كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

في إبطال فعل الله وأنه لا يجوز وأنتم تقولون أطعموهم فهو ضلال ولم يكن في الضلال إلا هم حيث نظروا إلى المراد ولم ينظروا إلى الطلب والأمر وذلك لأن العبد إذا أمره السيد بأمر لا ينبغي أن يكشف سبب الأمر والإطلاع على المقصود الذي أمر به لأجله مثاله الملك إذا أراد الركوب للهجوم على عدوه بحيث لا يطلع عليه أحد وقال لعبده أحضر المركوب فلو تطلع واستكشف المقصود الذي لأجله الركوب لنسب إلى أنه يريد أن يطلع عدوه على الحذر منه وكشف سره فالأدب في الطاعة وهو اتباع الأمر لا تتبع المراد فالله تعالى إذا قال أنفقوا مما رزقكم لا يجوز أن يقولوا لم لم يطعمهم الله مما في خزائنه ثم قال تعالى
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
وهو إشارة إلى ما اعتقدوه وهو أن التقوى المأمور بها في قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُواْ ( يس 45 ) والإنفاق المذكور في قوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ ( يس 47 ) لا فائدة فيه لأن الوعد لا حقيقة له وقوله مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ أي متى يقع الموعود به وفيه مسائل
المسألة الأولى وهي أن إن للشرط وهي تستدعي جزاء ومتى استفهام لا يصلح جزاء فما الجواب نقول هي في الصورة استفهام وفي المعنى إنكار كأنهم إن كنتم صادقين في وقوع الحشر فقولوا متى يكون
المسألة الثانية الخطاب مع من في قولهم إِن كُنتُمْ نقول الظاهر أنه مع الأنبياء لأنهم لما أنكروا الرسالة قالوا إن كنتم يا أيها المدعوون للرسالة صادقين فأخبرونا متي يكون
المسألة الثالثة ليس في هذا الموضع وعد فالإشارة بقوله هَاذَا الْوَعْدُ إلى أي وعد نقول هو ما في قوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ ( يس 45 ) من قيام الساعة أو نقول هو معلوم وإن لم يكن مذكوراً لكون الأنبياء مقيمين على تذكيرهم بالساعة والحساب والثواب والعقاب
مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَة ً وَاحِدَة ً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَة ً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ
ثم قال تعالى مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَة ً واحِدَة ً أي لا ينتظرون إلا الصحية المعلومة والتنكير للتكثير فإن قيل هم ما كانوا ينتظرون بل كانوا يجزمون بعدمها فنقول الانتظار فعلي لأنهم كانوا يفعلون ما يستحق به فاعله البوار وتعجيل العذاب وتقريب الساعة لولا حكم الله وقدرته وعلمه فإنهم لا يقولون أو نقول لما لم يكن قوله متى استفهاماً حقيقاً قال ينتظرون انتظاراً غير حقيقي لأن القائل متى يفهم منه الانتظار نظراً إلى قوله وقد ذكروا ههنا في الصيحة أموراً تدل على هولها وعظمها أحدها التنكير يقال لفلان مال أي كثير وله قلب أي جريء وثانيها واحدة أي لا يحتاج معها إلى ثانية وثالثها تأخذهم أي تعمهم بالأخذ وتصل إلى من في مشارق الأرض ومغاربها ولا شك أن مثلها لا يكون إلا عظيماً
وقوله تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَة ً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ مما يعظم به الأمر لأن الصيحة المعتادة إذا وردت على غافل يرجف فإن المقبل على مهم إذا صاح به صائح يرجف فؤاده بخلاف

المنتظر للصيحة فإذا كان حال الصيحة ما ذكرناه من الشدة والقوة وترد على الغافل الذي هو مع خصمهمشغول يكون الارتجاف أتم والإيحاف أعظم ويحتمل أن يقال يَخِصّمُونَ في البعث ويقولون لا يكون ذلك أصلاً فيكونون غافلين عنه بخلاف من يعتقد أنه يكون فيتهيأ له وينتظر وقوعه فإنه لا يرتجف وهذا هو المراد بقوله تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ( الزمر 68 ) ممن اعتقد وقوعها فاستعد لها وقد مثلنا ذلك فيمن شام برقاً وعلم أن سيكون رعد ومن لم يشمه ولم يعلم ثم رعد الرعد ترى الشائم العالم ثابتاً والغافل الذاهل مغشياً عليه ثم بين شدة الأخذ وهي بحيث لا تمهلهم إلى أن يوصوا وفيه أمور مبينة للشدة أحدها عدم الاستطاعة فإن قول القائل فلأن في هذا الحال لا يوصي دون قوله لا يستطيع التوصية لأن من لا يوصي قد يستطيعها الثاني التوصية وهي بالقول والقول يوجد أسرع مما يوجد الفعل فقال لا يستطيعون كلمة فكيف فعلاً يحتاج إلى زمان طويل من أداء يالواجبات ورد المظالم الثالث اختيار التوصية من بين سائر الكلمات يدل على أنه لا قدرة له على أهم الكلمات فإن وقت الموت الحاجة إلى التوصية أمس الرابع التنكير في التوصية للتعميم أي لا يقدر على توصية ما ولو كانت بكلمة يسيرة ولأن التوصية قد تحصل بالإشارة فالعاجز عنها عاجز من غيرها الخامس قوله وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ بيان لشدة الحاجة إلى التوصية لأن من يرجو الوصول إلى أهله قد يمسك عن الوصية لعدم الحاجة إليها وأما من يقطع بأنه لا وصول له إلى أهله فلا بد له من التوصية فإذا لم يستطع مع الحاجة دل على غاية الشدة
وفي قوله وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وجهان أحدهما ما ذكرنا أنهم يقطعون بأنهم لا يمهلون إلى أن يجتمعوا بأهالهيم وذلك يوجب الحاجة إلى التوصية وثانيهما أنهم إلى أهلم لا يرجعون يعني يموتون ولا رجوع لهم إلى الدنيا ومن يسافر سفراً ويعلم أنه لا رجوع له من ذلك السفر ولا اجتماع له بأهله مرة أخرى يأتي بالوصية ثم بين ما بعده بالصيحة الأول فقال
وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الاٌّ جْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ
أي نفخ فيه ( مرة ) أخرى كما قال تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ( الزمر 68 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قال تعالى في موضع آخر ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وقال ههنا فَإِذَا هُم مّنَ الاْجْدَاثِ إِلَى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ والقيام غير النسلان وقوله في الموضعين فَإِذَا هُم يقتضي أن يكون معاً نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن القيام لا ينافي المشي السريع لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر وثانيهما أن السرعة مجىء الأمور كأن الكل في زمان واحد كقول القائل مكر مفر مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من عل
المسألة الثانية كيف صارت النفختان مؤثرتين في أمرين متضادين الأحياء والإماتة نقول لا مؤثر غير الله والنفخ علامة ثم إن الصوت الهائل يزلزل الأجسام فعند الحياة كانت أجزاء الحي مجتمعة فزلزها فحصل فيها تفريق وحالة الموت كانت الأجزاء متفرقة فزلزلها فحصل فيها اجتماع فالحاصل أن النفختين يؤثران تزلزلاً وانتقالاً للأجرام فعند الاجتماع تتفرق وعدن الافتراق تجتمع
المسألة الثالثة ما التحقيق في إذا التي للمفاجأة نقول هي إذا التي للظرف معناه نفخ في الصور فإذا نفخ فيه هم

ينسلون لكن الشيء قد يكون ظرفاً للشيء معلوماً كونه ظرفاً فعند الكلام يعلم كونه ظرفاً وعن المشاهدة لا يتجدد علم كقول القائل إذا طلعت الشمس أضاء الجو وغير ذلك فإذا رأى إضاءة الجو عند الطلوع لم يتجدد علم زائد وأما إذا قلت خرجت فإذا أسد بالباب كان ذلك الوقت ظرف كون الأسد بالباب لكنه لم يكن معلوماً فإذا رآه علمه فحصل العلم بكونه ظرفاً له مفاجأة عند الإحساس فقيل إذا للمفاجأة
المسألة الرابعة أين يكون في ذلك الوقت أجداث وقد زلزت الصيحة الجبال نقول يجمع الله أجزاء كل واحد في الموضع الذي قبر فيه فيخرج من ذلك الموضع وهو جدثه
المسألة الخامسة الموضع موضع ذكر الهيبة وتقدك ذكر الكافر ولفظ الرب يدل على الرحمة فلو قال بدل الرب المضاف إليهم لفظاً دالاً على الهيبة هل يكون أليق أم لا قلنا هذا اللفظ أحسن ما يكون لأن من أساء واضطر إلى التوجه من أحسن إليه يكون ذلك أشد ألماً وأكثر ندماً من غيره
المسألة السادسة المسيء إذا توجه إلى المحسن يقدم رجلاً ويؤخر أخرى والنسلان هو سرعة المشي فكيف يوجد منهم ذلك نقول ينسلون من غير اختيارهم وقد ذكرنا في تفسير قوله فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ( الصافات 19 ) أنه أراد أن يبين كمال قدرته ونفوذ إرادته حيث ينفخ في الصور فيكون في وقته جمع وتركيب وإحياء وقيام وعدو في زمان واحد فقوله فَإِذَا هُم مّنَ الاْجْدَاثِ إِلَى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ يعني في زمان واحد ينتهون إلى هذا الدرجة وهي النسلان الذي لا يكون إلا بعد مراتب ثم قال تعالى
قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ
يعني لما بعثوا قالوا ذلك لأن قوله وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ( يس 51 ) يدل على أنهم بعثوا وفيه مسائل
المسألة الأولى لو قال قائل لو قال الله تعالى فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون يقولون يا ويلنا كان أليق نقول معاذ الله وذلك لأن قوله فَإِذَا هُم مّنَ الاْجْدَاثِ إِلَى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ ( يس 51 ) على ما ذكرنا إشارة إلى أنه تعالى في أسرع زمان يجمع أجزاءهم ويؤلفها ويحييها ويحركها بحيث يقع نسلانهم في وقت النفخ مع أن ذلك لا بد له من الجمع والتأليف فلو قال يقولون لكان ذلك مثل الحال لينسلون أي ينسلون قائلين يا ويلنا وليس كذلك فإن قولهم يا ويلنا قبل أن ينسلوا وإنما ذكر النسلان لما ذكرنا من الفوائد
المسألة الثانية لو قال قائل قد عرفنا معنى النداء في مثل يا حسرة ويا حسرتا ويا ويلنا ولكن ما الفرق بين قولهم وقول الله حيث قال خَامِدُونَ ياحَسْرَة ً عَلَى الْعِبَادِ ( يس 30 ) من غير إضافة وقالوا يا حسرتا ويا حسرتنا ويا ويلنا نقول حيث كان القائل هو المكلف لم يكن لأحد علم إلا بحالة أو بحال من قرب منه فكان كل واحد مشغولاً بنفسه فكان كل واحد يقول يا حسرتنا ويا ويلنا فقوله قَالُواْ يأَبَانَا أي كل واحد قال يا ويلي وأما حيث قال الله قال على سبيل العموم لشمول علمه بحالهم
المسألة الثالثة ما وجه تعلق ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا بقولهم يا ويلنا نقول لما بعثوا تذكروا ما كانوا يسمعون من الرسل فقالوا يا ولينا من بعثنا أبعثنا الله البعث الموعود به أم كنا نياماً فنبهنا وهذا كمال إذا

يسمعون من الرسل فقالوا يا ويلنا من بعثنا أبعثنا الله البعث الموعود به أم كنا نياماً فنبهنا وهذا كما إذا كان إنسان موعوداً بأن يأتيه عدو لا يطيقه ثم يرى رجلاً هائلاً يقبل عليه فيرتجف في نفسه ويقول هذا ذلك أم لا ويدل على ذكرنا قولهم مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا حيث جعلوا القبور موضع الرقاد إشارة إلى أنهم شكوا في أنهم كانوا نياماً فنبهوا أو كانوا موتى وكان الغالب على ظنهم هو البعث فجمعوا بين الأمرين فقالوا مَن بَعَثَنَا إشارة إلى ظنهم أنه بعثهم الموعود به وقالوا مِن مَّرْقَدِنَا إشارة إلى توهمهم احتمال الانتباه
المسألة الرابعة هَاذَا إشارة إلى ماذا نقول فيه وجهان أحدهما أنه إشارة إلى المرقد كأنهم قالوا من بعثنا من مرقدنا هذا فيكون صفة للمرقد يقال كلامي هذا صدق وثانيهما هَاذَا إشارة إلى البعث أي هذا البعث ما وعد به الرحمن وصدق فيه المرسلون
المسألة الخامسة إذا كان هذا صفة للمرقد فكيف يصح قوله تعالى مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ نقول يكون ما وعد الرحمن مبتدأ خبره محذوف تقديره ما وعد الرحمن حق والمرسلون صدقوا أو يقال ما وعد الرحمن وصدق فيه المرسلون حق والأول أظهر لقلة الإضمار أو يقال ما وعد الرحمن خبر مبتدأ محذوف تقديره هو ما وعد الرحمن من البعث ليس تنبيهاً من النوم وصدق المرسلون فيما أخبروكم به
المسألة السادسة إن قلنا هَاذَا إشارة إلى المرقد أو إلى البعث فجواب الاستفهام بقولهم مَن بَعَثَنَا أن يكون نقول لما كان غرضهم من قولهم مَن بَعَثَنَا حصول العلم بأنه بعث أو تنبيه حصل الجواب بقوله هذا بعث وعد الرحمن به ليس تنبيهاً كما أن الخائف إذا قال لغيره ماذا تقول أيقتلني فلان فله أن يقول لا تخف ويسكت لعلمه أن غرضه إزالة الرعب عنه وبه يحصل الجواب ثم قال تعالى
إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَة ً وَاحِدَة ً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ
أي ما كانت النفخة إلا صيحة واحدة يدل على النفخة قوله تعالى وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ( يس 51 ) ويحتمل أن يقال إن كانت الواقعة وقرئت الصيحة مرفوعة على أن كان هي التامة بمعنى ما وقعت إلا صيحة وقال الزمخشري لو كان كذلك لكان الأحسن أن يقال إن كان لأنا لمعنى حينئذٍ ما وقع شيء إلا صيحة لكن التأنيث جائز إحالة على الظاهر ويمكن أن يقول الذي قرأ بالرفع أن قوله إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَة ُ ( الواقعة 1 ) تأنيث تهويل ومبالغة يدل عليه قوله لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَة ٌ ( الواقعة 2 ) فإنها للمبالغة فكذلك هنا قال إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَة ً مؤنثة تأنيث تهويل ولهذا جاءت أسماء يوم الحشر كلها مؤنثة كالقيامة والقارعة والحاقة والطامة والصاخة إلى غيرها والزمخشري يقول كاذبة بمعنى ليس لوقعتها نفس كاذبة وتأنيث أسماء الحشر لكون الحشر مسمى بالقيامة وقوله مُحْضَرُونَ دل على أن كونهم يَنسِلُونَ ( يس 51 ) إجباري لا اختياري ثم بين ما يكون ف ذلك اليوم بقوله تعالى
فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

فقوله لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ ليأمن المؤمن وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لييأس المجرم الكافر وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في الخطاب عند الإشارة إلى يأس المجرم بقوله وَلاَ تُجْزَوْنَ وترك الخطاب في الإشارة إلى أمان المؤمن من العذاب بقوله لاَ تُظْلَمُ ولم يقل ولا تظلمون أيها المؤمنون نقول لأن قوله لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً يفيد العموم وهو كذلك فإنها لا تظلم أبداً وَلاَ تُجْزَوْنَ مختص بالكافر فإن الله يجزي المؤمن وإن لم يفعل فإن الله فضلاً مختصاً بالمؤمن وعدلاً عاماً وفيه بشارة
المسألة الثانية ما المقتضى لذكر فاء التعقيب نقول لما قال مُحْضَرُونَ ( يس 53 ) مجموعون والجمع للفصل والحساب فكأنه تعالى قال إذا جمعوا لم يجمعوا إلا للفصل بالعدل فلا ظلم عند الجمع للعدل فصار عدم الظلم مترتباً عى الإحضار للعدل ولهذا يقول القائل للوالي أو للقاضي جلست للعدل فلا تظلم أي ذلك يتقضي هذا ويستعقبه
المسألة الثالثة لا يجزون عين ما كانوا يعلمون بل يجزون بما كانوا أو على ما كانوا وقوله وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يدل على أن الجزاء بعين العمل لا يقال جزى يتعدى بنفسه وبالباء يقال جزيته خيراً وجزيته بخير لأن ذلك ليس من هذا لأنك إذا قلت جزيته بخير لا يكون الخير مفعولك بل تكون الباء للمقابلة والسببية كأنك تقول جزيته جزاء بسبب ما فعل فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن يكون ذلك إشارة على وجه المبالغة إلى عدم الزيادة وذلك لأن الشيء لا يزيد على عينه فنقول قوله تعالى تجزون بما كانوا يعملون في المساواة كأنه عين ما علموا يقال فلان يجاوبني حرفاً بحرف أي لا يترك شيئاً وهذا يوجب اليأس العظيم الثاني هو أن ما غير راجع إلى الخصوص وإنما هي للجنس تقديره ولا تجزون إلا جنس العمل أي إن كان حسنة فحسنة وإن كانت سيئة فسيئة فتجزون ما تعملون من السيئة والحسنة وهذا كقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 )
ثم بين حال المحسن وقال
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ اليَوْمَ فِى شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِى ظِلَالٍ عَلَى الاٌّ رَآئِكِ مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَة ٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ
وقوله فِى شُغُلٍ يحتمل وجوهاً أحدهما في شغل عن هول اليوم بأخذ ما آتاهم الله من الثواب فما عندهم خبر من عذاب ولا حساب وقوله فَاكِهُونَ يكون متمماً لبيان سلامتهم فالله لو قال في شغل جاز أن يقال هم في شغل عظم من التفكر في اليوم وأهواله فإن من يصيبه فتنة عظيمة ثم يعرض عليه أمر من أموره ويخبر بخسران وقع في ماله يقول أنا مشغول من هذا بأهم منه فقال فَاكِهُونَ أي شغلوا عنه باللذة والسرور لا بالويل والثبور وثانيها أن يكون ذلك بياناً لحالهم ولا يريد أنهم شغلوا عن

شيء يل يكون معناه هم في عمل ثم بين عملهم بأنه ليس بشاق بل هو ملذ محبوب وثالثها في شغل عما توثعوه فإنهم تصوروا في الدنيا أموراً وقالوا نحن إذا دخلنا الجنة لا نطلب إلا كذا وكذا فرأوا ما لم يخطر ببالهم فاشتغلوا به وفيه وجوه غير هذه ضعيفة أحدها قيل افتضاض الأبكار وهذا ما ذكرناه في الوجه الثالث أن الإنسان قد يترجح في نظره الآن مداعبة الكواعب فيقول في الجنة ألتذ بها ثم إن الله ربما يأتيه ما يشغله عنها وثانيها قيل في ضرب الأوتار وهو من قبيل ما ذكرناه توهم وثالثها في التزاور ورابعها في ضيافة الله وهو قريب مما قلنا لأن ضيافة الله تكون بألذ مما يمكن وحينئذ تشغله تلك عما توهمه في دنياه وقوله فَاكِهُونَ خبر إن و فِى شُغُلٍ بيان ما فكاهتهم فيه يقال زيد على عمله مقبل وفي بيته جالس فلا يكون الجار والمجرور خبراً ولو نصبت جالساً لكان الجار والمحرور خبراً وكذلك لو قال في شغل فاكهين لكان معناه أصحاب الجنة مشغولون فاكهين على الحال وقرىء بالنصب والفاكه الملتذ المتنعم به ومنه الفاكهة لأنها لا تكون في السعة إلا للذة فلا تؤكل لدفع ألم الجوع وفيه معنى لطيف وهو أنه أشار بقوله فِى شُغُلٍ عن عدمهم الألم فلا ألم عندهم ثم بين بقوله فَاكِهُونَ عن وجدانهم اللذة وعادم الألم قد لا يكون واجداً للذة فبين أنهم على أتم حال ثم بين الكمال بقوله هُمْ وَأَزْواجُهُمْ وذلك لأن من يكون في لذة قد تتنغص عليه بسبب تفكره في حال من يهمه أمره فقال هُمْ وَأَزْواجُهُمْ أيضاً فلا يبقى لهم تعلق قلب وأما من في النار من أقاربهم وإخوانهم فيكونون هم عنهم في شغل ولا يكون منهم عندهم ألم ولا يشتهون حضورهم والأزواج يحتلم وجهين أحدهما أشكالهم في الإحسان وأمثالهم في الإيمان كما قال تعالى مِن شَكْلِهِ أَزْواجٌ ( ص 58 ) وثانيهما الأزواج هم المفهومون من زوج المرأة وزوجة الرجل كما في قوله تعالى إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المعارج 30 ) وقوله تعالى وَيَذَرُونَ أَزْواجًا ( البقرة 234 ) فإن المراد ليس هو الإشكال وقوله فِى ظِلَالٍ جمع ظل وظلل جمع ظلة والمراد به الوقاية عن مكان الألم فإن الجالس تحت كن لا يخشى المطر ولا حر الشمس فيكون به مستعداً لدفع الألم فكذلك لهم من ظل الله ما يقيهم الأسواء كما قال تعالى لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ( فاطر 35 ) وقال لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ( الإنسان 13 ) إشارة إلى عدم الآلام وفيه لطيفة أيضاً وهي أن حال المكلف إما أن يكون اختلالها بسبب ما فيه من الشغل وإن كان في مكان عال كالقاعد في حر الشمس في البستان المتنزه أو يكون بسبب المكان وإن كان الشغل مطلوباً كملاعبة الكواعب في المكان المكشوف وإما أن يكون بسبب المأكل كالمتفرج في البستان إذا أعوزه الطعام وإما بسبب فقد الحبيب وإلى هذا يشير أهل القلب في شرائط السماع بقولهم الزمان والمكان والإخوان قال تعالى فِى شُغُلٍ فَاكِهُونَ إشارة إلى أنهم ليسوا في تعب وقال هُمْ وَأَزْواجُهُمْ إشارة إلى عدم الوحدة الموحشة وقال فِى ظِلَالٍ عَلَى الاْرَائِكِ مُتَّكِئُونَ إشارة إلى المكان وقال لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَة ٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ إشارة إلى دفع جميع حوائجهم وقوله مُتَّكِئُونَ إشارة إلى أدل وضع على القوة والفراغة فإن القائم قد يقوم لشغل والقاعد قد يقعد لهم وأما المتكىء فلا يتكىء إلا عند الفراغ والقدرة لأن المريض لا يقدر على الإتكاء وإنما يكون مضطجعاً أو مستلقياً والأرائك جمع أريكة وهي السرير الذي عليه الفرش وهو تحت الحجلات فيكون مرئياً هو وما فوقه وقوله لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَة ٌ إشارة إلى أن لا جوع هناك وليس الأكل لدفع

ألم الجوع وإنما مأكولهم فاكهة ولو كان لحماً طرياً لا يقال قوله تعالى وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ ( الواقعة 21 ) يدل على التغاير وصدق الشهوة وهو الجوع لأنا نقول قوله مّمَّا يَشْتَهُونَ يؤكد معنى عدم الألم لأن أكل الشيء قد يكون للتداوي من غير شهوة فقال مما يشتهون لأن لحم الطير في الدنيا يؤكل في حالتين إحداهما حالة التنعم والثانية حالة ضعف المعدة وحينئذ لا يأكل لحم طير يشتهيه وإنما يأكل ما يوافقه ويأمره به الطبيب وأما أنه يدل على التغاير فنقول مسلم ذلك لأن الخاص يخالف العام على أن ذلك لا يقدح في غرضنا لأنا نقول إنما اختار من أنواع المأكول الفاكهة في هذا الموضع لأنها أدل على التنعم والتلذذ وعدم الجوع والتنكير لبيان الكمال وقد ذكرناه مراراً وقوله لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَة ٌ ولم يقل يأكلون إشارة إلى كون زمام الاختيار بيدهم وكونهم مالكين وقادرين وقوله وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ فيه وجوه أحدها لهم فيها ما يدعون لأنفسهم أي دعاؤهم مستجاب وحينئذ يكون هذا افتعالاً بمعنى الفعل كالاحتمال بمعنى الحمل والارتحال بمعنى الرحيل وعلى هذا فليس معناه أنهم يدعون لأنفسهم دعاء فيستجاب دعاؤهم بعد الطلب بل معناه ولهم ما يدعون لأنفسهم أي ذلك لهم فلا حاجة لهم إلى الدعاء والطلب كما أن الملك إذا طلب منه مملوكه شيئاً يقول لك ذلك فيفهم منه تارة أن طلبك مجاب وأن هذا أمر هين بأن تعطي ما طلبت ويفهم تارة منه الرد وبيان أن ذلك لك حاصل فلم تطلبه فقال تعالى ولهم ما يدعون ويطلبون فلا طلب لهم وتقريره هو أن يكون ما يدعون بمعنى ما يصح أن يطلب ودعى يعني كل ما يصح أن يطلب فهوحاصل لهم قبل الطلب أونقول المراد الطلب والإجابة وذلك لأن الطلب من الله أيضاً فيه لذة فلو قطع الله الأسباب بينهم وبينه لما كان يطيب لهم فأبقى أشياء يعطيهم إياها عند الطلب ليكون لهم عند الطلب لذة وعند العطاء فإن كون المملوك بحيث يتمكن من أن يخاطب الملك في حوائجه منصب عظيم والملك الجبار قد يدفع حوائج المماليك بأسرها قصداً منه لئلا يخاطب الثاني ما يدعون ما يتداعون وحينئذ يكون افتعالا بمعنى التفاعل كالاقتتال بمعنى التقاتل ومعناه ما ذكرناه أن كل ما يصح أن يدعو أحد صاحبه إليه أو يطلبه أحد من صاحبه فهو حاصل لهم الثالث ما يتمنونه الرابع بمعنى الدعوى ومعناه حينئذ أنهم كانوا يدعون في الدنيا أن لهم اللهوهو مولاهم وأن الكافرين لا مولى لهم فقال لهم في الجنة ما يدعون به في الدنيا فتكون الحكاية محكية في الدنيا كأنه يقول في يومنا هذا لكن أيها المؤمنون غداً ما يدعون اليوم لا يقال بأن قوله إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ اليَوْمَ فِى شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِى ظِلَالٍ يدل على أن القول يوم القيامة لأنا نقول الجواب عنه عن وجهين أحدهما أن قوله هُمْ مبتدأ وَأَزْواجُهُمْ عطف عليهم فيحتمل أن يكون هذا الكلام في يومنا هذا يخبرنا أن المؤمن وأزواجه في ظلال غداً وله ما يدعيه الجواب الثاني وهو أولى وهو أن نقول معناه لهم ما يدعون أي ما كانوا يدعون لا يقال بأنه إضمار حيث لا ضرورة وإنه غير جائز لأنا نقول على ما ذكرنا يبقى الأدعاء مستعملاف في معناه المشهور لأن الدعاء هو الإتيان بالعدوى وإنما قلنا إن هذا أولى لأن قوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) هو في دار الآخرة وهو كالتفسير لقوله مَّا يَدَّعُونَ ولأن قوله مَّا يَدَّعُونَ مذكور بين جمل كلها في الآخرة فما يدعون أيضاً ينبغي أن يكون في الآخرة وفي الآخرة لا يبقى دعوى وبينة لظهور الأمور والفصل بين أهل البثور والحبور

وقوله تعالى
سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ
هو أكمل الأشياء وهو آخرها الذي لا شيء فوقه ولنبينه في مسائل
المسألة الأولى ما لارفع لقوله سَلَامٌ نقول يحتمل ذلك وجوهاً أحدها هو بدل مما يدعون كأنه تعالى لما قال لَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ ( يس 57 ) بينه ببدله قال لهم سلام فيكون في المعنى كالمبتدأ الذي خبره جار ومجرور كما يقال في الدار رجل ولزيد مال وإن كان في النحو ليس كذلك بل هو بدل وبدل النكرة هو المعرفة جائز فتكون ما بمعنى الذي معرفة وسلام نكرة ويحتمل على هذا أن يقال ما في قوله تعالى مَّا يَدَّعُونَ لا موصوفة ولا موصولة بل هي نكرة تقديره لهم شيء يدعون ثم بين بذكر البدل فقال سَلَامٌ والأول هو الصحيح وثانيها سلام خبر ما ولهم لبيان الجهة تقديره ما يدعون سالم لهم أي خالص والسلام بمعنى السالم الخالص أو السليم يقال عبد السلام أي سليم من العيوب كما يقال لزيد الشرف متوفر والجار والمجرور يكون لبيان من له ذلك والشرف هو المبتدأ ومتوفر خبره وثالثها قوله تعالى سَلَامٌ منقطع عما تقدم وسلام مبتدأ وخبره محذوف تقديره سلام عليهم فيكون ذلك إخباراً من الله تعالى في يومنا هذا كأنه تعالى حكى لنا وقال إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ اليَوْمَ فِى شُغُلٍ ( يس 55 ) ثم لما بين كمال حالهم قال سلام عليهم وهذا كما في قوله تعالى سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ ( الصافات 79 ) سَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ( الصافات 181 ) فيكون الله تعالى أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين وهذا وجه مبتكر جيد ما يدل عليه منقول أو نقول تقديره سلام عليكم ويكون هذا نوعاً من الالتفات حيث قال لهم كذا وكذا ثم قال سلام عليكم
المسألة الثانية قَوْلاً منصوب بماذا نقول يحتمل وجوهاً أحدها نصب على المصدر تقديره على قولنا المراد لهم سلام هو أن يقال لهم سلام يقوله الله قولاً أو تقوله الملائكة قولاً وعلى قولنا ما يدعون سالم لهم تقديره قال الله ذلك قولاً ووعدهم بأن لهم ما يدعون سالم وعداً وعلى قولنا سلام عليهم تقديره أقوله قولاً وقوله مّن رَّبّ رَّحِيمٍ يكون لبيان أن السلام منه أي سلام عليهم من رب رحيم أقوله قولاً ويحتمل أن يقال على هذا إنه تمييز لأن السلام قد يكون قولاً وقد يكون فعلاً فإن من يدخل على الملك فيطأطىء رأسه يقول سلمت على الملك وهو حينئذ كقول القائل البيع موجود حكماً لاحساً وهذا ممنوع عنه قطعاً لا ظناً
المسألة الثالثة قال في السلام مّن رَّبّ رَّحِيمٍ وقال في غيره من أنواع الإكرام نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ( فصلت 32 ) فهل بينهما فرق نقول نعم أما هناك فلأن النزل ما يرزق النزيل أولاً وذلك وإن كان يدل عليه ما بعده فإن النزيل إذا أكرم أو لا يدل على أنه مكرم وإذا أخل بإكرامه في الأول يدل على أنه مهان دائماً غير أن ذلك غير مقطوع به لجواز أن يكون الملك واسع الرزق فيرزق نزيله أولاً ولا يمنع منه الطعام والشراب ويناقشه في غيره فقال غفور لما صدر في العبيد ليأمن العبد ولا يقول بأن الإطعام قد يوجد ممن يعاقب بعده والسلام يظهر مزية تعظيمه للمسلم عليه لا بمغفرة فقال رَبّ غَفُورٌ لأن رب الشيء مالكه الذي إذا نظر إلى علو مرتبته لا يرجى مه الإلتفات إليه بالتعظيم فإذا سلم عليه يعجب منه وقيل انظر هو سيده ويسلم عليه

ثم قال تعالى
وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ
وفيه وجوه منها تبيين وجه الترتيب أيضاً الأول امتازوا في أنفسكم وتفرقوا كما قال تعالى تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ ( الملك 8 ) أي بعضه من بعض غير أن تميزهم من الحسرة والندامة ووجه الترتيب حينئذ أن المجرم يرى منزلة المؤمن ورفعته ونزول دركته وضعته فيتحسر فيقال لهم امتازوا اليوم إذ لا دواء لألمكم ولا شفا لسقمكم الثاني امتازوا عن المؤمنين وذلك لأنهم يكونون مشاهدين لما يصل إلى المؤمن من الثواب والإكرام ثم يقال لهم تفرقوا وادخلوا مساكنكم من النار فلم يبق لكم اجتماع بهم أبداً الثالث امتازوا بعضكم عن بعض على خلاف ما للمؤمن من الاجتماع بالإخوان الذي أشار إليه بقوله تعالى هُمْ وَأَزْواجُهُمْ ( يس 56 ) فأهل النار يكون لهم العذاب الأليم وعذاب الفرقة أيضاً ولا عذاب فوق الفرقة بل العقلاء قالوا بأن كل عذاب فهو بسب تفرق اتصال فإن من قطعت يده أن أحرق جسمه فإنما يتألم بسبب تفرق المتصلات بعضها عن بعض لكن التفرق الجسمي دون التفرق العقلي الرابع امتازوا عن شفعائكم وقرنائكم فما لكم اليوم حميم ولا شفيع الخامس امتازوا عما ترجون واعتزلوا عن كل خير والمجرم هو الذي يأتي بالجريمة ويحتمل أن يقال إن المراد منه أن الله تعالى يقول امتازوا فيظهر عليهم سيما يعرفون بها كما قال تعالى يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ( الرحمن 41 ) وحينئذ يكون قوله تعالى امتازوا أمر تكوين كما أنه يقول كن فيكون كذلك يقول امتازوا فيتميزون بسيماهم ويظهر على جباههم أو في وجهوهم سواء ثم قال تعالى
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابَنِى ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
لما ذكر الله تعالى حال المؤمنين والمجرمين كان لقائل أن يقال إن الإنسان كان ظلوماً جهولاً والجهل من الأعذار فقال الله ذلك عند عدم الإنذار وقد سبق إيضاح السبل بإيضاح الرسل وعهدنا إليكم وتلونا عليكم ما ينبغي أن تفعلوه وما لا ينبغي وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في اللغات التي في أَعْهَدْ وهي كثيرة الأولى كسر همزة إعهد وحروف الاستقبال كلها تكسر إلا الياء فلا يقال يعلم ويعلم الثانية كسر الهاء من باب ضرب يضرب الثالثة قلب العين جيما ألم أجهد وذلك في كل عين بعدها هاء الرابعة إدغام الهاء في الحاء بعد القلب فيقال ألم أحد وقد سمع قوم يقولون دحاء محا أي دعها معها
المسألة الثانية في معنى أعهد وجوه أقربها وأقربها ألم أوص إليكم
المسألة الثالثة في هذا العهد وجوه الأول أنه هو العهد الذي كان مع أبينا آدم بقوله وَعَهِدْنَا إِلَى ءادَمَ ( طه 115 ) الثاني أنه هو الذي كان مع ذرية آدم بقوله تعالى أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) فإن ذلك يقتضي أن لا نعبد غير الله الثالث هو الأقوى أن ذلك كان مع كل قوم على لسان

رسول ولذلك اتفق العقلاء على أن الشيطان يأمر بالشر وإن اختلفوا في حقيقته وكيفيته
المسألة الرابعة قوله لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ معناه لا تطيعوه بدليل أن المنهي عنه ليس هو السجود له فحسب بل الانقياد لأمره والطاعة له فالطاعة عبادة لا يقال فنكون نحن مأمورين بعبادة الأمراء حيث أمرنا بطاعتهم في قوله تعالى أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ ( النساء 59 ) لأنا نقول طاعتهم إذا كانت بأمر الله لا تكون إلا عبادة لله وطاعة له وكيف لا ونفس السجود والركوع للغير إذا كان بأمر الله لا يكون إلا عبادة لله ألا ترى أن الملائكة سجدوا لآدم ولم يكن ذلك إلا عبادة لله وإنما عبادة الأمراء هو طاعتهم فيما لم يأذن الله فيه فإن قيل بماذا تعلم طاعة الشيطان من طاعة الرحمن مع أنا لا نسمع من الشيطان خبراً ولا نرى منه أثراً نقول عبادة الشيطان في مخالفة أمر الله أو الإتيان بما أمر الله لا لأنه أمر به ففي بعض الأوقات يكون الشيطان يأمرك وهو في غيرك وفي بعض الأوقات يأمرك وهو فيك فإذا جاءك شخص يأمرك بشيء فانظر إن كان ذلك موافقاً لأمر الله أو ليس موافقاً فإن لم يكن موافقاً فذلك الشخص مع الشيطان يأمرك بما يأمرك به فإن أطعته فقد عبدت الشيطان وإن دعتك نفسك ألى فعل فانظر أهو مأذون فيه من جهة الشرع أو ليس كذلك فإن لم يكن مأذوناً فيه فنفسك في الشيطان أو معها الشيطان يدعوك فإن اتبعته فقد عبدته ثم إن الشيطان يأمر أولاً بمخالفة الله ظاهراً فمن أطاعه فقد عبده ومن لم يطعه فلا يرجع عنه بل يقول له أعبد الله كي لا تهان وليرتفع عند الناس شأنك وينتفع بك إخوانك وأعوانك فإن أجاب إليه فقد عبده لكن عبادة الشيطان على تفاوت وذلك لأن الأعمال منها ما يقع والعامل موافق فيه جنانه ولسانه وأركانه ومنها ما يقع والجنان واللسان مخالف للجوارح أو للأركان فمن الناس من يرتكب جريمة كارهاً بقلبه لما يقترف من ذبنه مستغفراً لربه يعترف بسوء ما يقترف فهو عبادة الشيطان بالأعضاء الظاهرة ومنهم من يرتكبها وقلبه طيب ولسانه رطب كما أنه تجد كثيراً من الناس يفرح بكون متردداً إلى أبواب الظلمة للسعاية ويعد من المحاسن كونه سارياً مع الملوك ويفتخر به بلسانه وتجدهم يفرحون بكونهم آمرين الملك بالظلم والملك ينقاد لهم أو يفرحون بكونه يأمرهم بالظلم فيظلمون فرحين بما وعد عليهم منا لأمر إذا عرفت هذا فالطاعة التي لهم أو يفرحون بكونه يأمرهم بالظلم فيظلمون فرحين بما ورد عليه من الأمر إذا عرفت هذا فالطاعة التي بالأعضاء الظاهرة والبواطن طاهرة مكفرة بالأسقام والآلام كما ورد في الأخبار ومن ذلك قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الحمى من فيح جهنهم ) وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( السيف محاء للذنوب ) أي لمثل هذا الذنوب ويدل عليه ما قال ( صلى الله عليه وسلم ) في الحدود ( إنها كفارات ) وما يكون بالقلوب فلا خلاص عنه إلا بالتوبة والندم وإقبال القلب على الرب وما يكون باللسان فهو من قبيل ما يكون بالقلب في الظاهر والمثال يوضح الحال فنقول إذا كان عند السلطان أمير وله غلمان هم من خواص الأمير وأتباع بعداءهم من عوام الناس فإذا صدر من الأمير مخالة ومسارة مع عدو السلطان ومصادقة بينهما لا يعفو الملك عن ذلك إلا إذا كان في غاية الصفح أو يكون للأمير عنده يد سابقة أو توبة لاحقة فإن صدر من خواص الأمير مخالفة وهو به عالم ولم يزجره عدت المخالفة موجودة منه وإن كان كارهاً وأظهر الإنكار حسنت معاتبته دون معاقبته لأن إقدام خواصه على المخالفة دليل على سوء التربية فإن كان الصادر من الحواشي الأباعد وبلغ الأمير ولم يزجره عوتب الأمير وإن زجرهم استحق الأمير بذلك الزجر الإكرام وحسن من الملك أن يسدي إلى المزجور الإحسان والإنعام إن علم حصول انزجاره إذا علمت هذا فالقلب أمير واللسان خاصته والأعضاء خدمه فما يصدر من القلب فهو العظيم من الذنب فإن أقبل على محبة غير الله فهو الويل العظيم

