كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

وشرفه في سورة إذا زلزلت بثلاث تشريفات أولها قوله يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا وذلك يقتضي أن الأرض تشهد يوم القيامة لأمته بالطاعة والعبودية والثاني قوله يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ وذلك يدل على أنه تعرض عليهم طاعاتهم فيحصل لهم الفرح والسرور وثالثها قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ومعرفة الله لا شك أنها أعظم من كل عظيم فلا بد وأن يصلوا إلى ثوابها ثم شرفه في سورة العاديات بأن أقسم بخيل الغزاة من أمته فوصف تلك الخيل بصفات ثلاث وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً
ثم شرف أمته في سورة القارعة بأمور ثلاثة أولها فمن ثقلت موازينه وثانيها أنهم في عيشة راضية وثالثها أنهم يرون أعداءهم في نار حامية
في شرفه في سورة الهاكم بأن بين أن المعرضين عن دينه وشرعه يصيرون معذبين من ثلاثة أوجه أولها أنهم يرون الجحيم وثانيها أنهم يرونها عين اليقين وثالثها أنهم يسألون عن النعيم
ثم شرف أمته في سورة والعصر بأمور ثلاثة أولها الإيمان إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وثانيها وعملوا الصالحات وثالثها إرشاد الخلق إلى الأعمال الصالحة وهو التواصي بالحق والتواصي بالصبر
ثم شرفه في سورة الهمزة بأن ذكر أن من همز ولمز فله ثلاثة أنواع من العذاب أولها أنه لا ينتفع بدنياه البتة وهو قوله يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ وثانيها أنه ينبذ في الحطمة وثالثها أنه يغلق عليه تلك الأبواب حتى لا يبقى له رجاء في الخروج وهو قوله إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة ٌ
ثم شرف في سورة الفيل بأن رد كيد أعدائه في نحرهم من ثلاثة أوجه أولها جعل كيدهم في تضليل وثانيها أرسل عليهم طير أبابيل وثالثها جعلهم كعصف مأكول
ثم شرفه في سورة قريش بأنه راعى مصلحة أسلافه من ثلاثة أوجه أولها جعلهم مؤتلفين متوافقين لإيلاف قريش وثانيها أطعمهم من جوع وثالثها أنه آمنهم من خوف
وشرفه في سورة الماعون بأن وصف المكذبين بدينه بثلاثة أنواع من الصفات المذمومة أولها الدناءة واللؤم وهو قوله يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وثانيها ترك تعظيم الخالق وهو قوله عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ وثالثها ترك انتفاع الخلق وهو قوله وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ
ثم إنه سبحانه وتعالى لما شرفه في هذه السور من هذه الوجوه العظيمة قال بعدها إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ أي إنا أعطيناك هذه المناقب المتكاثرة المذكورة في السورة المتقدمة التي كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها فاشتغل أنت بعبادة هذا الرب وبإرشاد عباده إلى ما هو الأصلح لهم أما عبادة الرب فإما بالنفس وهو قوله فَصَلّ لِرَبّكَ وإما بالمال وهو قوله وَانْحَرْ وأما إرشاد عباده إلى ما هو الأصلح لهم في دينهم ودنياهم فهو قوله قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فثبت أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور وأما أنها كالأصل لما بعدها فهو أنه تعالى يأمره بعد هذه السورة بأن

يكفر جميع أهل الدنيا بقوله قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ومعلوم أن عسف الناس على مذاهبهم وأديانهم أشد من عسفهم على أرواحهم وأموالهم وذلك أنهم يبذلون أموالهم وأرواحهم في نصرة أديانهم فلا جرم كان الطعن في مذاهب الناس يثير من العداوة والغضب مالا يثير سائر المطاعن فلما أمره بأن يكفر جميع أهل الدنيا ويبطل أديانهم لزم أن يصير جميع أهل الدنيا في غاية العداوة له وذلك مما يحترف عنه كل أحد من الخلق فلا يكاد يقدم عليه وانظر إلى موسى عليه السلام كيف كان يخاف من فرعون وعسكره وأما ههنا فإن محمداً عليه السلام لما كان مبعوثاً إلى جميع أهل الدنيا كان كل واحد من الخلق كفرعون بالنسبة إليه فدبر تعالى في إزالة هذا الخوف الشديد تدبيراً لطيفاً وهو أنه قدم على تلك السورة هذه السورة فإن قوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ يزيل عنه ذلك الخوف من وجوه أحدها أن قوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ أي الخير الكثير في الدنيا والدين فيكون ذلك وعداً من الله إياه بالنصرة والحفظ وهو كقوله وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وقوله وقوله إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ومن كان الله تعالى ضامناً لحفظه فإنه لا يخشى أحداً وثانيها أنه تعالى لما قال إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ وهذا اللفظ يتناول خيرات الدنيا وخيرات الآخرة وأن خيرات الدنيا ما كانت واصلة إليه حين كان بمكة والخلف في كلام الله تعالى محال فوجب في حكمة الله تعالى إبقاؤه في دار الدنيا إلى حيث يصل إليه تلك الخيرات فكان ذلك كالبشارة له والوعد بأنهم لا يقتلونه ولا يقهرونه ولا يصل إليه مكرهم بل يصير أمره كل يوم في الازدياد والقوة وثالثها أنه عليه السلام لما كفروا وزيف أديانهم ودعاهم إلى الإيمان اجتمعوا عنده وقالوا إن كنت تفعل هذا طلباً للمال فنعطيك من المال ما تصير به أغنى الناس وإن كان مطلوبك الزوجة نزوجك أكرم نسائنا وإن كان مطلوبك الرياسة فنحن نجعلك رئيساً على أنفسنا فقال الله تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ أي لما أعطاك خالق السموات والأرض خيرات الدنيا والآخرة فلا تغتر لما لهم ومراعاتهم ورابعها أن قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ يفيد أن الله تعالى تكلم معه لا بواسطة فهذا يقوم مقام قوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً بل هذا أشرف لأن المولى إذا شافه عبده بالتزام التربية والإحسان كان ذلك أعلى مما إذا شافهه في غير هذا المعنى بل يفيده قوة في القلب ويزيل الجبن عن النفس فثبت أن مخاطبة الله إياه بقوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ مما يزيل الخوف عن القلب والجبن عن النفس فقدم هذه السورة على سورة قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ حتى يمكنه الاشتغال بذلك التكليف الشاق والإقدام على تكفير جميع العالم وإظهار البراءة عن معبودهم فلما امتثلت أمري فانظر كيف أنجزت لك الوعد وأعطيتك كثرة الأتباع والأشياع إن أهل الدنيا يدخلون في دين الله أفواجاً ثم إنه لما تم أمر الدعوة وإظهار الشريعة شرع في بيان ما يتعلق بأحوال القلب والباطن وذلك لأن الطالب إما أن يكون طلبه مقصوراً على الدنيا أو يكون طالباً للآخرة أما طالب الدنيا فليس له إلا الخسار والذل والهوان ثم يكون مصيره إلى النار وهو المراد من سورة تبت وأما طالب الآخرة فأعظم أحواله أن تصير نفسه كالمرآة التي تنتقش فيها صور الموجودات وقد ثبت في العلوم العقلية أن طريق الخلق في معرفة الصانع على وجهين منهم من عرف الصانع ثم توسل بمعرفتع إلى معرفة مخلوقاته وهذا هو الطريق الأشرف الأعلى ومنهم من عكس وهو طريق الجمهور

ثم إنه سبحانه ختم كتابه الكريم بتلك الطريق التي هي أشرف الطريقين فبدأ بذكر صفات الله وشرح جلاله وهو سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثم أتبعه بذكر مراتب مخلوقاته في سورة قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ ثم ختم بذكر مراتب النفس الإنسانية وعند ذلك ختم الكتاب وهذه الجملة إنما يتضح تفصيلها عند تفسير هذه السورة على التفصيل فسبحان من أرشد العقول إلى معرفة هذه الأسرار الشريفة المودعة في كتابه الكريم
الفائدة الثانية في قوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ هي أن كلمة أَنَاْ تارة يراد بها الجمع وتارة يراد بها التعظيم
أما الأول فقد دل على أن الإله واحد فلا يمكن حمله على الجمع إلا إذا أريد أن هذه العطية مما سعى في تحصيلها الملائكة وجبريل وميكائيل والأنبياء المتقدمون حين سأل إبراهيم إرسالك فقال رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ وقال موسى رب اجعلني من أمة أحمد وهو المراد من قوله وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الاْمْرَ وبشر بك المسيح في قوله وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ
وأما الثاني وهو أن يكون ذلك محمولاً على التعظيم ففيه تنبيه على عظمة العطية لأن الواهب هو جبار السموات والأرض والموهوب منه هو المشار إليه بكاف الخطاب في قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ والهبة هي الشيء المسمى بالكوثر وهو ما يفيد المبالغة في الكثرة ولما أشعر اللفظ بعظم الواهب والموهوب منه والموهوب فيالها من نعمة ما أعظمها وما أجلها وياله من تشريف ما أعلاه
الفائدة الثالثة أن الهدية وإن كانتقليلة لكنها بسبب كونها واصلة من المهدي العظيم تصير عظيمة ولذلك فإن الملك العظيم إذا رمى تفاحة لبعض عبيده على سبيل الإكرام يعد ذلك إكراماً عظيماً لا لأن لذة الهدية في نفسها بل لأن صدورها من المهدي العظيم يوجب كونها عظيمة فههنا الكوثر وإن كان في نفسه في غاية الكثرة لكنه بسبب صدوره من ملك الخلائق يزداد عظمة وكمالاً
الفائدة الرابعة أنه لما قال أَعْطَيْنَاكَ قرن به قرينة دالة على أنه لا يسترجعها وذلك لأن من مذهب أبي حنيفة أنه يجوز للأجنبي أن يسترجع موهوبه فإن أخذ عوضاً وإن قل لم يجز له ذلك الرجوع لأن من وهب شيئاً يساوي ألف دينار إنساناً ثم طلب منه مشطاً يساوي فلساً فأعطاه سقط حق الرجوع فههنا لما قال إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ طلب منه الصلاة والنحر وفائدته إسقاط حق الرجوع
الفائدة الخامسة أنه بنى الفعل على المبتدأ وذلك يفيد التأكيد والدليل عليه أنك لما ذكرت الاسم المحدث عنه عرف العقل أنه يخبر عنه بأمر فيصبر مشتاقاً إلى معرفة أنه بماذا يخبر عنه فإذا ذكر ذلك الخبر قبله قبول العاشق لمعشوقه فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفى الشبهة ومن ههنا تعرف الفخامة في قوله فَإِنَّهَا لاَ لاِوْلِى الاْبْصَارِ فإنه أكثر فخامة مما لو قال فإن الأبصار لا تعمى ومما يحقق قولنا قول الملك العظيم لمن يعده ويضمن له أنا أعطيك أنا أكفيك أنا أقوم بأمرك وذلك إذا كان الموعود به أمراً عظيماً فلما تقع المسامحة به فعظمه يورث الشك في الوفاء به فإذا أسند إلى المتكفل العظيم فحينئذ يزول ذلك الشك وهذه الآية من هذا الباب لأن الكوثر شيء عظيم قلما تقع المسامحة به فلما

قدم المبتدأ وهو قوله أَنَاْ صار ذلك الإسناد مزيلاً لذلك الشك ودافعاً لتلك الشبهة
الفائدة السادسة أنه تعالى صدر الجملة بحرف التأكيد الجاري محرى القسم وكلام الصادق مصون عن الخلف فكيف إذا بالغ في التأكيد
الفائدة السابعة قال أَعْطَيْنَاكَ ولم يقل سنعطيك لأن قوله أَعْطَيْنَاكَ يدل على أن هذا الإعطاء كان حاصلاً في الماضي وهذا فيه أنواع من الفوائد إحداها أن من كان في الزمان الماضي أبداً عزيزاً مرعي الجانب مقضي الحاجة أشرف ممن سيصير كذلك ولهذا قال عليه السلام ( كنت نبياً وآدم بين الماء والطين ) وثانيها أنها إشارة إلى أن حكم الله بالإسعاد والإشفاء والإغناء والإفقار ليس أمراً يحدث الآن بل كان حاصلاً في الأزل وثالثها كأنه يقول إنا قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك واشتغالك بالعبودية ا ورابعها كأنه تعالى يقول نحن ما اخترناك وما فضلناك لأجل طاعتك وإلا كان يجب أن لا نعطيك إلا بعد إقدامك على الطاعة بل إنما اخترناك بمجرد الفضل والإحسان منا إليك من غير موجب وهو إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام ( قبل من قبل لا لعلة ورد من رد لا لعلة )
الفائدة الثامنة قال أَعْطَيْنَاكَ ولم يقل أعطينا الرسول أو النبي أو العالم أو المطيع لأنه لو قال ذلك لأشعر أن تلك العطية وقعت معللة بذلك الوصف فلما قال أَعْطَيْنَاكَ علم أن تلك العطية غير معللة بعلة أصلاً بل هي محض الاختيار والمشيئة كما قال نَحْنُ قَسَمْنَا اللَّهِ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ
الفائدة التاسعة قال أولاً إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ثم قال ثانياً فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ وهذا يدل على أن إعطاؤه للتوفيق والإرشاد سابق على طاعاتنا وكيف لا يكون كذلك وإعطاؤه إيانا صفته وطاعتنا له صفتنا وصفة الخلق لا تكون مؤثرة في صفة الخالق إنما المؤثر هو صفة الخالق في صفة الخلق ولهذا نقل عن الواسطي أنه قال لا أعبد رباً يرضيه طاعتي ويسخطه معصيتي ومعناه أن رضاه وسخطه قديمان وطاعتي ومعصيتي محدثتان والمحدث لا أثر له في قديم بل رضاه عن العبد هو الذي حمله على طاعته فيما لا يزال وكذا القول في السخط والمعصية
الفائدة العاشرة قال أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ولم يقل آتيناك الكوثر والسبب فيه أمران الأول أن الإيتاء يحتمل أن يكون واجباً وأن يكون تفضلاً وأما الإعطاء فإنه بالتفضل أشبه فقوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ يعني هذه الخيرات الكثيرة وهي الإسلام والقرآن والنبوة والذكر الجميل في الدنيا والآخرة محض التفضل منا إليك وليس منه شيء على سبيل الاستحقاق والوجوب وفيه بشارة من وجهين أحدهما أن الكريم إذا شرع في التربية على سبيل التفضل فالظاهر أنه لا يبطلها بل كان كل يوم يزيد فيها الثاني أن ما يكون سبب الاستحقاق فإنه يتقدر بقدر الاستحقاق وفعل العبد متناه فيكون الاستحقاق الحاصل بسببه متناهياً أما التفضل فإنه نتيجة كرم الله غير متناه فيكون تفضله أيضاً غير متناه فلما دل قوله أَعْطَيْنَاكَ على أنه تفضل لا استحقاق أشعر ذلك بالدوام والتزايد أبداً فإن قيل أليس قال سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءانَ قلنا الجواب من وجهين الأول أن الإعطاء يوجب التمليك

والملك سبب الاختصاص والدليل عليه أنه لما قال سليمان هَبْ لِى مَلَكًا فقال هَاذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ ولهذا السبب من حمل الكوثر على الحوض قال الأمة تكون أضيافاً له أما الإيتاء فإنه لا يفيد الملك فلهذا قال في القرآن ءاتَيْنَاكَ فإنه لا يجوز للنبي أن يكتم شيئاً منه الثاني أن الشركة في القرآن شركة في العلوم ولا عيب فيها أما الشركة في النهر فهي شركة في الأعيان وهي عيب الوجه الثاني في بيان أن الإعطاء أليق بهذا المقام من الإيتاء هو أن الإعطاء يستعمل في القليل والكثير قال الله تعالى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أما الإيتا فلا يستعمل إلا في الشيء العظيم قال الله تعالى وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلاً والأتي السيل المنصب إذا ثبت هذا فقوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ يفيد تعظيم حال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من وجوه أحدها يعني هذا الحوض كالشيء القليل الحقير بالنسبة إلى ما هو مدخر لك من الدرجات العالية والمراتب الشريفة فهو يتضمن البشارة بأشياء هي أعظم من هذا المذكور وثانيها أن الكوثر إشارة إلى الماء كأنه تعالى يقول الماء في الدنيا دون الطعام فإذا كان نعيم الماء كوثراً فكيف سائر النعيم وثالثها أن نعيم الماء إعطاء ونعيم الجنة إيتاء ورابعها كأنه تعالى يقول هذا الذي أعطيتك وإن كان كوثراً لكنه في حقك إعطاء لا إيتاء لأنه دون حقك وفي العادة أن المهدي إذا كان عظيماً فالهدية وإن كانت عظيمة إلا أنه يقال إنها حقيرة أي هي حقيرة بالنسبة إلى عظمة المهدي له فكذا ههنا وخامسها أن نقول إنما قال فيما أعطاه من الكوثر أعطيناك لأنه دنيا والقرآن إيتاء لأنه دين وسادسها كأنه يقول جميع ما نلت مني عطية وإن كانت كوثراً إلا أن الأعظم من ذلك الكوثر أن تبقى مظفراً وخصمك أبتر فإنا أعطيناك بالتقدمة هذا الكوثر أما الذكر الباقي والظفر على العدو فلا يحسن إعطاؤه إلا بعد التقدمة بطاعة تحصل منك فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ أي فاعبد لي وسل الظفر بعد العبادة فإني أوجبت على كرمي أن بعد كل فريضة دعوة مستجابة كذا روى في الحديث المسند فحينئذ أستجيب فيصير خصمك أبتر وهو الإيتاء فهذا ما يخطر بالبال في تفسير قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ أما الكوثر فهو في اللغة فوعل من الكثرة وهو المفرط في الكثرة قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر بم آب ابنك قالت آب بكوثر أي بالعدد الكثير ويقال للرجل الكثير العطاء كوثر قال الكميت
وأنت كثير يا ابن مروان طيب
وكان أبوك ابن الفضائل كوثراً ويقال للغبار إذا سطع وكثر كوثر هذا معنى الكوثر في اللغة واختلف المفسرون فيه على وجوه الأول وهو المشهور والمستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة روى أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( رأيت نهراً في الجنة حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا أنا بمسك أذفر فقلت ما هذا قيل الكوثر الذي أعطاك الله ) وفي رواية أنس ( أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل فيه طيور خضر لها أعناق كأعناق البخت من أكل من ذلك الطير وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان ) ولعله إنما سمي ذلك النهر كوثراً إما إنه أكثر أنهار الجنة ماء وخيراً أو لأنه انفجر منه أنهار الجنة كما روى أنه ما في الجنة بستان إلا وفيه من الكوثر نهر جار أو لكثر الذين يشربون منها أو لكثرة ما فيها من المنافع على ما قال عليه السلام ( إنه نهر وعدنيه ربي فيه خير كثير ) القول الثاني أنه حوض والأخبار فيه مشهورة ووجه التوفيق بين هذا القول والقول الأول أن يقال لعل النهر ينصب في الحوض أو لعل الأنهار إنما تسيل من ذلك

الحوض فيكون ذلك الحوض كالمنبع والقول الثالث الكوثر أولاده قالوا لأن هذه السورة إنما نزلت رداً على من عابه عليه السلام بعدم الأولاد فالمعنى أنه يعطيه نسلاً يبقون على مر الزمان فانظر كم قتل من أهل البيت ثم العالم ممتلىء منهم ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به ثم أنظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم القول الرابع الكوثر علماء أمته وهو لعمري الخير الكثير لأنهم كأنبياء بني إسرائيل وهم يحبون ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وينشرون آثار دينه وأعلام شرعه ووجه التشبيه أن الأنبياء كانوا متفقين على أصول معرفة الله مختلفين في الشريعة رحمة على الخلق ليصل كل أحد إلى ما هو صلاحه كذا علماء أمته متفقون بأسرهم على أصول شرعه لكنهم مختلفون في فروع الشريعة رحمة على الخلق ثم الفضيلة من وجهين أحدهما أنه يروى أنه يجاء يوم القيامة بكل نبي ويتبعه أمته فربما يجيء الرسول ومعه الرجل والرجلان ويجاء بكل عالم من علماء أمته ومعه الأولف الكثيرة فيجتمعون عند الرسول فربما يزيد عدد متبعي بعض العلماي على عدد متبعيألف من الأنبياء الوجه الثاني أنهم كانوا مصيبين لأتباعهم النصوص المأخوذة من الوحي وعلماء هذه الأمة يكونون مصيبين مع كد الاستنباط والاجتهاد أو على قول البعض إن كان بعضهم مخطئاً لكن المخطىء يكون أيضاً مأجوراً القول الخامس الكوثر هو النبوة ولا شك أنها الخير الكثير لأنها المنزلة التي هي ثانية الربوبية ولهذا قال مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وهو شطر الإيمان بل هي كالغصن في معرفة الله تعالى لأن معرفة النبوة لا بد وأن يتقدمها معرفة ذات الله وعلمه وقدرته وحكمته ثم إذا حصلت معرفة النبوة فحينئذ يستفاد منها معرفة بقية السفات كالسمع والبصر والصفات الخيرية والوجدانية على قول بعضهم تم لرسولنا الحظ الأوفر من هذه المنقبة لأنه الذكور قبل سائر الأنبياء والمبعوث بعدهم ثم هو مبعوث إلى الثقلين وهو الذي يحشر قبل كل الأنبياء ولا يجوز ورود الشرع على نسخه وفضائله أكثر من أن تعد وتحصى ولنذكر ههنا قليلاً منها فنقول إن كتاب آدم عليه السلام كان كلمات على ما قال تعالى فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ وكتاب إبراهيم أيضاً كان كلمات على ما قال وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ وكتاب موسى كان صحفاً كما قال صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى أما كتاب محمد عليه السلام فإنه هو الكتاب المهيمن على الكل قال وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ وأيضاً فإن آدم عليه السلام إنما تحدى بالأسماء المنثورة فقال أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء ومحمد عليه الصلاة والسلام إنما تحدى بالمنظوم قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ وأما نوح عليه السلام فإن الله أكرمه بأن أمسك سفينته على الماء وفعل في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما هو أعظم منه روى أن النبي عليه الصلاة والسلام ( كان على شط ماء ومعه عكرمة بن أبي جهل فقال لئن كنت صادقاً فادع ذلك الحجر الذي هو في الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق فأشار الرسول إليه فانقلع الحجر الذي أشار إليه من مكانه وسبح حتى صار بين يدي الرسول عليه السلام وسلم عليه وشهد له بالرسالة فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يكفيك هذا قال حتى يرجع إلى مكانه فأمره النبي عليه الصلاة والسلام فرجع إلى مكانه وأكرم إبراهيم فجعل النار عليه برداً وسلاماً وفعل في حق محمد أعظم من ذلك عن محمد بن حاطب قال ( كنت طفلاً فانصب القدر علي من النار فاحترق جلدي كله فحملتني أمي إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت هذا ابن حاطب احترق كما ترى فتفل

رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على جلدي ومسح بيده على المحترق منه وقال أذهب البأس رب الناس فصرت صحيحاً لا بأس بي ) وأكرم موسى ففلق له البحر في الأرض وكرم محمداً ففلق له القمر في السماء ثم أنظر إلى فرق ما بين السماء والأرض وفجر له الماء من الحجر وفجر لمحمد أصابعه عيوناً وأكرم موسى بأن ظلل عليه الغمام وكذا أكرم محمداً بذلك فكان الغمام يظلله وأكرم موسى باليد البيضاء وأكرم محمداً بإعظم من ذلك وهو القرآن العظيم الذي وصل نوره إلى الشرق والغرب وقلب الله عصا موسى ثعباناً ولما أراد أبو جهل أن يرميه بالحجر رأى على كتفيه ثعبانين فانصرف مرعوباً وسبحت الجبال مع داود وسبحت الأحجار في يده ويد أصحابه وكان داود إذا مسك الحديد لان وكان هو لما مسح الشاة الجرباء درت وأكرم داود بالطير المحشورة ومحمداً بالبراق وأكرم عيسى عليه السلام بإحياء الموتى وأكرمه بجنس ذلك حين أضافه اليهود بالشاة المسمومة فلما وضع اللقمة في فمه أخبرته وأبرأ الأكمه والأبرص روى أن امرأة معاذ بن عفراء أتته وكانت برصاء وشكت ذلك إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فمسح عليها رسول الله بغصن فأذهب الله البرص وحين سقطت حدقة الرجل يوم أحد فرفعها وجاء بها إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فردها إلى مكانها وكان عيسى يعرف ما يخفيه الناس في بيوتهم والرسول عرف ما أخفاه عمه مع أم الفضل فأخبره فأسلم العباس لذلك وأما سليمان فإن الله تعالى رد له الشمس مرة وفعل ذلك أيضاً للرسول حين نام ورأسه في حجر علي فانتبه وقد غربت الشمس فردها حتى صلى وردها مرة أخرى لعلي فصلى العصر في وقته وعلم سليمان منطق الطير وفعل ذلك في حق محمد روى أن طيراً فجع بولده فجعل يرفرف على رأسه ويكلمه فقال أيكم فجع هذه بولدها فقال رجل أنا فقال أردد إليها ولدهاا وكلام الذئب معه مشهور وأكرم سليمان بمسيرة غدوة شهراً وأكرمه بالمسير إلى بيت المقدس في ساعة وكان حماره يعفور يرسله إلى من يريد فيجيء به وقد شكوا إليه من ناقة أنها أغيلت وأنهم لا يقدرون عليها فذهب إليها فلما رأته خضعت له وأرسل معاذاً إلى بعض النواحي فلما وصل إلى المفازة فإذا أسد جاثم فهاله ذلك ولم يستجر ( ىء ) أن يرجع فتقدم وقال إني رسول رسول الله فتبصبص وكما انقاد الجن لسليمان فكذلك انقادوا لمحمد عليه الصلاة والسلام وحين جاء الأعرابي بالضب وقال لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الضب فتكلم الضب معترفاً برسالته وحين كفل الظبية حين أرسلها الأعرابي رجعت تعدو حتى أخرجته من الكفالة وحنت الحنانة لفراقه وحين لسعت الحية عقب الصديق في الغار قالت كنت مشتاقة إليه منذ كذا سنين فلم حجبتني عنها وأطعم الخلق الكثير من الطعام القليل ومعجزاته أكثر من أن تحصى وتعد فلهذا قدمه الله على الذين اصطفاهم فقال وَإِذَا أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ فلما كانت رسالته كذلك جاز أن يسميها الله تعالى كوثراً فقال إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ القول السادس الكوثر هو القرآن وفضائله لا تحصى وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ حِوَلاً قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَاتِ رَبّى القول السابع الكوثر الإسلام وهو لعمري الخير الكثير فإن به يحصل خير الدنيا والآخرة وبفواته يفوت خير الدنيا وخير الآخرة وكيف لا والإسلام عبارة عن المعرفة أو مالا بد فيه من المعرفة قال وَمِنْ يُؤْتِى الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا وإذا كان الإسلام خيراً كثيراً فهو الكوثر فإن قيل لم خصه بالإسلام مع أن نعمه عمت الكل قلنا لأن الإسلام وصل منه إلى غيره فكان عليه السلام كالأصل فيه القول الثامن

الكوثر كثرة الأتباع والأشياع ولا شك أن له من الأتباع مالا يحصيهم إلا الله وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال ( أنا دعوة خليل الله إبراهيم وأنا بشرى عيسى وأنا مقبول الشفاعة يوم القيامة فبيناً أكون مع الأنبياء إذ تظهر لنا أمة من الناس فنبتدرهم بأبصارنا ما منا من نبي إلا وهو يرجو أن تكون أمته فإذا هم غر محجلون من آثار الوضوء فأقول أمتي ورب الكعبة فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يظهر لنا مثلاً ما ظهر أولاً فنبتدرهم بأبصارنا ما من نبي إلا ويرجو أن تكون أمته فإذا هم غر محجلون من آثار الوضوء فأقول أمتي ورب الكعبة فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يرفع لنا ثلاثة أمثال ما قد رفع فنبتدرهم وذكر كما ذكر في المرة الأولى والثانية ثم قال ليدخلن ثلاث فرق من أمتي الجنة قبل أن يدخلها أحد من الناس ) ولقد قال عليه الصلاة والسلام ( تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط ) فإذا كان يباهي بمن لم يبلغ حد التكليف فكيف بمثل هذا الجم الغفير فلا جرم حسن منه تعالى أن يذكره هذه النعمة الجسيمة فقال الْمَاعُونَ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ القول التاسع الْكَوْثَرَ الفضائل الكثيرة التي فيه فإنه باتفاق اومة أفضل من جميع الأنبياء قال المفضل بن سلمة يقال رجل كوثر إذا كان سخياً كثير الخير وفي صحاح اللغة الْكَوْثَرَ السيد الكثير الخير فلما رزق الله تعالى أن يذكره تلك النعمة الجسيمة فيقول إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ القول العاشر الكوثر رفعة الذكر وقد مر تفسيره في قوله وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ القول الحادي عشر أنه العلم قالوا وحمل الكوثر على هذا أولى لوجوه أحدها أن العلم هو الخير الكثير قال وَعَلَّمَكَ لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً وأمره بطلب العلم فقال وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً وسمي الحكمة خيراً كثيراً فقال وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا وثانيها أنا إما أن نحمل الكوثر على نعم الآخرة أو على نعم الدنيا والأول غير جائز لأنه قال أعطينا ونعم الجنة سيعطيها لا أنه أعطاها فوجب حمل الكوثر على ما وصل إليه في الدنيا وأشرف الأمور الواصلة إليه في الدنيا هو العلم والنبوة داخلة في العلم فوجب حمل اللفظ على العلم وثالثها أنه لما قال أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ قال عقيبه فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ والشيء الذي يكون متقدماً على العبادة هو المعرفة ولذلك قال في سورة النحل أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ وقال في طه إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى فقدم في السورتين المعرفة على العبادة ولأن فاء الموجب للعبادة ليس إلا العلم القول الثاني عشر أن الكوثر هو الخلق الحسن قالوا الانتفاع بالخلق الحسن عام ينتفع به العالم والجاهل والبهيمة والعاقل فأما الانتفاع بالعلم فهو مختص بالعقلاء فكان نفع الخلق الحسن أعم فوجب حمل الكوثر عليه ولقد كان عليه السلام كذلك كان للأجانب كالوالد يحل عقدهم ويكفي مهمهم وبلغ حسن خلقه إلى أنهم لما كسروا سنه قال ( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) القول الثالث عشر الكوثر هو المقام المحمود الذي هو الشفاعة فقال في الدنيا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وقال في الآخرة ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) وعن أبي هريرة قال عليه السلام ( إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ) القول الرابع عشر أن المراد من الكوثر هو هذه السورة قال وذلك لأنها مع قصرها وافية بجميع منافع الدنيا والآخرة وذلك لأنها مشتملة على المعجز من وجوه أولها أنا إذا حملنا

