كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

المسألة السابعة ألان الله له الحديد حتى كان في يده كالشمع وهو في قدرة الله يسير فإنه يلين بالنار وينحل حتى يصير كالمداد الذي يكتب به فأي عاقل يستبعد ذلك من قدرة الله قيل إنه طلب من الله أن يغنيه عن أكل مال بيت المال فألان له الحديد وعلمه صنعة اللبوس وهي الدروع وإنما اختار الله له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره وسعى في حفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل فالزراد خير من القواس والسياف وغيرهما
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
قيل إن أن ههنا للتفسير فهي مفسرة بمعنى أي اعمل سابغات وهو تفسير ألنا وتحقيقه لأن يعمل يعني ألنا له الحديد ليعمل سابغات ويمكن أن يقال ألهمناه أن اعمل وأن مع الفعل المستقبل للمصدر فيكون معناه ألنا له الحديد وألهمناه عمل سابغات وهي الدروع الواسعة ذكر الصفة ويعلم منها الموصوف وقدر في السرد قال المفسرون أي لا تغلظ المسامير فيتسع الثقب ولا توسع الثقب فتقلقل المسامير فيها ويحتمل أن يقال السرد هو عمل الزرد وقوله سَابِغَاتٍ وَقَدّرْ فِى السَّرْدِ أي الزرد إشارة إلى أنه غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب والكسب يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب ويدل عليه قوله تعالى وَاعْمَلُواْ صَالِحاً أي لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه والكسب قدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وقد ذكرنا مراراً أن من يعمل لملك شغلاً ويعلم أنه بمرأى من الملك يحسن العمل ويتقنه ويجتهد فيه ثم لما ذكر المنيب الواحد ذكر منيباً آخر وهو سليمان كما قال تعالى وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ ( ص 34 )
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ
وذكر ما استفاد هو بالإنابة فقال وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ وَمَن وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ بالرفع وبالنصب وجه الرفع وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ مسخرة أو سخرت لِسْلَيْمَانَ الرّيحَ ووجه النصب وَلِسُلَيْمَانَ سخرنا الرّيحَ وللرفع وجه آخر وهو أن يقال معناه وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ كما يقال لزيد الدار وذلك لأن الريح كانت له كالمملوك المختص به يأمرها بما يريد حيث يريد
المسألة الثانية الواو للعطف فعلى قراءة الرفع يصير عطفاً لجملة إسمية على جملة فعلية وهو لا يجوز أولا يحسن فكيف هذا فنقول لما بين حال داود كأنه تعالى قال ما ذكرنا لداود ولسليمان الريح وأما على

النصب فعلى قولنا وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ كأنه قال وألنا لداود الحديد وسخرنا لسليمان الريح
المسألة الثالثة المسخر لسليمان كانت ريحاً مخصوصة لا هذه الرياح فإنها المنافع عامة في أوقات الحاجات ويدل عليه أنه لم يقرأ إلا على التوحيد فما قرأ أحد الرياح
المسألة الرابعة قال بعض الناس المراد من تسخير الجبال وتسبيحها مع داود أنها كانت تسبح كما يسبح كل شيء وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وكان هو عليه السلام يفقه تسبيحها فيسبح ومن تسخير الريح أنه راض الخيل وهي كالريح وقوله غُدُوُّهَا شَهْرٌ ثلاثون فرسخاً لأن من يخرج للتفرج في أكثر الأمر لا يسير أكثر من فرسخ ويرجع كذلك وقوله في حق داود وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وقوله في حق سليمان وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أنهم استخرجوا تذويب الحديد والنحاس بالنار واستعمال الآلات منهما والشياطين أي أناساً أقوياء وهذا كله فاسد حمله على هذا ضعف اعتقاده ( و ) عدم اعتماده على قدرة الله والله قادر على كل ممكن وهذه أشياء ممكنة
المسألة الخامسة أقول قوله تعالى وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالُ ( الأنبياء 79 ) وقوله وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَة ً لو قال قائل ما الحكمة في أن الله تعالى قال في الأنبياء وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالُ وفي هذه السورة قال فَضْلاً ياجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ ( سبأ 10 ) وقال في الريح هناك وههنا وَلِسُلَيْمَانَ تقول الجبال لما سبحت شرفت بذكر الله فلم يضفها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحف والريح لم يذكر فيها أنها سبحت فجعلها كالمملوكة له وهذا حسن وفيه أمر آخر معقول يظهر لي وهو أن على قولنا أَوّبِى مَعَهُ سيري فالجبل في السير ليس أصلاً بل هو يتحرك معه تبعاً والريح لا تتحرك معه سليمان بل تحرك سليمان مع نفسها فلم يقل الريح مع سليمان بل سليمان كان مع الريح وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي النحاس وَمِنَ الْجِنّ أي سخرنا له من الجن وهذا ينبىء عن أن جميعهم ما كانوا تحت أمره وهو الظاهر
واعلم أن الله تعالى ذكر ثلاثة أشياء في حق داود وثلاثة في حق سليمان عليهما الصلاة والسلام فالجبال المسخرة لداود من جنس تسخير الريح لسليمان وذلك لأن الثقيل مع ما هو أخف منه إذا تحركا يسبق الخفيف الثقيل ويبقى الثقيل مكانه لكن الجبال كانت أثقل من الآدمي والآدمي أثقل من الريح فقدر الله أن سار الثقيل مع الخفيف أي الجبال مع داود على ما قلنا أَوّبِى أي سيري وسليمان وجنوده مع الريح الثقيل مع الخفيف أيضاً والطير من جنس تسخير الجن لأنهما لا يجتمعان مع الإنسان الطير لنفوره من الإنس والإنس لنفوره من الجن فإن الإنسان يتقي مواضع الجن والجن يطلب أبداً اصطياد الإنسان والإنسان يطلب اصطياد الطير فقدر الله أن صار الطير لا ينفر من داود بل يستأنس به ويطلبه وسليمان لا ينفر من الجن بل يسخره ويستخدمه وأما القطر والحديد فتجاذبهما غير خفي وههنا لطيفة وهي أن الآدمي ينبغي أن يتقي الجن ويجتنبه والاجتماع به يفضي إلى المفسدة ولهذا قال تعالى أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ ( المؤمنون 97 98 ) فكيف طلب سليمان الاجتماع بهم فنقول قوله تعالى مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ إشارة إلى أن ذلك الحضور لم يكن فيه مفسدة ولطيفة أخرى وهي أن الله تعالى قال ههنا بِإِذْنِ رَبّهِ بلفظ الرب وقال وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا ولم يقل عن أمر ربه وذلك لأن الرب لفظ ينبىء عن الرحمة فعندما كانت الإشارة إلى حفظ سليمان عليه السلام قال رَبَّهُ وعندما كانت الإشارة إلى

تعذيبهم قال عَنْ أَمْرِنَا بلفظ التعظيم الموجب لزيادة الخوف وقوله تعالى نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ فيه وجهان أحدهما أن الملائكة كانوا موكلين بهم وبأيديهم مقارع من نار فالإشارة إليه وثانيهما أن السعير هو ما يكون في الآخرة فأوعدهم بما في الآخرة من العذاب
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ
المحاريب إشارة إلى الأبنية الرفيعة ولهذا قال تعالى إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ والتماثيل ما يكون فيها من النقوش ثم لما ذكر البناء الذي هو المسكن بين ما يكون في المسكن من ماعون الأكل فقال وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ جمع جابية وهي الحوض الكبير الذي يجبي الماء أي يجمعه وقيل كان يجتمع على جفنة واحدة ألف نفس وَقُدُورٍ رسِيَاتٍ ثابتات لا تنقل لكبرها وإنما يغرف منها في تلك الجفان وفيه مسائل
المسألة الأولى قدم المحاريب على التماثيل لأن النقوش تكون في الأبنية وقدم الجفان في الذكر على القدور مع أن القدور آلة الطبخ والجفان آلة الأكل والطبخ قبل الأكل فنقول لما بين الأبنية الملكية أراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيه وأما القدور فلا تكون فيه ولا تحضر هناك ولهذا قال وَقُدُورٍ رسِيَاتٍ أي غير منقولات ثم لما بين حال الجفان العظيمة كان يقع في النفس أن الطعام الذي يكون فيها في أي شيء يطبخ فأشار إلى القدور المناسبة للجفان
المسألة الثانية ذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب وفي حق سليمان بحالة السلم وهي المساكن والمآكل وذلك لأن سليمان كان ولد داود وداود قتل جالوت والملوك الجبابرة واستوى داود على الملك فكان سليمان كولد ملك يكون أبوه قد سوى على ابنه الملك وجمع له المال فهو يفرقه على جنوده ولأن سليمان لم يقدر أحد عليه في ظنه فتركوا الحرب معه وإن حاربه أحد كان زمان الحرب يسيراً لإدراكه إياه بالريح فكان في زمانه العظمة بالإطعام والإنعام
المسألة الثالثة لما قال عقيب قوله تعالى أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ اعملوا صالحاً قال عقيب ما يعمله الجن اعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودُ شَاكِراً إشارة إلى ما ذكرنا أن هذه الأشياء حالية لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقة فيها وإنما الواجب الذي ينبغي أن يكثر منه هو العمل الصالح الذي يكون شكراً وفيه إشارة إلى عدم الالتفات إلى هذه الأشياء وقلة الاشتغال بها كما في قوله وَقَدّرْ فِى السَّرْدِ أي اجعله بقدر الحاجة
المسألة الرابعة انتصاب شكراً يحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن يكون مفعولاً له كقول القائل جئتك طمعاً وعبدت الله رجاء غفرانه وثانيها أن يكون مصدراً كقول القائل شكرت الله شكراً ويكون المصدر من غير لفظ الفعل كقول القائل جلست قعوداً وذلك لأن العمل شكر فقوله اعْمَلُواْ يقوم مقام قوله

اشكروا وثالثها أن يكون مفعولاً به كقولك اضرب زيداً كما قال تعالى الطَّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً ( المؤمنون 51 ) لأن الشكر صالح
المسألة الخامسة قوله وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ إشارة إلى أن الله خفف الأمر على عباده وذلك لأنه لما قال اعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودُ شَاكِراً فهم منه أن الشكر واجب لكن شكر نعمه كما ينبغي لا يمكن لأن الشكر بالتوفيق وهو نعمة تحتاج إلى شكر آخر وهو بتوفيق آخر فدائماً تكون نعمة الله بعد الشكر خالية عن الشكر فقال تعالى إن كنتم لا تقدرون على الشكر التام فليس عليكم في ذلك حرج فإن عبادي قليل منهم الشكور ويقوي قولنا أنه تعالى أدخل الكل في قوله عِبَادِى مع الإضافة إلى نفسه وعبادي بلفظ الإضافة إلى نفس المتكلم لم ترد في القرآن إلا في حق الناجين كقوله تعالى قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَة ِ اللَّهِ ( الزمر 53 ) وقوله إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الإسراء 65 ) فإن قيل على ما ذكرتم شكر الله بتمامه لا يمكن وقوله قَلِيلٌ يدل على أن في عباده من هو شاكر لأنعمه نقول الشكر بقدر الطاقة البشرية هو الواقع وقليل فاعله وأما الشكر الذي يناسب نعم الله فلا قدرة عليه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها أو نقول الشاكر التام ليس إلا من رضي الله عنه وقال له يا عبدي ما أتيت به من الشكر القليل قبلته منك وكتبت لك أنك شاكر لأنعمي بأسرها وهذا القبول نعمة عظيمة لا أكلفك شكرها
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّة ُ الأرض تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ
لما بين عظمة سليمان وتسخير الريح والروح له بين أنه لم ينج من الموت وأنه قضى عليه الموت تنبيهاً للخلق على أن الموت لا بد منه ولو نجا منه أحد لكان سليمان أولى بالنجاة منه وفيه مسائل
المسألة الأولى كان سليمان عليه السلام يقف في عبادة الله ليلة كاملة ويوماً تاماً وفي بعض الأوقات يزيد عليه وكان له عصا يتكىء عليها واقفاً بين يدي ربه ثم في بعض الأوقات كان واقفاً على عادته في عبادته إذ توفي فظن جنوده أنه في العبادة وبقي كذلك أياماً وتمادى شهوراً ثم أراد الله إظهار الأمر لهم فقدر أن أكلت دابة الأرض عصاه فوقع وعلم حاله
وقوله تعالى فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ كانت الجن تعلم ما لا يعلمه الإنسان فظن أن ذلك القدر علم الغيب وليس كذلك بل الإنسان لم يؤت من العلم إلا قليلاً فهو أكثر الأشياء الحاضرة لا يعلمه والجن لم تعلم إلا الأشياء الظاهرة وإن كانت خفية بالنسبة إلى

الإنسان وتبين لهم الأمر بأنهم لا يعلمون الغيب إذ لو كانوا يعلمونه لما بقوا في الأعمال الشاقة ظانين أن سليمان حي وقوله مَا لَبِثُواْ فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ دليل على أن المؤمنين من الجن لم يكونوا في التسخير لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءَايَة ٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَة ٌ طَيِّبَة ٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ
ثم قال تعالى لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءايَة ٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَة ٌ طَيّبَة ٌ وَرَبٌّ
لما بين الله حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان بين حال الكافرين بأنعمه بحكاية أهل سبأ وفي سبأ قراءتان بالفتح على أنه اسم بقعة وبالجر مع التنوين على أنه اسم قبيلة وهو الأظهر لأن الله جعل الآية لسبأ والفاهم هو العاقل لا المكان فلا يحتاج إلى إضمار الأهل وقوله ءايَة ً أي من فضل ربهم ثم بينها بذكر بدله بقوله جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ قال الزمخشري أية آية في جنتين مع أن بعض بلاد العراق فيها آلاف من الجنان وأجاب بأن المراد لكل واحد جنتان أو عن يمين بلدهم وشمالها جماعتان من الجنات ولاتصال بعضها ببعض جعلها جنة واحدة قوله كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ إشارة إلى تكميل النعم عليهم حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض وقوله وَاشْكُرُواْ لَهُ بيان أيضاً لكمال النعمة فإن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة ثم لما بين حالهم في مساكنهم وبساتينهم وأكلهم أتم بيان النعمة بأن بين أن لا غائلة عليه ولا تبعة في المآل في الدنيا فقال بَلْدَة ٌ طَيّبَة ٌ أي طاهرة عن المؤذيات لا حية فيها ولا عقرب ولا وباء ولا وخم وقال وَرَبٌّ غَفُورٌ أي لا عقاب عليه ولا عذاب في الآخرة فعند هذا بان كمال النعمة حيث كانت لذة حالية خالية عن المفسد المآلية
فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى ْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَى ْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ
ثم إنه تعالى لما بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم فقال فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى ْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَى ْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ
فبين كمال ظلمهم بالإعراض بعض إبانة الآية كما قال تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايَاتِ رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ثم بين كيفية الانتقام منهم كما قال إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ ( السجدة 22 ) وكيفيته

أنه تعالى أرسل عليهم سيلاً غرق أموالهم وخرب دورهم وفي العرم وجوه أحدها أنه الجرذ الذي سبب خراب السكر وذلك من حيث إن بلقيس كانت قد عمدت إلى جبال بينها شعب فسدت الشعب حتى كانت مياه الأمطار والعيون تجتمع فيها وتصير كالبحر وجعلت لها أبواباً ثلاثة مرتبة بعضها فوق بعض وكانت الأبواب يفتح بعضها بعد بعض فنقب الجرذ السكر وخرب السكر بسببه وانقلب البحر عليهم وثانيها أن العرب اسم السكر وهو جمع العرمة وهي الحجارة ثالثها اسم للوادي الذي خرج منه الماء وقوله وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى ْ أُكُلٍ خَمْطٍ بين به دوام الخراب وذلك لأن البساتين التي فيها الناس يكون فيها الفواكه الطيبة بسبب العمارة فإذا تركت سنين تصير كالغيضة والأجمة تلتف الأشجار بعضها ببعض وتنبت المفسدات فيها فتقل الثمار وتكثر الأشجار والخمط كل شجرة لها شوك أو كل شجرة ثمرتها مرة أو كل شجرة ثمرتها لا تؤكل والأثل نوع من الطرفاء ولا يكون عليه ثمرة إلا في بعض الأوقات يكون عليه شيء كالعفص أو أصغر منه في طعمه وطبعه والسدر معروف وقال فيه قليل لأنه كان أحسن أشجارهم فقلله الله ثم بين الله أن ذلك كان مجازاة لهم على كفرانهم فقال ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ أي لا نجازي بذلك الجزاء نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ قال بعضهم المجازاة تقال في النقمة والجزاء في النعمة لكن قوله تعالى ذالِكَ جَزَيْنَاهُم يدل على أن الجزاء يستعمل في النقمة ولعل من قال ذلك أخذه من أن المجازاة مفاعلة وهي في أكثر الأمر تكون بين اثنين يأخذ من كل واحد جزاء في حق الآخر وفي النعمة لا تكون مجازاة لأن الله تعالى مبتدىء بالنعم
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَة ً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِى َ وَأَيَّاماً ءَامِنِينَ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
أي بينهم وبين الشام فإنها هي البقعة المباركة وقرى ظاهرة أي يظهر بعضها لبعضها يرى سواد القرية من القرية الأخرى فإن قال قائل هذا من النعم والله تعالى قد شرع في بيان تبديل نعمهم قوله وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ فكيف عاد مرة أخرى إلى بيان النعمة بعد النقمة فنقول ذكر حال نفس بلدهم وبين تبديل ذلك بالخمط والأثل ثم ذكر حال خارج بلدهم وذكر عمارتها بكثرة القرى ثم ذكر تبديله ذلك بالمفاوز والبيادي والبراري بقوله رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وقد فعل ذلك ويدل عليه قراءة من قرأ ربنا بعد على المبتدأ والخبر وقوله وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ الأماكن المعمورة تكون منازلها معلومة مقدرة لا تتجاوز فلما كان بين كل قرية مسيرة نصف نهار وكانوا يغدون إلى قرية ويروحون إلى أخرى ما أمكن في العرف تجاوزها فهو المراد بالتقدير والمفاوز لا يتقدر السير فيها بل يسير السائر فيها بقدر الطاقة جاداً حتى يقطعها

وقوله سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِى َ وَأَيَّاماً أي كان بينهم ليال وأيام معلومة وقوله ءامِنِينَ إشارة إلى كثرة العمارة فإن خوف قطاع الطريق والانقطاع عن الرقيق لا يكون في مثل هذه الأماكن وقيل بأن معنى قوله لَيَالِى َ وَأَيَّاماً تسيرون فيه إن شئتم ليالي وإن شئتم أياماً لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوفة فإن بعضها يسلك ليلاً لئلا يعلم العدو بسيرهم وبعضها يسلك نهاراً لئلا يقصدهم العدو إذا كان العدو غير مجاهر بالقصد والعداوة وقوله تعالى قَالُواْ ربَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا قيل بأنهم طلبوا ذلك وهو يحتمل وجهين أحدهما أن يسألوا بطراً كما طلبت اليهود الثوم والبصل ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدة اعتمادهم على أن ذلك لا يقدر كما يقول القائل لغيره اضربني إشارة إلى أنه لا يقدر عليه ويمكن أن يقال قَالُواْ ربَّنَا بَعْدَ بلسان الحال أي لما كفروا فقد طلبوا أن يبعد بين أسفارهم ويخرب المعمور من ديارهم وقوله وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ يكون بياناً لذلك وقوله فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ أي فعلنا بهم ما جعلناهم به مثلاً يقال تفرقوا أيدي سبا وقوله وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ بيان لجعلهم أحاديث وقوله تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي فيما ذكرناه من حال الشاكرين ووبال الكافرين
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ
ثم قال تعالى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ظنه أنه يغويهم كما قال فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ ( ص 82 ) وقوله فَاتَّبَعُوهُ بيان لذلك أي أغواهم فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ قال تعالى في حقهم إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر 42 ) ويمكن أن يقال صدق عليهم ظنه في أنه خير منه كما قال تعالى عنه أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ ( ) ويتحقق ذلك في قوله فاتبعوه لأن المتبوع خير من التابع وإلا لا يتبعه العاقل والذي يدل على أن إبليس خير من الكافر هو إن إبليس امتنع من عبادة غير الله لكن لما كان في امتناعه ترك عبادة الله عناداً كفر والمشرك يعبد غير الله فو كفر بأمر أقرب إلى التوحيد وهم كفروا بأمر هو الإشراك ويؤيد هذا الذي اخترناه الاستثناء وبيانه هو أنه وإن لم يظن أنه يغوي الكل بدليل أنه تعالى قال عنه إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( ص 76 ) فما ظن أنه يغوي المؤمنين فما ظنه صدقه ولا حاجة إلى الاستثناء وأما في قوله أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ اعتقد الخيرية بالنسبة إلى جميع الناس بدليل تعليله بقوله خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( الأعراف 12 ) وقد كذب في ظنه في حق المؤمنين ويمكن الجواب عن هذا في الوجه الأول وهو أنه وإن لم يظن إغواء الكل وعلم أن البعض ناج لكن ظن في كل واحد أنه ليس هو ذلك الناجي إلى أن تبين له فظن أنه يغويه فكذب في ظنه في حق البعض وصدق في البعض
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاٌّ خِرَة ِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ حَفُيظٌ
قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( العنكبوت 3 ) أن علم الله من الأزل إلى الأبد محيط بكل معلوم وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالماً لا يتغير ولكن يتغير تعلق علمه فإن العلم صفة كاشفة يظهر بها كل ما في نفس الأمر فعلم الله في الأزل أن العالم سيوجد فإذا وجد علمه

موجوداً بذلك العلم وإذا عدم يعلمه معدوماً بذلك مثاله أن المرآة المصقولة فيها الصفاء فيظهر فيها صورة زيد إن قابلها ثم إذا قابلها عمرو يظهر فيها صورته والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها وإنما التغير في الخارجات فكذلك ههنا قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ أي ليقع في العلم صدور الكفر من الكافر والإيمان من المؤمن وكان قبله فيه أنه سيكفر زيد ويؤمن عمرو
وقوله وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سُلْطَانٍ إشارة إلى أنه ليس بملجىء وإنما هو آية وعلامة خلقها الله لتبيين ما هو في علمه السابق وقوله وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَى ْء حَفُيظٌ يحقق ذلك أي الله تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا العاجز
قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الأرض وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَة ُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ
لما بين الله تعالى حال الشاكرين وحال الكافرين وذكرهم بمن مضى عاد إلى خطابهم وقال لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) قل للمشركين ادعوا الذين زعمتم من دون الله ليكشفوا عنكم الضر على سبيل التهكم ثم بين أنهم لا يملكون شيئاً بقوله لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ
واعلم أن المذاهب المفضية إلى الشرك أربعة أحدها قول من يقول الله تعالى خلق السماء والسماويات وجعل الأرض والأرضيات في حكمهم ونحن من جملة الأرضيات فنعبد الكواكب والملائكة التي في السماء فهم آلهتنا والله إلههم فقال الله تعالى في إبطال قولهم إنهم لا يملكون في السموات شيئاً كما اعترفتم قال ولا في الأرض على خلاف ما زعمتم وثانيها قول من يقول السموات من الله على سبيل الاستبداد والأرضيات منه ولكن بواسطة الكواكب فإن الله خلق العناصر والتركيبات التي فيها بالاتصالات والحركات والطوالع فجعلوا لغير الله معه شركاً في الأرض والأولون جعلوا الأرض لغيره والسماء له فقال في إبطال قولهم وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ أي الأرض كالسماء لله لا لغيره ولا لغيره فيها نصيب وثالثها قول من قال التركيبات والحوادث كلها من الله تعالى لكن فوض ذلك إلى الكواكب وفعل المأذون ينسب إلى الآذن ويسلب عن المأذون فيه مثاله إذا ملك لمملوكه اضرب فلاناً فضربه يقال في العرف الملك ضربه ويصح عرفاً قول القائل ما ضرب فلان فلاناً وإنما الملك أمر بضرب فضرب فهؤلاء جعلوا السماويات معينات لله فقال تعالى في إبطال قولهم وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ ما فوض إلى شيء شيئاً بل هو على كل شيء

حفيظ ورقيب ورابعها قول من قال إنا نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا فقال تعالى في إبطال قولهم وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَة ُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ فلا فائدة لعبادتكم غير الله فإن الله لا يأذن في الشفاعة لمن يعبد غيره فبطلبكم الشفاعة تفوتون على أنفسكم الشفاعة وقوله حَتَّى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ أي أزيل الفزع عنهم يقال قرد البعير إذا أخذ منه القراد ويقال لهذا تشديد السلب وفي قوله تعالى حَتَّى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وجوه أحدها الفزع الذي عند الوحي فإن الله عندما يوحي يفزع من في السموات ثم يزيل الله عنهم الفزع فيقولون لجبريل عليه السلام ماذا قال الله فيقول قال الحق أي الوحي وثانيها الفزع الذي من الساعة وذلك لأن الله تعالى لما أوحى إلى محمد عليه السلام فُزّعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ ( النمل 87 ) من القيامة لأن إرسال محمد عليه السلام من أشراط الساعة فلما زال عنهم ذلك الفزع قالوا ماذا قال الله قال جبريل الْحَقّ أي الوحي وثالثها هو أن الله تعالى يزيل الفزع وقت الموت عن القلوب فيعترف كل أحد بأن ما قال الله تعالى هو الحق فينفع ذلك القول من سبق ذلك منه ثم يقبض روحه على الإيمان المتفق عليه بينه وبين الله تعالى ويضر ذلك القول من سبق منه خلافه فيقبض روحه على الكفر المتفق بينه وبين الله تعالى إذا علمت هذا فنقول على القولين الأولين قوله تعالى حَتَّى غاية متعلقة بقوله تعالى قُلْ لأنه بينه بالوحي لأن قول القائل قل لفلان للإنذار حتى يسمع المخاطب ما يقوله ثم يقول بعد هذا الكلام ما يجب قوله فلما قال قُلْ فزع من في السموات ثم أزيل عنه الفزع وعلى الثالث متعلق بقوله تعالى زَعَمْتُمْ أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ثم تركتم ما زعمتم وقلتم قال الحق وعلى القولين الأولين فاعل قوله تعالى قَالُواْ مَاذَا هو الملائكة السائلون من جبريل وعلى الثالث الكفار السائلون من الملائكة والفاعل في قوله الْحَقّ على القولين الأولين هم الملائكة وعلى الثالث هم المشركون
واعلم أن الحق هو الموجود ثم إن الله تعالى لما كان وجوده لا يرد عليه عدم كان حقاً مطلقاً لا يرتفع بالباطل الذي هو العدم والكلام الذي يكون صدقاً يسمى حقاً لأن الكلام له متعلق في الخارج بواسطة أنه متعلق بما في الذهن والذي في الذهن متعلق بما في الخارج فإذا قال القائل جاء زيد يكون هذا اللفظ تعلقه بما في ذهن القائل وذهن القائل تعلقه بما في الخارج لكن للصدق متعلق يكون في الخارج فيصير له وجود مستمر وللكذب متعلق لا يكون في الخارج وحينئذ إما أن لا يكون له متعلق في الذهن فيكون كالمعدوم من الأول وهو الألفاظ التي تكون صادرة عن معاند كاذب وإما أن يكون له متعلق في الذهن على خلاف ما في الخارج فيكون اعتقاداً باطلاً جهلاً أو ظناً لكن لما لم يكن لمتعلقه متعلق يزول ذلك الكلام ويبطل وكلام الله لا بطلان له في أول الأمر كما يكون كلام الكاذب المعاند ولا يأتيه الباطل كما يكون كلام الظان وقوله تعالى وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ ( لقمان 30 ) أن الْحَقّ إشارة إلى أنه كامل لا نقص فيه فيقبل نسبة العدم وفوق الكاملين لأن كل كامل فوقه كامل فقوله وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ إشارة إلى أنه فوق الكاملين في ذاته وصفاته وهذا يبطل القول بكونه جسماً وفي حيز لأن كل من كان في حيز فإن العقل يحكم بأنه مشار إليه وهو مقطع الإشارة لأن الإشارة لو لم تقع إليه لما كان المشار إليه هو وإذا وقعت الإشارة إليه فقد تناهت الإشارة عنده وفي كل موقع تقف الإشارة بقدر العقل على أن يفرض البعد أكثر من ذلك فيقول لو كان بين

مأخذ الإشارة والمشار إليه أكثر من هذا البعد لكان هذا المشار إليه أعلى فيصير عليه بالإضافة لا مطلقاً وهو على مطلقاً ولو كان جسماً لكان له مقدار وكل مقدار يمكن أن يفرض أكبر منه فيكون كبيراً بالنسبة إلى غيره لا مطلقاً وهو كبير مطلقاً
قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاوَاتِ والأرض قُلِ اللَّهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ
ثم قال تعالى قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قد ذكرنا مراراً أن العامة يعبدون الله لا لكونه إلهاً وإنما يطلبون به شيئاً وذلك إما دفع ضرر أو جر نفع فنبه الله تعالى العامة بقوله قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم ( سبأ 22 ) على أنه لا يدفع الضر أحد إلا هو كما قال تعالى وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 17 يونس 107 ) وقال بعد إتمام بيان ذلك قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إشارة إلى أن جر النفع ليس إلا به ومنه فإذاً إن كنتم من الخواص فاعبدوه لعلوه وكبريائه سواء دفع عنكم ضراً أو لم يدفع وسواء نفعكم بخير أو لم ينفع فإن لم تكونوا كذلك فاعبدوه لدفع الضر وجر النفع
ثم قال تعالى قُلِ اللَّهُ يعني إن لم يقولوا هم فقل أنت الله يرزق وههنا لطيفة وهي أن الله تعالى عند الضر ذكر أنهم يقولون الله ويعترفون بالحق حيث قال قَالُواْ الْحَقَّ وعند النفع لم يقل إنهم يقولون ذلك وذلك لأن لهم حالة يعترفون بأن كاشف الضر هو الله حيث يقعون في الضر كما قال تعالى وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ( الروم 33 ) وأما عند الراحة فلا تنبه لهم لذلك فلذلك قال قُلِ اللَّهُ أي هم في حالة الراحة غافلون عن الله
ثم قال تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا إرشاد من الله لرسوله إلى المناظرات الجارية في العلوم وغيرها وذلك لأن أحد المتناظرين إذا قال للآخر هذا الذي تقوله خطأ وأنت فيه مخطىء يغضبه وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر وعند اختلاله لا مطمع في الفهم فيفوت الغرض وأما إذا قال له بأن أحدنا لا يشك في أنه مخطىء والتمادي في الباطل قبيح والرجوع إلى الحق أحسن الأخلاق فنجتهد ونبصر أينا على الخطأ ليحترز فإنه يجتهد ذلك الخصم في النظر ويترك التعصب وذلك لا يوجب نقصاً في المنزلة لأنه أوهم بأنه في قوله شاك ويدل عليه قول الله تعالى لنبيه وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ مع أنه لا يشك في أنه هو الهادي وهو المهتدي وهم الضالون والمضلون
المسألة الثانية في قوله لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ذكر في الهدى كلمة على وفي الضلال كلمة في لأن المهتدي كأنه مرتفع متطلع فذكره بكلمة التعلي والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فذكره بكلمة في
المسألة الثالثة وصف الضلال بالمبين ولم يصف الهدى لأن الهدي هو الصراط المستقيم الموصل

إلى الحق والضلال خلافه لكن المستقيم واحد وما هو غيره كله ضلال وبعضه بين من بعض فميز البعض عن البعض بالوصف
المسألة الرابعة قدم الهدى على الضلال لأنه كان وصف المؤمنين المذكورين بقوله أَنَاْ وهو مقدم في الذكر
قُل لاَّ تُسْألُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْألُ عَمَّا تَعْمَلُونَ
ثم قال تعالى قُل لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أضاف الإجرام إلى النفس وقال في حقهم وَلاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم وقوله لاَّ تُسْئَلُونَ وَلاَ نُسْئَلُ زيادة حث على النظر وذلك لأن كل أحد إذا كان مؤاخذاً بجرمه فإذا احترز نجا ولو كان البريء يؤاخذ بالجرم لما كفى النظر
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ
ثم قال تعالى قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ أكد ما يوجب النظر والتفكر فإن مجرد الخطأ والضلال واجب الاجتناب فكيف إذا كان يوم عرض وحساب وثواب وعذاب وقوله يَفْتَحِ قيل معناه يحكم ويمكن أن يقال بأن الفتح ههنا مجاز وذلك لأن الباب المغلق والمنفذ المسدود يقال فيه فتحه على طريق الحقيقة ثم إن الأمر إذا كان فيه انغلاف وعدم وصول إليه فإذا بينه أحد يكون قد فتحه وقوله وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ إشارة إلى أن حكمه يكون مع العلم لا مثل حكم من يحكم بما يتفق له بمجرد هواه
قُلْ أَرُونِى َ الَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحْكِيمُ
ثم قال تعالى قُلْ أَرُونِى َ الَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاء كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحْكِيمُ قد ذكرنا أن المعبود قد يعبده قوم لدفع الضرر وجمع لتوقع المنفعة وقليل من الأشراف الأعزة يعبدونه لأنه يستحق العبادة لذاته فلما بين أنه لا يعد غير الله لدفع الضرر إذ لا دافع للضرر غيره بقوله قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ وبين أنه لا يعبد غير الله لتوقع المنفعة بقوله قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بين ههنا أنه لا يعبد أحد لاستحقاقه العبادة غير الله فقال قُلْ أَرُونِى َ الَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاء كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحْكِيمُ أي هو المعبود لذاته واتصافه بالعزة وهي القدرة الكاملة والحكمة وهي العلم التام الذي عمله موافق له

وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّة ً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
لما بين مسألة التوحيد شرع في الرسالة فقال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّة ً وفيه وجهان أحدها كافة أي إرسالة كافة أي عامة لجميع الناس تمنعهم من الخروج عن الانقياد لها والثاني كافة أي أرسلناك كافة تكف أنت من الكفر والهاء للمبالغة على هذا الوجه بَشِيراً أي تحثهم بالوعد وَنَذِيرًا تزجرهم بالوعيد وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ذلك لا لخفائه ولكن لغفلتهم
وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
ثم قال تعالى وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ لما ذكر الرسالة بين الحشر
قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأخِرُونَ عَنْهُ سَاعَة ً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ
وقال قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَئَخِرُونَ عَنْهُ سَاعَة ً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ قد ذكرنا في سورة الأعراف أن قوله لاَّ تَسْتَئَخِرُونَ يوجب الإنذار لأن معناه عدم المهلة عن الأجل ولكن الاستقدام ما وجهه وذكرنا هناك وجهه ونذكر ههنا أنهم لما طلبوا الاستعجال بين أنه لا استعجال فيه كما لا أمهال وهذا يفيد عظم الأمر وخطر الخطب وذلك لأن الأمر الحقير إذا طالبه طالب من غيره لا يؤخره ولا يوقفه على وقت بخلاف الأمر الخطير وفي قوله تعالى لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ قراءات أحدها رفعهما مع التنوين على وهذا يوم بدل وثانيها نصب يوم مع رفع ميعاد والتنوين فيهما ميعاد يوماً قال الزمخشري ووجهه أنه منصوب بفعل محذوف كأنه قال ميعاد أعني يوماً وذلك يفيد التعظيم والتهويل ويحتمل أن يقال نصب على الظرف تقديره لكم ميعاد يوماً كما يقول القائل أنا جائيك يوماً وعلى هذا يكون العامل فيه العلم كأنه يقول لكم ميعاد تعلمونه يوماً وقوله معلوم يدل عليه كقول القائل إنه مقتول يوماً الثالثة الإضافة لكم ميعاد يوم كما في قول القائل سحق ثوب للتبيين وإسناد الفعل إليهم بقوله لاَّ تَسْتَئَخِرُونَ عَنْهُ بدلاً عن قوله لاَ يُؤَخَّرُ عَنْكُمْ زيادة تأكيد لوقوع اليوم
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَاذَا الْقُرْءَانِ وَلاَ بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ
ثم قال تعالى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَاذَا الْقُرْءانِ وَلاَ بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ لما بين الأمور الثلاثة من التوحيد والرسالة والحشر وكانوا بالكل كافرين بين كفرهم العام بقوله وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَاذَا الْقُرْءانِ وذلك لأن القرآن مشتمل على الكل وقوله وَلاَ بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ المشهور أنه التوراة والإنجيل وعلى هذا فالذين كفروا المراد منهم المشركون المنكرون للنبوات والحشر ويحتمل أن يقال إن المعنى هو أنا لا نؤمن بالقرآن أنه من الله ولا بالذي بين يديه أي ولا بما فيه من الإخبارات والمسائل والآيات والدلائل وعلى هذا فالذين كفروا المراد منهم العموم لأن أهل الكتاب لم يؤمنوا بالقرآن أنه من الله ولا بالذي فيه من الرسالة وتفاصيل الحشر فإن قيل أليس هم مؤمنون بالوحدانية والحشر فنقول إذا لم يصدق واحد ما في الكتاب من الأمور المختصة به يقال فيه إنه لم يؤمن بشيء منه وإن آمن ببعض ما فيه لكونه في غيره فيكون إيمانه لا بما فيه مثاله أن من يكذب رجلاً فيما يقوله فإذا أخبره بأن النار حارة لا يكذبه فيه ولكن لا يقال إنه

صدقه لأنه إنما صدق نفسه فإنه كان عالماً به من قبل وعلى هذا فقوله بين يديه أي الذي هو مشتمل عليه من حيث إنه وارد فيه
وقوله تعالى وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ
لما وقع اليأس من إيمانهم في هذه الدار بقولهم لن نؤمن فإنه لتأييد النفي وعد نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه يراهم على أذل حال موقوفين للسؤال يرجع بعضهم إلى بعض القول كما يكون عليه حال جماعة أخطؤا في أمر يقول بعضهم كان ذلك بسببك ويرد عليه الآخر مثل ذلك وجواب لو محذوف تقديره ولو ترى إذ الظالمون موقوفون لرأيت عجباً ثم بدأ بالأتباع لأن المضل أولى بالتوبيخ فقال يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ إشارة إلى أن كفرهم كان لمانع لا لعدم المقتضى لأنهم لا يمكنهم أن يقولوا ما جاءنا رسول ولا أن يقولوا قصر الرسول وهذا إشارة إلى إتيان الرسول بما عليه لأن الرسول لو أهمل شيئاً لما كانوا يؤمنون ولولا المستكبرون لآمنوا
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ
ثم قال تعالى وَقَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ
رداً لما قالوا إن كفرنا كان لمانع أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ يعني المانع ينبغي أن يكون راجحاً على المقتضى حتى يعمل عمله والذي جاء به هو الهدى والذي صدر من المستكبرين لم يكن شيئاً يوجب الامتناع من قبول ما جاء به فلم يصح تعليلكم بالمانع ثم بين أن كفرهم كان إجراماً من حيث إن المعذور لا يكون معذوراً إلا لعدم المقتضى أو لقيام المانع ولم يوجد شيء منهما
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ النَّدَامَة َ لَمَّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الاٌّ غْلَالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
ثم قال تعالى وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً
لما ذكر المستكبرون أنا ما صددناكم وما صدر منا يصلح مانعاً وصارفاً اعترف المستضعفون به وقالوا بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ منعنا ثم قالوا لهم إنكم إن كنتم ما أتيتم بالصارف القطعي والمانع القوي ولكن انضم أمركم إيانا بالكفر إلى طول الأمد والامتداد في المدد فكفرنا فكان قولكم جزء السبب ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون المراد بل مكركم بالليل والنهار فحذف المضاف إليه وقوله إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ أي ننكره وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً هذا يبين أن المشرك بالله مع أنه في الصورة مثبت لكنه في الحقيقة منكر لوجود الله لأن من يساويه المخلوق المنحوت لا يكون إلهاً وقوله في الأول يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ

يقول الذين استضعفوا بلفظ المستقبل وقوله في الآيتين المتأخرتين وَقَالَ الَّذِى اسْتَكْبَرُواْ وَقَالَ الَّذِى اسْتُضْعِفُواْ بصيغة الماضي مع أن السؤال والتراجع في القول لم يقع إشارة إلى أن ذلك لا بد وأن يقع فإن الأمر الواجب الوقوع يوجد كأنه وقع ألا ترى إلى قوله تعالى إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ ( الزمر 30 )
ثم قال تعالى وَأَسَرُّواْ النَّدَامَة َ لَمَّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الاْغْلَالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
معناه أنهم يتراجعون القول في الأول ثم إذا جاءهم العذاب الشاغل يسرون ذلك التراجع الدال على الندامة وقيل معنى الإسرار الإظهار أي أظهروا الندامة ويحتمل أن يقال بأنهم لما تراجعوا في القول رجعوا إلى الله بقولهم رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً ( السجدة 12 ) ثم أجيبوا وأخبروا بأن لا مرد لكم فأسروا ذلك القول وقوله وَجَعَلْنَا الاْغْلَالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( سبأ 33 ) إشارة إلى كيفية العذاب وإلى أن مجرد الرؤية ليس كافياً بل لما رأوا العذاب قطعوا بأنهم واقعون فيه فتركوا الندم ووقعوا فيه فجعل الأغلال في أعناقهم وقوله يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إشارة إلى أن ذلك حقهم عدلاً
وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة ٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
تسلية لقلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبياناً لأن إيذاء الكفار الأنبياء الأخيار ليس بدعاً بل ذلك عادة جرت من قبل وإنما نسب القول إلى المترفين مع أن غيرهم أيضاً قالوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ لأن الأغنياء المترفين هم الأصل في ذلك القول ألا ترى أن الله قال عن الذين استضعفوا إنهم قالوا للمستكبرين لولا أنتم لكانوا مؤمنين ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال والأولاد فقالوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلَاداً أي بسبب لزومنا لديننا وقوله وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي في الآخرة كأنهم قالوا حالنا عاجلاً خير من حالكم وأما آجلاً فلا نعذب إما إنكاراً منهم للعذاب رأساً أو اعتقاداً لحسن حالهم في الآخرة أيضاً قياساً ( على حسن حالهم في الدنيا )
قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
ثم إن الله تعالى بين خطأهم بقوله قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ

يعني أن الرزق في الدنيا لا تدل سعته وضيقه على حال المحق والمبطل فكم من موسر شقي ومعسر تقي وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أي أن قلة الرزق وضنك العيش وكثرة المال وخصب العيش بالمشيئة من غير اختصاص بالفاسق والصالح
وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ
ثم بين فساد استدلالهم بقولهم وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ
يعني قولكم نحن أكثر أموالاً فنحن أحسن عند الله حالاً ليس استدلالاً صحيحاً فإن المال لا يقرب إلى الله ولا اعتبار بالتعزز به وإنما المفيد العمل الصالح بعد الإيمان والذي يدل عليه هو أن المال والولد يشغل عن الله فيبعد عنه فكيف يقرب منه والعمل الصالح إقبال على الله واشتغال بالله ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب من الله شيئاً حصل وقوله فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضّعْفِ أي الحسنة فإن الضعف لا يكون إلا في الحسنة وفي السيئة لا يكون إلا المثل
ثم زاد وقال وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءامِنُونَ إشارة إلى دوام النعيم وتأبيده فإن من تنقطع عنه النعمة لا يكون آمناً
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى ءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَائِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ
ثم بين حال المسىء بقوله وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى ءايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ
وقد ذكرنا تفسيره وقوله أُوْلَئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ إشارة إلى الدوام أيضاً كما قال تعالى كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا ( السجدة 20 ) وكما قال تعالى وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ( الإنفطار 16 )
قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَى ْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
ثم قال تعالى مرة أخرى قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَى ْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ( الجمعة 11 ) إشارة إلى أن نعيم الآخرة لا ينافي نعمة الدنيا بل الصالحون قد يحصل لهم في الدنيا النعم مع القطع بحصول النعيم لهم في العقبى بناءً على الوعد قطعاً لقول من يقول إذا كانت العاجلة لنا والآجلة لهم فالنقد أولى فقال هذا النقد غير مختص بكم فإن كثيراً من الأشقياء مدقعون وكثير من الأتقياء ممتعون وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكر هذا المعنى مرتين مرة لبيان أن كثرة أموالهم وأولادهم غير دالة على حسن أحوالهم واعتقادهم ومرة لبيان أنه غير مختص بهم كأنه قال وجود الترف لا يدل على الشرف ثم إن سلمنا أنه كذلك لكن المؤمنين سيحصل لهم ذلك فإن الله يملكهم دياركم وأموالكم والذي يدل عليه هو أن الله تعالى لم يذكر أولاً لمن يشاء من عباده بل قال لمن يشاء وثانياً قال لمن يشاء من عباده والعباد المضافة

يراد بها المؤمن ثم وعد المؤمن بخلاف ما للكافر فإن الكافر دابره مقطوع وماله إلى الزوال ومآله إلى الوبال وأما المؤمن فما ينفقه يخلفه الله ومخلف الله خير فإن ما في يد الإنسان في معرض البوار والتلف وهما لا يتطرقان إلى ما عند الله من الخلف ثم أكد ذلك بقوله وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ وخيرية الرازق في أمور أحدها أن لا يؤخر عن وقت الحاجة والثاني أن لا ينقص عن قدر الحاجة والثالث أن لا ينكده بالحساب والرابع أن لا يكدره بطلب الثواب والله تعالى كذلك
أما الأول فلأنه عالم وقادر والثاني فلأنه غني واسع والثالث فلأنه كريم وقد ذكر ذلك بقوله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( البقرة 212 ) وما ذكرنا هو المراد أي يرزقه حلالاً لا يحاسبه عليه والرابع فلأنه علي كبير والثواب يطلبه الأدنى من الأعلى ألا ترى أن هبة الأعلى من الأدنى لا تقتضي ثواباً
المسألة الثانية قوله تعالى وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَى ْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ يحقق معنى قوله عليه الصلاة والسلام ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر اللهم اعط ممسكاً تلفاً ) وذلك لأن الله تعالى ملك على وهو غني ملى فإذا قال أنفق وعلى بدله فبحكم الوعد يلزمه كما إذا قال قائل ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه فمن أنفق فقد أتى بما هو شرط حصول البدل فيحصل البدل ومن لم ينفق فالزوال لازم للمال ولم يأت بما يستحق عليه من البدل فيفوت من غير خلف وهو التلف ثم إن من العجب أن التاجر إذا علم أن مالاً من أمواله في معرض الهلاك يبيعه نسيئة وإن كان من الفقراء ويقول بأن ذلك أولى من الإمهال إلى الهلاك فإن لم يبع حتى يهلك ينسب إلى الخطأ ثم إن حصل به كفيل ملىء ولا يبيع ينسب إلى قلة العقل فإن حصل به رهن وكتب به وثيقة ولا يبيعه ينسب إلى الجنون ثم إن كل أحد يفعل هذا ولا يعلم أن ذلك قريب من الجنون فإن أموالنا كلها في معرض الزوال المحقق والإنفاق على الأهل والولد إقراض وقد حصل الضامن الملىء وهو الله العلي وقال تعالى وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَى ْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ ثم رهن عند كل واحد إما أرضاً أو بستاناً أو طاحونة أو حماماً أو منفعة فإن الإنسان لا بد من أن يكون له صنعة أو جهة يحصل له منها مال وكل ذلك ملك الله وفي يد الإنسان بحكم العارية فكأنه مرهون بما تكفل الله من رزقه ليحصل له الوثوق التام ومع هذا لا ينفق ويترك ماله ليتلف لا مأجوراً ولا مشكوراً
المسألة الثالثة قوله خَيْرُ الرَّازِقِينَ ينبىء عن كثرة في الرازقين ولا رازق إلا الله فما الجواب عنه فنقول عنه جوابان أحدهما أن يقال الله خير الرازقين الذين تظنونهم رازقين وكذلك في قوله تعالى وهو أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( الصافات 125 ) وثانيهما هو أن الصفات منها ما حصل لله وللعبد حقيقة ومنها ما يقال لله بطريق الحقيقة وللعبد بطريق المجاز ومنها ما يقال لله بطريق الحقيقة ولا يقال للعبد لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز لعدم حصوله للعبد لا حقيقة ولا صورة مثال الأول العلم فإن الله يعلم أنه واحد والعبد يعلم أنه واحد بطريق الحقيقة وكذلك العلم بكون النار حارة غاية ما في الباب أن علمه قديم وعلمنا حادث مثال الثاني الرازق والخالق فإن العبد إذا أعطى غيره شيئاً فإن الله هو المعطي ولكن لأجل صورة العطاء منه سمي معطياً كما يقال للصورة المنقوشة على الحائط فرس وإنسان مثال الثالث الأزلي والله وغيرهما وقد يقال

في أشياء في الإطلاق على العبد حقيقة وعلى الله مجازاً كالاستواء والنزول والمعية ويد الله وجنب الله
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَة ِ أَهَاؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ
ثم قال تعالى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَة ِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ لما بين أن حال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كحال من تقدمه من الأنبياء وحال قومه كحال من تقدم من الكفار وبين بطلان استدلالهم بكثرة أموالهم وأولادهم بين ما يكون من عاقبة حالهم فقال وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعني المكذبين بك وبمن تقدمك ثم نقول لمن يدعون أنهم يعبدونهم وهم الملائكة فإن غاية ما ترتقي إليه منزلتهم أنهم يقولون نحن نعبد الملائكة والكواكب فيسأل الملائكة أهم كانوا يعبدونكما إهانة لهم فيقول كل منهم سبحانك ننزهك عن أن يكون غيرك معبوداً وأنت معبودنا ومعبود كل خلق وقولهم أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ إشارة إلى معنى لطيف وهو أن مذاهب الناس مختلفة بعضهم لا يسكن المواضع المعمورة التي يكون فيها سواد عظيم لأنه لا يترأس هناك فيرضى لضياع والبلاد الصغيرة وبعضهم لا يريد البلاد الصغيرة لعدم اجتماعه فيها بالناس وقلة وصوله فيها إلى الأكياس ثم إن الفريقين جميعاً إذا عرض عليهم خدمة السلطان واستخدام الأرذال الذين لا التفات إليهم أصلاً يختار العاقل خدمة السلطان على استخدام من لا يؤبه به ولو أن رجلاً سكن جبلاً ووضع بين يديه شيئاً من القاذورات واجتمع عليه الذباب والديدان وهو يقول هؤلاء أتباعي وأشياعي ولا أدخل المدينة مخافة أن أحتاج إلى خدمة السلطان العظيم والتردد إليه ينسب إلى الجنون فكذلك من رضي بأن يترك خدمة الله وعبادته ورضي باستتباع الهمج الذين هم أضل من البهائم وأقل من الهوام يكون مجنوناً فقالوا أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ يعني كونك ولينا بالمعبودية أولى وأحب إلينا من كونهم أولياءنا بالعبادة لنا وقالوا بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي كانوا ينقادون لأمر الجن فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الجن ونحن كنا كالقبلة لهم لأن العبادة هي الطاعة وقوله تعالى أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ لو قال قائل جميعهم كانوا تابعين للشياطين فما وجه قوله أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ فإنه ينبىء أن بعضهم لم يؤمن بهم ولم يطع لهم نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن الملائكة احترزوا عن دعوى الإحاطة بهم فقالوا أكثرهم لأن الذين رأوهم واطلعوا على أحوالهم كانوا يعبدون الجن ويؤمنون بهم ولعل في الوجود من لم يطلع الله الملائكة عليه من الكفار الثاني هو أن العبادة عمل ظاهر والإيمان عمل باطن فقالوا بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ لاطلاعهم على أعمالهم وقالوا أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ عند عمل القلب لئلا يكونوا مدعين اطلاعهم على ما في القلوب فإن القلب لا اطلاع عليه إلا لله كما قال تعالى إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( الأنفال 43 )
فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ

ثم بين أن ما كانوا يعبدونه لا ينفعهم فقالوا فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى الخطاب بقوله بَعْضُكُمْ مع من نقول يحتمل أن يكون الملائكة لسبق قوله تعالى أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( سبأ 40 ) وعلى هذا يكون ذلك تنكيلاً للكافرين حيث بين لهم أن معبودهم لا ينفع ولا يضر ويصحح هذا قوله تعالى لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَة َ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ( مريم 87 ) وقوله وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( الأنبياء 28 ) ولأنه قال بعده وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ فأفردهم ولو كان المخاطب هم الكفار لقال فذوقوا
وعلى هذا يكون الكفار داخلين في الخطاب حتى يصح معنى قوله بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي الملائكة للكفار والحاضر الواحد يجوز أن يجعل من يشاركه في أمر مخاطباً بسببه كما يقول القائل لواحد حاضر له شريك في كلام أنتم قلتم على معنى أنت قلت وهم قالوا ويحتمل أن يكون معهم الجن أي لا يملك بعضكم لبعض أيها الملائكة والجن وإذا لم تملكوها لأنفسكم فلا تملكوها لغيركم ويحتمل أن يكون المخاطب هم الكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم وعلى هذا فقوله وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ إنما ذكره تأكيداً لبيان حالهم في الظلم وسبب نكالهم من الإثم ولو قال فَذُوقُواْ عَذَابِى النَّارِ لكان كافياً لكنه لا يحصل ما ذكرنا من الفائدة فإنهم كلما كانوا يسمعون ما كانوا عليه من الظلم والعناد والإثم والفساد يتحسرون ويندمون
المسألة الثانية قوله نَفْعاً مفيد للحسرة وأما الضر فما الفائدة فيه مع أنهم لو كانوا يملكون الضر لما نفع الكافرين ذلك فنقول لما كانت العبادة تقع لدفع ضر المعبود كما يعبد الجبار ويخدم مخافة شره بين أنهم ليس فيهم ذلك الوجه الذي يحسن لأجله عبادتهم
المسألة الثالثة قال ههنا عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ وقال في السجدة عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ جعل المكذب هنالك العذاب وجعل المكذب ههنا النار وهم كانوا يكذبون بالكل والفائدة فيها أن هناك لم يكن أول ما رأوا النار بل كانوا هم فيها من زمان بدليل قوله تعالى كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ ( السجدة 20 ) أي العذاب المؤبد الذي أنكرتموه بقولكم لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 ) أي قلتم إن العذاب إن وقع فلا يدوم فذوقوا الدائم وههنا أول ما رأوا النار لأنه مذكور عقيب الحشر والسؤال فقيل لهم هذه النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَاذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَاذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
إظهاراً لفساد اعتقادهم واشتداد عنادهم حيث تبين أن أعلى من يعبدونه وهم الملائكة لا يتأهل للعبادة لذواتهم كما قالوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا ( سبأ 41 ) أي لا أهلية لنا إلا لعبادتك من دونهم أي لا أهلية لنا لأن نكون

معبودين لهم ولا لنفع أو ضر كما قال تعالى فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً ( سبأ 42 ) ثم مع هذا كله إذا قال لهم النبي عليه السلام كلاماً من التوحيد وتلا عليهم آيات الله الدالة عليه فإن لله في كل شيء آيات دالة على وحدانيته أنكروها وقالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم يعني يعارضون البرهان بالتقليد وَقَالُواْ مَا هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وهو يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون المراد أن القول بالوحدانية إِفْكٌ مُّفْتَرًى ويدل عليه هو أن الموحد كان يقول في حق المشرك إنه يأفك كما قال تعالى في حقهم أَءفْكاً ءالِهَة ً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ( الصافات 86 ) وكما قالوا هم للرسول قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ( الأحقاف 22 ) وثانيها أن يكون المراد مَا هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ ( الفرقان 4 ) أي القرآن إفك وعلى الأول يكون قوله وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( الأحقاف 7 ) إشارة إلى القرآن وعلى الثاني يكون إشارة إلى ما أتى به من المعجزات وعلى الوجهين فقوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بدلاً عن أن يقول وقالوا للحق هو أن إنكار التوحيد كان مختصاً بالمشركين وأما إنكار القرآن والمعجزات ( فقد ) كان متفقاً عليه بين المشركين وأهل الكتاب ( فقال ) تعالى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ على وجه العموم
وَمَآ ءَاتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ
وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير تأكيد لبيان تقليدهم يعني يقولون عندما تتلى عليهم الآيات البينات هذا رجل كاذب وقولهم إِفْكٌ مُّفْتَرًى من غير برهان ولا كتاب أنزل عليهم ولا رسول أرسل إليهم فالآيات البينات لا تعارض إلا بالبراهين العقلية ولم يأتوا بها أو بالتقلبات وما عندهم كتاب ولا رسول غيرك والنقل المعتبر آيات من كتاب الله أو خبر رسول الله ثم بين أنهم كالذين من قبلهم كذبوا مثل عاد وثمود وقوله تعالى وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتَيْنَاهُمْ قال المفسرون معناه وما بلغ هؤلاء المشركون معشار ما آتينا المتقدمين من القوة والنعمة وطول العمر ثم إن الله أخذهم وما نفعتهم قوتهم فكيف حال هؤلاء الضعفاء وعندي ( أنه ) يحتمل ذلك وجهاً آخر وهو أن يقال المراد وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتَيْنَاهُمْ أي الذين من قبلهم ما بلغوا معشار ما آتينا قوم محمد من البيان والبرهان وذلك لأن كتاب محمد عليه السلام أكمل من سائر الكتب وأوضح ومحمد عليه السلام أفضل من جميع الرسل وأفصح وبرهانه أوفى وبيانه أشفى ثم إن المتقدمين لما كذبوا بما جاءهم من الكتب وبمن أتاهم من الرسل أنكر عليهم وكيف لا ينكر عليهم وقد كذبوا بما جاءهم من الكتب وبمن أتاهم من الرسل أنكر عليهم وكيف لا ينكر عليهم وقد كذبوا بأفصح الرسل وأوضح السبل يؤيد ما ذكرنا من المعنى قوله تعالى وَمَا ءاتَيْنَاهُمْ مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا يعني غير القرآن ما آتيناهم كتاباً وما أرسنا إليهم قبلك من نذير فلما كان

المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب فحمل الإيتاء في الآية الثانية على إيتاء الكتاب أولى
قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة ٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّة ٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَى ْ عَذَابٍ شَدِيدٍ
ذكر الأصول الثلاثة في هذه الآية بعد ما سبق منه تقريرها بالدلائل فقوله أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ إشارة إلى التوحيد وقوله مَا بِصَاحِبِكُمْ مّن جِنَّة ٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ إشارة إلى الرسالة وقوله بَيْنَ يَدَى ْ عَذَابٍ شَدِيدٍ إشارة إلى اليوم الآخر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِواحِدَة ٍ يقتضي أن لا يكون إلا بالتوحيد والإيمان لا يتم إلا بالاعتراف بالرسالة والحشر فكيف يصح الحصر المذكور بقوله إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِواحِدَة ٍ فنقول التوحيد هو المقصود ومن وحد الله حق التوحيد يشرح الله صدره ويرفع في الآخرة قدره فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمرهم بما يفتح عليهم أبواب العبادات ويهيء لهم أسباب السعادات وجواب آخر وهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما قال إني لا آمركم في جميع عمري إلا بشيء واحد وإنما قال أعظكم أولاً بالتوحيد ولا آمركم في أول الأمر بغيره لأنه سابق على الكل ويدل عليه قوله تعالى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ فإن التفكر أيضاً صار مأموراً به وموعوظاً
المسألة الثانية قوله بِواحِدَة ٍ قال المفسرون أنثها على أنها صفة خصلة أي أعظكم بخصلة واحدة ويحتمل أن يقال المراد حسنة واحدة لأن التوحيد حسنة وإحسان وقد ذكرنا في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ ( النحل 29 ) أن العدل نفي الإلهية عن غير الله والإحسان إثبات الإلهية له وقيل في تفسير قوله تعالى هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ ( الرحمن 60 ) أن المراد هل جزاء الإيمان إلا الجنان وكذلك يدل عليه قوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ ( فصلت 33 )
المسألة الثالثة قوله مَثْنَى وَفُرَادَى إشارة إلى جميع الأحوال فإن الإنسان إما أن يكون مع غيره أو يكون وحده فإذا كان مع غيره دخل في قوله مَثْنَى وإذا كان وحده دخل في قوله فُرَادَى فكأنه يقول تقوموا لله مجتمعين ومنفردين لا تمنعكم الجمعية من ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين يعينكم على ذكر الله
المسألة الرابعة قوله ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ يعني اعترفوا بما هو الأصل والتوحيد ولا حاجة فيه إلى تفكر ونظر بعد ما بان وظهر ثم تتفكروا فيما أقول بعده من الرسالة والحشر فإنه يحتاج إلى تفكر وكلمة ثم تفيد ما ذكرنا فإنه قال أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ ثم بين ما يتفكرون فيه وهو أمر النبي عليه السلام فقال مَا بِصَاحِبِكُمْ مّن جِنَّة ٍ
المسألة الخامسة قوله مَا بِصَاحِبِكُمْ مّن جِنَّة ٍ يفيد كونه رسولاً وإن كان لا يلزم في كل من لا يكون به جنة أن يكون رسولاً وذلك لأن النبي عليه السلام كان يظهر منه أشياء لا تكون مقدورة للبشر وغير البشر ممن تظهر منه العجائب إما الجن أو الملك وإذا لم يكن الصادر من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بواسطة الجن يكون بواسطة الملك أو بقدرة الله تعالى من غير واسطة وعلى التقديرين فهو رسول الله وهذا من أحسن الطرق وهو أن يثبت الصفة التي هي أشرف الصفات في البشر بنفي أخس الصفات فإنه لو قال أولاً هو رسول الله كانوا يقولون فيه النزاع فإذا قال ما هو مجنون لم يسعهم إنكار ذلك لعلمهم بعلو شأنه وحاله في قوة لسانه

وبيانه فإذا ساعدوا على ذلك لزمتهم المسألة ولهذا قال بعده إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ يعني إما هو به جنة أو هو رسول لكن تبين أنه ليس به جنة فهو نذير
المسألة السادسة قوله بَيْنَ يَدَى ْ عَذَابٍ شَدِيدٍ إشارة إلى قرب العذاب كأنه قال ينذركم بعذاب حاضر يمسكم عن قريب بين يدي العذاب أي سوف يأتي العذاب بعده
قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ شَهِيدٍ
لما ذكر أنه ما به جنة ليلزم منه كونه نبياً ذكر وجهاً آخر يلزم منه أنه نبي إذا لم يكن مجنوناً لأن من يرتكب العناء الشديد لا لغرض عاجل إذا لم يكن ذلك فيه ثواب أخروي يكون مجنوناً فالنبي عليه السلام بدعواه النبوة يجعل نفسه عرضة للهلاك عاجلاً فإن كل أحد يقصده ويعاديه ولا يطلب أجراً في الدنيا فهو يفعله للآخرة والكاذب في الآخرة معذب لا مثاب فلو كان كاذباً لكان مجنوناً لكنه ليس بمجنون فليس بكاذب فهو نبي صادق وقوله وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٍ تقرير آخر للرسالة وذلك لأن الرسالة لا تثبت إلا بالدعوى والبينة بأن يدعي شخص النبوة ويظهر الله له المعجزة فهي بينة شاهدة والتصديق بالفعل يقوم مقام التصديق بالقول في إفادة العلم بدليل أن من قال لقوم إني مرسل من هذا الملك إليكم ألزمكم قبول قولي والملك حاضر ناظر ثم قال للملك أيها الملك إن كنت أنا رسولك إليهم فقل لهم إني رسولك فإذا قال إنه رسولي إليكم لا يبقى فيه شك كذلك إذا قال يا أيها الملك إن كنت أنا رسولك إليهم فألبسني قباءك فلو ألبسه قباءه في عقب كلامه يجزم الناس بأنه رسوله كذلك حال الرسول إذا قال الأنبياء لقومهم نحن رسل الله ثم قالوا يا إلهنا إن كنا رسلك فأنطق هذه الحجارة أو أنشر هذا الميت ففعله حصل الجزم بأنه صدقه
قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
ثم قال تعالى قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وفيه وجهان أحدهما يقذف بالحق في قلوب المحقين وعلى هذا الوجه للآية بما قبلها تعلق وذلك من حيث إن الله تعالى لما بين رسالة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ وأكده بقوله قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ وكان من عادة المشركين استبعاد تخصيص واحد من بينهم بإنزال الذكر عليه كما قال تعالى عنهم عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل ( ص 8 ) ذكر ما يصلح جواباً لهم فقال قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بِالْحَقّ أي في القلوب إشارة إلى أن الأمر بيده يفعل ما يريد ويعطي ما يشاء لمن يشاء
ثم قال تعالى عَلَّامُ الْغُيُوبِ إشارة إلى جواب سؤال فاسد يذكر عليه وهو أن من يفعل شيئاً كما يريد من غير اختصاص محل الفعل بشيء لا يوجد في غيره لا يكون عالماً وإنما فعل ذلك اتفاقاً كما إذا أصاب السهم موضعاً دون غيره مع تسوية المواضع في المحاذاة فقال يَقْذِفُ بِالْحَقّ كيف يشاء وهو عالم بما يفعله وعالم يعواقب ما يفعله فهو يفعل ما يريد لا كما يفعله الهاجم الغافل عن العواقب إذ هو علام الغيوب الوجه الثاني أن المراد منه هو أنه يقذف بالحق على الباطل كما قال في سورة الأنبياء بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ

( الأنبياء 18 ) وعلى هذا تعلق الآية بما قبلها أيضاً ظاهر وذلك من حيث إن براهين التوحيد لما ظهرت ودحضت شبههم قال قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بِالْحَقّ أي على باطلكم وقوله عَلَّامُ الْغُيُوبِ على هذا الوجه له معنى لطيف وهو أن البرهان الباهر المعقول الظاهر لم يقم إلا على التوحيد والرسالة وأما الحشر فعلى وقوعه لا برهان غير إخبار الله تعالى عنه وعن أحواله وأهواله ولولا بيان الله بالقول لما بان لأحد بخلاف التوحيد والرسالة فلما قال يَقْذِفُ بِالْحَقّ أي على الباطل إشارة إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة قال عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي ما يخبره عن الغيب وهو قيام الساعة وأحوالها فهو لا خلف فيه فإن الله علام الغيوب والآية تحتمل تفسيراً آخر وهو أن يقال رَبّى يَقْذِفُ بِالْحَقّ أي ما يقذفه يقذفه بالحق لا بالباطل والباء على الوجهين الأولين متعلق بالمفعول به أي الحق مقذوف وعلى هذا الباء فيه كالباء في قوله وَقُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْحَقّ ( الزمر 69 ) وفي قوله فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ ( ص 26 ) والمعنى على هذا الوجه هو أن الله تعالى قذف ما قذف في قلب الرسل وهو علام الغيوب يعلم ما في قلوبهم وما في قلوبكم
قُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِى ءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ
لما ذكر الله أنه يقذف بالحق وكان ذلك بصيغة الاستقبال ذكر أن ذلك الحق قد جاء وفيه وجوه أحدها أنه القرآن الثاني أنه بيان التوحيد والحشر وكل ما ظهر على لسان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الثالث المعجزات الدالة على نبوة محمد عليه السلام ويحتمل أن يكون المراد من جَاء الْحَقُّ ظهر الحق لأن كل ما جاء فقد ظهر والباطل خلاف الحق وقد بينا أن الحق هو الموجود ولما كان ما جاء به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يمكن انتفاؤه كالتوحيد والرسالة والحشر كان حقاً لا ينتفي ولما كان ما يأتون به من الإشراك والتكذيب لا يمكن وجوده كان باطلاً لا يثبت وهذا المعنى يفهم من قوله وَمَا يُبْدِىء الْبَاطِلُ أي الباطل لا يفيد شيئاً في الأولى ولا في الآخرة فلا إمكان لوجوده أصلاً والحق المأتي به لا عدم له أصلاً وقيل المراد لا يبدىء الشيطان ولا يعيد وفيه معنى لطيف وهو أن قوله تعالى قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بِالْحَقّ لما كان فيه معنى قوله تعالى بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ كان يقع لمتوهم أن الباطل كان فورد عليه الحق فأبطله ودمغه فقال ههنا ليس للباطل تحقق أولاً وآخراً وإنما المراد من قوله فَيَدْمَغُهُ أي فيظهر بطلانه الذي لم يزل كذلك وإليه الإشارة بقوله تعالى في موضع آخر وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ( الإسراء 81 ) يعني ليس أمراً متجدداً زهوق الباطل فقوله وَمَا يُبْدِىء الْبَاطِلُ أي لا يثبت في الأول شيئاً خلاف الحق وَلاَ يُعِيدُ أي لا يعيد في الآخرة شيئاً خلاف الحق
قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَى َّ رَبِّى إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ

هذا فيه تقرير الرسالة أيضاً وذلك لأن الله تعالى قال على سبيل العموم مَّنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ ( الزمر 41 ) وقال في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَى َّ رَبّى يعني ضلالي على نفسي كضلالكم وأما اهتدائي فليس بالنظر والاستدلال كاهتدائكم وإنما هو بالوحي المبين وقوله إِنَّهُ سَمِيعٌ أي يسمع إذا ناديته واستعديت به عليكم قريب يأتيكم من غير تأخير ليس يسمع عن بعد ولا يلحق الداعي
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ
لما قال سَمِيعُ قال هو قريب فإن لم يعذب عاجلاً ولا يعين صاحب الحق في الحال فيوم الفزع آت لا فوت وإنما يستعجل من يخاف الفوت وقوله وَلَوْ تَرَى جوابه محذوف أي ترى عجباً وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ لا يهربون وإنما الأخذ قبل تمكنهم من الهرب
وَقَالُوا ءَامَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ
أي بعد ظهور الأمر حيث لا ينفع إيمان قالوا آمنا وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ أي كيف يقدرون على الظفر بالمطلوب وذلك لا يكون إلا في الدنيا وهم في الآخرة والدنيا من الآخرة بعيدة فإن قيل فكيف قال كثير من المواضع إن الآخرة من الدنيا قريبة ولهذا سماها الله الساعة وقال لَعَلَّ السَّاعَة َ قَرِيبٌ ( الشورى 17 ) نقول الماضي كالأمس الدابر بعدما يكون إذ لا وصول إليه والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنين فإنه آت فيوم القيامة الدنيا بعيدة لمضيها وفي الدنيا يوم القيامة قريب لإتيانه والتناوش هو التناول عن قرب وقيل عن بعد ولما جعل الله الفعل مأخوذاً كالجسم جعل ظرف الفعل وهو الزمان كظرف الجسم وهو المكان فقال مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ والمراد ما مضى من الدنيا
وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
ثم بين الله تعالى أن إيمانهم لا نفع فيه بسبب أنهم كفروا به من قبل والإشارة في قوله بِهِ إِنَّهُ وقوله وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ إلى شيء واحد إما محمد عليه الصلاة والسلام وإما القرآن وإما الحق الذي أتى به محمد عليه السلام وهو أقرب وأولى وقوله وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ ضد يؤمنون بالغيب لأن الغيب ينزل من الله على لسان الرسول فيقذفه الله في القلوب ويقبله المؤمن وأما الكافر فهو يقذف بالغيب أي يقول ما لا يعلمه وقوله مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ يحتمل أن يكون المراد منه أن مأخذهم بعيد أخذوا الشريك من أنهم لا يقدرون على أعمال كثيرة إلا إذا كانوا أشخاصاً كثيرة فكذلك المخلوقات الكثيرة وأخذوا بعد الإعادة من حالهم وعجزهم عن الإحياء فإن المريض يداوى فإذا مات لا يمكنهم إعادة الروح إليه وقياس الله على المخلوقات بعيد المأخذ ويحتمل أن يقال إنهم كانوا يقولون بأن الساعة إذا كانت قائمة فالثواب والنعيم لنا كقول قائلهم وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ( فصلت 50 ) فكانوا يقولون ذلك فإن كان من قول الرسول فما

كان ذلك عندهم حتى يقولوا عن إحساس فإن ما لا يجب عقلاً لا يعلم إلا بالإحساس أو بقول الصادق فهم كانوا يقولون عن الغيب من مكان بعيد فإن قيل قد ذكرت أن الآخرة قريب فكيف قال من مكان بعيد نقول الجواب عنه من وجهه أحدهما أن ذلك قريب عند من آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومن لم يؤمن لا يمكنه التصديق به فيكون بعيداً عنده الثاني أن الحكاية يوم القيامة فكأنه قال كانوا يقذفون من مكان بعيد وهو الدنيا ويحتمل وجهاً آخر وهو أنهم في الآخرة يقولون رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً ( السجدة 12 ) وهو قذف بالغيب من مكان بعيد وهو الدنيا
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكٍّ مُّرِيبِ
ثم قال تعالى وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ من العود إلى الدنيا أو بين لذات الدنيا فإن قيل كيف يصح قولك ما يشتهون من العود مع أنه تعالى قال كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكّ مُّرِيبِ وما حيل بينهم وبين العود قلنا لم قلتم إنه ما حيل بينهم بل كل من جاءه الملك طلب التأخير ولم يعط وأرادوا أن يؤمنوا عند ظهور اليأس ولم يقبل وقوله مُرِيبٍ يحتمل وجهين أحدهما ذي ريب والثاني موقف في الريب وسنذكره في موضع آخر إن شاء الله تعالى والله أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين وصلاته على خير خلقه محمد النبي وآله وصحبه وأزواجه أجمعين

بداية الجزء السادس والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

سورة فاطر
( أربعون وخمس آيات مكية )
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأرض جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَة ٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً قد ذكرنا فيما تقدم أن الحمد يكون على النعمة في أكثر الأمر ونعم الله قسمان عاجلة وآجلة والعاجلة وجود وبقاء والآجلة كذلك إيجاد مرة وإبقاء أخرى وقوله تعالى الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ إشارة إلى النعمة العاجلة التي هي الإيجاد واستدللنا عليه بقوله تعالى هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وقوله في الكهف الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ إشارة إلى النعمة العاجلة التي هي الإبقاء فإن البقاء والصلاح بالشرع والكتاب ولولاه لوقعت المنازعة والمخاصمة بين الناس ولا يفصل بينهم فكان يفضي ذلك إلى التقاتل وللتفاني فإنزال الكتاب نعمة يتعلق بها البقاء العاجل وفي قوله في سورة سبأ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الاْخِرَة ِ إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني بالحشر واستدللنا عليه بقوله يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الاْرْضِ من الأجسام وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء من الأرواح وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وقوله عن الكافرين وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَة ُ قُلْ بَلَى وَرَبّى وههنا الحمد إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة ويدل عليه قوله تعالى جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً أي يجعلهم رسلاً يتلقون عباد الله كما قال تعالى وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَة ُ وعلى هذا فقوله تعالى فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ يحتمل وجهين الأول معناه مبدعها كما نقل عن ابن عباس والثاني فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي شاقهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض ويدل عليه قوله تعالى جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً فإن في ذلك اليوم تكون الملائكة رسلاً وعلى هذا فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى لأن قوله كما فعل بأشياعهم بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب وتيقنه بأن لا قبول لتوبته ولا فائدة لقوله آمنت كما قال تعالى عنهم وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ فلما ذكر حالهم بين حال الموقن وبشره بإرساله الملائكة إليهم مبشرين وبين أنه يفتح لهم أبواب الرحمة

وقوله تعالى أُوْلِى أَجْنِحَة ٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ أقل ما يكون لذي الجناح أن يكون له جناحان وما بعدهما زيادة وقال قوم فيه إن الجناح إشارة إلى الجهة وبيانه هو أن الله تعالى ليس فوقه شيء وكل شيء فهو تحت قدرته ونعمته والملائكة لهم وجه إلى الله يأخذون منه نعمه ويعطون من دونهم مما يأخذوه بإذن الله كما قال تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ وقوله عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى وقال تعالى في حقهم فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً فهما جناحان وفيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة وفيهم من يفعله لا بواسطة فالفاعل بواسطة فيه ثلاث جهات ومنهم من له أربع جهات وأكثر والظاهر ما ذكرناه أولاً وهو الذي عليه إطباق المفسرين
وقوله تعالى يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاء من المفسرين من خصصه وقال المراد الوجه الحسن ومنهم من قال الصوت الحسن ومنهم من قال كل وصف محمود والأولى أن يعمم ويقال الله تعالى قادر كامل يفعل ما يشاء فيزيد ما يشاء وينقص ما يشاء
وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ يقرر قوله يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاء
مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَة ٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
ثم قال تعالى مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَة ٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ
لما بين كمال القدرة ذكر بيان نفوذ المشيئة ونفاذ الأمر وقال ما يفتح الله للناس يعني إن رحم فلا مانع له وإن لم يرحم فلا باعث له عليها وفي الآية دليل على سبق رحمته غضبه من وجوه أحدها التقديم حيث قدم بيان فتح أبواب الرحمة في الذكر وهو وإن كان ضعيفاً لكنه وجه من وجوه الفضل وثانيها هو أن أنث الكناية في الأول فقال قَدِيرٌ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَة ٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وجاز من حيث العربية أن يقال له ويكون عائداً إلى ما ولكن قال تعالى لَهَا ليعلم أن المفتوح أبواب الرحمة ولا ممسك لرحمته فهي وصلة إلى رحمته وقال عند الإمساك وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ بالتذكير ولم يقل لهما فما صرح بأنه لا مرسل للرحمة بل ذكره بلفظ يحتمل أن يكون الذي لا يرسل هو غير الرحمة فإن قوله تعالى وَمَا يُمْسِكْ عام من غير بيان وتخصيص بخلاف قوله تعالى مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَة ٍ فإنه مخصص مبين وثالثها قوله مِن بَعْدِهِ أي من بعد الله فاستثنى ههنا وقال لا مرسل له إلا الله فنزل له مرسلاً وعند الإمساك الإمساك قال لا ممسك لخا ولم يقل غير الله لأن الرحمة إذا جاءت لا ترتفع فإن من رحمه الله في الآخرة لا يعذبه بعدها هو ولا غيره ومن يعذبه الله فقد يرحمه الله بعد العذاب كالفساق من أهل الإيمان

ثم قال تعالى وَهُوَ الْعَزِيزُ أي كامل القدرة الْحَكِيمُ أي كامل العلم
ياأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ والأرض لاَ إله إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
ثم قال تعالى آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لما بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة التي تستوجب الحمد على سبيل التفصيل بين نعمه على سبيل الإجمال فقال اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ وهي مع كثرتها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء
فقال تعالى هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ إشارة إلى نعمة الإيجاد في الابتداء
وقال تعالى يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاء والاْرْضِ إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرزق إلى الانتهاء
ثم بين أنه لاَ إله إِلاَّ هُوَ نظراً إلى عظمته حيث هو عزيز حكيم قادر على كل شيء قدير نافذ الإرادة في كل شيء ولا مثل لهذا ولا معبود لذاته غير هذا ونظراً إلى نعمته حيث لا خالق غيره ولا رازق إلا هو
ثم قال تعالى فَإِنّي تُؤْفَكُونَ أي كيف تصرفون عن هذا الظاهر فكيف تشركون المنحوت بمن له الملكوت
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّ مُورُ
ثم لما بين الأصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة فقال تعالى وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ
ثم بين من حيث الإجمال أن المكذب في العذاب والمكذب له الثواب بقوله تعالى وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ ثم بين الأصل الثالث وهو الحشر
ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
فقال تعالى الاْمُورُ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي الشيطان وقد ذكرنا ما فيه من المعنى اللطيف في تفسير سورة لقمان ونعيده ههنا فنقول المكلف قد يكون ضعيف الذهن قليل العقل سخيف الرأي فيغتر بأدنى شيء وقد يكون فوق ذلك فلا يغتر به ولكن إذا جاءه غار ورزين له ذلك الشيء وهون عليه مفاسده وبين له منافع يغتر لما فيها من اللذة مع ما ينضم إليه من دعاء ذلك الغار إليه وقد يكون قوي الجأش غزير العقل فلا يغتر ولا يغر فقال الله تعالى لا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا إشارة إلى الدرجة الأولى وقال وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ إشارة إلى الثانية ليكون واقعاً في الدرجة الثالثة وهي العليا فلا يغر ولا يغتر
ثم قال تعالى إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً لما قال تعالى وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ذكر