والضلال المبين المستعقب للعقاب الأليم والعذاب المهين وما يصدر من اللسان فهو محسوب على القلب ولا يقبل قوله إن لم ينكر فعله وما يصدر من الأعضاء والقلب قد أظهر عليه الإنكار وحصل له الانزجار فهو الذنب الذي حكى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ربه أنه قال ( لو لم تذنبوا لخلقت أقواماً يذنبون ويستغفرون فأغفر لهم ) وههنا لطيفة وهي أن الشيطان قد يرجع عن عبد من عباد الله فرحاً فيظن أنه قد حصل مقصوده من الإغواء حيث يرى ذلك العبد ارتكب الذنب ظاهراً ويكون ذلك رافعاً لدرجة العبد فإن بالذنب ينكسر قلب العبد فيتخلص من الإعجاب فنفسه وعبادته ويصير أقرب من المقربين لأن من يذنب مقرب عند الله كما قال تعالى لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ ( الأنفال 4 ) والمذنب التائب النادم منكسر القلب والله عنده كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) حاكياً عن ربه ( أنا عند المنكسرة قلوبهم ) وفرق بين من يكون عند الله وبين من يكون عنده الله ولعل ما يحكى من الذنوب الصادرة عن الأنبياء من هذا القبيل لتحصل لهم الفضيلة على الملائكة حيث تبجحوا بأنفسهم بقولهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ( البقرة 30 ) وقد يرجع الشيطان عن آخر يكون قد أمر بشيء فلم يفعله والشخص يظن أنه غلب الشيطان ورده خائباً فيتبجح في نفسه وهو لا يعلم أن الشيطان رجح عنه محصل المقصود مقبولاً غير مردود ومن هذا يتبين أمر أصولي وهو أن الناس اختلفوا في أن المذنب هل يخرج من الإيمان أم لا وسبب النزاع وقوع نظر الخمصين على أمرين متباينين فالذنب الذي بالجسد لا بالقلب لا يخرج بل قد يزيد في الإيمان والذي بالقلب يخاف منه الخروج عن ربقة الإيمان ولذلك اختلفوا في عصمة الأنبياء من الذنوب والأشبه أن الجسدي جائز عليهم والقرآن دليل عليه والقلبي لا يجوز عليهم ثم إنه تعالى لما نهى عباده عن عبادة الشطان ذكر ما يحملهم على قبول ما أمروا به والانتهاء عما نهوا عنه بقوله إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى من أين حصلت العداوة بين الشيطان والإنسان فنقول ابتداؤها من الشيطان وسببه تكريم الله نبي آدم لما رأى إبليس ربه كرم آدم وبنيه عاداهم فعاداه الله تعالى والأولى منه لؤم والثاني من الله كرم أما الأول فلأن الملك إذا أكرم شخصاً ولم ينقص من الآخر شيئاً إذ لا ضيق في الخزانة فعداوة من يعادي ذلك المكرم لا تكون إلا لؤماً وأما الثاني فلأن الملك إذا علم أن إكرامه ليس إلا منه وذلك لأن الضعيف ما كان يقدر أن يصل إلى بعض تلك المنزلة لولا إكرام الملك يعلم أن من يبغضه ينكر فعل الملك أو ينسب إلى خزانته ضيقاً وكلاهما يحسن التعذيب عليه فيعاديه إتماماً للإكرام وإكمالاً للإفضال ثم إن كثيراً من الناس على مذهب إبليس إذا رأوا واحداً عند ملك محترماً بغضوه وسعوا فيه إقامة لسنة إبليس فالملك إن لم يكن متخلقاً بأخلاق الله لا يبعد الساعي ويسمع كلامه ويترك إكرام ذلك الشخص واحترامه
المسألة الثانية من أين إبانة عداوة إبليس نقول لما أكرم الله آدم عاده إبليس وظن أنه يبقى في منزلته وآدم في منزلته مثل متباغضين عند الملك والله كان عالماً بالضمائر فأبعده وأظهر أمره فأظهر هو من نفسه ما كان يخفيه لزوال ما كان يحمله على الإخفاء فقال لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( الأعراف 16 ) وقال لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ ( الإسراء 62 )
المسألة الثالثة إذا كان الشيطان للإنسان عدواً مبيناً فما بال الإنسان يميل إلى مراضيه من الشرب والزنا ويكره مساخطه من المجاهدة والعبادة نقول سبب ذلك استعانة الشيطان بأعوان من عند الإنسان

وترك استعانة الإنسان بالله فيستعين بشهوته التي خلقها الله تعالى فيه لمصالح بقائه وبقاء نوعه ويجعلها سبباً لفساد حالة ويدعوه بها إلى مسالك المهالك وكذلك يستعين بغضبه الذي خلقه الله لدفع المفاسد عنه ويجعله سبباً لوبالة وفساد أحواله وميل الإنسان إلى المعاصي كيل المريض إلى المضار وذلك حيث ينحرف المزاج عن الاعتدال فترى المحموم يريد الماء البارد وهو يريد في مرضه ومن به فساد المعدة فلا يهضم القيل من الغذاء يميل إلى الأكل الكثير ولا يشبع بشيء وهو يزيد في معدته فساداً وصحيح المزاج لا يشتهي إلا ما ينفعه فالدنيا كالهواء الوبيء لا يستغني الإنسان فيه عن استنشاق الهواء وهو المفسد لمزاجه ولا طريق له غير إصلاح الهواء بالروائح الطيبة والأشياء الزكية والرش بالخل والماورد من جملة المصلحات فكذلك الإنسان في الدنيا لا يستغني عن أمورها وهي المعنيات للشيطان وطريقه ترك الهوى تقليل التأمين وتحريف الهوى بالذكر الطيب والزهد فإذا صح مزاج عقله لا يميل إلا إلى الحق ولا يبقى عليه في التكاليف كلفة ويحصل له مع الأمور الإلهية ألفة وهنالك يعترف الشيطان بأنه ليس له عليه سلطان ثم قال تعالى
وَأَنِ اعْبُدُونِى هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
لما منع عبادة الشيطان حمل على عبادة الرحمن والشارع طبيب الأرواح كما أن الطبيب طبيب الأشباح وكما أن الطبيب يقول للمريض لا تفعل كذا ولا تأكل من ذا وهي الحمية التي هي رأس الدواء لئلا يزيد مرضه ثم يقول له تناول الدواء الفلاني تقوية لقوته المقاومة للمرض كذلك الشارع منع من المفسد وهو اتباع الشيطان وحمل على المصالح وهو عبادة الرحمن وفيه مسائل
المسألة الأولى عند المنع من عبادة الشيطان قال إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( يس 60 ) لأن العداوة أبلغ الموانع من الاتباع وعند الأمر بعبادة الرحمن لم يقل إنه لكم حبيب لأن المحبة لا توجب متابعة المحبوب بل ربما يورث ذلك الاتكال على المحبة فيقول إنه يحبني فلا حاجة إلى تحمل المشقة في تحصيل مراضيه بل ذكر ما هو أبلغ الأشياء في الحمل على العبادة وذلك كونه طريقاً مستقيماً وذلك لأن الإنسان في دار الدنيا في منزل قفر مخوف وهو متوجه إلى دار إقامة فيها إخوانه والنازل في بادية خالية يخاف على روحه وماله ولا يكون عنده شيء أحب من طريق قريب آمن فلما قال الله تعالى هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ كان ذلك سبباً حاثاً على السلوك وفي ضمن قوله تعالى هَذَا صِراطٌ إشارة إلى أن الإنسان مجتاز لأنه لو كان في دار إقامة فقوله هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ لا يكون له معنى لأن المقيم يقول وماذا أفعل بالطريق وأنا من المقيمين
المسألة الثانية ماذا يدل على كونه طريقاً مستقيماً نقول الإنسان مسافر إما مسافرة راجع إلى وطنه وإما مسافرة تاجر له متاع يتجر فيه وعلى الوجهين فالله هو المقصد وأما الوطن فلأنه لا يوطن في مأمن ولا أمن إلا بملك لا يزول ملكه لأن عند زوال ملك الملوك لا يبقى الأمن والراحة والله سبحانه هو الذي ملكه دائم وكل ما عداه فهو فان وأما التجارة فلأن التاجر لا يقصد إلا إلى موضع يسمع أو يعلم أن لمتاعه

هنا رواجاً والله تعالى يقول إن العمل الصالح عنده مثاب عليه مقابل بأضعاف ما يستحق والله عون المقصد وعبادته توجه إليه ولا شك أن القاصد لجهة إذا توجه إليها يكون على الطريق المستقيم
المسألة الثالثة العبادة تنبىء عن معنى التذلل فلما قال لا تعبدوا الشيطان لزم أن يتكبر الإنسان على ما سوى الله ولما قال وَأَنِ اعْبُدُونِى ينبغي أن لا يتكبر على الله لكن التكبر على ما سوى الله ليس معناه أن يرى نفسه خيراً من غيره فإن نفسه من جملة ما سوى الله فنبغي أن لا يلتفت إليها ولو كانت متجملة بعبادة الله بل معنى التكبر على ما سوى الله أن لا ينقاد لشيء إلا بإذن الله وفي هذا التكبر غاية التواضع فإنه حينئذ لا ينقاد إلى نفسه وحظ نفسه في التفوق على غيره فلا يتفوق فيحصل التواضع التام ولا ينقاد لأمر الملوك إذا خالفوا أمر الله فيحصل التكبر التام فيرى نفسه بهذا التكبر دون الفقير وفوق الأمير
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الجبل ست لغات كسر الجيم والباء مع تشديد اللام وضمهما مع التشديد وكسرهما مع التخفيف وضمهما معه وتسكين الباء وتخفيف اللام مع ضم الجيم ومع كسره
المسألة الثانية في معنى الجبل الجيم والباء واللام لا تخلو عن معنى الاجتماع والجبل فيه اجتماع الأجسام الكثيرة وجبل الطين فيه اجتماع أجزاء الماء والتراب وشاة لجباء إذا كانت مجتمعة اللبن الكثير لا يقال البلجة نقض على ما ذكرتم فإنها تنبىء عن التفرق فإن الأبلج خلاف المقرون لأنا نقول هي لاجتماع الأماكن الخالية التي تسع المتمكنات فإن البلجة والبلدة بمعنى والبلد سمي بلداً للاجتماع لا للتفرق فالجبل الجمع العظيم حتى قيل إن دون العشرة آلاف لا يكون جبلاً وإن لم يكن صحيحاً
والمسألة الثالثة كيف الإضلال نقول على وجهين أحدهما أن الإضلال توليه عن المقصد وصد عنه فالشيطان يأمر البعض بترك عبادة الله وبعبادة غيره فهو توليه فإن لم يقدر يأمره بعبادة الله لأمر غير الله من رياسة وجاه غيرهما فهو صد وهو يفضي إلى التولية لأن مقصوده لو حصل لترك الله وأقبل على ذلك الغير فتحصل التولية
ثم بين مآل أهل الضلال بقوله تعالى
هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ
وحال الضال كحال شخص خرج من وطنه مخافة عدوه فوقع في مشقة ولو أقام في وطنه لعل ذلك العدو كان لا يظفر به أو يرحمه كذلك حال من لم يتحرك لطاعة ولا عصيان كالمجانين وحال من استعمال عقله فأخطأ الطريق فإن المجنون من أهل النجاة وإن لم يكن من أهل الدرجات وقد قيل بأن البلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء وذلك ظاهر في المحسوس فإن من لم يعرف الطريق إذا أقام بمكانه لا يبعد عن الطريق كثيراً ومن سار إلاى خلاف المقصد يبعد عنه كثيراً
ثم بين أنهم واصلون إليها حاصلون فيها بقوله تعالى
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
وفي هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحسرتهم من ثلاثة أوجه أحدها قوله تعالى اصْلَوْهَا فإنه أمر تنكيل وإهانة كقوله ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) والثاني قوله الْيَوْمَ يعني العذاب

حاضر ولذاتك قد مضت وأيامها قد انقضت وبقي اليوم العذاب الثالث وقوله تعالى بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فإن الكفر والكفارن ينبى عن نعمة كانت يكفر بها وحياء الكفور من المنعم من أشد الآلام ولهذا كثيراً ما يقول العبد المجرم افعلوا بي ما يأمر به السيد ولا تحضروني بين يديه وإلى هذا المعنى أشار القائل
أليس بكاف لذي نعمة حياء المسيء من المحسن
ثم قال تعالى
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
في الترتيب وجوه الأول أنهم حين يسمعون قوله تعالى بِمَا كَتَمَ تَكْفُرُونِ ( يس 64 ) يريدون ( أن ) ينكروا كفرهم كما قال تعالى عنهم ما أشركنا وقالوا آمنا به فيختم الله على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار وينطق الله غير لسانه منا لجوارح فيعترفون بذنوبهم الثاني لما قال الله تعالى لهم أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ ( يس 60 ) لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا وتكلمت أعضاؤهم غير اللسان وفي الختم على الأفواه وجوه أقواها أن الله تعالى يسكت ألسنتهم فلا ينطقون بها وينطق جوارحهم فتشهد علهيم وإنه في قدرة الله يسير أما الإسكات فلا خفاء فيه وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة فكما جاز تحركه بها جاز تحري غيره بمثلها والله قادر على الممكنات والوجه الآخر أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرءوس وقوف القنوط اليؤوس لا يجد عذراً فييعتذر ولا مجال توبة فيستغفر وتكلم الأيدي ظهور الأمور بحيث لا يسع معه الإنكار حتى تنطق به الأيدي والأبصار كم يقال القائل الحيطان تبكي على صاحب الدار إشارة إلى ظهور الحزن والأول الصحيح وفيه لطائف لفظية ومعنوية
أما اللفظية فالأولى منها هي أن الله تعالى أسند فعل الختم إلى نفسه وقال نَخْتِمُ وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل لأنه لو قال تعالى نختم على أفواههم وتنطق أيديهم يكون فيه احتمال أن ذلك منهم كان جبراً وقهراً والإقرار بالإجبار غير مقبول قال تعالى وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ أي باختيارها بعد ما يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم الثانية منها هي أن الله تعالى قال وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ جعل الشهادة للأرجل والكلام للأيدي لأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى وَمَا عَلِمْتَهُ أَيْدِيهِمْ ( يس 35 ) أي ما عملوه وقال وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ ( البقرة 195 ) أي ولا تلقوا بأنفسكم فإذا الأيدي كالعاملة والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من جملة الشهود لبعد إضافة الأفعال إليها وأما المعنوية فالأولى منها أن يوم القيامة من تقبل شهادته من القربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو على العدو غيرم قبولة وإن كان من الشهود العدول وغير الصديقين من الكفار والفساق غير مقبول الشهادة فجعل الله الشاهد عليهم منهم لا يقال الأيدي والأرجل أيضاً صدرت الذنوب منها فهي فسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتها لأنا نقول في رد شهادتها قبول شهادتها لأنها إن كذبت في مثل ذلك اليوم فقد صدر الذنب منها في ذلك اليوم والمذنب في ذلك اليوم مع ظهور الأمور لا بد من أن يكون مذنباً في الدنيا وإن صدقت في ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا وهذا كمن قال لفاسق إن كذبت في نهار

هذا اليوم فعبدي حر فقال الفاسق كذبت في نهار هذا اليوم عتق العبد لأنه إن صدق في قوله كذبت في نهار هذا اليوم فقد وجد الشرط ووجب الجزاء وإن كذب في قوله كذبت فقد كذب في نهار ذلك اليوم فوجد الشرط أيضاً بخلاف ما لو قال في اليوم الثاني كذبت في نهار اليوم الذي علقت عتق عبدك على كذبي فيه
المسألة الثانية الختم لازم الكفار في الدنيا على قلوبهم وفي الآخرة على أفواههم ففي الوقت الذي كان الختم على قلوبهم كان قولهم بأفواههم كما قال تعالى ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِمْ ( التوبة 30 ) فلما ختم على أفواههم أيضاً لزم أن يكون قولهم بأعضائهم لأن الإنسان لا يملك غير القلب واللسان والأعضاء فإذا لم يبق القلب والفم تعين الجوارح والأركان ثم قال تعالى
وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُواْ الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ
وقد ذكرنا مراراً أن الصراط المستقيم هو بين الجبر والقدر هو الطريقة الوسطى والله تعالى في كل موضع ذكر ما يتمسك به المجبرة ذكر عقيبه ما يتمسك به القدرية وبالعكس وههنا كذلك لما قال الله تعالى وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( يس 65 ) وقال اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ( يس 64 ) وكان ذلك متمسك القدرية حيث أسند الله الكفر والكسب إليهم وأحال الخير والشر عليهم ذكر عقيبه ما يدل على أن كفرهم وكسبهم بمشيئة الله وذلك لأن الكفر يعمي البصيرة ويضعف القوة العقلية وعمى البصيرة بإرادة الله ومشيئته إذا شاء أعمى البصائر كما أنه لو شاء لطمس على أعينهم المبصرة وسلب القوة العقلية باختياره ومشيئته كما أن سلب القوة الجمسية بمشيئته حتى لو شاء لمسخ المكلف على مكانته وأقامه بحيث لا يتحرك يمنة ولا يسرة ولا يقدر على المضي والرجوع فإعماء البصائر عنده كإعماء الأبصار وسلب القوة العقلية كسلب القوة الجسمية فقال وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ إشارة إلى أنه لو شاء وأراد إعماء بصائرهم فضلوا وأنه لو شاء طمس أعينهم لما اهتدوا إلى طريقتهم الظاهرة وشاء واختار سلب قوة عقولهم فزلوا وإنه لو شاء سلب قوة أجسامهم ومسخهم لما قدروا على تقدم ولا تأخر وفي الآيتين أبحاث لفظية
البحث الأول في قوله فَاسْتَبَقُواْ الصّراطَ قال الزمخشري فيه وجوه الأول أنه يكون فيه حذف حرف إلى واتصال الفعل من غير حرف وأصله فاستبقوا إلى الصراط الثاني أن يكون المراد من الاستباق الابتدار مبالغة في الاهتداء إلى الطريق كأنه يقول الصراط الذي هو معهم ليسوا طالبين له قاصدين إياه وإنما هم عليه إذا همس الله على أعينهم لا يبصرونه فكيف إن لم يكونوا على الصراط
البحث الثاني قدم الطمس والإعمار على المسخ والإعجاز ليكون الكلام مدرجاً كأنه قال إن أعماهم لم يروا الطريق الذي هم عليه وحينئذ لا يهتدون إليه فإن قال قائل الأعمى قد يهتدي إلى الطريق

بأمارات عقلية أو حسية غير حس البصر كالأصوات والمشي بحس اللمس فارتقى وقال فلو مسخهم وسلب قوتهم بالكلية لا يهتدون إلى الصراط بوجه من الوجوه
البحث الثالث قدم المضي على الرجوع لأن الرجوع أهون من المضي لأن المضي لا ينبيء عن سلوك الطريق من قبل وأما الرجوع فينبيء عنه ولا شك أن سلوك طريق قد رؤي مرة أهون من سلوك طريق لم ير فقال لا يستطيعون مضياً ولا أقل من ذلك وهو الرجوع الذي هو أهون من المضي
وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ
فقد ذكرنا أن قوله تعالى أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ ( يس 60 ) قطع للأعذار بسبق الإنذار ثم لما قرر ذلك وأتمه شرع في قطع عذر آخر وهو أن الكافر يقول لم يكن لبثنا في الدنيا إلا يسيراً ولو عمرتنا لما وجدت منا تقصيراً فقال الله تعالى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ إِنَّكُمْ كُلَّمَا دَخَلْتُمْ فِى نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ( فاطر 37 ) ثم إنكم علمتم أن الزمان كلما يعبر علكيم يزداد ضعفكم فضيعتم زمان الإمكان فلو عمرناكم أكثر من ذلك لكان بعده زمان الإزمان ومن لم يأت بالواجب زمان الإمكان ما كان يأتي به زمان الإزمان
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ
في الترتيب وجهان قد ذكرنا أن الله في كل موضع ذكر أصلين من الأصول الثلاثة وهي الوحدانية والرسالة والحشر ذكر الأصل الثالث منها وههنا ذكر الأصلين الوحدانية والحشر أما الوحدانية ففي قوله تعالى أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى وَإِذْ أَخَذَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ ( يس 60 ) وفي قوله وَأَنِ اعْبُدُونِى هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( يس 61 ) وأما الحشر ففي قوله تعالى اصْلَوْهَا الْيَوْمَ ( يس 64 ) وفي قوله الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ ( يس 65 ) إلى غير ذلك فلما ذكرهما وبينهما ذكر الأصل الثالث وهو الرسالة فقال وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءانٌ مُّبِينٌ وقوله وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشّعْرَ إشارة إلى أنه معلم من عند الله فعلمه ما أراد ولم يعلمه ما لم يرد وفي تفسير الآية مباحث
البحث الأول خص الشعر بنفي التعليم مع أن الكفار كانوا ينسبون إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أشياء من جملتها السحر ولم يقل وما علمناه السحر وكذلك كانوا ينسبونه إلى الكهانة ولم يقل وما علمناه الكهانة فنقول أما الكهانة فكانوا ينسبون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليها عندما كان يخبر عن الغيوب ويكون كما يقول وأما السحر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغير كشق القمر وتكلم الحصى والجذع وغير ذلك وأما الشعر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يتلوا القرآن عليهم لكنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان يتحدى إلا بالقرآن كما قال تعالى وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ

( البقرة 23 ) إلى غير ذلك ولم يقل إن كنتم في شك من رسالتي فأنطقوا الجذوع أو أشبعوا الخلق العظيم أو أخبروا بالغيوب فلما كان تحديه ( صلى الله عليه وسلم ) بالكلام وكانوا ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفي التعليم
البحث الثاني ما معنى قوله وَمَا يَنبَغِى لَهُ قلنا قال قوم ما كان يتأتي له وآخرون ما يتسهل له حتى أنه إن تمثل بيت شعر سمع منه مزاحفاً يروي أنه كان يقول ( صلى الله عليه وسلم ) ( ويأتيك من لم تزود بالأخبار ) وفيه وجه أحسن من ذلك وهو أن يحمل ما ينبغي له على مفهومه الظاهر وهو أن الشعر ما كان يليق به ولا يصلح له وذلك لأن الشعر يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن فالشارع يكون اللفظ منه تبعاً للمعنى والشاعر يكون المعنى منه تبعاً للفظ لأنه يقصد لفظاً به يصح وزن الشعر أو قافيته فيحتاج إلى التحيل لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ وعلى هذا نقول الشعر هو الكلام الموزون الذي قصد إلى وزنه قصداً أولياً وأما من يقصد المعنى فيصدر موزوناً مقفى فلا يكون شاعراً ألا ترى إلى قوله تعالى لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) ليس بشعر والشاعر إذا صدر منه كلام فيه متحركات وساكنات بعدد ما في الآية تقطيعه بفاعلاتن فاعلاتن يكون شعراً لأنه قصد الإتيان بألفاظ حروفها متحركة وساكنة كذلك والمعنى تبعه والحكيم قصد المعنى فجاء على تلك الألفاظ وعلى هذا يحصل الجواب عن قول من يقول إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر بيت شعر وهو قوله أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
أو بيتين لأنا نقول ذلك ليس بشعر لعدم قصده إلى الوزن والقافية وعلى هذا لو صدر من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلام كثير موزون مقفى لا يكون شعراً لعدم قصده اللفظ قصداً أولياً ويؤيد ما ذكرنا أنك إذا تتبعت كلام الناس في الأسواق تجد فيه ما يكون موزوناً واقعاً في بحر من بحور الشعر ولا يسمى المتكلم به شاعراً ولا الكلام شعراً لفقد القصد إلى اللفظ أولاً ثم قوله تعالى وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ يحقق ذلك المعنى أي هو ذكر وموعظة للقصد إلى المعنى والشعر لفظ مزخرف بالقافية والوزن وههنا لطيفة وهي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن من الشعر لحكمة ) يعني قد يقصد الشاعر اللفظ فيوافقه معنى حكمي كما أن الحكيم قد يقصد معنى فيوافقه وزن شعري لكن الحكيم بسبب ذلك الوزن لا يصير شاعراً والشاعر بسبب ذلك الذكر يصير حكيماً حيث سمي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شعره حكمة ونفى الله كون النبي شاعراً والشاعر بسبب ذلك الذكر يصير حكيماً حيث سمي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شعره حكمة ونفي الله كون النبي شاعراً وذلك لأن اللفظ قالت المعنى والمعنى قلب اللفظ وروحه فإذا وجد القلب لا نظر إلى القالب وفيكون الحكيم الموزون كلامه حكيماً ولا يخرجه عن الحكمة وزن كلامه والشاعر الموعظ كلامه حكيماً

لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ
قريء بالتاء والياء خطاباً مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبالياء على وجهين أحدهما أن يكون المنذر هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث سبق ذكره في قوله وَمَا عَلَّمْنَاهُ ( يس 69 ) وقوله وَمَا يَنبَغِى لَهُ ( يس 69 ) وثانيهما أن يكون المراد أن القرآن ينذر والأول أقرب إلى المعنى والثاني أقرب إل اللفظ أما الأول فلأن المنذر صفة للرسل أكثر وروداً من المنذر صفة للكتب وأما الثاني فلأن القرآن أقرب المذكورين إلى قوله لّيُنذِرَ وقوله مَن كَانَ حَيّاً أي من كان حي القلب ويحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد من كان حياً في علم الله فينذره به فيؤمن الثاني أن يكون المراد لينذر به من كان حياً في نفس الأمر أي من آمن فينذره بما على المعاصي من العقاب وبما على الطاعة من الثواب وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ أما قول العذاب وكلمته كما قال تعالى وَلَاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( السجدة 13 ) وقوله تعالى حَقَّتْ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ ( الزمر 71 ) وذلك لأن الله تعالى قال وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( الإسراء 15 ) فإذا جاء حق التعذيب على من وجد منه التكذيب وأما القول المقول في الوحدانية والرسالة والحشر وسائر المسائل الأصولية الدينية فإن القرآن فيه ذكر الدلائل التي بها تثبت المطالب
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ
ثم إنه تعالى أعاد الوحدانية ودلائل دالة عليها فقال تعالى أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً أي ) من جملة ما عملت أيدينا أي ما عملناه من غير معين ولا ظهير بل عملناه بقدرتنا وإرادتنا
وقوله تعالى فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ إشارة إلى إتمام الإنعام في خلق الأنعام فإنه تعالى لو خلقها ولم يملكها الإنسان ما كان ينتفع بها
وقوله وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ زيادة إنعم فإن المملوك إذا كان آبياً متمرداً لا ينفع فلو كان الإنسان يملك الأنعام وهي نادة صادة لما تم الإنعام الذي في الركوب وإن كان يحصل الأكل كما في الحيوانات الوحشية بل ما كان يكمل ننعمة الأكل أيضاً إلا بالتعب الذي في الاصطياد ولعل ذلك لا يتهيأ ( إلا ) للبعض وفي البعض
وقوله تعالى فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ بيان لمنفعة التذليل إذ لولا التذليل لما وجدت إحدى المنفعتين وكانت الأخرى قليلة الوجود
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ
ثم بين تعالى غير الركوب والأكل من الفوائد بقوله تعالى وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ وذلك لأن من الحيوانات ما لا يركب كالغنم فقال منافع لتعمها والمشارب كذلك عامة إن قلنا بأن المراد جمع مشرب وهو الآنية فإن من الجلود ما يتخذ أواني للشرب والأدوات من القرب وغيرها وإن قلنا إن المراد المشروب وهو الألبان والأسمان فهي مختصة بالإناث ولكن بسبب الذكور فإن ذلك متوقف على الحمل وهو بالذكور والإناث

ثم قال تعالى أَفَلاَ يَشْكُرُونَ هذه النعم التي توجب العبادة شكراً ولو شكرتم لزادكم من فضله ولو كفرتم لسلبها منكم فما قولكم أفلا تشكرون استدامة لها واستزادة فيها ثم قال تعالى
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ
ثم بين تعالى غير الركوب والأكل من الفوائد بقوله تعالى وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ وذلك لأن من الحيوانات ما لا يركب كالغنم فقال منافع لتعمها والمشارب كذلك عامة إن قلنا بأن المراد جمع مشرب وهو الآنية فإن من الجلود ما يتخذ أواني للشرب والأدوات من القرب وغيرها وإن قلنا إن المراد المشروب وهو الألبان والأسمان فهي مختصة بالإناث ولكن بسبب الذكور فإن ذلك متوقف على الحمل وهو بالذكور والإناث
ثم قال تعالى أَفَلاَ يَشْكُرُونَ هذه النعم التي توجب العبادة شكراً ولو شكرتم لزادكم من فضله ولو كفرتم لسلبها منكم فما قولكم أفلا تشكرون استدامة لها واستزادة فيها ثم قال تعالى
وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءَالِهَة ً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ
إشارة إلى بيان زيادة ضلالهم ونهايتها فإنهم كان الواجب عليهم عبادة الله شكراً لأنعمه فتركوها وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع وتوقعوا منه النصرة مع أنهم هم الناصرون لهم كما قال عنهم حَرّقُوهُ وَانصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ ( الأنبياء 68 ) وفي الحقيقة لا هي ناصرة ولا منصورة وقوله تعالى
لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّ حْضَرُونَ
إشارة إلى الحشر بعد تقرير التوحيد وهذا كقوله تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ( الأنبياء 98 ) وقوله احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الْجَحِيمِ ( الصافات 22 23 ) وقوله أُوْلَئِكَ فِى الْعَذَابِ ( سبأ 38 ) وهو يحتمل معنيين أحدهما أن يكون العابدون جنداً لما اتخذوه آلهة كما ذكرنا الثاني أن يكون الأصنام جنداً للعابدين وعلى هذا ففيه معنى لطيف وهو أنه تعالى لما قال لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ أكدها بأنهم لا يستطيعون نصرهم حال ما يكونون جنداً لهم ومحضرون لنصرتهم فإن ذلك دال على عدم الاستطاعة فإن من حضر واجتمع ثم عجز عن النصرة يكون في غاية الضعف بخلاف م نلم يكن متأهباً ولم يجمع أنصاره
فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَة ٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّ بِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِى َ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
وقوله تعالى فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إشارة إلى الرسالة لأن الخطاب معه بما يوجب تسلية قلبه دليل اجتبائه واختياره إياه
وقوله تعالى إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ بِهِ عِندَ رَبّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ من النفاق وَمَا يُعْلِنُونَ من الشرك والثاني ما يسرون من العلم بك وما يعلنون من الكفر بك الثالث ما يسرون من العقائد الفاسدة وما يعلنون من الأفعال القبيحة
ثم إنه تعالى لما ذكر دليلاً من الآفاق على وجوب عبادته بقوله أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً ( يس 71 ) ذكر دليلاً من الأنفس فقال أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَة ٍ قيل إن المراد بالإنسان أبيّ بن خلف فإن الآية وردت فيه حيث أخذ عظماً بالياً وأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إنك تقول إن إلهك يحيي هذه العظام فقال رسو الله ( صلى الله عليه وسلم ) نعم ويدخلك جهنم وقد ثبت في أصول الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ألا ترى أن قوله تعالى قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا ( المجادلة 1 ) عمومها فنقول فيها لطائف

اللطيفة الأولى قوله أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ( يس 71 ) معناه الكافرون المنكرون التاركون عبادة الله المتخذون من دونه آلهة أو لم يروا خلق الأنعام لهم وعلى هذا فقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ كلام أعم من قوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ لأنه مع جنس الإنسان وهو مع جمع منهم فنقول سبب ذلك أن دليل الأنفس أشمل وأكمل وأتم وألزم فإن الإنسان قد يغفلعن الإنعام وخلقها عند غيبتها ولكن ( لا يغفل ) هو مع نفسه متى ما يكون وأينما يكون فقال إن غاب عن الحيوان وخلقه فهو لا يعيب عن نفسه فما باله أولم ير أنا خلقناه من نطفة وهو أتم نعمة فإن سائر النعم بعد وجوده وقوله مِن نُّطْفَة ٍ إشارة إلى وجه الدلالة وذلك لأن خلقه لو كان من أشياء مختلفة مختلفة الصور كان يمكن أن يقال العظم خلق من جنس صلب واللحم من جنس رخو وكذلك الحال في كل عضو ولما كان خلقه عن خطفة متشابهة الأجزاء وهو مختلف الصور دل على الاختيار والقدرة إلى هذا أشار بقوله تعالى يُسْقَى بِمَاء واحِدٍ ( الرعد 4 )
وقوله فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ فيه لطيفة غريبة وهي أنه تعالى قال اختلاف صور أعضائه مع تشابه أجزاء ما خلق منه آية ظاهرة ومع هذا فهنالك ما هو أظهر وهو نطقه وفهمه وذلك لأن النطفة جسم فهب أن جاهلاً يقول إنه استحال وتكون جسماً آخر لكن القوة الناطقة والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب من إبداع الخلق والجسم وهو إلى إدراك القدرة والاختيار منه أقرب فقوله خَصِيمٌ أي ناطق وإنما ذكر الخصيم مكان النطق لأنه أعلى أحوال الناطق فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه وهو يتكلم مع غيره والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصماً لا يبين ولا يجتهد مثل ما يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه وقوله مُّبِينٌ إشارة إلى قوة عقله واختار الإبانة لأن العاقل عند الإفهام أعلى درجة منه عند عدمه لأن المبين بان عنده الشيء ثم أبانه فقوله تعالى مِن نُّطْفَة ٍ إشارة إلى أدنى ما كان عليه وقوله خصيم مبين إشارة إلى أعلى ما حصل عليه وهذا مثل قوله تعالى خصيم مبين إشارة إلى أعلى ما حصل عليه وهذا مثل قوله تعالى إشارة إلى أعلى ما حصل عليه وهذا مثل قوله تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَة َ مُضْغَة ً إلى أن قال تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً ( المؤمنون 14 ) فما تقدم من خلق النطفة علقة وخلق العلقة مضغة وخلق المضغة عظاماً إشارة إلى التغيرات في الجسم وقوله ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً إشارة إلى ما أشار إليه بقوله فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ أي ناطق عاقل
ثم قوله تعالى وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِى َ خَلْقَهُ إشارة إلى بيان الحشر وفي هذه الآيات إلى آخر السورة غرائب وعجائب نذكرها بقدر الإمكان إن شاء الله تعالى فنقول المنكرون للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلاً ولا شبهة واكتفى بالاستبعاد وادعى الضرورة وهم الأكثرون ويدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم في كثير من المواضع بلفظ الاستبعاد كما قال وَقَالُواْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ( السجدة 10 ) أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( الصافات 16 ) أَءنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدّقِينَ ( الصافات ) إئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون ( الصافات 53 ) إلى غير ذلك فكذلك ههنا قال ( الصافات 53 ) إلى غير ذلك فكذلك ههنا قال قَالَ مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ على طريق الاتسبعاد فبدأ أولاً بإبطال استبعادهم بقوله وَنَسِى َ خَلْقَهُ أي نسي أنا خلقناه من تراب

ومن نطفة متشابهة الأجزاء ثم جعلنا لهم من النواصي إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصور والقوام وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل لذي ( ن ) بهما استحقوا الإكرام فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن محل الحياة أصلاً ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه ثم إن استبعادهم كان من جهة ما في المعاد من التفتت والتفرق حيث قالوا مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ اختاروا العظم للذكر لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البلى والتفتت والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في المعيد من القدرة والعلم فقال وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً أي جعل قدرتنا كقدرتهم ونسي خلقه العجيب وبدأه الغريب ومنهم من ذكر شبهة وإن كانت في آخرها تعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين أحدهما أنه بعد العدم لم يبق شيئاً فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود وأجاب عن هذه الشبهة بقوله تعالى
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً كذلك يعيده وإن لم يبق شيئاً مذكوراً وثانيها أن من تفرقت أجزاؤه ف مشارق العالم ومغاربه وصار بعضه في أبدان السباع وبعضه في جدران الرباع كيف يجمع وأبعد من هذا هو أن إنساناً إذا أكل إنساناً وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل فإن أعيد فأجزاء المأول إما أن تعاد إلى بدن الآكل فلا يبقى للمأكول أجزاء تخلق منها أعضاؤه وإما أن تعاد إلى بدن المأكول منه فلا يبقى للآكل أجزاء فقال تعالى في إبطال هذه الشبهة دوهو بكل خلق عليم ووجهه هو أن في الآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول كذلك فإذا أكل إنسان إنساناً صار الأصلي من أجزاء المأكول فضلياً من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان له قبل الأكل ووجهه هو أن في الآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول كذلك فإذا أكل إنسان إنساناً صار الأصلي من أجزاء المأكول فضلياً من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان له قبل الأكل وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ يعلم الأصلي من الفضلي فيجمع الأجزاء الأصلي للآكل وينفخ فيها روحه ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيها روحه وكذلك يجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع المبددة في الأصقاع بحكمته الشاملة وقدرته الكاملة
ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال إنكارهم وعنادهم فقال تعالى
الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاٌّ خْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ
ووجهه هو أن الإنسان مشتمل على جسم يحس به وحياة سارية فيه وهي كحرارة جارية فيه فإن استبعدتم وجود حرارة وحياة فيه فلا تستبعدوه فإن النار في الشجر الأخضر الذي يقطر منه الماء أعجب وأغرب وأنتم تحضرون حيث من توقدون وإن استبعدتم خلق جسمه فخلق السموات والأرض أكبر من خلق أنفسكم فلا تستبعدوه فإن الله خلق السموات والأرض فبان لطف قوله تعالى الَّذِى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشَّجَرِ الاْخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ

أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ والأرض بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ
وقوله تعالى أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم قدم ذكر النار في الشجر على ذكر الخلق الأكبر لأن استبعادهم كان بالصريح واقعاً على الأحياء حيث قالوا مَن يُحى ِ الْعِظَامَ ( يس 78 ) ولم يقولوا من يجمعها ويؤلفها والنار في الشجر تناسب الحياة
وقوله تعالى بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ إشارة إلى أنه في القدرة كامل وقوله تعالى الْعَلِيمُ إشارة إلى أن علمه شامل ثم أكد بيانه بقوله تعالى
إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
وهذا إظهار فساد تمثيلهم وتشبيههم وضرب مثلهم حيث ضربوا لله مثلاً وقالوا لا يقدر أحد على مثل هذا قياساً للغائب على الشاهد فقال في الشاهد الخلق يكون بالآلات البدنية والانتقالات المكانية ولا يقع إلا في الأزمنة الممتدة والله يخلق بكن فيكون فكيف تضربون المثل الأدنى وله المثل الأعلى من أن يدرك وفي الآية مباحث
البحث الأول قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن المعدوم شيء لأنه يقول لما أراده كُنْ فَيَكُونُ فهو قبل القول له كن لا يكون وهو في تلك الحالة شيء حيث قال إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً والجواب أن هذا بيان لعدم تخلف الشيء عن تعلق إرادته به فقوله إِذَا مفهوم الحين والوقت والآية دالة على أن المراد شيء حين تعلق الإرادة به ولا دلالة فيها على أنه شيء قبل ما إذا أراد وحينئذٍ لا يرد ما ذكروه لأن الشيء حين تعلق الإرادة به شيء موجود لا يريده في زمان ويكون في زمان آخر بل يكون في زمان تعلق ازرادة فإذاً الشيء هو الموجود لا المعدوم لا يقال كيف يريد الموجود وهو موجود فيكون ذلك إيجاداً لموجود نقول هذا الإشكال من بال المعقولات ونجيب عنه في موضعه وإنما غرضنا إبطال تمسكهم باللفظ وقد ظهر أن المفهوم من هذا الكلام أنه يريد ما هو شيء إذا أراد وليس في الآية أنه إذا أراد ما كان شيئاً قبل تعلق الإرادة
البحث الثاني قالت الكرامية لله إرادة محدثة بدليل قوله تعالى إِذَا أَرَادَ ووجه دلالته من أمرين أحدهما من حيث إنه جعل للإرادة زماناً فإن إذا ظرف زمان وكل ما هو زماني فهو حادث وثانيهما هو أنه تعالى جعل إرادته متصلة بقوله كُنَّ وقوله كُنَّ متصل بكون الشيء ووقوعه لأنه تعالى قال يَكُونَ بفاء التعقيب لكن الكون حادث وما قبل الحادث متصل به حادث والفلاسفة وافقوهم في هذا الإشكال من وجه آخر فقالوا إرادته متصلة بأمره وأمره متصل بالكون ولكن إرادته قديمة فالكون قديم فمكونات الله قديمة وجواب الضالين من التمسك باللفظ هو أن المفهوم من قوله إِذَا أَرَادَ من حيث اللغة إذا تعلقت إرادته بالشي لأن قوله أَرَادَ فعل ماض وإذا دخلت كلمة إذا على الماضي تجعله في معنى المستقبل ونحن نقول أن مفهوم قولنا أراد ويريد وعلم ويعلم يجوز أن يدخله الحدوث وإنما نقول لله تعالى صفة قديمة هي الإرادة وتلك الصفة إذا تعلقت بشيء نقول أراد ويريد وقبل التعلق لا نقول أراد وإنما نقول له إرادة وهو بها مريد ولنضرب مثالاً للأفهام الضعيفة ليزول ما يقع في الأوقام السخيفة فنقول قولنا فلان خياط يراد به أن له صنعة الخياطة فلو لم يصح منا أن نقول إنه خاط ثوب زيد أو يخيط ثوب زيد لا يلزم منه نفي صحة قولنا إنه خياط بمعنى أن له صنعة بها يطلق عليه عند استعماله تلك الصنعة في ثوب زيد في زمان ماض خاط ثوبه وبها يطلق عليه عند استعماله تلك الصنعة في ثوب زيد في زمان مستقبل يخيط ثوبه ولله المثل الأعلى فافهم أن الإرادة أمر ثابت إن تعلقت بوجو شيء نقول أراد وجوده أي يريد وجوده وإذا علمت هذا فهو في المعنى من

