كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

اعلم أن المراد ثم بعثنا من بعد نوح رسلاً ولم يسمهم وكان منهم هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب صلوات الله عليهم أجمعين بالبينات وهي المعجزات القاهرة فأخبر تعالى عنهم أنهم جروا على منهاج قوم نوح في التكذيب ولم يزجرهم ما بلغهم من إهلاك الله تعالى المكذبين من قوم نوح عن ذلك فلهذا قال فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ وليس المراد عين ما كذبوا به لأن ذلك لم يحصل في زمانه بل المراد بمثل ما كذبوا به من البينات لأن البينات الظاهرة على الأنبياء عليهم السلام أجمع كأنها واحدة
ثم قال تعالى كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ واحتج أصحابنا على أن الله تعالى قد يمنع المكلف عن الإيمان بهذه الآية وتقريره ظاهر قال القاضي الطبع غير مانع من الإيمان بدليل قوله تعالى بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( النساء 155 ) ولو كان هذا الطبع مانعاً لما صح هذا الاستثناء
والجواب أن الكلام في هذه المسألة قد سبق على الاستقصاء في تفسير قوله تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ( البقرة 7 ) فلا فائدة في الإعادة
القصة الثانية
قصة موسى عليه السلام
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا إِنَّ هَاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَاذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ
اعلم أن هذا الكلام غني عن التفسير وفيه سؤال واحد وهو أن القوم لما قالوا إِنَّ هَاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ فكيف حكى موسى عليه السلام أنهم قالوا أَسِحْرٌ هَاذَا على سبيل الاستفهام
وجوابه أن موسى عليه السلام ما حكى عنهم أنهم قالوا أَسِحْرٌ هَاذَا بل قال أَتقُولُونَ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءكُمْ

ما تقولون ثم حذف عنه مفعول أَتَقُولُونَ لدلالة الحال عليه ثم قال مرة أخرى أَسِحْرٌ هَاذَا وهذا استفهام على سبيل الإنكار ثم احتج على أنه ليس بسحر وهو قوله وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ يعني أن حاصل صنعهم تخييل وتمويه وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ وأما قلب العصا حية وفلق البحر فمعلوم بالضرورة أنه ليس من باب التخييل والتمويه فثبت أنه ليس بسحر
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِى الأرض وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِى بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَة ُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى حكى عن فرعون وقومه أنهم لم يقبلوا دعوة موسى عليه السلام وعللوا عدم القبول بأمرين الأول قوله أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَائِنَا قال الواحدي اللفت في أصل اللغة الصرف عن أمر وأصله اللي يقال لفت عنقه إذا لواها ومن هذا يقال التفت إليه أي أمال وجهه إليه قال الأزهري لفت الشيء وفتله إذا لواه وهذا من المقلوب
واعلم أن حاصل هذا الكلام أنهم قالوا لا نترك الدين الذي نحن عليه لأنا وجدنا آبائنا عليه فقد تمسكوا بالتقليد ودفعوا الحجة الظاهرة بمجرد الإصرار
والسبب الثاني في عدم القبول قوله وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِى الاْرْضِ قال المفسرون المعنى ويكون لكما الملك والعز في أرض مصر والخطاب لموسى وهرون قال الزجاج سمى الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا وأيضاً فالنبي إذا اعترف القوم بصدقه صارت مقاليد أمر أمته إليه فصار أكبر القوم
واعلم أن السبب الأول إشارة إلى التمسكل بالتقليد والسبب الثاني إشارة إلى الحرص على طلب الدنيا والجد في بقاء الرياسة ولما ذكر القوم هذين السببين صرحوا بالحكم وقالوا وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ
واعلم أن القوم لما ذكروا هذه المعاني حاولوا بعد ذلك وأرادوا أن يعارضوا معجزة موسى عليه السلام بأنواع من السحر ليظهروا عند الناس أن ما أتى به موسى من باب السحر فجمع فرعون السحرة وأحضرهم فَقَالَ لَهُمُ مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ

فإن قيل كيف أمرهم بالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر
قلنا إنه عليه السلام أمرهم بإلقاء الحبال والعصي ليظهر للخلق أن ما أتوا به عمل فاسد وسعي باطل لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر فلما ألقوا حبالهم وعصيهم قال لهم موسى ما جئتم به هو السحر الباطل والغرض منه أن القوم قالوا لموسى إن ما جئت به سحر فذكر موسى عليه السلام أن ما ذكرتموه باطل بل الحق أن الذي جئتم به هو السحر والتمويه الذي يظهر بطلانه ثم أخبرهم بأن الله تعالى يحق الحق ويبطل الباطل وقد أخبر الله تعالى في سائر السور أنه كيف أبطل ذلك السحر وذلك بسبب أن ذلك الثعبان قد تلقف كل تلك الجبال والعصي
المسألة الثانية قوله مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ما ههنا موصولة بمعنى الذي وهي مرتفعة بالابتداء وخبرها السحر قال الفراء وإنما قال السِّحْرُ بالألف واللام لأنه جواب كلام سبق ألا ترى أنهم قالوا لما جاءهم موسى هذا سحر فقال لهم موسى بل ما جئتم به السحر فوجب دخول الألف واللام لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة يقول الرجل لغيره لقيت رجلاً فيقول له من الرجل فيعيده بالألف واللام ولو قال له من رجل لم يقع في فهمه أنه سأله عن الرجل الذي ذكره له وقرأ أبو عمرو السِّحْرُ بالاستفهام وعلى هذه القراءة ما استفهامية مرتفع بالابتداء وجئتم به في موضع الخبر كأنه قيل أي شيء جئتم به ثم قال على وجه التوبيخ والتقريع السِّحْرُ كقوله تعالى قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى ( المائدة 116 ) والسحر بدل من المبتدأ ولزم أن يلحقه الاستفهام ليساوي المبدل منه في أنه استفهام كما تقول كم مالك أعشرون أم ثلاثون فجعلت أعشرون بدلاً من كم ولا يلزم أن يضمر للسحر خبر لأنك إذا أبدلته من المبتدأ صار في موضعه وصار ما كان خبراً عن المبدل منه خبراً عنه
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أي سيهلكه ويظهر فضيحة صاحبه إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي لا يقويه ولا يكمله
ثم قال وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ ومعنى إحقاق الحق إظهاره وتقويته وقوله بِكَلِمَاتِهِ أي بوعده موسى وقيل بما سبق من قضائه وقدره وفي كلمات الله أبحاث غامضة عميقة عالية وقد ذكرناها في بعض مواضع من هذا الكتاب
فَمَآ ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّة ٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ
واعلم أنه تعالى بين فيما تقدم ما كان من موسى عليه السلام من المعجزات العظيمة وما ظهر من تلقف العصا لكل ما أحضروه من آلات السحر ثم إنه تعالى بين أنهم مع مشاهدة المعجزات العظيمة ما آمن به منهم إلا ذرية من قومه وإنما ذكر تعالى ذلك تسلية لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه كان يغتم بسبب إعراض القوم عنه

واستمرارهم على الكفر فبين أن له في هذا الباب بسائر الأنبياء أسوة لأن الذي ظهر من موسى عليه السلام كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم ومع ذلك فما آمن به منهم إلا ذرية واختلفوا في المراد بالذرية على وجوه الأول أن الذرية ههنا معناها تقليل العدد قال ابن عباس لفظ الذرية يعبر به عن القوم على وجه التحقير والتصغير ولا سبيل إلى حمله على التقدير على وجه الإهانة في هذا الموضع فوجب حمله على التصغير بمعنى قلة العدد الثاني قال بعضهم المراد أولاد من دعاهم لأن الآباء استمروا على الكفر إما لأن قلوب الأولاد ألين أو دواعيهم على الثبات على الكفر أخف الثالث أن الذرية قوم كان آباؤهم من قوم فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل الرابع الذرية من آل فرعون آسية امرأة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وماشطتها وأما الضمير في قوله مِن قَوْمِهِ فقد اختلفوا أن المراد من قوم موسى أو من قوم فرعون لأن ذكرهما جميعاً قد تقدم والأظهر أنه عائد إلى موسى لأنه أقرب المذكورين ولأنه نقل أن الذين آمنوا به كانوا من بني إسرائيل
أما قوله عَلَى خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ففيه أبحاث
البحث الأول أن أولئك الذين آمنوا بموسى كانوا خائفين من فرعون جداً لأنه كان شديد البطش وكان قد أظهر العداوة مع موسى فإذا علم ميل القوم إلى موسى كان يبالغ في إيذائهم فلهذا السبب كانوا خائفين منه
البحث الثاني إنما قال وَمَلَئِهِمْ مع أن فرعون واحد لوجوه الأول أنه قد يعبر عن الواحد بلفظ الجمع والمراد التعظيم قال الله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) الثاني أن المراد بفرعون آل فرعون الثالث أن هذا من باب حذف المضاف كأنه أريد بفرعون آل فرعون
ثم قال أَن يَفْتِنَهُمْ أي يصرفهم عن دينهم بتسليط أنواع البلاء عليهم
ثم قال وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الاْرْضِ أي لغالب فيها قاهر وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ قيل المراد أنه كثير القتل كثير التعذيب لمن يخالفه في أمر من الأمور والغرض منه بيان السبب في كون أولئك المؤمنين خائفين وقيل إنما كان مسرفاً لأنه كان من أخس العبيد فادعى الإلهية
وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أن قوله وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ جزاء معلق على شرطين أحدهما متقدم والآخر متأخر والفقهاء قالوا المتأخر يجب أن يكون متقدماً والمتقدم يجب أن يكون متأخراً ومثاله أن يقول الرجل لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيداً وإنما كان الأمر

كذلك لأن مجموع قوله إن دخلت الدار فأنت طالق صار مشروطاً بقوله إن كلمت زيداً والمشروط متأخر عن الشرط وذلك يقتضي أن يكون المتأخر في اللفظ متقدماً في المعنى وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخراً في المعنى والتقدير كأنه يقول لامرأته حال ما كلمت زيداً إن دخلت الدار فأنت طالق فلو حصل هذا التعليق قبل إن كلمت زيداً لم يقع الطلاق
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطاً لأن يصيروا مخاطبين بقوله وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل والأمر كذلك لأن الإسلام عبارة عن الاستسلام وهو إشارة إلى الانقياد للتكاليف الصادرة عن الله تعالى وإظهار الخضوع وترك التمرد وأما الإيمان فهو عبارة عن صيرورة القلب عارفاً بأن واجب الوجود لذاته واحد وأن ما سواه محدث مخلوق تحت تدبيره وقهره وتصرفه وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إلى الله تعالى ويحصل في القلب نور التوكل على الله فهذه الآية من لطائف الأسرار والتوكل على الله عبارة عن تفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى والاعتماد في كل الأحوال على الله تعالى
واعلم أن من توكل على الله في كل المهمات كفاه الله تعالى كل الملمات لقوله وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ( الطلاق 3 )
المسألة الثانية أن هذا الذي أمر موسى قومه به وهو التوكل على الله هو الذي حكاه الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ ( يونس 71 ) وعند هذا يظهر التفاوت بين الدرجتين لأن نوحاً عليه السلام وصف نفسه بالتوكل على الله تعالى وموسى عليه السلام أمر قومه بذلك فكان نوحاً عليه السلام تاماً وكان موسى عليه السلام فوق التمام
المسألة الثالثة إنما قال فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ ولم يقل توكلوا عليه لأن الأول يفيد الحصر كأنه عليه السلام أمرهم بالتوكل عليه ونهاهم عن التوكل على الغير والأمر كذلك لأنه لما ثبت أن كل ما سواه فهو ملكه وملكه وتحت تصرفه وتسخيره وتحت حكمه وتدبيره امتنع في العقل أن يتوكل الإنسان على غيره فلهذا السبب جاءت هذ الكلمة بهذه العبارة ثم بين تعالى أن موسى عليه السلام لما أمرهم بذلك قبلوا قوله وَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا أي توكلنا عليه ولا نلتفت إلى أحد سواه ثم لما فعلوا ذلك اشتغلوا بالدعاء فطلبوا من الله تعالى شيئين أحدهما أن قالوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وفيه وجوه الأول أن المراد لا تفتن بنا فرعون وقومه لأنك لو سلطتهم علينا لوقع في قلوبهم أنا لو كنا على الحق لما سلطتهم علينا فيصير ذلك شبهة قوية في إصرارهم على الكفر فيصير تسليطهم علينا فتنة لهم الثاني أنك لو سلطتهم علينا لاستوجبوا العقاب الشديد في الآخرة وذلك يكون فتنة لهم الثالث لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لَهُمْ أي موضع فتنة لهم أي موضع عذاب لهم الرابع أن يكون المراد من الفتنة المفتون لأن إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز كالخلق بمعنى المخلوق والتكوين بمعنى المكون والمعنى لا تجعلنا مفتونين أي لا تمكنهم من أن يحملونا بالظلم والقهر على أن ننصرف عن هذا الدين الحق الذي قبلناه وهذا التأويل متأكد بما ذكره الله تعالى قبل هذه الآية وهو قوله فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرّيَّة ٌ مّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ

وأما المطلوب الثاني في هذا الدعاء فهو قوله تعالى وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
واعلم أن هذا الترتيب يدل على أنه كان اهتمام هؤلاء بأمر دينهم فوق اهتمامهم بأمر دنياهم وذلك لأنا إن حملنا قولهم رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ على أنهم إن سلطوا على المسلمين صار ذلك شبهة لهم في أن هذا الدين باطل فتضرعوا إلي تعالى في أن يصون أولئك الكفار عن هذه الشبهة وقدموا هذا الدعاء على طلب النجاة لأنفسهم وذلك يدل على أن عنايتهم بمصالح دين أعدائهم فوق عنايتهم بمصالح أنفسهم وإن حملناه على أن لا يمكن الله تعالى أولئك الكفار من أن يحملوهم على ترك هذا الدين كان ذلك أيضاً دليلاً على أن اهتمامهم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم وعلى جميع التقديرات فهذه لطيفة شريفة
وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَة ً وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
اعلم أنه لما شرح خوف المؤمنين من الكافرين وما ظهر منهم من التوكل على الله تعالى أتبعه بأن أمر موسى وهرون باتخاذ المساجد والإقبال على الصلوات يقال تبوأ المكان أي اتخذه مبوأ كقوله توطنه إذا اتخذه موطناً والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً لقومكما ومرجعاً ترجعون إليه للعبادة والصلاة
ثم قال وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَة ً وفيه أبحاث
البحث الأول من الناس من قال المراد من البيوت المساجد كما في قوله تعالى فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ بَعْدِى اسْمُهُ ( النور 36 ) ومنهم من قال المراد مطلق البيوت أما الأولون فقد فسروا القبلة بالجانب الذي يستقبل في الصلاة ثم قالوا والمراد من قوله وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَة ً أي اجعلوا بيوتكم مساجد تستقبلونها لأجل الصلاة وقال الفراء واجعلوا بيوتكم قبلة أي إلى القبلة وقال ابن الأنباري واجعلوا بيوتكم قبلة أي قبلاً يعني مساجد فأطلق لفظ الوحدان والمراد الجمع واختلفوا في أن هذه القبلة أين كانت فظاهر أن لفظ القرآن لا يدل على تعيينه إلا أنه نقل عن ابن عباس أنه قال كانت الكعبة قبلة موسى عليه السلام وكان الحسن يقول الكعبة قبلة كل الأنبياء وإنما وقع العدول عنها بأمر الله تعالى في أيام الرسول عليه السلام بعد الهجرة وقال آخرون كانت تلك القبلة جهة بيت المقدس وأما القائلون بأن المراد من لفظ البيوت المذكورة في هذه الآية مطلق البيت فهؤلاء لهم في تفسير قوله قِبْلَة َ وجهان الأول المراد بجعل تلك البيوت قبلة أي متقابلة والمقصود منه حصول الجمعية واعتضاد البعض بالبضع وقال آخرون المراد واجعلوا دوركم قبلة أي صلوا في بيوتكم

البحث الثاني أنه تعالى خص موسى وهرون في أول هذه الآية بالخطاب فقال ءانٍ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ثم عمم هذا الخطاب فقال وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَة ً والسبب فيه أنه تعالى أمر موسى وهرون أن يتبوآ لقومهما بيوتاً للعبادة وذلك مما يفوض إلى الأنبياء ثم جاء الخطاب بعد ذلك عاماً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها لأن ذلك واجب على الكل ثم خص موسى عليه السلام في آخر الكلام بالخطاب فقال وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ وذلك لأن الغرض الأصلي من جميع العبادات حصول هذه البشارة فخص الله تعالى موسى بها ليدل بذلك على أن الأصل في الرسالة هو موسى عليه السلام وأن هرون تبع له
البحث الثالث ذكر المفسرون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً ثلاثة الأول أن موسى عليه السلام ومن معه كانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المؤمنون على هذه الحالة في أول الإسلام في مكة الثاني قيل إنه تعالى لما أرسل موسى إليهم أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ومنعهم من الصلاة فأمرهم الله تعالى أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفاً من فرعون الثالث أنه تعالى لما أرسل موسى إليهم وأظهر فرعون تلك العداوة الشديدة أمر الله تعالى موسى وهرون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء وتكفل تعالى أنه يصونهم عن شر الأعداء
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاّهُ زِينَة ً وَأَمْوَالاً فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن موسى لما بالغ في إظهار المعجزات الظاهرة القاهرة ورأى القوم مصرين على الجحود والعناد والإنكار أخذ يدعو عليهم ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أولاً سبب إقدامه على تلك الجرائم وكان جرمهم هو أنهم لأجل حبهم الدنيا تركوا الدين فلهذا السبب قال موسى عليه السلام رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَة ً وَأَمْوَالاً والزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب وأثاث البيت والمال ما يزيد على هذه الأشياء من الصامت والناطق
ثم قال لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وعاصم لِيُضِلُّواْ بضم الياء وقرأ الباقون بفتح الياء

المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يضل الناس ويريد إضلالهم وتقريره من وجهين الأول أن اللام في قوله لِيُضِلُّواْ لام التعليل والمعنى أن موسى قال يا رب العزة إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا فدل هذا على أنه تعالى قد يريد إضلال المكلفين الثاني أنه قال وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فقال الله تعالى قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا وذلك أيضاً يدل على المقصود قال القاضي لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ويدل عليه وجوه الأول أنه ثبت أنه تعالى منزه عن فعل القبيح وإرادة الكفر قبيحة والثاني أنه لو أراد ذلك لكان الكفار مطيعين لله تعالى بسبب كفرهم لأنه لا معنى للطاعة إلا الإتيان بما يوافق الإرادة ولو كانوا كذلك لما استحقوا الدعاء عليهم بطمس الأموال وشد القلوب والثالث أنا لو جوزنا أن يريد إضلال العباد لجوزنا أن يبعث الأنبياء عليهم السلام للدعاء إلى الضلال ولجاز أن يقوي الكذابين الضالين المضلين بإظهار المعجزات عليهم وفيه هدم الدين وإبطال الثقة بالقرآن والرابع أنه لا يجوز أن يقول لموسى وهرون عليهما السلام فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وأن يقول وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( الأعراف 130 ) ثم إنه تعالى أراد الضلالة منهم وأعطاهم النعم لكي يضلوا لأن ذلك كالمناقضة فلا بد من حمل أحدهما على موافقة الآخر الخامس أنه لا يجوز أن يقال إن موسى عليه السلام دعا ربه بأن يطمس على أموالهم لأجل أن لا يؤمنوا مع تشدده في إرادة الإيمان
واعلم أنا بالغنا في تكثير هذه الوجوه في مواضع كثيرة من هذا الكتاب
وإذا ثبت هذا فنقول وجب تأويل هذه الكلمة وذلك من وجوه الأول أن اللام في قوله لِيُضِلُّواْ لام العاقبة كقوله تعالى فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) ولما كانت عاقبة قوم فرعون هو الضلال وقد أعلمه الله تعالى لا جرم عبر عن هذا المعنى بهذا اللفظ الثاني أن قوله رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ أي لئلا يضلوا عن سبيلك فحذف لا لدلالة المعقول عليه كقوله يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) والمراد أن لا تضلوا وكقوله تعالى قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( الأعراف 172 ) والمراد لئلا تقولوا ومثل هذا الحذف كثير في الكلام الثالث أن يكون موسى عليه السلام ذكر ذلك على سبيل التعجب المقرون بالإنكار والتقدير كأنك آتيتهم ذلك الغرض فإنهم لا ينفقون هذه الأموال إلا فيه وكأنه قال آتيتهم زينة وأموالاً لأجل أن يضلوا عن سبيل الله ثم حذف حرف الاستفهام كما في قول الشاعر كذبتك عينك أم رأيت بواسط
غلس الظلام من الرباب خيالا
أراد أكذبتك فكذا ههنا الرابع قال بعضهم هذه اللام لام الدعاء وهي لام مكسورة تجزم المستقل ويفتتح بها الكلام فيقال ليغفر الله للمؤمنين وليعذب الله الكافرين والمعنى ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك الخامس أن هذه اللام لام التعليل لكن بحسب ظاهر الأمر لا في نفس الحقيقة وتقريره أنه تعالى لما أعطاهم هذه الأموال وصارت تلك الأموال سبباً لمزيد البغي والكفر أشبهت هذه الحالة حالة من أعطى المال لأجل الإضلال فورد هذا الكلام بلفظ التعليل لأجل هذا المعنى السادس بينا في تفسير قوله تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا في أول سورة البقرة إن الضلال قد جاء في القرآن بمعنى الهلاك يقال الماء

في اللبن أي هلك فيه
إذا ثبت هذا فنقول قوله رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ معناه ليهلكون ويموتوا ونظيره قوله تعالى فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( التوبة 55 ) فهذا جملة ما قيل في هذا الباب
واعلم أنا قد أجبنا عن هذه الوجوه مراراً كثيرة في هذا الكتاب ولا بأس بأن نعيد بعضها في هذا المقام فنقول الذي يدل على أن حصول الإضلال من الله تعالى وجوه الأول أن العبد لا يقصد إلا حصول الهداية فلما لم تحصل الهداية بل حصل الضلال الذي لا يريده علمنا أن حصوله ليس من العبد بل من الله تعالى
فإن قالوا إنه ظن بهذا الضلال أنه هدى فلا جرم قد أوقعه وأدخله في الوجود فنقول فعلى هذا يكون إقدامه على تحصيل هذا الجهل بسبب الجهل السابق فلو كان حصول ذلك الجهل السابق بسبب جهل آخر لزم التسلسل وهو محال فثبت أن هذه الجهالات والضلالات لا بد من انتهائها إلى جهل أول وضلال أول وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد وتكوينه لأنه كرهه وإنما اراد ضده فوجب أن يكون من الله تعالى الثاني إنه تعالى لما خلق الخلق بحيث يحبون المال والجاه حبا شديدا لا يمكنه إزالة هذا الحب عن نفسه البتة وكان حصول هذا الحب يوجب الإعراض عمن يستخدمه ويوجب التكبر عليه وترك الالتفات إلى قوله وذلك يوجب الكفر فهذه الأشياء بعضها يتأدى إلى البعض تأديا على سبيل اللزوم وجب أن يكون فاعل هذا الكفر هو الذي خلق الإنسان مجبولا على حب المال والجاه الثالث وهو الحجة الكبرى أن القدرة بالنسبة إلى الضدين على السوية فلا يترجح أحد الطرفين على الثاني إلا لمرجح وذلك المرجح ليس من العبد وإلا لعاد الكلام فيه فلا بد وأن يكون من الله تعالى وإذا كان كذلك كانت الهداية والإضلال من الله تعالى الرابع أنه تعالى أعطى فرعون وقومه زينة وأموالا وقوى حب ذلك المال والجاه في قلوبهم وأودع في طباعهم نفرة شديدة عن خدمة موسى عليه السلام والانقياد له لا سيما وكان فرعون كالمنعم في حقه والمربي له والنفرة عن خدمة من هذا شأنه راسخة في القلوب وكل ذلك يوجب إعراضهم عن قبول دعوة موسى عليه السلام وإصرارهم على إنكار صدقه فثبت بالدليل العقلي أن إعطاء الله تعالى فرعون وقومه زينة الدنيا وأموال الدنيا لا بد وأن يكون موجبا لضلالهم فثبت أن ما أشعر به ظاهر اللفظ فقد ثبت صحته بالعقل الصريح فكيف يمكن ترك ظاهر اللفظ في مثل هذا المقام وكيف يحسن حمل الكلام على الوجوه المتكلفة الضعيفة جدا
إذا عرفت هذا فنقول
أما الوجه الأول وهو حمل اللام على لام العاقبة فضعيف لأن موسى عليه السلام ما كان عالما بالعواقب
فإن قالوا إن الله تعالى أخبره ب 1 لك
قلنا فلما أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون كان صدور الإيمان منهم محالا لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر الله كذبا وهو محال والمفضي إلى المحال محال

وأما الوجه الثاني وهو قولهم يحمل قوله ليضلوا عن سبيلك على أن المراد لئلا يضلوا عن سبيلك فنقول إن هذا التأويل ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره وأقول إنه لما شرع في تفسير
قوله تعالى مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ ثم نقل عن بعض أصحابنا أنه قرأ فَمِن نَّفْسِكَ على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ثم إنه استبعد هذه القراءة وقال إنها تقتضي تحريف القرآن وتغييره وتفتح باب تأويلات الباطنية وبالغ في إنكار تلك القراءة وهذا الوجه الذي ذكره ههنا شر من ذلك لأنه قلب النفي إثباتاً والإثبات نفياً وتجويزه يفتح باب أن لا يبقى الاعتماد على القرآن لا في نفيه ولا في إثباته وحينئذ يبطل القرآن بالكلية هذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد منه الاستفهام بمعنى الإنكار فإن تجويزه يوجب تجويز مثله في سائر المواطن فلعله تعالى إنما قال وَأَنْ أَقِيمُواْ وَإِذْ أَخَذْنَا على سبيل الإنكار والتعجب وأما بقية الجوابات فلا يخفى ضعفها
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه قال رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وذكرنا معنى الطمس عند قوله تعالى مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً ( النساء 47 ) والطمس هو المسخ قال ابن عباس رضي الله عنهما بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحاً وأنصافاً وأثلاثاً وجعل سكرهم حجارة
ثم قال وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ومعنى الشد على القلوب الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان قال الواحدي وهذا دليل على أن الله تعالى يفعل ذلك بمن يشاء ولولا ذلك لما حسن من موسى عليه السلام هذا السؤال
ثم قال فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ وفيه وجهان أحدهما أنه يجوز أن يكون معطوفاً على قوله لِيُضِلُّواْ والتقدير ربنا ليضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وقوله رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ يكون اعتراضاً والثاني يجوز أن يكون جواباً لقوله وَاشْدُدْ والتقدير اطبع على قلوبهم وقسها حتى لا يؤمنوا فإنها تستحق ذلك
ثم قال تعالى قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا وفيه وجهان الأول قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن موسى كان يدعو وهرون كان يؤمن فلذلك قال قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا وذلك لأن من يقول عند دعاء الداعي آمين فهو أيضاً داع لأن قوله آمين تأويله استجب فهو سائل كما أن الداعي سائل أيضاً الثاني لا يبعد أن يكون كل واحد منهما ذكر هذا الدعاء غاية ما في الباب أن يقال إنه تعالى حكى هذا الدعاء عن موسى بقوله وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَة ً وَأَمْوَالاً إلا أن هذا لا ينافي أن يكون هرون قد ذكر ذلك الدعاء أيضاً
وأما قوله فَاسْتَقِيمَا يعني فاستقيما على الدعوة والرسالة والزيادة في إلزام الحجة فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا قليلاً فلا تستعجلا قال ابن جريج إن فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة
وأما قوله وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ففيه بحثان
البحث الأول المعنى لا تتبعان سبيل الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجاباً كان المقصود

حاصلاً في الحال فربما أجاب الله تعالى دعاء إنسان في مطلوبه إلا أنه إنما يوصله إليه في وقته المقدر والاستعجال لا يصدر إلا من الجهال وهذا كما قال لنوح عليه السلام إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( هود 46 )
واعلم أن هذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى عليه السلام كما أن قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) لا يدل على صدور الشرك منه
البحث الثاني قال الزجاج قوله وَلاَ تَتَّبِعَانّ موضعه جزم والتقدير ولا تتبعا إلا أن النون الشديدة دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها وسكون النون التي قبلها فاختير لها الكسرة لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية وقرأ ابن عامر وَلاَ تَتَّبِعَانّ بتخفيف النون
وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ بَنوا إِسْرَاءِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ءَاأنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَة ً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ ءايَاتِنَا لَغَافِلُونَ
اعلم أن تفسير اللفظ في قوله وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ مذكور في سورة الأعراف والمعنى أنه تعالى لما أجاب دعاءهما أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر في الوقت المعلوم ويسر لهم أسبابه وفرعون كان غافلاً عن ذلك فلما سمع أنهم خرجوا وعزموا على مفارقة مملكته خرج على عقبهم وقوله فَأَتْبَعَهُمْ أي لحقهم يقال أتبعه حتى لحقه وقوله بَغْيًا وَعَدْوًا البغي طلب الاستعلاء بغير حق والعدو الظلم روي أن موسى عليه السلام لما خرج مع قومه وصلوا إلى طرف البحر وقرب فرعون مع عسكره منهم فوقعوا في خوف شديد لأنهم صاروا بين بحر مغرق وجند مهلك فأنعم الله عليهم بأن أظهر لهم طريقاً في البحر على ما ذكر الله تعالى هذه القصة بتمامها في سائر السور ثم إن موسى عليه السلام مع أصحابه دخلوا وخرجوا وأبقى الله تعالى ذلك الطريق يبساً ليطمع فرعون وجوده في التمكن من العبور فلما دخل مع جمعه أغرقه الله تعالى بأن أوصل أجزاء الماء ببعضها وأزال الفلق فهو معنى قوله فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ وبين ما كان في قلوبهم من البغي وهي محبة الإفراط في قتلهم وظلمهم والعدو وهوتجاوز الحد ثم ذكر تعالى أنه لما أدركه الغرق أظهر كلمة الإخلاص ظناً منه أنه ينجيه من تلك الآفات وههنا سؤالان
السؤال الأول أن الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفظ بهذا اللفظ فكيف حكى الله تعالى عنه أنه ذكر ذلك

والجواب من وجهين الأول أن مذهبنا أن الكلام الحقيقي هو كلام النفس لا كلام اللسان فهو إنما ذكر هذا الكلام بالنفس لا بكلام اللسان ويمكن أن يستدل بهذه الآية على إثبات كلام النفس لأنه تعالى حكى عنه أنه قال هذا الكلام وثبت بالدليل أنه ما قاله باللسان فوجب الاعتراف بثبوت كلام غير كلام اللسان وهو المطلوب الثاني أن يكون المراد من الغرق مقدماته
السؤال الثاني أنه آمن ثلاث مرات أولها قوله ءامَنتُ وثانيها قوله لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْراءيلَ وثالثها قوله وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فما السبب في عدم القبول والله تعالى متعال عن أن يلحقه غيظ وحقد حتى يقال إنه لأجل ذلك الحقد لم يقبل منه هذا الإقرار
والجواب العلماء ذكروا فيه وجوهاً
الوجه الأول أنه إنما آمن عند نزول العذاب والإيمان في هذا الوقت غير مقبول لأن عند نزول العذاب يصير الحال وقت الإلجاء وفي هذا الحال لا تكون التوبة مقبولة ولهذا السبب قال تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 85 )
الوجه الثاني هو أنه إنما ذكر هذه الكلمة ليتوسل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة والمحنة الناجزة فما كان مقصوده من هذه الكلمة الإقرار بوحدانية الله تعالى والاعتراف بعزة الربوبية وذلة العبودية وعلى هذا التقدير فما كان ذكر هذه الكلمة مقروناً بالإخلاص فلهذا السبب ما كان مقبولاً
الوجه الثالث هو أن ذلك الإقرار كان مبنياً على محض التقليد ألا ترى أنه قال لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْراءيلَ فكأنه اعترف بأنه لا يعرف الله إلا أنه سمع من بني إسرائيل أن للعالم إلهاً فهو أقر بذلك الإله الذي سمع من بني إسرائيل أنهم أقروا بوجوده فكان هذا محض التقليد فلهذا السبب لم تصر الكلمة مقبولة منه ومزيد التحقيق فيه أن فرعون على ما بيناه في سورة طه كان من الدهرية وكان من المنكرين لوجود الصانع تعالى ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته إلا بنو الحجج القطعية والدلائل اليقينية وأما بالتقليد المحض فهو لا يفيد لأنه يكون ضماً لظلمة التقليد إلى ظلمة الجهل السابق
الوجه الرابع رأيت في بعض الكتب أن بعض أقوام من بني إسرائيل لما جاوزوا البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلما قال فرعون أَنَّهُ لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى الَّذِينَ بِهِ بَنواْ إِسْراءيلَ إِسْراءيلَ انصرف ذلك إلى العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت فكانت هذه الكلمة في حقه سبباً لزيادة الكفر
الوجه الخامس أن اليهود كانت قلوبهم مائلة إلى التشبيه والتجسيم ولهذا السبب اشتغلوا بعبادة العجل لظنهم أنه تعالى حل في جسد ذلك العجل ونزل فيه فلما كان الأمر كذلك وقال فرعون وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا إِسْراءيلَ فكإنه آمن بالإله الموصوف بالجسمية والحلول والنزول وكل من اعتقد ذلك كان كافراً فلهذا السبب ما صح إيمان فرعون
الوجه السادس لعل الإيمان إنما كان يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى والإقرار بنبوة موسى عليه السلام فههنا لما أقر فرعون بالوحدانية ولم يقر بالنبوة لا جرم لم يصح إيمانه ونظيره أن الواحد من الكفار

لو قال ألف مرة أشهد أن لا إله إلا الله فإنه لا يصح إيمان إلا إذا قال معه وأشهد أن محمداً رسول الله فكذا ههنا
الوجه السابع روى صاحب ( الكشاف ) أن جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتيا فيها ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه فكتب فرعون فيها يقول أبو العباس الوليد بن مصعب جزاء العبد الخارج على سيده الكافر بنعمته أن يغرق في البحر ثم إن فرعون لما غرق رفع جبريل عليه السلام فتياه إليه
أما قوله تعالى ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ففيه سؤالات
السؤال الأول من القائل له ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ
الجواب الأخبار دالة على أن قائل هذا القول هو جبريل وإنما ذكر قوله وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ في مقابلة قوله وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ومن الناس من قال إن قائل هذا القول هو الله تعالى لأنه ذكر بعده فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ إلى قوله فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَة ً وهذا الكلام ليس إلا كلام الله تعالى
السؤال الثاني ظاهر اللفظ يدل على أنه إنما لم تقبل توبته للمعصية المتقدمة والفساد السابق وصحة هذا التعليل لا تمنع من قبول التوبة
والجواب مذهب أصحابنا أن قبول التوبة غير واجب عقلاً وأحد دلائلهم على صحة ذلك هذه الآية وأيضاً فالتعليل ما وقع بمجرد المعصية السابقة بل بتلك المعصية مع كونه من المفسدين
السؤال الثالث هل يصح أن جبريل عليه السلام أخذ يملأ فمه من الطين لئلا يتوب غضباً عليه
والجواب الأقرب أنه لا يصح لأن في تلك الحالة إما أن يقال التكليف كان ثابتاً أو ما كان ثابتاً فإن كان ثابتاً لم يجز على جبريل عليه السلام أن يمنعه من التوبة بل يجب عليه أن يعينه على التوبة وعلى كل طاعة لقوله تعالى وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ( المائدة 2 ) وأيضاً فلو منعه بما ذكروه لكانت التوبة ممكنة لأن الأخرس قد يتوب بأن يندم بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح وحينئذ لا يبقى لما فعله جبريل عليه السلام فائدة وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر وأيضاً فكيف يليق بالله تعالى أن يقول لموسى وهرون عليهما السلام فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) ثم يأمر جبريل عليه السلام بأن يمنعه من الإيمان ولو قيل إن جبريل عليه السلام إنما فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله تعالى فهذا يبطله قول جبريل وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ ( مريم 64 ) وقوله تعالى في صفتهم وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ( الأنبياء 28 ) وقوله لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( الأنبياء 27 ) وأما إن قيل إن التكليف كان زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت فحينئذ لا يبقى لهذا الفعل الذي نسب جبريل إليه فائدة أصلاً
ثم قال تعالى فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ وفيه وجوه الأول نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ أي نلقيك بنجوة من