ما يمنع العاقل من الاغترار وقال إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ولا تسمعوا قوله وقوله فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً أي اعملوا ما يسوءه وهو العمل الصالح
ثم قال تعالى إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ إشارة إلى معنى لطيف وهو أن من يكون له عدو فله في أمره طريقان أحدهما أن يعاديه مجازاة له على معاداته والثاني أن يذهب عداوته بإرضائه فلما قال الله تعالى إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوّا أمرهم بالعداوة وأشار إلى أن الطريق ليس إلا هذا وأما الطريق الآخر وهو الإرضاء فلا فائدة فيه لأنكم إذا راضيتموه واتبعتموه فهو لا يؤديكم إلا إلى السعير
واعلم أن من علم أن له عدو لا مهرب له منه وجزم بذلك فإنه يقف عنده يصبر على قتاله والصبر معه الظفر فكذلك الشيطان لا يقدر الإنسان أن يهرب منه فإنه معه ولا يزال يتبعه إلا أن يقف له ويهزمه فهزيمة الشيطان بعزيمة الإنسان فالطريق الثبات على الجادة والاتكال على العبادة
ثم بين الله تعالى حال حزبه وحال حزب الله فقال
الَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
الَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ فالمعادي للشيطان وإن كان في الحال في عذاب ظاهر وليس بشديد والإنسان إذا كان عاقلاً يختار العذاب المنقطع اليسير دفعاً للعذاب الشديد المؤبد ألا ترى أن الإنسان إذ عرض في طريقه شوك ونار ولا يكون له بد من أحدهما يتخطى الشوزك ولا يدخل النار ونسبة النار التي في الدنيا إلى النار التي في الآخرة دون نسبة الشوك إلى النار العاجلة
وقال تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ قد ذكر تفسيره مراراً وبين فيه أن الإيمان في مقابلته المغفرة فلا يؤيده مؤمن في النار والعمل الصالح في مقابلته الأجر الكبير
أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُو ءَ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ
ثم قال تعالى مِن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ
يعني ليس من عمل سيئاً كالذي عمل صالحاً كما قال بعد هذا بآيات وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور وله تعلق بما قبله وذلك من حيث إنه تعالى لما بين حال المسيء الكافر والمحسن المؤمن وما من أحد يعترف بأنه يعمل سيئاً إلا قليل فكان الكافر يقول الذي له العذاب الشديد هو الذي يتبع الشيطان وهو محمد وقومه الذين استهوتهم الجن افتبعوها والذي له الأجر العظيم نحن الذين دمنا على ما كان عليه آباؤنا فقال الله تعالى لستم أنتم بذلك فإن المحسن غير ومن زين له العمل السيء فرآه حسناً غير بل الذين زين لهم السيء دون من أساء وعلم أنه مسيء فإن الجاهل الذي يعلم جهله والمسيء الذي يعمل سوء عمله يرجع ويتوب والذي لا يعلم يصر على الذنوب والمسيء العالم له صفة ذم بالإساءة وصفة مدح بالعلم والمسيء الذي يرى الإساءة إحساناً له صفتا ذم الإساءة والجهل ثم بين أن الكل بمشيئة الله وقال فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء وذلك لأن الناس أشخاصهم متساوية في الحقيقة والإساءة

والإحسان والسيئة والحسنة يمتاز بعضها عن بعض فإذا عرفها البعض دون البعض لا يكون باستقلال منهم فلا بد من الاستناد إلى إرادة الله
ثم سلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حيث حزن من إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجة باهرة فقال فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ نَّفْسَكَ حَسَراتٍ كما قال تعالى فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءاثَارِهِمْ
ثم بين أن حزنه إن كان لما بهم من الضلال فالله عالم بهم وبما يصنعون لو أراد إيمانهم وإحسانم لصدهم عن الضلال وردهم عن الإضلال وإن كان لما به منهم من الإيذاء فالله عالم بفعله بجازيهم على ما يصنعون
وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ
ثم عاد إلى البيان فقال تعالى وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَاهُ بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ
هبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار وذلك لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى اليسار وفي حركاته المخعلفة قد ينشىء السحاب وقد لا ينشيء فهذه الاختلافات دليل على مسخر مدبر ومؤثر مقدر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال تعالى وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ بلفظ الماضي وقال فَتُثِيرُ سَحَاباً بصيغة المستقبل وذلك لأن لما أسند فعل الإرسال إلى الله وما يفعل الله يكون بقوله كن فلا يبقى في العدم لا زماناً ولا جزأً من الزمان فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان وكأن فرغ من كل شيء فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة إلى المواضع المعينة والتقدير كالإرسال ولما أسند فعل الإثارة إلى الريح وهو يؤلف في زمان فقال تُثِيرُ أي على هيئتها
المسألة الثانية قال أُرْسِلَ إسناداً للفعل إلى الغائب وقال سُقْنَاهُ بإسناد الفعل إلى المتكلم وكذلك في قوله فَأَحْيَيْنَا وذلك لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ثم لما عرف قال أنا الذي عرفتني سقت السحاب وأحييت الأرض فنفى الأول كان تعريفاً بالفعل العيجب وفي الثاني كان تذيراً بالنعمة فإن كما ( ل ) نعمة الرياح والسحب بالسوق والإحياء وقوله سُقْنَاهُ وَأَحْيَيْنَا بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرناه من الفرق بين قوله أُرْسِلَ وبين قوله تُثِيرُ
المسألة الثالثة ما وجه التشبيه بقوله كَذَلِكَ النُّشُورُ فيه وجوه أحدها أن الأرض الميتة لما قبلت الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة وثانيها كما أن الريح يجمع القطع السحابية كذلك يجمع بين أجزاء الأعضاء وأبعاض الأشياء وثالثها كما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت نسوق الروح والحياة إلى البدن الميت

المسألة الرابعة ما الحكمة في اختيار هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد فنقول لما ذكر الله أنه فاطر السموات والأرض وذكر من الأمور السماوية والأرواح وإرسالها بقوله جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ذكر من الأمور الأرضية الرياح وإرسالها بقوله وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ
مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّة َ فَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَائِكَ هُوَ يَبُورُ
ثم قال تعالى مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّة َ فَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ
لما بين برهان الإيمان إشارة إلى ما كان يمنع الكفار منه وهو العزة الظاهرة التي كانوا يتوهمونها من حيث إنهم ما كانوا في طاعة أحد ولم يكن لهم من يأمرهم وينهاهم فكانوا ينحتون الأصنام وكانوا يقولون إن هذه آلهتنا ثم إنهم كانوا ينقلونها مع أنفسهم وإية عزة فوق المعية مع المبعود فهم كانوا يطلبون العزة وهي عدم التذلل للرسول وترك الأتباع له فقال إن كنتم تطلبون بهذا الكفر العزة في الحقيقة فهي كلها لله ومن يتذلل له فهو العزيز ومن يتعزز عليه فهو الذليل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال في هذه الآية فَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ جَمِيعاً وقال في آية أخرى وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فقوله جَمِيعاً يدل على أن لا عزة لغيره فنقول قوله فَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ أي في الحقيقة وبالذات وقوله وَلِرَسُولِهِ أي بواسطة القرب من العزيز وهو الله وللمؤمنين بواسطة قربهم من العزيز بالله وهو الرسول وذلك لأن عزة المؤمنين بواسطة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ألا ترى قوله تعالى إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
المسألة الثانية قوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ تقرير لبيان العزة وذلك لأن الكفار كانوا يقولون نحن لا نعبد من لا نراه ولا نحضر عنده لأن البعد من الملك ذلة فقال تعالى إن كنتم لا تصلون إليه فهو يسمع كلامهم ويقبل الطيب فمن قبل كلامه وصعد إليه فهو عزيز ومن رد كلامه في وجه فهو ذليل وأما هذه الأصنام لا يتبين عندها الذليل من العزيز إذ لا علم لها فكل أحد يمسها وكذلك يرى علمكم فمن عمل صالحاً رفعه إليه ومن عمل سيئاً رده عليه فالعزيز من الذي عمله لوجهه والذليل من يدفع الذي علمه في وجهه وأما هذه الأصنام فلا تعلم شيئاً فلا عزيز يرفع عندها ولا ذليل فلا عزة بها بل عليها ذلة وذلك لأن ذلة السيد ذلة للعبد ومن كان معبوده وربه وإلهه حجارة أو خشباً ماذا يكون هوا
المسألة الثالثة في قوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وجوه أحدها كلمة لا إله إلا الله هي الطيبة وثانيها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر طيب ثالثها هذه الكلمات الأربع وخامسة وهي تبارك الله والمختار إن كل كلام هو ذكر الله أو هو لله كالنصيحة والعلم فهو إليه يصعد

المسألة الرابعة قوله تعالى وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وفي الهاء وجهان أحدهما هي عائدة إلى الكلم الطيب أي العمل الصالح هو الذي يرفعه الكلم الطيب ورد في الخبر ( لا يقبل الله قولاً بلا عمل ) وثانيهما هي عائدة إلى العمل الصالح وعلى هذا في الفاعل الرافع وجهان أحدهما هو الكلم الطيب يرفع العمل الصالح وهذا يؤيده قوله تعالى مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن وثانيهما الرافع هو الله تعالى
المسألة الخامسة ما وجه ترجيح الذكر على العمل على الوجه الثاني حيث يصعد الكلم بنفسه ويرفع العمل بغير فنقول الكلام شريف فإن امتياز الإنسان عن كل حيوان بالنطق ولهذا قال تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ أي بالنفس الناقطة والعمل حركة وسكون يشترك فيه الإنسان وغيره والشريف إذا وصل إلى باب الملك لا يمنع ومن دونه لا يجد الطريق إلا عند الطلب ويدل على هذا أن الكافر إذا تكلم بكلمة الشهادة إن كان عن صدق أمن عذاب الدنيا والآخرة وإن كان ظاهراً أمن في نفسه ودمه وأهله وحرمه في الدنيا ولا كذلك العمل بالجوارح وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ووجه آخر القلب هو الأصل وقد تقدم ما يدل عليه وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) وما في القلب لا يظهر إلا باللسان وما في اللسان لا يتبين صدقه إلا بالفعل ألا ترى أن الإنسان لا يتكلم بكلمة إلا عن قلب وأما الفعل قد يكون لا عن قلب كالعبث باللحية ولأن النائم لا يخلو عن فعل من حركة وتقلب وهو في أكثر الأمر لا يتكلم في نومه إلا نادراً لما ذكرنا إن الكلام بالقلب ولا كذلك العمل فالقول أشرف
المسألة السادسة قال الزمخشري المكر لا يتعدى فبم انتصاب السيئات وقال بأن معناه الذين يمكرون المكرات السيئات فهو صف مصدر محذوف ويحتمل أن يقال استعمل المكر استعمال العمل فعداه تعديته كما قال تعالى الَّذِى يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ وفي قوله الَّذِى يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ يحتمل ما ذكرناه أن يكون السيئات وصفاً لمصدر تقديره الذين يعملون العملات السيئات وعلى هذا فيكون هذا في مقابلة قوله وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ إشارة إلى بقائه وارتقائه وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ أي العمل السيء وَهُوَ يَبُورُ إشارة إلى فنائه
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
ثم قال تعالى وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا
قد ذكرنا مراراً أن الدلائل مع كثرتها وعدم دخولها في عدد محصور منحصرة في قسمين دلائل الآفاق ودلائل الأنفس كما قال تعالى سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ فلما ذكر دلائل الآفاق

من السموات وما يرسل منها من الملائكة والأرض وما يرسل فيها من الرياع شرع في دلائل الأنفس وقد ذكرنا تفسيره مراراً وذكرنا ما قيل من أن قوله مّن تُرَابٍ إشارة إلى خلق آدم ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ إشارة إلى خلق أولاده وبينا أن الكلام غير محتاج إلى هذا التأويل بل خَلَقَكُمْ خطاب مع الناس وهم أولاد آدم كلهم من تراب ومن نطفة لأن كلهم من نطفة والنطفة من غذاء والغذاء بالآخرة ينتهي إلى الماء والتراب فهو من تراب صار نطفة
وقوله وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إشارة إلى كمال العمل فإن ما في الأرحام قبل الانخلاق بل بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد كيف والأم الحاملة لا تعلم منه شيئاً فلما ذكر بقوله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ كمال قدرته بين بقوله وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ كمال علمه ثم بين نفوذ إرادته بقوله وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كِتَابٍ فبين أنه هو القادر العالم المريد والأصنام لا قدرة لها ولا علم ولا إرادة فكيف يستحق شيء منها العبادة وقوله إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي الخلق من التراب ويحتمل أن يكون المراد التعمير والنقصان على الله يسير ويحتمل أن يكون المراد أن العلم بحا تحمله الأثنى يسير والكل على الله يسير والأول أشبه فإن اليسير استعماله في الفعل أليق
وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَة ً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
ثم قال تعالى وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَة ً تَلْبَسُونَهَا
قال أكثر المفسرين إن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان أو الكافر والمؤمن فالإيمان لا يشتبه بالكفر في الحسن والنفع كما لا يشتبه البحران العذب الفرات والملح الأجاج ثم على هذا فقوله وَمِن كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً لبيان أن حال الكافر والمؤمن أو الكفر والإيمان دون حال البحرين لأن الأجاج يشارك الفرات في خير ونفع إذا اللحم الطري يوجد فيهما والحلية توجد منهما والفلك تجري فهيما ولا نفع في الكفر والكافر وهذا على نسق قوله تعالى أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ وقوله كَالْحِجَارَة ِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَة ِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَارُ والأظهر أن المراد منه ذكر دليل آخر على قدر الله وذلك من حيث إن البحرين يستويان في الصورة ويختلفان في الماء فإن أحدهما عذب فرات والآخر ملح أجاج ولو كان ذلك بإيجاب لما اختلف المستويان ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد منهما أمور متشابهة فإن اللحم الطريق يوجد فيهما واللحية تؤخذ منهما ومن يوجد في المتشابهين اختلافاً ومن المختلفين اشتباهاً لا يكون إلا قادراً مختاراً وقوله وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ إشارة إلى أن عدم استوائهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته وفي الآية مسائل

المسألة الأولى قال أهل اللغة لا يقال في ماء البحر إذا كان فيه ملوحة مالح وإنما يقال له ملح وقد يذكر في بعض كتب الفقه يصير بها ماء البحر مالحاً ويؤخذ قائله به وهو أصح مما يذهب إليه القوم وذلك لأن الماء العذب إذا ألقى فيه ملح حتى ملح لا يقال له إلا مالح وماء ملح يقال للماء الذي صار من أصل خلقته كذلك لأن المالح شيء فيه ملح ظاهر في الذوق والماء الملح ليس ماء وملحاً بخلاف الطعام المالح فالماء العذب الملقى فيه الملح ماء فيه ملح ظاهر في الذوق بخلاف ما هو من أصل خلقته كذلك فلما قال الفقيه الملح أجزاء أرضية سبخة يصير بها ماء البحر مالحاً راعى فيه الأصل فإنه جعله ماء جاوره ملح وأهل اللغة حيث قالوا في البحر ماؤه ملح جعلوه كذلك من أصل الخلقة والأجاج المر وقوله وَمِن كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً من الطير والسمك وتستخرجون حلية تلبسونها من اللؤلؤ والمرجان وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ أي ماخرات تمخر البحر بالجريان أي تشق وقوله وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يدل على ما ذكرناه من أن المراد من الآية الاستدلال بالبحرين وما فيهما على وجود الله ووحدانيته وكمال قدرته
يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاًّجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ
ثم قال تعالى يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ
استدلال آخر باختلاف الأزمنة وقد ذكرناه مراراً وذكرنا أن قوله تعالى بعده وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ جواب لسؤال يذكره المشركون وهو أنهم قالوا اختلاف الليل والنهار بسبب اختلاف القسي الواقعة فوق الأرض وتحتها فإن في الصيف تمر الشمس على سمت الرؤوس في بعض البلاد الماثلة في الآفاق وحركة الشمس هناك حمائلية فتقع تحت الأرض أقل من نصف دائرة زمان مكثها تحت الأرض فيقصر الليل وفي الشتاء بالضد فيقصر النهار فقال الله تعالى وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يعني سبب الاختلاف وإن كان ما ذكرتم لكن سير الشمس والقمر بإرادة الله وقدرته فهو الذي فعل ذلك
ثم قال تعالى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ
أي ذلك الذي فعل هذه الأشياء من فطر السموات والأرض وإرسال الأرواح وإرسال الرياح وخلق الإنسان من تراب وغير ذلك له الملك كله فلا معبود إلا هو لذاته الكامل ولكونه ملكاً والملك مخدوم بقدر ملكه فإذا كان له الملك كله فله العبادة كلها ثم بين ما ينافي صفة الإلهية وهو قوله وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ وههنا لطيفة وهي أن الله تعالى ذكر لنفسه نوعين من الأوصاف أحدهما أن الخلق بالقدرة الإرادة والثاني الملك واستدل بهما على أنه إله معبود كما قال تعالى قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ ذكر الرب والملك ورتب عليهما كونه إلهاً أي معبوداً وذكر فيمن أشركوا

به سلب صفة واحدة وهو عدم الملك بقوله وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ولم يذكر سلب الوصف الآخر لوجهين أحدهما أن كلهم كانوا معترفين بأن لا خالق لهم إلا الله وإنما كانوا يقولون بأن الله تعالى فوض أمر الأرض والأرضيات إلى الكواكب التي الأصنام على صورتها وطوالعها فقال لا ملك لهم ولا ملكهم الله شيئاً ولا ملكوا شيئاً وثانيهما أنه يلزم من عدم الملك عدم الخلق لأنه لو خلق شيئاً لملكه فإذا لم يملك قطميراً ما خلق قليلاً ولا كثيراً
إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
ثم قال تعالى إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
إبطالاً لما كانوا يقولون إن في عبادة الأصنام عزة من حيث القرب منها والنظر إليها وعرض الحوائج عليها والله لا يرى ولا يصل إليه أحد فقال هؤلاء لا يسمعون دعاءكم والله يصعد إليه الكلم الطيب ليسمع ويقبل ثم نزل عن تلك الدرجة وقال هب أنهم يسمعون كما يظنون فإنهم كانوا يقولون بأن الأصنام تسمع وتعلم ولكن ما كان يمكنهم أن يقولون إنهم يجيبون لأن ذلك إنكار للمحس به وعدم سماعهم إنكار للمعقول والنزاع وإن كان يقع في المعقول فلا يمكن وقوعه في المحس به ثم إنه تعالى قال وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ لما بين عدم النفع فيهم في الدنيا بين عدم النفع منهم في الآخرة بل أشار إلى وجود الضرر منهم في الآخرة بقوله وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي بإشراككم بالله شيئاً كما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ أي الإشراك وقوله وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون ذلك خطاباً مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ووجهه هو أن الله تعالى لما أخبر أن الخشب والحجر يوم القيامة ينطق ويكذب عابده وذلك أمر لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخبار الله تعالى عنه أنهم يكفرون بهم يوم القيامة وهذا القول مع كون الخبر عنه أمراً عجيباً هو كما قال لأن المخبر عنه خبير وثانيهما هو أن يكون ذلك خطاباً غير مختص بأحد أي هذا الذي ذكر هو كما قال وَلاَ يُنَبّئُكَ أيها السامع كائناً من كنت مِثْلُ خَبِيرٍ
ياأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ
ثم قال تعالى خَبِيرٍ ياأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ
لما كثر الدعاء من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والإصرار من الكفار وقالوا إن الله لعله يحتاج إلى عبادتنا حتى يأمرنا بها أمراً بالغاً ويهددنا على تركها مبالغاً فقال تعالى أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِى ُّ فلا يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم وإنما هو لإشفاقه عليكم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى التعريف في الخبر قليل والأكثر أن يكون الخبر نكرة والمبتدأ معرفة وهو معقول وذلك لأن المخبر لا يخبر في الأكثر إلا بأمر لا يكون عند المخبر به علم أو في ظن المتكلم أن السامع لا علم له

به ثم أن يكون معلوماً عند السامع حتى يقول له أيها السامع الأمر الذي تعرفه أنت فيه المعنى الفلاني كقول القائل زيد قائم أو قام أي زيد الذي تعرفه ثبت له قيام لا علم عندك به فإن كان الخبر معلوماً عند السامع والمبتدأ كذلك ويقع الخبر تنبيهاً لا تفهيماً يحسن تعريف الخبر غاية الحسن كقول القائل الله ربنا ومحمد نبينا حيث عرف كون الله رباً وكون محمد نبياً وههنا لما كان كون الناس فقراء أمراً ظاهراً لا يخفى على أحد قال أَنتُمُ الْفُقَرَاء
المسألة الثانية قوله إِلاَّ اللَّهُ إعلام بأنه لا افتقار إلا إليه ولا اتكال إلا عليه وهذا يوجب عبادته لكونه مفتقراً إليه وعدم عبادة غيره لعدم الافتقار إلى غيره ثم قال وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِى ُّ أي هو مع استغنائه يدعوكم كل الدعاء وأنتم من احتياجكم لا تجيبونه ولا تدعونه فيجيبكم
المسألة الثالثة في قوله الْحَمِيدِ لما زاد في الخبر الأول وهو قوله أَنتُمُ الْفُقَرَاء زيادة وهو قوله إِلَى اللَّهِ إشارة لوجوب حصر العبادة في عبادته زاد في وصفه بالغني زيادة وهو كونه حميداً إشارة إلى كونكم فقراء وفي مقابلته الله غنى وفقركم إليه في مقابلة نعمه عليكم لكونه حميداً واجب الشكر فلستم أنتم فقراء والله مثلكم في الفقر بل هو غني على الإطلاق ولستم أنتم لما افتقرتم إليه ترككم غير مقضي الحاجات بل قضى في الدنيا حوائجكم وإن آمنتم يقضي في الآخرة حوائجكم فهو حميد
إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ
ثم قال تعالى إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بياناً لغناه وفيه بلاغة كاملة وبيانها أنه تعالى قال إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي ليس إذهابكم موقوفاً إلا على مشيئته بخلاف الشيء المحتاج إليه فإن المحتاج لا يقول فيه إن يشأ فلان هدم داره وأعدم عقاره وإنما يقول لولا حاجة السكنى إلى الدار لبعتها أو لولا الافتقار إلى العقار لتركتها ثم إنه تعالى زاد بيان الاستغناء بقوله وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يعني إن كان يتوهم متوهم أن هذا الملك له كمال وعظمة فلو أذهبه لزال ملكه وعظمته فهو قادر بأن يخلق خلقاً جديداً أحسن من هذا وأجمل وأتم وأكمل
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ
ثم قال تعالى وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي الإذهاب والإتيان وههنا مسألة وهي أن لفظ العزيز استعمله الله تعالى تارة في القائم بنفسه حيث قال في حق نفسه وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً وقال في هذه السورة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ واستعمله في القائم بغيره حيث قال وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وقال عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ فهل هما بمعنى واحد أم بمعنيين فنقول العزيز هو الغالب في اللغة يقال من عزيز أي من غلب سلب فالله عزيز أي غالب والفعل إذا كان لا يطيقه شخص يقال هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي لا يغلب الله ذلك الفعل بل هو هين على الله وقوله عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ أي يحزنه ويؤذيه كالشغل الغالب
وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَة ٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَى ْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
وقوله تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَة ٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَى ْء وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى

متعلق بما قبله وذلك من حيث إنه تعالى لما بين الحق بالدلائل الظاهرة والبراهين الباهرة ذكر ما يدعوهم إلى النظر فيه فقال وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى أي لا تحمل نفس ذنب نفس فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لو كان كاذباً في دعائه لكان مذنباً وهو معتقد بأن ذنبه لا تحملونه أنتم فهو يتوقى ويحترز والله تعالى غير فقير إلى عبادتكم فتفكروا واعلموا أنكم إن ضللتم فلا يحمل أحد عنكم وزركم وليس كما يقول ءامَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وازِرَة ٌ أي نفس وازرة ولم يقل ولا تزر نفس وزر أخرى ولا جمع بين الموصوف والصفة فلم يقل ولا تزر نفس وازرة وزرة أخرى لفائدة أما الأول فلأنه لو قال ولا تزر نفس وزر أخرى لما علم أن كل نفس وازرة مهمومة بهم وزرها متحيرة في أمرها ووجه آخر وهو أن قول القائل ولا تزر نفس وزر أخرى قد يجتمع معها أن لا تزر وزراً أصلاً كالمعصوم لا يزر وزر غيره ومع ذلك لا يزر وزراً رأساً فقوله وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ بين أنها تزر وزرها ولا تزر وزر الغير وَأَمَّا ترك ذكر الموصوف فلظهور الصفة ولزومها للموصوف
ثم قال تعالى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَة ٌ إشارة إلى أن أحداً لا يحمل عن أحد شيئاً مبتدئاً ولا بعد السؤال فإن المحتاج قد يصبر وتقضى حاجته من غير سؤاله فإذا انتهى الافتقار إلى حد الكمال يحوجه إلى السؤال
المسألة الثانية في قوله مُثْقَلَة ٌ زيادة بيان لما تقدم من حيث إنه قال أولاً وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى فيظن أن أحداً لا يحمل عن أحد لكون ذلك الواحد قادراً على حمله كما أن القوى إذا أخذ بيده رمانة أو سفرجلة لا تحمل عنه وأما إذا كان الحمل ثقيلاً قد يرحم الحامل فيحمل عنه فقال مُثْقَلَة ٌ يعني ليس عدم الوزر لعدم كونه محلاً للرحمة بالثقل بل لكون النفس مثقلة ولا يحمل منها شيء
المسألة الثالثة زاد في ذلك بقوله وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى أي المدعو لو كان ذا قربى لا يحمله وفي الأول كان يمكن أن يقال لا يحمله لعدم تعلقه به كالعدو الذي يرى عدوه تحت ثقل أو الأجنبي الذي يرى أجنبياً تحت حمل لا يحمل عنه فقال وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى أي يحصل جميع المعاني الداعية إلى الحمل من كون النفس وازرة قوية تحتمل وكون الأخرى مثقلة لا يقال كونها قوية قادرة ليس عليها حمل وكونه سائلة داعية فإن السؤال مظنة الرحمة لو كان المسؤول قريباً فإذن لا يكون التخلف إلا لمانع وهو كون كل نفس تحت حمل ثقيل
ثم قال تعالى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ إشارة إلى أن لا إرشاد فوق ما أتيت به ولم يفدهم فلا تنذر إنذاراً مفيداً إلا الذين تمتلىء قلوبهم خشية وتتحلى ظواهرهم بالعبادة كقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ إشارة إلى عمل القلب وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إشارة إلى عمل

الظواهر فقوله الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ في ذلك المعنى ثم لما بين أَن لا تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى بين أن الحسنة تنفع المحسنين
فقال وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أي فتزكيته لنفسه
ثم قال تعالى وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي المتزكي إن لم تظهر فائدته عاجلاً فالمصير إلى الله يظهر عنده في يوم اللقاء في دار البقاء والوازر إن لم تظهر تبعة وزره في الدنيا فهي تظهر في الآخرة إذ المصير إلى الله
وَمَا يَسْتَوِى الاٌّ عْمَى وَالْبَصِيرُ وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِى الاٌّ حْيَآءُ وَلاَ الاٌّ مْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ
ثم قال تعالى وَمَا يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ وَلاَ الظّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِى الاْحْيَاء وَلاَ الاْمْوَاتُ
لما بين الهدى والضلالة ولم يهتد الكافر وهدى الله المؤمن من ضرب لهم مثلاً بالبصير والأعمى فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح والكافر أعمى وفي تفسير الآية مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في تكثير الأمثلة ههنا حيث ذكر الأعمى والبصير والظلمة والنور والظل والحرور والأحياء والأموات فنقول الأول مثل المؤمن والكافر فالمؤمن بصير والكافر أعمى ثم إن البصير وإن كان حديد البصر ولكن لا يبصر شيئاً إن لم يكن في ضوء فذكر للإيمان والكفر مثلاً وقال الإيمان نور والمؤمن بصير والبصير لا يخفى عليه النور والكفر ظلمة والكافر أعمى فله صاد فوق صاد ثم ذكر لمآلهما ومرجعهما مثلاً وهو الظل والحرور فالمؤمن بإيمانه في ظل وراحة والكافر بكفره في حر وتعب ثم قال تعالى وَمَا يَسْتَوِى الاْحْيَاء وَلاَ الاْمْوَاتُ مثلاً آخر في حق المؤمن والكافر كأنه قال تعالى حال المؤمن والكافر فوق حال الأعمى والبصير فإن الأعمى يشارك البصير في إدراك ما والكافر غير مدرك إدراكاً نافعاً فهو كالميت ويدل على ما ذكرنا أنه تعالى أعاد الفعل حيث قال أولاً وَمَا يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ وعطف الظلمات والنور والظل والحرور ثم أعاد الفعل وقال وَمَا يَسْتَوِى الاْحْيَاء وَلاَ الاْمْوَاتُ كأنه جعل هذا مقابلاً لذلك
المسألة الثانية كرر كلمة النفي بين الظلمات والنور والظل والحرور والأحياء الأموات ولم يكرر بين الأعمى والبصير وذلك لأن التكرير للتأكيد والمنافاة بين الظلمة والنور والظل والحرور مضادة فالظلمة تنافي النور وتضاده والعمى والبصر كذلك أما الأعمى والبصير ليس كذلك بل الشخص الواحد قد يكون بصيراً وهو بعينه يصير أعمى فالأعمى والبصير لا منافاة بينهما إلا من حيث الوصف والظل والحرور والمنافاة بينهما ذاتية لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد فلما كانت المنافاة هناك أتم أكد بالتكرار وأما الأحياء والأموات وإن كانوا كالأعمى والبصير من حيث إن الجسم الواحد يكون حياً محلاً للحياة فيصير ميتاً

محلاً للموت ولكن المنافاة بين الحي والميت أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير كما بينا أن الأعمى والبصير يشتركان في إدراك أشياء ولا كذلك الحي والميت كيف والميت يخالف الحي في الحقيقة لا في الوصف على ما تبين في الحكمة الإلهية
المسألة الثالثة قدم الأشرف في مثلين وهو الظل والحرور وأخره في مثلين وهو البصر والنور وفي مثل هذا يقول المفسرون إنه لتواخي أواخر الآي وهو ضعيف لأن تواخي الأواخر راجع إلى السجع ومعجزة القرآن في المعنى لا في مجرد اللفظ فالشاعر يقدم ويؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملاً له على تغيير المعنى وأما القرآن فحكمة بالغة والمعنى فيه صحيح واللفظ فصيح فلا يقدم ولا يؤخر اللفظ بلا معنى فنقول الكفار قبل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا في ضلالة فكانوا كالعمى وطريقهم كالظلمة ثم لما جاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبين الحق واهتدى به منهم قوم فصاروا بصيرين وطريقتهم كالنور فقال وما يستوي من كان قبل البعث على الكفر ومن اهتدى بعده إلى الإيمان فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والكافر قبل المؤمن قدم المقدم ثم لما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله في الإلهيات سبقت رحمتي غضبي ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق من جميع الوجوه فقال وَمَا يَسْتَوِى الاْحْيَاء أي المؤمنون الذين آمنوا بما أنزل الله والأموات الذين تليت عليهم الآيات البينات ولم ينتفعوا بها وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين المعاندين وقدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الضالين قبل البعثة على المؤمنين المهتدين بعدها
المسألة الرابعة فإن قلت قابل الأعمى بالبصير بلفظ المفرد وكذلك الظل بالحرور وقابل الأحياء بالأموات بلفظ الجمع وقابل الظلمات بالنور بلفظ الجمع في أحدهما والواحد في الآخر فهل تعرف فيه حكمة قلت نعم بفضل الله وهدايته أما في الأعمى والبصير والظل والحرور فلأنه قابل الجنس بالجنس ولم يذكر الأفراد لأن في العميان وأولى الأبصار قد يوجد فرد من أحد الجنسين يساوي فرداً من الجنس الآخر كالبصير الغريب في موضع والأعمى الذي هو تربية ذلك المكان وقد يقدر الأعمى على الوصول إلى مقصد الغريب في موضع والأعمى الذي هو تربية ذلك المكان وقد يقدر الأعمى على الوصول إلى مقصد ولا يقدر البصير عليه أو يكون الأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البليد البصير فالتفاوت بينهما في الجنسين مقطوع به فإن جنس البصير خير من جنس الأعمى وأما الأحياء والأموات فالتفاوت بينهما أكثر إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حياً من الأحياء فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد وأما الظلمات والنور فالحق واحد وهو التوحيد والباطل كثير وهو طرق الإشراك على ما بينا أن بعضهم يعبدون الكواكب وبعضهم النار وبعضهم الأصنام التي هي على صورة الملائكة وإلى غير ذلك والتفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد وبين هذا الواحد بين فقال الظلمات كلها إذا اعتبرتها لا تجد فيها ما يساوي النور وقد ذكرنا في تفسير قوله وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ السبب في توحيد النور وجمع الظلمات ومن جملة ذلك أن النور لا يكون إلا بوجود منور ومحل قابل للاستنارة وعدم الحائل بين النور والمستنير مثاله الشمس إذا طلعت وكان هناك موضع قابل للاستنارة وهو الذي يمسك الشعاع فإن البيت الذي فيه كوة يدخل منها الشعاع إذا كان في مقابلة الكوة منفذ يخرج منه الشعاع

ويدخل بيتاً آخر ويبسط الشعاع على أرضه يرى البيت الثاني مضيئاً والأول مظلماً وإن لم يكن هناك حائل كالبيت الذي لا كوة له فإنه لا يضيء فإذا حصلت الأمور الثلاثة يستنير البيت وإلا فلا تتحقق الظلمة بفقد أي أمر كان من الأمور الثلاثة
إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ وفيه احتمال معنيين الأول أن يكون المراد بيان كون الكفار بالنسبة إلى سماعهم كلام النبي والوحي النازل عليه دون حال الموتى فإن الله يسمع الموتى والنبي لا يسمع من مات وقبر فالموتى سامعون من الله والكفار كالموتى لا يسمعون من النبي والثاني أن يكون المراد تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه لما بين له أنه لا ينفعهم ولا يسمعهم قال له هؤلاء لا يسمعهم إلا الله فإنه يسمع من يشاء ولو كان صخرة صماء وأما أنت فلا تسمع من في القبور فما عليك من حسابهم من شيء
ثم قال تعالى إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ بياناً للتسلية
إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّة ٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ
ثم قال تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا لما قال إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ بين أنه ليس نذيراً من تلقاء نفسه إنما هو نذير بإذن الله وإرساله
ثم قال تعالى وَإِن مّنْ أُمَّة ٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ تقريراً لأمرين أحدهما لتسلية قلبه حيث يعلم أن غيره كان مثله محتملاً لتأذي القوم وثانيهما إلزام القوم قبوله فإنه ليس بدعاً من الرسل وإنما هو مثل غيره يدعى ما ادعاه الرسل ويقرره
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ
وقوله تعالى وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ
يعني أنت جئتهم بالبينة والكتاب فكذبوك وآذوك وغيرك أيضاً أتاهم بمثل ذلك وفعلوا بهم ما فعلوا بك وصبروا على ما كذبوا فكذلك نلزمهم بأن من تقدم من الرسل لم يعلم كونهم رسلاً إلا بالمعجزات البينات وقد آتيناها محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ والكل آتيناها محمداً فهو رسول مثل الرسل يلزمهم قبوله كما لزم قبول موسى وعيسى عليهم السلام أجمعين وهذا يكون تقريراً مع أهل الكتاب واعلم أنه تعالى ذكر أموراً ثلاثة أولها البينات وذلك لأن كل رسول فلا بد له من معجزة وهي أدنى الدرجات ثم قد ينزل عليه كتاب يكون فيه مواعظ وتنبيهات وإن لم يكن فيه نسخ وأحكام مشروعة شرعاً ناسخاً ومن ينزل عليه مثله أعلى مرتبة ممن لا ينزل عليه ذلك وقد تنسخ شريعته الشرائع وينزل عليه كتاب فيه أحكام على وفق

الحكمة الإلهية ومن يكون كذلك فهو من أولي العزم فقال الرسل تبين رسالتهم بالبينات وإن كانوا أعلى مرتبة فبالزبر وإن كانوا أعلى فبالكتاب والنبي آتيناه الكل فهو رسول أشرف من الكل لكون كتابه أتم وأكمل من كل كتاب
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ
ثم قال تعالى ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ
أي من كذب بالكتاب المنزل من قبل وبالرسول المرسل أخذه الله تعالى فكذلك من يكذب بالنبي عليه السلام وقوله فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ سؤال للتقرير فإنهم علموا شدة إنكار الله عليهم وإتيانه بالأمر المنكر من الاستئصال
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ
ثم قال تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا
وهذا استدلال بدليل آخر على وحدانية الله وقدرته وفي تفسيرها مسائل
المسألة الأولى ذكر هذا الدليل على طريقة الاستخبار وقال أَلَمْ تَرَ وذكر الدليل المتقدم على طريقة الأخبار وقال وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ وفيه وجهان الأول أن انزال الماء أقرب إلى النفع والمنفعة فيه أظهر فإنه لا يخفى على أحد في الرؤية أن الماء منه حياة الأرض فعظم دلالته بالاستفهام لأن الاستفهام الذي للتقرير لا يقال إلا في الشيء الظاهر جداً كما أن من أبصر الهلال وهو خفي جداً فقال له غيره أين هو فإنه يقول له في الموضع الفلاني فإن لم يره يقول له الحق معك إنه خفي وأنت معذور وإذا كان بارزاً يقول له أما تراه هذا هو ظاهراً والثاني وهو أنه ذكره بعدما قرر المسألة بدليل آخر وظهر بما تقدم للمدعو بصارة بوجوه الدلالات فقال له أنت صرت بصيراً بما ذكرناه ولم يبق لك عذر ألا ترى هذه الآية
المسألة الثانية المخاطب من هو يحتمل وجهين أحدهما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه حكمة وهي أن الله تعالى لما ذكر الدلائل ولم تنفعهم قطع الكلام معهم والتفت إلى غيرهم كما أن السيد إذا نصح بعض العبيد ومنعهم من الفساد ولا ينفعهم الإرشاد يقول لغيره اسمع ولا تكن مثل هذا ويكرر معه ما ذكره مع الأول ويكون فيه إشعار بأن الأول فيه نقيصة لا يستأهل للخطاب فيتنبه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة والآخر أن لا يخرج إلى كلام أجنبي عن الأول بل يأتي بما يقاربه لئلا يسمع الأول كلاماً آخر فيترك التفكر فيما كان فيه من النصيحة
المسألة الثالثة هذا استدلال على قدرة الله واختياره حيث أخرج من الماء الواحد ممرات مختلفة وفيه لطائف الأولى قال أنزل وقال أخرجنا وقد ذكرنا فائدته ونعيدها فنقول قال الله تعالى الم تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ فإن كان جاهلاً يقول نزول الماء بالطبع لثقله فيقال له فالإخراج لا يمكنك أن تقول فيه إنه بالطبع فهو بإرادة الله فلما كان ذلك أظهر أسنده إلى المتكلم ووجه آخر هو أن الله تعالى لما قال أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ علم الله بدليل وقرب المتفكر فيه إلى الله تعالى فصار من الحاضرين فقال له أخرجنا لقربه ووجه ثالث

الإخراج أتم نعمة من الإنزال لأن الإنزال لفائدة الإخراج فأسند الأتم إلى نفسه بصيغة المتكلم وما دونه بصيغة الغائب
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالاٌّ نْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ
اللطيفة الثانية قال تعالى وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابّ وَالاْنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذَلِكَ
كأن قائلاً قال اختلاف الثمرات لاختلاف البقاع ألا ترى أن بعض النباتات لا تنبت ببعض البلاد كالزعفران وغيره فقال تعالى اختلاف البقاع ليس إلا بإرادة الله وإلا فلم صار بعض الجبال فيه مواضع حمر ومواضع بيض والجدد جمع جدة وهي الخطة أو الطريقة فإن قيل الواو في وَمِنَ الْجِبَالِ ما تقديرها نقول هي تحتمل وجهين أحدهما أن تكون للاستئناف كأنه قال تعالى وأخرجنا بالماء ثمرات مختلفة الألوان وفي الأشياء الكائنات من الجبال جدد بيض دالة على القدرة رادة على من ينكر الإرادة في اختلاف ألوان الثمار ثانيهما أن تكون للعطف تقديرها وخلق من الجبال قال الزمخشري أراد ذو جدد واللطيفة الثالثة ذكر الجبال ولم يذكر الأرض كما قال في موضع آخر وَفِى الاْرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِراتٌ مع أن هذا الدليل مثل ذلك وذلك لأن الله تعالى لما ذكر في الأول أَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ كان نفس إخراج الثمار دليلاً على القدرة ثم زاد عليه بياناً وقال مختلفاً كذلك في الجبال في نفسها دليل للقدرة والإرادة لأن كون الجبال في بعض نواحي الأرض دون بعضها والاختلاف الذي في هيئة الجبل فإن بعضها يكون أخفض وبعضها أرفع دليل القدرة والاختيار ثم زاده بياناً وقال جدد بيض أي مع دلالتها بنفسها هي دالة باختلاف ألوانها كما أن إخراج الثمرات في نفسها دلائل واختلاف ألوانها دلائل
المسألة الرابعة مختلف ألوانها الظاهر أن الاختلاف راجع إلى كل لون أي بيض مختلف ألوانها وحمر مختلف ألوانها لأن الأبيض قد يكون على لون الجص وقد يكون على لون التراب الأبيض دون بياض الجص وكذلك الأحمر ولو كان المراد أن البيض والحمر مختلف الألوان لكان مجرد تأكيد والأول أولى وعلى هذا فنقول لم يذكر مختلف ألوانها بعد البيض والحمر والسود بل ذكره بعد البيض والحمر وأخر السود الغرابيب لأن الأسود لما ذكره مع المؤكد وهو الغرابيب يكون بالغاً غاية السواد فلا يكون فيه اختلاف
المسألة الخامسة قيل بأن الغربيب مؤكد للأسود يقال أسود غربيب والمؤكد لا يجيء إلا متأخراً فكيف جاء غرابيب سود نقول قال الزمخشري غرابيب مؤكد لذي لون مقدر في الكلام كأنه تعالى قال سواد غرابيب ثم أعاد السود مرة أخرى وفيه فائدة وهي زيادة التأكيد لأنه تعالى ذكره مضمراً ومظهراً ومنهم من قال هو على التقديم والتأخير ثم قال تعالى وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابّ وَالاْنْعَامِ استدلالاً آخر على قدرته وإرادته وكأن الله تعالى قسم دلائل الخلق في العالم الذي نحن فيه وهو عالم المركبات قسمين حيوان

