كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

بما وقع الابتداء به في أول السورة وذلك لأن أول السورة يدل على أن شدة نفورهم عن استماع القرآن إنما حصلت من أجل أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان يدعوهم إلى التوحيد وإلى البراءة عن الأصنام والأوثان بدليل أنه قال في أول السورة قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ أَنَّمَا إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ ( فصلت 6 ) فذكر في خاتمة السورة وعيد القائلين بالشركاء ولأنداد فقال وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِى أي بحسب زعمكم واعتقادكم قَالُواْ قال ابن عباس أسمعناك كقوله تعالى انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ ( الانشقاق 2 ) بمعنى سمعت وقال الكلبي أعلمناك وهذا بعيد لأن أهل القيامة يعلمون الله ويعلمون أنه يعلم الأشياء علماً واجباً فالأعلام في حقه محال
ثم قال مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ وفيه وجوه الأول ليس أحد منا يشهد بأن لك شريكاً فالمقصود أنهم في ذلك اليوم بترءون من إثبات الشريك لله تعالى الثاني ما منا من أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم لا يبصرونها في ساعة التوبيخ الثالث أن قوله مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ كلام الأصنام فإن الله يحييها ثم إنها تقولم ما منا من أحد يشهد بصحة ما أضافوا إلينا من الشركة وعلى هذا التقدير فمعنى أنها لا تنفعهم فكأنهم ضلوا عنهم
ثم قال وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ وهذا ابتداء كلام من الله تعالى يقول إن الكفار ظهوا أولاً ثم أيقنوا أنه لا محيص لهم عن النار والعذاب ومنهم من قال إنهم ظنوا أولاً أنه لا محيص لهم عن النار ثم أيقنوا ذلك بعده وهذا بعيد لأن أهل النار يعلمون أن عقابهم دائم ولما بيّن الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنهم بعد أن كانوا مصرين على القول بإثبات الشركاء والأضداد لله في الدنيا تبرءوا عن تلك الشركاء في الآخرة بين أن الإنسان في جميع الأوقات متبدل الأحوال متغير المنهج فإن أحس بخير وقدرة انتفخ وتعظم وإن أحس ببلاء ومحنة ذبل كما قيل في المثل إن هذا كالقرلى إن رأى خيراً تدلى وإن رأى شراً تولى فقال لاَّ يَسْئَمُ الاْنْسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ مبالغة من وجهين أحدهما من طريق بناء فعول والثاني من طريق التكرير واليأس من صفة القلب والقنوط أن يظهر آثار ليأس في الوجه والأحوال الظاهرة
ثم بيّن تعالى أن هذا الذي صار آيساً قانطاً لو عاودته النعمة والدولة وهو المراد من قوله وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَة ً مّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ فإن هذا الرجل يأتي بثلاثة أنواع من الأقاويل الفاسدة والمذاهب الباطلة الموجبة للكفر والبعد عن الله تعالى فأولها أنه لا بد وأن يقول هذا لي وفيه وجهان الأول معناه أن هذا حقي وصل إلي لأني اسوجبته بما حصل عندي من أنواع الفضائل وأعمال البر والقربة من الله ولا يعلم المسكين أن أحداً لا يستحق على الله شيئاً وذلك لأنه إن كان ذلك الشخص عارياً عن الفضائل فهذا الكلام ظاهر الفساد وإن كان موصوفاً بشيء من الفضائل والصفات الحميدة فهي بأسرها إنما حصلت له بفضل الله وإحساتنه وإذ تفضل الله بشيء على بعض عبيده امتنع أن يصير تفضله عليه بتلك العطية سبباً لأن يستحق على الله شيئاً آخر فثبت بهذا فساد قوله إنما حصلت هذه الخيرات بسبب استحقاقي والوجه

الثاني أن هذا لي أي لا يزول عني ويبقى علي وعلى أولادي وذريتي
والنوع الثاني من كلماتهم الفاسدة أن يقول وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً يعني أنه يكون شديد الرغبة في الدنيا عظيم النفرة عن الآخرة فإذا آل الأمر إلى أحوال الدنيا نيقول إنها لي وإذا آل الاْمر إلى الآخرة يقول وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً
والنوع الثالث من كلماتهم الفاسدة أن يقول وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى يعني أن الغالب على الظن أن القول بالبعث والقيامة باطل وبتقدير أن يكون حقاً فإن لي عنده للحسنى وهذه الكلمة تدل على جزمهم بوصولهم إلى الثواب من وجوه الأول أن كلمة إن تفيد التأكيد الثاني أن تقديم كلمة لي تدل على هذا التأكيد الثالث قوله عِندَهُ يدل على أن تكل الخيرات حاضرة مهيئة عنده كما تقول لي عند فلان كذا من الدنانير فإن هذا يفيد كونها حاضرة عنده فلو قلت إن لي عند فلان كذا من الدنانير لا يفيد ذلك والرابع اللام في قوله لَلْحُسْنَى تفيد التأكيد الخامس للحسنى يفيد الكمال في الحسنى
ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال فَلَنُنَبّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ أي نظهر لهم ) أن الأمر على ضد ما اعتقدون وعلى عكس ما تصوروه كما قال تعالى وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ( الفرقان 23 ) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ في مقابلة قولهم إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى
ولما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد ووقعه في الآفات حكى أفعاله أيضاً فقال وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وَنَأَى بِجَانِبِهِ أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم ثم إن مسه الضر والفقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الاتبهال والتضرع وقد استعير العرض لكثرة الدماء ودوامه وهو من صفات الأجرام ويستعار به الطول أيضاً كما استعير الغلظ لشدة العذاب
واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد العظيم على الشرك وبين أن المشركين يرجعون عن القول بالشرك في يوم القيامة ويظهرون من أنفسهم الذلة والخضوع بسبب استيلاء الخوف عليهم وبين أن الإنسان جبل على التبدل فإن وجد لنفسه قوة بالغ في التكبر والتعظم وإن أحسّ بالفتور والضعف بالغ في إظهار الذلة والمسكنة ذكر عقيبة كلاماً آخر يوجب على هؤلاء الكفار أن لا يبالغوا في إظهار النفرة من قبول التوحيد وأن لا يفرطوا في إظهار العداوة مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ وتقرير هذا الكلام أنكم كلم مسعتم هذا القرآن أعرضتم عنه وما تأملتم فيه وبالغتم في النفرة عنه حتى قلتم قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ ( فصلت 5 ) ثم من المعلوم بالضرورة أنه ليس العلم بكون القرآن باطلاً علماً بديهياً وليس العلم بفساد القول بالتوحيد والنبوة علماً بديهياً فقبل الدليل يحتمل أن يكون صحيحاً وأن كيون فاسداً بتقدير أن يكون صحيحاً كان إصراركم على دفعه من أعظم موجبات العقاب فهذا الطريق يوجب عليكم أن تتركو هذه الثغرة وأن ترجعوا إلى النظرة والاستدلال فإن دل الدليل على صحته قبلتموه وإن دل على فساده تركتموه فأما قبل الدليل فالإصار على الدفع والإعراض بعيد عن العقل وقوله مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ موضوع موضع منكم بياناً بحالهم وصفاتهم ولما ذكر هذه الوجوه الكثيرة في تقرير التوحيد والنبوة وأجاب عن شبهات المشركين وتمويهات الضالين قال سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ

قال الواحدي واحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض وكذلك آفاق السماء ونواحيها وأطرافها وفي تفسير قوله سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ قولان الأول أن المراد بآيات الآفاق الآيات الفلكية والكوكبية وآيت الليل والنهار وآيات الأضواء والإضلال والظلمات وآيات عالم العناصر الأربعة وآيات المواليد الثلاثة وقد أكثر الله منها في القرآن وقوله وَفِى أَنفُسِهِمْ المراد منها الدلائل المأخوذة منن كيفية تكون الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة كما قال تعالى وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ( الذاريات 21 ) يعني نريهم من هذه الدلائل مرة بعد أخرى إلى أن تزول الشبهات عن قلوبهم ويحصل فيها الجزم والقطع بوجود الإله القادر الحكيم العلمي المنزّه عن المثل والضد فإن قيل هذا الوجه ضعيف لأن قوله تعالى سَنُرِيهِمْ يقتضي أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات إلى الآن وسيطلعهم عليها بعد ذلك والآيات الموجودة في العالم الأعلى والأسفل قد كان الله أطلعهم عليها قبل ذلك فثبت أنه تعذر حمل هذا اللفظ على هذا الوجه قلنا ءن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى في هذه الأشياء مما لا نهاية لها فهو تعالى يطلعهم على تلك العجائب زماناً فزماناً ومثاله كل أحد رأى بعينه بينة الإنسان وشاهدها إلا أن العجائب التي أبدعها الله في تركيب هذا البدن كثيرة وأكثر الناس لا يعرفونها والذي وقف على شيء منها فكلما ازداد وقوفاً على تلك العجائب والغرائب فصح بهذا الطريق قوله سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ والقول الثاني أن المراد بآيات الآفاق فتح البلاد المحيطة بمكة وبآيات أنفسهم فتح مكة والقائلون بهذا القول رجّحوه على القول الأول لأجل أن قوله سَنُرِيهِمْ يليق بهذا الوجه ولا يليق بالأول إلا أنا أجبنا عنه بأن قوله سَنُرِيهِمْ لائق بالوجه الأول كما قررناه فإن قيل حمل الآية على هذا الوجه بعيد لأن أقصى ما في الباب أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) استولى على بعض البلاد المحيطة بمكة ثم استولى على مكة إلا أن الاستيلاء على بعض البلاد لا يدل على كون المستولي محقاً فإنا نرى أن الكفار قد يحصل لهم استيلاء على بلاد الإسلام وعلى ملوكهم وذلك لا يدل على كونهم محقين ولهذا السبب قلنا ءن حمل الآية على الوجه الأول أولى ثم نقول إن أردنا تصحيح هذا الوجه قلنا إنا لا نستدل بمجرد استيلاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على تلك البلاد على كونه محقاً في ادعاء النبوة بل نستدل به من حيث إنه ( صلى الله عليه وسلم ) أخبر عن مكة أنه يستولي عليها ويقهر أهلها ويصير أصحابه قاهرين للأعداء فهذا إخبار عن الغيب وقد وقع مخبره مطابقاً لخبره فيكون هذا إخباراً صدقاً عن الغيب والإخبار عن الغيب معجزة فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا الاستيلاء على كون هذا الدين حقاً
ثم قال أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ وقوله بِرَبّكَ في موضع الرفع على أنه فاعل يَكُفَّ وأنه على كل شيء شهيد بد منه وتقديره أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد ومعنى كونه تعالى شهيداً على الأشياء أنه خلق الدلائل عليها وقد اسقصينا ذلك في تفسير قوله بد منه وتقديره أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد ومعنى كونه تعالى شهيداً على الأشياء أنه خلق الدلائل عليها وقد اسقصينا ذلك في تفسير قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ ( الأنعام 19 ) والمعنى ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها الله تعالى وقررها في هذه السورة وفي كل سور القرآن الدالة على التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة
ثم ختم السورة بقوله أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَة ٍ مّن لّقَاء رَبّهِمْ أي إن القوم في كش عظيم وشبهة شديدة من البعث والقيامة وقرىء فِى مِرْيَة ٍ بالضم

ثم قال أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطُ أي عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها فيعلم بواطن هؤلاء الكفار وظواهرهم ويجازي كل أحد على فعله بحسب ما يليق به إن حيزاً فخير وإن شراً فشر فإن قيل قوله أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطُ يقتضي أن تكون علومه متناهية قلنا قوله بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطُ يقتضي أن يكون علمه محيطاً بكل شيء من الأشياء فهذا يقتضي كون كل واحد منها متناهياً لا كون مجموعها متناهياً والله أعلم بالصواب

سورة الشورى
خمسون وثلاث آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
حم ع س ق كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَهُوَ الْعَلِى ُّ العَظِيمُ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَة ُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأرض أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
اعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح معلوم إلا أن في هذا الموضع سؤالان زائدان الأول أن يقال إن هذه السور السبعة مصدرة بقوله حم فما السبب في اختصاص هذه السورة بمزيد عسق الثاني أنهم اجمعوا على أنه لا يفصل بين كهيعص ( مريم 1 ( وههنا يفصل بين حم وبين عسق فما السبب فيه
اعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح يضيف وفتح باب المجازفات مما لا سبيل إليه فالأولى أن يفوض علمها إلى الله وقرأ ابن عباس وابن مسعود حم عسق
أما قوله تعالى كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ فالكاف معناه الثل وذا للإشارة إلى شيء سبق ذكره فيكون المعنى مثل حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك وعند هذا حصل قولان

الأول نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال ( لا نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عشق ) وهذا عندي بعيد
الثاني أن يكون المعنى مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى الذين من قبلك وهذه المماثة المراد منها المماثلة في الدعوة إلى التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في التوجه إلى الآخرة والذي يؤكد هذا أنا بينا في سورة سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( الأعلى 1 ) أو أولها في تقرير التوحيد وأوسطها في تقرير النبوة وآخرها في تقرير المعاد ولما تمم الكلام في تقرير هذه المطالب الثلاثة قال إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى ( الأعلى 18 19 ) يعني أن المقصود من إنزال جميع الكتب الإلهية ليس إلا هذه المطالب الثلاثة فكذلك ههنا يعني مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى كل من قبلك من الأنبياء والمراد بهذه المماثلة الدعوة إلى هذه المطالب العالية والمباحث المقدسة الإلهية قال صاحب ( الكشاف ) ولم يقل أوحي إليك ولكن قال يُوحِى إِلَيْكَ على لفظ المضارع ليدل على أن إيحاء مثله عادته وقرأ ابن كثير كَذَلِكَ يُوحِى بفتح الحاء على ما لم يسم فاعله وهي إحدى الروايتين عن أبي عمرو وعن بعضهم نُوحِى بالنون وقرأ الباقون يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ بكسر الحاء فإن قيل فعلى القراءة الأولى ما رافع اسم الله تعالى قلنا ما دل عليه بوحي كأن قائلاً قال من الموحي فقيل الله ونظيره قراءة السلمي وَكَذالِكَ زُيّنَ كَثِيرٍ مّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ( الأنعام 137 ) على البناء للمفعول ورفع شركاؤهم فإن قيل فما رافعه فيمن قرأ نُوحِى بالنون قلنا يرفع بالابتداء والعزيز وما بعده أخبار أو العَزِيزُ الحَكِيمُ صفتان والظرف خبره ولما ذلك أن هذا الكتاب حصل بالوحي بين أن الموحي من هو فقال إنه هو العزيز الحكيم وقد بينا في أول سورة حم المؤمن أن كونه عزيزاً يدل على كونه قادراً على ما لا نهاية له وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات عنياً عن جميع الحاجات فيحصل لنا من كونه عزيزاً حكيماً كونه قادراً على جميع المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجات ومن كان كذلك كانت أفعاله وأقواله حكمة وصواباً وكانت مبرأة عن العيب والعبث قال مصنف الكتاب قلت في قصيدة
الحمد لله دي الآلاء والنعم
والفضل والجود والإحسان والكرممنزّه الفعل عن عيب وعن عبث
مقدس الملك عن عزل وعن عدم والصفة الثالثة قوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وهذا يدل على مطلوبين في غاية الجلال أحدهما كونه موصوفاً بقدرة كاملة نافذة في جميع أجزاء السموات والأرض على عظمتها وسعتها بالإيجاد والإعدام والتكوين والإبطال والثاني أنه لما بيّن بقوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ أن كل ما في السموات وما في الأرض فهو ملكه وملكله وجب أن يكون منزّهاً عن كونه حاصلاً في السموات وفي الأرض وإلا لزم كونه ملكاً لنفسه وإذا ثبت أنه ليس في شيء من لمسوات امتنع كونه أيضاً في العرش لأن كل ما سماك فهو سماء فإذا كان العرش موجوداً فوق السموات كان في الحقيقة سماء فوجب أن يكون كل ما كان حاصلاً في العرش ملكاً لله وملكاً له وفجب أن يكون منزّهاً عن كونه حاصلاً في العرش وإن قالوا إنه تعالى قال لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وكلمة ما لا تتناول من يعقل قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول ى ن

