاني من جزيت ويجوز أن يكون نصباً بإضمار الخافض أي جزيتهم الجزاء الوافر لأنهم هم الفائزون

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الأرض عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَآدِّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ
اعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) في مصاحف أهل الكوفة قَالَ وهو ضمير الله أو المأمور بسؤالهم من الملائكة و قُلْ في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام وهو ضمير الملك أو بعض رؤساء أهل النار
المسألة الثانية الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ فقد كانوا ينكرون اللبث في الآخرة أصلاً ولا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا ويظنون أن بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة وهم فيها مخلدون سألهم كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الاْرْضِ تنبيهاً لهم على أن ما ظنوه دائماً طويلاً فهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا من حيث أيقنوا خلافه فليس الغرض السؤال بل الغرض ما ذكرنا فإن قيل فكيف يصح في جوابهم أن يقولوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ولا يقع من أهل النار الكذب قلنا لعلهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا فَاسْأَلِ الْعَادّينَ قال ابن عباس رضي الله عنهما أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين وقيل مرادهم بقولهم لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه وعرفوه من أليم العذاب والله أعلم
المسألة الثالثة اختلفوا في أن السؤال عن أي لبث وقع فقال بعضهم لبثهم إحياؤهم في الدنيا ويكون المراد أنهم أمهلوا حتى تمكنوا من العلم والعمل فأجابوا بأن قدر لبثهم كان يسيراً بناء على أن الله تعالى أعلمهم أن الدنيا متاع قليل وأن الآخرة هي دار القرار وهذا القائل احتج على قوله بأنهم كانوا يزعمون أن لا حياة سواها فلما أحياهم الله تعالى في النار وعذبوا سألوا عن ذلك توبيخاً لأنه إلى التوبيخ أقرب وقال آخرون بل المراد اللبث في حال الموت واحتجوا على قولهم بأمرين الأول أن قوله في الأرض يفيد الكون في القبر ومن كان حياً فالأقرب أن يقال إنه على الأرض وهذا ضعيف لقوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( الأعراف 56 ) الثاني قوله تعالى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَة ٍ ( الروم 55 ) ثم بين سبحانه أنهم كذبوا في ذلك وأخبر عن المؤمنين قولهم لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ( الروم 56 )

المسألة الرابعة احتج من أنكر عذاب القبر بهذه الآية فقال قوله كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الاْرْضِ يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض وزمان كونهم أمواتاً في بطن الأرض فلو كانوا معذبين في القبر لعلموا أن مدة مكثهم في الأرض طويلة فما كانوا يقولون لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ والجواب من وجهين أحدهما أن الجواب لا بد وأن يكون بحسب السؤال وإنما سألوا عن موت لا حياة بعده إلا في الآخرة وذلك لا يكون إلا بعد عذاب القبر والثاني يحتمل أن يكونوا سألوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه فلا يدخل في ذلك تقدم موت بعضهم على البعض فيصح أن يكون جوابهم لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ عند أنفسنا
أما قوله فَاسْأَلِ الْعَادّينَ ففيه وجوه أحدها المراد بهم الحفظة وأنهم كانوا يحصون الأعمال وأوقات الحياة ويحسبون أوقات موتهم وتقدم من تقدم وتأخر من تأخر وهو معنى قول عكرمة فاسأل العادين أي الذين يحسبون وثانيها فاسأل الملائكة الذين يعدون أيام الدنيا وساعاتها وثالثها أن يكون المعنى سل من يعرف عدد ذلك فإنا قد نسيناه ورابعها قرىء العادين بالتخفيف أي الظلمة فإنهم يقولون مثل ما قلنا وخامسها قرىء العاديين أي القدماء المعمرين فإنهم يستقصرونها فكيف بمن دونهم
أما قوله لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً فالمعنى أنهم قالوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ على معنى أنا لبثنا في الدنيا قليلاً فكأنه قيل لهم صدقتم ما لبثتم فيها إلا قليلاً إلا أنها انقضت ومضت فظهر أن الغرض من هذا السؤال تعريف قلة أيام الدنيا في مقابلة أيام الآخرة
فأما قوله تعالى لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فبين في هذا الوجه أنه أراد أنه قليل لو علمتم البعث والحشر لكنكم لما أنكرتم ذلك كنتم تعدونه طويلاً
ثم بين تعالى ما هو في التوبيخ أعظم بقوله أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) عَبَثاً حال أي عابثين كقوله لاَعِبِينَ أو مفعول به أي ما خلقناكم للعبث
المسألة الثانية أنه سبحانه لما شرح صفات القيامة ختم الكلام فيها بإقامة الدلالة على وجودها وهي أنه لولا القيامة لما تميز المطيع من العاصي والصديق من الزنديق وحينئذ يكون خلق هذا العالم عبثاً وأما الرجوع إلى الله تعالى فالمراد إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه لا أنه رجوع من مكان إلى مكان لاستحالة ذلك على الله تعالى ثم إنه تعالى نزه نفسه عن العبث بقوله فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ والملك هو المالك للأشياء الذي لا يبيد ولا يزول ملكه وقدرته وأما الحق فهو الذي يحق له الملك لأن كل شيء منه وإليه وهو الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه وبين أنه لا إله سواه وأن ما عداه فمصيره إلى الفناء وما يفنى لا يكون إلهاً وبين أنه تعالى رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ قال أبو مسلم والعرش ههنا السموات بما فيها من العرش الذي تطوف به الملائكة ويجوز أن يعني به الملك العظيم وقال الأكثرون المراد هو العرش حقيقة وإنما وصفه بالكريم لأن الرحمة تنزل منه والخير والبركة ولنسبته إلى أكرم الأكرمين كما يقال بيت كريم إذا كان ساكنوه كراماً وقرىء الكريم بالرفع ونحوه ذو العرش المجيد

وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءَاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرَاحِمِينَ
اعلم أنه سبحانه لما بين أنه هو الملك الحق لا إله إلا هو أتبعه بأن من ادعى إلهاً آخر فقد ادعى باطلاً من حيث لا برهان لهم فيه ونبه بذلك على أن كل ما لا برهان فيه لا يجوز إثباته وذلك يوجب صحة النظر وفساد التقليد ثم ذكر أن من قال بذلك فجزاؤه العقاب العظيم بقوله فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ كأنه قال إن عقابه بلغ إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله تعالى وقرىء أنه لا يفلح بفتح الهمزة ومعناه حسابه عدم الفلاح جعل فاتحة السورة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( المؤمنون 1 ) وخاتمتها إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة ثم أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقول رب اغفر وارحم ويثني عليه بأنه خير الراحمين وقد تقدم بيان أنه سبحانه خير الراحمين فإن قيل كيف تتصل هذه الخاتمة بما قبلها قلنا لأنه سبحانه لما شرح أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر بالانقطاع إلى الله تعالى والالتجاء إلى دلائل غفرانه ورحمته فإنهما هما العاصمان عن كل الآفات والمخافات وروي أن أول سورة قَدْ أَفْلَحَ وآخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله وحده وصلاته على خير خلقه سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه وعترته وأهل بيته

سورة النور
مدنية كلها وهي اثنتان وقيل أربع وستون آية
سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
قرأ العامة سورة بالرفع وقرأ طلحة بن مصرف بالنصب أما الذين قرأوا بالرفع فالجمهور قالوا الابتداء بالنكرة لا يجوز والتقدير هذه سورة أنزلناها أو نقول سورة أنزلناها مبتدأ موصوف والخبر محذوف أي فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها وقال الأخفش لا يبعد الابتداء بالنكرة فسورة مبتدأ وأنزلنا خبره ومن نصب فعلى معنى الفعل يعني اتبعوا سورة أو أتل سورة أو أنزلنا سورة وأما معنى السورة ومعنى الإنزال فقد تقدم فإن قيل الإنزال إنما يكون من صعود إلى نزول فهذا يدل على أنه تعالى في جهة قلنا الجواب من وجوه أحدها أن جبريل عليه السلام كان يحفظها من اللوح المحفوظ ثم ينزلها عليه ( صلى الله عليه وسلم ) فلهذا جاز أن يقال أنزلناها توسعاً وثانيها أن الله تعالى أنزلها من أم الكتاب في السماء الدنيا دفعة واحدة ثم أنزلها بعد ذلك نجوماً على لسان جبريل عليه السلام وثالثها معنى أَنزَلْنَاهَا أي أعطيناها الرسول كما يقول العبد إذا كلم سيده رفعت إليه حاجتي كذلك يكون من السيد إلى العبد الإنزال قال الله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر 10 )
أما قوله وَفَرَضْنَاهَا فالمشهور قراءة التخفيف وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد
أما قراءة التخفيف فالفرض هو القطع والتقدير قال الله تعالى فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( البقرة 237 ) أي قدرتم إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ ( القصص 85 ) أي قدر ثم إن السورة لا يمكن فرضها لأنها قد دخلت في الوجود وتحصيل الحاصل محال فوجب أن يكون المراد وفرضنا ما بين فيها وإنما قال ذلك لأن أكثر ما في هذه السورة من باب الأحكام والحدود فلذلك عقبها بهذا الكلام وأما قراءة التشديد فقال الفراء التشديد للمبالغة والتكثير أما المبالغة فمن حيث إنها حدود وأحكام فلا بد من المبالغة في إيجابها ليحصل الانقياد لقبولها وأما التكثير فلوجهين أحدهما أن الله تعالى بين فيها أحكاماً مختلفة والثاني أنه سبحانه

وتعالى أوجبها على كل المكلفين إلى آخر الدهر أما قوله سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا ففيه وجوه أحدها أنه سبحانه ذكر في أول السورة أنواعاً من الأحكام والحدود وفي آخرها دلائل التوحيد فقوله وَفَرَضْنَاهَا إشارة إلى الأحكام التي بينها أولاً ثم قوله سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا إشارة إلى ما بين من دلائل التوحيد والذي يؤكد هذا التأويل قوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فإن الأحكام والشرائع ما كانت معلومة لهم ليؤمروا بتذكيرها أما دلائل التوحيد فقد كانت كالمعلومة لهم لظهورها فأمروا بتذكيرها وثانيها قال أبو مسلم يجوز أن تكون الآيات البينات ما ذكر فيها من الحدود والشرائع كقوله رَبّ اجْعَل لِّى ءايَة ً قَالَ ءايَتُكَ أَن لا تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ( آل عمران 41 ) سأل ربه أن يفرض عليه عملاً وثالثها قال القاضي إن السورة كما اشتملت على عمل الواجبات فقد اشتملت على كثير من المباحثات بأن بينها الله تعالى ولما كان بيانه سبحانه لها مفصلاً وصف الآيات بأنها بينات
أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فقرىء بتشديد الذال وتخفيفها ومعنى لعل قد تقدم في سورة البقرة قال القاضي لعل بمعنى كي وهذا يدل على أنه سبحانه أراد من جميعهم أن يتذكروا والجواب أنه سبحانه لو أراد ذلك من الكل لما قوى دواعيهم إلى جانب المعصية ولو لم توجد تلك التقوية لزم وقوع الفعل لا لمرجح ولو جاز ذلك لما جاز الاستدلال بالإمكان والحدوث على وجود المرجح ويلزم نفي الصانع وإذا كان كذلك وجب حمل لعل على سائر الوجوه المذكورة في سورة البقرة واعلم أنه سبحانه ذكر في هذه السورة أحكاماً كثيرة
الحكم الأول
الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَة ٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ
إعلم أن قوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى رفعهما على الابتداء والخبر محذوف عند الخليل وسيبويه على معنى فيما فرض الله عليكم الزانية والزاني أي فاجلدوهما ويجوز أن يكون الخبر فاجلدوا وإنما دخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وتضمنه معنى الشرط تقديره التي زنت والذي زنى فاجلدوهما كما تقول من زنا فاجلدوه وقرىء بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وقرىء والزان بلا ياء واعلم أن الكلام في هذه الآية على نوعين أحدهما ما يتعلق بالشرعيات والثاني ما يتعلق بالعقليات ونحن نأتي على البابين بقدر الطاقة إن شاء الله تعالى
النوع الأول الشرعيات واعلم أن الزنا حرام وهو من الكبائر ويدل عليه أمور أحدها أن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ( الفرقان 68 ) وقال وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً وَسَاء سَبِيلاً ( الإسراء 32 ) وثانيها أنه تعالى أوجب المائة فيها بكمالها بخلاف حد القذف وشرب الخمر وشرع

فيه الرجم ونهى المؤمنين عن الرأفة وأمر بشهود الطائفة للتشهير وأوجب كون تلك الطائفة من المؤمنين لأن الفاسق من صلحاء قومه أخجل وثالثها ما روى حذيفة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة أما التي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر وأما التي في الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى وسوء الحساب وعذاب النار ) وعن عبد الله قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله قال ( أن تجعل لله نداً وهو خلقك قلت ثم أي قال وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك قلت ثم أي قال وأن تزني بحليلة جارك ) فأنزل الله تعالى تصديقها وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ ( الفرقان 68 ) واعلم أنه يجب البحث في هذه الآية عن أمور أحدها عن ماهية الزنا وثانيها عن أحكام الزنا وثالثها عن الشرائط المعتبرة في كون الزنا موجباً لتلك الأحكام ورابعها عن الطريق الذي به يعرف حصول الزنا وخامسها أن المخاطبين بقوله فَاجْلِدُوهُمْ ( النور 4 ) من هم وسادسها أن الرجم والجلد المأمور بهما في الزنا كيف يكون حالهما
البحث الأول عن ماهية الزنا قال بعض أصحابنا إنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم قطعاً وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن اللواطة هل ينطلق عليها اسم الزنا أم لا فقال قائلون نعم واحتج عليه بالنص والمعنى أما النص فما روى أبو موسى الأشعري رضى الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ) وأما المعنى فهو أن اللواط مثل الزنا صورة ومعنى أما الصورة فلأن الزنا عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم قطعاً والدبر أيضاً فرج لأن القبل إنما سمى فرجاً لما فيه من الانفراج وهذا المعنى حاصل في الدبر أكثر ما في الباب أن في العرف لا تسمى اللواطة زنا ولكن هذا لا يقدح في أصل اللغة كما يقال هذا طبيب وليس بعالم مع أن الطب علم وأما المعنى فلأن الزنا قضاء للشهوة من محل مشتهى طبعاً على جهة الحرام المحض وهذا موجود في اللواط لأن القبل والدبر يشتهيان لأنهما يشتركان في المعاني التي هي متعلق الشهوة من الحرارة واللين وضيق المدخل ولذلك فإن من يقول بالطبائع لا يفرق بين المحلين وإنما المفرق هو الشرع في التحريم والتحليل فهذا حجة من قال اللواط داخل تحت اسم الزنا وأما الأكثرون من أصحابنا فقد سلموا أن اللواط غير داخل تحت اسم الزنا واحتجوا عليه بوجوه أحدها العرف المشهور من أن هذا لواط وليس بزنا وبالعكس والأصل عدم التغيير وثانيها لو حلف لا يزني فلاط لا يحنث وثالثها أن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط وكانوا عالمين باللغة فلو سمي اللواط زناً لأغناهم نص الكتاب في حد الزنا عن الاختلاف والاجتهاد وأما الحديث فهو محمول على الإثم بدليل قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ) وقال عليه الصلاة والسلام ( اليدان تزنيان والعينان تزنيان ) وأما القياس فبعيد لأن الفرج وإن كان سمى فرجاً لما فيه من الانفراج فلا يجب أن يسمى كل ما فيه انفراج بالفرج وإلا لكان الفم والعين فرجاً وأيضاً فهم سموا النجم نجماً لظهوره ثم ما سموا كل ظاهر نجماً وسموا الجنين جنيناً لاستناره وما سموا كل مستتر جنيناً واعلم أن للشافعي رحمه الله في فعل