الأرض وهي المكان المرتفع الثاني نخرجك من البحر ونخلصك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ولكن بعد أن تغرق وقوله بِبَدَنِكَ في موضع الحال أي في الحال التي أنت فيه حينئذ لا روح فيك الثالث أن هذا وعد له بالنجاة على سبيل التهكم كما في قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) كأنه قيل له ننجيك لكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك ومثل هذا الكلام قد يذكر على سبيل الاستهزاء كما يقال نعتقك ولكن بعد الموت ونخلصك من السجن ولكن بعد أن تموت الرابع قرأ بعضهم نُنَجّيكَ بالحاء المهملة أي نلقيك بناحية مما يلي البحر وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب من جوانب البحر قال كعب رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور
وأما قوله بِبَدَنِكَ ففيه وجوه الأول ما ذكرنا أنه في موضع الحال أي في الحال التي كنت بدناً محضاً من غير روح الثاني المراد ننجيك ببدنك كاملاً سوياً لم تتغير الثالث نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ أي نخرجك من البحر عرياناً من غير لباس الرابع نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ أي بدرعك قال الليث البدن هو الدرع الذي يكون قصير الكمين فقوله بِبَدَنِكَ أي بدرعك وهذا منقول عن ابن عباس قال كان عليه درع من ذهب يعرف بها فأخرجه الله من الماء مع ذلك الدرع ليعرف أقول إن صح هذا فقد كان ذلك معجزة لموسى عليه السلام
وأما قوله لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَة ً ففيه وجوه الأول أن قوماً ممن اعتقدوا فيه الإلهية لما لم يشاهدوا غرقه كذبوا بذلك وزعموا أن مثله لا يموت فأظهر الله تعالى أمره بأن أخرجه من الماء بصورته حتى شاهدوه وزالت الشبهة عن قلوبهم وقيل كان مطرحه على ممر بني إسرائيل الثاني لا يبعد أنه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( النازعات 24 ) ليكون ذلك زجراً للخلق عن مثل طريقته ويعرفوا أنه كان بالأمس في نهاية الجلالة والعظمة ثم آل أمره إلى ما يرون الثالث قرأ بعضهم لِمَنْ خَلَقَكَ بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته الرابع أنه تعالى لما أغرقه مع جميع قومه ثم إنه تعالى ما أخرج أحداً منهم من قعر البحر بل خصه بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة العجيبة دالاً على كمال قدرة الله تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوة
وأما قوله فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَة ً فالأظهر أنه تعالى لما ذكر قصة موسى وفرعون وذكر حال عاقبة فرعون وختم ذلك بهذا الكلام وخاطب به محمداً عليه الصلاة والسلام فيكون ذلك زاجراً لأمته عن الإعراض عن الدلائل وباعثاً لهم على التأمل فيها والاعتبار بها فإن المقصود من ذكر هذه القصص حصول الاعتبار كما قال تعالى لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ ( يوسف 111 )
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

اعلم أنه تعالى لما ذكر ما وقع عليه الختم في واقعة فرعون وجنوده ذكر أيضاً في هذه الآية ما وقع عليه الختم في أمر بني إسرائيل وههنا بحثان
البحث الأول أن قوله بَوَّأْنَا بَنِى إِسْراءيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ أي أسكناهم مكان صدق أي مكاناً محموداً وقوله مُبَوَّأَ صِدْقٍ فيه وجهان الأول يجوز أن يكون مبوأ صدق مصدراً أي بوأناهم تبوأ صدق الثاني أن يكون المعنى منزلاً صالحاً مرضياً وإنما وصف المبوأ بكونه صدقاً لأن عادة العرب أنها إذا مدحت شيئاً أضافته إلى الصدق تقول رجل صدق وقدم صدق قال تعالى وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ ( الإسراء 80 ) والسبب فيه أن ذلك الشيء إذا كان كاملاً في وقت صالحاً للغرض المطلوب منه فكل ما يظن فيه من الخبر فإنه لا بد وأن يصدق ذلك الظن
البحث الثاني اختلفوا في أن المراد ببني إسرائيل في هذه الآية أهم اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام أم الذين كانوا في زمن محمد عليه السلام
أما القول الأول فقد قال به قوم ودليلهم أنه تعالى لما ذكر هذه الآية عقيب قصة موسى عليه السلام كان حمل هذه الآية على أحوالهم أولى وعلى هذا التقدير كان المراد بقوله وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْراءيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ الشام ومصر وتلك البلاد فإنها بلاد كثيرة الخصب قال تعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ ( الإسراء 1 ) والمراد من قوله وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ تلك المنافع وأيضاً المراد منها أنه تعالى أورث بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق والصامت والحرث والنسل كما قال وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا ( الأعراف 137 )
ثم قال تعالى فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ والمراد أن قوم موسى عليه السلام بقوا على ملة واحدة ومقالة واحدة من غير اختلاف حتى قرؤا التوراة فحينئذ تنبهوا للمسائل والمطالب ووقع الاختلاف بينهم ثم بين تعالى أن هذا النوع من الاختلاف لا بد وأن يبقى في دار الدنيا وأنه تعالى يقضي بينهم يوم القيامة
وأما القول الثاني وهو أن المراد ببني إسرائيل في هذه الآية اليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه الصلاة والسلام فهذا قال به قوم عظيم من المفسرين قال ابن عباس وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق ما بين المدينة والشام ورزقناهم من الطيبات والمراد ما في تلك البلاد من الرطب والتمر التي ليس مثلها طيباً في البلاد ثم إنهم بقوا على دينهم ولم يظهر فيهم الاختلاف حتى جاءهم العلم والمراد من العلم القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام وإنما سماه علماً لأنه سبب العلم وتسمية السبب باسم المسبب مجاز مشهور وفي كون القرآن سبباً لحدوث الاختلاف وجهان الأول أن اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام ويفتخرون به على سائر الناس فلما بعثه الله تعالى كذبوه حسداً وبغياً وإيثاراً لبقاء الرياسة وآمن به طائفة منهم فبهذا الطريق صار نزول القرآن سبباً لحدوث الاختلاف فيهم الثاني أن يقال إن هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفاراً محضاً

بالكلية وبقوا على هذه الحالة حتى جاءهم العلم فعند ذلك اختلفوا فآمن قوم وبقي أقوام آخرون على كفرهم
وأما قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فالمراد منه أن هذا النوع من الاختلاف لا حيلة في إزالته في دار الدنيا وأنه تعالى في الآخرة يقضي بينهم فيتميز المحق من المبطل والصديق من الزنديق
فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَة ُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءايَة ٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل اختلافهم عند ما جاءهم العلم أورد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية ما يقوي قلبه في صحة القرآن والنبوة فقال تعالى فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي الشك في وضع اللغة ضم بعض الشيء إلى بعض يقال شك الجواهر في العقد إذا ضم بعضها إلى بعض ويقال شككت الصيد إذا رميته فضممت يده أو رجله إلى رجله والشكائك من الهوادج ما شك بعضها ببعض والشكاك البيوت المصطفة والشكائك الأدعياء لأنهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم أي يضمون وشك الرجل في السلاح إذا دخل فيه وضمه إلى نفسه وألزمه إياها فإذا قالوا شك فلان في الأمور أرادوا أنه وقف نفسه بين شيئين فيجوز هذا ويجوز هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه
المسألة الثانية اختلف المفسرون في أن المخاطب بهذا الخطاب من هو فقيل النبي عليه الصلاة والسلام وقيل غيره أما من قال بالأول فاختلفوا على وجوه
الوجه الأول أن الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الظاهر والمراد غيره كقوله تعالى مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 1 ) وكقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وكقوله اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ( المائدة 116 ) ومن الأمثلة المشهورة إياك أعني واسمعي يا جاره
والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه الأول قوله تعالى في آخر السورة قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى ( يونس 104 ) فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز هم المذكورون في هذه

الآية على سبيل التصريح الثاني أن الرسول لو كان شاكاً في نبوة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية والثالث أن بتقدير أن يكون شاكاً في نبوة نفسه فكيف يزول ذلك الشك بأخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم في الأكثر كفار وإن حصل فيهم من كان مؤمناً إلا أن قوله ليس بحجة لا سيما وقد تقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل فالكل مصحف محرف فثبت أن الحق هو أن الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أن المراد هو الأمة ومثل هذا معتاد فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير وكان تحت راية ذلك الأمير جمع فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه لا يوجه خطابه عليهم بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم ليكون ذلك أقوى تأثيراً في قلوبهم
الوجه الثاني أنه تعالى علم أن الرسول لم يشك في ذلك إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام فإنه يصرح ويقول ( يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل يكفيني ما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة ) ونظيره قوله تعالى للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( سبأ 40 ) أن يصرحوا بالجواب الحق ويقولوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ( سبأ 41 ) وكما قال لعيسى عليه السلام قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( المائدة 116 ) والمقصود منه أن يصرح عيسى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا ههنا
الوجه الثالث هو أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان من البشر وكان حصول الخواطر المشوشة والأفكار المضطربة في قلبه من الجائزات وتلك الخواطر لا تندفع إلا بإيراد الدلائل وتقرير البينات فهو تعالى أنزل هذا النوع من التقريرات حتى أن بسببها تزول عن خاطره تلك الوساوس ونظيره قوله تعالى فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ( هود 12 ) وأقول تمام التقرير في هذا الباب إن قوله فَإِن كُنتَ فِي شَكّ فافعل كذا وكذا قضية شرطية والقضية الشرطية لا إشعار فيها ألبتة بأن الشرط وقع أو لم يقع ولا بأن الجزاء وقع أو لم يقع بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط والدليل عليه أنك إذا قلت إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين فهو كلام حق لأن معناه أن كون الخمسة زوجاً يستلزم كونها منقسمة بمتساويين ثم لا يدل هذا الكلام على أن الخمسة زوج ولا على أنها منقسمة بمتساويين فكذا ههنا هذه الآية تدل على أنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هو فعل كذا وكذا فأما إن هذا الشك وقع أو لم يقع فليس في الآية دلالة عليه والفائدة في إنزال هذه الآية على الرسول أن تكثير الدلائل وتقويتها مما يزيد في قوة اليقين وطمأنينة النفس وسكون الصدر ولهذا السبب أكثر الله في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة
والوجه الرابع في تقرير هذا المعنى أن تقول المقصود من ذكر هذا الكلام استمالة قلوب الكفار وتقريبهم من قبول الإيمان وذلك لأنهم طالبوه مرة بعد أخرى بما يدل على صحة نبوته وكأنهم استحيوا من تلك المعاودات والمطالبات وذلك الاستحياء صار مانعاً لهم عن قبول الإيمان فقال تعالى فَإِن كُنتَ فِي شَكّ من نبوتك فتمسك بالدلائل القلائل يعني أولى الناس بأن لا يشك في نبوته هو نفسه ثم مع هذا إن طلب هو من نفسه دليلاً على نبوة نفسه بعد ما سبق من الدلائل الباهرة والبينات القاهرة فإنه ليس فيه عيب

ولا يحصل بسببه نقصان فإذا لم يستقبح منه ذلك في حق نفسه فلأن لا يستقبح من غيره طلب الدلائل كان أولى فثبت أن المقصود بهذا الكلام استمالة القوم وإزالة الحياء عنهم في تكثير المناظرات
الوجه الخامس أن يكون التقدير أنك لست شاكاً ألبتة ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة ذلك الشك كقوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) والمعنى أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً لزم منه المحال الفلاني فكذا ههنا ولو فرضنا وقوع هذا الشك فارجع إلى التوراة والإنجيل لتعرف بهما أن هذا الشك زائل وهذه الشبهة باطلة
الوجه السادس قال الزجاج إن الله خاطب الرسول في قوله فَإِن كُنتَ فِي شَكّ وهو شامل للخلق وهو كقوله الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء ( الطلاق 1 ) قال وهذا أحسن الأقاويل قال القاضي هذا بعيد لأنه متى كان الرسول داخلاً تحت هذا الخطاب فقد عاد السؤال سواء أريد معه غيره أو لم يرد وإن جاز أن يراد هو مع غيره فما الذي يمنع أن يراد بانفراده كما يقتضيه الظاهر ثم قال ومثل هذا التأويل يدل على قلة التحصيل
الوجه السابع هو أن لفظ ءانٍ في قوله إِن كُنتَ فِى شَكّ للنفي أي ما كنت في شك قبل يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقيناً كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى يقيناً
وأما الوجه الثاني وهو أن يقال هذا الخطاب ليس مع الرسول فتقريره أن الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره الشاكون فيه فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته وإنما وحد الله تعالى ذلك وهو يريد الجمع كما في قوله وَأَخَّرَتْ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ الَّذِى خَلَقَكَ ( الانفطار 6 7 ) و وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ ( الانشقاق 6 ) وقوله فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ ( الزمر 49 ) ولم يرد في جميع هذه الآيات إنساناً بعينه بل المراد هو الجماعة فكذا ههنا ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ
المسألة الثالثة اختلفوا في أن المسؤول منه في قوله فَاسْأَلِ الَّذِينَ أُمُّ الْكِتَابِ من هم فقال المحققون هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبدالله بن سلام وعبدالله بن صوريا وتميم الداري وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم ومنهم من قال الكل سواء كانوا من المسلمين أو من الكفار لأنهم إذا بلغوا عدد التواتر ثم قرؤا آية من التوراة والإنجيل وتلك الآية دالة على البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقد حصل الغرض
فإن قيل إذا كان مذهبكم أن هذه الكتب قد دخلها التحريف والتغيير فكيف يمكن التعويل عليها
قلنا إنهم إنما حرفوها بسبب إخفاء الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته كان ذلك من أقوى الدلائل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لأنها لما بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دل ذلك على أنها كانت في غاية الظهور وأما أن المقصود من ذلك

السؤال معرفة أي الأشياء ففيه قولان الأول أنه القرآن ومعرفة نبوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أنه رجع ذلك إلى قوله تعالى فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ ( يونس 93 ) والأول أولى لأنه هو الأهم والحاجة إلى معرفته أتم واعلم أنه تعالى لما بين هذا الطريق قال بعده لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ أي فأثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك وانتفاء التكذيب بآيات الله ويجوز أن يكون ذلك على طريق التهييج وإظهار التشدد ولذلك قال عليه الصلاة والسلام عند نزوله ( لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق )
ثم قال وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَكُنتُم مّنَ الْخَاسِرِينَ
واعلم أن فرق المكلفين ثلاثة إما أن يكون من المصدقين بالرسول أو من المتوقفين في صدقه أو من المكذبين ولا شك أن أمر المتوقف أسهل من أمر المكذب لا جرم قد ذكر المتوقف بقوله وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ثم أتبعه بذكر المكذب وبين أنه من الخاسرين ثم إنه تعالى لما فصل هذا التفصيل بين أن له عباداً قضى عليهم بالشقاء فلا يتغيرون وعباداً قضى لهم بالكرامة فلا يتغيرون فقال إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَة ُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر كلمات على الجمع وقرأ الباقون كلمة على لفظ الواحد وأقول إنها كلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة واحدة بحسب الواحدة الجنسية
المسألة الثانية المراد من هذه الكلمة حكم الله بذلك وإخباره عنه وخلقه في العبد مجموع القدرة والداعية الذي هو موجب لحصول ذلك الأثر أما الحكم والأخبار والعلم فظاهر وأما مجموع القدرة والداعي فظاهر أيضاً لأن القدرة لما كانت صالحة للطرفين لم يترجح أحد الجانبين على الآخر إلا لمرجح وذلك المرجح من الله تعالى قطعاً للتسلسل وعند حصول هذا المجموع يجب الفعل وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب وهو حق وصدق ولا محيص عنه
ثم قال تعالى وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَة ٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ والمراد أنهم لا يؤمنون ألبتة ولو جاءتهم الدلائل التي لا حد لها ولا حصر وذلك لأن الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله تعالى فإذا لم تحصل تلك الإعانة ضاعت تلك الدلائل
القصة الثالثة
من القصص المذكورة في هذه السورة قصة يونس عليه السلام
فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَة ٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْى ِ فِى الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ

اعلم أنه تعالى لما بين من قبل إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَة ُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَة ٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ ( يونس 96 97 ) أتبعه بهذه الآية لأنها دالة على أن قوم يونس آمنوا بعد كفرهم وانتفعوا بذلك الإيمان وذلك يدل على أن الكفار فريقان منهم من حكم عليه بخاتمة الكفر ومنهم من حكم عليه بخاتمة الإيمان وكل ما قضى الله به فهو واقع وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في كلمة لَوْلاَ في هذه الآية طريقان
الطريق الأول أن معناه النفي روى الواحدي في ( البسيط ) قال قال أبو مالك صاحب ابن عباس كل ما في كتاب الله تعالى من ذكر لولا فمعناه هلا إلا حرفين فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَة ٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا معناه فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها وكذلك فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ ( هود 116 ) معناه فما كان من القرون فعلى هذا تقدير الآية فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس وانتصب قوله إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ على أنه استثناء منقطع عن الأول لأن أول الكلام جرى على القرية وإن كان المراد أهلها ووقع استثناء القول من القرية فكان كقوله وما بالربع من أحد
ألاأواري
وقرىء أيضاً بالرفع على البدل
الطريق الثاني أن لَوْلاَ معناه هلا والمعنى هلا كانت قرية واحدة من القرى التي أهلكناها تابت عن الكفر وأخلصت في الإيمان قبل معاينة العذاب إلا قوم يونس وظاهر اللفظ يقتضي استثناء قوم يونس من القرى إلا أن المعنى استثناء قوم يونس من أهل القرى وهو استثناء منقطع بمعنى ولكن قوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا
المسألة الثانية روي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضباً فلما فقدوه خافوا نزول العقاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة وكان يونس قال لهم إن أجلكم أربعون ليلة فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك فلما مضت خمس وثلاثون ليلة ظهر في السماء غيم أسود شديد السواد فظهر منه دخان شديد وهبط ذلك الدخان حتى وقع في المدينة وسود سطوحهم فخرجوا إلى الصحراء وفرقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها فحن بعضها إلى بعض فعلت الأصوات وكثرت التضرعات وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا إلى الله تعالى فرحمهم وكشف عنهم وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء يوم الجمعة وعن ابن مسعود بلغ من توبتهم أن يردوا المظالم حتى أن الرجل كان يقلع الحجر بعد أن وضع عليه بناء أساسه فيرده إلى مالكه وقيل خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا قد نزل بنا العذاب فما ترى فقال لهم قولوا يا حي حين لاحي ويا حي يا محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت فقالوا فكشف الله العذاب عنهم وعن الفضل بن عباس أنهم قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله
المسألة الثالثة إن قال قائل إنه تعالى حكى عن فرعون أنه تاب في آخر الأمر ولم يقبل توبته وحكى عن قوم يونس أنهم تابوا وقبل توبتهم فما الفرق

والجواب أن فرعون إنما تاب بعد أن شاهد العذاب وأما قوم يونس فإنهم تابوا قبل ذلك فإنهم لما ظهرت لهم أمارات دلت على قرب العذاب تابوا قبل أن شاهدوا فظهر الفرق
وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ
اعلم أن هذه السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان حكاية شبهات الكفار في إنكار النبوة مع الجواب عنها وكانت إحدى شبهاتهم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يهددهم بنزول العذاب مع الكافرين وبعد اتباعه إن الله ينصرهم ويعلي شأنهم ويقوي جانبهم ثم إن الكفار ما رأوا ذلك فجعلوا ذلك شبهة في الطعن في نبوته وكانوا يبالغون في استعجال ذلك العذاب على سبيل السخرية ثم إن الله سبحانه وتعالى بين أن تأخير الموعود به لا يقدح في صحة الوعد ثم ضرب لهذا أمثلة وهي واقعة نوح وواقعة موسى عليهما السلام مع فرعون وامتدت هذه البيانات إلى هذه المقامات ثم في هذه الآية بين أن جد الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفع ومبالغته في تقرير الدلائل وفي الجواب عن الشبهات لا تفيد لأن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته وإرشاده وهدايته فإذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمان وفي الآية مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن جميع الكائنات بمشيئة الله تعالى فقالوا كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فقوله وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ يقتضي أنه ما حصلت تلك المشيئة وما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل أجاب الجبائي والقاضي وغيرهما بأن المراد مشيئة الإلجاء أي لو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لقدر عليه ولصح ذلك منه ولكنه ما فعل ذلك لأن الإيمان الصادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ولا يفيده فائدة ثم قال الجبائي ومعنى إلجاء الله تعالى إياهم إلى ذلك أن يعرفهم اضطراراً أنهم لو حاولوا تركه حال الله بينهم وبين ذلك وعند هذا لا بد وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه كما أن من علم منا أنه إن حاول قتل ملك فإنه يمنعه منه قهراً لم يكن تركه لذلك الفعل سبباً لاستحقاق المدح والثواب فكذا ههنا
واعلم أن هذا الكلام ضعيف وبيانه من وجوه الأول أن الكافر كان قادراً على الكفر فهل كان قادراً على الإيمان أو ما كان قادراً عليه فإن قدر على الكفر ولم يقدر على الإيمان فحينئذ تكون القدرة على الكفر مستلزمة للكفر فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أن يقال إنه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر فوجب أن يقال إنه أراد منه الكفر وأما إن كانت القدرة صالحة للضدين كما هو مذهب القوم فرجحان أحد الطرفين على الآخر إن لم يتوقف على المرجح فقد حصل الرجحان لا لمرجح وهذا باطل وإن توقف على مرجح فذلك المرجح إما أن يكون من العبد أو من الله فإن كان من العبد عاد التقسيم فيه ولزم التسلسل

وهو محال وإن كان من الله تعالى فحينئذ يكون مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية موجباً لذلك الكفر فإذا كان خالق القدرة والداعية هو الله تعالى فحينئذ عاد الإلزام الثاني أن قوله وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان يطلب أن يحصل لهم إيمان لا يفيدهم في الآخرة فبين تعالى أنه لا قدرة للرسول على تحصيل هذا الإيمان ثم قال وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا فوجب أن يكون المراد من الإيمان المذكور في هذه الآية هو هذا الإيمان النافع حتى يكون الكلام منتظماً فأما حمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء فإنه لا يليق بهذا الموضع الثالث المراد بهذا الإلجاء إما أن يكون هو أن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها ثم يأتي بالإيمان عندها وإما أن يكون المراد خلق الإيمان فيهم والأول باطل لأنه تعالى بين فيما قبل هذه الآية أن إنزال هذه الآيات لا يفيد وهو قوله إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَة ُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَة ٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ ( يونس 96 97 ) وقال أيضاً وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة َ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَى ْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الأنعام 111 ) وإن كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان بل كان ذلك عبارة عن خلق الإيمان فيهم ثم يقال لكنه ما خلق الإيمان فيهم فدل على أنه ما أراد حصول الإيمان لهم وهذا عين مذهبنا
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الكلام قال أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ والمعنى أنه لا قدرة لك على التصرف في أحد والمقصود منه بيان أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى
المسألة الثانية احتج أصحابنا على صحة قولهم أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع بقوله وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ قالوا وجه الاستدلال به أن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحرج وصريح هذه الآية يدل على أنه قبل حصول هذا المعنى ليس له أن يقدم على هذا الإيمان ثم قالوا والذي يدل عليه من جهة العقل وجوه الأول أن معرفة الله تعالى والاشتغال بشكره والثناء عليه لا يدل العقل على حصول نفع فيه فوجب أن لا يجب ذلك بحسب العقل بيان الأول أن ذلك النفع إما أن يكون عائداً إلى المشكور أو إلى الشاكر والأول باطل لأن في الشاهد المشكور ينتفع بالشكر فيسره الشكر ويسوءه الكفران فلا جرم كان الشكر حسناً والكفران قبيحاً أما الله سبحانه فإنه لا يسره الشكر ولا يسوءه الكفران فلا ينتفع بهذا الشكر أصلاً والثاني أيضاً باطل لأن الشاكر يتعب في الحال بذلك الشكر ويبذل الخدمة مع أن المشكور لا ينتفع به ألبتة ولا يمكن أن يقال إن ذلك الشكر علة الثواب لأن الاستحقاق على الله تعالى محال فإن الاستحقاق على الغير إنما يعقل إذا كان ذلك الغير بحيث لو لم يعط لأوجب امتناعه من إعطاء ذلك الحق حصول نقصان في حقه ولما كان الحق سبحانه منزهاً عن النقصان والزيادة لم يعقل ذلك في حقه فثبت أن الاشتغال بالإيمان وبالشكر لا يفيد نفعاً بحسب العقل المحض وما كان كذلك امتنع أن يكون العقل موجباً له فثبت بهذا البرهان القاطع صحة قوله تعالى وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ قال القاضي المراد أن الإيمان لا يصدر عنه إلا بعلم الله أو بتكليفه أو بإقداره عليه
وجوابنا أن حمل الإذن على ما ذكرتم ترك للظاهر وذلك لا يجوز لا سيما وقد بينا أن الدليل القاطع العقلي يقوي قولنا

المسألة الثالثة قرأ أبو بكر عن عاصم وَنَجْعَلُ بالنون وقرأ الباقون بالياء كناية عن اسم الله تعالى
المسألة الرابعة احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى بقوله تعالى وَيَجْعَلُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وتقريره أن الرجس قد يراد به العمل القبيح قال تعالى إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) والمراد من الرجس ههنا العمل القبيح سواء كان كفراً أو معصية وبالتطهير نقل العبد من رجس الكفر والمعصية إلى طهارة الإيمان والطاعة فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى وتخليقه ذكر بعده أن الرجس لا يحصل إلا بتخليقه وتكوينه والرجس الذي يقابل الإيمان ليس إلا الكفر فثبت دلالة هذه الآية على أن الكفر والإيمان من الله تعالى
أجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال الرجس يحتمل وجهين آخرين أحدهما أن يكون المراد منه العذاب فقوله وَيَجْعَلُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ أي يلحق العذاب بهم كما قال وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ( الفتح 6 ) والثاني أنه تعالى يحكم عليهم بأنهم رجس كما قال إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) والمعنى أن الطهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم
والجواب أنا قد بينا بالدليل العقلي أن الجهل لا يمكن أن يكون فعلاً للعبد لأنه لا يريده ولا يقصد إلى تكوينه وإنما يريد ضده وإنما قصد إلى تحصيل ضده فلو كان به لما حصل إلا ما قصده وأوردنا السؤالات على هذه الحجة وأجبنا عنها فيما سلف من هذا الكتاب وأما حمل الرجس على العذاب فهو باطل لأن الرجس عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره فحمل هذا اللفظ على جهلهم وكفرهم أولى من حمله على عذاب الله مع كونه حقاً صدقاً صواباً وأما حمل لفظ الرجس على حكم الله برجاستهم فهو في غاية البعد لأن حكم الله تعالى بذلك صفته فكيف يجوز أن يقال إن صفة الله رجس فثبت أن الحجة التي ذكرناها ظاهرة
قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة قُلِ انظُرُواْ بكسر اللام لالتقاء الساكنين والأصل فيه الكسر والباقون بضمها نقلوا حركة الهمزة إلى اللام
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما بين في الآيات السالفة أن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته أمر بالنظر والاستدلال في الدلائل حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض فقال قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
واعلم أن هذا يدل على مطلوبين الأول أنه لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بالتدبر في الدلائل كما قال عليه الصلاة والسلام ( تفكروا في الخلق ولاتتفكروا في الخلق ) والثاني وهو أن الدلائل إما أن تكون

من عالم السموات أو من عالم الأرض أما الدلائل السماوية فهي حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها وما فيها من الشمس والقمر والكواكب وما يختص به كل واحد منها من المنافع والفوائد وأما الدلائل الأرضية فهي النظر في أحوال العناصر العلوية وفي أحوال المعادن وأحوال النبات وأحوال الإنسان خاصة ثم ينقسم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواع لا نهاية لها ولو أن الإنسان أخذ يتفكر في كيفية حكمة الله سبحانه في تخليق جناح بعوضة لانقطع عقله قبل أن يصل إلى أقل مرتبة من مراتب تلك الحكم والفوائد ولا شك أن الله سبحانه أكثر من ذكر هذه الدلائل في القرآن المجيد فلهذا السبب ذكر قوله قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ولم يذكر التفصيل فكأنه تعالى نبه على القاعدة الكلية حتى أن العاقل يتنبه لأقسامها وحينئذ يشرع في تفصيل حكمة كل واحد منها بقدر القوة العقلية والبشرية ثم إنه تعالى لما أمر بهذا التفكر والتأمل بين بعد ذلك أن هذا التفكر والتدبر في هذه الآيات لا ينفع في حق من حكم الله تعالى عليه في الأزل بالشقاء والضلال فقال وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال النحويون مَا في هذا الموضع تحتمل وجهين الأول أن تكون نفياً بمعنى أن هذه الآيات والنذر لا تفيد الفائدة في حق من حكم الله عليه بأنه لا يؤمن كقولك ما يغني عنك المال إذا لم تنفق والثاني أن تكون استفهاماً كقولك أي شيء يغني عنهم وهو استفهام بمعنى الإنكار
المسألة الثانية الآيات هي الدلائل والنذر الرسل المنذرون أو الإنذارات
المسألة الثالثة قرىء وَمَا يُغْنِى بالياء من تحت
فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنَّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ
واعلم أن المعنى هل ينتظرون إلا أياماً مثل أيام الأمم الماضية والمراد أن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام كانوا يتوعدون كفار زمانهم بمجيء أيام مشتملة على أنواع العذاب وهم كانوا يكذبون بها ويستعجلونها على سبيل السخرية وكذلك الكفار الذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام هكذا كانوا يفعلون ثم إنه تعالى أمره بأن يقول لهم فَانتَظِرُواْ إِنّى مَعَكُم مّنَ الْمُنتَظِرِينَ ثم إنه تعالى قال ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الكسائي في رواية نصير نُنَجّى خفيفة وقرأ الباقون مشددة وهما لغتان وكذلك في قوله نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ
المسألة الثانية ثم حرف عطف وتقدير الكلام كانت عادتنا فيما مضى أن نهلكهم سريعاً ثم ننجي رسلنا

المسألة الثالثة لما أمر الرسول في الآية الأولى أن يوافق الكفار في انتظار العذاب ذكر التفصيل فقال العذاب لا ينزل إلا على الكفار وأما الرسول وأتباعه فهم أهل النجاة
ثم قال كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) أي مثل ذلك الإنجاء ننصر المؤمنين ونهلك المشركين وحقاً علينا اعتراض يعني حق ذلك علينا حقاً
المسألة الثانية قال القاضي قوله حَقّاً عَلَيْنَا المراد به الوجوب لأن تخليص الرسول والمؤمنين من العذاب إلى الثواب واجب ولولاه لما حسن من الله تعالى أن يلزمهم الأفعال الشاقة وإذا ثبت وجوبه لهذا السبب جرى مجرى قضاء الدين للسبب المتقدم
والجواب أنا نقول إنه حق بسبب الوعد والحكم ولا نقول إنه حق بسبب الاستحقاق لما ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئاً
قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِّن دِينِى فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ
واعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل على أقصى الغايات وأبلغ النهايات أمر رسوله بإظهار دينه وبإظهار المباينة عن المشركين لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره وتخرج عبادة الله من طريقة السر إلى الإظهار فقال قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن هؤلاء الكفار ما كانوا يعرفون دين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الخبر إنهم كانوا يقولون فيه قد صبأ وهو صابىء فأمر الله تعالى أن يبين لهم أنه على دين إبراهيم حنيفاً مسلماً لقوله تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّة ً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ( النحل 120 ) ولقوله وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ حَنِيفاً ( الأنعام 79 ) ولقوله لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( الكافرون 2 ) والمعنى أنكم إن كنتم لا تعرفون ديني فأنا أبينه لكم على سبيل التفصيل ثم ذكر فيه أموراً
فالقيد الأول قوله فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وإنما وجب تقديم هذا النفي لما ذكرنا أن إزالة النقوش الفاسدة عن اللوح لا بد وأن تكون مقدمة على إثبات النقوش الصحيحة في ذلك اللوح وإنما وجب هذا النفي لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا بمن حصلت له غاية الجلال والإكرام وأما الأوثان فإنها أحجار والإنسان أشرف حالاً منها وكيف يليق بالأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس

القيد الثاني قوله وَلَاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ والمقصود أنه لما بين أنه يجب ترك عبادة غير الله بين أنه يجب الاشتغال بعبادة الله
فإن قيل ما الحكمة في ذكر المعبود الحق في هذا المقام بهذه الصفة وهي قوله الَّذِى يَتَوَفَّاكُم
قلنا فيه وجوه الأول يحتمل أن يكون المراد أني أعبد الله الذي خلقكم أولاً ثم يتوفاكم ثانياً ثم يعيدكم ثالثاً وهذه المراتب الثلاثة قد قررناها في القرآن مراراً وأطواراً فههنا اكتفى بذكر التوفي منها لكونه منبهاً على البواقي الثاني أن الموت أشد الأشياء مهابة فنخص هذا الوصف بالذكر في هذا المقام ليكون أقوى في الزجر والردع الثالث أنهم لما استعجلوا نزول العذاب قال تعالى فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُواْ إِنَّى مَعَكُمْ مّنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( يونس 102 103 ) فهذه الآية تدل على أنه تعالى يهلك أولئك الكفار ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم فلما كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا وَلَاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ وهو إشارة إلى ما قرره وبينه في تلك الآية كأنه يقول أعبد ذلك الذي وعدني بإهلاكهم وبإبقائي
والقيد الثالث من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ واعلم أنه لما ذكر العبادة وهي من جنس أعمال الجوارح انتقل منها إلى الإيمان والمعرفة وهذا يدل على أنه ما لم يصر الظاهر مزيناً بالأعمال الصالحة فإنه لا يحصل في القلب نور الإيمان والمعرفة
والقيد الرابع قوله وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا وفيه مسائل
المسألة الأولى الواو في قوله وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ حرف عطف وفي المعطوف عليه وجهان الأول أن قوله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ قائم مقام قوله وقيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ الثاني أن قوله وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ قائم مقام قوله وَأُمِرْتُ بإقامة الوجه فصار التقدير وأمرت بأن أكون من المؤمنين وبإقامة الوجه للدين حنيفاً
المسألة الثانية إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل بالكلية إلى طلب الدين لأن من يريد أن ينظر إلى شيء نظراً بالاستقصاء فإنه يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يصرفه عنه لا بالقليل ولا بالكثير لأنه لو صرفه عنه ولو بالقليل فقد بطلت تلك المقابلة وإذا بطلت تلك المقابلة فقد اختل الأبصار فلهذا السبب حسن جعل إقامة الوجه للدين كناية عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين وقوله حَنِيفاً أي مائلاً إليه ميلاً كلياً معرضاً عما سواه إعراضاً كلياً وحاصل هذا الكلام هو الإخلاص التام وترك الالتفات إلى غيره فقوله أولاً وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى تحصيل أصل الإيمان وقوله وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا إشارة إلى الاستغراق في نور الإيمان والإعراض بالكلية عما سواه
والقيد الخامس قوله وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ
واعلم أنه لا يمكن أن يكون هذا نهياً عن عبادة الأوثان لأن ذلك صار مذكوراً بقوله تعالى في هذه الآية فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فوجب حمل هذا الكلام على فائدة زائدة وهو أن من عرف مولاه فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركاً وهذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي

والقيد السادس قوله تعالى وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ والممكن لذاته معدوم بالنظر إلى ذاته وموجود بإيجاد الحق وإذا كان كذلك فما سوى الحق فلا وجود له إلا إيجاد الحق وعلى هذا التقدير فلا نافع إلا الحق ولا ضار إلا الحق فكل شيء هالك إلا وجهه وإذا كان كذلك فلا حكم إلا لله ولا رجوع في الدارين إلا إلى الله
ثم قال في آخر الآية فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ يعني لو اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله فأنت من الظالمين لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه فإذا كان ما سوى الحق معزولاً عن التصرف كانت إضافة التصرف إلى ما سوى الحق وضعاً للشيء في غير موضعه فيكون ظلماً
فإن قيل فطلب الشبع من الأكل والري من الشرب هل يقدح في ذلك الإخلاص
قلنا لا لأن وجود الخبز وصفاته كلها بإيجاد الله وتكوينه وطلب الانتفاع بشيء خلقه الله للانتفاع به لا يكون منافياً للرجوع بالكلية إلى الله إلا أن شرط هذا الإخلاص أن لا يقع بصر عقله على شيء من هذه الموجودات إلا ويشاهد بعين عقله أنها معدومة بذواتها وموجودة بإيجاد الحق وهالكة بأنفسها وباقية بإبقاء الحق فحينئذ يرى ما سوى الحق عدماً محضاً بحسب أنفسها ويرى نور وجوده وفيض إحسانه عالياً علي الكل
وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه سبحانه وتعالى قرر في آخر هذه السورة أن جميع الممكنات مستندة إليه وجميع الكائنات محتاجة إليه والعقول والهة فيه والرحمة والجود والوجود فائض منه
واعلم أن الشيء إما أن يكون ضاراً وإما أن يكون نافعاً وإما أن يكون لا ضاراً ولا نافعاً وهذان القسمان مشتركان في اسم الخير ولما كان الضر أمراً وجودياً لا جرم قال فيه وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ ولما كان الخير قد يكون وجودياً وقد يكون عدمياً لا جرم لم يذكر لفظ الإمساس فيه بل قال وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ والآية دالة على أن الضر والخير واقعان بقدرة الله تعالى وبقضائه فيدخل فيه الكفر والإيمان والطاعة والعصيان والسرور والآفات والخيرات والآلام واللذات والراحات والجراحات فبين سبحانه وتعالى أنه إن قضى لأحد شراً فلا كاشف له إلا هو وإن قضى لأحد خيراً فلا راد لفضله ألبتة ثم في الآية دقيقة أخرى وهي أنه تعالى رجح جانب الخير على جانب الشر من ثلاثة أوجه الأول أنه تعالى لما ذكر إمساس الضر بين أنه لا كاشف له إلا هو وذلك يدل على أنه تعالى يزيل المضار لأن الاستثناء من النفي إثبات ولما ذكر الخير لم يقل بأنه يدفعه بل قال إنه لا راد لفضله وذلك يدل على أن الخير مطلوب بالذات وأن الشر مطلوب بالعرض

كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رواية عن رب العزة أنه قال ( سبقت رحمتي غضبي ) الثاني أنه تعالى قال في صفة الخير يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وذلك يدل على أن جانب الخير والرحمة أقوى وأغلب والثالث أنه قال وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وهذا أيضاً يدل على قوة جانب الرحمة وحاصل الكلام في هذه الآية أنه سبحانه وتعالى بين أنه منفرد بالخلق والإيجاد والتكوين والإبداع وأنه لا موجد سواه ولا معبود إلا إياه ثم نبه على أن الخير مراد بالذات والشر مراد بالعرض وتحت هذا الباب أسرار عميقة فهذا ما نقوله في هذه الآية
المسألة الثانية قال المفسرون إنه تعالى لما بين في الآية الأولى في صفة الأصنام أنها لا تضر ولا تنفع بين في هذه الآية أنها لا تقدر أيضاً على دفع الضرر الواصل من الغير وعلى الخير الواصل من الغير قال ابن عباس رضي الله عنهما إِن يَمْسَسْكُمْ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ يعني بمرض وفقر فلا دافع له إلا هو
وأما قوله وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فقال الواحدي هو من المقلوب معناه وإن يرد بك الخير ولكنه لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز إبدال كل واحد منهما بالآخر وأقول التقديم في اللفظ يدل على زيادة العناية فقوله وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ يدل على أن المقصود هو الإنسان وسائر الخيرات مخلوقة لأجله فهذه الدقيقة لا تستفاد إلا من هذا التركيب
قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ
واعلم أنه تعالى لما قرر الدلائل المذكورة في التوحيد والنبوة والمعاد وزين آخر هذه السورة بهذه البيانات الدالة على كونه تعالى مستبداً بالخلق والإبداع والتكوين والاختراع ختمها بهذه الخاتمة الشريفة العالية وفي تفسيرها وجهان الأول أنه من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع له ذلك ومن حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في دفعه الثاني وهو الكلام اللائق بالمعتزلة قال القاضي إنه تعالى بين أنه أكمل الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فلا يجب علي من السعي في إيصالكم إلى الثواب العظيم وفي تخليصكم من العذاب الأليم أزيد مما فعلت قال ابن عباس هذه الآية منسوخة بآية القتال
ثم إنه تعالى ختم هذه الخاتمة بخاتمة أخرى لطيفة فقال وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
والمعنى أنه تعالى أمره باتباع الوحي والتنزيل فإن وصل إليه بسبب ذلك الاتباع مكروه فليصبر عليه

إلى أن يحكم الله فيه وهو خير الحاكمين وأنشد بعضهم في الصبر شعراً فقال سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري
وأصبر حتى يحكم الله في أمري
أصبر حتى يعلم الصبر أنني
صبرت على شيء أمر من الصبر

سورة هود
مكية إلا الآيات 12 و 17 و 114 فمدنية
وآياتها 123 نزلت بعد سورة يونس
ال ر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله الر اسم للسورة وهو مبتدأ وقوله كِتَابٌ خبره وقوله الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ صفة للكتاب قال الزجاج لا يجوز أن يقال الر مبتدأ وقوله كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ خبر لأن الر ليس هو الموصوف بهذه الصفة وحده وهذا الاعتراض فاسد لأنه ليس من شرط كون الشيء مبتدأ أن يكون خبره محصوراً فيه ولا أدري كيف وقع للزجاج هذا السؤال ثم إن الزجاج اختار قولاً آخر وهو أن يكون التقدير الر هذا كتاب أحكمت آياته وعندي أن هذا القول ضعيف لوجهين الأول أن على هذا التقدير يقع قوله الر كلاماً باطلاً لا فائدة فيه والثاني أنك إذا قلت هذا كتاب فقوله ( هذا ) يكون إشارة إلى أقرب المذكورات وذلك هو قوله الر فيصير حينئذ الر مخبراً عنه بأنه كتاب أحكمت آياته فيلزمه على هذا القول ما لم يرض به في القول الأول فثبت أن الصواب ما ذكرناه
المسألة الثانية في قوله الر كِتَابٌ وجوه الأول الر كِتَابٌ نظمت نظماً رصيفاً محكماً لا يقع فيه نقص ولا خلل كالبناء المحكم المرصف الثاني أن الإحكام عبارة عن منع الفساد من الشيء فقوله الر كِتَابٌ أي لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها
واعلم أن على هذا الوجه لا يكون كل الكتاب محكماً لأنه حصل فيه آيات منسوخة إلا أنه لما كان الغالب كذلك صح إطلاق هذا الوصف عليه إجراء للحكم الثابت في الغالب مجرى الحكم الثابت في

الكل الثالث قال صاحب ( الكشاف ) أُحْكِمَتْ يجوز أن يكون نقلاً بالهمزة من حكم بضم الكاف إذا صار حكيماً أي جعلت حكيمة كقوله الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ ( يونس 1 ) الرابع جعلت آياته محكمة في أمور أحدها أن معاني هذا الكتاب هي التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وهذه المعاني لا تقبل النسخ فهي في غاية الإحكام وثانيها أن الآيات الواردة فيه غير متناقضة والتناقض ضد الإحكام فإذا خلت آياته عن التناقض فقد حصل الإحكام وثالثها أن ألفاظ هذه الآيات بلغت في الفصاحة والجزالة إلى حيث لا تقبل المعارضة وهذا أيضاً مشعر بالقوة والإحكام ورابعها أن العلوم الدينية إما نظرية وإما عملية أما النظرية فهي معرفة الإله تعالى ومعرفة الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر وهذا الكتاب مشتمل على شرائف هذه العلوم ولطائفها وأما العملية فهي إما أن تكون عبارة عن تهذيب الأعمال الظاهرة وهو الفقه أو عن تهذيب الأحوال الباطنة وهي علم التصفية ورياضة النفس ولا نجد كتاباً في العالم يساوي هذا الكتاب في هذه المطالب فثبت أن هذا الكتاب مشتمل على أشرف المطالب الروحانية وأعلى المباحث الإلهية فكان كتاباً محكماً غير قابل للنقض والهدم وتمام الكلام في تفسير المحكم ذكرناه في تفسير قوله تعالى هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ( آل عمران 7 )
المسألة الثالثة في قوله فُصّلَتْ وجوه أحدها أن هذا الكتاب فصل كما تفصل الدلائل بالفوائد الروحانية وهي دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص والثاني أنها جعلت فصولاً سورة سورة وآية آية الثالث فُصّلَتْ بمعنى أنها فرقت في التنزيل وما نزلت جملة واحدة ونظيره قوله تعالى فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ ( الأعراف 133 ) والمعنى مجيء هذه الآيات متفرقة متعاقبة الرابع فصل ما يحتاج إليه العباد أي جعلت مبينة ملخصة الخامس جعلت فصولاً حلالاً وحراماً وأمثالاً وترغيباً وترهيباً ومواعظ وأمراً ونهياً لكل معنى فيها فصل قد أفرد به غير مختلط بغيره حتى تستكمل فوائد كل واحد منها ويحصل الوقوف على كل باب واحد منها على الوجه الأكمل
المسألة الرابعة معنى ثُمَّ في قوله ثُمَّ فُصّلَتْ ليس للتراخي في الوقت لكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل وكما تقول فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل
المسألة الخامسة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ أي أحكمتها أنا ثم فصلتها وعن عكرمة والضحاك ثُمَّ فُصّلَتْ أي فرقت بين الحق والباطل
المسألة السادسة احتج الجبائي بهذه الآية على أن القرآن محدث مخلوق من ثلاثة أوجه الأول قال المحكم هو الذي أتقنه فاعله ولولا أن الله تعالى يحدث هذا القرآن وإلا لم يصح ذلك لأن الإحكام لا يكون إلا في الأفعال ولا يجوز أن يقال كان موجوداً غير محكم ثم جعله الله محكماً لأن هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكماً أن يكون محدثاً ولم يقل أحد بأن القرآن بعضه قديم وبعضه محدث الثاني أن قوله ثُمَّ فُصّلَتْ يدل على أنه حصل فيه انفصال وافتراق ويدل على أن ذلك الانفصال والافتراق إنما حصل بجعل جاعل وتكوين مكون وذلك أيضاً يدل على المطلوب الثالث قوله مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ

والمراد من عنده والقديم لا يجوز أن يقال إنه حصل من عند قديم آخر لأنهما لو كانا قديمين لم يكن القول بأن أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس
أجاب أصحابنا بأن هذه النعوت عائدة إلى هذه الحروف والأصوات ونحن معترفون بأنها محدثة مخلوقة وإنما الذي ندعي قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات
المسألة السابعة قال صاحب ( الكشاف ) قوله مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ يحتمل وجوهاً الأول أنا ذكرنا أن قوله كِتَابٌ خبر و أُحْكِمَتْ صفة لهذا الخبر وقوله مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صفة ثانية والتقدير الر كتاب من لدن حكيم خبير والثاني أن يكون خبراً بعد خبر والتقدير الر من لدن حكيم خبير والثالث أن يكون ذلك صفة لقوله أُحْكِمَتْ أي أحكمت وفصلت من لدن حكيم خبير وعلى هذا التقدير فقد حصل بين أول هذه الآية وبين آخرها نكتة لطيفة كأنه يقول أحكمت آياته من لدن حكيم وفصلت من لدن خبير عالم بكيفيات الأمور
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في قوله خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ وجوهاً الأول أن يكون مفعولاً له والتقدير كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لأجل ألا تعبدوا إلا الله وأقول هذا التأويل يدل على أنه لا مقصود من هذا الكتاب الشريف إلا هذا الحرف الواحد فكل من صرف عمره إلى سائر المطالب فقد خاب وخسر الثاني أن تكون ءانٍ مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول والحمل على هذا أولى لأن قوله وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ معطوف على قوله أَلاَّ تَعْبُدُواْ فيجب أن يكون معناه أي لا تعبدوا ليكون الأمر معطوفاً على النهي فإن كونه بمعنى لئلا تعبدوا يمنع عطف الأمر عليه والثالث أن يكون التقدير الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ليأمر الناس أن لا يعبدوا إلا الله ويقول لهم إنني لكم منه نذير وبشير والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية مشتملة على التكليف من وجوه الأول أنه تعالى أمر بأن لا يعبدوا إلا الله وإذا قلنا الاستثناء من النفي إثبات كان معنى هذا الكلام النهي عن عبادة غير الله تعالى والأمر بعبادة الله تعالى وذلك هو الحق لأنا بينا أن ما سوى الله فهو محدث مخلوق مربوب وإنما حصل بتكوين الله وإيجاده والعبادة عبارة عن إظهار الخضوع والخشوع ونهاية التواضع والتذلل وهذا لا يليق إلا بالخالق المدبر الرحيم المحسن فثبت أن عبادة غير الله منكرة والإعراض عن عبادة الله منكر

واعلم أن عبادة الله مشروطة بتحصيل معرفة الله تعالى قبل العبادة لأن من لا يعرف معبوده لا ينتفع بعبادته فكان الأمر بعبادة الله أمراً بتحصيل المعرفة أولاً ونظيره قوله تعالى في أول سورة البقرة قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ( البقرة 21 ) ثم أتبعه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وهو قوله الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( البقرة 21 ) إنما حسن ذلك لأن الأمر بالعبادة يتضمن الأمر بتحصيل المعرفة فلا جرم ذكر ما يدل على تحصيل المعرفة
ثم قال إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وفيه مباحث
البحث الأول أن الضمير في قوله مِنْهُ عائد إلى الحكيم الخبير والمعنى إنني لكم نذير وبشير من جهته
البحث الثاني أن قوله أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ مشتمل على المنع عن عبادة غير الله وعلى الترغيب في عبادة الله تعالى فهو عليه الصلاة والسلام نذير على الأول بإلحاق العذاب الشديد لمن لم يأت بها وبشير على الثاني بإلحاق الثواب العظيم لمن أتى بها
واعلم أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما بعث إلا لهذين الأمرين وهو الإنذار على فعل ما لا ينبغي والبشارة على فعل ما ينبغي
المرتبة الثانية من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ
والمرتبة الثالثة قوله ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ واختلفوا في بيان الفرق بين هاتين المرتبتين على وجوه
الوجه الأول أن معنى قوله وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم ثم بين الشيء الذي يطلب به ذلك وهو التوبة فقال ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ لأن الداعي إلى التوبة والمحرض عليها هو الاستغفار الذي هو عبارة عن طلب المغفرة وهذا يدل على أنه لا سبيل إلى طلب المغفرة من عند الله إلا بإظهار التوبة والأمر في الحقيقة كذلك لأن المذنب معرض عن طريق الحق والمعرض المتمادي في التباعد ما لم يرجع عن ذلك الإعراض لا يمكنه التوجه إلى المقصود بالذات فالمقصود بالذات هو التوجه إلى المطلوب إلا أن ذلك لا يمكن إلا بالإعراض عما يضاده فثبت أن الاستغفار مطلوب بالذات وأن التوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار وما كان آخراً في الحصول كان أولاً في الطلب فلهذا السبب قدم ذكر الاستغفار على التوبة
الوجه الثاني في فائدة هذا الترتيب أن المراد استغفروا من سالف الذنوب ثم توبوا إليه في المستأنف
الوجه الثالث وأن استغفروا من الشرك والمعاصي ثم توبوا من الأعمال الباطلة
الوجه الرابع الاستغفار طلب من الله لإزالة ما لا ينبغي والتوبة سعي من الإنسان في إزالة ما لا ينبغي فقدم الاستغفار ليدل على أن المرء يجب أن لا يطلب الشيء إلا من مولاه فإنه هو الذي يقدر على تحصيله ثم بعد الاستغفار ذكر التوبة لأنها عمل يأتي به الإنسان ويتوسل به إلى دفع المكروه والاستعانة بفضل الله تعالى مقدمة على الاستعانة بسعي النفس

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه المراتب الثلاثة ذكر بعدها ما يترتب عليها من الآثار النافعة والنتائج المطلوبة ومن المعلوم أن المطالب محصورة في نوعين لأنه إما أن يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة أما المنافع الدنيوية فهي المراد من قوله يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وهذا يدل على أن المقبل على عبادة الله والمشتغل بها يبقى في الدنيا منتظم الحال مرفه البال وفي الآية سؤالات
السؤال الأول أليس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) وقال أيضاً ( خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء تم الأمثل فالأمثل ) وقال تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ ( الزخرف 33 ) فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدة والبلية ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا فكيف الجمع بينهما
الجواب من وجوه الأول المراد أنه تعالى لا يعذبهم بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا الثاني أنه تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان وإليه الإشارة بقوله وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ( طه 132 ) الثالث وهو الأقوى عندي أن يقال إن المشتغل بعبادة الله وبمحبة الله مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه فكل من كان إمعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتم كان انقطاعه عن الخلق أتم وأكمل وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر كان الابتهاج والسرور أتم لأنه أمن من تغير مطلوبه وأمن من زوال محبوبه فأما من كان مشتغلاً بحب غير الله كان أبداً في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله فكان عيشه منغصاً وقلبه مضطرباً ولذلك قال الله تعالى في صفة المشتغلين بخدمته فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواة ً طَيّبَة ً ( النحل 97 )
السؤال الثاني هل يدل قوله إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى على أن للعبد أجلين وأنه يقع في ذلك التقديم والتأخير
والجواب لا ومعنى الآية أنه تعالى حكم بأن هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر لكنه تعالى عالم بأنه لو اشتغل بالعبادة أم لا فإن أجله ليس إلا في ذلك الوقت المعين فثبت أن لكل إنسان أجلاً واحداً فقط
السؤال الثالث لم سمى منافع الدنيا بالمتاع
الجواب لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها ونبه على كونها منقضية بقوله تعالى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية ثم لما بين تعالى ذلك قال وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ والمراد منه السعادات الأخروية وفيها لطائف وفوائد
الفائدة الأولى أن قوله وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ معناه ويؤت كل ذي فضل موجب فضله ومعلوله والأمر كذلك وذلك لأن الإنسان إذا كان في نهاية البعد عن الاشتغال بغير الله وكان في غاية الرغبة في تحصيل أسباب معرفة الله تعالى فحينئذ يصير قلبه فصاً لنقش الملكوت ومرآة يتجلى بها قدس اللاهوت إلا أن العلائق الجسدانية الظلمانية تكدر تلك الأنوار الروحانية فإذا زالت هذه العلائق أشرقت تلك الأنوار وتلألأت تلك الأضواء وتوالت موجبات السعادات فهذا هو المراد من قوله وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ

الفائدة الثانية أن هذا تنبيه على أن مراتب السعادات في الآخرة مختلفة وذلك لأنها مقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا فلما كان الإعراض عن غير الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية فكذلك مراتب السعادات الأخروية غير متناهية فلهذا السبب قال وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ
الفائدة الثالثة أنه تعالى قال في منافع الدنيا يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا وقال في سعادات الآخرة وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وذلك يدل على أن جميع خيرات الدنيا والآخرة ليس إلا منه وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطاءه وجوده وكان الشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى يقول لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب فأكثر الناس عقولهم ضعيفة واشتغال عقولهم بهذه الوسائط الفانية يعميها عن مشاهدة أن الكل منه فأما الذين توغلوا في المعارف الإلهية وخاضوا في بحار أنوار الحقيقة علموا أن ما سواه ممكن لذاته موجود بإيجاده فانقطع نظرهم عما سواه وعلموا أنه سبحانه وتعالى هو الضار والنافع والمعطي والمانع
ثم إنه تعالى لما بين هذه الأحوال قال وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ والأمر كذلك لأن من اشتغل بعبادة غير الله صار في الدنيا أعمى مَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ( الإسراء 72 ) والذي يبين ذلك أن من أقبل على طلب الدنيا ولذاتها وطيباتها قوي حبه لها ومال طبعه إليها وعظمت رغبته فيها فإذا مات بقي معه ذلك الحب الشديد والميل التام وصار عاجزاً عن الوصول إلى محبوبه فحينئذ يعظم البلاء ويتكامل الشقاء فهذا القدر المعلوم عندنا من عذاب ذلك اليوم وأما تفاصيل تلك الأحوال فهي غائبة عنا ما دمنا في هذه الحياة الدنيوية ثم بين أنه لا بد من الرجوع إلى الله تعالى بقوله إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى شَى ْء قَدِيرٌ
واعلم أن قوله إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ فيه دقيقة وهي أن هذا اللفظ يفيد الحصر يعني أن مرجعنا إلى الله لا إلى غيره فيدل هذا على أن لا مدبر ولا متصرف هناك إلا هو والأمر كذلك أيضاً في هذه الحياة الدنيوية إلا أن أقواماً اشتغلوا بالنظر إلى الوسائط فعجزوا عن الوصول إلى مسبب الأسباب فظنوا أنهم في دار الدنيا قادرون على شيء وأما في دار الآخرة فهذا الحال الفاسد زائل أيضاً فلهذا المعنى بين هذا الحصر بقوله إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ
ثم قال وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وأقول إن هذا تهديد عظيم من بعض الوجوه وبشارة عظيمة من سائر الوجوه أما إنه تهديد عظيم فلأن قوله تعالى إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ يدل على أنه ليس مرجعنا إلا إليه وقوله وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ يدل على أنه قادر على جميع المقدورات لا دافع لقضائه ولا مانع لمشيئته والرجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذنوب العظيمة مشكل وأما أنه بشارة عظيمة فلأن ذلك يدل على قدرة غالبة وجلالة عظيمة لهذا الحاكم وعلى ضعف تام وعجز عظيم لهذا العبد والملك القاهر العالي الغالب إذا رأى عاجزاً مشرفاً على الهلاك فإنه يخلصه من الهلاك ومنه المثل المشهور ملكت فاسجح
يقول مصنف هذا الكتاب قد أفنيت عمري في خدمة العلم والمطالعة للكتب ولا رجاء لي في شيء إلا أني في غاية الذلة والقصور والكريم إذا قدر غفر وأسألك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وساتر عيوب المعيوبين ومجيب دعوة المضطرين أن تفيض سجال رحمتك على ولدي وفلذة كبدي وأن تخلصنا بالفضل والتجاوز والجود والكرم

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
اعلم أنه تعالى لما قال وَإِن تَوَلَّوْاْ يعني عن عبادته وطاعته فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ بين بعده أن التولي عن ذلك باطناً كالتولي عنه ظاهراً فقال أَلاَ إِنَّهُمْ يعني الكفار من قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يثنون صدورهم ليستخفوا منه
واعلم أنه تعالى حكى عن هؤلاء الكفار شيئين الأول أنه يثنون صدورهم يقال ثنيت الشيء إذا عطفته وطويته وفي الآية وجهان
الوجه الأول روي أن طائفة من المشركين قالوا إذا أغلقنا أبوابنا وأرسلنا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد فكيف يعلم بنا وعلى هذا التقدير كان قوله يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ كناية عن النفاق فكأنه قيل يضمرون خلاف ما يظهرون ليستخفوا من الله تعالى ثم نبه بقوله أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ على أنهم يستخفون منه حين يستغشون ثيابهم
الوجه الثاني روي أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه والتقدير كأنه قيل إنهم يتصرفون عنه ليستخفوا منه حين يستغشون ثيابهم لئلا يسمعوا كلام رسول الله وما يتلو من القرآن وليقولوا في أنفسهم ما يشتهون من الطعن وقوله إِلا للتنبيه فنبه أولاً على أنهم ينصرفوا عنه ليستخفوا ثم كرر كلمة إِلا للتنبيه على ذكر الاستخفاء لينبه على وقت استخفائهم وهو حين يستغشون ثيابهم كأنه قيل ألا إنهم ينصرفون عنه ليستخفوا من الله ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم ثم ذكر أنه لا فائدة لهم في استخفائهم بقوله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
وَمَا مِن دَآبَّة ٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ أردفه بما يدل على كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات فثبت أن رزق كل حيوان إنما يصل إليه من الله تعالى فلو لم يكن عالماً بجميع المعلومات لما حصلت هذه المهمات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج الدابة اسم لكل حيوان لأن الدابة اسم مأخوذ من الدبيب وبنيت هذه

اللفظة على هاء التأنيث وأطلق على كل حيوان ذي روح ذكراً كان أو أنثى إلا أنه بحسب عرف العرب اختص بالفرس والمراد بهذا اللفظ في هذه الآية الموضوع الأصلي اللغوي فيدخل فيه جميع الحيوانات وهذا متفق عليه بين المفسرين ولا شك أن أقسام الحيوانات وأنواعها كثيرة وهي الأجناس التي تكون في البر والبحر والجبال والله يحصيها دون غيره وهو تعالى عالم بكيفية طبائعها وأعضائها وأحوالها وأغذيتها وسمومها ومساكنها وما يوافقها وما يخالفها فالإله المدبر لإطباق السموات والأرضين وطبائع الحيوان والنبات كيف لا يكون عالماً بأحوالها روي أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي إليه تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة فانشقت وخرجت صخرة ثانية ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة ثم ضربها بعصاه فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها ورفع الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع الدودة تقول سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني
المسألة الثانية تعلق بعضهم بأنه يجب على الله تعالى بعض الأشياء بهذه الآية وقال إن كلمة عَلَى للوجوب وهذا يدل على أن إيصال الرزق إلى الدابة واجب على الله
وجوابه أنه واجب بحسب الوعد والفضل والإحسان
المسألة الثالثة تعلق أصحابنا بهذه الآية في إثبات أن الرزق قد يكون حراماً قالوا لأنه ثبت أن إيصال كل حيوان واجب على الله تعالى بحسب الوعد وبحسب الاستحقاق والله تعالى لا يحل بالواجب ثم قد نرى إنساناً لا يأكل من الحلال طول عمره فلو لم يكن الحرام رزقاً لكان الله تعالى ما أوصل رزقه إليه فيكون تعالى قد أخل بالواجب وذلك محال فعلمنا أن الحرام قد يكون رزقاً وأما قوله وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا فالمستقر هو مكانه من الأرض والمستودع حيث كان مودعاً قبل الاستقرار في صلب أو رحم أو بيضة وقال الفراء مستقرها حيث تأوي إليه ليلاً أو نهاراً ومستودعها موضعها الذي تموت فيه وقد مضى استقصاء تفسير المستقر والمستودع في سورة الأنعام ثم قال كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ قال الزجاج المعنى أن ذلك ثابت في علم الله تعالى ومنهم من قال في اللوح المحفوظ وقد ذكرنا ذلك في قوله وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 59 )
وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
واعلم أنه تعالى لما أثبت بالدليل المتقدم كونه عالماً بالمعلومات أثبت بهذا الدليل كونه تعالى قادراً على كل المقدورات وفي الحقيقة فكل واحد من هذين الدليلين يدل على كمال علم الله وعلى كمال قدرته

واعلم أن قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ قد مضى تفسيره في سورة يونس على سبيل الاستقصاء بقي ههنا أن نذكر وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء قال كعب خلق الله تعالى ياقوتة خضراء ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع العرش على الماء قال أبو بكر الأصم معنى قوله وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء كقولهم السماء على الأرض وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملتصقاً بالآخر وكيف كانت الواقعة فذلك يدل على أن العرش والماء كانا قبل السموات والأرض وقالت المعتزلة في الآية دلالة على وجود الملائكة قبل خلقهما لأنه لا يجوز أن يخلق ذلك ولا أحد ينتفع بالعرض والماء لأنه تعالى لما خلقهما فإما أن يكون قد خلقهما لمنفعة أو لا لمنفعة والثاني عبث فبقي الأول وهو أنه خلقهما لمنفعة وتلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى الله وهو محال لكونه متعالياً عن النفع والضرر أو إلى الغير فوجب أن يكون ذلك الغير حياً لأن غير الحي لا ينتفع وكل من قال بذلك قال ذلك الحي كان من جنس الملائكة وأما أبو مسلم الأصفهاني فقال معنى قوله وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء أي بناؤه السموات كان على الماء وقد مضى تفسير ذلك في سورة يونس وبين أنه تعالى إذا بنى السموات على الماء كانت أبدع وأعجب فإن البناء الضعيف إذا لم يؤسس على أرض صلبة لم يثبت فكيف بهذا الأمر العظيم إذا بسط على الماء وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الفائدة في ذكر أن عرشه كان على الماء قبل خلق السموات والأرض
والجواب فيه دلالة على كمال القدرة من وجوه الأول أن العرش كونه مع أعظم من السموات والأرض كان على الماء فلولا أنه تعالى قادر على إمساك الثقيل بغير عمد لما صح ذلك والثاني أنه تعالى أمسك الماء لا على قرار وإلا لزم أن يكون أقسام العالم غير متناهية وذلك يدل على ما ذكرناه والثالث أن العرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله تعالى فوق سبع سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه وذلك يدل أيضاً على ما ذكرنا
السؤال الثاني هل يصح ما يروى أنه قيل يا رسول الله أين كان ربنا قبل خلق السموات والأرض فقال كان في عماء فوقه هواء وتحته هواء
والجواب أن هذه الرواية ضعيفة والأولى أن يكون الخبر المشهور أولى بالقبول وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) كان الله وما كان معه شيء ثم كان عرشه على الماء
السؤال الثالث اللام في قوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً يقتضي أنه تعالى خلق السموات والأرض لابتلاء المكلف فكيف الحال فيه والجواب ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى خلق هذا العالم الكثير لمصلحة المكلفين وقد قال بهذا القول طوائف من العقلاء ولكل طائفة فيه وجه آخر سوى الوجه الذي قال به الآخرون وشرح تلك المقالات لا يليق بهذا الكتاب والذين قالوا إن أفعاله وأحكامه غير معللة بالمصالح قالوا لام التعليل وردت على ظاهر الأمر ومعناه أنه تعالى فعل فعلاً لو كان يفعله من تجوز عليه رعاية المصالح لما فعله إلا لهذا الغرض
السؤال الرابع الابتلاء إنما يصح على الجاهل بعواقب الأمور وذلك عليه تعالى محال فكيف يعقل حصول معنى الابتلاء في حقه

والجواب أن هذا الكلام على سبيل الاستقصاء ذكرناه في تفسير قوله تعالى في أول سورة البقرة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( البقرة 21 )
واعلم أنه تعالى لما بين أنه خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلفين وامتحانهم فهذا يوجب القطع بحصول الحشر والنشر لأن الابتلاء والامتحان يوجب تخصيص المحسن بالرحمة والثواب وتخصيص المسيء بالعقاب وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بالمعاد والقيامة فعند هذا خاطب محمداً عليه الصلاة والسلام وقال وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ومعناه أنهم ينكرون هذا الكلام ويحكمون بفساد القول بالبعث
فإن قيل الذي يمكن وصفه بأنه سحر ما يكون فعلاً مخصوصاً وكيف يمكن وصف هذا القول بأنه سحر
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول قال القفال معناه أن هذا القول خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا وإحرازاً لهم إلى الانقياد لكم والدخول تحت طاعتكم الثاني أن معنى قوله إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ هو أن السحر أمر باطل قال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ( يونس 81 ) فقوله إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ أي باطل مبين الثالث أن القرآن هو الحاكم بحصول البعث وطعنوا في القرآن بكونه سحراً لأن الطعن في الأصل يفيد الطعن في الفرع الرابع قرأ حمزة والكسائي إِنْ هَاذَا إِلاَّ سَاحِرٌ يريدون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والساحر كاذب
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّة ٍ مَّعْدُودَة ٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يكذبون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بقولهم إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ فحكى عنهم في هذه الآية نوعاً آخر من أباطيلهم وهو أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) به أخذوا في الاستهزاء ويقولون ما السبب الذي حبسه عنا
فأجاب الله تعالى بأنه إذا جاء الوقت الذي عينه الله لنزول ذلك العذاب الذي كانوا يستهزؤن به لم ينصرف ذلك العذاب عنهم وأحاط بهم ذلك العذاب بقي ههنا سؤالات
السؤال الأول المراد من هذا العذاب هو عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة
الجواب للمفسرين فيه وجوه الأول قال الحسن معنى حكم الله في هذه الآية أنه لا يعذب أحداً منهم بعذاب الاستئصال وأخر ذلك إلى يوم القيامة فلما أخر الله عنهم ذلك العذاب قالوا على سبيل الاستهزاء ما الذي حبسه عنا والثاني أن المراد الأمر بالجهاد وما نزل بهم يوم بدر وعلى هذا الوجه تأولوا

قوله وَحَاقَ بِهِم أي نزل بهم هذا العذاب يوم بدر
السؤال الثاني ما المراد بقوله إِلَى أُمَّة ٍ مَّعْدُودَة ٍ
الجواب من وجهين الأول أن الأصل في الأمة هم الناس والفرقة فإذا قلت جاءني أمة من الناس فالمراد طائفة مجتمعة قال تعالى وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّة ً مّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ( القصص 23 ) وقوله وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة ٍ ( يوسف 45 ) أي بعد انقضاء أمة وفنائها فكذا ههنا قوله وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّة ٍ مَّعْدُودَة ٍ أي إلى حين تنقضي أمة من الناس انقرضت بعد هذا الوعيد بالقول لقالوا ماذا يحبسه عنا وقد انقرض من الناس الذين كانوا متوعدين بهذا الوعيد وتسمية الشيء باسم ما يحصل فيه كقولك كنت عند فلان صلاة العصر أي في ذلك الحين الثاني أن اشتقاق الأمة من الأَم وهو القصد كأنه يعني الوقت المقصود بإيقاع هذا الموعود فيه
السؤال الثالث لم قال وَحَاقَ على لفظ الماضي مع أن ذلك لم يقع
والجواب قد مر في هذا الكتاب آيات كثيرة من هذا الجنس والضابط فيها أنه تعالى أخبر عن أحوال القيامة بلفظ الماضي مبالغة في التأكيد والتقرير
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَة ً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن عذاب أولئك الكفار وإن تأخر إلا أنه لا بد وأن يحيق بهم ذكر بعده ما يدل على كفرهم وعلى كونهم مستحقين لذلك العذاب فقال وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ وفيه مسائل
المسألة الأولى لفظ الإِنسَانَ في هذه الآية فيه قولان
القول الأول أن المراد منه مطلق الإنسان ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى استثنى منه قوله إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فثبت أن الإنسان المذكور في هذه الآية داخل فيه المؤمن والكافر وذلك يدل على ما قلناه الثاني أن هذه الآية موافقة على هذا التقرير لقوله تعالى وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( العصر 1 3 ) وموافقة أيضاً لقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( المعارج 19 21 ) الثالث أن مزاج الإنسان مجبول على الضعف والعجز قال ابن جريج في تفسير هذه الآية يا ابن آدم إذا نزلت لك نعمة من الله فأنت كفور فإذا نزعت منك فيؤس قنوط

والقول الثاني أن المراد منه الكافر ويدل عليه وجوه الأول ن الأصل في المفرد المحلى بالألف واللام أن يحمل على المعهود السابق لولا المانع وههنا لا مانع فوجب حمله عليه والمعهود السابق هو الكافر المذكور في الآية المتقدمة الثاني أن الصفات المذكورة للإنسان في هذه الآية لا تليق إلا بالكافر لأنه وصفه بكونه يؤساً وذلك من صفات الكافر لقوله تعالى يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن ( يوسف 87 ) ووصفه أيضاً بكونه كفوراً وهو تصريح بالكفر ووصفه أيضاً بأنه عند وجدان الراحة يقول ذهب السيئات عني وذلك جراءة على الله تعالى ووصفه أيضاً بكونه فرحاً و اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( القصص 76 ) ووصفه أيضاً بكونه فخوراً وذلك ليس من صفات أهل الدين ثم قال الناظرون لهذا القول وجب أن يحمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع حتى لا تلزمنا هذه المحذورات
المسألة الثانية لفظ الإذاقة والذوق يفيد أقل ما يوجد به الطعم فكان المراد أن الإنسان بوجدان أقل القليل من الخيرات العاجلة يقع في التمرد والطغيان وبإدراك أقل القليل من المحنة والبلية يقع في اليأس والقنوط والكفران فالدنيا في نفسها قليلة والحاصل منها للإنسان الواحد قليل والإذاقة من ذلك المقدار خير قليل ثم إنه في سرعة الزوال يشبه أحلام النائمين وخيالات الموسوسين فهذه الإذاقة من قليل ومع ذلك فإن الإنسان لا طاقة له بتحملها ولا صبر له على الإتيان بالطريق الحسن معها وأما النعماء فقال الواحدي إنها إنعام يظهر أثره على صاحبه والضراء مضرة يظهر أثرها على صاحبها لأنها خرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو حمراء وعوراء وهذا هو الفرق بين النعمة والنعماء والمضرة والضراء
المسألة الثالثة اعلم أن أحوال الدنيا غير باقية بل هي أبداً في التغير والزوال والتحول والانتقال إلا أن الضابط فيه أنه إما أن يتحول من النعمة إلى المحنة ومن اللذات إلى الآفات وإما أن يكون بالعكس من ذلك وهو أن ينتقل من المكروه إلى المحبوب ومن المحرمات إلى الطيبات
أما القسم الأول فهو المراد من قوله وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَة ً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وحاصل الكلام أنه تعالى حكم على هذا الإنسان بأنه يؤس كفور وتقريره أن يقال أنه حال زوال تلك النعمة يصير يؤساً وذلك لأن الكافر يعتقد أن السبب في حصول تلك النعمة سبب اتفاقي ثم إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى فلا جرم يستبعد عود تلك النعمة فيقع في اليأس وأما المسلم الذي يعتقد أن تلك النعمة إنما حصلت من الله تعالى وفضله وإحسانه وطوله فإنه لا يحصل له اليأس بل يقول لعله تعالى يردها إلى بعد ذلك أكمل وأحسن وأفضل مما كانت وأما حال كون تلك النعمة حاصلة فإنه يكون كفوراً لأنه لما اعتقد أن حصولها إنما كان على سبيل الاتفاق أو بسبب أن الإنسان حصلها بسبب جده وجهده فحينئذ لا يشتغل بشكر الله تعالى على تلك النعمة فالحاصل أن الكافر يكون عند زوال تلك النعمة يؤوساً وعند حصولها يكون كفوراً
وأما القسم الثاني وهو أن ينتقل الإنسان من المكروه إلى المحبوب ومن المحنة إلى النعمة فههنا الكافر يكون فرحاً فخوراً أما قوة الفرح فلأن منتهى طمع الكافر هو الفوز بهذه السعادات الدنيوية وهو منكر

للسعادات الأخروية الروحانية فإذا وجد الدنيا فكأنه قد فاز بغاية السعادات فلا جرم يعظم فرحه بها وأما كونه فخوراً فلأنه لما كان الفوز بسائر المطلوب نهاية السعادة لا جرم يفتخر به فحاصل الكلام أنه تعالى بين أن الكافر عند البلاء لا يكون من الصابرين وعند الفوز بالنعماء لا يكون من الشاكرين ثم لما قرر ذلك قال إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ والمراد منه ضد ما تقدم فقوله إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ المراد منه أن يكون عند البلاء من الصابرين وقوله وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ المراد منه أن يكون عند الراحة والخير من الشاكرين ثم بين حالهم فقال أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ فجمع لهم بين هذين المطلوبين أحدهما زوال العقاب والخلاص منه وهو المراد من قوله لَهُم مَّغْفِرَة ٌ والثاني الفوز بالثواب وهو المراد من قوله وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ومن وقف على هذا التفصيل الذي ذكرناه علم أن هذا الكتاب الكريم كما أنه معجز بحسب ألفاظه فهو أيضاً معجز بحسب معانيه
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ وَكِيلٌ
اعلم أن هذا نوع آخر من كلمات الكفار والله تعالى بين أن قلب الرسول ضاق بسببه ثم إنه تعالى قواه وأيده بالإكرام والتأييد وفيه مسائل
المسألة الأولى روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رؤساء مكة قالوا يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً وقال آخرون ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك فقال لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية واختلفوا في المراد بقوله تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال المشركون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ائتنا بكتاب ليس فيه شتم آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بك وقال الحسن اطلبوا منه لا يقول إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ ( طه 15 ) وقال بعضهم المراد نسبتهم إلى الجهل والتقليد والإصرار على الباطل
المسألة الثانية أجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يخون في الوحي والتنزيل وأن يترك بعض ما يوحى إليه لأن تجويزه يؤدي إلى الشك في كل الشرائع والتكاليف وذلك يقدح في النبوة وأيضاً فالمقصود من الرسالة تبليغ تكاليف الله تعالى وأحكامه فإذا لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها المطلوبة منها وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ شيئاً آخر سوى أنه عليه السلام فعل ذلك وللناس فيه وجوه الأول لا يمتنع أن يكون في معلوم الله تعالى أنه إنما ترك التقصير في أداء الوحي والتنزيل لسبب يرد عليه من الله تعالى أمثال هذه التهيدات البليغة الثاني أنهم كانوا لا يعتقدون بالقرآن ويتهاونون به فكان يضيق صدر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه فهيجه الله تعالى لأداء الرسالة وطرح المبالاة بكلماتهم الفاسدة وترك الالتفات إلى استهزائهم والغرض منه التنبيه على أنه إن أدى ذلك الوحي وقع في سخريتهم وسفاهتهم