لفظة ما واردة في حق الله تعالى قال تعالى وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالاْرْضِ وَمَا طَحَاهَا ( الشمس 5 6 ) وقال لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( الكافرون 2 3 ) والثاني أن صيغة من وردت في مثل هذه السورة قال تعالى إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً ( مريم 93 ) وكلمة من لا شك أنها واردة في حق الله تعالى فدلّت هذه الآية على أن كل من في المسوات والأرض فهو عبد الله فلو كان الله موجوداً في السموات والأرض وفي العرش لكان هو من جملة من في المسوات فوجب أن يكون عبد الله ولما ثبت بهذه الآية أن كل من كان موجوداً في السموات والعرش فهو عبد لله وجب فيمن تقدست كبرياؤه عن تهمة العبودية أن يكون منزّهاً عن الكون في المكان والجهة والعرش والكرسي
والصفة الرابعة والخامسة قوله تعالى وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْعَظِيمُ ولا يجوز أن يكون المراد بكونه علياً العلو في الجهة والمكان لما ثبتت الدلالة على فساده ولا يجوز أن يكون المراد من العظيم العظمة بالجثة وكبر الجسم لأن ذلك يقتضي كونه مؤلفاً من الأجزاء والأبعاض وذلك ضد قوله اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) فوجب أن يكون المراد من العلي المتعالي عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات ومن العظيم العظمة بالقدرة والقهر بالاستعلاء وكمال الإلاهية
ثم قال تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر تَكَادُ بالتاء يَتَفَطَّرْنَ بالياء والنون وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة تَكَادُ بالتاء يَتَفَطَّرْنَ بالياء والتاء وقرأ نافع والكسائي يَكَادُ بالياء يَتَفَطَّرْنَ أيضاً بالتاء قال صاحب ( الكشاف ) وروى يونس عن أبي عمرو قراءة غريبة تتفطرن بالتاءين مع النون ونظيرها حرف نادر روي في نوادر ابن الإعرابي الإبل تتشمسن
المسألة الثانية في فائدة قوله يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وجوه الأول روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ قال والمعنى أنها تكاد تتفطر من ثقل الله عليها
واعلم أن هذا القول سخيف ويجب القطع ببراءة ابن عباس عنه ويدل على فساده وجوه الأول أن قوله مِن فَوْقِهِنَّ لا يفهم منه ممن فوقهن وثانيها هب أنه يحمل على ذلك لكن لم قلتم إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الله عليها ولم لا يجوز أن يقال إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الملائكة عليها كما جاء في الحديث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أطلت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد ) وثالثها لم لا يجوز أن يكون المراد تكاد السماوات تنشق وتنفطر من هيبة من هو فوقها فوقية بالإلاهية والقهر والقدرة فثبت بهذه الوجوه أن القول الذي ذكروه في غاية الفساد والركاكة والوجه الثاني في تأويل الآية ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أن كلمة الكفر إنما جاءت من الذين تحت السماوات وكان القياس أن يقال يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة ولكنه بولغ في ذلك فقلب فجعلت مؤثرة في جهة الفوق كأنه قيل يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن ودع الجهة التي تحتهن ونظيره في المبالغة قوله تعالى يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ( الحج 19 20 ) فجعلل مؤثراً في أجزائه الباطنة الوجه الثالث في تأويل الآية أن يقال مِن فَوْقِهِنَّ أي من فوق الأرضين لأنه تعالى قال قبل هذه الآية لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ثم قال تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ

أي من فوق الأرضين والوجه الرابع في التأويل أن يقال معنى مِن فَوْقِهِنَّ أي من الجهة التي حصلت هذه السماوات فيها وتلك الجهة هي فوق فقوله مِن فَوْقِهِنَّ أي من الجهة الفوقانية التي هن فيها
المسألة الثالثة ااختلفوا في أن هذه الهيئة لم حصلت وفيه قولان الأول أنه تعالى لما بيّن أن الموحي لهذا الكتاب هو الله العزيز الحكيم بيّن وصف جلاله وكبريائه فقال تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ أي من هيبته وجلالته والقول الثاني أن السبب في إثباتهم الولد لله لقوله تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ( مريم 90 ) وههنا السبب فيه إثباتهم الشركاء لله لقوله بعد هذه الآية وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء والصحيح هو الأول ثم قال وَالْمَلَائِكَة ُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ
واعلم أن مخلوقات الله تعالى نوعان عالم الجسمانيات وأعظمها السماوات وعالم الروحانيات وأعظمها الملائكة والله تعالى يقرر كمال عظمته لأجل نفاذ قدرته وهيبته في الجسمانيات ثم يردفه بنفاذ قدرته واستيلاء هيبته على الروحانيات والدليل عليه أنه تعالى قال في سورة عَمَّ يَتَسَاءلُونَ ( النبأ 1 ) لما أراد تقرير العظمة والكبرياء بدأ بذكر الجسمانيات فقال رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً ( النبأ 37 ) ثم انتقل إلى ذكر عالم الروحانيات فقاال يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ( النبأ 38 ) فكذلك القول في هذه الآية بين كمال عظمته باستيلاء هيبته على الجسمانيات فقال تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ثم انتقل إلى ذكر الروحانيات فقال وَالْمَلَائِكَة ُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ فهذا ترتيب شريف وبيان باهر
واعلم أن الموجودات على ثلاثة أقسام مؤثر لا يقبل الأثر وهو الله سبحانه وتعالى وهو أشرف الأقسام ومتأثر لا يؤثر وهو القابل وهو الجسم وهو أخس الأقسام وموجود يقبل الأثر من القسم الأول ويؤثر في القسم الثاني وهو الجواهر الروحانيات المقدسة وهو المرتبة المتوسطة إذا عرفت هذا فنقول الجواهر الروحانية لها تعلقان تعلق بعالم الجلال والكبرياء وهو تعلق القبول فإن الجلايا القدسية والأضواء الصمدية إذا أشرقت على الجواهر الروحانية استضاءت جواهرها وأشرقت ماهياتها ثم إن الجواهر الروحانية إذا استفادت تلك القوى الروحانية قويت بها على الاستيلاء على عوالم الجسمانيات وإذا كان كذلك فلها وجهان وجه إلى جانب الكبرياء وحضرة الجلال ووجه إلى عالم الأجسام والوجه الأول أشرف من الثاني إذا عرفت هذا فنقول
قوله تعالى يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ إشارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الجلال والكبرياء وقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ إشاارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الأجسام فما أحسن هذه اللطائف وما أشرفها وما أشد تأثيرها في جذب الأرواح من حضيض الخلق إلى أوج معرفة الحق إذا عرفت هذا فنقول أما الجهة الأولى وهي الجهة العلوية المقدسة فقد اشتملت على أمرين أحدهما التسبيح وثانيهما التحميد لأن قوله يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ يفيد هذين الأمرين والتسبيح مقدم على التحميد لأن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي والتحميد عبارة عن وصفه بكونه مفيضاً لكل الخيرات وكونه منزّهاً في ذاته عما لا ينبغي مقدم بالرتبة على كونه فياضاً للخيرات والسعادات لأن وجود الشيء مقدم على إيجاد

غيره وحصوله في نفسه مقدم على تأثيره في حصول غيره فلهذا السبب كان التسبيح مقدماً على التحميد ولهذا قال يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ
وأما الجهة الثانية وهي الجهة التي لتلك الأرواح إلى عالم الجسمانيات فالإشارة إليها بقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ والمراد منه تأثيراتها في نظم أحوال هذا العالم وحصول الطريق الأصوب الأصلح فيها فهذه ملامح من المباحث العالية الإلاهية مدرجة في هذه الآيات المقدسة ولنرجع إلى ما يليق بعلم التفسير فإن قيل كيف يصح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار وقد قال تعالى أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَة ُ اللَّهِ وَالْمَلئِكَة ِ فكيف يكونون لاعنين ومستغفرين لهم قلنا الجواب عنه من وجوه
الأول أن قوله لِمَن فِى الاْرْضِ لا يفيد العموم لأنه يصح أن يقال إنهم استغفروا لكل من في الأرض وأن يقال إنهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض ولو كان قوله لِمَن فِى الاْرْضِ صريحاً في العموم لما صح ذلك التقسيم الثاني هب أن هذا النص يفيد العموم إلا أنه تعالى حكى عن الملائكة في سورة حام المؤمن فقال وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ( غافر 7 ) الثالث يجوز أن يكون المراد من الاستغفار أن لا يعاجلهم بالعقاب كما في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ إلى أن قال إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( فاطر 41 ) الرابع يجوز أن يقال إنهم ستغفرون لكل من في الأرض أما في حق الكفار فبواسطة طلب الإيمان لهم وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم فإنا نقول اللّهم اهد الكافرين وزين قلوبهم بنور الإيمان وأزل عن خواطرهم وحشة الكفر وهذا في الحقيقة استغفار
واعلم أن قوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ يدل على أنهم لا يستغفرون لأنفسهم ولو كانوا مصرين على المعصية لكان استغفارهم لأنفسهم قبل استغفارهم لمن في الأرض وحيث لم يذكر الله عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مبرءون عن كل الذنوب والأنبياء عليهم السلام لهم ذنوب والذي لا ذنب له ألبتة أفضل ممن له ذنب وأيضاً فقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ يدل على أنهم يستغفرون للأنبياء لأن الأنبياء في جملة من في الأرض وإذا كانوا مستغفرين للأنبياء عليهم السلام كان الظاهر أنهم أفضل منهم
ولما حكى الله تعالى عن الملائكة التسبيح والتحميد والاستغفار قال أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر إلا أن المغفرة المطلقة والرحمة المطلقة للحق سبحانه وتعالى وبيانه ممن وجوه الأول أن إقدام الملائكة على طلب المغفرة للبشر من الله تعالى إنما كان لأن الله تعالى خلق في قلوبهم داعية لطلب تلك المغفرة ولولا أن الله تعالى خلق في قلوبهم تلك الدواعي وإلا لما أقدموا على ذلك الطلب وإذا كان كذلك كان الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله سبحانه وتعالى الثاني أن الملائكة قالوا في أول الأمر أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ( البقرة 30 ) ثم في آخر الأمر صاروا يستغفرون لمن في الأرض وأما رحمة الحق وإحسانه فقد كان موجوداً في الأولى والآخر فثبت أن الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله تعالى الثالث

أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستغفرون لمن في الأرض ولم يحك عنهم أنهم يطلبون الرحمة لمن في الأرض فقال أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يعني أنه يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة الكاملة التامة
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء أي جعلوا له شركاء وأنداداً اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ أي رقيب على أحوالهم وأعمالهم لا يفوته منها شيء وهو محاسبهم عليها لا رقيب عليهم إلا هو وحده وما أنت يا محمد بمفوض إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان إنما أنت منذر فحسب
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِى الْجَنَّة ِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّة ً وَاحِدَة ً وَلَاكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِى ٍّ وَلاَ نَصِيرٍ أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِى ُّ وَهُوَ يُحْى ِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَى ْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ والأرض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الاٌّ نْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَلِيدُ السَّمَاوَاتِ والأرض يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
واعلم أن كلمة ( ذلك ) للإشارة إلى شيء سبق ذكره فقوله وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءاناً عَرَبِيّاً يقتضي تشبيه وحي الله بالقرآن بشيء هاهنا قد سبق ذكره وليس هاهنا شيء سبق ذكره يمكن تشبيه وحي القرآن به إلا قوله وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ( الشورى 6 ) يعني كما أوحينا إليك أنك لست حفيظاً عليهم ولست وكيلاً عليهم فكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتكون نذيراً لهم وقوله تعالى لّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى أي لتنذر أهل أم القرى لأن البلد لا تعقل وهو كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) وأم القرى أصل القرى وهيب مكة وسميت بهذا الاسم إجلالاً للها لأن فيها البيت ومقام إبراهيم والعرب تسمي أصل كل شيء أمة حتى يقال هذه القصيدة من أمهات قصائد فلان ومن حولها من أهل البدو والحضر وأهل المدر والإنذار التخويف فإن قيل فظاهر اللفظ يقتضي أن الله تعالى إنما أوحي إليه لينذر أهل مكة وأهل القرى المحيطة بمكة وهذا يقتضي أن يكون رسولاً إليهم فقط وأن لا يكون رسولاً إلى كل العالمين الجواب أن

التخصيص بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما سواه فهذه الآية تدل على كونه رسولاً إلى هؤلاء خاصة وقوله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّة ً لّلنَّاسِ ( سبأ 28 ) يدل على كونه رسولاً إلى كل العالمين أيضاً لما ثبت كونه رسولاً إلى أهل مكة وجب كونه صادقاً ثم ءنه نقل إلينا بالتواتر كان يدعى أنه رسول إلى كل العالمين والصادق إذاا أخبر عن شيء وجب تصديقه فيه فثبت أنه رسول إلى كل العالمين
ثم قال تعالى وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ الأصل أن يقال أنذرت فلاناً بكذا فكان الواجب أن يقال لتننذر أم القرى بيوم الجمع وأيضاً فيه إضمار والتقدير لتنذر أهل أم القرى بعذاب يوم الجمع وفي تسميته بيوم الجمع وجوه الأول أن الخلائق يجمعون فيه قال تعالى يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ( التغابن 9 ) فيجتمع فيه أهل السماوات من أهل الأرض الثاني أنه يجمع بين الأرواح والأجساد الثالث يجمع بين كل عامل وعمله الرابع يجمع بين الظالم والمظلوم وقوله لاَ رَيْبَ فِيهِ صفة ليوم الجمع الذي لا ريب فيه وقوله فَرِيقٌ فِى الْجَنَّة ِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ تقديره ليوم الجمع الذي من صفته يكون القوم فيه فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير فإن قيل قوله يَوْمَ الْجَمْعِ يقتضي كون القوم مجتمعين وقوله فَرِيقٌ فِى الْجَنَّة ِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ يقتضي كونهم متفرقين والجمع بين الصفتين محال قلنا إنهم يجتمعون أولاً ثم يصيرون فريقين
ثم قال وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ أُمَّة ً وَاحِدَة ً والمراد تقرير قوله وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ( الشورى 6 ) أي لا يكن في قدرتك أن تحملهم على الإيمان فلو شاء الله ذلك لفعله لأنه أقدر منك ولكنه جعل البعض مؤمناً والبعض كافراً فقوله يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ يدل على أنه تعالى هو الذي أدخلهم في الإيمان والطاعة وقوله وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مّن وَلِى ّ وَلاَ نَصِيرٍ يعني أنه تعالى ما أدخلهم في رحمته وهذا يدل على أن الأولين إنما دخلوا في رحمته لأنه كان لهم ولي ونصير أدخلهم في تلك الرحمة وهؤلاء ما كان لهم ولي ولا نصير يدخلهم في رحمته
ثم قال تعالى أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء والمعنى أنه تعالى حكى عنهم أولاً أنهم اتخذوا من دونه أولياء ثم قال بعده لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لست علليهم رقيباً ولا حافظاً ولا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان شاءوا أم أبوا فإن هذا المعنى لو كان واجباً لفعله الله لأنه أقدر منك ثم إنه أعاد بعده ذلك الكلام على سبيل الاستنكار فإن قوله أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء استفهام على سبيل الإنكار
ثم قال تعالى فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِى ُّ والفاء في قوله فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِى ُّ جواب شرط مقدر كأنه قال إن أرادوا أولياء بحق الله هو الولي بالحق لا ولي سواه لأنه يحيى الموتى وهو على كل شيءً قدير فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء
ثم قال وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَى ْء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى وجه النظم أنه تعالى كما منع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحمل الكفار على الإيمان قهراً فكذلك منع المؤمنين أن يشرعوا معهم في الخصومات والمنازعات فقال وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَى ْء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ وهو إثابة المحقين فيه ومعاقبة المبطلين وقيل وما اختلفتم فيه من شيء وتنازعتم فتحاكموا فيه إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولا تؤثر حكومة غيره على حكومته وقيل وما وقع بينكم فيه خلاف من الأمور التي لا تصل بتكليفكم ولا طريق لكم إلى عمله كحقيقة الروح فقولوا الله أعلم به قال تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى

( الإسراء 85 )
المسألة الثانية تقدير الآية كأنه قال قل يا محمد وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَى ْء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ والدليل عليه قوله تعالى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
المسألة الثالثة احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا قوله تعالى وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَى ْء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ إما أن يكون المراد فحكمه مستفاد من نص الله عليه أو المراد فحكمه مستفاد من القياس على ما نص الله عليه والثاني باطل لأنه يقتضي كون كل الأحكام مثبتة بالقياس بأنه باطل فيعتبر الأول فوجب كون كل الأحكام مثبتة بالنص وذلك ينفي العمل القياس ولقائل أن يقوم لم لا يجوز أن يكون المراد فحكمه يعرف من بيان الله تعالى سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس أجيب عنه بأن المقصود من التحاكم إلى الله قطع الاختلاف والرجوع إلى القياس يقوي حكم الاختلاف ولا يوضحه فوجب أن يكون الواجب هو الرجوع إلى نصوص الله تعالى
ثم قال تعالى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبّى أي ذالكم الحاكم بينكم هو ربي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في دفع كيد الأعداء وفي طلب كل خير وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي وإليه أرجع في كل المهمات وقوله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ يفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه وهو إشارة إلى تزييف طريقة من اتخذ غير الله ولياً
ثم قال فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قرىء بالرفع والجر فالرفع على أنه خبر ذلاكم أو خبر مبتدأ محذوف والجر على تقدير أن يكون الكلام هكذا وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله فاطر السماوات والأرض وقوله ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبّى اعتراض وقع بين الصفة والموصوف جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ من جنسكم من الناس أَزْواجاً وَمِنَ الاْنْعَامِ أَزْواجاً أي خلق من الأنعام أزواجاً ومعناه وخلق أيضاً للأنعام من أنفسها أزواجاً يَذْرَؤُكُمْ أي يكثركم يقال ذرأ الله الخلق أي كثرهم وقوله فِيهِ أي في هذا التدبير وهو اللتزويج وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل والضمير في يَذْرَؤُكُمْ يرجع إلى المخاطبين إلى أنه غلب فيه جانب الناس من وجهين الأول أنه غلب فيه جانب العقلاء على غير العقلاء الثاني أنه غلب فيه جانب المخاطبين على الغائبين فإن قيل ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير ولم لم يقل يذرؤكم به قلنا جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن لهذا التكثير ألا ترى أنه يقال للحيوان في خلق الأزواج تكثير كما قال تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ ( البقرة 179 )
ثم قال تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وهذه الآية فيها مسائل
المسألة الأولى احتج علماء التوحيد قديماً وحديثاً بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسماً مركباً من الأعضاء والأجزاء وحاصلاً في المكان والجهة وقالوا لو كان جسماً لكان مثلاً لسائر الأجسام فيلزم حصول الأمثال والأشباه له وذلك باطل بصريح قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر فيقال إما أن يكون المراد لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء في ماهيات الذات أو أن يكون المراد ليس كمثله في الصفات شيء والثاني باطل لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين كما أن الله تعالى يوسف بذلك وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين مع أن الله تعالى يوصف بذلك فثبت أن المراد بالمماثلة