اللواط قولان أصحهما عليه حد الزنا إن كان محصناً يرجم وإن لم يكن محصناً يجلد مائة ويغرب عاماً وثانيهما يقتل الفاعل والمفعول به سواء كان محصناً أو لم يكن محصناً لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) ثم في كيفية قتله أوجه أحدها تحز رقبته كالمرتد وثانيها يرجم بالحجارة وهو قول مالك وأحمد وإسحق وثالثها يهدم عليه جدار يروى ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ورابعها يرمى من شاهق جبل حتى يموت يروى ذلك عن علي عليه السلام وإنما ذكروا هذه الوجوه لأن الله تعالى عذب قوم لوط بكل ذلك فقال تعالى فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَة ً مّن سِجّيلٍ ( هود 82 ) وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يحد اللوطي بل يعذر أما المفعول به فإن كان عاقلاً بالغاً طائعاً فإن قلنا على الفاعل القتل فيقتل المفعول به على صفة قتل الفاعل للخبر وإن قلنا على الفاعل حد الزنا فعلى المفعول به مائة جلدة وتغريب عام محصناً كان أو غير محصن وقيل إن كانت امرأة محصنة فعليها الرجم وليس بصحيح لأنها لا تصير محصنة بالتمكين في الدبر فلا يلزمها حد المحصنات كما لو كان المفعول به ذكر حجة الشافعي رحمه الله على وجوب الحد من وجوه الأول أن اللواط إما أن يساوي الزنا في الماهية أو يساويه في لوازم هذه الماهية وإذا كان كذلك وجب الحد بيان الأول قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ) فاللفظ دل على كون اللائط زانياً واللفظ الدال بالمطابقة على ماهية دال بالالتزام على حصول جميع لوازمها ودلالة المطابقة والالتزام مشتركان في أصل الدلالة فاللفظ الدال على حصول الزنا دال على حصول جميع اللوازم ثم بعد هذا إن تحقق مسمى الزنا في اللواط دخل تحت قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ وإن لم يتحقق مسمى الزنا وجب أن يتحقق لوازم مسمى الزنا لما ثبت أن اللفظ الدال على تحقق ماهية دال على تحقق جميع تلك اللوازم ترك العمل به في حق الماهية فوجب أن يبقى معمولاً به في الدلالة على جميع تلك اللوازم لكن من لوازم الزنا وجوب الحد فوجب أن يتحقق ذلك في اللواط أكثر ما في الباب أنه ترك العمل بذلك في قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ) لكن لا يلزم من ترك العمل هناك تركه ههنا الثاني أن اللائط يجب قتله فوجب أن يقتل رجماً بيان الأول قوله عليه السلام ( من عمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل منهما والمفعول به ) وبيان الثاني أنه لما وجب قتله وجب أن يكون زانياً وإلا لما جاز قتله لقوله عليه السلام ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا لإحدى ثلاث ) وههنا لم يوجد كفر بعد إيمان ولا قتل نفس بغير حق فلو لم يوجد الزنا بعد الإحصان لوجب أن لا يقتل وإذا ثبت أنه وجد الزنا بعد الإحصان وجب الرجم لهذا الحديث الثالث نقيس اللواط على الزنا والجامع أن الطبع داع إليه لما فيه من الالتذاذ وهو قبيح فيناسب الزجر والحد يصلح زاجراً عنه قالوا والفرق من وجهين أحدهما أنه وجد في الزنا داعيات فكان وقوعه أكثر فساداً فكانت الحاجة إلى الزاجر أتم الثاني أن الزنا يقتضي فساد الأنساب والجواب إلغاؤهما بوطء العجوز الشوهاء واحتج أبو حنيفة رحمه الله بوجوه أحدها اللواط ليس بزنا على ما تقدم فوجب أن لا

يقتل لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا لإحدى ثلاث ) وثانيها أن اللواط لا يساوي الزنا في الحاجة إلى شرع الزاجر ولا في الجناية فلا يساويه في الحد بيان عدم المساواة في الحاجة أن اللواطة وإن كانت يرغب فيها الفاعل لكن لا يرغب فيها المفعول طبعاً بخلاف الزنا فإن الداعي حاصل من الجانبين وأما عدم المساواة في الجناية فلأن في الزنا إضاعة النسب ولا كذلك اللواط إذا ثبت هذا فوجب أن لا يساويه في العقوبة لأن الدليل ينفي شرع الحد لكونه ضرراً ترك العمل به في الزنا فوجب أن يبقى في اللواط على الأصل وثالثها أن الحد كالبدل عن المهر فلما لم يتعلق باللواط المهر فكذا الحد والجواب عن الأول أن اللواط وإن لم يكن مساوياً للزنا في ماهيته لكنه يساويه في الأحكام وعن الثاني أن اللواط وإن كان لا يرغب فيه المفعول لكن ذلك بسبب اشتداد رغبة الفاعل لأن الإنسان حريص على ما منع وعن الثالث أنه لا بد من الجامع والله أعلم
المسألة الثانية أجمعت الأمة على حرمة إتيان البهائم وللشافعي رحمه الله في عقوبته أقوال أحدها يجب به حد الزنا فيرجم المحصن ويجلد غير المحصن ويغرب والثاني أنه يقتل محصناً كان أو غير محصن لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه ) فقيل لابن عباس ما شأن البهيمة فقال ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها ذلك العمل والقول الثالث وهو الأصح وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري وأحمد رحمهم الله أن عليه التعزيز لأن الحد شرح للزجر عما تميل النفس إليه وهذا الفعل لا تميل النفس إليه وضعفوا حديث ابن عباس رضي الله عنهما لضعف إسناده وإن ثبت فهو معارض بما روي أنه عليه السلام نهى عن ذبح الحيوان إلا لأكله
المسألة الثالثة السحق من النسوان وإتيان الميتة والاستمناء باليد لا يشرع فيها إلا التعزيز
البحث الثاني عن أحكام الزنا واعلم أنه كان في أول الإسلام عقوبة الزاني الحبس إلى الممات في حق الثيب والأذى بالكلام في حق البكر قال الله تعالى وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعة ً مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَئَاذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا ( النساء 15 16 ) ثم نسخ ذلك فجعل حد الزنا على الثيب الرجم وحد البكر الجلد والتغريب ولنذكر هاتين المسألتين
المسألة الأولى الخوارج أنكروا الرجم واحتجوا فيه بوجوه أحدها قوله تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ ( النساء 25 ) فلو وجب الرجم على المحصن لوجب نصف الرجم على الرقيق لكن الرجم لا نصف لها وثانيها أن الله سبحانه ذكر في القرآن أنواع المعاصي من الكفر والقتل والسرقة ولم يستقص في أحكامها كما استقصى في بيان أحكام الزنا ألا ترى أنه تعالى نهى عن الزنا بقوله وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى ( الإسراء 32 ) ثم توعد عليه ثانياً بالنار كما في كل المعاصي ثم ذكر الجلد ثالثاً ثم خص الجلد بوجوب إحضار المؤمنين رابعاً ثم خصه بالنهي عن الرأفة عليه بقوله وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ خامساً ثم أوجب على من رمى مسلماً بالزنا ثمانين جلدة وسادساً لم يجعل ذلك على من رماه بالقتل والكفر وهما أعظم منه ثم قال سابعاً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَة ً أَبَداً ثم ذكر ثامناً من رمى زوجته بما يوجب

التلاعن واستحقاق غضب الله تعالى ثم ذكر تاسعاً أن الزَّانِيَة ُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ( النور 3 ) ثم ذكر عاشراً أن ثبوت الزنا مخصوص بالشهود الأربعة فمع المبالغة في استقصاء أحكام الزنا قليلاً وكثيراً لا يجوز إهمال ما هو أجل أحكامها وأعظم آثارها ومعلوم أن الرجم لو كان مشروعاً لكان أعظم الآثار فحيث لم يذكره الله تعالى في كتابه دل على أنه غير واجب وثالثها قوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة وإيجاب الرجم على البعض بخبر الواحد يقتضي تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد وهو غير جائز لأن الكتاب قاطع في متنه وخبر الواحد غير قاطع في متنه والمقطوع راجح على المظنون واحتج الجمهور من المجتهدين على وجوب رجم المحصن لما ثبت بالتواتر أنه عليه الصلاة والسلام فعل ذلك قال أبو بكر الرازي روى الرجم أبو بكر وعمر وعلي وجابر بن عبدالله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة وبعض هؤلاء الرواة روى خبر رجم ماعز وبعضهم خبر اللخمية والغامدية وقال عمر رضي الله عنه لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لأثبته في المصحف والجواب عما احتجوا به أولاً أنه مخصوص بالجلد فإن قيل فيلزم تخصيص القرآن بخبر الواحد قلنا بل بالخبر المتواتر لما بينا أن الرجم منقول بالتواتر وأيضاً فقد بينا في أصول الفقه أن تخصيص القرآن بخبر الواحد جائز والجواب عن الثاني أنه لا يستبعد تجدد الأحكام الشرعية بحسب تجدد المصالح فلعل المصلحة التي تقضي وجوب الرجم حدثت بعد نزول تلك الآيات والجواب عن الثالث أنه نقل عن علي عليه السلام أنه كان يجمع بين الجلد والرجم وهو اختيار أحمد وإسحق وداود واحتجوا عليه بوجوه أحدها أن عموم هذه الآية يقتضي وجوب الجلد والخبر المتواتر يقتضي وجوب الرجم ولا منافاة فوجب الجمع وثانيها قوله عليه السلام ( البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم

بالحجارة ) وثالثها روى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن ابن جريج عن ابن الزبير عن جابر ( أن رجلاً زنى بامرأة فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجلد ثم أخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان محصناً فأمر به فرجم ) ورابعها روي أن علياً عليه السلام جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
واعلم أن أكثر المجتهدين متفقون على أن المحصن يرجم ولا يجلد واحتجوا عليه بأمور أحدها قصة العسيف فإنه عليه السلام قال ( يا أنيس اغد إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) ولم يذكر الجلد ولو وجب الجلد مع الرجم لذكره وثانيها أن قصة ماعز رويت من جهات مختلفة ولم يذكر في شيء منها مع الرجم جلد ولو كان الجلد معتبراً مع الرجم لجلده النبي عليه السلام ولو جلده لنقل كما نقل الرجم إذ ليس أحدهما بالنقل أولى من الآخر وكذا في قصة الغامدية حين أقرت بالزنا فرجمها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن وضعت ولو جلدها لنقل ذلك وثالثها ما روى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهم قال قال عمر رضي الله عنه قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى وقد قرأنا الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة رجم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فرجمنا بعده فأخبر أن الذي فرضه الله تعالى هو الرجم ولو كان الجلد واجباً مع الرجم لذكره أما الجواب عن التمسك بالآية فهو أنها مخصوصة في حق المحصن وتخصيص عموم القرآن بالخبر المتواتر غير ممتنع وأما قوله عليه السلام ( الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ) فلعل ذلك كان قبل قوله ( يا أنيس اغد إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) وأما أنه عليه السلام جلد امرأة ثم رجمها فلعله عليه السلام ما علم إحصانها فجلدها ثم لما علم إحصانها رجمها وهو الجواب عن فعل علي عليه السلام فهذا ما يمكن من التكلف في هذه الأجوبة والله أعلم
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله يجمع بين الجلد والتغريب في حد البكر وقال أبو حنيفة رحمه الله يجلد وأما التغريب فمفوض إلى رأي الإمام وقال مالك يجلد الرجل ويغرب وتجلد المرأة ولا تغرب حجة الشافعي رحمه الله حديث عبادة أنه عليه السلام قال ( خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ) ويدل أيضاً عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد ( أن رجلاً جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله إن ابني كان عسيفاً على هذا وزني بامرأته فافتديت منه بوليدة ومائة شاة ثم أخبرني أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فاقض بيننا فقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما الغنم والوليدة فرد عليك وأما ابنك فإن عليه جلد مائة وتغريب عام ثم قال لرجل من أسلم أغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) واحتج أبو حنيفة رحمه الله على نفي التغريب بوجوه أحدها أن إيجاب التغريب يقتضي نسخ الآية ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز وقرروا النسخ من ثلاثة أوجه الأول أنه سبحانه رتب الجلد على فعل الزنا بالفاء وحرف الفاء للجزاء إلا أن أئمة اللغة قالوا اليمين بغير لله ذكر شرط وجزاء وفسروا الشرط بالذي دخل عليه كلمة إن والجزاء بالذي دخل عليه حرف الفاء والجزاء اسم له يقع به الكفاية مأخوذ من قولهم جازيناه أي كافأناه وقال عليه السلام ( تجزيك ولا تجزي أحداً بعدك ) أي تكفيك ومنه قول القائل اجتزت الإبل بالعشب بالماء وإنما تقع الكفاية بالجلد إذا لم يجب معه شيء آخر فإيجاب شيء آخر يقتضي نسخ كونه كافياً الثاني أن المذكور في الآية لما كان هو الجلد فقط كان ذلك كمال الحد فلو جعلنا النفي معتبراً مع الجلد لكان الجلد بعض الحد لا كل الحد فيفضي إلى نسخ كونه كل الحد الثالث إن بتقدير كون الجلد كمال الحد فإنه يتعلق بذلك رد الشهادة ولو جعلناه بعض الحد لزال ذلك الحكم فثبت أن إيجاب التغريب يقتضي نسخ الآية ثانيها قال أبو بكر الرازي لو كان النفي مشروعاً مع الجلد لوجب على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند تلاوة الآية توقيف الصحابة عليه لئلا يعتقدوا عند سماع الآية أن الجلد هو كمال الحد ولو كان كذلك لكان اشتهاره مثل اشتهار الآية فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة بل كان وروده من طريق الآحاد علم أنه غير معتبر وثالثها ما روى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال في الأمة ( إذا زنت فاجلدوها فإن زنت فاجلدوها فإن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بطفير ) وفي رواية أخرى ( فليجلدها الحد ولا تثريب عليه ) ووجه الاستدلال به أنه لو كان النفي ثابتاً لذكره مع الجلد ورابعها أنه إما أن يشرع التغريب في حق الأمة أو لا يشرع ولا جائز أن يكون مشروعاً لأنه يلزم منه الإضرار بالسيد من غير جناية صدرت منه وهو غير جائز ولأنه قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( بيعوها ولو بطفير ) ولو وجب نفيها لما جاز بيعها لأن المكنة من تسليمها إلى المشتري لا تبقى بالنفي ولا جائز أن لا يكون مشروعاً لقوله تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ( النساء 25 )