وإن لم يؤد ذلك الوحي إليهم وقع في ترك وحي الله تعالى وفي إيقاع الخيانة فيه فإذا لا بد من تحمل أحد الضررين وتحمل سفاهتهم أسهل من تحمل إيقاع الخيانة في وحي الله تعالى والغرض من ذكر هذا الكلام التنبيه على هذه الدقيقة لأن الإنسان إذا علم أن كل واحد من طرفي الفعل والترك يشتمل على ضرر عظيم ثم علم أن الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف فالمقصود من ذكر هذا الكلام ما ذكرناه
فإن قيل قوله فَلَعَلَّكَ كلمة شك فما الفائدة فيها
قلنا المراد منه الزجر والعرب تقول للرجل إذا أرادوا إبعاده عن أمر لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنه لا شك فيه ويقول لولده لو أمره لعلك تقصر فيما أمرتك به ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك
وأما قوله وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فالضائق بمعنى الضيق قال الواحدي الفرق بينهما أن الضائق يكون بضيق عارض غير لازم لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان أفسح الناس صدراً ومثله قولك زيد سيد جواد تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين فإذا أردت الحدوث قلت سائد وجائد والمعنى ضائق صدرك لأجل أن يقولوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ
فإن قيل الكنز كيف ينزل
قلنا المراد ما يكنز وجرت العادة على أنه يسمي المال الكثير بهذا الاسم فكأن القوم قالوا إن كنت صادقاً في أنك رسول الإله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء وإنك عزيز عنده فهلا أنزل عليك ما تستغني به وتغني أحبابك من الكد والعناء وتستعين به على مهماتك وتعين أنصارك وإن كنت صادقاً فهلا أنزل الله معك ملكاً يشهد لك على صدق قولك ويعينك على تحصيل مقصودك فتزول الشبهة في أمرك فلما لم يفعل إلهك ذلك فأنت غير صادق فبين تعالى أنه رسول منذر بالعقاب ومبشر بالثواب ولا قدرة له على إيجاد هذه الأشياء والذي أرسله هو القادر على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ولا اعتراض لأحد عليه في فعله وفي حكمه ومعنى وَكِيلٌ حفيظ أي يحفظ عليهم أعمالهم أي يجازيهم بها ونظير هذه الآية قوله تعالى تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذالِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً ( الفرقان 10 ) وقوله قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ إلى قوله قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 90 93 )
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أن القول لما طلبوا منه المعجز قال معجزي هذا القرآن ولما حصل المعجز الواحد كان طلب

الزيادة بغياً وجهلاً ثم قرر كونه معجزاً بأن تحداهم بالمعارضة وتقرير هذا الكلام بالاستقصاء قد تقدم في البقرة وفي سورة يونس وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الضمير في قوله افْتَرَاهُ عائد إلى ما سبق من قوله يُوحَى إِلَيْكَ أي إن قالوا إن هذا الذي يوحى إليك مفترى فقل لهم حتى يأتوا بعشر سور مثله مفتريات وقوله مثله بمعنى أمثاله حملا على كل واحد من تلك السور ولا يبعد أيضاً أن يكون المراد هو المجموع لأن مجموع السور العشرة شيء واحد
المسألة الثانية قال ابن عباس هذه السورة التي وقع بها هذا التحدي معينة وهي سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة ويونس وهود عليهما السلام وقوله فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ إشارة إلى السور المتقدمة على هذه السورة وهذا فيه إشكال لأن هذه السورة مكية وبعض السور المتقدمة على هذه السورة مدنية فكيف يمكن أن يكون المراد من هذه العشر سور التي ما نزلت عند هذا الكلام فالأولى أن يقال التحدي وقع بمطلق السور التي يظهر فيها قوة تركيب الكلام وتأليفه
واعلم أن التحدي بعشر سور لا بد وأن يكون سابقاً على التحدي بسورة واحدة وهو مثل أن يقول الرجل لغيره أكتب عشرة أسطر مثل ما أكتب فإذا ظهر عجزه عنه قال قد اقتصرت منها على سطر واحد مثله
إذا عرفت هذا فنقول التحدي بالسورة الواحدة ورد في سورة البقرة وفي سورة يونس كما تقدم أما تقدم هذه السورة على سورة البقرة فظاهر لأن هذه السورة مكية وسورة البقرة مدنية وأما في سورة يونس فالإشكال زائل أيضاً لأن كل واحدة من هاتين السورتين مكية والدليل الذي ذكرناه يقتضي أن تكون سورة هود متقدمة في النزول على سورة يونس حتى يستقيم الكلام الذي ذكرناه
المسألة الثالثة اختلف الناس في الوجه الذي لأجله كان القرآن معجزاً فقال بعضهم هو الفصاحة وقال بعضهم هو الأسلوب وقال ثالث هو عدم التناقض وقال رابع هو اشتماله على العلوم الكثيرة وقال خامس هو الصرف وقال سادس هو اشتماله على الإخبار عن الغيوب والمختار عندي وعند الأكثرين أنه معجز بسبب الفصاحة واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية لأنه لو كان وجه الإعجاز هو كثرة العلوم أو الأخبار عن الغيوب أو عدم التناقض لم يكن لقوله مُفْتَرَيَاتٍ معنى أما إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صح ذلك لأن فصاحة الفصيح تظهر بالكلام سواء كان الكلام صدقاً أو كذباً وأيضاً لو كان الوجه في كونه معجزاً هو الصرف لكان دلالة الكلام الركيك النازل في الفصاحة على هذا المطلوب أوكد من دلالة الكلام العالي في الفصاحة ثم إنه تعالى لما قرر وجه التحدي قال وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ والمراد إن كنتم صادقين في ادعاء كونه مفترى كما قال أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ
واعلم أن هذا الكلام يدل على أنه لا بد في إثبات الدين من تقرير الدلائل والبراهين وذلك لأنه تعالى أورد في إثبات نبوة محمد عليه السلام هذا الدليل وهذه الحجة ولولا أن الدين لا يتم إلا بالدليل لم يكن في ذكره فائدة

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ
اعلم أن الآية المتقدمة اشتملت على خطابين أحدهما خطاب الرسول وهو قوله قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ والثاني خطاب الكفار وهو قوله وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ ( يونس 38 ) فلما أتبعه بقوله فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ احتمل أن يكون المراد أن الكفار لم يستجيبوا في المعارضة لتعذرها عليهم واحتمل أن من يدعونه من دون الله لم يستجيبوا فلهذا السبب اختلف المفسرون على قولين فبعضهم قال هذا خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وللمؤمنين والمراد أن الكفار إن لم يستجيبوا لكم في الإتيان بالمعارضة فاعلموا أنما أنزل بعلم الله والمعنى فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقيناً وثبات قدم على أنه منزل من عند الله ومعنى قوله فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ أي فهل أنتم مخلصون ومنهم من قال فيه إضمار والتقدير فقولوا أيها المسلمون للكفار اعلموا أنما أنزل بعلم الله
والقول الثاني أن هذا خطاب مع الكفار والمعنى أن الذين تدعونهم من دون الله إذا لم يستجيبوا لكم في الإعانة على المعارضة فاعلموا أيها الكفار أن هذا القرآن إنما أنزل بعلم الله فهل أنتم مسلمون بعد لزوم الحجة عليكم والقائلون بهذا القول قالوا هذا أولى من القول الأول لأنكم في القول الأول احتجتم إلى أن حملتم قوله فَاعْلَمُواْ على الأمر بالثبات أو على إضمار القول وعلى هذا الاحتمال لا حاجة فيه إلى إضمار فكان هذا أولى وأيضاً فعود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب وأقرب المذكورين في هذه الآية هو هذا الاحتمال الثاني وأيضاً أن الخطاب الأول كان مع الرسول عليه الصلاة والسلام وحده بقوله قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ ( هود 13 ) والخطاب الثاني كان مع جماعة الكفار بقوله وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ ( يونس 38 ) وقوله فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ خطاب مع الجماعة فكان حمله على هذا الذي قلناه أولى بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول ما الشيء الذي لم يستجيبوا فيه
الجواب المعنى فإن لم يستجيبوا لكم في معارضة القرآن وقال بعضهم فإن لم يستجيبوا لكم في جملة الإيمان وهو بعيد
السؤال الثاني من المشار إليه بقوله لَكُمْ
والجواب إن حملنا قوله فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ على المؤمنين فذلك ظاهر وإن حملناه على الرسول فعنه جوابان الأول المراد فإن لم يستجيبوا لك وللمؤمنين لأن الرسول عليه السلام والمؤمنين كانوا يتحدونهم وقال في موضع آخر فإن لم يستجيبوا لك فاعلم والثاني يجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
السؤال الثالث أي تعلق بين الشرط المذكور في هذه الآية وبين ما فيها من الجزاء
والجواب أن القوم ادعوا كون القرآن مفترى على الله تعالى فقال لو كان مفترى على الله لوجب أن

يقدر الخلق على مثله ولما لم يقدروا عليه ثبت أنه من عند الله فقوله أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ كناية عن كونه من عند الله ومن قبله كما يقول الحاكم هذا الحكم جرى بعلمي
السؤال الرابع أي تعلق لقوله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ يعجزهم عن المعارضة
والجواب فيه من وجوه الأول أنه تعالى لما أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يطلب من الكفار أن يستعينوا بالأصنام في تحقيق المعارضة ثم ظهر عجزهم عنها فحينئذ ظهر أنها لا تنفع ولا تضر في شيء من المطالب ألبتة ومتى كان كذلك فقد بطل القول بإثبات كونهم آلهة فصار عجز القوم المعارضة بعد الاستعانة بالأصنام مبطلاً لإلهية الأصنام ودليلاً على ثبوت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان قوله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ إشارة إلى ما ظهر من فساد القول بإلهية الأصنام الثاني أنه ثبت في علم الأصول أن القول بنفي الشريك عن الله من المسائل التي يمكن إثباتها بقول الرسول عليه السلام وعلى هذا فكأنه قيل لما ثبت عجز الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقاً وثبت كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً في دعوى الرسالة ثم إنه كان يخبر عن أنه لا إله إلا الله فلما ثبت كونه محقاً في دعوى النبوة ثبت قوله أَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الثالث أن ذكر قوله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ جار مجرى التهديد كأنه قيل لما ثبت بهذا الدليل كون محمد عليه السلام صادقاً في دعوى الرسالة وعلمتم إنه لا إله إلا الله فكونوا خائفين من قهره وعذابه واتركوا الإصرار على الكفر واقبلوا الإسلام ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة عند ذكر آية التحدي فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( البقرة 24 )
وأما قوله فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ
فإن قلنا إنه خطاب مع المؤمنين كان معناه الترغيب في زيادة الإخلاص وإن قلنا إنه خطاب مع الكفار كان معناه الترغيب في أصل الإسلام
مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أن الكفار كانوا ينازعون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في أكثر الأحوال فكانوا يظهرون من أنفسهم أن محمداً مبطل ونحن محقون وإنما نبالغ في منازعته لتحقيق الحق وإبطال الباطل وكانوا كاذبين فيه بل كان غرضهم محض الحسد والاستنكاف من المتابعة فأنزل الله تعالى هذه الآية لتقرير هذا المعنى ونظير هذه الآية قوله تعالى مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَة َ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ( الإسراء 18 ) وقوله مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْخِرَة ِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا لَهُ فِى الاْخِرَة ِ مِن نَّصِيبٍ ( الشورى 20 ) وفيه الآية مسائل

المسألة الأولى اعلم أن في الآية قولين
القول الأول أنها مختصة بالكفار لأن قوله مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا يندرج فيه المؤمن والكافر والصديق والزنديق لأن كل أحد يريد التمتع بلذات الدنيا وطيباتها والانتفاع بخيراتها وشهواتها إلا أن آخر الآية يدل على أن المراد من هذا العام الخاص وهو الكافر لأن قوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لا يليق إلا بالكفار فصار تقدير الآية من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط أي تكون إرادته مقصورة على حب الدنيا وزينتها ولم يكن طالباً لسعادات الآخرة كان حكمه كذا وكذا ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فيه فمنهم من قال المراد منهم منكرو البعث فإنهم ينكرون الآخرة ولا يرغبون إلا في سعادات الدنيا وهذا قول الأصم وكلامه ظاهر
القول الثاني أن الآية نزلت في المنافقين الذين كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول عليه السلام الغنائم من دون أن يؤمنوا بالآخرة وثوابها
والقول الثالث أن المراد اليهود والنصارى وهو منقول عن أنس
والقول الرابع وهو الذي اختاره القاضي أن المراد من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها وعمل الخير قسمان العبادات وإيصال المنفعة إلى الحيوان ويدخل في هذا القسم الثاني البر وصلة الرحم والصدقة وبناء القناظر وتسوية الطرق والسعي في دفع الشرور وإجراء الأنهار فهذه الأشياء إذا أتى بها الكافر لأجل الثناء في الدنيا فإن بسببها تصل الخيرات والمنافع إلى المحتاجين فكلها تكون من أعمال الخير فلا جرم هذه الأعمال تكون طاعات سواء صدرت من الكافر أو المسلم وأما العبادات فهي إنما تكون طاعات بنيات مخصوصة فإذا لم يؤت بتلك النية وإنما أتى فاعلها بها على طلب زينة الدنيا وتحصيل الرياء والسمعة فيها صار وجودها كعدمها فلا تكون من باب الطاعات
وإذا عرفت هذا فنقول قوله مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا المراد منه الطاعات التي يصح صدورها من الكافر
القول الثاني وهو أن تجري الآية على ظاهرها في العموم ونقول إنه يندرج فيه المؤمن الذي يأتي بالطاعات على سبيل الرياء والسمعة ويندرج فيه الكافر الذي هذا صفته وهذا القول مشكل لأن قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ إِلاَّ النَّارُ لا يليق المؤمن إلا إذا قلنا المراد أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ فِى الاْخِرَة ِ إِلاَّ النَّارُ بسبب هذه الأعمال الفاسدة والأفعال الباطلة المقرونة بالرياء ثم القائلون بهذ القول ذكروا أخباراً كثيرة في هذا الباب روي أن الرسول عليه السلام قال ( تعوذوا بالله من جب الحزن قيل وما جب الحزن قال عليه الصلاة والسلام ( واد في جهنم يلقى فيه القراء المراؤون ) وقال عليه الصلاة والسلام ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة من يرى الناس أن فيه خيراً ولا خير فيه ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إذا كان يوم القيامة يدعى برجل جمع القرآن فيقال له ما عملت فيه فيقول يا رب قمت به آناء الليل والنهار فيقول الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان قارىء وقد قيل ذلك ويؤت بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك فماذا عملت فيما آتيتك فيقول وصلت الرحم وتصدقت فيقول الله

تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك ويؤتى بمن قتل في سبيل الله فيقول قاتلت في الجهاد حتى قتلت فيقول الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان جريء وقد قيل ذلك ) قال أبو هريرة رضي الله عنه ثم ضرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ركبتي وقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه ذكر هذا الحديث عند معاوية قال الراوي فبكى حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق وقال صدق الله ورسوله مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا
المسألة الثانية المراد من توفية أجور تلك الأعمال هو أن كل ما يستحقون بها من الثواب فإنه يصل إليهم حال كونهم في دار الدنيا فإذا خرجوا من الدنيا لم يبق معهم من تلك الأعمال أثر من آثار الخيرات بل ليس لهم منها إلا النار
واعلم أن العقل يدل عليه قطعاً وذلك لأن من أتى بالأعمال لأجل طلب الثناء في الدنيا ولأجل الرياء فذلك لأجل أنه غلب على قلبه حب الدنيا ولم يحصل في قلبه حب الآخرة إذ لو عرف حقيقة الآخرة وما فيها من السعادات لامتنع أن يأتي بالخيرات لأجل الدنيا وينسى أمر الآخرة فثبت أن الآتي بأعمال البر لأجل الدنيا لا بد وأن يكون عظيم الرغبة في الدنيا عديم الطلب للآخرة ومن كان كذلك فإذا مات فإنه يفوته جميع منافع الدنيا ويبقى عاجزاً عن وجدانها غير قادر على تحصيلها ومن أحب شيئاً ثم حيل بينه وبين المطلوب فإنه لا بد وأن تشتعل في قلبه نيران الحسرات فثبت بهذا البرهان العقلي أن كل من أتى بعمل من الأعمال لطلب الأحوال الدنيوية فإنه يجد تلك المنفعة الدنيوية اللائقة بذلك العمل ثم إذا مات فإنه لا يحصل له منه إلا النار ويصير ذلك العمل في الدار الآخرة محبطاً باطلاً عديم الأثر
أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَة ً أُوْلَائِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاٌّ حْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَة ٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها ظاهر والتقدير أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار إلا أنه حذف الجواب لظهوره ومثله في القرآن كثير كقوله تعالى أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء ( فاطر 8 ) وقوله أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً ( الزمر 9 ) وقوله قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( الزمر 9 )
واعلم أن أول هذه الآية مشتمل على ألفاظ أربعة كل واحد محتمل فالأول أن هذا الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه من هو والثاني أنه ما المراد بهذه البينة والثالث أن المراد بقوله يتلوه

القرآن أو كونه حاصلاً عقيب غيره والرابع أن هذا الشاهد ما هو فهذه الألفاظ الأربعة مجملة فلهذا كثر اختلاف المفسرين في هذه الآية
أما الأول وهو أن هذا الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه من هو فقيل المراد به النبي عليه الصلاة والسلام وقيل المراد به من آمن من اليهود كعبدالله بن سلام وغيره وهو الأظهر لقوله تعالى في آخر الآية تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وهذا صيغة جمع فلا يجوز رجوعه إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد بالبينة هو البيان والبرهان الذي عرف به صحة الدين الحق والضمير في يتلوه يرجع إلى معنى البينة وهو البيان والبرهان والمراد بالشاهد هو القرآن ومنه أي من الله ومن قبله كتاب موسى أي ويتلو ذلك البرهان من قبل مجيء القرآن كتاب موسى
واعلم أن كون كتاب موسى تابعاً للقرآن ليس في الوجود بل في دلالته على هذا المطلوب و لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً نصب على الحال فالحاصل أنه يقول اجتمع في تقرير صحة هذا الدين أمور ثلاثة أولها دلالة البينات العقلية على صحته وثانيها شهادة القرآن بصحته وثالثها شهادة التوراة بصحته فعند اجتماع هذه الثلاثة لا يبقى في صحته شك ولا ارتياب فهذا القول أحسن الأقاويل في هذه الآية وأقربها إلى مطابقة اللفظ وفيها أقوال أخر
فالقول الأول أن الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه هو محمد عليه السلام والبينة هو القرآن والمراد بقوله يتلوه هو التلاوة بمعنى القراءة وعلى هذا التقدير فذكروا في تفسير الشاهد وجوهاً أحدها أنه جبريل عليه السلام والمعنى أن جبريل عليه السلام يقرأ القرآن على محمد عليه السلام وثانيها أن ذلك الشاهد هو لسان محمد عليه السلام وهو قول الحسن ورواية عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنهما قال قلت لأبي أنت التالي قال وما معنى التالي قلت قوله رَّبّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ قال وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولما كان الإنسان إنما يقرأ القرآن ويتلوه بلسانه لا جرم جعل اللسان تالياً على سبيل المجاز كما يقال عين باصرة وأذن سامعة ولسان ناطق وثالثها أن المراد هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه والمعنى أنه يتلو تلك البينة وقوله مِنْهُ أي هذا الشاهد من محمد وبعض منه والمراد منه تشريف هذا الشاهد بأنه بعض من محمد عليه السلام ورابعها أن لا يكون المراد بقوله وَيَتْلُوهُ القرآن بل حصول هذا الشاهد عقيب تلك البينة وعلى هذا الوجه قالوا إن المراد أن صورة النبي عليه السلام ووجهه ومخايله كل ذلك يشهد بصدقه لأن من نظر إليه بعقله علم أنه ليس بمجنون ولا كاهن ولا ساحر ولا كذاب والمراد بكون هذا الشاهد منه كون هذه الأحوال متعلقة بذات النبي ( صلى الله عليه وسلم )
القول الثاني أن الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة هم المؤمنون وهم أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد بالبينة القرآن وَيَتْلُوهُ أي ويتلو الكتاب الذي هو الحجة يعني ويعقبه شاهد من الله تعالى وعلى هذا القول اختلفوا في ذلك الشاهد فقال بعضهم إنه محمد عليه السلام وقال آخرون بل ذلك الشاهد هو كون القرآن واقعاً على وجه يعرف كل من نظر فيه أنه معجزة وذلك الوجه هو اشتماله على الفصاحة التامة والبلاغة الكاملة وكونه بحيث لا يقدر البشر على الإتيان بمثله وقوله شَاهِدٌ مّنْهُ أي من تلك البينة لأن أحوال القرآن وصفاته من القراآت متعلقة به وثالثها قال الفراء وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ يعني الإنجيل يتلو القرآن وإن

كان قد أنزل قبله والمعنى أنه يتلوه في التصديق وتقريره أنه تعالى ذكر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في الإنجيل وأمر بالإيمان به
واعلم أن هذين القولين وإن كانا محتملين إلا أن القول الأول أقوى وأتم
واعلم أنه تعالى وصف كتاب موسى عليه السلام بكونه إماماً ورحمة ومعنى كونه إماماً أنه كان مقتدى العالمين وإماماً لهم يرجعون إليه في معرفة الدين والشرائع وأما كونه رحمة فلأنه يهدي إلى الحق في الدنيا والدين وذلك سبب لحصول الرحمة والثواب فلما كان سبباً للرحمة أطلق اسم الرحمة عليه إطلاقاً لاسم المسبب على السبب
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ والمعنى أن الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم في صحة هذا الدين يؤمنون
واعلم أن المطالب على قسمين منها ما يعلم صحتها بالبديهة ومنها ما يحتاج في تحصيل العلم بها إلى طلب واجتهاد وهذا القسم الثاني على قسمين لأن طريق تحصيل المعارف إما الحجة والبرهان المستنبط بالعقل وإما الاستفادة من الوحي والإلهام فهذا الطريقان هما الطريقان اللذان يمكن الرجوع إليهما في تعريف المجهولات فإذا اجتمعا واعتضد كل واحد منهما بالآخر بلغا الغاية في القوة والوثوق ثم إن في أنبياء الله تعالى كثرة فإذا توافقت كلمات الأنبياء على صحته وكان البرهان اليقيني قائماً على صحته فهذه المرتبة قد بلغت في القوة إلى حيث لا يمكن الزيادة فقوله أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّهِ المراد بالبينة الدلائل العقلية اليقينية وقوله وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ إشارة إلى الوحي الذي حصل لمحمد عليه السلام وقوله وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَة ً إشارة إلى الوحي الذي حصل لموسى عليه السلام وعند اجتماع هذه الثلاثة قد بلغ هذا اليقين في القوة والظهور والجلاء إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه
ثم قال تعالى وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاْحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ والمراد من الأحزاب أصناف الكفار فيدخل فيهم اليهود والنصارى والمجوس روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا يسمع بي يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار ) قال أبو موسى فقلت في نفسي إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يقول مثل هذا إلا عن القرآن فوجدت الله تعالى يقول وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاْحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ وقال بعضهم لما دلت الآية على أن من يكفر به فالنار موعده دلت على أن من لا يكفر به لم تكن النار موعده
ثم قال تعالى فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَة ٍ مّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ ففيه قولان الأول فلا تك في مرية من صحة هذا الدين ومن كون القرآن نازلاً من عند الله تعالى فكان متعلقاً بما تقدم من قوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ( السجدة 3 ) الثاني فلا تك في مرية من أن موعد الكافر النار وقرىء مِرْيَة ٍ بضم الميم
ثم قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ والتقدير لما ظهر الحق ظهوراً في الغاية فكن أنت متابعاً له ولا تبال بالجهال سواء آمنوا أو لم يؤمنوا والأقرب أن يكون المراد لا يؤمنون بما تقدم ذكره من وصف القرآن
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَائِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الاٌّ شْهَادُ هَاؤُلا ءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالاٌّ خِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ

اعلم أن الكفار كانت لهم عادات كثيرة وطرق مختلفة فمنها شدة حرصهم على الدنيا ورغبتهم في تحصيلها وقد أبطل الله هذه الطريقة بقوله مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ( هود 15 ) إلى آخر الآية ومنها أنهم كانوا ينكرون نبوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويقدحون في معجزاته وقد أبطل الله تعالى بقوله أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّهِ ( محمد 14 ) ومنها أنهم كانوا يزعمون في الأصنام أنها شفعاؤهم عند الله وقد أبطل الله تعالى ذلك بهذه الآية وذلك لأن هذا الكلام افتراء على الله تعالى فلما بين وعيد المفترين على الله فقد دخل فيه هذا الكلام
واعلم أن قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً إنما يورد في معرض المبالغة وفيه دلالة على أن الافتراء على الله تعالى أعظم أنواع الظلم
ثم إنه تعالى بين وعيد هؤلاء بقوله أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبّهِمْ وما وصفهم بذلك لأنهم مختصون بذلك العرض لأن العرض عام في كل العباد كما قال وَعُرِضُواْ عَلَى رَبّكَ صَفَّا ( الكهف 48 ) وإنما أراد به أنهم يعرضون فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبّهِمْ فحصل لهم من الخزي والنكال مالا مزيد عليه وفيه سؤالات
السؤال الأول إذا لم يجز أن يكون الله تعالى في مكان فكيف قال يُعْرَضُونَ عَلَى رَبّهِمْ والجواب أنهم يعرضون على الأماكن المعدة للحساب والسؤال ويجوز أيضاً أن يكون ذلك عرضاً على من شاء الله من الخلق بأمر الله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين
السؤال الثاني من الأشهاد الذين أضيف إليهم هذا القول
الجواب قال مجاهد هم الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا وقال قتادة ومقاتل الاْشْهَادُ الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد يعني على رؤوس الناس وقال الآخرون هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( الأعراف 6 ) والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضيحة
السؤال الثالث الأشهاد جمع فما واحده
والجواب يجوز أن يكون جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب وناصر وأنصار ويجوز أن يكون جمع شهيد مثل شريف وأشراف قال أبو علي الفارسي وهذا كأنه أرجح لأن ما جاء من ذلك في التنزيل جاء

على فعيل كقوله وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) جِئْنَا بِكُمْ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) ثم لما أخبر عن حالهم في عذاب القيامة أخبر عن حالهم في الحال فقال أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وبين أنهم في الحال لملعونون من عند الله ثم ذكر من صفاتهم أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً يعني أنهم كما ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر والضلال فقد أضافوا إليه المنع من الدين الحق وإلقاء الشبهات وتعويج الدلائل المستقيمة لأنه لا يقال في العاصي يبغي عوجاً وإنما يقال ذلك فيمن يعرف كيفية الاستقامة وكيفية العوج بسبب إلقاء الشبهات وتقرير الضلالات
ثم قال وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ قال الزجاج كلمة ( هم ) كررت على جهة التوكيد لثبتهم في الكفر
أُولَائِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ هُمُ الاٌّ خْسَرُونَ
اعلم أن الله تعالى وصف هؤلاء المنكرين الجاحدين بصفات كثيرة في معرض الذم
الصفة الأولى كونهم مفترين على الله وهي قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ( الأنعام 93 )
والصفة الثانية أنهم يعرضون على الله في موقف الذل والهوان والخزي والنكال وهي قوله أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبّهِمْ ( هود 18 )
والصفة الثالثة حصول الخزي والنكال والفضيحة العظيمة وهي قوله وَيَقُولُ الاْشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبّهِمْ ( هود 18 )
والصفة الرابعة كونهم ملعونين من عند الله وهي قوله أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هود 18 )
والصفة الخامسة كونهم صادين عن سبيل الله مانعين عن متابعة الحق وهي قوله الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( الأعراف 45 )
والصفة السادسة سعيهم في إلقاء الشبهات وتعويج الدلائل المستقيمة وهي قوله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ( الأعراف 45 )
والصفة السابعة كونهم كافرين وهي قوله وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ ( هود 19 )
والصفة الثامنة كونهم عاجزين عن الفرار من عذاب الله وهي قوله أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ

قال الواحدي معنى الإعجاز المنع من تحصيل المراد يقال أعجزني فلان أي منعني عن مرادي ومعنى معجزين في الأرض أي لا يمكنهم أن يهربوا من عذابنا فإن هرب العبد من عذاب الله محال لأنه سبحانه وتعالى قادر على جميع الممكنات ولا تتفاوت قدرته بالبعد والقرب والقوة والضعف
والصفة التاسعة أنهم ليس لهم أولياء يدفعون عذاب الله عنهم والمراد منه الرد عليهم في وصفهم الأصنام بأنها شفعاؤهم عند الله والمقصود أن قوله أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ دل على أنهم لا قدرة لهم على الفرار وقوله وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء هو أن أحداً لا يقدر على تخليصهم من ذلك العذاب فجمع تعالى بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم وبين بذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا والآخرة ثم اختلفوا فقال قوم المراد إن عدم نزول العذاب ليس لأجل أنهم قدروا على منع الله من إنزال العذاب ولا لأجل أن لهم ناصراً يمنع ذلك العذاب عنهم بل إنما حصل ذلك الإمهال لأنه تعالى أمهلهم كي يتوبوا فيزولوا عن كفرهم فإذا أبوا إلا الثبات عليه فلا بد من مضاعفة العذاب في الآخرة وقال بعضهم بل المراد أن يكونوا معجزين لله عما يريد إنزاله عليهم من العذاب في الآخرة أو في الدنيا ولا يجدون ولياً ينصرهم ويدفع ذلك عنهم
والصفة العاشرة قوله تعالى يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ قيل سبب تضعيف العذاب في حقهم أنهم كفروا بالله وبالبعث وبالنشور فكفرهم بالمبدأ والمعاد صار سبباً لتضعيف العذاب والأصوب أن يقال إنهم مع ضلالهم الشديد سعوا في الإضلال ومنع الناس عن الدين الحق فلهذا المعنى حصل هذا التضعيف عليهم
الصفة الحادية عشرة قوله مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ والمراد ما هم عليه في الدنيا من صمم القلب وعمى النفس واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يخلق في المكلف ما يمنعه الإيمان روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال إنه تعالى منع الكافر من الإيمان في الدنيا والآخرة أما في الدنيا ففي قوله تعالى مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ وأما في الآخرة فهو قوله يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ( القلم 42 ) وحاصل الكلام في هذا الاستدلال أنه تعالى أخبر عنهم أنهم لا يستطيعون السمع فإما أن يكون المراد أنهم ما كانوا يستطيعون سمع الأصوات والحروف وإما أن يكون المراد كونهم عاجزين عن الوقوف على دلائل الله تعالى والقول الأول باطل لأن البديهة دلت على أنهم كانوا يسمعون الأصوات والحروف وجب حمل اللفظ على الثاني أجاب الجبائي عنه بأن السمع إما أن يكون عبارة عن الحاسة المخصوصة أو عن معنى يخلقه الله تعالى في صماخ الأذن وكلاهما لا يقدر العبد عليه لأنه لو اجتهد في أن يفعل ذلك أو يتركه لتعذر عليه وإذا ثبت هذا كان إثبات الاستطاعة فيه محالاً وإذا كان إثباتها محالاً كان نفي الاستطاعة عنه هو الحق فثبت أن ظاهر الآية لا يقدح في قولنا ثم قال المراد بقوله مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ إهمالهم له ونفورهم عنه كما يقول القائل هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه وهذا مما يمجه سمعي وذكر غير الجبائي عذراً آخر فقال إنه تعالى نفى أن يكون لهم أولياء والمراد الأصنام ثم بين نفي كونهم أولياء بقوله مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ فكيف يصلحون للولاية

والجواب أما حمل الآية على أنه لا قدرة لهم على خلق الحاسة وعلى خلق المعنى فيها فباطل لأن هذه الآية وردت في معرض الوعيد فلا بد وأن يكون ذلك معنى مختصاً بهم والمعنى الذي قالوه حاصل في الملائكة والأنبياء فكيف يمكن حمل اللفظ عليه وأما قوله إن ذلك محمول على أنهم كانوا يستثقلون سماع كلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإبصار صورته
فالجواب أنه تعالى نفى الاستطاعة فحمله على معنى آخر خلاف الظاهر وأيضاً أن حصول ذلك الاستثقال إما أن يمنع من الفهم والوصول إلى الغرض أو لم يمنع فإن منع فهو المقصود وإن لم يمنع منه فحينئذ كان ذلك سبباً أجنبياً عن المعاني المعتبرة في الفهم والإدراك ولا تختلف أحوال القلب في العلم والمعرفة بسببه فكيف يمكن جعله ذماً لهم في هذا المعرض وأيضاً قد بينا مراراً كثيرة في هذا الكتاب أن حصول الفعل مع قيام الصارف محال فلما بين تعالى كون هذا المعنى صارفاً عن قبول الدين الحق وبين فيه أنه حصل حصولاً على سبيل اللزوم بحيث لا يزول ألبتة في ذلك الوقت كان المكلف في ذلك الوقت ممنوعاً عن الإيمان وحينئذ يحصل المطلوب وأما قوله فإنا نجعل هذه الصفة من صفة الأوثان فبعيد لأنه تعالى قال يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ثم قال مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ فوجب أن يكون الضمير في هذه الآية المتأخرة عائداً إلى عين ما عاد إليه الضمير المذكور في هذه الآية الأولى وأما قوله وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ فقيل المراد منه البصيرة وقيل المراد منه أنهم عدلوا عن إبصار ما يكون حجة لهم
الصفة الثانية عشرة قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ ومعناه أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران
الصفة الثالثة عشرة قوله وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ والمعنى أنهم لما باعوا الدين بالدنيا فقد خسروا لأنهم أعطوا الشريف ورضوا بأخذ الخسيس وهذا عين الخسران في الدنيا ثم في الآخرة فهذا الخسيس يضيع ويهلك ولا يبقى منه أثر وهو المراد بقوله وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
الصفة الرابعة عشرة قوله لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاْخِرَة ِ هُمُ الاْخْسَرُونَ وتقريره ما تقدم وهو أنه لما أعطى الشريف الرفيع ورضي بالخسيس الوضيع فقد خسر في التجارة ثم لما كان هذا الخسيس بحيث لا يبقى بل لا بد وأن يهلك ويفنى انقلبت تلك التجارة إلى النهاية في صفة الخسارة فلهذا قال لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاْخِرَة ِ هُمُ الاْخْسَرُونَ وقوله لاَ جَرَمَ قال الفراء إنها بمنزلة قولنا لا بد ولا محالة ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً تقول العرب لا جرم أنك محسن على معنى حقاً إنك محسن وأما النحويون فلهم فيه وجوه الأول لا حرف نفي وجزم أي قطع فإذا قلنا لا جرم معناه أنه لا قطع قاطع عنهم أنهم في الآخرة هم الأخسرون الثاني قال الزجاج إن كلمة لا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم و جَرَمَ معناه كسب ذلك الفعل والمعنى لا ينفعهم ذلك وكسب ذلك الفعل لهم الخسران في الدنيا والآخرة وذكرنا جَرَمَ بمعنى كسب في تفسير قوله تعالى لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ عَلَيْهِ قَوْمٌ ( المائدة 2 ) قال الأزهري وهذا من أحسن ما قيل في هذا الباب الثالث قال سيبويه والأخفش لا رد على أهل الكفر كما ذكرنا وجرم معناه حق وصحح والتأويل أنه حق كفرهم وقوع العذاب والخسران بهم واحتج سيبويه بقول الشاعر

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة
جرمت فزاة بعدها أن يغضبوا
أراد حقت الطعنة فزارة أن يغضبوا
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر عقوبة الكافرين وخسرانهم أتبعه بذكر أحوال المؤمنين والإخبات هو الخشوع والخضوع وهو مأخوذ من الخبت وهو الأرض المطمئنة وخبت ذكره أي خفي فقوله ( أخبت ) أي دخل في الخبت كما يقال فيمن صار إلى نجد أنجد وإلى تهامة أتهم ومنه المخبت من الناس الذي أخبت إلى ربه أي اطمأن إليه ولفظ الإخبات يتعدى بإلى وباللام فإذا قلنا أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه وإذا قلنا أخبت له فمعناه خشع له
إذا عرفت هذا فنقول قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إشارة إلى جميع الأعمال الصالحة وقوله وَأَخْبَتُواْ إشارة إلى أن هذه الأعمال لا تنفع في الآخرة إلا مع الأحوال القلبية ثم إن فسرنا الإخبات بالطمأنينة كان المراد أنهم يعبدون الله وكانت قلوبهم عند أداء العبادات مطمئنة بذكر الله فارغة عن الالتفات إلى ما سوى الله تعالى أو يقال إنما قلوبهم صارت مطمئنة إلى صدق الله بكل ما وعدهم من الثواب والعقاب وأما إن فسرنا الإخبات بالخشوع كان معناه أنهم يأتون بالأعمال الصالحة خائفين وجلين من أن يكونوا أتوا بها مع وجود الإخلال والتقصير ثم بين أن من حصل له هذه الصفات الثلاثة فهم أصحاب الجنة ويحصل لهم الخلود في الجنة
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالاٌّ عْمَى وَالاٌّ صَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
واعلم أنه تعالى لما ذكر الفريقين ذكر فيهما مثالاً مطابقاً ثم اختلفوا فقيل إنه راجع إلى من ذكر آخراً من المؤمنين والكافرين من قبل وقال آخرون بل رجع إلى قوله أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّهِ ( هود 17 ) ثم ذكر من بعده الكافرين ووصفهم بأنهم لا يستطيعون السمع ولا يبصرون والسميع والبصير هم الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم
واعلم أن وجه التشبيه هو أنه سبحانه خلق الإنسان مركباً من الجسد ومن النفس وكما أن للجسد بصراً وسمعاً فكذلك حصل لجوهر الروح سمع وبصر وكما أن الجسد إذا كان أعمى أصم بقي متحيراً ل