وغير حيوان وغير الحيوان إما نبات وإما معدن والنبات أشرف وأشار إليه بقوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ ثم ذكر المعدن بقوله وَمِنَ الْجِبَالِ ثم ذكر الحيوان وبدأ بالأشرف منها وهو الإنسان فقال وَمِنَ النَّاسِ ثم ذكر الدواب لأن منافعها في حياتها والأنعام منفعتها في الأكل منها أو لأن الدابة في العرف تطلق على الفرس وهو بعد الإنسان أشرف من غيره وقوله مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فذكر لكون الإنسان من جملة المذكورين وكون التذكير أعلى وأولى
الخشية بقدر معرفة المخشي والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد لأن الله تعالى قال إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ فبين أن الكرامة بقدر التقوى والتقوى بقدر العلم فالكرامة بقدر العلم لا بقدر العمل نعم العالم إذا ترك العمل قدح ذلك في علمه فإن من يراه يقول لو علم لعمل ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ذكر ما يوجب الخوف والرجاء فكونه عزيزاً ذا انتقام يوجب الخوف التام وكونه غفوراً لما دون ذلك يوجب الرجاء البالغ وقراءة من قرأ بنصب العلماء ورفع الله معناها إنما يعظم ويبجل
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَة ً يَرْجُونَ تِجَارَة ً لَّن تَبُورَ
ثم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ
لما بين العلماء بالله وخشيتهم وكرامتهم بسبب خشيتهم ذكر العالمين بكتابا الله العاملين بما فيه وقوله يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ إشارة إلى الذكر
وقوله تعالى وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ إشارة إلى العمل البدني
وقوله وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ إشارة إلى العمل المالي وفي الآيتين حكمة بالغة فقوله إنما يغشى الله إشارة إلى عمل القلب وقوله إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ إشارة إلى عمل اللسان وقوله وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ إشارة إلى عمل الجوارح ثم إن هذه الأشياء الثلاثة متعلقة بجانب تعظيم الله والشفقة على خلقه لأنا بينا أن من يعظم ملكاً إذا رأى عبداً من عباده في حاجة يلزمه قضاء حاجته وإن تهاون فيه يخل بالتعظيم وإلى هذا أشار بقوله عبدي مرضت فما عدتني فيقول العبد كيف تمرض وأنت رب

العالمين فيقول الله مرض عبدي فلان وما زرته ولو زرته لوجدتني عنده يعني التعظيم متعلق بالشفقة فحيث لا شفقة على خلق الله لا تعظيم لجانب الله
وقوله تعالى سِرّا وَعَلاَنِيَة ً حث على الإنفاق كيفما يتهيأ فإن تهيأ سراً فذاك ونعم وإلا فعلانية ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء فإن ترك الخير مخافة أن يقال فيه إنه مراء عين الرياء ويمكن أن يكون المراد بقوله سِرّا أي صدقة وَعَلاَنِيَة ً أي زكاة فإن الإعلان بالزكاة كالإعلان بالفرض وهو مستحب
وقوله تعالى يَرْجُونَ تِجَارَة ً لَّن تَبُورَ إشارة إلى الإخلاص أي ينفقون لا ليقال إنه كريم ولا لشيء من الأشياء غير وجه الله فإن غير الله بائر والتاجر فيه تجارته بائرة
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ
وقوله تعالى لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ أي ما يتوقعونه ولو كان أمراً بالغ الغاية وَيَزِيدُهُمْ فَضْلِهِ أي يعطيهم ما لم يخطر ببالهم عند العمل ويحتمل أن يكون يزيدهم النظر إليه كما جاء في تفسير الزيادة إِنَّهُ غَفُورٌ عند إعطاء الأجور شَكُورٍ عند إعطاء الزيادة
وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ
ثم قال تعالى وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ
لما بين الأصول الأول وهو وجود الله الواحد بأنواع الدلائل من قوله وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرياح وقوله وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وقوله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة فقال وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ وأيضاً كأنه قد ذكر أن الذين يتلون كتاب الله يوفيهم الله فقال وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ تقريراً لما بين من الأجر والثواب في تلاوة كتاب الله فإنه حق وصدق فتاليه محق ومحقق وفي تفسيرها مسائل
المسألة الأولى قوله مّنَ الْكِتَابِ يحتمل أن يكون لابتداء الغاية كما يقال أرسل إلى كتاب من الأمير أو الوالي وعلى هذا فالكتاب بمكن أن يكون المراد منه اللوح المحفوظ يعني الذي أوحينا من اللوح المحفوظ إليك حق ويمكن أن يكون المراد هو القرآن يعني الإرشاد والتبيين الذي أوحينا إليك من القرآن ويحتمل أن يكون للبيان كما يقال أرسل إلى فلان من الثياب والقماش جملة
المسألة الثانية قوله هُوَ الْحَقُّ آكد من قول القائل الذي أوحينا إليك حق من وجهين أَحَدُهُمَا أن تعريف الخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور لأن الخبر في الأكثر يكن نكرة لأن الإخبار في الغالب يكون إعلاماً بثبوت أمر لا معرفة للسامع به لأمر يعرفه السامع كقولنا زيد قام فإن السامع ينبغي أن يكون عارفاً بزيد ولا يعلم قيامه فيخبر به فإذا كان الخبر أيضاً معلوماً فيكون الأخبار للتنبيه فيعرفان باللام كقولنا زيد العالم في هذه المدينة إذا كان علمه مشهوراً
المسألة الثالثة قوله مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ حال مؤكدة لكونه حقاً لأن الحق إذا لا خلاف بينه وبين كتب الله يكون خالياً عن احتمال البطلان وفي قوله مصدقاً تقرير لكونه وحياً لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما لم يكن قارئاً كاتباً وأتى ببيان ما في كتب الله لا يكون ذلك إلا من الله تعالى وجواب عن سؤال الكفار وهو أنهم كانوا

يقولون بأن التوراة ورد فيها كذا والإنجيل ذكر فيه كذا وكانوا يفترون من التثليث وغيره وكانوا يقولون بأن القرآن فيه خلاف ذلك فقال التوراة والإنجيل لم يبق بهما وثوق بسبب تغييركم فهذا القرآن ما ورد فيه إن كان في التوراة فهو حق وباق على ما نزل وإن لم يكن فيه ويكون فيه خلاف فهو ليس من التوراة فالقرآن مصدق للتوراة وفيه وجه آخر وهو أن يقال إن هذا الوحي مصدق لما تقدم لأن الوحي لو لم يكن وجوده لكذب موسى وعيسى عليهما السلام في إنزال التوراة والإنجيل فإذا وجد الوحي ونزل على محد ( صلى الله عليه وسلم ) علم جواز وصدق به ما تقدم وعلى هذا ففيه لطيفة وهي أنه تعالى جعل القرآن مصدقاً لما مضى مع أن ما مضى أيضاً مصدق له لأن الوحي إذا نزل على واحد جاز أن ينزل على غيره وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يجعل ما تقدم مصدقاً للقرآن كونه معجزة يكفي في تصديقه بأنه وحي وأما ما تقدم فلا بد معه من معجزة تصدقه
المسألة الرابعة قوله إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ فيه وجهان أَحَدُهُمَا أنه تقرير لكونه هو الحق لأنه وحي من الله والله خبير عالم بالبواطن بصير عالم بالظواهر فلا يكون باطلاً في وحيه لا في الباطن ولا في الظاهر وثانيهما أن يكون جواباً لما كانوا يقولونه إنه لم لم ينزل على رجل عظيم فيقال إن الله بعباده لخبير يعلم بواطنهم وبصير يرى ظواهرهم فاختار محمداً عليه السلام ولم يختر غيره فهو أصلح من الكل
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ
ثم قال تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذُنِ اللَّهِ اتفق أكثر المفسرين على أن المراد من الكتاب القرآن وعلى هذا فالذين اصطفيناهم الذين أخذوا بالكتاب وهم المؤمنون والظالم والمقتصد والسابق كلهم منهم ويدل عليه قوله تعالى جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا أخبر بدخولهم الجنة وكلمة ثُمَّ أَوْرَثْنَا أيضاً تدل عليه لأن الإيراث إذا كان بعد الإيحاء ولا كتاب بعد القرآن فهو الموروث والإيراث المراد منه الإعطاء بعد ذهاب من كان بيده المعطى ويحتمل أن يقال المراد من الكتاب هو جنس الكتاب كما في قوله تعالى جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ والمعنى على هذا إنا أعطينا الكتاب الذين اصطفينا وهم الأنبياء ويدل عليه أن لفظ المصطفى على الأنبياء إطلاقه كثير ولا كذلك على غيرهم لأن قوله مّنْ عِبَادِنَا دل على أن العباد أكابر مكرمون بالإضافة إليه ثم إن المصطفين منهم أشرف منهم ولا يليق بمن يكون أشرف من الشرفاء أن يكون ظالماً مع أن لفظ الظالم أطلقه الله في كثير من المواضع على الكافر وسمي الشرك ظلماً وعلى الوجه الأول الظاهر بين معناه آتينا القرآن لمن آمن بمحمد وأخذوه منه وافترقوا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ وهو المسيء وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْراتِ وهو الذي أخلص العمل لله وجرده عن السيئات فإن قال قائل كيف قال في حق من ذكر في حقه أنه من عباده وأنه مصطفى إنه ظالم مع أن الظالم يطلب على الكافر في كثير من المواضع فنقول المؤمن عند المعصية يضع

نفسه في غير موضعها فهو ظالم لنفسه حال المعصية وإليه الإشارة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ويصحح هذا قول عمر رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ظالمنا مغفور له ) وقال آدم عليه السلام مع كونه مصطفى رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وأما الكافر فيضع قلبه الذي به اعتبار الجسد في غير موضعه فهو ظالم على الإطلاق وأما قلب المؤمن فمطمئن بالإيمان لا يضعه في غير التفكر في آلاء الله ولا يضع فيه غير محبة الله وفي المراتب الثلاث أقوال كثيرة أحدها الظالم هو الراجح السيئات والمقتصد هو الذي تساوت سيئاته وحسناته والسابق هو الذي ترجحت حسناته ثانيها الظالم هو الذي ظاهره خبر من باطنه والمقتصد من تساوي ظاهره وباطنه والسابق من باطنه خير ثالثها الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه والمقتصد هو الموحد الذي يمنع جوراحه من المخالفة بالتكليف والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد عن التوحيد ورابعها الظالم صاحب الكبيرة والمقتصد صاحب الصغيرة والسابق المعصوم خامسها الظالم التالي للقرآن غير العالم به والعامل بموجبه والمقتصد التالي العالم والسابق التالي العالم العامل سادسها الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم سابعها الظالم أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة والسابق السابقون المقربون ثامنها الظالم الذي يحاسب فيدخل النار والمقتصد الذي يحاسب فيدخل الجنة والسابق الذي يدخل الجنة من غير حساب تاسعها الظالم المصر على المعصية والمقتصد هو النادم والتائب والسابق هو المقبول التوبة عاشرها الظالم الذين أخذ القرآن ولم يعمل به والمقتصد الذي عمل به والسابق الذي أخذه وعمل به وبين للناس العمل به فعملوا به بقوله فهو كامل ومكمل والمقتصد كامل والظالم ناقص والمختار هو أن الظالم من خالف فترك أوامر الله وارتكب مناهيه فإنه واضع للشيء في غير موضعه والمقتصد هو المجتهد في ترك المخالفة وإن لم يوفق لذلك وندر منه ذنب وصدر عنه إثم فإنه اقتصد واجتهد وقصد الحق والسابق هو الذي لم يخالف بتوفيق الله ويدل عليه قوله تعالى بِإِذُنِ اللَّهِ أي اجتهد ووفق لما اجتهد فيه وفيما اجتهد فهو سابق بالخير يقع في قلبه فيسبق إليه قبل تسويل النفس والمقتصد يقع في قلبه فتردده النفس والظالم تغلبه النفس ونقول بعبارة أخرى من غلبته النفس الأمارة وأمرته فأطاعها ظالم ومن جاهد نفسه فغلب تارة وغلب أخرى فهو المقصد ومن قهر نفسه فهو السابق وقوله ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يحتمل وجوهاً أحدها التوفيق المدلول عليه بقوله بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ثانيها السبق بالخيرات هو الفضل الكبير ثالثها الإيراث فضل كبير هذا على الوجه المشهور من التفسير أما الوجه الآخر وهو أن يقال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ أي جنس الكتاب كما قال تعالى جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ يرد عليه أسئلة أحدهما ثم للتراخي وإيتاء الكتاب بعد الإيحاء إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن فما المراد بكلمة ثم نقول معناه إن الله خبير بصير خبرهم وأبصرهم ثم أورثهم الكتاب كأنه قال تعالى إنا علمنا البواطن وأبصرنا الظواهر فاصطفينا عباداً ثُمَّ أُمُّ الْكِتَابِ ثانيها كيف يكون من الأنبياء ظالم لنفسه نقول منهم غير راجع إلى الأنبياء المصطفين بل المعنى إن الذي أوحينا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلاً وآتيناهم كتباً ومنهم أي من قومك ظالم كفر بك وبما أنزل إليك ومقتصد آمن بك وبما إنزل إليك ومقتصد آمن بك ولم يأت بجميع ما أمرته به وسابق آمن وعمل صالحاً وثالثها قوله جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا الداخلون هم المذكورون وعلى ما ذكرتم لا يكون الظالم داخلاً نقول الداخلون هم السابقون وأما المقتصد فأمره موقوف أو هو يدخل النار أو لا ثم يدخل الجنة والبيان لأول

الأمر لا لما بعده ويدل عليه قوله يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وقوله أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ
ثم قال جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ
وفي الداخلين وجوه أحدها الأقسام الثلاثة وهي على قولنا أن الظالم والمقتصد والسابق أقسام المؤمنين والثاني الذين يتلون كتاب الله والثالث هم السابقون وهو أقوى لقرب ذكرهم ولأنه ذكر إكرامهم بقوله يُحَلَّوْنَ فالمكرم هو السابق وعلى هذا فيه أبحاث
الأول تقديم الفاعل على الفعل وتأخير المفعول عنه موافق لترتيب المعنى إذا كان المفعول حقيقياً كقولنا اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وقول القائل زيد بني الجدار فإن الله موجود قبل كل شيء ثم له فعل هو الخلق ثم حصل به المفعول وهو السموات وكذلك زيد قبل البناء ثم الجدار من بنائه وإذا لم يكن المفعول حقيقياً كقولنا زيد دخل الدار وضرب عمراً فإن الدار في الحقيقة ليس مفعولاً للداخل وإنما فعل من أفعال تحقق بالنسبة إلى الدار وكذلك عمرو فعل من أفعال زيد تعلق به فسمى مفعولاً لا يحصل هذا الترتيب ولكن الأصل تقديم الفاعل على المفعول ولهذا يعاد المفعول المقدم بالضمير تقول عمراً ضربه زيد فتوقعه بعد الفعل بالهاء العائدة إليه وحينئذ يطول الكلام فلا يختاره الحكيم إلا لفائدة فما الفائدة في تقديم الجنات على الفعل الذي هو الدخول وإعادة ذكر بالهاء في يدخلونها وما الفرق بين هذا وبين قول القائل يدخلونها جنات عدن نقول السامع إذا علم أن له مدخلاً من المداخل وله دخول ولم يعلم عين المدخل فإذا قيل له أنت تدخل فإلى أن يسمع الدار أو السوق يبقى متعلق القلب بأنه في أي المداخل يكون فإذا قيل له دار زيد تدخلها فبذكر الدار يعلم مدخله وبما عنده من العلم السابق إن له دخولاً يعلم الدخول فلا يبقى له توقف ولا سيما الجنة والنار فإن بني المدخلين بوناً بعيداً الثاني قوله يُحَلَّوْنَ فِيهَا إشارة إلى سرعة الدخول فإن التحلية لو وقعت خارجاً لكان فيه تأخير الدخول فقال يَدْخُلُونَهَا وفيها تقع تحليتهم الثالث قوله مِنْ أَسَاوِرَ بجمع الجمع فإنه جمع أسورة وهي جمع سوار وقوله وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ليس كذلك لأن الإكثار من اللباس يدل على حاجة من دفع برد أو غيره والإكثار من الزينة لا يدل إلا على الغنى الرابع ذكر الأساور من بين سائر الحلي في كثير من المواضع منها قوله تعالى وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّة ٍ وذلك لأن التحلي بمعنيين أحدهما إظهار كون المتحلي غير مبتذل في الأشغال لأن التحلي لا يكون حالة الطبخ والغسل وثانيهما إظهار الاستغناء عن الأشياء وإظهار القدرة على الأشياء وذلك لأن التحلي إما باللآلىء والجواهر وإما بالذهب والفضة والتحلي بالجواهر واللآلىء يدل على أن المتحلي لا يعجز عن الوصول إلى الأشياء الكبيرة عند الحاجة حيث يعجز عن الوصول إلى الأشياء القليلة الوجود لا لحاجة والتحلي بالذهب والفضلة يدل على أنه غير محتاج حاجة أصلية وإلا لصرف الذهب والفضة إلى دفع الحاجة إذا عرفت هذا فنقول الأساور محلها الأيدي وأكثر الأعمال باليد فإنها للبطش فإذا حليت بالأساور علم الفراغ والذهب واللؤلؤ إشارة إلى النوعين اللذين منهما الحلي

وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
ثم قال تعالى وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
في الحزن أقوال كثيرة والأولى أن يقال المراد إذهاب كل حزن والألف واللام للجنس واستغراقه وإذهاب الحزن بحصول كل ما ينبغي وبقائه دائماً فإن شيئاً منه لو لم يحصل لكان الحزن موجوداً بسببه وإن حصل ولم يدم لكان الحزن غير ذاهب بعد بسبب زواله وخوف فواته وقوله إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ذكر الله عنهم أموراً كلها تفيد الكرامة من الله الأول الحمد فإن الحامد مثاب الثاني قولهم ربنا فإن الله لم يناد بهذا اللفظ إلا واستجاب لهم اللهم إلا أن يكون المنادي قد ضيع الوقت الواجب أو طلب ما لا يجوز كالرد إلى الدنيا من الآخرة الثالث قولهم غَفُورٌ الرابع قولهم شَكُورٍ والغفور إشارة إلى ما غفر لهم في الآخرة بما وجد لهم من الحمد في الدنيا والشكور إشارة إلى ما يعطيهم ويزيد لهم بسبب ما وجد لهم في الآخرة من الحمد
الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَة ِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ
ثم قال تعالى الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَة ِ مِن فَضْلِهِ أي دار الإقامة لما ذكر الله سرورهم وكرامتهم بتحليتهم وإدخالهم الجنات بين سرورهم ببقائهم فيها وأعلمهم بدوامها حيث قالوا الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَة ِ أي الإقامة والمفعول ربما يجيء للمصدر من كل باب يقال ما له معقول أي عقل وقال تعالى مُدْخَلَ صِدْقٍ وقال تعالى وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ وكذلك مستخرج للاستخراج وذلك لأن المصدر هو المفعول في الحقيقة فإنه هو الذي فعل فجاز إقامة المفعول مقامه وفي قوله دَارَ الْمُقَامَة ِ إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل عنها إلى منزلة القبور ومنها إلى منزلة العرصة التي فيها الجمع ومنها التفريق وقد تكون النار لبعضهم منزلة أخرى والجنة دار المقامة وكذلك النار لأهلها وقولهم مِن فَضْلِهِ أي بحكم وعده لا بإيجاب من عنده
وقوله تعالى لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ اللغوب الإعياء والنصب هو السبب للإعياء فإن قال قائل إذا بين أنه لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ علم أنه لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا لُغُوبٌ ولا ينفي المتكلم الحكيم السبب ثم ينفي مسببه بحرف العطف فلا يقول القائل لا أكلت ولا شبعت أو لا قمت ولا مشيث والعكس كثير فإنه يقال لا شبعت ولا أكلت لما أن نفي الشبع لا يلزمه إنتفاء الأكل وسياق ما تقرر أن يقال لا يمسنا فيها إعياء ولا مشقة فنقول ما قاله الله في غاية الجلالة وكلام الله أجل وبيانه أجمل ووجه هو أنه تعالى بين مخالفة الجنة لدار الدنيا فإن الدنيا أماكنها على قسمين أحدهما موضع نمس فيه المشاق والمتاعب كالبراري والصحاري والطرقات والأراضي والآخر موضع يظهر فيه الإعياء كالبيوت والمنازل التي في

الأسفار من الخانات فإن من يكون في مباشرة شغل لا يظهر عليه الإعياء إلا بعدما يستريح فقال تعالى لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ أي ليست الجنة كالمواضع التي في الدنيا مظان المتاعب بل هي أفضل من المواضع التي هي مواضع مرجع العي فقال وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ أي لا نخرج منها إلى مواضع نتعب ونرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء وقرىء لُغُوبٌ بفتح اللام والترتيب على هذه القراءة ظاهر كأنه قال لا نتعب ولا يمسنا ما يصلح لذلك وهذا لأن القوي السوي إذا قال ما تعبت اليوم لا يفهم من كلامه أنه ما عمل شيئاً لجواز أنه عمل عملاً لم يكن بالنسبة إليه متعباً لوقته فإذا قال ما مسني ما يصلح أن يكون متبعاً يفهم أنه لم يعمل شيئاً لأن نفس العمل قد يصلح أن يكون متعباً لضعيف أو متعباً بسبب كثرته واللغوب هو ما يغلب منه وقيل النصب التعب الممرض وعلى هذا فحسن الترتيب ظاهر كأنه قال لا يمسنا مرض ولا دون ذلك وهو الذي يعيا منه مباشرة
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ عطف على قوله إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وما بينهما كلام يتعلق بالذين يتلون كتاب الله على ما بينا وقوله جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا قد ذكرنا أنه على بعض الأقوال راجع إلى الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ
ثم قال تعالى لا يَقْضِى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ أي لا يستريحون بالموت بل العذاب دائم
وقوله تعالى وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ أي النار وفيه لطائف الأولى أن العذاب في الدنيا إن دام كثيراً يقتل فإن لم يقتل يعتاده البدن ويصير مزاجاً فاسداً متمكناً لا يحس به المعذب فقال عذاب نار الآخرة ليس كعذاب الدنيا إما أن يفني وإما أن يألفه البدن بل هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم الثانية راعي الترتيب على أحسن وجه وذلك لأن الترتيب أن لا ينقطع العذاب ولا يفتر فقال لا ينقطع ولا بأقوى الأسباب وهو الموت حتى يتمنون الموت ولا يجابون كما قال تعالى وَنَادَوْاْ يامَالِكُ مَالِكَ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ أي بالموت الثالثة في المعذبين اكتفى بأنه لا ينقص عذابهم ولم يقل نزيدهم عذاباً وفي المثابين ذكر الزيادة بقوله وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ ثم لما بين أن عذابهم لا يخفف
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ
قال تعالى وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا أي لا يخفف وإن اصطرخوا واضطربوا لا يخفف الله من عنده إنعاماً إلى أن يطلبوه بل يطلبون ولا يجدون والاصطراخ من الصراخ والصراخ صوت المعذب
وقوله تعالى رَبَّنَا أَخْرِجْنَا أي صراخهم بهذا أي يقولون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا لأن صراخهم كلام وفيه إشارة إلى أن إيلامهم تعذيب لا تأديب وذلك لأن المؤدب إذا قال لمؤدبه لا أرجع إلى ما فعلت وبئسما

فعلت يتركه وأما المعذب فلا وترتيبه حسن وذلك لأنه لما بين أنه لا يخفف عنهم بالكلية ولا يعفو عنهم بين أنه لا يقبل منهم وعداً وهذا لأن المحبوس يصير لعله يخرج من غير سؤال فإذا طال لبثه تطلب الإخراج من غير قطيعة على نفسه فإن لم يقده يقطع على نفسه قطيعة ويقول أخرجني أفعل كذا وكذا
واعلم أن الله تعالى قد بين أن من يكون في الدنيا ضالاً فهو في الآخرة ضال كما قال تعالى وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ أَعْمَى ثم إنهم لم يعلموا أن العود إلى الدنيا بعيد محال بحكم الإخبار
وعلى هذا قالوا نَعْمَلْ صَالِحاً جازمين من غير استعانة بالله ولا مثنوية فهي ولم يقولوا إن الأمر بيد الله فقال الله لهم إذا كان اعتمادكم على أنفسكم فقد عمرناكم مقداراً يمكن التذكر فيه والإتيان بالإيمان والإقبال على الأعمال
وقولهم غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ إشارة إلى ظهور فساد عملهم ولهم وكأن الله تعالى كما لم يهدهم في الدنيا لم يهدهم في الآخرة فما قالوا ربنا زدت للمحسنين حسنات بفضلك لا بعلمهم ونحن أحوج إلى تخفيف العذاب منهم إلى تضعيف الثواب فافعل بنا ما أنت أهله نظراً إلى فضلك ولا تفعل بنا ما نحن أهله نظراً إلى عدلك وانظر إلى مغفرتك الهاطلة ولا تنظر إلى معذرتنا الباطلة وكما هدى الله المؤمن في الدنيا هداه في العقبى حتى دعاه بأقرب دعاء إلى الإجابة وأثنى عليه بأطيب ثناء عند الإنابة فقالوا الحمد لله وقالوا ربنا غفور اعترافاً بتقصيرهم شكور إقراراً بوصول ما لم يخطر ببالهم إليهم وقالوا أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَة ِ مِن فَضْلِهِ أي لا عمل لنا بالنسبة إلى نعم الله وهم قالوا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إغماضاً في حق تعظيمه وإعراضاً عن الاعتراف بعجزهم عن الإتيان بما يناسب عظمته ثم إنه تعالى بن أنه آتاهم ما يتعلق بقبول المحل من العمر الطويل وما يتعلق بالفاعل في المحل فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كفاعل الخير فيهم ومظهر السعادات
فقال تعالى أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ
فإن المانع إما أن يكون فيهم حيث لم يتمكنوا من النظر فيما أنزل الله وإما أن يكون في مرشدهم حيث لم يتل عليهم ما يرشدهم
ثم قال تعالى فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ وقوله فَذُوقُواْ إشارة إلى الدوام وهو أمر إهانة فما للظالمين الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها وأتوا بالمعذرة في غير وقتها من نصير في وقت الحاجة ينصرهم قال بعض الحكماء قوله فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ وقوله وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ يحتمل أن يكون المراد من الظالم الجاهل جهلاً مركباً وهو الذي يعتقد الباطل حقاً في الدنيا وَمَا لَهُ مِنْهُمْ نَصِيرٍ أي من علم ينفعه في الآخرة والذي يدل عليه هو أن الله تعالى سمي البرهان سلطاناً كما قال تعالى فَاتُواْ بِسُلْطَانٍ والسلطان أقوى ناصر إذ هو القوة أو الولاية وكلاهما ينصر والحق التعميم لأن الله لا ينصره وليس غيره نصيراً فما لهم من نصير أصلاً ويمكن أن يقال إن الله تعالى قال في آل عمران وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ وقال فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مّن نَّاصِرِينَ

وقال ههنا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَصْرُ أي هذا وقت كونهم واقعين في النار فقد أيس كل منهم من كثير ممن كانوا يتوقعون منهم النصرة ولم يبق إلا توقعهم من الله فقال مَا لَكُم مّنْ نَصِيرٍ أصلاً وهناك كان الأمر محكياً في الدنيا أو في أوائل الحشر فنفى ما كانوا يتوقعون منهم النصرة وهم آلهتهم
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ والأرض إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
تقريراً لدوامهم في العذاب وذلك من حيث إن الله تعالى لما قال وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ولا يزاد عليها فلو قال قائل الكافر ما كفر بالله إلا أياماً معدودة فكان ينبغي أن لا يعذب إلى مثل تلك الأيام فقال تعالى إن الله لا يخفي عليه غيب السموات فلا يخفي عليه ما في الصدور وكان يعلم من الكافر أن في قلبه تمكن الكفر بحيث لو دام إلى الأبد لما أطاع الله ولا عبده
وفي قوله تعالى بِذَاتِ الصُّدُورِ مسألة قد ذكرناها مرة ونعيدها أخرى وهي أن لقائل أن يقول الصدور هي ذات اعتقادات وظنون فكيف سمى الله الاعتقادات بذات الصدور ويقرر السؤال قولهم أرض ذات أشجار وذات جني إذا كان فيها ذلك فكذلك الصدر فيه اعتقاد فهو ذو اعتقاد فيقال له لما كان اعتبار الصدر بما فيه صار ما فيه كالساكن المالك حيث لا يقال الدار ذات زيد ويصح أن يقال زيد ذو دار ومال وإن كان هو فيها
هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِى الأرض فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً
ثم قال تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِى الاْرْضِ
تقريراً لقطع حجتهم فإنهم لما قالوا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً وقال تعالى أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ إشارة إلى أن التمكين والإمهال مدة يمكن فيها المعرفة قد حصل وما آمنتم وزاد عليه بقوله وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ أي آتيناكم عقولاً وأرسلنا إليكم من يؤيد المعقول بالدليل المنقول زاد على ذلك بقوله تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِى الاْرْضِ أي نبهكم بمن مضى وحال من انقضى فإنكم لو لم يحصل لكم علم بأن من كذب الرسل أهلك لكان عنادكم أخفى وفسادكم أخف لكن أمهلتم وعمرتم وأمرتم على لسان الرسل بما أمرتم وجعلتم خلائف في الأرض أي خليفة بعد خليفة تعلمون حال الماضين وتصبحون بحالهم راضين فَمَن كَفَرَ بعد هذا كله فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً لأن الكافر السابق كان ممقوتاً كالعبد الذي لا يخدم سيده واللاحق الذي أنذره الرسول ولم ينتبه أمقت كالعبد الذي ينصحه الناصح ويأمره بخدمة سيده ويعده ويوعده ولا ينفعه النصح ولا يسعده والتالي لهم الذي رأى عذاب من تقدم ولم يخش

عذابه أمقت الكل
ثم قال تعالى وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً أي الكفر لا ينفع عند الله حيث لا يزيد إلا المقت ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يفيدهم إلا الخسارة فإن العمر كالرأس مال من اشترى به رضا الله ربح ومن اشترى به سخطه خسر
قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَة ٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً
ثم قال تعالى قُلْ أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ قُلْ أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاْرْضِ أَمْ لَهُمْ
تقريراً للتوحيد وإبطالاً للإشراك وقوله أَرَءيْتُمْ المراد منه أخبروني لأن الاستفهام يستدعي جواباً يقول القائل أرأيت ماذا فعل زيد فيقول السامع باع أو اشترى ولولا تضمنه معنى أخبرني وإلا لما كان الجواب إلا قوله لا أو نعم وقوله شُرَكَاءكُمُ إنما أضاف الشركاء إليهم من حيث إن الإصنام في الحقيقة لم تكن شركاء لله وإنما هم جعلوها شركاء فقال شركاءكم أي الشركاء يجعلكم ويحتمل أن يقال شركاءكم أي شركاءكم في النار لقوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ وهو قريب ويحتمل أن يقال هو بعيد لاتفاق المفسرين على الأول وقوله أَرُونِى َ بدل عن أَرَءيْتُمْ لأن كليهما يفيد معنى أخبروني ويحتمل أن يقال قوله أَرَءيْتُمْ استفهام حقيقي و أَرُونِى َ أمر تعجيز للتبين فلما قال أَرَءيْتُمْ يعني أعلمتم هذه التي تدعونها كما هي وعلى ما هي عليه من العجز أو تتوهمون فيها قدرة فإن كنتم تعلمونها عاجزة فكيف تعبدونها وإن كان وقع لكم أن لها قدرة فأروني قدرتها في أي شيء هي أهي في الأرض كما قال بعضهم إن الله إله السماء وهؤلاء آلهة الأرض وهم الذين قالوا أمور الأرض من الكواكب والأصنام صورها أم هي في السموات كما قال بعضهم إن السماء خلقت باستعانة الملائكة والملائكة شركاء في خلق السموات وهذه الأصنام صورها أم قدرتها في الشفاعة لكم كما قال بعضهم إن الملائكة ما خلقوا شيئاً ولكنهم مقربون عند الله فنعبدها ليشفعوا لنا فهل معهم كتاب من الله فيه إذنه لهم بالشفاعة وقوله قُلْ أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ في العائد إليه الضمير وجهان أحدهما أنه عائد إلى الشركاء أي هل أتينا الشركاء كتاباً وثانيهما أنه عائد إلى المشركين أي هل آتينا المشركين كتاباً وعلى الأول فمعناه ما ذكرنا أي هل مع ما جعل شريكاً كتاب من الله فيه أن له شفاعة عند الله فإن أحداً لا يشفع عنده إلا بإذنه وعلى الثاني معناه أن عبادة هؤلاء إما بالعقل ولا عقل لمن يعبد من لم يخلق من الأرض جزءاً من الأجزاء ولا في السماء شيئاً من الأشياء وإما بالنقل ونحن ما آتينا المشركين كتاباً فيه أمرنا بالسجود لهؤلاء ولو أمرنا لجاز كما أمرنا بالسجود لآدم وإلى جهة الكعبة فهذه العبادة لا عقلية ولا نقلية فوعد بعضهم بعضاً ليس إلا غروراً غرهم الشيطان وزين لهم عبادة الأصنام
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً
ثم لما بين أنه لا خلق للأصنام ولا قدرة لها ولا على جزء من الأجزاء بين أن الله قدير بقوله إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ويحتمل أن يقال لما بين شركهم قال مقتضى شركهم زوال السموات والأرض كما قال تعالى تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً ويدل على هذا قوله تعالى في آخر الآية إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا كان حليماً ما ترك تعذيبهم إلا حلماً منه وإلا كانوا يستحقون إسقاط السماء وانطباق الأرض عليهم وإنما أخر إزالة السموات إلى قيام الساعة حلماً وتحتمل الآية وجهاً ثالثاً وهو أن يكون

ذلك من باب التسليم وإثبات المطلوب على تقدير التسليم أيضاً كأنه تعالى قال شركاؤكم ما خلقوا من الأرض شيئاً ولا في السماء جزءاً ولا قدروا على الشفاعة فلا عبادة لهم وهب أنهم فعلوا شيئاً من الأشياء فهل يقدرون على إمساك السموات والأرض ولا يمكنهم القول بأنهم يقدرون لأنهم ما كانوا يقولون به كما قال تعالى عنهم وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ويؤيد هذا قوله وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ بَعْدِهِ فإذا تبين أن لا معبود إلا الله من حيث إن غيره لم يخلق من الأشياء وإن قال الكافر بأن غيره خلق فما خلق مثل ما خلق فلا شريك له إنه كان حليماً غفوراً حليماً حيث لم يعجل في إهلاكهم بعد إصرارهم على إشراكهم وغفوراً يغفر لمن تاب ويرحمه وإن استحق العقاب
وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الاٍّ مَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِى الأرض وَمَكْرَ السَّيِّى ءِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّى ءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّة َ آلاٌّ وَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّة ِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّة ِ اللَّهِ تَحْوِيلاً
ثم قال تعالى وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الاْمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً
لما بين إنكارهم للتوحيد ذكر تكذيبهم للرسول ومبالغتهم فيه حيث إنهم كانوا يقسمون على أنهم لا يكذبون الرسل إذا تبين لهم كونهم رسلاً وقالوا إنما نكذب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لكونه كاذباً ولو تبين لنا كونه رسولاً لآمنا كما قال تعالى عنهم وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَة ٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا وهذا مبالغة منهم في التكذيب كما أن من ينكر دين إنسان قد يقول والله لو علمت أن له شيئاً علي لقضيته وزدت له إظهاراً لكونه مطالباً بالباطل فكذلك ههنا عاندوا وقالوا والله لو جاءنا رسول لكنا أهدى الأمم فلما جاءهم نذير أي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) جاءهم أي صح مجيؤه لهم بالبينة ما زادهم إلا نفوراً فإنهم قبل الرسالة كانوا كافرين بالله وبعدها صاروا كافرين بالله ورسوله ولأنهم قبل الرسالة ما كانوا معذبين كما صاروا بعد الرسالة وقال بعض المفسرين إن أهل مكة كانوا يلعنون اليهود والنصارى على أنهم كذبوا برسلهم لما جاءوهم وقالو لو جاءنا رسول لأطعناه واتبعناه وهذا فيه إشكال من حيث إن المشركين كانوا منكرين للرسالة والحشر مطلقاً فكيف كانوا يعترفون بالرسل فمن أين عرفوا أن اليهود كذبوا وما جاءهم كتاب ولولا كتاب الله وبيان رسوله من أين كان يعلم المشركون أنهم صدقوا شيئاً وكذبوا في شيء بل المراد ما ذكرنا أنهم كانوا يقولون نحن لو جاءنا رسول لا ننكره وإنما ننكر كون محمد رسولاً من حيث إنه كاذب ولو صح كونه رسولاً لآمنا وقوله فَلَمَّا جَاءهُمُ أي فلما صح لهم مجيؤه بالمعجزة وفي قوله أَهْدَى وجهان أحدهما أن يكون المراد أهدى مما نحن عليه وعلى هذا فقوله مِنْ إِحْدَى الاْمَمِ للنبيين كما يقول القائل زيد من المسلمين ويدل على هذا قوله تعالى فَلَمَّا جَاءهُمُ نَذِيراً مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً أي صاروا أضل مما كانوا وكانوا يقولون نكون أهدى وثانيهما أن يكون المراد أن نكون أهدى من إحدى الأمم كما يقول القائل زيد أولى من عمرو وفي الأمم وجهان أحدهما أن يكون المراد العموم أي أهدى من أي إحدى الأمم وفيه تعريض وثانيهما أن يكون المراد تعريف العهد أي أمة محمد وموسى وعيسى ومن كان في زمانهم

ثم قال تعالى اسْتِكْبَاراً فِى الاْرْضِ ونصبه يحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن يكون حالاً أي مستكبرين في الأرض وثانيها أن يكون مفعولاً له أي للاستكبار وثالثها أن يكون بدلاً عن النفور وقوله وَمَكْرَ إضافة الجنس إلى نوعه كما يقال علم الفقه وحرفة الحدادة وتحقيقه أن يقال معناه ومكروا مكراً سيئاً ثم عرف لظهور مكرهم ثم ترك التعريف باللام وأضيف إلى السيء لكون السوء فيه أبين الأمور ويحتمل أن يقال بأن المكر يستعمل استعمال العمل كما ذكرنا في قوله تعالى يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيّئَاتِ أي يعملون السيئات ومكرهم السيء وهو جميع ما كان يصدر منهم من القصد إلى الإيذاء ومنع الناس من الدخول في الإيمان وإظهار الإنكار ثم قال وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ أي لا يحيط إلا بفاعله وفي قوله وَلاَ يَحِيقُ وقوله إِلاَّ بِأَهْلِهِ فوائد أما في قوله يَحِيقُ فهي أنها تنبىء عن الإحاطة التي هي فوق اللحوق وفيه من التحذير ما ليس في قوله ولا يلحق أو ولا يصل وأما في قوله بِأَهْلِهِ ففيه ما ليس في قول القائل ولا يحيق المكر السيء إلا بالماكر كي لا يأمن المسيء فإن من أساء ومكره سيء آخر قد يلحقه جزاء على سيئة وأما إذا لم يكن سيئاً فلا يكون أهلاً فيأمن المكر السيء وأما في النفي والإثبات ففائدته الحصر بخلاف ما يقول القائل المكر السيء يحيق بأهله فلا ينبىء عن عدم الحيق بغير أهله فإن قال قائل كثيراً ما نرى أن الماكر يمكر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك فنقول الجواب عنه من وجوه أحدها أن المكر المذكور في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم حيث قتلوا يوم بدر وغيره وثانيها هو أن نقول المكر السيء عام وهو الأصح فإن النبي عليه السلام نهى عن المكر وأخبر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله يقول ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ) وعلى هذا فذلك الرجل الممكور به ( لا ) يكون أهلاً فلا يرد نقضاً وثالثها أن الأمور بعواقبها ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر ففي الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك وذلك مثل راحة الكافر ومشقة المسلم في الدنيا ويبين هذا المعنى قوله تعالى فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّة َ آلاْوَّلِينَ يعني إذا كان لمكرهم في الحال رواج فالعاقبة للتقوى والأمور بخواتيمها فيهلكون كما هلك الأولون
وقوله تعالى فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّة َ آلاْوَّلِينَ أي ليس لهم بعد هذا إلا انتظار الإهلاك وهو سنة الأولين وفيه مسائل
المسألة الأولى الإهلاك ليس سنة الأولين إنما هو سنة الله بالأولين فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن المصدر الذي هو المفعول المطلق يضاف إلى الفاعل والمفعول لتعلقه بهما من وجه دون وجه فيقال فيما إذا ضرب زيد عمراً عجبت من ضرب عمرو كيف ضرب مع ماله من العزم والقوة وعجبت من ضرب زيد كيف ضرب مع ماله من العلم والحكمة فكذلك سنة الله بهم أضافها إليهم لأنها سنة سنت بهم وأضافها إلى نفسه بعدها بقوله