المساواة في حقيقة الذات فيكون المعنى أن شيئاً من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية فول كان الله تعالى جسماً لكان كونه جسماً ذاتاً لا صفة فإذا كان ساشر الأجسام مساوية له في الجسمية أعني في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتاً والنص ينفي ذلك فوجب أن لا يكون جسماً
واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه ( بالتوحيد ) وهو في الحقيقة كتاب الشرك واعترض عليها وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات لأن كان رجلاً مضطرب الكلام قليل الفهم ناقص العقل فقال ( نحن نثبت لله وجهاً ونقول إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ووجه ربنا منفي عنه الهلاك والفناء ونقول إن لبني آدم وجوهاً كتب الله عليها الهلاك والفناء ونفى عنها الجلال والإكرام غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء ولو كان مجرد إثبات الوجه لله يقتضي التشبيه لكان من قال إن لبني آدم وجوهاً وللخنازير والقردة والكلاب وجوهاً لكان قد شبّه وحوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب ثم قال ولا شك أنه اعتقاد الجهمية لأنه لو قيل له وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء فعلمنا أنه لا يلزم من إثبات الوجه واليدين لله إثبات التشبيه بين الله وبين خلقه )
وذكر في فصل آخر من هذا الكتاب ( أن القرآن دل على وقوع التسوية بين ذات الله تعالى وبين خلقه في صفات كثيرة ولم يلزم منها أن يكون القائل مشبهاً فكذا ههنا ) ونحن نعد الصور التي ذكرها على الاستقصاء فالأول أنه تعالى قال في هذه الآية وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وقال في حق الإنسان فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ( الإنسان 2 ) الثاني قال وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ( التوبة 105 ) وقال في حق المخلوقين أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِى جَوّ السَّمَآء ( النحل 79 ) الثالث قال وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ( هود 37 ) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنَّكَ ( الطور 48 ) وقال في حق المخلوقين الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ( المائدة 83 ) الرابع قال لإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى َّ ( ص 75 ) وقال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ( المائدة 64 ) وقال في حق المخلوقين ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ( آل عمران 182 ) ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ( الحج 10 ) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) الخامس قال تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه 5 ) وقال في الذين يركبون الدواب لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ( الزخرف 13 ) وقال في سفينة نوح وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِى ّ ( هود 44 ) السادس سمى نفسه عزيزاً فقال الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ ( الحشر 23 ) ثم ذكر هذا الاسم في حق المخلوقين بقوله قَالُواْ يأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا ( يوسف 78 ) قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ( يوسف 88 ) السابع سمى نفسه بالملك وسمى بعض عبيده أيضاً بالملك فقال وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ ( يوسف 50 ) وسمى نفسه بالعظيم ثم أوقع هذا الاسم على المخلوق فقال رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( التوبة 129 ) وسمى نفسه بالجبار المتكبر وأوقع هذا الاسم على المخلوق فقال كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ ( غافر 35 ) ثم طول في ضرب الأمثلة من هذا الجنس وقال ومن وقف على الأمثلة التي ذكرناها أمكنه الإكثار منها فهذا ما أورده هذا الرجل في هذا الكتاب

وأقول هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنه لم يعرف حقيقة المثلين وعلماء التوحيد حققوا الكلام في المثلين ثم فرعوا عليه الاستدلال بهذه الآية فنقول المثلان هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته وتحقيق الكلام فيه مسبوق بمقدمة أخرى فنقول المعتبر في كل شيء إما تمام ماهيته وإما جزء من أجزاء ماهيته وإما أمر خارج عن ماهيته ولكنه من لوازم تلك الماهية وأما أمر خارج عن ماهيته ولكنه ليس من لوازم تلك الماهية وهذا التقسيم مبني على الفرق بين ذات الشيء وبين الصفات القائمة به وذلك معلوم بالبديهة فإنا نرى الحبة من الحصرم كانت في غاية الخضرة والحموضة ثم صارت في غاية السواد والحلاوة فالذات باقية والصفات مختلفة والذات الباقية مغايرة للصفات المختلفة وأيضاً نرى الشعر قد كان في غاية السواد ثم صار في غاية البياض فالذات باقية والصفات متبدلة والباقي غير المتبدل فظهر بما ذكرنا أن الذوات مغايرة للصفات إذا عرفت هذا فنقول اختلاف الصفات لا يوجب اختلاف الذوات البتة لأنا نرى الجسم الواحد كان ساكناً ثم يصير متحركاً ثم يسكن بعد ذلك فالذوات باقية في الأحوال كلها على نهج واحد ونسق واحد والصفات متعاقبة متزايلة فثبت بهذا أن اختلاف الصفات والأعراض لا يوجب اختلاف الذوات إذا عرفت هذا فنقول الأجسام منها تألف وجه الكلب والقرد مساوية للأجسام التي تألف منها وجه الإنسان والفرس وإنما حصل الاختلاف إنما وقع بسبب الاختلاف في الصفات والأعراض فأما ذوات الأجسام فهي متماثلة إلا أن العوام لا يعرفون الفرق بين الذوات وبين الصفات فلا جرم يقولون إن وجه الإنسان مخالف لوجه الحمار ولقد صدقوا فإنه حصلت تلك بسبب الشكل واللون وسائر الصفات فأما الأجسام من حيث إنها أجسام فهي متماثلة متساوية فثبت أن الكلام الذي أورده إنما ذكره لأجل أنه كان من العوام وما كان يعرف أن المعتبر في التماثل والاختلاف حقائق الأشياء وماهياتها لا الأعراض والصفات القائمة بها بقي ههنا أن يقال فما الدليل على أن الأجسام كلها متماثلة فنقول لنا ها هنا مقامان
المقام الأول أن نقول هذه المقدمة إما أن تكون مسلمة أو لا تكون مسلمة فإن كانت مسلمة فقد حصل المقصود وإن كانت ممنوعة فنقول فلم لا يجوز أن يقال إله العالم هو الشمس أو القمر أو الفلك أو العرش أو الكرسي ويكون ذلك الجسم مخالفاً لماهية سائر الأجسام فكان هو قديماً أزلياً واجب الوجود وسائر الأجسام محدثة مخلوقة ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يسقطوا هذا الإلزام عن المجسمة لا يقدرون عليه فإن قالوا هذا بالطل لأن القرآن دلّ على أن الشمس والقمر والأفلاك كلها محدثة مخلوقة فيقال هذا من باب الحماقة المفرطة لأن صحة القرآن وصحة نبوّة الأنبياء مفرعة على معرفة الإله فإثبات معرفة الإله بالقرآن وقول النبي لا يقوله عاقل يفهم ما يتكلم به
والمقام الثاني أن علماء الأصلو أقاموا البرهان القاطع على تماثل الأجسام في الذوات والقيقة وإذا ثبت هذا طهر أنه لو كان إله العالم جمساً لكانت ذاته مساوية لذوات الأجسام إلا أن هذا باطل بالعقل والنقل أما العقل فلأن ذاته إذا كانت مساوية لذوات سائر الأجسام وجب أن يصح عليه ما يصح على سائر الأجسام فيلزم كونه محدثاً مخلوقاً قابلاً للعدم والفناء قابلاً للتفرق والتمزق وأما النقل فقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل وعند هذا يظهر أنا لا نقول بأنه متى حصل الاستواء في

الصفة لزم حصول الاستواء في تمام الحقيقة إلا أنا نقول لما ثبت أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية فلو كانت ذاته جسماً لكن ذلك الجسم مساوياً لسائر الأجسام في تمام الماهية وحينئذ يلزم أن يكون كل جسم مثلاً له لما بينا أن المعتبر في حصول المماثلة اعتبار الحقائق من حيث هي هي لا اعتبار الصفات القائمة بها فظهر بالتقرير الذي ذكرناه أن حجة أهل التوحيد في غاية القوة وأن هذه الكلمات التي أوردها هذا الإنسان إنما أوردها لأنه كان بعيداً عن معرفة الحقائق فجرى على منهج كلمات العوام فاغتر بتلك الكلمات التي ذكرها ونسأل الله تعالى حسن الخاتمة
المسألة الثانية في ظاهر هذه الآية إشكال فإنه يقال المقصود منها نفي المثل عن الله تعالى وظاهرها يوجب إثبات المثل لله فإنه يقتضي نفي المثل عن مثله لا عنه وذلك يوجب إثبات المثل لله تعالى وأجاب الغعماء عنه بأن قالوا إن العرب تقول مثلك لا يبخل أي أنت لا تبخل فنوفا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عنه ويقول الرجل هذا الكلام لا يقال لمثلي أي لا يقال لي قال الشاعر
( ومثلي كمثل جذوع النخيل )
والمراد منه المبالغة فإنه إذا كان ذلك الحكم منتفياً عمن كان مشابهاً بسبب كونه مشابهاً له فلأن يكون منتفياً عنه كان ذلك أولى ونظيره قولهم سلام على المجلس العالي والمقصود أن سلام الله إذا كتن واقعالً على مجلسه وموضعه فلأن يكون واقعاً عليه كان ذلك أولى فكذا ههنا قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء والمعنى ليس كهو شيء على سبيل المبالغة من الوجه الذي ذكرناه وعلى هذا التقدير فلم يكن هذا الفظ ساقطاً عديم الأثر بل كان مفيداً للمبالغة من الوجه الذي ذكرناه وزعم جهم بن صفوان أن المقصود من هذه الآية بيان أنه تعالى ليس مسمى باسنم الشيء قال لأن كل شيء فإنه يكون مثلاً لمثل نفسه فقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء معناه ليس نثل مثله شيء وذلك يقتضي أن لا يكون هو مسمى بالسم الشيء وعندي فيه طريقة أخرى وهي أن المقصود من ذكر الجمع بين حرفي التشبيه الدليل الدال على كونه منزّهاً عن المثل وتقريره أن يقال لو كان له مثل لكن هو مثل نفسه وهذا محال فإثبات المثل له محال أما بيان أنه لو كان له مثل لكان هو مثل نفسه فالأمر فيه ظاهر وأما بيان أن هذا محال فلأنه لو كان مثل مثل نفسه لكان مساوياً لمثله في تلك الماهية ومبايناً له في نفسه وما به المشاركة غير ما به المباينة فتكون ذات كل واحد منهما مركباً وكل مركب ممكن فثبت أنه لو حصل لواجب الوجود مثل لما كان هو في نفسه واجب الوجود إذا عرفت هذا فقوله ليس مثله مثله شيء إشارة إلى أنه لو صدق عليه أنه مثل مثل نفسه لما كان هو شيئاً بناءً على ما بينا أنه لو حصل لواجب الوجود مثل لما كان واجب الوجود فهذا ما يحتمله اللفظ
المسألة الثالثة هذه الآية دالة على نفي المثل وقوله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى ( الروم 27 ) يقتضي إثبات المثل فلا بد من الفرق بينهما فنقول المثل هو الذي يكون مساوياً للشيء في تمام الماهية والمثل هو الذي يكون مساوياً له في بعض الصفات الخارجة عن الماهية وإن كان مخالفاً في تمام الماهية
المسألة الرابعة قوله وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يدل على كونه تعالى سامعاً للمسموعات مبصراً للمرئيات فإن قيل يمتنع إجراء هذا اللفظ على طاهره وذلك لأنه إذا حصل قرع أو قلع انقلب الهواء من بين ذينك الجسمين انقلاباً يعنف فيتموج الهواء بسبب ذلك ويتأدى ذلك التموج إلى سطح الصماخ فهذا هو

السماع وأما الإبصار فهو عبارة عن تأثر الحدقة بصورة المرئي فثبت أن السمع والبصر عبارة عن تأثر الحاسة وذلك على الله محال فثبت أن إطلاق السمع والبصر على علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات غير جائز والجواب الدليل على أن السماع مغاير لتأثر الحاسة أنا إذا سمعنا الصوت علمنا أنه من أي الجوانب جاء فعلمنا أنا أدركنا الصوت حيث وجد ذلك الصوت في نفسه وهذا يدل على أن إدراك الصوت حالة مغايرة لتأثير الصماخ عن تتموج ذلك الهواء وأما الرؤية فالدليل على أنها حالة مغايرة لتأثر الحدقة فذلك لأن نقطة الناظر جسم صغير فيستحيل انطباع الصورة العظيمة فيه فنقول الصورة المنطبعة صغيرة والصورة المرئية في نفس العالم عظيمة وهذا يدل على أن الرؤية مغايرة لنفس ذلك الانطباع وإذا ثبت هذا فنقول لا يلزم من امتناع التأثر في حق الله امتناع السمع والبصر في حقه فإن قالوا هب أن السمع والبصر حالتان مغايرتان لتأثر الحاسة إلا أن حصولهما مشروط بحصول ذلك التأثر فلما كان حصول ذلك التأثر في حق الله تعالى ممتنعاً كان حصول السمع والبصر في حق الله ممتنعاً فنقول ظاهر قوله وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يدل على كونه سميعاً بصيراً فلم يجز لنا أن نعدل عن هذا الظاهر إلا إذا قام الدليل على أن الحاسة المسماة بالسمع والبصر مشروطة بحصول التأثر والتأثر في حق الله تعالى ممتنع فكان حصول الحاسة المسماة بالسمع والبصر ممتنعاً وأنتم المدعون لهذا الاشتراط فعليكم الدلالة على حصوله وإنما نحن متمسكون بظاهر اللفظ إلى أن تذكروا ما يوجب العدول عنه فإن قال قائل قوله وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يفيد الحصر فما معنى هذا الحصر مع أن العباد أيضاً موصوفون بكونهم سميعين بصيرين فنقول السميع والبصير لفظان مشعران بحصول هاتين الصفتين على سبيل الكمال والكمال في كل الصفات ليس إلا لله فهذا هو المراد من هذا الحصر
أما قوله تعالى لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فاعلم أن المراد من الآية أنه تعالى فاطر السموات والأرض والأصنام ليست كذلك وأيضاً فهو خالق أنفسنا وأزواجنا وخالق أولادنا منا ومن أزواجنا والأصنام ليست كذلك وأيضاً فله مقاليد السموات والأرض والأصنام ليست كذلك والمقصود من الكل بيان القادر المنعم الكريم الرحيم فكيف يجوز جعل الأصنام التي هي جمادات مساوية له في المعبودية فقوله لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يريد مفاتيح الرزق من السموات والأرض فمقاليد السموات الأمطار ومقاليد الأرض النبات وذكرنا تفسير المقاليد في سورة الزمر عند قوله يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ ( الزمر 52 ) لأن مفاتيح الأرزاق بيده إِنَّهُ بِكُلّ شَى ْء من البسط والتقدير عَلِيمٌ

شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِى َ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لاًّعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّة َ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَة ٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة َ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فَى السَّاعَة ِ لَفِى ضَلَالَ بَعِيدٍ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ
اعلم أنه تعالى لما عظم وحيه إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( الشورى 3 ) ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك فقال شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً والمعنى شرع الله لكم يا أصحاب محمد من الدين ما وصى به نوحاً ومحمداً وآبراهيم وموسى وعيسى هذا هو المقصود من لفظ الآية وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة إلا أنه بقي في لفظ الآية إشكالات أحدها أنه قال في أول الآية مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وفي آخرها وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وفي الوسط وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ فما الفائدة في هذا التفاوت وثانيها أنه ذكر نوحاً عليه السلام على سبيل الغيبة فقال مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً والقسمين الباقيين على سبيل التكلم فقال وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وثالثها أنه يصير تقدير الآية شرع الله لكم من الدين الذي أوحينا إليك فقوله شَرَعَ لَكُم خطاب الغيبة وقوله وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ خطاب الحضور فهذا يقتضي الجمع بين خطاب الغيبة وخطاب الحضور في الكلام الواحد بالاعتبار الواحد وهو مشكل فهذه المضايق يجب البحث عنها والقوم ما داروا حولها وبالجملة فالمقصود من الآية أنه يقال شرع لكم من الدين ديناً تطابقت الأنبياء على صحته وأقول يجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئاً مغايراً للتكاليف والأحكام وذلك لأنها مختلفة متفاوتة قال تعالى لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً ( المائدة 48 )