ا يهتدي إلى شيء من المصالح بل يكون كالتائه في حضيض الظلمات لا يبصر نوراً يهتدي به ولا يسمع صوتاً فكذلك الجاهل الضال المضل يكون أعمى وأصم القلب فيبقى في ظلمات الضلالات حائراً تائهاً
ثم قال تعالى أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ منبهاً على أنه يمكنه علاج هذا العمى وهذا الصمم وإذا كان العلاج ممكناً من الضرر الحاصل بسبب حصول هذا العمى وهذا الصمم وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان
واعلم أنه قد جرت العادة بأنه تعالى إذا ورد على الكافر أنواع الدلائل أتبعها بالقصص ليصير ذكرها مؤكداً لتلك الدلائل على ما قررنا هذا المعنى في مواضع كثيرة وفي هذه السورة ذكر أنواعاً من القصص
القصة الأولى
قصة نوح عليه السلام
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ
اعلم أنه تعالى قد بدأ بذكر هذه القصة في سورة يونس وقد أعادها في هذه السورة أيضاً لما فيها من زوائد الفوائد وبدائع الحكم وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي إِنّى بفتح الهمزة والمعنى أرسلنا نوحاً بأني لكم نذير مبين ومعناه أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام وهو قوله إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فلما اتصل به حرف الجر وهو الباء فتح كما فتح في كان وأما سائر القراء فقرؤا إِنّى بالكسر على معنى قال إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
المسألة الثانية قال بعضهم المراد من النذير كونه مهدداً للعصاة بالعقاب ومن المبين كونه مبيناً ما أعد الله للمطيعين من الثواب والأولى أن يكون المعنى أنه نذير للعصاة من العقاب وأنه مبين بمعنى أنه بين ذلك الإنذار على الطريق الأكمل والبيان الأقوى الأظهر ثم بين تعالى أن ذلك الإنذار إنما حصل في النهي عن عبادة غير الله وفي الأمر بعبادة الله لأن قوله أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ استثناء من النفي وهو يوجب نفي غير المستثنى
واعلم أن تقدير الآية كأنه تعالى قال ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه بهذا الكلام وهو قوله إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
ثم قال أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ فقوله أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ بدل من قوله إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ ثم إنه أكد ذلك بقوله إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ والمعنى أنه لما حصل الألم العظيم في ذلك اليوم أسند

ذلك الألم إلى اليوم كقولهم نهارك صائم وليلك قائم
فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ الرَّأْى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن نوح عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في نبوته بثلاثة أنوع من الشبهات
فالشبهة الأولى أنه بشر مثلهم والتفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطاعة لجميع العالمين
والشبهة الثانية كونه ما أتبعه إلا أراذل من القوم كالحياكة وأهل الصنائع الخسيسة قالوا ولو كنت صادقاً لاتبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ ( الشعراء 111 )
والشبهة الثالثة قوله تعالى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ والمعنى لا نرى لكم علينا من فضل لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوة الجدل فإذا لم نشاهد فضلك علينا في شيء من هذه الأحوال الظاهرة فكيف نعترف بفضلك علينا في أشرف الدرجات وأعلى المقامات فهذا خلاصة الكلام في تقرير هذه الشبهات
واعلم أن الشبهة الأولى لا تليق إلا بالبراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق أما الشبهتان الباقيتان فيمكن أن يتمسك بهما من أقر بنبوة سائر الأنبياء وفي لفظ الآية مسائل
المسألة الأولى الملأ الأشراف وفي اشتقاقه وجوه الأول أنه مأخوذ من قولهم مليء بكذا إذا كان مطيقاً له وقد ملؤا بالأمر والسبب في إطلاق هذا اللفظ عليهم أنهم ملؤا بترتيب المهمات وأحسنوا في تدبيرها الثاني أنهم وصفوا بذلك لأنهم يتمالؤون أي يتظاهرون عليه الثالث وصفوا بذلك لأنهم يملؤون القلوب هيبة والمجالس أبهة الرابع وصفوا به لأنهم ملؤوا العقول الراجحة والآراء الصائبة
ثم حكى الله تعالى عنهم الشبهة الأولى وهي قولهم مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا وهو مثل ما حكى الله تعالى عن بعض العرب أنهم قالوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ( الأنعام 8 ) وهذا جهل لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدليل والبرهان والتثبت والحجة لا بالصورة والخلقة بل نقول إن الله تعالى لو بعث إلى البشر ملكاً لكانت الشبهة أقوى في الطعن عليه في رسالته لأنه يخطر بالبال أن هذه المعجزات التي ظهرت لعل هذا الملك هو الذي أتى بها من عند نفسه بسبب أن قوته أكمل وقدرته أقوى فلهذه الحكمة ما بعث الله إلى البشر رسولاً إلا من البشر

ثم حكى الشبهة الثانية وهي قوله وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ الرَّأْى والمراد منه قلة ما لهم وقلة جاههم ودناءة حرفهم وصناعتهم هذا أيضاً جهل لأن الرفعة في الدين لا تكون بالحسب والمال والمناصب العالية بل الفقر أهون على الدين من الغنى بل نقول الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف تجعل قلة المال في الدنيا طعناً في النبوة والرسالة
ثم حكى الله تعالى الشبهة الثالثة وهي قوله وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ وهذا أيضاً جهل لأن الفضيلة المعتبرة عند الله ليست إلا بالعلم والعمل فكيف اطلعوا على بواطن الخلق حتى عرفوا نفي هذه الفضيلة ثم قالوا بعد ذكر هذه الشبهات لنوح عليه السلام ومن اتبعه بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ وفيه وجهان الأول أن يكون هذا خطاباً مع نوح ومع قومه والمراد منه تكذيب نوح في دعوى الرسالة والثاني أن يكون هذا خطاباً مع الأراذل فنسبوهم إلى أنهم كذبوا في أن آمنوا به واتبعوه
المسألة الثانية قال الواحدي الأرذل جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته ورجل رذل الثياب والفعل والأراذل جمع الأرذل كقولهم أكابر مجرميها وقوله عليه الصلاة والسلام ( أحاسنكم أخلاقاً ) فعلى هذا الأراذل جمع الجمع وقال بعضهم الأصل فيه أن يقال هو أرذل من كذا ثم كثر حتى قالوا هو الأرذل فصارت الألف واللام عوضاً عن الإضافة وقوله بَادِى َ الرَّأْى البادي هو الظاهر من قولك بدا الشيء إذا ظهر ومنه يقال بادية لظهورها وبروزها للناظر واختلفوا في بادي الرأي وذكروا فيه وجوهاً الأول اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه والثاني يجوز أن يكون المراد اتبعوك في ابتداء حدوث الرأي وما احتاطوا في ذلك الرأي وما أعطوه حقه من الفكر الصائب والتدبر الوافي الثالث أنهم لما وصفوا القوم بالرذالة قالوا كونهم كذلك بادي الرأي أمر ظاهر لكل من يراهم والرأي على هذا المعنى من رأي العين لا من رأي القلب ويتأكد هذا التأويل بما نقل عن مجاهد أنه كان يقرأ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ رَأْى َ الْعَيْنِ
المسألة الثالثة قرأ أبو عمرو ونصير عن الكسائي بادىء بالهمزة والباقون بالياء غير مهموز فمن قرأ بادىء بالهمزة فالمعنى أول الرأي وابتداؤه ومن قرأ بالياء غير مهموز كان من بدا يبدو أي ظهر و أَرَاذِلُنَا بَادِى َ نصب على المصدر كقولك ضربت أول الضرب
قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّى وَءاتَانِى رَحْمَة ً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى شبهات منكري نبوة نوح عليه الصلاة والسلام حكى بعده ما يكون جواباً عن تلك الشبهات

فالشبهة الأولى قولهم مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فقال نوح حصول المساواة في البشرية لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة والرسالة ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه فقال أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى من معرفة ذات الله وصفاته وما يجب وما يمتنع وما يجوز عليه ثم إنه تعالى أتاني رحمة من عنده والمراد بتلك الرحمة إما النبوة وإما المعجزة الدالة على النبوة فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ أي صارت مظنة مشتبهة ملتبسة في عقولكم فهل أقدر على أن أجعلكم بحيث تصلون إلى معرفتها شئتم أم أبيتم والمراد أني لا أقدر على ذلك ألبتة وعن قتادة والله لو استطاع نبي الله لألزمها ولكنه لم يقدر عليه وحاصل الكلام أنهم لما قالوا وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ( هود 27 ) ذكر نوح عليه السلام أن ذلك بسبب أن الحجة عميت عليكم واشتبهت فأما لو تركتم العناد واللجاج ونظرتم في الدليل لظهر المقصود وتبين أن الله تعالى آتانا عليكم فضلاً عظيماً
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ بضم العين وتشديد الميم على ما لم يسم فاعله بمعنى ألبست وشبهت والباقون بفتح العين مخففة الميم أي التبست واشتبهت
واعلم أن الشيء إذا بقي مجهولاً محضاً أشبه المعمي لأن العلم نور البصيرة الباطنة والأبصار نور البصر الظاهر فحسن جعل كل واحد منها مجازاً عن الآخر وتحقيقه أن البينة توصف بالأبصار قال تعالى فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءايَاتُنَا مُبْصِرَة ً ( النمل 13 ) وكذلك توصف بالعمى قال تعالى فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الاْنبَاء ( القصص 66 ) وقال في هذه الآية فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ
المسألة الثالثة أَنُلْزِمُكُمُوهَا فيه ثلاث مضمرات ضمير المتكلم وضمير الغائب وضمير المخاطب وأجاز الفراء إسكان الميم الأولى وروي ذلك عن أبي عمرو قال وذلك أن الحركات توالت فسكنت الميم وهي أيضاً مرفوعة وقبلها كسرة والحركة التي بعدها ضمة ثقيلة قال الزجاج جميع النحوين البصريين لا يجيزون إسكان حرف الإعراب إلا في ضرورة الشعر وما يروى عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه الفراء وروي عن سيبويه أنه كان يخفف الحركة ويختلسها وهذا هو الحق وإنما يجوز الإسكان في الشعر كقول امرىء القيس فاليوم أشرب غير مستحقب
وَياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَاكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ إِنِّى إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو الجواب عن الشبهة الثانية وهي قولهم لا يتبعك إلا الأراذل من الناس وتقرير هذا الجواب من وجوه
الوجه الأول أنه عليه الصلاة والسلام قال ( أنا لا أطلب على تبليغ دعوة الرسالة مالاً حتى يتفاوت الحال بسبب كون المستجيب فقيراً أو غنياً وإنما أجري على هذه الطاعة الشاقة على رب العالمين ) وإذا كان الأمر كذلك فسواء كانوا فقراء أو أغنياء لم يتفاوت الحال في ذلك
الوجه الثاني كأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم إنكم لما نظرتم إلى ظواهر الأمور وجدتموني فقيراً وظننتم أني إنما اشتغلت بهذه الحرفة لأتوسل بها إلى أخذ أموالكم وهذا الظن منكم خطأ فإني لا أسئلكم على تبليغ الرسالة أجراً إن أجري إلا على رب العالمين فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بسبب هذا الظن الفاسد
والوجه الثالث في تقرير هذا الجواب أنهم قالوا مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا إلى قوله وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ( هود 27 ) فهو عليه السلام بين أنه تعالى أعطاه أنواعاً كثيرة توجب فضله عليهم ولذلك لم يسع في طلب الدنيا وإنما يسعى في طلب الدين والإعراض عن الدنيا من أمهات الفضائل باتفاق الكل فلعل المراد تقرير حصول الفضيلة من هذا الوجه
فأما قوله وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ فهذا كالدليل على أن القوم سألوه طردهم رفعاً لأنفسهم عن مشاركة أولئك الفقراء روى ابن جريج أنهم قالوا إن أحببت يا نوح أن نتبعك فاطردهم فإنا لا نرضى بمشاركتهم فقال عليه الصلاة والسلام وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ وقوله تعالى حكاية عنهم أنهم قالوا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ الرَّأْى ( هود 27 ) كالدليل على أنهم طلبوا منه طردهم لأنه كالدليل على أنهم كانوا يقولون لو اتبعك أشراف القوم لوافقناهم ثم إنه تعالى حكى عنه أنه ما طردهم وذكر في بيان ما يوجب الامتناع من هذا الطرد أموراً الأول أنهم ملاقو ربهم وهذا الكلام يحتمل وجوهاً منها أنهم قالوا هم منافقون فيما أظهروا فلا تغتر بهم فأجاب بأن هذا الأمر ينكشف عند لقاء ربهم في الآخرة ومنها أنه جعله علة في الامتناع من الطرد وأراد أنهم ملاقوا ما وعدهم ربهم فإن طردتهم استخصموني في الآخرة ومنها أنه نبه بذلك الأمر على أنا نجتمع في الآخرة فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني ثم بين أنهم يبنون أمرهم على الجهل بالعواقب والاغترار بالظواهر فقال وَلَاكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ
ثم قال بعده تَجْهَلُونَ وَياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ والمعنى أن العقل والشرع تطابقا على أنه لا بد من تعظيم المؤمن البر التقي ومن إهانة الفاجر الكافر فلو قلبت القصة وعكست القضية وقربت الكافر الفاجر على سبيل التعظيم وطردت المؤمن التقي على سبيل الإهانة كنت على ضد

أمر الله تعالى وعلى عكس حكمه وكنت في هذا الحكم على ضد ما أمر الله تعالى من إيصال الثواب إلى المحقين والعقاب إلى المبطلين وحينئذ أصير مستوجباً للعقاب العظيم فمن ذا الذي ينصرني من الله تعالى ومن الذي يخلصني من عذاب الله أفلا تذكرون فتعلمون أن ذلك لا يصح ثم أكد هذا البيان بوجه ثالث فقال وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ أي كما لا أسألكم فكذلك لا أدعي أني أملك مالاً ولا لي غرض في المال لا أخذاً ولا دفعاً ولا أعلم الغيب حتى أصل به إلى ما أريد لنفسي ولا أتباعي ولا أقول إني ملك حتى أتعظم بذلك عليكم بل طريقي الخضوع والتواضع ومن كان هذا شأنه وطريقه فإنه لا يستنكف عن مخالطة الفقراء والمساكين ولا يطلب مجالسة الأمراء والسلاطين وإنما شأنه طلب الدين وسيرته مخالطة الخاضعين والخاشعين فلما كانت طريقتي توجب مخالطة الفقراء فكيف جعلتم ذلك عيباً علي ثم إنه أكد هذا البيان بطريق رابع فقال وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ وهذا كالدلالة على أنهم كانوا ينسبون أتباعه مع الفقر والذلة إلى النفاق فقال إني لا أقول ذلك لأنه من باب الغيب والغيب لا يعلمه إلا الله فربما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله ملك الآخرة فأكون كاذباً فيما أخبرت به فإني إن فعلت ذلك كنت من الظالمين لنفسي ومن الظالمين لهم في وصفهم بأنهم لا خير لهم مع أن الله تعالى آتاهم الخير في الآخرة
المسألة الثانية احتج قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء وقالوا إن الإنسان إذا قال أنا لا أدعي كذا وكذا فهذا إنما يحسن إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل فلما كان قائل هذا القول هو نوح عليه السلام وجب أن تكون درجة الملائكة أعلى وأشرف من درجات الأنبياء ثم قالوا وكيف لا يكون الأمر كذلك والملائكة داوموا على عبادة الله تعالى طول الدنيا مذ خلقوا إلى أن تقوم الساعة وتمام التقرير أن الفضائل الحقيقية الروحانية ليست إلا ثلاثة أشياء أولها الاستغناء المطلق وجرت العادة في الدنيا أن من ملك المال الكثير فإنه يوصف بكونه غنياً فقوله وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ إشارة إلى أني لا أدعي الاستغناء المطلق وثانيها العلم التام وإليه الإشارة بقوله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وثالثها القدرة التامة الكاملة وقد تقرر في الخواطر أن أكمل المخلوقات في القدرة والقوة هم الملائكة وإليه الإشارة بقوله وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ والمقصود من ذكر هذه الأمور الثلاثة بيان أن ما حصل عندي من هذه المراتب الثلاثة إلا ما يليق بالقوة البشرية والطاقة الإنسانية فأما الكمال المطلق فأنا لا أدعيه وإذا كان الأمر كذلك فقد ظهر أن قوله وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ يدل على أنهم أكمل من البشر وأيضاً يمكن جعل هذا الكلام جواباً عما ذكروه من الشبهة فإنهم طعنوا في أتباعه بالفقر فقال وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ حتى أجعلهم أغنياء وطعنوا فيهم أيضاً بأنهم منافقون فقال وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ حتى أعرف كيفية باطنهم وإنما أُجري الأحوال على الظواهر وطعنوا فيهم بأنهم قد يأتون بأفعال لا كما ينبغي فقال وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ حتى أكون مبرأ عن جميع الدواعي الشهوانية والبواعث النفسانية
المسألة الثالثة احتج قوم بهذه الآية على صدور الذنب من الأنبياء فقالوا إن هذه الآية دلت على أن طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار من أصول المعاصي ثم إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) طرد فقراء المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله تعالى في قوله وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ( الأنعام 52 )

وذلك يدل على إقدام محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على الذنب
والجواب يحمل الطرد المذكور في هذه الآية على الطرد المطلق على سبيل التأبيد والطرد المذكور في واقعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على التقليل في أوقات معينة لرعاية المصالح
المسألة الرابعة احتج الجبائي على أنه لا تجوز الشفاعة عند الله في دفع العقاب بقول نوح عليه السلام مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ معناه إن كان هذا الطرد محرماً فمن ذا الذي ينصرني من الله أي من الذي يخلصني من عقابه ولو كانت الشفاعة جائزة لكانت في حق نوح عليه السلام أيضاً جائزة وحينئذ يبطل قوله مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ واعلم أن هذا الاستدلال يشبه استدلالهم في هذه المسألة بقوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا إلى قوله وَلاَ يُنصَرُونَ ( البقرة 48 ) والجواب المذكور هناك هو الجواب عن هذا الكلام
قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الكفار لما أوردوا تلك الشبهة
وأجاب نوح عليه السلام عنها بالجوابات الموافقة الصحيحة أورد الكفار على نوح كلامين الأول أنهم وصفوه بكثرة المجادلة فقالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا وهذا يدل على أنه عليه السلام كان قد أكثر في الجدال معهم وذلك الجدال ما كان إلا في إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وهذا يدل على أن الجدال في تقرير الدلائل وفي إزالة الشبهات حرفة الأنبياء وعلى أن التقليد والجهل والإصرار على الباطل حرفة الكفار والثاني أنهم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به فقالوا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ثم إنه عليه السلام أجاب عنه بجواب صحيح فقال إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ والمعنى أن إنزال العذاب ليس إلي وإنما هو خلق الله تعالى فيفعله إن شاء كما شاء وإذا أراد إنزال العذاب فإن أحداً لا يعجزه أي لا يمنعه منه والمعجز هو الذي يفعل ما عنده لتعذر مراد الغير فيوصف بأنه أعجزه فقوله وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ أي لا سبيل لكم إلى فعل ما عنده فلا يمتنع على الله تعالى ما يشاء من العذاب إن أراد إنزاله بكم وقد قيل معناه وما أنتم بمانعين وقيل وما أنتم بمصونين وقيل وما أنتم بسابقين إلى الخلاص وهذه الأقوال متقاربة

واعلم أن نوحاً عليه السلام لما أجاب عن شبهاتهم ختم الكلام بخاتمة قاطعة فقال وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ أي إن كان الله يريد أن يغويكم فإنه لا ينفعكم نصحي ألبتة واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الله تعالى قد يريد الكفر من العبد وأنه إذا أراد منه ذلك فإنه يمتنع صدور الإيمان منه قالوا إن نوحاً عليه السلام قال وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ والتقدير لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم ويضلكم وهذا صريح في مذهبنا أما المعتزلة فإنهم قالوا ظاهر الآية يدل على أن الله تعالى إن أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول وهذا مسلم فإنا نعرف أن الله تعالى لو أراد إغواء عبد فإنه لا ينفعه نصح الناصحين لكن لم قلتم إنه تعالى أراد هذا الإغواء فإن النزاع ما وقع إلا فيه بل نقول إن نوحاً عليه السلام إنما ذكر هذا الكلام ليدل على أنه تعالى ما أغواهم بل فوض الاختيار إليهم وبيانه من وجهين الأول أنه عليه السلام بين أنه تعالى لو أراد إغوائهم لما بقي في النصح فائدة فلو لم يكن فيه فائدة لما أمره بأن ينصح الكفار وأجمع المسلمون على أنه عليه السلام مأمور بدعوة الكفار ونصيحتهم فعلمنا أن هذا النصح غير خال عن الفائدة وإذا لم يكن خالياً عن الفائدة وجب القطع بأنه تعالى ما أغواهم فهذا صار حجة لنا من هذا الوجه الثاني أنه لو ثبت الحكم عليهم بأن الله تعالى أغواهم لصار هذا عذراً لهم في عدم إتيانهم بالإيمان ولصار نوح منقطعاً في مناظرتهم لأنهم يقولون له إنك سلمت أن الله أغوانا فإنه لا يبقى في نصحك ولا في جدنا واجتهادنا فائدة فإذا ادعيت بأن الله تعالى قد أغوانا فقد جعلتنا معذورين فلم يلزمنا قبول هذه الدعوة فثبت أن الأمر لو كان كما قاله الخصم لصار هذا حجة للكفار على نوح عليه السلام ومعلوم أن نوحاً عليه السلام لا يجوز أن يذكر كلاماً يصير بسببه مفحماً ملزماً عاجزاً عن تقرير حجة الله تعالى فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية لا تدل على قول المجبرة ثم إنهم ذكروا وجوهاً من التأويلات الأول أولئك الكفار كانوا مجبرة وكانوا يقولون إن كفرهم بإرادة الله تعالى فعند هذا قال نوح عليه السلام إن نصحه لا ينفعهم إن كان الأمر كما قالوا ومثاله أن يعاقب الرجل ولده على ذنبه فيقول الولد لا أقدر على غير ما أنا عليه فيقول الوالد فلن ينفعك إذاً نصحي ولا زجري وليس المراد أنه يصدقه على ما ذكره بل على وجه الإنكار لذلك الثاني قال الحسن معنى يُغْوِيَكُمْ أي يعذبكم والمعنى لا ينفعكم نصحي اليوم إذا نزل بكم العذاب فآمنتم في ذلك الوقت لأن الإيمان عند نزول العذاب لا يقبل وإنما ينفعكم نصحي إذا آمنتم قبل مشاهدة العذاب الثالث قال الجبائي الغواية هي الخيبة من الطلب بدليل قوله تعالى فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً ( مريم 59 ) أي خيبة من خير الآخرة قال الشاعر ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
الرابع أنه إذا أصر على الكفر وتمادى فيه منعه الله تعالى الألطاف وفوضه إلى نفسه فهذا شبيه ما إذا أراد إغواءه فلهذا السبب حسن أن يقال إن الله تعالى أغواه هذا جملة كلمات المعتزلة في هذا الباب والجواب عن أمثال هذه الكلمات قد ذكرناه مراراً وأطواراً فلا فائدة في الإعادة
المسألة الثانية قوله وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ جزاء معلق على شرط بعده شرط آخر وهذا يقتضي أن يكون الشرط المؤخر في اللفظ مقدماً في الوجود وذلك

لأن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار كان المفهوم كون ذلك الطلاق من لوازم ذلك الدخول فإذا ذكر بعده شرطاً آخر مثل أن يقول إن أكلت الخبز كان المعنى أن تعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول مشروط بحصول هذا الشرط الثاني والشرط مقدم على المشروط في الوجود فعلى هذا إن حصل الشرط الثاني تعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول إما إن لم يوجد الشرط المذكور ثانياً لم يتعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول هذا هو التحقيق في هذا التركيب فلهذا المعنى قال الفقهاء إن الشرط المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى والمقدم في اللفظ مؤخر في المعنى
واعلم أن نوحاً عليه السلام لما قرر هذه المعاني قال هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وهذا نهاية الوعيد أي هو إلهكم الذي خلقكم ورباكم ويملك التصرف في ذواتكم وفي صفاتكم قبل الموت وعند الموت وبعد الموت مرجعكم إليه وهذا يفيد نهاية التحذير
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَى َّ إِجْرَامِى وَأَنَاْ بَرِى ءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ
اعلم أن معنى افتراه اختلقه وافتعله وجاء به من عند نفسه والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم وقوله فَعَلَى َّ إِجْرَامِى الإجرام اقتراح المحظورات واكتسابها وهذا من باب حذف المضاف لأن المعنى فعليَّ عقاب إجرامي وفي الآية محذوف آخر وهو أن المعنى إن كنت افتريته فعليَّ عقاب جرمي وإن كنت صادقاً وكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب إلا أنه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليه كقوله أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ ( الزمر 9 ) ولم يذكر البقية وقوله وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ أي أنا بريء من عقاب جرمكم وأكثر المفسرين على أن هذا من بقية كلام نوح عليه السلام وهذه الآية وقعت في قصة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في أثناء حكاية نوح وقولهم بعيد جداً وأيضاً قوله قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَى َّ إِجْرَامِى لا يدل على أنه كان شاكاً إلا أنه قول يقال على وجه الإنكار عند اليأس من القبول
وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما لما جاء هذا من عند الله تعالى دعا على قومه فقال رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) وقوله فَلاَ تَبْتَئِسْ أي لا تحزن قال أبو زيد ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه وأنشد أبو عبيدة ما يقسم الله أقبل غير مبتئس
به وأقعد كريماً ناعم البال
أي غير حزين ولا كاره
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في القضاء والقدر وقالوا إنه تعالى أخبر

عن قومه أنهم لا يؤمنون بعد ذلك فلو حصل إيمانهم لكان إما مع بقاء هذا الخبر صدقاً ومع بقاء هذا العلم علماً أو مع انقلاب هذا الخبر كذباً ومع انقلاب هذا العلم جهلاً والأول ظاهر البطلان لأن وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدم الإيمان صدقاً ومع كون العلم بعدم الإيمان حاصلاً حال وجود الإيمان جمع بين النقيضين والثاني أيضاً باطل لأن انقلاب خبر الله كذباً وعلم الله جهلاً محال ولما كان صدور الإيمان منهم لا بد وأن يكون على هذين القسمين وثبت أن كل واحد منهما محال كان صدور الإيمان منهم محالاً مع أنهم كانوا مأمورين به وأيضاً القوم كانوا مأمورين بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومنه قوله وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ ( هود 36 ) فيلزم أن يقال إنهم كانوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون ألبتة وذلك تكليف الجمع بين النقيضين وتقرير هذا الكلام قد مر في هذا الكتاب مراراً وأطواراً
المسألة الثالثة اختلف المعتزلة في أنه هل يجوز أن ينزل الله تعالى عذاب الاستئصال على قوم كان في المعلوم أن فيهم من يؤمن أو كان في أولادهم من يؤمن فقال قوم إنه لا يجوز واحتجوا بما حكى الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ( نوح 26 27 ) وهذا يدل على أنه إنما حسن منه تعالى إنزال عذاب الاستئصال عليهم لأجل أنه تعالى علم أنه ليس من يؤمن ولا في أولادهم أحد يؤمن قال القاضي وقال كثير من علمائنا إن ذلك من الله تعالى جائز وإن كان منهم من يؤمن وأما قول نوح عليه السلام رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً فذلك يدل على أنه إنما سأل ذلك من حيث إنه كان في المعلوم أنهم يضلون عباده ولايلدون إلا فاجراً كفاراً وذلك يدل على أن ذلك الحكم كان قولاً بمجموع هاتين العلتين وأيضاً فلا دليل فيه على أنهما لو لم يحصلا لما جاز إنزال الإهلاك والأقرب أن يقال إن نوحاً عليه السلام لشدة محبته لإيمانهم كان سأل ربه أن يبقيهم فأعلمه أنه لا يؤمن منهم أحد ليزول عن قلبه ما كان قد حصل فيه من تلك المحبة ولذلك قال تعالى من بعد فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ أي لا تحزن من ذلك ولا تغتم ولا تظن أن في ذلك مذلة فإن الدين عزيز وإن قل عدد من يتمسك به والباطل ذليل وإن كثر عدد من يقول به
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
بم قوله تعالى
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
واعلم أن قوله تعالى أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ يقتضي تعريف نوح عليه السلام أنه معذبهم ومهلكهم فكان يحتمل أن يعذبهم بوجوه التعذيب فعرفه الله تعالى أنه يعذبهم بهذا الجنس الذي هو الغرق ولما كان السبيل الذي به يحصل النجاة من الغرق تكوين السفينة لا جرم أمر الله تعالى بإصلاح السفينة وإعدادها فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها على مثال جوجؤ الطائر
فإن قيل قوله تعالى وَاصْنَعِ الْفُلْكَ أمر إيجاب أو أمر إباحة

قلنا الأظهر أنه أمر إيجاب لأنه لا سبيل له إلى صون روح نفسه وأرواح غيره عن الهلاك إلا بهذا الطريق وصون النفس عن الهلاك واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ويحتمل أن لا يكون ذلك الأمر أمر إيجاب بل كان أمر إباحة وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسان لنفسه داراً ليسكنها ويقيم بها
أما قوله بِأَعْيُنِنَا فهذا لا يمكن أجراؤه على ظاهره من وجوه أحدها أنه يقتضي أن يكون لله تعالى أعين كثيرة وهذا يناقض ظاهر قوله تعالى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى وثانيها أنه يقتضي أن يصنع نوح عليه السلام ذلك الفلك بتلك الأعين كما يقال قطعت بالسكين وكتبت بالقلم ومعلوم أن ذلك باطل وثالثها أنه ثبت بالدلائل القطعية العقلية كونه تعالى منزهاً عن الأعضاء والجوارح والأجزاء والأبعاض فوجب المصير فيه إلى التأويل وهو من وجوه الأول أن معنى بِأَعْيُنِنَا أي بعين الملك الذي كان يعرفه كيف يتخذ السفينة يقال فلان عين على فلان نصب عليه ليكون منفحصاً عن أحواله ولا تحول عنه عينه الثاني أن من كان عظيم العناية بالشيء فإنه يضع عينه عليه فلما كان وضع العين على الشيء سبباً لمبالغة الاحتياط والعناية جعل العين كناية عن الاحتياط فلهذا قال المفسرون معناه بحفظنا إياك حفظ من يراك ويملك دفع السوء عنك وحاصل الكلام أن إقدامه على عمل السفينة مشروط بأمرين أحدهما أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل والثاني أن يكون عالماً بأنه كيف ينبغي تأليف السفينة وتركيبها ودفع الشر عنه وقوله وَوَحْيِنَا إشارة إلى أنه تعالى يوحي إليه أنه كيف ينبغي عمل السفينة حتى يحصل منه المطلوب
وأما قوله وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ ففيه وجوه الأول يعني لا تطلب مني تأخير العذاب عنهم فإني قد حكمت عليهم بهذا الحكم فلما علم نوح عليه السلام ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) الثاني وَلاَ تُخَاطِبْنِى في تعجيل ذلك العقاب على الذين ظلموا فإني لما قضيت إنزال ذلك العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعاً الثالث المراد بالذين ظلموا امرأته وابنه كنعان
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
أما قوله تعالى وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ قولان الأول أنه حكاية حال ماضية أي في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك الثاني التقدير وأقبل يصنع الفلك فاقتصر على قوله وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ

المسألة الثانية ذكروا في صفة السفينة أقوالاً كثيرة فأحدها أن نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين وقيل في أربع سنين وكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاث بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام وفي البطن الأعلى جلس هو ومن كان معه مع ما احتاجوا إليه من الزاد وحمل معه جسد آدم عليه السلام وثانيها قال الحسن كان طولها ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع
واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تعجبني لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها ألبتة ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلاً وكان الخوض فيها من باب الفضول لا سيما مع القطع بأنه ليس ههنا ما يدل على الجانب الصحيح والذي نعلمه إنه كان في السعة بحيث يتسع للمؤمنين من قومه ولما يحتاجون إليه ولحصول زوجين من كل حيوان لأن هذا القدر مذكور في القرآن فأما غير ذلك القدر فغير مذكور
أما قوله تعالى وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ ففي تفسير الملأ وجهان قيل جماعة وقيل طبقة من أشرافهم وكبرائهم واختلفوا فيما لأجله كانوا يسخرون وفيه وجوه أحدهما أنهم كانوا يقولون يا نوح كنت تدعي رسالة الله تعالى فصرت بعد ذلك نجاراً وثانيها أنهم كانوا يقولون له لو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق وثالثها أنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها وكانوا يتعجبون منه ويسخرون ورابعها أن تلك السفينة كانت كبيرة وهو كان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جداً وكانوا يقولون ليس ههنا ماء ولا يمكنك نقلها إلى الأنهار العظيمة وإلى البحار فكانوا يعدون ذلك من باب السفه والجنون وخامسها أنه لما طالت مدته مع القوم وكان ينذرهم بالغرق وما شاهدوا من ذلك المعنى خبراً ولا أثراً غلب على ظنونهم كونه كاذباً في ذلك المقال فلما اشتغل بعمل السفينة لا جرم سخروا منه وكل هذه الوجوه محتملة
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه كان يقول إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ وفيه وجوه الأول التقدير إن تسخروا منا في هذه الساعة فإنا نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والخزي في الآخرة الثاني إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله تعالى وعذابه فأنتم أولى بالسخرية منا الثالث أن تستجهلونا فإنا نستجهلكم واستجهالكم أقبح وأشد لأنكم لا تشتجهلون إلا لأجل الجهل بحقيقة الأمر والاغترار بظاهر الحال كما هو عادة الأطفال والجهال
فإن قيل السخرية من آثار المعاصي فكيف يليق ذلك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام
قلنا إنه تعالى سمى المقابلة سخرية كما في قوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 )
أما قوله تعالى فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ أي فسوف تعلمون من هو أحق بالسخرية ومن هو أحمد عاقبة وفي قوله مَن يَأْتِيهِ وجهان أحدهما أن يكون استفهاماً بمعنى أي كأنه قيل فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب وعلى هذا الوجه فمحل ( من ) رفع بالابتداء والثاني أن يكون بمعنى الذي ويكون في محل النصب وقوله تعالى وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ أي يجب عليه وينزل به

حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) حَتَّى هي التي يبتدأ بعدها الكلام أدخلت على الجملة من الشرط والجزاء ووقعت غاية لقوله وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ أي فكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد
المسألة الثانية الأمر في قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا يحتمل وجهين الأول أنه تعالى بين أنه لا يحدث شيء إلا بأمر الله تعالى كما قال إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) فكان المراد هذا والثاني أن يكون المراد من الأمر ههنا هو العذاب الموعد به
المسألة الثالثة في التنور قولان أحدهما أنه التنورالذي يخبز فيه والثاني أنه غيره أما الأول وهو أنه التنور الذي يخبز فيه فهو قول جماعة عظيمة من المفسرين كابن عباس والحسن ومجاهد وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال إنه تنور لنوح عليه السلام وقيل كان لآدم قال الحسن كان تنوراً من حجارة وكان لحواء حتى صار لنوح عليه السلام واختلفوا في موضعه فقا الشعبي إنه كان بناحية الكوفة وعن علي رضي الله عنه أنه في مسجد الكوفة قال وقد صلى فيه سبعون نبياً وقيل بالشام بموضع يقال له عين وردان وهو قول مقاتل وقيل فار التنور بالهند وقيل إن امرأته كانت تخبز في ذلك التنور فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في الحال بوضع تلك الأشياء في السفينة
القول الثاني ليس المراد من التنور تنور الخبز وعلى هذا التقدير ففيه أقوال الأول أنه انفجر الماء من وجه الأرض كما قال فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ والعرب تسمي وجه الأرض تنوراً الثاني أن التنور أشرف موضع في الأرض وأعلى مكان فيها وقد أخرج إليه الماء من ذلك الموضع ليكون ذلك معجزة له وأيضاً المعنى أنه لما نبع الماء من أعالي الأرض ومن الأمكنة المرتفعة فشبهت لارتفاعها بالتنانير الثالث وَفَارَ التَّنُّورُ أي طلع الصبح وهو منقول عن علي رضي الله عنه الرابع وَفَارَ التَّنُّورُ يحتمل أن يكون معناه أشد الأمر كما يقال حمي الوطيس ومعنى الآية إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فانج