فَلَن تَجِدَ لِسُنَّة ِ اللَّهِ تَبْدِيلاً لأنها سنة من سنن الله إذا علمت هذا فنقول أضافها في الأول إليهم حيث قال قُل لِلَّذِينَ لأن سنة الله الإهلاك بالإشراك والإكرام على الإسلام فلا يعلم أنهم ينتظرون أيهما فإذا قال سنة الأولين تميزت وفي الثاني أضافها إلى الله لأنها لما علمت فالإضافة إلى الله تعظمها وتبين أنها أمر واقع ليس لها من دافع وثانيهما أن المراد من سنة الأولين استمرارهم على الإنكار واستكبارهم عن الإقرار وسنة الله استئصالهم بإصرارهم فكأنه قال أنتم تريدون الإتيان بسنة الأولين والله يأتي بسنة لا تبديل لها ولا تحويل عن مستحقها
المسألة الثانية التبديل تحويل فما الحكمة في التكرار نقول بقوله فَلَن تَجِدَ لِسُنَّة ِ اللَّهِ تَبْدِيلاً حصل العلم بأن العذاب لا تبديل له بغيره وبقوله وَلَن تَجِدَ لِسُنَّة ِ اللَّهِ تَحْوِيلاً حصل العلم بأن العذاب مع أنه لا تبديل له بالثواب لا يتحول عن مستحقه إلى غيره فيتم تهديد المسيء
المسألة الثالثة المخاطب بقوله فَلَن تَجِدَ يحتمل وجهين وقد تقدم مراراً أحدهما أن يكون عاماً كأنه قال فلن تجد أيها السامع لسنة الله تبديلاً والثاني أن يكون مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا فكأنه قال سنة الله أنه لا يهلك ما بقي في القوم من كتب الله إيمانه فإذا آمن من في علم الله أنه يؤمن يهلك الباقين كما قال نوح إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ أي تمهل الأمر وجاء وقت سنتك
أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّة ً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَى ْءٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الأرض إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً
ثم قال تعالى أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّة ً
لما ذكر أن للأولين سنة وهي الإهلاك نبههم بتذكير حال الأولين فإنهم كانوا مارين على ديارهم رائين لآثارهم وأملهم كان فوق أملهم وعملهم كان دون عملهم أما الأول فلطول أعمارهم وشدة اقتدارهم وأما عملهم فلأنهم لم يكذبوا مثل محمد ولا محمداً وأنتم يا أهل مكة كذبتم محمداً ومن تقدمه وقوله تعالى وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّة ً قد ذكرناه في سورة الروم بقي فيه أبحاث
الأول قال هناك كَانُواْ أَشَدَّ من غير واو وقال ههنا بالواو فما الفرق نقول قول القائل أما رأيت زيداً كيف أكرمني وأعظم منك يفيد أن القائل يخبره بأن زيداً أعظم وإذا قال أما رأيته كيف أكرمني هو أعظم منك يفيد أنه تقرر أن كلا المعنيين حاصل عند السامع كأنه رآه أكرمه ورآه أكبر منه ولا شك أن هذه العبارة الأخيرة تفيد كون الأمر الثاني في الظهور مثل الأول بحيث لا يحتاج إلى إعلام من المتكلم ولا إخبار إذا علمت هذا فنقول المذكور ههنا كونهم أشد منهم قوة لا غير ولعل ذلك كان ظاهراً عندهم فقال بالواو أي نظركم كما يقع على عاقبة أمرهم يقع على قوتهم وأما هناك فالمذكور أشياء كثيرة فإنه قال كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّة ً وَأَثَارُواْ الاْرْضَ وَعَمَرُوهَا وفي موضع آخر قال أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّة ً وَءاثَاراً فِى الاْرْضِ ولعل علمهم لم يحصل

بإثارتهم الأرض أو بكثرتهم ولكن نفس القوة ورجحانهم فيما عليهم كان معلوماً عندهم فإن كل طائفة تعتقد فيمن تقدمهم أنهم أقوى منهم ولا نزاع فيه
وقوله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَى ْء فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً يحتمل وجهين أحدهما أن يكون بياناً لهم أي أن الأولين مع شدة قوتهم ما أعجزوا الله وما فاتوه فهم أولى بأن لا يعجزوه والثاني أن يكون قطعاً لأطماع الجهال فإن قائلاً لو قال هب أن الأولين كانوا أشد قوة وأطول أعماراً لكنا نستخرج بذكائنا ما يزيد على قواهم ونستعين بأمور أرضية لها خواص أو كواكب سماوية لها آثار فقال تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَى ْء فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً بأفعالهم وأقوالهم قَدِيراً على إهلاكهم واستئصالهم
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّة ٍ وَلَاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً
ثم قال تعالى وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة ٍ وَلَاكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء
لما خوف الله المكذبين بمن مضى وكانوا من شدة عنادهم وفساد اعتقادهم يستعجلون بالعذاب ويقولون عجل لنا عذابنا فقال الله للعذاب أجل والله لا يؤاخذ الله الناس بنفس الظلم فإن الإنسان ظلوم جهول وإنما يؤاخذ بالإصرار وحصول يأس الناس عن إيمانهم ووجود الإيمان ممن كتب الله إيمانه فإذا لم يبق فيهم من يؤمن يهلك المكذبين ولو آخذهم بنفس الظلم لكان كل يوم إهلاك وفيه مسائل
المسألة الأولى إذا كان الله يؤاخذ الناس بما كسبوا فما بال الدواب يهلكون نقول الجواب من وجوه أحدها أن خلق الدواب نعمة فإذا كفر الناس يزيل الله النعم والدواب أقرب النعم لأن المفرد أولاً ثم المركب والمركب إما أن يكون معدنياً وإما أن يكون نامياً والنامي إما أن يكون حيواناً وإما أن يكون نباتاً والحيوان إما إنسان وإما غير إنسان فالدواب أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان الثاني هو أن ذلك بيان لشدة العذاب وعمومه فإن بقاء الأشياء بالإنسان كما أن بقاء الإنسان بالأشياء وذلك لأن الإنسان يدبر الأشياء ويصلحها فتبقى الأشياء ثم ينتفع بها الإنسان فيبقى الإنسان فإذا كان الهلاك عاماً لا يبقى من الإنسان من يعمر فلا تبقى الأبنية والزروع فلا تبقى الحيوانات الأهلية لأن بقاءها بحفظ الإنسان إياها عن التلف والهلاك بالسقي والعلف الثالث هو أن إنزال المطر هو إنعام من الله في حق العباد فإذا لم يستحقوا الإنعام قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فتموت جميع الحيوانات وقوله تعالى مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة ٍ الوجه الثالث لأن بسبب انقطاع الأمطار تموت حيوانات البر أما حيوانات البحر فتعيش بماء البحار
المسألة الثانية قوله تعالى عَلَى ظَهْرِهَا كناية عن الأرض وهي غير مذكورة فكيف علم نقول مما تقدم ومما تأخر أما ما تقدم فقوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَى ْء فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ فهو أقرب

المذكورات الصالحة لعود الهاء إليها وأما ما تأخر فقوله مِن دَابَّة ٍ لأن الدواب على ظهر الأرض فإن قيل كيف يقال لما عليه الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض مع أن الوجه مقابل الظهر كالمضاد نقول من حيث إن الأرض كالدابة الحاملة للأثقال والحمل يكون على الظهر يقال له ظهر الأرض ومن حيث إن ذلك هو المقابل للخلق المواجه لهم يقال له وجهها على أن الظهر في مقابلة البطن والظهر والظاهر من باب والبطن والباطن من باب فوجه الأرض ظهر لأنه هو الظاهر وغيره منها باطن وبطن
المسألة الثالثة في قوله تعالى وَلاكِن يُؤَخِرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وجوه أحدها إلى يوم القيامة وهو مسمى مذكور في كثير من المواضع ثانيها يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن على ما تقدم ثالثها لكل أمة أجل ولكل أجل كتاب وأجل قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أيام القتل والأسر كيوم بدر وغيره
المسألة الرابعة قوله تعالى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً تسلية للمؤمنين للمؤمنين وذلك لأنه تعالى لما قال مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة ٍ وقال لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّة ً قال فإذا جاء الهلاك فالله بالعباد بصير إما أن ينجيهم أو يكون توفيهم تقريباً من الله لا تعذيباً لا يقال قد ذكرت أن الله لا يؤاخذ بمجرد الظلم وإنما يؤاخذ حين يجتمع الناس على الضلال ونقول بأنه تعالى عند الإهلاك يهلك المؤمن فكيف هذا نقول قد ذكرنا أن الإماتة والإفناء إن كان للتعذيب فهو مؤاخذة بالذنب وإهلاك وإن كان لإيصال الثواب فليس بإهلاك ولا بمؤاخذة والله لا يؤاخذ الناس إلا عند عموم الكفر وقوله بَصِيرٌ اللفظ أتم في التسلية من العليم وغيره لأن البصير بالشيء الناظر إليه أولى بالإنجاء من العالم بحالة دون أن يراه والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

سورة يس
ثمانون وثلاث آيات مكية
يس وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ
يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ قد ذكرنا كلاماً كلياً في حروف التهجي في سورة العنكبوت وذكرنا أن في كل سورة بدأ الله فيها بحروف التهجي كان في أوائلها الذكر أو الكتاب أو القرآن ولنذكر ههنا أبحاثاً
البحث الأول هو أن في ذكر هذه الحروف في أوائل السور أموراً تدل على أنها غير خالية عن الحكمة ولكن علم الإنسان لا يصل إليها بعينها فنقول ما هو الكلي من الحكمة فيها أما بيان أن فيها ما يدل على الحكمة فهو أن الله تعالى ذكر من الحروف نصفها وهي أربعة عشر حرفاً وهي نصف ثمانية وعشرين حرفاً وهي جميع الحروف التي في لسان العرب على قولنا الهمزة ألف متحركة ثم إنه تعالى قسم الحروف ثلاثة أقسام تسعة أحرف من الألف إلى الذال وتسعة أحرف أخر في آخر الحروف من الفاء إلى الياء وعشرة من الوسط من الراء إلى الغين وذكر من القسم الأول حرفين هما الألف والحاء وترك سبعة وترك من القسم الآخر حرفين هما الفاء والواو وذكر سبعة ولم يترك من القسم الأول من حروف الحلق والصدر إلا واحداً لم يذكره وهو الخاء ولم يذكر من القسم الآخر من حروف الشفة إلا واحداً لم يتركه وهو الميم والعشر الأواسط ذكر منها حرفاً وترك حرفاً فذكر الراء وترك الزاي وذكر السين وترك الشين وذكر الصاد وترك الضاد وذكر الطاء وترك الظاء وذكر العين وترك الغين وليس هذا أمراً يقع اتفاقاً بل هو ترتيب مقصود فهو لحكمة وأما أن عينها غير معلومة فظاهر وهب أن واحداً يدعى فيها شيئًا فماذا يقول في كون بعض السور مفتتحة بحرف كسورة ن وق وص وبعضها بحرفين كسورة حم ويس وطس وطه وبعضها بثلاثة أحرف كسورة الم وطسم والر وبعضها بأربعة كسورتي المر والمص وبعضها بخمسة أحرف كسورتي حمعسق وكهيعص وهب أن قائلاً يقول إن هذا إشارة إلى أن الكلام إما حرف وإما فعل وإما اسم والحرف كثيراً ما جاء على حرف كواو العطف وفاء التعقيب وهمزة الاستفهام وكاف التشبيه وباء الإلصاق وغيرها وجاء على حرفين كمن للتبعيض وأو للتخيير وأم للاستفهام المتوسط وأن للشرط وغيرها والاسم

والفعل والحرف جاء على ثلاثة أحرف كإلى وعلى في الحرف وإلى وعلى في الاسم وألا يألو وعلا يعلو في الفعل والاسم والفعل جاء على أربعة والاسم خاصة جاء على ثلاثة وأربعة وخمسة كفجل وسجل وجردحل فما جاء في القرآن إشارة إلى أن تركيب العربية من هذه الحروف على هذه الوجوه فماذا يقول هذا القائل في تخصيص بعض السور بالحرف الواحد والبعض بأكثر فلا يعلم تمام السر إلا الله ومن أعلمه الله به إذا علمت هذا فنقول اعلم أن العبادة منها قلبية ومنها لسانية ومنها جارحية وكل واحدة منها قسمان قسم عقل معناه وحقيقته وقسم لم يعلم أما القلبية مع أنها أبعد عن الشك والجهل ففيها ما لم يعلم دليله عقلاً وإنما وجب الإيمان به والاعتقاد سمعاً كالصراط الذي ( هو ) أرق من الشعرة وأحد من السيف ويمر عليه المؤمن والموقن كالبرق الخاطف والميزان الذي توزن به الأعمال التي لا ثقل لها في نظر الناظر وكيفيات الجنة والنار فإن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي وإنما المعلوم بالعقل إمكانها ووقوعها معلوم مقطوع به بالسمع ومنها ما علم كالتوحيد والنبوة وقدرة الله وصدق الرسول وكذلك في العبادات الجارحية ما علم معناه وما لم يعلم كمقادير النصب وعدد الركعات وقد ذكرنا الحكمة فيه وهي أن العبد إذا أتى بما أمر به من غير أن يعلم ما فيه من الفائدة لا يكون إلا آتياً بمحض العبادة بخلاف ما لو علم الفائدة فربما يأتي به للفائدة وإن لم يؤمن كما لو قال السيد لعبده انقل هذه الحجارة من ههنا ولم يعلمه بما في النقل فنقلها ولو قال انقلها فإن تحتها كنزاً هو لك ينقلها وإن لم يؤمن إذا علم هذا فكذلك في العبادات اللسانية الذكرية وجب أن يكون منها ما لا يفهم معناه حتى إذا تكلم به العبد علم منه أنه لا يقصد غير الانقياد لأمر المعبود الآمر الناهي فإذا قال حم يس الم طس علم أنه لم يذكر ذلك لمعنى يفهمه أو يفهمه فهو يتلفظ به إقامة لما أمر به
البحث الثاني قيل في خصوص يس إنه كلام هو نداء معناه يا إنسان وتقريره هو أن تصغير إنسان إنيسين فكأنه حذف الصدر منه وأخذ العجز وقال يس أي أنيسين وعلى هذا يحتمل أن يكون الخطاب مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويدل عليه قوله تعالى بعده إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
البحث الثالث قرىء يس إما بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف هو قوله هذه كأنه قال هذه يس وإما بالضم على نداء المفرد أو على أنه مبني كحيث وقرىء يس إما بالنصب على معنى اتل يس وإما بالفتح كأين وكيف وقرىء يس بالكسر كجير لإسكان الياء وكسرة ما قبلها ولا يجوز أن يقال بالجر لأن إضمار الجار غير جائز وليس فيه حرف قسم ظاهر وقوله تعالى وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ أي ذي الحكمة كعيشة راضية أي ذات رضا أو على أنه ناطق بالحكمة فهو كالحي المتكلم
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
وقوله تعالى إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ مقسم عليه وفيه مسائل
المسألة الأولى الكفار أنكروا كون محمد مرسلاً والمطالب تثبت بالدليل لا بالقسم فما الحكمة في الإقسام نقول فيه وجوه الأول هو أن العرب كانوا يتوقون الأيمان الفاجرة وكانوا يقولون إن اليمين الفاجرة توجب خراب العالم وصحح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك بقوله ( اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع ) ثم إنهم كانوا يقولون إن

النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصيبه من آلهتهم عذاب وهي الكواكب فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يحلف بأمر الله وإنزال كلامه عليه وبأشياء مختلفة وما كان يصيبه عذاب بل كان كل يوم أرفع شأناً وأمنع مكاناً فكان ذلك يوجب اعتقاد أنه ليس بكاذب الثاني هو أن المتناظرين إذا وقع بينهما كلام وغلب أحدهما الآخر بتمشية دليله وأسكته يقول المطلوب إنك قررت هذا بقوة جدالك وأنت خبير في نفسك بضعف مقالك وتعلم أن الأمر ليس كما تقول وإن أقمت عليه صورة دليل وعجزت أنا عن القدح فيه وهذا كثير الوقوع بين المتناظرين فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر لأن الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول فلا يجد أمراً إلا اليمين فيقول والله إني لست مكابراً وإن الأمر على ما ذكرت ولو علمت خلافه لرجعت إليه فههنا يتعين اليمين فكذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما أقام البراهين وقالت الكفرة مَا هَاذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ وَقَالُواْ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ تعين التمسك بالأيمان لعدم فائدة الدليل الثالث هو أن هذا ليس مجرد الحلف وإنما هو دليل خرج في صورة اليمين لأن القرآن معجزة ودليل كونه مرسلاً هو المعجزة والقرآن كذلك فإن قيل فلم لم يذكر في صورة الدليل وما الحكمة في ذكر الدليل في صورة اليمين قلنا الدليل أن ذكره في صورة اليمين قد لا يقبل عليه سامع فلا يقبله فؤاده فإذا ابتدىء به على صورة اليمين واليمين لا يقع لا سيما من العظيم الأعلى أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه فلصورة اليمين تشرئب إليه الأجسام ولكونه دليلاً شافياً يتشربه الفؤاد فيقع في السمع وينفع في القلب
المسألة الثانية كون القرآن حكيماً عندهم لكون محمد رسولاً فلهم أن يقولوا إن هذا ليس بقسم نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن كون القرآن معجزة بين إن أنكروه قيل لهم فأتوا بسورة من مثله والثاني أن العاقل لا يثق بيمين غيره إلا إذا حلف بما يعتقد عظمته فالكافر إن حلف بمحمد لا نصدقه كما نصدقه لو حلف بالصليب والصنم ولو حلف بديننا الحق لا يوثق بمثل ما يوثق به لو حلف بدينه الباطل وكان من المعلوم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه يعظمون القرآن فحلفه به هو الذي يوجب ثقتهم به
عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
وقوله تعالى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ خبر بعد خبر أي إنك على صراط مستقيم والمستقيم أقرب الطرق الموصلة إلى المقصد والدين كذلك فإنه توجه إلى الله تعالى وتولى عن غيره والمقصد هو الله والمتوجه إلى المقصد أقرب إليه من المولى عنه والمتحرف منه ولا يذهب فهم أحد إلى أن قوله إنك منهم على صراط مستقيم مميز له عن غيره كما يقال إن محمداً من الناس مجتبى لأن جميع المرسلين على صراط مستقيم وإنما المقصود بيان كون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الصراط المستقيم الذي يكون عليه المرسلون وقوله عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ فيه معنى لطيف يعلم منه فساد قول المباحية الذين يقولون المكلف يصير واصلاً إلى الحق فلا يبقى عليه تكليف وذلك من حيث إن الله بين أن المرسلين ما داموا في الدنيا فهم سالكون سائحون مهتدون منتهجون إلى السبيل المستقيم فكيف ذلك الجاهل العاجز

تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ
وقوله تعالى تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ قرىء بالجر على أنه بدل من القرآن كأنه قال وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لّتُنذِرَ وقرىء بالنصب وفيه وجهان أحدهما أنه مصدر فعله منوي كأنه قال نزل تنزيل العزيز الرحيم لتنذر ويكون تقديره نزل القرآن أو الكتاب الحكيم والثاني أنه مفعول فعل منوي كأنه قال والقرآن الحكيم أعني تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر وهذا ما اختاره الزمخشري وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ منوي كأنه قال هذا تنزيل العزيز الرحيم لتنذر ويحتمل وجهاً آخر على هذه القراءة وهو أن يكون مبتدأ خبره لتنذر كأنه قال تنزيل العزيز للإنذار وقوله الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ إشارة إلى أن الملك إذا أرسل رسولاً فالمرسل إليهم إما أن يخالفوا المرسل ويهينوا المرسل وحينئذٍ لا يقدر الملك على الانتقام منهم إلا إذا كان عزيزاً أو يخافوا المرسل ويكرموا المرسل وحينئذٍ يرحمهم الملك أو نقول المرسل يكون معه في رسالته منع عن أشياء وإطلاق لأشياء فالمنع يؤكد العزة والإطلاق يدل على الرحمة
لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ
وقوله تعالى لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ
قد تقدم تفسيره في قوله لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ وقيل المراد الإثبات وهو على وجهين أحدهما لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فتكون ما مصدرية الثاني أن تكون موصولة معناه لتنذر قوماً الذين أنذر آباؤهم فهم غافلون فعلى قولنا ما نافية تفسيره ظاهر فإن من لم ينذر آباؤه وبعد الإنذار عنه فهو يكون غافلاً وعلى قولنا هي للإثبات كذلك لأن معناه لتنذرهم إنذار آبائهم فإنهم غافلون وفيه مسائل
المسألة الأولى كيف يفهم التفسيران وأحدهما يقتضي أن لا يكون آباؤهم منذرين والآخر يقتضي أن يكونوا منذرين وبينهما تضاد نقول على قولنا ما نافية معناه ما أنذر آباؤهم وإنذار آبائهم الأولين لا ينافي أن يكون المتقدمون من آبائهم منذرين والمتأخرون منهم غير منذرين
المسألة الثانية قوله لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ يقتضي أن لا يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مأموراً بإنذار اليهود لأن آباءهم أنذروا نقول ليس كذلك أما على قولنا ما للإثبات لا للنفي فظاهر وأما على قولنا هي نافية فكذلك وقد بينا ذلك في قوله تعالى بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ وقلنا إن المراد أن آباءهم قد أنذروا بعد ضلالهم وبعد إرسال من تقدم فإن الله إذا أرسل رسولاً فما دام في القوم من يبين دين ذلك النبي ويأمر به لا يرسل الرسول في أكثر الأمر فإذا لم يبق فيهم من يبين ويضل الكل ويتباعد العهد ويفشو الكفر يبعث رسولاً آخر مقرراً لدين من كان قبله أو واضعاً لشرع آخر فمعنى قوله تعالى لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ أي ما أنذروا بعد ما ضلوا عن طريق الرسول المتقدم واليهود والنصارى دخلوا فيه لأنهم لم تنذر آباؤهم الأدنون بعد ما ضلوا فهذا دليل على كون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مبعوثاً بالحق إلى الخلق كافة
المسألة الثالثة قوله فَهُمْ غَافِلُونَ دليل على أن البعثة لا تكون إلا عند الغفلة أما إن حصل لهم العلم بما أنزل الله بأن يكون منهم من يبلغهم شريعة ويخالفونه فحق عليهم الهلاك ولا يكون ذلك تعذيباً من

قبل أن يبعث الله رسولاً وكذلك من خالف الأمور التي لا تفتقر إلى بيان الرسل يستحق الإهلاك من غير بعثة وليس هذا قولاً بمذهب المعتزلة من التحسين والتقبيح العقلي بل معناه أن الله تعالى لو خلق في قوم علماً بوجوب الأشياء وتركوه لا يكونون غافلين فلا يتوقف تعذيبهم على بعثة الرسل
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ
ثم قال تعالى لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ
لما بين أن الإرسال أو الإنزال للإنذار أشار إلى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليس عليه الهداية المستلزمة للاهتداء وإنما عليه الإنذار وقد لا يؤمن من المنذرين كثير وفي قوله تعالى لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ وجوه الأول وهو المشهور أن المراد من القول هو قوله تعالى حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ الثاني هو أن معناه لقد سبق في علمه أن هذا يؤمن وأن هذا لا يؤمن فقال في حق البعض أنه لا يؤمن وقال في حق غيره أنه يؤمن فَحَقَّ الْقَوْلِ أي وجد وثبت بحيث لا يبدل بغيره الثالث هو أن يقال المراد منه لقد حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبأن برهانه فأكثرهم لا يؤمنون بعد ذلك لأن من يتوقف لاستماع الدليل في مهلة النظر يرجى منه الإيمان إذا بان له البرهان فإذا تحقق وأكد بالإيمان ولم يؤمن من أكثرهم فأكثرهم تبين أنهم لا يؤمنون لمضي وقت رجاء الإيمان ولأنهم لما لم يؤمنوا عندما حق القول واستمروا فإن كانوا يريدون شيئاً أوضح من البرهان فهو العيان وعند العيان لا يفيد الإيمان وقوله عَلَى أَكْثَرِهِمْ على هذا الوجه معناه أن من لم تبلغه الدعوة والبرهان قليلون فحق القول على أكثر من لم يوجد منه الإيمان وعلى الأول والثاني ظاهر فإن أكثر الكفار ماتوا على الكفر ولم يؤمنوا وَفِيهِ وَجْهِ وهو أن يقال لقد حقت كلمة العذاب العاجل على أكثرهم فهم لا يؤمنون وهو قريب من الأول
إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِى َ إِلَى الاٌّ ذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ
ثم قال تعالى إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِى َ إِلَى الاْذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ
لما بين أنهم لا يؤمنون بين أن ذلك من الله فقال إِنَّا جَعَلْنَا وفيه وجوه أحدها أن المراد إنا جعلناهم ممسكين لا ينفقون في سبيل الله كما قال تعالى وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ والثاني أن الآية نزلت في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين حيث حلف أبو جهل أنه يرضخ رأس محمد فرآه ساجداً فأخذ صخرة ورفعها ليرسلها على رأسه فالتزقت بيده ويده بعنقه والثالث وهو الأقوى وأشد مناسبة لما تقدم وهو أن ذلك كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء وفيه مسائل
المسألة الأولى هل للوجهين الأولين مناسبة مع ما تقدم من الكلام نقول الوجه الأول له مناسبة وهي أن قوله تعالى فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ يدخل فيه أنهم لا يصلون كما قال تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أي صلاتكم عند بعض المفسرين والزكاة مناسبة للصلاة على ما بينا فكأنه قال لا يصلون ولا يزكون وأما على الوجه الثاني فمناسبة خفية وهي أنه لما قال لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ وذكرنا أن

المراد به البرهان قال بعد ذلك بل عاينوا وأبصروا ما يقرب من الضرورة حيث التزقت يده بعنقه ومنع من إرسال الحجر وهو يضطر إلى الإيمان ولم يؤمن علم أنه لا يؤمن أصلاً والتفسير هو الوجه الثالث
المسألة الثانية قوله فَهِى َ راجعة إلى ماذا نقول فيها وجان أحدهما أنها راجعة إلى الأيدي وإن كانت غير مذكورة ولكنها معلومة لأن المغلول تكون أيديه مجموعة في الغل إلى عنقه وثانيهما وهو ما اختاره الزمخشري أنها راجعة إلى الأغلال معناه إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطىء رأسه
المسألة الثالثة كيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية فنقول المغلول الذي بلغ الغل إلى ذقنه وبقي مقمحاً رافع الرأس لا يبصر الطريق الذي عند قدمه وذكر بعده أن بين يديه سداً ومن خلفه سداً فهو لا يقدر على انتهاج السبيل ورؤيته وقد ذكر من قبل أن المرسل على صراط مستقيم فهذا الذي يهيده النبي إلى الصراط المستقيم العقلي جعل ممنوعاً كالمغلول الذي يجعل ممنوعاً من إبصار الطريق الحسي ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يقال الأغلال في الأعناق عبارة عن عدم الانقياد فإن المنقاد يقال فيه إنه وضع رأسه على الخط وخضع عنقه والذي في رقبته الغل الثخين إلى الذقن لا يطأطىء رأسه ولا يحركه تحريك المصدق ويصدق هذا قوله مُّقْمَحُونَ فإن المقمح هو الرافع رأسه كالمتأبي يقال بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء ولم يطأطئه للشرب والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة وكأنه تعالى قال إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً فَهُم مُّقْمَحُونَ لا يخضعون الرقاب لأمر الله
وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ
وعلى هذا فقوله تعالى وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ
يكون متمماً لمعنى جعل الله إياهم مغلولين لأن قوله وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً إشارة إلى أنهم لا ينتهجون سبيل الرشاد فكأنه قال لا يبصرون الحق فينقادون له لمكان السد ولا ينقادون لك فيبصرون الحق فينقادون له لمكان الغل والإيمان المورث للإيقان إما باتباع الرسول أولاً فتلوح له الحقائق ثانياً وإما بظهور الأمور أولاً واتباع الرسول ثانياً ولا يتبعون الرسول أولاً لأنهم مغلولون فلا يظهر لهم الحق من الرسول ثانياً ولا يظهر لهم الحق أولاً لأنهم واقعون في السد فلا يتبعون الرسول ثانياً وفيه وجه آخر وهو أن يقال المانع إما أن يكون في النفس وإما أن يكون خارجاً عنها ولهم المانعان جميعاً من الإيمان أما في النفس فالغل وأما من الخارج فالسد ولا يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ وذلك لأن المقمح لا يرى نفسه ولا يقع بصره على يديه ولا يقع نظرهم على الآفاق لأن من بين السدين لا يبصرون الآفاق فلا تبين لهم الآيات التي في الآفاق وعلى هذا فقوله إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في الأنفس والآفاق وفي تفسير قوله تعالى وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً مسائل

المسألة الأولى السد من بين الأيدي ذكره ظاهر الفائدة فإنهم في الدنيا سالكون وينبغي أن يسلكوا الطريقة المستقيمة وَمِن بَيْنِنَا أَيْدِيهِمْ سَدّاً فلا يقدرون على السلوك وأما السد من خلفهم فما الفائدة فيه فنقول الجواب عنه من وجوه الأول هو أن الإنسان له هداية فطرية والكافر قد يتركها وهداية نظرية والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول جَعَلْنَا مَنسَكًا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً فلا يرجعون إلى الهداية الجبلية التي هي الفطرية الثاني هو أن الإنسان مبدأه من الله ومصيره إليه فعمى الكافر لا يبصر ما بين يديه من المصير إلى الله ولا ما خلفه من الدخول في الوجود بخلق الله الثالث هو أن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق فإن انسد الطريق الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع وإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه فالموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة لأنه مهلك فقوله وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ إشارة إلى إهلاكهم
المسألة الثانية قوله تعالى فَأغْشَيْنَاهُمْ بحرف الفاء يقتضي أن يكون للإغشاء بالسد تعلق ويكون الإغشاء مرتباً على جعل السد فكيف ذلك فنقول ذلك من وجهين أحدهما أن يكون ذلك بياناً لأمور مترتبة يكون بعضها سبباً للبعض فكأنه تعالى قال إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً فلا يبصرون أنفسهم لإقماحهم وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذٍ يمكن أن يروا السماء وما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله وَجَعَلْنَا عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة ٌ فلا يبصرون شيئاً أصلاً وثانيهما هو أن ذلك بيان لكون السد قريباً منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة على أبصارهم فإن من جعل من خلفه ومن قدامه سدين ملتزقين به بحيث يبقى بينهما ملتزقاً بهما تبقى عينه على سطح السد فلا يبصر شيئاً أما غير السد فللحجاب وأما عين السد فلكون شرط المرئي أن لا يكون قريباً من العين جداً
المسألة الثالثة ذكر السدين من بين الأيدي ومن خلف ولم يذكر من اليمين والشمال ما الحكمة فيه فنقول أما على قولنا إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر وأما على غير ذلك فنقول بما ذكر حصل العموم والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء فصار ما إليه توجههم ما بين أيديهم فيجعل الله السد هناك فيمنعه من السلوك فكيفما يتوجه الكافر يجعل الله بين يديه سداً ووجه آخر أحسن مما ذكرنا وهو أنا لما بينا أن جعل السد صار سبباً للإغشاء كان السد ملتزقاً به وهو ملتزق بالسدين فلا قدرة له على الحركة يمنة ولا يسرة فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشمال وقوله تعالى فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ يحتمل ما ذكرنا أنهم لا يبصرون شيئاً ويحتمل أن يكون المراد هو أن الكافر مصدود وسبيل الحق عليه مسدود وهو لا يبصر السد ولا يعلم الصد فيظن أنه على الطريقة المستقيمة وغير ضال
وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَءَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ
ثم إنه تعالى بين أن الإنذار لا ينفعهم مع ما فعل الله بهم من الغل والسد والإغشاء والإعماء بقوله تعالى وَسَوَآء عَلَيْهِمْ أَءنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ أي الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى الإيمان منهم إذ لا وجود له منهم على التقديرين فإن قيل إذا كان الإنذار وعدمه سواء فلماذا الإنذار نقول قد أجبنا في غير هذا الموضع أنه تعالى قال سَوَاء عَلَيْهِمْ وما قال سواء عليك فالإنذار بالنسبة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليس كعدم الإنذار لأن أحدهما مخرج له عن العهدة وسبب في زيادة سيادته عاجلاً وسعادته آجلاً وأما بالنسبة إليهم

على السواء فإنذار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليخرج عما عليه وينال ثواب الإنذار وإن لم ينتفعوا به لما كتب عليهم من البوار في دار القرار
إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخشِى َ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَة ٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ
ثم قال تعالى إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِكْرَ وَخشِى َ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَة ٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ والترتيب ظاهر وفي التفسير مسائل
المسألة الأولى قال من قبل لّتُنذِرَ وذلك يقتضي الإنذار العام على ما بينا وقال إِنَّمَا تُنذِرُ وهو يقضي التخصيص فكيف الجمع بينهما نقول من وجوه الأول هو أن قوله لّتُنذِرَ أي كيفما كان سواء كان مفيداً أو لم يكن وقوله إِنَّمَا تُنذِرُ أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة إلى من يتبع الذكر ويخشى الثاني هو أن الله تعالى لما قال إن الإرسال والإنزال وذكر أن الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى أهل العناد قال لنبيه ليس إنذارك غير مفيد من جميع الوجوه فأنذر على سبيل العموم وإنما تنذر بذلك الإنذار العام من يتبع الذكر كأنه يقول يا محمد إنك بإنذارك تهدي ولا تدري من تهدي فأنذر الأسود والأحمر ومقصودك من يتبع إنذارك وينتفع بذكراك الثالث هو أن نقول قوله لّتُنذِرَ أي أولاً فإذا أنذرت وبالغت وبلغت واستهزأ البعض وتولى واستكبر وولى فأعرض بعد ذلك فإنما تنذر الذين اتبعوك الرابع وهو قريب من الثالث إنك تنذر الكل بالأصول وإنما تنذر بالفروع من ترك الصلاة والزكاة من اتبع الذكر وآمن
المسألة الثانية قوله مَنِ اتَّبَعَ الذِكْرَ يحتمل وجوهاً الأول وهو المشهور من اتبع القرآن الثاني من اتبع ما في القرآن من الآيات ويدل عليه قوله تعالى ص وَالْقُرْءانِ ذِى فما جعل القرآن نفس الذكر الثالث من اتبع البرهان فإنه ذكر يكمل الفطرة وعلى كل وجه فمعناه إنما تنذر العلماء الذين يخشون وهو كقوله تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء وكقوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فقوله اتَّبَعَ الذِكْرَ أي آمن وقوله وَخشِى َ الرَّحْمنَ أي عمل صالحاً وهذا الوجه يتأيد بقوله فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَة ٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ لأنا ذكرنا مراراً أن الغفران جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور والأجر الكريم جزاء العمل كما قال تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَّهُم مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وتفسير الذكر بالقرآن يتأيد بتعريف الذكر بالألف واللام وقد تقدم ذكر القرآن في قوله تعالى وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ وقوله وَخشِى َ الرَّحْمنَ فيه لطيفة وهي أن الرحمة تورث الاتكال والرجاء فقال مع أنه رحمن ورحيم فالعاقل لا ينبغي أن يترك الخشية فإن كل من كانت نعمته بسبب رحمته أكثر فالخوف منه أتم مخافة أن يقطع عنه النعم المتواترة وتكملة اللطيفة هي أن من أسماء الله اسمين يختصان به هما الله والرحمن كما قال تعالى قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ حتى قال بعض الأئمة هما علمان إذا عرفت هذا فالله اسم ينبىء عن الهيبة والرحمن ينبىء عن العاطفية فقال في موضع يرجو الله وقال ههنا وَخشِى َ الرَّحْمنَ يعني مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا عنه رجاءكم ومع كونه ذا رحمة لا تأمنوه وقوله بِالْغَيْبِ يعني بالدليل وإن لم ينته إلى درجة المرئي المشاهد فإن عند الانتهاء إلى تلك الدرجة لا يبقى للخشية فائدة والمشهور أن المراد بالغيب ما غاب عنا وهو أحوال القيامة وقيل إن الوحدانية تدخل فيه

وقوله فَبَشّرْهُ فيه إشارة إلى الأمر الثاني من أمري الرسالة فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بشير ونذير وقد ذكر أنه أرسل لينذر وذكر أن الإنذار النافع عند اتباع الذكر فقال بشر كما أنذرت ونفعت وقوله بِمَغْفِرَة ٍ على التنكير أي بمغفرة واسعة تستر من جميع الجوانب حتى لا يرى عليه أثر من آثار النفس ويظهر عليه أنوار الروح الزكية وَأَجْرٍ كَرِيمٍ أي ذي كرم وقد ذكرنا ما في الكريم في قوله وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وفي قوله وَرِزْقًا كَرِيماً
إِنَّا نَحْنُ نُحْى ِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ وَكُلَّ شى ْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ
ثم قال تعالى إِنَّا نَحْنُ نُحْى ِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ وَكُلَّ شى ْء أَحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ
في الترتيب وجوه أحدها أن الله تعالى لما بين الرسالة وهو أصل من الأصول الثلاثة التي يصير بها المكلف مؤمناً مسلماً ذكر أصلاً آخر وهو الحشر وثانيها وهو أن الله تعالى لما ذكر الاتذار والبشارة بقوله فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَة ٍ ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا فقال إن لم ير في الدنيا فالله يحيي الموتى ويجزي المنذرين ويجزي المبشرين وثالثها أنه تعالى لما ذكر خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحياء الموتى وفي التفسير مسائل
المسألة الأولى إِنَّا نَحْنُ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون مبتدأ وخبراً كقول القائل
أنا أبو النجم وشعري شعري
ومثل هذا يقال عند الشهرة العظيمة وذلك لأن من لا يعرف يقال له من أنت فيقول أنا ابن فلان فيعرف ومن يكون مشهوراً إذا قيل له من أنت يقول أنا أي لا معرف لي أظهر من نفسي فقال إنا نحن معروفون بأوصاف الكمال وإذا عرفنا بأنفسنا فلا تنكر قدرتنا على إحياء الموتى وثانيهما أن يكون الخبر نُحْى ِ كأنه قال إنا نحيي الموتى و نَحْنُ يكون تأكيداً والأول أولى
المسألة الثانية إنا نحن فيه إشارة إلى التوحيد لأن الاشتراك يوجب التمييز بغير النفس فإن زيداً إذا شاركه غيره في الاسم فلو قال أنا زبد لم يحصل التعريف التام لأن للسامع أن يقول أيما زيد فيقول ابن عمرو ولو كان هناك زيد آخر أبوه عمرو لا يكفي قوله ابن عمرو فلما قال الله إِنَّا نَحْنُ أي ليس غيرنا أحد يشاركنا حتى تقول أنا كذا فنمتاز وحينئذٍ تصير الأصول الثلاثة مذكورة الرسالة والتوحيد والحشر
المسألة الثالثة قوله وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ فيه وجوه أحدها المراد ما قدموا وأخروا فاكتفى بذكر أحدهما كما في قوله تعالى سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ والمراد والبرد أيضاً وثانيها المعنى ما أسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة وهو كما قال تعالى بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بما قدمت في الوجود على غيره وأوجدته وثالثها نكتب نيانهم فإنها قبل الأعمال وآثارهم أي أعمالهم على هذا الوجه
المسألة الرابعة وآثارهم فيه وجوه الأول آثارهم أقدامهم فإن جماعة من أصحابه بعدت دورهم عن المساجد فأرادوا النقلة فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله يكتب خطواتكم ويثيبكم عليه فالزموا بيوتكم ) والثاني هي السنن الحسنة كالكتب المصنفة والقناطر المبنية والحبائس الدارة والسنن السيئة كالظلمات المستمرة التي