الكوثر على كثرة الأتباع أو على كثرة الأولاد وعدم انقطاع النسل كان هذا إخباراً عن الغيب وقد وقع مطابقاً له فكان معجزاً وثانيها أنه قال فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ وهو إشارة إلى زوال الفقر حتى يقدر على النحر وقد وقع فيكون هذا أيضاً إخباراً عن الغيب وثالثها قوله إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ وكان الأمر على ما أخبر فكان معجزاً ورابعها أنهم عجزوا عن معارضتها مع صغرها فثبت أن وجه الإعجاز في كمال القرآن إنما تقرر بها لأنهم لما عجزوا عن معارضتها مع صغرها فبأن يعجزوا عن معارضة كل القرآن أولى ولما ظهر وجه الإعجاز فيها من هذه الوجوه فقد تقررت النبوة وإذا تقررت النبوة فقد تقرر التوحيد ومعرفة الصانع وتقرر الدين والإسلام وتقرر أن القرآن كلام الله وإذا تقررت هذه الأشياء تقرر جميع خيرات الدنيا والآخرة فهذه السورة جارية مجرى النكتة المختصرة القوية الوافية بإثبات جميع المقاصد فكانت صغيرة في الصورة كبيرة في المعنى ثم لها خاصية ليست لغيرها وهي أنها ثلاث آيات وقد بينا أن كل واحدة منها معجز فهي بكل واحدة من آياتها معجز وبمجموعها معجز وهذه الخاصية لا توجد في سائر السور فيحتمل أن يكون المراد من الكوثر هو هذه السورة القول الخامس عشر أن المراد من الكوثر جميع نعم الله على محمد عليه السلام وهو المنقول عن ابن عباس لأن لفظ الكوثر يتناول الكثرة الكثيرة فليس حمل الآية على بعض هذه النعم أولى من حملها على الباقي فوجب حملها على الكل وروى أن سعيد بن جبير لما روى هذا القول عن ابن عباس قال له بعضهم إنا ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة فقال سعيد النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه وقال بعض العلماء ظاهر قوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ يقتضي أنه تعالى قد أعطاه ذلك الكوثر فيجب أن يكون الأقرب حمله على ما آتاه الله تعالى من النبوة والقرآن والذكر الحكيم والنصرة على الأعداء وأما الحوض وسائر ما أعد له من الثواب فهو وإن جاز أن يقال إنه داخل فيه لأن ما ثبت بحكم وعد الله فهو كالواقع إلا أن الحقيقة ما قدمناه لأن ذلك وإن أعد له فلا يصح أن يقال على الحقيقة إنه أعطاه في حال نزول هذه السورة بمكة ويمكن أن يجاب عنه بأن من أقر لولده الصغير بضيعة له يصح أن يقال إنه أعطاه تلك الضيعة مع أن الصبي في تلك الحال لا يكون أهلاً للتصرف والله أعلم
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ
قوله تعالى فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ في الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله فَصْلٌ وجوه الأول أن المراد هو الأمر بالصلاة فإن قيل اللائق عند النعمة الشكر فلم قال فصل ولم يقل فاشكر الجواب من وجوه الأول أن الشكر عبارة عن التعظيم وله ثلاثة أركان أحدها يتعلق بالقلب وهو أن يعلم أن تلك النعمة منه لا من غيره والثاني باللسان وهو أن يمدحه والثالث بالعمل وهو أن يخدمه ويتواضع له والصلاة مشتملة على هذه المعاني وعلى ما هو أزيد منها فالأمر بالصلاة أمر بالشكر وزيادة فكان الأمر بالصلاة أحسن وثانيها أنه لو قال فاشكر لكان ذلك يوهم أنه ما كان شاكراً لكنه كان من أول أمره عارفاً بربه مطيعاً له شاكراً لنعمه أما الصلاة فإنه إنما عرفها بالوحي قال مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ الثالث أنه في أول ما أمره بالصلاة قال محمد عليه الصلاة والسلام كيف أصلي ولست على الوضوء فقال الله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ

ثم ضرب جبريل بجناحه على الأرض فنبع ماء الكوثر فتوضأ فقيل له عند ذلك فصل فأما إذا حملنا الكوثر على الرسالة فكأنه قال أعطيتك الرسالة لتأمر نفسك وسائر الخلق بالطاعات وأشرفها الصلاة فصل لربك القول الثاني فصل لربك أي فاشكر لربك وهو قول مجاهد وعكرمة وعلى هذا القول ذكروا في فائدة الفاء في قوله فصل وجوهاً أحدها التنبيه على أن شكر النعمة يجب على الفور لا على التراخي وثانيها أن المراد من فاء التعقيب ههنا الإشارة إلى ما قرره بقوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ثم إنه خص محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا الباب بمزيد مبالغة وهو قوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ولأنه قال له فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ أي فعليك بأخرى عقيب الأولى فكيف بعد وصول نعمتي إليك ألا يجب عليك أن تشرع في الشكر عقيب ذلك القول الثالث فصل أي فادع الله لأن الصلاة هي الدعاء وفائدة الفاء على هذا التقدير كأنه تعالى يقول قبل سؤالك ودعائك ما بخلنا عليك بالكوثر فكيف بعد سؤالك لكن ( سل تعطه واشفع تشفع ) وذلك لأنه كان أبداً في هم أمته واعلم أن القول الأول أولى لأنه أقرب إلى عرف الشرع
المسألة الثانية في قوله لِرَبّكَ وَانْحَرْ قولان
الأول وهو قول عامة المفسرين أن المراد هو نحر البدن والقول الثاني أن المراد بقوله وَانْحَرْ فعل يتعلق بالصلاة إما قبلها أو فيها أو بعدها ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها قال الفراء معناها استقبل القبلة وثانيها روى الأصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام قال لما نزلت هذه السورة قال النبي عليه الصلاة والسلام لجبريل ( ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي قال ليست بنحيرة ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت فإنه صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع وإن لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة ) وثالثها روى عن علي بن أبي طالب أنه فسر هذا النحر بوضع اليدين على النحر في الصلاة وقال رفع اليدين قبل الصلاة عادة المستجير العائذ ووضعها على النحر عادة الخاضع الخاشع ورابعها قال عطاء معناه اقعد بين السجدتين حتى يبدو نحرك وخامسها روى عن الضحاك وسليمان التيمي أنهما قالا انحر معناه ارفع يديك عقيب الدعاء إلى نحرك قال الواحدي وأصل هذه الأقوال كلها من النحر الذي هو الصدر يقال لمذبح البعير النحر لأن منحره في صدره حيث يبدو الحلقوم من أعلى الصدر فمعنى النحر في هذا الموضع هو إصابة النحر كما يقال رأسه وبطنه إذا أصاب ذلك منه وأما قول الفراء إنه عبارة عن استقبال القبلة فقال ابن الأعرابي النحر انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب وهو أن ينصب نحره بإزاء القبلة ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً وقال الفراء منازلهم تتناحر أن تتقابل وأنشد
أبا حكم هل أنت عم مجالد
وسيد أهل الأبطح المتناحر والنكتة المعنوية فيه كأنه تعالى يقول الكعبة بيتي وهي قبلة صلاتك وقلبك وقبلة رحمتء ونظر عنايتي فلتكن القبلتان متناحرتين قال الأكثرون حمله على نحر البدن أولى لوجوه أحدها هو أن الله تعالى كلما ذكر الصلاة في كتابه ذكر الزكاة بعدها وثانيها أن القوم كانوا يصلون وينحرون للأوثان فقيل له فصل وانحر لربك وثالثها أن هذه الأشياء آداب الصلاة وأبعاضها فكانت داخلة تحت قوله الْكَوْثَرَ فَصَلّ لِرَبّكَ فوجب

أن يكون المراد من النحر غيرها لأنه يبعد أن يعطف بعض الشيء على جميعه ورابعها أن قوله فَصْلٌ إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله وَانْحَرْ إشارة إلى الشفقة على خلق الله وجملة العبودية لا تخرج عن هذين الأصلين وخامسها أن استعمال لفظة النحر على نحر البدن أشهر من استعماله في سائر الوجوه المذكورة فيجب حمل كلام الله عليه وإذا ثبت هذا فنقول استدلت الحنفية على وجوب الأضحية بأن الله تعالى أمره بالنحر ولا بد وأن يكون قد فعله لأن ترك الواجب عليه غير جائر وإذا فعله النبي عليه الصلاة والسلام وجب علينا مثله لقوله وَاتَّبِعُوهُ ولقوله فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وأصحابنا قالوا الأمر بالمتابعة مخصوص بقوله ( ثلاث كتبت علي ولم تكتب عليكم الضحى والأضحى والوتر )
المسألة الثالثة اختلف من فسر قوله فَصْلٌ بالصلاة على وجوه الأول أنه أراد بالصلاة جنس الصلاة لأنهم كانوا يصلون لغير الله وينحرون لغير الله فأمره أن لا يصلي ولا ينحر إلا لله تعالى واحتج من جوز تأخير بيان المجمل بهذه الآية وذلك لأنه تعالى أمر بالصلاة مع أنه ما بين كيفية هذه الصلاة أجاب أبو مسلم وقال أراد به الصلاة المفروضة أعني الخمس وإنما لم يذكر الكيفية لأن الكيفية كانت معلومة من قبل القول الثاني أراد صلاة العيد والأضحية لأنهم كانوا يقدمون الأضحية على الصلاة فنزلت هذه الآية قال المحققون هذا قول ضعيفلأن عطف الشيء على غيره بالواو لا يوجب الترتيب القول الثالث عن سعيد بن جبير صل الفجر بالمزدلفة وانحر بمنى والأقرب القول الأول لأنه لا يجب إذا قرن ذكر النحر بالصلاة أن تحمل الصلاة على ما بقع يوم النحر
المسألة الرابعة اللام في قوله لِرَبّكِ فيها فوائد الفائدة الأولى هذه اللام للصلاة كالروح للبدن فكما أن البدن من الفرق إلى القدم إنما يكون حسناً ممدوحاً إذا كان فيه روح أما إذا كان ميتاً فيكون مرمياً كذا الصلاة والركوع والسجود وإن حسنت في الصورة وطالت لو لم يكن فيها لام لربك كانت ميتة مرمية والمراد من قوله تعالى لموسى اتْلُ مَا لِذِكْرِى وقيل إنه كانت صلاتهم ونحرهم للصنم فقيل له لتكن صلاتك ونحرك لله
الفائدة الثانية كأنه تعالى يقول ذكر في السورة المتقدمة أنهم كانوا يصلون للمراءآة فصل أنت لا للرياء لكن على سبيل الإخلاص
المسألة الخامسة الفاء في قوله فَصْلٌ تفيد سببية أمرين أحدهما سببية العبادة كأنه قيل تكثير الإنعام عليك يوجب عليك الاشتغال بالعبودية والثاني سببية ترك المبالاة كأنهم لما قالوا له إنك أبتر فقيل له كما أنعمنا عليك بهذه النعم الكثيرة فاشتغل أنت بطاعتك ولا تبال بقولهم وهذيانهم
واعلم أنه لما كانت النعم الكثيرة محبوبة ولازم المحبوب محبوب والفاء في قوله فَصْلٌ اقتضت كون الصلاة من لوازم تلك النعم لا جرم صارت الصلاة أحب الأشياء للنبي عليه الصلاة والسلام فقال ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) ولقد صلى حتى تورمت قدماه فقيل له أوليس قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال ( أفلا أكون عبداً شكوراً ) فقوله ( أفلا أكون عبداً شكوراً ) إشارة إلى أنه يجب على الاشتغال بالطاعة بمقتضى الفاء في قوله فَصْلٌ

المسألة السادسة كان الأليق في الظاهر أن يقول إن أعطيناك الكوثر فصل لنا وانحر لكنه ترك ذلك إلى قوله فَصَلّ لِرَبّكَ لفوائد إحداها أن وروده على طريق الالتفات من أمهات أبواب الفصاحة وثانيها أن صرف الكلام من المضمر إلى المظهر يوجب نوع عظمة ومهابة ومنه قول الخلفاء لمن يخاطبونهم يأمرك أمير المؤمنين وينهاك أمير المؤمنين وثالثها أن قوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ليس في صريح لفظه أن هذا القائل هو الله أو غيره وأيضاً كلمة إنا تحتمل الجمع كما تحتمل الواحد المعظم نفسه فلو قال صل لنا لنفي ذلك الاحتمال وهو أنه ما كان يعرف أن هذه الصلاة لله وحده أم له ولغيره على سبيل التشريك فلهذا ترك اللفظ وقال فَصَلّ لِرَبّكَ ليكون ذلك إزالة لذلك الاحتمال وتصريحاً بالتوحيد في الطاعة والعمل لله تعالى
المسألة السابعة قوله فَصَلّ لِرَبّكَ أبلغ من قوله فصل لله لأن لفظ الرب يفيد التربية المتقدمة المشار إليها بقوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ويفيد الوعد الجميل في المستقبل أنه يربيه ولا يتركه
المسألة الثامنة في الآية سؤالان أحدهما أن المذكور عقب الصلاة هو الزكاة فلم كان المذكور ههنا هو النحر والثاني لما لم يقل ضحي حتى يشمل جميع أنواع الضحايا والجواب عن الأول أما على قول من قال المراد من الصلاة صلاة العيد فالأمر ظاهر فيه وأما على قول من حمله على مطلق الصلاة فلوجوه أحدها أن المشركين كانت صلواتهم وقرابينهم للأوثان فقيل له اجعلهما لله وثانيها أن من الناس من قال إنه عليه السلام ما كان يدخل في ملكه شيء من الدنيا بل كان يملك بقدر الحاجة فلا جرم لم تجب الزكاة عليه أما النحر فقد كان واجباً عليه لقوله ( ثلاث كتبت علي ولم تكتب على أمتي الضحى والأضحى والوتر ) وثالثها أن أعز الأموال عند العرب هو الإبل فأمره بنحرها وصرفها إلى طاعة الله تعالى تنبيهاً على قطع العلائق النفسانية عن لذات الدنيا وطيباتها روى أنه عليه السلام أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب فنحر هو عليه السلام حتى أعيا ثم أمر علياً عليه السلام بذلك وكانت النوق يزدحمن على رسول الله فلما أخذ على السكين تباعدت منه والجواب عن الثاني أن الصلاة أعظم العبادات البدنية فقرن بها أعظم أنواع الضحايا وأيضاً فيه إشارة إلى أنك بعد فقرك تصير بحيث تنحر المائة من الإبل
المسألة التاسعة دلت الآية على وجوب تقديم الصلاة على النحر لا لأن الواو توجب الترتيب بل لقوله عليه السلام ( ابدؤا بمابدأ الله به )
المسألة العاشرة السورة مكية في أصح الأقوال وكان الأمر بالنحر جارياً مجرى البشارة بحصول الدولة وزوال الفقر والخوف
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاٌّ بْتَرُ
قوله تعالى إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب النزول وجوهاً أحدها أنه عليه السلام كان يخرج من المسجد والعاص بن وائل السهمي يدخل فالتقيا فتحدثا وصناديد قريش في المسجد فلما دخل قالوا من الذي كنت

تتحدث معه فقال ذلك الأبتر وأقول إن ذلك من إسرار بعضهم مع بعض مع أن الله تعالى أظهره فحينئذ يكون ذلك معجزاً وروى أيضاً أن العاص بن واثل كان يقول إن محمداً أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده فإذا مات انقطع ذكره واسترحم منه وكان قد مات ابنه عبد الله من خديجة وهذا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي وعامة أهل التفسير القول الثاني روى ن ابن عباس لما قدم كعب بن الأشراف مكة أتاه جمامة قريش فقالوا نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيد أهل المدينة فنحن خير أم هذا الأبتر من قومه يزعم أنه خير منا فقال بل أنتم خير منه فنزل إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ ونزل أيضاً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ والقول الثالث قال عكرمة وشهر بن حوشب لما أوحى الله إلى رسوله ودعا قريشاً إلى الإسلام قالوا بتر محمد أي خالفنا وانقطع عنا فأخبر تعالى أنهم هم المبتورون القول الرابع نزلت في أبي جهل فإنه لما مات ابن رسول الله قال أبو جهل إن أبغضه لأنه أبتر وهذا منه حماقة حيث أبغضه بأمر لم يكن باختياره فإن موت الابن لم يكن مراده القول الخامس نزلت في عمه أبي لهب فإنه لما شافهه بقوله تباً لك كان يقول في غيبته إنه أبتر والقول السادس أنها نزلت في عقبة بن أبي معيط وإنه هو الذي كان يقول ذلك واعلمأنه لا يبعد في كل أولئك الكفرة أن يقولوا مثل ذلك فإنهم كانوا يقولون فيه ما هو أسوأ من ذلك ولعل العاص بن وائل كان أكثرهم مواظبة على هذا القول فلذلك اشتهرت الروايات بأن الآية نزلت فيه
المسألة الثانية الشنآن هو البغض والشانىء هو المبغض وأما البتر فهو في اللغة استئصال القطع يقال بترته أبتره بتراً وبتر أي صار أبتر وهو مقطع الذنب ويقال الذي لا عقب له أبتر ومنه الحمار الأبتر الذي لا ذنب له وكذلك لمن انقطع عنه الخير
ثم إن الكفار لما وصفوه بذلك بين تعالى أن الموصوف بهذه الصفة هو ذلك البمغض على سبيل الحضر فيه فإنك إذا قلت زيدهو العالم يفيد أنه لا عالم غيره إذا عرفت هذا فقول الكفار فيه عليه الصلاة والسلام إنه أبتر لا شك أنهم لعنهم الله أرادوا به أنه انقطع الخير عنه
ثم ذلك إما أن يحمل على خير معين أو على جميع الخيرات أما الأول فيحتمل وجوهاً أحدها قال السدي كانت قريش يقولون لمن مات الذكور من أولاده بتر فلما مات ابنه القاسم وعبد الله بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا بتر فليس له من يقوم مقامه ثم إنه تعالى بين أن عدوه هو الموصوف بهذه الصفة فإنا نرى أن نسل أولئك الكفرة قد انقطع ونسله عليه الصلاة والسلام كل يوم يزداد وينمو وهكذا يكون إلى قيام القيامة وثانيها قال الحسن عنوا بكونه أبتر أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه والله تعالى بين أن خصمه هو الذي يكون كذلك فإنهم صاروا مدبرين مغلوبين مقهورين وصارت رايات الإسلام عالية وأهل الشرق والغرب لعا متواضعة وثالثها زعموا أنه أبتر لأنه ليس له ناصر ومعين وقد كذبوا لأن الله تعالى هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين وأما الكفرة فلم يبق لهم ناصر ولا حبيب ورابعها الأبتر هو الحقير الذليل روى أن أبا جهل اتخذ ضيافة لقوم ثم إنه وصف رسول الله بهذا الوصف ثم قال قوموا حتى نذهب إلى محمد وأصارعه وأجعله ذليلاً حقيراً فلما وصلوا إلى دار خديجة وتوافقوا على ذلك أخرجت خديجة بساطاً فلما تصارعا جعل أبو جهل يجتهد في أن يصرعه وبقي النبي عليه الصلاة والسلام واقفاً

كالجبل ثم بعد ذلك رماه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أقبح وجه فلما رجع أخذه باليد اليسرى لأن اليسرى للاستنجاء فكان نجساً فصرعه على الأرض مرة أخرى ووضع قدمه على صدره فذكر بعض القصاص أن المراد من قوله إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ هذه الواقعة وخامسها أن الكفرة لما وصفوه بهذا الوصف قيل إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ أي الذي قالوه فيك كلام فاسد يضمحل ويفنى وأما المدح الذي ذكرناه فيك فإنه باق على وجه الدهر وسادسها أن رجلاً قام إلى الحسن بن علي عليهما السلام وقال سودت وجوه المؤمنين بأن تركت الإمامة لمعاوية فقال لا تؤذيني يرحمك الله فإن رسول الله رأى بني أمية في المنام يصعدون منبره رجلاً فرجلاً فساءه ذلك فأنزل الله تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ فكان ملك بني أمية كذلك ثم انقطعوا وصاروا مبتورين
المسألة الثالثة الكفار لما شتموه فهو تعالى أجاب عنه من غير واسطة فقال إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ وهكذا سنة الأحباب فإن الحبيب إذا سمع من يشتم حبيبه تولى بنفسه جوابه فههنا تولى الحق سبحانه جوابهم وذكر مثل ذلك في مواضع حين قالوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّة ٌ فقال سبحانه بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ وحين قالوا هو مجنون أقسم ثلاثاً ثم قال مَا أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ ولما قالوا لَسْتَ مُرْسَلاً أجاب فقال يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وحين قالوا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ رد عليهم وقال بَلْ جَاء بِالْحَقّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ فصدقه ثم ذكر وعيد خصمائه وقال إِنَّكُمْ يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ وحين قال حاكياً أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ قال وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشّعْرَ ولما حكى عنهم قوله وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ سماهم كاذبين بقوله فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً ولما قالوا مَا لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ أجابهم فقال وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاْسْوَاقِ فما أجل هذه الكرامة
المسألة الرابعة اعلم أنه تعالى لما بشره بالنعم العظيمة وعلم تعالى أن النعمة لا تهنأ إلا إذا صار العدو مقهوراً لا جرم وعده بقهر العدو فقال إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ وفيه لطائف إحداها كأنه تعالى يقول لا أفعله لكي يرى بعض أسباب دولتك وبعض أسباب محنة نفسه فيقتله الغيظ وثانيها وصفه بكونه شانئاً كأنه تعالى يقول هذا الذي يبغضك لا يقدر على شيء آخر سوى أنه يبغضك والمبغض إذا عجز عن الإيذاء فحينئذ يحترق قلبه غيظاً وحسداً فتصير تلك العداوة من أعظم أسباب حصول المحنة لذلك العدو وثالثها أن هذا الترتيب يدل على أنه إنما صار أبتر لأنه كان شانئاً له ومبغضاً والأمر بالحقيقة كذلك فإن من عادى محسوداً فقد عادى الله تعالى لاسيما من تكفل بإعلان شأنه وتعظيم مرتبته ورابعها أن العدو وصف محمداً عليه الصلاة والسلام بالقلة والذلة ونفسه بالكثرة والدولة فقلب الله الأمر عليه وقال العزيز من أعزه الله والذليل من أذله الله فالكثرة والكوثر لمحمد عليه السلام والأبترية والدناءة والذلة للعدو فحصل بين أول السورة وآخرها نوع من المطابقة لطيف

المسألة الخامسة اعلم أن من تأمل في مطالع هذه السورة ومقاطعها عرف أن الفوائد التي ذكرناها بالنسبة إلى ما استأثر الله بعلمه من فوائد هذه السورة كالقطرة في البحر روى عن مسيلمة أنه عارضها فقال إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر إن مبغضك رجل كافر ولم يعرف المخذول أنه محروم عن المطلوب لوجوه أحدها أن الألفاظ والترتيب مأخوذان من هذه السورة وهذا لا يكون معارضة وثانيها أنا ذكرنا أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها وكالأصل لما بعدها فذكر هذه الكلمات وحدها يكون إهمالاً لأكثر لطائف هذه السورة وثالثها التفاوت العظيم الذي يقر به من له ذوق سليم بين قوله إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ وبين قوله إن مبغضك رجل كافر ومن لطائف هذه السورة أن كل أحد من الكفار وصف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بوصف آخر فوصفه بأنه لا ولد له وآخر بأنه لا معين له ولا ناصر له وآخر بأنه لا يبقى منه ذكر فالله سبحانه مدحه مدحاً أدخل فيه كل الفضائل وهو قوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ لأنه لما لم يقيد ذلك الكوثر بشيء دون شيء لا جرم تناول جميع خيرات الدنيا والآخرة ثم أمره حال حياته بمجموع الطاعات لأن الطاعات إما أن تكون طاعة البدن أو طاعة القلب أما طاعة البدن فأفضله شيئان لأن طاعة البدن هي الصلاة وطاعة المال هي الزكاة وأما طاعة القلب فهو أن لا يأتي بشيء إلا لأجل الله واللام في قوله اقْنُتِى لِرَبّكِ يدل على هذه الحالة ثم كأنه نبه على أن طاعة القلب لا تحصل إلا بعد حصول طاعة البدن فقدم طاعة البدن في الذكر وهو قوله فَصْلٌ وأخر اللام الدالة على طاعة القلب تنبيهاً على فساد مذهب أهل الإباحة في أن العبد قد يستغني بطاعة قلبه عن طاعة جوارحه فهذه اللام تدل على بطلان مذهب الإباحة وعلى أنه لا بد من الإخلاص ثم نبه بلفظ الرب على علو حاله في المعاد كأنه يقول كنت ربيتك قبل وجودك أفأترك تربيتك بعد مواظبتك على هذه الطاعات ثم كما تكفل أولاً بإفاضة النعم عليه تكفل في آخر السورة بالذب عنه وإبطال قول أعدائه وفيه إشارة إلى أنه سبحانه هو الأول بإفاضة النعم والآخر بتكميل النعم في الدنيا والآخرة والله سبحانه وتعالى أعلم

سورة الكافرون
ست آيات مكية
اعلم أن هذه السورة تسمى سورة المنابذة وسورة الإخلاص والمقشقشة وروى أن من قرأها فكأنما قرأ ربع القرآن والوجه فيه أن القرآن مشتمل على الأمر بالمأمورات والنهي عن المحرمات وكل واحد منهما ينقسم إلى ما يتعلق بالقلوب وإلى ما يتعلق بالجوارح وهذه السورة مشتملة على النهي عن المحرمات المتعلقة بأفعال القلوب فتكون ربعاً للقرآن والله أعلم
قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ
قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ
اعلم أن قوله تعالى السَّمَاء كَطَى ّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى َ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِى هَاذَا لَبَلَاغاً لّقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ثم كان مأموراً بأن يدعو إلى الله بالوجه الأحسن الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ولما كان الأمر كذلك ثم إنه خاطبهم بيا أيها الكافرون فكانوا يقولون كيف يليق هذا التعليظ بذلك الرفق فأجاب بأني مأمور بهذا الكلام لا أني ذكرته من عند نفسي فكان المراد من قوله قل تقرير هذا المعنى وثانيها أنه لما قيل له وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ وهو كان يحب أقرباءه لقوله قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى

فكانت القرابة ووحدة النسب كالمانع من إظهار الخشونة فأمر بالتصريح بتلك الخشونة والتغليظ فقيل له قُلْ وثالثها أنه لما قيل له يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ فأمر بتبليغ كل من أنزل عليه فلما قال الله تعالى له قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ نقل هو عليه السلام هذا الكلام بجملته كأنه قال إنه تعالى أمرني بتبليغ كل ما أنزل علي والذي أنزل علي هو مجموع قوله قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فأنا أيضاً أبلغه إلى الخلق هكذا ورابعها أن الكفار كانوا مقرين بوجود الصانع وأنه هو الذي خلقهم ورزقهم على ما قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ والعبد يتحمل من مولاه مالا يتحمله من غيره فلو أنه عليه السلام قال ابتداء فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ لجوزوا أن يكون هذا كلام محمد فلعلهم ما كانوا يتحملونه منه وكانوا يؤذونه أما لما سمعوا قوله قُلْ علموا أنه ينقل هذا التغليظ عن خالق السموات والأرض فكانوا يتحملونه ولا يعظم تأذيهم به وخامسها أن قوله قُلْ يوجب كونه رسولاً من عند الله فكلما قيل له قُلْ كان ذلك كالمنشور الجديد في ثبوت رسالته وذلك يقتضي المبالغة في تعظيم الرسول فإن الملك إذا فوض مملكته إلى بعض عبيده فإذا كان يكتب له كل شهر وسنة منشوراً جديداً دل ذلك على غاية اعتنائه بشأنه وأنه على عزم أن يزيده كل يوم تعظيماً وتشريفاً وسادسها أن الكفار لما قالوا نعبد إلهك سنة وتبعد آلتنا سنة فكأنه عليه السلام قال استأمرت إليه فبه فقال قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وسابعها الكفار قالوا فيه السوء فهو تعالى زجرهم عن ذلك وأجابهم وقال إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ وكأنه تعالى قال حين ذكروك بسوء فأنا كنت المجيب بنفسي فحين ذكروني بالسوء وأثبتوا لي الشركاء فكن أنت المجيب قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا وثامنها أنهم سموك أبتر فإن شئت أن تستوفي منهم القصاص فاذكرهم بوصف ذم بحيث تكون صادقاً فيه قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لكن الفرق أنهم عابوك بما ليس من فعلك وأنت تعيبهم بما هو فعلهم وتاسعها أن بتقدير أن تقول يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدونه والكفار يقولون هذا كلام ربك أم كلامك فإن كان كلام ربك فربك يقول أنا لا أعبد هذه الأصنام ونحن لا نطلب هذه العبادة من ربك إنما نطلبها منك وإن كان هذا كلامك فأنت قلت من عند نفسك إني لا أعبد هذه الأصنام فلم قلت إن ربك هو الذي أمرك بذلك أما لما قال قل سقط هذا الاعتراض لأن قوله قُلْ يدل على أنه مأمور من عند الله تعالى بأن لا يعبدها ويتبرأ منها وعاشرها أنه لو أنزل قوله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ لكان يقرؤها عليهم لا محالة لأنه لا يجوز أن يخون في الوحي إلا أنه لما قال قُلْ كان ذلك كالتأكيد في إيجاب تبليغ هذا الوحي إليهم والتأكيد يدل على أن ذلك الأمر أمر عظيم فبهذا الطريق تدل هذه الكلمة على أن الذي قالوه وطلبوه من الرسول أمر منكر في غاية القبح ونهاية الفحش الحادي عشر كأنه تعالى يقول كانت التقية جائزة عند الخوف أما الآن لما قوينا قلبك بقولنا إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ وبقولنا إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ فلا تبال بهم ولا تلتفت إليهم و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثاني عشر أن خطاب الله تعالى مع العبد من غير واسطة يوجب التعظيم ألا ترى أنه تعالى ذكر من أقسام إهانة الكفار إنه تعالى لا يكلمهم فلو قال فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ لكان ذلك من حيث أنه خطاب مشافهة يوجب التعظيم ومن حيث أنه وصف لهم بالكفر يوجب الإيذاء فينجبر الإيذاء بالإكرام أما لما قال قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فحينئذ يرجع تشريف