بنفسك ومن معك إلى السفينة
فإن قيل فما الأصح من هذه اقوال
قلنا الأصل حمل الكلام على حقيقته ولفظ التنور حقيقة في الموضع الذي يخبز فيه فوجب حمل اللفظ عليه ولا امتناع في العقل في أن يقال إن الماء نبع أولاً من موضع معين وكان ذلك الموضع تنوراً
فإن قيل ذكر التنور بالألف واللام وهذا إنما يكون معهود سابق معين معلوم عند السامع وليس في الأرض تنور هذا شأنه فوجب أن يحمل ذلك على أن المراد إذا رأيت الماء يشتد نبوعه والأمر يقوى فانج بنفسك وبمن معك
قلنا لا يبعد أن يقال إن ذلك التنور كان لنوح عليه السلام بأن كان تنور آدم أو حواء أو كان تنوراً عينه الله تعالى لنوح عليه السلام وعرفه أنك إذا رأيت الماء يفور فاعلم أن الأمر قد وقع وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى صرف الكلام عن ظاهره
المسألة الرابعة معنى فار نبع على قوة وشدة تشبيهاً بغليان القدر عند قوة النار ولا شبهة في أن نفس التنور لا يفور فالمراد فار الماء من التنور والذي روى أن فور التنور كان علامة لهلاك القوم لا يمتنع لأن هذه واقعة عظيمة وقد وعد الله تعالى المؤمنين النجاة فلا بد وأن يجعل لهم علامة بها يعرفون الوقت المعين فلا يبعد جعل هذه الحالة علامة لحدوث هذه الواقعة
المسألة الخامسة قال الليث التنور لفظة عمت بكل لسان وصاحبه تنار قال الأزهري وهذا يدل على أن الاسم قد يكون أعجمياً فتعربه العرب فيصير عربياً والدليل على ذلك أن الأصل تنار ولا يعرف في كلام العرب تنور قبل هذا ونظيره ما دخل في كلام العرب من كلام العجم الديباج والدينار والسندس والاستبرق فإن العرب لما تكلموا بهذه الألفاظ صارت عربية
واعلم أنه لما فار التنور فعند ذلك أمره الله تعالى بأن يحمل في السفينة ثلاثة أنواع من الأشياء فالأول قوله التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قال الأخفش تقول الاثنان هما زوجان قال تعالى وَمِن كُلّ شَى ْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( الذاريات 49 ) فالسماء زوج والأرض زوج والشتاء زوج والصيف زوج والنهار زوج والليل زوج وتقول للمرأة هي زوج وهو زوجها قال تعالى وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( النساء 1 ) يعني المرأة وقال وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( النجم 45 ) فثبت أن الواحد قد يقال له زوج ومما يدل على ذلك قوله تعالى ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ مّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ( الأنعام 143 )
إذا عرفت هذا فنقول الزوجان عبارة عن كل شيئين يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى والتقدير كل شيئين هما كذلك فاحمل منهما في السفينة اثنين واحد ذكر والآخر أنثى ولذلك قرأ حفص مِن كُلّ بالتنوين وأرادوا حمل من كل شيء زوجين اثنين الذكر زوج والأنثى زوج لا يقال عليه إن الزوجين لا يكونان إلا اثنين فما الفائدة في قوله زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ لأنا نقول هذا على مثال قوله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ ( النحل 51 ) وقوله نَفْخَة ٌ واحِدَة ٌ ( الحاقة 13 ) وأما على القراءة المشهورة فهذا السؤال غير وارد واختلفوا في أنه هل دخل في قوله زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ غير الحيوان أم لا فنقول أما الحيوان فداخل لأن قوله مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يدخل فيه كل الحيوانات وأما النبات فاللفظ لا يدل عليه إلا أنه بحسب قرينة الحال لا يبعد بسبب أن الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه وجاء في الروايات عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال لم يستطع نوح عليه السلام أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى وذلك أن نوحاً عليه السلام قال يا رب فمن أين أطعم الأسد إذا حملته قال تعالى ( فسوف أشغله عن الطعام ) فسلط الله تعالى عليه الحمى وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها فإن حاجة الفيل إلى الطعام أكثر وليس به حمى الثاني من الأشياء التي أمر الله نوحاً عليه السلام بحملها في السفينة

قوله تعالى وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ قالوا كانوا سبعة نوح عليه السلام وثلاثة أبناء له وهم سام وحام ويافث ولكل واحد منهم زوجة وقيل أيضاً كانوا ثمانية هؤلاء وزوجة نوح عليه السلام
وأما قوله إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فالمراد ابنه وامرأته وكانا كافرين حكم الله تعالى عليهم بالهلاك
فإن قيل الإنسان أشرف من جميع الحيوانات فما السبب أنه وقع الابتداء بذكر الحيوانات
قلنا الإنسان عاقل وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاك عن نفسه فلا حاجة فيه إلى المبالغة في الترغيب بخلاف السعي في تخليص سائر الحيوانات فلهذا السبب وقع الابتداء به
واعلم أن أصحابنا احتجوا بقوله إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب قالوا لأن قوله سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مشعر بأن كل من سبق عليه القول فإنه لا يتغير عن حاله وهو كقوله عليه الصلاة والسلام ( السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه )
النوع الثالث من تلك الأشياء قوله وَمَنْ ءامَنَ قالوا كانوا ثمانين قال مقاتل في ناحية الموصل قرية يقال لها قرية الثمانين سميت بذلك لأن هؤلاء لما خرجوا من السفينة بنوها فسميت بهذا الاسم وذكروا ماهو أزيد منه وما هو أنقص منه وذلك مما لا سبيل إلى معرفته إلا أن الله تعالى وصفهم بالقلة وهو قوله تعالى وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ
فإن قيل لما كان الذين آمنوا معه ودخلوا في السفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَة ٌ قَلِيلُونَ ( الشعراء 54 )
قلنا كلا اللفظين جائز والتقدير ههنا وما آمن معه إلا نفر قليل فأما الذي يروي أن إبليس دخل السفينة فبعيد لأنه من الجن وهو جسم ناري أو هوائي وكيف يؤثر الغرق فيه وأيضاً كتاب الله تعالى لم يدل عليه وخبر صحيح ما ورد فيه فالأولى ترك الخوض فيه
وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
أما قوله وَقَالَ يعني نوح عليه السلام لقومه ارْكَبُواْ والركوب العلو على ظهر الشيء ومنه ركوب الدابة وركوب السفينة وركوب البحر وكل شيء علا شيئاً فقد ركبه يقال ركبه الدين قال الليث وتسمي العرب من يركب السفينة راكب السفينة وأما الركبان والركب من ركبوا الدواب والإبل قال الواحدي ولفظة ( في ) في قوله ارْكَبُواْ فِيهَا لا يجوز أن تكون من صلة الركوب لأنه يقال ركبت السفينة ولا يقال ركبت في السفينة بل الوجه أن يقال مفعول اركبوا محذوف والتقدير اركبوا الماء في السفينة وأيضاً يجوز أن يكون فائدة هذه الزيادة أنه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها فلو قال اركبوها لتوهموا أنه أمرهم أن يكونوا على ظهر السفينة

أما قوله تعالى بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم مجريها بفتح الميم والباقون بضم الميم واتفقوا في مرساها أنه بضم الميم وقال صاحب ( الكشاف ) قرأ مجاهد مجريها ومرسيها بلفظ اسم الفاعل مجروري المحل صفتين لله تعالى قال الواحدي المجرى مصدر كالإجراء ومثله قوله رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً ( المؤمنون 29 ) أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ ( الإسراء 80 ) وأما من قرأ مجريها بفتح الميم فهو أيضاً مصدر مثل الجري واحتج صاحب هذه القراءة بقوله رَّحِيمٌ وَهِى َ تَجْرِى بِهِمْ ( هود 42 ) ولو كان مجراها لكان وهي تجريهم وحجة من ضم الميم أن جرت بهم وأجرتهم يتقاربان في المعنى فإذا قال تَجْرِى بِهِمْ فكأنه قال تجريهم وأما المرسي فهو أيضاً مصدر كالإرساء يقال رسا الشيء يرسو إذا ثبت وأرساه غيره قال تعالى وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ( النازعات 32 ) قال ابن عباس يريد تجري بسم الله وقدرته وترسو بسم الله وقدرته وقيل كان إذا أراد أن تجري بهم قال بِسْمِ اللَّهِ فتجري وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله مرساها فترسو
المسألة الثانية ذكروا في عامل الإعراب في بِسْمِ اللَّهِ وجوهاً الأول اركبوا بسم الله والثاني ابدؤا بسم الله والثالث بسم الله إجراؤها وإرساؤها وقيل إنها سارت لأول يوم من رجب وقيل لعشر مضين من رجب فصارت ستة أشهر واستوت يوم العاشر من المحرم على الجودي
المسألة الثالثة في الآية احتمالان
الاحتمال الأول أن يكون مجموع قوله وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا كلاماً واحداً والتقدير وقال اركبوا فيها بسم مجريها ومرساها يعني ينبغي أن يكون الركوب مقروناً بهذا الذكر
والاحتمال الثاني أن يكونا كلامين والتقدير أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب ثم أخبرهم بأن مجريها ومرساها ليس إلا بسم الله وأمره وقدرته
فالمعنى الأول يشير إلى أن الإنسان لا ينبغي أن يشرع في أمر من الأمور إلا ويكون في وقت الشروع فيه ذاكراً لاسم الله تعالى بالأذكار المقدسة حتى يكون ببركة ذلك الذكر سبباً لتمام ذلك المقصود
والمعنى الثاني يدل على أنه لما ركب السفينة أخبر القوم بأن السفينة ليست سبباً لحصول النجاة بل الواجب ربط الهمة وتعليق القلب بفضل الله تعالى وأخبرهم أنه تعالى هو المجري والمرسي للسفينة فإياكم أن تعولوا على السفينة بل يجب أن يكون تعويلكم على فضل الله فإنه هو المجري والمرسي لها فعلى التقدير الأول كان نوح عليه السلام وقت ركوب السفينة في مقام الذكر وعلى التقدير الثاني كان في مقام الفكر والبراءة عن الحول والقوة وقطع النظر عن الأسباب واستغراق القلب في نور جلال مسبب الأسباب
واعلم أن الإنسان إذا تفكر في طلب معرفة الله تعالى بالدليل والحجة فكأنه جلس في سفينة التفكر والتدبر وأمواج الظلمات والضلالات قد علت تلك الجبال وارتفعت إلى مصاعد القلال فإذا ابتدأت سفينة الفكرة والروية بالحركة وجب أن يكون هناك اعتماده على الله تعالى وتضرعه إلى الله

تعالى وأن يكون بلسان القلب ونظر العقل يقول بسم الله مجريها ومرساها حتى تصل سفينة فكره إلى ساحل النجاة وتتخلص عن أمواج الضلالات
وأما قوله إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ففيه سؤال وهو أن ذلك الوقت وقت الإهلاك وإظهار القهر فكيف يليق به هذا الذكر
وجوابه لعل القوم الذين ركبوا السفينة اعتقدوا في أنفسهم أنا إنما نجونا ببركة علمنا فالله تعالى نبههم بهذا الكلام لإزالة ذلك العجب منهم فإن الإنسان لا ينفك عن أنواع الزلات وظلمات الشهوات وفي جميع الأحوال فهو محتاج إلى إعانة الله وفضله وإحسانه وأن يكون رحيماً لعقوبته غفوراً لذنوبه
وَهِى َ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ
واعلم أن قوله وَهِى َ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ مسائل
المسألة الأولى قوله وَهِى َ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ متعلق بمحذوف والتقدير وقال اركبوا فيها فركبوا فيها يقولون بسم الله وهي تجري بهم في موج كالجبال
المسألة الثانية الأمواج العظيمة إنما تحدث عند حصول الرياح القوية الشديدة العاصفة فهذا يدل على أنه حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة شديدة والمقصود منه بيان شدة الهول والفزع
المسألة الثالثة الجريان في الموج هو أن تجري السفينة داخل الموج وذلك يوجب الغرق فالمراد أن الأمواج لما أحاطت بالسفينة من الجوانب شبهت تلك السفينة بما إذا جرت في داخل تلك الأمواج
ثم حكى الله تعالى عنه أنه نادى ابنه وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أنه كان ابناً له وفيه أقوال
القول الأول أنه ابنه في الحقيقة والدليل عليه أنه تعالى نص عليه فقال وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ونوح أيضاً نص عليه فقال أَوْ بَنِى وصرف هذا اللفظ إلى أنه رباه فأطلق عليه اسم الابن لهذا السبب صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة وأنه لا يجوز والذين خالفوا هذا الظاهر إنما خالفوه لأنهم استبعدوا أن يكون ولد الرسول المعصوم كافراً وهذا بعيد فإنه ثبت أن والد رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) كان كافراً ووالد إبراهيم عليه السلام كان كافراً بنص القرآن فكذلك ههنا ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه عليه السلام لما قال رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) فكيف ناداه مع كفره

فأجابوا عنه من وجوه الأول أنه كان ينافق أباه فظن نوح أنه مؤمن فلذلك ناداه ولولا ذلك لما أحب نجاته والثاني أنه عليه السلام كان يعلم أنه كافر لكنه ظن أنه لما شاهد الغرق والأهوال العظيمة فإنه يقبل الإيمان فصار قوله مَعْزِلٍ يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا كالدلالة على أنه طلب منه الإيمان وتأكد هذا بقوله وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ أي تابعهم في الكفر واركب معنا والثالث أن شفقة الأبوة لعلها حملته على ذلك النداء والذي تقدم من قوله إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ كان كالمجمل فلعله عليه السلام جوز أن لا يكون هو داخلاً فيه
القول الثاني أنه كان ابن امرأته وهو قول محمد بن علي الباقر وقول الحسن البصري ويروى أن علياً رضي الله عنه قرأ وَنَادَى نُوحٌ والضمير لامرأته وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير نُوحٌ ابْنَهُ بفتح الهاء يريد أن ابنها إلا أنهما اكتفيا بالفتحة عن الألف وقال قتادة سألت الحسن عنه فقال والله ما كان ابنه فقلت إن الله حكى عنه أنه قال إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى وأنت تقول ما كان ابناً له فقال لم يقل إنه مني ولكنه قال من أهلي وهذا يدل على قولي
القول الثالث أنه ولد على فراشه لغير رشدة والقائلون بهذا القول احتجوا بقوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط فخانتاهما وهذا قول خبيث يجب صون منصب الأنبياء عن هذه الفضيحة لا سيما وهو على خلاف نص القرآن أما قوله تعالى فَخَانَتَاهُمَا فليس فيه أن تلك الخيانة إنما حصلت بالسبب الذي ذكروه قبل لابن عباس رضي الله عنهما ما كانت تلك الخيانة فقال كانت امرأة نوح تقول زوجي مجنون وامرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا به ثم الدليل القاطع على فساد هذا المذهب قوله تعالى الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيّبَاتُ لِلطَّيّبِينَ وَالطَّيّبُونَ لِلْطَّيّبَاتِ ( النور 26 ) وأيضاً قوله تعالى الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً أَوْ مُشْرِكَة ً وَالزَّانِيَة ُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( النور 3 ) وبالجملة فقد دللنا على أن الحق هو مقول الأول
وأما قوله وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ فاعلم أن المعزل في اللغة معناه موضع منقطع عن غيره وأصله من العزل وهو التنحية والإبعاد تقول كنت بمعزل عن كذا أي بموضع قد عزل منه
واعلم أن قوله وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ لا يدل على أنه في معزل من أي شيء فلهذا السبب ذكروا وجوهاً الأول أنه كان في معزل من السفينة لأنه كان يظن أن الجبل يمنعه من الغرق الثاني أنه كان في معزل عن أبيه وإخوته وقومه الثالث أنه كان في معزل من الكفار كأنه انفرد عنهم فظن نوح عليه السلام أن ذلك إنما كان لأنه أحب مفارقتهم
أما قوله يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ فنقول قرأ حفص عن عاصم أَوْ بَنِى بفتح الياء في جميع القرآن والباقون بالكسر قال أبو علي الوجه الكسر وذلك أن اللام من ابن ياء أو واو فإذا صغرت ألحقت ياء التحقير فلزم أن ترد اللام المحذوفة وإلا لزم أن تحرك ياء التحقير بحركات الإعراب لكنها لا تحرك لأنها لو حركت لزم أن تنقلب كما تنقلب سائر حروف المد واللين إذا كانت حروف إعراب نحو عصا وقفا ولو انقلبت بطلت دلالتها على التحقير ثم أضفت إلى نفسك اجتمعت ثلاث آيات الأولى منها للتحقير والثانية لام الفعل والثالثة التي للإضافة تقول هذا بني فإذا ناديته صار فيه وجهان إثبات الياء

وحذفها والاختيار حذف الياء التي للإضافة وإبقاء الكسرة دلالة عليه نحو يا غلام ومن قرأ أَوْ بَنِى بفتح الياء فإنه أراد الإضافة أيضاً كما أرادها من قرأ بالكسر لكنه أبدل من الكسرة الفتحة ومن الياء الألف تخفيفا فصار يا بنيا كما قال يا ابنة عما لا تلومي واهجعي
ثم حذف الألف للتخفيف
واعلم أنه تعالى لما حكى عن نوح عليه السلام أنه دعاه إلى أن يركب السفينة حكى عن ابنه أنه قال سَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاء وهذا يدل على أن الابن كان متمادياً في الكفر مصراً عليه مكذباً لأبيه فيما أخبر عنه فعند هذا قال نوح عليه السلام لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وفيه سؤال وهو أن الذي رحمه الله معصوم فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم وهو قوله لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وذكروا في الجواب طرقاً كثيرة
الوجه الأول أنه تعالى قال قبل هذه الآية وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( هود 41 ) فبين أنه تعالى رحيم وأنه برحمته يخلص هؤلاء الذين ركبوا السفينة من آفة الغرق
إذا عرفت هذا فنقول إن ابن نوح عليه السلام لما قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال نوح عليه السلام أخطأت لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ والمعنى إلا ذلك الذي ذكرت أنه برحمته يخلص هؤلاء من الغرق فصار تقدير الآية لا عاصم اليوم من عذاب الله إلا الله الرحيم وتقديره لا فرار من الله إلا إلى الله وهو نظير قوله عليه السلام في دعائه ( وأعوذ بك منك ) وهذا تأويل في غاية الحسن
الوجه الثاني في التأويل وهو الذي ذكره صاحب ( حل العقد ) أن هذا الاستثناء وقع من مضمر هو في حكم الملفوظ لظهور دلالة اللفظ عليه والتقدير لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا من رحم وهو كقولك لا نضرب اليوم إلا زيداً فإن تقديره لا تضرب أحداً إلا زيداً إلا أنه ترك التصريح به لدلالة اللفظ عليه فكذا ههنا
الوجه الثالث في التأويل أن قوله لاَ عَاصِمَ أي لاذا عصمة كما قالوا رامح ولابن ومعناه ذو رمح وذو لبن وقال تعالى مِن مَّاء دَافِقٍ ( الطارق 6 ) و عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) ومعناه ما ذكرنا فكذا ههنا وعلى هذا التقدير العاصم هو ذو العصمة فيدخل فيه المعصوم وحينئذ يصح استثناء قوله إِلاَّ مَن رَّحِمَ منه
الوجه الرابع قوله لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ عنى بقوله إلا من رحم نفسه لأن نوحاً وطائفته هم الذين خصهم الله تعالى برحمته والمراد لا عاصم لك إلا الله بمعنى أن بسببه تحصل رحمة الله كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه السلام في قوله وَرَسُولاً إِلَى ( آل عمران 49 ) لأجل أن الإحياء حصل بدعائه
الوجه الخامس أن قوله إِلاَّ مَن رَّحِمَ استثناء منقطع والمعنى لكن من رحم الله معصوم ونظيره قوله تعالى مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ ( النساء 157 ) ثم إنه تعالى بين بقوله وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ

وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ وَياسَمَآءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِى َ الاٌّ مْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِى ِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
اعلم أن المقصود من هذا الكلام وصف آخر لواقعة الطوفان فكان التقدير أنه لما انتهى أمر الطوفان قيل كذا وكذا وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِى مَاءكِ يقال بلع الماء يبلعه بلعاً إذا شربه وابتلع الطعام ابتلاعاً إذا لم يمضغه وقال أهل اللغة الفصيح بلع بكسر اللام يبلع بفتحها مَاءكِ وَياسَمَاء أَقْلِعِى يقال أقلع الرجل عن عمله إذا كف عنه وأقلعت السماء بعدما مطرت إذا أمسكت وَغِيضَ الْمَاء يقال غاض الماء يغيض غيضاً ومغاضاً إذا نقص وغضته أنا وهذا من باب فعل الشيء وفعلته أنا ومثله جبر العظم وجبرته وفغر الفم وفغرته ودلع اللسان ودلعته ونقص الشيء ونقصته فقوله وَغِيضَ الْمَاء أي نقص وما بقي منه شيء
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ كثيرة كل واحد منها دال على عظمة الله تعالى وعلو كبريائه فأولها قوله وَقِيلَ وذلك لأن هذا يدل على أنه سبحانه في الجلال والعلو والعظمة بحيث أنه متى قيل قيل لم ينصرف العقل إلا إليه ولم يتوجه الفكر إلا إلى أن ذلك القائل هو هو وهذا تنبيه من هذا الوجه على أنه تقرر في العقول أنه لا حاكم في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والعالم السفلي إلا هو وثانيها قوله الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِى مَاءكِ وَياسَمَاء أَقْلِعِى فإن الحس يدل على عظمة هذه الأجسام وشدتها وقوتها فإذا شعر العقل بوجود موجود قاهر لهذه الأجسام مستول عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد صار ذلك سبباً لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله تعالى وعلو قهره وكمال قدرته ومشيئته وثالثها أن السماء والأرض من الجمادات فقوله وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَاء مشعر بحسب الظاهر على أن أمره وتكليفه نافذ في الجمادات فعند هذا يحكم الوهم بأنه لما كان الأمر كذلك فلأن يكون أمره نافذاً على العقلاء كان أولى وليس مرادي منه أنه تعالى يأمر الجمادات فإن ذلك باطل بل المراد أن توجيه صيغة الأمر بحسب الظاهر على هذه الجمادات القوية الشديدة يقرر في الوهم نوع عظمته وجلاله تقريراً كاملاً
وأما قوله وَقُضِى َ الاْمْرُ فالمراد أن الذي قضى به وقدره في الأزل قضاء جزماً حتماً فقد وقع تنبيهاً على أن كل ما قضى الله تعالى فهو واقع في وقته وأنه لا دافع لقضائه ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه
فإن قيل كيف يليق بحكمة الله تعالى أن يغرق الأطفال بسبب جرم الكفار
قلنا الجواب عنه من وجهين الأول أن كثيراً من المفسرين يقولون إن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ سنه إلى الأربعين
ولقائل أن يقول لو كان الأمر على ما ذكرتم لكان ذلك آية عجيبة قاهرة ويبعد مع ظهورها

استمرارهم على الكفر وأيضاً فهب أنكم ذكرتم ما ذكرتم فما قولكم في إهلاك الطير والوحش مع أنه لا تكليف عليها ألبتة
والجواب الثاني وهو الحق أنه لا اعتراض على الله تعالى في أفعاله لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 ) وأما المعتزلة فهم يقولون إنه تعالى أغرق الأطفال والحيوانات وذلك يجري مجرى إذنه تعالى في ذبح هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة الشديدة
وأما قوله تعالى وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِى ّ فالمعنى واستوت السفينة على جبل بالجزيرة يقال له الجودي وكان ذلك الجبل جبلاً منخفضاً فكان استواء السفينة عليه دليلاً على انقطاع مادة ذلك الماء وكان ذلك الاستواء يوم عاشوراء
وأما قوله تعالى وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ففيه وجهان الأول أنه من كلام الله تعالى قال لهم ذلك على سبيل اللعن والطرد والثاني أن يكون ذلك من كلام نوح عليه السلام وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام ولأنه جار مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق

بداية الجزء الثامن عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن قوله رَبّ إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى فقد ذكرنا الخلاف في أنه هل كان ابناً له أم لا فلا نعيده ثم إنه تعالى ذكر أنه قال قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ واعلم أنه لما ثبت بالدليل أنه كان ابناً له وجب حمل قوله إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ على أحد وجهين أحدهما أن يكون المراد أنه ليس من أهل دينك والثاني المراد أنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك والقولان متقاربان
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أن العبرة بقرابة الدين لا بقرابة النسب فإن في هذه الصورة كانت قرابة النسب حاصلة من أقوى الوجوه ولكن لما انتفت قرابة الدين لا جرم نفاه الله تعالى بأبلغ الألفاظ وهو قوله إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ
ثم قال تعالى إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ قرأ الكسائي عمل على صيغة الفعل الماضي وغير بالنصب والمعنى إن ابنك عمل عملاً غير صالح يعني أشرك وكذب وكلمة غَيْرِ نصب لأنها نعت لمصدر محذوف وقرأ الباقون عمل بالرفع والتنوين وفيه وجهان الأول أن الضمير في قوله إنه عائد إلى السؤال يعني أن هذا السؤال عمل وهو قوله إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ غير صالح لأن طلب نجاة الكافر بعد أن سبق الحكم الجزم بأنه لا ينجي أحداً منهم سؤال باطل الثاني أن يكون هذا الضمير عائداً إلى الابن وعلى هذا التقدير ففي وصفه بكوه عملاً غير صالح وجوه الأول أن الرجل إذا كثر عمله وإحسانه يقال له إنه علم وكرم وجود فكذا ههنا لما كثر إقدام ابن نوح على الأعمال الباطلة حكم عليه بأنه

في نفسه عمل باطل الثاني أن يكون المراد أنه ذو عمل باطل فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه الثالث قال بعضهم معنى قوله إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ أي إنه ولد زنا وهذا القول باطل قطعاً
ثم إنه تعالى قال لنوح عليه السلام فَلاَ تَسْأَلْنى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى احتج بهذه الآية من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام من وجوه
الوجه الأول أن قراءة عمل بالرفع والتنوين قراءة متواترة فهي محكمة وهذا يقتضي عود الضمير في قوله إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ إما إلى ابن نوح وإما إلى ذلك السؤال فالقول بأنه عائد إلى ابن نوح لا يتم إلا بإضمار وهو خلاف الظاهر ولا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة ولا ضرورة ههنا لأنا إذا حكمنا بعود الضمير إلى السؤال المتقدم فقد استغنينا عن هذا الضمير فثبت أن هذا الضمير عائد إلى هذا السؤال فكان التقدير أن هذا السؤال عمل غير صالح أي قولك إن ابني من أهلي لطلب نجاته عمل غير صالح وذلك يدل على أن هذا السؤال كان ذنباً ومعصية
الوجه الثاني أن قوله فَلاَ تَسْأَلْنى نهي له عن السؤال والمذكور السابق هو قوله إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى فدل هذا على أنه تعالى نهاه عن ذلك السؤال فكان ذلك السؤال ذنباً ومعصية
الوجه الثالث أن قوله فَلاَ تَسْأَلْنى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يدل على أن ذلك السؤال كان قد صدر لا عن العلم والقول بغير العلم ذنب لقوله تعالى وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( البقرة 169 )
الوجه الرابع أن قوله تعالى إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ يدل على أن ذلك السؤال كان محض الجهل وهذا يدل على غاية التقريع ونهاية الزجر وأيضاً جعل الجهل كناية عن الذنب مشهور في القرآن قال تعالى يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَة ٍ ( النساء 17 ) وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( البقرة 67 )
الوجه الخامس أن نوحاً عليه السلام اعترف بإقدامه على الذنب والمعصية في هذا المقام فإنه قال إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ واعترافه بذلك يدل على أنه كان مذنباً
الوجه السادس في التمسك بهذه الآية أن هذه الآية تدل على أن نوحاً نادى ربه لطلب تخليص ولده من الغرق والآية المتقدمة وهي قوله وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وقال مَعْزِلٍ يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا تدل على أنه عليه السلام طلب من ابنه الموافقة فنقول إما أن يقال إن طلب هذا المعنى من الله كان سابقاً على طلبه من الولد أو كان بالعكس والأول باطل لأن بتقدير أن يكون طلب هذا المعنى من الله تعالى سابقاً على طلبه من الابن لكان قد سمع من الله أنه تعالى لا يخلص ذلك الابن من الغرق وأنه تعالى نهاه عن ذلك الطلب وبعد هذا كيف قال له مَعْزِلٍ يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ وأما إن قلنا إن هذا الطلب من الابن كان متقدماً فكان قد سمع من الابن قوله سَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاء وظهر بذلك كفره فكيف طلب من الله تخليصه وأيضاً أنه تعالى أخبر أن نوحاً لما طلب ذلك منه

وامتنع هو صار من المغرقين فكيف يطلب من الله تخليصه من الغرق بعد أن صار من المغرقين فهذه الآية من هذه الوجوه الستة تدل على صدور المعصية من نوح عليه السلام
واعلم أنه لما دلت الدلائل الكثيرة على وجوب تنزيه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام من المعاصي وجب حمل هذه الوجوه المذكورة على ترك الأفضل والأكمل وحسنات الأبرار سيئات المقربين فلهذا السبب حصل هذا العتاب والأمر بالاستغفار ولا يدل على سابقة الذنب كما قال إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ( النصر 1 3 ) ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجاً ليست بذنب يوجب الاستغفار وقال تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( محمد 19 ) وليس جميعهم مذنبين فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكون بسبب ترك لأفضل
المسألة الثانية قرأ نافع برواية ورش وإسمعيل بتشديد النون وإثبات الياء تَسْأَلْنى وقرأ ابن عامر ونافع برواية قالون بتشديد النون وكسرها من غير إثبات الياء وقرأ أبو عمرو بتخفيف النون وكسرها وحذف الياء تسألن أما التشديد فللتأكيد وأما إثبات الياء فعلى الأصل وأما ترك التشديد والحذف فللتخيف من غير إخلال
واعلم أنه تعالى لما نهاه عن ذلك السؤال حكى عنه أنه قال قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ والمعنى أنه تعالى لما قال له فَلاَ تَسْأَلْنى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فقال عند ذلك قبلت يا رب هذا التكليف ولا أعود إليه إلا أني لا أقدر على الاحتراز منه إلا بإعانتك وهدايتك فلهذا بدأ أولاً بقوله إِنّى أَعُوذُ بِكَ
واعلم أن قوله إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ إخبار عما في المستقبل أي لا أعود إلى هذا العمل ثم أشتغل بالاعتذار عما مضى فقال وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ وحقيقة التوبة تقتضي أمرين أحدهما في المستقبل وهو العزم على الترك وإليه الإشارة بقوله إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ والثاني في الماضي وهو الندم على ما مضى وإليه الإشارة بقوله وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ ونختم هذا الكلام بالبحث عن الزلة التي صدرت عن نوح عليه السلام في هذا المقام فنقول إن أمة نوح عليه السلام كانوا على ثلاثة أقسام كافر يظهر كفره ومؤمن يعلم إيمانه وجمع من المنافقين وقد كان حكم المؤمنين هو النجاة وحكم الكافرين هو الغرق وكان ذلك معلوماً وأما أهل النفاق فبقي حكمهم مخفياً وكان ابن نوح منهم وكان يجوز فيه كونه مؤمناً وكانت الشفقة المفرطة التي تكون من الأب في حق الابن تحمله على حمل أعماله وأفعاله لا على كونه كافراً بل على الوجوه الصحيحة فلما رآه بمعزل عن القوم طلب منه أن يدخل السفينة فقال سَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاء وذلك لا يدل على كفره لجواز أن يكون قد ظن أن الصعود على الجبل يجري مجرى الركوب في السفينة في أنه يصونه عن الغرق وقول نوح لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ لا يدل إلا على أنه عليه السلام كان يقرر عند بنه أنه لا ينفعه إلا الإيمان والعمل الصالح وهذا أيضاً لا يدل على أنه علم من ابنه أنه كان كافراً فعند هذه الحالة كان قد بقي في قلبه ظن أن ذلك الابن مؤمن فطلب من الله

تعالى تخليصه بطريق من الطرق إما بأن يمكنه من الدخول في السفينة وإما أن يحفظه على قلة جبل فعند ذلك أخبره الله تعالى بأنه منافق وأنه ليس من أهل دينه فالزلة الصادرة عن نوح عليه السلام هو أنه لم يستقص في تعريف ما يدل على نفاقه وكفره بل اجتهد في ذلك وكان يظن أنه مؤمن مع أنه أخطأ في ذلك الاجتهاد لأنه كان كافراً فلم يصدر عنه إلا الخطأ في هذا الاجتهاد كما قررنا ذلك في أن آدم عليه السلام لم تصدر عنه تلك الزلة إلا لأنه أخطأ في هذا الاجتهاد فثبت بما ذكرنا أن الصادر عن نوح عليه السلام ما كان من باب الكبائر وإنما هو من باب الخطأ في الاجتهاد والله أعلم
قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى أخبر عن السفينة أنها استوت على الجودي فهناك قد خرج نوح وقومه من السفينة لا محالة ثم إنهم نزلوا من ذلك الجبل إلى الأرض فقوله اهْبِطْ يحتمل أن يكون أمراً بالخروج من السفينة إلى أرض الجبل وأن يكون أمراً بالهبوط من الجبل إلى الأرض المستوية
المسألة الثانية أنه تعالى وعده عند الخروج بالسلامة أولاً ثم بالبركة ثانياً أما الوعد بالسلامة فيحتمل وجهين الأول أنه تعالى أخبر في الآية المتقدمة أن نوحاً عليه السلام تاب عن زلته وتضرع إلى الله تعالى بقوله وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ ( هود 47 ) وهذا التضرع هو عين التضرع الذي حكاه الله تعالى عن آدم عليه السلام عند توبته من زلته وهو قوله رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( الأعراف 23 ) فكان نوح عليه السلام محتاجاً إلى أن بشره الله تعالى بالسلامة من التهديد والوعيد فلما قيل له قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مّنَّا حصل له الأمن من جمبع المكاره المتعلقة بالدين والثاني أن ذلك الغرق لما كان عاماً في جميع الأرض فعند ما خرج نوح عليه السلام من السفينة علم أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان فكان كالخائف في أنه كيف يعيش وكيف يدفع جميع الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب فلما قال الله تعالى اهْبِطْ بِسَلَامٍ مّنَّا زال عنه ذلك الخوف لأن ذلك يدل على حصول السلامة من الآفات ولا يكون ذلك إلا مع الأمن وسعة الرزق ثم إنه تعالى لما وعده بالسلامة أردفه بأن وعده بالبركة هي عبارة عن الدوام والبقاء والثبات ونيل الأمل ومنه بروك الإبل ومنه البركة لثبوت الماء فيها ومنه تبارك وتعالى أي ثبت تعظيمه ثم اختلف المفسرون في تفسير هذا الثبات والبقاء
فالقول الأول أنه تعالى صير نوحاً أبا البشر لأن جميع من بقي كانوا من نسله وعند هذا قال هذا القائل إنه لما خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه ممن لم يكن من ذريته ولم يحصل النسل إلا من

ذريته فالخلق كلهم من نسله وذريته وقال آخرون لم يكن في سفينة نوح عليه السلام إلا من كان من نسله وذريته وعلى التقديرين فالخلق كلهم إنما تولدوا منه ومن أولاده والدليل عليه قوله تعالى وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ( الصافات 77 ) فثبت أن نوحاً عليه السلام كان آدم الأصغر فهذا هو المراد من البركات التي وعده الله بها
والقول الثاني أنه تعالى لما وعده بالسلامة من الآفات وعده بأن موجبات السلامة والراحة والفراغة يكون في التزايد والثبات والاستقرار ثم إنه تعالى لما شرفه بالسلامة والبركة شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال وَعَلَى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ واختلفوا في المراد منه على ثلاثة أقوال منهم من حمله على أولئك الأقوام الذين نجوا معه وجعلهم أمماً وجماعات لأنه ما كان في ذلك الوقت في جميع الأرض أحد من البشر إلا هم فلهذا السبب جعلهم أمماً ومنهم من قال بل المراد ممن معك نسلاً وتولداً قالوا ودليل ذلك أنه ما كان معه إلا الذين آمنوا وقد حكم الله تعالى عليهم بالقلة في قوله تعالى وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ( هود 40 ) ومنهم من قال المراد من ذلك مجموع الحاضرين مع الذين سيولدون بعد ذلك والمختار هو القول الثاني ومن في قوله مّمَّن مَّعَكَ لابتداء الغاية والمعنى وعلى أمم ناشئة من الذين معك
واعلم أنه تعالى جعل تلك الأمم الناشئة من الذين معه على قسمين أحدهما الذين عطفهم على نوح في وصول سلام الله وبركاته إليهم وهم أهل الإيمان والثاني أمم وصفهم بأنه تعالى سيمتعهم مدة في الدنيا ثم في الآخرة يمسهم عذاب أليم فحكم تعالى بأن الأمم الناشئة من الذين كانوا مع نوح عليه السلام لا بد وأن ينقسموا إلى مؤمن وإلى كافر قال المفسرون دخل في تلك السلامة كل مؤمن وكل مؤمنة إلى يوم القيامة ودخل في ذلك المتاع وفي ذلك العذاب كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة ثم قال أهل التحقيق إنه تعالى إنما عظم شأن نوح بإيصال السلامة والبركات منه إليه لأنه قال بِسَلَامٍ مّنَّا وهدا يدل على أن الصديقين لا يفرحون بالنعمة من حيث إنها نعمة ولكنهم إنما يفرحون بالنعمة من حيث إنها من الحق وفي التحقيق يكون فرحهم بالحق وطلبهم للحق وتوجههم إلى الحق وهذا مقام شريف لا يعرفه إلا خواص الله تعالى فإن الفرح بالسلامة وبالبركة من حيث هما سلامة وبركة غير والفرح بالسلامة والبركة من حيث إنهما من الحق غير والأول نصيب عامة الخلق والثاني نصيب المقربين ولهذا السبب قال بعضهم من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول وأما أهل العقاب فقد قال في شرح أحوالهم وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ فحكم بأنه تعالى يعطيهم نصيباً من متاع الدنيا فدل ذلك على خساسة الدنيا فإنه تعالى لما ذكر أحوال المؤمنين لم يذكر ألبتة أنه يعطيهم الدنيا أم لا ولما ذكر أحوال الكافرين ذكر أنه يعطيهم الدنيا وهذا تنبيه عظيم على خساسة السعادات الجسمانية والترغيب في المقامات الروحانية
تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَة َ لِلْمُتَّقِينَ