وخامسها أن التغريب لو كان مشروعاً في حق الرجل لكان إما أن يكون مشروعاً في حق المرأة أو لا يكون والثاني باطل لأن التساوي في الجناية قد وجد في حقهما وإن كان مشروعاً في حق المرأة فإما أن يكون مشروعاً في حقها وحدها أو مع ذي محرم والأول غير جائز للنص والمعقول أما النص فقوله عليه السلام ( لا يحل لامرأة أن تسافر من غير ذي محرم ) وأما المعقول فهو أن الشهوة غالبة في النساء والانزجار بالدين إنما يكون في الخواص من الناس فإن الغالب لعدم الزنا من النساء بوجود الحفاظ من الرجال وحيائهن من الأقارب وبالتغريب تخرج المرأة من أيدي القرباء والحفاظ ثم يقل حياؤها لبعدها عن معارفها فينفتح عليها باب الزنا فربما كانت فقيرة فيشتد فقرها في السفر فيصير مجموع ذلك سبباً لفتح باب هذه الفاحشة العظيمة عليها ولا جائز أن يقال إنا نغربها مع الزوج أو المحرم لأن عقوبة غير الجاني لا تجوز لقوله تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الأنعام 164 ) وسادسها ما روي عن عمر أنه غرب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهرقل فقال عمر لا أغرب بعدها أحداً ولم يستثن الزنا وروي عن علي عليه السلام أنه قال في البكرين إذا زنيا يجلدان ولا ينفيان وإن نفيهما من الفتنة وعن ابن عمر أن أمة له زنت فجلدها ولم ينفها ولو كان النفي معتبراً في حد الزنا لما خفي ذلك على أكابر الصحابة وسابعها ما روي ( أن شيخاً وجد على بطن جارية يحنث بها في خربة فأتى به إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال اجلدوه مائة فقيل إنه ضعيف من ذلك فقال خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه بها وخلوا سبيله ) ولو كان النفي واجباً لنفاه فإن قيل إنما لم ينفه لأنه كان ضعيفاً عاجزاً عن الحركة قلنا كان ينبغي أن يكتري له دابة من بيت المال ينفى عليها فإن قيل كان عسى يضعف عن الركوب قلنا من قدر على الزنا كيف لا يقدر على الاستمساكا وثامنها أن التغريب نظير القتل لقوله تعالى أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ فنزلهما منزلة واحدة فإذا لم يشرع القتل في زنا البكر وجب أن لا يشرع أيضاً نظيره وهو التغريب والجواب عن الأول أنه ليس في كلام الله تعالى إلا إدخال حرف الفاء على الأمر بالجلد فأما أن الذي دخل عليه هذا الحرف فإنه يسمى جزاء فليس هذا من كلام الله ولا من كلام رسوله بل هو قول بعض الأدباء فلا يكون حجة
أما قوله ثانياً لو كان النفي مشروعاً لما كان الجلد كل الحد فنقول لا نزاع في أنه زال أمره لأن إثبات كل شيء لا أقل من أن يقتضي زوال عدمه الذي كان إلا أن الزائل ههنا ليس حكماً شرعياً بل الزائل محض البراءة الأصلية ومثل هذه الإزالة لا يمتنع إثباتها بخبر الواحد وإنما قلنا إن الزائل محض العدم الأصلي وذلك لأن إيجاب الجلد مفهوم مشترك بين إيجاب التغريب وبين إيجابه مع نفي التغريب والقدر المشترك بين القسمين لا إشعار له بواحد من القسمين
فإذن إيجاب الجلد لا إشعار فيه ألبتة لا بإيجاب التغريب ولا بعدم إيجابه إلا أن نفي التغريب كان معلوماً بالعقل نظراً إلى البراءة الأصلية فإذا جاء خبر الواحد ودل على وجوب التغريب فما أزال ألبتة شيئاً من مدلولات اللفظ الدال على وجوب الجلد بل أزال البراءة الأصلية فأما كون الجلد وحده مجزياً وكونه وحده كمال الحد وتعلق رد الشهادة عليه فكل ذلك

تابع لنفي وجوب الزيادة فلما كان ذلك النفي معلوماً بالعقل جاز قبول خبر الواحد فيه كما أن الفروض لو كانت خمساً لتوقف على أدائها الخروج عن عهدة التكليف وقبول الشهادة ولو زيد فيها شيء آخر لتوقف الخروج عن العهدة وقبول الشهادة على أداء تلك الزيادة مع أنه يجوز إثباته بخبر الواحد والقياس فكذا ههنا أما لو قال الله تعالى الجلد كمال الحد وعلمنا أنها وحدها متعلق رد الشهادة فلا يقبل ههنا في إثبات الزيادة خبر الواحد لأن نفي وجوب الزيادة ثبت بدليل شرعي متواتر والجواب عن الثاني أنه لو صح ما ذكره لوجب في كل ما خصص آية عامة أن يبلغ في الاشتهار مبلغ تلك الآية ومعلوم أنه ليس كذلك والجواب عن الثالث أن قوله ( ثم بيعوها ) لا يفيد التعقيب فلعلها تنفى ثم بعد النفي تباع والجواب عن الرابع أنه معارض بما روى الترمذي في جامعه أنه عليه السلام جلد وغرب وأن أبا بكر جلد وغرب والجواب عن الخامس أن للشافعي رحمه الله في تغريب العبد قولين أحدهما لا يغرب لأنه عليه السلام قال ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ) ولم يأمر بالتغريب ولأن التغريب للمعرة ولا معرة على العبد فيه لأنه ينقل من يد إلى يد ولأن منافعه للسيد ففي نفيه إضرار بالسيد والثاني وهو الأصح أنه يغرب لقوله تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ( النساء 25 ) ولا ينظر إلى ضرر المولى كما يقتل العبد بسبب الردة ويجلد العبد في الزنا والقذف وإن تضرر به المولى فعلى هذا كم يغرب فيه قولان أحدهما يغرب نصف سنة لأنه يقبل التنصيف كما يجلد نصف حد الأحرار والثاني يغرب سنة لأن التغريب المقصود منه الإيحاش وذلك معنى يرجع إلى الطبع فيستوي فيه الحر والعبد كمدة الإيلاء أو العنة والجواب عن السادس أن المرأة لا تغرب وحدها بل مع محرم فإن لم يتبرع المحرم بالخروج معها أعطى أجرته من بيت المال وإن لم يكن لها محرم تغرب مع النساء الثقات كما يجب عليها الخروج إلى الحج معهن قوله التغريب يفتح عليها باب الزنا قلنا لا نسلم فإن أكثر الزنا بالإلف والمؤانسة وفراغ القلب وأكثر هذه الأشياء تبطل بالغربة فإن الإنسان يقع في الوحشة والتعب والنصب فلا يتفرغ للزنا والجواب عن السابع أي استبعاد في أن يكون الإنسان الذي يعجز عن ركوب الدابة يقدر على الزنا والجواب عن الثامن أنه ينتقض بالتغريب إذا وقع على سبيل التعزير والله أعلم
المسألة الثالثة اتفقت الأمة على أن قوله سبحانه وتعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى يفيد الحكم في كل الزناة لكنهم اختلفوا في كيفية تلك الدلالة فقال قائلون لفظ الزاني يفيد العموم والمختار أنه ليس كذلك ويدل عليه أمور أحدها أن الرجل إذا قال لبست الثوب أو شربت الماء لا يفيد العموم وثانيها أنه لا يجوز توكيده بما يؤكد به الجمع فلا يقال جاءني الرجل أجمعون وثالثها لا ينعت بنعوت الجمع فلا يقال جاءني الرجل الفقراء وتكلم الفقيه الفضلاء فأما قولهم أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر فمجاز بدليل أنه لا يطرد وأيضاً فإن كان الدينار الصفر حقيقة وجب أن يكون الدينار الأصفر مجازاً كما أن الدنانير الصفر لما كانت حقيقة كان الدنانير الأصفر مجازاً ورابعها أن الزاني جزئي من هذا الزاني فإيجاب جلد هذا الزاني إيجاب جلد الزاني فلو كان إيجاب جلد الزاني إيجاباً لجلد كل زان لزم أن يكون

إيجاب جلد هذا الزاني إيجاب جلد كل زان ولما لم يكن كذلك بطل ما قالوه فإن قيل لم لا يجوز أن يقال اللفظ المطلق إنما يفيد العموم بشرط العراء عن لفظ التعيين أو يقال اللفظ المطلق وإن اقتضى العموم إلا أن لفظ التعيين يقتضي الخصوص قلنا أما الأول فباطل لأن العدم لا دخل له في التأثير أما الثاني فلأنه يقتضي التعارض وهو خلاف الأصل وخامسها أن يقال الإنسان هو الضحاك فلو كان المفهوم من قولنا الإنسان هو كل الإنسان لنزل ذلك منزلة ما يقال كل إنسان هو الضحاك وذلك متناقض لأنه يقتضي حصر الإنسانية في كل واحد من الناس ومعنى الحصر هو أن يثبت فيه لا في غيره فيلزم أن يصدق على كل واحد من أشخاص الناس أنه هو الضحاك لا غير واحتج المخالف بوجهين الأول أنه يجوز الاستثناء منه لقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحته الثاني أن الألف واللام للتعريف وليس ذلك لتعريف الماهية فإن ذلك قد حصل بأصل الإسم ولا لتعريف واحد بعينه فإنه ليس في اللفظ دلالة عليه ولا لتعريف بعض مراتب الخصوص فإنه ليس بعض المراتب أولى من بعض فوجب حمله على تعريف الكل والجواب عن الأول أن ذلك الاستثناء مجاز بدليل أنه لا يصح أن يقال رأيت الإنسان إلا المؤمنين وعن الثاني أنه يشكل بدخول الألف واللام على صيغة الجمع فإن جعلتها هناك للتأكيد فكدا ههنا ومن الناس من قال إن قوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى وإن كان لا يفيد العموم بحسب اللفظ لكنه يفيده بحسب القرينة وذلك من وجهين الأول أن ترتيب الحكم على الوصف المشتق يفيد كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم لا سيما إذا كان الوصف مناسباً وههنا كذلك فيدل ذلك على أن الزنا علة لوجوب الجد فيلزم أن يقال أينما تحقق الزنا يتحقق وجوب الجلد ضرورة أن العلة لا تنفك عن المعلول الثاني أن المراد من قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى إما أن يكون كل الزناة أو البعض فإن كان الثاني صارت الآية مجملة وذلك يمنع من إمكان العمل به لكن العمل به مأمور وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فوجب حمله على العموم حتى يمكن العمل به والله أعلم
البحث الثالث في الشرائط المعتبرة في كون الزنا موجباً للرجم تارة والجلد أخرى فنقول أجمعوا على أن كون الزنا موجباً لهذين الحكمين مشروط بالعقل وبالبلوغ فلا يجب الرجم والحد على الصبي والمجنون وهذان الشرطان ليسا من خواص هذين الحكمين بل هما معتبران في كل العقوبات أما كونهما موجبين للرجم فلا بد مع العقل والبلوغ من أمور أخر الشرط الأول الحرية وأجمعوا على أن الرقيق لا يجب عليه الرجم ألبتة الشرط الثاني التزوج بنكاح صحيح فلا يحصل الإحصان بالإصابة بملك اليمين ولا بوطء الشبهة ولا بالنكاح الفاسد الشرط الثالث الدخول ولا بد منه لقوله عليه السلام ( الثيب بالثيب ) وإنما تصير ثيباً بالوطء وههنا مسألتان
المسألة الأولى هل يشترط أن تكون الإصابة بالنكاح بعد البلوغ والحرية والعقل فيه وجهان أحدهما لا يشترط حتى لو أصاب عبد أمة بنكاح صحيح أو في حال الجنون والصغر ثم كمل حاله فزنى يجب عليه الرجم لأنه وطء يحصل به التحليل للزوج الأول فيحصل به الإحصان كالوطء في حال الكمال