المخاطبة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وترجع الإهانة الحاصلة لهم بسبب وصفهم بالكفر إلى الكفار فيحصل فيه تعظيم الأولياء وإهانة الأعداء وذلك هو النهاية في الحسن الثالث عشر أن محمداً عليه السلام كان منهم وكان في غاية الشفقة عليهم والرأفة بهم وكانوا يعلمون منه أنه شديد الاحتراز عن الكذب والأب الذي يكون في غاية الشفقة بولده ويكون في نهاية الصدق والبعد عن الكذب ثم إنه يصف ولده بعيب عظيم فالولد إن كان عاقلاً يعلم أنه ما وصفه بذلك مع غاية شفقته عليه إلا لصدقه في ذلك ولأنه بلغ مبلغاً لا يقدر على إخفائه فقال تعالى قُلْ يا محمد لهم أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ليعلموا أنك لما وصفتهم بذلك مع غاية شفقتك عليهم وغاية احترازك عن الكذب فهو موصوفون بهذه الصفة القبيحة فربما يصير ذلك داعياً لهم إلى البراءة من هذه الصفة والاحتراز عنها الرابع عشر أن الإيذاء والايحاش من ذوي القربى أشد وأصعب من الغير فأنت من قبيلتهم ونشأت فيما بين أظهرهم فقل لهم فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ فلعله يصعب ذلك الكلام عليهم فيصير ذلك داعياً لهم إلى البحث والنظر والبراءة عن الكفر الخامس عشر كأنه تعالى يقول ألسنا بينا في سورة وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وفي سورة الكوثر إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ وأتيت بالإيمان والأعمال الصالحات بمقتضى قولنا فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ بقي عليك التواصي بالحق والتواصي بالصبر وذلك هو أن تمنعهم بلسانك وبرهانك عن عبادة غير الله فقل قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السادس عشر كأنه تعالى يقول يا محمد أنسيت أنني لما أخرت الوحي عليك مدة قليلة قال الكافرون إنه ودعه ربه وقلاه فشق عليك ذلك غاية المشقة حتى أنزلت عليك السورة وأقسمت بالضحى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى أنه وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى فلما لم تستجز أن أتركك شهراً ولم يطب قلبك حتى ناديت في العالم بأنه مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى أفتستجيز أن تتركني شهراً وتشتغل بعبادة آلهتهم فلما ناديت بنفي تلك التهمة فناد أنت أيضاً في العالم بنفي هذه التهمة و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا السابع عشر لما سألوا منه أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة فهو عليه السلام سكت ولم يقل شيئاً لا لأنه جوز في قلبه أن يكون الذي قالوه حقاً فإنه كان قاطعاً بفساد ما قالوه لكنه عليه السلام توقف في أنه بماذا يجيبهم أبأن يقيم الدلائل العقلية على امتناع ذلك أو بأن يزجرهم بالسيف أو بأن ينزل الله عليهم عذاباً فاغتنم الكفار ذلك السكوت وقالوا إن محمداً مال إلى ديننا فكأنه تعالى قال يا محمد إن توقفك عن الجواب في نفس الأمر حق ولكنه أوهم باطلاً فتدارك إزالة ذلك الباطل وصرح بما هو الحق و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثامن عشر أنه عليه السلام لما قال له ربه ليلة المعراج أثن علي استولى عليه هيبة الحضرة الإلهية فقال لا أحصي ثناء عليك فوقع ذلك السكوت منه في غاية الحسن فكأنه قيل له إن سكت عن الثناء رعاية لهيبة الحضرة فأطلق لسانك في مذمة الأعداء و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ حتى يكون سكوتك الله وكلامك الله وفيه تقرير آخر وهو أن هيبة الحضرة سلبت عنك قدرة القول فقل ههنا حتى إن هيبة قولك تسلب قدرة القول عن هؤلاء الكفار التاسع عشر لو قال له لا تعبد ما يعبدون لم يلزم منه أن يقول بلسانه لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ أما لما أمره بأن يقول بلسانه لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ يلزمه أن لا يعبد ما يعبدون إذ لو فعل ذلك لصار كلامه كذباً فثبت أنه لما قال له قل لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فلزمه أن يكون منكراً لذلك بقلبه ولسانه وجوارحه ولو قال له لا تعبد ما يعبدون لزمه تركه

أما لا يلزمه إظهار إنكاره باللسان ومن المعلوم أن غاية الإنكار إنما تحصل إذا تركه في نفسه وأنكره بلسانه فقوله له قُلْ يقتضي المبالغة في الأنكار فلهذا قال قُلْ لاَّ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ العشرون ذكر التوحيد ونفي الأنداد جنة للعارفين ونار للمشركين فاجعل لفظك جنة للموحدين وناراً للمشركين و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الحادي والعشرون أن الكفار لما قالوا نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة سكت محمد فقال إن شافهتهم بالرد تأذوا وحصلت النفرة عن الإسلام في قلوبهم فكأنه تعالى قال له يا محمد لم سكت عن الرد أما الطمع فيما يعدونك من قبول دينك فلا حاجة بك في هذا المعنى إليهم فَإِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ وأما الخوف منهم فقد أزلنا عنك الخوف بقولنا أَنَاْ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ فلا تلتفت إليهم ولا تبال بكلامهم وَقُلْ قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثاني والعشرون أنسيت يا محمد أني قدمت حقك على حق نفسي فقلت لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فقدمت أهل الكتاب في الكفر على المشركين لأن طعن المشركين في فقدمت حقك على حق نفسي وقدمت أهل الكتاب في الذم على المشركين وأنت أيضاً هكذا كنت تفعل فإنهم لما كسروا سنك قلت ( اللهم أهد قومي ) ولما شغلوك يوم الخندق عن الصلاة قلت ( اللهم املأ بطونهم ناراً ) فههنا أيضاً قدم حقي على حق نفسك وسواء كنت خائفاً منهم أو لست خائفاً منهم فأظهر إنكار قولهم وَقُلْ قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثالث والعشرون كأنه تعالى يقول قصة امرأة زيد واقعة حقيرة بالنسبة إلى هذه الواقعة ثم إنني هناك ما رضيت منك أن تضمر في قلبك شيئاً ولا تظهره بلسانك بل قلت لك على سبيل العتاب وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فإذا كنت لم أرض منك في تلك الواقعة الحقيرة إلا بالإظهار وترك المبالاة بأقوال الناس فكيف أرضى منك في هذه المسألة وهي أعظم المسائل خطراً بالسكوت قل بصريح لسانك وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ الرابع والعشرون يا محمد ألست قلت لك وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَة ٍ نَّذِيراً ثم إني مع هذه القدرة راعيت جانبك وطيبت قلبك وناديت في العالمين بأني لا أجعل الرسالة مشتركة بينه وبين غيره بل الرسالة له لا لغيره حيث قلت وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ فأنت مع علمك بأنه يستحيل عقلاً أن يشاركني غيري في المعبودية أولى أن تنادي في العالمين بنفي هذه الشركة فقل قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الخامس والعشرون كأنه تعالى يقول القوم جاؤك وأطمعوك في متابعتهم لك ومتابعتك لدينهم فسكت عن الأنكار والرد ألست أنا جعلت البيعة معك بيعة معي حيث قلت إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ وجعلت متابعتك متابعة لي حيث قلت قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ثم إني ناديت في العالمين وقلت أَنَّ اللَّهَ بَرِىء عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فصرح أنت أيضاً بذلك و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السادس والعشرون كأنه تعالى يقول ألست أرأف بك من الولد بولده ثم العرى والجوع مع الوالد أحسن من الشبع مع الأجانب كيف والجوع لهم لأن أصنامهم جائعة عن الحياة عارية عن الصفات وهم جائعون عن العلم عارون عن التقوى فقد جربتني ألم أجدك

يتيماً وضالاً وعائلاً ألم نشرح لك صدرك ألم أعطك بالصديق خزينة وبالفاروق هيبة وبعثمان معونة وبعلي علماً ألم أكف أصحاب الفيل حين حاولوا تخريب بلدتك ألم أكف أسلافك رحلة الشتاء والصيف ألم أعطك الكوقر ألم أضمن أن خصمك أبتر ألم يقل جدك في هذه الأصنام بعد تخريبها لِمَ تَعْبُدُ مَالاً يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً فصرح بالبراءة عنها و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السابع والعشرون كأنه تعالى يقول يا محمد ألست قد أنزلت عليك فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ثم إن واحداً لو نسبك إلى والدين لغضبت ولأظهرت الإنكار ولبالغت فيه حتى قلن ( ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح ) فإذا لم تسكت عند التشريك في الولادة فكيف سكت عند التشريك في العبادة ا بل أظهر الإنكار وبالغ في التصريح به و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثامن والعشرون كأنه تعالى يقول يا محمد ألست قد أنزلت عليك أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ فحكمت بأن من سوى بين الإله الخالق وبين الوثن الجماد في المعبودية لا يكون عاقلاً بل يكون مجنوناً ثم إني أقسمت وقلت ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ والكفار يقولون إنك مجنون فصرح برد مقالتهم فإنها تفيد براءتي عن عيب الشرك وبراءتك عن عيب الجنون و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ التاسع والعشرون أن هؤلاء الكفار سموا الأوثان آلهة والمشاركة في الاسم لا توجب المشاركة في المعنى ألا ترى أن الرجل والمرأة يشتركان في الإنسانية حقيقة ثم القيمية كلها حظ الزوج لأنه أعلم وأقدر ثم من كان أعلم وأقدر كان له كل الحق في القيمية فمن لا قدرة له ولا علم البتة كيف يكون له حق في القيومية بل ههنا شيء آخر وهو أن امرأة لو ادعاها رجلان فاصطلحا عليها لا يجوز ولو أقام كل واحد منها بينة على أنها زوجته لم يقض لواحد منهما والجارية بين إثنين لا تحل لواحد منهما فإذا لم يحز حصول زوجة لزوجين ولا أمة بين موليين في حل الوطء فكيف يعقل عابد واحد بين معبودينا بل من جوز أن يصطلح الزوجان على أن تحل الزوجة لأحدهما شهراً ثم الثاني شهراً آخر كان كافراً فمن جوز الصلح بين الإله والصنم ألا يكون كافراً فكأنه تعالى يقول لرسوله إن هذه المقالة في غاية القبح فصرح بالإنكار وقل قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثلاثون كأنه تعالى يقول أنسيت أني لما خيرت نساءك حين أنزلت عليك قُل لاْزْواجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا إلى قوله أَجْراً عَظِيماً ثم خشيت من عائشة أن تختار الدنيا فقلت لها لا تقولي شيئاً حتى تستأمري أبويك فقالت أفي هذا استأمر أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ا فناقصة العقل ما توقفت فيما يخالف رضاي أتتوقف فيما يخالف رضاي وأمري مع أني جبار السموات والأرض قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الحادي والثلاثون كأنه تعالى يقول يا محمد ألست أنت الذي قلت من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يوقفن مواقف التهم وحتى أن بعض المشايخ قال لمريده الذي يريد أن يفارقه لا تخاف السلطان قال ولم قال لأنه يوقع الناس في أحد الخطأين وإما أن يعتقدوا أن السلطان متدين لأنه يخالطه العالم الزاهد أو يعتقدوا أنك فاسق مثله وكلاهما خطأ فإذا ثبت أنه يجب البراءة عن موقف التهم فسكوتك يا محمد عن هذا الكلام يجر إليك تهمة الرضا بذلك لاسيما وقد سبق أن الشيطان ألقى فيما بين قراءتك تلك الغرانيق العلي منها الشفاعة ترتجي فأزل عن نفسك هذه التهمة و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ

الثاني والثلاثون الحقوق في الشاهد نوعان حق من أنت تحت يده وهو مولاك وحق من هو تحت يدك وهو الولد ثم أجمعنا على أن خدمة المولى مقدمة على تربية الولد فإذا كان حق المولى المجازي مقدماً فبأن يكون حق المولى الحقيقي مقدماً كان أولى ثم روى أن علياً عليه السلام إستأذن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في التزوج بابنة أبي جهل فضجر وقال لا آذن لا آذن لا آذن أن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ويسرني ما يسرها والله لا يجمع بين بنت عدو الله وبنت حبيب الله فكأنه تعالى يقول صرحت هناك بالرد وكررته على سبيل المبالغة رعاية لحق الولد فههنا أولى أن تصرح بالرد وتكرره رعاية لحق المولى فقل قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ولا أجمع في القلب بين طاعة الحبيب وطاعة العدو الثالث والثلاثون يا محمد ألست قلت لعمر رأيت قصراً في الجنة فقلت لمن فقيل لفتى من قريش فقلت من هو فقالوا عمر فخشيت غيرتك فلم أدخلها حتى قال عمر أو أغار عليك يا رسول الله فكأنه تعالى قال خشيت غيرة عمر فما دخلت قصره أفما تخشى غيرتي في أن تدخل قلبك طاعة غيري ثم هناك أظهرت الامتناع فههنا أيضاً أظهر الامتناع و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الرابع والثلاثون أترى أن نعمتي عليك دون نعمة الوالدة ألم أربك ألم أخلقك ألم أرزقك ألم أعطك الحياة والقدرة والعقل والهداية والتوفيق ثم حين كنت طفلاً عديم العقل وعرفت تربية الأم فلو أخذتك امرأة أجمل وأحسن وأكرم من أمك لأظهرت النفرة ولبكيت ولو أعطتك الثدي لسددت فمك تقول لا أريد غير الأم لأنها أول المنعم علي فههنا أولى أن تظهر النفرة فنقول لا أعبد سوى ربي لأنه أول منعم علي فقل قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الخامس والثلاثون نعمة الإطعام دون نعمة العقل والنبوة ثم قد عرفت أن الشاة والكلب لا ينسيان نعمة الإطعام ولا يميلان إلى غير من أطعهما فكيف يليق بالعاقل أن ينسى نعمة الإيجاد والإحسان فكيف في حق أفضل الخلق قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السادس والثلاثون مذهب الشافعي أنه يثبت حق الفرقة بواسطة الإعسار بالنفقة فإذا لم تجد من الأنصار تربية حصلت لك حق الفرقة لو كنت متصلاً بها لِمَ تَعْبُدُ مَالاً يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً فبتقدير أن كنت متصلاً بها كان يجب أن تنفصل عنها وتتركها فكيف وما كنت متصلاً بها أيليق بك أن تقرب الاتصال بها قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السابع والثلاثون هؤلاء الكفار لفرط حماقتهم ظنوا أن الكثرة في الإلهية كالكثرة في المال يزيد به الغني وليس الأمر كذلك بل هو كالكثرة في العيال تزيد به الحاجة فقل يا محمد لي إله واحد أقوم له في الليل وأصوم له في النهار ثم بعد لم أتفرغ من قضاء حق ذرة من ذرات نعمه فكيف ألتزم عبادة آلهة كثيرة قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثامن والثلاثون أن مريم عليها السلام لما تمثل لها جبريل عليه السلام قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً فاستعاذت أن تميل إلى جبريل دون الله أفتستجيز مع كمال رجوليتك أن تميل إلى الأصنام قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ التاسع والثلاثون مذهب أبي حنيفة أنه لا يثبت حق الفرقة بالعجز عن النفقة ولا بالعنة الطارئة يقول لأنه كان قيماً فلا يحسن الإعراض عنه مع أنه تعيب فالحق سبحانه يقول كنت قيماً ولم أتعيب فكيف يجوز الإعراض عني قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الأربعون هؤلاء الكفار كانوا معترفين بأن الله خالقهم وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وقال في موضع آخر أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاْرْضِ فكأنه تعالى يقول

هذه الشركة إما أن تكون مزارعة وذلك باطل لأن البذر مني والتربية والسقي مني والحفظ مني فأي شيء للصنم أو شركة الوجوه وذلك أيضاً باطل أترى أن الصنم أكثر شهرة وظهوراً مني أو شركة الأبدان وذلك أيضاً باطل ون ذلك يستدعي الجنسية أو شركة العنان وذلك أيضاً باطل لأنه لا بد فيه من نصاب فما نصاب الأصنام أو يقول ليس هذه من باب الشركة لكن الصنم يأخذ بالتغلب نصيباً من الملك فكأن الرب يقول ما أشد جهلكم إن هذا الصنم أكثر عجزاً من الذبابة إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً فأنا أخلق البذر ثم ألقيه في الأرض فالتربية والسقي والحفظ مني ثم إن من هو أعجز من الذبابة يأخذ بالقهر والتغلب نصيباً مني ما هذا بقول يليق بالعقلاء قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الحادي والأربعون أنه لا ذرة في عالم المحدثات إلا وهي تدعو العقول إلى معرفة الذات والصفات وأما الدعاة إلى معرفة أحكام الله فهم الأنبياء عليهم السلام ولما كان كل بق وبعوضة داعياً إلى معرفة الذاتي والصفات قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى ِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَة ً فَمَا فَوْقَهَا ذلك لأن هذه البعوضة بحسب حدوث ذاتها وصفاتها تدعو إلى قدرة الله بحسب تركيبها العجيب تدعوا إلى علم الله وبحسب تخصيص ذاتها وصفاتها بقدر معين تدعو إلى إرادة الله فكأنه تعالى يقول مثل هذا الشيء كيف يتسحيا منه روى أن عمر رضي الله عنه كان في أيام خلافته دخل السوق فاشترى كرشاً وحمله بنفسه فرآه على من بعيد فتنكب على عن الطريق فاستقبله عمر وقال له لم تنكبت عن الطريق فقال علي حتى لا تستحي فقال وكيف أستحي من حمل ما هو غذائيا فكأنه تعالى يقول إذا كان عمر لا يستحي من الكرش الذي هو غذاؤه في الدنيا فكيف أستحي عن ذكر البعوض الذي يعطيك غذاء دينك ثم كأنه تعالى يقول يا محمد إن نمروذ لما ادعى الربوبية صاح عليه البعوض بالإنكار فهؤلاء الكفار لما دعوك إلى الشرك أفلا تصيح عليهم أفلا تصرح بالرد عليهم قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وإن فرعون لما ادعى الإلهية فجبريل ملأ فاه من الطين فإن كنت ضعيفاً فلست أضعف من بعوضة نمروذ وإن كنت قوياً فلست أقوى من جبريل فأظهر الإنكار عليهم و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثاني والأربعون كأنه تعالى يقول يا محمد قُلْ بلسانك لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ واتركه قرضاً علي فإني أقضيك هذا القرض على أحسن الوجوه ألا ترى أن النصراني إذا قال أشهد أن محمداً رسول الله فأقول أنا لا أكتفي بهذا مالم تصرح بالبراءة عن النصرانية فلما أوجبت على كل مكلف أن يتبرأ بصريح لسانه عن كل دين يخالف دينك فأنت أيضاً أوجب على نفسك أن تصرح برد كل معبود غيري فقل قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثالث والأربعون أن موسى عليه السلام كان في طبعه الخشونة فلما أرسل إلى فرعون قيل له فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً وأما محمد عليه السلام فلما أرسل إلى الخلق أمر بإظهار الخشونة تنبيهاً على أنه في غاية الرحمة فقيل له قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ
أما قوله تعالى قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا قد تقدم القول فيها في مواضع والذي نزيده ههنا أنهروى عن علي عليه السلام أنه قال يا نداء النفس وأي نداي القلب وها نداء الروح وقيل يا نداء الغائب وأي للحاضر وها للتنبيه كأنه يقول أدعوك ثلاثاً ولا تجيبني مرة ما هذا إلا لجهلك الخفي ومنهم من قال أنه تعالى جمع بين يا الذي هو للبعيد وأي الذي هو للقريب كأنه تعالى يقول معاملتك معي وفرارك عني يوجب

البعد البعيد لكن إحساني إليك ووصول نعمتي إليك توجب القرب القريب وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وإنما قدم يا الذي يوجب البعد على أي الذي يوجب القرب كأنه يقول التقصير منك والتوفيق مني ثم ذكرها بعد ذلك لأن ما يوجب البعد الذي هو كالموت وأي يوجب القرب الذي هو كالحياة فلما حصلا حصلت حالة متوسطة بين الحياة والموت وتلك الحالة هي النوم والنائم لا بد وأن ينبه وها كلمة تنبيه فلهذا السبب ختمت حروف النداء بهذا الحرف
المسألة الثانية روى في سبب نزول هذه السورة أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأمية بن خلف قالوا لرسول الله تعالى حتى نعبد إلهك مدة وتعبد آلهتنا مدة فيحصل مصلح بيننا وبينك وتزول العداوة من بيننا فإن كان أمرك رشيداً أخذنا منه حظاً وإن كان أمرنا رشيداً أخذت منه حظاً فنزلت هذه السورة ونزل أيضاً قوله تعالى قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ فتارة وصفهم بالجهل وتارة بالكفر واعلم أن الجهل كالشجرة والكفر كالثمرة فلما نزلت السورة وقرأها على رؤوسهم شتموه وأيسوا منه وههناسؤالات
السؤال الأول لم ذكرهم في هذه السورة بالكافرين وفي الأخرى بالجاهلين الجواب لأن هذه السورة بتمامها نازلة فيهم فلا بد وأن تكون المبالغة ههنا أشد وليس في لدنيا لفظ أشنع ولا أبشع من لفظ الكافر وذلك لأنه صفة ذم عند جميع الخلق سواء كان مطلقاً أو مقيداً أما لفظ الجهل فإنه عند التقييد قد لا يذم كقوله عليه السلام في علم الأنساب ( علم لا ينفع وجهل لا يضر )
السؤال الثاني لما قال تعالى في سورة لِمَ تُحَرّمُ يا أيها الذين كفروا ولم يذكر قل وههنا ذكر قل وذكره باسم الفاعل والجواب الآية المذكورة في سورة لم تحزم إنما تقال لهم يوم القيامة وثمة لا يكون الرسول رسولاً إليهم فأزال الواسطة وفي ذلك الوقت يكونون مطيعين لا كافرين فلذلك ذكره بلفظ الماضي وأما ههنا فهم كانوا موصوفين بالكفر وكان الرسول رسولاً إليهم فلا جرم قال قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ
السؤال الثالث قوله ههنا قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ خطاب مع الكل أو مع البعض الجواب لا يجوز أن يكون قوله لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ خطاباً مع الكل لأن في الكفار من يعبد الله كاليهود والنصارى فلا يجوز أن يقول لهم لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ولا يجوز أيضاً أن يكون قوله وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ خطاباً مع الكل لأن في الكفار من آمن وصار بحيث يعبد اللهد فإذن وجب أن يقال إن قوله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ خطاب مشافهة مع أقوام مخصوصين وهم الذين قالوا نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة والحاصل أنا لو حملنا الخطاب على العموم دخل التخصيص ولو حملنا على أنه خطاب مشافهة لم يلزمنا ذلك فكان حمل الآية على هذا المحمل أولى
لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ
أما قوله تعالى لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ

ففيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان أحدهما أنه لا تكرار فيها والثاني أن فيها تكراراً أما الأول فتقريره عن وجوه أحدها أن الأول للمستقبل والثاني للحال والدليل على أن الأول للمستقبل أن لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال أن ترى أن لن تأكيد فيما ينفيه لا وقال الخليل في أن أصله لا أن إذا ثبت هذا فقوله لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ أي لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلبه منكم من عبادة إلهي ثم قال وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ أي ولست في الحال بعابد معبودكم ولا أنتم في الحال بعابدين لمعبودي الوجه الثاني أن تقلب الأمر فتجعل الأول للحال والثاني للاستقبال والدليل على أن قول وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ للاستقبال أنه رفع لمفهوم قولنا أنا عابد ما عبدتم ولا شك أن هذا للاستقبال بدليل أنه لو قال أنا قاتل زيداً فهم منه الاستقبال الوجه الثالث قال بعضهم كل واحد منهما يصلح للحال وللاستقبال ولكنا نخص أحداها بالحال والثاني بالاستقبال دفعاً للتكرار فإن قلنا إنه أخبر عن الحال ثم عن الاستقبال فهو الترتيب وإن قلنا أخبر أولاً عن الاستقبال فلأنه هو الذي دعوه إليه فهو الأهم فبدأ به فإن قيل ما فائدة الإخبار عن الحال وكان معلوماً أنه ما كان يعبد الصنم وأما الكفار فكانوا يعبدون الله في بعض الأحوال قلنا أما الحكاية عن نفسه فلئلا يتوهم الجاهل أنه يعبدها سراً خوفاً منها أو طمعاً إليها وأما نفيه عبادتهم فلأن فعل الكافر ليس بعبادة أصلاً الوجه الرابع وهو اختيار أبي مسلم أن المقصود من الأولين المعبود وما بمعنى الذي فكأنه قالا لا أعبد الأصنام ولا تعبدون الله وأما في الأخيرين فما مع الفعل في تأويل المصدر أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشرك وترك النظر ولا أنتم تعبدون عبادتي المبنية على اليقين فإن زعمتم أنكم تعبدون إلهي كان ذلك باطلاً لأن العبادة فعل مأمور به وما تفعلونه أنتم فهو منهي عنه وغير مأمور به الوجه الخامس أن تحمل الأولى على نفي الاعبتار الذي ذكروه والثانية على النفي العام المتناول لجميع الجهات فكأنه أولاً قال يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ رجاء أن تعبدوا الله ولا أنتم تعبدون الله رجاء أن أعبد أصنامكم ثم قال ولا أنا عابد صنمكم لغرض من الأغراض ومقصود من المقاصد البتة بوجه من الوجوه وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ بوجه من الوجوه واعتبار من الاعتبارات ومثاله من يدعو غيره إلى الظلم لغرض التنعيم فيقول لا أظلم لغرض بل لا أظلم أصلا لا لهذا الغرض ولا لسائر الأغراض القول الثاني وهو أن نسلم حصول التكرار وعلى هذا القول العذر عنه من ثلاثة أوجه الأول أن التكرير يفيد التوكيد وكلما كانت الحاجة إلى التأكيد أشد كان التكرير أحسن ولا موضع أحوج إلى التأكيد من هذا الموضع لأن أولئك الكفار رجعوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا المعنى مراراً وسكت رسول الله عن الجواب فوقع في قلوبهم أنه عليه السلام قد مال إلى دينهم بعض الميل فلا جرم دعت الحاجة إلى التأكيد والتكرير في هذا النفي والإبطال الوجه الثاني أنه كان القرآن ينزل شيئاً بعد شيء وآية بعد آية جواباً عما يسألون فالمشركون قالوا استلم بعد آلهتنا حتى نؤمن بإلهك فأنزل الله وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ثم قالوا بعد مدة تعبد آلهتنا شهراً ونعبد إلهك شهراً فانزل الله وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ولما كان هذا الذي ذكرناه محتملاً لم يكن التكرار على هذا الوجه مضراً البتة الوجه الثالث أن الكفار ذكروا تلك الكلمة مرتين تعبد آلهتنا شهراً ونعبد إلهك شهراً وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فأتى

الجواب على التكرير على وفق قولهم وهو ضرب من التهكم فإن من كرر الكلمة الواحدة لغرض فاسد يجازي بدفع تلك الكلمة على سبيل التكرار استخفافاً به واستحقاراً لقوله
المسألة الثانية في الآية سؤال وهو أن كلمة مَا لا تتناول من يعلم فهب أن معبودهم كان كذلك فصح التعبير عنه بلفظ ما لكن معبود محمد عليه الصلاة والسلام هو أعلم العالمين فكيف قال وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أجابوا عنه من وجوه أحدها أن المراد منه الصفة كأنه قال لا أعبد الباطل وأنتم لا تعبدون الحق وثانيها أن مصدرية في الجملتين كأنه قال لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي في المسقبل ثم قال ثانياً لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي في الحال وثالثها أن يكون ما بمعنى الذي وحينئذ يصح الكلام ورابعها أنه لما قال أولاً لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ حمل الثاني عليه ليتسق الكلام كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا
المسألة الثالثة احتج أهل الجبر بأنه تعالى أخبر عنهم مرتين بقوله وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ والخبر الصدق عن عدم الشيء يضاد وجود ذلك الشي فالتكليف بتحصيل العبادة مع وجود الخبر الصدق بعدم العبادة تكليف بالجمع بين الضدين واعلم أنه بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول أليس أن ذكر الوجه الذي لأجله تقبح عبادة غير الله كان أولى من هذا التكرير الجواب بل قد يكون التأكيد والتكرير أولى من ذكر الحجة إما لأن المخاطب بليد ينتفع بالمبالغة والتكرير ولا ينتفع بذكر الحجة أو لأجل أن محل النزاع يكون في غاية الظهور فالمناظرة في مسألة الجبر والقدر حسنة أما القائل بالصنم فهو إما مجنون يجب شده أو عاقل معاند فيجب قتله وإن لم يقدر على قتله فيجب شتمه والمبالغة في الأنكار عليه كما في هذه الآية
السؤال الثاني أن أول السورة اشتمل على التشديد وهو النداء بالكفر والتكرير وآخرها على اللطف والتساهل وهو قوله لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى َ دِينِ فكيف وجه الجمع بين الأمرين الجواب كأنه يقول إني قد بالغت في تحذيركم على هذا الأمر القبيح وما قصرت فيه فإن لم تقبلوا قولي فاتركوني سواء بسواء
السؤال الثالث لما كان التكرار لأجل التأكيد والمبالغة فكان ينبغي أن يقول لن أعبد ما تعبدون لأن هذا أبلغ ألا ترى أن أصحاب الكهف لما بالغوا قالوا لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلاهاً والجواب المبالغة إنما يحتاج إليها في موضع التهمة وقد علم كل أحد من محمد عليه السلام أنه ما كان يعبد الصنم قبل الشرع فكيف يعبده بعد ظهور الشرع بخلاف أصحاب الكهف فإنه وجد منهم ذلك فيما قبل
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى َ دِينِ
أما قوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى َ دِينِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس لكم كفركم بالله ولي التوحيد والإخلاص له فإن قيل فهل يقال إنه أذن لهم في الكفر قلنا كلا فإنه عليه السلام ما بعث إلا للمنع من الكفر فكيف يأذن فيه ولكن المقصود منه أحد أمور أحدها أن المقصود منه التهديد كقوله اعملوا ما شئتم وثانيها كأنه يقول إني نبي مبعوث

إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فاتركوني ولا تدعوني إلى الشرك وثالثها لَكُمْ دِينَكُمْ فكونوا عليه إن كان الهلاك خيراً لكم وَلِيُّ دِينِى لأني لا أرفضه القول الثاني في تفسير الآية أن الدين هو الحساب أي لكم حسابكم ولي حسابي ولا يرجع إلى كل واحد منا من عمل صاحبه أثر البتة القول الثالث أن يكون على تقدير حذف المضاف أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني وحسبهم جزاء دينهم وبالاً وعقاباً كما حسبك جزاء دينك تعظيماً وثواباً القول الرابع الدين العقوبة وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَى ْء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ القول الخامس الدين الدعاء فادعو الله مخلصين له الدين أي لكم دعاؤكم وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ وَإِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ ثم ليتها تبقى على هذه الحالة فلا يضرونكم بل يوم القيامة يجدون لساناً فيكفرون بشرككم وأما ربي فيقول وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامَنُواْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ القول السادس الدين العادة قال الشاعر
يقول لها وقد دارت وضيني
أهذا دينها أبدأ وديني معناه لكم عادتكم المأخوذة من أسلافكم ومن الشياطين ولي عادتي المأخوذة من الملائكة والوحي ثم يبقى كل واحد منا على عادته حتى تلقوا الشياطين والنار وألقى الملائكة والجنة
المسألة الثانية قوله لَكُمْ دِينَكُمْ يفيد الحصر ومعناه لكم دينكم لا لغيركم ولي ديني لا لغيري وهو إشارة إلى قوله وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى أي أنا مأمور بالوحي والتبليغ وأنتم مأمورون بالامتثال والقبول فأنا لمافعلت ما كلفت به خرجت من عهدة التكليف وأماإصراركم على كفركم فذلك ممالا يرجع إلي منه ضرر البتة
المسألة الثانية جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المتاركة وذلك غير جائز لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به بل ليتدبر فيه ثم يعمل بموجبه والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم وصلى الله على سيدنا وعلى آله وصحبه وسلم

سورة النصر
وهي ثلاث آيات مدنية
إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ
إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ في الآية لطائف
إحداها أنه تعالى لما وعد محمداً بالتربية العظيمة بقوله وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى وقوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ لا جرم كان يزداد كل يوم أمره كأنه تعالى قال يا محمد لم يضيق قلبك ألست حين لم تكن مبعوثاً لم أضيعك بل نصرتك بالطير الأبابيل وفي أول الرسالة زدت فجعلت الطير ملائكة ألن يكفيكم أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَة ِ ءالافٍ ثم الآن أزيد فأقول إني أكون ناصراً لك بذاتي إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ فقال إلهي إنما تتم النعمة إذا فتحت لي دار مولدي ومسكني فقال وَالْفَتْحُ فقال إلهي لكن القوم إذا خرجوا فأي لذة في ذلك فقال وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً ثم كأنه قال هل تعلم يا محمد بأي سبب وجدت هذه التشريفات الثلاثة إنما وجدتها لأنك قلت في السورة المتقدمة قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وهذا يشتمل على أمور ثلاثة أولها نصرتني بلسانك فكان جزاؤه إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وثانيها فتحت مكة قلبك بعسكر التوحيد فأعطيناك فتح مكة وهو المراد من قوله والفتح والثالث أدخلت رعية جوارحك وأعضائك في طاعتي وعبوديتي فأنا أيضاً أدخلت عبادي في طاعتك وهو المراد من قوله يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً ثم إنك بعد أن وجدت هذه الخلع الثلاثة فابعث إلى حضرتي بثلاث أنواع من العبودية تهادوا تحابوا إن نصرتك فسبح وإن فتحت مكة فاحمد وإن أسلموا فاستغفر وإنما وضع في مقابلة نَصْرُ اللَّهِ تسبيحه لأن التسبيح هو تنزيع الله عن مشابهة المحدثات يعني تشاهد أنه نصرك فإياك أن تظن أنه

إنما نصرك لأنك تستحق منه ذلك النحر بل اعتقد كونه منزهاً عن أن يستحق عليه أحد من الخلق شيئاً ثم جعل في مقابل فتح مكة الحمد لأن النعمة لا يمكن أن تقابل إلا بالحمد ثم جعل في مقابلة دخول الناس في الدين الاستغفار وهو المراد من قوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أي كثرة الأتباع مما يشغل القلب بلذة الجاه والقبول فاستغفر لهذا القدر من ذنبك واستغفر لذنبهم فإنهم كلما كانوا أكثر كانت ذنوبهم أكثر فكان احتياجهم إلى استغفارك أكثر الوجه الثاني أنه عليه السلام لما تبرأ عن الكفر وواجههم بالسوء في قوله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ كأنه خاف بعض القوم فقلل من تلك الخشونة فقال لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى َ دِينِ فقيل يا محمد لا تخف فإني لا أذهب بك إلى النصر بل أجيء بالنصر إليك إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ نظيره ( زويت الأرض ) يعني لا تذهب إلى الأرض بل تجيء الأرض إليك فإن سئمت المقام وأردت الرحلة فمثلك لا يرتحل إلا إلى قاب قوسين سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ بل أزيد على هذا فأفضل فقراء أمتك على أغنيائهم ثم آمر الأغنياء بالضحايا ليتخذوها مطايا فإذا بقي الفقير من غير مطية أسوق الجنة إليه وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ الوجه الثالث كأنه سبحانه قال يا محمد إن الدنيا لا يصفو كدرها ولا تدوم محنها ولا نعيمها فرحت بالكوثر فتحمل مشقة سفاهة السفهاء حيث قالوا اعبد آلهتنا حتى نعبد إلهك فلما تبرأ عنهم وضاق قلبه من جهتهم قال أبشر فقد جاء نصر الله فلما استبشر قال الرحيل الرحيل أما علمت أنه لا بد بعد الكمال من الزوال فاستغفره أيها الإنسان لا تحزن من جوع الربيع فعقيبه غنى الخريف ولا تفرح بغنى الخريف فعقيبه وحشة الشتاء فكذا من تم إقباله لا يبقى له إلا الغير ومنه إذا تم أمر دنا نقصه
توقع زوالا إذا قيل تم إلهي لم فعلت كذلك قال حتى لا نضع قلبك على الدنيا بل تكون أبداً على جناح الارتحال والسفر الوجه الرابع لما قال في آخر السورة المتقدمة لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى َ دِينِ فكأنه قال إلهي وما جزائي فقال نصر الله فيقول وما جزاء عمي حين دعاني إلى عبادة الأصنام فقال تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ فإن قيل فلم بدأ بالوعد قبل الوعيد قلنا لوجوه أحدها لأن رحمته سبقت غضبه والثاني ليكن الجنس متصلاً بالجنس فإنه قال وَلِى َ دِينِ وهو النصر كقوله يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ وثالثها الوفاء بالوعد أهم في الكرم من الوفاء بالانتقام فتأمل في هذه المجانسات الحاصلة بين هذه السور مع أن هذه السور مع أن هذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة وتلك السورة منأوائل ما نزل بمكة ليعلم أن ترتيب هذه السور من الله وبأمره الوجه الخامس أن في السورة المتقدمة لم يذكر شيئاً من أسماء الله بل قال ما أعبد بلفظ ما كأنه قال لا أذكر اسم الله حتى لا يستخفوا فتزداد عقوبتهم وفي هذه السورة ذكر أعظم أساميه لأنها منزلة على الأحباب ليكون ثوابهم بقراءته أعظم فكأنه سبحانه قال لا تذكر اسمي مع الكافرين حتى لا يهينوه واذكره مع الأولياء حتى يكرموه الوجه السادس قال النحويون إذاً منصوب بسبح والتقدير فسبح بحمد ربك إذا جاء نصر الله كأنه سبحان يقول جعلت الوقت ظرفاً لما تريده وهو النصر والفتح والظفر وملأت ذلك الظرف من هذه الأشياء وبعثته إليك فلا ترده علي فارغاً بل املأه من العبودية ليتحقق معنى ( تهادوا تحابوا ) فكأن محمداً عليه السلام قال بأي شيء

أملأ ظرف هديتك وأنا فقير فيقول الله في المعنى إن لم تجد شيئاً آخر فلا أقل من تحريك اللسان بالتسبيح والحمد والاستغفار فلمافعل محمد عليه الصلاة والسلام ذلك حصل معنى تهادوا لا جرم حصلت المحبة فلهذا كان محمد حبيب الله الوجه السابع كأنه تعالى يقول إذا جاءك النصر والفتح ودخول الناس في دينك فاشتغل أنت أيضاً بالتسبيح والحمد والاستغفار فإني قلت ( لئن شكرتم لأزدينكم ) فيصير اشتغالك بهذه الطاعات سبباً لمزيد درجاتك في الدنيا والآخرة ولا تزال تكون في الترقي حتى يصير الوعد بقولي أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ الوجه الثامن أن الإيمان إنما يتم بأمرين بالنفي والإثبات وبالبراءة والولاية فالنفي والبراءة قوله لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ والإثبات والولاية قوله إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ فهذه هي الوجوه الكلية المتعلقة بهذه السورة
واعلم أن في الآية أسراراً وإنما يمكن بيانها في معرض السؤال والجواب
السؤال الأول ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف الفتح على النصر الجواب من وجوه أحدها النصر هو الإعانة على تحصيل المطلوب والفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان متعلقاً وظاهر أن النصر كالسبب الفتح فلهذا بدأ يذكر النصر وعطف الفتح عليها وثانيها يحتمل أن يقال النصر كمال الدين والفتح الإقبال الدنيوي الذي هو تمام النعمة ونظير هذه الآية قوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وثالثها النصر هو الظفر في الدنيا على المنى والفتح بالجنة كماقال وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا وأظهر الأقوال في النصر أنه الغلبة على قريش أو على جميع العرب
السؤال الثاني أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان أبداً منصوراً بالدلائل والمعجزات فما المعنى من تخصيص لفظ النصر بفتح مكة والجواب من وجهين أحدهما المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع إنما جعل فظ النصر المطلق دالاً على هذا النصر المخصوص لأن هذا النصر لعظم موقعه من قلوب أهل الدنيا جعل ما قبله كالمعدوم كماأن المثاب عند دخول الجنة يتصور كأنه لم يذق نعمة قط وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ وثانيهما لعل المراد نصر الله في أمور الدنيا الذي حكم به لأنبيائه كقوله إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ
السؤال الثالث النصر لا يكون إلا من الله قال تعالى وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ فما الفائدة في هذا التقييد وهو قوله نَصْرُ اللَّهِ والجواب معناه نصر لا يليق إلا بالله ولا يليق أن يفعله إلا الله أو لا يليق إلا بحكمته ويقال هذا صنعة زيد إذا كان زيد مشهوراً بإحكام الصنعة والمراد منه تعظيم حال تلك الصنعة فكذا ههنا أو نصر الله لأنه إجابة لدعائهم مَتَى نَصْرُ اللَّهِ فيقول هذا الذي سألتموه
السؤال الرابع وصف النصر بالمجيء مجاز وحقيقته إذا وقع نصر الله فما الفائدة في ترك الحقيقة وذكر المجاز الجواب فيه إشارات إحداها أن الأمور مربوطة بأوقاتها وأنه سبحانه قدر لحدوث كل حادث أسباباً معينة وأوقاتاً مقدرة يستحيل فيها التقدم والتأخر والتغير والتبدل فإذا حضر ذلك الوقت وجاء ذلك الزمان

حضر معه ذلك الأثر وإليه الإشارة بقوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ وثانيها أن اللفظ دل على أن النصر كان كالمشتاق إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأن ذلك النصر كان مستحقاً له بحكم الوعد فالمقتضى كان موجوداً إلا أن تخلف الأثر كان لفقدان الشرط فكان كالثقيل المعلق فإن ثقله يوجب الهوى إلا أن العلاقة مانعة فالثقيل يكون كالمشتاق إلى الهوى فكذا ههنا النصر كان كالمشتاق إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها أن عالم العدم عالم لا نهاية له وهو عالم الظلمات إلا أن في قعرها ينبوع الجود والرحمة وهو ينبوع جود الله وإيجاده ثم انشعبت بحار الجود والأنوار وأخذت في السيلان وسيلانها يقتضي في كل حين وصولها إلى موضع ومكان معين فبحار رحمة الله ونصرته كانت آخذة في السيلان من الأزل فكأنه قيل يا محمد قرب وصولها إليك ومجيئها إليك فإذا جاءتك أمواج هذا البحر فاشتغل بالتسبيح والتحميد والاستغفار فهذه الثلاثة هي السفينة التي لا يمكن الخلاص من بحار الربوبية إلا بها ولهذا السبب لما ركب أبوك نوح بحر القهر والكبرياء استعان بقوله بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا
السؤال الخامس لا شك أن الذين أعانوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على فتح مكة هم الصحابة من المهاجرين والأنصار ثم إنه سمي نصرتهم لرسول الله نَصْرُ اللَّهِ فما السبب في أن صار الفعل الصادر عنهم مضافاً إلى الله الجواب هذا بحر يتفجر منه بحر سر القضاء والقدر وذلك لأن فعلهم فعل الله وتقريره أن أفعالهم مسندة إلى ما في قلوبهم من الدواعي والصوارف وتلك الدواعي والصوارف أمور حادثة فلا بد لها من محدث وليس هو العبد وإلا لزم التسلسل فلا بد وأن يكون الله تعالى فيكون المبدأ الأول والمؤثر الأبعد هو الله تعالى ويكون المبدأ الأقرب هو العبد فمن هذا الاعتبار صارت النصرة المضافة إلى الصحابة بعينها مضافة إلى الله تعالى فإن قيل فعلى هذا التقدير الذي ذكرتم يكون فعل العبد مفرعاً على فعل الله تعالى وهذا يخالف النصر لأنه قال إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ فجعل نصرنا له مقدماً على نصره لنا والجواب أنه لا امتناع في أن يصدر عن الحق فعل فيصير ذلك سبباً لصدور فعل عنا ثم الفعل عنا ينساق إلى فعل آخر يصدر عن الرب فإن أسباب الحوادث ومسبباتها متسلسلة على ترتيب عجيب يعجز عنإدراك كيفيته أكثر العقول البشرية
السؤال السادس كلمة إِذَا للمستقبل فههنا لما ذكر وعداً مستقبلاً بالنصر قال إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ فذكر ذاته باسم الله ولما ذكر النصر الماضي حين قال وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ لَيَقُولُنَّ فذكره بلفظ الرب فما السبب في ذلك الجواب لأنه تعالى بعد وجود الفعل صار رباً وقبله ما كان رباً لكن كان إلهاً
السؤال السابع أنه تعالى قال إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وإن محمداً عليه السلام نصر الله حين قال قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فكان واجباً بحكم هذا الوعد أن ينصره الله فلا جرم قال إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ فهل تقول بأن هذا النصر كان واجباً عليه الجواب أن ما ليس بواجب قد يصير واجباً بالوعد ولهذا قيل وعد الكريم ألزم من دين الغريم كيف ويجب على الوالد نصرة ولده وعلى المولى نصرة عبده بل يجب النصر على الأجنبي إذا تعين بأن كان واحداً اتفاقاً وإن كان مشغولاً بصلاة نفسه ثم

اجتمعت هذه الأسباب في حقه تعالى فوعده مع الكرم وهو أرأف بعبده من الوالد بولده والمولى بعبده وهو ولي بحسب الملك ومولى بحسب السلطنة وقيوم للتدبير وواحد فرد لا ثاني له فوجب عليه وجوب الكرم نصرة عبده فلهذا قال إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ
أما قوله تعالى وَالْفَتْحُ ففيه مسائل
المسألة الأولى نقل عن ابن عباس أن الفتح هو فتح مكة وهو الفتح الذي يقال له فتح الفتوح روى أنه لما كان صلح الحديبية وانصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أغار بعض من كان في عهد قريش على خزاعة وكانوا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فجاء سفير ذلك القوم وأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعظم ذلك عليه ثم قال أما إن هذا العارض ليخبرني أن الظفر يجيء من الله ثم قال لأصحابه أنظروا فإن أبا سفيان يجيء ويلتمس أن يجدد العهد فلم تمض ساعة أن جاء الرجل ملتمساً لذلك فلم يجبه الرسول ولا أكابر الصحابة فالتجأ إلى فاطمة فلم ينفعه ذلك ورجع إلى مكة آيساً وتجهز رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المسير لمكة ثم يروى أن سارة مولاة بعض بني هاشم أتت المدينة فقال عليه السلام لها جئت مسلمة قالت لا لكن كنتم الموالي وبي حاجة فحث عليها رسول الله بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزودوها فأتاها حاطب بعشرة دنانير واستحملها كتاباً إلى مكة نسخته اعلموا أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علياً عليه السلام وعماراً في جماعة وأمرهم أن يأخذوا الكتاب وإلا فاضربوا عنقها فلما أدركوها جحدت وحلفت فسل علي عليه السلام سيفه وقال الله ما كذبنا فأخرجته من عقيصة شعرها واستحضر النبي حاطباً وقال ما حملك عليه فقال والله ما كفرت منذ أسلمت ولا أحببتهم منذ فارقتهم لكن كنت غريباً في قريش وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم فخشيبت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً فقال عمر دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر ثم خرج رسول الله إلى أن نزل بمر الظهران وقدم العباس وأبو سفيان إليه فاستأذنا فأذن لعمه خاصة فقال أبو سفيان إما أن تأذن لي وإلا أذهب بولدي إلى المفازة فيموت جوعاً وعطشاً فرق قلبه فأذن له وقال له ألم يأن أن تسلم وتوحد فقال أظن أنه واحد ولو كان ههنا غير الله لنصرنا فقال ألم يأن أن تعرف أني رسوله فقال إن لي شكاً في ذلك فقال العباس أسلم قبل أن يقتلك عمر فقال وماذا أصنع بالعزى فقال عمر لولا أنك بين يدي رسول الله لضربت عنقك فقال يا محمد أليس الأولى أن تترك هؤلاء الأوباش وتصالح قومك وعشيرتك فسكان مكة عشيرتك وأقارب و ( لا ) تعرضهم للشن والغارة فقال عليه السلام هؤلاء نصروني وأعانوني وذبوا عن حريمي وأهل مكة أخرجوني وظلموني فإن هم أسروا فبسوء صنيعهم وأمر العباس بأن يذهب به ويوقفه على المرصاد ليطالع العسكر فكانتالكتيبة تمر عليه فيقول من هذا فيقول العباس هو فلان من أمراء الجند إلى أن جاءت الكتيبة الخضراء التي لا يرى منها إلا الحدق فسأل عنهم فقال العباس هذا رسول الله فقال لقد أوتي ابن أخيك ملكاً عظيماً فقال العباس هو النبوة فقال هيهات النبوة ثم تقدم

ودخل مكة وقال إن محمداً جاء بعسكر لا يطيقه أحد فصاحت هند وقالت اقتلوا هذا المبشر وأخذت بلحيته فصاح الرجل ودفعها عن نفسه ولما سمع أبو سفيان أذان القوم للفجر وكانوا عشرة آلاف فزع لذلك فزعاً شديداً وسأل العباس فأخبره بأمر الصلاة ودخل رسول الله مكة على راحلته ولحيته على قربوس سرجه كالساجد تواضعاً وشكراً ثم التمس أبو سفيان الأمان فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن فقال ومن تسع داري فقال ومن دخل المسجد فهو آمن فقال ومن يسع المسجد فقال من ألقى سلاحه فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ثم وقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على باب المسجد وقال لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم قال يا أهل مكة ما ترون إني فاعل بكم فقالوا خير أخ كريم وابن أخ كريم فقال اذهبوا فأنتم الطلقاء فاعتقهم فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء ومن ذلك كان علي عليه السلام يقول لمعاوية أنى يستوي المولى والمعتق يعني اعتقناكم حين مكننا الله من رقابكم ولم يقل اذهبوا فأنتم معتقون بل قال الطلقاء لأن المعتق يجوز أن يرد إلى الرق والمطلقة يجوز تعاد إلى رق النكاح وكانوا بعد على الكفر فكان يجوز أن يخونوا فيستباح رقهم مرة أخرى ولأن الطلاق يخص النسوان وقد ألقوا السلاح وأخذوا المساكن كالنسوان ولأن المعتق يخلى سبيله يذهب حيث شاء والمطلقة تجلس في البيت للعدة وهم أمروا بالجلوس بمكة كالنسوان ثم إن القوم بايعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الإسلام فصاروا يدخلون في دين الله أفواجاً روى أنه عليه السلام صلى ثمان ركعات أربعة صلاة الضحى وأربعة أخرى شكراً لله نافلة فهذه هي قصة فتح مكة والمشهور عند المفسرين أن المراد من الفتح في هذه السورة هو فتح مكة ومما يدل على أن المراد بالفتح فتح مكة أنه تعالى ذكره مقروناً بالنصر وقد كان يجد النصر دون الفتح كبدر والفتح دون النصر كأجلاء بني النضير فإنه فتح البلد لكن لم يأخذ القوم أما يوم فتح مكة اجتمع له الأمران النصر والفتح وصار الخلق له كالأرقاء حتى أعتقهم القول الثاني أن المراد فتح خيبر وكان ذلك على يد علي عليه السلام والقصة مشهورة روى أن أستصحب خالد بن الوليد وكان يساميه في الشجاعة فلما نصب السلم قال لخالد أتتقدم قال لا فلما تقدم علي عليه السلام سأله كم صعدت فقال لا أدري لشدة الخوف وروى أنه قال لعلي عليه السلام ألا تصارعني فقال ألست صرعتك فقال نعم لكن ذاك قبل إسلامي ولعل علياً عليه السلام إنما امتنع عن مصارعته ليقع صيته في الإسلام أنه رجل يمتنع عنه علي أو كان علي يقول صرعتك حين كنت كافراً أما الآن وأنت مسلم فلا يحسن أن أصرعك القول الثالث أنه فتح الطائف وقصته طويلة والقول الرابع المراد النصر على الكفار وفتح بلاد الشرك على الإطلاق وهو قول أبي مسلم والقول الخامس أراد بالفتح ما فتح الله عليه من العلوم ومنه قوله وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً لكن حصول العلم لا بد وأن يكون مسبوقاً بانشراح الصدر وصفاء القلب وذلك هو المراد من قوله إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ ويمكن أن يكون المراد بنصر الله إعانته على الطاعة والخيرات والفتح هو انتفاع عالم المعقولات والروحانيات
المسألة الثانية إذا حملنا الفتح على فتح مكة فللناس في وقت نزول هذه السورة قولان أحدهما أن فتح مكة كان سنة ثمان ونزلت هذه السورة سنة عشر وروى أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوماً ولذلك سميت سورة التوديع والقول الثاني أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة وهو وعد لرسول الله أن ينصره على أهل مكة وأن يفتحها عليه ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ

وقوله إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يقتضي الاستقبال إذ لا يقال فيما وقع إذا جاء وإذا وقع وإذا صح هذا القول صارت هذه الآية من جملة المعجزات من حيث إنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقاً له والإخبار عن الغيب معجز فإن قيل لم ذكر النصر مضافاً إلى الله تعالى وذكر الفتح بالألف واللام الجواب الأولف واللام للمعهود السابق فينصرف إلى فتح مكة
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً
قوله تعالى وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فيه مسائل
المسألة الأولى رأيت يحتمل أن يكون معناه أبصرت وأن يكون معناه علمت فإن كان معناه أبصرت كان يدخلون في محل النصب على الحال والتقدير ورأيت الناس حال دخولهم في دين الله أفواجاً وإن كان معناه علمت كان يدخلون في دين الله مفعولاً ثانياً لعلمت والتقدير علمت الناس داخلين في دين الله
المسألة الثانية ظاهر لفظ الناس للعموم فيقتضي أن يكون كل الناس كانوا قد دخلوا في الوجود مع أن الأمر ما كان كذلك الجواب من وجهين الأول أن المقصود من الإنسانية والعقل إنما هو الدين والطاعة على ما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ فمن أعرض عن الدين الحق وبقي على الكفر فكأنه ليس بإنسان وهذا المعنى هو المراد من قوله أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ وقال وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ وسئل الحسن بن علي عليه السلام من الناس فقال نحن الناس وأشياعنا أشباه الناس وأعداؤنا النسناس فقبله علي عليه السلام بين عينيه وقال الله أعلم حيث يجعل رسالته فإن قيل إنهم إنما دخلوا في الإسلام بعد مدة طويلة وتقصير كثير فكيف استحقوا هذا المدح العظيم قلنا هذا فيه إشارة إلى سعة رحمة الله فإن العبد بعد أن أتى بالكفر والمعصية طول عمره فإذا أتى بالإيمان في آخر عمره يقبل إيمانه ويمدحه هذا المدح العظيم ويروي أن الملائكة يقولون لمثل هذا الإنسان أتيت وإن كنت قد أتيت ويروى أنه عليه السلام قال ( لله أفرح بتوبة أحدكم من الضال الواجد والظمآن الوارد ) والمعنى كان الرب تعالى يقول ربيته سبعين سنة فإن مات على كفره فلا بد وأن أبعثه إلى النار فحينئذ يضيع إحساني إليه في سبعين سنة فكلما كانت مدة الكفر والعصيان أكثر كانت التوبة عنها أشد قبولاً الوجه الثاني في الجواب روى أن المراد بالناس أهل اليمن قال أبو هريرة لما نزلت هذه السورة قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الله أكبر جاء نصر الله والفتح وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية وقال أجد نفس ربكم من قبل اليمن )
المسألة الثالثة قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمون إن إيمان المقلد صحيح واحتجوا بهذه الآية قالوا إنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على محمد عليه السلام ولو لم يكن إيمانهم صحيحاً لما ذكره في هذا المعرض ثم إنا نعلم قطعاً أنهم ما كانوا عالمين حدوث الأجساد بالدليل ولا إثبات كونه تعالى منزهاً عن الجسمية والمكان والحيز ولا إثبات كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ولا إثبات قيام المعجز التام على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا إثبات أن قيام المعجز كيف يدل على الصدق والعلم بأن أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري فعلمنا أن إيمان المقلد

صحيح ولا يقال إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه المسائل لأن أصول هذه الدلائل ظاهرة بل إنما كانوا جاهلين بالتفاصيل إلا أنه ليس من شرط كون الإنسان مستدلاً كونه عالماً بهذه التفاصيل لأنا نقول ءن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان فإن الدليل إذا كان مثلاً مركباً من عشر مقدمات فمن علم تسعة منها وكان في المقدمة العاشرة مقلداً كان في النتيجة مقلداً لا محالة لأن فرع التقليد أولى أن يكون تقليداً وإن كان عالماً بمجموع تلك المقدمات العشرة استحال كون غيره أعرف منه بذلك الدليل لأن تلك الزيادة إن كانت جزأً معتبراً في دلالة هذا الدليل لم تكن المقدمات العشرة الأولى تمام الدليل فإنه لا بد معها من هذه المقدمة الزائدة وقد كنا فرضنا تلك العشرة كافية وإن لم تكن الزيادة معتبرة في دلالة ذلك الدليل كان ذلك أمراً منفصلاً عن ذلك الدليل غير معتبر في كونه دليلاً على ذلك المدلول فثبت أن العلم بكون الدليل دليلاً لا يقبل الزيادة والنقصان فأما أن يقال إن أولئك الأعراب كانوا عالمين بجميع مقدمات دلائل هذه المسائل بحيث ما شذ عنهم من تلك المقدمات واحدة وذلك مكابرة أو ما كانوا كذلك فحينئذ ثبت أنهم كانوا مقلدين ومما يؤكذ ما ذكرنا ما روى عن الحسن أنه قال لما فتح رسول الله مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا إذا ظفر بأهل الحرم وجب أن يكون على الحق وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل وكل من أرادهم بسوء ثم أخذوا يدخلون في الإسلام أفواجاً من غير قتال هذا ما رواه الحسن ومعلوم أن الاستدلال بأنه لما ظفر بأهل مكة وجب أن يكون على الحق ليس بجيد فعلمنا أنهم ما كانوا مستدلين بل مقلدين
المسألة الرابعة دين الله هو الإسلام لقوله تعالى إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ولقوله وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وللدين أسماء أخرى منها الإيمان قال الله تعالى فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ ومنها الصراط قال تعالى صِراطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ومنها كلمة الله ومنها النور لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ ومنها الهدي لقوله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء ومنها العروة فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى ومنها الحبل وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ ومنها صبغة الله وفطرة الله وإنما قال فِى دِينِ اللَّهِ ولم يقل في دين الرب ولا سائر الأسماء لوجهين الأول أن هذا الاسم أعظم الأسماء لدلالته على الذات والصفات فكأنه يقول هذا الدين إن لم يكن له خصلة سوى أنه دين الله فإنه يكون واجب القبول والثاني لو قال دين الرب لكان يشعر ذلك بأن هذا الدين إنما يجب عليك قبوله لأنه رباك وأحسن إليك وحينئذ تكن طاعتك له معللة بطلب النفع فلا يكون الإخلاص حاصلاً فكأنه يقول أخلص الخدمة بمجرد أني إله لا لنفع يعود إليك
المسألة الخامسة الفوج الجماعة الكثيرة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعدما كانوا يدخلون فيه واحداً واحداً وإثنين إثنين وعن جابر بن عبد الله أنه بكى ذات يوم فقيل له ما يبكيك فقال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( دخل الناس في دين الله أفواجاً وسيخرجون منه أفواجاً ) نعوذ بالله من السلب بعد العطاء
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوابَا

قوله تعالى فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا فيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى أمره بالتسبيح ثم بالحمد ثم بالاستغفار ولهذا الترتيب فوائد
الفائدة الأولى اعلم أن تأخير النصر سنين مع أن محمداً كان على الحق مما يثقل على القلب ويقع في القلب أني إذا كنت على الحق فلم لا تنصرني ولم سلطت هؤلاء الكفرة علي فلأجل الاعتذار عن هذا الخاطر أمر بالتسبيح أما على قولنا فالمراد من هذا التنزيه أنك منزه عن أن يستحق أحد عليك شيئاً بل كل ما تفعله فإنما تفعله بحكم المشيئة الإلهية فلك أن تفعل ما تشاء كما تشاء ففائدة التسبيح تنزيه الله عن أن يستحق عليه أحد شيئاً وأما على قول المعتزلة ما فائدة التنزيه هو أن يعلم العبد أن ذلك التأخير كان بسبب الحكمة والمصلحة لا بسبب البخل وترجيح الباطل على الحق ثم إذا فرغ العبد عن تنزيه الله عما لا ينبغي فحينئذ يشتغل بحمده على ما أعطى من الإحسان والبر ثم حينئذ يشتغل بالاستغفار لذنوب نفسه الوجه الثاني أن للسائرين طريقين فمنهم من قال ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله بعده ومنهم من قال ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله ولا شك أن هذا الطريق أكمل أما بحسب المعالم الحكمية فلأن النزول من المؤثر إلى الأثر أجل مرتبة من الصعود من الأثر إلى المؤثر وأما بحسب أفكار أرباب الرياضات فلأن ينبوع النور هو واجب الوجود وينبوع الظلمة ممكن الوجود فالاستغراق في الأول يكون أشرف لا محالة ولأن الاستدلال بالأصل على التبع يكون أقوى من الاستدلال بالتبع على الأصل وإذا ثبت هذا فنقول الآية دالة على هذه الطريقة التي هي أشرف الطريقين وذلك لأنه قدم الاشتغال بالخالق على الاشتغال بالنفس فذكر أولاً من الخالق أمرين أحدهما التسبيح والثاني التحميد ثم ذكروا في المرتبة الثالثة الاستغفار وهو حالة ممزوجة من الالتفات إلى الخالق وإلى الخلق
واعلم أن صفات الحق محصورة في السلب والإيجاب والنفي والإثبات والسلوب مقدمة على الإيجابات فالتسبيح إشارة إلى التعرض للصفات السلبية التي لواجب الوجود وهي صفات الجلال والتحميد إشارة إلى الصفات الثبوتية له وهي صفات الإكرام ولذلك فإن القرآن يدل على تقدم الجلال على الإكرام ولما أشار إلى هذين النوعين من الاستغفار بمعرفة واجب الوجود نزل منه إلى الاستغفار لأن الاستغفار فيه رؤية قصور النفس وفيه رؤية جود الحق وفيه طلب لما هو الأصلح والأكمل للنفس ومن المعلوم أن بقدر اشتغال العبد بمطالعة غير الله يبقى محروماً عن مطالعة حضرة جلال الله فلهذه الدقيقة أخر ذكر الاستغفار عن التسبيح والتحميد الوجه الثالث أنه إرشاد للبشر إلى التشبه بالملكية وذلك لأن أعلى كل نوع أسفل متصل بأسفل النوع الأعلى ولهذا قيل آخر مراتب الإنسانية أول مراتب الملكية ثم الملائكة ذكروا في أنفسهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ

فقوله ههنا فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ إشارة إلى التشبه بالملائكة في قولهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وقوله ههنا وَاسْتَغْفِرْهُ إشارة إلى قوله تعالى وَنُقَدّسُ لَكَ لأنهم فسروا قوله وَنُقَدّسُ لَكَ أي نجعل أنفسنا مقدسة لأجل رضاك والاستغفار يرجع معناه أيضاً إلى تقديس النفس ويحتمل أن يكون المراد أنهم ادعوا لأنفسهم أنهم سبحوا بحمدي ورأوا ذلك من أنفسهم وأما أنت فسبح بحمدي واستغفر من أن ترى تلك الطاعة من نفسك بل يجب أن تراها من توفيقي وإحساني ويحتمل أن يقال الملائكة كما قالوا في حق أنفسهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قال الله في حقهم وَيَسْتَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ فأنت يا محمد استغفر للذين جاؤوا أفواجاً كالملائكة يستغفرون للذين آمنوا ويقولون رَبَّنَا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ الوجه الرابع التسبيح هو التطهير فيحتمل أن يكون المراد طهر الكعبة من الأصنام وكسرها ثم قال بِحَمْدِ رَبّكَ أن ينبغي أن يكون إقدامك على ذلك التطهير بواسطة الاستغفار بحمد ربك وإعانته وتقويته ثم إذا فعلت ذلك فلا ينبغي أن ترى نفسك آتياً بالطاعة اللائقة به بل يجب أن ترى نفسك في هذه الحالة مقصرة فاطلب الاستغفار عن تقصيرك في طاعته والوجه الخامس كأنه تعالى يقول يا محمد إما أن تكون معصوماً أو لم تكن معصوماً فإن كنت معصوماً فاشتغل بالتسبيح والتحميد وإن لم تكن معصوماً فاشتغل بالاستغفار فتكون الآية كالتنبيه على أنه لا فراغ عن التكليف في العبودية كما قال وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
المسألة الثانية في المراد من التسبيح وجهان الأول أنه ذكر الله بالتنزه سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن فقال تنزيه الله عن كل سوء وأصله من سبح فإن السابح يسبح في الماء كالطير في الهواء ويضبط نفسه من أن يرسب فيه فيهلك أو يتلوث من مقر الماء ومجراه والتشديد للتبعيد لأنك تسبحه أي تبعده عما لا يجوز عليه وإنما حسن استعماله في تنزيه الله عما لا يجوز عليه من صفات الذات والفعل نفياً وإثباتاً لأن السمكة كما أنها لا تقبل النجاسة فكذا الحق سبحانه لا يقبل مالا ينبغي البتة فاللفظ يفيد التنزيه في الذات والصفات والأفعال والقول الثاني أن المراد بالتسبيح الصلاة لأن هذا اللفظ وارد في القرآن بمعنى الصلاة قال تعالى فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وقال فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ والذي يؤكده أن هذه السورة من آخر ما نزل وكان عليه السلام في آخر مرضه يقول ( الصلاة وما ملكت أيمانكم ) جعل يلجلجها في صدره وما يقبض بها لسانه ثم قال بعضهم عني به صلاة الشكر صلاها يوم الفتح ثمان ركعات ) وقال آخرون هي صلاة الضحى وقال آخرون صلي ثمان ركعات أربعة للشكر وأربعة الضحى وتسمية الصلاة بالتسبيح لما أنها لا تنفك عنه وفيه تنبيه على أنه يجب تنزيه صلاتك عن أنواع النقائص في الأقوال والأفعال واحتج أصحاب القول الأول بالأخبار الكثيرة الواردة في ذلك روت عائشة كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد نزول هذه السورة يكثر أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك وقالت أيضاً كان الرسول يقول كثيرا في ركوعه سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي وعنها أيضاً كان نبي الله في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلى قال سبحان الله وبحمده فقلت يا رسول الله إنك تكثر من قولة سبحان الله وبحمده قال إني أمرت بها وقرأ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وعن ابن مسعود ( لما نزلت هذه السورة كان عليه السلام يكثر أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الغفور ) وروى أنه قال ( إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة )
المسألة الثانية الآية تدلى على فضل التسبيح والتحميد حيث جعل كافياً في أداء ما وجب عليه من شكر نعمة النصر والفتح ولم لا يكون كذلك وقوله ( الصوم لي ) من أعظم الفضائل للصوم فإنه أضافه إلى ذاته ثم إنه جعل صدف الصلاة مساوياً للصوم في هذا التشريف وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فهذا يدل على أن الصلاة أفضل من الصوم بكثير ثم إن الصلاة صدف للأذكار ولذلك قال وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وكيف لا يكون كذلك والثناء عليه مما مدحه معلوم عقلاً وشرعاً أما كيفية الصلاة فلا

سبيل إليها إلا بالشرع ولذلك جعلت الصلاة كالمرصعة من التسبح والتكبير فإن قيل عدم وجوب التسبيحات يقتضي أنها أقل درجة من سائر أعمال الصلاة قلنا الجواب عنه من وجوه أحدها أن سائر أفعال الصلاة مما لا يميل القلب إليه فاحتيج فيها إلى الإيجاب أما التسبيح والتهليل فالعقل داع إليه والروح عاشق عليه فاكتفى بالحب الطبيعي ولذلك قال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا وثانيها أن قوله فَسَبّحْ أمر والأمر المطلق للوجوب عند الفقهاء ومن قال الأمر المطلق للندب قال إنه ههنا للوجوب بقرينة أنه عطف عليه الاستغفار والاستغفار واجب ومن حق العطف التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه وثالثها أنها لو وجبت لكان العقاب الحاصل بتركها أعظم إظهاراً لمزيد تعظيمها فترك الإيجاب خوفاً من هذا المحذور
المسألة الرابعة أما الحمد فقد تقدم تفسيره وأما تفسير قوله فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ فذكروا فيه وجوهاً أحدها قال صاحب الكشاف أي قل سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّهِ متعجباً مما أراك من عجيب أنعامه أي اجمع بينهما تقول شربت الماء باللبن إذا جمعت بينهما خلطاً وشرباً وثانيها أنك إذا حمدت الله فقد سبحته لأن التسبيح داخل في الحمد لأن الثناء عليه والشكر له لا بد وأن يتضمن تنزيهه عن النقائص لأنه لا يكون مستحقاً للثناء إلا إذا كان منزهاً عن النقص ولذلك جعل مفتاح القرآن بالحمد لله وعند فتح مكة قال الحمد لله الذي نصر عبده ولم يفتتح كلامه بالتسبيح فقوله فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ معناه سبحه بواسطة أن تحمده أي سبحه بهذا الطريق وثالثها أن يكون حالاً ومعناه سبح حامداً كقولك اخرج بسلاحك أي متسلحاً ورابعها يجوز أن يكون معناه سبح مقدراً أن تحمد بعد التسبيح كأنه يقول لا يتأتى لك الجمع لفظاً فاجمعهما نية كما أنك يوم النحر تنوي الصلاة مقدراً أن تنحر بعدها فيجتمع لك الثوابان في تلك الساعة كذا ههنا وخامسها أن تكون هذه الباء هي التي في قولك فعلت هذا بفضل الله أي سبحه بحمد الله وإرشاده وإنعامه لا بحمد غيره ونظيره في حديث الإفك قول عائشة ( بحمد الله لا بحمدك ) والمعنى فسبحه بحمده فإنه الذي هداك دون غيره ولذلك روى أنه عليه السلام كان يقول ( الحمد لله على الحمد لله ) وسادسها روى السدي بحمد ربك أي بأمر ربك وسابعها أن تكون الباء صلة زائدة ويكون التقدير سبح حمد ربك ثم فيه احتمالات أحدها اختر له أطهر المحامد وأزكاها والثاني طهر محامد ربك عن الرياء والسمعة والتوسل بذكرها إلى الأغراض الدنيوية الفاسدة والثالث طهر محامد ربك عن أن تقول جئت بها كما يليق به وإليه الإشارة بقوله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وثامنها أي ائت بالتسبيح بدلاً عن الحمد الواجب عليك وذلك لأن الحمد إنما يجب في مقابلة النعم ونعم الله علينا غير متناهية فحمدها لا يكون في وسع البشر ولذلك قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا فكأنه تعالى يقول أنت عاجز عن الحمد فأت بالتسبيح والتنزيه بدلاً عن الحمد وتاسعها فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد أمر أن لا يجوز تأخير أحدهما عن الثاني ولا يتصور أيضاً أن يؤتى بهما معاً فنظيره من ثبت له حق الشفعة وحق الرد بالعيب وجب أن يقول اخترت الشفعة بردي ذلك المبيع كذا قال فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ ليقعا معاً فيصير حامداً مسبحاً في وقت واحد معاً وعاشرها أن يكون المراد سبح قلبك أي طهر قلبك بواسطة مطالعة حمد ربك فإنك إذا رأيت أن الكل من الله فقد طهرت قلبك عن الالتفات إلى نفسك وجهدك فقوله فَسَبّحْ إشارة إلى نفي ما سوى الله تعالى وقوله بِحَمْدِ رَبّكَ إشارة

إلى رؤية كل الأشياء من الله تعالى
المسألة الخامسة في قوله وَاسْتَغْفِرْهُ وجوهأحدها لعله عليه السلام كان يتمنى أن ينتقم ممن آذاه ويسأل الله أن ينصره فلما سمع إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ استبشر لكن لو قرن بهذه البشارة شرط أن لا ينتقم لتنغصت عليه تلك البشارة فذكر لفظ الناس وأنهم يدخلون في دين الله وأمره بأن يستغفر للداخلين لكن من المعلوم أن الاستغفار لمن لا ذنب له لا يحسن فعلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بهذا الطريق أنه تعالى ندبه إلى العفو وترك الانتقام لأنه لما أمره بأن يطلب لهم المغفرة فكيف يحسن منه أن يشتغل بالانتقام منهم ثم ختم بلفظ التواب كأنه يقول إن قبول التوبة حرفته فكل من طلب منه التوبة أعطاه كما أن البياع حرفته بيع الأمتعة التي عنده فكل من طلب منه شيئاً من تلك الأمتعة باعه منه سواء كان المشتري عدواً أو ولياً فكذا الرب سبحانه يقبل التوبة سواء كان التائب مكياً أو مدنياً ثم إنه عليه السلام امتثل أمر الرب تعالى فحين قالوا له أخ كريم وابن أخ كريم قال لهم لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ أي أمرني أن استغفر لكم فلا يجوز أن يردني وثالثها أن قوله وَاسْتَغْفِرْهُ إما أن يكون المراد واستغفر الله لنفسك أو لأمتك فإن كان المراد هو الأول فهو يتفرع على أنه هل صدرت عنه معصية أم لا فمن قال صدرت المعصية عنه ذكر في فائدة الاستغفار وجوهاً أحدها أنه لا يمتنع أن تكون كثرة الاستغفار منه تؤثر في جعل ذنبه صغيرة وثانيها لزمه الاستغفار ليصير الاستغفار جابراً للذنب الصغير فلا ينتقض من ثوابه شيء أصلاً وأما من قال ما صدرت المعصية عنه فذكر في هذا الاستغفار وجوهاً أحدها أن استغفار النبي جار مجرى التسبيح وذلك لأنه وصف الله بأنه غفار وثانيها تعبده الله بذلك ليقتدي به غيره إذ لا يأمن كل مكلف عن تقصير يقع منه في عبادته وفيه تنبيه على أنه مع شدة اجتهاده وعصمته ما كان يستغني عن الاستغفار فكيف من دونه وثالثها أن الاستغفار كان عن ترك الأفضل ورابعها أن الاستغفار كان بسبب أن كل طاعة أتى بها العبد فإذا قابلها بإحسان الرب وجدها قاصرة عن الوفاء بأداء شكر تلك النعمة فليستغفر الله لأجل ذلك وخامسها الاستغفار بسبب التقصير الواقع في السلوك لأن السائر إلى الله إذا وصل إلى مقام في العبودية ثم تجاوز عنه فبعد تجاوزه عنه يرى ذلك المقام قاصراً فيستغفر الله عنه ولما كانت مراتب السير إلى الله غير متناهية لا جرم كانت مراتب هذا الاستغفار غير متناهية أما الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد واستغفره لذنب أمتك فهو أيضاً ظاهر لأنه تعالى أمره بالاستغفار لذنب أمته في قوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فههنا لما كثرت الأمة صار ذلك الاستغفار أوجب وأهم وهكذا إذا قلنا المراد ههنا أن يستغفر لنفسه ولأمته
المسألة السادسة في الآية إشكال وهو أن التوبة مقدمة على جميع الطاعات ثم الحمد مقدم على التسبيح لأن الحمد يكون بسبب الإنعام والإنعام كما يصدر عن المنزه فقد يصدر عن غيره فكان ينبغي أن يقع الابتداء بالاستغفار ثم بعده يذكر الحمد ثم بعده يذكر التسبيح فما السبب في أن صار مذكوراً على العكس من هذا الترتيب وجوابه من وجوه أولها لعله ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأخس فالأخس تنبيهاً على أن النزول من الخالق إلى الخلق أشرف من الصعود من الخلق إلى الخالق وثانيها فيه تنبيه على أن التسبيح والحمد الصادر عن العبد إذا صار مقابلاً بجلال الله وعزته صار عين الذنب فوجب الاستغفار منه وثالثها للتسبيح والحمد إشارة إلى التعظيم لأمر الله والاستغفار إشارة إلى الشفقة على خلق

( الله ) والأول كالصلاة والثاني كالزكاة وكما أن الصلاة مقدمة على الزكاة فكذا ههنا
المسألة السابعة الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه الإعلان بالتسبيح والاستغفار وذلك من وجوه أحدها أنه عليه الصلاة والسلام كان مأموراً بإبلاغ السورة إلى كل الأمة حتى يبقى نقل القرآن متواتراً وحتى نعلم أنه أحسن القيام بتبليغ الوحي فوجب عليه الإتيان بالتسبيح والاستغفار على وجه الإظهار ليحصل هذا الغرض وثانيها أنه من جملة المقاصد أن يصير الرسول قدوة للأمة حتى يفعلوا عند النعمة والمحنة ما فعله الرسول من تجديد الشكر والحمد عند تجديد النعمة وثالثها أن الأغلب في الشاهد أن يأتي بالحمد في ابتداء الأمر فأمر الله رسوله بالحمد والاستغفار دائماً وفي كل حين وأوان ليقع الفرق بينه وبين غيره ثم قال واستغفره حين نعيت نفسه إليه ليفعل الأمة عند اقتراب آجالهم مثل ذلك
المسألة الثامنة في الآية سؤالات أحدها وهو أنه قال إِنَّهُ كَانَ تَوبَا على الماضي وحاجتنا إلى قبوله في المستقبل وثانيها هلا قال غفاراً كما قاله في سورة نوح وثالثها أنه قال نَصْرُ اللَّهِ وقال فِى دِينِ اللَّهِ فلم لم يقل بحمد الله بل قال بِحَمْدِ رَبّكَ والجواب عن الأول من وجوه أحدها أن هذا أبلغ كأنه يقول ألست أثنيت عليكم بأنكم خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ثم من كان دونكم كنت أقبل توبتهم كاليهود فإنهم بعد ظهور المعجزات العظيمة وفلق البحر ونتق الجبل ونزول المن والسلوى عصوا ربهم وأتوا بالقبائح فلما تابوا قبلت توبتهم فإذا كنت قابلاً للتوبة ممن دونكم أفلا أقبلها منكم وثانيها منذ كثير كنت شرعت في قبول توبة العصاة والشروع ملزم على قبول النعمان فكيف في كرم الرحمن وثالثها كنت تواباً قبل أن آمركم بالاستغفار أفلا أقبل وقد أمرتكم بالاستغفار ورابعها كأنه إشارة إلى تخفيف جنايتهم أي لستم بأول من جنى وتاب بل هو حرفتي والجناية مصيبة للجاني والمصيبة إذا عمدت خفت وخامسها كأنه نظير ما يقال
لقد أحسن الله فيما مضى
كذلك يحسن فيما بقي والجواب عن السؤال الثاني من وجوه أحدها لعله خص هذه الأمة بزيادة شرف لأنه لا يقال في صفات العبد غفار ويقال تواب إذا كان آتياً بالتوبة فيقول تعالى كنت لي سمياً من أول الأمر أنت مؤمن وأنا مؤمن وإن كان المعنى مختلفاً فتب حتى تصير سمياً لي آخر الأمر فأنت تواب وأنا تواب ثم إن التواب في حق الله هو أنه تعالى يقبل التوبة كثيراً فنبه على أنه يجب على العبد أن يكون إتيانه كثيراً وثانيها إنما قيل تواباً لأن القائل قد يقول أستغفر اا وليس بتائب ومنه قوله ( المستغفر بلسانه المصر بقلبه كالمستهزىء بربه ) إن قيل فقد يقول أتوب وليس بتائب قلنا فإذاً يكون كاذباً لأن التوبة اسم للرجوع والندم بخلاف الاستغفار فإنه لا يكون كاذباً فيه فصار تقدير الكلام واستغفره بالتوبة وفيه تنبيه على أن خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار وكذا خواتيم الأعمال وروى أنه لم يجلس مجلساً إلا ختمه بالاستغفار والجواب عن السؤال الثالث أنه تعالى راعى العدل فذكر اسم الذات مرتين وذكر اسم الفعل مرتين أحدهما الرب والثاني التواب ولما كانت التربية تحصل أولاً والتوابية آخراً لا جرم ذكر اسم الرب أولاً واسم التواب آخراً

المسألة التاسعة الصحابة اتفقوا على أن هذه السورة دلت على أنه نعي لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) روى أن العباس عرف ذلك وبكى فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما يبكيك فقال نعيت إليك نفسك فقال الأمر كما تقول وقيل إن ابن عباس هو الذي قال ذلك فقال عليه الصلاة والسلام ( لقد أوتي هذا الغلام علماً كثيراً ) روى أن عمر كان يعظم ابن عباس ويقربه ويأذن له مع أهل بدر فقال عبدالرحمن أتأذن لهذا الفتى معنا وفي أبنائنا من هو مثله فقال لأنه ممن قد علمتم قال ابن عباس فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول الله إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وكأنه ما سألهم إلا من أجلي فقال بعضهم أمر الله نبيه إذا فتح أن يستغفره ويتوب إليه فقلت ليس كذلك ولكن نعيت إليه نفسه فقال عمر ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم ثم قال كيف تلومونني عليه بعدما ترون وروى أنه لما نزلت هذه السورة خطب وقال ( إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقائه والآخرة فاختار لقاء الله ) فقال السائل وكيف دلت هذه السورة على هذا المعنى الجواب من وجوه أحدها قال بعضهم إنما عرفوا ذلك لما روينا أن الرسول خطب عقيب السورة وذكر التخيير وثانيها أنه لما ذكر حصول النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجاً دل ذلك على حصول الكال والتمام وذلك يعقبه الزوال كما قيل
إذا تم شيء دنا نقصه
توقع زوالاً إذا قيل تم وثالثها أنه أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقاً واشتغاله به يمنعه عن الاشتغال بأمر الأمة فكان هذا كالتنبيه على أن أمر التبليغ قد تم وكمل وذلك يوجب الموت لأنه لو بقي بعد ذلك لكان كالمعزول عن الرسالة وأنه غير جائز ورابعها قوله وَاسْتَغْفِرْهُ تنبيه على قرب الأجل كأنه يقول قرب الوقت ودنا الرحيل فتأهب للأمر ونبهه به على أن سبيل العاقل إذا قرب أجله أن يستكثر من التوبة وخامسها كأنه قيل له كان منتهى مطلوبك في الدنيا هذا الذي وجدته وهو النصر والفتح والاستيلاء والله تعالى وعدك بقوله وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى فلما وجدت أقصى مرادك في الدنيا فانتقل إلى الآخرة لتفوز بتلك السعادات العالية
المسألة العاشرة ذكرناأن الأصح هو أن السورة نزلت قبل فتح مكة وأما الذين قالوا إنها نزلت بعد فتح مكة فذكر الماوردي أنه عليه السلام لم يلبث بعد نزول هذه السورة إلا ستين يوماً مستديماً للتسبيح والاستغفار وقال مقاتل عاش بعدها حولاً ونزل الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فعاش بعده ثمانين يوماً ثم نزل آية الكلالة فعاش بعدها همسين يوماً ثم نزل لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً ثم نزل وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فعاش بعدها أحد عشر يوماً وفي رواية أخرى عاش بعدها سبعة أيام والله أعلم كيف كان ذلك

سورة المسد
خمس آيات مكية بالاتفاق
اعلم أنه تعالى قال
اعلم أنه تعالى قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ثم بين في سورة قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أن محمداً عليه الصلاة والسلام أطاع ربه وصرح بنفي عبادة الشركاء والأضداد وأن الكافر عصى ربه واشتغل بعبادة الأضداد والأنداد فكأنه قيل إلهنا ما ثواب المطيع وما عقاب العاصي فقال ثواب المطيع حصول النصر والفتح والاستيلاء في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى كما دل عليه سورة إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وأما عقاب العاصي فهو الخسار في الدنيا والعقاب العظيم في العقبى كما دلت عليه سورة تُبْتُ ونظيره قوله تعالى في آخر سورة الأنعام وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الاْرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ فكأنه قيل إلهنا أنت الجواد المنزه عن البخل والقادر المنزه عن العجز فما السبب في هذا التفاوت فقال لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتَاكُمُ فكأنه قيل إلهنا فإذا كان العبد مذنباً عاصياً فكيف حاله فقال في الجواب إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وإن كان مطيعاً منقاداً كان جزاؤه أن الرب تعالى يكون غفوراً لسيئاته في الدنيا رحيماً كريماً في الآخرة وذكروا في سبب نزول هذه السورة وجوهاً أحدها قال ابن عباس كان رسول الله يكتم أمره في أول المبعث ويصلي في شعاب مكة ثلاث سنين إلى أن نزل قوله تعالى وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ فصعد الصفا ونادى يا آل غالب فخرجت إليه غالب من المسجد فقال أبو لهب هذه غالب قد أتتك فما عندك ثم نادى يا آل لؤي فرجع من لم يكن من لؤي فقال أبو لهب هذه لؤي قد أتتك فما عندك ثم قال يا آل مرة فرجع من لم يكن من مرة فقال أبو لهب هذه لؤي قد أتتك فما عندك ثم قال يا آل مرة فرجع من لم يكن من مرة فقال أبو لهب هذه مرة قد أتتك فما عندك ثم قال يا آل كلاب ثم قال بعده يا آل قصي فقال أبو لهب هذه قصي قد أتتك فيما عندك فقال إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين وأنتم الأقربون اعلموا أني لا أملك لكم من الدنيا حظاً ولا من الآخرة نصيباً إلا أن تقولوا لا إله إلا الله فأشهد بها لكم عند ربكم فقال أبو لهب عند ذلك تباً لك ألهذا دعوتنا فنزلت السورة وثانيها روى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صعد الصفا ذات يوم وقال يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا مالك قال أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقوني قالوا بلى قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب

شديد فقال عند ذلك أبو لهب ما قال فنزلت السورة وثالثها أنه جمع أعمامه وقدم إليهم طعاماً في صحفة فاستحقروه وقالوا إن أحدنا يأكل كل الشاة فقال كلوا فأكلوا حتى شبعوا ولم ينقص من الطعام إلا اليسير ثم قالوا فما عندك فدعاهم إلى الإسلام فقال أبو لهب ما قال وروى أنه قال أبو لهب فمالي إن أسلمت فقال ما للمسلمين فقال أفلا أفضل عليهم فقال النبي عليه الصلاة والسلام بماذا تفضلا فقال تباً لهذا الدين يستوي فيه أنا وغيري ورابعها كان إذا وفد على النبي وفد سألوا عمه عنه وقالوا أنت أعلم به فيقول لهم إنه ساحر فيرجعون عنه ولا يلقونه فأتاه وفد فقال لهم مثل ذلك فقالوا لا ننصرف حتى نراه فقال إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتباً له وتعساً فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك فحزن ونزلت السورة
تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ
قوله تعالى تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ اعلم أن قوله تُبْتُ فيه أقاويل أحدها التباب الهلاك ومنه قولهم شابة أم تابة أي هالكة من الهرم ونظيره قوله تعالى وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ أي في هلاك والذي يقرر ذلك ن الأعرابي لما واقع أهله في نهار رمضان قال هلكت وأهلكت ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام ما أنكر ذلك فدل على أنه كان صادقاً في ذلك ولا شك أن العمل إما أن يكون داخلاً في الإيمان أو إن كان داخلاً لكنه أضعف أجزائه فإذا كان بترك العمل حصل الهلاك ففي حق أبي لهب حصل ترك الاعتقاد والقول والعمل وحصل وجود الاعتقاد الباطل والقول الباطل والعمل الباطل فكيف يعقل أن لا يحصل معنى الهلاك فلهذا قال تُبْتُ وثانيها تبت خسرت والتياب هو الخسران المفضي إلى الهلاك ومنه قوله تعالى وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ أي تخسير بدليل أنه قال في موضع آخر غير تخسير وثالثها تبت خابت قال ابن عباس لأنه كان يدفع القوم عنه بقوله إنه ساحر فينصرفون عنه قبل لقائه لأنه كان شيخ القبيلة وكان له كالأب فكان لا يتهم فلما نزلت السورة وسمع بها غضب وأظهر العداوة الشديدة فصار متهماً فلم يقبل قوله في الرسول بعد ذلك فكأنه خاب سعيه وبطل غرضه ولعله إنما ذكر اليد لأنه كان يضرب بيده على كتف الوافد عليه فيقول انصرف راشداً فإنه مجنون فإن المعتاد أن من يصرف إنساناً عن موضع وضع يده علي كتفه ودفعه عن ذلك الموضع ورابعها عن عطاء تبت أي غلبت لأنه كان يعتقد أن يده هي العليا وأنه يخرجه من مكة ويذله ويغلب عليه وخامسها عن ابن وثاب صفرت يداه على كل خير وإن قيل ما فائدة ذكر اليد قلنا فيه وجوه أحدها ما يرى أنه أخذ حجراً ليرمي به رسول الله روى عن طارق المحاربي أنه قال رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في السوق يقول يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد أدمى عقبيه لا تطيعوه فإنه كذاب فقلت من هذا فقالوا محمد وعمه أبو لهب وثانيها المراد من اليدين الجملة كقوله تعالى ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ومنه قولهم يداك أو كتا وقوله تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا وهذا التأويل متأكد بقوله وَتَبَّ وثالثها تبت يداه أي دينه ودنياه أولاه وعقباه أو لأن بأحدى اليدين تجر المنفعة وباوخرى تدفع المضرة أو لأن اليمنى سلاح والأخرى جنة ورابعها روى أنه عليه السلام لما دعاه نهاراً فأبى فلما جن الليل ذهب إلى داره مستناً بسنة نوح ليدعوه ليلاً كما دعاه نهاراً فلما دخل عليه قال له جئتني معتذراً فجلس النبي عليه

السلام أمامه كالمحتاج وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت فقال لا أومن بك حتى يؤمن بك هذا الجدي فقال عليه الصلاة والسلام للجدي من أنا فقال رسول الله وأطلق لسانه يثني عليه فاستولى الحسد على أبي لهب فأخذ يدي الجدي ومزقه وقال تباً لك أثر فيك السحر فقال الجدي بل تباً لك فنزلت السورة على وفق ذلك تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ لتمزيقه يدي الجدي وخامسها قال محمد بن إسحق يروى أن أبا لهب كان يقول يعدني محمد أشياء لا أرى أنها كائنة يزعم أنها بعد الموت فلم يضع في يدي من ذلك شيئاً ثم ينفخ في يديه ويقول تباً لكما ما آرى فيكما شيئاً فنزلت السورة
أما قوله تعالى وَتَبَّ ففيه وجوه أحدها أنه أخرج الأول مخرج الدعاء عليه كقوله قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ والثاني مخرج الخبر أي كان ذلك وحصل ويؤيده قراءة ابن مسعود وقد تب وثانيها كل واحد منهما إخبار ولكن أراد بالأول هلاك عمله وبالثاني هلاك نفسه ووجهه أن المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه وعمله فأخبر الله تعالى أنه محروم من الأمرين وثالثها تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ يعني ماله ومنه يقال ذات اليد وَتَبَّ هو بنفسه كما يقال خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وهو قول أبي مسلم ورابعها تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ يعني نفسه وَتَبَّ يعني ولده عتبة على ما روى أن عتبة بن أبي لهب خرج إلى الشأم مع أناس من قريش فلما هموا أن يرجعوا قال لهم عتبة بلغوا محمداً عني أني قد كفرت بالنجم إذا هوى وروى أنه قال ذلك في وجه رسول الله وتفل في وجهه وكان مبالغاً في عداوته فقال اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فوقع الرعب في قلب عتبة وكان يحترز فسار ليلة من الليالي فلما كان قريباً من الصبح فقال له أصحابه هلكت الركاب فما زالوا به حتى نزل وهو مرعوب وأناخ الإبل حوله كالسرادق فلسط الله عليه الأسد وألقى السكينة على الإبل فجعل الأسد يتخلل حتى افترسه ومزقه فإن قيل نزول هذه السورة كان قبل هذه الوقعة وقوله وَتَبَّ إخبار عن الماضي فكيف يحمل عليه قلنا لأنه كان في معلومه تعالى أنه يحصل ذلك وخامسها تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ حيث لم يعرف حق ربه وَتَبَّ حيث لم يعرف حق رسوله وفي الآية سؤالات
السؤال الأول لماذا كناه مع أنه كالكذب إذا لم يكن له ولد اسمه لهب وأيضاً فالتكنية من باب التعظيم والجواب عن الأول أن التكنية قد تكون اسماً ويؤيذه قراءة من قرأ تبت يدا أبو لهب كما يقال علي بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان فإن هؤلاء أسماؤهم كناهم وأما معنى التعظيم فأجيب عنه من وجوه أحدها أنه لما كان اسماً خرج عن إفادة التعظيم والثاني أنه كان اسمه عبد العزي فعدل عنه إلى كنيته والثالث أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حاله كنيته فكان جديراً بأن يذكر بها ويقال أبو لهب كما يقال أبو الشر للشرير وأبو الخير للخير الرابع كنى بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما فيجوز أن يذكر بذلك تهكماً به واحتقاراً له
السؤال الثاني أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان نبي الرحمة والخلق العظيم فكيف يليق به أن