وضعها ظالم والكتب المضلة وآلات الملاهي وأدوات المناهي المعمولة الباقية وهو في معنى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجر العامل شيء ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ) فما قدموا هو أفعالهم وآثارهم أفعال الشاكرين فبشرهم حيث يؤاخذون بها ويؤجرون عليها والثالث ما ذكرنا أن الآثار الأعمال وما قدموا النيات فإن النية قبل العمل
المسألة الخامسة الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيق قال نحيي ونكتب ولم يقل نكتب ما قدموا ونحييهم نقول الكتابة معظمة لأمر الإحياء لأن الإحياء إن لم يكن للحساب لا يعظم والكتابة في نفسها إن لم تكن إحياء وإعادة لا يبقى لها أثر أصلاً فالإحياء هو المعتبر والكتابة مؤكدة معظمة لأمره فلهذا قدم الإحياء ولأنه تعالى لما قال إِنَّا نَحْنُ وذلك يفيد العظمة والجبروت والإحياء عظيم يختص بالله والكتابة دونه فقرن بالتعريف الأمر العظيم وذكر ما يعظم ذلك العظيم وقوله وَكُلَّ شى ْء أَحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون ذلك بياناً لكون ما قدموا وآثارهم أمراً مكتوباً عليهم لا يبدل فإن القلم جف بما هو كائن فلما قال وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ بين أن قبل ذلك كتابة أخرى فإن الله كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ثم إذا فعلوه كتب عليهم أنهم فعلوه وثانيها أن يكون ذلك مؤكداً لمعنى قوله وَنَكْتُبُ لأن من يكتب شيئاً في أوراق ويرميها قد لا يجدها فكأنه لم يكتب فقال نكتب ونحفظ ذلك في إمام مبين وهذا كقوله تعالى عِلْمُهَا عِندَ رَبّى فِى كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى وثالثها أن يكون ذلك تعميماً بعد التخصيص كأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم وليست الكتابة مقتصرة عليه بل كل شيء محصي في إمام مبين وهذا يفيد أن شيئاً من الأقوال والأفعال لا يعزب عن علم الله ولا يفوته وهذا كقوله تعالى وَكُلُّ شَى ْء فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ يعني ليس ما في الزبر منحصراً فيما فعلوه بل كل شيء فعلوه مكتوب وقوله أَحْصَيْنَاهُ أبلغ من كتبناه لأن من كتب شيئاً مفرقاً يحتاج إلى جمع عدده فقال هو محصي فيه وسمي الكتاب إماماً لأن الملائكة يتبعونه فما كتب فيه من أجل ورزق وإحياء وإماتة اتبعوه وقيل هو اللوح المحفوظ وإمام جاء جمعاً في قوله تعالى يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ أي بأئمتهم وحينئذٍ فإمام إذا كان فرداً فهو ككتاب وحجاب وإذا كان جمعاً فهو كجبال وحبال والمبين هو المظهر للأمور لكونه مظهراً للملائكة ما يفعلون وللناس ما يفعل بهم وهو الفارق يفرق بين أحوال الخلق فيجعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَة ِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ
ثم قال تعالى وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَة ِ إِذَا جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ
وفيه وجهان والترتيب ظاهر على الوجهين الوجه الأول هو أن يكون المعنى واضرب لأجلهم مثلاً والثاني أن يكون المعنى واضرب لأجل نفسك أصحاب القرية لهم مثلاً أي مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية وعلى الأول نقول لما قال الله إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وقال لّتُنذِرَ قال قل لهم مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ بل قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون وأنذروهم بما أنذرتكم وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة وعلى الثاني نقول لما قال الله تعالى إن

الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب هليه أنه لا يؤمن قال للنبي عليه الصلاة والسلام فلا تأس واضرب لنفسك ولقومك مثلاً أي مثل لهم عند نفسك مثلاً حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا وصبر الرسل على القتل والإيذاء وأنت جئتهم واحداً وقومك أكثر من قوم الثلاثة فإنهم جاؤا قرية وأنت بعثت إلى العالم وفي التفسير مسائل
المسألة الأولى ما معنى قول القائل ضلاب مثلاً وقوله تعالى وَاضْرِبْ مع أن الضرب في اللغة إما إمساس جسم جسماً بعنف وإما السير إذا قرن به حرف في كقوله تعالى إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ نقول قوله ضرب مثلاً معناه مثل مثلاً وذلك لأن الضرب اسم للنوع يقال هذه الأشياء من ضرب واحد أي اجعل هذا وذاك من ضرب واحد
المسألة الثانية أصحاب القرية معناه واضرب لهم مثلاً مثل أصحاب القرية فترك المثل وأقيم الأصحاب مقامه في الإعراب كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ هذا قول الزمخشري في الكشاف ويحتمل أن يقال لا حاجة إلى الإضمار بل المعنى اجعل أصحاب القرية لهم مثلاً أو مثل أصحاب القرية بهم
المسألة الثالثة إذ جاءها المرسلون إذ منصوبة لأنها بدل من أصحاب القرية كأنه قال تعالى وَاضْرِبْ لَهُم وقت مجيء المرسلين ومثل ذلك الوقت بوقت مجيئك وهذا أيضاً قول الزمخشري وعلى قولنا إن هذا المثل مضروب لنفس محمد ( صلى الله عليه وسلم ) تسلية فيحتمل أن يقال إذا ظرف منصوب بوقهل وَاضْرِبْ أي اجعل الضرب كأنه حين مجيئهم وواقع فيه والقرية أنطاكية والمرسلون من قوم عيسى وهم أقرب مرسل أرسل إلى قوم إلى زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهم ثلاثة كما بين الله تعالى وقوله إِذَا أَرْسَلْنَا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون إذ أرسلنا بدلاً من إذ جاءها كأنه قال الضرب لهم مثلاً إذ أرسلنا إلى أصحاب القرية اثين وثانيهما وهو الأصح والأوضح أن يكون إذ ظرفاً والفعل الواقع فيه جاءها أي جاءها المرسلون حين أرسلناهم إليهم أي لم يكن مجيئهم من تلقاء أنفسهم وإنما جاءوهم حيث أمروا وهذا فيه لطيفة وهي أن في الحكاية أن الرسل كانوا مبعوثين من جهة عيسى عليه السلام أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى إرسال عيسى عليه السلام هو إرسالنا ورسول رسول الله بإذن الله رسول الله فلا يقع لك يا محمد أن أولئك كانوا رسل الرسول وأنت رسول الله فإن تكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله إِذَا أَرْسَلْنَا وهذا يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل وكيل الموكل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل الأول وهذا على قولنا وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً ضرب المثل لأجل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ظاهر
إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ

في بعثة الأثنين حكمة بالغة وهي أنهما كانا مبعوثين من جهة عيسى بإذن الله فكان عليهما إنهاء الأمر إلى عيسى والإتيان بما أمر الله والله عالم بكل شيء لا يحتاج إلى شاهد يشهد عنده وأما عيسى فهو بشر فأمره الله بإرسال اثنين ليكون قولهما على قومهما عند عيسى حجة تامة
وقوله فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ أي قوينا وقرىء فعززنا بثالث مخففاً من عز إذا غلب فكأنه قال فغلبنا نحن وقهرنا بثالث والأول أظهر وأشهر وترك المفعول حيث لم يقل فعززناهما لمعنى لطيف وهو أن المقصود من بعثهما نصرة الحق لا نصرتهما والكل مقوون للدين المتين بالبرهان المبين وفيه مسائل
المسألة الأولى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث رسله إلى الأطراف واكتفى بواح دوعسى عليه السلام بعث اثنين نقول النبي بعث لتقرير الفروع وهو دون الأصل فاكتفى بواحد فإن خبر الواحد في الفروع مقبول وأما هما فبعثنا بالأصول وجعل لهما معجزة تفيد اليقين وإلا لما كفى إرسال اثنين أيضاً ولا ثلاثة
المسألة الثانية قال الله تعالى لموسى عليه السلام سَنَشُدُّ عَضُدَكَ ( القصص 35 ) فذكر المفعول هناك ولم يذكره ههنا مع أن المقصود هناك أيضاً نصرة الحق نقول موسى عليه السلام كان أفضل من هارون وهارون بعث معه بطلبه حيث قال فَأَرْسِلْهِ مَعِى َ ( القصص 34 ) فكان هارون معبوثاً ليصدق موسى فيما يقول ويقوم بما يأمره وأما هما فكل واحد مستقل ناطق بالحق فكان هناك المقصود تقوية موسى وإرسال من يؤنس معه وهو هارون وأما ههنا فالمقصود تقوية الحق فظهر الفرق
قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَنُ مِن شَى ْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ
ثم بين الله ما جرى منهم وعليهم مثل ما جرى من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعليه فقالوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ ( يس 14 ) كما قال إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( يس 3 ) وبين ما قال القوم بقوله قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَمَا أَنَزلَ الرَّحْمَنُ مِن شَى ْء جعلوا كونهم بشراً مثلهم دليلاً على عدم الإرسال وهذا عام من المشركين قالوا في حق محمد عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن ( ص 8 ) وإنما ظنوه دليلاً بناءً على أنهم لم يعتقدوا في الله الاختيار وإنما قالوا فيه أنه موجب بالذات وقد استوينا في البشرية فلا يمكن الرجحان والله تعالى رد عليهم قولهم بقوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) وبقوله اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء ( الشورى 13 ) إلى غير ذلك وقوله أَنزَلَ اللَّهُ الرَّحْمَنُ مِن شَى ْء يحتمل وجه أحدهما أن يكون متمماً لما ذكروه فيكون الكل شبهة واحدة ووجهه هو أنهم قالوا أنتم بشر فما نزلتم من عند الله وما أنزل الله إليكم أحداً فكيف صرتم رسلاً لله ثانيهما أن يكون هذا شبهة أخرى مستقلة ووجه هو أنهم لما قالوا أنتم بشر مثلنا فلا يجوز رجحانكم علينا ذكروا الشبهة من جهة النظر إلى المرسلين ثم قالوا شبهة أخرى من جهة المرسل وهو أنه تعالى ليس بمنزل شيئاً في هذا العالم فإنه تصرفه في العالم العلوي وللعلويات التصرف في السفليات على مذهبهم فالله تعالى لم ينزل شيئاً من الأشياء في الدنيا فكيف أنزل إليكم وقوله الرَّحْمَنُ إشارة إلى الرد عليهم لأن الله لما كان رحمن الدنيا والإرسال رحمة فكيف لا ينزل رحمته وهو رحمن فقال إنهم قالوا ما أنزل الرحمن شيئاً وكيف لا ينزل الرحمن مع كونه رحمن شيئاً هو الرحمة الكاملة
ثم قال تعالى إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ أي ما أنتم إلا كاذبين
قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ
إشارة إلى أنه بمجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا بل أعادوا

ذلك لهم وكرروا القول عليهم وأكدوه باليمين وقالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وأكدوه باللام لأن يعلم الله يجري مجرى القسم لأن من يقول يعلم الله فيما لا يكون قد نسب الله إلى الجهل وو سبب العقاب كما أن الحنث سببه وفي قوله رَبُّنَا يَعْلَمُ إشارة إلى الرد عليهم حيث قالوا أنتم بشر وذلك لأن الله إذا كان يعلم أنهم لمرسلون يكون كقوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) يعني هو عالم بالأمور وقادر فاختارنا بعلمه لرسالته ثم قال
وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
تسلية لأنفسهم أي نحن خرجنا عن عهدة ما علينا وحثاً على النظر فإنهم لما قولوا مَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلَاغُ كان ذلك يوجب تفكرهم في أمرهم حيث لم يطلبوا منهم أجراً ولا قصدوا رياسة وإنما كان شغلهم التبليغ والذكر وذلك مما يحمل العاقل على النظر و الْمُبِينُ يحتمل أموراً أحدها البلاغ المبين للحق عن الباطل أي الفارق بالمعجزة والبرهان وثانيها البلاغ المظهر لما أرسلنا للكل أي لا يكفي أن نبلغ الرسالة إلى شخص أو شخصين وثالثها البلاغ المظهر للحق بكل ما يمكن فإذا تم ذلك ولم يقبلوا يحق هنالك الهلاك
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
ثم كان جوابهم بعد هذا أنهم قالوا إنا تطيرنا بكم وذلك أنه لما ظهر من الرسل المبالغة في البلاغ ظهر منهم الغلو في التكذيب فلما قال المرسلون إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ ( يس 14 ) قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ( يس 15 ) ولما أكد الرسل قولهم باليمين حيث قالوا رَبُّنَا يَعْلَمُ ( يس 16 ) أكدوا قولهم بالتطير بهم فكأنهم قالوا في الأول كنتم كاذبين وفي الثاني صرتم مصرين على الكذب حالفين مقسمين عليه و ( اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع ) فتشاءمنا بكم ثانياً وفي الأول كما تركتم ففي الثاني لا نترككم لكون الشؤم مدركنا بسببكم فقالوا لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ وقوله لنرجمنكم يحتمل وجهين أحدهما لنشتمنكم منا لرجم بالقول وعلى هذا فقوله وَلَيَمَسَّنَّكُمْ ترق كأنهم قالوا ولا يكتفي بالشتم بل يؤدي ذلك إلى الضرب والإيلام الحسي وثانيهما أن يكون المراد الرجم بالحجارة وحينئذٍ فقوله وَلَيَمَسَّنَّكُمْ بيان للرجم يعني ولا يكون الرجم رجماً قليلاً نرجمكم بحجر وحجرين بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو عذاب أليم ويكون المراد لنرجمنكم وليمسنكم بسبب الرجم عذاب منا أليم وقد ذكرنا في الأليم أنه بمعنى لمؤلم والفعيل معنى مفعل قليل ويحتمل أني قال هو من باب قوله عَشِيَّة ً رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) أي ذات رضا فالعذاب الأليم هو ذو ألم وحينئذٍ يكون فعيلاً بمعنى فاعل وهو كثير
قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَءِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ
ثم أجابهم المرسلون بقولهم قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أي شؤمكم معكم وهو الكفر
ثم قالوا أَءن ذُكّرْتُم جواباً عن قولهم لَنَرْجُمَنَّكُمْ يعني أتفعلون بنا ذلك وإن ذكرتم أي بين لكم الأمر بالمعجز والبرهان بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ حيث تجعلون من يتبرك به كمن يتشاءم به وتقصدون إيلام من يجب في حقه الإكرام أو ( مسرفون ) حيث تكفرون ثم تصرون بعد ظهور الحق بالمعجز والبرهان

فإن الكافر مسيء فإذا تم عليه الدليل وأوضح له السبيل ويصر يكون مسرفاً والمسرف هو المجاوز الحد بحيث يبلغ الضد وهم كانوا كذلك في كثير من الأشياء أما في التبرك والتشاؤم فقد علم وكذلك في الإيلام والإكرام وأما في الكفر فلأن الواجب اتباع الدليل فإن لم يوجد به فلا أقل من أن لا يجزم بنقيضه وهم جزموا بالكفر بعد البرهان على الإيمان فإن قيل بل للإضرار فما الأمر المضرب عنه نقول يحتمل أن يقال قوله أَءن ذُكّرْتُم وارد على تكذيبهم ونسبتهم الرسل إلى الكذب بقولهم إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ( يس 15 ) فكأنهم قالوا أنحن كاذبون وإن جئنا بالبرهان لا بل أنتم قوم مسرفون ويحتمل أن يقال أنحن مشؤومون وإن جئنا ببيان صحة ما نحن عليه لا بل أنتم قوم مسرفون ويحتمل أني قال أنحن مشؤومون وإن جئنا ببيان صحة ما نحن عليه لا بل أنتم قوم مسرفون ويحتمل أن يقال أنحن مستحقون للرجم والإيلام وإن بينا صحة ما أتينا به لا بل أنتم قوم مسرفون وأما الحكاية فمشهورة وهي أن عيسى عليه السلام بعث رجلين إلى أنطاكية فدعيا إلى التوحيد وأظهرا المعجزة من إبراء الأمة والأبرص وإحياء الموتى فحسبهما الملك فأرسل بعدهما شمعون فأتى الملك ولم يدع الرسالة وقرب نفسه إلى الملك بحسن التدبير ثم قال له إني أسمع أن في الحبس رجلين يدعيان أمراً بديعاً أفلا يحضران حتى نسمع كلامهما قال الملك بلى فأحضرا وذكرا مقالتهما الحقة فقال لهما شمعون فهل لكما بينة قالا نعم فأبرآ الأكمة والأبرص وأحييا الموتى فقال شمعون أيها الملك إن شئت أن تغلبهم فقال للآلهة التي تعبدونها تفعل شيئاً من ذلك قال الملك أنت لا يخفى عليك أنها لا تبصر ولا تسمع ولا تقدر ولا تعلم فقال شمعون فإذن ظهر الحق من جانبهم فآمن الملك وقوم وكفر آخرون وكانت الغلبة للمكذبين ثم قال تعالى
وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَة ِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ ياقَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ
وفي فائدته وتعلقه بما قبله وجهان أحدهما أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث آمن بهم الرجل الساعي وعلى هذا فقوله مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَة ِ فيه بلاغة باهرة وذلك لأنه لما جاء من أقصى المدينة رجل وهو قد آمن دل على أن إذارهم وإظهارهم بلغ إلى أقصى المدينة وثانيهما أن ضرب المثل لما كان لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) تسلية لقلبه ذكر بعد الفراغ من ذكر الرسل سعى المؤمنين في تصديق رسلهم وصبرهم على ما أوذوا ووصول الجزاء الأوفى إليهم ليكون ذلك تسلية لقلب أصحاب محمد كما أن ذكر المرسلين تسلية لقلب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي التفسير مسائل
المسألة الأولى قوله وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَة ِ رَجُلٌ في تنكير الرجل مع أنه كان معروفاً معلوماً عند الله فائدتان الأولى أن يكون تعظيماً لشأنه أي رجل كامل في الرجولية الثانية أن يكون مفيداً لظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به فلا يقال إنهم تواطؤا والرجل هو حبيب النجار كان ينحت الأصنام وقد آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل وجوده حيث صار من العلماء بكتاب الله ورأى فيه نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبعثته
المسألة الثانية قوله يَسْعَى تبصرة للمؤمنين وهداية لهم ليكونوا في النصح باذلين جهدهم وقد ذكرنا فائدة قوله مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَة ِ وهي تبليغهم الرسالة بحيث انتهى إلى من في أقصى المدينة

والمدينة هي أنطاكية وهي كانت كبيرة شاسعة وهي الآن دون ذلك ومع هذا فهي كبيرة وقوله تعالى قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ فيه معان لطيفة الأول في قوله عَلَيْهِ قَوْمٌ فإنه ينبىء عن إشفاق عليهم وشفقة فإن إضافتهم إلى نفسه بقوله عَلَيْهِ قَوْمٌ يفيد أنه لا يريد بهم إلا خيراً وهذا مثل قول مؤمن آل فرعون ءامَنَ ياقَوْمِ اتَّبِعُونِ ( غافر 38 ) فإن قيل قال هذا الرجل اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ وقال ذلك اتَّبِعُونِ فما الفرق نقول هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم وما رأوا سيرته فقال اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السبيل وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم واتبع موسى ونصحهم مراراً فقال اتبعوني في الإيمان بموسى وهارون عليهما السلام واعلموا أنه لو لم يكن خيراً لما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته ولم يكن للرجل الذي جاء من أقصى المدينة أن يقول أنتم تعلمون اتباعي لهم الثاني جمع بين إظهار النصحية وإظهار إيمانه فقوله اتَّبَعُواْ نصحية وقوله الْمُرْسَلِينَ إظهار أنه آمن الثالث قدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان لأنه كان ساعياً في النصح وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله رَجُلٌ يَسْعَى يدل على كونه مريداً للنصح وما ذكر في حكايته أنه كان يقتل وهو يقول ( اللهم اهد قومي ) ثم قال تعالى
اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْألُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ
وهذا في غاية الحسن وذلك من حيث إنه لما قال اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ كأنهم منعوا كونهم مرسلين فنزل درجة وقال لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة وطالبون للاستقامة والطريق إذا حصل فيه دليل يدل يجب اتباعه والامتناع من الاتباع لا يحسن إلا عند أحد أمرين إما مغالاة الدليل في طلب الأجرة وإما عند عدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفته الطريق لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة وهم مهتدون عالمون بالطريقة المستقيمة الموصلة إلى الحق فهب أنهم ليسوا بمرسلين هادين أليسوا بمهتدين فاتبعوهم
وَمَا لِى َ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
ثم قال تعالى وما لِيَ لا أعبد الذي فطرني لماق ال وما لِيَ لا أعبد الذي فطرني لماق ال لماق ال وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ( يس 21 ) بين ظهور اهتدائهم بأنهم يدعون من عبادة الجماد إلى عبادة الحي القويم ومن عبادة ما لا ينفع إلى عبادة من منه كل نفع وفيه لطائف الأولى قوله مَالِيَ أي مالي مانع من جانبي إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه فمن يمتنع من عبادته يكون من جانبه مانع ولا مانع من جانبي فلا جرم عبدته وفي العدول عن مخاطبة القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى ولطيفة ثانية وهي أنه لو قال مالكم لا تعبدون الذي فطركم لم يكن في البيان مثل قوله ومالي لأنه لما قال ومالي وأحد لا يخفى عليه حال نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه أعلم بحال نفسه فهو يبين عدم المانع وأما لو قال ( مالكم ) جاز أن يفهم منه أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه فإن قيل قال الله مَالَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( نوح 13 ) نقول القائل هناك غير مدعو وإنما هو داع وههنا الرجل مدعو إلى الإيمان فقال ومالي لا أعبد وقد طلب مني ذلك الثانية قوله الَّذِى فَطَرَنِى إشارة إلى وجود المقتضى فإن قوله ومالي إشارة إلى عدم المانع

وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضى فقوله عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى ينبىء عن الاقتضاء فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه ومنعم بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم شكر نعمته الثالثة قدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضى مع أن المستحسن نتقديم المقتضى حيث وجد المقتضى ولا مانع فيوجد لأن المقتضى لظهوره كان مستغنياً عن البيان رأساً فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان لوجود الحاجة إليه الرابعة اختار من الآيات فطرة نفسه لأنه لما قال لِى َ لاَ أَعْبُدُ بإسناد العبادة إلى نفسه اختار ما هو أقرب إلى إيجاب العبادة على نفسه وبيان ذلك هو أن خالف عمرو يجب على زيد عبادته لأنه من خلق عمراً لا يكون إلا كامل القدرة شامل العلم واجب الوجود وهو مستحق للعبادة بالنسبة إلى كل مكلف لكن العبادة على زيد بخلق زيد أظهر إيجاباً
واعلم أن المشهور في قوله فَطَرَنِى خلقني اختراعاً وابتداعاً والغريب فيه أن يقال فطرني أي جعلني على الفطرة كما قال الله تعالى فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ( الروم 30 ) وعلى هذا فقوله لِى َ لاَ أَعْبُدُ أي لم يوجد في مانع فأنا باق على فطرة ربي الفطرة كافية في الشهادة والعبادة فإن قيل فعلى هذا يختلف معنى الفطر في قوله فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ ( الأنعام 14 ) فنقول قد قيل بأن فاطر السموات من الفطر الذي هو الشق فالمحذور لازم أو نقول المعنى فيهما واحد كأنه قال فطر المكلف على فطرته وفطر السموات على فطرتها والأول من التفسير أظهر
وقوله تعالى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إشارة إلى الخوف والرجاء كما قال وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ( الأعراف 56 ) وذلك لأن من يكون إليه المرجع يخاف منه ويرجى وفيه أيضاً معنى لطيف وهو أن العابد على أقسام ثلاثة ذكرناها مراراً فالأول عابد يعبد الله لكونه إلهاً مالكاً سواء أنعم بعد ذلك أو لم ينعم كالعبد الذي يجب عليه خدمة سيده سواء أحسن إليه أو أساء والثاني عابد يعبد الله للنعمة الواصلة إليه والثالث عابد يعبد الله خوفاً مثال الأول من يخدم الجواد ومثال الثاني من يخدم الغاشم فجعل القائل نفسه من القسم الأعلى وقال لِى َ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى أي هو مالكي أعبده لأنظر إلى ما سيعطيني ولأنظر إلى أن لا يعذبني وجعلهم دون ذلك فقال وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي خوفكم منه ورجاؤكم فيه فكيف لا تعبدونه ولهذا لم يقل وإليه أرجع كما قال فطرني لأنه صار عابداً من القسم الأول فرجوعه إلى الله لا يكن إلا للإكرام وليس سبب عبادته ذلك بل غيره
أَءَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَة ً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ
ثم قال تعالى أَءتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً ليتم التوحيد فإن التوحيد بين التعطيل والإشراك فقال ومالي لا أعبد إشارة إلى وجود الإله وقال مِن دُونِهِ ءالِهَة ً إشارة إلى نفي غيره فيتحقق معنى لا إله إلا الله وفي الآية أيضاً لطائف الأولى ذكره على طريق الاستفهام فيه معنى وضوح الأمر وذلك أن من أخبر من شيء فقال مثلاً لا أتخذ يصح من السامع أن يقول له لم لا تتخذ فيسأله عن السبب فإذا قال أأتخذ يكون كلامه أنه مستغن عن بيان السبب الذي يطالب به عند الإخبار كأنه يقول استشرتك فدلني والمتشار يتفكر فكأنه يقول تفكر في الأمر تفهم من غير إخبار مني الثانية قوله من دونه وهي لطيفة عجيبة وبيانها هو أنه لما بين أنه يعبد الله بقوله الَّذِى فَطَرَنِى ( يس 22 ) بين أن من دونه لا تجوز عبادته فإن عبد غير الله وجب عبادة كل شيء

مشارك للمعبود الذي اتخذ غير الله لأن الكل محتاج مفتقر حادث فلو قال لا أتخذ آلهة لقيل له ذلك يختلف إن اتخذت إلهاً غير الذي فطرك ويلزمك عقلاً أن تتخذ آلهة لا حصر لها وإن كان إلهك ربك وخالقك فلا يجوز أن تتخذ آلهة الثالثة قوله أَءتَّخِذُ إشارة إلى أن غيره ليس بإله لأن المتخذ لا يكون إله ولهذا قال تعالى مَا اتَّخَذَ صَاحِبَة ً وَلاَ وَلَداً ( الجن 3 ) وقال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ( الإسراء 111 ) لأنه تعالى لا يكون له ولد حقيقة ولا يجوز وإنما النصارى قالوا تبنى الله عيسى وسماه ولداً فقال وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ( الفرقان 2 ) ولا يقال قال الله تعالى فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً في حق الله تعالى حيث قال رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ( المزمل 9 ) نقول ذلك أمر متجدد وذلك لأن الإنسان في أول الأمر يكون قليل الصبر ضعيف القوة فلا يجوز أن يترك أسباب الدنيا ويقول إني أتوكل فلا يحسن من الواحد منا أن لا يشتغل بأمر أصلاً ويترك أطفاله في ورطة الحاجة ولا يوصل إلى أهله نفقتهم ويجلس في مسجد وقلبه متعلق بعطاء زيد وعمرو فإذا قوي بالعبادة قلبه ونسي نفسه فضلاً عن غيره وأقبل على عبادة ربه بجميع قلبه وترك الدنيا وأسبابها وفوض أمره إلى الله حينئذٍ يكون من الأبرار الأخيار فقال الله لرسوله أنت علمت أن الأمور كلها بيد الله وعرفت الله حق المعرفة وتيقنت أن المشرق والمغرب وما فيهما وما يقع بينهما بأمر الله ولا إله يطلب لقضاء الحوائج إلا هو فاتخذه وكيلاً وفوض جميع أمورك إليه فقد ارتقيت عن درجة من يؤمر بالكسب الحلال وكنت من قبل تتجر في الحلال ومعنى قوله فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً أي في جميع أمورك وقوله تعالى لاَّ تُغْنِ عَنّى يحتمل وجهين أحدهما أن يكون كالوصف كأنه قال أأتخذ آلهة غير مغنية عند إرادة الرحمن بي ضراً وثانيهما أن يكون كلاماً مستأنفاً كأنه قال لا أتخذ من دونه آلهة
ثم قال تعالى إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرّ لاَّ تُغْنِ عَنّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرّ ولم يقل إن يرد الرحمن بي ضراً وكذلك قال تعالى إِنْ أَرَادَنِى َ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ ( الزمر 38 ) ولم يقل إن أراد الله بي ضراً نقول الفعل إذا كان متعدياً إلى مفعول واحد تعدى إلى مفعولين بحرف كاللازم يتعدى بحرف في قولهم ذهب به وخرج به ثم إن المتكلم البليغ يجعل المفعول بغير حرف ما هو أولى بوقوع الفعل عليه ويجعل الآخر مفعولاً بحرف فإذا قال القائل مثلاً كيف حال فلان يقول اختصه الملك بالكرامة والنعمة فإذا قال كيف كرامة الملك يقول اختصها بزيد فيجعل المسؤول مفعولاً بغير حرف لأنه هو المقصود إذا علمت هذا فالمقصود فيما نحن فيه بيان كون العبد تحت تصرف الله يقلبه كيف يشاء في البؤس والرخاء وليس الضر بمقصود بيانه كيف والقائل مؤمن يرجو الرحمة والنعمة بناءً على إيمانه بحكم وعد الله ويؤيد هذا قوله من قبل الَّذِى فَطَرَنِى ( يس 22 ) حيث جعل نفسه مفعول الفطرة فكذلك جلعها مفعول الإرارة وذكر الضر وقع تبعاً وكذا القول في قوله تعالى إِنْ أَرَادَنِى َ اللَّهُ بِضُرّ ( الزمر 38 ) المقصود بيان أن يكون كما يريد الله وليس الضر بخصوصه مقصوداً بالذكر ويؤيده ما تقدم حيث قال تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ( الزمر 36 ) يعني هو تحت إرادته ويتأيد ما ذكرناه بالنظر في قوله تعالى قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ مّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً

( الأحزاب 17 ) حيث خالف هذا النظم وجعل المفعول من غير حرف السوء وهو كالضر والمفعول بحرف هو المكلف وذلك لأن المقصود ذكر الضر للتخويف وكونهم محلاً له وكيف لا وهم كفرة استحقوا العذاب بكفرهم فجعل الضر مقصوداً بالذكر لزجرهم فإن قيل فقد ذكر الله الرحمة أيضاً حيث قال أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَة ً ( الأحزاب 17 ) نقول المقصود ذلك ويدل عليه قوله تعالى مِن بَعْدِهِ وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ( الأحزاب 17 ) وإنما ذكر الرحمة تتمة للأمر بالتقسيم الحاصر وكذلك إذا تأملت في قوله تعالى يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ ( الفتح 11 ) فإن الكلام أيضاً مع الكفار وذكر النفع وقع تبعاً لحصر الأمر بالتقسيم ويدل عليه قوله تعالى بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ( الفتح 11 ) فإنه للتخويف وهذا كقوله تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( سبأ 24 ) والمقصود إني على هدى وأنتم في ضلال ولو قال هكذا لمنع فقال بالتقسيم كذلك ههنا المقصود الضر واقع بكم ولأجل دفع المانع قال الضر والنفع
المسألة الثانية قال ههنا إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ وقال في الزمر إِنْ أَرَادَنِى َ اللَّهُ ( الزمر 38 ) فما الحكمة في اختيار صيغة الماضي هنالك واختيار صيغة المضارع ههنا وذكر المريد باسم الرحمن هنا وذكر المريد باسم الله هناك نقول أما الماضي والمستقبل فإن إن في الشرط تصير الماضي مستقبلاً وذلك لأن المذكور ههنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله أَءتَّخِذُ وقوله وَمَا لِى َ لاَ أَعْبُدُ ( يس 22 ) والمذكور هناك من قبل بصيغة الماضي في قوله أَفَرَءيْتُمُ ( الزمر 38 ) وكذلك في قوله تعالى وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ ( الأنعام 17 ) لكون المتقدم عليه مذكوراً بصيغة المستقبل وهو قوله وَمِنْ يُصْرَفْ عَنْهُ ( الأنعام 16 ) وقوله إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ ( الأنعام 15 ) والحكمة فيه هو أن الكفار كانوا يخوفون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بضر يصيبه من آلهتهم فكأنه قال صدر منكم التخويف وهذا ما سبق منكم وههنا ابتداء كلام صدر من المؤمن للتقرير والجواب ما كان يمكن صدوره منهم فافترق الأمران وأما قوله هناك إِنْ أَرَادَنِى َ اللَّهُ ( الزمر 38 ) فنقول قد ذكرنا أن الأسمين المختصين بواجب الوجود الله والرحمن كما قال تعالى قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ ( الإسراء 110 ) والله للهيبة والعظمة الرحمن للرأفة والرحمة وهناك وصف الله بالعزة والانتقام في قوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ ( الزمر 37 ) وذكر ما يدل على العظمة ما يدل على العظمة بقوله وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( العنكبوت 61 ) فذكر الاسم الدال على العظمة وقال ههنا ما يدل على الرحمة بقوله الَّذِى فَطَرَنِى ( يس 22 ) فإنه نعمة هي شرط سائر النعم فقال إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرّ ثم قال تعالى لاَّ تُغْنِ عَنّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ على ترتيب ما يقع من العقلاء وذلك لأن من يريد دفع الضر عن شخص أضر به شخص يدفع بالوجه الأحسن فيشفع أولاف فإن قبله ولا يدفع فقال لا تغن عني شفاعتهم ولا يقدرون على إنقاذي بوجه من الوجوه وفي هذه الآيات حصل بيان أن الله تعالى معبود من كل وجه إن كان نظراً إلى جانبه فهو فاطر ورب مالك يستحق العبادة سواء أحسن بعد ذلك أو لم يحسن وإن كان نظراً إلى إحسانه فهو رحمن وإن كان نظراً إلى الخوف فهو يدفع ضره وحصل بيان أن غيره لا يصلح أن يعبد بوجه من الوجوه فإن أدنى مراتبه أن يعد ذلك ليوم كريهة وغير الله لا يدفع شيئاً إلا إذا أراد الله وإن يرد فلا حاجة إلى دافع

ثم قال تعالى
إِنِّى إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ
يعني إن فعلت فأنا ضال ضلالاً بيناً والمبين مفعل بمعنى فعيل كما جاء عكسه فعيل بمعنى مفعل في قوله أليم أي مؤلم ويمكن أن يقال ضلال مبين أي مظهور الأمر للناظر والأول هو الصحيح ثم قال تعالى
إِنِّى ءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ
في المخاطب بقوله ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ وجوه أحدها هم المرسلون قال المفسرون أقبل القوم عليه يريدون قتله فأقبل و على المرسلين وقال إن آمنت بربكم فاسمعوا قولي واشهدوا في ثانيها هم الكفار كأنه لما نصحهم وما نفعهم قال فأنا آمنت فاسمعون ثالثها بربكم أيها السامعون على العموم كما قلنا في قول الواعظ حيث يقول يا مسكين ما أكثر أملك وما أنزل عملك يريد به كل سامع يسمعه وفي قوله فَاسْمَعُونِ فوائد أحدها أنه كلام مترو متفكر حيث قال فَاسْمَعُونِ فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين يتفكر وثانيها أنه ينبه القوم ويقول إني أخبرتكم بما فعلت حتى لا تقولوا لم أخفيت عنا أمرك ولو أظهرت لآمنا معك وثالثها أن يكون المراد السماع الذي بمعنى القبول يقول القائل نصحته فسمع قولي أي قبله فإن قلت لم قال من قبل لِى َ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى ( يس 22 ) وقال ههنا بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ ولم يقل آمنت بربي نقول قولنا الخطاب مع الرسل أمر ظاهر لأنه لما قال آمنت بركم ظهر عند الرسل أنه قبل قولهم وآمن بالرب الذي دعوه إليه ولو قال بربي لعلهم كانوا يقولون كل كافر يقول لي رب وأنا مؤمن بربي وأما على قولنا الخطاب مع الكفار ففيه بيان للتوحيد وذلك لأنه لما قال أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى ( يس 22 ) ثم قال بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ فهم أنه يقول ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وهو بعينه ربكم بخلاف ما لو قال آمنت بربي فيقول الكافر وأنا أيضاً آمنت بربي ومثل هذا قوله تعالى اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ( الشورى 15 )
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّة َ قَالَ يالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ
ثم قال تعالى قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّة َ فيه وجهان أحدهما أنه قتل ثم قيل ادخل الجنة بعد القتل وثانيهما قيل ادخل الجنة قيب قوله ءامَنتُ ( يس 25 ) وعلى الأول فقوله تعالى قَالَ يَاءادَمُ يالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ يكون بعد موته والله أخبر بقوله وعلى الثاني قال ذلك في حياته وكأنه سمع الرسل أنه من الداخلين الجنة وصدقهم وقطع به وعلمه فقال يا ليت قومي يعلمون كما علمت فيؤمنون كما آمنت وفي معنى قوله تعالى قِيلَ وجهان كما أن في وقت ذلك وجهان أحدهما قيل من القول والثاني ادخل الجنة وهذا كما في قوله تعالى إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن ( يس 82 ) ليس المراد القول في وجه بل هو الفعل أي يفعله في حينه من غير تأخير وتراخ وكذلك في قوله تعالى وَقِيلَ ياأَرْضُ أَرْضُ ابْلَعِى ( هود 44 ) في وجه جعل الأرض بالغة ماءها
بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ
وفي قوله تعالى بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وجو أحدها أن ما استفهامية كأنه قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي حتى يشتغلوا به وهو ضعيف وإلا لكان الأحسن أن تكون ما محذوفة الألف يقال بم وفيم وعم

ولم وثانيها خبرية كأنه قال يا ليت قومي يعلمون بالذي غفر لي ربي وثالثها مصدرية كأنه قال يا ليت قومي يعلمون بمغفرة ربي لي والوجهان الآخران هما المختاران
ثم قال تعالى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ قد ذكرنا أن الإيمان والعمل الصالح يوجبان أمرين هما الغفران والإكرام كما في قوله تعالى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( سبأ 4 ) والرجل كان من المؤمنين الصلحاء والكرم على ضد المهان والإهانة بالحاجة والإكرام بالاستغناء فيغني الله الصالح عن كل أحد ويدفع جميع حاجاته بنفسه
ثم إنه تعالى لما بين حاله بين حال المتخلفين المخالفين له من قومه بقوله تعالى
وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ
إشارة إلى هلاكهم بعده سريعاً على أسهل وجه فإنه لم يحتج إلى إرسال جند يهلكهم وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ههنا وَمَا أَنزَلْنَا بإسناد الفعل إلى النفس وقال في بيان حال المؤمن قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّة َ ( يس 26 ) بإسناد القول إلى غير مذكور وذلك لأن العذاب من باب الهيبة فقال بلفظ التعظيم وأما في ادْخُلِ الْجَنَّة َ فقال ( قيل ) ليكون هو كالمهنأ بقول الملائكة حيث يقول له كل ملك وكل صالح يراه ادخل الجنة خالداً فيها وكثيراً ما ورد في القرآن قوله تعالى وَقِيلَ أَدْخِلُواْ إشارة إلى أن الدخول يكون دخولاً بإكرام كما يدخل العريس البيت المزين على رؤوس الأشهاد يهنئه كل أحد
المسألة الثانية لم أضاف القوم إليه مع أن الرسول أولى بكون الجمع قوماً لهم فإن الواحد يكون له قوم هم آله وأصحابه والرسول لكونه مرسلاً يكون جميع الخلق وجميع من أرسل إليهم قوماً له نقول لوجهين أحدهما ليبين الفرق بين اثنين هما من قبيلة واحدة أكرم أحدهما غاية الإكرام بسبب الإيمان وأهين الآخر غاية الإهانة بسبب الكفر وهذا من قوم أولئك في النسب وثانيهما أن العذاب كان مخصصاً بأقارب ذلك لأن غيرهم من قوم الرسل آمنوا بهم فلم يصبهم العذاب
المسألة الثانية خصص عدم الإنزال بما بعده والله تعالى لم ينزل عليهم جنداً قبله أيضاً فما فائدة التخصيص نقول استحقاقهم العذاب كان بعده حيث أصروا واستكبروا فبين حال الهلاك أنه لم يكن بجند
المسألة الرابعة قال مّنَ السَّمَاء وهو تعالى لم ينزل عليهم ولا أرسل إليهم جنداً من الأرض فما فائدة التقييد نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن يكون المراد وما أنزلنا عليهم جنداً بأمر من السماء فيكون للعموم وثانيهما أن العذاب نزل عليهم من السماء فبين أن النازل لم يكن جنداً لهم عظمة وإنما كان ذلك بصيحة أخمدت نارهم وخربت ديارهم
المسألة الخامسة وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ أية فائدة فيه مع أن قوله وَمَا أَنزَلْنَا يستلزم أنه لا يكون من المنزلين نقول قوله وَمَا كُنَّا أي ما كان ينبغي لنا أن ننزل لأن الأمر كان يتم بدون ذلك فما أنزلنا وما كنا محتاجين إلى إنزال أو نقول وَمَا أَنزَلْنَا وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ في مذل تلك الواقعة جنداً في غير تلك الواقعة فإن قيل فكيف أنزل الله جنوداً في يوم بدر وفي غير ذلك حيث قال وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ( التوبة 26 ) نقول ذلك تعظيماً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإلا كان تحريك ريشة من جناح ملك كافياً في استئصالهم وما كان رسل عيسى عليه السلام في درجة محمد ( صلى الله عليه وسلم )

إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَة ً وَاحِدَة ً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ
ثم بين الله تعالى ما كان بقوله إِن كَانَتْ الواقعة إِلاَّ صَيْحَة ً وقال الزمخشري أصله إن كان شيء إلا صيحة فكان الأصل أن يذكر لكنه تعالى أنث لما بعده من المفسر وهو الصيحة
وقوله تعالى واحِدَة ٌ تأكيد لكون الأمر هيناً عند الله
وقوله تعالى فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ فيه إشارة إلى سرعة الهلاك فإن خمودهم كان من الصيحة وفي وقتها لم يتأخر ووصفهم بالخمود في غاية الحسن وذلك لأن الحي فيه الحرارة الغزيرية وكلما كانت الحرارة أوفر كانت القوة الغضبية والشهوانية أتم وهم كانوا كذلك أما الغضب فإنهم قتلوا مؤمناً كان ينصحهم وأما الشهوة فلأنهم احتملوا العذاب الدائم بسبب استيفاء اللذات الحالية فإذن كانوا كالنار الموقدة ولأنهم كانوا جبارين مستكبرين كالنار ومن خلق منها فقال فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ وفيه وجه آخر وهو أن العناصر الأربعة يخرج بعضها عن طبيعته التي خلقه الله عليها ويصير العنصر الآخر بإرادة الله فالأحجار تصير مياهاً والمياه تصير أحجاراً وكذلك الماء يصير هواء عند الغليان والسخونة والهواء يصير ماء للبرد ولكن ذلك في العادة بزمان وأما الهواء فيصير ناراً والنار تصير هواء بالاشتعال والخمود في أسرع زمان فقال خامدين بسببها فخمود النار في السرعة كإطفاء سراج أو شعلة
ياحَسْرَة ً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
ثم قال تعالى خَامِدُونَ ياحَسْرَة ً عَلَى الْعِبَادِ أي هذا وقت الحسرة فاحضري يا حسرة والتنكير للتكثير وفيه مسائل
المسألة الأولى الألف واللام في العباد يحتمل وجهين أحدهما للمعهود وهم الذين أخذتهم الصيحة فيا حسرة على أولئك وثانيهما لتعريف الجنس جنس الكفار المكذبين
المسألة الثانية من المتحسر نقول فيه وجوه الأول لا متحسر أصلاً في الحقيقة إذ المقصود بيان أن ذلك وقت طلب الحسرة حيث تحققت الندامة عند تحقيق العذاب
وههنا بحث لغوي وهو أن المفعول قد يرفض رأساً إذا كان الغرض غير متعلق به يقال إن فلاناً يعطي ويمنع ولا يكون هناك شيء معطي إذ المقصود أن له المنع والأعطاء ورفض المفعول كثير وما نحن فيه رفض الفاعل وهو قليل والوجه فيه ما ذكرنا أن ذكر المتحسر غير مقصود وإنما المقصود أن الحسرة متحققة في ذلك الوقت الثاني أن قائل يا حسرة هو الله على الاستعارة تعظيماً للأمر وتهويلاً له وحينئذٍ يكون كالألفاظ التي وردت في حق الله كالضحك والنسيان والسخر والتعجب والتمني أو نقول ليس معنى قولنا يا حسرة ويا ندامة أن القائل متحسر أو نادم بل المعنى أن مخبر عن وقوع الندامة ولا يحتاج إلى تجوز في بيان كونه تعالى قال عَلَيْهِمْ حَسْرَة ً بل يخبر به على حقيقته إلا في النداء فإن النداء مجاز والمراد الإخبار الثالث المتلهفون من المسلمين والملائكة ألا ترى إلى ما حكي عن حبيب أنه حين القتل كان يقول اللهم

أهد قومي وبعد ما قتلوه وأدخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون فيجوز أن يتحسر المسلم للكافر ويتندم له وعليه
المسألة الثالثة قرىء عَلَيْهِمْ حَسْرَة ً بالتنوين و ( يا حسرة العباد ) بالإضافة من غير كلمة على وقرىء يا حسرة علي بالهاء إجراء للوصل مجرى الوقف
المسألة الرابعة من المراد بالعباد نقول فيه وجوه أحدها الرسل الثلاثة كأن الكافرين يقولون عند ظهور البأس يا حسرة عليهم يا ليتهم كانوا حاضرين شأننا لنؤمن بهم وثانيها هم قوم حبيب وثالثها كل من كفر وأصر واستكبر وعلى الأول فإطلاق العباد على المؤمنين كما في قوله إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر 42 ) وقوله قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ ( الزمر 53 ) وعلى الثاني فإطلاق العباد على الكفار وفرق بين العبد مطلقاً وبين المضاف إلى الله تعالى فإنه بالإضافة إلى الشريف تكسو المضاف شرفاً تقول بيت الله فيكون فيه من الشرف ما لا يكون في قولك البيت وعلى هذا فقوله تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ ( الفرقان 63 ) من قبيل قوله إِنَّ عِبَادِى ( الحجر 42 ) وكذلك عِبَادَ اللَّهِ ( الصافات 74 )
ثم بين الله تعالى سبب الحسرة بقوله تعالى مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ وهذا سبب الندامة وذلك لأن من جاءه ملك من بادية وأعرفه نفسه وطلب منه أمراً هيناً فكذبه ولم يجبه إلا ما دعاه ثم وقف بين يديه وهو على سرير ملكه فعرفه أنه ذلك يكون عنده من الندامة ما لا مزيد عليه فكذلك الرسل هم ملوك وأعظم منهم بإعزاز الله إياهم وجعلهم نوابة كما قال قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ( آل عمران 31 ) وجاؤا وعرفوا أنفسهم ولم يكن لهم عظمة ظاهرة في الحس ثم يوم القيامة أو عند ظهور البأس ظهرت عظمتهم عند الله لهم وكان ما يدعون إليه أمراً هيناً نفعه عائد إليهم من عبادة الله وما كانوا يسألون عليه أجراً فعند ذلك تكون الندامة الشديدة وكيف لا وهم يقتنعوا بالإعراض حتى آذوا واستهزأوا واستخفوا واستهانوا وقوله مَا يَأْتِيهِمْ الضمير يجوز أن يكون عائداً إلى قوم حبيب أي ما يأتيهم من رسول من الرسل الثلاثة إلا كانوا به يستهزؤون على قولنا الحسرة عليهم ويجوز أن يكون عائداً إلى الكفار المصرين
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ
ثم إن الله تعالى لما بين حال الأولين قال للحاضرين أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ أي الباقون لا يرون ما جرى على من تقدمهم ويحتمل أن يقال إن الذين قيل في حقهم عَلَيْهِمْ حَسْرَة ً ( يس 30 ) هم الذين قال في حقهم أَلَمْ يَرَوْاْ ومعناه أن كل مهلك تقدمه قوم كذبوا وأهلكوا إلى قوم نوح وقبله
وقوله أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ بدل في المعنى عن قوله كَمْ أَهْلَكْنَا وذلك لأن معنى كَمْ أَهْلَكْنَا ألم يروا كثرة إهلاكنا وفي معنى ألم يروا المهلكين الكثيرين أنهم إليهم لا يرجعون وحينئذٍ يكون كبدل الاشتمال لأن قوله أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ حال من أحوال المهلكين أي أهلكوا بحيث لا رجوع لهم إليهم فيصير كقولك ألا ترى زيداً أدبه وعلى هذا فقوله أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ فيه وجهان أحدهما أهلكوا إهلاكاً لا رجوع لهم إلى من في الدنيا وثانيهما هو أنهم لا يرجعون إليهم أي الباقون لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة يعني أهلكناهم وقطعنا نسلهم ولا شك في أن الإهلاك الذي يكون مع قطع النسل أتم وأعم والوجه الأول أشهر نقلاً والثاني أظهر عقلاً

ثم قال تعالى
وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ
لما بين الإهلاك بين أنه ليس من أهلكه الله تركه بل بعده جمع وحساب وحبس وعقاب ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة ونعم ما قال القائل
ولو أنا إذا متنا تركنالكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثناونسأل بعده من كل شيء
وقوله وَإِن كُلٌّ لَّمَّا في إن وجهان أحدهما أنها مخففة من الثقيلة واللام في لما فارقة بينها وبين النافية وما زائدة مؤكدة في المعنى والقراءة حينئذٍ بالتخفيف في لما وثانيهما أنها نافية ولما بمعنى إلا قال سيبويه يقال نشدتك بالله لما فعلت بمعنى إلا فعلت والقراءة حينئذٍ بالتشديد في لما يؤيد هذا ما روي أن أبياً قرأ وَمَا كُلٌّ إِلاَّ جَمِيعٌ وفي قوله سيبويه لما بمعنى إلا وارد معنى مناسب وهو أن لما كأنها حرفا نفي جمعاً وهما لم وما فتأكد النفي ولهذا يقال في جواب من قال قد فعل لما يفعل وفي جواب من قال فعل لم يفعل وإلا كأنها حرفا نفي إن ولا فاستعمل أحدهما مكان الآخر قال الزمخشري فإن قال قائل كل وجميع معنى واحد فكيف جعل جميعاً خبراً لكل حيث دخلت اللام عليه إذ التقدير وإن كل لجميع نقول معنى جميع مجموع ومعنى كل كل فرد حيث لا يخرج عن الحكم أحد فصار المعنى كل فرد مجموع مع الآخر مضموم إليه ويمكن أن يقال محضرون يعني عما ذكره وذلك لأنه لو قال وإن جميع لجميع محضرون لكان كلاماً صحيحاً ولم يوجد ما ذكره من الجواب بل الصحيح أن محضرون كالصفة للجميع فكأنه قال جميع جميع محضرون كما يقال الرجل رجل عالم والنبي نبي مرسل والواو في وَإِن كُلُّ لعطف الحكاية على الحكاية كأنه يقول بينت لك ما ذكرت وأبين أن كلاً لدينا محضرون وكذلك الواو في قوله تعالى
وَءَايَة ٌ لَّهُمُ الأرض الْمَيْتَة ُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ
كأنه يقول وأقول أيضاً آية لهم الأرض الميتة وفيه مسائل
المسألة الأولى ما وجه تعلق هذا بما قبله نقول مناسب لما قبله من وجهين أحدهما أنه لما قال وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ ( يس 32 ) كان ذلك إشارة إلى الحشر فذكر ما يدل على إمكانه قطعاً لإنكارهم واستعادهم وإصرارهم وعنادهم فقال وآية لهم الأرض الميتة أحييناها كذلك نحيي الموتى وثانيهما أنه لما ذكر حال المرسلين وإهلاك المكذبين وكان شغلهم التوحيد ذكر ما يدل عليه وبدأ بالأرض لكونها مكانهم لا مفارقة لهم منها عند الحركة والسكون
المسألة الثانية الأرض آية مطلقاً فلم خصصها بهم حيث قال وَءايَة ٌ لَّهُمُ نقول الآية تعدد وتسرد لمن لم يعرف الشيء بأبلغ الوجوه وأما من عرف الشيء بطريق الرؤية لا يذكر له دليل فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعباد الله

الخلصين عرفوا الله قبل الأرض والسماء فليست الأرض معرفة لهم وهذا كما قال تعالى سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ( فصلت 53 ) وقال أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ ( فصلت 53 ) يعني أنت كفاك ربك معرفاً به عرفت كل شيء فهو شهيد لك على كل شيء وأما هؤلاء تبين لهم الحق بالآفاق والأنفس وكذلك ههنا آية لهم
المسألة الثالثة إن قلنا إن الآية مذكورة للاستدلال على جواز إحياء الموتى فيكفي قوله أَحْيَيْنَاهَا ولا حاجة إلى قوله وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً وغير ذلك وإن قلنا إنها للاستدلال على وجود الإله ووحدته فلا فائدة في قوله الاْرْضُ الْمَيْتَة ُ أَحْيَيْنَاهَا لأن نفس الأرض دليل ظاهر وبرهان باهر ثم هب أنها غير كافية فقوله الْمَيْتَة ُ أَحْيَيْنَاهَا كاف في التوحيد فما فائدة قوله وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فله فائدة بالنسبة إلى بيان إحياء الموتى وذلك لأنه لما أحيا الأرض وأخرج منها حباً كان ذلك إحياءً تاماً لأن الأرض المخضرة التي لا تنبت الزرع ولا تخرج الحب دون ما تنبته في الحياة فكأنه قال تعالى الذي أحيا الأرض إحياً كاملاً منبتاً للزرع يحيي الموتى إحياءً كاملاً بحيث تدرك الأمور وأما بالنسبة إلى التوحيد فلأن فيه تعديد النعم كأنه يقول آية لهم الأرض فإنها مكانهم ومهدهم الذي فيه تحريكهم وإسكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم لا بد لهم منها فهي نعمة ثم إحياؤها بحيث تخضر نعمة ثانية فإنها تصير أحسن وأنزه ثم ءخراج الحب منها نعمة ثالثة فإن قوتهم يصير في مكانهم وكان يمكن أن يجعل الله رزقهم في السماء أو في الهواء فلا يحصل لهم الوثوق ثم جعل الجنات فيها نعمة رابعة لأن الأرض تنبت الحب في كل سنة وأما الأشجار بحيث تؤخذ منها الثمار فتكون بعد الحب وجوداً ثم فجرنا فيها العيون ليحصل لهم الاعتماد بالحصول ولو كان ماؤها من السماء لحصل ولكن لم يعلم أنها أين تغرس وأين يقع المطر وينزل القطر بالنسبة إلى بيان إحياء الموتى كل ذلك مفيد وذلك لأن قوله وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً كالإشارة إلى الأمر الضروري الذي لا بد منه وقوله وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ كالأمر المحتاج إليه الذي إن لم يكن لا يغني الإنسان لكنه يبقي مختل الحال وقوله وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ إشارة إلى الزينة التي إن لم تكن لا تعني الإنسان ولا يبقى في ورطة الحاجة لكنه لا يكون على أحسن ما ينبغي وكأن حال الإنسان بالحب كحال الفقير الذي له ما يسد خلته من بعض الوجوه ولا يدفع حاجته من كل الوجوه وبالثمار ويعتبر حاله كحال المكتفي بالعيون الجارية التي يعتمد عليها الإنسان ويقوي بها قلبه كالمستغني الغني المدخر لقوت سنين فيقول الله عز وجل كما فعلنا في موات الأرض كذلك نفعل في الأموات في الأرض فنحييهم ونعطيهم ما لا بد لهم منه في بقائهم وتكوينهم من الأعضاء المحتاج إليها وقواها كالعين والقوة الباصرة والأذن والقوة السامعة وغيرهما ونزيد له ما هو زينة كالعقل الكامل والإدراك الشامل فيكون كأنه قال نحيي الموتى إحياءً تاماً كما أحيينا الأرض إحياءً تاماً
المسألة الرابعة قال عن ذكر الحب فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وفي الأشجار والثمار قال لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وذلك لأن الحب قوت لا بد منه فقال فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ أي هم آكلوه وأما الثمار ليست كذلك فكأنه تعالى قال إن كنا ما أخرجناها كانوا يبقون من غير أكل فأخرجناها ليأكلوها

المسألة الخامسة خصص النخيل والأعناب بالذكر من سائر الفواكه لأن ألذ المطعوم الحلاوة وهي فيها أتم ولأن التمر والعنب قوت وفاكهة ولا كذلك غيرهما ولأنهما أعم نفعاً فإنها تحمل من البلاد إلى الأماكن البعيدة فإن قيل فقد ذكر الله الرمان والزيتون في الأنعام والقضب والزيتون والتين في مواضع نقول في الأنعام وغيرها المقصود ذكر الفواكه والثمار ألا ترى إلى قوله تعالى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ( الأنعام 99 ) وإلى قوله فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ( عبس 24 ) فاستوفى الأنواع بالذكر وههنا المقصود ذكر صفات الأرض فاختار منها الألذ الأنفع وقد ذكرنا في سورة الأنعام ما يستفاد منه الفوائد ويعلم منه فائدة قوله تعالى فَاكِهَة ٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( الرحمن 68 )
المسألة السادسة في المواضع التي ذكر الله الفواكه لم يذكر التمر بلفظ شجرته وهي النخلة ولم يذكر العنب بلفظ شجرته بل ذكره بلفظ العنب والأعناب ولم يذكر الكرم وذلك لأن العنب شجرته بالنسبة إلى ثمرته حقيرة قليلة الفائدة والنخل بالنسبة إلى ثمرته عظيمة جليلة القدر كثيرة الجدوى فإن كثيراً من الظروف منها يتخذ وبلحائها ينتفع ولها شبه بالحيوان فاختار منها ما هو الأعجب منها وقوله تعالى وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ آية عظيمة لأن الأرض أجزاؤها بحكم العادة لا تصعد ونحن نرى منابع الأنهار والعيون في المواضع المرتفعة وذلك دليل القدرة والاختيار والقائلون بالطبائع قالوا إن الجبال كالقباب المبنية والأبخرة ترتفع إليها كما ترتفع إلى سقوف الحمامات وتتكون هناك قطرات من الماء ثم تجتمع فإن لم تكن قوية تحصل المياه الراكدة كالآبار وتجري في القنوات إن كانت قوية تشق الأرض وتخرج أنهاراً جارية وتجتمع فتحصل الأنهار العظيمة وتمدها مياه الأمطار والثلوج فنقول اختصاص بعض الجبال بالعيون دليل ظاهر على الاختيار وما ذكروه تعسف فالحق هو أن الله تعالى خلق الماء في المواضع المرتفعة وساقها في الأنهار والسواقي أو صعد الماء من المواضع المتسفلة إلى الأماكن المرتفعة بأمر الله وجرى في الأودية إلى البقاع التي أنعم الله على أهلها
ثم قال تعالى لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ والترتيب ظاهر ويظهر أيضاً في التفسير وفيه مسائل
المسألة الأولى لم أخر التنبيه على الانتفاع بقوله لِيَأْكُلُواْ عن ذكر الثمار حتى قال وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ وقال في الحب فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ عقيب ذكر الحب ولم يقل عقيب ذكر النخيل والأعناب ليأكلوا نقول الحب قوت وهو يتم وجوده بمياه الأمطار ولهذا يرى أكثر البلاد لا يكون بها شيء من الأشجار والزرع والحراثة لا تبطل هناك اعتماداً على ماء السماء وهذا لطف من الله حيث جعل ما يحتاج إليه الإنسان أعم وجوداً وأما الثمار فلا تتم إلا بالأنهار ولا تصير الأشجار حاملة للثمار إلا بعد وجود الأنهار فلهذا أخر
المسألة الثانية الضمير في قوله مِن ثَمَرِهِ عائد إلى أي شيء نقول المشهور أنه عائد إلى الله أي ليأكلوا من ثمر الله وفيه لطيفة وهي أن الثمار بعد وجود الأشجار وجريان الأنهار لم توجد إلا بالله تعالى ولولا خلق الله ذلك لم توجد فالثمر بعد جميع ما يظن الظان أنه سبب وجوده ليس إلا بالله تعالى وإرادته فهي

ثمره ويحتمل أن يعود إلى النخيل وترك الأعناب لحصول العلم بأنها في حكم النخيل ويحتمل أن يقال هو راجع إلى المذكور أي من ثمر ما ذكرنا وهذان الوجهان نقلهما الزمخشري ويحتمل وجهاً آخر أغرب وأقرب وهو أن يقال المراد من الثمر الفوائد يقال ثمرة التجارة الربح ويقال ثمرة العبادة الثواب وحينئذٍ يكون الضمير عائداً إلى التفجير المدلول عليه بقوله وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ تفجيراً ليأكلوا من فوائد ذلك التفجير وفوائده أثكر من الثمار بل يدخل فيه ما قال الله تعالى أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً ( عبس 25 ) إلى أن قال فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَة ً وَأَبّاً ( عبس 27 31 ) والتفجير أقرب في الذكر من النخيل ولو كان عائداً إلى الله لقال من ثمرنا كما قال ( وجعلنا ) ( وفجرنا )
المسألة الثالثة ما في قوله وَمَا عَمِلَتْهُ من أي الماءات هي نقول فيها وجوه أحدها نافية كأنه قال وما عملت التفجير أيديهم بل الله فجر وثانيها موصولة بمعنى الذي كأنه قال والذي عملته أيديهم من الغراس بعد التفجير يأكلون مه أيضاً ويأكلون من ثمر الله الذي أخرجه من غير سعي من الناس فعطف الذي عملته الأيدي على ما خلقه الله من غير مدخل للإنسان فيها وثالثها هي مصدرية على قراءة من قرأ ( وما عملت ) من غير ضمير عائد معناه ليأكلوا من ثمره وعمل أيديهم يعني يغرسون والله ينبتها ويخلق ثمرها فيأكلون مجموع عمل أيديهم وخلق الله وهذا الوجه لا يمكن على قراءة من قرأ مع الضمير
المسألة الرابعة على قولنا ما موصولة يحتمل أن يكون بمعنى وما عملته أي بالتجارة كأنه ذكر نوعي ما يأكل الإنسان بهما وهما الزراعة والتجارة ومن النبات ما يؤكل من غير عمل الأيدي كالعنب والتمر وغيرهما ومنه ما يعمل فيه عمل صنعة فيؤكل كالأشياء التي لا تؤكل إلا مطبوخة أو كالزيتون الذي لا يؤكل إلا بعد إصلاح ثم لما عدد النعم أشار إلى الشكر بقوله أَفلاَ يُشْرِكُونَ وذكر بصيغة الاستفهام لما بينا من فوائد الاستفهام فيما تقدم ثم قال تعالى
سُبْحَانَ الَّذِى خَلَق الاٌّ زْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ
قد ذكرنا أن لفظة سبحان علم دال على التسبيح وتقديره سبح تسبيح الذي خلق الأزواج كلها ومعنى سبح نزه ووجه تعلق الآية بما قبلها هو أنه تعالى لما قال أَفلاَ تَشْكُرُونَ ( يس 35 ) وشكر الله بالعبادة وهم تركوها ولم يقتنعوا بالترك بل عبدوا غيره وأتوا بالشرك فقال سبحان الذي خلق الأزواج وغيره لم يخلق شيئاً فقال أو نقول لما بين أنهم أنكروا الآيات ولم يشكروا بين ما ينبغي أن يكون عليه العاقل فقال سُبْحَانَ الَّذِى خَلَق الاْزْواجَ كُلَّهَا أو نقول لما بين الآيات قال سبحان الذي خلق ما ذكره عن أن يكون له شريك أو يكون عاجزاً

عن إحياء الموتى وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله كُلَّهَا يدل على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن الزوج هو الصنف وأفعال العباد أصناف ولها أشباه واقعة تحت أجناس الأعراض فتكون من الكل الذي قال الله فيها إنه خلق الأزواج كلها لا يقال مما تنبت الأرض يخرج الكلام عن العموم لأن من قال أعطيت زيداً كل ما كان لي يكون للعموم إن اقتصر عليه فإذا قال بعده من الثياب لا يبقى الكلام على عمومه لأنا نقول ذلك إذا كانت من لبيان التخصيص أما إذا كانت لتأكيد العموم فلا بدليل أن من قال أعطيته كل شيء من الدواب والثياب والعبيد والجواري يفهم منه أنه يعدد الأصناف لتأكيد العموم ويؤيد هذا قوله تعالى في حم الَّذِى خَلَق الاْزْواجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْفُلْكِ وَالاْنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ( الزخرف 12 ) من غير تقييد
المسألة الثانية ذكر الله تعالى أموراً ثلاثة ينحصر فيها المخلوقات فقوله مِمَّا تُنبِتُ الارْضُ يدخل فيها ما في الأرض من الأمور الظاهرة كالنبات والثمار وقوله وَمِنْ أَنفُسِهِمْ يدخل فيها الدلائل النفسية وقوله وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ يدخل ما في أقطار السموات وتخوم الأرضين وهذا دليل على أنه لم يذكر ذلك للتخصيص بدليل أن الأنعام مما خلقها الله والمعادن لم يذكرها وإنما ذكر الأشياء لتأكيد معنى العموم كما ذكرنا في المثال
المسألة الثالثة قوله وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ فيه معنى لطيف وهو أنه تعالى إنما ذكر كون الكل مخلوقاً لينزه الله عن الشريك فإن المخلوق لا يصلح شريكاً للخلق لكن التوحيد الحقيقي لا يحصل إلا بالاعتراف بأن لا إله إلا الله فقال تعالى اعلموا أن المانع من التشريك فيما تعلمون وما لا تعلمون لأن الخلق عام والمانع من الشركة الخلق فلا تشركوا بالله شيئاً مما تعلمون فإنكم تعلمون أنه مخلوق ومما لا تعلمون فإنه عند الله كله مخلوق لكون كله ممكناً ثم قال تعالى
وَءَايَة ٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ
لما استدل الله بأحوال الأرض وهي المكان الكلي استدل بالليل والنهار وهو الزمان الكلي فإن درلة المكان والزمان مناسبة لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر والزمان لا تستغني عنه الأعراض لأن كل عرض فهو في زمان ومثله مذكور في قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ الَّيْلُ كَلاَّ وَالْقَمَرِ ( فصلت 37 ) ثم قال بعده وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاْرْضَ خَاشِعَة ً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( فصلت 39 ) حيث استدل بالزمان والمكان هناك أيضاً لكن المقصود أولاً هناك إثبات الوحدانية بدليل قوله تعالى لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ ( فصلت 37 ) ثم الحشر بدليل قوله تعالى إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا فَانظُرْ إِلَى ( فصلت 39 ) وههنا المقصود أولاً إثبات الحشر لأن السورة فيها ذكر الحشر أكثر يدل عليه النظر في السورة وهناك ذكر التوحيد أكثر بدليل قوله تعالى فيه قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ ( فصلت 9 ) إلى غيره وآخر السورتين يبين الأمر وفيه مسائل

المسألة الأولى المكان يدفع عن أهل السنة شبه الفلاسفة والزمان يدفع عنهم شبه المشبهة
أما بيان الأول فذلك لأن الفلسفي يقول لو كان عدم العالم قبل وجوده لكان عند فرض عدم العالم قبل وقبل وبعد لا يتحقق إلا بالزمان فقبل العالم زمان والزمان من جملة العالم فيلزم وجود الشيء عند عدمه وهو محال فنقول لهم قد وافقتمونا على أن الأمكنة متناهية لأن الأبعاد متناهية بالاتفاق فإذن فوق السطح الأعلى من العالم يكون عدماً وهو موصوف بالفوقية وفوق وتحت لا يتحقق إلا بالمكان ففوق العالم مكان والمكان من العالم فيلزم وجود الشيء عند عدمه فإن أجابوا بأن فوق السطح الأعلى لا خلا ولا ملا نقول قبل وجود العالم لا آن ولا زمان موجود
أما بيان الثاني فلأن المشبهي يقول لا يمكن وجود موجود إلا في مكان فالله في مكان فنقول فيلزمكم أن تقولوا الله في زمان لأن الوهم كما لا يمكنه أن يقول هو موجود ولا مكان لا يمكنه أن يقول هو كان موجوداً ولا زمان وكل زمان هو حادث وقد أجمعنا على أن الله تعالى قديم
المسألة الثانية لو قال قائل إذا كان المراد منه الاستدلال بالزمان فلم اختار الليل حيث قال وَءايَة ٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نقول لما استدل بالمكان الذي هو المظلم وهو الأرض وقال وَءايَة ٌ لَّهُمُ الاْرْضُ ( يس 33 ) استدل بالزمان الذي فيه الظلمة وهو الليل ووجه آخر وهو أن الليل فيه سكون الناس وهدوء الأصوات وفيه النوم وهو كالموت ويكون بعده طلوع الشمس كالنفخ في الصور فيتحرك الناس فذكر الموت كما قال في الأرض وَءايَة ٌ لَّهُمُ الاْرْضُ الْمَيْتَة ُ ( يس 33 ) فذكر في الزمانين أشبههما بالموت كما ذكر من المكانين أشبههما بالموت
المسألة الثالثة ما معنى سلخ النهار من الليل نقول معناه تمييزه منه يقال انسلخ النهار من الليل إذا أتى آخر النهار ودخل أول الليل وسلخه الله منه فانسلخ هو منه وأما إذا استعمل بغير كلمة من فقيل سلخت النهار أو الشمس فمعناه دخلت في آخره فإن قيل فالليل في نفسه آية فأية حاجة إلى قوله نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ نقول الشيء تتبين بضده منافعه ومحاسنه ولهذا لم يجعل الله الليل وحده آية في موضع من المواضع إلا وذكر آية النهار معها وقوله فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ أي داخلون في الظلام وإذا للمفاجأة أي ليس بيدها بعد ذكر أمر ولا بد لهم من الدخول فيه وقوله تعالى
وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
ويحتمل أن يكون الواو للعطف على الليل تقديره وآية لهم الليل نسلخ والشمس تجري والقمر قدرناه فيه كلها آية وقوله وَالشَّمْسُ تَجْرِى إشارة إلى سبب سلخ النهار فإنها تجري لمستقر لها وهو وقت الغروب فينسلخ النهار وفائدة ذكر السبب هو أن الله لما قال نسلخ منه النهار وكان غير بعيد من الجهال أن يقول قائل منهم سلخ النهار ليس من الله إنما يسلخ النهار بغروب الشمس فقال تعالى والشمس تجري لمستقر لها بأمر الله فمغرب الشمس سالخ للنهار فبذكر السبب يتبين صحة الدعوى ويحتمل أن يقال بأن قوله وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه تعالى لما قال وَءايَة ٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ( يس 37 ) ذكر أن الشمس تجري فتطلع عند انقضاء الليل فيعود النهار بمنافعه وقوله لِمُسْتَقَرّ اللام يحتمل أن تكون للوقت كقوله تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( الإسراء 78 ) وقوله تعالى فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( الطلاق 1 ) ووجه استعمال اللام للوقت هو أن اللام المكسورة في الأسماء لتحقيق معنى الإضافة لكن إضافة الفعل إلى سببه أحسن الإضافات لأن الإضافة لتعريف المضاف بالمضاف إليه كما في قوله دار زيد لكن الفعل يعرف

بسببه فيقال اتجر للربح واشتر للأكل وإذا علم أن اللام تستعمل للتعليل فنقول وقت الشيء يشبه سبب الشيء لأن الوقت يأتي بالأمر الكائن فيه والأمور متعلقة بأوقاتها فيقال خرج لعشر من كذا اتْلُ مَا لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( الإسراء 78 ) لأن الوقت معرف كالسبب وعلى هذا فمعناه تجري الشمس وقت استقرارها أي كلما استقرت زماناً أمرت بالجري فجرت ويحتمل أن تكون بمعنى إلى أي إلى مستقر لها وتقريره هو أن للام تذكر للوقت وللوقت طرفان ابتداء وانتهاء يقال سرت من يوم الجمعة إلى يوم الخميس فجاز استعمال ما يستعمل فيه في أحد طرفيه لما بينهما من الاتصال ويؤيد هذا قراءة من قرأ وَالشَّمْسُ تَجْرِى إِلَى مُّسْتَقِرٌّ لَهَا وعلى هذا ففي ذلك المستقر وجوه الأول يوم القيامة وعنده تستقر ولا يبقى لها حركة الثاني السنة الثالث الليل أي تجري إلى الليل الرابع أن ذلك المستقر ليس بالنسبة إلى الزمان بل هو للمكان وحينئذٍ ففيه وجوه الأول هو غاية ارتفاعها في الصيف وغاية انخفاضها في الشتاء أي تجري إلى أن تبلغ ذلك الموضع فترجع الثاني هو غاية مشارقها فإن في كل يوم لها مشرق إلى ستة أشهر ثم تعود إلى تلك المقنطرات وهذا هو القول الذي تقدم في الإرتفاع فإن اختلاف المشارق بسبب اختلاف الإرتفاع الثالث هو وصولها إلى بيتها في الابتداء الرابع هو الدائرة التي عليها حركتها حيث لا تميل عن منطقة البروج على مرور الشمس وسنذكرها ويحتمل أن يقال لِمُسْتَقَرّ لَّهَا أي تجري مجرى مستقرها فإن أصحاب الهيئة قالوا الشمس في فلك والفلك يدور فيدير الشمس فالشمس تجري مجرى مستقرها وقالت الفلاسفة تجري لمستقرها أي لأمر لو وجدها لاستقر وهو استخراج الأوضاع الممكنة وهو في غاية السقوط وأجاب الله عنه بقوله ذالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي ليس لإرادتها وإنما ذلك بإرادة الله وتقديره وتدبيره وتسخيره إياها فإن قيل عددت الوجوه الكثيرة وما ذكرت المختار فما الوجه المختار عندك نقول المختار هو أن المراد من المستقر المكان أن تجري لبلوغ مستقرها وهو غاية الاتفارع والانخفاض فإن ذلك يشمل المشارق والمغارب والمجرى الذي لا يختلف والزمان وهو السنة والليل فهو أتم فائدة وقوله ذالِكَ يحتمل أن يكون إشارة إلى جري الشمس أي ذلك الجري تقدير الله ويحتمل أن يكون إشارة إلى المستقر أي لمستقر لها وذلك المستقر تقدير الله والعزيز الغالب وهو بكمال القدرة يغلب والعليم كامل العلم أي الذي قدر على إجرائها على الوجه الأنفع وعلم الأنفع فأجراها على ذلك وبيانه من وجوه الأول هو أن الشمس في ستة أشهر كل يوم تمر على مسامته شيء لم تمر من أمسها على تلك المسامتة ولو قدر الله مرورها على مسامته واحدة لاحترقت الأرض التي هي مسامته لممرها وبقي المجموع مستولياً على الأماكن الأخر فقدر الله لها بعداً لتجمع الرطوبات في باطن الأرض والأشجار في زمان الشتاء ثم قدر قربها بتدريج لتخرج النبات والثمار من الأرض والشجر وتضج وتجفف ثم تبعد لئلا يحترق وجه الأرض وأغصان الأشجار الثاني هو أن الله قدر لها في كل يوم طلوعاً وفي كل ليلة غروباً لئلا تكون القوى والأبصار بالسهر والتعب ولا يخرب العالم بترك العمارة بسبب الظلمة الدائمة الثالث جعل سيرها أبطأ من سير القمر وأسرع من سير زحل لأنها كاملة النور فلو كانت بطيئة السير لدامت زماناً كثيراً في مسامته شيء واحد فتحرقه ولو كانت سريعة السير لما حصر لها لبث بقدر ما ينضج الثمار في بقعة واحدة ثم قال تعالى
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ

قال الزمخشري لا بد من تقدير لفظ يتم به معنى الكلام لأن القمر لم يجعل نفسه منازل فالمعنى أنا قدرنا سيره منازل وعلى ما ذكره يحتمل أن يقال المراد منه والقمر قدرناه ذا منازل لأن ذا الشيء قريب من الشيء ولهذا جاز قول القائل عيشة راضية لأن ذا الشيء كالقائم به الشيء فأتوا بلفظ الوصف
وقوله حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ أسي رجع في الدقة إلى حالته التي كان عليها من قبل والعرجون من الانعراج يقال لعود العذق عرجون والقديم المتقادم الزمان قيل إن ما غبر عليه سنة فهو قديم والصحيح أن هذه بعينها لا تشترط في جواز إطلاق القديم عليه وإنما تعتبر العادة حتى لا يقال لمدينة بنيت من سنة وسنتين إنهاء بناء قديم أو هي قديمة ويقال لبعض الأشياء إنه قديم وإن لم يكن له سنة ولهذا جاز أن يقال بيت قديم وبناء قديم ولم يجز أن يقال في العالم إنه قديم لأن القدم في البيت والبناء يثبت بحكم تقادم العهد ومرور السنين عليه وإطلاق القديم على العالم لا يعتاد إلا عند من يعتقد أنه لا أول له ولا سابق عليه ثم قال تعالى
لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
إشارة إلى أن كل شيء من الأشياء المذكورة خلق على وفق الحكمة فالشمس لم تكن تصلح لها سرعة الحركة بحيث تدرك القمر وإلا لكان في شهر واحد صيف وشتاء فلا تدرك الثمار وقوله وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ قيل في تفسيره إن سلطان الليل وهو القمر ليس يسبق الشمس وهي سلطان النهار وقيل معناه ولا الليل سابق النهار أي الليل لا يدخل وقت النهار والثاني بعيد لأن ذلك يقع إيضاحاً للواضح والأول صحيح إن أريد به ما بينته وهو أن معنى قوله تعالى وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ أن القمر إذا كان على أفق المشرق أيام الاستقبال تكون الشمس في مقابلته على أفق المغرب ثم إن عند غروب الشمس يطلع القمر وعند طلوعها يغرب القمر كأن لها حركة واحدة مع أن الشمس تتأخر عن القمر في ليلة مقداراً ظاهراً في الحس فلو كان للقمر حركة واحدة بها يسبق الشمس ولا تدركه الشمس وللشمس حركة واحدة بها تتأخر عن القمر ولا تدرك القمر لبقي القمر والشمس مدة مديدة في مكان واحد لأن حركة الشمس كل يوم درجة فخلق الله تعالى جميع الكواكب حركة أخرى غير حركة الشهر والسنة وهي الدورة اليومية وبهذه الدورة لا يسبق كوكب كوكباً أصلاً لأن كل كوكب من الكواكب إذا طلع غرب مقابله وكلما تقدم كوكب إلى الموضع الذي فيه الكوكب الآخر بالنسبة إلينا تقدم ذلك الكوكب فبهذه الحركة لا يسبق الشمس فتبين أن سلطان الليل لا يسبق سلطان النهار فالمراد من الليل القمر ومن النهار الشمس فقوله لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القَمَرَ إشارة إلى حركتها البطيئة التي تتم الدورة في سنة وقوله وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ إشارة إلى حركتها اليومية التي بها تعود من المشرق إلى المشرق مرة أخرى في يوم وليلة وعلى هذا ففيه مسائل