ولأن عقد النكاح يجوز أن يكون قبل الكمال فكذلك الوطء والثاني وهو الأصح وهو ظاهر النص وقول أبي حنيفة رحمه الله يشترط أن تكون الإصابة بالنكاح بعد البلوغ والحرية والعقل لأنه لما شرط أكمل الإصابات وهو أن يكون بنكاح صحيح شرط أن يكون تلك الإصابة في حال الكمال
المسألة الثانية هل يعتبر الكمال في الطرفين أو يعتبر في كل واحد منهما كماله بنفسه دون صاحبه فيه قولان أحدهما معتبر في الطرفين حتى لو وطىء الصبي بالغة حرة عاقلة فإنه لا يحصنها وهو قول أبي حنيفة ومحمد والثاني يعتبر في كل واحد منهما كماله بنفسه وهو قول أبي يوسف رحمه الله
حجة القول الأول أنه وطء لا يفيد الإحصان لأحد الوطئين فلا يفيد في الآخر كوطء الأمة
حجة القول الثاني أنه لا يشترط كونهما على صفة الإحصان وقت النكاح وكذا عند الدخول الشرط الرابع الإسلام ليس شرطاً في كون الزنا موجباً للرجم عند الشافعي رحمه الله وأبي يوسف وقال أبو حنيفة رحمه الله شرط احتج الشافعي بأمور أحدها قوله عليه السلام ( فإذا قبلوا الجزية فانبئوهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ) ومن جملة ما على المسلم كونه بحيث يجب عليه الرجم عند الإقدام على الزنا فوجب أن يكون الذمي كذلك لتحصل التسوية وثانيها حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أنه عليه السلام رجم يهودياً ويهودية زنياً فإما أن يقال إنه عليه السلام حكم بذلك بشريعته أو بشريعة من قبله فإن كان الأول فالاستدلال به بين وإن كان الثاني فكذلك لأنه صار شرعاً له وثالثها أن زنا الكافر مثل زنا المسلم فيجب عليه مثل ما يجب على المسلم وذلك لأن الزنا محرم قبيح فيناسب الزجر وإيجاب الرجم يصلح زاجراً له ولا يبقى إلا التفاوت بالكفر والإيمان والكفر وإن كان لا يوجب تغليظ الجناية فلا يوجب تخفيفها واحتج أبو حنيفة رحمه الله بوجوه أحدها التمسك بعموم قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى وجب العمل به في حق المسلم ولا يجب في الذمي لمعنى مفقود في الذمي ووجه الفرق أن القتل بالأحجار عقوبة عظيمة فلا يجب إلا بجناية عظيمة والجناية تعظم بكفران النعم في حق الجاني عقلاً وشرعاً أما العقل فلأن المعصية كفران النعمة وكلما كانت النعم أكثر وأعظم كان كفرانها أعظم وأقبح وأما الشرح فلأن الله تعالى قال في حق نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عَظِيماً يانِسَاء النَّبِى ّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ( الأحزاب 30 ) فلما كانت نعم الله تعالى في حقهن أكثر كان العذاب في حقهن أكثر وقال في حق الرسول لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواة ِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ( الإسراء 74 75 ) وإنما عظمت معصيته لأن النعمة في حقه أعظم وهي نعمة النبوة ومن المعلوم أن نعم الله تعالى في حق المسلم المحصن أكثر منها في حق الذمي فكانت معصية المسلم أعظم فوجب أن تكون عقوبته أشد وثانيها أن الذمي لم يزن بعد الإحصان فلا يجب عليه القتل بيان الأول قوله عليه السلام ( من أشرك بالله طرفة عين فليس بمحصن ) بيان الثاني أن المسلم الذي لا يكون محصناً لا يجب عليه القتل لقوله عليه السلام ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا لإحدى ثلاث ) وإذا كان المسلم كذلك وجب أن يكون الذمي كذلك لقوله عليه السلام ( إذا قبلوا عقد الجزية فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ) وثالثها أجمعنا على أن إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام فكان إحصان الرجم والجامع ما ذكرنا من كمال النعمة والجواب عن الأول أنه خص عنه الثيب المسلم فكذا الثيب الذمي وما ذكروه من حديث زيادة النعمة على المؤمنين فنقول نعمة

الإسلام حصلت بكسب العبد فيصير ذلك كالخدمة الزائدة وزيادة الخدمة إن لم تكن سبباً للعذر فلا أقل من أن لا تكون سبباً لزيادة العقوبة وعن الثاني لا نسلم أن الذمي مشرك سلمناه لكن الإحصان قد يراد به التزوج لقوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ( النور 40 ) وفي التفسير فَإِذَا أُحْصِنَّ ( النساء 25 ) يعني فإذا تزوجن إذا ثبت هذا فنقول الذمي الثيب محصن بهذا التفسير فوجب رجمه لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) أو زنا بعد إحصان رتب الحكم في حق المسلم على هذا الوصف فدل على كون الوصف علة والوصف قائم في حق الذمي فوجب كونه مستلزماً للحكم بالرجم وعن الثالث أن حد القذف لدفع العار كرامة للمقذوف والكافر لا يكون محلاً للكرامة وصيانة العرض بخلاف ما ههنا والله أعلم أما ما يتعلق بالجلد ففيه مسائل
المسألة الأولى اتفقوا على أن الرقيق لا يرجم واتفقوا على أنه يجلد وثبت بنص الكتاب أن على الإماء نصف ما على المحصنات من العذاب فلا جرم اتفقوا على أن الأمة تجلد خمسين جلدة أما العبد فقد اتفق الجمهور على أنه يجلد أيضاً خمسين إلا أهل الظاهر فإنهم قالوا عموم قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة إلا أنه ورد النص بالتنصيف في حق الأمة فلو قسنا العبد عليها كان ذلك تخصيصاً لعموم الكتاب بالقياس وأنه غير جائز ومنهم من قال الأمة إذا تزوجت فعليها خمسون جلدة وإذا لم تتزوج فعليها المائة لظاهر قوله تعالى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ وذكروا أن قوله فَإِذَا أُحْصِنَّ أي تزوجن فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ( النساء 25 )
المسألة الثانية قال الشافعي وأبو حنيفة رحمهما الله الذمي يجلد وقال مالك رحمه الله لا يجلد لنا وجوه أحدها عموم قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى وثانيها قوله عليه السلام ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ) وقوله ( أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ) ولم يفرق بين الذمي والمسلم وثالثها أنه عليه السلام رجم اليهوديين فذاك الرجم إن من كان من شرع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقد حصل المقصود وإن كان من شرعهم فلما فعله الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) صار ذلك من شرعه وحقيقة هذه المسألة ترجع إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع
البحث الرابع فيما يدل على صدور الزنا منه اعلم أن ذلك لا يحصل إلا من أحد ثلاثة أوجه إما بأن يراه الإمام بنفسه أو بأن يقر أو بأن يشهد عليه الشهود أما الوجه الأول وهو ما إذا رآه الإمام قال الإمام محيي السنة في كتاب التهذيب لا خلاف أن على القاضي أن يمتنع عن القضاء بعلم نفسه مثل ما إذا ادعى رجل على آخر حقاً وأقام عليه بينة والقاضي يعلم أنه قد أبرأه أو ادعى أنه قتل أباه وقت كذا وقد رآه القاضي حياً بعد ذلك أو ادعى نكاح امرأة وقد سمعه القاضي طلقها لا يجوز أن يقضي به وإن أقام عليه شهوداً وهل يجوز للقاضي أن يقضي بعلم نفسه مثل أن ادعى عليه ألفاً وقد رآه القاضي أقرضه أو سمع المدعي عليه أقربه فيه قولان أصحهما وبه قال أبو يوسف ومحمد والمزني رحمهم الله أنه يجوز له أن يقضي بعلمه لأنه لما جاز له أن يحكم بشهادة الشهود وهو من قولهم على ظن فلأن يجوز بما رآه وسمعه وهو منه على علم أولى قال الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة أقضي بعلمي وهو أقوى من شاهدين أو بشاهدين وشاهد وامرأتين وهو أقوى من شاهد ويمين أو بشاهد ويمين وهو أقوى من النكول ورد اليمين
والقول الثاني لا يقضي بعلمه وهو قول ابن أبي ليلى لأن انتفاء التهمة شرط في القضاء ولم يوجد هذا في المال أما في العقوبات فينظر إن كان ذلك من حقوق العباد كالقصاص وحد القذف هل يحكم فيه

بعلم نفسه يرتب على المال إن قلنا هناك لا يقضي فههنا أولى وإلا فقولان والفرق أن مبنى حقوق الله تعالى على المساهلة والمسامحة ولا فرق على القولين أن يحصل العلم للقاضي في بلد ولايته وزمان ولايته أو في غيره وقال أبو حنيفة رحمه الله إن حصل له العلم في بلد ولايته أو في زمان ولايته له أن يقضي بعلمه وإلا فلا فنقول العلم لا يختلف باختلاف هذه الأحوال فوجب أن لا يختلف الحكم باختلافها والله أعلم
الطريق الثاني الإقرار قال الشافعي رحمه الله الإقرار بالزنا مرة واحدة يوجب الحد وقال أبو حنيفة رحمه الله بل لا بد من الإقرار أربع مرات في أربع مجالس وقال أحمد لا بد من الإقرار أربع مرات لكن لا فرق بين أن يكون في أربع مجالس أو في مجلس واحد حجة الشافعي رحمه الله أمران الأول قصة العسيف فإنه قال عليه السلام فإن اعترفت فارجمها وذلك دليل عل أن الاعتراف مرة واحدة كاف والثاني أنه لما أقر بالزنا وجب الحد عليه لقوله عليه السلام اقض بالظاهر والإقرار مرة واحدة يوجب الظهور لا سيما ههنا وذلك لأن الصارف عن الإقرار بالزنا قوي لما أنه سبب العار في الحال والألم الشديد في المآل والصارف عن الكذب أيضاً قائم وعند اجتماع الصارفين يقوى الانصراف فثبت أنه إنما أقدم على هذا الإقرار لكونه صادقاً وإذا ظهر اندرج تحت الحديث وتحت الآية أو نقيسه على الإقرار بالقتل والردة واحتج أبو حنيفة رحمه الله بوجوه أحدها قصة ماعز والاستدلال بها من وجوه الأول أنه عليه السلام أعرض عنه في المرة الأولى ولو وجب عليه الحد لم يعرض عنه لأن الإعراض عن إقامة حد الله تعالى بعد كمال الحجة لا يجوز الثاني أنه عليه السلام قال ( إنك شهدت على نفسك أربع مرات ) ولو كان الواحد مثل الأربع في إيجاب الحد كان هذا القول لغواً والثالث روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لماعز بعدما أقر ثلاث مرات ( لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله ) والرابع عن بريدة الأسلمي قال ( كنا معشر أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نقول لو لم يقر ماعز أربع مرات ما رجمه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وثانيها أنهم قاسوا الإقرار على الشهادة فكما أنه لا يقبل في الزنا إلا أربع شهادات فكذا في الإقرار به والجامع السعي في كتمان هذه الفاحشة وثالثها أن الزنا لا ينتفي إلا بأربع شهادات أو بأربع أيمان في اللعان فجاز أيضاً أن لا يثبت إلا بالإقرار أربع مرات وبه يفارق سائر الحقوق فإنها تنتفي بيمين واحد فجاز أيضاً أن يثبت بإقرار واحد والجواب عن الأول أنه ليس في الحديث إلا أنه عليه السلام حكم بالشهادات الأربع وذلك لا ينافي جواز الحكم بالشهادة الواحدة وعن الثاني أن الفرق بينهما أن المقذوف لو أقر بالزنا مرة لسقط الحد عن القاذف ولولا أن الزنا ثبت لما سقط كما لو شهد اثنان بالزنا لا يسقط الحد عن القاذف حيث لم يثبت به الزنا والله أعلم
والطريق الثالث الشهادة وقد أجمعوا على أنه لا بد من أربع شهادات ويدل عليه قوله تعالى فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعة ً مّنْكُمْ ( النساء 15 ) والكلام فيه سيأتي إن شاء الله تعالى في قوله ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء
البحث الخامس في أن المخاطب بقوله تعالى فَاجْلِدُواْ من هو أجمعت الأمة على أن المخاطب بذلك هو الإمام ثم احتجوا بهذا على وجوب نصب الإمام قالوا لأنه سبحانه أمر بإقامة الحد وأجمعوا على أنه لا يتولى إقامته إلا الإمام وما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب فكان

نصب الإمام واجباً وقد مر بيان هذه الدلالة في قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ( المائدة 38 ) بقي ههنا ثلاث مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رحمه الله السيد يملك إقامة الحد على مملوكه وهو قول ابن مسعود وابن عمر وفاطمة وعائشة وعند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر رحمهم الله لا يملك وقال مالك يحده المولى من الزنا وشرب الخمر والقذف ولا يقطعه في السرقة وإنما يقطعه الإمام وهو قول الليث واحتج الشافعي رحمه الله بوجوه أحدها قوله عليه السلام ( أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال عليه السلام ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ) وفي رواية أخرى ( فليجلدها الحد ) قال أبو بكر الرازي لا دلالة في هذه الأخبار لأن قوله ( أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ) هو كقوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ ومعلوم أن المراد منه رفعه إلى الإمام لإقامة الحد والمخاطبون بإقامة الحد هم الأئمة وسائر الناس مخاطبون برفع الأمر إليهم حتى يقيموا عليهم الحدود فكذلك قوله ( أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ) على هذا المعنى وأما قوله ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ) فإنه ليس كل جلد حداً لأن الجلد قد يكون على وجه التعزير فإذا عزرنا فقد وفينا بمقتضى الحديث والجواب أن قوله ( أقيموا الحدود ) أمر بإقامة الحد فحمل هذا اللفظ على رفع الواقعة إلى الإمام عدول عن الظاهر أقصى ما في الباب أنه ترك الظاهر في قوله فاجلدوا لكن لا يلزم من ترك الظاهر هناك تركه ههنا أما قوله ( فليجلدها ) المراد هو التعزير فباطل لأن الجلد المذكور عقيب الزنا لا يفهم منه إلا الحد وثانيها أن السلطان لما ملك إقامة الحد عليه فسيده به أولى لأن تعلق السيد بالعبد أقوى من تعلق السلطان به لأن الملك أقوى من عقد البيعة وولاية السادة على العبيد فوق ولاية السلطان على الرعية حتى إذا كان للأمة سيد وأب فإن ولاية النكاح للسيد دون الأب ثم إن الأب مقدم على السلطان في ولاية النكاح فيكون السيد مقدماً على السلطان بدرجات فكان أولى ولأن السيد يملك من التصرفات في هذا المحل ما لا يملكه الإمام فثبت أن المولى أولى وثالثها أجمعنا على أن السيد يملك التعزير فكذا الحد لأن كل واحد نظير الآخر وإن كان أحدهما مقدراً والآخر غير مقدر واحتج أبو بكر الرازي على مذهب أبي حنيفة بوجوه أحدها قال قوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ لا شك أنه خطاب مع الأئمة دون عامة الناس فالتقدير فاجلدوا أيها الأئمة والحكام كل واحد منهما مائة جلدة ولم يفرق في هذه الآية بن المحدودين من الأحرار والعبيد فوجب أن تكون الأئمة هم المخاطبون بإقامة الحدود على الأحرار والعبيد دون الموالي وثانيها أنه لو جاز للمولى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسرقة فيقطعه فلو رجعوا عن شهادتهم لوجب أن يتمكن من تضمين الشهود لأن تضمين الشهود يتعلق بحكم الحاكم بالشهادة لأنه لو لم يكن يحكم بشهادتهم لم يضمنوا شيئاً فكان يصير حاكماً لنفسه بإيجاب الضمان عليهم وذلك باطل لأنه ليس لأحد من الناس أن يحكم لنفسه فعلمنا أن المولى لا يملك استماع البينة على عبده بذلك ولا قطعه وثالثها أن المالك ربما لا يستوفي الحد بكماله لشفقته على ملكه وإذا كان متهماً وجب أن لا يفوض إليه والجواب عن الأول أن قوله فَاجْلِدُواْ ليس بصريحه خطاباً مع الإمام لكن بواسطة أنه لما انعقد الإجماع على أن غير الإمام لا يتولاه حملنا ذلك الخطاب على الإمام وههنا لم ينعقد الإجماع