يشافه عمه بهذا التغليظ الشديد وكان نوح مع أنه في نهاية التغليظ على الكفار قال في ابنه الكافر إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وكان إبراهيم عليه السلام يخاطب أباه بالشفقة في قوله يا أبت يا أبت وأبوه كان يخاطبه بالتغليظ الشديد ولما قال له لارْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً قال سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي وأما موسى عليه السلام فلما بعثه إلى فرعون قال له ولهرون فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً مع أن جرم فرعون كان أغلظ من جرم أبي لهب كيف ومن شرع محمد عليه الصلاة والسلام أن الأب لا يقتل بابنه قصاصاً ولا يقيم الرجم عليه وإن خاصمه أبوه وهو كافر في الحرب فلا يقتله بل يدفعه عن نفسه حتى يقتله غيره والجواب من وجوه أحدها أنه كان يصرف الناس عن محمد عليه الصلاة والسلام بقوله إنه مجنون والناس ما كانوا يتهمونه لأنه كان كالأب له فصار ذلك كالمانع من أداء الرسالة إلى الخلق فشافهه الرسول بذلك حتى عظم غضبه وأظهر العداوة الشديدة فصار بسبب تلك العداوة متهماً في القدح في محمد عليه الصلاة والسلام فلم يقبل قوله فيه بعد ذلك وثانيها أن الحكمة في ذلك أن محمداً لو كان يداهن أحداً في الدين ويسامحه فيه لكانت تلك المداهنة والمسامحة مع عمه الذي هو قائم مقام أبيه فلما لم تحصل هذه المداهنة معه انقطعت الأطماع وعلم كل أحد أنه لا يسامح أحداً في شيء يتعلق بالدين أصلاً وثالثها أن الوجه الذي ذكرتم كالمتعارض فإن كونه عماً يوجب أن يكون له الشفقة العظيمة عليه فلما انقلب الأمر وحصلت العداوة العظيمة لا جرم استحق التغليظ العظيم
السؤال الثالث ما السبب في أنه لم يقل قل تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ وقال في سورة الكافرون قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ الجواب من وجوه الأول لأن قرابة العمومة تقتضي رعاية الحرمة فلهذا السبب لم يقل له قل ذلك لئلا يكون مشافهاً لعمه بالشتم بخلاف السورة الأخرى فإن أولئك الكفار ما كانوا أعماماً له الثاني أن الكفار في تلك السورة طعنوا في الله فقال الله تعالى يا محمد أجب عنهم قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وفي هذه السورة طعنوا في محمد فقال الله تعالى أسكت أنت فإني أشتمهم تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ الثالث لما شتموك فاسكت حتى تندرج تحت هذه الآية وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وإذا سكت أنت أكون أنا المجيب عنك يروى أن أبا بكر كان يؤذيه واحد فبقي ساكتاً فجعل الرسول يدفع ذلك الشاتم ويزجره فلما شرع أبو بكر في الجواب سكت الرسول فقال أبو بكر ما السبب في ذلك قال لأنك حين كنت ساكتاً كان الملك يجيب عنك فلما شرعت في الجواب انصرف الملك وجاء الشيطان
واعلم أن هذا تنبيه من الله تعالى على أن من لا يشافه السفيه كان الله ذاباً عنه وناصراً له ومعيناً
السؤال الرابع ما الوجه في قراءة عبد الله بن كثير المكي حيث كان يقرأ أَبِى لَهَبٍ ساكنة الهاء الجواب قال أبو علي يشبه أن يكون لهب ولهب لغتين كالشمع والشمع والنهر والنهر وأجمعوا في قوله سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ على فتح الهاء وكذا قوله وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ وذلك يدل على أن الفتح أوجه من الإسكان وقال غيره إنما اتفقوا على الفتح في الثانية مراعاة لو فاق الفواصل
مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ

قوله تعالى مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ في الآية مسائل
المسألة الأولى ما في قوله مَا أَغْنَى يحتمل أن يكون استفهاماً بمعنى الإنكار ويحتمل أن يكون نفياً وعلى التقدير الأول يكون المعنى أي تأثير كان لماله وكسبه في دفع البلاء عنه فإنه لا أحداً كثر مالاً من قارون فهل دفع الموت عنه ولا أعظم ملكاً من سليمان فهل دفع الموت عنه وعلى التقدير الثاني يكون ذلك إخباراً بأن المال والكسب لا ينفع في ذلك
المسألة الثانية ما كسب مرفوع وما موصولة أو مصدرية يعني مكسوبه أو كسبه يروى أنه كان يقول إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وأولادي فأنزل الله تعالى هذه الآية ثم ذكروا في المعنى وجوهاً أحدها لم ينفعه ماله وما كسب بماله يعني رأس المال والأرباح وثانيها أن المال هو الماشية وما كسب من نسلها ونتاجها فإنه كان صاحب النعم والنتاج وثالثها مَالَهُ الذي ورثه من أبيه والذي كسبه بنفسه ورابعها قال ابن عباس مَّا كَسَبَتْ ولده والدليل عليه قوله عليه السلام ( إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ) وقال عليه السلام ( أنت ومالك لأبيك ) وروى أن بني أبي لهب احتكموا إليه فاقتتلوا فقام يحجز بينهم فدفعه بعضهم فوقع فغضب فقال أخرجوا عني الكسب الخبيث وخامسها قال الضحاك ما ينفعه ماله وعمله الخبيث يعني كيده في عداوة رسول الله وسادسها قال قتادة وَمَا كَسَبَ أي عمله الذي ظن أنه منه على شيء كقوله وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ وفي الآية سؤالات
السؤال الأول قال ههنا مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ وقال في سورة وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وما يغني عنه ماله إذا تردى فما الفرق الجواب التعبير بلفظ الماضي يكون آكد كقوله وما يغني عنه ماله إذا تردى فما الفرق الجواب التعبير بلفظ الماضي يكون آكد كقوله فما الفرق الجواب التعبير بلفظ الماضي يكون آكد كقوله مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ وقوله أَتَى أَمْرُ اللَّهِ
السؤال الثاني ما أغنى عنه ماله وكسبه فيماذا الجواب قال بعضهم في عداوة الرسول فلم يغلب عليه وقال بعضهم بل لم يغنيا عنه في دفع النار ولذلك قال سَيَصْلَى
سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ
قوله تعالى سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى لما أخبر تعالى عن حال أبي لهب في الماضي بالتباب وبأنه ما أغنى عنه ماله وكسبه أخبر عن حاله في المستقبل بأنه سَيَصْلَى نَاراً
المسألة الثانية سَيَصْلَى قرىء بفتح الياء وبضمها مخففاً ومشدداً
المسألة الثالثة هذه الآيات تضمنت الإخبار عن الغيب من ثلاثة أوجه أحدها الإخبار عنه بالتباب والخسار وقد كان كذلك وثانيها الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده وقد كان كذلك روى أبو رافع

مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام دخل بيتنا فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمت أنا وكان العباس يهاب القوم ويكتم إسلامه وكان أبو لهب يخلف عن بدر فبعث مكانه العاص بن هشام ولم يتخلف رجل منهم إلا بعث مكانه رجلاً آخر فلما جاء الخبر عن واقعة أهل بدر وجدنا في أنفسنا قوة وكنت رجلاً ضعيفاً وكنت أعمل القداح ألحيها في حجرة زمزم فكنت جالساً هناك وعندي أم الفضل جالسة وقد سرنا ما جاءنا من الخبر إذا أقبل أبو لهب يجر رجليه فجلس على طنب الحجرة وكان ظهري إلى ظهره فبينا هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب فقال له أبو لهب كيف الخبر يا ابن أخي فقال لقينا القوم ومنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف أرادوا وايم الله مع ذلك تأملت الناس لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة ثم قلت أولئك والله الملائكة فأخذني وضربني على الأرض ثم برك علي فضربني وكنت رجلاً ضعيفاً فقامت أم الفضل إلى عمود فضربته على رأسه وشجته وقالت تستضعفه أن غاب سيده والله نحن مؤمنون منذ أيام كثيرة وقد صدق فيما قال فانصرف ذليلاً فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثاً ما يدفناه حتى أنتين في بيته وكانت قريش تتقي العدسة وعدواها كما يتقي الناس الطاعون وقالوا نخشى هذه القرحة ثم دفنوه وتركوه فهذا معنى قوله مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ وثالثها الإخبار بأنه من أهل النار وقد كان كذلك لأنه مات على الكفر
المسألة الرابعة احتج أهل السنة على وقوع تكليف مالا يطاق بأن الله تعالى كلف أبا لهب بالإيمان ومن جملة الإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار فقد صار مكلفاً بأنه يؤمن بأنه لا يؤمن وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال وأجاب الكعبي وأبو الحسين البصري بأنه لو آمن أبو لهب لكان لهذا الخبر خبراً بأنه آمن لا بأنه ما آمن وأجاب القاضي عنه فقال متى قيل لو فعل الله ما أخبر أنه لا يفعله فكيف يكون فجوابنا أنه لا يصح الجواب عن ذلك بلا أو نعم
واعلم أن هذين الجوابين في غاية السقوط أما الأول فلأن هذه الآية دالة على أن خبر الله عن عدم إيمانه واقع والخبر الصدق عن عدم إيمانه ينافيه وجود الإيمان منافاة ذاتية ممتنعة الزوال فإذا كان كلفه أن يأتي بالإيمان مع وجود هذا الخبر فقد كلفه بالجمع بين المتنافيين
وأما الجواب الثاني فأرك من الأول لأنا لسنا في طلب أن يذكروا بلسانهم لا أو نعم بل صريح العقل شاهد بأن بين كون الخبر عن عدم الإيمان صدقاً وبين وجود الإيمان منافاة ذاتية فكان التكليف بتحصيل أحد المتضادين حال حصول الآخر تكليفاً بالجمع بين الضدين وهذا الإشكال قائم سواء ذكر الخصم بلسانه شيئاً أم بقي ساكتاً
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَة َ الْحَطَبِ
أما قوله تعالى وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَة َ الْحَطَبِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء ومريئنه بالتصغير وقرىء حمالة الحطب بالنصب على الشتم قال صاحب الكشاف وأنا أستحب هذه القراءة وقد توسل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بجميل من أحب شتم أم جميل وقرىء بالنصب والتنوين والرفع

المسألة الثانية أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب عمة معاوية وكانت في غاية العداوة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
وذكروا في تفسير كونها حمالة الحطب وجوهاً أحدها أنها كانت تحمل حزمة من الشوك والحسك فتنثرها بالليل في طريق رسول الله فإن قيل إنها كانت من بيت العز فكيف يقال إنها حمالة الحطب قلنا لعلها كانت مع كثرة مالها خسيسة أو كانت لشدة عداوتها تحمل بنفسها الشوك والحطب لأجل أن تليقه في طريق رسول الله وثانيها أنها كانت تمشي بالنميمة يقال الممشاء بالنمائم المفسد بين الناس يحمل الحطب بينهم أي يوقد بينهم النائرة ويقال للمكثار هو حاطب ليل وثالثها قول قتادة أنها كانت تعير رسول الله بالفقر فعيرت بأنها كانت تحتطب والرابع قول أبي مسلم وسعيد بن جبير أن المراد ما حملت من الآثام في عداوة الرسول لأنه كالحطب في تصيرها إلى النار ونظيره أنه تعالى شبه فاعل الإثم بمن يمشي وعلى ظهره حمل قال تعالى فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وقال تعالى يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ وقال تعالى وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ
المسألة الثالثة امرأته إن رفعته ففيه وجهان أحدهما العطف على الضمير في سيصلى أي سيصلي هو وامرأته وفي جيدها في موضع الحال والثاني الرفع على الإبتداء وفي جيدها الخبر
المسألة الرابعة عن أسماء لما نزلت تُبْتُ جاءت أم جميل ولها ولولة وبيدها حجر فدخلت المسجد ورسول الله جالس ومعه أبو بكر وهي تقول
مذمماً قلينا ودينه أبينا وحكمه عصينا
فقال أبو بكر يا رسول الله قد أقبلت إليك فأنا أخاف أن تراك فقال عليه السلام ( إنها لا تراني ) وقرأ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وقالت لأبي بكر قد ذكر لي أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر لا ورب هذا البيت ما هجاك فولت وهي تقول
قد علمت قريش أني بنت سيدها
وفي هذه الحكاية أبحاث
الأول كيف جاز في أم جميل أن لا ترى الرسول وترى أبا بكر والمكان واحد الجواب أما على قول أصحابنا فالسؤال زائل لأن عند حصول الشرائط يكون الإدراك جائزاً لا واجباً فإن خلق الله الإدراك رأى وإلا فلا وأما المعتزلة فذكروا فيه وجوهاً أحدها لعله عليه السلام أعرض وجهه عنها وولاها ظهره ثم إنها كانت لغاية غضبها لم تفتش أو لأن الله ألقى في قلبها خوفاً فصار ذلك صارفاً لها عن النظر وثانيها لعل الله تعالى ألقى شبه إنسان آخر على الرسول كما فعل ذلك بعيسى وثالثها لعل الله تعالى حول شعاع بصرها عن ذلك السمت حتى أنها ما رأته
واعلم أن الإشكال على الوجوه الثلاثة لازم لأن بهذه الوجوه عرفنا أنه يمكن أن يكون الشيء حاضر ولا نراه وإذا جوزنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون عندنا فيلات وبوقات ولا نراها ولا نسمعها

البحث الثاني أن أبا بكر حلف أنه ما هجاك وهذا من باب المعاريض لأن القرآن لا يسمى هجواً ولأنه كلام الله لا كلام الرسول فدلت هذه الحكاية على جواز المعاريض
بقي من مباحث هذه الآية سؤالان
السؤال الأول لم لم يكتف بقوله وَامْرَأَتُهُ بل وصفها بأنها حمالة الحطب الجواب قيل كان له امرأتان سواها فأراد الله تعالى أن لا يظن ظان أنه أراد كل من كانت امرأة له بل ليس المراد إلا هذه الواحدة
السؤال الثاني أن ذكر النساء لا يليق بأهل الكرم والمروءة فكيف يليق ذكرها بكلام الله ولا سيما امرأة العم الجواب لما لم يستبعد في امرأة نوح وامرأة لوط بسبب كفر تينك المرأتين فلأن لا يستعبد في امرأة كافرة زوجها رجل كافر أولى
فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ
قوله تعالى فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ قال الواحدي المسد في كلام العرب الفتل يقال مسد الحبل يمسده مسداً إذا أجاد فتله ورجل ممسود إذا كان مجدول الخلق والمسد ما مسد أي فتل من أي شيء كان فيقال لما فتل من جلود الإبل ومن الليف والخوص مسد ولما فتل من الحديد أيضاً مسد إذا عرفت هذا فنقول ذكر المفسرون وجوهاً أحدها في جيدها حبل مما مسد من الحبال لأنها كانت تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون والمقصود بيان خساستها تشبيهاً لها بالحطابات إيذاءه لها ولزوجها وثانيها أن يكون المعنى أن حالها يكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل الحزمة من الشوك فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم وفي جيدها حبل من سلاسل النار
فإن قيل الحبل المتخذ من المسد كيف يبقى أبداً في النار قلنا كما يبقى الجلد واللحم والعظم أبداً في النار ومنهم من قال ذلك المسد يكون من الحديد وظن من ظن أن المسد لا يكون من الحديد خطأ لأن المسد هو المفتول سواء كان من الحديد أو من غيره والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين

سورة الإخلاص
أربع آيات مكية
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
قُلْ هُوَ أَحَدٌ قبل الخوض في التفسير لا بد من تقديم فصول
الفصل الأول روى أبي قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة قل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن وأعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من أشرك بالله وأمن بالله ) وقال عليه الصلاة والسلام ( من قرأ قل هو الله أحد مرة واحدة أعطى من الأجر كمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وأعطى من الأجر مثل مائة شهيد ) وروى ( أنه كان جبريل عليه السلام مع الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أقبل أبو ذر الغفاري فقال جبريل هذا أبو ذر قد أقبل فقال عليه الصلاة والسلام أو تعرفونه قال هو أشهر عندنا منه عندكم فقال عليه الصلاة والسلام بماذا نال هذه الفضيلة قال لصغره في نفسه وكثرة قراءته قل هو الله أحد ) وروى أنس قال ( كنا في تبوك فطلعت الشمس مالها شعاع وضياء وما رأيناها على تلك الحالة قط قبل ذلك فعجب كلنا فنزل جبريل وقال إن الله أمر أن ينزل من الملائكة سبعون ألف ملك فيصلوا على معاوية بن معاوية فهل لك أن تصلي عليه ثم ضرب بجناحه الأرض فأزال الجبال وصار الرسول عليه الصلاة والسلام كأنه مشرف عليه فصلى هو وأصحابه عليه ثم قال بم بلغ ما بلغ فقال جبريل كان يحب سورة الإخلاص ) وروى ( أنه دخل المسجد فسمع رجلاً يدعو ويقول أسألك يا ألله يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فقال غفر لك غفر لك غفر لك ثلاث مرات ) وعن سهل بن سعد ( جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وشكا إليه الفقر فقال إذا دخلت بيتك فسلم إن كان فيه أحد وإن لم يكن فيه أحد فسلم على نفسك واقرأ قل هو الله أحد مرة واحدة ففعل الرجل فأدر الله عليه رزقاً حتى أفاض على جيرانه ) وعن أنس ( أن رجلاً كان يقرأ في جميع صلاته قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ

فسأله الرسول عن ذلك فقال يا رسول الله إني أحبها فقال حبك إياها يدخلك الجنة ) وقيل من قرأها في المنام أعطي التوحيد وقلة العيال وكثرة الذكر لله وكان مستجاب الدعوة
الفصل الثاني في سبب نزولها وفيه وجوه الأول أنها نزلت بسبب سؤال المشركين قال الضحاك إن المشركين أرسلوا عامر بن الطفيل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا شققت عصانا وسببت آلهتنا وخالفت دين آبائك فإن كنت فقيراً أغنيناك وإن كنت مجنوناً داويناك وإن هويت امرأة زوجناكها فقال عليه الصلاة والسلام لست بفقير ولا مجنون ولا هويت امرأة أنا رسول الله أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته فأرسلوه ثانية وقالوا قل له بين لنا جنس معبودك أمن ذهب أو فضة فأنزل الله هذه السورة فقالوا له ثلثمائة وستون صنماً لا تقوم بحوائجنا فكيف يقوم الواحد بحوائج الخلق فنزلت وَالصَّافَّاتِ إلى قوله إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ فأرسلوه أخرى وقالوا بين لنا أفعاله فنزل إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الثاني أنها نزلت بسبب سؤال اليهود روى عكرمة عن ابن عباس أن اليهود جاؤا إلى رسول الله ومعهم كعب بن الأشرف فقالوا يا محمد هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله فغضب نبي الله عليه السلام فنزل جبريل فسكنه وقال اخفض جناحك يا محمد فنزل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فلما تلاه عليهم قالوا صف لنا ربك كيف عضده وكيف ذراعه فغضب أشد من غضبه الأول فأتاه جبريل بقوله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الثالث أنها نزلت بسبب سؤال النصارى روى عطاء عن ابن عباس قال قدم وفد نجران فقالوا صف لنا ربك أمن زبرجد أو ياقوت أو ذهب أو فضة فقال إن ربي ليس من شيء لأنه خالق الأشياء فنزلت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ قالوا هو واحد وأنت واحد فقال ليس كمثله شيء قالوا زدنا من الصفة فقال اللَّهُ الصَّمَدُ فقالوا وما الصمد فقال الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج فقالوا زدنا فنزل لَمْ يَلِدْ كما ولدت مريم وَلَمْ يُولَدْ كما ولد عيسى وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ يريد نظيراً من خلقه
الفصل الثالث في أساميها اعلم أن كثرة الألقاب تدل على مزيد الفضيلة والعرف يشهد لما ذكرناه فأحدها سورة التفريد وثانيها سورة التجريد وثالثها سورة التوحيد ورابعها سورة الإخلاص لأنه لم يذكر في هذه السورة سوى صفاته السلبية التي هي صفات الجلال ولأن من اعتقده كان مخلصاً في دين الله ولأن من مات عليه كان خلاصه من النار ولأن ما قبله خلص في ذم أبي لهب فكان جزاء من قرأه أن لا يجمع بينه وبين أبي لهب وخامسها سورة النجاة لأنها تنجيك عن التشبيه والكفر في الدنيا وعن النار في الآخرة وسادسها سورة الولاية لأن من قرأها صار من أولياء الله ولأن من عرف الله على هذا الوجه فقد والاه فبعد محنة رحمة كما بعد منحة نعمة وسابعها سورة النسبة لما روينا أنه ورد جواباً لسؤال من قال أنسب لنا ربك ولأنه عليه السلام قال لرجل من بني سليم ( يا أخا بني سليم استوص بنسبة الله خيراً ) وهو من لطيف المباني لأنهم لما قالوا أنسب لنا ربك فقال نسبة الله هذا والمحافظة على الأنساب من شأن العرب وكانوا يتشددون على من يزيد في بعض الأنساب أو ينقص فنسبة الله في هذه السورة أولى بالمحافظة عليها وثامنها سورة المعرفة لأن معرفة الله لا تتم إلا بمعرفة هذه السورة روى جابر أن رجلاً صلى فقرأ قل هو الله أحد فقال النبي عليه الصلاة والسلام إن هذا عبد عرف ربه فسميت سورة المعرفة لذلك وتاسعها سورة الجمال قال عليه الصلاة والسلام ( إن الله جميل يحب الجمال ) فسألوه عن ذلك

فقال أحد صمد لم يلد ولم يولد لأنه إذا لم يكن واحداً عديم النظير جاز أن ينوب ذلك المثل منابه وعاشرها سورة المقشقشة يقال تقشيش المريض مما به فمن عرف هذا حصل له البرء من الشرك والنفاق لأن النفاق مرض كما قال فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ الحادي عشر المعوذة روى أنه عليه السلام دخل على عثمان بن مظعون فعوذه بها وباللتين بعدها ثم قال ( نعوذ بهن فما تعوذت بخير منها ) والثاني عشر سورة الصمد لأنها مختصة بذكره تعالى والثالث عشر سورة الأساس قال عليه الصلاة والسلام ( أسست السموات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد ) ومما يدل عليه أن القول بالثلاثة سبب لخراب السموات والأرض بدليل قوله تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ فوجب أن يكون التوحيد سبباً لعمارة هذه الأشياء وقيل السبب فيه معنى قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا الرابع عشر سورة المانعة روى ابن عباس أنه تعالى قال لنبيه حين عرج به أعطيتك سورة الإخلاص وهي من ذخائر كنوز عرشي وهي المانعة تمنع عذاب القبر ولفحات النيران الخامس عشر سورة المحضر لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت السادس عشر المنفرة لأن الشيطان ينفر عند قراءتها السابع عشر البراءة لأنه روى أنه عليه السلام رأى رجل يقرأ هذه السورة فقال أما هذا فقد برىء من الشرك وقال عليه السلام من قرأ سورة قل هو الله أحد مائة مرة في صلاة أو في غيرها كتبت له براءة من النار الثامن عشر سورة المذكرة لأنها تذكر العبد خالص التوحيد فقراءة السورة كالوسمة تذكرك ما تتغافل عنه مما أنت محتاج إليه التاسع عشر سورة النور قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فهو المنور للسموات والأرض والسورة تنور قلبك وقال عليه السلام ( إن لكل شيء نور ونور القرآن قل هو الله أحد ) ونظيره أن نور الإنسان في أصغر أعضائه وهو الحدقة فصارت السورة للقرآن كالحدقة للإنسان العشرون سورة الأمان قال عليه السلام ( إذا قال العبد لا إله إلا الله دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي )
الفصل الرابع في فضائل هذه السورة وهي من وجوه الأول اشتهر في الأحاديث أن قراءة هذه السورة تعدل قراءة ثلث القرآن ولعل الغرض منه أن المقصود الأشرف من جميع الشرائع والعبادات معرفة ذات الله ومعرفة صفاته ومعرفة أفعاله وهذه السورة مشتملة على معرفة الذات فكانت هذه السورة معادلة لثلث القرآن وأما سورة قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فهي معادلة لربع القرآن لأن المقصود من القرآن إما الفعل وإما الترك وكل واحد منهما فهو إما في أفعال القلوب وإما في أفعال الجوارح فالأقسام أربعة وسورة قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لبيان ما ينبغي تركه من أفعال القلوب فكانت في الحقيقة مشتملة على ربع القرآن ومن هذا السبب اشتركت السورتان أعني قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في بعض الأسامي فهما المقشقشتان والمبرئتان من حيث إن كل واحدة منهما تقيد براءة القلب عما سوى الله تعالى إلا أن قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ يفيد بلفظه البراءة عما سوى الله وملازمة الاشتغال بالله و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يفيد بلفظه الاشتغال بالله وملازمة الإعراض عن غير الله أو من حيث إن قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ تفيد براءة القلب عن سائر المعبودين سوى الله و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تفيد براءة المعبود عن

كل مالا يليق به الوجه الثاني وهو أن ليلة القدر لكونها صدقاً للقرآن كانت خيراً من ألف شهر فالقرآن كله صدف والدر هو قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فلا جرم حصلت لها هذه الفضيلة الوجه الثالث وهو أن الدليل العقلي دل على أن أعظم درجات العبد أن يكون قلبه مستنيراً بنور جلال الله وكبريائه وذلك لا يحصل إلا من هذه السورة فكانت هذه السورة أعظم السور فإن قيل فصفات الله أيضاً مذكورة في سائر السور قلنا لكن هذه السورة لها خاصية وهي أنها لصغرها في الصورة تبقى محفوظة في القلوب معلومة للعقول فيكون ذكر جلال الله حاضراً أبداً بهذا السبب فلا جرم امتازت عن سائر السور بهذه الفضائل وليرجع الآن إلى التفسير
قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن معرفة الله تعالى جنة حاضرة إذا لجنة أن تنال ما يوافق عقلك وشهوتك ولذلك لم تكن الجنة جنة لآدم لما نازع عقله هواه ولا كان القبر سجناً على المؤمن لأنه حصل له هناك ما يلائم عقله وهواه ثم إن معرفة الله تعالى مما يريدها الهوى والعقل فصارت جنة مطلقة وبيان ما قلنا أن العقل يريد أميناً تودع عنده الحسنات والشهوة تريد غنياً يطلب منه المستلذات بل العقل كالإنسان الذي له همة عالية فلا ينقاد إلا لمولاه والهوى كالمنتجع الذي إذا سمع حضور غني فإنه ينشط للانتجاع إليه بل العقل يطلب معرفة المولى ليشكر له النعم الماضية والهوى يطلبها ليطمع منه في النعم المتربصة فلما عرفاه كما أراده عالماً وغنياً تعلقا بذيله فقال العقل لا أشكر أحداً سواك وقالت الشهوة لا أسأل أحداً إلا إياك ثم جاءت الشبهة فقالت يا عقل كيف أفردته بالشكر ولعل له مثلاً ويا شهوة كيف اقتصرت عليه ولعل ههنا باباً آخر فبقي العقل متحيراً وتنغصت عليه تلك الراحة فأراد أن يسافر في عالم الاستدلال ليفوز بجوهرة اليقين فكأن الحق سبحانه قال كيف أنغص على عبدي لذة الاشتغال بخدمتي وشكري فبعث الله رسوله وقال لا تقله من عند نفسك بل قل هو الذي عرفته صادقاً يقول لي قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فعرفك الوحدانية بالسمع وكفاك مؤنة النظر والاستدلال بالعقل وتحقيقه أن المطالب على ثلاثة أقسام قسم منها لا يمكن الوصول إليه بالسمع وهو كل ما تتوقف صحة السمع على صحته كالعلم بذات الله تعالى وعلمه وقدرته وصحة المعجزات وقسم منها لا يمكن الوصول إليه إلا بالسمع وهو وقوع كل ما علم بالعقل والسمع معاً وهو كالعلم بأنه واحد وبأنه مرئي إلى غيرهما وقد استقصينا في تقرير دلائل الوحدانية في تفسير قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا
المسألة الثانية اعلم أنهم أجمعوا على أنه لا بد في سورة قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ من قل وأجمعوا على أنه لا يجوز لفظ قل في سورة تُبْتُ وأما في هذه السورة فقد اختلفوا فالقراءة المشهورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقرأ أبي وابن مسعود بغير قل هكذا هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقرأ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بدون قل هو هكذا اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ فمن أثبت قل قال السبب فيه بيان أن النظم ليس في مقدوره بل يحكي كل ما يقال له ومن حذفه قال لئلا يتوهم أن ذلك ما كان معلوماً للنبي عليه الصلاة والسلام
المسألة الثالثة اعلم أن في إعراب هذه الآية وجوهاً أحدها أن هو كناية عن اسم الله فيكون قوله الله مرتفعاً بأنه خبر مبتدأ ويجوز في قوله أَحَدٌ ما يجوز في قولك زيد أخوك قائم الثاني أن