واعلم أنه تعالى لما شرح قصة نوح عليه السلام على التفصيل قال تِلْكَ أي تلك الآيات التي ذكرناها وتلك التفاصيل التي شرحناها من أنباء الغيب أي من الأخبار التي كانت غائبة عن الخلق فقوله تِلْكَ في محل الرفع على الابتداء و مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ الخبر و نُوحِيهَا إِلَيْكَ خبر ثان وما بعده أيضاً خبر ثالث
ثم قال تعالى مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ والمعنى أنك ما كنت تعرف هذه القصة بل قومك ما كانوا يعرفونها أيضاً ونظيره أن تقول لإنسان لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك
فإن قيل أليس قد كانت قصة طوفان نوح عليه السلام مشهورة عند أهل العلم
قلنا تلك القصة بحسب الإجمال كانت مشهورة أما التفاصيل المذكورة فما كانت معلومة
ثم قال فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَة َ لِلْمُتَّقِينَ والمعنى يا محمد اصبر أنت وقومك على أذى هؤلاء الكفار كما صبر نوح وقومه على أذى أولئك الكفار وفيه تنبيه على أن الصبر عاقبته النصر والظفر والفرح والسرور كما كان لنوح عليه السلام ولقومه
فإن قال قائل إنه تعالى ذكر هذه القصة في سورة يونس ثم إنه أعادها ههنا مرة أخرى فما الفائدة في هذا التكرير
قلنا إن القصة الواحدة قد ينتفع بها من وجوه ففي السورة الأولى كان الكفار يستعجلون نزول العذاب فذكر تعالى قصة نوح في بيان أن قومه كانوا يكذبونه بسبب أن العذاب ما كان يظهر ثم في العاقبة ظهر فكذا في واقعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي هذه السورة ذكر هذه القصة لأجل أن الكفار كانوا يبالغون في الإيحاش فذكر الله تعالى هذه القصة لبيان أن إقدام الكفار على الإيذاء والإيحاش كان حاصلاً في زمان نوح إلا أنه عليه السلام لما صبر نال الفتح والظفر فكن يا محمد كذلك لتنال المقصود ولما كان وجه الانتفاع بهذه القصة في كل سورة من وجه آخر لم يكن تكريرها خالياً عن الفائدة
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
اعلم أن هذا هو القصة الثانية من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة واعلم أن هذا

معطوف على قوله وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا ( الحديد 26 ) والتقدير ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً وقوله هُودًا عطف بيان
واعلم أنه تعالى وصف هوداً بأنه أخوهم ومعلوم أن تلك الأخوة ما كانت في الدين وإنما كانت في النسب لأن هوداً كان رجلاً من قبيلة عاد وهذه القبيلة كانت قبيلة من العرب وكانوا بناحية اليمن ونظيره ما يقال للرجل يا أخا تميم ويا أخا سليم والمراد رجل منهم
فإن قيل إنه تعالى قال في ابن نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ( هود 46 ) فبين أن قرابة النسب لا تفيد إذا لم تحصل قرابة الدين وههنا أثبت هذه الأخوة مع الاختلاف في الدين فما الفرق بينهما
قلنا المراد من هذا الكلام استمالة قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن قومه كانوا يستعبدون في محمد مع أنه واحد من قبيلتهم أن يكون رسولاً إليهم من عند الله فذكر الله تعالى أن هوداً كان واحداً من عاد وأن صالحاً كان واحداً من ثمود لإزالة هذا الاستبعاد
واعلم أنه تعالى حكى عن هود عليه السلام أنه دعا قومه إلى أنواع من التكاليف
فالنوع الأول أنه دعاهم إلى التوحيد فقال ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ وفيه سؤال وهو أنه كيف دعاهم إلى عبادة الله تعالى قبل أن أقام الدلالة على ثبوت الإله تعالى
قلنا دلائل وجود الله تعالى ظاهرة وهي دلائل الآفاق والأنفس وقلما توجد في الدنيا طائفة ينكرون وجود الإله تعالى ولذلك قال تعالى في صفة الكفار وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
قال مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي رحمه الله وختم له بالحسن دخلت بلاد الهند فرأيت أولئك الكفار مطبقين على الاعتراف بوجود الإله وأكثر بلاد الترك أيضاً كذلك وأنما الشأن في عبادة الأوثان فإنها آفة عمت أكثر أطراف الأرض وهكذا الأمر كان في الزمان القديم أعني زمان نوح وهود وصالح عليهم السلام فهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يمنعونهم من عبادة الأصنام فكان قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ معناه لا تعبدوا غير الله والدليل عليه أنه قال عقيبه مَالَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ وذلك يدل على أن المقصود من هذا الكلام منعهم عن الاشتغال بعبادة الأصنام
وأما قوله مَالَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ فقرىء غَيْرُهُ بالرفع صفة على محل الجار والمجرور وقرىء بالجر صفة على اللفظ
ثم قال إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يعني أنكم كاذبون في قولكم إن هذه الأصنام تحسن عبادتها أو في قولكم إنها تستحق العبادة وكيف لا يكون هذا كذباً وافتراء وهي جمادات لاحس لها ولا إدراك والإنسان هو الذي ركبها وصورها فكيف يليق بالإنسان الذي صنعها أن يعبدها وأن يضع الجبهة على التراب تعظيماً لها ثم إنه عليه الصلاة والسلام لما أرشدهم إلى التوحيد ومنعهم عن عبادة الأوثان قال و مُفْتَرُونَ ياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى وهو عين ما ذكره نوح عليه السلام وذلك لأن الدعوة إلى الله تعالى إذا كانت مطهرة عن دنس الطمع قوي تأثيرها في القلب

ثم قال أَفَلاَ تَعْقِلُونَ يعني أفلا تعقلون أني مصيب في المنع من عبادة الأصنام وذلك لأن العلم بصحة هذا المنع كأنه مركوز في بدائه العقول
وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّة ً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التكاليف التي ذكرها هود عليه السلام لقومه وذلك لأنه في المقام الأول دعاهم إلى التوحيد وفي هذا المقام دعاهم إلى الاستغفار ثم إلى التوبة والفرق بينهما قد تقدم في أول هذه السورة قال أبو بكر الأصم استغفروا أي سلوه أن يغفر لكم ما تقدم من شرككم ثم توبوا من بعده بالندم على ما مضى وبالعزم على أن لا تعدوا إلى مثله ثم إنه عليه السلام قال ( إنكم متى فعلتم ذلك فالله تعالى يكثر النعم عندكم ويقويكم على الانتفاع بتلك النعم ) وهذا غاية ما يراد من السعادات فإن النعم إن لم تكن حاصلة تعذر الانتفاع وإن كانت حاصلة إلا أن الحيوان قام به المنع من الانتفاع بها لم يحصل المقصود أيضاً أما إذا كثرت النعمة وحصلت القوة الكاملة على الانتفاع بها فههنا تحصل غاية السعادة والبهجة فقوله تعالى يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً إشارة إلى تكثير النعم لأن مادة حصول النعم هي الأمطار الموافقة وقوله وَيَزِدْكُمْ قُوَّة ً إِلَى قُوَّتِكُمْ إشارة إلى كمال حال القوى التي بها يمكن الانتفاع بتلك النعمة ولا شك أن هذه الكلمة جامعة في البشارة بتحصيل السعادات وأن الزيادة عليها ممتنعة في صريح العقل ويجب على العاقل أن يتأمل في هذه اللطائف ليعرف ما في هذا الكتاب الكريم من الأسرار المخفية وأما المفسرون فإنهم قالوا القوم كانوا مخصوصين في الدنيا بنوعين من الكمال أحدهما أن بساتينهم ومزارعهم كانت في غاية الطيب والبهجة والدليل عليه قوله إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ ( الفجر 7 8 ) والثاني أنهم كانوا في غاية القوة والبطش ولذلك قالوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة ً ( فصلت 15 ) ولما كان القوم مفتخرين على سائر الخلق بهذين الأمرين وعدهم هود عليه السلام أنهم لو تركوا عبادة الأصنام واشتغلوا بالاستغفار والتوبة فإن الله تعالى يقوي حالهم في هذين المطلوبين ويزيدهم فيها درجات كثيرة ونقل أيضاً أن الله تعالى لما بعث هوداً عليه السلام إليهم وكذبوه وحبس الله عنهم المطر سنين وأعقم أرحام نسائهم فقال لهم هود إن آمنتم بالله أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد فذلك قوله يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً والمدرار الكثير الدر وهو من أبنية المبالغة وقوله وَيَزِدْكُمْ قُوَّة ً إِلَى قُوَّتِكُمْ ففسروا هذه القوة بالمال والولد والشدة في الأعضاء لأن كل ذلكم ما يتقوى به الإنسان
فإن قيل حاصل الكلام هو أن هوداً عليه السلام قال لو اشتغلتم بعبادة الله تعالى لانفتحت عليكم أبواب الخيرات الدنيوية وليس الأمر كذلك لأنه عليه الصلاة والسلام قال ( خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) فكيف الجمع بينهما وأيضاً فقد جرت عادة القرآن بالترغيب في الطاعات بسبب ترتيب الخيرات الدنيوية والأخروية عليها فأما الترغيب في الطاعات لأجل ترتيب الخيرات الدنيوية عليها فذلك

لا يليق بالقرآن بل هو طريق مذكور في التوراة
الجواب أنه لما أكثر الترغيب في السعادات الأخروية لم يبعد الترغيب أيضاً في خير الدنيا بقدر الكفاية
وأما قوله وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ فمعناه لا تعرضوا عني وعما أدعوكم إليه وأرغبكم فيه مجرمين أي مصرين على إجرامكم وآثامكم
قَالُواْ ياهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَة ٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُو ءٍ قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُوا أَنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّة ٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن هود عليه السلام ما ذكره للقوم حكى أيضاً ما ذكره القوم له وهو أشياء أولها قولهم مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَة ٍ أي بحجة والبينة سميت بينة لأنها تبين الحق من الباطل ومن المعلوم أنه عليه السلام كان قد أظهر المعجزات إلا أن القوم بجهلهم أنكروها وزعموا أنه ما جاء بشيء من المعجزات وثانيها قولهم وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وهذا أيضاً ركيك لأنهم كانوا يعترفون بأن النافع والضار هو الله تعالى وأن الأصنام لا تنفع ولا تضر ومتى كان الأمر كذلك فقد ظهر في بديهة العقل أنه لا تجوز عبادتها وتركهم آلهتهم لا يكون عن مجرد قوله بل عن حكم نظر العقل وبديهة النفس وثالثها قوله وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ وهذا يدل على الإصرار والتقليد والجحود ورابعها قولهم إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء يقال اعتراه كذا إذا غشيه وأصابه والمعنى أنك شتمت آلهتنا فجعلتك مجنوناً وأفسدت عقلك ثم إنه تعالى ذكر أنهم لما قالوا ذلك قال هود عليه السلام إِنِى أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ وهو ظاهر
ثم قال فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ وهذا نظير ما قاله نوح عليه السلام لقومه فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ إلى قوله وَلاَ تُنظِرُونَ ( يونس 71 )
واعلم أن هذا معجزة قاهرة وذلك أن الرجل الواحد إذا أقبل على القوم العظيم وقال لهم بالغوا في عداوتي وفي موجبات إيذائي ولا تؤجلون فإنه لا يقول هذا إلا إذا كان واثقاً من عند الله تعالى بأنه يحفظه ويصونه عن كمد الأعداء

ثم قال مَّا مِن دَابَّة ٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا قال الأزهري الناصية عند العرب منبت الشعر في مقدم الرأس ويسمى الشعر النابت هناك ناصية باسم منبته
واعلم أن العرب إذا وصفوا إنساناً بالذلة والخضوع قالوا ما ناصية فلان إلا بيد فلان أي أنه مطيع له لأن كل من أخذت بناصيته فقد قهرته وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره فخوطبوا في القرآن بما يعرفون فقوله مَّا مِن دَابَّة ٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أي ما من حيوان إلا وهو تحت قهره وقدرته ومنقاد لقضائه وقدره
ثم قال إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وفيه وجوه الأول أنه تعالى لما قال مَّا مِن دَابَّة ٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أشعر ذلك بقدرة عالية وقهر عظيم فأتبعه بقوله إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ أي أنه وإن كان قادراً عليهم لكنه لا يظلمهم ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب قالت المعتزلة قوله مَّا مِن دَابَّة ٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا يدل على التوحيد وقوله إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ يدل على العدل فثبت أن الدين إنما يتم بالتوحيد والعدل والثاني أنه تعالى لما ذكر أن سلطانه قهر جميع الخلق أتبعه بقوله إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ يعني أنه لا يخفى عليه مستتر ولا يفوته هارب فذكر الصراط المستقيم وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه كما قال إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( الفجر 14 ) الثالث أن يكون المراد إِنَّ رَبّى يدل على الصراط المستقيم أي يحث أو يحملكم بالدعاء إليه
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ حَفِيظٌ
اعلم أن قوله فَإِن تَوَلَّوْاْ يعني فإن تتولوا ثم فيه وجهان الأول تقدير الكلام فإن تتولوا لم أعاتب على تقصير في الإبلاغ وكنتم محجوبين كأنه يقول أنتم الذين أصررتم على التكذيب الثاني فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ
ثم قال وَيَسْتَخْلِفُ رَبّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ يعني يخلق بعدكم من هو أطوع لله منكم وهذا إشارة إلى نزول عذاب الاستئصال ولا تضرونه شيئاً يعني أن إهلاككم لا ينقص من ملكه شيئاً
ثم قال إِنَّ رَبّى عَلَى كُلّ شَى ْء حَفِيظٌ وفيه ثلاثة أوجه الأول حفيظ لأعمال العباد حتى يجازيهم

عليها الثاني يحفظني من شركم ومكركم الثالث حفيظ على كل شيء يحفظه من الهلاك إذا شاء ويهلكه إذا شاء
وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَة ٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
اعلم أن قوله وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا أي عذابنا وذلك هو ما نزل بهم من الريح العقيم عذبهم الله بها سبع ليال وثمانية أيام تدخل في مناخرهم وتخرج من أدبارهم وتصرعهم على الأرض على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخل خاوية
فإن قيل فهذه الريح كيف تؤثر في إهلاكهم
قنلا يحتمل أن يكون ذلك لشدة حرها أو لشدة بردها أو لشده قوتها فتخطف الحيوان من الأرض ثم تضربه على الأرض فكل ذلك محمل
وأما قوله نَجَّيْنَا هُودًا فاعلم أنه يجوز إتيان البلية على المؤمن وعلى الكافر معاً وحينئذ تكون تلك البلية رحمة على المؤمن وعذاباً على الكافر فأما العذاب النازل بمن يكذب الأنبياء عليهم السلام فإنه يجب في حكمة الله تعالى أن ينجي المؤمن منه ولولا ذلك لما عرف كونه عذاباً على كفرهم فلهذا السبب قال الله تعالى ههنا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ
وأما قوله بِرَحْمَة ٍ مّنَّا ففيه وجوه الأول أراد أنه لا ينجو أحد وإن اجتهد في الإيمان والعمل الصالح إلا برحمة من الله والثاني المراد من الرحمة ما هداهم إليه من الإيمان بالله والعمل الصالح الثالث أنه رحمهم في ذلك الوقت وميزهم عن الكافرين في العقاب
وأما قوله وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ فالمراد من النجاة الأولى هي النجاة من عذاب الدنيا والنجاة الثانية من عذاب القيامة وإنما وصفه بكونه غليظاً تنبيهاً على أن العذاب الذي حصل لهم بعد موتهم بالنسبة إلى العذاب الذي وقعوا فيه كان عذاباً غليظاً والمراد من قوله تعالى وَنَجَّيْنَاهُمْ أي حكمنا بأنهم لا يستحقون ذلك العذاب الغليظ ولا يقعون فيه
واعلم أنه تعالى لما ذكر قصة عاد خاطب قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عَادٌ جَحَدُواْ فهو إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه تعالى قال سيروا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا ثم إنه تعالى جمع أوصافهم ثم ذكر عاقبة أحوالهم في الدنيا والآخرة فأما أوصافهم فهي ثلاثة
الصفة الأولى قوله جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ والمراد جحدوا دلالة المعجزات على الصدق أو الجحد ودلالة المحدثات على وجود الصانع الحكيم إن ثبت أنهم كانوا زنادقة
الصفة الثانية قوله وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ والسبب فيه أنهم إذا عصوا رسولاً واحداً فقد عصوا جميع الرسل لقوله تعالى لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( البقرة 285 ) وقيل لم يرسل إليهم إلا هود عليه السلام
الصفة الثالثة قوله وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ والمعنى أن السفلة كانوا يقلدون الرؤساء في قولهم

مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( المؤمنون 24 ) والمراد من الجبار المرتفع المتمرد العنيد العنود والمعاند وهو المنازع المعارض
واعلم أنه تعالى لما ذكر أوصافهم ذكر بعد ذلك أحوالهم فقال وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ أي جعل اللعن رديفاً لهم ومتابعاً ومصاحباً في الدنيا وفي الآخرة ومعنى اللعنة الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير
ثم إنه تعالى بين السبب الأصلي في نزول هذه الأحوال المكروهة بهم فقال أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ قيل أراد كفروا بربهم فحذف الباء وقيل الكفر هو الجحد فالتقدير ألا إن عاداً جحدوا ربهم وقيل هو من باب حذف المضاف أي كفروا نعمة ربهم
ثم قال أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ وفيه سؤالان
السؤال الأول اللعن هو البعد فلما قال وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ فما الفائدة في قوله أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ
والجواب التكرير بعبارتين مختلفتين يدل على غاية التأكيد
السؤال الثاني ما الفائدة في قوله لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
الجواب كان عاد عادين فالأولى القديمة هم قوم هود والثانية هم إرم ذات العماد فذكر ذلك لإزالة الاشتباه والثاني أن المبالغة في التنصيص تدل على مزيد التأكيد
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ قَالُواْ ياصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَاذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة وهي قصة صالح مع ثمود ونظمها مثل النظم المذكور في قصة هود إلا أن ههنا لما أمرهم بالتوحيد ذكر في تقريره دليلين
الدليل الأول قوله هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وفيه وجهان
الوجه الأول أن الكل مخلوقون من صلب آدم وهو كان مخلوقاً من الأرض وأقول هذا صحيح لكن فيه وجه آخر وهو أقرب منه وذلك لأن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث والمني إنما تولد

من الدم فالإنسان مخلوق من الدم والدم إنما تولد من الأغذية وهذه الأغذية إما حيوانية وإما نباتية والحيوانات حالها كحال الإنسان فوجب انتهاء الكل إلى النبات وظاهر أن تولد النبات من الأرض فثبت أنه تعالى أنشأنا من الأرض
والوجه الثاني أن تكون كلمة مِنْ معناها في التقدير أنشأكم في الأرض وهذا ضعيف لأنه متى أمكن حمل الكلام على ظاهره فلا حاجة إلى صرفه عنه وأما تقرير أن تولد الإنسان من الأرض كيف يدل على وجود الصانع فقد شرحناه مراراً كثيرة
الدليل الثاني قوله وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا وفيه ثلاثة أوجه الأول جعلكم عمارها قالوا كان ملوك فارس قد أكثروا في حفر الأنهار وغرس الأشجار لا جرم حصلت لهم الأعمار الطويلة فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه ما سبب تلك الأعمار فأوحى الله تعالى إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي وأخذ معاوية في إحياء أرض في آخر عمره فقيل له ما حملك عليه فقال ما حملني عليه إلا قول القائل ليس الفتى بفتى لا يستضاء به
ولا يكون له في الأرض آثار
الثاني أنه تعالى أطال أعماركم فيها واشتقاق وَاسْتَعْمَرَكُمْ من العمر مثل استبقاكم من البقاء والثالث أنه مأخوذ من العمرى أي جعلها لكم طول أعماركم فإذا متم انتقلت إلى غيركم
واعلم أن في كون الأرض قابلة للعمارات النافعة للإنسان وكون الإنسان قادراً عليها دلالة عظيمة على وجود الصانع ويرجع حاصله إلى ما ذكره الله تعالى في آية أخرى وهي قوله وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ( الأعلى 3 ) وذلك لأن حدوث الإنسان مع أنه حصل في ذاته العقل الهادي والقدرة على التصرفات الموافقة يدل على وجود الصانع الحكيم وكون الأرض موصوفة بصفات مطابقة للمصالح موافقة للمنافع يدل أيضاً على وجود الصانع الحكيم
أما قوله فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ فقد تقدم تفسيره
وأما قوله إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ يعني أنه قريب بالعلم والسمع مُّجِيبٌ دعاء المحتاجين بفضله ورحمته ثم بين تعالى أن صالحاً عليه السلام لما قرر هذه الدلائل قَالُواْ يأَبَانَا صَالِحٌ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هَاذَا وفيه وجوه الأول أنه لما كان رجلاً قوي العقل قوي الخاطر وكان من قبيلتهم قوي رجاؤهم في أن ينصر دينهم ويقوي مذهبهم ويقرر طريقتهم لأنه متى حدث رجل فاضل في قوم طمعوا فيه من هذا الوجه الثاني قال بعضهم المراد أنك كنت تعطف على فقرائنا وتعين ضعفاءنا وتعود مرضانا فقوي رجاؤنا فيك أنك من الأنصار والأحباب فكيف أظهرت العداوة والبغضة ثم إنهم أضافوا إلى هذا الكلام التعجب الشديد من قوله فَقَالُواْ قَالُواْ ياصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا والمقصود من هذا الكلام التمسك بطريق التقليد ووجوب متابعة الآباء والأسلاف ونظير هذا التعجب ما حكاه الله تعالى عن كفار مكة حيث قالوا أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ ( ص 5 ) ثم قالوا وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ والشك هو أن يبقى الإنسان متوقفاً بين النفي والإثبات والمريب هو الذي يظن به السوء فقوله وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ يعني به أنه لم يترجح في اعتقادهم صحة قوله وقوله مُرِيبٍ يعني أنه ترجح في اعتقادهم فساد قوله وهذا مبالغة في تزييف كلامه

قَالَ ياقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة ً مِّن رَّبِّى وَءَاتَانِى مِنْهُ رَحْمَة ً فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِيرٍ
اعلم أن قوله إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى ورد بحرف الشك وكان على يقين تام في أمره إلا أن خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبول فكأنه قال قدروا أني على بينة من ربي وأني نبي على الحقيقة وانظروا أني إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره فمن يمنعني من عذاب الله فما تزيدونني على هذاالتقدير غير تخسير وفي تفسير هذه الكلمة وجهان الأول أن على هذا التقدير تخسرون أعمالي وتبطلونها الثاني أن يكون التقدير فما تزيدونني بما تقولون لي وتحملوني عليه غير أن أخسركم أي أنسبكم إلى الخسران وأقول لكم إنكم خاسرون والقول الأول أقرب لأن قوله فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ( هود 63 ) كالدلالة على أنه أراد إن أتبعكم فيما أنتم عليه من الكفر الذي دعوتموني إليه لم أزدد إلا خسراناً في الدين فأصير من الهالكين الخاسرين
وَياقَوْمِ هَاذِهِ نَاقَة ُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَة ً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُو ءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ
اعلم أن العادة فيمن يدعي النبوة عند قوم يعبدون الأصنام أن يبتدىء بالدعوة إلى عبادة الله ثم يتبعه بدعوى النبوة لا بد وأن يطلبوا منه المعجزة وأمر صالح عليه السلام هكذا كان يروى أن قومه خرجوا في عيد لهم فسألوه أن يأتيهم بآية وأن يخرج لهم من صخرة معينة أشاروا إليها ناقة فدعا صالح ربه فخرجت الناقة كما سألوا
واعلم أن تلك الناقة كانت معجزة من وجوه الأول أنه تعالى خلقها من الصخرة وثانيها أنه تعالى خلقها في جوف الجبل ثم شق عنها الجبل وثالثها أنه تعالى خلقها حاملاً من غير ذكر ورابعها أنه خلقها على تلك الصورة دفعة واحدة من غير ولادة وخامسها ما روي أنه كان لها شرب يوم ولكل القوم شرب يوم آخر وسادسها أنه كان يحصل منها لبن كثير يكفي الخلق العظيم وكل من هذه الوجوه معجز قوي وليس في القرآن إلا أن تلك الناقة كانت آية ومعجزة فأما بيان أنها كانت معجزة من أي الوجوه فليس فيه بيانه

ثم قال فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ والمراد أنه عليه السلام رفع عن القوم مؤنتها فصارت مع كونها آية لهم تنفعهم ولا تضرهم لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها على ما روي أنه عليه السلام خاف عليها منهم لما شاهد من إصرارهم على الكفر فإن الخصم لا يحب ظهور حجة خصمه بل يسعى في إخفاءها وإبطالها بأقصى الإمكان فلهذا السبب كان يخاف من إقدامهم على قتلها فلهذا احتاط وقال وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء وتوعدهم إن مسوها بسوء بعذاب قريب وذلك تحذير شديد لهم من الإقدام على قتلها ثم بين الله تعالى أنهم مع ذلك عقروها وذبحوها ويحتمل أنهم عقروها لإبطال تلك الحجة وأن يكون لأنها ضيقت الشرب على القوم وأن يكون لأنهم رغبوا في شحمها ولحمها وقوله فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ يريد اليوم الثالث وهو قوله تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثم بين تعالى أن القوم عقروها فعند ذلك قال لهم صالح عليه السلام تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ ومعنى التمتع التلذذ بالمنافع والملاذ التي تدرك بالحواس ولما كان التمتع لا يحصل إلا للحي عبر به عن الحياة وقوله فِى دَارِكُمْ فيه وجهان الأول أن المراد من الدار البلد وتسمى البلاد بالديار لأنه يدار فيها أي يتصرف يقال ديار بكر أي بلادهم الثاني أن المراد بالديار الدنيا وقوله ذالِكَ وَعْدٌ مَكْذُوبٍ أي غير مكذب والمصدر قد يرد بلفظ المفعول كالمجلود والمعقول وبأيكم المفتون وقيل غير مكذوب فيه قال ابن عباس رضي الله عنهما أنه تعالى لما أمهلهم تلك الأيام الثلاثة فقد رغبهم في الإيمان وذلك لأنهم لما عقروا الناقة أنذرهم صالح عليه السلام بنزول العذاب فقالوا وما علامة ذلك فقال تصير وجوهكم في اليوم الأول مصفرة وفي الثاني محمرة وفي الثالث مسودة ثم يأتيكم العذاب في اليوم الرابع فلما رأوا وجوههم قد اسودت أيقنوا بالعذاب فاحتاطوا واستعدوا للعذاب فصبحهم اليوم الرابع وهي الصيحة والصاعقة والعذاب
فإن قيل كيف يعقل أن تظهر فيهم هذه العلامات مطابقة لقول صالح عليه السلام ثم يبقون مصرين على الكفر
قلنا ما دامت الأمارات غير بالغة إلى حد الجزم واليقين لم يمتنع بقاؤهم على الكفر وإذا صارت يقينية قطعية فقد انتهى الأمر إلى حد الإلجاء والإيمان في ذلك الوقت غير مقبول
فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَة ٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْى ِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ
اعلم أن مثل هذه الآية قد مضى في قصة عاد وقوله وَمِنْ خِزْى ِ يَوْمِئِذٍ فيه مسائل

المسألة الأولى الواو في قوله وَمِنْ خِزْى ِ واو العطف وفيه وجهان الأول أن يكون التقدير نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا من العذاب النازل بقومه ومن الخزي الذي لزمهم وبقي العار فيه مأثوراً عنهم ومنسوباً إليهم لأن معنى الخزي العيب الذي تظهر فضيحته ويستحيا من مثله فحذف ما حذف اعتماداً على دلالة ما بقي عليه الثاني أن يكون التقدير نجينا صالحاً برحمة منا ونجيناهم من خزي يومئذ
المسألة الثانية قرأ الكسائي ونافع في رواية ورش وقالون وإحدى الروايات عن الأعشى يَوْمَئِذٍ بفتح الميم وفي المعارج عَذَابِ يَوْمِئِذٍ ( المعارج 11 ) والباقون بكسرالميم فيهما فمن قرأ بالفتح فعلى أن يوم مضاف إلى إذ وأن إذ مبني والمضاف إلى المبني يجوز جعله مبنياً ألا ترى أن المضاف يكتسب من المضاف إليه التعريف والتنكير فكذا ههنا وأما الكسر في إذ فالسبب أنه يضاف إلى الجملة من المبتدأ والخبر تقول جئتك إذ الشمس طالعة فلما قطع عن المضاف إليه نون ليدل التنوين على ذلك ثم كسرت الذال لسكونها وسكون التنوين وأما القراءة بالكسر فعلى إضافة الخزي إلى اليوم ولم يلزم من إضافته إلى المبني أن يكون مبنياً لأن هذه الإضافة غير لازمة
المسألة الثالثة الخزي الذل العظيم حتى يبلغ حد الفضيحة ولذلك قال تعالى في المحاربين ذالِكَ لَهُمْ خِزْى ٌ فِى الدُّنْيَا ( المائدة 33 ) وإنما سمى الله تعالى ذلك العذاب خزياً لأنه فضيحة باقية يعتبر بها أمثالهم ثم قال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ وإنما حسن ذلك لأنه تعالى بين أنه أوصل ذلك العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه وهذا التمييز لا يصح إلا من القادر الذي يقدر على قهر طبائع الأشياء فيجعل الشيء الواحد بالنسبة إلى إنسان بلاء وعذاباً وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحاناً ثم إنه تعالى بين ذلك الأمر فقال وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما قال أَخَذَ ولم يقل أخذت لأن الصيحة محمولة على الصياح وأيضاً فصل بين الفعل والاسم المؤنث بفاصل فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث وقد سبق لها نظائر
المسألة الثانية ذكروا في الصيحة وجهين قال ابن عباس رضي الله عنهما المراد الصاعقة الثاني الصيحة صيحة عظيمة هائلة سمعوها فماتوا أجمع منها فأصبحوا وهم موتى جاثمين في دورهم ومساكنهم وجثومهم سقوطهم على وجوههم يقال إنه تعالى أمر جبريل عليه السلام أن يصيح بهم تلك الصيحة التي ماتوا بها ويجوز أن يكون الله تعالى خلقها والصياح لا يكون إلا الصوت الحادث في حلق وفم وكذلك الصراخ فإن كان من فعل الله تعالى فقد خلقه في حلق حيوان وإن كان فعل جبريل عليه السلام فقد حصل في فمه وحلقه والدليل عليه أن صوت الرعد أعظم من كل صيحة ولا يسمى بذلك ولا بأنه صراخ
فإن قيل فما السبب في كون الصيحة موجبة للموت
قلنا فيه وجوه أحدها أن الصيحة العظيمة إنما تحدث عند سبب قوي يوجب تموج الهواء وذلك التموج الشديد ربما يتعدى إلى صماخ الإنسان فيمزق غشاء الدماغ فيورث الموت والثاني أنها شيء مهيب فتحدث الهيبة العظيمة عند حدوثها والأعراض النفسانية إذا قويت أوجبت الموت الثالث أن الصيحة

العظيمة إذا حدثت من السحاب فلا بد وأن يصحبها برق شديد محرق وذلك هو الصاعقة التي ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما
ثم قال تعالى فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ والجثوم هو السكون يقال للطير إذا باتت في أوكارها أنها جثمت ثم إن العرب أطلقوا هذا اللفظ على ما لا يتحرك من الموت فوصف الله تعالى هؤلاء المهلكين بأنهم سكنوا عند الهلاك حتى كأنهم ما كانوا أحياء وقوله كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أي كأنهم لم يوجدوا والمغنى المقام الذي يقيم الحي به يقال غني الرجل بمكان كذا إذا أقام به
ثم قال تعالى أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ قرأ حمزة وحفص عن عاصم أَلا إِنَّ ثَمُودَ غير منون في كل القرآن وقرأ الباقون ثموداً بالتنوين ولثمود كلاهما بالصرف والصرف للذهاب إلى الحي أو إلى الأب الأكبر ومنعه للتعريف والتأنيث بمعنى القبيلة
وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَة ً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَة ٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ
اعلم أن هذا هو القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وههنا مسائل
المسألة الأولى قال النحويون دخلت كلمة ( قد ) ههنا لأن السامع لقصص الأنبياء عليهم السلام يتوقع قصة بعد قصة وقد للتوقع ودخت اللام في ( لقد ) لتأكيد الخبر ولفظ جَاءتْ رُسُلُنَا جمع وأقله ثلاثة فهذا يفيد القطع بحصول ثلاثة وأما الزائد على هذا العدد فلا سبيل إلى إثباته إلا بدليل آخر وأجمعوا على أن الأصل فيهم كان جبريل عليه السلام ثم اختلفت الروايات فقيل أتاه جبريل عليه السلام ومعه اثنا عشر ملكاً على صورة الغلمان الذين يكونون في غاية الحسن وقال الضحاك كانوا تسعة وقال ابن عباس رضي الله عنهما كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام وهم الذين ذكرهم الله في سورة والذاريات في قوله هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ( الذاريات 24 ) وفي الحجر وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ( الحجر 51 )
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بالبشرى على وجهين الأول أن المراد ما بشره الله بعد ذلك بقوله فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ الثاني أن المراد منه أنه بشر إبراهيم عليه السلام بسلامة لوط وبإهلاك قومه

وأما قوله قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكساني قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ بكسر السين وسكون اللام بغير ألف وفي والذاريات مثله قال الفراء لا فرق بين القراءتين كما قالوا حل وحلال وحرم وحرام لأن في التفسير أنهم لما جاؤا سلموا عليه قال أبو علي الفارسي ويحتمل أن يكون سلم خلاف العدو والحرب كأنهم لما امتنعوا من تناول ما قدمه إليهم نكرهم وأوجس منهم خيفة قال إنا سلم ولست بحرب ولا عدو فلا تمتنعوا من تناول طعامي كما يمتنع من تناول طعام العدو وهذا الوجه عندي بعيد لأن على هذا التقدير ينبغي أن يكون تكلم إبراهيم عليه السلام بهذا اللفظ بعد إحضار الطعام إلا أن القرآن يدل على أن هذا الكلام إنما وجد قبل إحضار الطعام لأنه تعالى قال قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ( هود 69 ) والفاء للتعقيب فدل ذلك على أن مجيئه بذلك العجل الحنيذ كان بعد ذكر السلام
المسألة الثانية قالوا سلاماً تقديره سلمنا عليك سلاماً قال سلام تقديره أمري سلام أي لست مريداً غير السلامة والصلح قال الواحدي ويحتمل أن يكون المراد سلام عليكم فجاء به مرفوعاً حكاية لقوله كما قال وحذف عنه الخبر كما حذف من قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ( يوسف 18 ) وإنما يحسن هذا الحذف إذا كان المقصود معلوماً بعد الحذف وههنا المقصود معلوم فلا جرم حسن الحذف ونظيره قوله تعالى فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ( الزخرف 89 ) على حذف الخبر
واعلم أنه إنما سلم بعضهم على بعض رعاية للإذن المذكور في قوله تعالى لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا
المسألة الثالثة أكثر ما يستعمل سَلَامٌ عَلَيْكُمُ بغير ألف ولام وذلك لأنه في معنى الدعاء فهو مثل قولهم خير بين يديك
فإن قيل كيف جاز جعل النكرة مبتدأ
قلنا النكرة إذا كانت موصوفة جاز جعلها مبتدأ فإذا قلت سلام عليكم فالتنكير في هذا الموضع يدل على التمام والكمال فكأنه قيل سلام كامل تام عليكم ونظيره قولنا سلام عليك وقوله تعالى قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ( مريم 47 ) وقوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( ي س 58 ) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ ( الصافات 79 ) الْمَلَائِكَة َ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 24 ) فأما قوله تعالى وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) فهذا أيضاً جائز والمراد منه الماهية والحقيقة وأقول قوله سَلَامٌ عَلَيْكُمُ أكمل من قوله السلام عليكم لأن التنكير في قوله سَلَامٌ عَلَيْكُمُ يفيد الكمال والمبالغة والتمام وأما لفظ السلام فإنه لا يفيد إلا الماهية قال الأخفش من العرب من يقول سلام عليكم فيعرى قوله سلام عن الألف واللام والتنوين والسبب في ذلك كثرة الاستعمال أباح هذا التخفيف والله أعلم
ثم قال تعالى فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ قالوا مكث إبراهيم خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف فاغتم لذلك ثم جاءه الملائكة فرأى أضيافاً لم ير مثلهم فعجل وجاء بعجل حنيذ فقوله فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ معناه فما لبت في المجيء به بل عجل فيه أو التقدير فما لبث مجيئه والعجل ولد البقرة