على أن الإمام لا يتولاه لأنه عين النزاع والجواب عن الثاني قال محيي السنة في كتاب ( التهذيب ) هل يجوز للمولى قطع يد عبده بسبب السرقة أو قطع الطريق فيه وجهان أصحهما أنه يجوز نص عليه في رواية البويطي لما روي عن ابن عمر أنه قطع عبداً له سرق وكما يجلده في الزنا وشرب الخمر والثاني لا بل القطع إلى الإمام بخلاف الجلد لأن المولى يملك جنس الجلد وهو التعزير ولا يملك جنس القطع ثم قال وكل حد يقيمه المولى على عبده إنما يقيمه إذا ثبت باعتراف العبد فإن كانت عليه بينة فهل يسمع المولى الشهادة فيه وجهان أحدهما يسمع لأنه ملك الإقامة بالاعتراف فيملك بالبينة كالإمام والثاني لا يسمع بل ذاك إلى الحكام والجواب عن الثالث أنه منقوض بالتعزير
المسألة الثانية إذا فقد الإمام فليس لآحاد الناس إقامة هذه الحدود بل الأولى أن يعينوا واحداً من الصالحين ليقوم به
المسألة الثالثة الخارجي المتغلب هل له إقامة الحدود قال بعضهم له ذلك وقال آخرون ليس له ذلك لأن إقامة الحد من جهة من لم يلزمنا أن نزيل ولايته أبعد من أن نفوض ذلك إلى رجل من الصالحين
البحث السادس في كيفية إقامة الحد أما الجلد فاعلم أن المذكور في الآية هو الجلد وهذا مشترك بين الجلد الشديد والجلد الخفيف والجلد على كل الأعضاء أو على بعض الأعضاء فحينئذ لا يكون في الآية إشعار بشيء من هذه القيود بل مقتضى الآية أن يكون الآتي بالجلد كيف كان خارجاً عن العهدة لأنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج من العهدة قال صاحب ( الكشاف ) وفي لفظ الجلد إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم ولأن الجلد ضرب الجلد يقال جلده كقولك ظهره بفتح الهاء وبطنه ورأسه إلا أنا لما عرفنا أن المقصود منه الزجر والزجر لا يحصل إلا بالجلد الخفيف لا جرم تكلم العلماء في صفة الجلد على سبيل القياس ثم هنا مسائل
المسألة الأولى المحصن يجلد مع ثيابه ولا يجرد ولكن ينبغي أن يكون بحيث يصل الألم إليه وينزع من ثيابه الحشو والفرو روي أن أبا عبيدة بن الجراح أتى برجل في حد فذهب الرجل ينزع قميصه وقال ما ينبغي لجسدي هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص فقال أبو عبيدة لا تدعوه ينزع قميصه فضربه عليه أما المرأة فلا خلاف في أنه لا يجوز تجريدها بل يربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف ويلي ذلك منها امرأة
المسألة الثانية لا يمد ولا يربط بل يترك حتى يتقي بيديه ويضرب الرجل قائماً والمرأة جالسة قال أبو يوسف رحمه الله ضرب ابن أبي ليلى المرأة القاذفة قائمة فخطأه أبو حنيفة
المسألة الثالثة يضرب بسوط وسط لا جديد يجرح ولا خلق لم يؤلم ويضرب ضرباً بين ضربين لا شديد ولا واه روى أبو عثمان النهدي قال أتى عمر برجل في حد ثم جيء بسوط فيه شدة فقال أريد ألين من هذا فأتى بسوط فيه لين فقال أريد أشد من هذا فأتى بسوط بين السوطين فرضي به
المسألة الرابعة تفرق السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد واتفقوا على أنه يتقي المهالك كالوجه والبطن والفرج ويضرب على الرأس عند الشافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة رحمه الله لا

يضرب على الرأس وهو قول على حجة الشافعي رحمه الله قال أبو بكر أضرب على الرأس فإن الشيطان فيه وعن عمر أنه ضرب صبيغ بن عسيل على رأسه حين سأل عن الذاريات على وجه التعنت حجة أبي حنيفة رحمه الله أجمعنا على أنه لا يضرب على الوجه فكذا الرأس والجامع الحكم والمعنى أما الحكم فلأن الشين الذي يلحق الرأس بتأثير الضرب كالذي يلحق الوجه بدليل أن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس والوجه واحد وفارقا سائر البدن لأن الموضحة فيما سوى الرأس والوجه إنما يجب فيها حكومة ولا يجب فيها أرش الموضحة والواقعة في الرأس والوجه فوجب استواء الرأس والوجه في وجوب صونهما عن الضرب وأما المعنى فهو إنما منع من ضرب الوجه لما كان فيه من الجناية على البصر وذلك موجود في الرأس لأن ضرب الرأس يظلم منه البصر وربما حدث منه الماء في العين وربما حدث منه اختلاط العقل أجاب أصحابنا عنه بأن الفرق بين الوجه والرأس ثابت لأن الضربة إذا وقعت على الوجه فعظم الجبهة رقيق فربما انكسر بخلاف عظم القفا فإنه في نهاية الصلابة وأيضاً فالعين في نهاية اللطافة فالضرب عليها يورث العمى وأيضاً فالضرب على الوجه يكسر الأنف لأنه من غضروف لطيف ويكسر الأسنان لأنها عظام لطيفة ويقع على الخدين وهما لحمان قريبان من الدماغ والضربة عليهما في نهاية الخطر لسرعة وصول ذلك الأثر إلى جرم الدماغ وكل ذلك لم يوجد في الضرب على الرأس
المسألة الخامسة لو فرق سياط الحد تفريقاً لا يحصل به التنكيل مثل أن يضرب كل يوم سوطاً أو سوطين لا يحسب وإن ضرب كل يوم عشرين أو أكثر يحسب والأولى أن لا يفرق
المسألة السادسة إن وجب الحد على الحبلى لا يقام حتى تضع روى عمران بن الحصين أن امرأة من جهينة أتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهي حبلى من الزنا فقالت يا نبي الله أصبت حداً فأقمه علي فدعا نبي الله وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت فاتني بها ففعل فأمر بها نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها ولأن المقصود التأديب دون الإتلاف
المسألة السابعة إن وجب الجلد على المريض نظر فإن كان به مرض يرجى زواله من صداع أو ضعف أو ولادة يؤخر حتى يبرأ كما لو أقيم عليه حد أو قطع لا يقام عليه حد آخر حتى يبرأ من الأول وإن كان به مرض لا يرجى زواله كالسل والزمانة فلا يؤخر ولا يضرب بالسياط فإنه يموت وليس المقصود موته وذلك لا يختلف سواء كان زناه في حال الصحة ثم مرض أو في حال المرض بل يضرب بعثكال عليه مائة شمراخ فيقول ذلك مقام مائة جلدة كما قال تعالى في قصة أيوب عليه السلام وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ ( ص 44 ) وعند أبي حنيفة رحمه الله يضرب بالسياط دليلنا ما روي أن رجلاً مقعداً أصاب امرأة فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخذوا مائة شمراخ فضربوه بها ضربة واحدة ولأن الصلاة إذا كانت تختلف باختلاف حاله فالحد أولى بذلك
المسألة الثامنة يقام الحد في وقت اعتدال الهواء فإن كان في حال شدة حر أو برد نظر إن كان الحد رجماً يقام عليه كما يقام في المرض لأن المقصود قتله وقيل إن كان الرجم ثبت عليه بإقراره فيؤخر إلى اعتدال الهواء وزوال المرض الذي يرجى زواله لأنه ربما رجع عن إقراره في خلال الرجم وقد أثر الرجم في جسمه فتعين شدة الحر والبرد والمرض على أهلاكه بخلاف ما لو ثبت بالبينة لأنه لا يسقط وإن كان الحد

جلداً لم يجز إقامته في شدة الحر والبرد كما لا يقام في المرض أما الرجم ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رحمه الله ومالك رحمه الله يجوز للإمام أن يحضر رجمه وأن لا يحضر وكذا الشهود لا يلزمهم الحضور وقال أبو حنيفة رحمه الله إن ثبت الزنا بالبينة وجب على الشهود أن يبدأوا بالرجم ثم الإمام ثم الناس وإن ثبت بإقرار بدأ الإمام ثم الناس حجة الشافعي رحمه الله أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضر رجمهما
المسألة الثانية إن ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك وقع به بعض الحد أو لم يقع وبه قال أبو حنيفة رحمه الله والثوري وأحمد وإسحق وقال الحسن وابن أبي ليلى وداود لا يقبل رجوعه وعن مالك رحمه الله روايتان
حجة القول الأول أن ماعزاً لما مسته الحجارة وهرب فقال عليه السلام ( هلا تركتموه )
المسألة الثالثة يحفر للمرأة إلى صدرها حتى لا تنكشف ويرمى إليها ولا يحفر للرجل لما روى أبو سعيد الخدري ( أن ماعزاً أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله إني أصبت فاحشة فأقم على الحد فرده النبي عليه السلام مراراً ثم سأل قومه فقالوا لا نعلم به بأساً فأمرنا أن نرجمه فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد فما أوثقناه ولا حفرنا له قال فرميناه بالعظام والمدر والخزف قال فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة وانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكن ) وجه الاستدلال أنه قال ( فما أوثقناه ولا حفرنا له ) ولأنه هرب ولو كان في حفرة لما أمكنه ذلك
المسألة الرابعة إذا مات في الحد يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين فهذا ما أردنا ذكره من بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بهذه الآية
أما المباحث العقلية فاعلم أن من الناس من قال لا شك أن البدن مركب من أجزاء كثيرة فإما أن يقوم بكل جزء حياة وعلم وقدرة على حدة أو يقوم بكل الأجزاء حياة واحدة وعلم واحد وقدرة واحدة والثاني محال لاستحالة قيام العرض الواحد بالمحال الكثيرة فتعين الأول وإذا كان كذلك كان كل جزء من أجزاء البدن حياً على حدة وعالماً على حدة وقادراً على حدة وإذا ثبت هذا فنقول الزاني هو الفرج لا الظهر فكيف يحسن من الحكيم أن يأمر بجلد الظهر ولأنه ربما كان الإنسان حال إقدامه على الزنا عجيفاً نحيفاً ثم يسمن بعد ذلك فكيف يجوز إيلام تلك الأجزاء الزائدة مع أنها كانت بريئة عن فعل الزنا فإن قال قائل هذا مدفوع من وجهين الأول وهو أنه ليس كل واحد من أجزاء البدن فاعلاً على حدة وحياً على حدة وذلك محال بل الحياة والعلم والقدرة تقوم بالجزء الواحد ثم توجب حكم الحيية والعالمية والقادرية لمجموع الأجزاء فيكون المجموع حياً واحداً عالماً واحداً قادراً واحداً وعلى هذا التقدير يزول السؤال الثاني أن يقال الذي هو الفاعل والمحرك والمدرك شيء ليس بجسم ولا جسماني وإنما هو مدبر لهذا البدن وعلى هذا التقدير أيضاً يزول السؤال والجواب أما الأول فضعيف وذلك لأن العلم إذا قام بجزء واحد فإما أن يحصل بمجموع الأجزاء عالمية واحدة فيلزم قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة وهو محال أو يقوم بكل جزء عالمية على حدة فيعود المحذور المذكور وأما الثاني ففي نهاية البعد لأنه إذا كان الفاعل للقبيح هو ذلك المباين فلم يضرب هذا الجسد واعلم أن المقصود من أحكام الشرع رعاية المصالح ونحن نعلم أن