فيجب أن يكون المراد منه الأمور التي لا تختلف باختلاف الشرائع وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان يوجب الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والسعي في مكارم الأخلاق والاحتراز عن رذائل الأحوال ويجوز عندي أن يكون المراد من قوله وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ أي لا تتفرقوا بالآلهة الكثيرة كما قال يوسف عليه السلام مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا ( يوسف 39 ) وقال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ ( الأنبياء 25 ) واحتج بعضهم بقوله شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أول الأمر كان مبعوثاً بشريعة نوح عليه السلام والجواب ما ذكرناه أنه عطف عليه سائر الأنبياء وذلك يدل على أن المراد هو الأخذ بالشريعة المتفق عليها بين الكل ومحل ءانٍ يَوْمِ الدّينِ إما نصب بدل من مفعول شَرَعَ والمعطوفين عليه وإما رفع على الاستئناف كأنه قيل ما ذاك المشروع فقيل هو إقامة الدين كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ عظم عليهم وشق عليهم مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من إقامة دين الله تعالى على سبيل الاتفاق والإجماع بدليل أن الكفار قالوا أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ ( ص 5 ) وههنا مسائل
المسألة الأولى احتج نفاة القياس بهذه الآية قالوا إنه تعالى أخبر أن أكابر الأنبياء أطبقوا على أنه يجب إقامة الدين بحث لا يفضي إلى الاختلاف والتنازع والله تعالى ذكر في معرض المنّة على عباده أنه أرشدهم إلى الدين الخالي عن التفرق والمخالفة ومعلوم أن فتح باب القياس يفضي إلى أعظم أنواع التفرق والمنازعة فإن الحس شاهد بأن هؤلاء الذين بنوا دينهم على الأخذ بالقياس تفرقوا تفرقاً لا رجاء في حصول الاتفاق بينهم إلى آخر القيامة فوجب أن يكون ذلك محرماً ممنوعاً عنه
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أن هذه الشرائع قسمين منها ما يمتنع دخول النسخ والتغيير فيه بل يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان كالقول بحسن اصدق والعدل والإحسان والقول بقبح الكذب والظلم والإيذاء ومنها ما يختلف باختلاف الشرائع والأديان ودلت هذه الآية على أن سعي الشرع في تقرير النوع الأول أقوى من سعيه في تقرير النوع الثاني لأن المواظبة على القسم الأول مهمة في اكتساب الأحوال المفيدة لحصول السعادة في الدار الآخرة
المسألة الثالثة قوله تعالى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ مشعر بأن حصول الموافقة أمر مطلوب في الشرع والعقل وبيان منفعته من وجوه الأول أن للنفوس تأثيرات وإذا تطابقت النفوس وتوافقت على واحد قوي التأثير الثاني أنها إذا توافقت صار كل واحد منها معيناً للآخر في ذلك المقصود المعين وكثرة الأعوان توجب حصول المقصود أما إذا تخالفت تنازعت وتجادلت فضعفت فلا يحصل المقصود الثالث أن حصول التنازع ضد مصلحة العالم لأن ذلك يفضي إلى الهرج والمرج والقتل والنهب فلهذا السبب أمر الله تعالى في هذه الآية بإقامة الدين على وجه لا يفضي إلى التفرق وقال في آية أخرى وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ ( الأنفال 46 )
ثم قال تعالى اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ وفيه وجهان الأول أنه تعالى لما أرشضد أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى التمسك بالدين المتفق عليه بيّن أنه تعالى إنما أرشدهم إلى هذا الخير لأنه اجتباهم واصطفاهم وخصهم بمزيد الرحمة والكرامة الثاني أنه إنما كبّر عليهم هذا الدعاء من الرسل لما فيه من

الانقياد لهم تكبراً وأنفة فبيّن تعالى أنه يخص من يشاء بالرسالة ويلزم الانقياد لهم ولا يعتبر الحسب والنسب والغنى بل الكل سواء في أنه يلزمهم اتباع الرسل الذين اجتباهم الله تعالى واشتقاق لفظ الاجتباء يدل على الضم والجمع فمنه جبى الخراج واجتباه وجبى الماء في الحوض فقوله اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ أي يضمه إليه ويقربه منه تقريب الإكرام والرحمة وقوله مَن يَشَآء كقوله تعالى يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء ( العنكبوت 21 )
ثم قال وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ وهو كما روي في الخبر ( من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) أي من أقبل إليّ بطاعته أقبلت إليه بهدايتي وإرشادي بأن أشرح له صدره وأسهل أمره
واعلم أنه تعالى لما بيّن أنه أمر كل الأنبياء والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه كان لقائل أن يقول فلماذا نجدهم متفرقين فأجاب الله تعالى عنهم بقوله وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ يعني أنهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية والأنفة الطبعية على أن ذهب كل طائفة إلى مذهب ودعا الناس إليه وقبح ما سواه طلباً للذكر والرياسة فصار ذلك سبباً لوقوع الاختلاف ثم أخب تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل إلا أنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب لأن لكل عذاب عنده أجلاً مسمى أي وقتاً معلوماً إما لمحض المشيئة كما هو قولنا أو لأنه علم أن الصلاح تحقيقه به كما عند المعتزلة وهو معنى قوله وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِى َ بِيْنَهُمْ والأجل المسمى قد يكون في الدنيا وقد يكون في القيامة واختلفوا في الذين أريدوا بهذه الصفة من هم فقال الأكثرون هم اليهود والنصارى والدليل قوله تعالى في آل عمران وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ( آل عمران 19 ) وقال في سورة لم يكن وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَة ُ ( البينة 4 ) ولأن قوله إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ لائق بأهل الكتاب وقال آخرون إنهم هم العرب وهذاباطل للوجوه المذكورة لأن قوله تعالى بعد هذه الآية وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لا يليق بالعرب لأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لَفِى شَكّ مّنْهُ من كتابهم مُرِيبٍ لا يؤمنون به حق الإيمان
ثم قال تعالى فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ يعني فلأجل ذلك التفرق ولأجل مات حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين فادع إلى الاتفاق على الملة الحنيفية واستقم عليهاوعلى الدعوة إليها كما أمرك الله ولا تتبع أهواءهم المختلفة الباطلة وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ أي بأي كتاب صح أن الله أنزله يعني لإيمان بجميع الكتب المنزلة لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ونظيره قوله نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ إلى قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( النساء 151 ) ثم قال وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلي قل القفال معناه أن ربي أمرني أن لا أفرق بين نفسي وأنفسكم بأن آمركم بما لا أعمله أو أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه لكني أسوي بينكم وبين نفسي وكذلك أسوي بين أكابركم وأصاغركم فيما يتعلق بحكم الله
ثم قال اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّة َ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ

والمعنى أن إله الكل واحد وكل واحد مخصوص بعمل نفسه فوجب أن يشتغل كل واحد في الدنيا بنفسه فإن الله يجمع بين الكل في يوم القيامة ويجازيه على عمله والمقصود منه المتاركة واشتغال كل أحد بمهم نفسه فإن قيل كيف يليق بهذه المتاركة ما فعل بهم من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء قلنا هذه المتاركة كانت مشروطة بشرط أن يقبلوا الدين المتفق على صحته بين كل الأنبياء ودخل فيه التوحيد وترك عبادة الأصنام والإقرار بنبوة الأنبياء وبحصة البعث والقيامة فلما لم يقبلوا هذا الدين فحينئذٍ فات الشرط فلا جرم فات المشروط
وأعلم أنه ليس المراد من قوله لاَ حُجَّة َ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ تحريم ما يجري مجرى محاجتهم ويدل عليه وجوه الأول أن هذا الكلام مذكور فيمعرض المحاجة فلو كان المقصود من هذه الآية تحريم المحاجة لزم كونها محرمة لنفسها وهو متناقض والثاني أنه لولا الأدلة لما توجه التكليف الثالث أن الدليل يفيد العلم وذلك لا يمكن تحريمه بل المراد أن القوم عرفوا بالحجة صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما تركوا تصديقه بغياً وعناداً فبيّن تعالى أنه قد حصل الاستغناء عن محاجتهم لأنهم عرفوا بالحجة صدقه فلا حاجة معهم إلى المحاجة ألبتة ومما يقوي قولنا أنه لا يجوز تحريم المحاجة قوله وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 ) وقوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ ( النحل 125 ) وقوله لا تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( العنكبوت 46 ) وقوله قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ( هود 32 ) وقوله وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ( الأنعام 83 )
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِى اللَّهِ أي يخاصمون في دينه مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ أي من بعد ما استجاب الناس لذلك الدين حُجَّتُهُمْ دَاحِضَة ٌ أي باطلة وتلك المخاصمة هي أن اليهود قالوا ألستم تقولن إن الأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف فنبوّة موسى وحقية التوراة معلومة بالاتفاق ونبوة محمد ليست متفقاً عليها فإذا بنيتم كلامكم في هذه الآية على أن الأخذ بالمتفق أولى وجب أن يكون الأخذ باليهودية أولى فبيّن تعالى أن هذه الحجة داحضة أي باطلة فاسدة وذلك لأن اليهود أطبقوا على أنه إنما وجب الإيمان بموسى عليه السلام لأجد ظهور المعجزات على وقف قوله وههنا ظهرت المعجزات على وفق قول محمد عليه السلام واليهود شاهدوا تلك المعجزات فإن كان ظهور المعجزة يدل على الصدق فههنا يجب الإعتراف بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإن كان لا يدل على الصدق وجب في حق موسى أن لا يقروا بنبوته وأما الإقرار بنبوة موسى والإصرار على إنكار نبوة محمد مع استوائهما في ظهور المعجزة يكون متناقضاً ولما قرر الله هذه الدلائل خوف المنكرين بعذاب القيامة فقال اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة َ قَرِيبٌ والمعنى أنه تعالى أنزل الكتاب المشتمل على أنواع الدلائل والبينات وأنزل الميزان وهو الفصل الذي هو القسطاس المستقيم وأنهم لا يعلمون أن القيامة متى تفاجئهم ومتى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يجد ويجتهد في النظر والاستدلال ويترك طريقة أهل الجهل والتقليد ولما كان الرسول يهددهم بنزول القيامة وأكثر في ذلك وأنهم ما رأوا منه أثراً قالوا على سبيل السخرية فمتى تقوم القيامة وليتها قامت حتى يظهر لنا أن الحق ما نحن عليه أو الذي عليه محمد وأصحابه فلدفع هذه الشبهة قال تعالى يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والمعنى ظهر وإنما يشفقون ويخافون لعلمهمأن عندها تمتنع التوبة وأما منكر البعث فلأن لا يحصل له هذا الخوف

ثم قال أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فَى السَّاعَة ِ لَفِى ضَلَالَ بَعِيدٍ والممارة الملاجة قال الزجاج الذين تدخلهم المرية والشك في وقوع الساعة فيمارون فيها ويجحدون لَفِى ضَلَالَ بَعِيدٍ لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب في العدل فلو لم تحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله تعالى وهذا من أمحل المحالات فلا جرم كان إنكار القيامة ضلالاً بعيداً
ثم قال اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ أي كثير الإحسان بهم وإنما حسن ذكر هذا الكلام ههنا لأنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة فكان ذلك من لطف الله بعباده وأيضاً المتفرقون استوجبوا العذاب الشديد ثم إنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب فكان ذلك أيضاً من لطف ا لله تعالى فلما سبق ذكر إيصال أعظم المنافع إليهم ودفع أعظم المضار عنهم لا جرم حسن ذكره ههنا ثم قال يَرْزُقُ مَن يَشَاء يعني أن أصل الإحسان والبر عام في حق كل العباد وذلك هو الإحسان بالحياة والعقل والفهم وإعطاء ما لا بد منه من الرزق ودفع أكثر الآفات والبليات عنهم فأما مراتب العطية والبهجة فمتفاوتة مختلفة
ثم قال دهو القوي أي القادر على كل ما يشاء أي القادر على كل ما يشاء الْعَزِيزُ الذي لا يغالب ولا يدافع
مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاٌّ خِرَة ِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الاٌّ خِرَة ِ مِن نَّصِيبٍ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَة ُ الْفَصْلِ لَقُضِى َ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذَلِكَ الَّذِى يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَة ً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ

اعلم أنه تعالى لما بيّن كون لطيفاً بعبداه كثير الإحسان إليهم بيّن أنه لا بد لهم من أن يسعوا في طلب الخيرات وفي الاحتراز عن القبائح فقال مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْخِرَة ِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ قال صاحب ( الكشاف ) إنه تعالى سمى ما يعمله العامل مما يطلب به القائدة حرثاً على سبيل المجاز وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى أظهر الفرق في هذه الآية بين من أراد الآخرة وبين من أراد الدنيا من وجوه الأول أنه قدم مريد حرث الآخرة في الذكر على مريد حرث الدنيا وذلك يدل على التفضيل لأنه وصفه بكونه آخرة ثم قدمه في الذكر تنبيهاً على قوله ( نحن لآخرون السابقون ) الثاني أنه قال في مريد حرث الآخرة نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وقال في مريد حرث الدينا نُؤْتِهِ مِنْهَا وكلمة من للتبعيض فالمعنى أنه يعطيه بعض ما يطلبه ولا يؤتين كله وقال في سورة بني إسرائيل عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ( الإسرار 18 ) وأقوال البرهان العقلي مساعد على البابين وذلك لأن كل من عمل للآخرة وواظب على ذلك العمل فكثرة الأعمال سبب لحصول الملكات فكل من كانت مواظبته على تلك الأعمال أكثر كان ميل قلبه إلى طلب الآخرة أكثر وكلما كان الأمر كذلك كان الابتهاج أعظم والسعادات أكثر وذلك هو المراد بقوله نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وأما طالب الدنيا فكلما كانت مواظبته على أعمال ذلك الطلب أكثر كانت رغبته في الفوز بالدنيا أكثر وميله إليها أشد وإذا كان الميل أبداً في التزايد وكان حصول المطلوب باقياً على حالة واحدة كان الحرمان لازماً لامحالة الثالث أنه تعالى قال في طالب حرث الآخرة نُرَدُّ لَهُ فِى حَرْثِهِ ذ ولم يذكر أنه تعالى يعطيه الدنيا أم لا بل بقي الكلام ساكتاً عنه نفياً وإثباتاً وأما طالب حرث الدنيا فإنه تعالى بيّن أنه لا يعطيه شيئاً من نصيب الآخرة على التنصيص وهذا يدل على التفاوت العظيم كأنه يقول الآخرة أصل والدنيا تبع فواجد الأصل يكون واجداً للتبع بقدر الحاجة إلا أنه لم يذكر ذلك تنبيهاً على أن الدنيا أخس من أن يقرن ذكرها بذكر الآخرة والرابع أنه تعالى بيّن أن طالب الآخرة يزاد في مطلوبه وبيّنأن طالب الدنيا يعطي بعض مطلوبه من الدنيا وأما افي الآخرة فإنه لا يحصل له نصيب ألبتة فبيّن بالكلام الأول أن طالب الآخرة يكون حاله أبداً في الترقي والتزايد وبيّن بالكلام الثاني أن طالب الدني يكون حاله في المقام الأول في النقصان وفي المقام الثاني في البطلان التامالخامس أن الآخرة نسيئة والدنيا نقد والنسيئة مرجوجة بالنسبة إلى النقد لأنالناس يقولون النقد خير من النسيئة فبيّن تعالى أن هذه القضية انعكست بالنسبة إلى أحوال الآخرة والدنيا فالآخرة وإن كانت نقداً إلا أنها متوجهة للزيادة والدوام فكانت أفضل وأكمل والدنيا وإن كانت نقداً إلا أنها متوجهة إلى النقصان ثم إلى البطلان فكانت أخس وأرذل فهذا يدل على أن حال الآخرة لا يناسب حال الدنيا ألبتة وأنه ليس في الدنيا من أحوال الآخرة إلا مجرد الاسم كما هو مروي عن ابن عباس السادس الآية دالة على أن منافع الآخرة والدنيا ليست حاضرة بل لا بد في البابين من الحرث والحرث لا يتأتى إلا بتحمل المشاق في البذر ثم التسقية والتنمية والحصد ثم التنقية فلما سمى الله كلا القسمين حرثاً علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق ثم بيّن تعالى أن مصير الآخرة إلى الزيادة والكمال وإن مصير الدنيا

إلى النقصان ثم الفناء فكأنه قيل إذا كان لا بد في القسمين جميعاً من تحمل متاعب الحراثة والتسمية والتنمية والحصد والتنقية فلأن تصرف هذه المتاعب إلى ما يكون في التزايد والبقاء أولى من صرفها إلى ما يكون في النقصان والانقضاء والفناء
المسألة الثانية في تفسير قوله نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ قولان الأول المعنى أنا نزيد في توقيفه وإعانته وتسهيل سبل الخيرات والطاعات عليه وقال مقاتل نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ بتضعيف الثواب قال تعالى لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ ( فاطر 30 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من أصبح وهمه الدنيا شئت لله تعالى عليه همه وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلى ما كتب له ومن أصبح همه الآخرة جمع الله همه وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة عن أنفها ) أو لفظً يقرب من أن يكون هذا معناه
المسألة الثالثة ظاهر اللفظ يدل على أن من صلّى لأجل طلب الثواب أو لأجل دفع العقاب فإنه تصح صلاته وأجمعوا على أنها لا تصح والجواب أنه تعالى قال مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْخِرَة ِ والحرث لا يتأتى إلا بإلقاء البذر الصحيح في الأرض والبذر الصحيح لجميع الخيرات والسعادات ليس إلا عبودية الله تعالى
المسألة الرابعة قال أصحابنا إذا توضأ بغير نية لم يصح قالوا لأن هذا الإنسان ما أراد حرث الآخرة لأن الكلام فيما إذا كان غافلاً عن ذكر الله وعن الآخرة فوجب أن لا يحصل له نصيب فيما يتعلق بالآخرة والخروج عن عهدة الصلاة من باب منافع الآخرة فوجب أن لا يحصل في الوضوء العاري عن النية
وأعلم أن الله تعالى لما بيّن القانون الأعظم والقسطاس الأقوم في أعمال الآخرة والدنيا أردفه بالتنبيه على ما هو الأصل في باب الضلالة والشقاوة فقال أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ومعنى الهمزة في أم التقرير والتقريع و شُرَكَاؤُهُمْ شياطينهم الذين زينوا الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا لأنهم يعلمون غيرها وقيل شُرَكَاؤُهُمْ أوثانهم وإنما أضيفت إليهم لأنهم هم الذين اتخذوها شركاء الله ولما كان سبباً لضلالتهم جعلت شارعة لدين الضلالة كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) وقوله شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ يعني أن تكل الشرائع بأسرها على ضدين لله ثم قال وَلَوْلاَ كَلِمَة ُ الْفَصْلِ أي القضاء السابق بتأخير الجزاء أو يقال ولولا الوعد بأن الفصل أن يكون يوم القيمة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الكافرين والمؤمنين أو بين المشركين وشركائهم وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وقرأ بعضهم وأن بفتح الهمزة في أن عطفاً له على كلمة الفصل يعني وَلَوْلاَ كَلِمَة ُ الْفَصْلِ وأن تقريره تعذيب الظالمين في الآخرة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ في الدنيا إنه تعالى ذكر أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب الأول فهو قوله تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ خائفين خوفاً شديداً مِمَّا كَسَبُواْ من السيئات وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ يريد أن وباله واقع بهم سواء أشفقوا أو لم يشفقو أما الثاني فهو أحوال أهل الثواب وهو قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لأن روضة الجنة أطيب بقعة فيها وفي الآية تنبيه على أن الفساق من أهل الصلاة كلهم في الجنة إلا أنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بروضات الجنات وهي البقاع الشريفة من الجنة فالبقاع التي دون تلك الروضات لا بد وأن تكون مخصوصة بمن كان دون أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم قال لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ

وهذا يدل على أن كل الأشياء حاضرة عنده مهيأة ثم قال تعالى في تعظيم هذه الدرجة ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وأصحابنا استدلوا بهذه الآية على أن الثواب غير واجب على الله وإنما يحصل بطريق الفضل من الله تعالى قال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ فهذا يدل على أن روضات الجنات ووجدان كل ما يريدونه إنما كان جزاءً على الإيمان والأعمال الصالحات
ثم قال تعالى ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وهذا تصريح بأن الجزاء المرتب على العمل إنما حصل بطريق الفضل لا بطريق الاستحقاق
ثم قال ذَلِكَ الَّذِى يُبَشّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ قال صاحب ( الكشاف ) قرىء يبشر من بشره ويبشر من أبشره ويبشر من بشره
واعلم أن هذه الآيات دالة على تعظيم حال الثواب من وجوه الأول أن الله سبحانه رتب على الإيمان وعمل الصاحات روضات الجنات والسلطان الذي هو أعظم الموجودات وأكرمهم إذا رتب على أعمال شاقة جزاء دل ذلك على أن ذلك الجزاء قد بلغ إلى حيث لا يعلم كنهه إلا الله تعالى الثاني أنه تعالى قال لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ وقوله لَهُم مَّا يَشَاءونَ يدخل في باب غير المتناهي لأنه لا درجة إلا والإنسان يريد ما هو أعلى منهاالثالث أنه تعالى قال ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ والذي يحكم بكبره من له الكبرياء والعظمة على الإطلاق كان في غاية الكبر الرابع أنه تعالى أعاد البشارة على سبيل التعظيم فقال الَّذِينَ يُبَشّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ وذلك يدل أيضاً على غاية العظمة نسأل الله الفوز بها والوصول إليها
واعمل أنه تعالى لما أوحى إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هذا الكتاب الشريف العالي وأودع فيه الثلاثة أقسام الدلائل وأصناف التكاليف ورتب على الطاعة الثواب وعلى المعصية العقاب بين أني لا أطلب منكم بسبب هذا التبليغ نفعاً عاجلاً ومطلوباً حاضراً لئلا يتخيل جاهل أن مقصود محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من هذا التبليغ المال والجاه فقال قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكر الناس في هذه الآية ثلاثة أقوال
الأول قال الشعبي أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى بن عباس نسأله عن ذلك فكتب ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان واسط النسب من قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده فقال الله قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ على ما أدعوكم إليه أَجْراً إِلاَّ أن تودوني لقرابتي منكم والمعنى أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذوني ولا تهيجوا علي
والقول الثاني روى الكلبي عن بن عباس رضي الله عنهما قال إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قدم المدينة كانت تعروه نوائب وحقوق وليس في يده سعة فقال الأنصار إن هذا الرجل قد هداكم الله على يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا ثم أتوه به فرده عليهم فنزل قوله تعلى قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً أي على الإيمان إلا أنتودوا أقاربي فحثهم على مودة أقاربه

القول الثالث ما ذكره الحسن فقال إلا أن تودوا إلى الله فيما يقربكم إليه من التودد إليه بالعمل الصالح فالقربى على القول الأول القرابة التي هي بمعنى الرحم وعلى الثاني القرابة التي هي بمعنى الأقارب وعلى الثالث هي فعلى من القرب والتقريب فإن قيل الآية مشكلة ذلك لأن طلب الأجر على تبليغ الوحي لايجوز ويدل عليه وجوه
الأول أنه تعالى حكى عن أكثر الأنبياء عليهم السلام أنهم صرّحوا بنفي طلب الأجرة فذكر في قصة نوح عليه السلام وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 109 ) وكذا في قصة هود وصالح وفي قصة لوط وشعيب عليهم السلام ورسولنا أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فكان بأن لا يطلب الأجر على النوبة والرسالة أولى الثاني أنه ( صلى الله عليه وسلم ) صرح بنفي طلب الأجر في سائر الآيات فقال قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ( سبأ 47 ) وقال قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ ( ص 86 ) الثالث العقل يدل عليه وذلك لأن ذلك التبليغ كان واجباً عليه قال تعالى بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ( المائدة 67 ) وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بأقل الناس فضلاً عن أعلم العلماء الرابع أن النبوة أفضل من الحكمة وقد قال تعالى في صفة الحكمة وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 269 ) وقال في صفة الدنيا قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ( النساء 77 ) فكيف يحسن في العقل مقابلة أشرف الأشياء بأخس الأشياء الخامس أن طلب الأجر كان يوجب التهمة وذلك ينافي القطع بصحة النبوة فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يطلب أجراً ألبتة على التبليغ والرسالة وظاهر هذه الآية يقتضي أنه طلب أجراً على التبليغ والرسالة وهو المودة في القربى هذا تقرير السؤال والجواب عنه أنه لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على التبليغ والرسالة بقي قوله إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى نقول الجواب عنه من وجهين الأول أن هذا من باب قوله
ولا عيب غير أن سيوفهم
بها من قراع الدارعين فلول المعنى أنا لا أطلب منكم إلا هذا وهذا في الحقيقة ليس أجراً لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب قال تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( المؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضاً ) والآيات والأخبار في هذا الباب كثيرة وإذا كان حصول المودة بين جمهور المسلمين واجباً فحصولها في حق أشرف المسلمين وأكابرهم أولى وقوله تعلى قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى تقديره والمودة في القربى ليست أجراً فرجع الحاصل إلى أنه لا أجر ألبتة الوجه الثاني في الجواب أن هذا استثناء منقطع وتم الكلام عند قوله قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
ثم قال إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى أي لكن أذكركم قرابتي منكم وكأنه في اللفظ أجر وليس بأجر
المسألة الثالثة نقل صاحب ( الكشاف ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من مات على حب آل محمد مات شهيداً ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنّة ثم منكر ونكير ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنّة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة ألا ومن مات على حب آل محمد

جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة ) هذا هو الذي رواه صاحب ( الكشاف ) وأنا أقول آل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هم الذين يؤول أمرهم إليه فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل ولا شك أن فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أشد التعلقات وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل وأيضاً اختلف الناس في الآل فقيل هم الأقارب وقيل هم أمته فإن حملناه على القرابة فهم الآل وإن حملناه على الأمة الذين قبلوا دعوته فهم أيضاً آل فثبت أن على جميع التقديرات هم الآل وأما غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل فمختلف فيه وروى صاحب ( الكشاف ) أنه لما نزلت هذه الآية قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم فقال علي وفاطمة وابناهما فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ويدل عليه وجوه الأول قوله تعالى إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى ووجه الاستدلال به ما سبق الثاني لا شك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحب فاطمة عليها السلام قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ) وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يحب علياً والحسن والحسين وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله لقوله وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( الأعراف 158 ) ولقوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ( النور 63 ) ولقوله قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ( آل عمران 31 ) ولقوله سبحانه لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ ( الأحزاب 21 ) الثالث أن الدعاء للآل منصب عظيم ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة وهو قوله اللّهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وارحم محمداً وآل محمد وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل فكل ذلك يدل على أن حب آل محمد واجب وقال الشافعي رضي الله عنه
يا راكباً قف بالمحصب من منى
واهتف بساكن خيفها والناهضسحراً إذا فاض الحجيج إلى منى
فيضاً كما نظم الفرات الفائضإن كان رفضاً حب آل محمد
فليشهد الثقلان أنى رافضي المسألة الثانية قوله إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى فيه منصب عظيم للصحابة لأنه تعالى قال وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( الواقعة 10 ) فكل من أطاع الله كان مقرباً عند الله تعالى فدخل تحت قوله إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى والحاصل أن هذه الآية تدل على وجوب حب آل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحب أصحابه وهذا المنصب لا يسلم إلا على وقل أصحابنا أهل السنّة والجماعة الذين جمعوا بين حب العترة والصحابة وسمعت بعض المذكرين قال إنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات وراكب البحر يحتاج إلى أمرين أحدهما السفينة الخالية عن العيوب والثقب والثاني الكواتكب الظاهرة الطالعة النيرة فإذا ركب تلك السفينة ووقع نظره على تلك الكواكب الظاهرة كان رجاء السلامة غالباً فكذلك ركب أصحابنا أهل السنة سفينة حب آل محمد ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة فرجوا من الله تعالى أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدينا والآخرة

ولنرجع إلى التفسير أورد صاحب ( الكشاف ) على نفسه سؤالاً فقال هلا قيل إلا مودة القربى أو إلا مودة للقربى وما معنى قوله إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى وأجاب عنه بأن قال جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها كقوله لي في آل فلان مودة ولي فيهم هوى وحب شديد تريد أحبهم وخم مكان حبي ومحله
ثم قال تعالى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَة ً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً قيل نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه والظاهر العموم في أي حسنة كانت إلا أنها لما ذكرت عقيب ذكر المودة في القربى ذل ذلك على أن المقصود التأكيد في تلك المودة
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ والشكور في حق الله تعالى مجاز والمعنى أنه تعالى يحسن إلى المطيعين في إيصال الثواب إليهم وفي أن يزيد عليه أنواعاً كثيرة من التفضيل
وقال تعالى أَمْ يَقُولُونَ فَتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا واعلم أن الكلام في أول السورة إنما اتبدىء في تقرير أن هذا الكتاب إنما حصل بوحي الله وهو قوله تعالى كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( الشورى 3 ) واتصل الكلام في تقرير هذا المعنى وتعلق البعض بالبعض حتى وصل إلى ههنا ثم حكى ههنا شبهة القوم وهي قولهم إن هذا ليس وحياً من الله تعالى فقال أَمْ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا قال صاحب ( الكشاف ) أم منقطعة ومعنى الهمزة نفس التوبيخ كأنه قيل أيقع في قلوبهم ويجري في ألسنتهم أن ينسبوا مثله إلى الافتراء على الله الذي هو أقبح أنواع الفرية وأفحشها ثم أجاب عنه بأن قال فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وفيه وجوه الأول قال مجاهد يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم إن مفتر كذاب والثاني يعني بهذا الكلام أنه إن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى يفتري عليه الكذب فإن لا يجترىء على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل هذه الحالة والمقصود من ذكر هذا الكلام المبالغة في تقرير الاستبعاد ومثاله أن ينسب رجل بعض الأمناء إلى الخيانة فيقول الأمين لعلّ الله خذلني لعلّ الله أعمى قلبي وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب لنفسه وإنما يريد استبعاد صدور الخيانة عنه
ثم قال تعالى وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ أي ومن عادة الله إبطال الباطل وتقرير الحق فلو كان محمد مبطلاً كذاباً لفضحه الله ولكشف عن باطله ولما أيده بالقوة والنصرة ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه ليس من الكاذبين المفترين على الله ويجوز أن يكون هذا وعداً من الله لرسوله بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والفرية والتكذيب ويثبت الحق الذي كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عليه
ثم قال إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أي إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم فيجري الأمر على حسب ذلك وعن قتادة يختم على قلبك ينسيك القرآن ويقطع عنك الوحي بمعنى لو افترى على الله الكذب لفعل الله به ذلك
واعلم أنه تعالى لما قال أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ثم برأ رسوله مما أضافوه إليه من هذا وكان من المعلوم أنهم قد استحقوا بهذه الفرية عقاباً عظيماً لا جرم ندبهم الله على التوبة وعرفهم أنه يقبلها من كل مسيء وإن عظمت إساءته فقال وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ وفي هذه الآية مسائل

المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) يقال قبلت منه الشيء وقبلته عنه فمعنى قبلته منه أخذته منه وجعلته مبدأ قبلو ومنشأه ومعنى قبلته عنه أخذته وأثبته عنه وقد سبق البحث المستقصى عن حقيقة التوبة في سورة البقرة وأقل ما لا بد منه الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل وروى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال اللّهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر فلما فرغ من صلاته قال له علي عليه السلام يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين فتوبتك تحتاج إلى توبة فقال يا أمير المؤمنين وما التوبة فقال اسم يقع على ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته
المسألة الثانية قالت المعتزلة يجب على الله تعالى عقلاً قبول التوبة وقال أصحابنا لا يجب على الله شيء وكل ما يفعله فإنما يفعله بالكرم والفضل واحتجوا على صحة مذهبهم بهذه الآية فقالوا إنه تعالى تمدح بقبول التوبة ولو كان ذلك القبول واجباً لما حصل التمدح العظيم ألا ترى أن من مدح نفسه بأن لا يضرب الناس ظلماً ولا يقتلهم غضباً كان ذلك مدحاً قليلاً أما إذا قال إني أحسن إليهم مع أن ذلك لا يجب عليَّ كان ذلك مدحاً وثناءً
المسألة الثالثة قوله تعالى وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ إما أن يكون المراد منه أن يعفو عن الكبائر بعد الإتيان بالتوبة أو المراد منه أنه يعفو عن الصغائر أو المراد منته أنه يعفو عن الكبائر قبل التوبة والأول باطل وإلا لصار قوله وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ عين قوله وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ والتكرار خلاف الأصل والثاني أيضاً باطل لأن ذلك واجب وأداء الواجب لا يتمدح به فبقي القسم الثالث فيكون المعنى أنه تارة يعفو بواسطة قبول التوبة وتارة يعفو ابتداء من غير توبة
ثم قال وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء على المخاطبة والباقون بالياء على المغايبة والمعنى أنه تعالى يعلمه فيثيبه على حسناته ويعاقبه على سيئاته
ثم قال وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ وفيه قولان أحدهما الذين آمنوا وعملوا الصالحات رفع على أنه فاعل تقديره ويجيب المؤمنون الله فيما دعاهم إليه والثاني محله نصب والفاعل مضمر وهو الله وتقديره ويستجيب الله للمؤمنين إلا أنه حذف اللام كما حذف في قوله وَإِذَا كَالُوهُمْ ( المطففين 3 ) وهذا الثاني أولى لأن الخبر فيما قبل وبعد عن الله لأن ما قبل الآية قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ وما بعدها قوله وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ فيزيد عطف على ويستجيب وعلى الأول ويجيب العبد ويزيد الله من فضله
أما من قال إن الفعل للذين آمنوا ففيه وجهان أحدهما ويجيب المؤمنون ربهم فيما دعاهم إليه والثاني يطيعونه فيما أمرهم به والاستجابة الطاعة
وأما من قال إن الفعل لله فقد اختلفوا فقيل يجيب الله دعاء المؤمنين ويزيدهم ما طلبوه من فضله فإن قالوا تخصيص المؤمنين بإجابة الدعاء هل يدل على أنه تعالى لا يجيب دعاء اكفار قلنا قال بعضهم لا يجوز لأن إجابة الدعاء تعظيم وذلك لا يليق بالكفار وقيل يجوز على بعض الوجوه وفائدة التخصيص أن

إجابة دعاء المؤمنين تكون على سلبيل التشريف وإجابة دعاء الكافرين تكون على سبيل الاستدراج ثم قال وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ أي يزيدهم على ما طلبوه بالدعاء وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والمقصود التهديد
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الأرض وَلَاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِى ُّ الْحَمِيدُ وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّة ٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأرض وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِى ٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى إنه يجيب دعاء المؤمنين ورد عليه سؤال وهو أن المؤمن قد يكون في شدة وبلية وفقر ثم يدعو فلا يشاهد أثر الإجابة فكيف الحال فيه مع ما تقدم من قوله وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامَنُواْ فأجاب تعالى عنه بقوله وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ أي ولأقدموا على المعاصي ولما كان ذلك محذوراً وجب أن يعطيهم ما طلبوه قال الجبائي هذه الآية تدل على بطلان قول المجبرة من وجهين الأول أن حاصل الكلام أنه تعالى لَوْ بَسَطَ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ والبغي في الأرض غير مراد فإرادة بسط الرزق غير حاصلة فهذا الكلام إنما يتم إذا قلنا إنه تعالى يريد البغي في الأرض وذلك يوجب فساد قول المجبرة الثاني أنه تعالى بيّن أنه إنما لم يرد بسط الرزق لأنه يفضي إلى المفسدة فلما بيّن تعالى أنه لا يريد ما يفضي إلى المفسدة فبأن لا يكون مريداً للمفسدة كان أولى أجاب أصحابنا بأن الميل الشديد إلى البغي والقسوة والقهر صفة حدثت بعد أن لم تكن فلا بد لها من فاعل وفاعل هذه الأحوال إما العبد أو الله والأول باطل لأنه إنما يفعل هذه الأشياء لو مال طبعه إليها فيعود السؤال في أنه من المحدث لذلك الميل الثاني ويلزم التسلسل وأيضاً فالميل الشديد إلى الظلم ولاقسوة عيوب ونقصانات والعاقل لا يرضى بتحصيل موجبات النقصان لنفسه ولما بطل هذا ثبت أن محدث هذا الميل والرغبة هو الله تعالى ثم أورد الجبائي في ( تفسيره ) على نفسه سؤالاً قال فإن قيل أليس قد بسط الله الرزق لبعض عباده مع أنه بغى وأجاب عنه بأن الذي عنده الرزق وبغى كان المعلوم من حاله أنه يبغي على كل حال سواء أعطى ذلك الرزق أو لم يعط وأقول هذا الجواب فاسد ويدل عليه القرآن