أما الحنيذ فهو الذي يشوى في حفرة من الأرض بالحجارة المحماة وهو من فعل أهل البادية معروف وهو محنوذ في الأصل كما قيل طبيخ ومطبوخ وقيل الحنيذ الذي يقطر دسمه يقال حنذت الفرس إذا ألقيت عليه الجل حتى تقطر عرقاً
ثم قال تعالى فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ أي إلى العجل وقال الفراء إلى الطعام وهو ذلك العجل نَكِرَهُمْ أي أنكرهم يقال نكره وأنكره واستنكره
واعلم أن الأضياف إنما امتنعوا من الطعام لأنهم ملائكة والملائكة لا يأكلون ولا يشربون وإنما أتوه في صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها وهو كان مشغوفاً بالضيافة وأما إبراهيم عليه السلام فنقول إما أن يقال إنه عليه السلام ما كان يعلم أنهم ملائكة بل كان يعتقد فيهم أنهم من البشر أو يقال إنه كان عالماً بأنهم من الملائكة أما على الاحتمال الأول فسبب خوفه أمران أحدهما أنه كان ينزل في طرف من الأرض بعيد عن الناس فلما امتنعوا من الأكل خاف أن يريدوا به مكروهاً وثانيها أن من لا يعرف إذا حضر وقدم إليه طعام فإن أكل حصل الأمن وإن لم يأكل حصل الخوف وأما الاحتمال الثاني وهو أنه عرف أنهم ملائكة الله تعالى فسبب خوفه على هذا التقدير أيضاً أمران أحدها أنه خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه والثاني أنه خاف أن يكون نزولهم لتعذيب قومه
فإن قيل فأي هذين الاحتمالين أقرب وأظهر
قلنا أما الذي يقول إنه ما عرف أنهم ملائكة الله تعالى فله أن يحتج بأمور أحدها أنه تسارع إلى إحضار الطعام ولو عرف كونهم من الملائكة لما فعل ذلك وثانيها أنه لما رآهم ممتنعين من الأكل خافهم ولو عرف كونهم من الملائكة لما استدل بترك الأكل على حصول الشر وثالثها أنه رآهم في أول الأمر في صورة البشر وذلك لا يدل على كونهم من الملائكة وأما الذي يقول إنه عرف ذلك احتج بقوله لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف بأي سبب أرسلوا ثم بين تعالى أن الملائكة أزالوا ذلك الخوف عنه فقالوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ومعناه أرسلنا بالعذاب إلى قوم لوط لأنه أضمر لقيام الدليل عليه في سورة أخرى وهو قوله إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَة ً ( الذاريات 33 )
ثم قال تعالى وَامْرَأَتُهُ قَائِمَة ٌ يعني سارة بنت آزر بن باحورا بنت عم إبراهيم عليه السلام وقوله قَائِمَة ً قيل كانت قائمة من وراء الستر تستمع إلى الرسل لأنها ربما خافت أيضاً وقيل كانت قائمة تخدم الأضياف وإبراهيم عليه السلام جالس معهم ويأكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود وَامْرَأَتُهُ قَائِمَة ٌ وهو قاعد
ثم قال تعالى فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ واختلفوا في الضحك على قولين منهم من حمله على نفس الضحك ومنهم من حمل هذا اللفظ على معنى آخر سوى الضحك أما الذين حملوه على نفس الضحك فاختلفوا في أنها لم ضحكت وذكروا وجوهاً الأول قال القاضي إن ذلك السبب لا بد وأن يكون سبباً جرى ذكره في هذه الآية وما ذاك إلا أنها فرحت بزوال ذلك الخوف عن إبراهيم عليه السلام حيث قالت الملائكة لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وعظم سرورها بسبب سروره بزوال خوفه وفي مثل هذه

الحالة قد يضحك الإنسان وبالجملة فقد كان ضحكها بسبب قول الملائكة لإبراهيم عليه السلام لاَ تَخَفْ فكان كالبشارة فقيل لها نجعل هذه البشارة بشارتين فكما حصلت البشارة بزوال الخوف فقد حصلت البشارة أيضاً بحصول الولد الذي كنتم تطلبونه من أول العمر إلى هذا الوقت وهذا تأويل في غاية الحسن الثاني يحتمل أنها كانت عظيمة الإنكار على قوم لوط لما كانوا عليه من الكفر والعمل الخبيث فلما أظهروا أنهم جاؤا لإهلاكهم لحقها السرور فضحكت الثالث قال السدي قال إبراهيم عليه السلام لهم أَلا تَأْكُلُونَ قالوا لا نأكل طعاماً إلا بالثمن فقال ثمنه أن تذكروا اسم الله تعالى على أوله وتحمدوه على آخره فقال جبريل لميكائيل عليهما السلام ( حق لمثل هذا الرجل أن يتخذه ربه خليلاً ) فضحكت امرأته فرحاً منها بهذا الكلام الرابع أن سارة قالت لإبراهيم عليه السلام أرسل إلى ابن أخيك وضمه إلى نفسك فإن الله تعالى لا يترك قومه حتى يعذبهم فعند تمام هذا الكلام دخل الملائكة على إبراهيم عليه السلام فلما أخبروه بأنهم إنما جاؤا لإهلاك قوم لوط صار قولهم موافقاً لقولها فضحكت لشدة سرورها بحصول الموافقة بين كلامها وبين كلام الملائكة الخامس أن الملائكة لما أخبروا إبراهيم عليه السلام أنهم من الملائكة لا من البشر وأنهم إنما جاؤا لإهلاك قوم لوط طلب إبراهيم عليه السلام منهم معجزة دالة على أنهم من الملائكة فدعوا ربهم بإحياء العجل المشوي فطفر ذلك العجل المشوي من الموضع الذي كان موضوعاً فيه إلى مرعاه وكانت امرأة إبراهيم عليه السلام قائمة فضحكت لما رأت ذلك العجل المشوي قد طفر من موضعه السادس أنها ضحكت تعجباً من أن قوماً أتاهم العذاب وهم في غفلة السابع لا يبعد أن يقال إنهم بشروها بحصول مطلق الولد فضحكت إما على سبيل التعجب فإنه يقال إنها كانت في ذلك الوقت بنت بضع وتسعين سنة وإبراهيم عليه السلام ابن مائة سنة وإما على سبيل السرور ثم لما ضحكت بشرها الله تعالى بأن ذلك الولد هو إسحق ومن وراء إسحق يعقوب الثامن أنها ضحكت بسبب أنها تعجبت من خوف إبراهيم عليه السلام من ثلاث أنفس حال ما كان معه حشمه وخدمه التاسع أن هذا على التقديم والتأخير والتقدير وامرأته قائمة فبشرناها بإسحق فضحكت سروراً بسبب تلك البشارة فقدم الضحك ومعناه التأخير الثاني هو أن يكون معنى فضحكت حاضت وهو منقول عن مجاهد وعكرمة قالا ضحكت أي حاضت عند فرحها بالسلامة من الخوف فلما ظهر حيضها بشرت بحصول الولد وأنكر الفراء وأبو عبيدة أن يكون ضحكت بمعنى حاضت قال أبو بكر الأنباري هذه اللغة إن لم يعرفها هؤلاء فقد عرفها غيرهم حكى الليث في هذه الآية فَضَحِكَتْ طمثت وحكى الأزهري عن بعضهم أن أصله من ضحاك الطلعة يقال ضحكت الطلعة إذا انشقت
واعلم أن هذه الوجوه كلها زوائد وإنما الوجه الصحيح هو الأول
ثم قال تعالى وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب بالنصب والباقون بالرفع أما وجه النصب فهو أن يكون التقدير بشرناها بإسحق ومن وراء إسحق وهبنا لها يعقوب وأما وجه الرفع فهو أن يكون التقدير ومن وراء إسحق يعقوب مولود أو موجود
المسألة الثانية في لفظ وراء قولان الأول وهو قول الأكثرين أن معناه بعد أي بعد إسحق يعقوب

وهذا هو الوجه الظاهر والثاني أن الوراء ولد الولد عن الشعبي أنه قيل له هذا ابنك فقال نعم من الوراء وكان ولد ولده وهذا الوجه عندي شديد التعسف واللفظ كأنه ينبو عنه
قَالَتْ ياوَيْلَتَا ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَاذَا لَشَى ْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الفراء أصل الويل وي وهو الخزي ويقال وي لفلان أي خزي له فقوله ويلك أي خزي لك وقال سيبويه ويح زجر لمن أشرف على الهلاك وويل لمن وقع فيه قال الخليل ولم أسمع على بنائه إلا ويح وويس وويك وويه وهذه الكلمات متقاربة في المعنى وأما قوله يا ويلتا فمنهم من قال هذه الألف ألف الندبة وقال صاحب ( الكشاف ) الألف في ويلتا مبدلة من ياء الإضافة في يا ويلتى وكذلك في يا لهفا ويا عجبا ثم أبدل من الياء والكسرة الألف والفتحة لأن الفتح والألف أخف من الياء والكسرة
أما قوله ياوَيْلَتَا ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو آلد بهمزة ومدة والباقون بهمزتين بلا مد
المسألة الثانية لقائل أن يقول إنها تعجبت من قدرة الله تعالى والتعجب من قدرة الله تعالى يوجب الكفر بيان المقدمة الأولى من ثلاثة أوجه أولها قوله تعالى حكاية عنها في معرض التعجب وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا وثانيها قوله إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عَجِيبٌ وثالثها قول الملائكة لها أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وأما بيان أن التعجب من قدرة الله تعالى يوجب الكفر فلأن هذا التعجيب يدل على جهلها بقدرة الله تعالى وذلك يوجب الكفر
والجواب أنها إنما تعجبت بحسب العرف والعادة لا بحسب القدرة فإن الرجل المسلم لو أخبره مخبر صادق بأن الله تعالى يقلب هذا الجبل ذهباً إبريزاً فلا شك أنه يتعجب نظراً إلى أحوال العادة لا لأجل أنه استنكر قدرة الله تعالى على ذلك
المسألة الثالثة قوله وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا فاعلم أن شيخاً منصوب على الحال قال الواحدي رحمه الله وهذا من لطائف النحو وغامضه فإن كلمة هذا للإشارة فكان قوله وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا قائم مقام أن يقال أشير إلى بعلي حال كونه شيخاً والمقصود تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشيخوخة
المسألة الرابعة قرأ بعضهم وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا بعلي وهو شيخ أو بعلي بدل من المبتدأ وشيخ خبر أو يكونان معاً خبرين ثم حكى تعالى أن الملائكة قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ

والمعنى أنهم تعجبوا من تعجبها ثم قالوا قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ والمقصود من هذا الكلام ذكر ما يزيل ذلك التعجب وتقديره إن رحمة الله عليكم متكاثرة وبركاته لديكم متوالية متعاقبة وهي النبوة والمعجزات القاهرة والتوفيق للخيرات العظيمة فإذا رأيت أن الله خرق العادات في تخصيصكم بهذه الكرامات العالية الرفيعة وفي إظهار خوارق العادات وإحداث البينات والمعجزات فكيف يليق به التعجب
وأما قوله أَهْلَ الْبَيْتِ فإنه مدح لهم فهو نصب على النداء أو على الاختصاص ثم أكدوا ذلك بقولهم إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ والحميد هو المحمود وهو الذي تحمد أفعاله والمجيد الماجد وهو ذو الشرف والكرم ومن محامد الأفعال إيصال العبد المطيع إلى مراده ومطلوبه ومن أنواع الفضل والكرم أن لا يمنع الطالب عن مطلوبه فإذا كان من المعلوم أنه تعالى قادر على الكل وأنه حميد مجيد فكيف يبقى هذا التعجب في نفس الأمر فثبت أن المقصود من ذكر هذه الكلمات إزالة التعجب
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ
اعلم أن هذا هو القصة الخامسة وهي قصة لوط عليه السلام واعلم أن الروع هو الخوف وهو ما أوجس من الخيفة حين أنكر أضيافه والمعنى أنه لما زال الخوف وحصل السرور بسبب مجيء البشرى بحصول الولد أخذ يجادلنا في قوم لوط وجواب لما هو قوله أَخَذَ إلا أنه حذف في اللفظ لدلالة الكلام عليه وقيل تقديره لما ذهب عن إبراهيم الروع جادلنا
واعلم أن قوله يُجَادِلُنَا أي يجادل رسلنا
فإن قيل هذه المجادلة إن كانت مع الله تعالى فهي جراءة على الله والجراءة على الله تعالى من أعظم الذنوب ولأن المقصود من هذه المجادلة إزالة ذلك الحكم وذلك يدل على أنه ما كان راضياً بقضاء الله تعالى وأنه كفر وإن كانت هذه المجادلة مع الملائكة فهي أيضاً عجيبة لأن المقصود من هذه المجادلة أن يتركوا إهلاك قوم لوط فإن كان قد اعتقد فيهم أنهم من تلقاء أنفسهم يجادلون في هذا الإهلاك فهذا سوء ظن بهم وإن اعتقد فيهم أنهم بأمر الله جاؤا فهذه المجادلة تقتضي أنه كان يطلب منهم مخالفة أمر الله تعالى وهذا منكر
والجواب من وجهين
الوجه الأول وهو الجواب الإجمالي أنه تعالى مدحه عقيب هذه الآية فقال إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ولو كان هذا الجدل من الذنوب لما ذكر عقيبه ما يدل على المدح العظيم

والوجه الثاني وهو الجواب التفصيلي أن المراد من هذه المجادلة سعي إبراهيم في تأخير العذاب عنهم وتقريره من وجوه
الوجه الأول أن الملائكة قالوا أَنَاْ مُهْلِكُو أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ فقال إبراهيم أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها قالوا لا قال فأربعون قالوا لا قال فثلاثون قالوا لا حتى بلغ العشرة قالوا لا قال أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها قالوا لا فعند ذلك قال إن فيها لوطاً وقد ذكر الله تعالى هذا في سورة العنكبوت فقال وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( العنكبوت 31 32 )
ثم قال وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ فبان بهذا أن مجادلة إبراهيم عليه السلام إنما كانت في قوم لوط بسبب مقام لوط فيما بينهم
الوجه الثاني يحتمل أن يقال إنه عليه السلام كان يميل إلى أن تلحقهم رحمة الله بتأخير العذاب عنهم رجاء أنهم أقدموا على الإيمان والتوبة عن المعاصي وربما وقعت تلك المجادلات بسبب أن إبراهيم كان يقول إن أمر الله ورد بإيصال العذاب ومطلق الأمر لا يوجب الفور بل يقبل التراخي فاصبروا مدة أخرى والملائكة كانوا يقولون إن مطلق الأمر يقبل الفور وقد حصلت هناك قرائن دالة على الفور ثم أخذ كل واحد منهم يقرر مذهبه بالوجوه المعلومة فحصلت المجادلة بهذا السبب وهذا الوجه عندي هو المعتمد
الوجه الثالث في الجواب لعل إبراهيم عليه السلام سأل عن لفظ ذلك الأمر وكان ذلك الأمر مشروطاً بشرط فاختلفوا في أن ذلك الشرط هل حصل في ذلك القوم أم لا فحصلت المجادلة بسببه وبالجملة نرى العلماء في زماننا يجادل بعضهم بعضاً عند التمسك بالنصوص وذلك لا يوجب القدح في واحد منها فكذا ههنا
ثم قال تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ وهذا مدح عظيم من الله تعالى لإبراهيم أما الحليم فهو الذي لا يتعجل بمكافأة غيره بل يتأنى فيه فيؤخر ويعفو ومن هذا حاله فإنه يحب من غيره هذه الطريقة وهذا كالدلالة على أن جداله كان في أمر متعلق بالحلم وتأخير العقاب ثم ضم إلى ذلك ماله تعلق بالحلم وهو قوله أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ لأن من يستعمل الحلم في غيره فإنه يتأوه إذا شاهد وصول الشدائد إلى الغير فلما رأى مجيء الملائكة لأجل إهلاك قوم لوط عظم حزنه بسبب ذلك وأخذ يتأوه عليه فلذلك وصفه الله تعالى بهذه الصفة ووصفه أيضاً بأنه منيب لأن من ظهرت فيه هذه الشفقة العظيمة على الغير فإنه ينيب ويتوب ويرجع إلى الله في إزالة ذلك العذاب عنهم أو يقال إن من كان لا يرضى بوقوع غيره في الشدائد فأن لا يرضى بوقوع نفسه فيها كان أولى ولا طريق إلى صون النفس عن الوقوع في عذاب الله إلا بالتوبة والإنابة فوجب فيمن هذا شأنه يكون منيباً

يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِى ءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ
اعلم أن قوله مُّنِيبٌ يإِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا معناه أن الملائكة قالوا له اترك هذه المجادلة لأنه قد جاء أمر ربك بإيصال هذا العذاب إليهم وإذا لاح وجه دلالة النص على هذا الحكم فلا سبيل إلى دفعه فلذلك أمروه بترك المجادلة ولما ذكروا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ ولم يكن في هذا اللفظ دلالة على أن هذا الأمر بماذا جاء لا جرم بين الله تعالى أنهم آتيهم عذاب غير مردود أي عذاب لا سبيل إلى دفعه ورده
ثم قال وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وهؤلاء الرسل هم الرسل الذين بشروا إبراهيم بالولد عليهم السلام قال ابن عباس رضي الله عنهما انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وبين القريتين أربع فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم وكانوا في غاية الحسن ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله وذكروا فيه ستة أوجه الأول أنه ظن أنهم من الإنس فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجزوا عن مقاومتهم الثاني ساءه مجيئهم لأنه ما كان يجد ما ينفقه عليهم وما كان قادراً على القيام بحق ضيافتهم والثالث ساءه ذلك لأن قومه منعوه من إدخال الضيف داره الرابع ساءه مجيئهم لأنه عرف بالحذر أنهم ملائكة وأنهم إنما جاؤا لإهلاك قومه والوجه الأول هو الأصح لدلالة قوله تعالى وَجَاء قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ( هود 78 ) وبقي في الآية ألفاظ ثلاثة لا بد من تفسيرها
اللفظ الأول قوله سِىء بِهِمْ ومعناه ساء مجيئهم وساء يسوء فعل لازم مجاوز يقال سؤته فسيء مثل شغلته فشغل وسررته فسر قال الزجاج أصله سوىء بهم إلا أن الواو سكنت ونقلت كسرتها إلى السين
اللفظ الثاني قوله وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا قال الأزهري الذرع يوضع موضع الطاقة والأصل فيه البعير يذرع بيديه في سيره ذرعاً على قدر سعة خطوته فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فضعف ومد عنقه فجعل ضيق الذرع عبارة عن قدر الوسع والطاقة فيقال مالي به ذرع ولا ذراع أي مالي به طاقة والدليل على صحة ما قلناه أنهم يجعلون الذراع في موضع الذرع فيقولون ضقت بالأمر ذراعاً
واللفظ الثالث قوله هَاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ أي يوم شديد وإنما قيل للشديد عصيب لأنه يعصب الإنسان بالشر
وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ ياقَوْمِ هَاؤُلا ءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّة ً أَوْ آوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ

وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه لما دخلت الملائكة دار لوط عليه السلام مضت امرأته عجوز السوء فقالت لقومه دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن وجوهاً ولا أنظف ثياباً ولا أطيب رائحة منهم وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ أي يسرعون وبين تعالى أن إسراعهم ربما كان لطلب العمل الخبيث بقوله وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ نقل أن القوم دخلوا دار لوط وأرادوا أن يدخلوا البيت الذي كان فيه جبريل عليه السلام فوضع جبريل عليه السلام يده على الباب فلم يطيقوا فتحه حتى كسروه فمسح أعينهم بيده فعموا فقالوا يا لوط قد أدخلت علينا السحرة وأظهرت الفتنة ولأهل اللغة في يُهْرَعُونَ قولان
القول الأول أن هذا من باب ما جاءت صيغة الفاعل فيه على لفظ المفعول ولا يعرف له فاعل نحو أولع فلان في الأمر وأرعد زيد وزهى عمرو من الزهو
والقول الثاني أنه لا يجوز ورود الفاعل على لفظ المفعول وهذه الأفعال حذف فاعلوها فتأويل أولع زيد أنه أولعه طبعه وأرعد الرجل أرعده غضبه وزهى عمرو معناه جعله ماله زاهياً وأهرع معناه أهرعه خوفه أو حرصه واختلفوا أيضاً فقال بعضهم الإهراع هو الإسراع مع الرعدة وقال آخرون هو العدو الشديد
أما قوله تعالى قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ففيه قولان قال قتادة المراد بناته لصلبه وقال مجاهد وسعيد بن جبير المراد نساء أمته لأنهن في أنفسهن بنات ولهن إضافة إليه بالمتابعة وقبول الدعوة قال أهل النحو يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب لأنه كان نبياً لهم فكان كالأب لهم قال تعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( الأحزاب 6 ) وهو أب لهم وهذا القول عندي هو المختار ويدل عليه وجوه الأول أن إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفجار أمر متبعد لا يليق بأهل المروءة فكيف بأكابر الأنبياء الثاني وهو أنه قال هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فبناته اللواتي من صلبه لا تكفي للجمع العظيم أما نساء أمته ففيهن كفاية للكل الثالث أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان وهما زنتا وزعوراً وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة فأما القائلون بالقول الأول فقد اتفقوا على أنه عليه السلام ما دعا القوم إلى لزنا بالنسوان بل المراد أنه دعاهم إلى التزوج بهن وفيه قولان أحدهما أنه دعاهم إلى التزوج بهن بشرط أن يقدموا الإيمان والثاني أنه كان يجوز تزويج المؤمنة من الكافر في شريعته وهكذا كان في أول الإسلام بدليل أنه عليه السلام زوج ابنته زينب من أبي العاص بن الربيع وكان مشركاً وزوج ابنته من عتبة بن أبي لهب ثم نسخ ذلك بقوله وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) وبقوله وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ ( البقرة 221 ) واختلفوا أيضاً فقال الأكثرون كان له بنتان وعلى هذا التقدير ذكر الاثنتين بلفظ الجمع كما في قوله فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَة ٌ ( النساء 21 ) فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم 4 ) وقيل إنهن كن أكثر من اثنتين
أما قوله تعالى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ففيه مسألتان

المسألة الأولى ظاهر قوله هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ يقتضي كون العمل الذي يطلبونه طاهراً ومعلوم أنه فاسد ولأنه لا طهارة في نكاح الرجل بل هذا جار مجرى قولنا الله أكبر والمراد أنه كبير ولقوله تعالى أَذالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَة ُ الزَّقُّومِ ( الصافات 62 ) ولاخير فيها ولما قال أبو سفيان اعل أحداً واعل هبل قال النبي ( الله أعلى وأجل ) ولامقاربة بين الله وبين الصنم
المسألة الثانية روي عن عبد الملك بن مروان والحسن وعيسى بن عمر أنهم قرؤا هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ بالنصب على الحال كما ذكرنا في قوله تعالى وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا ( هود 72 ) إلا أن أكثر النحويين اتفقوا على أنه خطأ قالوا لو قرىء هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ كان هذا نظير قوله وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا إلا أن كلمة ( هن ) قد وقعت في البين وذلك يمنع من جعل أطهر حالاً وطولوا فيه ثم قال فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو ونافع ولا تخزوني بإثبات الياء على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف ودلالة الكسر عليه
المسألة الثانية في لفظ لا وجهان الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما لا تفضحوني في أضيافي يريد أنهم إذا هجموا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحة والثاني لا تخزوني في ضيفي أي لا تخجلوني فيهم لأن مضيف الضيف يلزمه الخجالة من كل فعل قبيح يوصل إلى الضيف يقال خزي الرجل إذا استحيا
المسألة الثالثة الضيف ههنا قائم مقام الأضياف كما قام الطفل مقام الأطفال في قوله تعالى الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ ( النور 31 ) ويجوز أن يكون الضيف مصدراً فيستغنى عن جمعه كما يقال رجال صوم ثم قال أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ وفيه قولان الأول رَّشِيدٌ بمعنى مرشد أي يقول الحق ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي والثاني رشيد بمعنى مرشد والمعنى أليس فيكم رجل أرشده الله تعالى إلى الصلاح وأسعده بالسداد والرشاد حتى يمنع عن هذا العمل القبيح والأول أولى
ثم قال تعالى قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ وفيه وجوه الأول مالنا في بناتك من حاجة ولا شهوة والتقدير أن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق فلهذا السبب جعل نفي الحق كناية عن نفي الحاجة الثاني أن نجري اللفظ على ظاهره فنقول معناه إنهن لسن لنا بأزواج ولا حق لنا فيهن ألبتة ولا يميل أيضاً طبعنا إليهن فكيف قيامهن مقام العمل الذي نريده وهو إشارة إلى العمل الخبيث الثالث مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ونحن لا نجيبك إلى ذلك فلا يكون لنا فيهن حق ثم إنه تعالى حكى عن لوط أنه عند سماع هذا الكلام قال لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّة ً أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى جواب ( لو ) محذوف لدلالة الكلام عليه والتقدير لمنعتكم ولبالغت في دفعكم ونظيره قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 ) وقوله وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ ( الأنعام 27 ) قال الواحدي وحذف الجواب ههنا لأن الوهم يذهب إلى أنواع كثيرة من المنع والدفع

المسألة الثانية لَوْ أَنَّ بِكُمْ قُوَّة ً أي لو أن لي ما أتقوى به عليكم وتسمية موجب القوة بالقوة جائز قال الله تعالى وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّة ٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ ( الأنفال 60 ) والمراد السلاح وقال آخرون القدرة على دفعهم وقوله أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ المراد منه الموضع الحصين المنيع تشبيهاً له بالركن الشديد من الجبل
فإن قيل ما الوجه ههنا في عطف الفعل على الاسم
قلنا قال صاحب ( الكشاف ) قرىء أَوْ اوِى بالنصب بإضمار أن كأنه قيل لو أن لي بكم قوة أو آوياً
واعلم أن قوله لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّة ً أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ لا بد من حمل كل واحد من هذين الكلامين على فائدة مستقلة وفيه وجوه الأول المراد بقوله لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّة ً كونه بنفسه قادراً على الدفع وكونه متمكناً إما بنفسه وإما بمعاونة غيره على قهرهم وتأديبهم والمراد بقوله أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ هو أن لا يكون له قدرة على الدفع لكنه يقدر على التحصن بحصن ليأمن من شرهم بواسطته الثالث أنه لما شاهد سفاهة القوم وإقدامهم على سوء الأدب تمنى حصول قوة قوية على الدفع ثم استدرك على نفسه وقال بلى الأولى أن آوى إلى ركن شديد وهو الاعتصام بعناية الله تعالى وعلى هذا التقدير فقوله أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ كلام منفصل عما قبله ولا تعلق له به وبهذا الطريق لا يلزم عطف الفعل على الاسم ولذلك قال النبي عليه السلام ( رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد )
قَالُواْ يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ
اعلم أن قوله تعالى مخبراً عن لوط عليه السلام أنه قال لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّة ً أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ( هود 80 ) يدل على أنه كان في غاية القلق والحزن بسبب إقدام أولئك الأوباش على ما يوجب الفضيحة في حق أضيافه فلما رأت الملائكة تلك الحالة بشروه بأنواع من البشارات أحدها أنهم رسل الله وثانيها أن الكفار لا يصلون إلى ما هموا به وثالثها أنه تعالى يهلكهم ورابعها أنه تعالى ينجيه مع أهله من ذلك العذاب وخامسها إن ركنك شديد وإن ناصرك هو الله تعالى فحصل له هذه البشارات وروي أن جبريل عليه السلام قال له إن قومك لن يصلوا إليك فافتح الباب فدخلوا فضرب جبريل عليه السلام بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم وذلك قوله تعالى وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ( القمر 37 ) ومعنى قوله لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ أي بسوء ومكروه فإنا نحول بينهم وبين ذلك ثم قال فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ قرأ نافع وابن كثير فَأَسْرِ موصولة والباقون بقطع الألف وهما لغتان يقال سريت بالليل وأسريت وأنشد حسان

أسرت إليك ولم تكن تسري
فجاء باللغتين فمن قرأ بقطع الألف فحجته قوله سبحانه وتعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ ( الإسراء 1 ) ومن وصل فحجته قوله وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( الفجر 4 ) والسرى السير في الليل يقال سرى يسري إذا سار بالليل وأسرى بفلان إذا سير به بالليل والقطع من الليل بعضه وهو مثل القطعة يريد اخرجوا ليلاً لتسبقوا نزول العذاب الذي موعده الصبح قال نافع بن الأزرق لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما أخبرني عن قول الله بِقِطْعٍ مّنَ الَّيْلِ قال هو آخر الليل سحر وقال قتادة بعد طائفة من الليل وقال آخرون هو نصف الليل فإنه في ذلك الوقت قطع بنصفين
ثم قال وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ نهى من معه عن الالتفات والالتفات نظر الإنسان إلى ما وراءه والظاهر أن المراد أنه كان لهم في البلدة أموال وأقمشة وأصدقاء فالملائكة أمروهم بأن يخرجوا ويتركوا تلك الأشياء ولا يلتفتوا إليها ألبتة وكان المراد منه قطع القلب عن تلك الأشياء وقد يراد منه الانصراف أيضاً كقوله تعالى قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا ( يونس 78 ) أي لتصرفنا وعلى هذا التقدير فالمراد من قوله وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ النهي عن التخلف
ثم قال إِلاَّ امْرَأَتَكَ قرأ ابن كثير وأبو عمر إِلاَّ امْرَأَتَكَ بالرفع والباقون بالنصب قال الواحدي من نصب وهو الاختيار فقد جعلها مستثناة من الأهل على معنى فأسر بأهلك إلا امرأتك والذي يشهد بصحة هذه القراءة أن في قراءة عبدالله فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ فأسقط قوله وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ من هذا الموضع وأما الذين رفعوا فالتقدير وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ
فإن قيل فهذه القراءة توجب أنها أمرت بالالتفات لأن القائل إذا قال لا يقم منكم أحد إلا زيد كان ذلك أمراً لزيد بالقيام
وأجاب أبو بكر الأنباري عنه فقال معنى إِلا ههنا الاستثناء المنقطع على معنى لا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم وإذا ان هذا الاستثناء منقطعاً كان التفاتها معصية ويتأكد ما ذكرنا بما روي عن قتادة أنه قال إنها كانت مع لوط حين خرج من القرية فلما سمعت هذا العذاب التفتت وقالت يا قوماه فأصابها حجر فأهلكها
واعلم أن القراءة بالرفع أقوى لأن القراءة بالنصب تمنع من خروجها مع أهله لكن على هذا التقدير الاستثناء يكون من الأهل كأنه أمر لوطاً بأن يخرج بأهله ويترك هذه المرأة فإنها هالكة مع الهالكين وأما القراءة بالنصب فإنها أقوى من وجه آخر وذلك لأن مع القراءة بالنصب يبقى الاستثناء متصلاً ومع القراءة بالرفع يصير الاستثناء منقطعاً ثم بين الله تعالى أنهم قالوا إنه مصيبها ما أصابهم والمراد أنه مصيبها ذلك العذاب الذي أصابهم ثم قالوا إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ روى أنهم لما قالوا لوط عليه السلام إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ قال أريد أعجل من ذلك بل الساعة فقالوا أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ قال المفسرون إن لوطاً عليه السلام لما سمع هذا الكلام خرج بأهله في الليل

فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَة ً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَة ً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في الأمر وجهان الأول أن المراد من هذا الأمر ما هو ضد النهي ويدل عليه وجوه الأول أن لفظ الأمر حقيقة في هذا المعنى مجاز في غيره دفعاً للاشتراك الثاني أن الأمر لا يمكن حمله ههنا على العذاب وذلك لأنه تعالى قال فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وهذا الجعل هو العذاب فدلت هذه الآية على أن هذا الأمر شرط والعذاب جزاء والشرط غير الجزاء فهذا الأمر غير العذاب وكل من قال بذلك قال إنه هو الأمر الذي هو ضد النهي والثالث أنه تعالى قال قبل هذه الآية إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ( هود 70 ) فدل هذا على أنهم كانوا مأمورين من عند الله تعالى بالذهاب إلى قوم لوط وبإيصال هذا العذاب إليهم
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أمر جمعاً من الملائكة بأن يخربوا تلك المدائن في وقت معين فلما جاء ذلك الوقت أقدموا على ذلك العمل فكان قوله فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا إشارة إلى ذلك التكليف
فإن قيل لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال فلما جاء أمرنا جعلوا عاليها سافلها لأن الفعل صدر عن ذلك المأمور
قلنا هذا لا يلزم على مذهبنا لأن فعل العبد فعل الله تعالى عندنا وأيضاً أن الذي وقع منهم إنما وقع بأمر الله تعالى وبقدرته فلم يبعد إضافته إلى الله عز وجل لأن الفعل كما تحسن إضافته إلى المباشر فقد تحسن أيضاً إضافته إلى السبب
القول الثاني أن يكون المراد من الأمر ههنا قوله تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) وقد تقدم تفسير ذلك الأمر
القول الثالث أن يكون المراد من الأمر العذاب وعلى هذا التقدير فيحتاج إلى الإضمار والمعنى ولما جاء وقت عذابنا جعلنا عاليها سافلها
المسألة الثانية اعلم أن ذلك العذاب قد وصفه الله تعالى في هذه الآية بنوعين من الوصف فالأول قوله جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا روي أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير ونباح الكلاب وصياح الديوك ولم تنكفىء لهم جرة ولم ينكب لهم إناء ثم قلبها دفعة واحدة وضربها على الأرض
واعلم أن هذا العمل كان معجزة قاهرة من وجهين أحدهما أن قلع الأرض وإصعادها إلى قريب من

السماء فعل خارق للعادات والثاني أن ضربها من ذلك البعد البعيد على الأرض بحيث لم تتحرك سائر القرى المحيطة بها ألبتة ولم تصل الآفة إلى لوط عليه السلام وأهله مع قرب مكانهم من ذلك الموضع معجزة قاهرة أيضاً الثاني قوله وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَة ً مّن سِجّيلٍ واختلفوا في السجيل على وجوه الأول أنه فارسي معرب وأصله سنككل وأنه شيء مركب من الحجر والطين بشرط أن يكون في غاية الصلابة قال الأزهري لماعربته العرب صار عربياً وقد عربت حروفاً كثيرة كالديباج والديوان والاستبرق والثاني سجيل أي مثل السجل وهو الدلو العظيم والثالث سجيل أي شديد من الحجارة الرابع مرسلة عليهم من أسجلته إذا أرسلته وهو فعيل منه الخامس من أسجلته أي أعطيته تقديره مثل العطية في الإدرار وقيل كان كتب عليها أسامي المعذبين السادس وهو من السجل وهو الكتاب تقديره من مكتوب في الأزل أي كتب الله أن يعذبهم بها والسجيل أخذ من السجل وهو الدلو العظيمة لأنه يتضمن أحكاماً كثيرة وقيل مأخوذ من المساجلة وهي المفاخرة والسابع من سجيل أي من جهنم أبدلت النون لاماً والثامن من السماء الدنيا وتسمى سجيلاً عن أبي زيد والتاسع السجيل الطين لقوله تعالى حِجَارَة ً مّن طِينٍ ( الذاريات 33 ) وهو قول عكرمة وقتادة قال الحسن كان أصل الحجر هو من الطين إلا أنه صلب بمرور الزمان والعاشر سجيل موضع الحجارة وهي جبال مخصوصة ومنه قوله تعالى مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ( النور 43 )
واعلم أنه تعالى وصف تلك الحجارة بصفات
فالصفة الأولى كونها من سجيل وقد سبق ذكره
الصفة الثانية قوله تعالى مَّنْضُودٍ قال الواحدي هو مفعول من النضد وهو موضع الشيء بعضه على بعض وفيه وجوه الأول أن تلك الحجارة كان بعضها فوق بعض في النزول فأتى به على سبيل المبالغة والثاني أن كل حجر فإن ما فيه من الأجزاء منضود بعضها ببعض وملتصق بعضها ببعض والثالث أنه تعالى كان قد خلقها في معادنها ونضد بعضها فوق بعض وأعدها لإهلاك الظلمة
واعلم أن قوله مَّنْضُودٍ صفة للسجيل
الصفة الثالثة مسومة وهذه الصفة صفة للأحجار ومعناها المعلمة وقد مضى الكلام فيه في تفسير قوله وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ ( آل عمران 14 ) واختلفوا في كيفية تلك العلامة على وجوه الأول قال الحسن والسدي كان عليها أمثال الخواتيم الثاني قال ابن صالح رأيت منها عند أم هانىء حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع الثالث قال ابن جريج كان عليها سيما لا تشارك حجارة الأرض وتدل على أنه تعالى إنما خلقها للعذاب الرابع قال الربيع مكتوب على كل حجر اسم من رمى به
ثم قال تعالى عِندَ رَبّكَ أي في خزائنه التي لا يتصرف فيها أحد إلا هو
ثم قال وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ يعني به كفار مكة والمقصود أنه تعالى يرميهم بها عن أنس أنه قال سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جبريل عليه السلام عن هذا فقال يعني عن ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة وقيل الضمير في قوله وَمَا هِى َ للقرى أي وما تلك

القرى التي وقعت فيها هذه الواقعة من كفار مكة ببعيد وذلك لأن القرى كانت في الشأم وهي قريب من مكة
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
اعلم أن هذا هو القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة واعلم أن مدين اسم ابن لإبراهيم عليه السلام ثم صار اسماً للقبيلة وكثير من المفسرين يذهب إلى أن مدين اسم مدينة بناها مدين بن إبراهيم عليه السلام والمعنى على هذا التقدير وأرسلنا إلى أهل مدين فحذف الأهل
واعلم أنا بينا أن الأنبياء عليهم السلام يشرعون في أول الأمر بالدعوة إلى التوحيد فلهذا قال شعيب عليه السلام مَالَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ ثم إنهم بعد الدعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم ثم الأهم ولما كان المعتاد من أهل مدين البخس في المكيال والميزان دعاهم إلى ترك هذه العادة فقال وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ والنقص فيه على وجهين أحدهما أن يكون الإيفاء من قبلهم فينقصون من قدره والآخر أن يكون لهم الاستيفاء فيأخذون أزيد من الواجب وذلك يوجب نقصان حق الغير وفي القسمين حصل النقصان في حق الغير ثم قال إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وفيه وجهان الأول أنه حذرهم من غلاء السعر وزوال النعمة إن لم يتوبوا فكأنه قال اتركوا هذا التطفيف وإلا أزال الله عنكم ما حصل عندكم من الخير والراحة والثاني أن يكون التقدير أنه تعالى أتاكم بالخير الكثير والمال والرخص والسعة فلا حاجة بكم إلى هذا التطفيف ثم قال وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وفيه أبحاث
البحث الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما أخاف أي أعلم حصول عذاب يوم محيط وقال آخرون بل المراد هو الخوف لأنه يجوز أن يتركوا ذلك العمل خشية أن يحصل لهم العذاب ولما كان هذا التخويف قائماً فالحاصل هو الظن لاالعلم
البحث الثاني أنه تعالى توعدهم بعذاب يحيط بهم بحيث لا يخرج منه أحد والمحيط من صفة اليوم في الظاهر وفي المعنى من صفة العذاب وذلك مجاز مشهور كقوله هَاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ( هود 77 )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66