كلام أهل السنة تعلق الإرادة حادث وخرج بما ذكرنا جواب الفريقين
البحث الثالث قالت المعتزلة والكرامية كلام الله حرف وصوت وحادث لأن قوله كُنَّ كلام وَكُنْ من حرفين والحرف من الصوت ويلزم من هذا أن كلامه من الحروف والأصوات وأما أنه حادث فلما تقدم من الوجهين أحدهما أنه زماني والثاني أنه متصل بالكون والكون حادث والجواب يعلم مما ذكرنا وذلك لأن الكلام صفة إذا تعلقت بشيء تقول قال ويقول فتعلق الخطاب حادث والكلام قديم فقوله تعالى إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فيه تعلق وإضافة لأن قوله تعالى يَقُولُ لَهُ باللام للإضافة صريح في التعلق ونحن نقول إن قوله للشيء الحادث حادث لأنه مع التعلق وإنما القديم قوله وكلامه لا مع التعلق وكل قديم وحادث إذا نظرت إلى مجموعهما لا تجدهما في الأزل وإنما تجدهما جميعاً فيما لا يزال فله معنى الحديث ولكن الإطلاق موهم فتفكر جداً ولا تقل المجموع حادث من غير بيان مرادك فإن ذلك قد يفهم منه أن الجميع حادث بل حقق الإشارة وجود العبارة وقل أحد طرفي المجموع قديم والآخر حادث ولم يكن الآخر معه في الأزل وأما قوله كُنَّ من الحروف نقول الكلام يطلق على معنيين أحدهما ما عند المتكلم والثاني ما عند السامع ثم إن أحدهما يطلق عليه أنه هو الآخر ومن هذا يظهر فوائد أما بيان ما ذكرناه فلأن الإنسان إذا قال لغيره عندي كلام أريد أن أقوله لك غداً ثم إن السامع أتاه غداً وسأله عن الكلام لذي كان عنده أمس فيقول له إني أريد أن تحضر عندي اليوم فهذا الكلام أطلق عليه المتكلم أنه كان عندك أمس ولم يكن عند السامع ثم حصل عند السامع بحرف وصوت ويطلق عليه أن هذا الذي سمعت هو الذي كان عندي ويعلم كل عاقل أن الصوت لم يكن عند المتكلم أمس ولا الحرف لأن الكلام الذي عنده جاز أن يذكره بالعربي فيكون له حروف وجاز أن يذكره بالفارسية فيكون له حروف أخر والكلام الذي عنده ووعد به واحد والحروف مختلفة كثيرة فإذاً معنى قوله هذا ما كان عندي هو أن هذا يؤيدي إليك ما كان عندي وهذا أيضاً مجاز لأن الذي عنده ما انتقل إليه وإنما علم ذلك وحصل عنده به علم مستفاد من السمع أو البصر في القراءة والكتابة أو ازشارة إذا علمت هذا فالكلام الذي عند الله وصفة له ليس بحرف على ما بان والذي يحصل عند السامع حرف وصوت وأحدهما الآخر لما ذكرنا من المعنى وتوسع الإطلاق فإذا قال تعالى ( يقول له ) حصل قائل وسامع فاعتبرها من جانب السامع لكون وجود الفعل من السامع لذلك القول فعبر عنه بالكاف والنون الذي يحدث عند السامع ويحدث به المطلوب ثم قال تعالى
فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَى ْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
لما تقررت الوحدانية والإعادة وأنكروها وقالوا بأن غير الله آلهة قال تعالى وتنزه عن الشريك الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَى ْء وكل شيء ملكه فكيف يكون المملوك للمالك شريكاً وقالوا بأن الإعادة لا تكون فقال دوإليه ترجعون رداً عليهم في الأمرين وقد ذكرنا ما يتعلق بالنحو في قوله سبحان أي سبحوا تسبيح الذي أو سبح من في السموات والأرض تسبيح الذي رداً عليهم في الأمرين وقد ذكرنا ما يتعلق بالنحو في قوله سبحان أي سبحوا تسبيح الذي أو سبح من في السموات والأرض تسبيح الذي فَسُبْحَانَ علم للتسبيح والتسبيح هو التنزيه والملكوت مبالغة في الملك كالرحموت والرهبوت وهو فعلول أو فعلوت فيه كلام ومن قال هو فعلول

جعلوه ملحقاً به
ثم إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس ) وقال الغزالي فيه إن ذلك لأن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر والحشر مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه فجعله قلب القرآن لذلك واستحسنه فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى سمعته يترحم عليه بسبب هذا الكلام
ويمكن أن يقال بأن هذه السورة ليس فيها إلا تقرير لأصول الثلاثة بأقوى البراهين فابتداؤها بيان الرسالة بقوله إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( يس 3 ) ودليلها ما قدمه عليها بقوله وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ ( يس 2 ) وما أخره عنها بقوله لِتُنذِرَ قَوْماً ( يس 6 ) وانتهاؤها بيان الوحدانية والحشر بقوله فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَى ْء إشارة إلى التوحيد وقوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إشارة إلى الحشر وليس في هذه السورة إلا هذه الأصول الثلاثة ودلائله وثوابه ومن حصل من القرآن هذا القدر فقدحصل نصيب قلبه وهو التصديق الذي بالجنان وأما وظيفة اللسان التي هي القول فكما في قوله تعالى وَجِيهاً يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً ( الأحزاب 70 ) وفي قوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً ( فصلت 33 ) وقوله تعالى بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ( إبراهيم 27 ) وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى ( الفتح 26 ) وَإِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) إلى غير هذه مما في غير هذه السورة ووظيفة الأركان وهو العمل كما في قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى ( البقرة 110 ) وقوله تعالى وَلاَ تَقْرَبُواْ بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ ( الإسراء 32 33 ) وقوله وَاعْمَلُواْ صَالِحاً ( المؤمنون 51 ) وأيضاً مما في غير هذه السورة فلما لم يكن فيها إلا أعمال القلب لا غير سماها قلباً ولهذا ورد في الأخبار أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ندب إلى تلقين يس لمن دنا منه الموت وقراءتها عند رأسه لأن في ذلك الوقت يكون اللسان ضعيف القوة والأعضاء الظاهرة ساقطة البنية لكن القلب يكون قد أقبل على الله ورجع عن كل ما سواه فيقرأ عند رأسه ما يزاد به قوة قلبه ويشتد تصديقه بالأصول الثلاثة وهي شفاء له وأشرار كلام الله تعالى وكلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يعلمها إلا الله وروله وما ذكرناه ظن لانقطع به ونرجو الله أن يرحمنا وهو أرحم الراحمين

سورة الصافات
مائه واثنتان وثمانون آية مكية
وَالصَّافَّاتِ صَفَّا فَالزَاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو وحمزة وَالصَّافَّاتِ صَفَّا بإدغام التاء فيما يليه وكذلك في قوله فَالزجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً والباقون بالإظهار وقال الواحدي رحمه الله إدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين ألا ترى أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا يسمعان في الهمس ولامدغم فيه يزيد على المدغم بالإطباق والصفير وإدغام الأنقص في الأزيد حسن ولا يجوز أن يدغم الأزيد صوتاً في الأنقص وأيضاً إدغام التاء في الزاي في قوله فَالزجِراتِ زَجْراً حسن لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة وفيها زيادة صفير كما كان في الصاد وأيضاً حسن إدغام التاء في الذي في قوله فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً لاتفاقهما في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وأما من قرأ بازظهار وترك الإدغام فذلك لاختلاف المخارج والله أعلم
المسألة الثانية في هذه الأشياء الثلاثة المذكورة المقسم بها يحتمل أن يتكون صفات ثلاثة لموصوف واحد ويحتمل أن تكون أشياء ثلاثة متباينة أما على التقدير الأول ففيه وجوه الأول أنها صفات الملائكة وتقديره أن الملائكة يقفون صفوفاً إما في السموات لأداء العبادات كما أخبر الله عنهم أنهم قالوا وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ( الصافات 165 ) وقيل إنهم يصفون أجنحتهم في الهواء يقفون منتظرين وصول أمر الله إليهم ويحتمل أيضاً أن يقال معنى كونهم صفوفاً أن لكل واحد منهم مرتبة معينة ودرجة معينة في الشرف والفضيلة أو في الذات والعلية وتلك الدرجة المرتبة باقية غير متغيرة وذلك يشبه الصفوف
وأما قوله فَالزجِراتِ زَجْراً فقال الليث يقال زجرت البعير فأنا أجزره زجراً إذا حثثته ليمضي

وزجرت فلاناً عن سوء فانزجر أي نهيته فانتهى فعلى هذا الزجر للبعير كالحث وازنسان كالنهي إذا عرفت هذا فنقول في وصف الملائكة بالزجر وجوه الأول قال ابن عباس يريد الملائكة الذي وكلوا بالسحاب يزوجرونها بمعنى أنهم يأتون بها من موضع إلى موضع الثاني المراد منه أن الملائكة لهم تأثيرات في قلوب بني آدم على سبيل الإلهامات فهم يزجرونهم عن المعاصي زجراً الثالث لعل الملائكة أيضاً يزجرون الشياطين عن التعرض لبني آدم بالشر والإيذاء وأقول قد ثبت في العلوم العقلية أن الموجودات على ثلاثة أقسام مؤثر لا يقبل الأثر وهو الله سبحانه وتعالى وهو أشرف الموجودات ومتأثر لا يؤثر وهم عالم الأجسام وهو أخس الموجودات وموجود يؤثر في شيء ويتأثر عن شيء آخر وهو عالم الأرواح وذلك لأنها تقبل الأثر عن عالم كبرياء الله ثم إنها تؤثر في عالم الأجسام واعلم أن الجهة التي باعتبارها تقبل الأثر من عالم كبرياء الله غير الجهة التي باعتبارها تستولي على عالم الأجسام وتقدر على التصرف فيها وقوله فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إشارة إلى الأشرف من الجهة التي باعتبارها تقوى على التأثير في عالم الأجسام إذا عرفت هذا فقوله وَالصَّافَّاتِ صَفَّا إشارة إلى وقوفها صفاً صفاً في مقام العبودية والطاعة بالخشوع والخضوع وهي الجهة التي باعتبارها تقبل تلك الجواهر القدسية أصناف الأنوار الإلهية والكمالات الصمدية وقوله تعالى فَالزجِراتِ زَجْراً إشارة إلى تأثير الجواهر الملكية في تنوير الأرواح القدسية البشرية وإخراجها من القوة إلى الفعل وذلك لما ثبت أن هذه الأرواح النطقية البشرية بالنسبة إلى أرواح الملائكة كالقطرة بالنسبة إلى البحر وكالشعلة بالنسبة إلى الشمس وأن هذه الأرواح البشرية بالنسبة إلى أرواح الملائكة كالقطرة بالنسبة إلى البحر وكالشعلة بالنسبة إلى الشمس وأن هذه الأرواح البشرية إنما تنتقل من القول إلى الفعل في المعارف الإلهية والكمالات الروحانية بتأثيرات جواهر الملائكة ونظيره قوله تعالى يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ ( النحل 2 ) وقوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 192 193 ) وقوله تعالى فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً ( المرسلات 5 ) إذا عرفت هذا فنقول في هذه الآية دقيقة أخرى وهي أن الكمال المطلق للشيء إنما يحصل إذا كان تاماً وفوق التام والمراد بكونه تاماً أن تحصل جميع الكمالات اللائقة به حصولاً بالفعل والمراد بكونه فوق التام أن تفيض منه أصناف الكمالات والسعادات على غيره ومن المعلوم أن كونه كاملاً في ذاته مقدم على كونه مكملاً لغيره إذا عرفت هذا فقوله وَالصَّافَّاتِ صَفَّا إشارة إلى استكمال جواهر الملائكة في ذواتها وقت وقوفها في مواقف العبودية وصفوف الخدمة والطاعة وقوله تعالى فَالزجِراتِ زَجْراً إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي عن جواهر الأرواح البشرية وقوله تعالى فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إفاضة الجلايا القدسية والأنوار الإلهية على الأرواح الناطقة البشرية فهذه مناسبات عقلية واعتبارات حقيقية تنطبق عليها هذه الألفاظ الثلاثة قال أبو مسلم الأصفهاني لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة لأنها مشعرة بالتأنيث والملائكة مبرءون عن هذه الصفة والجواب من وجهين الأول أن الصافات جمع الجمع فإنه يقال جماعة صافة ثم يجمع على صافات والثاني أنهم مبرءون عن التأنيث المعنوي أما التأنيث في اللفظ فلا وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة في هذا الوجه الثاني أن تحمل هذه الصافات على النفوس البشرية الطاهرة المقدسة المقبلة على عبودية الله تعالى الذين هم ملائكة الأرض وبيانه من وجهين الأول أن قوله تعالى وَالصَّافَّاتِ صَفَّا المراد الصفوف الصحالة عند أداء الصلوات بالجماعة

وقوله فَالزجِراتِ زَجْراً إشارة إلى قراءة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كأنهم بسبب قراءة هذه الكلمة يزجرون الشياطين عن إلقاء الوساوس في قلوبهم في أثناء الصلاة وقوله فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إشارة إلى قراءة القرآن في الصلاة وقيل فَالزجِراتِ زَجْراً إشارة إلى رفع الصوت بالقراءة كأنه يزجر الشيطان بواسطة رفع الصوت روى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) طاف على بيوت أصحابه في الليالي فسمع أبا بكر يقرأ بصوت منخفض وسمع عمر يقرأ بصوت رفيع فسأل أبا بكر لم تقرأ هكذا فقال المعبود سميع عليم وسأل عمر لم تقرأ هكذا فقال أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان الوجه الثاني في تفسير هذه الألفاظ الثلاث في هذه الآية أن المراد من قوله وَالصَّافَّاتِ صَفَّا الصفوف الحاصلة من العلماء المحقين الذين يدعون إلى دين الله تعالى والمراد من قوله فَالزجِراتِ زَجْراً اشتغالهم بالزجر عن الشبهات والشهوات والمراد من قوله تعالى فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً اشتغالهم بالدعوة إلى دين الله والترغيب في العمل بشرائع الله الوجه الثالث في تفسير هذه الألفاظ الثلاثة أن نحملها على أحوال الغزاة والمجاهدين في سبيل الله فقوله وَالصَّافَّاتِ صَفَّا المراد منه صفوف القتال لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً ( الصف 4 ) وأما ( الزاجرات زجراً ) فالزجرة والصيحة سواء والمراد منه رفع الصوت بزجر الخيل وأما ( التاليات ذكراً ) فالمراد اشتغال الغزاة وقت شروعهم في محاربة العدو بقراءة القرآن وذكر الله تعالى بالتهليل والتقديس الوجه الرابع في تفسير هذه الألفاظ الثلاثة أن نجعلها صفات لآيات القرآن فقوله ( والصافات صفاً ) المراد آيات القرآن فإنها أنواع مختلفة بعضها في دلائل التوحيد وبعضها في دلائل العلم والقدرة والحكمة وبعضها في دلائ النبوة وبعضها في دلائل المعاد وبعضها في بيان التكاليف والأحكام وبعضها في تعليم الأخلاق الفاضلة وهذه الآيات مرتبة ترتيباً لا يتغير ولا يتبدل فهذه الآيات تشبه أشخاصاً واقفين في صفوف معينة قولوه فَالزجِراتِ زَجْراً المراد منه الآيات الزاجرة عن الأفعال المنكرة وقوله فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً المراد منه الآيات الدالة على وجوب الإقدام على أعمال البر والخير وصف الآيات بكونها تالية على قانون ما يقال شعر شاعر وكلام قائل قال تعالى إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ ( الإسراء 9 ) وقال يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ ( يس 1 2 ) قيل الحكيم بمعنى الحاكم فهذه جملة الوجوه المحتملة على تقدير أن تجعل هذه الألفاظ الثلاثة صفات لشيء واحد وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد بهذه الثلاثة أشياء متغايرة فقيل الرماد بقوله وَالصَّافَّاتِ صَفَّا الطير من قوله تعالى وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ( النور 41 ) ( والزاجرات ) كل ما زجر عن معاصي الله ( والتالي ) كل ما يتلى من كتاب الله وأقول فيه وجه آخر وهو أن مخلوقات الله إما جسمانية وإما روحانية أما الجسمانية فإنها مرتبة على طبقات ودرجات لا تتغير ألبتة فالأرض وسط العالم وهي محفوفة بكرة الماء والماء محفوف بالهواء والهواء محفوف بالنار ثم هذه اوربعة محفوفة بكرات الأفلاك إلى آخر العالم الجسماني فهذه الأجسام كأنها صفوف واقفة على عتبة جلال الله تعالى وأما الجواهر الروحانية فهي على اختلاف درجاتها وتباين صفاتها مشتركة في صفتين أحدهما التأثير في عالم الأجسام بالتحريك والتصريف وإليه الإشارة بقوله فَالزجِراتِ زَجْراً فإنا قد بينا أن المراد من هذا الزجر السوق والتحريك والثاني

الإدراك والمعرفة والاستغارق في معرفة الله تعالى والثناء عليه وإليه الإشارة بقوله تعالى فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً ولما كان الجسم أدنى منزلة من الأرواح المستقلة فالتصرف في الجسمانيات أدون منزلة من الأرواح المستغرقة في معرفة جلال الله المقبلة على تسبيح الله كما قال وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) لا جرم بدأ في المرتبة الأولى بذكر الأجسام فقال وَالصَّافَّاتِ صَفَّا ثم ذكر في المرتبة الثانية الأرواح المدبرة لأجسام هذا العالم ثم ذكر في هذه المرتبة الثالثة أعلى الدرجات وهي الأرواح المقدسة المتوجهة بكليتها إلى معرفة جلال الله والاستغراق في الثناء عليه فهذه احتمالات خطرت بالبال والعالم بأسرار كلام الله تعالى ليس إلا الله
المسألة الثالثة للناس في هذا الموضع قولان الأول قول من يقول المقسم به ههنا خالق هذه الأشياء لا أعيان هذه الأشياء واحتجوا عليه بوجوه الأول أنه ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن الحلف بغير الله فكيف يليق بحكمة الله أن يحلف بغير الله والثاني أن الحلف بالشيء في مثل هذا الموضع تعظيم عظيم للمحلوف به ومثل هذا التعظيم وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالاْرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( الشمس 5 7 ) والقول الثاني قول من يقول إن القسم واقع بأعيان هذه الأشياء واحتجوا عليه بوجوه الأول أن القسم وقع بهذه الأشياء بحسب ظاهر اللفظ فالعدول عنه خلال الدليل والثاني أنه تعالى قال وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا فعلق لفظ القسم بالسماء ثم عطف عليه القسم بالباني للسماء فلو كان المراد من القسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التكرار في موضع واحد وأنه لا يجوز الثالث أنه لا يبعد أن تكون الحكمة في قسم من الله تعالى بهذه الأشياء التنبيه على شرف ذواتها وكمال حقائقها لا سيما إذا حملنا هذه الألفاظ على الملائكة فإنه تكون الحكمة في القسم بها التنبيه على جلالة درجاتها وكمال مراتبها والله أعلم فإن قيل ذكر الحلف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجوه الأول أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أوعند الكافر والأول باطل لأن المؤمن مقر به سواء حصل الحلف أو لم يحصل فهذا الحلف عديم الفائدة على كل التقديرات الثاني أنه تعالى حلف في أول هذه السورة على أن الإله واحد وحلف في أول سورة والذاريات على أن القيامة حق فقال وَالذرِيَاتِ ذَرْواً إلى قوله إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ ( الذاريات 1 6 ) وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف واليمين لا يليق بالعقلاء والجواء من وجوه الأول أنه تعالى قرر التوحيد وصحة البعث والقيامة في سائر السور بالدلائل اليقينية فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها فذكر القسم تأكيداً لما تقدم لا سيما والقرآن إنما أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلف واليمين طريقة مألوفة عند العرب والوجه الثاني في الجواب أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشياء على صحة قوله تعالى إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ذكر عقيبه ما هو كالدليل اليقيني في كون الإله واحداً وهو قوله تعالى رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ وذلك لأنه تعالى بين في قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) أن انتظام أحوال السموات والأرض يدل على أن الإله واحد ففهنا لما قال إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ أردفه بقوله رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ كأنه قيل قد بينا أن النظر في انتظام هذا العالم دل على كون الإله واحداً فتأملوا في ذلك الدليل ليحصل لكم العلم بالتوحيد الوجه الثالث في الجواب أن المقصود من هذا

الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم بأنها آلهة فكأنه قيل هذا المذهب قد بلغ في السقوط والركاكة إلى حيث يكفي في إبطاله مثل هذه الحجة والله أعلم
المسألة الرابعة أما دلالة أحوال السموات والأرض على وجود الإله القادر العالم الحكيم وعلى كونه واحداً منزهاً عن الشريك فقد سبق تقريرها في هذا الكتاب مراراً وأطواراً وأما قوله تعالى وَرَبُّ الْمَشَارِقِ فيحتمل أن يكون المراد مشارق الشمس قال السدي المشارق ثلاثمائة وستون مشرقاً وكذلك المغارب فإنه تطلع الشمس كل يوم من مشرق وتغرب كل يوم في مغرب ويحتمل أن يكون المراد مشارق الكواكب لأن لكل كوكب مشرقاً ومغرباً فإن فيل لم أكتفي بذكر المشارق قلنا لوجهين الأول نه اكتفى بذكر المشارق كقوله تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( النحل 81 ) والثاني أن الشرق أوقى حالاً من الغروب وأكثر نفعاً من الغروب فذكر الشرق تنبيهاً على كثرة إحسان الله تعالى على عباده ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم عليه السلام بالمشرق فقال فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ ( لبقرة 258 )
المسألة الخامسة احتج الأصحاب بقوله تعالى رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا على كونه تعالى خالقاً لأعمال العباد قالوا لأن أعمال العباد موجود فيما بين السموات والأرض وهذه الآية دالة على أن كل ما حصل بين السموات والأرض فالله ربه ومالكه فهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله وإن قالوا الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السموات والأرض لأن هذا الوصف إنما يليق بما يكون حاصلاً في حيز وجهة والأعراض ليست كذلك قلنا إنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السموات والأرض فهي أيضاً حاصلة بين السماء والأرض ثم قال تعالى
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَة ٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الاٌّ عْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَة َ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة وحفص عن عاصم زينة منونة الكواكب بالجر وهو قراءة مسروق بن الأجدع قال الفراء وهو رد معرفة على نكرة كما قال بِالنَّاصِيَة ِ نَاصِيَة ٍ ( العلق 15 16 ) فرد نكرة على معرفة وقال الزجاج الكواكب بدل من الزينة لأنها هي كما تقول مررت بأبي عبد الله زيد وقرأ عاصم بالتنوين في الزين ونصب الكواكب قال الفراء يريد زينا الكواكب وقال الزجاج يجوز أن تكون الكواكب في النصف بدلاً من قوله بزينة لأن بزينة في موضع نصب وقرأ الباقون ( بزينة الكواكب ) بالجر على الإضافة
المسألة الثانية بين تعالى أنه زين السماء الدنيا وبين أنه إنما زينها لمنفعتين إحداهما تحصيل الزينة والثانية الحفظ من الشيطان المارد فوجب أن نحقق الكلام في هذه المطالب الثالاثة أما الأول

وهو تزيين السماء الدنيا بهذه الكواكب فلقائل أن يقول إنه ثبت في علم الهيئة أن هذه الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة وأن السيارات الستة مركوزة في الكرات الست المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَة ٍ الْكَواكِبِ والجواب أن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إذا نظروا إلى السماء فإنهم يشاهدونها مزينة بهذه الكواكب وعلى أنا قد بينا في علم الهيئة أن الفلاسفة لم يتم لهم دليل في بيان أن هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن ولعلنا شرحنا هذا الكلام في تفسير سورة تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ ( الملك 1 ) في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ( الملك 5 ) وأما المطلوب ال ثاني وهو كون هذه الكواكب زينة السماء الدنيا ففيه بحثان
البحث الأول أن الزينة مصدر كالنسبة واسم لما يزن به كالليقة اسم لما تلاق به الدواة قال صاحب الكشاف وقوله بِزِينَة ٍ الْكَواكِبِ يحتملهما فإن أردت المصدر فعلى إضافته إلى الفاعل أي بأن زينتها الكواكب أو على إضافته إلى المفعول أي بأن زان الله الكواكب وحسنها لأنا إنما زينت السماء بحسنها في أنفسها وإن أردت الاسم فللإضافة وجهان أن تقع الكواكب بياناً للزينة لأن الزينة قد تحصل بالكواكب وبغيرها وأن يراد ما زينت به الكواكب
البحث الثاني في بيان كيفية كون الكواكب زينة للسماء وجوه الأول أن النور والضوء أحسن الصفات وأكملها فإن تحصل هذه الكواكب المشرقة المضيئة في سطح الفلك لا جرم بقي الضوء والنور في جرم الفلك بسبب حصول هذه الكواكب فيها قال ابن عباس بِزِينَة ٍ الْكَواكِبِ أي بضوء الكواكب الوجه الثاني يجوز أن يراد أشكالها المتناسبة المختلفة كشكل الجوزاء وبنات نعش والثريا وغيرها الوجه الثالث يجوز أن يكون المراد بهذه الزينة كيفية طلوعها وغروبها الوجه الرابع أن الإنسان إذا نظر في الليلة الظلماء إلى سطح الفلك ورأى هذه الجواهر الزواهر مشرقة لامعة متلألئة على ذلك السطح الأزرق فلا شك أنها أحسن الأشياء وأكملها في التركيب والجوهر وكل ذلك يفيد كون هذه الكواكب زينة وأما المطلوب الثالث وهو قوله وَحِفْظاً مّن كُلّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ففيه بحثان
البحث الأول فيما يتعلق باللغة فقوله وَحِفْظاً أي وحظناها قال المبرد إذا ذكرت فعلاً ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله مثل قولك أفعل وكرامة لأنه لما قال أفعل علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال فكان المعنى أفعل ذلك وأكرمك كرامة قال ابن عباس يريد حفظ السماء بالكواكب و مّن كُلّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ يريد الذي تمرد على الله قيل إنه الذي لا يتمكن منه وأصله من الملاسة ومنه قوله صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ ( النمل 44 ) ومنه الأمرد وذكرنا تفسير المارد عند قوله مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ ( التوبة 101 )
البحث الثاني فيما يتعلق بالمباحث العقلية في هذا الموضع فنقول الاستقصاء فيه مذكور في قوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( الملك 5 ) قال المفسرون الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب وكانوا يخبرونهم به ويوهمونهم أنهم يعلمون الغيب فمنعهم الله تعالى من الصعود إلى قرب السماء بهذه الشهب فإنه تعالى يرميهم بها فيحرقهم بها وبقي ههنا سؤالات

السؤال الأول هذه الشهب هل هي من الكواكب التي زين الله السماء بها أم لا والأول باطل لأن هذه الشهب تبطل وتضمحل فلو كانت هذه الشهب تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن يظهر نقصان كثير من أعداد كواكب السماء ومعلوم أن هذا المعنى لم يوجد ألبتة فإن أعداد كواكب السماء باقية في حالة واحدة من غير تغير ألبتة وأيضاً فجعلها رجوماً للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء فكأن الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض وأما القسم الثاني وهو أن يقال إن هذه الشهب جنس آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهذا أيضاً مشكل لأنه تعالى قال في سورة تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ ( الملك 1 ) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( الملك 5 ) فالضمير في قوله وَجَعَلْنَاهَا عائد إلى المصابيح فوجب أن تكون تلكالمصابيح هي الرجوع بأعيانها من غير تفاوت والجواب أن هذه الشهب غير تلك الثواقب الباقية وأما قوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( الملك 5 ) فنقول كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصابيح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الدهر آمنة من التغير والفساد ومنها ما لا يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوماً للشياطين وبهذا التقدير فقد زال الإشكال والله أعلم
السؤال الثاني كيف يجوز أن تذهب الشياطين إلى حيث يعلمون بالتجويز أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم ألبتة وهل يمكن أن يصدر مثل هذا الفعل عن عاقل فكيف من الشياطين الذين لهم مزبة في معرفة الحيل الدقيقة والجواب أن حصول هذه الحالة ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة فربما صاروا إلى موضع تصيبهم فيه الشهب وربما صاروا إلى غيره ولا يصادفون الملائكة فلا تصيبهم الشهب فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعض الأوقات جاز أن يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنه لا تصيبهم الشهب فيها كما يجوز فيمن يسلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة هذا ما ذكره أبو علي الجبائي من الجواب عن هذا السؤال في تفسيره ولقائل أن يقول إنهم إذا صعدوا فإما أن يصلوا إلى مواضع الملائكة أو إلى غير تلك المواضع فإن وصلوا إلى مواضع الملائكة احتلقوا وإن وصلوا إلى غير مواضع الملائكة لم يفوزوا بمقصودهم أصلاً فعلى كلا التقديرين المقصود غير حاصل إذا حصلت هذه التجربة وثبت بالاستقراء أن الفوز بالمقصود محال وجب أن يمتنعوا عن هذا العمل وأن لا يقدموا عليه أصلاً بخلاف حال المسافرين في البحر فإن الغالب عليهم السلامة والفوز بالمقصود أما ههنا فالشيطان الذي يسلم من الاحتراق إنما يسلم إذا لم يصل إلى مواضع الملائكة وإذا لم يصل إلى تلك المواضع لم يفز بالمقصود فوجب أن لا يعود إلى هذا العمل ألبتة والأقرب في الجواب أن نقول هذه الوقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب كونها نادرة بين الشياطين والله أعلم
السؤال الثالث قالوا دلت التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلاً قبل مجيء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فءن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه إذا ثبت أن ذلك كان موجوداً قبل مجيء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) امتنع حمله على مجيء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أجاب القاضي بأن الأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لكنها كثرت في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فصارت بسبب الكثرة معجزة

السؤال الرابع الشيطان مخلوق من النار قال تعالى حكاية عن إبليس خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ ( الأعراف 12 ) وقال وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( الحجر 27 ) ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار والجواب يحتمل أن الشياطين وإن كانوا من النيران إلا أنها نيران ضعيفة فإن وصلت نيران الشهب إليهم وتلك النيران أقوى حالاً منهم لا جرم صار الأقوى مبطلاً للأضف ألا ترى أن السراج الضعيف إذا رجع في النار القوية فإنه ينطفىء فكذلك ههنا
السؤال الخامس أن مقر الملائكة هو السطح الأعلى من الفلك والشياطين لا يمكنهم الوصول إلا إلى الأقرب من السطح الأسفل من الفلك فيبقى جرم الفلك مانعاً من وصول الشياطين إلى القرب من الملائكة ولعل الفلك عظيم المقدار دفع حصول هذا المانع العظيم كيف يعقل أن تسمع الشياطين كلام الملائكة فإن قلتم إن الله تعالى يقوي سمع الشيطان حتى يسمع كلام الملائكة فنقول فعلى هذا التقدير إذا كان الله تعالى يقوي سمع الشيطان حتى يسمع كلام الملائكة وجب أن لا ينفي سمع الشيطان وإن كان لا يريد منع الشيطان من العمل فما الفائدة في رميه بالرجوم فالجواب مذهبنا أن أفعال الله تعالى غير مللة فيفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله فهذا ما يتعلق بمباحث هذا الباب وإذا أضيف ما كتبناه ههنا إلى ما كتبناه في سورة الملك وفي سائر الآيات المشتملة على هذه المسألة بلغ تمام الكفاية في هذا الباب والله أعلم
وأما قوله لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الاْعْلَى ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم لاَ يَسْمَعُونَ بتشديد السين والميم وأصله يتسمعون فأدغمت التاء في السين لاشتراكهما في الهمس والتسمع تطلب السماع يقال تسمع سمع أو لم يسمع والباقون بتخفيف السين واختار أبو عبيد التشديد في يسمعون قال لأن العرب تقول تسمعت إلى فلان ويقولون سمعت فلاناً ولا يكادون يقولون سمعت إلى فلان وقيل في تقوية هذه القراءة إذا نفى التسمع فقد نفى سمعه وحجة القراءة الثانية قوله تعالى إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ( الشعراء 212 ) وروى مجاهد عن ابن عباس أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى ثم يمنعون فلا يسمعون وللأولين أن يجيبوا فيقولون التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من كونهم معزولين أيضاً عن التسمع بدلالة هذه الآية بل هو أقوى في ردع الشياطين ومنعهم من استماع أخبار السماء فإن الذي منع من الاستماع فبأن يكون ممنوعاً من السمع أولى
المسألة الثانية الفرق بين قولك سمعت حديث فلان وبين قولك سمعت إلى حديثه بأن قولك سمعت حديثه يفيد الإدراك وسمعت إلى حديثه يفيد الإصغاء مع الإدراك
المسألة الثالثة في قوله لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ قولان الأول وهو المشهور أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا فلما حذف الناصب عاد الفعل إلى الرفع كما قال الاْنثَيَيْنِ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) وكما قال رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ( لقمان 10 ) قال صاحب ( الكشاف ) حذف أن واللام كل واحد منهما جائز بانفراده أما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صوت القرآن عنها والقول الثاني وهو الذي

اختاره صاحب ( الكشاف ) أنه كلام مبتدأ منقطع عما قبله وهو حكاية حال المسترقة للسمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن ذلك المقصود
المسألة الرابعة الملأ الأعلى لملائكة لأنهم يسكنون السموات وأما الإنس والجن فهم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض
واعلم أنه تعالى وصف أولئك الشياطين بصفات ثلاثة الأولى أنهم لا يسمعون الثانية أنهم يقذفون من كل جانب دحوراً وفيه أبحاث
الأول قد ذكرنا معنى الدحور في سورة الأعراف عند قوله اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءومًا مَّدْحُورًا ( الأعراف 18 ) قال المبرد الدحور أشد الصغار والذل وقال ابن قتيبة دحرته دحراً ودحوراً أي دفعته وطردته
البحث الثاني في انتصاب قوله دُحُوراً وجوه الأول أنه انتصب بالمصدر على معنى يدحرون دحوراً ودل على الفعل قوله تعالى وَيَقْذِفُونَ الثاني التقدير ويقذفون للدحول ثم حذف اللام الثالث قال مجاهد دحوراً مطرودين فعلى هذا هو حال سميت بالمصدر كالركوع والسجود والحضور
البحث الثالث قرأ أبو عبد الرحمن السملي دحوراً بفتح الدال قال الفراء كأنه قال يقذفون يدحرون بما يدحر ثم قال ولست أشتهي الفتح لأنه لو وجد ذلك على صحة لكان فيها الباء كما تقول يقذفون بالحجارة ولا تقول يقذفون الحجارة إلا أنه جائز في الجملة كما قال الشاعر تعال اللحم للأضياف نيئاً
أي تعالى باللحم الصفة الثالثة قوله تعالى وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ والمعنى أنهم مرجومون بالشهب وهذا العذاب مسلط عليهم على سبيل الدوام وذكرنا تفسير الواصب في سورة النحل عند قوله تعالى دوله الدين واصباً ( النحل 52 ) قالوا كلهم إنه الدائم قال الواحدي ومن فسر الواصب بالشديد والموجع فهو معنى وليس بتفسير
ثم قال تعالى ( النحل 52 ) قالوا كلهم إنه الدائم قال الواحدي ومن فسر الواصب بالشديد والموجع فهو معنى وليس بتفسير
ثم قال تعالى إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَة َ ذكرنا معنى الخطف في سورة الحج قال الزجاج وهو أخذ الشيء بسرعة وأصل خطف اختطف قال صاحب ( الكشاف ) مِنْ في محل الرفع بدل من الواو في لا يسمعون أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف الخطبة أي اختلس الكلمة على وجه المسارقة فَأَتْبَعَهُ يعني لحقه وأصابه يقال تبعه وأتبعه إذا مضى في أثره وأتبعه إذا لحقه وأصله من قوله تعالى فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ( الأعراف 175 ) وقد مر تفسيره وقوله تعالى شِهَابٌ ثَاقِبٌ قال الحسن ثاقب أي مضيء وأقول سمي ثاقباً لأنه يثقب بنوره الهواء قال ابن عباس في تفسير قوله وَالنَّجْمِ الثَّاقِبُ ( الطارق 3 ) قال إنه رجل سمي بذلك لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات والله أعلم
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ

في الآية مسائل
المسألة الأولى في بيان النظم اعلم أنا قد ذكرنا أن المقصد الأقصى من هذا الكتاب الكريم إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيات والمعاد والنبوة وإثبات القضاء والقدر فنقول إنه تعاى افتتح هذه السورة بإثبات ما يدل على وجود الصانع ويدل على وحدانيته وهو خلق السموات والأرض وما بينهما وخلق المشارق والمغارب فلما أحكم الكلام في هذا الباب فرع عليها إثبات القول بالحشر والنشر والقيامة
واعلم أن الكلام في هذه المسألة يتعلق بطرفين أولهما إثبات الجواز العقلي وثانيهما إثبات الوقوع أما الكلام في المطلوب الأول فاعلم أن الاستدلال على الشيء يقع على وجهين أحدهما أن يقال إنه قدر على ما هو أصعب وأشد وأشق منه فوجب أيضاً أن يقدر عليه والثاني أن يقال إنه قدر عليه في إحدى الحالتين والفاعل والقابل باقيين كما كانا فوجب أن تبقى القدرة عليه في الحالة الثانية والله تعالى ذكر هذين الطريقين في بيان أن القول بالبعث والقيامة أمر جائز ممكن أما الطريق الأول فهو المراد من قوله فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً والتقدير كأنه تعالى يقول استفت يا محمد هؤلاء المنكرين أهم أشد خلقاً من خلق السموات والأرض وما بينهما وخلق المشارق والمغارب وخلق الشياطين الذين يصعدون الفلك ولا شك أنهم يعترفون بأن خلق هذا القسم أشق وأشد في العرف من خلق القسم الأول فلما ثبت بالدلائل المذكورة في إثبات التوحيد كونه تعالى قادراً على هذا القسم الذي هو أشد وأصعب فبأن يكون قادراً على إعادة الحياة في هذه الأجساد كان أولى ونظير هذه الدلالة قوله تعالى في آخر يس أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ( يس 81 ) وقوله تعالى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( غافر 57 ) وأما الطريق الثاني فهو المراد من قوله إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ والمعنى أن هذه الأجسام قابلة للحياة إذ لو لم تكن قابلة للحياة لما صارت حية في المرة الأولى والإله قادر على خلق هذه الحياة في هذه الأجسام ولولا كونه تعالى قادراً على هذا المعنى لما حصلت الحياة في المرة الأولى ولا شك أن قابلية تلك الأجسام باقية وأن قادرية الله تعالى باقية لأن هذه القابلية وهذه القادرية من الصفات الذاتية فامتنع زوالها فثبت بهذين الطريقين أن القول بالبعث والقيامة أمر ممكن ولما بين تعالى إمكان هذا المعنى بهذين الطريقين بين وقوعه بقوله قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ داخِرُونَ ( الصافات 18 ) وذلك لأنه ثبت صدق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأجل ظهور المعجزات عليه والصادق إذا أخبر عن أمر ممكن الوقوع وجب الاعتراف بوقوعه فهذا تقرير نظم هذه الآية وهو في غاية الحسن والله أعلم
المسألة الثانية في تفسير ألفاظ هذه الآية أما قوله فَاسْتَفْتِهِمْ يعني أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة كونه تعالى خالقاً للسموات والأرض وما بينهما فاستفت هؤلاء المنكرين وقل لهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أم هذه الأشياء التي بينا كونه تعالى خالقاً لها ولم يحك عنهم أنهم أقروا أن خلق هذه الأشياء أصعب لأجل أن ظهور ذلك كالمعلوم بالضرورة فلا حاجة أن يحكى عنهم صحة أن الأمر كذلك
ثم قال تعالى إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ يعني أنا لما قدرنا على خلق الحياة في ذواتهم أولاً وجب أن نبقى قادرين على خلق الحياة فيهم ثانياً لما بينا أن حال القابل وحال الفاعل ممتنع التغير وفيه دقيقة أخرى وهي أن القوم قالوا كيف يعقل تولد الإنسان لا من النطفة ولا من الأبوين فكأنه قيل لهم إنكم لما