شرع الحد يفيد الزجر فكان المقصود حاصلاً والله أعلم
أما قوله تعالى وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى الرأفة الرقة والرحمة وقراءة العامة بسكون الهمزة وقرىء رأفة بفتح الهمزة ورآفة على فعالة
المسألة الثانية يحتمل أن يكون المراد أن لا تأخذكم رأفة بأن يعطل الحد أو ينقص منه والمعنى لا تعطلوا حدود الله ولا تتركوا إقامتها للشفقة والرحمة وهذا قول مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير واختيار الفراء والزجاج ويحتمل أن لا تأخذكم رأفة بأن يخفف الجلد وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وقتادة ويحتمل كلا الأمرين والأول أولى لأن الذي تقدم ذكره الأمر بنفس الجلد ولم يذكر صفته فما يعقبه يجب أن يكون راجعاً إليه وكفى برسول الله أسوة في ذلك حيث قال ( لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ) ونبه بقوله في دين الله على أن الدين إذا أوجب أمراً لم يصح استعمال الرأفة في خلافه
أما قوله تعالى إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ فهو من باب التهييج والنهاب الغضب لله تعالى ولدينه قال الجبائي تقدير الآية إن كنتم مؤمنين فلا تتركوا إقامة الحدود وهذا يدل على أن الاشتغال بأداء الواجبات من الإيمان بخلاف ما تقوله المرجئة والجواب أن الرأفة لا تحصل إلا إذا حكم الإنسان بطبعه أن الأولى أن لا تقام تلك الحدود وحينئذ يكون منكراً للدين فيخرج عن الإيمان في الحديث ( يؤتى بوال نقص من الحد سوطاً فيقال له لم فعلت ذاك فيقول رحمة لعبادك فيقال له أنت أرحم بهم منيا فيؤمر به إلى النار ويؤتى بمن زاد سوطاً فيقال له لم فعلت ذلك فيقول لينتهوا عن معاصيك فيقول أنت أحكم به منيا فيؤمر به إلى النار )
أما قوله تعالى وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة ٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة ٌ أمر وظاهره للوجوب لكن الفقهاء قالوا يستحب حضور الجمع والمقصود إعلان إقامة الحد لما فيه من مزيد الردع ولما فيه من رفع التهمة عمن يجلد وقيل أراد بالطائفة الشهود لأنه يجب حضورهم ليعلم بقاؤهم على الشهادة
المسألة الثانية اختلفوا في أقل الطائفة على أقوال أحدها أنه رجل واحد وهو قول النخعي ومجاهد واحتجا بقوله تعالى وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( الحجرات 9 ) وثانيها أنه اثنان وهو قول عكرمة وعطاء واحتجا بقوله تعالى فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ مّنْهُمْ طَائِفَة ٌ لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدّينِ ( التوبة 122 ) وكل ثلاثة فرقة والخارج من الثلاثة واحد أو اثنان والاحتياط يوجب الأخذ بالأكثر وثالثها أنه ثلاثة وهو قول الزهري وقتادة قالوا الطائفة هي الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء وهذه الصورة أقل ما لا بد في حصولها هو الثلاثة ورابعها أنه أربعة بعدد شهود الزنا وهو قول ابن عباس والشافعي رضي الله عنهم وخامسها أنه عشرة وهو قول الحسن البصري لأن العشرة هي العدد الكامل
المسألة الثالثة تسميته عذاباً يدل على أنه عقوبة ويجوز أن يسمى عذاباً لأنه يمنع المعاودة كما سمي نكالاً لذلك ونبه تعالى بقوله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ على أن الذين يشهدون يجب أن يكونوا بهذا الوصف

لأنهم إذا كانوا كذلك عظم موقع حضورهم في الزجر وعظم موقع إخبارهم عما شاهدوا فيخاف المجلود من حضورهم الشهرة فيكون ذلك أقوى في الانزجار والله أعلم
الحكم الثاني
الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً أَوْ مُشْرِكَة ً وَالزَّانِيَة ُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
قرىء لاَ يَنكِحُ بالجزم عن النهي وقرىء وَحَرَّمَ بفتح الحاء ثم إن في الآية سؤالات
السؤال الأول قوله الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً أَوْ مُشْرِكَة ً ظاهره خبر ثم إنه ليس الأمر كما يشعر به هذا الظاهر لأنا نرى أن الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف
السؤال الثاني أنه قال وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وليس كذلك فإن المؤمن يحل له التزوج بالمرأة الزانية والجواب اعلم أن المفسرين لأجل هذين السؤالين ذكروا وجوهاً أحدها وهو أحسنها ما قاله القفال وهو أن اللفظ وإن كان عاماً لكن المراد منه الأعم الأغلب وذلك لأن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا والفسق لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب في فاسقة خبيثة مثله أو في مشركة والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة والمشركين فهذا على الأعم الأغلب كما يقال لا يفعل الخير إلا الرجل التقي وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقي فكذا ههنا
وأما قوله وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فالجواب من وجهين أحدهما أن نكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنا محرم عليه لما فيه من التشبه بالفساق وحضور مواضع التهمة والتسبب لسوء المقالة فيه والغيبة ومجالسة الخاطئين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة الزواني والفجار الثاني وهو أن صرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات محرم على المؤمنين لأن قوله الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً معناه أن الزاني لا يرغب إلا في الزانية فهذا الحصر محرم على المؤمنين ولا يلزم من حرمة هذا الحصر حرمة التزوج بالزانية فهذا هو المعتمد في تفسير الآية الوجه الثاني أن الألف واللام في قوله الزَّانِى وفي قوله وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وإن كان للعموم ظاهراً لكنه ههنا مخصوص بالأقوام الذين نزلت هذه الآية فيهم قال مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء ليس لهم أموال ولا عشائر وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة ولكل واحدة منهن علامة على بابها كعلامة البيطار ليعرف أنها زانية وكان لا يدخل عليها إلا زان أو مشرك فرغب في كسبهن ناس من فقراء المسلمين وقالوا نتزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهن فاستأذنوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية فتقدير الآية أولئك الزواني لا ينكحون إلا تلك الزانيات وتلك الزانيات لا ينكحهن إلا أولئك الزواني وحرم نكاحهن على المؤمنين

الوجه الثالث في الجواب أن قوله الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً وإن كان خبراً في الظاهر لكن المراد النهي والمعنى أن كل من كان زانياً فلا ينبغي أن ينكح إلا زانية وحرم ذلك على المؤمنين وهكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام وعلى هذا الوجه ذكروا قولين أحدهما أن ذلك الحكم باق إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزوج بالعفيفة والعفيف وبالعكس ويقال هذا مذهب أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة ثم في هؤلاء من يسوي بين الابتداء والدوام فيقول كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك لا يحل له إذا زنت تحته أن يقيم عليها ومنهم من يفصل لأن في جملة ما يمنع من التزويج ما لا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة
والقول الثاني أن هذا الحكم صار منسوخاً واختلفوا في ناسخه فعن الجبائي أن ناسخه هو الإجماع وعن سعيد بن المسيب أنه منسوخ بعموم قوله تعالى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) وَأَنْكِحُواْ الايَامَى ( النور 32 ) قال المحققون هذان الوجهان ضعيفان أما الأول فلأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به وأيضاً فالإجماع الحاصل عقيب الخلاف لا يكون حجة والإجماع في هذه المسألة مسبوق بمخالفة أبي بكر وعمر وعلي فكيف يصح
وأما قوله تعالى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ فهو لا يصح أن يكون ناسخاً لأنه لا بد من أن يشترط فيه أن لا يكون هناك مانع من النكاح من سبب أو نسب أو غيرهما ولقائل أن يقول لا يدخل فيه تزويج الزانية من المؤمن كما لا يدخل فيه تزويجها من الأخ وابن الأخ ونقول إن للزنا تأثيراً في الفرقة ما ليس لغيره ألا ترى أنه إذا قذفها بالزنا يتبعها بالفرقة على بعض الوجوه ولا يجب مثل ذلك في سائر ما يوجب الحد ولأن من حق الزنا أن يورث العار ويؤثر في الفراش ففارق غيره ثم احتج هؤلاء الذين يدعون هذا النسخ بأنه سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل زنى بامرأة فهل له أن يتزوجها فأجازه ابن عباس وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سئل عن ذلك فقال ( أوله سفاح وآخره نكاح ) والحرام لا يحرم الحلال الوجه الرابع أن يحمل النكاح على الوطء والمعنى أن الزاني لا يطأ حين يزني إلا زانية أو مشركة وكذا الزانية وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي وحرم الزنا على المؤمنين وعلى هذا تأويل أبي مسلم قال الزجاج هذا التأويل فاسد من وجهين الأول أنه ما ورد النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج ولم يرد ألبتة بمعنى الوطء الثاني أن ذلك يخرج الكلام عن الفائدة لأنا لو قلنا المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية فالإشكال عائد لأنا نرى أن الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها ولو قلنا المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية حين يكون وطؤه زنا فهذا الكلام لا فائدة فيه وهذا آخر الكلام في هذا المقام
السؤال الثالث أي فرق بين قوله الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً وبين قوله وَالزَّانِيَة ُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ والجواب الكلام الأول يدل على أن الزاني لا يرغب إلا في نكاح الزانية وهذا لا يمنع من أن يرغب في نكاح الزانية غير الزاني فلا جرم بين ذلك بالكلام الثاني
السؤال الرابع لم قدمت الزانية على الزاني في الآية المتقدمة وههنا بالعكس الجواب سبقت تلك الآية لعقوبتها على جنايتها والمرأة هي المادة في الزنا وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه هو الراغب والطالب

الحكم الثالث
القذف
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة ً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَة ً أَبَداً وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أن ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي به رموا المحصنات وذكر الرمي لا يدل على الزنا إذ قد يرميها بسرقة وشرب خمر وكفر بل لا بد من قرينة دالة على التعيين وقد أجمع العلماء على أن المراد الرمي بالزنا وفي الآية أقوال تدل عليه أحدها تقدم ذكر الزنا وثانيها أنه تعالى ذكر المحصنات وهن العفائف فدل ذلك على أن المراد بالرمي رميهن بضد العفاف وثالثها قوله ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء يعني على صحة ما رموهن به ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط إلا في الزنا ورابعها انعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنا فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا إذا عرفت هذا فالكلام في هذه الآية يتعلق بالرمي والرامي والمرمي
البحث الأول في الرمي وفيه مسائل
المسألة الأولى ألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية وتعريض فالصريح أن يقول يا زانية أو زنيت أو زنى قبلك أو دبرك ولو قال زنى بدنك فيه وجهان أحدها أنه كناية كقوله زنى يدك لأن حقيقة الزنا من الفرج فلا يكون من سائر البدن إلا المعونة والثاني وهو الأصح أنه صريح لأن الفعل إنما يصدر من جملة البدن والفرج آلة في الفعل أما الكنايات فمثل أن يقول يا فاسقة يا فاجرة يا خبيثة يا مؤاجرة يا ابنة الحرام أو امرأتي لا ترد يد لامس وبالعكس فهذا لا يكون قذفاً إلا أن يريده وكذلك لو قال لعربي يا نبطي فهذا لا يكون قذفاً إلا أن يريده فإن أراد به القذف فهو قذف لأم المقول له وإلا فلا فإن قال عنيت به نبطي الدار واللسان وادعت أم المقول له أنه أراد القذف فالقول قوله مع يمينه أما التعريض فليس بقذف وإن أراده وذلك مثل قوله يا ابن الحلال أما أنا فما زنيت وليست أمي زانية وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح رحمهم الله وقال مالك رحمه الله يجب الحد فيه وقال أحمد وإسحق هو قذف في حال الغضب دون حال الرضا لنا أن التعريض بالقذف محتمل للقذف ولغيره فوجب أن لا يجب الحد لأن الأصل براءة الذمة فلا يرجع عنه بالشك وأيضاً فلقوله عليه السلام ( أدرأوا الحدود بالشبهات ) ولأن الحدود شرعت على خلاق النص النافي للضرر والإيذاء الحاصل بالتصريح فوق الحاصل بالتعريض واحتج المخالف بما روى الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال كان عمر يضرب الحد في التعريض وروي أيضاً أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أحدهما للآخر والله ما أنا بزان ولا أمي بزانية فاستشار عمر الناس في ذلك فقال قائل مدح أباه وأمه وقال آخرون قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا فجلده عمر ثمانين جلدة

والجواب أن في مشاورة عمر الصخابة في حكم التعريض دلالة على أنه لم يكن عندهم فيه توقيف وأنهم قالوا رأياً واجتهاداً
المسألة الثانية في تعدد القذف اعلم أنه إما أن يقذف شخصاً واحداً مراراً أو يقذف جماعة فإن قذف واحداً مراراً نظر إن كان أراد بالكل زانية واحدة بأن قال زنيت بعمرو قاله مراراً لا يجب إلا حد واحد ولو أنشأ الثاني بعدما حد للأول عزر للثاني وإن قذفها بزنيات مختلفة بأن قال زنيت بزيد ثم قال زنيت بعمرو فهل يتعدد الحد أم لا فيه قولان أحدهما يتعدد اعتباراً باللفظ ولأنه من حقوق العباد فلا يقع فيه التداخل كالديون والثاني وهو الأصح يتداخل فلا يجب فيه إلا حد واحد لأنهما حدان من جنس واحد لمستحق واحد فوجب أن يتداخل كحدود الزنا ولو قذف زوجته مراراً فالأصح أنه يكتفي بلعان واحد سواء قلنا يتعدد الحد أو لا يتعدد أما إذا قذف جماعة معدودين نظر إن قذف كل واحد بكلمة يجب عليه لكل واحد حد كامل وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يجب عليه إلا حد واحد واحتج أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة بالقرآن والسنة والقياس
أما القرآن فهو قوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ والمعنى أن كل أحد يرمي المحصنات وجب عليه الجلد وذلك يقتضي أن قاذف جماعة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين فمن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حد واحد فقد خالف الآية
وأما السنة فما روى عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بشريك بن سحماء فقال النبي عليه السلام ( لا البينة أو حد في ظهرك ) فلم يوجب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على هلال إلا حداً واحداً مع قذفه لإمرأته ولشريك بن سحماء إلى أن نزلت آية اللعان فأقيم اللعان في الزوجات مقام الحد في الأجنبيات
وأما القياس فهو أن سائر ما يوجب الحد إذا وجد منه مراراً لم يجب إلا حد واحد كمن زنى مراراً أو شرب مراراً أو سرق مراراً فكذا ههنا والمعنى الجامع دفع مزيد الضرر والجواب عن الأول أن قوله وَالَّذِينَ صيغة جمع وقوله الْمُحْصَنَاتِ صيغة جمع والجمع إذا قوبل بالجمع يقابل الفرد بالفرد فيصير المعنى كل من رمى محصناً واحداً وجب عليه الجد وعند ذلك يظهر وجه تمسك الشافعي رحمه الله بالآية ولأن قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ فَاجْلِدُوهُمْ يدل على ترتيب الجلد على رمي المحصنات وترتيب الحكم على الوصف لا سيما إذا كان مناسباً فإنه مشعر بالعلية فدلت الآية على أن رمي المحصن من حيث إنه هذا المسمى يوجب الجلد إذا ثبت هذا فنقول إذا قذف واحداً صار ذلك القذف موجباً للحد فإذا قذف الثاني وجب أن يكون القذف الثاني موجباً للحد أيضاً ثم موجب القذف الثاني لا يجوز أن يكون هو الحد الأول لأن ذلك قد وجب بالقذف الأول وإيجاب الواجب محال فوجب أن يحد بالقذف الثاني حداً ثانياً أقصى ما في الباب أن يورد على هذه الدلالة حدود الزنا لكنا نقول ترك العمل هناك بهذا الدليل لأن حد الزنا أغلظ من حد القذف وعند ظهور الفارق يتعذر الجمع
وأما السنة فلا دلالة فيها على هذه المسألة لأن قذفهما بلفظ واحد ولنا في هذه المسألة تفصيل سيأتي إن شاء