هو كناية عن الشأن وعلى هذا التقرير يكون الله مرتفعاً بالابتداء وأحد خبره والجملة تكون خبراً عن هو والتقدير الشأن والحديث هو أن الله أحد ونظيره قوله فَإِذَا هِى َ شَاخِصَة ٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إلا أن هي جاءت على التأنيث لأن في التفسير اسماً مؤنثاً وعلى هذا جاء فَإِنَّهَا لاَ لاِوْلِى الاْبْصَارِ أما إذا لم يكن في التفسير مؤنث لم يؤنث ضمير القصة كقوله إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً والثالث قال الزجاج تقدير هذه الآية أن هذا الذي سألتم عنه هو الله أحد
المسألة الرابعة في أحد وجهان أحدهما أنه بمعنى واحد قال الخليل يجوز أن يقال أحد إثنان وأصل أحد وحد إلا أنه قلبت الواو همزة للخفيف وأكثر ما يفعلون هذا بالواو المضمومة والمكسورة كقولهم وجوه وأجوه وسادة وأسادة والقول الثاني أن الواحد والأحد ليسا اسمين مترادفين قال الإهري لا يوصف شيء بالأحدية غير الله تعالى لا يقال رجل أحد ولا درهم أحدكما يقال رجل واحد أي فرد به بل أحد صفة من صفات الله تعالى استأثر بها فلا يشركه فيها شيء ثم ذكروا في الفرق بين الواحد والأحد وجوهاً أحدها أن الواحد يدخل في الأحد والأحد لا يدخل فيه وثانيها أنك إذا قلت فلان لا يقاومه واحد جاز أن يقال لكنه يقاومه إثنان بخلاف الأحد فإنك لو قلت فلان لا يقاومع أحد لا يجوز أن يقال لكنه يقاومه إثنان وثالثها أن الواحد يستعمل في الإثبات والأحد في النفي تقول في الإثبات رأيت رجلاً واحداً وتقول في النفي ما رأيت أحداً فيفيد العموم
المسألة الخامسة اختلف القراء في قوله أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ فقراءة العامة بالتنوين وتحريكه بالكسر هكذا أحدن الله وهو القياس الذي لا إشكال فيه وذلك لأن التنوين من أحد ساكن ولام المعرفة من الله ساكنة ولما التقى ساكنان حرك الأول منهما بالكسر وعن أبي عمرو أحد الله بغير تنوين وذلك أن النون شابهت حروف اللين في أنها تزاد كما يزدن فلما شابهتها أجريت مجراها في أن حذفت ساكنة لالتقاء الساكنين كما حذفت الألف والواو والياء لذلك نحو غزا القوم ويغزو القوم ويرمي القوم ولهذا حذفت النون الساكنة في الفعل نحو لَمْ يَكُ وَلاَ تَكُ فِى مِرْيَة ٍ فكذا ههنا حذفت في أحد الله لالتقاء الساكنين كما حذفت هذه الحروف
وقد ذكرنا هذا مستقصى عند قوله عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وروى أيضاً عن أبي عمرو أَحَدٌ اللَّهِ وقال أدركت القراء يقرؤونها كذلك وصلا على السكون قال أبو علي قد تجري الفواصل في الإدراج مجراها في الوقف وعلى هذا قال من قال فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ رَبَّنَا وَمَا أَدْرَاكَ صَبِيّاً قَالَ إِنّى عَبْدُ اللَّهِ لما كان أكثر القراء فيما حكاه أبو عمرو على الوقف أجراه في الوصل مجراه في الوقف لاستمرار الوقف عليه وكثرته في ألسنتهم وقرأ الأعمش قُلْ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ فإن قيل لماذا قيل أحد على النكرة قال الماوردي فيه وجهان أحدهما حذف لام التعريف على نية إضمارها والتقدير قل هو الله الأحد والثاني أن المراد هو التنكير على سبيل التعظيم
المسألة السادس اعلم أن قوله هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ألفاظ ثلاثة وكل واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات الطالبين فالمقام الأول مقام المقربين وهو أعلى مقامات السائرين إلى الله وهؤلاء هم الذين نظروا إلى ماهيات الأشياء وحقائقها من حيث هي هي فلا جرم ما رأوا موجوداً سوى الله لأن الحق هو الذي لذاته

يجب وجوده وأما ما عداه فممكن لذاته والممكن لذاته إذا نظر إليه من حيث هو هو كان معدوماً فهؤلاء لم يروا موجوداً سوى الحق سبحانه وقوله هُوَ إشارة مطلقة والإشارة وإن كانت مطلقة إلا أن المشار إليه لما كان معيناً انصرف ذلك المطلق إلى ذلك المعين فلا جرم كان قولنا هو إشارة من هؤلاء المقربين إلى الحق سبحانه فلم يفتقروا في تلك الإشارة إلى مميز لأن الافتقار إلى المميز إنما يحصل حين حصل هناك موجودان وقد بينا أن هؤلاء ما شاهدوا بعيون عقولهم إلا الواحد فقط فلهذا السبب كانت لفظة هُوَ كافية في حصول العرفان التام لهؤلاء المقام الثاني وهو مقام أصحاب اليمين وهو دون المقام الأول وذلك لأن هؤلاء شاهدوا الحق موجوداً وشاهدوا الخلق أيضاً موجوداً فحصلت كثرة في الموجودات فلا جرم لم يكن هو كافياً في الإشارة إلى الحق بل لا بد هناك من مميز به يتميز الحق عن الخلق فهؤلاء احتاجوا إلى أن يقرنوا لفظة هو فقيل لأجلهم هو الله لأن الله هو الموجود الذي يفتقر إليه ما عداه ويستغني هو عن كل ما عداه والمقام الثالث وهو مقام أصحاب الشمال وهو أخس المقامات وأدونها وهم الذين يجوزون أن يكون واجب الوجود أكثر من واحد وأن يكون الإله أكثر من واحد فقرن لفظ الأحد بما تقدم رداً على هؤلاء وإبطال لمقالاتهم فقيل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
وههنا بحث آخر أشرف وأعلى مما ذكرناه وهو أن صفات الله تعالى إما أن تكون إضافية وإما أن تكون سلبية أما الإضافية فكقولنا عالم قادر مربد خلاق وأما السلبية فكقولنا ليس بجسم ولا بجوهر ولا بعرض والمخلوقات تدل أولا على النوع الأول من الصفات وثانياً على النوع الثاني منها وقولنا الله يدل على مجامع الصفات الإضافية وقولنا أحد يدل على مجامع الصفات السلبية فكان قولنا اللَّهُ أَحَدٌ تاماً في إفادة العرفان الذي يليق بالعقول البشرية وإنما قلنا إن لفظ الله يدل على مجامع الصفات الإضافية وذلك لأن الله هو الذي يستحق العبادة واستحقاق العبادة ليس إلا لمن يكون مستبداً بالإيجاد والإبداع والاستبداد بالإيجاد لا يحصل إلا لمن كان موصوفاً بالقدرة التامة والإرادة النافذة والعلم المتعلق بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات وهذه مجامع الصفات الإضافة وأما مجامع الصفات السلبية فهي الأحدية وذلك لأن المراد من الأحدية كون تلك الحقيقة في نفسها مفردة منزهة عن أنحاء التركيب وذلك لأن كل ماهية مركبة فه مفتقرة إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته فكل مركب فهو ممكن لذاته فالإله الذي هو مبدأ لجميع الكائنات ممتنع أن يكون ممكناً فهو في نفسه فرد أحد وإذا ثبتت الأحدية وجب أن لا يكون متحيزاً لأن كل متحيز فإن يمينه مغاير ليساره وكل ما كان كذلك فهو منقسم فالأحد يستحيل أن يكون متحيزاً وإذا لم يكن متحيزاً لم يكن في شيء من الأحياز والجهاد ويجب أن لا يكون حالاً في شيء لأنه مع محله لا يكون أحداً ولا يكون محلاً لشيء لأنه مع حاله لا يكون أحداً وإذا لم يكن حالاف ولا محلاً لم يكن متغيراً البتة لأن التغير لا بد وأن يكون من صفة إلى صفة وأيضاً إذا كان أحداً وجب أن يكون واحداً إذ لو فرض موجودان واجباً الوجود لاشتركا في الوجوب ولتمايزا في التعين وما به المشاركة غير ما به الممايزة فكل واحد منهما مركب فثبت أن كونه أحداً يستلزم كونه واحداً فإن قيل كيف يعقل كون الشيء أحداً فإن كل حقيقة توصف بالأحدية فهناك تلك الحقيقة من تلك الأحدية ومجموعهما فذاك ثالث ثلاث لا أحد الجواب أن الأحدية لازمة لتلك الحقيقة فالمحكوم عليه بالأحدية هو تلك الحقيقة لا المجموع الحاصل منها ومن تلك الأحدية فقد لاح بما

ذكرنا أن قوله اللَّهُ أَحَدٌ كلام متضمن لجميع صفات الله تعالى من الإضافيات والسلوب وتمام الكلام في هذا الباب مذكور في تفسير قوله وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ
اللَّهُ الصَّمَدُ
قوله تعالى اللَّهُ الصَّمَدُ فيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تفسير الصَّمَدُ وجهين الأول أنه فعل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده وهو السيد المصمود إليه في الحوائج قال الشاعر ألا بكر الناعي بخير بني أسد
بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وقال أيضاً علوته بحسامي ثم قلت له
خذها حذيف فأنت السيد الصمد
والدليل على صحة هذا التفسير ما روى ابن عباس ( أنه لما نزلت هذه الآية قالوا ما الصمد قال عليه السلام هو السيد الذي يصمد إليه في الحوائج ) وقال الليث صمدت صمد هذا الأمر أي قصدت قصده والقول الثاني أن الصمد هو الذي لا جوف له ومنه يقال لسداد القارورة الصماد وشيء مصمد أي صلب ليس فيه رخاوة وقال قتادة وعلى هذا التفسير الدال فيه مبدلة من التاء وهو المصمت وقال بعض المتأخرين من أهل اللغة الصمد هو الأملس من الحجر الذي لا يقبل الغبار ولا يدخله شيء ولا يخرج منه شيء واعلم أنه قد استدل قوم من جهال المشبهة بهذه الآية في أنه تعالى جسم وهذا باطل لأنا بينا أن كونه أحداً ينافي جسماً فمقدمة هذا الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى ولأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام المتضاغطة وتعالى الله عن ذلك فإذن يجب أن يحمل ذلك على مجازه وذلك لأن الجسم الذي يكون كذلك يكون عديم الانفعال والتأثر عن الغير وذلك إشارة إلى كونه سبحانه واجباً لذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وجميع صفاته فهذا ما يتعلق بالبحث اللغوي في هذه الآية
وأما المفسرون فقد نقل عنهم وجوه بعضها يليق بالوجه الأول وهو كونه تعالى سيداً مرجوعاً إليه في دفع الحاجات وهو إشارة إلى الصفات الإضافية وبعضها بالوجه الثاني وهو كونه تعالى واجب الوجود في ذاته وفي صفاته ممتنع التغير فيهما وهو إشارة إلى الصفات السلبية وتارة يفسرون الصمد بما يكون جامعاً للوجهين
أما النوع الأول فذكروا فيه وجوهاً الأول الصمد هو العالم بجميع المعلومات لأن كونه سيداً مرجوعاً إليه في قضاء الحاجات لا يتم إلا بذلك الثاني الصمد هو الحليم لأن كونه سيداً يقتضي الحلم والكرم الثالث وهو قول ابن مسعود والضحاك الصمد هو السيد الذي قد انتهى سؤدده الرابع قال الأصم الصمد هو الخالق للأشياء وذلك لأن كونه سيداً يقتضي ذلك الخامس قال السدي الصمد هو المقصود في الرغائب المستغاث به عند المصائب السادس قال الحسين بن الفضل البجلي الصمد هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه السابع أنه السيد المعظم الثامن أنه

الفرد الماجد لا يقضي في أمر دونه
وأما النوع الثاني وهو الإشارة إلى الصفات السلبية فذكروا فيه وجوهاً الأول الصمد هو الغني على ما قال وَهُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ الثاني الصمد الذي ليس فوقه أحد لقوله وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ولا يخاف من فوقه ولا يرجو من دونه ترفع الحوائج إليه الثالث قال قتادة لا يأكل ولا يشرب وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ الرابع قال قتادة الباقي بعد فناء خلقه كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ الخامس قال الحسن البصري الذي لم يزل ولا يزال ولا يجوز عليه الزوال كان ولا مكان ولا أين ولا أواه ولا عرش ولا كرسي ولا جني ولا إنسي وهو الآن كما كان السادس قال يمان وأبو مالك الذي لا ينام ولا يسهو الثامن قال ابن كيسان هو الذي لا يوصف بصفة أحد التاسع قال مقاتل بن حبان هو الذي لا عيب فيه العاشر قال الربيع بن أنس هو الذي لا تغتريه الآفات الحادي عشر قال سعيد بن جبير إنه الكامل في جميع صفاته وفي جميع أفعاله الثاني عشر قال جعفر الصادق إنه الذي يغلب ولا يغلب الثالث عشر قال أبو هريرة إنه المستغنى عن كل أحد الرابع عشر قال أبو بكر الوراق إنه الذي أيس الخلائق من الاطلاع على كيفيته الخامس عشر هو الذي لا تدركه الأبصار السادس عشر قال أبو العالية ومحمد القرظي هو الذي لم يلد ولم يولد لأنه ليس شيء إلا سيورث ولا شيء يولد إلا وسيموت السابع عشر قال ابن عباس إنه الكبير الذي ليس فوقه أحد الثامن عشر أنه المنزه عن قبول النقصانات والزيادات وعن أن يكون مورداً للتغيرات والتبدلات وعن إحاطة الأزمنة والأمكنة والآنات والجهات
وأما الوجه الثالث وهو أن يحمل لفظ الصمد على الكل وهو محتمل لأنه بحسب دلالته على الوجوب الذاتي يدل على جميع السلوب وبحسب دلالته على كونه مبدأ للكل يدل على جميع النعوت الإلهية
المسألة الثانية قوله اللَّهُ الصَّمَدُ يقتضي أن لا يكون في الوجود صمد سوى الله وإذا كان الصمد مفسراً بالمصمود إليه في الحوائج أو بما لا يقبل التغير في ذاته لذم أن لا يكون في الوجود موجود عكذا سوى الله تعالى فهذه الآية تدل على أنه لا إله سوى الواحد فقوله اللَّهُ أَحَدٌ إشارة إلى كونه واحداً بمعنى أنه ليس في ذاته تركيب ولا تأليف بوجه من الوجوه وقوله اللَّهُ الصَّمَدُ إشارة إلى كونه واحداً بمعنى نفي الشركاء والأنداد والأضداد وبقي في الآية سؤالان
السؤال الأول لم جاء أحد منكراً وجاء الصمد معرفاً الجواب الغالب على أكثر أوهام الخلق أن كل موجود محسوس وثبت أن كل محسوس فهو منقسم فإذا مالا يكون منقسماً لا يكون خاطراً بيان أكثر الخلق وأما الصمد فهو الذي يكون مصموداً إليه في الحوائج وهذا كان معلوماً للعرب بل لأكثر الخلق على ما قال وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وإذا كانت الأحدية مجهولة مستنكرة عند أكثر الخلق وكانت الصمدية معلومة الثبوت عند جمهور الخلق لا جرم جاء لفظ أحد على سبيل التنكير ولفظ الصمد على سبيل التعريف

السؤال الثاني ما الفائدة في تكرير لفظة الله في قوله اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ الجواب لو لم تكرر هذه اللفظة لوجب في لفظ أحد وصمد أن يردا إما نكرتين أو معرفتين وقد بينا أن ذلك غير جائز فلا جرم كررت هذه اللفظة حتى يذكر لفظ أحد منكراً ولفظ الصمد معرفاً
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ
قوله تعالى لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ فيه سؤالات
السؤال الأول لم قدم قوله لَمْ يَلِدْ على قوله وَلَمْ يُولَدْ مع أن في الشاهد يكون أولاً مولوداً ثم يكون والداً الجواب إنما وقعت البداءة بأنه لم يلد لأنهم ادعوا أن له ولداً وذلك لأن مشركي العرب قالوا الْمَلَائِكَة َ بَنَاتٍ اللَّهِ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ولم يدع أحد أن له والداً فلهذا السبب بدأ بالأهم فقال لَمْ يَلِدْ ثم أشار إلى الحجة فقال وَلَمْ يُولَدْ كأنه قيل الدليل على امتناع الولدية اتفاقنا على أنه ما كان ولداً لغيره
السؤال الثاني لماذا اقتصر على ذكر الماضي فقال لَمْ يَلِدْ ولم يقل لن يلد الجواب إنما اقتصر على ذلك لأنه ورد جواباً عن قولهم ولد الله والدليل عليه قوله تعالى أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ فلما كان المقصود من هذه الآية تكذيب قولهم وهم إنما قالوا ذلك في الماضي لا جرم وردت الآية على وفق قوله
السؤال الثالث لم قال ههنا لَمْ يَلِدْ وقال في سورة بني إسرائيل وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الجواب أن الولد يكون على وجهين أحدهما أن يتولد منه مثله وهذا هو الولد الحقيقي والثاني أن لا يكون متولداً منه ولكنه يتخذه ولداً ويسميه هذا الاسم وإن لم يكن ولداً له في الحقيقة والنصارى فريقان منهم من قال عيسى ولد الله حقيقة ومنهم من قال إن الله اتخذه ولداً تشريفاً له كما اتخذ إبراهيم خليلاً تشريفاً له فقوله لَمْ يَلِدْ فيه إشارة إلى نفي الوالد في الحقيقة وقوله لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا إشارة إلى نفي القسم الثاني ولهذا قال لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ لأن ازنسان قد يتخذ ولداً ليكون ناصراً ومعيناً له على الأمر المطلوب ولذلك قال في سورة أخرى وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِى ُّ وإشارة إلى ما ذكرنا أن اتخاذ الولد إنما يكون عند الحاجة
السؤال الرابع نفي كونه تعالى والداً ومولوداً هل يمكن أن يعلم بالسمع أم لا وإن كان لا يمكن ذلك فما الفائدة في ذكره ههنا الجواب نفي كونه تعالى والداً مستفاد من العلم بأنه تعالى ليس بجسم ولا متبعض ولا منقسم ونفي كونه تعالى مولوداً مستفاد من العلم بأنه تعالى قديم والعلم بكل واحد من هذين الأصلين متقدم على العلم بالنبوة والقرآن فلا يمكن أن يكونا مستفادين من الدلائل السمعية بقي أن يقال فلما لم يكن استفادتهما من السمع فما الفائدة في ذكرهما في هذه السورة قلنا قد بينا أن المراد من كونه أحداً كونه سبحانه في ذاته وماهيته منزهاً عن جميع أنحاء التراكيب وكونه تعالى صمداً معناه كونه واجباً لذاته ممتنع التغير في ذاته وجميع صفاته وإذا كان كذلك فالأحدية والصمدية يوجبان نفي الولدية

والمولودية فلما ذكر السبب الموجب لانتفاء الوالدية والمولودية لا جرم ذكر هذين الحكمين فالمقصود من ذكرهما تنبيه الله تعالى على الدلالة العقلية القاطعة على انتفائهما
السؤال الخامس هل في قوله تعالى لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ فائدة أزيد من نفي الولدية ونفي المولودية قلنا فيه فوائد كثيرة وذلك لأن قوله اللَّهُ أَحَدٌ إشارة إلى كونه تعالى في ذاته وماهيته منزهاً عن التركيب وقوله اللَّهُ الصَّمَدُ إشارة إلى نفي الأضداد والأنداد والشركاء والأمثال وهذان المقامان الشريفان مما حصل الاتفاق فيهما بين أرباب الملل والأديان وبين الفلاسفة إلا أن من بعد هذا الموضع حصل الاختلاف بين أرباب الملل وبين الفلاسفة فإن الفلاسفة قالوا إنه يتولد عن واجب الوجود عقل وعن العقل عقل آخر ونفس وفلك وهكذا على هذا الترتيب حتى ينتهي إلى العقل الذي هو مدبر ما تحت كرة القمر فعلى هذا القول يكون واجب الوجود قد ولد العقل الأول الذي هو تحته ويكون العقل الذي هو مدبر لعالمنا هذا كالمولود من العقول التي فوقه فالحق سبحانه وتعالى نفي الوالدية أولاً كأنه قيل إنه لم يلد العقول والنفوس ثم قال والشيء الذي هو مدبر أجسادكم وأرواحكم وعالمكم هذا ليس مولوداً من شيء آخر فلا والد ولا مولود ولا مؤثر إلا الواحد الذي هو الحق سبحانه
وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ
قوله سبحانه وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ فيه سؤالان
السؤال الأول الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه فما باله ورد مقدماً في أفصح الكلام والجواب هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الله واللفظ الدال على هذا المعنى هو هذا الظرف وتقديم الأهم أولى فلهذا السبب كان هذا الظرف مستحقاً للتقديم
السؤال الثاني كيف القراءة في هذه الآية الجواب قرىء كُفُواً بضم الكاف والفاء وبضم الكاف وكسرها مع سكون الفاء والأصل هو الضم ثم يخفف مثل طنب وطنب وعنق وعنق وقال أبو عبيدة يقال كفو وكفء وكفاء كله بمعنى واحد وهو المثل وللمفسرين فيه أقاويل أحدها قال كعب وعطاء لم يكن له مثل ولا عديل ومنه المكافأة في الجزاء لأنه يعطيه ما يساوي ما أعطاه وثانيها قال مجاهد لم يكن صاحبة كأنه سبحانه وتعالى قال لم يكن أحد كفؤاً له فيصاهره رداً على من حكى الله عنه قوله وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّة ِ نَسَباً فتفسير هذه الآية كالتأكيد لقوله تعالى لَمْ يَلِدْ وثالثها وهو التحقيق أنه تعالى بين لما بين أنه هو المصمود إليه في قضاء الحوائج ونفي الوسائط من البين بقوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ على ما بيناه فحينئذ ختم السورة بأن شيئاً من الموجودات يمتنع أن يكون مساوياً له في شيء من صفات الجلال والعظمة أما الوجود فلا مساواة فيه لأن وجوده من مقتضيات حقيقته فإن حقيقته غير قابلة للعدم من حيث هي هي وأما سائر الحقائق فإنها قابلة للعدم وأما العلم فلا مساواة فيه لأن علمه ليس بضروري ولا باستدلالي ولا مستفاد من الحس ولا من الرؤية ولا يكون في معرض الغلط والزلل وعلوم المحدثات كذلك وأما القدرة فلا مساواة فيها وكذا الرحمة والجود والعدل والفضل والإحسانا واعلم أن

هذه السورة أربع آيات وفي ترتيبها أنواع من الفوائد
الفائدة الأولى أن أول السورة يدل على أنه سبحانه واحد والصمد على أنه كريم رحيم لأنه لا يصمد إليه حتى يكون محسناً و لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ على أنه غني على الإطلاق ومنزه عن التغيرات فلا يبخل بشيء أصلاً ولا يكون جوده لأجل جر نفع أو دفع ضر بل بمحض الإحسان وقوله وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ إشارة إلى نفي مالا يجوز عليه من الصفات
الفائدة الثانية نفي الله تعالى عن ذاته أنواع الكثرة بقوله أَحَدٌ ونفي النقص والمغلوبية بلفظ الصمد ونفي المعلولية والعلية بلم يلد ولم يولد ونفي الأضداد والأنداد بقوله وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ
الفائدة الثالثة قوله أَحَدٌ يبطل مذهب الثنوية القائلين بالنور والظلمة والنصارى في التثليث والصابئين في الأفلاك والنجوم والآية الثانية تبطل مذهب من أثبت خالقاً سوى الله لأنه لو وجد خالق آخر لما كان الحق مصموداً إليه في طلب جميع الحاجات والثالثة تبطل مذهب اليهود في عزير والنصارى في المسيح والمشركين في أن الملائكة بنات الله والآية الرابعة تبطل مذهب المشركين حيث جعلوا الأصنام أكفاء له وشركاء
الفائدة الرابعة أن هذه السورة في حق الله مثل سورة الكوثر في حق الرسول لكن الطعن في حق الرسول كان بسبب أنهم قالوا إنه أبتر لا ولد له وههنا الطعن بسبب أنهم أثبتوا لله ولداً وذلك لأن عدم الولد في حق الإنسان عيب ووجود الولد عيب في حق الله تعالى فلهذا السبب قال ههنا قُلْ حتى تكون ذاباً عني وفي سورة إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ أنا أقول ذلك الكلام حتى أكون أنا ذاباً عنك والله سبحانه وتعالى أعلم

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل الخوض في التفسير لا بد من تقديم فصلين
الفصل الأول سمعت بعض العارفين فسر هاتين السورتين على وجه عجيب فقال إنه سبحانه لما شرح أمر الإلهية في سورة الإخلاص الإخلاص ذكر هذه السورة عقيبها في شرح مراتب مخلوقات الله فقال أولا قل أعوذ برب الفلق وذلك لأن ظلمات العدم غير متناهية والحق سبحانه هو الذي فلق تلك الظلمات بنور التكوين والإيجاد والإبداع فلهذا قال قل أعوذ برب الفلق ثم قال من شر ما خلق والوجه فيه أن عالم الممكنات على قسمين عالم الأمر وعالم الخلق على ما قال ألا له الخلق والأمر الأعراف 54 وعالم الأمر كله خيرات محضة بريئة عن الشرور والآفات أما عالم الخلق وهو عالم الأجسام والجسمانيات فالشر لا يحصل إلا فيه وإنما سمي عالم الأجسام والجسمانيات بعالم الخلق لأن الخلق هو التقدير والمقدار من لواحق الجسم فلما كان الأمر كذلك لا جرم قال أعوذ بالرب الذي فلق ظلمات بحر العدم بنور الإيجاد والإبداع من الشرور الواقعة في عالم الخلق وهو عالم الأجسام والجسمانيات ثم من الظاهر أن الأجسام إما أثرية أو عنصرية والأجسام الأثرية خيرات لأنها بريئة عن الاختلال والفطور على ما قال ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور الملك 3 وأما العنصريات فهي إما جماد أو نبات أو حيوان أما الجمادات فهي خالية عن جميع القوى النفسانية فالظلمة فيها خالصة والأنوار عنها بالكلية زائلة وهي المراد من قوله ومن شر غاسق إذا وقب وأما النبات فالقوة العادية النباتية هي التي تزيد في الطول والعرض والعمق معا فهذه النباتية كأنها تنفث في العقد الثلاثة وأما الحيوان فالقوى الحيوانية هي الحواس الظاهرة والحواس الباطنية والشهوة والغضب وكلها تمنع الروح الإنسانية عن الانصباب إلى عالم الغيب والاشتغال بقدس جلال الله وهو المراد من قوله ة من شر حاسد إذا حسد ثم إنه لم يبق من السفليات بعد هذه المرتبة سوى النفس الإنسانية وهي المستعيذة فلا تكون مستعاذا منها فلا جرم قطع هذه السورة وذكر بعدها في سورة الناس مراتب درجات النفس الإنسانية في الترقي وذلك لأنها بأصل فطرتها مستعدة لأن تنتقش بمعرفة الله تعالى ومحبته إلا أنها تكون أول الأمر خالية عن هذه المعارف بالكلية ثم إنه من المرتبة الثانية يحصل فيها علوم أولية بديهية يمكن التوصل بها إلى استعلام المجهولات الفكرية ثم في آخر تلك المجهولات الفكرية من القوة إلى الفعل قوله تعالى قل أعوذ برب الناس الناس 1 إشارة إلى المرتبة الأولى من مراتب النفس الإنسانية وهي حال كونها خالية من جميع العلوم البديهية والكسبية وذلك لأن النفس في تلك المرتبة تحتاج إلى مرب يربيها ويزينها بتلك المعارف البديهية ثم في المرتبة الثانية وهي عند حصول هذه العلوم البديهية يحصل لها ملكة من الانتقال منها إلى استعلام العلوم الفكرية وهو المراد من قوله ملك الناس الناس 2 ثم في المرتية الثالثة وهي عند خروج تلك العلوم الفكرية من القول إلى الفعل يحصل الكمال

التام للنفس وهو المراد من قوله إله الناس الناس 3 فكأن الحق يسمي نفسه بحسب كل مرتبة من مراتب النفس الإنسانية بما يليق بتلك المرتبة ثم قال من شر الوسواس الخناس الناس 4 والمراد منه القوة الوهمية والسبب في إطلاق اسم الخناس على الوهم أن العقل والوهم قد يتساعدان على تسليم بعض المقدمات ثم إذا آل الأمر إلى النتيجة فالعقل يساعد على النتيجة والوهم يخنس ويرجع ويمتنع عن تسليم النتيجة فلهذا السبب يسمى الوهم بالخناس ثم بين سبحانه أن ضرر هذا الخناس عظيم على العقل وأنه قلما ينفك أحد عنه فكأنه سبحانه بين في هذه السورة مراتب الأرواح البشرية ونبه على عدوها ونبه على ما به يقع الامتياز بين العقل وبين الوهم وهناك آخر درجات مراتب النفس الإنسانية فلا جرم وقع ختم الكتاب الكريم والفرقان العظيم عليه
الفصل الثاني ذكروا في سبب نزول هذه السورة وجوها أحدها روي أن جبريل عليه السلام أتاه وقال إن عفريتا من الجن يكيدك فقال إذا أويت إلى فراشك قل أعوذ برب السورتين وثانيها أن الله تعالى أنزلهما عليه ليكونا رقية من العين وعن سعيد بن المسيب أن قريشا قالوا تعالوا نتجوع فنعين محمدا ففعلوا ثم أتوه وقالوا ما أشد عضدك وأقوى ظهرك وأنظر وجهك فأنزل الله تعالى المعوذتين وثالثها وهو قول جمهور المفسرين أن لبيد بن أعصم اليهودي سحر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في إحدى عشرة عقدة وفي وتر دسه في بئر يقال لها ذروان فمرض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واشتد عليه ذلك ثلاث ليال فنزلت المعوذتان لذلك وأخبره جبريل بموضع السحر فأرسل عليا عليه السلام وطلحة وجاءوا به وقال جبريل للنبي حل عقدة وقرأ آية ففعل وكان كلما قرأ آية انحلت عقدة فكان يجد بعض الخفة والراحة
واعلم أن المعتزلة أنكروا ذلك بأسرهم قال القاضي هذه الرواية باطلة وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول والله يعصمك من الناس المائدة 67 وقال ولا يفلح الساحر حيث أتى طه 69 ولأن تجويزه يفضي غلى القدح في النبوة لأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى الضرر لجميع الأنبياء والصالحين ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم وكل ذلك باطل ولأن الكفار كانوا يعيرونه بأنه مسحور فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة ولحصل فيه عليه السلام ذلك العيب ومعلوم أن ذلك غير جائز قال الأصحاب هذه القصة قد صحت عند جمهور أهل النقل والوجوه المذكورة قد سبق الكلام عليها في سورة البقرة أما قوله الكفار كانوا يعيبون الرسول عليه السلام بأنه مسحور فلو وقع ذلك لكان الكفار صادقين في ذلك القول فجوابه أن الكفار كانوا يريدون بكونه مسحورا أنه مجنون أزيل عقله بواسطة السحر فلذلك ترك دينهم فأما أن يكون مسحورا بألم يجده في بدنه فذلك مما لا ينكره أحد وبالجملة فالله تعالى ما كان يسلط عليه لا شيطانا ولا إنسيا ولا جنيا يؤذيه في دينه وشرعه ونبوته فأما في الإضرار ببدنه فلا يبعد وتمام الكلام في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة ولنرجح إلى التفسير