أقررتم بحدوث العالم واعترفتم بأن السموات والأرض وما بينهما إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه فة بد وأن تعترفوا بأن الإنسان الأول إنما حدث لا من الأبوين فإذا عقلتم ذلك واعترفتم به فقد سقط قولكم الإنسان كيف يحدث من غير النطفة ومن غير الأبوين وأيضاً قد اشتهر عند الجمهور أن آدم مخلوق من الطين اللازب ومن قدر على خلق الحياة في الطين اللازب فكيف يعجز عن إعادة الحياة إلى هذه الذوات وأما كيفية خلق الإنسان من الطين اللازب فهي مذكورة في السورة المتقدمة واعلم أن هذا الوجه أنما يحسن إذا قلنا المراد من قوله تعالى إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ هو أنا خلقنا أباهم آدم من طين لازب وفيه وجوه أخر وهو أن يكون المراد أنا خلقنا كل إنسان من طين لازب وتقريره أن الحيوان إنما يتولد من المني ودم الطمث والمني يتولد من الدم فالحيوان إنما يتولد من الدم والدم إنما يتولد من الغذاء والغذاء إما حيواني وإما نباتي أما تولد الحيوان الذي صار غذاء فالكلام في كيفية تولده كالكلام في تولد الإنسان فثبت أن الأصل في الأغذية هو النبات والنبات إنما يتولد من امتزاج الأرض بالماء وهو الطين اللازب وإذا كان الأمر كذلك فقد ظهر أن كل الخلق متولدون من الطين اللازب وإذا ثبت هذا فنقول إن هذه الأجزاء التي منها تركب هذا الطين اللازب قابلة للحياة والله تعالى قادر عليها وهذه القابلية والقادرية واجبة البقاء فوجب بقاء هذه الصحة في كل الأوقات وهذه بيانات ظاهرة واضحة وأما اللازب فقل اللاصق وقيل اللزج وقيل الحتد وأكثر أهل اللغة على أن الباء في لازب بدل من الميم يقال لازب ولازم ثم قال تعالى
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى تقرير الكلام أن يقال إن هؤلاء المنكرين أقروا بأنه تعالى قادر على تكوين أشياء أصعب من إعادة الحياة إلى هذه الأجساد وقد تقرر في صرائح العقول أن القادر على الأشق الأشد يكون قادراً على اوسهل اويسر ثم مع قيام هذه الحجة البديهية بقي هؤلاء الأقوام مصرين على إنكار البعث والقيامة وهذا في موضع التعجب الشديد فإن مع ظهور هذه الحجة الجلية الظاهرة كيف يعقل بقاء القوم على الإصرار فيه فأنت يا محم تتعجب من إصرارهم على الإنكار وهم في طرف الإنكار وصلوا إلى حيث يستخرون منك في قولك بإثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة فهذا هو المراد من قوله بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي عَجِبْتَ بضم التاء والباقون بفتحها قال الواحدي والضم قراءة ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم ويحيى بن وثاب والأعمش وقراءة أهل الكوفة واختيار أبي عبيدة أما الذين قرأوا بالفتح فقد احتجوا بوجوه الأول أن القراءة بالضم تدل على إسناد العجب إلى الله تعالى وذلك محال لأن التعجب حالة تحصل عند الجهل بصفة الشيء ومعلوم أن الجهل على الله محال والثاني أن الله تعالى أضاف التعجب إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في آية أخرى في هذه المسألة فقال دوإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا تراباً ( الرعد 5 ) والثالث أنه تعالى قال ( الرعد 5 ) والثالث أنه تعالى قال بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ والظاهر أنهم سخروا لأجل

ذلك التعجب فلما سخروا منه وجب أن يكون ذلك التعجب صادراً منه وأما الذين قرأوا بضم التاء فقد أجابوا عن الحجة الأولى من وجوه الأول أن القراءة بالضم لا نسلم أنها تدل على إسناد التعجب إلى الله تعالى وبيانه أنه يكون التقدير قل يا محمد ( بل عجبت ويسخرون ) ونظيره قوله تعالى أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ( مريم 38 ) معناه أن هؤلاء ما تقولون فيه أنتم هذا النحو من الكلام وكذلك قوله تعالى فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ( البقرة 175 ) الثاني سلمنا أن ذلك يقتضي إضافة التعجب إلى الله تعالى فلم قلتم إن ذلك محال ويروى أن شريحاً كان يختار القراءة بالنصب ويقول العجب لا يليق إلا بمن لا يعلم قال الأعمش فذكرت ذلك لإبراهيم فقال إن شريحاً يعجب بعلمه وكان عبد الله أعلم وكان يقرأ بالضم وتحقيق القول فيه أن نقول دل القرآن والخبر على جواز إضافة العجب إلى الله تعالى أما القرآن فقوله تعالى دوإن تعجب فعجب قولهم ( الرعد 5 ) والمعنى إن تعجب يا محمد من قولهم فهو أيضاً عجب عندي وأجيب عنه أنه لا يمتنع أن يكون المراد وإن تعجب فعجب قولهم عندكم وأما الخبر فقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( عجب ربكم من إلكم وقنوطكم وعجب ربكم من شاب ليست له صبوة ) وإذا ثبت هذا فنقول العجب من الله تعالى خلاف العجب من الآدميين كما قال ( الرعد 5 ) والمعنى إن تعجب يا محمد من قولهم فهو أيضاً عجب عندي وأجيب عنه أنه لا يمتنع أن يكون المراد وإن تعجب فعجب قولهم عندكم وأما الخبر فقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( عجب ربكم من إلكم وقنوطكم وعجب ربكم من شاب ليست له صبوة ) وإذا ثبت هذا فنقول العجب من الله تعالى خلاف العجب من الآدميين كما قال وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ( الأنفال 30 ) وقال سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ( التوبة 79 ) وقال تعالى وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النساء 142 ) والمكر والخداع والسخرية من الله تعالى بخلاف هذه الأحوال من العباد وقد ذكرنا أن القانون في هذا الباب أن هذه الألفاظ محمولة على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض وكذلك ههنا من تعجب من شيء فإنه يستعظمه فالتعجب في حق الله تعالى محممول على أنه تعالى يستعظم تلك الحالة إن كانت قبيحة فيترتب العقاب العظيم عليه وإن كانت حسنة فيترتب الثواب العظيم عليه فهذا تمام الكلام في هذه المناظرة والأقرب أن يقال القراءة بالضم إن ثبت بالتواتر وجب المصير إليها ويكون التأويل ما ذكرناه وإن لم تثبت هذه القراءة بالتواتر كانت القراءة بفتح التاء أولى والله أعلم ثم قال تعالى
وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ ءَايَة ً يَسْتَسْخِرُونَ وَقَالُوا إِن هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءَابَآؤُنَا الاٌّ وَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما قرر الدليل القادع في إثبات إمكان البعث والقيامة حكى عن المنكرين أشياء أولها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتعجب من إصرارهم على الإنكار وهم يسخرون منه في إصراره على الإثبات وهذا يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مع أولئك الأقوام كانوا في غاية التباعد وفي طرفي النقيض وثانيها قوله وَإِذَا ذُكّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ وثالثها قوله وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَة ً يَسْتَسْخِرُونَ ويجب أن يكون المراد من هذا الثاني والثالث غير الأول لأن العطف يوجب التغاير ولأن التكرير خلاف الأصل والذي عندي في هذا الباب أن يقال القوم كانوا يستبعدون الحشر والقياة ويقولون من مات وصار تراباً وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه وبلغوا في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يسخرون ممن يذهب إلى هذا المذهب وإذا كان كذلك فلا طريق إلى إزالة هذا

الاستبعاد عنهم إلا من وجهين أحدهما أن يذكر لهم الدليل الدال على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم هل تعلمون أن خلق السموات والأرض أشد وأصعب من إعادة إنسان بعد موته وهل تعلمون أن القادر على اوصعب الأشق يجب أن يكون قادراً على الأسهل الأيسر فهذا الدليل وإن كان جلياً قوياً إلا أن أولئك المنكرين إذا عرض على عقولهم هذه المقدمات لا يفهمونها ولا يقفون عليها وإذا ذكروا لم يذكروها لشدة بلادتهم وجهلهم فلا جرم لم ينتفعوا بهذا النوع من البيان
الطريق الثاني أن يثبت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) جهة رسالته بالمعجزات ثم يقول لما ثبت بالمعجز كوني رسولاً صادقاً من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حق ثم إن أولئك المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضاً لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة وآية باهرة حملوها على كونها سحراً وسخروا بها وساتهزؤا منها وهذا هو الراد من قوله دوإذا رأوا آية يستسخرون فظهر بالبيان الذي ذكرناه أن هذه الألفاظ الثلاثة منبهة على هذه الفوائد الجليلة
واعلم أن أكثر الناس لم يقفوا على هذه الدقائق فقالوا إنه تعالى قال فظهر بالبيان الذي ذكرناه أن هذه الألفاظ الثلاثة منبهة على هذه الفوائد الجليلة
واعلم أن أكثر الناس لم يقفوا على هذه الدقائق فقالوا إنه تعالى قال بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ ( الصافات 12 )
ثم قال وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَة ً يَسْتَسْخِرُونَ فوجب أن يكون المراد من قوله يَسْتَسْخِرُونَ غير ما تقدم ذكه من قوله وَيَسْخُرُونَ فقال هذا القائل المراد من قوله وَيَسْخُرُونَ إقدامهم على السخرية والمراد من قوله يَسْتَسْخِرُونَ طلب كل واحد منهم من صاحبه أن يقدم على السخرية وهذا التكليف إنما لزمهم لعدم وقوفهم على الفوائد لتي ذكرناها والله أعلم والرابع من الأمور التي حكاها الله تعالى عنهم أنهم قالوا إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ يعني أنهم إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها والسبب في تلك السخرية اعتقادهم أنها من باب السحر وقوله مُّبِينٌ معناه أن كونه سحراً أمر بين لا شبهة لأحد فيه ثم بين تعالى أن السبب الذي يحملهم على الاستهزاء بالقول بالبعث وعلى عدم الالتفات إلى الدلائل الدالة على صحة القول وعلى الاستهزاء بجميع المعجزات هو قولهم إن الذي مات وتفرقت أجزاؤه في جملة العالم فما فيه من الأرضية اختلط بتراب الأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم فهذا الإنسان كيف يعقل عوده بعينه حياً فاهماً فهذا الكلام هو الذي يحملهم على تلك الأحوال الثلاثة المتقدمة ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه الشبهة قال قال يا محمد نعم وأنتم داخرون وإنما اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب لأنه ذكر في الآية المتقدمة بالبرهان اليقيني القطعي أنه أمر ممكن وإذا ثبت الجواز القطعي فلا سبيل إلى القطع بالوقوع إلا بإخبار المخبر الصادق فلما قامت المعجزات على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان واجب الصدق فكان مجرد قوله قُلْ نَعَمْ دليلاً قاطعاً على الوقوع ومن تأمل في هذه الآيات علم أنها وردت على أحسن وجوه الترتيب وذلك لأنه بين الإمكان بالدليل العقلي وبين وقوع ذلك الممكن بالدليل السمعي ومن المعلوم أن الزيادة على هذا البيان كالأمر الممتنع
أما قوله أَوَ ءابَاؤُنَا فالمعنى أو تبعث آباؤنا وهذه ألف الاستفهام دخلت على حرف العطف وقرأ نافع وابن عامر ههنا وفي سورة الواقعة ساكنة الواو وذكرنا الكلام فيهذا في سورة الأعراف عن قوله أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى ( الأعراف 98 )
أما قوله تعالى قُلْ نَعَمْ فنقول قرأ الكسائي وحده ( نعم ) بكسر العين

أما قوله تعالى وَأَنتُمْ داخِلُونَ أي صاغرون قال أبو عبيد الدخور أشد الصغار وذكرنا تفسير هذه اللفظة عند قوله سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ ( النحل 48 )
فَإِنَّمَا هِى َ زَجْرَة ٌ وَاحِدَة ٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ وَقَالُواْ ياوَيْلَنَا هَاذَا يَوْمُ الدِّينِ هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما يدل على إمكان البعث والقيامة ثم أردفه بما يدلعلى وقوع القيامة ذكر في هذه الآيات بعض تفاصيل أحوال القيامة وأنه تعالى ذكر في هذه الآية أنواعاً من تلك الأحوال فالحالة الأولى قوله تعالى فَإِنَّمَا هِى َ زَجْرَة ٌ واحِدَة ٌ فَإِذَا هُمْ وفيه أبحاث
البحث الأول قوله سَمِعَهُ فَإِنَّمَا جواب شرط مقدر والتقدير إذا كان كذلك فما هي إلا زجرة واحدة
البحث الثاني الضمير في قوله فَإِنَّمَا هِى َ ضمير على شريطة التفسير والتقدير فإنما البعث زجرة واحدة
البحث الثالث الزجرة في اللغة الصيحة التي يزجر بها كالزجرة بالنعم والإبل عند البحث ثم كثر استعمالها حتى صارت بمعنى الصيحة وإن لم يكن فيها معنى الزجر كما في هذه الآية وأقول لا يبعد أن يقال إن تلك الصيحة إنما سميت زجرة لأنها تزجر الموتى عن الرقود في القبور وتحثهم على القيام من القبور والحضور في موقف القيامة فإذا عرفت هذا فنقول المراد من هذه الزجرة ما ذكره الله تعالى في قوله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ( الزمر 68 ) فبتالنفخة الأولى يموتون وبالنفخة الثانية يحيون ويقومون وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الفائدة في هذه الصيحة فإن القوم في تلك الساعة أموات لأن النفخة جارية مجرى السبب لحياتهم فتكون مقدمة على حصول حياتهم فثبت أن هذه الصيحة إنما حصلت حال كون الخلق أمواتاً فتكون تلك الصيحة عديمة الفائدة فهي عبث والعبث لاة يجوز في فعل الله والجواب أما أصحابنا فيقولون يفعل الله ما يشاء وأما المعتزلة فقال القاضي فيه وجهان الأول أن تعتبر بها الملائكة الثاني أن تكون الفائدة التخويف والإرهاب
السؤال الثاني هل لتلك الصيحة تأثير في إعادة الحياة الجواب لا بدليل أن الصيحة الأولى استعقبت الموت والثانية الحياة وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها في الموت ولا في الحياة بل خالق الموت والحياة هو الله تعالى كما قال الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 )
السؤال الثالث تلك الصيحة صوت الملائكة أو الله تعالى يخلقها ابتداء الجواب الكل جائز إلا أنه روي أن الله تعالى يأمر إسرافيل حتى ينادي أيتها العظام النخرة والجلود البالية والأجزاء المتفرقة اجتمعوا

بإذن الله تعالى اللفظ الارابع من الألفاظ المذكورة في هذه الآية قوله تعالى فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ فيحتمل أن يكون المراد ينظرون ما يحدث بهم ويحتمل ينظر بعضهم إلى بعض وأن يكون المراد ينظرون إلى البعث الذي كذبوا به الحالة الثانية من وقائع القيامة ما أخبر الله عنهم أنهم بعد القيام من القبور قالوا وَقَالُواْ ياوَيْلَنَا هَاذَا يَوْمُ الدّينِ قال الزجاج الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة والمقصود أنهم لما شاهدوا القيامة قالوا هَاذَا يَوْمُ الدّينِ أي يوم الجزاء هذا والمقصود أن الله تعالى ذكر في آيات كثيرة من القرآن أنا نرى في الدنيا محسناً ومسيئاً وعاصياً وصديقاً وزنديقاً ورأينا أنه لم يصل إليهم في الدنيا ما يليق بهم من الجزاء فوجب القول بإثبات القيامة لِيَجْزِى َ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ( النجم 31 ) وبالجملة فهذا يدل على أن الجزاء إنما يحصل بعد الموت والكفار وإن سمعوا هذا الدليل القوي لكنهم أنكروا وتمردوا ثم إنه تعالى إذا أحياهم يوم القيامة فإذا شاهدوا القيامة يذكرون ذلك اليوم ويقولون هَاذَا يَوْمُ الدّينِ أي يوم الجزاء الذي ذكر الله الدلائل الكثيرة عليه في القرآن فكفرنا بها ونظيره أن من خوف بشيء ولم يتلفت إليه ثم عاينه بعد ذلك فقد يقول هذا يوم الواقعة الفلانية فكذا ههنا وفيه احتمال آخر وهو أنه تعالى قال في سورة الفاتحة مَالِكَ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 4 ) فبين أنه لا مالك في ذلك اليوم إلا الله فقولهم هذا يوم الدين إشارة إلى أن هذا هو اليوم الذي لا حكم فيه لأحد إلا لله وإنما ذكروه لما حصل في قلوبهم من الخوف الشديد
أما قوله تعالى هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ ففيه بحثان
الأول اختلفوا في أن هذا هو من بقية كلام الكفار أو يقال تم كلامهم عند قوله تعالى هَاذَا يَوْمُ الدّينِ وأما قوله هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ فهو كلام غيرهم فبعضهم قال بالأول وزعم أن قوله هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الآية من كلام بعضهم لبعض والأكثرون على القول الثاني واحتجوا بوجهين الأول أن قوله كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ من كلام بعضهم لبعض خطاب مع جميع الكفار فقائل هذا القول لا بد وأن يكون غير الكفار الثاني أن قوله داحشروا الذين ظلموا وأزواجهم ( الصافات 22 ) منسوق على قوله ( الصافات 22 ) منسوق على قوله هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ فلما كان قوله داحشروا الذين ظلموا كلام غير الكفار فكذلك قوله كلام غير الكفار فكذلك قوله هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ يجب أن يكون كلام غير الكفار وعلى هذا التقدير فقوله هَاذَا يَوْمُ الدّينِ من كلام الكفار وقوله هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ من كلام الملائكة جواباً لهم والوجه في كونه جواباً لهم أن أولئك الكفار إنما اعتقدوا في أنفسهم كونهم محقين في إنكار دعوة الأنبياء عليهم السلام وكونهم محقين في تلك اوديان الفاسدة فقالوا هَاذَا يَوْمُ الدّينِ أي هذا اليوم الذي يصل فيه إلينا جزاء طاعتنا وخيراتن فالملائكة يقولون لهم إنه لا اعتبار بظواهر الأمور في هذا اليوم فإن هذا اليوم يفصل فيه الجزاء الحقيقي عن الجزاء الظاهري وتميز فيه الطاعات الحقيقية عن الطاعات المقرونة بالرياء والسمعة فبهذا الطريق صار هذا الكلام من الملائكة جواباً لما ذكره الكفار

ثم قال تعالى
احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ
وفي الآية أبحاث
البحث الأول اعلم أنه لا نزاع في أن هذا من كلام الملائكة فإن قيل ما معنى احْشُرُواْ مع أنهم قد حشروا من قبل وحضروا في محفل القيامة وقالوا هَاذَا يَوْمُ الدّينِ ( الصافات 20 ) وقالت الملائكة لهم بل هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ ( الصافات 21 ) أجاب القاضي عنه فقال المراد احشروهم إلى دار الجزاء وهي النار ولذلك قال بعده فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الْجَحِيمِ أي خذوهم إلى ذلك الطريق ودلوهم عليه ثم سأل نفسه فقال كيف يصح ذلك وقد قال بعده وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ ومعلوم أن حشرهم إلى الجحيم إنما يكون بعد المسألة وأجاب أنه ليس في العطف بحرف الواو ترتيب فلا يمتنع أن يقال احشروهم وقفوهم مع أنا بعقولنا نعلم أن الوقوف كان قبل الحشر إلى النار هذا ما قاله القاضي وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال إنهم إذا قاموا من قبورهم لم يبعد أن يقفوا هناك بحيرة تلحقهم بسبب معاينة أهوال القيامة ثم إن الله تعالى يقول للملائكة احشروا الذين ظلموا واهدوهم إلى صراط الجيحم أي سوقوهم إلى طريق جهنم وقفوهم هناك وتحصل المسألة هناك ثم من هناك يساقون إلى النار وعلى هذا التقدير فظاهر النظم موافق لما عليه الوجه
البحث الثاني الآمر في قوله تعالى تُكَذّبُونَ احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ هو الله فهو تعالى أمر الملائكة أن يحشروا الكفار إلى موقف السؤال والمراد من الحشر أن الملائكة يسوقونهم إلى ذلك الموقف
البحث الثالث أن الله أمر الملائكة بحشر ثلاثة أشياء الظالمين وأزواجهم والأشياء التي كانوا يعبدونها وفيه فوائد
الفائدة الأولى أنه تعالى قال احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ثم ذكر من صفات الذين ظلموا كونهم عابدين لغير الله وهذا يدل على أن الظالم المطلق هو الكافر وذلك يدل على أن كل وعيد ورد في حق الظالم فهو مصروف إلى الكفار ومما يؤكد هذا قوله تعالى وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( البقرة 254 )
الفائدة الثانية اختلفوا في المراد بأزواجهم وفيه ثلاثة أقوال الأول المراد بأزواجهم أشباههم أي أحزابهم ونظراؤهم من الكفر فاليهودي مع اليهودي والنصراني مع النصراني والذي يدل على جواز أن يكون المراد من الأزواج الأشباه وجوه الأول قوله تعالى وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَة ً ( الواقعة 7 ) أي أشكالاً وأشباهاً الثاني أنك تقول عندي من هذا أزواج أي أمثال وتقول زوجان من الخف لكون كل واحد منهما نظير الآخر وكذلك الرجل والمرأة سميا زوجين لكونهما متشابهين في أكثر أحكام النكاح وكذلك العدد الزوج سمي بهذا الاسم لكون كل واحد من سميه مثالاً للقسم الثاني في العدد الصحيح قال الواحدي فعلى هذا القول يجب أن يكون المراد بالذين ظلموا الرؤساء ونك لو جعلت الذين ظلموا عاماً في كل من أشرك لم يكن للأزواج معنى القول الثاني في تفسير الأزواج أن المراد قرناؤهم من الشياطين لقوله تعالى دوإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ( الأعراف 202 ) والقول الثالث أن المراد نساؤهم اللواتي على دينهم أما قوله ( الأعراف 202 ) والقول الثالث أن المراد نساؤهم اللواتي على دينهم أما قوله وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ففيه قولان الأول المراد ما كانوا يعبدون من دون الله من الأوثان والطواغيت ونظيره قوله فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ ( البقرة 24 ) قيل المراد بالناس عباد

الأوثان والمراد بالحجارة الأصنام التي هي أحجار منحوتة فإن قيل إن تلك الأحجار جمادات فما الفائدة في حشرها إلى جهنم أجاب القاضي بأنه ورد الخبر بأنها تعاد وتحيا لتحصل المبالغة في توبيخ الكفار الذين كانوا يعبدونها ولقائل أن يقول هب أن الله تعالى يحيي تلك الأصنام إلا أنه لم يصدر عنها ذنب فكيف يجوز من الله تعالى تعذيبها واوقرب أن يقال إن الله تعالى لا يحيي تلك الأصنام بل يتركها على الجمادية ثم يلقيها في جهنم لأن ذلك مما يزيد في تخجيل الكفار القول الثاني أن المراد من قولهه وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ الشياطين الذين دعوهم إلى عبادة ما عبدوا فلما قبلوا منهم ذلك الدين صاروا كالعابدين لأولئك الشياطين وتأكد هذا بقوله تعالى أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى وَإِذْ أَخَذَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ( يس 60 ) والقول الأول أولى لأن الشياطين عقلاء وكلمة ما لا تليق بالعقلاء والله أعلم
ثم قال اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الْجَحِيمِ قال ابن عباس دلوهم يقال هديت الرجل إذا دللته وإنما استعملت الهداية ههنا لأنه جعل بدل الهداية إلى الجنة كما قال فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) فوقعت البشارة بالعذاب لهؤلاء بدل البشارة بالنعيم لأولئك وعن ابن عباس فَاهْدُوهُمْ وَقَالُواْ ياوَيْلَنَا هَاذَا يَوْمُ الدّينِ هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ يقال وقفت الدابة اقفها وقفاً فوقفت هي وقوفاً والمعنى احبسوهم وفي الآية قولان أحدهما على التقديم والتأخير والمعنى قفوهم واهدوهم والأصوب أنه لا حاجة إليه بل كأنه قيل فاهدوهم إلى صراط الجحيم فإذا انتهوا إلى الصراط قيل وَقِفُوهُمْ فإن السؤال يقع هنللهك وقوله أَنَّهُمْ قيل عن أعمالهم في الدنيا وأقوالهم وقيل المراد سألتهم الخزنة أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( الزمر 71 ) ويجوز أن يكون هذا السؤال ما ذكر بعد ذلك وهو قوله تعالى مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ أي أنهم يسألون توبيخاً لهم فيقال مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ قال ابن عباس رضي الله عنهما لا ينصر بعضكم بعضاً كما كنتم في الدنيا وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر نحن جميع منتصر فقيل لهم يوم القيامة ما لكم غير متناصرين وقيل يقال لكفار ما لشركائكم لا يمنعونكم من العذاب
ثم قال تعالى بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ يقال استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع ومعناه في الأصل طلب السلامة بترك المنازعة والمقصود أنهم صاروا منقادين لا حيلة لهم في دفع تلك المضار لا العابد ولا المعبود
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ
ثم قال تعالى وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ قيل هم والشياطين وقيل الرؤساء والأتباع يَتَسَاءلُونَ أي يسأل بعضهم بعضاً وهذا التساؤل عبارة عن التخاصم وهو سؤال التبكيت يقولون غررتمونا ويقول أولئك لم قبلتم منا وبالجملة فليس ذلك تساؤل المستفهمين بل هو تساؤل التوبيخ واللوم والله أعلم
قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَءِنَّا لَتَارِكُو ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو الْعَذَابَ الاٌّ لِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ

واعلم أن الله تعالى لما حكى عنهم أنه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون شرح كيفية ذلك التساؤل فقال إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ وهذا قول الأتباع لمن دعاهم إلى الضلالة وفي تفسير اليمين وجوه الأول أن لفظ اليمين ههنا استعارة عن الخيرات والسعادات وبيان كيفية هذه الاستعارة أن الجانب الأيمن أفضل من الجانب الأيسر لوجوه أحدها اتفاق الكل على أن أشرف الجانبين هو اليمين والثاني لا يباشرون الأعمال الشريفة إلا باليمين مثل مصافحة الأخيار والأكل والشرب وما على العكس منه يباشرونه باليد اليسرى الثالث أنهم كانوا يتفاءلون وكانوا يتيمنون بالجانب الأيمن ويسمونه بالبارح الرابع أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحب التيامن في كل شيء الخامس أن الشريعة حكمت بأن الجانب الأيمن لكاتب الحسنات والأيسر لكاتب السيئات السادس أن الله تعالى وعد لمحسن أن يؤتى كتابه بيمينه والمسيء أن يؤتى كتابه بيساره فثبت أن الجانب الأيسر وإذا كان كذلك لا جرم استعير لفظ اليمين للخيرات والحسنات والطاعات فقوله إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ يعني أنكم كنتم تخدعوننا وتوهمون لنا أن مقصودكم من الدعوة إلى تلك الأديان نصرة الحق وتقوية الصدق والوجه الثاني في التأويل أنه يقال فلان يمين فلان إذا كان عنده بالمنزلة الحسنة فقال هؤلاء الكفار لأئتمتهم الذين أضلوهم وزينوا لهم الكفر إنكم كنتم تخدوعونا وتوهمون لنا أننا عندكم بمنزلة اليمين أي بالمنزلة الحسنة فوثقنا بكم وقبلنا عنكم الوجه الثالث أن أئمة الكفار كانوا قد حلفوا لهؤلاء المستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بإيمانهم وتمسكوا بعهودهم التي عهدوها لهم فمعنى قوله كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ أي من ناحية المواثيق والأيمان التي قدمتموها لنا الوجه الرابع أن لفظ اليمين مستعار من القوة والقهر لأن اليمين موصوفة بالقهر وبها يقع البطش والمعنى أنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتعيرونا عليه ثم حكى الله تعالى عن الرؤساء أنهم أجابوا الأتباع من وجوه الأول أنهم قالوا لهم بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ يعني أنكم ما كنتم موصوفين بالإيمان حتى يقال إنا أزلناكم عنه الثاني قولهم وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ يعني لا قدرة لناعليكم حتى نقهركم ونجبركم الثالث بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ أي ضالين غالين في معصية الله الرابع قولهم فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ

والمعنى أن الله تعالى لما إخبر عن وقوعنا في العذاب فلو لم يحصل وقوعنا في العذاب لما كان خبر الله حقاً بل كان باطلاً ولما كان خبر الله أمراً واجباً لا جرم كان الوقوع في العذاب الأليم لازماً قال مقاتل قوله تعالى فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا إشارة إلى قول الله لإبليس لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ( ص 85 ) وقوله تعالى إِنَّا لَذَائِقُونَ يعني لما وجب أن يحق علينا قول ربنا وجب أن نكون ذائقين لهذا العذاب الخامس قولهم فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ والمعنى أنا إنما أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية وفيه دقيقة أخرى كأنهم قالوا إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب إغوائنا فغوايتنا إن كانت بسبب إغواء غاوٍ آخر ولزم التسلسل وذلك محال فعلمنا أن حصول الغواية والرشاد ليس من قبلنا بل من قبل غيرنا وذلك الغير هو الذي ذكره فيما قبل وهو قوله فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا ولما حكى الله تعالى كلام الأتباع للرؤساء وكلام الرؤساء للأتباع قال بعده فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ يعني فالمتبوع والتابع والمخدوم والخادم مشتركون في الوقوع في العذاب كما كانوا في الدنيا مشتركين في الغواية ثم قال أيضاً إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وعني بالمجرمين ههنا الكفار بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الكلمة إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ والضمير في قوله أَنَّهُمْ عائد إلى المذكور السابق وهو قوله بِالْمُجْرِمِينَ وهذا يدل على أن لفظ المجرم المطلق مختص في القرآن بالكافر ثم بين تعالى أنهم إنما وقعوا في ذلك العذاب لأنهم كانوا مكذبين بالتوحيد وبالنبوة أما التكذيب بالتوحيد فهو قوله تعالى إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ يعني ينكرون ويتعصبون لإثبات الشرك ويستنكفون عن الإقرار بالتوحيد وأما التكذيب بالنبوة فهو قولهم لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ ويعنون محمداً ثم إنه تعالى كذبهم في ذلك الكلام فقال بَلْ جَاء بِالْحَقّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلُونَ وتقرير هذا الكلام أنه جاء بالدين الحق لأنه ثبت بالعقل أنه تعالى منزه عن الضد والند والشريك فلما جاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بتقرير هذه المعاني كان مجيئه بالدين الحق قرأ ابن كثير أَيُّنَا بَعْضُ ءالِهَتِنَا بهمزة وياء بعدها خفيفية ساكنة بلا مد وقرأ نافع في رواية قالون وأبو عمرو على هذا التفسير يمدان والباقون بهمزتين بلا مد وقوله تعالى وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ يعني صدقهم في مجيئهم بالتوحيد ونفي الشريك وهذا تنبيه على أن القول بالتوحيد دين لكل الأنبياء ولما حكى الله عنهم تكذيبهم بالتوحيد والنبوة نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور فقال إِنَّكُمْ لَذَائِقُونَ الْعَذَابَ الاْلِيمَ كأنه قيل فكيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عباده فأجاب عنه بقوله وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ والمعنى أن الحكم يقتضي الأمر بالحسن والطاعة والنهي عن القبيح والمعصية والأمر والنهي لا يكمل المقصود منهما إلا بالترغيب في لثواب والترهيب بالعقاب وإذا وقع الإخبار عنه وجب تحقيقه صوناً للكلام عن الكذب فلهذا السبب وقعوا في العذاب ثم قال إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني ولكن عباد الله ( المخلصين ناجون وهو ) من الاستثناء المنقطع
أُوْلَائِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ بَيْضَآءَ لَذَّة ٍ لِّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ

العم أنه تعالى لما وصف أحوال المتكبرين عن قبول التوحيد المصرين علي إنكار النبوة أردفه بذكر حال المخلصين في كيفية الثواب وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكرنا في فتح اللام وكسرها من المخصلين قراءتين فالفتح أن الله تعالى أخصلهم بلطفه واصطفاهم بفضله والكسر هو أنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى وصف رزقهم بكونه معلوماً ولم يبين أن أي الصفات منه هو المعلوم فلذلك اختلفت الأقوال فقيل معناه إن ذلك الرزق معلوم الوقت وهو مقدار غدوة وعشية وإن لم يكن ثمة لا بكرة ولا عشية قال تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَة ً وَعَشِيّاً ( مريم 62 ) وقيل معناه أن ذلك الرزق معلوم الصفة لكونه مخصوصاً بخصائص خلقها الله فيه من طيب طعم ورائحة ولذة حسن منظر وقيل معناه أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ولا متى ينقطع وقيل معناه القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله وكرامته عليهم وقد بين الله تعالى أنه يعطيهم غير ذلك على سبيل التفضل ثم لما ذكر تعالى أن لهم رزقاً بين أن ذلك الرزق ما هو فقال فَواكِهُ وفيه قولان الأول أن الفاكهة عبارة عما يؤكل لأجل التلذذ لا لأجل الحاجة وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ والثاني أن المقصود من ذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى يعني لما كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان الأدام أولى بالحضور والقول الأول أقرب إلى التحقيق واعلم أنه تعالى لما ذكر الأكل بين أن ذلك الأكل حاصل مع الإكرام والتعظيم فقال وَهُم مُّكْرَمُونَ لأن الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم
ولما ذكر تعالى مأكولهم وصف تعالى مساكنهم فقال فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ومعناه أنه لا كلفة عليهم في التلاقي للأنس والتخاطب وفي بعض الأخبار أنهم إذا أرادوا القرب سار السرير تحتهم ولا يجوز أن يكونوا متقابلين إلا مع حصول الخواطر والسرائر ولن يكونوا كذلك إلا مع الفسحة والسعة ولا يجوز أن يسمع بعضهم خطاب بعض ويراه على بعد إلا بأن يقوي الله أبصارهم وأسماعهم وأصواتهم ولما شرح الله صفة المأكل والمسكن ذكر بعده صفة الشرب فقال يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ يقال للزجاجة التي فيها الخمر كأس وتسمى الخمرة نفسها كأساً قال وكأس شرت على لذة
وأخرى تداويت منها بها
وعن الأخفش كل كأس في القرآن فهي الخمر وقوله مّن مَّعِينٍ أي من شراب معين أو من نهر معين المعين مأخوذ من عين الماء أي يخرج من العيون كما يخرج الماء وسمي معيناً لظهوره يقال عان الماء

إذا ظهر جارياً قاله ثعلب فهو مفعول من العين نحو مبيع ومكيل وقيل سمي معيناً لأنه يجري ظاهر العين ويجوز أن يكون فعيلاً من المعين وهو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في المسير إذا اشتد فيه وقوله بَيْضَاء صفة للخمر قال الأخفش خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن وقوله لَذَّة ٍ فيه وجوه أحدها أنها وصفت باللذة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال فلان جود وكرم إذا أرادوا المبالغة في وصفه بهاتين الصفتين وثانيها قال الزجاج أي ذات لذة فعلى هذا حذف المضاف وثالثها قال الليث اللذ واللذيذ يجريان مجرى واحداً في النعت ويقال شراب لذ ولذيذ قال تعالى بَيْضَاء لَذَّة ٍ لّلشَّارِبِينَ وقال تعالى مّنْ خَمْرٍ لَّذَّة ٍ ( محمد 15 ) ولذلك سمي النوم لذاً لاستلذاذه وعلى هذا لذة بمعنى لذيذة والأقرب من هذه الوجوه الأول
ثم قال تعالى لّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وفيه أبحاث
البحث الأول قال الفراء العرب تقول ليس فيها غيلة وغائلة وغول سواء وقال أبو عبيدة الغول أن يغتال عقولهم وأنشد قول مطيع بن إياس وما زالت الكأس تغتالهم
وتذهب بالأول الأول
وقال الليث الغول الصداع والمعنى ليس فيها صداع كما في خمر الدنيا قال الواحدي رحمه الله وحقيقته الإهلاك يقال غاله غولاً أي أهلكه والغول والغائل المهلك ثم سمي الصداع غولاً لأنه يؤدي إلى الهلاك
ثم قال تعالى وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ وقرىء بكسر الزاي قال الفراء من كسر الزاي فله معنيان يقال أنزف الرجل إذا نفدت خمرته وأنزف إذا ذهب عقله من السكر ومن فتح الزاي فمعناه لا يذهب عقولهم أي لا يسكرون يقال نزف الرجل فهو منزوف ونزيف والمعنى ليس فيها قط نوع من أنواع الفساد التي تكون في شرب الخمر من صداع أو خمار أو عربدة ولا هم يسكرون أيضاً وخصه بالذكر لأنه أعظم المفاسد في شرب الخمر ولما ذكر الله تعالى صفة مشروبهم ذكر عقيبه صفة منكوحهم من ثلاثة أوجه الأول قوله وَعِندَهُمْ قَاصِراتُ الطَّرْفِ ومعنى القصر في اللغة الحبس ومنه قوله تعالى حُورٌ مَّقْصُوراتٌ فِى الْخِيَامِ ( الرحمن 72 ) والمعنى أنهن يحبسن نظرهن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن
الصفة الثانية قوله تعالى عِينٌ قال الزجاج كبار الأعين حسانها واحدها عيناء
الصفة الثالثة قوله تعالى كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ المكنون في اللغة المستور يقال كننت الشيء وأكنته ومعنى هذا التشبيه أن ظاهر البيض بياض يشوبه قليل من الصفرة فإذا كان مكنوناً كان مصوناً عن الغبرة والقترة فكان هذا اللون في غاية الحسن والعرب كانوا يسمون النساء بيضات الخدور
ولما تمم الله صفات أهل الجنة قال فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ فإن قيل على أي شيء عطف قوله فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قلنا على قوله يُطَافُ عَلَيْهِمْ والمعنى يشربون ويتحادثون على الشراء قال الشاعر وما بقيت من اللذات إلا
محادثة الكرام على المدام

والمعنى فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا
قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلاَ نِعْمَة ُ رَبِّى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاٍّ ولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى كما ذكر في أهل الجنة أنهم يتساءلون عند الاجتماع على شرب خمر الجنة فإن محادثة العقلاء بعضهم مع بعض على لشرب من الأمور اللذيذة وتذكر الخلاص عند اجتماع أسباب الهلاك من الأمور اللذيذة ذكر تعالى في هذه الآية أن أهل الجنة إذا اجتمعوا على الشرب وأخذوا في المكالمة والمساءلة كان من جملة تلك الكلمات أنهم يتذكرون أنهم كان قد حصل لهم في الدنيا ما يوجب لهم الوقوع في عذاب الله ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالسعادة الأبدية والمقصود من ذكر هذه الأشياء أن أهل الجنة يتكامل سرورهم وبهجتهم
أما قوله قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ أي قال قائل من أهل الجنة إني كان لي قرين في الدنيا يِقُولُ أَءنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدّقِينَ أي كان يوبخني على التصديق بالبعث والقيامة ويقول تعجبا أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَدِينُونَ أي لمحاسبون ومجازون والمعنى أن ذلك القرين كان يقول هذه الكلمات على سبيل الاستنكار ثم إن ذلك الرجل الذي هو من أهل الجنة يقول لجلسائه يدعوهم إلى كمال السرور بالاطلاع إلى النار لمشاهدة ذلك القرين ومخاطبته هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ فَأَطَّلِعَ والأقرب أنه تكلف أمراً اطلع معه لأنه لو كان مطلعاً بلا تكلف لم يكن إلى اطلاعه حاجة فلذلك قال بعضهم إنه ذهب إلى بعض أطراف الجنة فاطلع عندها إلى النار فَاطَّلَعَ فَرَءاهُ فِى سَوَاء أي في وسط الجحيم قال له موبخاً تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ أي لتهلكني بدعائك إياي إلى إنكار البعث والقيامة وَلَوْلاَ نِعْمَة ُ رَبّى بالإرشاد إلى الحق والعصمة عن الباطل لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ في النار مثلك ولما تمم ذلك الكلام حصل قبل ذبح الموت والثاني أن الذي يتكامل خيره وسعادته فإذا عظم تعجبه بها قد يقول أيدوم هذا لي أفيبقى هذا لي