والعقل أما القرآن فقوله تعالى إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) حكم مطلقاً بأن حصول الغنى سبب لحصول الطغيان وأما العقل فهو أن النفس إذا كانت مائلة إلى الشر لكنها كانت فاقدة للآلات والأدوات كان الشر أقل وإذا كانت واجدة لها كان الشر أكثر فثبت أن وجدان المال يوجب الطغيان
المسألة الثانية في بيان الوجه الذي لأجله كان التوسع موجباً للطغيان ذكروا فيه وجوهاً الأول أن الله تعالى لو سوى في الرزق بين الكل لامتنع كون البعض خادماً للبعض ولو صار الأمر كذلك لخرب العالم وتعطلت المصالح الثاني أن هذه الآية مختصة بالعرب فإنه كلما اتسع رزقهم ووجدوا من المطر ما يرويهم ومن الكلأ والعشب ما يشبعهم أقدموا على النهب والغارة الثالث أن الإنسان متكبر بالطبع فإذا وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر وإذا وقع في شدة وبلية ومكروه انكسر فعاد إلى الطاعة والتواضع
المسألة الثالثة قال خباب بن الأرث فينا نزلت هذه الآية وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها وقيل نزلت في أهل الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى
ثم قال تعالى وَلَاكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء قرأ ابن كثير وأبو عمرو يُنَزّلٍ خفيفة والباقون بالتشديد ثم نقول بِقَدَرٍ بتقدير يقال قدره قدراً وقدراً إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ يعني أنه عالم بأحوال الناس وبطباعهم وبعواقب أمورهم فيقدر أرزاقهم على وفق مصالحهم ولما بيّن تعالى أنه لا يعطيهم ما زاد على قدر حاجتهم لأجل أنه علم أن تلك الزيادة تضرهم في دينهم بين أنهم إذا احتاجوا إلى الرزق فإنه لا يمنعهم منه فقال وَهُوَ الَّذِى يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ قرأ نافع وابن عامر وعاصم يُنَزّلٍ مشددة والباقون مخففة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء قَنَطُواْ بفتح النون وكسرها وإنزال الغيث بعد القنوط أدعى إلى الشكر لأن الفرح بحصول النعمة بعد البلية أتم فكان إقدام صاحبه على الشكر أكثر وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ أي بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب وعن عمر رضي الله عنه أنه قيل له ( اشتد القحط وقنط الناس فقال إذن مطروا ) أراد هذه الآية ويجوز أن يريد رحمته الواسعة في كل شيء كأنه قيل ينزل الرحمة التي هي الغيث وينشر سائر أنواع الرحمة وَهُوَ الْوَلِى ُّ الوالي الذي يتولى عباده بإحسانه و الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ المحمود على ما يوصل للخلق من أقسام الرحمة ثم ذكر آية أخرى تدل على إلهيته فقال وَمِنْ ءايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّة ٍ فنقول أما دلالة خلق السموات والأرض على وجود الإله الحكيم فقد ذكرناها وكذلك دلالة وجود الحيوانات على وجود الإله الحكيم فإن قيل كيف يجوز إطلاق لفظ الدابة على الملائكة قلنا فيه وجوه الأول أنه قد يضاف الفعل إلى جماعة وإن كان فاعله واحداً منهم يقال بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله واحد منهم ومنه قوله تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ( الرحمن 22 ) الثاني أن الدبيب هو الحركة والملائكة لهم حركة الثالث لا يبعد أن يقال إنه تعالى خلق في السموات أنواعاً من الحيوانات يمشون مشي الأناسي على الأرض
ثم قال تعالى وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ قال صاحب ( الكشاف ) إذا تدخل على المضارع كما تدخل على الماضي قال تعالى وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ( الليل 1 ) ومنه إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ والمقصود أنه تعالى خلقها متفرقة لا لعجز ولكن لمصلحة فلهذا قال وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ يعني الجمع للحشر

والمحاسبة وإنما قال عَلَى جَمْعِهِمْ ولم يقل على جمعها لأجل أن المقصود من هذا الجمع المحاسبة فكأنه تعالى قال وهو على جمع العقلاء إذا يشاء قدير واحتج الجبائي بقوله إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ على أن مشيئته تعالى محدثة بأن قال إن كلمة إِذَا تفيد ظرف الزمان وكلمة يَشَاء صيغة المستقبل فلو كانت مشيئته تعالى قديمة لم يكن لتخصيصها بذلك الوقت المعين من المستقبل فائدة ولما دل قوله إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ على هذا التخصيص علمنا أن مشيئته تعالى محدثة والجواب أن هاتين الكلمتين كما دخلتا على المشيئة أي مشيئة الله فقد دخلتا أيضاً على لفظ القدير فلزم على هذا أن يكون كونه قادراً صفة محدثة ولما كان هذا باطلاً فكذا القول فيما ذكره والله أعلم
ثم قال تعالى وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر بِمَا كَسَبَتْ بغير فاء وكذلك هي في مصاحف الشام والمدينة والباقون بالفاء وكذلك هي في مصاحفهم وتقدير الأول أن ما مبتدأ بمعنى الذي وبما كسبت خبره والمعنى والذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم وتقدير الثاني تضمين كلمة ما معنى الشرطية
المسألة الثانية المراد بهذه الصمائب الأحوال المكروهة نحو الآلام والأسقام القحط والغرق والصواعق وأشباهها واختلفوا في نحو الآلام أنها هل هي عقوبات على ذنوب سلفت أم لا منهم من أنكر ذلك لوجوه الأولى قوله تعالى الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( غافر 17 ) بيّن تعالى أن الجزاء إنما يحصل في يوم القيامة وقال تعالى في سورة الفاتحة مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 4 ) أي يوم الجزاء وأطبقوا على أن المراد منه يوم القيامة والثاني أن مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق والصديق وما يكون كذلك امتنع جعله من باب العقوبة على الذنوب بل الاستقراء يدل على أن حصول هذه المصائب للصالحين والمتقين أكثر منه للمذنبين ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) الثالث أن الدنيا دار التكليف فلو جعل الجزاء فيها لكانت الدينا دار التكليف ودار الجزاء معاً وهو محال وأما القائلون بأن هذه المصائب قد تكون أجزية على الذنوب المتقدنمة فقد تمسكوا أيضاً بما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن قال ( لا يصيب ابن آدم خدش عود ولا غيره إلا بذنب أو لفظ ) هذا معناه وتمسكوا أيضاً بقوله تعالى بعد هذه الآية أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا ( الشورى 34 ) وذلك تصريح بأن ذلك الإهلاك كان بسبب كسبهم وأجاب الأولون عن التمسك بهذه الآية فقالوا إن حصول هذه المصائب يكون من باب الامتحان في التكليف لا من باب العقوبة كما في حق الأنبياء والأولياء ويحمل قوله فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم وكذا الجواب عن بقية الدلائل والله أعلم
المسألة الثالثة احتج أهل التناسخ بهذه الآية وكذلك الذين يقولون إن الأطفال البهائم لا تتألم فقالوا دلّت الآية على أن حصول المصائب لا يكون إلا لسابقة الجرم ثم إن أهل التناسخ قالوا لكن هذه المصائب حاصلة للأطفال والبهائم فوجب أن يكون قد حصل لها ذنوب في الزمان السابق وأما القائلون بأن الأطفال والبهائم ليس لها ألم قالوا قد ثبت أن هذه الأطفال والبهائم ما كانت موجودة فيبدن آخر لفساد القول بالتناسخ فوجب القطع بأنها لا تتألم إذ الألم مصيبة والجواب أن قوله تعالى وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ

خطاب مع من يفهم ويعقل فلا يدخل فيه البهائم والأطفال ولم يقل تعالى إن جميع ما يصيب الحيوان من المكاره فإنه بسبب ذنب سابق والله أعلم
المسألة الرابعة قوله فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ يقتضي إضافة الكسب إلى اليد قال والكسب لا يكون باليد بل بالقدرة القائمة باليد وإذا كان المراد من لفظ اليد هاهنا القدرة وكان هذا المجاز مشهوراً مستعملاً كان لفظ اليد الوارد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيهاً لله تعالى عن الأعضاء والأجزاء والله أعلم
ثم قال تعالى وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ومعناه أنه تعالى قد يترك الكثير من هذه التشديدات بفضله ورحمته وعن الحسن قال دخلنا على عمران بن حصين في الوجع الشديد فقيل له إنا لنغتم لك من بعض ما نرى فقال لا تفعلوا فوالله إن أحبه إلى الله أحبه إلي وقرأ وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فهذا بما كسبت يداي وسيأتيني عفو ربي وقد روى أبو سخلة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية وقال ( ما عفى الله عنه فهو أعز وأكرم من أن يعود إليه في الآخرة وما عاقب عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يعيد العذاب عليه في الآخرة ) رواه الواحدي في ( البسيط ) وقال إذا كان كذلك فهذه أرجى آية في كتاب الله لأن الله تعالى جعل ذنوب المؤمنين صنفين صنف كفره عنهم بالمصائب في الدنيا وصنف عفا عنه في الدنيا وهو كريم لا يرجع في عفوه وهذه سنّة الله مع المؤمنين وأما الكافر فلأنه لا يعجل عليه عقوبة ذنبه حتى يوافي ربه يوم القيامة
ثم قال تعالى وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ يقول ما أنتم معشر المشركين بمعجزين في الأرض أي لا تعجزونني حيثما كنتم فلا تسبقونني بسبب هربكم في الأرض وَمَا لَكُم مّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ والمراد بهم من يعبد الأصنام بين أنه لا فائدة فيها ألبتة والنصير هو الله تعالى فلا جرم هو الذي تحسن عبادته
وَمِنْ ءَايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاٌّ عْلَامِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَى ْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلواة َ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْى ُ هُمْ يَنتَصِرُونَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وأبو عمرو الجواري بياء في الوصل والوقف فإثبات الياء في الأصل وحذفها للتخفيف
المسألة الثانية الجواري يعني السفن الجواري فحذف الموصوف لعدم الالتباس
المسألة الثالثة اعمل أٌّ ه تعالى ذكر من آياته أيضاً هذه السفن العظيمة التي تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح واعلم أن المقصود من ذكره أمران أحدهما أن يستدل به على وجود القادر الحكيم والثاني أن يعرف ما فيه من النعم العظيمة لله تعالى على العباد أما الوجه الأول فقد اتفقوا على أن المراد بالأعلام الجبال قالت الخنساء في مرثية أخيها
وإن صخراً لتأتم لهداة به
كأنه علم في رأسه نار ونقل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استنشد قصيدتها هذه فلما وصل الراوي إلى هذا البيت قال ( قاتلها الله ما رضيت بتشبيهها له بالجبل حتى جعلت على رأسه ناراً ) إذا عرفت هذا فنقول هذه السفن العظيمة التي تكون كالجبال تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح على أسرع الوجوه وعند سكون هذه الرياح تقف وقد بينا بالدليل في سورة النحل أن محرك الرياح ومسكنها هو الله تعالى إذ لا يقدر أحد على تحريكها من البشر ولا على تسكينها وذلك يدل على وجود الإله القادر وأيضاً أن السفينة تكون في غاية الثقل ثم إنها معثقلها بقيت على وجه الماء وهو أيضاً دلالة أخرى وأما الوجه الثاني وهو معرفة ما فيها من المنافع فهو أنه تعالى خص كل جانب من جوانب الأرض بنوع آخر من الأمتعة وإذا نقل متاع هذا الجانب إلى ذلك الجانب في السفن وبالعكس حصلت المنافع العظيمة في التجارة فلهذه الأسباب ذكر الله تعالى حال هذه السفينة
ثم قال تعالى كَالاْعْلَامِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ قرأ أبو عمرو والجمهور بهمزة إِن يَشَأْ لأن سكون الهمزة علامة للجزم وعن ورش عن نافع بلا همزة وقرأ نافع وحده يُسْكِنِ الرّيَاحِ على الجمع والباقون الرّيحَ على الواحد قال صاحب ( الكشاف ) قرىء يظللن بفتح اللام وكسرها من ظل يظل ويظل وقوله تعالى فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ أي رواتب أي لا تجري على ظهره أي على ظهر البحر إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ على بلاء الله شَكُورٍ لنعمائه والمقصود التنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يكون غافلاً عن دلائل معرفة الله ألبتة لأنه لا بد وأن يكون إما في البلاء وإما في الآلاء فإن كان في البلاء كان من الصابرين وإن كان من النعماء كان من الشاكرين وعلى هذا التقدير فإنه لا يكون ألبتة من الغافلين
ثم قال تعالى أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا يعني أو يهلكهن يقال أوبقه أي أهلكه ويقال للمجرم أوبقته ذنوبه أي أهلكته والمعنى أنه تعالى إن شاء ابتلى المسافرين في البحر بإحدى بليتين إما أن يسكن الريح

فتركد الجواري على متن البحر وتقف وإما أن يرسل الرياح عاصفة فيها فيهلكن بسبب الإغراق وعلى هذا التقدير فقوله أَوْ يُوبِقْهُنَّ معطوف على قوله يُسْكِنِ لأن التقدير إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيغرقن بعصفها وقوله وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ معناه إن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً عن طريق العفو عنهم فإن قيل فما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جعل مجزوماً مثله قلنا معناه إن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً على طريق العفو عنهم وأما من قرأ ويعفو فقد استأنف الكلام
ثم قال كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءايَاتِنَا مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ قرأ نافع وابن عامر يعلم بالرفع على الاستئناف وقرأ الباقون بالنصب فالقراءة بالرفع على الاستئناف وأما بالنصب فللعطف على تعليل محذوف تقديره لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون في آياتنا والعطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ومنه قوله تعالى وَلِنَجْعَلَهُ ءايَة ً لّلْنَّاسِ ( مريم 21 ) وقوله تعالى وَخُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( الجاثية 22 ) قال صاحب ( الكشاف ) ومن قرأ على جزم وَيَعْلَمَ فكأنه قال أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور هلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ أي ينازعون على وجه التكذيب أن لا مخلص لهم إذا وقفت السفن وءذا عصفت الرياح فيصير ذلك سبباً لاعترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلا الله
واعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد أردفها بالتفسير عن الدنيا وتحقير شأنها لأن الذي يمنع من قبول الدليل إنما هو الرغبة في الدنيا بسبب الرياسة وطلب الجاه فإذا صغرت الدنيا في عين الرجل لم يلتفت إليها فحينئذ ينتفع بذكر الدلائل فقال فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَى ْء فَمَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وسماه متاعاً تنبيهاً على قلته وحقارته ولأن الحس شاهد بأن كل ما يتعلق بالدنيا فإنه يكون سريع الانقراض والانقضاء
ثم قال تعالى وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى والمعنى أن مطالب الدنيا خسيسة منقرضة ونبه على خساستها بتسميتها بالممتاع ونبّه على انقراضها بأن جعلها من الدنيا وأما الآخرة فإنها خير وأبقى وصريح العقل يقتضي ترجيح الخير الباقي على الخسيس الفاني ثم بيّن أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفاً بصفات
الصفة الأولى أن يكون من المؤمنين بدليل قوله تعالى الَّذِينَ كَفَرُواْ
الصفة الثانية أن يكون من المتوكلين على فضل الله بدليل قوله تعالى وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فأما من زعم أن الطاعة توجب الثواب فهو متكل على عمل نفسه لا على الله فلا يدخل تحت الآية
الصفة الثالثة أن يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش عن ابن عباس كبير الإثم هو الشرك نقله صاحب ( الكشاف ) وهو عندي بعيد لأن شرط الإيمان مذكور أولاً وهو يغني عن عدم الشرك وقيل المراد بكبائر الإثم ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات وبالفواحش ما يتعلق بالقوة الشهوانية وبقوله وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ما يتعلق بالقوة الغضبية وإنما خص الغضب بلفظ الغفران لأن الغضب على طبع النار واستيلاؤه شديد ومقاومته صعبة فلهذا السبب خصّه بهذا اللفظ والله أعلم
الصفة الرابعة قوله تعالى وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمْ والمراد منه تمام الانقياد فإن قالوا أليس أنه لما