سورة الفلق
خمس آيات مدنية
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ
قوله تعالى قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ فيه مسائل
المسألة الأولى في قوله قُلْ فوائد أحدها أنه سبحانه لما أمر بقراءة سورة الإخلاص تنزيهاً له عما لا يليق به في ذاته وصفاته وكان ذلك من أعظم الطاعات فكأن العبد قال إلهنا هذه الطاعة عظيمة جداً لا أثق بنفسي في الوفاء بها فأجاب بأن قال قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ أي استعذ بالله والتجيء إليه حتى يوفقك لهذه الطاعة على أكمل الوجوه وثانيها أن الكفار لما سألوا الرسول عن نسب الله وصفته فكأن الرسول عليه السلام قال كيف أنجو من هؤلاء الجهال الذين تجاسروا وقالوا فيك مالا يليق بك فقال الله قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ أي استعذ بي حتى أصونك عن شرهم وثالثها كأنه تعالى يقول من التجأ إلى بيتي شرقته وجعلته آمناً فقلت ومن دخله كان آمناً فالتجىء أنت أيضاً إلي حتى أجعلك آمناً فَقُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ
المسألة الثانية اختلفوا في أنه هل يجوز الاستعانة بالرقي والعوذ أم لا منهم قال إنه يجوز واحتجوا بوجوه أحدها ما روى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اشتكى فرقاه جبريل عليه السلام فقال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك والله يشفيك وثانيها قال ابن عباس كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعلمنا من الأوجاع كلها والحمى هذا الدعاء ( بسم الله الكريم أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ومن شر حر النار ) وثالثها قال عليه السلام من دخل على مريض لم يحضره أجله فقال أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات شفى ورابعها عن علي عليه السلام قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دخل على مريض قال ( أذهب

البأس رب الناس اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت ) وخامسها عن ابن عباس قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعوذ الحسن والحسين يقول ( أعيذكما بكلمات الله التامة من شيطان وهامة ومن كل عين لامة ) ويقول هكذا كان أبي إبراهيم يعوذ ابنيه إسماعيل وإسحاق وسادسها قال عثمان بن أبي العاص الثقفي قدمت على رسول الله وبي وجع قد كاد يبطلني فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اجعل يدك اليمنى عليه وقل بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد ) سبع مرات ففعلت ذلك فشفاني الله وسابعها روى أنه عليه السلام كان إذا سافر فنزل منزلاً يقول ( يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما يخرج منك وشر ما يدب عليك وأعوذ بالله من أسد وأسود وحية وعقرب ومن شر ساكني البلد ووالد وما ولد ) وثامنها قالت عائشة كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا اشتكى شيئاً من جسده قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين في كفه اليمنى ومسح بها المكان الذي يشتكي ومن الناس من منع من الرقي لما روى عن جابر قال نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الرقي وقال عليه السلام ( إن لله عباداً لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون ) وقال عليه السلام ( لم يتوكل على الله من اكتوى واسترقى ) وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون النهي عن الرقي المجهولة التي لا تعرف حقائقها فأما ما كان له أصل موثوق فلا نهي عنه واختلفوا في التعليق فروى أنه عليه السلام قال ( من علق شيئاً وكل إليه ) وعن ابن مسعود إنه رأى على أم ولده تميمة مربوطة بعضدها فجذبها جذباً منيعاً فقطعها ومنهم من جوزه سئل الباقر عليه السلام عن التعويذ يعلق على الصبيان فرخص فيه واختلفوا في النفث أيضاً فروى عن عائشة أنها قالت كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ينفث على نفسه إذا اشتكى بالمعوذات ويمسح بيده فلما اشتكى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجعه الذي توفي فيه طفقت أنقث عليه بالمعوذات التي كان ينفث بها على نفسه وعنه عليه السلام ( أنه كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ فيهما بالمعوذات ثم مسح بهما جسده ) ومنهم من أنكر النفث قال عكرمة لا ينبغي للرقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد وعن إبراهيم قال كانوا يكرهون النفث في الرقي وقال بعضهم دخلت على الضحاك وهو وجيع فقلت ألا أعوذك يا أبا محمد قال بلى ولكن لا تنفث فعوذته بالمعوذتين قال الحليمي الذي روى عن عكرمة أنه ينبغي للراقي أن لا ينفث ولا يمسح ولا يعقد فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفث في العقد مما يستعاذ منه فوجب أن يكون منهياً عنه إلا أن هذا ضعيف لأن النفث في العقد إنما يكون مذموماً إذا كان سحراً مضراً بالأرواح والأبدان فأما إذا كان هذا النفث لإصلاح الأرواح والأبدان وجب أن لا يكون حراماً
المسألة الثالثة أنه تعالى قال في مفتاح القراءة فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ وقال ههنا أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ وفي موضع آخر وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ وجاء في الأحاديث أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ ولا شك أن أفضل أسماء الله هو الله وأما الرب فإنه قد يطلق على غيره قال تعالى ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ فما السبب في أنه تعالى عند الأمر بالتعوذ لم يقل أعوذ بالله بل قال بِرَبّ الْفَلَقِ وأجابوا عنه من وجوه أحدها أنه في قوله وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنما أمره بالاستعاذة هناك لأجل قراءة القرآن وإنما أمره بالاستعاذة ههنا في هذه السورة لأجل حفظ النفس والبدن عن السحر والمهم الأول أعظم فلا جرم ذلك هناك الاسم الأعظم وثانيها أن الشيطان يبالغ حال منعك من العبادة أشد مبالغة في إيصال الضر إلى بدنك وروحك فلا جرم ذكر الاسم

الأعظم هناك دون ههنا وثالثها أن اسم الرب يشير إلى التربية فكأنه جعل تربية الله له فيما تقدم وسيلة إلى تربيته له في الزمان الآتي أو كان العبد يقول التربية والإحسان حرفتك فلا تهملني ولا تخيب رجائي ورابعها أن بالتربية صار شارعاً في الإحسان والشروع ملزم وخامسها أن هذه السورة آخر سور القرآن فذكر لفظ الرب تنبيهاً على أنه سبحانه لا تنقطع عنك تربيته وإحسانه فإن قيل إنه ختم القرآن على اسم الإله حيث قال مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ قلنا فيه لطيفة وهي كونه تعالى قال قل أعوذ بمن هو ربي ولكنه إله قاهر لوسوسة الخناس فهو كالأب المشفق الذي يقول ارجع عند مهماتك إلى أبيك المشفق عليك الذي هو كالسيف القاطع والنار المحرقة لأعدائك فيكون هذا من أعظم أنواع الوعد بالإحسان والتربية وسادسها كان الحق قال لمحمد عليه السلام قلبك لي فلا تدخل فيه حب غيري ولسانك لي فلا نذكر به أحداً غيري وبدنك لي فلا تشغله بخدمة غيري وإن أردت شيئاً فلا تطلبه إلا مني فإن أردت العلم فقل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً وإن أردت الدنيا فاسألوا الله من فضله وإن خفت ضرراً فقل أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ فإني أنا الذي وصفت نفسي بأني خالق اوصباح وبأني فالق الحب والنوى وما فعلت هذه الأشياء إلا لأجلك فإذا كنت أفعل كل هذه الأمور لأجلك أفلا أصونك عن عن الآفات والمخافات
المسألة الرابعة ذكروا في الْفَلَقِ وجوهاً أحدها أنه الصبح وهو قول الأكثرين قال الزجاج لأن الليل يفلق عنه الصبح ويفرق فعل بمعنى مفعول يقال هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح وتخصيصه في التعوذ لوجوه الأول أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كل هذا العالم يقدر أيضاً أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه الثاني أن طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرج فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظراً لطلوع الصباح كذلك الخائف يكون مترقياً لطلوع صباح النجاح الثالث أن الصبح كالبشري فإن الإنسان في الظلام يكون كلحم على وضم فإذا ظهر الصبح فكأنه صاح بالأمان وبشر بالفرج فلهذا السبب يجد كل مريض ومهموم خفة في وقت السحر فالحق سبحانه يقول قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ يعطي إنعام فلق الصبح قبل السؤال فكيف بعد السؤال الرابع قال بعضهم إن يوسف عليه السلام لما ألقى في الجب وجعت ركبته وجعاً شديداً فبات ليلته ساهراً فلما قرب طلوع الصبح نزل جبريل عليه السلام بإذن الله يسليه ويأمره بأن يدعوا ربه فقال يا جبريل ادع أنت وأؤمن أنا فدعا جبريل وأمن يوسف فكشف الله ما كان به من الضر فلما طاب وقت يوسف قال جبريل وأنا أدعو أيضاً وتؤمن أنت فسأل يوسف ربه أن يكشف الضر عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت فلا جرم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل وروى أن دعاءه في الجب يا عدتي في شدتي ويا مؤنسي في وحشتي ويا راحم غربتي ويا كاشف كربتي ويا مجيب دعوتي ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب ارحم صغر سني وضعف ركني وقلة حيلتي يا حي يا قوم يا ذا الجلال والإكرام الخامس لعل تخصيص الصبح بالذكر في هذا الموضع لأنه وقت دعاء المضطرين وإجابة الملهوفين فكأنه يقول قل أعوذ برب الوقت الذي يفرج فيه عن كل مهموم السادس يحتمل أنه خص الصبح بالذكر لأنه أنموذج من يوم القيامة لأن الخلق كالأموات والدور كالقبور ثم منهم من يخرج من داره مفلساً عرياناً لا يلتفت إليه ومنهم من كان مديوناً فيجر إلى الحبس ومنهم من كان ملكاً مطاعاً فتقدم إليه المراكب ويقوم الناس بين يديه كذا في يوم القيامة بعضهم مفلس عن الثواب عار عن لباس التقوى يجر إلى الملك الجبار ومن عبد كان مطيعاً لربه في الدنيا فصار ملكاً مطاعاً في العقبى

يقدم إليه البراق السابع يحتمل أنه تعالى خص الصبح بالذكر لأنه وقت الصلاة الجامعة لأحوال القيامة فالقيام في الصلاة يذكر القيام يوم القيامة كما قال يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ والقراءة في الصلاة تذكر قراءة الكتب والركوع في الصلاة يذكر من القيامة قوله نَاكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ والسجود في الصلاة يذكر قوله وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ والقعود يذكر قوله وَتَرَى كُلَّ أُمَّة ٍ جَاثِيَة ً فكان العبد يقول إلهي كما خلصتني من ظلمة الليل فخلصني من هذه الأهوال وإنما خص وقت صلاة الصبح لأن لها مزيد شرف على ما قال أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى أي تحضرها ملائكة الليل والنهار الثامن أنه وقت الاستغفار والتضرع على ما قال وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ القول الثاني في الفلق أنه عبارة عن كل ما يفلقه الله كالأرض عن النبات إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى والجبال عن العيون وَإِنَّ مِنْهَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَارُ والسحاب عن الأمطار والأرحام عن الأولاد والبيض عن الفرخ والقلوب عن المعارف وإذا تأملت الخلق تبين لك أن أكثره عن انقلاب بل العدم كأنه ظلمة والنور كأنه الوجود وثبت أنه كان الله في الأزل ولم يكن معه شيء البتة فكأنه سبحانه هو الذي فلق بحار ظلمات العدم بأنوار الإيجاد والتكوين والإبداع فهذا هو المراد من الفلق وهذا التأويل أقرب من وجوه أحدها هو أن الموجود إما الخالق وإما الخلق فإذا فسرنا الفلق بهذا التفسير صار كأنه قال قل أعوذ برب جميع الممكنات ومكون كل المحدثات والمبدعات فيكون التعظيم فيه أعظم ويكون الصبح أحد الأمور الداخلة في هذا المعنى وثانيها أن كل موجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته والممكن لذاته يكون موجوداً بغيره معدوماً في حد ذاته فإذن كل ممكن فلا بد له من مؤثر يؤثر فيه حال حدوثه ويبقيه حال بقائه فإن الممكن حال بقائه يفتقر إلى المؤثر والتربية إشارة لا إلى حال الحدوث بل إلى حال البقاء فكأنه يقول إنك لست محتاجاً إلى حال الحدوث فقط بل في حال الحدوث وحال البقاء معاً في الذات وفي جميع الصفات فقوله بِرَبّ الْفَلَقِ يدل على احتياج كل ما عداه إليه حالتي الحدوث والبقاء في الماهية والوجود بحسب الذوات والصفات وسر التوحيد لا يصفو عن شوائب الشرك إلا عند مشاهدة هذه المعاني وثالثها أن التصوير والتكوين في الظلمة أصعب منه في النور فكأنه يقول أنا الذي أفعل ما أفعله قبل طلوع الأنوار وظهور الأضواء ومثل ذلك مما لا يتأتى إلا بالعلم التام والحكمة البالغة وإليه الإشارة بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لا إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
القول الثالث أنه واد في جهنم أوجب فيها من قولهم لما اطمأن من الأرض الفلق والجمع فلقان وعن بعض الصحابة أنه قدم الشام فرآى دور أهل الذمة وما هم فيه من خصب العيش فقال لا أبالي أليس من ورائهم الفلق فقيل وما الفلق قال بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره وإنما خصه بالذكر ههنا لأنه هو القادر على مثل هذا التعذيب اعظيم الخارج عن حد أوهام الخلق ثم قد ثبت أن رحمته أعظم وأكمل وأتم من عذابه فكأنه يقول يا صاحب العذاب الشديد أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأكمل وأتم وأسبق وأقدم من عذابك
مِن شَرِّ مَا خَلَقَ

قوله تعالى مِن شَرّ مَا خَلَقَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير هذه الآية وجوه أحدها قال عطاء عن ابن عباس يريد إبليس خاصة لأن الله تعالى لم يخلق خلقاً هو شر منه ولأن السورة إنما نزلت في الاستعاذة من السحر وذلك إنما يتم بإبليس وبأعوانه وجنوده وثانيها يريد جهنم كأنه يقول قل أعوذ برب جهنم ومن شدائد ما خلق فيها وثالثها مِن شَرّ مَا خَلَقَ يريد من شر أصناف الحيوانات المؤذياب كالسباع والهوام وغيرهما ويجوز أن يدخل فيه من يؤذيني من الجن والإنس أيضاً ووصف أفعالها بأنها شر وإنما جاز إدخال الجن والإنسان تحت لفظة ما لأن الغلبة لما حصلت في جانب غير العقلاء حسن استعمال لفظة ما فيه لأن العبرة بالأغلب أيضاً ويدخل فيه شرور الأطعمة الممرضة وشرور الماء والنار فإن قيل الآلام الحاصلة عقيب الماء والنار ولدغ الحية والعقرب حاصلة بخلق الله تعالى ابتداء على قول أكثر المتكلمين أو متولدة من قوى خلقها الله تعالى في هذه الأجرام على ما هو قول جمهور الحكماء وبعض المتكلمين وعلى التقديرين فيصير حاصل الآية أنه تعالى أمر الرسول عليه السلام بأن يستعيذ بالله من الله فما معناه قلنا وأي بأس بذلك ولقد صرح عليه السلام بذلك فقال ( وأعوذ بك منك ) ورابعها أراد به ما خلق من الأمراض والأسقام والقحط وأنواع المحن والآفات وزعم الجبائي والقاضي أن هذا التفسير باطل لأن فعل الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه شر قالوا ويدل عليه وجوه الأول أنه يلزم على هذا التقدير أن الذي أمر بالتعوذ منه هو الذي أمرنا أن نتعوذ به وذلك متناقض والثاني أن أفعال الله كلها حكمة وصواب وذلك لا يجوز أن يقال إنه شر والثالث أن فعل الله لو كان شراً لوصف فاعله بأنه شرير ويتعالى الله عن ذلك والجواب عن الأول أنا بينا أنه لا امتناع في قوله أعوذ بك منك وعن الثاني أن الإنسان لما تألم به فإنه يعد شراً فورد اللفظ على وفق قوله كما في قوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا وقوله فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وعن الثالث أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية ثم الذي يدل على جواز تسمية الأمراض والأسقام بأنها شرور قوله تعالى إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وقوله وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ وكان عليه السلام ( وأعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار )
المسألة الثانية طعن بعض الملحدة في قوله قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ مِن شَرّ مَا خَلَقَ من وجوه أحدها أن المستعاذ منه أهو واقع بقضاء الله وقدره أولاً بقضاء الله ولا بقدره فإن كان الأول فكيف أمر بأن يستعيذ بالله منه وذلك لأن ما قضى الله به وقدره فهو واقع فكأنه تعالى يقول الشيء الذي قضيت بوقوعه وهو لا بد واقع فاستعذ بي منه حتى لا أوقعه وإن لم يكن بقضائه وقدره فذلك يقدح في ملك الله وملكوته وثانيها أن المستعاذ منه إن كان معلوم الوقوع فلا دافع له فلا فائدة في الاستعاذة وإن كان معلوم اللاوقوع فلا حاجة إلى الاستعاذة وثالثها أن المستعاذ منه إن كان مصلحة فكيف رغب المكلف في طلب دفعه ومنعه وإن كان مفسدة فكيف خلقه وقدره واعلم أن الجواب عن أمثال هذه الشبهات أن يقال إنه لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وقد تكرر هذا الكلام في هذا الكتاب
وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ

قوله تعالى وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ذكروا في الغاسق وجوهاً أحدها أن الغاسق هو اليل إذا عظم ظلامه من قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ ومنه غسقت العين إذا امتلأت دمعاً وغسقت الجراحة إذا امتلأت دماً وهذا قول الفراء وأبي عبيدة وأنشد ابن قيس إن هذا الليل قد غسقا
واشتكيت الهم والأرقا
وقال الزجاج الغاسق في اللغة هو البارد وسمي الليل غاسقاً لأنه أبرد من النهار ومنه قوله إنه الزمهرير وثالثها قال قوم الغاسق والغساق هو السائل من قولهم غسقت العين تغسق غسقاً إذا سالت بالماء وسمي الليل غاسقاً لانصباب ظلامه على الأرض أما الوقوب فهو الدخول في شيء آخر بحيث يغيب عن العين يقال وقب يقب وقوباً إذا دخل الوقبة النقرة لأنه يدخل فيها الماء والإيقاب إدخال الشيء في الوقبة هذا ما يتعلق باللغة وللمفسرين في الآية أقوال أحدها أن الغاسق إذا وقب هو الليل إذا دخل وإنما أمر أن يتعوذ من شر الليل لأن في الليل تخرج السباع من آجامها والهوام من مكانها ويهجم السارق والمكابر ويقع الحريق ويقل فيه الغوث ولذلك لو شهر ( معتد ) سلاحاً على إنسان ليلاً فقتله المشهور عليه لا يلزمه قصاص ولو كان نهاراً يلزمه لأنه يوجد فيه الغوث وقال قوم إن في الليل تنتشر الأرواح المؤذية المسماة بالجن والشياطين وذلك لأن قوة شعاع الشمس كأنها تقهرهم أما في الليل فيحصل لهم نوع استيلاء وثانيها أن الغاسق إذا وقب هو القمر قال ابن قتيبة الغاسق القمر سمي به لأنه يكسف فيغسق أي يذهب ضؤوه ويسود ( و ) وقوبه دخوله في ذلك الاسوداد روى أبو سلمة عن عائشة أنه أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيدها وأشار إلى القمر وقال ( استعيذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب ) قال ابن قتيبة ومعنى قوله تعوذي بالله من شره إذا وقب أي إذا دخل في الكسوف وعندي فيه وجه آخر وهو أنه صح أن القمر في جرمه غير مستنير بل هو مظلم فهذا هو المراد من كونه غاسقاً وأما وقوبه فهو انمحاء نوره في آخر الشهر والمنجمون يقولون إنه في آخر الشهر يكون منحوساً قليل القوة لأنه لا يزال ينتقص نوره فبسبب ذلك تزداد نحوسته ولذلك فإن السحرة إنما يشتغلون بالسحر المورث للتمريض في هذا الوقت وهذا مناسب لسبب نزول السورة فإنها إنما نزلت لأجل أنهم سحروا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأجل التمريض وثالثها قال ابن زيد الغاسق إذا وقب يعني الثريا إذا سقطت قال وكانت الأسقام تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها وعلى هذا تسمى الثريا غاسقاً لانصبابه عند وقوعه في المغرب ووقوبه دخوله تحت الأرض وغيبوبته عن الأعين ورابعها قال صاحب الكشاف يجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحيات ووقوبه ضربة ونقبه والوقب والنقب واحد واعلم أن هذا التأويل أضعف الوجوه المذكورة وخامسها الغاسق إِذَا وَقَبَ هو الشمس إذا غابت وإنما سميت غاسقاً لأنها في الفلك تسبح فسمي حركتها وجريانها بالغسق ووقوبها غيبتها ودخلولها تحت الأرض
وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ
قوله تعالى وَمِن شَرّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ فيه مسائل
المسألة الأولى في الآية قولان الأول أن النفث النفخ مع ريق هكذا قاله صاحب الكشاف ومنهم

من قال إنه النفخ فقط ومنه قوله عليه السلام إن جبريل نفث في روعي والعقد جمع عقدة والسبب فيه أن الساحر إذا أخذ في قراءة الرقية أخذ خيطاً ولا يزال يعقد عليه عقداً بعد عقد وينفث في تلك العقد وإنما أنت النفاثات لوجوه أحدها أن هذه الصناعة إنما تعرف بالنساء لأنهن يعقدن وينفثن وذلك لأن الأصل الأعظم فيه ربط القلب بذلك الأمر وإحكام الهمة والوهم فيه وذلك إنما يتأتى من النساء لقلة علمهن وشدة شهوتهن فلا جرم كان هذا العمل منهن أقوى قال أبو عبيدة النَّفَّاثَاتِ هن بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها أن المراد من النَّفَّاثَاتِ النفوس وثالثها المراد منها الجماعات وذلك لأنه كلما كان اجتماع السحرة على العمل الواحد أكثر كان التأثير أشد القول الثاني وهو اختيار أبي مسلم مِن شَرّ النَّفَّاثَاتِ أي النساء في العقد أي في عزائم الرجال وآرائهم وهو مستعار من عقد الحبال والنقث وهو تليين العقدة من الحبل بريق يقذفه عليه ليصير حله سهلاً فمعنى الآية أن النساء لأجل كثرة حبهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال يحولنهم من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن كقوله إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ فلذلك عظم الله كيدهن فقال إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ
واعلم أن هذا القول حسن لولا أنه على خلاف قول أكثر المفسرين
المسألة الثالثة أنكرت المعتزلة تأثير السحر وقد تقدمت هذه المسألة ثم قالوا سبب الاستعاذة من شرهن لثلاثة أوجه أحدها أن يستعاذ من إثم عملهن في السحر والثاني أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن والثالث أن يستعاذ من إطعامهن الأطعمة الرديئة المورثة للجنون والموت
وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ
قوله تعالى وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ من المعلوم أن الحاسد هو الذي تشتد محبته لإزالة نعمة الغير إليه ولا يكاد يكون كذلك إلا ولو تمكن من ذلك بالحيل لفعل فلذلك أمر الله بالتعوذ منه وقد دخل في هذه السورة كل شر يتوفى ويتحرز منه ديناً وديناً فلذلك لما نزلت فرح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بنزولها لكونها مع ما يليها جامعة في التعوذ لكل أمر ويجوز أن يراد بشر الحاسد إثمه وسماجة حاله في وقت حسده وإظهاره أثره بقي هنا سؤالان
السؤال الأول قوله مِن شَرّ مَا خَلَقَ عام في كل ما يستعاذ منه فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد الجواب تنبيهاً على أن هذه الشرور أعظم أنواع الشر
السؤال الثاني لم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه الجواب عرف النفاثات لأن كل نفاثة شريرة ونكر غاسقاً لأنه ليس كل غاسق شريراً وأيضاً ليس كل حاسد شريراً بل رب حسد يكون محموداً وهو الحسد في الخيرات
والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة الناس
وهي ست آيات مدنية
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ فيه مسائل
المسألة الأولى قرىء قُلْ أَعُوذُ بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام ونظيره فَخُذْ أَرْبَعَة ً مّنَ الطَّيْرِ وأيضاً أجمع القراء على ترك الإمالة في الناس وروى عن الكسائي الإمالة في الناس إذا كان في موضع الخفض
المسألة الثانية أنه تعالى رب جميع المحدثات ولكنه ههنا ذكر أنه رب الناس على التخصيص وذلك لوجوه أحدها أن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس فكأنه قيل أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم وهو إلهم ومعبودهم كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيدهم ومخدومهم ووالي أمرهم وثانيها أن أشرف المخلوقات في العالم هم الناس وثالثها أن المأمور بالاستعاذة هو الإنسان فإذا قرأ الإنسان هذه صار كأنه يقول يا رب يا ملكي يا إلهي
المسألة الثالثة قوله تعالى مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ هما عطف بيان كقوله سيرة أبي حفص عمر الفاروق فوصف أولاً بأنه رب الناس ثم الرب قد يكون ملكاً وقد لا يكون كما يقال رب الدار ورب المتاع قال تعالى اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ فلا جرم بينه بقوله مَلِكِ النَّاسِ ثم الملك قد يكون إلهاً وقد لا يكون فلا جرم بينه بقوله إِلَاهِ النَّاسِ لأن الإله خاص به وهو سبحانه لا يشركه فيه غيره وأيضاً بدأ بذكر الرب وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه وهو من أوائل نعمه إلى أن رباه وأعطاه العقل فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك وهو ملكه فثنى بذكر الملك ثم لما علم أن

العبادة لازمة له واجبة عليه وعرف أن معبوده مستحق لتلك العبادة عرف أنه إله فلهذا ختم به وأيضاً أول ما يعرف العبد من ربه كونه مطيعاً لما عنده من النعم الظاهرة والباطنة وهذا هو الرب ثم لا يزال يتنقل من معرفة هذه الصفات إلى معرفة جلالته واستغنائه عن الخلق فحينئذ يحصل العلم بكونه ملكاً لأن الملك هو الذي يفتقر إليه غيره ويكون هو غنياً عن غيره ثم إذا عرفه العبد كذلك عرف أنه في الجلالة والكبرياء فوق وصف الواصفين وأنه هو الذي ولهت العقول في عزته وعظمته فحينئذ يعرفه إلهاً
المسألة الرابعة السبب في تكرير لفظ الناس أنه إنما تكررت هذه الصفات لأن عطف البيان يحتاج إلى مزيد الإظهار ولأن هذا التكرير يقتضي مزيد شرف الناس لأنه سبحانه كأنه عرف ذاته بكونه رباً للناس ملكاً للناس إلهاً للناس ولولا أن الناس أشر مخلوقاته وإلا لما ختم كتابه بتعريف ذاته بكونه رباً وملكاً وإلهاً لهم
المسألة الخامسة لا يجوز ههنا مالك الناس ويجوز مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ في سورة الفاتحة والفرق أن قوله رَبّ النَّاسِ أفاد كونه مالكاً لهم فلا بد وأن يكون المذكور عقيبه هذا الملك ليفيد أنه مالك ومع كونه مالكاً فهو ملك فإن قيل أليس قال في سورة الفاتحة رَبّ الْعَالَمِينَ ثم قال مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ فليزم وقوع التكرار هناك قلنا اللفظ دل على أنه رب العالمين وهي الأشياء الموجودة في الحال وعلى أنه مالك ليوم الدين أي قادر عليه فهناك الرب مضاف إلى شيء والمالك إلى شيء آخر فلم يلزم التكرير وأما ههنا لو ذكر المالك لكان الرب والمالك مضافين إلى شيء واحد فيلزم منه التكرير فظهر الفرق وأيضاً فجواز القراءات يتبع النزول لا القياس وقد قرىء مالك لكن في الشواذ
مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ
قوله تعالى مِن شَرّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الوسواس اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة وأما المصدر فوسواس بالكسر كزلزال والمراد به الشيطان سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه نظيره قوله إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ والمراد ذو الوسواس وتحقيق الكلام في الوسوسة قد تقدم في قوله فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ وأما الخناس فهو الذي عادته أن يخنس منسوب إلى الخنوس وهو التأخر كالعواج والنفاثات عن سعيد بن جبير إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى فإذا غفل وسوس إليه
الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ
قوله تعالى الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ
اعلم أن قوله الَّذِى يُوَسْوِسُ يجوز في محله الحركات الثلاث فالجر على الصفة والرفع والنصب على الشتم ويحسن أن يقف القارىء على الخناس ويبتدىء الذي يوسوس على أحد هذين الوجهين

مِنَ الْجِنَّة ِوَالنَّاسِ
أما قوله تعالى مِنَ الْجِنَّة ِوَالنَّاسِ ففيه وجوه
أحدها كأنه يقول الوسواس الخناس قد يكون من الجنة وقد يكون من الناس كما قال شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ وكما أن شيطان الجن قد يوسوس تارة ويخنس أخرى فشيطان الإنس يكون كذلك وذلك لأنه يرى نفسه كالناصح المشفق فإن زجره السامع يخنس ويترك الوسوسة وإن قبل السامع كلامه بالغ فيه وثانيها قال قوم قوله مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ قسمان مندرجان تحت قوله في صُدُورِ النَّاسِ كأن القدر المشترك بين الجن والإنس يسمى إنساناً والإنسان أيضاً يسمى إنساناً فيكون لفظ الإنسان واقعاً على الجنس والنوع بالاشتراك والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه الجن والإنس ما روى أنه جاء نفر من الجن فقيل لهم من أنتم فقالوا أناس من الجن أيضاً قد سماهم الله رجالاً في قوله وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فجاز أيضاً أن يسميهم ههنا ناساً فمعنى الآية على هذا التقدير أن هذا الوسواس الخناس شديد الخنث لا يقتصر على إضلال الإنس بل يضل جنسه وهم الجن فجدير أن يحذر العاقل شره وهذا القول ضعيف لأن جعل الإنسان اسماً للجنس الذي يندرج فيه الجن والإنس بعيد من اللغة لأن الجن سموا جناً لاجتنانهم والإنسان إنساناً لظهوره من الإيناس وهو الإبصار وقال صاحب الكشاف من أراد تقرير هذا الوجه فالأولى أن يقول المراد من قوله يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ أي في صدور الناس كقوله يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ وإذا كان المراد من الناس الناسي فحينئذ يمكن تقسيمه إلى الجن والإنس لأنهما هما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله تعالى وثالثها أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس ومن الجنة والناس كأنه استعاذ بربه من ذلك الشيطان الواحد ثم استعاذ بربه من الجميع الجنة والناس
واعلم أن هذه السورة لطيفة أخرى وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة وهي أنه رب الفلق والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات وهي الغاسق والنفاثات والحاسد وأما في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاثة وهي الرب والملك والإله والمستعاذ منه آفة واحدة وهي الوسوسة والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يتقدر بقدر المطلوب فالمطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن والمطلوب في السورة الثانية سلامة الدين وهذا تنبيه على أن مضرة الدين وإن قلت أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت والله سبحانه وتعالى أعلم.
تم الكتاب ولله الحمد والمنة والفضل.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66