وإن كان على يقين من دوامه ثم عند فراغهم من هذه المباحثات يقولون إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
وأما قوله لِمِثْلِ هَاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ فقيل إنه من بقية كلامهم وقيل إنه ابتداء كلام من الله تعالى أي لطلب مثل هذه السعادات يجب أن يعمل العاملون
المسألة الثانية قال بعضهم المراد من هذا القائل ومن قرينه ما ذكره الله تعالى في سورة الكهف ( 32 ) في قوله وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ إلى آخر الآيات وروي أن رجلين كانا شريكين فحصل لهما ثمانية آلاف دينار فقال أحدهما للآخر أقاسمك فقاسمه واشترى داراً بألف ديناراً فأراها صاحبه وقال كيف ترى حسنها فقال ما أحسنها فخرج وقال اللهم إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك داراً من دور الجنة فتصدق بألف دينار ثم إن صاحبه تزوج بامرأة حسناء بألف دينار فتصدق هذا بألف دينار لأجل أن يزوجه الله من الحور العين ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار فتصدق هذا بألفي دينار ثم إن الله أعطاه في الجنة ما طلب فعند هذا قال إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ إلى قوله فَاطَّلَعَ فَرَءاهُ فِى سَوَاء الْجَحِيمِ ( الصافات 55 )
المسألة الثالثة قوله أَءنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدّقِينَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَدِينُونَ اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة قرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة غير ممدودة والثالثة بكسر الألف من غير استفهام ووافقه الكسائي إلا نه يستفهم الثالثة بهمزتين وقرأ ابن عامر الأولى والثالثة بالاستفهام بهمزتين والثانية بكسر الألف من غير استفهام وقرأ الباقون بالاستفهام في جميعها ثم اختلفوا فإبن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعدها ياء ساكنة خفيفة وأبو عمرو مطولة وعاصم وحمزة بهمزتين
وأما قوله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ قرأ نافع برواية ورش لترديني بإثبات الياء في الوصل والباقون بحذفها
المسألة الرابع احتج أصحابنا على أن الهدى والضلال من الله تعالى بقوله تعالى وَلَوْلاَ نِعْمَة ُ رَبّى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ وقالوا مذهب الخصم أن كل ما فعله الله تعالى من وجوه الإنعام في حق المؤمن فقد فعله في حق الكافر وإذا كان ذلك الإنعام مشتركاً فيه امتنع أن يكون سبباً لحصول الهداية للمؤمن وأن يكون سبباً لخلاصه من الكفر والردى فوجب أن تكون تلك النعمة المخصوصة أمراً زائداً على تلك الإنعامات التي حصل الاشتراك فيها وما ذلك إلا بقوة الداعي إلى الإيمان وتكميل الصارف عن الكفر
المسألة الخامسة احتج نفاة عذاب القبر بقول الرجل الذي من أهل الجنة أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاْولَى فهذا يدل على أن الإنسان لا يموت إلا مرة واحدة ولو حصلت الحياة في القبر لكان الموت حاصلاً مرتين والجواب أن قوله إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاْولَى المراد منه كل ما وقع في الدنيا والله أعلم
أَذَالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَة ُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَة ً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَة ٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لاّكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ فَهُمْ عَلَى ءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاٌّ وَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُنذَرِينَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ

إعلم أنه تعالى لما قال بعد ذكر أهل الجنة ووصفها لِمِثْلِ هَاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ( الصافات 61 ) أتبعه بقوله أَذالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَة ُ الزَّقُّومِ فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يورد ذلك على كفار قومه ليصير ذلك زاجراً لهم عن الكفر وكما وصف من قبل مآكل أهل الجنة ومشاربهم وصف أيضاً في هذه الآية مآكل أهل النار ومشاربهم
أما قوله أَذالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَة ُ فالمعنى أن الرزق المعلوم المذكور لأهل الجنة أَذالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أي خير حاصلاً أَمْ شَجَرَة ُ الزَّقُّومِ وأصل النزل الفضل الواسع في الطعام يقال طعام كثير النزل فاستعير للحاصل من الشيء ويقال أرسل الأمير إلى فلان نزلاً وهو الشيء الذي يصلح حال من ينزل بسبه إذا عرفت هذا فنقول حاصل يالرزق المعلوم لأهل الجنة اللذة والسرور وحاصل شجرة الزقوم الألم والغم ومعلوم أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الخيرية إلا أنه جاء هذا الكلام إما على سبيل السخرية بهم أو لأجل أن المؤمنين لما ختاروا ما أوصلهم إلى الرزق الكريم والكافرين اختاروا ما أوصلهم إلى العذاب الأليم فقيل لهم ذلك توخبياً لهم على سوء اختيارهم وأما الزَّقُّومِ فقال الواحدي رحمه الله لم يذكر المفسرون للزقوم تفسيراً إلا الكلبي فإنه روي أنه لما نزلت هذه الآية قال ابن الزبعري أكثر الله في بيوتكم الزقوم فإن أهل اليمن يسمون التمر والزبد بالزقوم فقال أبو جهل لجاريته زقمينا فأتته بزبد وتمر وقال تزقموا ثم قال الواحدي ومعلوم أن الله تعالى لم يرد بالزقوم ههنا الزبد والتمر قال ابن دريد لم يكن للزقوم اشتقاق من التزقم وهو الإفراط من أكل الشيء حتى يكره ذلك يقال بات فلان يتزقم وظاهر لفظ القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعام منتنة الرائحة شديدة الخشونة موصوفة بصفات كل من تناولها عظم من تناولها ثم إنه تعالى يكره أهل النار على تتناول بعض أجزائها
أما قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَة ً لّلظَّالِمِينَ ففيه أقوال الأول أنها إنما صارت فتنة للظالمين من حيث إن الكفار لما سمعوا هذه الآية قالوا كيف يعقل أن تنبت الشجرة في جهنم مع أن النار تحرق الشجرة والجواب عنه أن خالق النار قادر على أن يمنع النار من إخراق الشجر ولأنه إذا جاز أن يكون في النار زبانية والله تعالى يمنع النار عن إحراقهم فلم لا يجوز مثله في هذه الجشرة إذا عرفت هذا السؤال والجواب بمعنى كون شجرة الزقوم فتنة للظالمين هو أنهم لما سمعوا هذه الآية وقعت تلك الشبهة في قلوبهم وصارت تلك الشبهة سبباً لتماديهم في الكفر فهذا هو المراد من كونها فتنة لهم والوجه الثاني في التفسير أن يكون المراد صيرورة هذه الشجرة فتنة لهم في النار لأنهم إذا كلفوا تناولها وشق ذلك عليهم فحينئذ يصير ذلك فتنة في حقهم الوجه الثالث أن يكون المراد من الفتن الامتحان والاختبار فإن هذا شيء بعيد عن العرف

والعادة مخالف للمألوف والمعروف فإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله وإذا ورد على الزنديق توسل به إلى الطعن في القرآن والنبوة
ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الشجرة وصفها بصفات الصفة الأولى قوله إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم قيل منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها الصفة الثانية قوله طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشَّياطِينِ قال صاحب ( الكشاف ) الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية وقال ابن قتيبة سمي ( طلعاً ) لطلوعه كل سنة ولذلك قيل طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره وأما تشبيه هذا الطلع برؤوس الشياطين ففيه سؤال لأنه قيل إنا ما رأينا رؤوس الشياطين فكيف يمكن تشبيه شيء بها وأجابوا عنه من وجوه الأول ة وهو الصحيح أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح والتشويه في الصورة والسيرة فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة تقرير الكمال والفضيلة في قوله إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ( يوسف 31 ) فكذلك وجب أن يحسن التشبيه برؤوس الشياطين في القبح وتشويه الخلقة والحاصل أن هذا من باب التشبيه لا بالمحسوس بل بالمتخيل كأنه قيل إن أقبح الأشياء في الوهم والخيار هو رؤوس الشياطين فهذه الشجرة تشبهها في قبح النظر وتشويه الصورة والذي يؤكد هذا أن العقلاء إذا رأوا شيئاً شديد الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة قالوا إنه شيطان وإذا رأوا شيئاً حسن الصورة والسيرة قالوا إنه ملك وقال امرؤ القيس أتقتلني والمشرفي مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
والقول الثاني أن الشياطين حيات لها رؤوس وأعراف وهي من أقبح الحيات وبها يضرب المثل في القبح والعرب إذا رأت منظراً قبيحاً قالت كأنه شيطان الحماطة والحماطة شجرة معينة والقول الثالث أن رؤوس الشياطين نبت معروف قبيح الرأس والوجه الأول هو الجواب الحق واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الشجرة وذكر صفتها بين أن الكفار لاَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ واعلم أن إقدامهم على ذلك الأكل يحتمل وجهين الأول أنهم أكلوا منها لشدة الجوع فإن قيل وكيف يأكلونها مع نهاية خشونتها ونتنها ومرارة طعمها قلنا إن الواقع في الضرر العظيم ربما استروح منه إلى ما يقاربه في الضرر فإذا جوعهم الله الجوع الشديد فزعوا في إزالة ذلك الجوع إلى تناول هذا الشيء وإن كان بالصفة التي ذكرتموها الوجه الثاني أن يقال الزبانية يكرهونهم على الأكل من تلك الشجرة تكميلاً لعذابهم
وعلم أنهم إذا شبعوا فحينئذ يشتد عطشهم ويحتاجون إلى الشراب فعند هذا وصف الله شرابهم فقال ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ( الصافات 67 ) قال الزجاج الشوب اسم عام في كل ما خلط بغيره والحميم الماء الحار المتناهي في الحرارة والمعنى أنه إذا غلبهم ذلك العطش الشديد سقوا من ذلك الحميم فيحنئذ يشوب الزقوم بالحميم نعوذ بالله منهما
واعلم أن الله وصف شرابهم في القرآن بأشياء منها كونه غساقاً ومنها قوله وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ ( محمد 15 ) ومنها ما ذكره في هذه الآية فإن قيل ما الفائدة في كلمة ثُمَّ في قوله ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ قلنا فيه وجهان الأول أنهم يملأن بطونهم من شجرة الزقوم وهو حار يحرق

بطونهم فيعظم عشطهم ثم إنهم لا يسقون إلا بعد مدة مديدة والغرض تكميل التعذيب والثاني أنه تعالى ذكر الطعام بتلك البشاعة والكراهة ثم وصف الشراب بما هو أبشع منه فكان المقصود من كلمة ثم بيان أن حال المشروب في البشاعة أعظم من حال المأكول ثم قال تعالى ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ قال مقاتل أي بعد أكل الزقوم وشرب الحميم وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم وذلك بأن يكون الحميم من موضع خارج عن الجحيم فهم يوردون الحميم لأجل الشرب كما تورد الإبل إلى الماء ثم يوردون إلى الجحيم فهذا قول مقاتل واحتج على صحته بقوله تعالى هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ ( الرحمن 43 44 ) وذلك يدل على صحة ما ذكرناه ثم إنه تعالى لما وصف عذابهم في أكلهم وشربهم قال إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءابَاءهُمْ ضَالّينَ فَهُمْ عَلَى ءاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ قال الفراء الإهراع الإسراع يقال هرع وأهرع إذا استحث والمعنى أنهم يتبعون آباءهم ابتاعاً في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم والمقصود من الآية أنه تعالى علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد كلها بتقليد الآباء في الدين وترك ابتاع الدليل ولو لم يوجد في القرآن آية غير هذه الآية في ذم التقليد لكفي
ثم إنه تعالى ذكر لرسوله ما يوجب التسلية له في كفرهم وتكذيبهم فقال وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاْوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ فبين تعالى أن إرساله للرسل قد تقدم والتكذيب لهم قد سلف ويجب أن يكون له ( صلى الله عليه وسلم ) أسوة بهم حتى يصبر كما صبروا ويستمر على الدعاء إلى الله وإن تمردوا فليس عليه إلا البلاغ
ثم قال تعالى فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُنْذَرِينَ وهذا وإن كان في الظاهر خطاباً مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أن المقصود منه خطاب الكفار لأنهم سمعوا بالأخبار جميع ما جرى من أنواع العذاب على قوم نوح وعلى عاد وثمود وغيرهم فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظن وخوف يصلح أن يكون زاجراً لهم عن كفرهم وقوله تعالى إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فيه قولان أحدهما أنه استثناء من قوله وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاْوَّلِينَ والثاني أنه استثناء من قوله كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُنْذَرِينَ ( يونس 73 ) فإنها كانت أقبح العواقب وأفظعها إلا عاقبة عباد الله المخلصين فإنها كانت مقرونة بالخير والراحة
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاٌّ خِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاٌّ خَرِينَ

اعلم أنه تعالى لما قال من قبل وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاْوَّلِينَ ( الصافات 71 ) وقال فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُنْذَرِينَ ( الصافات 73 ) أتبعه بشرح وقائع الأنبياء عليهم السلام فالقصة الأولى حكاية حال نوح عليه السلام وقوله وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ فيه مباحث
الأول أن اللام في قوله فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ جواب قسم محذوف والمخصوص بالمدح محذوف أي فلنعم المجيبون نحن
البحث الثاني أنه تعالى ذكر أن نوحاً نادى ولم يذكر أن ذلك النداء في أي الوقائع كان لا جرم حصل فيه قولان الأول وهو المشهور عند الجمهور أنه نادى الرب تعالى في أن ينجيه من محنة الغرق وكرب تلك الواقعة والقول الثاني أن نوحاً عليه السلام لما اشتغل بدعوة قومه إلى الدين الحق بالغوا في إيذائه وقصدوا قتله ثم إنه عليه السلام نادى ربه واستنصره على كفار قومه فأجابه الله تعالى ومنعهم من قتله وإيذائه واحتج هذا القائل على ضعف القول الأول بأنه عليه السلام إنما دعا عليهم لأجل أن ينجيه الله تعالى وأوله وأجاب الله دعاءه فيه فكان حصول تل كالناة كالمعلوم المتيقن في دعائه وذلك يمنع من أن يقال المطلوب من هذا النداء حصول هذه النجاة
ثم إنه تعالى لما حكى عن نوح أنه ناداه قال بعده فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وهذه اللفظة تدل على أن تلك الإجابة كانت من النعم العظيمة وبيانه من وجوه الأول أنه تعالى عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ والقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم والثاني أنه أعاد صيغة الجمع في قوله فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وذلك أيضاً يدل على تعظيم تلك النعمة لا سيما وقد وصف تلك الإجابة بأنها نعمت الإجابة والثالث أن الفاء في قوله فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ يدل على أن حصول هذه الإجابة مرتب على ذلك النداء والحكم المرتب على الوصف المناسب يقتضي كونه معللاً به وهذا يدل على أن النداء بالإخلاص سبب لحصول الإجابة ثم إنه تعالى لما بين أنه سبحانه نعم المجيب على سبيل الإجمال بين أن الإنعام حصل في تلك الإجابة من وجوه الأول قوله تعالى وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وهو على القول الأول الكرب الحاصل بسبب الخوف من الغرق وعلى الثاني الكرب الحاصل من أذى قومه والثاني قوله وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ يفيد الحصر وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته فقد فنوا قال ابن عباس ذريته بنوه الثلاثة سام وحام ويافث فسام أبو العرب وفارس والروم وحام أبو السودان ويافث أبو الترك
النعمة الثالثة قوله تعالى وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ يعني يذكرون هذه الكلمة فإن قيل فما معنى قوله فِى الْعَالَمِينَ قلنا معناه الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعاً أي لا يخلو أحد منهم منها كأنه قيل أثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين فيسلمون عليه بكليتهم ثم إنه تعالى لما شرح تفاصيل إنعامه عليه قال إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ والمعنى أنا إنما خصصنا نوحاً عليه السلام بتلك التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوأة من ذريته ومن تبقية ذكره الحسن

في ألسنة جميع العالمين لأجل أنه كان محسناً ثم علل كونه محسناً بأنه كان عبداً لله مؤمناً والمقصود منه بيان أن أعظم الدرجات وأشرف المقامات الإيمان بالله والانقياد لطاعته
وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَءِفْكاً ءَالِهَة ً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَة ً فِى النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَى ءَالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى الضمير في قوله من شيعته إلى ماذا يعود فيه قولان الأول وهو الأظهر أنه عائد إلى نوح عليه السلام أي من شيعة نوح أي من أهل بيته وعلى دينه ومنهاجه لإبراهيم قالوا وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان هود وصالح وروى صاحب ( الكشاف ) أنه كان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة الثاني قال الكلبي المراد من شيعة محمد لإبراهيم بمعنى أنه كان على دينه ومنهاجه فهو من شيعته وإن كان سابقاً له والأول أظهر لأنه تقدم ذكر نوح عليه السلام ولم يتقدم ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فعود الضمير إلى نوح أولى
المسألة الثانية العامل في إِذْ ما دل عليه قوله وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ من معنى المشايعة يعني وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم
أما قوله إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى في قوله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قولان الأول قال مقاتل والكلبي يعني خالص من الشرك والمعنى أنه سلم من الشرك فلم يشرك بالله والثاني قال الأصوليون المراد أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل دنس من المعاصي فيدخل فيه كونه سليماً عن الشرك وعن الشك وعن الغل والغش والحقد والحسد عن ابن عباس أنه كان يحب للناس ما يحب لنفسه وسلم جميع الناس من غشه وظلمه وأسلمه الله تعالى فلم يعدل به أحداً واحتج الذاهبون إلى القول الأول بأنه تعالى ذكر بعد هذه الكلمة إنكاره على قومه الشرك بالله وهو قوله إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بأن اللفظ مطلق فلا يقيد بصقة دون صفة ويتأكد هذا بقوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ

( الأنبياء 51 ) مع أنه تعالى قال اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) وقال وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( الأنعام 75 ) فإن قيل ما معنى المجيءي بقلبه ربه قلنا معناه أنه أخلص لله قلبه فكأنه أتحف حضرة الله بذلك القلب ورأيت في التوراة أن الله قال لموسى أجب إلهك بكل قلبك
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن إبراهيم جاء ربه بقلب سليم ذكر أن من جملة آثار تلك السلامة أن دعا أباه وقومه إلى التوحيد فقال إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ والمقصود من هذا الكلام تهجين تلك الطريقة وتقبيحها
ثم قال ءالِهَة ً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا قال صاحب ( الكشاف ) أئفكا مفعول له تقديره أتريدون آلهة من دونه إفكاً وإنما قدم المفعول على الفعل للعناية وقدم المفعول له على المفعول به لأنه كان الأهم عنده أن يقرر عندهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم ويجوز أن يكون إفكاً مفعولاً به يعني أتريدون إفكاً ثم فسر الإفك بقوله دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ على أنها إفك في أنفسها ويجوز أن يكون حالاً بمعنى تريدون آلها من دون الله آفكين
ثم قال فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ الْعَالَمِينَ وفيه وجهان أحدهما أتظنون برب العالمين أنه يجوز جعل هذه الجمادات مشاركة له في المعبودية وثانيها أتظنون برب العالمين أنه من جنس هذه الأجسام حتى جعلتموها مساوية له في المعبودية فنبههم بذلك على أنه ليس كمثله شيء
ثم قال فَنَظَرَ نَظْرَة ً فِى النُّجُومِ فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ عن ابن عباس أنهم كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم على مقتضى عادتهم وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه فأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خالياً في بيت الأصنام فيقدر على كسرها وههنا سؤالان الأول أن النظر في علم النجوم غير جائز فكيف أقدم عليه إبراهيم والثاني أنه عليه السلام ما كان سقيماً فلما قال إني سقيم كان ذلك ذباً واعلم أن العلماء ذكروا في الجواب عنهما وجوهاً كثيرة الأول أنه نظر نظرة في النجوم في أوقات الليل والنهار وكانت تأتيه سقامة كالحمى في بعض ساعات الليل والنهار فنظر ليعرف هل هي في تلك الساعة وقال إِنّى سَقِيمٌ فجعله عذراً في تخلفه عن العيد الذي لهم وكان صادقاً فيما قال لأن السقم كان يأتيه في ذلك الوقت وإنما تخلف لأجل تكسير أصنامهم الوجه الثاني في الجواب أن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا أصحاب النجوم يعظمونها ويقضون بها على غائب الأمور فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي في علوم النجوم وفي معانيه لا أنه نظر بعينه إليها وهو كما يقال فلان نظر في الفقه وفي النحو وإنما أراد أن يوهمهم أنه يعلم ما يعلمون ويتعرف من حيث يتعرفون حتى إذا قال إِنّى سَقِيمٌ سكنوا إلى قوله
أما قوله إِنّى سَقِيمٌ فمعناه سأسقم كقوله إِنَّكَ مَيّتٌ ( الزمر 30 ) أي ستموت الوجه الثالث أن قوله فَنَظَرَ نَظْرَة ً فِى النُّجُومِ هو قوله تعالى فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً ( الأنعام 76 ) إلى آخر الآيات وكان ذلك النظر لأجل أن يتعرف أحوال هذه الكواكب هل هي قديمة أو محدثة وقوله إِنّى سَقِيمٌ يعني

سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل البلوغ الوجه الرابع قال ابن زيد كان له نجم مخصوص وكلما طلح على صفة مخصوصة مرض إبراهيم ولأجل هذا الاستقراء لما رآه في ذلك الوقت طالعاً على تلك الصفة المخصوصة قال إِنّى سَقِيمٌ أي هذا السقم واقع لا محالة الوجه الخامس أن قوله إِنّى سَقِيمٌ أي مريض القلب سبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك قال تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ( الشعراء 3 ) الوجه السادس في الجواب أنا لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بمقايستها حرام لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بقوة وبخاصية لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل وأما الكذب فغر لازم لأنه ذكر قوله إِنّى سَقِيمٌ على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا ينفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سقم الوجه السابع قال بعضهم ذلك القول عن إبراهيم عليه السلام كذبة ورووا فيه حديثاً عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ) قلت لبعضهم هذا الحديث لا ينبغي أن يقبل لأن نسبة الكذب إلى إبراهيم لا تجوز فقال ذلك الرجل فكيف يحكم بكذب الرواة العدول فقلت لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل عليه السلام كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى ثم نقول لم لا يجوز أن يكون المراد بكونه كذباً خبراً شبيهاً بالكذب والوجه الثامن أن المراد من قوله فَنَظَرَ نَظْرَة ً فِى النُّجُومِ أي نظر في نجوم كلامهم ومتفرقات أقوالهم فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة يقال إنها منجمة أي متفقرقة ومنه نجوم الكتابة والمعنى أنه لما سمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها كي يستخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم فلم يجد عذراً أحسن من قوله إِنّى سَقِيمٌ والمراد أنه لا بد من أن أصير سقيماً كما تقول لمن رأيته على أوقات السفر إنك مسافر واعلم أن إبراهيم عليه السلام لما قال إِنّى سَقِيمٌ تولوا عنه معرضين فتركوه وعذروه في أن لا يخرج اليوم فكان ذلك مراده فَرَاغَ إِلَى ءالِهَتِهِمْ يقال راغ إليه إذا مال إليه في السر على سبيل الخفية ومنه روغان الثعلب وقوله أَلا تَأْكُلُونَ يعني الطعام الذي كان بين أيديهم وإنما قال ذلك استهزاء بها وكذا قوله مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً فأقبل عليهم مستخفياً كأنه قال فضربهم ضرباً لأن راغ عليهم في معنى ضربهم أو فراغ عليهم ضرباً بمعنى ضارباً وفي قوله بِالْيَمِينِ قولان الأو معناه بالقوة والشدة لأن اليمين أقوى الجارحتين والثاني أنه أتى بذلك الفعل بسبب الحلف وهو قوله تعالى عنه وَتَاللَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ( الأنبياء 57 ) ثم قال فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قرأ حمزة يَزِفُّونَ بضم الياء والباقون بفتحها وهما لغتان قال ابن عرفة من قرأ بالنصب فهو من زف يزف ومن قرأ بالضم فهو من أزف يزف قال الزجاج يزفون يسرعون وأصله من زفيف النعامة وهو ابتداء عدوها وقرأ حمزة يزفون أي يحملون غيرهم على الزفيف قال اوصمعي يقال أزففت الإبل إذا حملتها على أن تزف قال وهو سرعة الخطوة ومقاربة المشي والمفعول محذوف على قراءته كأنهم حملوا دوابهم على ازسراع في المشيء فإن قيل مقتضى هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما كسرها عدوا إليه وأخذوه وقال في سورة أخرى في عين هذه القصة قَالُواْ مَن فَعَلَ هَاذَا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالاَ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ( الأنبياء 59 60 ) وهذا يقتضي أنهم في أول الأمر ما عرفوه فبين هاتين الآيتين تناقض قلنا لا يبعد أن يقال إن جماعة عرفوه فعمدوا إليه مسرعين والأكثرون ما عرفوه فتعرفوا أن ذلك الكاسر من هو والله أعلم

قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الاٌّ سْفَلِينَ وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن القوم لما عاتبوا إبراهيم على كسر الأصنام فهو أيضاً ذكر لهم الدليل الدال على فساد المصير إلى عبادتها فقال أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ووجه الاستدلال ظاهر وهو أن الخشب والحجر قبل النحت والإصلاح ما كان معبوداً للإنسان ألبتة فإدا نحته وشكله على الوجه المخصوص لم يحدث فيه إلا آثار تصرفه فلو صار معبوداً عند ذلك لكان معناه أن الشيء الذي ما كان معبوداً لما حصلت آثار تصرفاته فيه صار معبوداً عند ذلك وفساد ذلك معلوم ببديهة العقل
المسألة الثانية احتج جمهور الأصحاب بقوله وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقال النحويون اتفقوا على أن لفظ ما مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله وَمَا تَعْمَلُونَ معناه وعملكم وعلى هذا التقدير صار معنى الآية والله خلقكم وخلق عملكم فإن قيل هذه الآية حجة عليكم من وجوه الأول أنه تعالى قال دأتعبدون ما تنحتون أضاف العبادة والنحت إليهم إضافة العفل إلى الفاعل ولو كان ذلك واقعاً بتخليق الله لاستحال كونه فعلاً للعبد الثاني أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية توبيخاً لهم على عبادة الأصنام لأنه تعالى بين أنه خالقهم وخالق لتلك الأصنام والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق فلما تركوا عبادته سبحانه وهو خالقهم وعبدوا اوصنام لا جرم أنه سبحانه وتعالى وبخهم على هذا الخطأ العظيم فقال أضاف العبادة والنحت إليهم إضافة العفل إلى الفاعل ولو كان ذلك واقعاً بتخليق الله لاستحال كونه فعلاً للعبد الثاني أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية توبيخاً لهم على عبادة الأصنام لأنه تعالى بين أنه خالقهم وخالق لتلك الأصنام والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق فلما تركوا عبادته سبحانه وهو خالقهم وعبدوا اوصنام لا جرم أنه سبحانه وتعالى وبخهم على هذا الخطأ العظيم فقال أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ولو لم يكونوا فاعلين لأفعالهم لما جاز توخبيهم عليها سلمنا أن هذه الآية ليست حجة عليكم لكن لا نسلم أنها حجة لكم قوله لفظة ما مع ما بعدها في تقدير المصدر قلنا هذا ممنوع وبيانه أن سيبويه والأخفش اختلفا في أنه هل يجوز أن يقال أعجبني ما قمت أي قيامك فجوزه سيبويه ومنعه الأخفش وزعم أن هذا لا يجوز إلا في الفعل المتعدي وذك يدل على أن ما مع ما بعدها في تقدير المفعول عند الأخفش سلمنا أن ذلك قد يكون بمعنى المصدر لكنه أيضاً قد يكون بمعنى المفعول ويدل عليه وجوه الأول قوله أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ والمراد بقوله مَا تَنْحِتُونَ المنحوت لا النحت لأنهم ما عبدوا النحت وإنما عبدوا المنحوت فوجب أن يكون المراد بقوله مَا تَعْمَلُونَ المعمول لا العمل حتى يكون كل واحد من هذين اللفظين على وفق الآخر والثاني أنه تعالى قال فَإِذَا هِى َ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ( الأعراف 117 ) وليس المراد أنها تلقف نفس الإفك بل أراد العصي والجبال التي هي متعلقات ذلك الإفك فكذا ههنا الثالث أنا لعرب تسمي محل العمل عملاً يقال في الباب والخاتم هذا عمل فلان والمراد محل عمله فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن لفظة ما مع بعدها كما تجيء

بمعنى المصدر فقد تجيء أيضاً بمعنى المفعول فكان حمله ههنا على المفعول أولى لأن المقصود في هذه الآية تزييف مذهبهم في عبادة الأصنام لا بيان أنهم لا يوجدون إفعال أنفسهم لأن الذي جرى ذكره في أول الآية إلى هذا الموضع هو مسألة عبادة الأصنام لا خلق الأعمال واعلم أن هذه السؤالات قوية وفي دلائلنا كثيرة فالأولى ترك الاستدلال بهذه الآية والله أعلم
واعلم أن إبراهيم عليه السلام لما أورد عليهم هذه الحجة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريق الإيذاء فقالوا ابنوا له بنياناً واعلم أن كيفية ذلك البناء لا يدل عليها لفظ القرآن قال ابن عباس بنو حائطاً من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً وملأه ناراً فطرحوه فيها وذلك هو قولهتعالى فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ وهي النار العظيمة قال الزجاج كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم والألف واللام في الجحيم يدل على النهاية والمعنى في جحيمه أي في جحيم ذلك البنيان ثم قال تعالى فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الاْسْفَلِينَ والمعنى أن في وقت المحاجة حصلت الغلبة له وعندما ألقوه في النار صرف الله عنه ضرر النار فصار هو الغالب عليهم واعلم أنه لما انقضت هذه الواقعة قال إبراهيم إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى ونظير هذه الآية قوله تعالى دوقال إني مهاجر إلى ربي ( العنكبوت 26 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى دلت هذه الآية على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء تجب مهاجرته وذلك لأن إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه مع أن الله سبحانه خصه بأعظم أنواع النصرة لما أحس منهم بالعداوة الشديدة هاجر من تلك الديار فلأن يجب ذلك على الغير كان أولى
المسألة الثانية في قوله ( العنكبوت 26 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى دلت هذه الآية على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء تجب مهاجرته وذلك لأن إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه مع أن الله سبحانه خصه بأعظم أنواع النصرة لما أحس منهم بالعداوة الشديدة هاجر من تلك الديار فلأن يجب ذلك على الغير كان أولى
المسألة الثانية في قوله وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى قولان الأول المراد منه مفارقة تلك الديار والمعنى إني ذاهب إلى مواضع دين ربي والثول الثاني قال الكلبي ذاهب بعبادتي إلى ربي فعلى القول الأول المراد بالذهاب إلى الرب هو الهجرة من الديار وبه اقتدى موسى حيث قال كَلاَّ إِنَّ مَعِى َ رَبّى سَيَهْدِينِ ( الشعراء 62 ) وعلى القول الثاني المراد رعاية أحوال القلوب وهو أن لا يأتي بشيء من الأعمال إلا لله تعالى كما قال وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 79 ) قيل إن القول الأول أولى لأن المقصود من هذه الآية بيان مهاجرته إلى أرض الشأم وأيضاً يبعد حمله على الهداية في الدين لأنه كان على الدين في ذلك الوقت إلا أن يحمل ذلك على الثبات عليه أو يحمل ذلك على الاهتداء إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في أمر الدين
المسألة الثالثة قوله سَيَهْدِينِ يدل على أن الهداية لا تحصل إلا من الله تعالى كما يقول أصحابنا ولا يمكن حمل هذه الهداية على وضع الأدلة وإزاحة الأعذار لأن كل ذلك قد حصل في الزمان الماضي وقوله سيدهين يدل على اختصاص تلك الهدية بالمستقبل فوجبحمل الهداية في هذه الآية على تحصيل العلم والمعرفة في قلبه فإن قيل إبراهيم عليه السلام جزم في هذه الآية بأنه تعالى سيهديه وأن موسى عليه السلام لم يجزم به بل قال قَالَ عَسَى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السَّبِيلِ ( القصص 22 ) فما الفرق قلنا العبد إذا تجلى له مقامات رحمة الله فقد يجزم بحصول المقصود وإذا تجلى له مقامات كونه غنياً عن العالمين فحينئذٍ يستحقر نفسه فلا يجزم بل لا يظهر إلا الرجاء والطمع

المسألة الرابعة قوله تعالى إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى يدل على فساد تمسك المشبهة بقوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) لأن كلمة إلى موجودة في قوله إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى مع أنه لم يلزم أن يكون الإله موجوداً في ذلك المكان فكذلك ههنا
واعلم أنه صلوات الله عليه لما هاجر إلى الأرض المقدسة أراد الولد فقال هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ أي هب لي بعض الصالحين يريد الولد لأن لفظ الهبة غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً ( مريم 53 ) وقال تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ( الأنبياء 72 ) وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى ( الأنبياء 90 ) وقال علي بن أبي طالب لابن عباس رضي الله عنهم حين هنأه بولده على أبي الأملاك شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب ولذلك وقعت التسمية بهبة الله تعالى وبهبهة الوهاب وبموهوب ووهب
واعلم أن هذا الدعاء اشتمل على ثلاثة أشياء على أن الولد غلام ذكر وأنه يبلغ الحلم وأنه يكون حليماً وأي حلم يكون أعظم من ولد حين عرض عليه أبوه الذبح قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مّنَ الصَّابِرِينَ ( الصافات 102 ) ثم استسلم لذلك وأيضاً فإن إبراهيم عليه السلام كان موصوفاً بالحلم قال تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ ( التوبة 114 ) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ( هود 75 ) فبين أن ولده موصوف بالحلم وأنه قائم مقامه في صفات الشرف والفضيلة واعلم أن الصلاح أفضل الصفات بدليل أن الخليل عليه السلام طلب الصلاح لنفسه فقال رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( الشعراء 83 ) وطلبه للولد فقال رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ وطلبه سليمان عليه السلام بعد كمال درجته في الدين والدنيا فقال وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ( النمل 19 ) وذلك يدل على أن الصلاح أشرف مقامات العباد
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْى َ قَالَ يابُنَى َّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاٌّ خِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ

واعلم أن سبحانه وتعالى لما قال فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ( الصافات 101 ) أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به وبلغه فقال فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْى َ ومعناه فلما أدرك وبلغ الحد الذي يقدر فيه على السعي وقوله مَعَهُ في موضع الحال والتقدير كائناً معه والفائدة في اعتبار هذا المعنى أن الأب أرفق الناس بالولد وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله لأنه لم تستحكم قوته قال بعضهم كان في ذلك الوقت ابن ثلاث عشرة سنة والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى لما وعده في الآية الأولى بكون ذلك الغلام حليماً بين في هذه الآية ما يدل على كمال حلمه وذلك لأنه كان به من كمال الحلم وفسحة الصدر ما قواه على احتمال تلك البلية العظيمة والإتيان بذلك الجواب الحسن
أما قوله إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ ففيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير هذه اللفظة وجهان الأول قال السدي كان إبراهيم حين بشر بإسحق قبل أن يولد له قال هو إذن لله ذبيح فقيل زبراهيم قد نذرت نذراً فف بنرك فلما أصبح قَالَ يَاءادَمُ بَنِى إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ
وروي من طريق آخر أنه رأى ليلة التروية في منامه كأن قائلاً يقول له إن الله يأمرك بذبح ابنك هدا فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله فسمي يوم عرفة ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر وهذا هو قول أهل التفسير وهو يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقظة وعلى هذا فتقدير اللفظ إني أرى في المنام ما يوجب أن أذبحك والقول الثاني أنه رأى في المنام أنه يذبحه ورؤيا الأنبياء عليهم السلام من باب الوحي وعلى هذا القول فالمرئي في المنام ليس إلا أنه يذبح فإن قيل إما أن يقال إنه ثبت بالدليل عند الأنبياء عليهم السلام أن كل ما رآه في المنام فهو حق حجة أو لم يثبت ذلك بالدليل عندهم فإن كان الأول فلم راجع الولد في هذه الواقعة بل كان من الواجب عليه أن يشتغل بتحصيل ذلك المأمور وأن لا يراجع الولد فيه وأن لا يقول له فَانظُرْ مَاذَا تَرَى وأن لا يوقف العمل على أن يقول له الولد افْعَلْ مَا تُؤمَرُ وأيضاً فقد قلتم إنه بقي في اليوم الأول متفكراً ولو ثبت عنده بالدليل أن كل ما رآه في النوم فهو حق لم يكن إلى هذا التروي والتفكر حاجة وإن كان الثاني وهو أنه لم يثبت بالدليل عندهم أن ما يرونه في المنام حق فكيف يجوز له أن يقدم على ذبح ذلك الطفل بمجرد رؤيا لم يدل الدليل على كونها حجة والجواب لا يبعد أن يقال إنه كان عند الرؤيا متردداً فيه ثم تأكدت الرؤيا بالوحي الصريح والله أعلم
المسأل الثانية اختلفوا في أن هذا الذبيح من هو فقيل إنه إسحق وهذ قول عمر وعلي والعباس بن عبد المطلب وابن مسعود وكعب الأحبار وقتادة وسعيد بن جبير ومسروق وعكرمة والزهري والسدي ومقاتل رضي الله عنهم وقيل إنه إسماعيل وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن والشعبي

ومجاهد والكلبي واحتج القائلون بأنه إسماعيل بوجوه الأول أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أنا ابن الذبيحين ) وقال له أعرابي ( يا ابن الذبيحين فتبسم فسئل عن ذلك فقال إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا له افد ابنك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل والذبيح الثاني إسماعيل )
الحجة الثانية نقل عن اوصمعي أنه قال سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال يا أصمعي أين عقلك ومتى كان إسحق بمكة وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه المنحر بمكة
الحجة الثالثة أن الله تعالى وصف إسماعيل بالصبر دون إسحق في قوله وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مّنَ الصَّابِرِينَ ( الأنبياء 85 ) وهو صبره على الذبح ووصفه أيضاً بصدق الوعد في قوله إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ( مريم 54 ) لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به
الحجة الرابعة قوله تعالى فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ( هود 71 ) فنقول لو كان الذبيح إسحق لكان الأمر بذبحه إما أن يقع قبل ظهور يعقوب منه أو بعد ذلك فالأول باطل لأنه تعالى لما بشرها بإسحق وبشرها معه بأنه يحصل منه يعقوب فقبل ظهور يعقوب منه لم يجز الأمر بذبحه وإلا حصل الخلف في قوله وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ والثاني باطل لأن قوله فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْى َ قَالَ يابُنَى َّ بَنِى إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ يدل على أن ذلك الإبن لما قدر على السعي ووصل إلى حد القدرة على الفعل أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه وذلك ينافي وقوع هذه القصة في زمان آخر فثبت أنه لا يجوز أن يكون الذبيح هو إسحق
الحجة الخامسة حكى الله تعالى عنه أنه قال إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى سَيَهْدِينِ ( الصافات 99 ) ثم طلب من الله تعالى ولداً يستأنس به في غربته فقال رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ ( الصافات 100 ) وهذا السؤال إنما يحسن قبل أن يحصل له الولد لأنه لو حصل له ولد واحد لما طلب الولد الواحد لأن طلب الحاصل محال وقوله هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ لا يفيد إلا طلب الولد الواحد وكلمة من للتبعيض وأقل درجات البعضية الواحد فكأن قوله مّنَ الصَّالِحِينَ لا يفيد إلا طلب الولد الواحد فثبت أن هذا السؤال لا يحسن إلا عند عدم كل الأولاد فثبت أن هذا السؤال وقع حال طلب الولد الأول وأجمع الناس على أن إسماعيل متقدم في الوجود على إسحق فثبت أن المطلوب بهذا الدعاء وهو إسماعيل ثم إن الله تعالى ذكر قيبه قصة الذبيح فوجب أن يكون الذبيح هو إسماعيل
الحجة السادسة الأخبار الكثيرة في تعليق قرن الكبش بالكعبة فكأن الطبيح بمكة ولو كان الذبيح إسحق كان الذبح بالشام واحتج من قال إن ذلك الذبيح هو إسحق بوجهين الوجه الأول أن أول الآية وآخرها يدل على ذلك أما أولها فإنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام قبل هذه الآية أنه قال إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى سَيَهْدِينِ وأجمعوا على أن المراد منه مهاجرته إلى الشام ثم قال فبشرناه بغلام حليم ( الصافات 101 ) فوجب أن يكون هذا الغلام ليس إلا إسحق ثم قال بعده ( الصافات 101 ) فوجب أن يكون هذا الغلام ليس إلا إسحق ثم قال بعده فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْى َ وذلك يقتضي أن يكون المراد من هذا الغلام الذي بلغ معه السعي هو ذلك الغلام الذي حصل في الشام فثبت أن مقدمة هذه الآية تدل على أن الذبيح هو إسحق وأما آخر الآية فهو أيضاً يدل على ذلك لأنه تعالى لما تمم قصة الذبيح قال بعده

وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مّنَ الصَّالِحِينَ ومعناه أنه بشره بكونه نبياً من الصالحين وذكر هذه البشارة عقيب حكاية تلك القصة يدل على أنه تعالى إنما بشره بهذه النبوة لأجل أنه تحمل هذه الشدائد في قصة الذبيح فثبت بما ذكرنا أن أول الآية وآخرها يدل على أن الذبيح هو إسحق عليه السلام
الحجة الثانية على صحة ذلك ما اشتهر من كتاب يعقوب إلى يوسف عليه السلام من يعقوب إسرائيل نبي الله بن إسحق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله فهذا جملة الكلام في هذا الباب وكان الزجاج يقول الله أعلم أيهما الذبيح والله أعلم واعلم أنه يتفرع على ما ذكرنا اختلافهم في موضع الذبح فالذين قالوا الذبيح هو إسماعيل قالوا كان الذبح بمنى والذين قالوا إنه إسحق قالوا هو بالشام وقيل ببيت المقدس والله أعلم
المسألة الثالثة اختلف الناس في أن إبراهيم عليه السلام كان مأموراً بهذا بما رأى وهذا الاختلاف مفرع على مسألة من مسائل أصول الفقه وهي أنه هل يجوز نسخ الحكم قبل حضور مدة الامتثال فقال أكثر أصحابنا إنه يجوز وقالت المعتزلة وكثير من فقهاء الشافعية والحنفية إنه لا يجوز فعلى القول الأول أنه سبحانه وتعالى أمره بالذبح ثم إنه تعالى نسخ هذا التكليف قبل حضور وقته وعلى القول الثاني أنه تعالى ما أمره بالذبح وإنما أمره بمقدمات الذبح وهذه مسألة شريفة من مسائل باب النسخ واحتج أصحابنا على أنه يجوز نسخ الأمر قبل مجيء مدة الامتثال بأن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم إنه تعالى نسخه عنه قبل إقدامه عليه وذلك يفيد المطلوب إنما قلنا إنه تعالى أمره بذبح الولد لوجهين الأول أنه عليه السلام قال لولده إني أرى في المنام أني أذبحك فقال الولد افعل ما تؤمر وهذا يدل على أنه عليه السلام كان مأموراً بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح ثم إنه أتى بمقدمات الذبلح وأدخلها في الوجود فحينئذٍ يكون قد أمر بشيء وقد أتى به وفي هذا الموضع لا يحتاج إلى الفداء لكنه احتاج إلى الفداء بدليل قوله تعالى وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فدل هذا على أنه أتى بالمأمور به وقد ثبت أنه أتى بكل مقدمات الذبح وهذا يدل على أنه تعالى كان قد أمره بنفس الذبح وإذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى نسخ ذلك الحكم قبل إثباته وذلك يدل على المقصود وقالت المعتزلة لا نسلم أن الله أمره بذبح الولد بل نقول إنه تعالى أمره بمقدمات الذبح ويدل عليه وجوه الأول أنه ما أتى بالذبح وإنما أتى بمقدمات الذبح ثم إن الله تعالى أخبر عنه بأنه أتى بما أمر به بدليل قوله تعالى وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْراهِيمُ إِبْرَاهِيمَ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا وذلك يدل على أنه تعالى إنما أمره في المنام بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح وتلك المقدمات عبارة عن إضجاعه ووضع السكين على حلقه والعزم الصحيح على الإتيان بذلك الفعل إن ورد الأمر الثاني الذبح عبارة عن قطع الحلقوم فلعل إبراهيم عليه السلام قطع الحلقوم إلا أنه كلما قطع جزءاً أعاد الله التأليف إليه فلهذا السبب لم يحصل الموت والوجه الثالث وهو الذي عليه تعويل القوم أنه تعالى لو أمر شخصاً معيناً بإيقاع فعل معين في وقت معين فهذا يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت حسن فإذا أنهاه عنه فذلك النهي يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت قبيح فلو حصل هذا النهي عقيب ذلك الأمر لزم أحد أمرين لأنه تعالى إن كان عالماً بحال ذلك الفعل لزم أن يقال إنه أمر بالقبيح أو نهى عن الحسن وإن لم يكن عالماً به لزم جهل الله تعالى الحسن وإن لم يكن عالماً به لزم جهل الله تعالى وإنه محال فهذا تمام الكلام في هذا الباب والجواب عن الأول أنا قد دللنا على أنه تعالى إنما أمره بالذبح

أما قوله تعالى قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا فهذا يدل على أنه اعترف بكون تلك الرؤيا واجب العمل بها ولا يدل على أنه أتى بكل ما رآه في ذلك المام وأما قوله ثانياً كلما قطع إبراهيم عليه السلام جزءاً أعاد الله تعالى التأليف إليه فنقول هذا باطل لأن إبراهيم عليه السلام لو أتى بكل ما أمر به لما احتاج إلى الفداء وحيث احتاج إليه علمنا أنه لم يأت بما أمر به وأما قوله ثالثاً إنه يلزم إما الأمر بالقبيح وإما الجهل فنقول هذا بناءً على أن الله تعالى لا يأمر إلا بما يكون حسناً في ذاته ولا ينهي إلا عما يكون قبيحاً في ذاته وذلك بناءً على تحسين العقل وتقبيحه وهو باطل وأيضاً فهب أنا نسلم ذلك إلا أنا نقول لم لا يجوز أن يقال إن الأمر بالشيء تارة يحسن لكون المأمور به حسناً وتارة لأجل أن ذلك الأمر يفيد صحة مصلحة من المصالح وإن لم يكن المأمور به حسناً ألا ترى أن السيد إذا أراد أن يروض عبده فإنه يقول له إذا جاء يوم الجمعة فافعل الفعل الفلاني ويكون ذلك الفعل من الأفعال الشاقة ويكون مقصود السيد من ذلك الأمر ليس أن يأتي ذلك العبد بذلك الفعل بل أن يوطن العبد نفسه على ازنقياد والطاعة ثم إن السيد إذا علم منه أنه وطن نفسه على الطاعة فقد يزيل الألم عنه ذلك التكليف فكذا ههنا فما لم تقيموا الدلالة على فساد هذا الاحتمال لم يتم كلامكم
المسألة الرابعة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه والدليل عليه أنه أمر بالذبح وما أراد وقوعه أما أنه أمر بالذبح فلما تقدم في المسألة الأولى وأما أنه ما أراد وقوعه فلأن عندنا أن كل ما أراد الله وقوعه فإنه يقع وحيث لم يقع هذا الذبح علمنا أنه تعالى ما أراد وقوعه وأما عند المعتزلة فلأن الله تعالى نهى عن ذلك الذبح والنهي عن الشيء يدل على أن الناهي لا يريد وقوعه فثبت أنه تعالى أمر بالذبح وثبت أنه تعالى ما أراده وذلك يدل على أن الأمر قد يوجد بدون الإرادة وتمام الكلام في أن الله تعالى أمر بالذبح ما تقدم في المسألة المتقدمة والله أعلم
المسألة الخامسة في بيان الحكمة في ورود هذا التكليف في النوم لا في اليقظة وبيانه من وجوه الأول أن هذا التكليف كان في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح فورد أولاً في النوم حتى يصير ذلك كالمنبه لورود هذا التكليف الشاق ثم يتأكد حال النوم بأحوال اليقظة فحينئذٍ لا يهجم هذا التكليف دفعة واحدة بل شيئاً فشيئاً الثاني أن الله تعالى جعل رؤيا الأنبياء عليهم السلام حقاً قال الله تعالى في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ( الفتح 27 ) وقال عن يوسف عليه السلام إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( يوسف 4 ) وقال في حق إبراهيم عليه السلام إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ ( الصافات 102 ) والمقصود من ذلك تقوية الدلالة على كونهم صادقين لأن الحال إما حال يقظة وإما حال منام فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك هو النهاية في بيان كونهم محقين صادقين في كل الأحوال والله أعلم
ثم نقول مقامات الأنبياء عليهم السلام على ثلاثة أقسام منها ما يقع على وفق الرؤية كما في قوله تعالى في حق رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ثم وقع ذلك الشيء بعينه ومنها ما يقع على الضد كما في حق إبراهيم عليه السلام فإنه رأى الذبح وكان الحاصل هو الفداء والنجاة ومنها ما يقع على ضرب من التأويل والمناسبة كما في رؤيا يوسف عليه السلام فلهذا السبب أطبق أهل التعبير على أن

المنامات واقعة على هذه الوجوه الثلاثة
المسألة السادسة قرأ حمزة والكسائي تَرَى بضم التاء وكسر الراء أن ما ترى من نفسك من الصبر والتسليم وقيل ما تشير والباقون بفتح التاء ثم منهم من يميل ومنهم من لا يميل
المسألة السابعة الحكمة في مشاورة الإبن في هذا الباب أن يطلع ابنه على هذه الواقعة ليظهر له صبره في طاعة الله فتكون فيه قرة عين لإبراهيم حيث يراه قد بلغ في الحلم إلى هذا الحد العظيم وفي الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالمية ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة والثناء الحسن في الدنيا ثم إنه تعالى حكى من ولد إبراهيم عليه السلام أنه قال افْعَلْ مَا تُؤمَرُ ومعناه افعل ما تؤمر به فحذف الجار كما حذف من قوله
أمرتك الخبر فافعل ما أمرت ( به )
ثم قال سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ وإنما علق ذلك بمشيئة الله تعالى على سبيل التبرك والتيمن وأنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله
ثم قال تعالى فَلَمَّا أَسْلَمَا يقال سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد وقد قرىء بهن جميعاً إذ انقاد له وخضع وأصلها من قولك سلم هذا لفلان إذا خلص له ومعناه سلم من أن ينازع فيه وقولهم سلم لأمر الله وأسلم له منقولان عنه بالهمزة وحقيقة معناها أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له خالصة وكذلك معنى استسلم استخلص نفسه لله وعن قتادة في أسلما أسلم هذا ابنه وهذا نفسه ثم قال تعالى دوتله للجبين أي صرعه على شقه فوقع أحد جبينيه على الأرض وللوجه جبينان والجبهة بينهما قال ابن الأعرابي التليل والمتلول المصروع والمتل الذي يتل به أي يصرع فالمعنى أنه صرعه على جبينه وقال مقاتل كبه على جبهته وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة
ثم قال تعالى أي صرعه على شقه فوقع أحد جبينيه على الأرض وللوجه جبينان والجبهة بينهما قال ابن الأعرابي التليل والمتلول المصروع والمتل الذي يتل به أي يصرع فالمعنى أنه صرعه على جبينه وقال مقاتل كبه على جبهته وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة
ثم قال تعالى وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْراهِيمُ إِبْرَاهِيمَ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا وفيه قولان الأول أن هذا جواب فلما عند الكوفيين والفراء والواو زائدة والوق الثاني أن عند البصريين لا يجوز ذلك والجواب مقدر والتقدير فلما فعل ذلك وناداه الله أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا سعد سعادة عظيمة وآتاه الله نبوة ولده وأجزل له الثواب قالوا وحذف الجواب ليس بغريب في القرآن والفائدة فيه أنه إذا كان محذوفاً كان أعظم وأفخم قال المفسرون لما أضجعه للذبح نودي من الجبل أَن ياإِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا قال المحققون السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله تعالى فلما كلفه الله تعالى بهذا التكلف الشاق الشديد وظهر منه كمال الطاعة وظهر من ولده كمال الطاعة والانقياد لا جرم قال قد صدقت الرؤيا يعني حصل المقصود من تلك الرؤيا
وقوله إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ ابتداء إخبار من الله تعالى وليس يتثل بما تقدم من الكلام والمعنى أن إبراهيم وولده كانا محسنين في هذه الطاعة فكما جزينا هذين المحسنين فكذلك نجزي كل المحسنين
ثم قال تعالى إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ الذبح مصدر ذبحت والذبح أيضً ما

يذبح وهو المراد في هذه الآية وههنا مباحث تتعلق بالحكايات فالأول حكي في قصة الذبيح أن إبراهيم عليه السلام لما أراد ذبحه قال يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب فلما تسوطا شعب ثبير أخبره بما أمر به فقال يا أبت اشدد رباطي فيَّ كيلا أضطرب واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن واستحد شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد واقرأ على أمي سلامي وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل لها فقال إبراهيم عليه السلام نعم العون أنت يا بني على أمر الله ثم أقب عليه يقبله وقد ربطه وهما يبكيان ثم وضع السكين على حلقه فقال كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة وقد تحول بينك وبين أمر الله سبحانه وتعالى ففعل ثم وضع السكين على قفاه فانقلبت السكين ونودي يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا
البحث الثاني اختلفوا في ذلك الكبش فقيل إنه الكبش لذي تقرب به هابيل بن آدم إلى الله تعالى فقبله وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله تعالى به إسماعيل وقال آخرون أرسل الله كبشاً من الجنة قد رعى أربعين خريفاً وقال السدي نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو بكبش أملح انحط من الجبل فقام عنه إبراهيم فأخذه فذبحه وخلى عن ابنه ثم اعتنق ابنه وقال يا بني اليوم وهبت لي وأما قوله عظِيمٌ فقيل سمي عظيماً لعظمه وسمنه وقال سعيد بن جبير حق له أن يكون عظيماً وقد رعى في الجنة أربعين خريفاً وقيل سمي عظيماً لعظم قدره حيث قبله الله تعالى فداء عن ولد إبراهيم ثم قال تعالى إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الضمير في قوله أَنَّهُ عائد إلى إبراهيم ثم قال تعالى وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مّنَ الصَّالِحِينَ فقوله نَبِيّاً حال مقدرة أي بشرناه بوجود إسحاق مقدرة نبوته ولمن يقول إن الذبيح هو إسماعيل أن يحتج بهذه الآية وذلك لأن قوله نَبِيّاً حال ولا يجوز أن يكون المعنى فبشرناه بإسحاق حال كون إسحق نبياً لأن البشارة به متقدمة على صيرورته نبياً فوجب أن يكون المعنى وبشرناه بإسحاق حال ما قدرناه نبياً وحال ما حكمنا عليه فصبر وإذا كان الأمر كذلك فحينئذٍ كانت هذه البشارة بشارة بوجود إسحاق حاصلة بعد قصة الذبيح فوجب أن يكون الذبيح غير إسحاق أقصى ما في الباب أن يقال لا يبعد أن يقال هذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة عن قصة الذبيح إلا أنها كانت متقدمة عليها في الوقوع والوجود إلا أنا نقول الأصل رعاية الترتيب وعدم التغيير في النظم والله أعلم بالصواب
ثم قال تعالى وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وفي تفسير هذه البركة وجهان الأول أنه تعالى أخرج جميع أنبياء بني إسرائيل من صلب إسحاق والثاني أنه أبقى الثناء الحسن على إبراهيم وإسحاق إلى يوم القيامة لأن البركة عبارة عن الدوام والثبات ثم قال تعالى وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لّنَفْسِهِ مُبِينٌ وفي ذلك تنبيهخ على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأب فضيلة الابن لئلا تصير هذه الشبهة سبباً لمفاخرة اليهود ودخلت تحت قوله مُحْسِنٌ الأنبياء والمؤمنين وتحت قوله مُحْسِنٌ الأنبياء والمؤمنون وتحت قوله ظَالِمٌ الكافر والفاسق والله أعلم
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الْغَالِبُونَ وَءَاتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الاٌّ خِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ

اعلم أن هذا هو القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة واعلم أن وجوه الأنعام وإن كانت كثيرة إلا أنها محصورة في نوعين إيصال المنافع إليه ودفع المضار عنه والله تعالى ذكر القسمين ههنا فقوله وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إشارة إلى إيصال المنافع إليهما وقوله وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ إشارة إلى دفع المضار عنهما
أما القسم الأول وهو إيصال المنافع فلا شك أن المنافع على قسمين منافع الدنيا ومنافع الدين أما منافع الدنيا فالوجود والحياة والعقل والتربية الصحة وتحصيل صفات الكمال في ذات كل واحد منهما وأما منافع الدين فالعلم والطاعة وأعلى هذه الدرجات النبوة الرفيعة المقرونة بالمعجزات الباهرة القاهرة ولما ذكر الله تعالى هذه التفاصيل في سائر السور لا جرم اكتفى ههنا بهذا الرمز
وأما القسم الثاني وهو دفع الضرر فهو المراد من قوله وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وفيه قولان قيل إنه الغرق أغرق الله فرعون وقومه ونجى الله بني إسرائيل وقيل الرماد أنه تعالى نجاهم من إيذاء فرعون حيث كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه منَّ على موسى وهارون فصل أقسام تلك المنة والهاء في قوله وَنَصَرْنَاهُمْ أي نصرنا موسى وهارون وقومهما وَكَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ في كل الأحوال بظهور الحجة وفي آخر الأمر بالدورة والرفعة وثانيهما قوله تعالى وَءاتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ والمراد منه التوراة وهو الكتاب المشتمل على جميع العلوم التي يحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا كما قال إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ( المائدة 44 ) وثالثها قوله تعالى وَهَدَيْنَاهُمَا الصّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي دللناهما على طريق الحق عقلاً وسمعاً وأمددناهما بالتوفيق والعصمة وتشبيه الدلائل الحقة بالطريق المستقيم واضح ورابعها قوله تعالى وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الاْخِرِينَ وفيه قولان الأول أن المراد وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الاْخِرِينَ وهم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قولهم سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ والثاني أن المراد وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الاْخِرِينَ وهم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الثناء الحسن والذكر الجميل وعلى هذا التقدير فقوله بعد ذلك سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ هو كلام الله تعالى ولما ذكر تعالى هذه الأقسام الأربعة من أبواب التعظيم والتفضيل قال إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وقد سبق تفسيره ثم قال تعالى إِنَّمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ والمقصود التنبيه على أن

الفضيلة الحاصلة بسبب الإيمان أشرف وأعلى وأكمل من كل الفضائل ولولا ذلك لما حسن ختم فضائل موسى وهارون بكونهما من المؤمنين والله أعلم
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَآئِكُمُ الاٌّ وَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاٌّ خِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
اعلم أن هذه القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وَإِنَّ إِلْيَاسَ بغير همزة على وصل الألف والباقون بالهمزة وقطع الألف قال أبو بكر بن مهران من ذكر عند الوصل الألف فقد أخطأ وكان أهل الشام ينكرونه ولا يعرفونه قال الواحدي وله وجهان أحدهما أنه حذف الهمزة من إلياس حذفاً كما حذفها ابن كثير من قوله إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ ( المدثر 35 ) وكقول الشاعر
ويلمها في هواء الجو طالبة
والآخر أنه جعل الهمزة التي تصحب اللام للتعريف كقوله وَالْيَسَعَ
المسألة الثانية في إلياس قولان يروى عن ابن مسعود أنه قرأ وإن إدريس وقال إن إلياس هو إدريس وهذا قول عكرمة وأما أكثر المفسرين فهم متفقون على أنه نبي من أنبياء بني إسرائيل وهو إلياس بن ياسين من ولد هارون أخي موسى عليهم السلام ثم قال تعالى إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ والتقدير اذكر يا محمد لقومك إِذْ قَالَ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ أي ألا تخافون الله وقال الكلبي ألا تخافون عبادة غير الله واعلم أنه لما خوفهم أولاً على سبيل الإجمال ذكر ما هو السبب لذلك الخوف فقال أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ وفيه أبحاث
الأول في ( بعل ) قولان أحدهما أنه اسم علم لصنم كان لهم كمناة وهبل وقيل كان من ذهب وكان طوله عشرين ذراعاً وله أربعة أوجه وفتنوا به وعظموه حتى عينوا له أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وهم أهل بعلبك

من بلاد الشأم وبه سميت مدينتهم بعلبك واعلم أن قولهم بعل اسم لصنم من أصنامهم لا بأس به وأما قولهم إن الشيطان كان يدخل في جوف بعلبك ويتكلم بشريعة الضلالة فهذا مشكل لأنا إن جوزنا هذا كان ذلك قادحاً في كثير من المعجزات لأنه نقل في معجزات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلام الذئب معه وكلام الجمل معه وحنين الجذع ولو جوزنا أن يدخل الشيطان فيجوف جسم ويتكلم فحينئذٍ يكون هذا الاحتمال قائماً في الذئب والجمل والجذع وذلك يقدح في كون هذه الأشياء معجزات القول الثاني أن البعل هو الرب بلغة اليمن يقال من بعل هذه الدار أي من ربها وسمي الزوج بعلاً لهذا المعنى قال تعالى وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ ( البقرة 228 ) وقال تعالى وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا ( هود 72 ) فعلى هذا التقدير المعنى أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله
البحث الثاني المعتزلة احتجوا بهذه الآية على كون العبد خالقاً لأفعال نفسه فقالوا لو لم يكن غير الله خالقاً لما جاز وصف الله بأنه أحسن الخالقين والكلام فيه قد تقدم في قوله تعالى فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 )
البحث الثالث كان الملقب بالرشيد الكاتب يقول لو قيل أتدعون بعلاً وتدعون أحسن الخالقين أوهم أنه أحسن لأنه كان قد تحصل فيه رعاية معنى التحسين وجوابه أن فصاحة القرآن ليست لأجل رعاية هذه التكاليف بل لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ واعلم أنه لما عابهم على عبادة غير الله صرح بالتوحيد ونفى الشركاء فقال اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ وفيه مباحث
الأول أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن حدوث الأشخاص البشرية كيف يدل على وجود الصانع المختار وكيف يدل على وحدته وبراءته عن الأضداد والأنداد فلا فائدة في الإعادة
البحث الثاني قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءابَائِكُمُ كلها بالنصب على البدل من قوله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ والباقون بالرفع على الاستئناف والأول اختيار أبي حاتم وأبي عبيد ونقل صاحب ( الكشاف ) أن حمزة إذا وصل نصب وإذا وقف رفع ولما حكى الله عنه أنه قرر مع قومه التوحيد قال فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي لمحضرون النار غداً وقد ذكرنا الكلام فيه عند قوله لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( الصافات 57 ) ثم قال تعالى إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وذلك لأن قومه ما كذبوه بكليتهم بل كان فيهم من قبل ذلك التوحيد فلهذا قال تعالى إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني الذين أتوا بالتوحيد الخالص فإنهم لا يحضرون ثم قال وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ قرأ نافع وابن عامر ويعبوب ( آل ياسين ) على إضافة لفظ آل إلى لفظ ياسين والباقون بكسر الألف وجزم اللام موصولة بياسين أما القراءة الأولى ففيها وجوه الأول وهو الأقرب أنا ذكرنا أنه إلياس بن ياسين فكان إلياس آل ياسين الثاني ( آل ياسين ) آل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والثالث أن ياسين اسم القرآن كأنه قيل سلام الله على من آمن بكتاب الله الذي هو ياسين والوجه هو الأول لأنه أليق بسياق الكلام وأما القراءة الثانية ففيها وجوه الأول قال الزجاج يقال ميكال وميكائيل وميكالين فكذا ههنا إلياس وإلياسين والثاني قال الفراء هو جمع وأراد به إلياس وأتباعه من المؤمنين كقولهم المهلبون والسعدون قال
أنا ابن سعد أكرم السعدينا

ثم قال تعالى إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وقد سبق تفسيره والله أعلم
وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الاٌّ خَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
هذا هو القصة الخامسة وإنه تعالى إنما ذكر هذه القصة ليعتبر بها مشكرو العرب فإن الذين كفروا من قومه هلكوا والذين آمنوا نجوا وقد تقدم شرح هذه القصة وقد نبههم بقوله تعالى وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ وذلك لأن القوم كانوا يسافرون إلى الشام والمسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في الليل وفي أول النهار فلهذا السبب عين تعالى هذين الوقتين
ثم قال تعالى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ يعني أليس فيكم عقول تعتبرون بها والله أعلم
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَة ً مِّن يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَة ِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَأامَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ
واعلم أن هذا هو القصة السادسة وهو آخر القصص المذكورة في هذه السورة وإنما صارت هذه القصة خاتمة للقصص لأجل أنه لما لم يصبر على أذى قومه وأبق إلى الفلك وقع في تلك الشدائد فيصبر هذا سبباً لتصبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أذى قومه
أما قوله وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قريء يونس بضم النون وكسرها

المسألة الثانية دلت هذه الآية على أن هذه الواقعة إنما وقعت ليونس عليه السلام بعد أن صار رسولاً لأن قوله تَعْقِلُونَ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ معناه أنه كان من المرسلين حينما أبق إلى الفلك ويمكن أن يقال إنه جاء في كثير من الروايات أنه أرسله ملك زمانه إلى أولئك القوم ليدعوهم إلى الله ثم أبق والتقمه الحوت فعند ذلك أرسله الله تعالى والحاصل أن قوله لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لا يدل على أنه كان في ذلك الوقت مرسلاً من عند الله تعالى ويمكن أن يجاب بأنه سبحانه وتعالى ذكر هذا الوصف في معرض تعظيمه ولن يفيد هذه الفائدة إلا إذا كان المراد من قوله لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أنه من المرسلين عند الله تعالى
المسألة الثالثة أبق من إباق العبد وهو هربه من سيده ثم اختلف المفسرون فقال بعضهم إنه أبق من الله تعالى وهذا بعيد لأن ذلك لا يقال إلا فيمن يتعمد مخالفة ربه وذلك لا يجوز على الأنبياء واختلفوا فيما لأجله صار مخطئاً فقيل لأنه أمر بالخروج إلى بني إسرائيل فلم يقبل ذلك التكليف وخرج مغاضباً لربه وهذا بعيد شواء أمره الله تعالى بذلك بوحي أو بلسان نبي آخر وقيل إن ذنبه أنه ترك دعاء قومه ولم يصبر عليهم وهذا أيضاً بعيد لأن الله تعالى لما أمره بهذاالعمل فلا يجوز أن يتركه والأقرب فيه وجهان الأول أن ذنبه كان لأن الله تعالى وعده إنزال الإهلاك بقومه الذين كذبوه فظن أنه نازل لا محالة فلأجل هذا الظن لم يصبر على دعائهم فكان الواجب عليه أن يستمر على الدعاء لجواز أن لا يهلكهم الله بالعذاب وإن أنزله وهذا هو الأقرب لأنه إقادم على أمر ظهرت أماراته فلا يكون تعمداً للمعصية وإن كان الأولى في مثل هذا الباب أن لا يعمل فيه بالظن ثم انكشف ليونس من بعد أنه أخطأ في ذلك الظن لأجل أنه ظهر الإيمان منهم فمعنى قوله إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ ما ذكرناه الوجه الثاني أن يونس كان وعد قومه بالعذاب فلما تأخر عنهم العذاب خرج كالمستور عنهم فقصد البحر وركب السفينة فذلك هو قوله إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ وتمام الكلام في مشكلات هذه الآية ذكرناه في قوله تعالى وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ( الأنبياء 87 ) وقوله إِلَى الْفُلْكِ مفسر في سورة يونس والسفينة إذا كان فيها الحمل الكثير والناس يقال إنها مشحونة ثم قال تعالى الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ المساهمة هي المقارعة يقال أسهم القوم إذا اقترعوا قال المبرد وإنما أخذ من السهام التي تجال للقرعة فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ أي المغلوبين يقال أدحض الله حجته فدحضت أي أزالها فزالت وأصل الكلمة من الدحض الذي هو الزلق يقال دحضت رجل البعير إذا زلقت وذكر ابن عباس في قصة يونس عليه السلام أنه كان يسكن مع قومه فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف وكان الله تعالى أوحي إلى بني إسرائيل إذا إسركم عدوكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني أستجب لكم فلما نسوا ذلك وأسروا أوحي الله تعالى بعد حين إلى نبي من أنبيائهم أن أذهب إلى ملك هؤلاء الأقوام وقل له حتى يبعث إلى بني إسرائيل نبياً فاختار يونس عليه السلام لقوته وأمانته قال يونس الله أمر بهاذ قال لا ولكن أمرت أن أبعث قوياً أميناً وأنت كذلك فقال يونس وفي بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لا تبعثه فألح الملك عليه فغضب يونس منه وخرج حتى أتى بحر الروم ووجد سفينة مسجونة فحملوه فيها فلما دخلت لجة البحر أشرفت على الغرق فقال الملاحون إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه من غير ربح ولا سبب ظاهر وقال التجار قد جربنا مثل هذا فإذا رأيناه نقترع فمن خرج سهمه نغرقه فلأن يغرق واحد خير من غرق الكل فخرج سهم يونس فقال التجار نحن

أولى بالمعصية من نبي الله ثم عادوا ثانياً وثالثاً يقترعون فيخرج سهم يونس فقال يا هؤلاء أنا العاصي وتلفف في كساء ورمي بنفسه فاتبلغته السمكة فأوحي الله تعالى إلى الحوت ( لا تكسر منه عظماً ولا تقطع له وصلاً ) ثم إن السمكة أخرجته إلى نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى بحر البطائح ثم دجلة فصعدت به ورمته بأرض نصيبين بالعراء وهو كالفرخ المنتوف لا شعر ولا لحم فأنبت الله عليه شجرة من يقطين فكان يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى تشدد ثم إن الأرض أكلتها فخرت من أصلها فحزن يونس لذلك حزناً شديداً فقال يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والريح وأمص من ثمرها وقد سقطت فقيل له يا يونس تحزن على شجرة أنبتت في ساعة واقتلعت في ساعة ولا تحزن على مائة ألف أو يزيدون تركتهما انطلق إليهم والله أعلم بحقيقة الواقعة
ثم قال تعالى فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ يقال القمة والتهمة والكل بمعنى واحد وقوله تعالى وَهُوَ مُلِيمٌ يقال ألام إذا أتى بما يلام عليه فالمليم المستحق للوم الآتي بما يلام عليه
ثم قال تعالى فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وفي تفسير كونه من المسبحين قولان الأول أن المراد منه ما حكي الله تعالى عنه في آية أخرى أنه كان يقول في تلك الظلمات لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ( الأنبياء 87 ) الثاني أنه لولا أنه كان قبل أن التقمه الحوت من المسبحين يعني المصلين وكان في أكثر الأوقات مواظباً على ذكر الله وطاعته للبث في بطن ذلك الحوت وكان بطنه قبراً له إلى يوم البعث قال بعضهم اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة فإن يونس عليه السلام كان عبداً صالحاً ذاكراً لله تعالى فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ( يونس 91 ) واختلفوا في أنه كم لبث في بطن الحوت ولفظ القرآن لا يدل عليه قال الحسن لم يلبث إلا قليلاً وأخرج من بطنه بعد الوقت الذي التقمه وعن مقاتل بن حيان ثلاثة أيام وعن عطاء سبعة أيام وعن الضحاك عشرين يوماً وقيل شهراً ولا أدري بأي دليل عينوا هذه المقادير وعن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( سبح يونس في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة فقال ذاك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر فقالوا العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه في الساحل ) فذاك هو قوله فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وفيه مباحث
الأول العراء المكان الخالي قال أبو عبيدة إنما قيل له العراء لأنه لا شجر فيه ولا شيء يغطيه
الثاني أنه تعالى قال فنبذناه بالعراء فأضاف ذلك النبذ إلى نفسه والنبذ إنما حصل بفعل الحوت وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق الله تعالى
ثم قال تعالى فأضاف ذلك النبذ إلى نفسه والنبذ إنما حصل بفعل الحوت وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق الله تعالى
ثم قال تعالى وَهُوَ سَقِيمٌ قيل المراد أنه بلي لحمه وصار ضعيفاً كالطفل المولود كالفرخ الممعط الذي ليس عليه ريش وقال مجاهد سقيم أي سليب
ثم قال تعالى وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَة ً مّن يَقْطِينٍ ظاهر اللفظ يدل على أن الحوت لما نبذه في العراء فالله تعالى أنبت عليه شجرة من يقطين وذلك المعجز له قال المبرد والزجاج كل شجر لا يقوم على ساق وإنما

يمتد على وجه الأرض فهو يقطين نحو الدباء والحنظل والبطيخ قال الزجاج أحسب اشتقاقها من قطن بالمكان إذا أقام به وهذا الشجر ورقة كله على وجه الأرض فلذلك قيل له اليقطين روي الفراء أنه قيل عند ابن عباس هو ورق القرع فقال ومن جعل القرع من بين الشجر يقطيناً كل ورقة اتسعت وسترت فهي يقطين قال الواحدي رحنه الله والآية تقتضي شيئين لم يذكرهما المفسرون أحدهما أن هذا اليقطين لم يكن قبل فأنبته الله لأجله والآخر أن اليقطين كان معروشاً ليحصل له ظل لأنه لو كان منبسطاً على الأرض لم يمكن أن يستظل به
ثم قال تعالى وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَة ِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ وفيه مباحث
الأول يحتمل أن يكون المراد وأرسلناه قبل أن يلتقمه الحوت وعلى هذا الإرسال وإن ذكر بعد الالتقام فالمراد به التقديم والواو معناها الجمع ويحتمل أن يكون المراد به الإرسال بعد اللالتقام عن ابن عباس رضي الله تهما أنه قال كانت رسالة يونس عليه السلام بعد ما نبذه الحوت وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون أرسل إلى قوم آخرين سوى القوم الأول ويجوز أن يكون أرسل إلى الأولين ثانياً بشريعة فآمنوا بها
البحث الثاني ظاهر قوله أَوْ يَزِيدُونَ يوجب الشك وذلك على الله تعالى محال ونظيره قوله تعالى عُذْراً أَوْ نُذْراً ( المرسلات 6 ) وقوله تعالى لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وقوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ( طه 113 ) وقوله تعالى وَمَا أَمْرُ السَّاعَة ِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ( النحل 77 ) وقوله تعالى وَمَا أَمْرُ السَّاعَة ِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ( النحل 77 ) وقوله تعالى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ( النجم 9 ) وأجابوا عنه من وجوه كثيرة والأصح منها وجه واحد وهو أن يكون المعنى أو يزيدون في تقديركم بمعنى أنهم إذا رآهم الرائي قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على المائة وهذا هو الجواب عن كل ما يشبه هذا
ثم قال تعالى فَئَامَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ والمعنى أن أولئك الأقوام لما آمنوا أزال الله الخوف عنهم وآمنهم من العذاب ومتعهم الله إلى حين أي إلى الوقت الذي جعله الله أجلاً لكل واحد منهم
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَة َ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّة ِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّة ُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
وفيه مسائل

المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر أقاصيص الأنبياء عليهم السلام عاد إلى شرح مذاهب المشركين وبيان قبحها وسخافتها ومن جملة أقوالهم الباطلة أنهم أثبتوا الأولاد لله سبحانه وتعالى ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور فقال فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ وهذا معطوف على قوله في أول السورة فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً مِن خَلَقْنَا ( الصافات 11 ) وذلك لأنه تعالى أم رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولاً ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض إلى أن أمره بأن يستفتيهم في أنهم لم أثبتوا لله سبحانه البنات ولأنفسهم البنين ونقل الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا إن قريشاً وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح قالوا الملائكة بنات الله واعلم أن هذا الكلام يشتمل على أمرين أحدهما إثبات البنات لله وذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنت والشيء الذي يستنكف المخلوق منه كيف يمكن إثباته للخالق والثاني إثبات أن الملائكة إناث وهذا أيضاً باطل لأن طريق العلم إما الحس وإما الخبر وإما النظر أما الحس فمفقود ههنا لأنهم ما شهدوا كيفية تخليق الله الملائة وهو المراد من قوله أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَة َ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ وأما الخبر فمنقود أيضاً لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقاً قطعاً وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون لم يدل على صدقهم لا دلالة ولا أمارة وهو المراد من قوله أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وأما النظر فمفقود وبيانه من وجهين الأول أن دليل العقل من إسناد الأخس إلى الأفضل فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب كان قولكم باطلاً والوجه الثاني أن نترك الاستدلال على فساد مذهبهم بل نطالبهم بإثبات الدليل الدال على صحة مذهبهم فإذا لم يجدوا ذلك الدليل فضده يظهر أنه لم يوجد ما يدل على صحة قولهم وهذا هو المراد من قوله أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فثبت بما ذكرنا أن القول الذي ذهبوا إليه لم يدل على صحته لا الحس ولا الخبر ولا النظر فكان المصير إليه باطلاً قطعاً واعلم أنه تعالى لما طالبهم بما يدل على صحة مذهبهم دل ذلك على أن التقليد باطل وأن الدين لا يصح إلا بالدليل
المسألة الثانية قوله أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ قراءة العامة بفتح الهمزة وقطعها من اصْطَفَى ثم بحذف ألف الوصل وهو استفهام توبيخ وتقريع كقوله تعالى أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ ( الزخرف 16 ) وقوله تعالى أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( الطور 39 ) وقوله تعالى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( النجم 21 ) وكما أن هذه المواضع كلها استفهام فكذلك في هذه الآية وقرأ نافع في بعض الروايات لَكَاذِبُونَ اصْطَفَى موصولة بغير استفهام وإذا ابتدأ كسر الهمزة على وجه الخبر والتقدير اصطفى البنات في زعمهم كقوله ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) في زعمه واعتقاده
ثم قال تعالى وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّة ِ نَسَباً واختلفوا في المراد بالجنة على وجوه الأول قال مقاتل أثبتوا نسباً بين الله تعالى وبين الملائكة حين زعموا أنهم بنات الله وعلى هذا القول فالجنة هم الملائكة سموا جناً لاجتنانهم عن الأبصار أو لأنهم حزان الجنة وأقول هذا القول عندي مشكل لأنه تعالى

أبطل قولهم الملائكة بنات الله ثم عطف عليه قوله وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّة ِ نَسَباً والعطف يقتضي كون المعطوف مغايراً للمعطوف عليه فوجب أن يكون المراد من هذه الآية غير ما تقدم الثاني قال مجاهد قالت كفار قريش الملائكة بنات الله فقال لهم أبو بكرالصديق فمن أمهاتهم قالوا سروات الجن وهذا أيضاً عندي بعيد لأن المصاهرة لا تسمى نسباً والثالث روينا في تفسير قوله تعالى وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ ( الأنعام 100 ) أن قوماً من الزنادقة يقولون الله وإبليس أخوان فالله الخير الكريم وإبليس هو الأخ الشرير الخسيس فقوله تعالى وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّة ِ نَسَباً المراد منه هذا المذهب وعندي أن هذا القول أقرب الأقاويل وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان واهرمن ثم قال تعالى وَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّة ُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي قد علمت الجنة أن الذين قالوا هذا القول محضرون النار ويعذبون وقيل المراد ولقد علمت الجنة أنهم سيحضرون في العذاب فعلى القول الأول الضمير عائد إلى قائل هذا القول وعلى القول الثاني عائد إلى الجنة أنفسهم ثم إنه تعالى نزه نفسه عما قالوا من الكذب فقال سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وفي هذا اللاستثناء وجوه قيل استثناء من المحضرين يعني أنهم ناجون وقيل هو استثناء من قوله تعالى وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّة ِ نَسَباً وقيل هو استثناء منقطع من المحضرين ومعناه ولكن المخلصني برآء من أن يصفوه بذلك والمخلص بكسر اللام من أخلص العباة والاعتقاد لله وبفتحها من أخلصه الله بلطفه والله أعلم
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الاٌّ وَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل على فساد مذهب الكفار أتبعه بما نبه تبه على أن هؤلاء الكفار لا يقدرون على حمل أحد على الضلال إلا إذا كان قد سبق حكم الله في حقه بالعذاب والوقوع في النار وذكر صاحب ( الكشاف ) في قوله فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنتَ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ قولين الأول الضمير في عَلَيْهِ الله عز وجل معناه فإنكم ومعبوديكم ما أنت وهم جميعاً بفاتنين على الله إلا أصحاب النار الذين سبق في علم الله كونهم من أهل النار فإن قبل كيف يفتنونهم على الله قلنا يفتنونهم عليه بإغوائهم من قولك فتن فلان على فلان امرأته كما تقول أقسدها عليه والوجه الثاني أن تكون الواو في قوله وَمَا تَعْبُدُونَ