جعل الإيمان شرطاً فيه فقد دخل في الإيمان إجابة الله قلنا الأقرب عندي أن يحمل هذا على الرضاء بقضاء الله من صميم القلب وأن لا يكون في قلبه منازعة في أمر من الأمور ولما ذكر هذا الشرط قال وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ والمراد منه إقامة الصلوات الواجبة لأن هذا هو الشرط في حصول الثواب
وأما قوله تعالى وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ فقيل كان إذا وقعت بينهم واقعة اجتمعوا وتشاوروا فأثنى الله عليهم أي لا ينفردون برأي بل ما لم يجتمعوا عليه لا يقدمون عليه وعن الحسن ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور ومعنى قوله وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ أي ذو شورى
الصفة الخامسة قوله تعالى وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْى ُ هُمْ يَنتَصِرُونَ والمعنى أن يقتصروا في الانتصار على ما يجعله الله لهم ولا يتعدونه وعن النخعي أنه كان إذا قرأها قال كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم السفهاء فإن قيل هذه الآية مشكلة لوجهين الأول أنه لما ذكر قبله وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ فكيف يليق أن يذكر معه ما يجري مجرى الضد له وهو قوله وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْى ُ هُمْ يَنتَصِرُونَ الثاني وهو أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن قال تعالى وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) وقال وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وقال خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) وقال وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ ( النحل 126 ) فهذه الآيات تناقض مدلول هذه الآية والجواب أن العفو على قسمين أحدهما أن يكون العفو سبباً لتسكين الفتنة وجناية الجاني ورجوعه عن جنايته والثاني أن يصير العفو سبباً لمزيد جراءة الجاني ولقوة غيظه وغضبه والآيات في العفو محمولة على القسم الأول وهذه الآية محمولة على القسم الثاني وحينئذ يزول التناقض والله أعلم ألا ترى أن العفو عن المصر يكون كالإغراء له ولغيره فلو أن رجلاً وجد عبده فجر بجاريته وهو مصر فلو عفا عنه كان مذموماً وروي أن زينب أقبلت على عائشة فشتمتها فنهاها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عنها فلم تنته فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( دونك فانتصري ) وأيضاً إنه تعالى لم يرغب في الانتصار بل بيّن أنه مشروع فقط ثم بيّن بعده أن شرعه مشروط برعاية المماثلة ثم بيّن أن العفو أولى بقوله فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فزال السؤال والله أعلم

وَجَزَآءُ سَيِّئَة ٍ سَيِّئَة ٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَائِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاٍّ مُورِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِى ٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِى ٍّ وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ
اعلم أنه تعالى لما قال وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْى ُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ( الشورى 39 ) أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل فإن النقصان حيف والزيادة ظلم والتساوي هو العدل وبه قامت السماوات والأرض فلهذا السبب قال وَجَزَاء سَيّئَة ٍ مِثْلِهَا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول جزاء السيئة مشروع مأذون فيه فكيف سمي بالسيئة أجاب صاحب ( الكشاف ) عنه كلتا الفعلتين الأولى وجزاؤها سيئة لأنها تسوء من تنزل به قال تعالى وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ ( النساء 78 ) يريد ما يسوءهم من المصائب والبلايا وأجاب غيره بأنه لما جعل أحدهما في مقابلة الآخر على سبيل المجاز أطلق اسم أحدهما على الآخر والحق ما ذكره صاحب ( الكشاف )
والمسألة الثانية هذه الآية أصل كبير في علم الفقه فإن مقتضاها أن تقابل كل جناية بمثلها وذلك لأن الإهدار يوجب فتح باب الشر والعدوان لأن في طبع كل أحد الظلم والبغي والعدوان فإذا لم يزجر عنه أقدم عليه ولم يتركه وأما الزيادة على قدر الذنب فهو ظلم والشرع منزّه عنه فلم يبق إلا أن يقابل بالمثل ثم تأكد هذا النص بنصوص أُخر كقوله تعالى وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ( النحل 126 ) وقوله تعالى مَنْ عَمِلَ سَيّئَة ً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ( غافر 40 ) وقوله عزّ وجلّ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) والقصاص عبارة عن المساواة والمماثلة وقوله تعالى وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ( المائدة 45 ) وقوله تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ ( البقرة 179 ) فهذه النصوص بأسرها تقتضي مقابلة الشيء بمثله ثم هاهنا دقيقة وهي أنه إذا لم يمكن استيفاء الحق إلا باستيفاء الزيادة فههنا وقع التعارض بين إلحاق زيادة الضرر بالجاني وبين منع المجني عليه من استيفاء حقه فأيهما أولى فههنا محل اجتهاد المجتهدين ويختلف ذلك باختلاف الصور وتفرع على هذا الأصل بعض المسائل تنبيهاً على الباقي
المثال الأول احتج الشافعي رضي الله عنه على أن المسلم لا يقتل بالذمي وأن الحر لا يقتل بالعبد بأن قال المماثلة شرط لجريان اللقصاص وهي مفقودة في هاتين المسألتين فوجب أن لا يجري القصاص

بينهما أما بيان أن المماثلة شرط لجريان القصاص فهي النصوص المذكورة وكيفية الاستدلال بها أن نقول إما أن نحمل المماثلة المذكورة في هذه النصوص على المماثلة في كل الأمور إلا ما خصّه الدليل أو نحملها على المماثلة في أمر معين والثاني مرجوح لأن ذلك الأمر المعين غير مذكور الآية فلو حملنا الآية عليها لزم الإجمال ولو حملنا النص على القسم الأول لزم تحمل التخصيص ومعلوم أن دفع الإجمال أولى من دفع التخصيص فثبت أن الآية تقتضي رعاية المماثلة في كل الأمور إلا ما خصّه دليل العقل ودليل نقلي منفصل وإذا ثبت هذا فنقول رعاية المماثلة في قتل المسلم بالذمي وقي قتل الحر بالعبد لا تمكن لأن الإسلام اعتبره الشرع في إيجاب القتل لتحصيله عند عدمه كما في حق الكافر الأصلي ولإبقائه عند وجوده كما في حق المرتد وأيضاً الحرية صفة اعتبرها الشرع في حق القضاء والإمامة والشهادة فثبت أن المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة ههنا فوجب المنع من القصاص
المثال الثاني احتج الشافعي رضي الله عنه في أن الأيدي تقطع باليد الواحد فقال لا شك أنه إذا صدر كل القطع أو بعضه عن كل أولئك القاطعين أو عن بعضهم فوجب أن يشرع في حق أولئك القاطعين مثله لهذه النصوص وكل من قال يشرع القطع إما كله أو بعضه في حق كلهم أو بعضهم قال بإيجابه على الكل بقي أن يقال فيلزم منه استيفاء الزيادة من الجاني وهو ممنوع منه إلا أنا نقول لما وقع التعارض بين جانب الجاني وبين جانب المجني عليه كان جانب المجني عليه بالرعاية أولى
المثال الثالث شريك الأب شرع في حقه القصاص والدليل عليه أنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله لقوله تعالى وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ( المائدة 45 ) وإذا ثبت هذا ثبت تمام القصاص لأنه لا قائل بالفرق
المثال الرابع قال الشافعي رضي الله تعالى عنه من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه والدليل عليه هذه النصوص الدالة على مقابلة كل شيء بمماثله
المثال الخامس شهود القصااص إذا رجعوا وقالوا تعمدنا الكذب يلزمهم القصاص لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه فوجب أن يصير دمهم مهدراً لقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا
المثال السادس قال الشافعي رضي الله عنه المكره يجب عليه القود لأنه صدر عنه القتل ظلماً فوجب أن يجب عليه مثله أما أنه صدر عنه القتل فالحس يدل عليه وأما أنه قتل ظلماً فلأن المسلمين أجمعوا على أنه مكلف من قبل الله تعالى بأن لا يقتل وأجمعوا على أنه يستحق به الإثم العظيم والعقاب الشديد وإذا ثبت هذا فوجب أن يقابل بمثله لقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا
المثال السابع قال الشافعي رضي الله عنه القتل بالمثقل يوجب القود والدليل عليه أن الجاني أبطل حياته فوجب أن يتمكن ولي المقتول من إبطال حياة القاتل لقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا
المثال الثامن الحر لا يقتل بالعبد قصاصاً ونحن وإن ذكرنا هذه المسألة في المثال الأول إلا أنا نذكر ههنا وجهاً آخر من البيان فنقول إن القاتل أتلف على مالك العبد شيئاً يساوي عشرة دنانير مثلاً فوجب عليه أداء عشرة دنانير لقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا وإذا وجب الضمان وجب أن لا يجب القصاص لأنه لا قائل بالفرق

المثال التاسع منافع الغضب مضمونة عند الشافعي رضي الله عنه والدليل عليه أن الغاضب فوت على المالك منافع تقابل في العرب بدينار فوجب أن يفوت على الغاضب مثله من المال لقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ وكل من أوجب تفويت هذا القدر على الغاضب قال بأنه يجب أداؤه إلى المغصوب منه
المثال العاشر الحر لا يقتل بالعبد قصاصاً لأنه لو قتل بالعبد هو مساوياً للعبد في المعاني الموجبة للقصاص لقوله الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيّئَة ً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ( غافر 40 ) ولسائر النصوص التي تلوناها ثم إن عبده يقتل قصاصاً بعبد نفسه فيجب أن يكون عبد غيره مساوياً لعبد نفسه في المعاني الموجبة للقصاص لعين هذه النصوص التي ذكرناها فعلى هذا التقدير يكون عبد نفسه مساوياً لعبد غيره في المعاني الموجبة للقصاص فكان عبد نفسه مثلاً لمثل نفسه ومثل المثل مثل فوجب كون عبد نفسه مثلاً لنفسه في المعاني الموجبة للقصاص ولو قتل الحر بعبد غيره لقتل بعبد نفسه بالبيان الذي ذكرناه ولا يقتل بعبد نفسه فوجب أن لا يقتل بعبد غيره فقد ذكرنا هذه الأمثلة العشرة في التفريع على هذه الآية ومن أخذت الفطانة بيده سهل عليه تفريع كثير من مسائل الشريعة على هذا الأصل والله أعلم ثم ههنا بحث وهو أن أبا حنيفة رضي الله عنه قال في قطع الأيدي لا شك أنه صدر كل القطع أو بعضه عن كلهم أو عن بعضهم إلا أنه لا يمكن استيفاء ذلك الحق إلا باستيفاء الزيادة لأن تفويت عشرة من الأيدي أزيد من تفويت يد واحدة فوجب أن يبقى على أصل الحرمة فقال الشافعي رضي الله عنه لو كان تفويت عشرة من الأيدي من الأويدي في مقابلة يد واحدة حراماً لكان تفويت عشرة من النفوس في مقابلة نفس واحدة حراماً لأن تفويث النفس يشتمل على تفويث اليد فتفويت عشرة من النفوس في مقابلة النفس الواحدة يوجب تفويت عشرة من الأيدي في مقابلة اليد الواحدة فلو كان تفويت عشرة من الأيدي في مقابلة اليد الواحدة حراماً لكان تفويت عشرة من النفوس لأجل النفس الواحدة مشتملاً على الحرام وكل ما اشتمل على الحرام فهو حرام فكان يجب أن يحرم قتل النفوس العشرة في مقابلة النفس الواحدة وحيث أجمعنا على أنه لا يحرم علمنا أن ما ذكرتم من استيفاء الزيادة غير ممنوع منه شراً والله أعلم
المسألة الثالثة قد بينا أن قوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا يتقضي وجوب رعاية المماثلة مطلقاً في كل الأحوال إلا فيما خصه الدليل والفقهاء أدخلوا التخصيص فيه في صور كثيرة فتارة بناء على نص آخر أخس منه وأخرى بناء على القياس ولا شك أن من اعدى التخصيص فعليه البيان والمكلف يكفيه أن يتمسك بهذا النص في جميع المطالب قال مجاهد والسدي إذا قال له أخزاه الله فليقل له أخزاه الله أما إذا قذفه قذفاً يوجب الحد فليس له ذلك بل الحد الذي أمر الله به
ثم قال تعالى فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء كما قال تعالى فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة ٌ كَأَنَّهُ وَلِى ٌّ حَمِيمٌ ( فصلت 34 ) ( فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وهو وعد مبهم لا يقاس أمره في التعظيم
ثم قال تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وفيه قولان الأول أن المقصود منه التنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له استيفاء الزيادة من الظالم لأن الظالم فيما وراء ظلمه معصوم والانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز التسوية والتعدي خصوصاً في حال الحرب والتهاب الحمية فربما صار المظلوم عند الإقدام على استيفاء القصاص ظالماً وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم قال

فيقوم خلق فقال لهم ما أجركم على الله فيقولون نحن الذين عفونا عمن ظلمنا فيقال لهم ادخلوا الجنة بإذن الله تعالى ) الثاني أنه تعالى لما حث على العفو عن الظالم أخبر أنه مع ذلك لا يحبه تنبيهاً على أنه إذ كان لا يحبه ومع ذلك فإنه يندب على عفوه فالمؤمن الذي هو حبيب الله بسبب إيمانه أولى أن يعفو عنه
ثم قال تعالى وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أي ظالم الظالم إياه وهذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول فَأُوْلَئِكَ يعني المنتصرين مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ كعقوبة ومؤاخذة لأنهم أتوا بما أبيح لهم من الانتصار واحتج الشافعي رضي الله تعالى عنه بهذه الآية في بيان أن سراية القود مهدرة فقال الشرع إما أن يقال إنه أذن له في القطع مطلقاً أو بشرط عدم السريان وهذا الثاني باطل لأن الأصل في القطع الحرمة فإذا كان تجويزه معلقاً بشرط عدم السريان وكان هذا الشرط مجهولاً وجبأن يبقى ذلك القطع على أصل الحرمة لأن الأصل فيها هو الحرمة والحل إنما يحصل معلقاً على شرط مجهول فوجب أن يبقى ذبك أصل الحرمة وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الشرع أذن له في القطع كيف كان سواء سرى أو لم يسر وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون ذلك السريان مضموناً لأنه قد انتصر من بعد ظلمه فوجب أن لا يحصل لأحد عليه سبيل
ثم قال إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي يبدأون بالظلم وَيَبْغُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
ثم قال تعالى وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ يعني أن عزمه على ترك الانتصار لمن عزم الأمور الجيدة وحذف الراجع لأنه مفهوم كما حذف من قولهم السمن منوان بدرهم ويحكى أن رجلاً سب رجلاً في مجلس الحسن فكان المسبوب يكظم ويعرقة فيمسح العرق ثم قام وتلا هذه الآية فقال الحسن عقلها والله وفهمها لما ضيعها الجاهلون
ثم قال تعالى وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِى ّ مّن بَعْدِهِ أي فليس له من ناصر يتولاه من بعد خذلانه أي من بعد إضلاه الله أياه وهذا صريح في جواز الإضلال من الله تعالى وفي أن الهداية ليست في مقدور أحد سوى الله تعالى قال القاضي المراد من يضلل الله عن الجنة فما له من ولي من بعده ينصره والجواب أن تتقيد الإضلال بهذه الصورة المعينة خلاف الدليل وأيضاً فاللهتعالى ما أضله عن الجنة على قولكم بل هوأضل نفسه عن الجنة
ثم قال تعالى وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ والمراد أنهم يطلبون لرجوع إلى الدنيا لعظم ما يشاهدون من العذاب ثم ذكر حالهم عند عرض النار عليهم فقال وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلّ أي حال كونهم خاشعين حقيرين مهانين بسبب ما لحقهم من الذل ثم قال يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِى ّ أي يبتدىء نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفي بمسارقة كما ترى الذي يتيقن أن يقتل فإنه ينظر إلى السيف كأنه لا يقدر على أن يفتح أجفانه عليه ويملأ عينيه منه كما يفعل في نظره إلى الحبوبات فإن قيل أليس أنه تعالى قال في صفة الكفار إنهم يحشرون عمياً فكيف قال ههنا إنهم ينظرون من طرف خفي قلنا لعلهم يكونون في الابتداء هكذا ثم يجعلون عميا أو لعل هذا في قوم وذلك

في قوم آخرين ولما وصف الله تعالى حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال وَقَالَ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ قال صاحب ( الكشاف ) يَوْمُ الْقِيَامَة ِ إما أن يتعلق بخسروا أو يكون قول المؤمنين واقعاً في الدنيا وإما أن يتعلق بقال أي يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة
ثم قال أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ أي دائم قال القاضي وهذا يدل على أن الكافر والفاسق يدوم عذابهما والجواب أن لفظ الظالم المطلق في القرآن مخصوص بالكفر قال تعالى وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( البقرة 254 ) والذي يؤكد هذا أنه تعالى قال بعده هذه الآية وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مّن اللَّهِ والمعنى أن الأصنام التي كانوا يعبدونها لأجل أن تشفع لهم عند الله تعالى ما أتوا بتلك الشفاعة ومعلوم أن هذا لا يليق إلا بالكفار ثم قال وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ وذلك يدل على أن المضل والهادي هو الله تعالى على ما هو قولنا ومذهبنا والله أعلم
اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَة ً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعد والوعيد ذكر بعده ما هو المقصود فقال اسْتَجِيبُواْ لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ وقوله مِنَ اللَّهِ يجوز أن يكون صلة لقوله لاَّ مَرَدَّ لَهُ يعني لا يرده الله بعد ما حكم به ويجوز أن يكون صلة لقوله يَأْتِى َ أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده واختلفوا في المراد بذلك اليوم فقيل يوم ورود الموت وقيل يوم القيامة لأنه وصف ذلك اليوم بأنه لا مرد له وهذا الوصف موجود في كلا اليومين ويحتمل أن يكون معنى قوله لاَّ مَرَدَّ لَهُ أنه لا يقبل التقديم والتأخير أو أن يكون معناه أن لا مرد فيه إلى حال التكليف حتى يحصل فيه التلافي
ثم قال تعالى في وصف ذلك اليوم مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ ينفع في التخلص من العذاب وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ ممن ينكر ذلك حتى يتغير حالكم بسبب ذلك المنكر ويجوز أن يكون المراد من النكير الإنكار أي لا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما افترفتموه من الأعمال فَإِنْ أَعْرَضُواْ أي هؤلاء الذين أمرتهم بالاستجابة أي لم