وأما القياس ففاسد لأن حد القذف حق الآدمي بدليل أنه لا يحد إلا بمطالبة المقذوف وحقوق الآدمي لا تتداخل بخلاف حد الزنا فإنه حق الله تعالى هذا كله إذا قذف جماعة كل واحد منهم بكلمة على حدة أما إذا قذفهم بكلمة واحدة فقال أنتم زناة أو زنيتم ففيه قولان أصحهما وهو قوله في ( الجديد ) يجب لكل واحد حد كامل لأنه من حقوق العباد فلا يتداخل ولأنه أدخل على كل واحد منهم معرة فصار كما لو قذفهم بكلمات وفي ( القديم ) لا يجب للكل إلا حد واحد اعتباراً باللفظ فإن اللفظ واحد والأول أصح لأنه أوفق لمفهوم الآية فعلى هذا لو قال لرجل يا ابن الزانيين يكون قذفاً لأبويه بكلمة واحدة فعليه حدان
المسألة الثالثة فيما يبيح القذف القذف ينقسم إلى محظور ومباح وواجب وجملة الكلام أنه إذا لم يكن ثم ولد يريد نفيه فلا يجب وهل يباح أم لا ينظر إن رآها بعينه تزني أو أقرت هي على نفسها ووقع في قلبه صدقها أو سمع ممن يثق بقوله أو لم يسمع لكنه استفاض فيما بين الناس أن فلاناً يزني بفلانة وقد رآه الزوج يخرج من بيتها أو رآه معها في بيت فإنه يباح له القذف لتأكد التهمة ويجوز أن يمسكها ويستر عليها
لما روي ( أن رجلاً قال يا رسول الله إن لي امرأة لا ترد يد لامس قال طلقها قال إني أحبها قال فأمسكها ) أما إذا سمعه ممن لا يوثق بقوله أو استفاض من بين الناس ولكن الزوج لم يره معها أو بالعكس لم يحل له قذفها لأنه قد يذكره من لا يكون ثقة فينتشر ويدخل بيتها خوفاً من قاصد أو لسرقة أو لطلب فجور فتأبى المرأة قال الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ جَاءوا بِالإفْكِ عُصْبَة ٌ مّنْكُمْ ( النور 11 ) أما إذا كان ثم ولد يريد نفيه نظر فإن تيقن أنه ليس منه بأن لم يكن وطئها الزوج أو وطئها لكنها أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت الوطء أو لأكثر من أربع سنين يجب عليه نفيه باللعان لأنه ممنوع من استلحاق نسب الغير كما هو ممنوع من نفي نسبه لما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولم يدخلها الله جنته ) فلما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم كان الرجل أيضاً كذلك أما إن احتمل أن يكون منه بأن أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الوطء ولدون أربع سنين نظر إن لم يكن قد استبرأها بحيضة أو استبرأها وأتت به لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء لا يحل له القذف والنفي وإن اتهمها بالزنا قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين ) فإن استبرأها وأتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الاستبراء يباح له القذف والنفي والأولى أن لا يفعل لأنها قد ترى الدم على الحبل وإن أتت امرأته بولد لا يشبهه بأن كانا أبيضين فأتت به أسود نظر إن لم يكن يتهمها بالزنا فليس له نفيه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه ( أن رجلاً قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إن امرأتي ولدت غلاماً أسود فقال هل لك من إبل قال نعم قال ما ألوانها قال حمر قال فهل فيها أورق قال نعم قال فكيف ذاك قال نزعه عرق قال فلعل هذا نزعه عرق ) وإن كان يتهمها بزنا أو يتهمها برجل فأتت بولد يشبهه هل يباح له نفيه فيه وجهان أحدهما لا لأن العرق ينزع والثاني له ذلك لأن التهمة قد تأكدت بالشبهة
البحث الثاني في الرامي وفيه مسائل
المسألة الأولى إذا قذف الصبي أو المجنون امرأته أو أجنبياً فلا حد عليهما ولا لعان لا في الحال

ولا بعد البلوغ لقوله عليه الصلاة والسلام ( رفع القلم عن ثلاث ) ولكن يعزران للتأديب إن كان لهما تمييز فلو لم تتفق إقامة التعزير على الصبي حتى بلغ قال القفال يسقط التعزير لأنه كان للزجر عن إساءة الأدب وقد حدث زاجر أقوى وهو البلوغ
المسألة الثانية الأخرس إذا كانت له إشارة مفهومة أو كتابة معلومة وقذف بالإشارة أو بالكناية لزمه الحد وكذلك يصح لعانه بالإشارة والكناية وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه وقول الشافعي رحمه الله أقرب إلى ظاهر الآية لأن من كتب أو أشار إلى القذف فقد رمى المحصنة وألحق العار بها فوجب اندراجه تحت الظاهر ولأنا نقيس قذفه ولعانه على سائر الأحكام
المسألة الثالثة اختلفوا فيما إذا قذف العبد حراً فقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر وعثمان القن عليه أربعون جلدة روى الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه أن علياً عليه السلام قال ( يجلد العبد في القذف أربعين ) وعن عبدالله بن عمر أنه قال ( أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء وكلهم يضربون المملوك في القذف أربعين ) وقال الأوزاعي يجلد ثمانين وهو مروي عن ابن مسعود وروي أنه جلد عمر بن عبد العزيز العبد في الفرية ثمانين ومدار المسألة على حرف واحد وهو أن هذه الآية صريحة في إيجاب الثمانين فمن رد هذا الحد إلى أربعين فطريقه أن الله تعالى قال فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة ٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ( النساء 25 ) فنص على أن حد الأمة في الزنا نصف حد الحرة ثم قاسوا العبد على الأمة في تنصيف حد الزنا ثم قاسوا تنصيف حد قذف العبد على تنصيف حد الزنا في حقه فرجع حاصل الأمر إلى تخصيص عموم الكتاب بهذا القياس
المسألة الرابعة اتفقوا على دخول الكافر تحت عموم قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ لأن الاسم يتناوله ولا مانع فاليهودي إذا قذف المسلم يجلد ثمانين والله أعلم
البحث الثالث في المرمى وهي المحصنة قال أبو مسلم اسم الإحصان يقع على المتزوجة وعلى العفيفة وإن لم تتزوج لقوله تعالى في مريم وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ( الأنبياء 91 ) وهو مأخوذ من منع الفرج فإذا تزوجت منعته إلا من زوجها وغير المتزوجة تمنعه كل أحد ويتفرع عليه مسائل
المسألة الأولى ظاهر الآية يتناول جميع العفائف سواء كانت مسلمة أو كافرة وسواء كانت حرة أو رقيقة إلا أن الفقهاء قالوا شرائط الإحصان خمسة الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنا وإنما اعتبرنا الإسلام لقوله عليه السلام ( من أشرك بالله فليس بمحصن ) وإنما اعتبرنا العقل والبلوغ لقوله عليه السلام ( رفع القلم عن ثلاث ) وإنما اعتبرنا الحرية لأن العبد ناقص الدرجة فلا يعظم عليه التعيير بالزنا وإنما اعتبرنا العفة عن الزنا لأن الحد مشروع لتكذيب القاذف فإذا كان المقذوف زانياً فالقاذف صادق في القذف وكذلك إذا كان المقذوف وطىء امرأة بشبهة أو نكاح فاسد لأن فيه شبهة الزنا كما فيه شبهة الحل فكما أن إحدى الشبهتين أسقطت الحد عن الواطىء فكذا الأخرى تسقطه عن قاذفه أيضاً ثم نقول من قذف كافراً أو مجنوناً أو صبياً أو مملوكاً أو من قد رمى امرأة فلا حد عليه بل يعزر للأذى حتى لو زنى في عنفوان شبابه مرة ثم تاب وحسن حاله وشاخ في الصلاح لا يحد قاذفه وكذلك لو زنى كافر أو رقيق ثم أسلم وعتق وصلح حاله فقذفه قاذف لا حد عليه بخلاف ما لو زنى في حال صغره أو جنونه ثم بلغ أو أفاق فقذفه

قاذف يحد لأن فعل الصبي والمجنون لا يكون زناً ولو قذف محصناً فقبل أن يحد القاذف زنا المقذوف سقط الحد عن قاذفه لأن صدور الزنا يورث ريبة في حالة فيما مضى لأن الله تعالى كريم لا يهتك ستر عبده في أول ما يرتكب المعصية فبظهوره يعلم أنه كان متصفاً به من قبل روي أن رجلاً زنى في عهد عمر فقال والله ما زنيت إلا هذه فقال عمر كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة وقال المزني وأبو ثور الزنا الطارىء لا يسقط الحد عن القاذف
المسألة الثانية قال الحسن البصري قوله وَالَّذِينَ يَرَوْنَ الْمُحْصَنَاتِ يقع على الرجال والنساء وسائر العلماء أنكروا ذلك لأن لفظ المحصنات جمع لمؤنث فلا يتناول الرجال بل الإجماع دل على أنه لا فرق في هذا الباب بين المحصنين والمحصنات
المسألة الثالثة رمي غير المحصنات لا يوجب الحد بل يوجب التعزير إلا أن يكون المقذوف معروفاً بما قذف به فلا حد هناك ولا تعزير فهذا مجموع الكلام في تفسير قوله سبحانه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
أما قوله سبحانه ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء ففيه بحثان
البحث الأول اعلم أن الله تعالى حكم في القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء بثلاثة أحكام أحدها جلد ثمانين وثانيها بطلان الشهادة وثالثها الحكم بفسقه إلى أن يتوب واختلف أهل العلم في كيفية ثبوت هذه الأحكام بعد اتفاقهم على وجوب الحد عليه بنفس القذف عند عجزه عن إقامة البينة على الزنا فقال قائلون قد بطلت شهادته ولزمه سمة الفسق قبل إقامة الحد عليه وهو قول الشافعي والليث بن سعد وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر شهادته مقبولة ما لم يحد قال أبو بكر الرازي وهذا مقتضى قولهم إنه غير موسوم بسمة الفسق ما لم يقع به الحد لأنه لو لزمته سمة الفسق لما جازت شهادته إذ كانت سمة الفسق مبطلة لشهادة من وسم بها ثم احتج أبو بكر على صحة قول أبي حنيفة رحمه الله بأمور أحدها قوله سبحانه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة ً ظاهر الآية يقتضي ترتب وجوب الحد على مجموع القذف والعجز عن إقامة الشهادة فلو علقنا هذا الحكم على القذف وحده قدح ذلك في كونه معلقاً على الأمرين وذلك بخلاف الآية وأيضاً فوجوب الجلد حكم مرتب على مجموع أمرين فوجب أن لا يحصل بمجرد حصول أحدهما كما لو قال لامرأته إن دخلت الدار وكلمت فلاناً فأنت طالق فأتت بأحد الأمرين دون الآخر لم يوجد الجزاء فكذا ههنا وثانيها أن القاذف لا يحكم عليه بالكذب بمجرد قذفه وإذا كان كذلك وجب أن لا ترد شهادته بمجرد القذف بيان الأول من ثلاثة أوجه الأول أن مجرد قذفه لو أوجب كونه كاذباً لوجب أن لا تقبل بعد ذلك بينته على الزنا إذ قد وقع الحكم بكذبه والحكم بكذبه في قذفه حكم ببطلان شهادة من شهد بصدقه في كون المقذوف زانياً ولما أجمعوا على قبول بينته ثبت أنه لم يحكم عليه بالكذب بمجرد قذفه الثاني أن قاذف امرأته بالزنا لا يحكم بكذبه بنفس قذفه وإلا لما جاز إيجاب اللعان بينه وبين امرأته ولما أمر بأن يشهد بالله أنه لصادق فيما رماها به من الزنا مع الحكم بكذبه ولما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعدما لاعن بين الزوجين ( الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ) فأخبر أن أحدهما بغير تعيين هو الكاذب ولم يحكم بكذب القاذف وفي ذلك دليل على أن