بمعنى مع كما في قولهم كل رجل وضيعته فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته فكذلك جاز أن يسكت على قوله فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ لأن قوله وَمَا تَعْبُدُونَ ساد مسد الخبر لأن معناه فإنكم مع ما تعبدون والمعنى فإنكم مع آلهتكم أي فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تتركون عبادتها ثم قال تعالى مَا أَنتَ عَلَيْهِمْ أي على ما تعبدون بِفَاتِنِينَ بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ مثلكم وقرأ الحسن صَالِ الْجَحِيمِ بضم اللام ووجهه أن يكون جمعاً وسقوط واوه لالتقاء الساكنين فإنه قيل كيف يستقيم الجمع مع قوله مَنْ هُوَ قلنا مِنْ موحد اللفظ مجموع المعنى فحمل هو على لفظه والصالون على معناه
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا تأثير لأغواء الشيطان ووسوسته وإنما المؤثر قضاء الله تعالى وتقديره لأن قوله تعالى فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ تصريح بأنه لا تأثير لقولهم ولا تأثير لأحوال معبوديهم في وقوع الفتنة والضلال وقوله تعالى إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ يعني إلا من كان كذلك في حكم الله وتقديره وذلك تصريح بأن المقتضي لوقوع هذه الحوادث حكم الله تعالى وكان عمر بن عبد العزيز يحتج بهذه الآية في إثبات هذا المطلوب قال الجبائي المراد أن الذين عبدوا الملائكة يزعمون أنهم بنات الله لا يكفرون أحداً إلا من ثبت في معلوم الله أنه سيكفر فدل هذا على أن من ضل بدعاء الشيطان لم يكن ليئمن بالله لو منع الله الشيطان من دعائه وإلا كان يمنع الشيطان فصح بهذا أن كل من يعصي لم يكن ليصلح عنه شيء من الأفعال والجواب حاصل هذا الكلام أنه لا تأثير لإغواء شياطين الإنس والجن وهذا لا نزاع فيه إلا أن وجه الاستدلال أنه تعالى بين أنه لا تأثير لكلامهم في وقوع الفتنة ثم استثنى منه ما في قوله تعالى إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ فوجب أن يكون المراد من وقوع الفتنة هو كونه الشقاوة والسعادة واعلم أن أصحابنا قرروا هذه الحجة بالحديث المشهور وهو أنه حج آدم موسى قال القاضي هذا الحديث لم يقبله علماء التوحيد لأنه يوجب أن لا يلام أحد على شيء من الذنوب لأنه إن كان آدم لا يجوز لموسى أن يلومه على عمل كتبه الله عليه قبل أن يخلقه فكذلك كان مذهب فءن صحت هذه الحجة لآدم عليه السلام فلماذا قال موسى عليه السلام في الوكزة هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ولما قال فلن أكون ظهيراً للمجرمين ولماذا لام فرعون وجنوده على أمر كتبه الله عليهم ومن عجيب أمرهم أنهم يكفرون القدرية وهذا الحديث يوجب أن آدم كان قدرياً فلزمهم أن يكفروه وكيف يجوز مع قول آدم وحواء عليهما السلام رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَكُنتُم مّنَ الْخَاسِرِينَ ( الأعراف 23 ) أن يحتج على موسى بأنه لا لوم عليه وقد كتب عليه ذلك قبل أن يخلقه هذا جملة كلام القاضي فيقال له هب أنك لا تقبل ذلك الخبر فهل ترد هذه الآية أم لا فإنا بينا أن صريح هذه الآية يدل على أنه لا تأثير للوساوس في هذا الباب فإن الكل يحصل بحكمة الله تعالى والذي يدل عليه وجوه الأول أن الكافر إن ضال بسبب وسوسة الشيطان فضلال الشيطان إن كان بسبب شيطان آخر لزم تسلسل الشياطين وهو محال وإن انتهى إلى ضلال لم يحصل بسبب وسوسة متقدمة فهو المطلوب الثاني أن كل أحد يريد أن يحصل لنفسه الاعتقاد الحق والدين الصدق فحصول ضده يدل على أن ذلك ليس منه الثالث أنالأفعال موقوفة على الدواعي وحصول الدواعي بخلق الله فيكون الكل من الله تعالى الرابع أنه تعالى لما اقتضت

حكمته شيئاً وعلم وقوعه فلو لم يقع ذلك الشيء لزم انقلاب ذلك الحكم كذباً وانقلاب ذلرك العلم جهلاً وهو محال وأما الآيات التي تمسك بها القاضي فهي معارضة بالآيات الدالة على أن الكل من الله والقرآن كالبحر المملوء من هذه الآيات فتبقى الدلائل العقلية التي ذكرناها سليمة والله أعلم
ثم قال تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ فالجمهور على أنهم الملائكة وصفوا أنفسهم بالمبالغة في العبودية فإنهم يصطفون للصلاة والتسبيح والغرض منه التنبيه على فساد قول من يقول إنهم أولاد الله وذلك لأن مبالغتهم في العبودية تدل على اعترافهم بالعبودية واعلم أن هذه الآية تدل على ثلاثة أنواع من صفات الملائكة فأولها قوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ وهذا يدل على أن لكل واحد منهم مرتبة لا يتجاوزها ودرجة لا يتعدى عنها وتلك الدرجات إشارة إلى درجاتهم في التصرف في أجسام هذا العالم إلى درجاتهم في معرفة الله تعالى أما درجاتهم في التصرفات والأفعال فهي قوله وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ والمراد كونهم صافين في أداء الطاعات ومنازل الخدمة والعبودية وأما درجاتهم في المعارف فهي قوله تعالى وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به
واعلم أن قوله وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ يفيد الحصر ومعناه أنهم هم الصافون في مواقف العبودية لا غيرهم وأنهم هم المسبحون لا غيرهم وذلك يدل على أن طاعات البشر ومعارفهم بالنسبة إلى طاعات الملائكة وإلى معارفهم كالعدم حتى يصح هذا الحصر وبالجملة فهذه الآلفاظ الثلاثة تدل على أسرار عجيبة من صفات الملائكة فكيف يجوز مع هذا الحصر أن يقال البشر تقرب درجته من الملك فضلاً عن أن يقال هل هو أفضل منه أم لا
وأما قوله وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاْوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فالمعنى أن مشركي قريش وغيرهم كانوا يقولون لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً أي كتاباً م كتب الأولين الذين نزل علهيم التوراة والإنجيل لأخلصنا العبادة لله ولما كذبنا كما كذبوا ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والكتاب المهيمن عتلى كل الكتب وهو القرآن فكفروا به ونظير هذه الآية قوله تعالى فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ثم قال تعالى فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي فسوف يعلمون عاقبة هذا الكفر والتكذيب
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّة ِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

اعلم أنه تعالى لما هدد الكفار بقول تعالى فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي عاقبة كفرهم أردفه بما يقوي قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فبين أن وعده بنصرته قد تقدم والدليل عليه قوله تعالى وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فبين أن وعده بنصرته قد تقدم والدليل عليه قوله تعالى كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 ) وأيضاً أن الخير مقضى بالذات والشر مقضى بالعرض وما بالذات أقوى مما بالعرض وأما لنصرة والغلبة فقد تكون بقوة الحجة وقد تكون بالدولة والاستيلاء وقد تكون بالدوام والثبات فالمؤمن وإن صار مغلوباً في بعض الأقات بسبب ضعف أحوال الدنيا فهو الغالب ولا يلزم على هذه الآية أن يقال فقد قتل بعض الأنبياء وقد هزم كثير من المؤمنين ثم قال تعالى لرسوله وقذ أخبره بما تقدم فَتَوَلَّى عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ والمراد إلى يوم بدر وقيل إلى فتح مكة وقيل إلى يوم القيامة ثم قال وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ والمعنى بأبصرهم وما يقضي عليهم من القتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة فسوف يبصرونك مع ما قدر لك من النصرة والتأييد في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة والمراد من الأمر المشاهد بأبصارهم على الحال المنتظرة الموعودة الدلالة على أنها كائنة واقعة لا محالة وأن كينونتها قريبة كأنها قدام ناظريك وقوله فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ للتهديد والوعيد ثم قال أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ والمعنى أن الرسول عليه السلام كان يهددهم بالعذاب وما رأوا شيئاً فكانوا يستعجلون نزول ذلك العذاب على سبيل الاستهزاء فبين تعالى أن ذلك الاستعجال جهل لأن لكل شيء من أفعال الله تعالى وقتاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر فكأن طلب حدوثه قبل مزجيء ذلك الوقت جهلاً ثم قال تعالى في صفة العذاب الذي يستعجلونه فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ أي هذا العذاب فَسَاء صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ وإنما وقع هذا التعبير عن هذه المعاني كأنهم كانوا يقدمون على العادة في وقت الصباح فجعل ذكر ذلك الوقت كناية عن ذلك العمل ثم أعاد تعالى قوله فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ فقيل المراد من هذه الكلمة فيما تقدم أحوال الدنيا وفي هذه الكلمة أحوال القيامة وعلى هذا التقدير فالتكرير زائل قيل أن المراد من التكرير المبالغة في التهديد والتهويل ثم إنه تعالى ختم السورة بخاتمة شريفة جامعة لكل المطالب العالية وذلك لأنه أهم المهمات للعاقل معرفة أحوال ثلاثة فأولها معرفة إله العالم بقدر الطاقة البشرية وأقصى ما يمكن عرفانه من صفات الله تعالى ثلاثة أنواع أحدهما تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق بصفات الإلهية وهو لفظة سبحان وثانيها وصفه بكل ما يليق بصفات الإلهية وهو قوله رَبّ الْعِزَّة ِ تفيد الاستغراق وإذا كل الكل ملكاً له وملكاً له ولم يبق لغيره شيء فثبت أن قوله سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزَّة ِ عَمَّا يَصِفُونَ كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات في معرفة إله العالم والمهم الثاني من مهمات العاقل أن يعرف أنه كيف ينبغي أن يعامل نفسه ويعامل الخلق في هذه الحياة الدنيوية
واعلم أن أكثر الخلق ناقصون ولا بد لهم من مكمل يكملهم ومرشد يرشدهم وهاد يهيديهم وما ذلك إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبديهة الفطرة شاهدة بأنه يجب على الناقص الاقتداء بالكامل فنبه على هذا الحرف يقوله وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ لأن هذا اللفظ يدل على أنهم في الكمال اللائق بالبشر فاقوا

غيرهم ولا جرم يجب على كل من سواءهم الاقتداء بهم والمهم الثالث من مهمات العاقل أن يعرف أنه كيف يكون حاله بعد الموت
واعلم أن معرفة هذه الحالة قبل الموت صعبة فالاعتماد فيها على حرف واحد وهو أنه إله العالم غني رحيم والغني الرحيم ولا يعذب فنبه على هذا الحرف بقوله وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وذلك لأن استحقاق الحمد لا يحثل إلا بالإنعام العظيم فبين بهذا كونه منعماً وظاهر كونه غنياً عن العالمين ومن هذا وصفه كان الغالب منه هو الرحمة والفضل والكرم فكان هذا الحرف منبهاً على سلامة الحال بعد الموت فظهر بما ذكرنا أن هذه الخاتمة كالصدفة المحتوية على درر أشرف من دراري الكواكب ونسأل الله سبحانه وتعالى حسن الخاتمة والعافية في الدنيا والآخرة

سورة ص
ثمانون وثمان آيات مكية
ص وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى عِزَّة ٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى الكلام المستقصى في أمثال هذه الفواتح مذكور في أول سورة البقرة ولا بأس بإعادة بعض الوجوه فالأول أنه مفتاح أسماء الله تعالى التي أولها صاد كقولنا صادق الوعد صانع المصنوعات صمد والثاني معناه صدق محمد في كل ما أخبر به عن الله الثالث معناه صد الكفار عن قبول هذا الدين كما قال تعالى الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( النحل 88 ) الرابع معناه أن القررن مركب من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها ولستم قادرين على معارضة القرآن فدل ذلك على أن القرآن معجز الخامس أن يكون صاد بكسر الدال من المصادة وهي المعارضة ومنها لاصدى وهو ما يعارض صوتك في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة ومعناه عارض القرآن بعملك فاعلم بأوامره وانته عن نواهيه السادس أنه اسم السورة والتقدير هذه صاد فإن قيل ههنا إشكالان أحدهما أن قوله وَالْقُرْءانِ ذِى الذّكْرِ قسم وأين المقسم عليه والثاني أن كلمة ( بل ) تقتضي رفع حكم ثبت قلبها وإثبات حكم بعدها يناقض الحكم السابق فأين هذا المعنى ههنا والجواب عن الأول من وجوه الأول أن يكون معنى صاد بمعنى صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيكون صاد هو المقسم عليه وقوله ص وَالْقُرْءانِ ذِى هو القسم الثاني أن يكون المقسم عليه محذوفاً والتقدير سورة ( ص والقرآن ذي الذكر ) أنه لكلام معجز لأنا بينا أن قوله ص تنبيه على التحدي والثالث أن يكون صاد اسماً للسورة ويكون التقدير هذه ص والقرآن ذي الذكر ولما كان المشهور أن محمداً عليه السلام يدعي في هذه السورة كونها معجزة كان قوله هذه ص جارياً مجرى

قوله هذه هي السورة العجزة ونظيره قوله هذا حاتم والله أي هذا هو المشهور بالسخاء والجواب عن السؤال الثاني أن الحكم المذكور قبل كلمة بَلِ أما ما ذكره المفسر كون محمد صادقاً في تبليغ الرسالة أو كون القرآن أو هذه السورة معجزة والحكم المذكور بعد كلمة بَلِ ههنا هو المنازعة والمشاقة في كونه كذلك فحصل المطلوب والله أعلم
المسألة الثانية قرأ الحسن صاد بكسر الدال لأجل التقاء الساكنين وقرأ عيسى بن عمر بنصب صاد ونون وبحذف حرف القسم وإيصال فعله كقولهم الله لأفعلن وأكثر القراء على الجزم لأن الأسماء العارية عن العوامل تذكر موقوفة الأواخر
المسألة الثالثة في قوله ذي الذكر وجهان الأول المراد ذي الشرف قال تعالى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) وقال تعالى لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ( الأنبياء 10 ) ومجاز هذا من قولهم لفلان ذكر في الناس كما يقولون له صيت الثاني ذي البيانين أي فيه قصص الأولين والآخرين وفيه بيان العلوم الأصلية والفرعية ومجازه من قوله وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( القمر 22 )
المسألة الرابعة قالت المعتزلة القررن ذي الذكر والذكر محدث بيان الأول قوله تعالى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ ( الأنبياء 50 ) ص وَالْقُرْءانِ ذِى ( ص 1 ) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ ( يس 69 ) وبيان الثاني قوله مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ ( الأنبياء 2 ) وقوله مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ والجواب أنا نصرف دليلكم إلى الحروف والأصوات وهي محدثه
أما قوله بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فالمراد منه الكفار من رؤساء قريش الذين يجوز على مثلهم الإجماع على الحسد والكبر على الإنقياد إلى الحق والعزة ههنا التعظيم وما يعقتده الإنسان في نفسه من الأحوال التي تمنعه من متابعة الغير لقوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّة ُ بِالإثْمِ ( البقرة 206 ) والشقاق هو إظهار المخالفة على جهة المساواة للمخالف أو على جهة الفضلية عليه وهو مأخوذ من الشق كأنه يرتفع عن أن يلزمه المخالفة على جهة المساواة للمخالف أو على جهة الفضيلة عليه وهو مأخوذ من الشق كأنه يرتفع عن أن يلزمه الانقياد له بل يجعل نفسه في شق وخصمه في شق فيريد أن يكون في شقة نفسه ولا يجري عليه حكم خصمه ومثله العاداة وهو أن يكون أحدهما في عدوة والآخر في عدوة وهي جانب الوادي وكذلك المحادة أن يكون هذا في حد غير حد الآخر ويقال انحرف فلان عن فلان وجانب فلان فلاناً أي صار منه على حرف وفي جانب غير جانبه والله أعلم ثم إنه تعالى لما وصفهم بالعزة والشقاق خوفهم فقال كَمَا أَهْلَكْنَا قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ فَنَادَواْ والمعنى أنهم نادوا عند نزول العذاب في الدنياعند نزول العذاب في الدنيا ولم يذكر بأي شيء نادوا وفيه وجوه الأول وهو الأظهر أنهم نادوا بالاستغاثة لأن نداء من نزل به العذاب ليس إلا بالاستغاثة الثاني نادوا بالإيمان والتوبة عند معاينة العذاب الثالث نادوا أي رفعوا أصواتهم يقال فلان أندى صوتاً من فلان أي ارفع صوتاً ثم قال وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ يعني ولم يكن ذلك الوقت وقت فرار من العذاب وهو كقوله فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالاَ مِنَ ( غافر 84 ) وقال حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْئَرُونَ ( المؤمنون 64 ) والجؤار رفع الصوت بالتضرع والاستغاثة وكقوله ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ( يونس 91 ) وقوله فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا

( غافر 85 ) بقي ههنا أبحاث
البحث الأول في تحقيق الكلام في لفظ لأَتٍ الخليل وسيبويه أن لات هي لا المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على رب وثم للتأكيد وبسب هذه الزيادة حدثت لها أحكام جديدة منها أنها لا تدخل إلا على الأحيان ومنها أن لا يبرز إلا أحد جزءيها إما الاسم وأما الخبر ويمتنع بروزهما جميعاً وقال الأخفش إنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء وخصت بنفي الأحيان وَحِينَ مَنَاصٍ منصوب بها كأنك قلت ولات حين مناص لهم ويرتفع بالإبتداء أي ولات حين مناص كائن لهم
البحث الثاني الجمهور يقفون على التاء من قوله وَّلاَتَ والكسائي يقف عليها بالهاء كما يفق على الأسماء المؤنثة قال صاحب ( الكشاف ) وأما قول أب يعبيدة التاء داخلة على الحين فلا وجه له واستشهاده بأن التاء ملتزقة بحين في مصحف عثمان فضعيف فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط
البحث الثالث المناص المنجا والغوث يثال ناصه إذا أغاثه واستناص طلب المناص والله أعلم
وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم مٌّ نذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الاٌّ لِهَة َ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَاذَا لَشَى ْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى الْمِلَّة ِ الاٌّ خِرَة ِ إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ
ابم أنه تعالى لما حكى عن الكفار كونهم في عزة وشقاق أردفه بشرح كلماتهم الفاسدة فقال وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّ نذِرٌ مّنْهُمْ في قوله مِنْهُمْ وجهان الأول أنهم قالوا إن محمداً مساو لنا في الخلفة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب والشكل والصورة فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي والدرجات والرفيعة والثاني أن الغرض من هذه الكلمة لا التنبيه على كمال جهالتهم وذلك ونه جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد وتعظيم الملائكة والترغيب في الآخرة والتنفير عن الدنيا ثم إن هذا الرجل من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيداً من الكذب والتهمة وكل ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه ثم إن هؤلاء الأقوام لحماقتهم يتعجبون من قوله ونظيره قوله أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ( المؤمنون 69 ) فقال وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّ نذِرٌ مّنْهُمْ ومعناه أن محمداً كان من رهطهم وعشيرتهم وكان مساوياً لهم في الأسباب الدنيوية فاستنكفروا من الدخول تحت طاعته ومن الانقياد لتكاليفه وعجبوا أن يختص هو من بينهم برسالة الله وأن يتميز عنهم بهذه الخاصية الشريفة وبالجملة فما كان لهذا التعجب سبب إلا الحسد

ثم قال تعالى وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ وإنما لم يقل وقالوا بل قال وَقَالَ الْكَافِرُونَ إظهاراً للتعجب ودلالة على أن هذا القول لا يصدر إلا عن الكفر التام فإن الساحر هو الذي يمنع من طاعة الله ويدعو إلى طاعة الشيطان ودلالة على أن هذا القول لا يصدر إلا عن الكفر التام فإن الساحر هو الذي يمنع من طاعة الله ويدعو إلى طاعة الشيطان وهو عندكم بالعكس من ذلك والكذاب هو الذي يخبر عن الشيء لا على ما هو عليه وهو يخبر عن وجود الصانع القديم الحكيم العليم عن الكذاب هو الذي يخبر عن الشيء لا على ما هو عليه وهو يخبر عن وجود الصانع القديم الحكيم العليم وعن الحشر والنشر وسائر الأشياء التي تثبت بدلائل العقول صحتها فكيف يكون كذاباً ثم إنه تعالى حكى جميع ما عولوا عليه في إثبات كونه كاذباً وهي ثلاثة أشياء أحدها ما يتعلق بالإلهيات وثانيها ما يتعلق بالنبوات وثالثها ما يتعلق بالمعاد أما لشبهة المتعلقة بالإلهيات فهي قولهم أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ روي أنه لما أسلم عمر فرح به المسلمون فرحاً شديداً وشق ذك على قريش فاجتمع خمسة وعشرون نفساً من صناديدهم ومشوا إلى أبي طالب وقالوا أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء يعنون المسلمين فجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك فاستحضر أبو طالب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تمل كل الميل على قومك فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ماذا يسألونني قالوا ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك فقال ( صلى الله عليه وسلم ) أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أتعطوني أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم العجم قالوا نعم قال تقولوا لا إله إلا الله فقاموا وقالوا أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً وَأَنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ أي بليغ في التعجب وأقول منشأة التعجب من وجهين الأول هو أن القوم ما كانوا من أصحاب النظر والاستدلال بل كانت أوهامهم تابعة للمحسوسات فلما وجدوا في الشاهد أن الفاعل الواحد لا تفي قدرته وعلمه بحفظ الخلق العظيم قاسوا الغائب على الشاهد فقالوا لا بد في حفظ هذا العالم الكثير من آلهة كثيرة يتكفل كل واحد منهم بحفظ نوع آخر الوجه الثاني أن أسلافهم لكثرتهم وقوة عقولهم كانوا جاهلين مبطلين وذها الإنسان الواحد يكون محقاً صادقاً وأقول لعمري لو سلمنا إجراء حكم الشاهد على الغائب من غير ديل وحجة لكانت الشبهة الألى لازمة بطل أصل كلام المشهبة في الذابت وكلام المشبهة في الأفعال أما المشبهة في الذات فهو أنهم يقولون لما كان كل موجود في الشاهد يجب أن يكون جسماً ومختصاً بحيز وجب ف يالغائب أن يكون كذلك أما المشبهة في الأفعال فهم المعتزلة الذين يقولون أن الأمر الفلاني فبيح منا فوجب أن يكون قبيحاً من الله فثبت بما ذكرنا أنه إن صح كلام هؤلاء المشبهة في الذات وفي الأفعال لزم القطع بصحة شبهة هؤلاء المشركين وحيث توافقنا على فسادها على فسادها علمنا أن عمدة المجسمة وكلام المعتزلة باطل فاسد وأما الشبهة الثانية فلعمري لو كان التقيد حقاً لكانت هذه الشهبة لازمة وحيث كانت فاسدة علمنا أن التقليد باطل بقي ههنا أبحاث
البحث الأولى أن العجاب هو العجيب إلا أنه أبلغ من العجيب كقولهم طويل وطوال وعريض وعراض وكبير وكبار وقد يشدد للمبالغة كقوله تعالى وَمَكَرُواْ مَكْراً ( نوح 22 )
الثاني قال صاحب ( الكشاف ) قرىء عجاب بالتخفيف والتشديد فقال والتشديد أبلغ من التخفيف كقوله تعالى وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً

ثم قال تعالى وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى ءالِهَتِكُمْ قد ذكرنا أن لملأ عبارة عن القوم الذين إذا حضروا في المجلس فإنه تمتلىء القلوب والعيون من مهابتهم وعظمتهم قوله مِنْهُمْ أي من قريش انطلقوا عن مجلس أبي طالب بن بعد ما بكتهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالجواب العتيد قائلين بعضهم البعض وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وفيه مباحث
البحث الأول القراءة المشهورة ( أن امشوا ) وقرأ ابن أبي عبلة امشوا بحذف أن قال صاحب ( الكشاف ) ( أن ) بمعنى أي لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما يجري في المجلس المتقدم فكان انطلاقهم مضمناً معنى القول وعن ابن عباس وانطبق الملأ منهم يمشون
البحث الثاني معنى أن امشوا أنه قال بعضهم امشوا واصبروا فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد إن هذا لشيء يراد وفيه ثلاثة أوجه أحدهما ظهور دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليس له سبب ظاهر يثبت أن تزايد ظهوره ليس إلا لأن الله يريده وما أراد الله كونه فلا دافع له وثانيها أن الأمر كشيء من نوائب الدهر فلا انفكاك لنا منه وثالثها أن دينكم لشيء يراد أي يطلب ليؤخذ منكم قال الفقال هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف وكأن معناها أنه ليس غرض محمد من هذا القول تقرير الدين وإنما عرضه أن يستولى علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد
ثم قال مَّا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى الْمِلَّة ِ الاْخِرَة ِ والملة الآخرة هي ملة النصارى فقالوا إن هذا التوحيد الذي أتي به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما سمعناه في دين النصارى أو يكون المراد بالمراد بالملة الآخرة ملة قريش التي أدركوا آباءهم عليهم ثم قالوا إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ افتعال وكذب وحاصل الكلام من هذا الوجه أنهم قالوا نحن ما سمعنا عن أسلافنا القول بالتوحيد فوجب أن يكون باطلاً ولو كان القول بالتقليد حقاً لكان كلام هؤلاء المشركين حقاً وحيث كان باطلاً علمنا أن القول بالتقليد باطل
أَءَنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَة ِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُم مٌّ لْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاٌّ سْبَابِ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الاٌّ حَزَابِ
اعلم أن هذا هو الشبهة الثالثة لأولئك الكفار وهي الشبهة المتعلقة بالنبوات وهي قولهم إن محمداً لما كان مساوياً لغيره في الذات والصفات والخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة فكيف يعقل أن يختص هو بهذا الدرجة العالية والمنزلة الشريفة وهو المراد من قولهم عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل فإنه استفهام على سبيل الإنكار وحكى الله تعالى عن قوم صالح أنه قالوا مثل هذا القول فقالوا الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أَشْهُرٍ

( القمر 25 ) وحكى الله تعالى عن قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أيضاً أنهم قالوا لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) وتمام الكلام في تقرير هذه الشبهة أنهم قالوا النبوة أشرف المراتب فوجب أن لا تحصل إلا لأشرف الناس ومحمد ليس أشفر الناس فوجب أن لا تحصل له والنبوة والمقدمتان الأوليان حقيتان لكن الثالثة كاذبة وسبب رواج هذا التغليط عليهم أنهم قالوا النبوة أشرف المراتب فوجب أن لا تحصل إلا لأشرف الناس ومحمد ليس أشرف الناس فوجب أن لا تحصل له والنبوة والمقدمتان الأوليان حقيتان لكن الثالثة كادبة وسبب رواج هذا التغليظ عليهم أنهم ظنوا أن الشرف لا يحصل إلا بالمال والأعوان وذلك باطل فإن مراتب السعادة ثلاثة أعلاها هي النفسانية وأوسطها هي البدنية وأدونها هي الخارجية وهي المال والجاه فالقوم عكسوا القضية وظنوا بأخس المراتب أشرافها فلما وجدوا المال والجاه عند غيره أكثر ظنوا أن غيره أشرف منه فحينئذ انعقد هذا القياس الفاسد في أفكارهم ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجوه الأول قوله تعالى بْل هُمْ فَى شَكّ مّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ وفيه وجهان أحدهما أن قوله بْل هُمْ فَى شَكّ مّن ذِكْرِى أي من الدلائل التي لو نظروا فيها لزال هذا الشك عنهم وذلك لأن كل ما ذكروه من الشبهات فهي كلمات ضعيفة وأما الدلائل التي تدل بنفسها على صحة نبوته فهي دلائل قاطعة فلو تأملوا حق التأملفي الكلام لوقفوا على ضعف الشبهات التي تمسكوا بها في إبطال النبوة ولعرفوا صحة الدلائل الدالة على صحة نبوته فحيث لم يعرفوا ذلك كان لأجل أنهم تركووا النظر والاستدلال فأما قوله تعالى بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ فموقعه من هذا الكلام أنه تعالى يقول هؤلاء إنما تركوا النظر والاستدلال لأني لم أذقهم عذابي ولو ذاقوه لم يقع منهم ( ءلا الإقبال على أداء المأمورات والانتهاء عن المنهيات وثانيها أن يكون المراد في قوله بْل هُمْ فَى شَكّ مّن ذِكْرِى هو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مان يخوفهم من عذاب الله لو أصروا على الكفر ثم أنهم أصروا على الكفر ولم ينزل عليهم العذاب فصار ذلك سبباً لشكهم في صدقه وقالوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء ( الأنفال 32 ) فقال بَلْ هُمْ شَكّ مّن ذِكْرِى معناه ما ذكرناه وقوله تعالى بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ معناه أن ذلك الشك إنما حصل بسبب عدم نزول العذاب والوجه الثاني من الوجوه التي ذكرها الله تعالى في الجواب عن تلك الشبهة قوله تعالى أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَة ِ رَبّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ وتقرير هذا الجواب أن منصب النبوة منصب عظيم ودرجة عالية والقادر على هبتها يجب أن يكون عزيزاً أي كامل القدرة ووهاباً أي عظيم الجود وذلك هو لله سبحانه وتعالى وإذا كان هو تعالى كامل القدرة وكامل الجود لم يتوقف كونه واهباً لهذه النعمة على كون الموهوب منه غنياً أو فقيراً ولم يختلف ذلك أيضاً بسبب أن أعداءه يحبونه أو يكرهونه والوجه الثالث في الجواب عن هذه الشبهة قوله تعالى أَمْ لَهُم مٌّ لْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاْسْبَابُ واعلم أنه يجب أن يكون المراد من هذا الكلام مغايراً للمراد من قوله أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَة ِ رَبّكَ يعني أن هذه الأشياء أحد ذكرنا الخزائن أولاً على عمومها أردفها بذكر مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا يعني أن هذه الأشياء أحد أنواع خزائن الله فإذا كنتم عاجزين عن هذا القسم فبأن تكونوا عاجزين عن كل خزائن الله كان أولى فهذا

ما أمكنني ذكره في الفرق بين الكلامين أما قوله تعالى فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاْسْبَابُ فالمعنى أنهم أن ادعوا أن لهم ملك السموات والأرض فعند هذا يقال لهم ارتقوا في الأسباب واصعدوا في المعارج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يرتقوا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله وينزلوا الوحي على من يختارون واعلم أن حكماء الإسلام استدلوا بقوله فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاْسْبَابُ على أن الأجرام الفلكية وما أودع الله فيها من القوى والخواص أسباب لحوادث العالم السفلي لأن الله تعالى سمى الفلكيات أسباباً وذلك يدل على ما قلناه والله أعلم أما قوله تعالى جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الاْحَزَابِ ففيه مقامات من البحث أحدهما في تفسير هذه الألفاظ والثاني في كيفية تعلقها بما قبلها أما المقام الأول فقوله جُندٌ مبتدأ وما للإيهام كقوله جئت لأمر ما وعندي طعام ما و مّن الاْحَزَابِ صفة لجند و مَهْزُومٌ خبر المبتدأ وأما قوله هُنَالِكَ فيجوز أن يكون صفة لجند أي جند ثابت هنالك ويجوز أن يكون متعلقاً بمهزوم معناه أن الجند من الأحزاب مهزوم هنالك أي في ذلك الموضع الذي كانوا يذكرون فيه هذه الكلمات الطاعنة في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأما المقام الثاني فهو أنه تعالى لما ضعيفون فكيف يكونون مالكي السموات والأرض وما بينهما قال قتادة هنالك إشارة إلى يوم بدر فأخبر الله تعالى بمكة أنه سيهزم جند المشركين فجاء تأويلها يوم بدر وقيل يوم الخندق والأصوب عندي حمله على يوم فتح مكة وذلك لأن المنى أنهم جند سيصيرون منهزمين في الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات وذلك الموضع هو مكة فوجب أن يكون المراد أنهم سيصيرون منهزمين في مكة وما ذاك إلا يوم الفتح والله أعلم
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الاٌّ وْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لأيْكَة ِ أُوْلَائِكَ الاٌّ حْزَابُ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّ سُلَ فَحَقَّ عِقَابِ وَمَا يَنظُرُ هَاؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَة ً واحِدَة ً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الاٌّ يْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِى ِّ وَالإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَة ً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَة َ وَفَصْلَ الْخِطَابِ
قوله تعالى كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الاْوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لئَيْكَة ِ أُوْلَئِكَ الاْحْزَابُ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّ سُلَ فَحَقَّ عِقَابِ وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء إِلاَّ صَيْحَة ً واحِدَة ً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الجواب عن شبهة القوم أنهم أنما توانوا وتكاسلوا في النظر والاستدلال لأجل أنهم لم ينزل بهم العذاب بيَّن تعالى في هذه الآية أن أقوام سائر الأنبياء هكذا كانوا ثم بالآخرة نزل ذلك العقاب والمقصود منه تخويف أولئك الكفار الذين كانوا يكذبون الرسول في إخباره عن نزول العقاب عليهم فذكر الله ستة أصناف منهم أولهم قوم نوح عليه السلام ولما كذبوا نوحاً أهلكهم الله بالغرق والطوفان والثاني عاد قوم هود لما كذبوه أهلكهم الله بالريح والثالث فرعون لما كذب موسى أهلكه الله مع قومه بالغرق والرابع ثمود قوم صالح لما كذبوه فأهلكوا بالصيحة والخامس قوم لوط كذبوه بالخسف والسادس أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب كذبوه فأهلكوا بعذاب يوم الظلة قالوا وإنما وصف الله فرعون بكونه ذا الأوتاد لوجوه الأول أن أصل هذه الكلمة من ثبات البيت المطنب بأوتاده ثم استعير لإثبات العز والملك قال الشاعر

ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة
في ظل مالك ثابت الأوتاد
قال القاضي حمل الكلام على هذا الوجه أولى لأنه لما وصف بتكذيب الرسل فيجب فيما وصف به أن يكون تفخيماً لأمر ملكه ليكون الزجر بما ورد من قبل الله تعالى عليه من الهلاك مع قوة أمره أبلغ والثاني أنه كان ينصب الخشب في الهواء وكان يمد يدي المعذب ورجليه إلى تلك الخشب الأربع ويضرب على كل واحد من هذه الأعضاء وتداً ويتركه معلقاً في الهواء إلى أن يموت والثالث أنه كان يمد المعذب بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات والرابع قال قتادة كانت أوتاداً وأرساناً وملاعب يلعب بها عنده والخامس أن عساكره كانوا كثيرين وكانوا كثيري الأهبة عظيمي النعم وكانوا يكثرون من الأوتاد لأنهم يقرون أمره ويشدون مملكته كما يقوي الوتد البناء وأما الإيكة فهي الغيضة المتلتفة
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ الاْحْزَابُ وفيه أقوال الأول أن هؤلاء الذين ذكرناهم من الأمم هم الذين تحزبوا على أنبيائهم فأهلكناهم فذلك نفعل بقومك لأٌّ ه تعالى بيَّن بقوله ( جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ) ( ص 11 ) أن قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) جند من الأحزاب أي من جنس الأحزاب المتقدمين فلما ذكر أنه عامل الأحزاب المتقدمين بالإهلاك كان ذلك تخويفاً شديداً لقوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني أن معنى قوله أُوْلَئِكَ الاْحْزَابُ مبالغة لوصفهم بالقوة والكثرة كما يقال فلان هو الرجل والمعنى أن حال أولئك الأحزاب مع كمال قوتهم لما كان هو الهلاك والبوار فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين
واعلم أن هؤلاء الأقوام إن صدقوا بهذه الأخبار فهو تحذير وإن لم يصدقوا بها فهو تحذير أيضاً لأن آثار هذه الوقائع باقية وهو يفيد الظن القوي فيحذرون ولأن ذكر ذلك على سبيل التكرير يوجب الحذر أيضاً ثم قال إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّ سُلَ فَحَقَّ عِقَابِ أي كل هذه الطوائف لما كذبوا أنبياءهم في الترغيب والترهيب لا جرم نزل العقاب عليهم وإن كان ذلك بعد حين والمقصود منه زجر السامعين ثم بين تعالى أن هؤلاء المكذبين وإن تأخر هلاكهم فكأنه واقع بهم فقال وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء إِلاَّ صَيْحَة ً واحِدَة ً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ وفي تفسير هذه الصيحة قولان الأول أن يكون المراد عذاباً يفجؤهم ويجيئهم دفعة واحدة كما يقال صاح الزمان بهم إذا هلكوا قال الشاعر
صاح الزمان بآل برمك صيحة
خروا الشدتها على الأذقان
ويشبه أن يكون أصل ذلك من الغارة إذا عافصت القوم فوقعت الصحية فيهم ونظيره قوله تعالى فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ ( يونس 102 ) الآية والقول الثاني أن هذه الصيحة هي صيحة النفخة الأولى في الصور كما قال تعالى في سورة يس مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَة ً واحِدَة ً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ ( يس 49 ) والمعنى أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا فهو معد لهم يوم القيامة فكأنهم بذلك العذاب وقد جاءهم فجعلهم منتظرين لها على معنى قربها منهم كالرجل الذي ينتظر الشيء فهو ماد الطرف إليه يطمع كل ساعة في حضوره ثم إنه سبحانه وصف هذه الصيحة فقال مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ قرأ حمزة

والكسائي فَوَاقٍ بضم الفاء والباقون بفتحها قال الكسائي والفراء وأبو عبيدة والأخفش هما لغتان من فواق الناقة وهو ما بين حلبتي الناقة وأصله من الرجوع يقال أفاق من مرضه أي رجع إلى الصحة فالزمان الحاصل بين الحلبتين لعود اللبن إلى الضرع يمسى فواقاً بالفتح وبالضم كقولك قصاص الشعر وقصاصه قال الواحدي والفواق والفواق إسمان من الأفاقة والأفاقة معناها الرجوع والسكون كأفاقة المريض إلا أن الفواق بالفتح يجوز أن يقام مقام المصدر والفواق بالضم اسم لذلك الزمان الذي يعود فيه اللبن إلى الضرع وروى الواحدي في البسيط عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال في هذه الآية ( يأمر الله إسرافيل فينفخ نفخة الفزع قال فيمدها ويطولها ) وهي التي يقول مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ثم قال الواحدي وهذا يحتمل معنيين أحدهما ما لها سكون والثاني ما لها رجوع والمعنى ما تسكن تلك الصيحة ولا ترجع إلى السكون ويقال لكل من بقي على حالة واحدة إنه لا يفيق منه ولا يستفيق والله أعلم
قوله تعالى وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ ذَا الاْيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ
اعلم أنا ذكرنا في تفسير قوله وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّ نذِرٌ مّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( ص 4 ) أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاثة أولها تتعلق بالإلهيات وهو قوله أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً والثانية تتعلق بالنبوات وهو قوله عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل ( ص 8 ) والثالثة تتعلق بالمعادة وهو قوله تعالى وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ وذلك لأن القوم كانوا في نهاية الإنكار للقول بالحشر والنشر فكانوا يستدلون بفساد القول بالحشر والنشر على فساد نبوته والقط والقطعة من الشيء لأنه قطع منه من قطه إذا قطعه ويقال لصحيفة الجائزة قط ولما ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعد المؤمنين بالجنة قالوا على سبيل الاستهزاء عجل لنا نصيبنا من الجنة أو عجل لنا صحيفة أعمالنا حتى ننظر فيها
واعلم أن الكفار لما بالغوا في السفاهة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قالوا إنه ساحر كذاب وقالوا له على سبيل الاستهزاء عَجّل لَّنَا قِطَّنَا أمره الله بالصبر على سفاهتهم فقال اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ فإن قيل أي تعلق بين قوله اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وبيّن قوله وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ قلنا بيان هذا التعلق من وجوه الأول كأنه قيل إن كنت قد شاهدت من هؤلاء الجهال جرائتهم على الله وإنكارهم الحشر والنشر فاذكر قصة داود حتى تعرف شدة خوفه من الله تعالى ومن يوم الحشر فإن بقدر ما يزداد أحد الضدين شرفاً يزداد الضد الآخر نقصاناً والثاني كأنه قيل لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا يضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك فإنهم إذا خالفوك فالأكابر من الأنبياء وافقوك والثالث أن للناس في قصة داود قولين منهم من قال إنها تدل