المسألة الأولى ما الحكمة في إطلاق الليل وإرادة سلطانه وهو القمر وماذا يكون لو قال ولا القمر سابق الشمس نقول لو قال ولا القمر سابق الشمس ما كان يفهم أن الإشارة إلى الحركة اليومية فكان يتوهم التناقض فإن الشمس إذا كانت لا تدرك القمر أسرع ظاهراً وإذا قال ولا القمر سابق يظن أن القمر لا يسبق فليس بأسرع فقال الليل والنهار ليعلم أن الإشارة إلى الحركة التي بها تتم الدورة في مدة يوم وليلة ويكون لجيمع الكواكب أو عليها طلوع وغروب في الليل والنهار
المسألة الثانية ما الفائدة في قوله تعالى لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ بصيغة الفعل وقوله وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ بصيغة اسم الفاعل ولم يقل ولا الليل يسبق ولا قال مدركة القمر نقول الحركة الأولية التي للشمس ولا يدرك بها القمر مختصة بالشمس فجعلها كالصادرة منها وذكر بصيغة الفعل لأن صيغة الفعل لا تطلق على من لا يصدر منه الفعل فلا يقال هو يخيط ولا يكون يصدر منه الخياطة والحركة الثانية ليست مختصة بكوكب من الكواكب بل الكل فيها مشتركة بسبب حركة فلك ليس ذلك فلكاً لكوكب من الكواكب فالحركة ليست كالصادرة منه فأطلق اسم الفاعل لأنه لا يستلزم صدور الفعل يقال فلان خياط وإن يكن خياطاً فإن قيل قوله تعالى يَغْشَى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى ( الأعراف 54 ) يدل على خلاف ما ذكرتم لأن النهار إذا كان يطلب الليل فالليل سابقه وقلتم إن قوله وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ معناه ما ذكرتم فيكون الليل سابقاً ولا يكون سابقاً نقول قد ذكرنا أن المراد بالليل ههنا سلطان الليل وهو القمر وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية السريعة والمراد من الليل هناك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقيب الآخر فكأنه طالبه فإن قيل فلم ذكر ههنا سَابِقُ النَّهَارِ وقد ذكر هناك يطلبه ولم يقل طالبه نقول ذلك لما بينا من أن المراد في هذه السورة من الليل كواكب الليل وهي في هذه الحركة كأنها لا حركة لها ولا تسبق ولا من شأنها أنها سابقة والمراد هناك نفس الليل والنهار وهما زمانان والزمان لا قرار له فهو يطلب حثيثاً لصدور التقصي منه وقوله تعالى وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يحقق ما ذكرنا أي للكل طلوع وغروب في يوم وليلة لا يسبق بعضها بعضاً بالنسبة إلى هذه الحركة وكل حركة في فلك تخصه وفيه مسائل
المسألة الأولى التنوين في قوله ( كل ) عوض عن الإضافة معناه كل واحد وإسقاط التنوين للإضافة حتى لا يجتمع التعريف والتنكير في شيء واحد فلما سقط المضاف إليه لفظاً رد التنوين عليه لفظاً وفي المعنى معرف بالإضافة فإن قيل فهل يختلف الأمر عند الإضافة لفظاً وتركها فنقول نعم وذلك لأن قول القائل كل واحد من الناس كذا لا يذهب الفهم إلى غيرهم فيفيد اقتصار الفهم عليه فإذا قال كل كذا يدخل في الفم عموم أكثر من العموم عند الإضافة وهذا كما في قبل وبعد إذا قلت افعل قبل كذا فإذا حذفت المضاف وقلت افعل قبل أفاد فهم الفعل قبل كل شيء فإن قيل فهل بين قولنا كل منهم وبين قولنا كلهم وبين كل فرق نقول نعم عند قولك كلهم تثبت الأمر للاقتصار عليهم وعند قولك كل منهم تثبت الأمر أولاً للعموم ثم استدركت بالتخصيص فقلت منهم وعند قولك كل ثبت الأمر على العموم وتتركه عليه
المسألة الثانية إذا كان كل بمعنى كل واحد منهم والمذكور الشمس والقمر فكيف قال يَسْبَحُونَ نقول الجواب عنه من وجوه أحدها ما بينا أن قوله كل للعموم فكأنه أخبر عن كل كوكب في السماء سيار

ثانيها أن لفظ كل يجوز أن يوحد نظراً إلى كونه لفظاً موحداً غير مثنى ولا مجموع ويجوز أن يجمع لكون معناه جمعاً وأما التثنية فلا يدل عليها للفظ ولا المعنى فعلى هذا يحسن أن يقول القائل زيد وعمرو كل جاء أو كل جاءوا ولا يقول كل جاءا بالتثنية وثالثها لما قال وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ والمراد ما في الليل من الكواكب قال يَسْبَحُونَ
المسألة الثالثة الفلك ماذا نقول الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة لأن أهل اللغة اتفقوا على أن فلكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها وفلكة الخيمة هي الخشبة المسطحة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة فإن قيل فعلى هذا تكون السماء مستديرة وقد اتفق أكثر المفسرين على أن السماء مبسوطة ليس لها أطراف على جبال وهي كالسقف المستوي ويدل عليه قوله تعالى وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ( الطور 5 ) نقول ليس في النصوص ما يدل دلالة قاطعة على كون السماء مبسوطة غير مستديرة ودل الدليل الحسي على كونها مستديرة فوجب المصير إليه أما الأول فظاهر لأن السقف المقبب لا يخرج من كونه سقفاً وكذلك كونها على جبال وأما الدليل الحسي فوجوه أحدها أن من أمعن في السير في جانب الجنوب يظهر له كواكب مثل سهيل وغيره ظهوراً أبدياً حتى أن من يرصد يراه دائماً ويخفى عليه بنات نعش وغيرها خفاءً أبدياً ولو كان السماء مسطحاً مستوياً لبان الكل للكل بخلاف ما إذا كان مستديراً فإن بعضه حينئذٍ يستتر بأطراف الأرض فلا يرى الثاني هو أن الشمس إذا كانت مقارنة للحمل مثلاً فإذا غربت ظهر لنا كوكب في منطقة البروج من الحمل إلى الميزان ثم في قليل يستتر الكوكب الذي كان غروبه بعد غروب الشمس ويظهر الكوكب الذي كان طلوعه بعد طلوع الشمس وبالعكس هو دليل ظاهر وإن بحث فيه يصير قطعياً الثالث هو أن الشمس قبل طلوعها وبعد غروبها يظهر ضوءها ويستنير الجو بعض الاستنارة ثم يطلع ولولا أن بعض السماء مستتر بالأرض وهو محل الشمس فلا يدى جرمها وينتشر نورها لما كان كذا بل كان عند إعادتها إلى السماء يظهر لكل أحد جرمها ونورها معاً لكون السماء مستوية حينئذٍ مكشوفة كلها لكل أحد الرابع القمر إذا انكسف في ساعة من الليل في جانب الشرق ثم سئل أهل الغرب عن وقت الكسوف أخبروا عن الخسوف في ساعة أخرى قبل تلك الساعة التي رأى أهل المشرق فيها الخسوف لكن الخسوف في وقت واحد في جميع نواحي العالم والليل مختلف فدل على أن الليل في جانب المشرق قبل الليل في جانب المغرب فالشمس غربت من عند أهل المشرق وهي بعد في السماء ظاهرة لأهل المغرب فعلم استتارها بالأرض ولو كانت مستوية لما كان كذلك الخامس لو كانت السماء مبسوطة لكان القمر عندما يكون فوق رءوسنا على المسامتة أقرب إلينا وعندما يكون على الأفق أبعد منا لأن العموم أصغر من القطر والوتد وكذلك في الشمس والكواكب كان يجب أن يرى أكبر لأن القريب يرى أكبر وليس كذلك فإن قيل

جاز أن يكون وهو على الأفق على سطح السماء وعندما يكون على مسامته رؤوسنا في بحر السماء غائراً فيها لأن الخرق جائز على السماء نقول لا تنازع في جواز الخرق لكن القمر حينئذٍ تكون حركته في دائرة لا على خط مستقيم وهو غرضنا ولأنا نقول لو كان كذلك لكان القمر عند أهل المشرق وهو في منتصف نهارهم أكبر مقداراً لكونه قريباً من رؤوسهم ضرورة فرضه على سطح السماء الأدنى وعندنا في بحرالسماء وبالجملة الدلائل كثيرة والإكثار منها يليق بكتب الهيئة التي الغرض منها بيان ذلك العلم وليس الغرض في التفسير بيان ذلك غير أن القدر الذي أوردناه يكفي في بيان كونه فلكاً مستديراً
المسألة الرابعة هذا يدل على أن لكل كوكب فلكاً فما قولك فيه نقول أما السبعة السيارة فلكل فلك وأما الكواكب الأخر فقيل للكل فلك واحد ولنذكر كلاماً مختصراً في هذا الباب من الهيئة حيث وجب الشروع بسبب تفسير الفلك فنقول قيل إن للقمر فلكاً لأن حركته أسرع من حركة الستة الباقية وكذلك لكل كوكب فلك لاختلاف سيرها بالسرعة والبطء والممر فإن بعضها يمر في دائرة وبعضها في دائرة أخرى حتى في بعض الأوقات يمر بعضها ببعض ولا يكسفه وفي بعض الأوقات يكسفه فلكل كوكب فلك ثم إن أهل الهيئة قالوا فكل فلك هو جسم كرة وذلك غير لازم بل اللازم أن نقول لكل فلك هو كرة أو صفحة أو دائرة يفعلها الكوكب بحركته والله تعالى قادر على أن يخلق الكوكب في كرة يكون وجوده فيها كوجود مسمار مغرق في ثخن كرة مجوفة ويدير الكرة فيدور الكوكب بدوران الكرة وعلى مذهب أرباب الهيئة حركة الكواكب السيارة على هذا الوجه وكذلك قادر على أن يخلق حلقة يحيط بها أربع سطوح متوازنة بها فإنها أربع دوائر متوازية كحجر الرحى إذا قورناه وأخرجنا من وسطه طاحونة من طواحين اليد ويبقى منه حلقة يحيط بها سطوح ودوائر كما ذكرنا وتكون الكواكب فيه وهو فلك فتدور تلك الحلقة وتدير الكوكب والحركة على هذا الوجه وإن كانت مقدورة لكن لم يذهب إليه أحد ممن يعتبر وكذلك هو قادر على أن يجعل الكواكب بحيث تشق السماء فتجعل دائرة متوهمة كما لو فرضت سمكة في الماء على وجهه تنزل من جانب وتصعد إلى موضع من الجانب الآخر على استدارة وهذا هوالمفهوم من قوله تعالى وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ والظاهر أن حركة الكواكب على هذا الوجه وأرباب الهيئة أنكروا ذلك وقالوا لا تجوز الحركة على هذا الوجه لأن الكوكب له جرم فإذا شق السماء وتحرك فإما أن يكون موضع دورانه ينشق ويلتئم كالماء تحركه السمكة أو لا ينشق ولا يلتئم بل هناك خلاء يدور الكوكب فيه لكن الخلاء محال والسماء لا تقبل الشق والالتئام هذا ما اعتمدوا عليه ونحن نقول كلاهما جائز أما الخلاء فلا يحتاج إليه ههنا لأن قوله تعالى يَسْبَحُونَ يفهم منه أنه بشق والتئام وأما امتناع الشق والالتئام فلا دليل لهم عليه وشبهتهم في المحدد للجهات وهي هناك ضعيفة ثم إنهم قالوا على ما بينا تخرج الحركات وبه علمنا الكسوفات ولو كان لها حركات مختلفة لما وجب الكسوف في

الوقت الذي يحكم فيه بالكسوف والخسوف وذلك لأنا نقول للشمس فلكان أحدهما مركزه مركز العالم ثانيهما مركزه فوق مركز العالم وهو مثل بياض البيض بين صفرته وبين القيض والشمس كرة في الفلك الخارج المركز تدور بدورانه في السنة دورة فإذا جعلت في الجانب الأعلى تكون بعيدة عن الأرض فيقال إنها في الأوج وإذا حصلت في الجانب الأسفل تكون قريبة من الأرض فتكون في الحضيض وأما القمر فله فلك شامل لجميع أجزائه وأفلاكه وفلك آخر هو بعض من الفلك الأول محيط به كالقشرة الفوقانية من البصلة وفلك ثالث في الفلك التحتاني كما كان في الفلك الخارج المركز في فلك الشمس وفي الفلك الخارج المركز كرة مثل جرم الشمس وفي الكرة القمر مركوز كمسمار في كرة مغرق فيها ويسمى الفلك الفوقاني الجوزهر والخارج المركز الفلك الحامل والفلك التحتاني الذي فيه الفلك الحامل الفلك المائل والكرة التي في الحامل تسمى فلك التدوير وكذلك قالوا في الكواكب الخمسة الباقية من السيارات غير أن الفوقاني الذي سموه فلك الجوزهر لم يثبتوه لها فأثبتوا أربعة وعشرين فلكاً الفلك الأعلى وفلك البروج ولزحل ثلاثة أفلاك الممثل والحامل وفلك التدوير وللمشتري ثلاثة كما لزحل وللمريخ كذلك ثلاثة وللشمس فلكان الممثل والخارج والمركز وللزهرة ثلاثة أفلاك كما للعلويات ولعطارد أربعة أفلاك الثلاثة التي ذكرناها في العلويات وفلك آخر يسمونه المدير وللقمر أربعة أفلاك والرابع يسمونه فلك الجوزهر والمدير ليس كالجوزهر لأن المدير غير محيط بالأفلاك عطارد وفلك الجوزهر محيط ومنهم من زاد في الخمسة في كل فلك فلكين آخرين وجعل تدويراتها مركبة منث لاثة أفلاك وقالوا إن بسبب هذه الأجرام تختلف حركات الكواكب ويكون لها عروض ورجوع واستقامة وبطء وسرعة هذا كلامهم على سبيل الاقتناص والاقتصار ونحن نقول لا يبعد من قدرة الله خلق مثل ذلك وأما على سبيل الوجوب فلا نسلم ورجوعها واستقامتها بإرادة الله وكذلك عرضها وطولها وبطؤها وسرعتها وقربها وبعدها هذا تمام الكلام
المسألة الخامسة قال المنجمون الكواكب أحياء بدليل أنه تعالى قال يَسْبَحُونَ وذلك لا يطلق إلا على العاقل نقول إن أردتم القدر الذي يصح به التسبيح فنقول به لأنه ما من شيء من هذه الأشياء إلا وهو يسبح بحمد الله وإن أردتم شيئاً آخر فلم يثبت ذلك والاستعمال لا يدل كما في قوله تعالى في حق الأصنام مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ ( الصافات 92 ) وقوله ( ألا تنطقون ) ثم قال تعالى
وَءَايَة ٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
ولها مناسبة مع ما تقدم من وجهين أحدهما أنه تعالى لما من بإحياء الأرض وهي مكان الحيوانات بين أنه لم يقتصر بل جعل للإنسان طريقاً يتخذ من البحر خيراً ويتوسطه أو يسير فيه كما يسير في البر وهذا حينئذٍ كقوله وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ ( الإسراء 70 ) ويؤيد هذا قوله تعالى وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ( يس 42 ) إذا فسرناه بأن المراد الإبل فإنها كسفن البراري وثانيهما هو أنه تعالى لما بين سباحة الكواكب في الأفلاك وذكر ما هو مثله وهو سباحة الفلك في البحار ولها وجه ثالث وهي أن الأمور التي أنعم الله بها على عباده منها ضرورة ومنها نافعة والأول للحاجة والثاني للزينة فخلق الأرض وإحياؤها من القبيل الأول فإنها المكان الذي لولاه لما وجد الإنسان ولولا إحياؤها لما عاش والليل والنهار في قوله وَءايَة ٌ لَّهُمُ الَّيْلُ ( يس 37 ) أيضاً من القبيل الأول لأنه الزمان الذي

لولاه لما حدث الإنسان والشمس والقمر وحركتهما لو لم تكن لم عاش ثم إنه تعالى لما ذكر من القبيل الأول آيتين ذكر من القبيل الثاني وهوالزينة آيتين إحداهما الفلك التي تجري في البحر فيستخرج من البحر ما يتزين به كما قال تعالى وَمِن كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَة ً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ( فاطر 12 ) وثانيتهما الدواب التي هي في البر كالفلك في البحر في قوله وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ( يس 42 ) فإن الدواب زينة كما قال تعالى وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ وَلَهْوٌ وَزِينَة ٌ ( النحل 8 ) وقال وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ( النحل 6 ) فيكون استدلالاً عليهم بالضروري والنافع لا يقال بأن النافع ذكره في قوله جَنَّاتٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ( يس 34 ) فإنها للزينة لأنا نقول ذلك حصل تبعاً للضروري لأن الله تعالى لما خلق الأرض منبتة لدفع الضرورة وأنزل الماء عليها كذلك لزم أن يخرج من الجنة النخيل والأعناب بقدرة الله وأما الفلك فمقصود لا تبع ثم إذا علمت المناسبة ففي الآيات أبحاث لغوية ومعنوية
أما اللغوية قال المفسرون الذرية هم الآباء أي حملنا آباءكم في الفلك والألف واللام للتعريف أي فلك نوح وهو مذكور في قوله وَاصْنَعِ الْفُلْكَ ( هود 37 ) ومعلوم عند العرب فقال الفلك هذا قول بعضهم وأما الأكثرون فعلى أن الذرية لا تطلق إلا على الولد وعلى هذا فلا بد من بيان المعنى فنقول الفلك إما أن يكون المراد الفلك المعين الذي كان لنوح وإما أن يكون المراد الجنس كما قال تعالى وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْفُلْكِ وَالاْنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ( الزخرف 12 ) وقال تعالى وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ( فاطر 12 ) وقال تعالى فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ ( العنكبوت 65 ) إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس فإن كان المراد سفينة نوح عليه السلام ففيه وجوه الأول أن المراد إنا حملنا أولادكم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل ولا عقب وعلى هذا فقوله حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ بدل قوله حملناهم إشارة إلى كمال النعمة أي لم تكن النعمة مقتصرة عليكم بل متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة هذا ما قاله الزمخشري ويحتمل عندي أن يقال على هذا إنه تعالى إنما خص الذرية بالذكر لأن الموجودين كانوا كفاراً لا فائدة في وجودهم فقال حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ أي لم يكن الحمل حملاً لهم وإنما كان حملاً لما في أصلابهم من المؤمنين كما أن من حمل صندوقاً لا قيمة له وفيه جواهر إذا قيل له لم تحمل هذا الصندوق وتتعب في حمله وهو لا يشتري بشيء يقول لا أحمل الصندوق وإنما أحمل ما فيه الثاني هو أن المراد بالذرية الجنس معناه حملنا أجناسهم وذلك لأن ولد الحيوان من جنسه ونوعه والذرية تطلق على الجنس ولهذا يطلق على النساء نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قتل الذراري أي النساء وذلك لأن المرأة وإن كانت صنفاً غير صنف الرجل لكنها من جنسه ونوعه يقال ذرارينا أي أمثالنا فقوله أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ أي أمثالهم وآباؤهم حينئذٍ تدخل فيهم الثالث هو أن الضمير في قوله وَءايَة ٌ لَّهُمُ عائد إلى العباد حيث قال خَامِدُونَ ياحَسْرَة ً عَلَى الْعِبَادِ ( يس 30 ) وقال بعد ذلك ءايَة ً لَّهُمُ الاْرْضُ ( يس 33 ) وقال وَءايَة ٌ لَّهُمُ الَّيْلُ يس وَقَالَ وَءايَة ٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ إذا علم هذا فكأنه تعالى قال وآية للعباد أنا حملنا ذريات العباد ولا يلزم أن يكون المراد بالضمير في الموضعين أشخاصاً معينين كما قال تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( النساء 29 ) ويريد بعضهم بعضاً وكذلك

إذا تقاتل قوم ومات الكل في القتال يقال هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم فهم في الموضعين يكون عائداً إلى القوم ولا يكون المراد أشخاصاً معينين بل المراد أن بعضهم قتل بعضاً فكذلك قوله تعالى وَءايَة ٌ لَّهُمُ أي آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية على بعض منهم أو ذرية بعض منهم وأما إن قلنا إن المراد جنس الفلك فهو أظهر لأن سفينة نوح لم تكن بحضرتهم ولم يعلموا من حمل فيها فأما جنس الفلك فإنه ظاهر لكل أحد وقوله تعالى في سفينة نوح وَجَعَلْنَاهَا ءايَة ً لّلْعَالَمِينَ ( العنكبوت 15 ) أي بوجود جنسها ومثلها ويؤيده قوله تعالى الم تَرَى أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مّنْ ءايَاتِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ ( لقمان 31 ) فنقول قوله تعالى حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ أي ذريات العباد ولم يقل حملناهم لأن سكون الأرض عام لكل أحد يسكنها فقال وَءايَة ٌ لَّهُمُ الاْرْضُ الْمَيْتَة ُ إلى أن قال فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ( يس 33 ) لأن الأكل عام وأما الحمل في السفينة فمن الناس من لا يركبها في عمره ولا يحمل فيها ولكن ذرية العباد لا بد لهم من ذلك فإن فيهم من يحتاج إليها فيحمل فيها
المسألة الثانية جعل الفلك تارة جمعاً حيث قال وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ( فاطر 12 ) جمع ماخرة وأخرى فرداً حيث قال فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ نقول فيه تدقيق مليح من علم اللغة وهو أن الكلمة قد تكون حركتها مثل حركة تلك الكلمة في الصورة والحركتان مختلفتان في المعنى مثالها قولك سجد يسجد سجوداً للمصدر وهم قوم سجود في جمع ساجد تظن أنهما كلمة واحدة لمعنيين وليس كذلك بل السجود عند كونه مصدراً حركته أصلية إذا قلنا إن الفعل مشتق من المصدر وحركة السجود عند كونه للجمع حركة متغيرة من حيث إن الجمع يشتق من الواحد وينبغي أن يلحق المشتق تغيير في حركة أو حرف أو في مجموعهما فساجد لما أردنا أن يشتق منه لفظ جمع غيرناه وجئنا بلفظ السجود فإذاً السجود للمصدر والجمع ليس من قبيل الألفاظ المشتركة التي وضعت بحركة واحدة لمعنيين إذا عرفت هذا فنقول الفلك عند كونه واحداً مثل قفل وبرد وعند كونها جمعاً مثل خشب ومرد وغيرهما فإن قلت فإذا جعلته جمعاً ماذا يكون واحدها نقول جاز أن يكون واحدها فلكة أو غيرها مما لم يستعمل كواحد النساء حيث لم يستعمل وكذا القول في إِمَامٍ مُّبِينٍ ( يس 12 ) وفي قوله نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ( الإسراء 71 ) أي بأئمتهم عند قوله تعالى إِمَامٍ مُّبِينٍ إما كزمام وكتاب وعند قوله تعالى كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ إمام كسهام وكرام وجعاب وهذا من دقيق التصريف وأما المعنوية فنذكرها في مسائل
المسألة الأولى قال ههنا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ من عليهم بحمل ذريتهم وقال تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَة ِ ( الحاقة 11 ) من هناك عليهم بحمل أنفسهم نقول لأن من ينفع المتعلق بالغير يكون قد نفع ذلك الغير ومن يدفع الضرر على المتعلق بالغير لا يكون قد دفع الضرر عن ذلك الغير بل يكون قد نفعه مثاله من أحسن إلى ولد إنسان وفرحه فرح بفرحه أبوه وإذا دفع واحد الألم عن ولد إنسان يكون قد فرح أباه ولا يكون في الحقيقة قد أزال الألم عن أبيه عند طغيان الماء كان الضرر يلحقهم فقال دفعت عنكم الضرر ولو قال دفعت عن أولادكم الضرر لما حصل بيان دفع الضرر عنهم وههنا أراد بيان المنافع فقال حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ

لأن النفع حاصل بنفع الذرية ويدلك على هذا أن ههنا قال فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فإن امتلاء الفلك من الأموال يحصل بذكره بيان المنفعة وأما دفع المضرة فلا لأن الفلك كلما كان أثقل كان الخلاص به أبطأ وهنالك السلامة فاختار هنالك ما يدل على الخلاص من الضرر وهو الجري وههنا ما يدل على كمال المنفعة وهو الشحن فإن قيل قال تعالى وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ ( الإسراء 70 ) ولم يقل وحملنا ذريتهم مع أن المقصود في الموضعين بيان النعمة لا دفع النقمة نقول لما قال فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ عم الخلق لأن ما من أحد إلا وحمل في البر أو البحر وأما الحمل في البحر فلم يعلم فقال إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره من الأولاد والأقارب والإخوان والأصدقاء
المسألة الثانية قوله الْمَشْحُونِ يفيد فائدة أخرى غير ما ذكرنا وهي أن الآدمي يرسب في الماء ويغرق فحمله في الفلك واقع بقدرته لكن من الطبيعيين من يقول الخفيف لا يرسب في الماء لأن الخفيف يطلب جهة فوق فقال الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أثقل من الثقال التي ترسب ومع هذا حمل الله الإنسان فيه مع ثقله فإن قالوا ذلك لامتناع الخلاء نقول قد ذكرنا الدلائل الدالة على جواز الخلاء في الكتب العقلية فإذن ليس حفظ الثقيل فوق الماء إلا بإرادة الله
المسألة الثالثة قال تعالى وَءايَة ٌ لَّهُمُ الاْرْضُ ( يس 33 ) وقال وَءايَة ٌ لَّهُمُ الَّيْلُ ( يس 37 ) ولم يقل وآية لهم الفلك جعلناها بحيث تحملهم وذلك لأن حملهم في الفلك هو العجب أما نفس الفلك فليس بعجب لأنه كبيت مبني من خشب وأما نفس الأرض فعجب ونفس الليل عجب لا قدرة عليهما لأحد إلا الله ثم قال تعالى
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى من حيث اللغة فقوله لهم يحتمل أن يكون عائداً إلى الذرية أي حملنا ذريتهم وخلقنا للمحمولين ما يركبون ويحتمل أن يكون عائداً إلى العباد الذين عاد إليهم قوله وَءايَة ٌ لَّهُمُ ( يس 41 ) وهو الحق لأن الظاهر عود الضمائر إلى شيء واحد
المسألة الثانية مِنْ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون صلة تقديره وخلقنا لهم مثله وهذا على رأي الأخفش وسيبويه يقول من لا يكون صلة إلا عند النفي تقول ما جاءني من أحد كما في قوله تعالى وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ( ق 38 ) وثانيهما هي مبينة كما في قوله تعالى يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ( الأحقاف 31 ) كأنه لما قال خَلَقْنَا لَهُم والمخلوق كان أشياء قال من مثل الفلك للبيان
المسألة الثالثة الضمير في مّثْلِهِ على قول الأكثرين عائد إلى الفلك فيكون هذا كقوله تعالى وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْواجٌ ( ص 58 ) وعلى هذا فالأظهر أن يكون المراد الفلك الآخر الموجود في زمانهم ويؤيد هذا هو أنه تعالى قال وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ ( يس 43 ) ولو كان المراد الإبل على ما قاله بعض المفسرين لكان قوله وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ فاصلاً بين متصلين ويحتمل أن يقال الضمير عائد إلى معلوم غير مذكور تقديره أن يقال وخلقنا لهم من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله خَلَق الاْزْواجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الاْرْضُ

( يس 36 ) وهذا كما قالوا في قوله تعالى لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ يس ءانٍ وَقُرْءانٌ مُّبِينٌ لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم فيه لطيفة وهي أن ما من أحد إلا وله ركوب مركوب من الدواب وليس كل أحد يركب الفلك فقال في الفلك حملنا ذريتهم وإن كان ما حملناهم وأما الخلق فلهم عام وما يركبون فيه وجهان أحدهما هو الفلك الذي مثل فلك نوح ثانيهما هو الإبل التي هي سفن البر فإن قيل إذا كان المراد سفينة نوح فما وجه مناسبة الكلام نقول ذكرهم بحال قوم نوح وأن المكذبين هلكوا والمؤمنين فازوا فكذلك هم إن آمنوا يفوزوا وإن كذبوا يهلكوا
وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ
ثم قال تعالى وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ إشارة إلى فائذتين أحداهما أن في حال النعمة ينبغي أن لا يأمنوا عذاب الله وثانيتهما هو أن ذلك جواب سؤال مقدر وهو أن الطبيعي يقول السفينة تحمل بمقتضى الطبيعة والمجوف لا يرسب فقال ليس كذلك بل لو شاء الله أغرقهم وليس ذلك بمقتضى الطبع ولو صح كلامه الفاسد لكان القائل أن يقول ألست توافق أنمن السفن ما ينقلب وينكسر ومنها ما يثقبه ثاقب فيرسب وكل ذلك بمشيئة الله فإن شاء الله إغراقهم من غير شيء من هذه الأسباب كما هو مذهب أهل السنة أو بشيء من تلك الأسباب كما تسلم أنت
وقوله تعالى فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ أي لا مغيث لهم يمنع عنهم الغرق
وقوله تعلاى وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إذا أدركهم الغرق وذلك لأن الخلاص من العذاب إما أن يكون بدفع العذاب من أصله أو برفعه بعد وقوعه فقال لا صريخ لهم يدفع ولا هم ينقذون بعد الوقوع فيه وهذا مثل قوله تعالى لاَّ تُغْنِ عَنّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ فقوله لا صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ فيه فائدة أخرى غير الحصر وهي أنه تعالى قال لا صريخ لهم ولم يقل ولا منقذ لهم وذلك لأن من لا يكون من شأنه أن ينصر لا يشرع في النصرة مخافة أن يغلب ويذهب ماء وجهه وإنما ينصر ويغيث من يكون من شأنه أن يغيث فقال لا صريخ لهم وأما من لا يكون من شأنه أن ينقذ إذا رأى من يعز عليه في ضر يشرع في الإنقاذ وإن لم يثق بنفسه في الإنقاذ ولا يغلب على ظنه وإنما يبذل المجهود فقال وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ ولم يقل ولا منقد لهم
إِلاَّ رَحْمَة ً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ
ثم استثنى فقال
وهو يفيد أمرين أحدهما انقسام الإنقاذ إلى قسمين الرحمة والمتاع أي فيمن علم الله منه أنه يؤمن فينقذه الله رحمة وفيمن علم أنه لا يؤمن فليتمتع زماناً ويزداد إثماً وثانيهما أنه بيان لكون الإنقاذ غير مفيد للدوام بل الزوال في الدنيا لا بد منه فينقذه الله رحمة ويمتعه إلى حين ثم يميته فالزوال لازم أن يقع ثم قال تعالى
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما عدد الآيات بقوله وَءايَة ٌ لَّهُمُ الاْرْضُ وَءايَة ٌ لَّهُمُ الَّيْلُ وَءايَة ٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ

( يس 33 37 41 ) وكانت الآيات تفيد اليقين وتوجب القطع بما قال تعالى ولم تفدهم اليقين قال فلا أقل من أن يحترزوا عن العذاب فإن من أخبر بوقوع عذاب يتقيه وإن لم يقطع بصدق قول المخبر احتياطاً فقال تعالى إذا ذكر لهم الدليل القاطع لا يتعرفون به وإذا قيل لهم اتقوا لا يتقون فهم في غاية الجهل ونهاية الغفلة لا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان ولا مثل العامة الذين يبنون الأمر على الأحوط ويدل على ما ذكرنا قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بحرف التمني أي في ظنكم فإن من يخفى عليه وجه البرهان لا يترك طريقة الاحتراز والاحتياط وجواب قوله إِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقَوْاْ محذوف معناه وإذا قيل لهم ذلك لا يتقون أو يعرضون وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه وهو قوله تعالى وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ تَأْتِيهِم مّنْ ءايَة ٍ مّنْ ( الأنعام 4 ) وفي قوله تعالى مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ وجوه أحدها مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ الآخرة فإنهم مستقبلون لها وَمَا خَلْفَكُمْ الدنيا فإنهم تاركون لها وثانيها وَمَا بَيْنَ أَيْدِيكُم من أنواع العذاب مثل الغرق والحرق وغيرهما المدلول عليه بقوله تعالى وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ ( يس 43 ) وما خلفكم من الموت الطالب لكم إن نجوتم من هذه الأشياء فلا نجاة لكم منه يدل عليه قوله تعالى وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ ( يس 44 ) وثالثها ما بين أيديكم من أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه حاضر عندكم وما خلفكم من أمر الحشر فإنكم إذا اتقيتم تكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والتكذيب بالحشر رحمكم الله وقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ مع أن الرحمة واجبة فيه وجوه ذكرناها مراراً ونزيد ههنا وجهاً آخر وهو أنه تعالى لما قال اتَّقَوْاْ بمعنى أنكم إن لم تقطعوا بناء على البراهين فاتقوا احتياطاً قال لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يعني أرباب اليقين يرحمون جزماً وأرباب الاحتياط يرجى أن يرحموا والحق ما ذكرنا من وجهين أحدهما اتقوا راجين الرحمة فإن الله لا يجب عليه شيء وثانيهما هو أن الاتقاء نظراً إليه أمر يفيد الظن بالرحمة فإن كان يقطع به أحد لأمر من خارج فذلك لا يمنع الرجاء فإن الملك إذا كان في قلبه أن يعطي من يخدمه أكثر من أجرته أضعافاً مضاعفة لكن الخدمة لا تقتضي ذلك يصح منه أن يقول افعل كذا ولا يبعد أن يصل إليك أجرتك أكثر مما تستحق ثم قال تعالى
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَة ٍ مِّنْ ءَايَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
وهذا متعلق بما تقدم من قوله تعالى فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ ( يس 30 ) وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ تَأْتِيهِم مّنْ ءايَة ٍ مّنْ ءايَاتِ رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ يعني إذا جاءتهم الرسل كذبوهم فإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها وما التفتوا إليها وقوله أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ إلى قوله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( يس 31 45 ) وكان فيه تقدير أعرضوا قال ليس إعراضهم مقتصراً على ذلك بل هم على كل آية معرضون أو يقال إذا قيل لهم اتقوا اقترحوا آيات مثل إنزال الملك وغيره فقال وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَة ٍ مّنْ ءايَاتِ رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وعلى هذا كانوا في المعنى يكون زائداً معناه إلا يعرضون عنها أي لا ينفعهم الآيات من كذب بالبعض هان عليه التكذيب بالكل

وقوله تعالى
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ
إشارة إلى أنهم يبخلون بجميع ما على المكلف وذلك لأن الملكف عليه التعظيم لجانب الله والشفقة على خلق الله وهم تركوا التعظيم حيث قيل لهم اتَّقَوْاْ فلم يتقوا حيث قيل لهم اتَّقَوْاْ فلم يتقوا وتركوا الشفقة على خلق الله حيث قيل لهم أَنفَقُواْ فلم ينفقوا وفيه لطائف الأولى خوطبوا بأدنى الدرجات في التعظيم والشفقة فلم يأتوا بشيء منه وعباد الله المخلصون خوطبوا بالأدنى فأتوا بالأعلى إنما قلنا ذلك لأنهم في التقوى أمروا بأن يتقوا ما بين أيديهم من العذاب أو الآخرة وما خلفهم من الموت أو العذاب وهو أدنى ما يكون من الاتقاء وأما الخاص فيتقي تغيير قلب الملك عليه وإن لم يعاقبه ومتقى العذاب لا يكون إلا للبعيد فهم لم يتقوا معصية الله ولم يتقوا عذاب الله والمخلصون اتقوا الله واجتنبوا مخالفته سواء كان يعقابهم عليه أو لا يعاقبهم وأما في الشفقة فقيل لهم أَنفِقُواْ مِمَّا أي بعض ما هو لله في أيديكم فلم ينفقوا والمخلصون آثروا على أنفسهم وبذلوا كل ما في أيديهم بل أنفسهم صرفوها إلى نفع عباد الله ودفع الضرر عنهم الثانية كما أن في جانب التعظيم ما كان فائدة التعظيم ارجعة إلا إليهم فإن الله مستغن عن تعظيمهم كذلك في جانب الشفقة ما كان فائدة الشفقة راجعة إلا إليهم فءن من لا يرزقه المتمزل لا يموت إلا بأجله ولا بد من وصول رزقه إليه لكن السعيد من قدر الله إيصال الرزق على يده إلى غيره الثالثة قوله مِمَّا رَزَقَكُمُ إشارة إلى أمرين أحدهما أن البخل به في غاية القبح فإن أبخل البخلاء من يخبل بمال الغير وثانيهما أنه لا ينبغي أن يمنعكم من ذلك مخافة الفقر فإن الله رزقكم فإذا أنفقتم فهو يخلفه لكم ثانياً كما رزقكم أولاً وفيه مسائل أيضاً
المسألة الأولى عند قوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ حذف الجواب وههنا أجاب وأتى بأكثر من الجواب وذلك لأنه تعالى لو قال وإذا قيل لهم أنفقوا قالوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه لكان كافياً فما الفائدة في قوله تعالى قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ نقول الكفار كانوا يقولون بأن الإطعام من الصفات الحميدة وكانوا يفتخرون به وإنما أرادوا بذلك القول رداً على المؤمنين فقالوا نحن نطعم الضيوف معتقدين بأن أفعالنا ثناء ولولا إطعامنا لما اندفع حاجة الضيف وأنتم تقولون إن إلهكم يرزق من يشاء فلم تقولون لنا أنفقوا فلما كان غرضهم الرد على المؤمنين لا الامتناع من الإطعام قال تعالى عنهم قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ إشارة إلى الرد وأما في قولهم اتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ( يس 45 ) فلم يكن لهم رد على المؤمنين فأعرضوا وأعرض الله عن ذكر إعراضهم لحصول العلم به
المسألة الثانية ما الفائدة في تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا أننفق على من لو يشاء الله رزقه وذلك لأنهم أمروا بالإنفاق في قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ فكان جوابهم بأن يقولوا أننفق فلم قالوا

أَنُطْعِمُ نقول فيه بيان غاية مخالفتهم وذلك لأنهم إذا أمروا بالإنفاق والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره لم يأتوا بالإنفاق ولا بأقل منه وهو الإطعام وقالوا لا نطعم وهذا كما يقول القائل لغيره أعط زيداً ديناراً يقول لا أعطيه درهماً مع أن المطابق هو أن يقول لا أعطيه ديناراً ولكن المبالغة في هذا الوجه أتم فكذلك ههنا
المسألة الثالثة كان كلامهم حقاً فإن الله لو شاء أطعمه فلماذا ذكره في معرض الذم نقول لأن مرادهم كان الإنكار لقدرة الله أو لعدم جواز الأمر بالاتفاق مع قدرة الله وكلاهما فاسد بين الله ذلك في قوله مِمَّا رَزَقَكُمُ فإنه يدل على قدرته ويصحح أمره بالإعطاء لأن من كان له في يد الغير مال وله في خزائنه مال فهو مخير إن أراد أعطى مما في خزائنه وإن أراد أمر من عنده المال بالإعطاء ولا يجوز أن يقول من بيده ماله في خزائنك أكثر مما في يدي أعطه منه وقوله إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إشارة إلى اعتقادهم أنهم قطعوا المؤمنين بهذا الكلام وأن أمرهم بالإنفاق مع قولهم بقدرة الله ظاهر الفساد واعتقادهم هو الفاسد وفيه مباحث لغوية معونية
أما اللغوية فنقول ءانٍ وردت للنفي بمعنى ما وكان الأرض في إن أن تكون للشرط والأصل في ما أن تكون للنفي لكنهما اشتركا من بعض الوجوه فتقارضا واستعمل ما في الشرط واستعمل إن في النفي أما الوجه المشترك فهو أن كل واحد منهما حرف مركب من حرفين متقاربين فإن الهمزة تقرب من الألف والميم من النون ولا بد من أن يكون المعنى الذي يدخل عليه ما وأن لا يكون ثابتاً أما في ما فظاهر وأما في إن فلأنك إذا قلت إن جاءني زيد أكرمه ينبغي أن لا يكون له في الحال مجىء فاستعمل إن مكان ما وقيل إن زيد قائم أي ما زيد بقائم واستعمل ما في الشرط تقول ما تصنع أصنع والذي يدل على ما ذكرنا أن ما النافية تستعمل حيث لا تستعمل إن وذلك لأنك تقول ما إن جلس زيد فتجعل إن صلة ولا تقول إن جلس زيد بمعنى النفي وبمعنى الشرط تقول إما ترين فتجعل إن أصلاً وما صلة فدلنا هذا على أن إن في الشرط أصل وما دخيل وما في النفي بالعكس
البحث الثاني قد ذكرنا أن قوله إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ يفيد ما لا يفيد قوله أنتم في ضلال لأنه يوجب الحصر وأنه ليسوا في غير الضلال
البحث الثالث وصف الضلال بالمبين قد ذكرنا معناه أنه لظهوره يبين نفسه أنه ضلال أي في ضلال لا يخفى على أحد أنه ضلال
البحث الرابع قد ذكرنا أن قوله فِى ضَلَالٍ يفيد كونه مغمورين فيه غائصين وقوله في مواضع عَلَى بَيّنَة ٍ ( الأنعام 57 ) و عَلَى هُدًى ( البقرة 5 ) إشارة إلى كونهم راكبين متن الطريق المستقيم قادرين عليه
وأما المعنوية فهي أنهم إنما وصفوا الذين آمنوا بكونهم في ضلال مبين لكونهم ظانين أن المؤمن كلامه متناقض ومن تناقض كلامه يكون في غاية الضلال إنما قلنا ذلك لأنهم قالوا أَنُطْعِمُ لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إشارة إلى أن الله إن شاء أن يطعمهم كان يطعمهم فلا تدر على إطعامهم لأنه يكون تحصيلاً للحاصل وإن لم يشأ الله إطعامهم لا يقدر أحد على إطعامهم لامتناع وقوع ما لم يشأ الله فلا قدرة لنا على الإطعام فكيف تأمرونا بالإطعام ووجه آخر وهو أنهم قالوا أراد الله تجويعهم فلو أطعمناهم يكون ذلك سعياً

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66