نفس القذف لا يوجب كونه كاذباً الثالث قوله تعالى لَّوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( النور 13 ) فلم يحكم بكذبهم بنفس القذف فقط فثبت بهذه الوجوه أن القاذف غير محكوم عليه بكونه كاذباً بمجرد القذف وإذا كان كذلك وجب أن لا تبطل شهادته بمجرد القذف لأنه كان عدلاً ثقة والصادر عنه غير معارض ولما كان يجب أن يبقى على عدالته فوجب أن يكون مقبول الشهادة وثالثها قوله عليه الصلاة والسلام ( المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدوداً في قذف ) أخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ببقاء عدالة القاذف ما لم يحد ورابعها ما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة هلال بن أمية لما قذف امرأته عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال رسول الله ( يجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين ) فأخبر أن بطلان شهادته متعلق بوقوع الجلد به وذلك يدل على أن مجرد القذف لا يبطل الشهادة وخامسها أن الشافعي رحمه الله زعم أن شهود القذف إذا جاءوا متفرقين قبلت شهادتهم فإن كان القذف قد أبطل شهادته فواجب أن لا يقبلها بعد ذلك وإن شهد معه ثلاثة لأنه قد فسق بقذفه ووجب الحكم بكذبه وفي قبول شهادتهم إذا جاءوا متفرقين ما يلزمه أن لا تبطل شهادتهم بنفس القذف وأما وجه قول الشافعي رحمه الله فهو أن الله تعالى رتب على القذف مع عدم الإتيان بالشهداء الأربعة أموراً ثلاثة معطوفاً بعضها على بعض بحرف الواو وحرف الواو لا يقتضي الترتيب فوجب أن لا يكون بعضها مرتباً على البعض فوجب أن لا يكون رد الشهادة مرتباً على إقامة الحد بل يجب أن يثبت رد الشهادة سواء أقيم الحد عليه أو ما أقيم والله أعلم
البحث الثاني في كيفية الشهادة على الزنا قال الله تعالى وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعة ً مّنْكُمْ ( النساء 15 ) وقال تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء وقال سعد بن عبادة ( يا رسول الله أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء قال نعم ) ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى الإقرار بالزنا هل يثبت بشهادة رجلين فيه قولان أحدهما لا يثبت إلا بأربعة كفعل الزنا والثاني يثبت بخلاف فعل الزنا لأن الفعل يغمض الاطلاع عليه فاحتيط فيه باشتراط الأربع والإقرار أمر ظاهر فلا يغمض الإطلاع عليه
المسألة الثانية إذا شهدوا على فعل الزنا يجب أن يذكروا الزاني ومن زنى بها لأنه قد يراه على جارية له فيظن أنها أجنبية ويجب أن يشهدوا أنا رأينا ذكره يدخل في فرجها دخول الميل في المكحلة فلو شهدوا مطلقاً أنه زنى لا يثبت لأنهم ربما يرون المفاخذة زنا بخلاف ما لو قذف إنساناً فقال زنيت يجب الحد ولا يستفسر ولو أقر على نفسه بالزنا هل يشترط أن يستفسر فيه وجهان أحدهما نعم كالشهود والثاني لا يجب كما في القذف
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله لا فرق بين أن يجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا شهدوا متفرقين لا يثبت وعليهم حد القذف حجة الشافعي رحمه الله من وجوه الأول أن الإتيان بأربعة شهداء قدر مشترك بين الإتيان بهم مجتمعين أو متفرقين واللفظ الدال على ما به الاشتراك لا إشعار له بما به الامتياز فالآتي بهم متفرقين يكون عاملا بالنص فوجب أن يخرج عن العهدة الثاني كل

حكم يثبت بشهادة الشهود إذا جاءوا مجتمعين يثبت إذا جاءوا متفرقين كسائر الأحكام بل هذا أولى لأنهم إذا جاءوا متفرقين كان أبعد عن التهمة وعن أن يتلقن بعضهم من بعض فلذلك قلنا إذا وقعت ريبة للقاضي في شهادة الشهود فرقهم ليظهر على عورة إن كانت في شهادتهم الثالث أنه لا يشترط أن يشهدوا معاً في حالة واحدة بل إذا اجتمعوا عند القاضي وكان يقدم واحد بعد آخر ويشهد فإنه تقبل شهادتهم فكذا إذا اجتمعوا على بابه ثم كان يدخل واحد بعد واحد حجة أبي حنيفة رحمه الله من وجهين الأول أن الشاهد الواحد لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة من الشهداء فوجب عليه الحد لقوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء أقصى ما في الباب أنهم عبروا عن ذلك القذف بلفظ الشهادة وذلك لا عبرة به لأنه يؤدي إلى إسقاط حد القذف رأساً لأن كل قاذف لا يعجزه لفظ الشهادة فيجعل ذلك وسيلة إلى إسقاط الحد عن نفسه ويحصل مقصوده من القذف الثاني ما روي ( أن المغيرة بن شعبة شهد عليه بالزنا عند عمر بن الخطاب أربعة أبو بكرة ونافع ونفيع وقال زياد وكان رابعهم رأيت إستاً تنبو ونفساً يعلو ورجلاها على عاتقه كأذني حمار ولا أدري ما وراء ذلك فجلد عمر الثلاثة ولم يسأل هل معهم شاهد آخر ) فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف لأن الحدود مما يتوقف فيها ويحتاط
المسألة الرابعة لو شهد على الزنا أقل من أربعة لا يثبت الزنا وهل يجب حد القذف على الشهود فيه قولان أحدهما لا يجب لأنهم جاءوا مجيء الشهود ولأنا لو حددنا لانسد باب الشهادة على الزنا لأن كل واحد لا يأمن أن لا يوافقه صاحبه فيلزمه الحد والقول الثاني وهو الأصح وبه قال أبو حنيفة رحمه الله يجب عليهم الحد والدليل عليه الوجهان اللذان ذكرناهما في المسألة الثالثة
المسألة الخامسة إذا قذف رجل رجلاً فجاء بأربعة فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا قال أبو حنيفة رحمه الله يسقط الحد عن القاذف ولا يجب الحد على الشهود وقال الشافعي رحمه الله في أحد قوليه يحدون وجه قول أبي حنيفة قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء وهذا قد أتى بأربعة شهداء فلا يلزمه الحد ولأن الفاسق من أهل الشهادة وقد وجدت شرائط شهادة الزنا من اجتماعهم عند القاضي إلا أنه لم تقبل شهادتهم لأجل التهمة فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحد عن المشهود عليه فكذلك وجب اعتبارها في نفي الحد عنهم ووجه قول الشافعي رحمه الله أنهم غير موصوفين بالشرائط المعتبرة في قبول الشهادة فخرجوا عن أن يكونوا شاهدين فبقوا محض القاذفين وههنا آخر الكلام في تفسير قوله تعالى ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء
أما قوله تعالى فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة ً ففيه مسائل
المسألة الأولى المخاطب بقوله فَاجْلِدُوهُمْ هو الإمام على ما بيناه في آية الزنا أو المالك على مذهب الشافعي أو رجل صالح ينصبه الناس عند فقد الإمام
المسألة الثانية خص من عموم هذه الآية صور أحدها الوالد يقذف ولده أو أحداً من نوافله فلا يجب عليه الحد كما لا يجب عليه القصاص بقتله الثانية القاذف إذا كان عبداً فالواجب جلد أربعين وكذا المكاتب وأم الولد ومن بعضه حر وبعضه رقيق فحدهم حد العبيد الثالثة من قذف رقيقة عفيفة أو من زنت في قديم الأيام ثم تابت فهي بموجب اللغة محصنة ومع ذلك لا يجب الحد بقذفها

المسألة الثالثة قالوا أشد الضرب في الحدود ضرب الزنا ثم ضرب شرب الخمر ثم ضرب القاذف لأن سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب إلا أنه عوقب صيانة للأعراض وزجراً عن هتكها
المسألة الرابعة قال مالك والشافعي حد القذف يورث فإذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد وقبل العفو يثبت لوارثه حد القذف وكذلك إذا كان الواجب بقذفه التعزير فإنه يورث عنه وكذا لو أنشأ القذف بعد موت المقذوف ثبت لوارثه طلب الحد وعند أبي حنيفة رحمه الله حد القذف لا يورث ويسقط بالموت حجة الشافعي رحمه الله أن حد القذف هو حق الآدمي لأنه يسقط بعفوه ولا يستوفي إلا بطلبه ويحلف فيه المدعى عليه إذا أنكر وإذا كان حق الآدمي وجب أن يورث لقوله عليه السلام ( ومن ترك حقاً فلورثته ) حجة أبي حنيفة رحمه الله أنه لو كان موروثاً لكان للزوج أو الزوجة فيه نصيب ولأنه حق ليس فيه معنى المال والوثيقة فلا يورث كالوكالة والمضاربة والجواب عن الأول أن الأصح عند الشافعية أنه يرثه جميع الورثة كالمال وفيه وجه ثان أنه يرثه كلهم إلا الزوج والزوجة لأن الزوجية ترتفع بالموت ولأن المقصود من الحد دفع العار عن النسب وذلك لا يلحق الزوج والزوجة
المسألة الخامسة إذا قدف إنسان إنساناً بين يدي الحاكم أو قذف امرأته برجل بعينه والرجل غائب فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلاناً قذفك وثبت لك حد القذف عليه كما لو ثبت له مال على آخر وهو لا يعلمه يلزمه إعلامه وعلى هذا المعنى ( بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنيساً ليخبرها بأن فلاناً قذفها بابنه ولم يبعثه ليتفحص عن زناها ) قال الشافعي رحمه الله وليس للإمام إذا رمى رجل بزنا أن يبعث إليه فيسأله عن ذلك لأن الله تعالى قال وَلاَ تَجَسَّسُواْ وأراد به إذا لم يكن القاذف معيناً مثل إن قال رجل بين يدي الحاكم الناس يقولون إن فلاناً زنى فلا يبعث الحاكم إليه فيسأله
أما قوله تعالى وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَة ً أَبَداً فاختلف الفقهاء فيه فقال أكثر الصحابة والتابعين إنه إذا تاب قبلت شهادته وهو قول الشافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح رحمهم الله لا تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب وهذه المسألة مبنية على أن قوله إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ هل عاد إلى جميع الأحكام المذكورة أو اختص بالجملة الأخيرة فعند أبي حنيفة رحمه الله الاستثناء المذكور عقيب الجمل الكثيرة مختص بالجملة الأخيرة وعند الشافعي رحمه الله يرجع إلى الكل وهذه المسألة قد لخصناها في أصول الفقه ونذكر ههنا ما يليق بهذا الموضع إن شاء الله تعالى احتج الشافعي رحمه الله على أن شهادته مقبولة بوجوه أحدها قوله عليه السلام ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) ومن لا ذنب له مقبول الشهادة فالتائب يجب أن يكون أيضاً مقبول الشهادة وثانيها أن الكافر يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالإجماع فالقاذف المسلم إذا تاب عن القذف وجب أن تقبل شهادته لأن القذف مع الإسلام أهون حالاً من القذف مع الكفر فإن قيل المسلمون لا يألمون بسب الكفار لأنهم شهروا بعداوتهم والطعن فيهم بالباطل فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنآن ما يلحقه بقذف مسلم مثله فشدد على القاذف من المسلمين زجراً عن إلحاق العار والشنآن وأيضاً فالتائب من الكفر لا يجب عليه الحد والتائب من القذف لا يسقط عنه الحد قلا هذا الفرق ملغى بقوله عليه السلام ( أنبئهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على

المسلمين ) وثالثها أجمعنا على أن التائب عن الكفر والقتل والزنا مقبول الشهادة فكذا التائب عن القذف لأن هذه الكبيرة ليست أكبر من نفس الزنا ورابعها أن أبا حنيفة رحمه الله يقبل شهادته إذ تاب قبل الحد مع أن الحد حق المقذوف فلا يزول بالتوبة فلأن تقبل شهادته إذا تاب بعد إقامة الحد وقد حسنت حالته وزال اسم الفسق عنه كان أولى وخامسها أن قوله إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ استثناء مذكور عقيب جمل فوجب عوده إليها بأسرها ويدل عليه أمور أحدها أجمعنا على أنه لو قال عبده حر وامرأته طالق إن شاء الله فإنه يرجع الاستثناء إلى الجميع فكذا فيما نحن فيه فإن قيل الفرق أن قوله إِن شَاء اللَّهُ ( يوسف 99 ) يدخل لرفع حكم الكلام حتى لا يثبت فيه شيء والاستثناء المذكور بحرف الاستثناء لا يجوز دخوله لرفع حكم الكلام رأساً ألا ترى أنه يجوز أن يقول أنت طالق إن شاء الله فلا يقع شيء ولو قال أنت طالق إلا طلاقاً كان الطلاق واقعاً والاستثناء باطلاً لاستحالة دخوله لرفع حكم الكلام بالكلية فثبت أنه لا يلزم من رجوع قوله إِن شَاء اللَّهُ إلى جميع ما تقدم صحة رجوع الاستثناء بحرفه إلى جميع ما تقدم قلنا هذا فرق في غير محل الجمع لأن إن شاء الله جاز دخوله لرفع حكم الكلام بالكلية فلا جرم جاز رجوعه إلى جميع الجمل المذكورة وإلا جاز دخوله لرفع بعض الكلام فوجب جواز رجوعه إلى جميع الجمل على هذا الوجه حتى يقتضي أن يخرج من كل واحد من الجمل المذكورة بعضه وثانيها أن الواو للجمع المطلق فقوله فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة ً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَة ً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ صار الجمع كأنه ذكر معاً لا تقدم للبعض على البعض فلما دخل عليه الاستثناء لم يكن رجوع الاستثناء إلى بعضها أولى من رجوعه إلى الباقي إذ لم يكن لبعضها على بعض تقدم في المعنى ألبتة فوجب رجوعه إلى الكل ونظيره على قول أبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ( المائدة 6 ) فإن فاء التعقيب ما دخلت على غسل الوجه بل على مجموع هذه الأمور من حيث إن الواو لا تفيد الترتيب فكذا ههنا كلمة إلا ما دخلت على واحد بعينه لأن حرف الواو لا يفيد الترتيب بل دخلت على المجموع فإن قيل الواو قد تكون للجمع على ما ذكرت وقد تكون للاستئناف وهي في قوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لأنها إنما تكون للجمع فيما لا يختلف معناه ونظمه جملة واحدة فيصير الكل كالمذكور معاً مثل آية الوضوء فإن الكل أمر واحد كأنه قال فاغسلوا هذه الأعضاء فإن الكل قد تضمنه لفظ الأمر وأما آية القذف فإن ابتداءها أمر وآخرها خبر فلا يجوز أن ينظمهما جملة واحدة وكان الواو للاستئناف فيختص الاستثناء به قلنا لم لا يجوز أن نجعل الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط كأنه قيل ومن قذف المحصنات فاجلدوهم وردوا شهادتهم وفسقوهم أي فاجمعوا لهم الجلد والرد والفسق إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله يغفر لهم فينقبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين وثالثها أن قوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ عقيب قوله وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَة ً أَبَداً يدل على أن العلة في عدم قبول تلك الشهادة كونه فاسقاً لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية لا سيما إذا كان الوصف مناسباً وكونه فاسقاً يناسب أن لا يكون مقبول الشهادة إذا ثبت أن العلة لرد الشهادة ليست إلا كونه فاسقاً ودل الاستثناء على زوال الفسق فقد زالت العلة فوجب أن يزول الحكم لزوال العلة ورابعها أن مثل هذا الاستثناء موجود في القرآن قال الله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى قوله إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ( البقرة 160 ) ولا خلاف أن هذا الاستثناء راجع إلى ما تقدم من أول الآية وأن التوبة حاصلة لهؤلاء جميعاً وكذلك قوله لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66