على ذنبه ومنهم من قال إنها لا تدل عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) إن حزنك ليس إلا لأن الكفار يكذبونك وأما حزن داود فكان بسبب وقوعه في ذلك الذنب ولا شك أن حزنه أشد فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن العظيم حتى يخف عليك ما أنت فيه من الحزن ومن قال بالثاني قال الخصمان لإيذائهما ولا دعا عليهما بسوء بل استغفر لهما على ما سيجيء تقرير هذه الطريقة فلا جرم أمر الله تعالى محمداً عليه السلام بأن يقتدي به في حسن الخلق والخامس أن قريشاً إنما كذبوا محمداً عليه السلام واستخفوا به لقولهم في أكثر الأمر إنه يتيم فقير ثم إنه تعالى قص على محمد كمال مملكة داود ثم بين أنه مع ذلك ما سلم من اوحزان والغموم ليعلم أن الخلاص عن الحزن لا سبيل إليه في الدنيا والسادس أن قوله تعالى اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ غير مقتصر على داود فقط بل ذكر عقيب قصة داود قصص سائر الأنبياء فكأنه قال اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولاً بهم خاص وحزن خاص فحينئذٍ يعلم أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان وأن استحقاق الدرجات العالية عند الله لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا وهذه وجوه ذكرناها في هذا المقام وههنا وجه آخر أقوى وأحسن من كل ما تقدم وسيجيء ذكره إن شاء الله تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ( ص 29 ) واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك حال تسعة من الأنبياء فذكر حال ثلاثة منهم على التفصيل وحال ستة آخرين على الإجمال
فالقصة الأولى قصة داود واعلم أن مجامع ما ذكره الله تعالى في هذه القصة ثلاثة أنواع من الكلام فالأول تفصيل ما آتى الله داود من الصفات التي توجب سعادة الآخرة والدنيا والثاني شرح تلك الواقعة التي وقعت له من أمر الخصمين والثالث استخلاف الله تعالى إياه بعد وقوع تلك الواقعة أما النوع الأول وهو شرح الصفات التي آتاها الله داود من الصفات الموجبة لكمال السعادة فهي عشرة الأول قوله لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ فأمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) على جلالة قدره بأن يقتدي في الصبر على طاعة الله بداود وذلك تشريف عظيم وإكرام لداود حيث أمر الله أفضل الخلق محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقتدي به مكارم الأخلاق والثاني أنه قال في حقه عَبْدَنَا دَاوُودُ فوصفه بكونه عبداً له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم وذلك غاية التشريف ألا ترى أنه سبحانه وتعالى لما أراد أن يشرف محمداً عليه السلام ليلة المعراج قال سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ ( الإسراء 1 ) فههنا يدل على ذلك التشريف لداود فكان ذلك دليلاً على علو درجته أيضاً فإن وصف الله تعالى الأنبياء بعبوديته مشعر بأنهم قد حققوا معنى العبوذية بسبب الاجتهاد في الطاعة والثالث قوله ذَا الاْيْدِ أي ذا القوة على أداء الطاعة والاحترازعن المعاصي وذلك لأنه تعالى لما مدحه بالقوة وجب أن تكون تلك القوة موجبة للمدح والقوة التي توجب المدح العظيم ليست إلا القوة على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه والأيد المذكور ههنا كالقوة المذكورة في قوله وَعَشِيّاً يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة ٍ ( مريم 12 ) وقوله تعالى وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاْلْوَاحِ مِن كُلّ شَى ْء مَّوْعِظَة ً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَى ْء فَخُذْهَا بِقُوَّة ٍ ( الأعراف 145 ) أي باجتهاد في أداء الأمانة وتشدد في القيام بالدعوة وترك إظهار الوهن والضعف والأيد والقوة سواء ومنه قوله تعالى هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ ( الأنفال 62 ) وقوله تعالى وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( البقرة 87 ) وقال وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا ( الذاريات 47 ) وعن

قتادة أعطى قوة في العبادة وفقهاً في الدين وكان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر الرابع قوله الاْيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي أن داود كان رجاعاً في أموره كلها إلى طاعتي والأواب فعال من آب إذا رجع كما قال تعالى إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ( الغاشية 25 ) وفعال بناء المبالغة كما يقال قتال وضراب فإنه أبلغ من قاتل وضارب الخامس قوله تعالى إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بِالْعَشِى ّ وَالإشْرَاقِ ونظير هذه الآية قوله تعالى فَضْلاً ياجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ ( سبأ 10 ) وفيه مباحث

البحث الأول وفيه وجوه الأول أن الله سبحانه خلق في جسم الجبل حياة وعقلاً وقدرة ومنطقاً وحينئذٍ صار الجبل مسبحاً لله تعالى ونظيره قوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ( الأعراف 143 ) فإن معناه أنه تعالى خلق في الجبل عقلاً وقدرة ومنطقاً وحينئذٍ صار الجبل مسبحاً ( صلى الله عليه وسلم ) تعالى ونظيره قوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ( الأعراف 143 ) فإن معناه أنه تعالى خلق في الجبل عقلاً وفهماً ثم خلق فيه رؤية الله تعالى فكذا ههنا الثاني في التأويل ما رواه القفال في تفسيره أنه يجوز أن يقال إن داود عليه السلام قد أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له في الجبال دوي حسن وما يعصغي الطير إليه لحسنه فيكون دوي الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤه إليه تسبيحاً وذكر محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه مثل حصوت داود حتى أنها كانت تسير إلى حيث يريده داود وجعل ذلك السير تسبيحاً لأنه كان يدل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) يُسَبّحْنَ في معنى مسبحات فإن قالوا هل من فرق بين يسبحن ومسبحات قلنا نعم فإن صيغة الفعل تدل على الحدوث التجدد وصيغة الاسم على الدوام على ما بينه عبد القاهر النحوي في كتاب دلائل الإعجاز إذا ثبت هذا فنقول قوله يُسَبّحْنَ يدل على حدوث التسبيح من الجبال شيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال وكان السامع حاضر تلك الجبال يسمعها تسبح
والبحث الثالث قال الزجاج يقال شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا أضاءت وقيل هما بمعنى والأول أكثر تقول العرب شرقت الشمس والماء يشرق
والبحث الرابع احتجوا على شرعية صلاة الضحى بهذه الآية عن أم هانىء قالت ( دخل علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقا يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق ) وعن طاووس عن ابن عباس قال ( هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن قالوا لا فقرأ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ) توقال كان يصليها داود عليه السلام وقال لم يزل في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى وجدتها في قوله يُسَبّحْنَ بِالْعَشِى ّ وَالإشْرَاقِ
الصفة السادسة من صفات داود عليه السلام وقوله تعالى وَالطَّيْرَ مَحْشُورَة ً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ وفيه مباحث
البحث الأول قوله وَالطَّيْرُ معطوفة على الجبال والتقدير وسخرنا الطير محشورة قال ابن عباس رضي الله عنهما كان داود إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه واجتماعها إليه هو حشرها فيكون على هذا التقدير حاشرها هو الله فَانٍ قِيلَ كيف يصدر تسبيح الله عن الطير مع أنه لا عقل لها قلنا لا يبعد أن يقال إن الله تعالى كان يخلق لها عقلاً حتى تعرف الله فتسبحه حينئذٍ وكان معجزة لداود عليه السلام
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) قوله مَحْشُورَة ً في مقابلة يُسَبّحْنَ إلا أنه ليس في الحشر مثل ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئاً بعد شيء فلا جرم جيء به اسماً لا فعلاً وذلك أنه قال لو قيل وسخرنا الظير محشورة يسبحن على تقدير أن الحشر وجد من حاشرها جملة واحدة دل على القدر المذكور والله أعلم
البحث الثالث قرىء وَالطَّيْرَ مَحْشُورَة ً بالرفع
الصفة السابفة من صفات داود عليه السلام قوله تعالى كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ ومعناه كل واحد من الجبال والطير أواب أي رجاع أي كلما رجع داود إلى التسبيح جاوبته فهذه الأشياء أيضاً كانت ترجع إلى تسبيحاتها والفرق بين هذه الصفة وبين ما قلبها أن فيما سبق علمنا أن الجبال والطير سبحت مع تسبيح داود عليه السلام وبهذا اللفظ فهمنا دوام تلك الموافقة وقيل الضمير في قوله كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ لله تعالى أي كل من داود والجبال والطير لله أواب أي مسبح مرجع للتسبيح
الصفة الثامنة قوله تعالى وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ أي قويناه وقال تعالى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ( القصص 35 ) وقيل شددنا على المبالغة وأما الأسباب الموجبة لحصول هذا الشد فكثيرة وهي إما الأسباب الدنيوية أو الدينية أما الأول فذكروا فيه وجهين الأول روى الواحدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل فإذا أصبح قيل ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله وزاد آخرون فذكروا أربعين ألفاً قالوا وكان أشد ملوك الأرض سلطاناً وعن عكرمة عن ابن عباس أن رجلاً ادعى عند داود على رجل أخذ منه بقرة فأنكر المدعي علهي فقال داود للمدعي أقم البينة فلم يقمها فرأى داود في منامه أن الله يأمره أن يقتل المدعي عليه فثبت داود وقال هو منام فأتاه الوحي بعد ذلك بأن تقتله فاحضره وأعلمه أن أمره بقتله فقال المدعي عليه صدق الله إني كنت قتلت أبا هذا الرجل غيلة فقتله داود فهذه الواقعة شددت ملكه وأما الأسباب الدينية الموجبة لهذا الشد فهي الصبر والتأمل التام والاحتياط الكامل
الصفة التاسعة قوله وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ واعلم أنه تعالى قال وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 269 ) واعلم أن الفضائل على ثلاثة أقسام النفسانية والبدنية والخارجية والفضائل النفسانية محصورة في قسمين العلم والعمل أما العلم فهو أن تصير النفس بالتصورات الحقيقية والتصديقات النفسانية بمقتضي الطاقة البشرية وأما العمل فهو أن يكون الإٌّ سان آتياً بالعمل الأصلح الأصوب بمصالح الدنيا والآخرة فهذا هو الحكمة وإنما سمي هذا بالحمة لأن اشتقاق الحكمة من إحكام الأمور وتقويتها وتبعيدها عن أسباب الرخاوة والضعف والاعتقادات الصائبة الصحيحة لا تقبل النسخة والنقض فكانت في غاية الإحكام وأما الأعمال المطابقة لمصالح الدنيا والآخرة فإنها واجبة الرعاية ولا تقبل

النقض والنسخ فلهذا السبب سمينا تلك المعارف وهذه الأعمال بالحكمة
الصفة العاشرة قوله وَفَضَّلَ الْخِطَابِ واعلم أن أجسام هذا العالم على ثلاثة أقسام أحدهما ما تكون خالية عن الإدراك والشعور وهي الجمادات والنباتات وثانيها التي يحصل لها إدراك وشعور ولكنها لا تقدر على تعريف غيرها الأحوال التي عرفوها في الأكثر وهذا القسم هو جملة الحيوانات سوى الإنسان وثالثها الذي يحصل له إدراك وشعور ويحصل عنده قدرة على تعريف غيره الأحوال المعلومة له وذلك هو الإنسان وقدرته على تعريف غيره الأحوال المعلومة له وذلك هو الإنسان وقدرته على تعريف الغير الأحوال المعلومة عنده بالنطق والخطاب ثم إن الناس مختلفون في مراتب القدرة على التعبير عما في الضمير فمنهم من يتعذر عليه إيراد الكلام المرتب المنتظم بل يكون مختلط الكلام مضطرب القول ومنهم من يتعذر عليه الترتيب من بعض الوجوه ومنهم من يكون قادراً على ضبط المعنى والتعبير عنه إلى أقص الغايات وكل من كانت هذه القدرة في حقه أكمل كانت الآثار الصادرة عن النفس النطقية في حقه أكمل وكل من كانت تلك القدرة في حقه أقل كانت تلك الآثار أضعف ولما بيّن الله تعالى كمال حال جوهر النفس النطقية التي لداود بقوله وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ أردفه ببيان كمال حاله في النطق واللفظ والعبارة فقال وفصل الخطاب وهذا الترتيب في غاية الجلالة ومن المفسرين من فسر ذلك بأن داود أول من قال في كلامه أما بعد وأقول حقاً إن الذين يتبعون أمثال هذه الكلمات فقد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً والله أعلم وقول من قال المراد معرفة الأمور التي بها يفصل بين الخصوم وهو طلب البينة واليمين فبعيد أيضاً لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادراً على التعبير عن كل ما يخطر بالبال ويحضر في الخيال بيحث لا يختلط شيء بشيء وبحيث ينفصل كل مقام عن مقام وهذا معنى عام يتناول جميع الأقسام والله أعلم وههنا آخر الكلام في الصفات العشرة التي ذكرها الله تعالى في مدح داود عليه السلام
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَآ أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَة ً وَلِى نَعْجَة ٌ وَاحِدَة ٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَالِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَأابٍ

اعلم أن الله تعالى لما مدحه وأثنى عليه من الوجوه العشرة أردفه بذكر قصة ليبين بها أن الأحوال الواقعة في هذه القصة لا يبين شيء منها كونه عليه السلام مستحقاً للثناء والمدح العظيم
أما قوله تعالى وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ فهو نظير قوله تعالى هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ( طه 9 ) وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها ليكون داعياً إلى الإصغاء لها والاعتبار بها وأقول للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال أحدها ذكر هذه القصة على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه وثانيها دلالتها على الصغيرة وثالثها بحيث لا تدل على الكبيرة ولا على الصغيرة
فأما القول الأول فحاصل كلامهم فيها أن داود عشق امرأة أوريا فاحتال بالوجوه الكثيرة حتى قتل زوجها ثم تزوج بها فأرسل الله إليه ملكين مفي صورة المتخاصمين في واقعة شبيهة بواقعته وعرضا تلك الواقعة عليه فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنباً ثم تنبه لذلك فاشتغل بالتوبة
والذي أدين به وأذهب إليه أن ذلك باطل ويدل عليه وجوه الأول أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجوراً لا ستنكف منها والرجل الحشوي الخبيث الذي يقرر تلك القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من ينسبه إليها وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصوم إليه الثاني أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته أما الأول فأمر منكر قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله ) وأما الثاني فمنكر عظيم قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) وإن أوريا لم يسلم من داود لا في روحه ولا في منكوحه والثالث أن الله تعالى وصف داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بالصفات العشرة المذكورة ووصفه أيضاً بصفات كثيرة بعد ذكر هذه القصة وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفاً بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح ولا بأس بإعادة هذه الصفات لأجل المبالغة في البيان
فنقول أما الصفات الأولى فهي أنه تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقتدي بداود في المصابرة مع المكابدة ولو قلنا إن داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعي في إراقة دم امرىء مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمداً أفضل الرسل بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله
وأما الصفة الثانية فهي أن وصفه بكونه عبداً له وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملاً في موقف العبودية تاماً في القيام بأدار الطاعات والاحتراز عن المحظورات ولو قلنا إن داود عليه السلام اشتغل بتلك الأعمال الباطلة فحينئذٍ ما كان داود كاملاً في عبوديته لله تعالى بل كان كاملاً في طاعة الهوى والشهوة
الثفة الثالثة هو قوله ذَا الاْيْدِ ( ص 17 ) أي ذا القوة ولا شك أن المراد منه القوة في الدين لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في ملوك الكفار ولا معنى للقوة في الدين إلا القوة الكاملة على أداء الواجبات

والاجتناب عن المحظورات وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم
الصفة الرابعة كونه أواباً كثير الرجوع إلى الله تعالى وكيف يليق هذا بمن يكون قلبه مشغوفاً بالقتل والفجور
الصفة الخامسة قوله تعالى إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ ( ص 18 ) أفترى أنه سخرت له الجبال ليتخذه وسيلة إلى القتل والفجور
الصفة السادسة قوله وَالطَّيْرَ مَحْشُورَة ً ( ص 19 ) وقيل إنه كان محرماً عليه صيد شيء من الطير وكيف يعقل أن يكون الطير آمناً منه ولا ينجو منه الرجل المسلم على روحه ومنكوحه
الصفة السابعة قوله وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ومحال أن يكون المراد أنه تعالى شدد ملكه بأسباب الدنيا بل المراد أنه تعالى شد ملكه بما يقوي الدين وأسباب سعادة الآخرة والمراد تشديد ملكه في الدين والدنيا ومن لا يملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك
الصفة الثامنة قوله تعالى وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءاتَيْنَاهُ الْحِكْمَة َ ( ص 20 ) والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علماً وعملاً فكيف يجوز أن يقول الله تعالى إنا ءاتَيْنَاهُ الْحِكْمَة َ وَفَصْلَ الْخِطَابِ مع إصراره على ما يستنكف عنه الخبيث الشيطان من مزاحمة أخلص أصحابه في الروح والمنكوح فهذه الصفات المذكورة قبل شرح تلك القصة دالة على براءة ساحته عن تلك الأكاذيب
وأما الصفات المذكورة بعد ذكر القصة فهي عشرة الأول قوله فَغَفَرْنَا لَهُ ذالِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا وذكر هذا الكلام إنما يناسب لو دلت القصة المتقدمة على قوته في طاعة الله أما لو كانت القصة المتقدمة دالة على سعيه في القتل والفجور لم يكن قوله وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى لائقاً به الثاني قوله تعالى مَئَابٍ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ وهذا يدل على كذب تلك القصة من وجوه أحدهما أن الملك الكبير إذا حكى عن بعض عبيده ) أنه قصد دماء الناس وأموالهم وأزواجهم فبعد فراغه من شرح القصة على ملأ من الناس يقبح منه أن يقول عقيبه أيها العبد أني فوضت إليك خلافتي ونيابتي وذلك لأن ذكر تلك القبائح والأفعال المنكرة يناسب الزجر والحجر فأما جعله نائباً وخليفة لنفسه فذلك ألبتة مما لا يليق وثانيها أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف فلما حكى الله تعالى عنه تلك الواقعة القبيحة ثم قال بعده إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ أشعر هذا بأن الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعال المنكرة ومعلوم أن هذا فاسد أم لو ذكر تلك القصة على وجوه تدل على براءة ساحته عن المعاصي والذنوب وعلى شدة مصابرته على طاعة الله تعالى فحينئذٍ يناسب أن يذكر عقيبه إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ ( ص 26 ) فثبت أن هذا الذي نختاره أولى والثالث وهو أنه لما كانت مقدمة الآية دالة على مدح داود عليه السلام وتعظيمه ومؤخرتها أيضاً دالة على ذلك فلو كانت الواسطة دالة على القبائح والمعائب لجرى مجرى أن يقال فلان عظيم

الدرجة عالي المرتبة في طاعة الله يقتل ويزني ويسرق وقد جعله الله خليفة في أرضه وصوب أحكامه وكما أن هذه الكلام مما لا يليق بالعاقل فكذا ههنا ومن المعلوم أن ذكر العشق والسعي في القتل من أعظم أبواب العيوب والرابع وهو أن القائلين بهذا القول ذكروا في هذه الرواية أن داود عليه السلام تمنى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية مثل ما حصل للخليل من الإلقاء في النار وحصل للذبيح من الذبح وحصل ليعقوب من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب فأوحى الله إليه أنهم إنما وجدوا تلك الدرجات لأنهم لما ابتلوا صبروا فعند ذلك سأل داود عليه السلام الابتلاء فأوحى الله إليه أنك ستبلى في يوم كذا فبالغ في الاحتزاز ثم وقعت الواقعة فنقول أول حكايتهم يدل على أن الله تعالى يبتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه فالسعي في قتل أول حكايتهم يدل على أن الله تعالى بيتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه فالسعي في قتل النفس بغير الحق والإفراط في العشق كيف يليق بهذه الحالة ويثبت أن الحكاية التي ذكروها يناقض أولها أخرها الخامس أن داود عليه السلام قال وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الْخُلَطَاء لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ استثنى الذين آمنوا عن البغي فلو قلنا إنه كان موصوفاً بالبغي لزم أن يقال إنه حكم بعد الإيمان على نفسه وذلك باطل السادس حضرت في بعض المجالس وحضر فيه بعض أكابر الملوك وكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيئة لسبب اقتضى ذلك فقلت له لا شك أن داود عليه السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل ولقد قال الله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) ومن مدحه الله تعالى بمثل هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ الطعن فيه وأيضاً فبتقدير أنه ما كان نبياً فلا شك أنه كان مسلماً ولقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تذكروا موتاكم إلا بخير ) ثم على تقدير أنا لا نلتفت إلى شيء من هذه الدلائل إلا أنا نقول إن من المعولم بالضرورة أن يتقدير أن تكون القصة التي ذكرتموها حقيقية صحيحة فإن روايتها وذكرها لا يوجب شيئاً من الثواب لأن إشاعة الفاحشة إن لم توجب العقاب فلا أقل من أن لا توجب الثواب وأما بتقدير أن تكون هذه القصة باطلة فاسدة فإن ذاكرها يستحق أعظم العقاب والواقعة التي هذا سؤنها وصفتها فإن صريح العقل يوجب السكوت عنها فثبت أن الحق ما ذهبنا إليه وأن شرح تلك القصة محرم محظور فلما سمع ذلك الملك هذا الكلام سكت ولم يذكر شيئاً السابع أن ذكر هذه القصة وذكر قصة يوسف عليه السلام يقتضي إشاعة فوجب أن يكون محرماً لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَة ُ فِى الَّذِينَ ءامَنُواْ ( النور 19 ) الثامن لو سعى داود في قتل ذلك الرجل لدخل تحت قوله ( من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله ) وأيضاً لو فعل ذلك لكان ظالماً فكان يدخل تحت قوله أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ التاسع عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب عليه السلام قال ( من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين ) وهو حد الفرية على الأنبياء ومما يقوي هذا أنهم لما قالوا إن المغيرة بن شعبة زني وشهد ثلاثة من عدول الصحابة بذلك وأما الرابع فإنه لم يقل بأني رأيت ذلك العمل يعني فإن عمر بن الخطاب كذب أولئك الثلاثة وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة لأجل أنهم قذفوا وإذا كان الحال في واحد من آحاد الصحابة كذلك فكيف الحال مع داود عليه السلام مع أنه من أكابر الأنبياء عليهم السلام العاشر روي أن بعضهم ذكر هذه القصة على ما في كتاب الله تعالى فقال لا ينبغي أن يزاد عليها وإن كانت الواقعة على ما ذكرت ثم إنه تعالى لم يذكرها لأجل أن يستر تلك الواقعة على داود عليه السلام فلا يجوز للعاقل أن يسعى في هتك ذلك الستر بعد ألف سنة أو أقل أو أكثر فقال

عمر ( سماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ) فثبت بهذه الوجوه التي ذكرناها أن القصة التي ذكروها فاسدة باطلة فإن قال قائل إن كثيراً من أكابر المحدثين والمفسرين ذكروا هذه القصة فكيف الحال فيها فالجواب الحقيقي أنه لما وقع التعارض بين الدلائل القاطعة وبين خبر واد من أخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القاطعة أولى وأيضاً فالأصل بين الذمة وأيضاً فلما تعارض دليل التحريم والتحليل كان جانب التحريم أولى وأيضاً طريقة الاحتياط توجب تورجيح قولنا وأيضاً فنحن نعلم بالضرورة أن بتقدير وقوع هذه الواقعة لا يقول الله لنا يوم القيامة لم لم تسعوا في تشهير هذه الواقعة وأما بتقدير كونها باطلة فإن علينا في ذكرها أعظم العقاب وأيضاً فقال عليه السلام التي ذكرناها قائمة فوجب أن لا تجوز الشهادة بها وأيضاً كل المفسرين لم يتفقوا على هذا القول بل الأكثرون المحقون والمحققون منهم يردونه ويحكمون عليه بالكذب والفساد وأيضاً إذا تعارضت أقوال المفسرين والمحدثين فيه تساقطت وبقي الرجوع إلى الدلائل التي ذكرناها فهذا تمام الكلام في هذه القصة
أما الاحتمال الثاني وهو أن تحمل هذه القصة على وجه يوجب حصول الصغيرة ولا يوجب حصول الكبير فنقول في كيفية هذه القصة على هذا التقدير وجوه الأول أن هذه المرأة خطبها أوريا فأجابوه ثم خطبها داود فأثره أهلها فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه الثاني قالوا إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في ذها ذنب ألبتة أما وقع بصره لعيها من غير قصد فذلك لي بذنب وأما حصول الميل عقيب النظر فليس أيضاً ذنباً لأن هذا الميل ليس في وسعه فلا يكون مكلفاً به بل لما اتفق أن قتل زوجها لم يتأذ تأذياً عظيماً بسبب قتله لأجل أنه طمع أٌّ يتزوج بتلك المرأة فحصلت الزلة بسبب هذا المعنى وهو أنه لم يشق عليه قتل ذلك الرجل والثالث أنه كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضاً أن يطلق امرأته حتى يتزوجها وكانت عادتهم في هذا المعنى مألوفة معروفة أوى أن الأنصار كانوا يساوون المهاجرين بهذا المعنى فاتفق أن عين داود عليه السلام وقعت على تلك المرأة فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان فقيل له هذا وإن كان جائزاً في ظاهر الشريعة إلا أنه لا يليق بك فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين فهذه وجوه ثلاثة لو حملنا هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حق داود عليه السلام إلا ترك الأفضل والأولى
وأما الإحتمال الثالث وهو أن هذه القصة على وحه لا يلزم إلحاق الكبيرة والصغيرة بداود عليه السلام بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح أعظم أنواع المدح والثناء به وهو أن نقول روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليه السلام وكان له يوم يخلو فيه ننفسه ويشتغل بطاعة ربه فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوروا المحراب فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواماً يمنعونه منهم فخافوا فوضعوا كذباً فقالوا خصمان بغي بعضنا على بعض إلى آخر القصة ولي في لفظ القرآن ما يمكن أن يحتج به في إلحاق الذنب

بداود إلا ألفاظ أربعة أحدهما قوله وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ وثانيها قوله تعالى ( فاستغفر ربه ) وثالثها قوله وَأَنَابَ ورابعها قوله فَغَفَرْنَا لَهُ ذالِكَ ثم نقول وهذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكروه وتقريره من وجوه الأول أنهم لما دخول عليه لطلب قتله بهذا الطريق وعلم داود عليه السلام ذلك دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم إلا أنه قال إلى الصفح والتجاوز عنهم طلباً لمرضاة الله قال وكانت هذه الواقعة هي الفتنة لأنها جارية مجرى الابتلاء والامتحان ثم إنه استغفر ربه مما هم به من الانتقام منهم وتاب عن ذلك الهم وأناب فغفر له ذلك القدر من الهم والعز والثاني أنه وإن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه إلا أنه ندم على ذلك الظن وقال لما لم تقم دلالة ولا أمارة على أن الأمر كذلك فبئسما علمت بهم حيث ظننت بهم هذا الظن الرديء فكان هذا هو المراد من قوله وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ منه فغفر الله له ذلك الثالث أن دخولهم عليه كان فتنة لداود عليه السلام إلا أنه عليه السلام استغفر لذلك الداخل العازم على قتله كما قال في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( محمد 19 ) فداود عليه السلام استغفر لهم وأناب أي رجع إلى الله تعالى في طلب مغفرة ذلك الداخل القاصد للقتل وقوله فَغَفَرْنَا لَهُ ذالِكَ أي غفرنا له ذلك الذنب لأجل احترام ذاوود ولتعظيمه كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ ( الفتح 2 ) أن معناه أن الله تعالى يغفر لك ولأجلك ما تقدم من ذنب أمتك الرابع هب أنه تاب داود عليه السلام عن زلة صدرت منه لكن لا نسلم أن تلك الزلة وقعت بسبب المرأة فلم لا يجوز أن تيقال إن تلك الزلة إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن سمع كلام الخصم الثاني فإن لما قال لَقَدِ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ فحكم عليه بكونه ظالماً بمجرد دعوى الخصم بغير بينة لكون هذا الحكم مخالفاً للصواب فعند هذا اشتغل بالاستغفار والتوبة إلا أن هذا في باب ترك الأفضل والأولى فثبت بهذه البيانات أنا إذا حملنا هذه الآثات على هذا الوجه فإنه لا يلزم إسناد شيء من الذنوب إلى داود عليه السلام بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطاعات إليه ثم نقول وحمل الآية عليه أولى لوجوه الأول أن الأصل في حال المسلم البعد عن المناهي لا سيما وهو رجل من أكابر الأنبياء والرسل والثاني أنه أحوط والثالث أنه تعالى قال في أول الآية لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ ( ص 17 ) فإن قوم محمد عليه السلام لما أظهروا السفاهة حيث قالوا هَاذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( ص 4 ) واستهزأوا به حيث قالوا رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ( ص 16 ) فقال تعالى في أول الآية اصبر يا محمد على سفاهتهم وتحمل وتحلم ولا تظهر الغضب واذكر عبدنا داود فهذا الذكر إنما يحسن إذا كان داود عليه السلام قد صبر على إيذائهم وتحمل سفاهتهم وحلم ولم يظهر الطيش والغضب وهذا المعنى إنما يحصل إذا حملنا الآية على ما ذكرناه أما إذا حملناها على ما ذكروه صار الكلام متناقضاً فاسداً والرابع أن تلك الرواية إنما تتمشى إذا قلنا الخصمان كانا ملكين ولما كانا من الملائكة وما كان

بينهما مخاصمة وما بغى أحدهما على الآخر كان قولهما خصمان بغى بعضنا على بعض كذباً فهذه الرواية لا تتم إلا بشيئين أحدهما إسناد الكذب إلى الملائكة والثاني أن يتوسل بإسناد الكذب إلى الملائكة إلى إسناد أفحش القبائح إلى رجل كبير من أكابر الأنبياء فأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا استغنينا عن إسناد الكذب إلى الملائكة وعن إسناد القبيح إلى الأنبياء فكان قولنا أولى فهذا ما عندنا في هذا الباب والله أعلم بأسرار كلامه ونرجع الآن إلى تفسير الآيات أما قوله وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ قال الواحدي الخصم مصدر خصمته أخصمه خصماً ثم يسمى به الإثنان والجمع ولا يثنى ولا يجمع يقال هما خصم وهم خصم كما يقال هما عدل وهم عدل والمعنى ذوا خصم وذوو خصم وأريد بالخصم ههنا الشخصان اللذان دخلا على داود عليه السلام وقوله تعالى إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ يقال تسورت السور تسوراً إذا علوته ومعنى تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ أي أتوه من سوره وهو أعلاه يقال تسور فلان الدار إذا أتاها من قبل سورها وأما المحراب فالمراد منه البيت الذي كان داود يدخل فيه ويشتغل بطاعة ربه وسمي ذلك البيت المحراب لاشتماله على المحراب كما يسمى الشيء بأشرف أجزائه وههنا مسألة من علم أصول الفقه وهي أن أقل الجمع اثنان عند بعض الناس وهؤلاء تمسكوا بهذه الآية لأنه تعالى ذكر صيغة الجمع في هذه الآيات في أربعة مواضع أحدهما قوله تعالى إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ ( ص 21 ) وثانيها قوله إِذْ دَخَلُواْ وثالثها قوله مِنْهُمْ ورابعها قوله قَالُواْ لاَ تَخَفْ فهذه الألفاظ الأربعة لها صيغ الجمع وهم كانوا اثنين بدليل أنهم قالوا خصمان قالوا فهذه الآية تدل على أن أقل اسماً فإنه لا يثنى ولا يجمع ثم قال تعالى إِذْ دَخَلُواْ عَلَى دَاوُودُ والفائدة فيه أنهم ربما تسوروا المحراب وما دخلوا عليه فلما قال إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ دل على أنهم بعد التسور دخلوا عليه قال الفراء وقد يجاء بإذ مرتين ويكون معناهما كالواحد كقولك ضربتك إذ دخلت علي إذ اجترأت مع أنه يكون وقت الدخول ووقت الاجتراء واحداً ثم قال تعالى فَفَزِعَ مِنْهُمْ والسبب أن داود عليه السلام لما رآهما قد دخلوا عليه لا من الطريق المعتاد علم أنهم إنما دخلوا عليه للشر فلا جرم فزع منهم ثم قال تعالى قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى خصمان خبر مبتدأ محذوف أي نحن خصمان
المسألة الثانية ههنا قولان الأول أنهما كانا ملكين نزلا من السماء وأراد تنبيه داود عليه السلام على قبح العمل الذي أقدم عليه والثاني أنهما كانا إنسانين دخلا عليه للشر والقتل فظنا أنهما يجدانه خالياً فلما رأيا عنده جماعة من الخدم اختلقا ذلك الكذب لدفع الشر وأما المنكرونت لكونهما ملكين فقد احتجوا عليه بأنهما لو كانا ملكين لكانا كاذبين في قولهما خَصْمَانِ فإنه ليس بين الملائكة خصومة ولكانا كاذبين في قولهما بَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ولكانا كاذبين في قولهما إِنَّ هَذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَة ً فثبت أنهما لو كانا مليكين كاذبين والكذب على الملك غير جائز لقوله تعالى لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ( الأنبياء 27 ) ولقوله وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النخل 50 ) أجاب الذاهبون إلى القول الأول عن هذا الكلام بأن قالوا إن الملكين إنما ذكرا هذا الكلام على سبيل ضرب المثل لا على سبيل التحقيق فلم يلزم الكذب وأجيب

عن هذا الجواب بأن ما ذكرتم يقتضي العدول عن ظاهر اللفظ ومعلوم أنه على خلاف الأصل أما إذا حملنا الكلام على أن الخصمين كانا رجلين دخلا عليه لغرض الشر ثم وضعا هذا الحديث الباطل فحينئذٍ لزم إسناد الكذب إلى شخصين فاسقين فكان هذا أولى من القول الأول والله أعلم وأما القائلون بكونهما ملكين فقد احتجا بوجوه الأول اتفاق أكثر المفسرين عليه والثاني أنه أرفع منزلة من أن يتسور عليه آحاد الرعية في حال تعبده فيجب أن يكون ذلك من الملائكة الثالث أن قوله تعالى قَالُواْ لاَ تَخَفْ كالدلالة على كونهما ملكين لأن من هو من رعيته لا يكاد يقول له مثل ذلك مع رفعة منزلته الرابع أن قولهما وَلاَ تُشْطِطْ كالدلالة على كونهما ملكين لأن أحداً من رعيته لا يتجاسر أن يقول له تظلم ولا تتجاوز عن الحق واعلم أن ضعف هذه الدلائل ظاهر ولا حاجة إلى الجواب والله أعلم
المسألة الثالثة بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ أي تعدى وخرج عن الحد يقال بغى الجرح إذا أفرط وجعه وانتهى إلى الغاية يوقال بغت المرأة إذا زنت لأن الزنا كبيرة منكرة قال تعالى وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء ( النور 33 ) ثم قال فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقّ معنى الحكم إحكام الأمر في آمضاء تكليف الله عليهما في الواقعة ومنه حكمة الدابة لأنها تمنع من الجماح ومنه بناء محكم إذا كان قوياً وقوله بِالْحَقّ أي بالحكم الحق وهو الذي حكم الله به وَلاَ تُشْطِطْ يقال شط الرجل إذا بعد ومنه قوله شطت الدار إذا بعدت قال تعالى لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ( الكهف 14 ) أي قولاً بعيداً عن الحق فقوله وَلاَ تُشْطِطْ أي لا تبعد في هذا الحكم عن الحق ثم قال وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصّراطِ وسواء الصراط هو وسطه قال تعالى فَاطَّلَعَ فَرَءاهُ فِى سَوَاء الْجَحِيمِ ( الصافات 55 ) ووسط الشيء أفضله وأعدله قال تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) وأقول إنهم عبروا عن المقصود الواحد بثلاث عبارات أولها قولهم فاحكم بالحق وثانيها قولهم وَلاَ تُشْطِطْ وهي نهي عن الباطل وثالثها قولهم وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصّراطِ يعنى يجب أن يكون سعيك في إيجاد هذا الحق وفي الاحتراز عن هذا الباطل أن تردنا من الطريق الباطل إلى الطريق الحق وهذا مبالغة تامة في تقرير المطلوب واعلم أنهم لما أخبروا عن وقوع الخصومة على سبيل الإجمال أردفوه ببيان سبب تلك الخصومة على سبيل التفصيل فقال إِنَّ هَذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَة ً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صحاب ( الكشاف ) أَخِى يدل من هذا أو خبر لقوله ءانٍ والمراد أخوة الدين أو أخوة الصداقة والألفة أو أخوة الشركة والخلطة لقوله تعالى وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الْخُلَطَاء وكل واحدة من هذه الأخوات توجب الامتناع من الظلم والاعتداء
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء تِسْعٌ وَتِسْعُونَ بفتح التاء ونعجة بكسر النون وهذا من اختلاف اللغات نحو نطع ونطع ولقوة وهي الأنثى من العقبان
المسألة الثالثة قال الليث النعجة الأنثى من الضأن والبقرة الوحشية والشاة الجبلية والجمع النعجات والعرب جرت عادتهم بجعل النعجة والظبية كناية عن المرأة
المسألة الرابعة قرأ عبد الله تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَة ً أُنثَى وهذا يكون لأجل التأكيد كقوله تعالى وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلَيْهِنَّ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلاهٌ وَاحِدٌ ( النحل 51 ) ثم قال أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ قال

صاحب ( الكشاف ) أَكْفِلْنِيهَا حقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي وَعَزَّنِى غلبني يقال عزه يعزه والمعنى جاءني يحجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أورده به وقرىء وعازني من المعازة وهي المغالبة واعلم أن الذين قالوا إن هذين الخصمين كانا من الملائكة زعموا أن المقصود من ذكر النعاج التمثيل لأن داود كان تحته تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة فذكرت الملائكة تلك الواقعة على سبيل الرمز والتمثيل
ثم قال تعالى قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ أي سؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه وروي أنه قال إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا وأشار إلى الأنف والجبهة فقال يا داود أنت أحق أن نضرب منك هذا وهذا وأشار إلى الأنف والجبهة فقال يا داود أنت أحق أن نضرب منك هذا وهذا وأنت فعلت كيت وكيت ثم نظر داود فلم ير أحداً فعرف الحال فإن قيل كيف جاز لداود أن يحكم على أحد الخصمين بمجرد قول خصمه قلنا ذكروا فيه وجوهاً الأول قال محدم بن إسحاق فما فرغ الخصم الأول من كلامه نظر داود إلى الخصم الذي لم يتكلم وقال لئن صدق لقد ظلمته والحاصل أن هذا الحكم كان مشروطاً بشرط كونه صادقاً في دعواه والثاني قال ابن الأنباري لما ادعى أحد الخصمين اعترف الثاني فحكم داود علهي لاسلام ولم يذكر الله تعالى ذلك الاعتراف لدلالة ظاهر الكلام عليه كما تقول أمرتك بالتجارة فكسبت تريد اتجرت فكسبت وقال تعالى أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ ( الشعراء 63 ) أي فضرب فانفلق والثالث أن يكون التقدير أن الخصم الذي هذا شأنه يكون قد ظلمك
ثم قال تعالى وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الْخُلَطَاء لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ قال الليث خليط الرجل مخالطه وقال الزجاج الخلطاء الشركاء فإن قيل لم خص داود الخلطاء يبغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء قذ يفعلون ذلك والجواب لا شك أن المخالطة توجب كثرة المنازعة والمخاصمة وذلك لأنهما إذا اختلطا اطلع كل واحد منهما على أخوال الآخر فكل ما يملكه من الأشياء النفيسة إذا اطلع عليه عظمت رغبته فيه فيفضي ذلك إلى زيادة المخاصمة والمنازعة فلهذا السبب خص داود عليه السلامم الخلطاء بزيادة البغي والعدوان ثم استثنى عن هذا الحكم الذي آمنوا وعلموا الصالحات لأن مخالطة هؤلاء لا تكون إلا لأجل الدين وطلب السعادات الروجانية الحقيقية فلا جرم مخالطتهم لا توجب المنازعة وأما الذين تكون مخالطتهم لأجل حب الدنيا لا بد وأن تصير مخالتطهم سبباً لمزيد البغي والعدوان واعلم أن هذا الاستثناء يدل على أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يبغي بعضهم على بعض فلو كان داود عليه السلام قد بغى وتعدى على ذلك الرجل لزم بحكم فتوى داود أن لا يكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ومعلوم أن ذلك باطل فثبت أن قول من يقول المراد من واقعة النعجة قصة داود قوله باطل
ثم قال تعالى وَقِيلَ مَّا هُم واعلم أن الحكم بقلة أهل الخير كثير في القرآن قال تعالى وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ ( سبأ 13 ) وقال داود عليه السلام في هذا الموضع وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وحكى تعالى عن إبليس أنه قال وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( الأعراف 17 ) وسبب القلة أن الدواعي إلى الدنيا كثيرة وهي الحواس الباطنة والظاهرة وهي عشرة والشهود والغضب والقوى الطبيعية السبعة فالمجموع تسعة عشر وافقون على باب جهنم البدن وكلها تدعو إلى الخلق والدنيا واللذة الحسية وأما الداعي إلى الق

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66