يقبلوا هذا الأمر فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً بأن تحفظ أعمالهم وتحصيها إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ وذلك تسلية من الله تعالى ثم أنه تعالى بيّن السبب في إصرارهم على مذاهبهم الباطلة وذلك أنهم وجدوا في الدنيا سعادة وكرامة الفوز بمطالب الدنيا يفيد الغرور والفجور والتكبر وعدم الانقياد للحق فقال وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنسَانَ مِنَّا رَحْمَة ً فَرِحَ بِهَا ونعم الله في الدنيا وإن كانت عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى السعادات المعدة في الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سماها ذوقاً فبيّن تعالى أن الإنسان إذا فاز بهذا القدر الحقير الذي حصل في الدنيا فإنه يفرح بها ويعظم غروره بسببها ويقع في العجب والكبر ويظن أنه فاز بكل المنى ووصل إلى أقاصي السعادات وهذه طريقة من يضعف اعتقاده في سعادات الآخرة وهذه الطريقة مخالفة لطريقة المؤمن الذي لا يعد نعم الدنيا إلا كالوصلة إلى نعم الآخرة ثم بيّن أنه متى أصبتهم سيئة أي شيء يسوءهم في لحال كالمرض والفقر وغيرهما فإنه يظهر منه الكفر وهو معنى قوله فَإِنَّ الإنسَانَ والكفور الذي يكون مبالغاً في الكفران ولم يقل فإنه كفور ليبين أن طبيعة الإنسان تقتضي هذه الحالة إلا إذا أدبها الرجل بالآداب التي أرشد الله إليها ولما ذكر الله إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها أتبع ذلك بقوله للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمقصود منه أن لا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه بل إذا علم أن الكل ملك الله ومله وأنه إنما حصل ذلك القدر تحت يده لأن الله أنعم عليه به فحينئذٍ يصير ذلك حاملاً له على مزيد الطاعة والخدمة وأما إذا اعتقد أن تلك النعم إنما تحصل بسبب عقله وجده واجتهاده بقي مغروراً بنفسه معرضاً عن طاعة الله تعالى ثم ذكر من أقسام تصرف الله في العالم أنه يخص البعض بالأولاد والإناث والبعض بالذكور والبعض بهما والبعض بأن يجعله محروماً من الكل وهو المراد من قوله وجيعل من يشاء عميقاً
واعلم أن أهل الطبائع يقولوه السبب في حدوث الولد صلاح حال النطفة والرحم وسبب الذكورة استيلاء الحرارة وسبب الأنوثة استيلاء البرودة وقد ذكرنا هذا الفصل بالاستقصاء التام في سورة النحل وأبطلناه بالدلائل اليقينية وظهر أن ذكل من الله تعالى لا أنه من الطبائع والأنجم والأفلاك وفي الآسة سؤالات
السؤال الأول أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور فقال وَالاْرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ ثم في الآية الثانية قدم الذكور على الاناث فقال أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً فما السبب في هذا التقديم والتأخير
السؤال الثاني أنه ذكر الإناث على سبيل التنكير فقال يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وذلك الذكور بلفظ التعريف فقال وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ فما السبب في هذا الفرق
السؤال الثالث لم قال في إعطاء الإناث وحدهن وفي إعطاء الذكور وحدهم بلفظ الهبة فقال يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ وقال في إعطاء الصنفين معاً أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً
والسؤال الرابع لما كان حصول الولد هبة من الله فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأي حاجة في عدم حصوله إلى أن يقول وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء
السؤال الخامس هل المراد من هذا الحكم جمع معينون أو المراد الحكم على الإنسان المطلق

والجواب عن السؤال الأول من وجوه الأول أن الكريم يسعى في أن يقع الختم على الخير والراحة والسرور والبهجة فإذا وهب الولد الأنثى أولاً ثم أعطاه الذكر بعده فكأنه نقله من الغم إلى الفرح وهذا غاية الكرم أما إذا أعطى الولد أولاً ثم أعطى الأنثى ثانياً فكأنه نقله من الفرح إلى الغم فذكر تعالى هبة الولد الأنثى أولاً وثانياً هبة الولد الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون ذلك أليق بالكرم الوجه الثاني أنه إذا أعطى الولد الأنثى أولاً علم أنه لا اعتراض له على الله تعالى فيرضى بذلك فإذا أعطاه الولد الذكر بعد ذلك علم أن هذه الزيادة فضل من الله تعالى وإحسان إليه فزيداد شكره وطاعته ويعلم أن ذلك إنما حصل بمحض الفضل والكرم والوجه الثالث قال بعض المذكرين الأنثى ضعيفة ناقصة عاجزة فقدم ذكرها تنبيهاً على أنه كلما كان العجز والحاجة أتم كانت عناية الله به أكثر الوجه الرابع كأنه يقال أيتها المرأة الضعيفة العاجزة إن أباك وأمك يكرهان وجودك فإن كانا قد كرها وجودك فأنا قدمتك في الذكر لتعلمي أن المحسن المكرم هو الله تعالى فإذا علمت المرأة ذلك زادت في الطاعة والخدمة والبعد عن موجبات الطعن والذم فهذه المعاني هي التي لأجلها وقع ذكر الإناث مقدماً على ذكر الذكور وإنما قدم ذكر الذكور بعد ذلك على ذكر الإناث لأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى والأفضل الأكمل مقدم على الأخس الأرذل والحاصل أن النظر إلى كونه ذكراً أو أنثى يقتضي تقديم ذكر الذكر على ذكر الأنثى أما العوارض الخارجية التي ذكرناها فقد أوجبت تقديم ذكر الأنثى على ذكر الذكر فلما حصل المقتضي للتقديم والتأخير في البابين لا جرم قدم هذا مرة وقدم ذلك مرة أخرى والله أعلم
وأما السؤال الثاني وهو قوله لم عبر عن الإناث بلفظ التنكير وعن الذكور بلفظ التعريف فجوابه أن المقصود منه التنبيه على كون الذكر أفضل من الأنثى
وأما السؤال الثالث وهو قوله لم قال تعالى في إعطاء الصنفين الذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً فجوابه أن كل شيئين يقرن أحدهما بالآخر فهما زوجان وكل واحد منهما يقال له زوج والكناية في يُزَوّجُهُمْ عائدة على الإناث والذكور التي في الآية الأولى والمعنى يقرن الإناث والذكور فيجعلهم أزواجاً
وأما السؤال الرابع فجوابه أن العقيم هو الذي لا يولد له يقال رجل عقيم لا يلد وامرأة عقيم لا تلد وأصل العقم القطع ومنه قيل الملك عقيم لأنه يقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق
وأما السؤال الخامس فجوابه قال ابن عباس يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً يريد لوطاً وشعيباً عليهم السلام لم يكن لهما إلا النبات وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ يريد إبراهيم عليه السلام لم يكن له إلا الذكور أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً يريد محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان له من البنين أربعة القاسم ولطاهر وعبد الله وإبراهيم ومن البنات أربعة زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً يريد عيسى ويحيى وقال الأكثرون من المفسرين هذ الحكم عام في حق كل الناس لأن المقصود بيان قدرة الله في تكوين الأشياء كيف شاء وأراد فلم يكن للتخصيص معنى والله أعلم ثم ختم الآية بقوله إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ قال ابن عباس عليم بما خلق قدير على ما يشاء أن يخلقه والله أعلم

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِى َ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِى ٌّ حَكِيمٌ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الاٍّ مُورُ
اعلم أنه تعالى لما بيّن كمال قدرته وعلمه وحكمته أتبعه ببيان أنه كيف يخص أنبياءه بوحيه وكلامه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ وما صح لأحد من البشر أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إلا على أحد ثلاثة أوجه إما على الوحي وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام كما أوحى الله إلى أم موسى وإبراهيم عليه السلام في ذبح ولده وعن نجاهد أوحى الله تعالى الزبور إلى داود عليه السلام في صدره وإما على أن يسمعه كلامه من غير واسطة مبلغ وهذا أيضاً وحي بدليل أنه تعالى أسمع موسى كلامه من غير واسطة مع أنه سماه وحياً قوله تعالى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ( طه 13 ) وإما على أن يرسل إليه رسولاً من الملائكة فيبلغ ذلك الملك الذي الوحي إلى الرسول البشري فطريق الحصر أن يقال وصول الوحي من الله إلى البشر إما أن يكون من غير واسطة مبلغ أو يكون بواسطة مبلغ وإذا كان الأول هو أن يصل إليه وحي الله لا بواسطة شخص آخر فههنا إما أن يقال إنه لم يسمع عين كلام الله أو يسمعه أما الأول وهو أنه وصل إليه الوحي لا بواسطة شخص آخر وما سمع عين كلام لله فهو المراد بقوله إِلاَّ وَحْياً وأم الثاني وهو أنه وصل إليه الوحي لا بواسطة شخص آخر ولكنه مسع عين كلام الله فهو المراد من قوله أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ وأما الثالث وهو أنه وصل إليه لوحي بواسطة شخص آخر فهو المراد بقوله أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِى َ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء
واعلم أن كل واحد من هذه الأ ) قسام الثلاثة وحي إلا أنه تعالى خصص القسم الأول باسم الوحي لأن ما يقع في القلب على سبيل الإلهام فهو يقع دفعة فكن تخصيص لفظ الوحي به أولى فهذا هو الكلام في تمييز هذه الأقسام بعضها عن بعض
المسألة الثانية القائلون بأن الله في مكان احتجوا بقوله أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ وذلك لأن التقدير وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا على أحد ثلاثة أوجه أحدها أن يكون الله من وراء حجاب وإنما يصحب ذلك لو كان مختصاً بمكان معين وجهة معينة والجواب أن ظاهر اللفظ وإن أوهم ما ذكرتم إلا أنه دلت الدلائل العقلية والنقلية على أنه تعالى يمتنع حصوله في المكان والجهة فوجب حمل هذا اللفظ على التأويل والمعنى أن الرجل سمع كلاماً مع أنه لا يرى ذلك المتكلم كان ذلك شبيهاً بما إذا تكلم من وراء حجاب والمشابهة سبب لجواز المجاز

المسألة الثالثة قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أنه تعالى لا يرى وذلك لأنه تعالى حصر أقسام وحيه في هذه الثلاثة ولو صحت رؤية الله تعالى لصح من الله تعالى أنه يتكلم مع العبد حال ما يراه العبد فحينئذٍ يكون ذلك قسماً رابعاً زائداً على هذه الأقسام الثلاثة والله تعالى نفى القسم الرابع بقوله وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إلا على هذه الأوجه الثلاثة الجواب نزيد في اللفظ قيداً فيكون التقدير وما كان لبشر أن يكلمه الله في الدنيا إلا على أحد هذه الأقسام الثلاثة وحينئذٍ لا يلزم ما ذكرتموه وزيادة هذا القيد وإن كانت على خلاف الظاهر لكنه يجب المصير إليها للتوفيق بين هذه الآيات وبين الآيات الدالة على حصول الرؤية في يوم القيامة والله أعلم
المسألة الرابعة أجمعت الأمة على أن الله تعالى متكلم ومن سوى الأشعري وأتباعه أطبقوا على أن كلام الله هو هذه الحروف المسموعة والأصوات المؤلفة وأما الأشعري وأتباعه فإنهم زعموا أن كلام الله تعالى صفة قديمة يعبر عنها بهذه الحروف والأصوات
أما الفريق الأول وهم الذين قالوا كلام الله تعالى هو هذه الحروف والكلمات فهم فريقان أحدهما الحنابلة الذين قالوا بقدم هذه الحروف وهؤلاء أخس من أن يذكروا في زمرة العقلاء واتفق أني قلت يوماً لبعضهم لو تكلم الله بهذه الحروف إما أن يتكلم بها دفعة واحدة أو على التعاقب والتوالي والأول باطل لأن التكلم بجملة هذه الحروف دفعة واحدة لا يفيد هذا النظم المركب على هذ التعاقب والتوالي فوجب أن لا يكون هذا النظم المركب من هذه الحروف المتوالية كلام الله تعالى والثاني باطل لأنه تعالى لو تكلم بها على التوالي والتعاقب كانت محدثة ولما سمع ذلك لرجل هذا الكلام قال لواجب علينا أن نقر ونمر يعني نقر بأن القرآن قديم ونمر على هذا الكلام على وفق ما سمعناه فتعجبت من سلامة قلب ذلك القائل وأما العقلاء من الناس فقد أطبقوا على أن هذه الحروف والأصوات كائنة بعد أن لم تكن حاصلة بعد أن كانت معدومة ثم اختلفت عباراتهم في أنها هل هي مخلوقة أو لا يقال ذلك بل يقال إنها حادثة أو يعبر عنها بعبارة أخرى واختلفوا أيضاً في أن هذه الحروف هل هي قائمة بذات الله تعالى أو يخلقها في جسم آخر فالأول هو قول الكرامية والثاني قول المعتزلة وأما الأشعرية الذين زعموا أن كلام الله صفة قديمة تدل عليها هذه الألفاظ والعبارات فقد اتفقوا على أن قوله أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ هو أن الملك والرسول يسمع ذلك الكلام المنزّه عن الحرف والصوت من وراء حجاب قالوا وكما لا يبعد أن ترى ذات الله مع أنه ليس بجسم ولا في حيز فأي بعد في أن يسمع كلام الله مع أنه لا يكون حرفاً ولا صوتاً وزعم أبو منصور الماتريدي السمرقندي أن تلك الصفة القائمة يمتنع كونها مسموعة وإنما المسموع حروف وأصوات يخلقها الله تعالى في الشجرة وهذا القول قريب من قول المعتزلة والله أعلم
المسألة الخامسة قال القاضي هذه الآية تدل على حدوث كلام الله تعالى من وجوه الأول أن قوله تعالى أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ يدل عليه لأن كلمة أن مع المضرع تفيد الاستقبال الثاني أنه وصف الكلام بأنه وحي لأن لفظ الوحي يفيد أنه وقع على أسرع الوجوه الثالث أن قوله أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِى َ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء يقتضي أن يكون الكلام الذي يبلغه الملك إلى الرسول البشر مثل الكلام الذي سمعه من الله والذي يبلغه إلى الرسول البشري حادث فلما كان الكلام الذي سمعه من الله مماثلاً لهذا الذي بلغه إلى الرسول

البشري وهذا الذي بلغه إلى الرسول البشري حادث ومثل الحادث حادث وجب أن يقال إن الكلام الذي سمعه من الله حادث الرابع أن قوله أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِى َ يقتضي كون الوحي حاصلاً بعد الإرسال وما كان حصوله متأخراً عن حصول غيره كان حادثاً والجواب أنا نصرف جملة هذه الوجوه التي ذكرتموها إلى الحروف والأصوات ونعترف بأنها حادثة كائنة بعد أن لم تكن وبديهة العقل شاهدة بأن الأمر كذلك فأي حاجة إلى إثبات هذا المطلوب الذي علمت صحته ببديهة العقل وبظواهر القرآن والله أعلم
المسألة السادسة ثبت أن الوحي من الله تعالى إما أن لا يكون بواسطة شخص آخر ويمتنع أن يكون كل وحي حاصلاً بواسطة شخص آخر وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور هما محالان فلا بد من الاعتراف بحصول وحي يحصل لا بواسطة شخص آخر ثم ههنا أبحاث
البحث الأول أن الشخص الأول الذي سمع وحي الله لا بواسطة شخص آخر كيف يعرف أن الكلام الذي سمعه كلام الله فإن قلنا إنه سمع تلك الصفة القديمة المنزّنة عن كونها حرفاً وصوتاً لم يبعد أنه إذا سمعها علم بالضرورة كونها كلام الله تعالى ولم يبعد أن يقال إنه يحتاج بعد ذلك إلى دليل زائد أما إن قلنا إن المسموع هو الحرف والصوت امتنع أن يقطع بكونه كلاماً لله تعالى إلا إذا ظهرت دلالة على أن ذلك المسموع هو كلام الله تعالى
البحث الثاني أن الرسول إذاسمعه من الملك كيف يعرف أن ذلك المبلغ ملك معصوم لا شيطان مضل والحق أنه لا يمكنه القطع بذلك إلا بناء على معجزة تدل على أن ذلك المبلغ ملك معصوم لا شيطان خبيث وعلى هذا التقدير فالوحي من الله تعالى لا يتم إلا بثلاث مراتب في ظهور المعجزات
المرتبة الأولى أن الملك إذا سمع ذلك الكلام من الله تعالى فلا بد له من معجزة تدل على أن ذلك الكلام كلام الله تعالى
المرتبة الثانية أن ذلك الملك إذا وصل إلى الرسول لا بد له أيضاً من معجزة
المرتبة الثالثة أن ذلك الرسول إذا أوصله إلى الأمة فلا بد له أيضاً من معجزة فثبت أن التكليف لا يتوجه على الخلق إلا بعد وقوع ثلاث مراتب في المعجزات
البحث الثالث أنه لا شك أن ملكاً من الملائكة قد سمع الوحي من الله تعالى ابتداء فذلك الملك هو جبريل ويقال لعل جبريل سمعه من ملك آخر فالكل محتمل ولو بألف واسطة ولو يوج ما يدل على القطع بواحد من هذه الوجوه
البحث الرابع هل في البشر من سمع وحي الله تعالى من غير واسطة المشهور أن موسى عليه السلام سمع كلام الله من غير واسطة بدليل قوله تعالى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ( طه 13 ) وقيل إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) سمعه أيضاً لقوله تعالى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( النجم 10 )
البحث الخامس أن الملائكة يقدرون على أن يظهروا أنفسهم على أشكال مختلفة فبتقدير أن يراه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في كل مرة وجب أن يحتاج إلى المعجزة ليعرف أن هذا الذي رآه في هذه المرة عين ما رآه في المرة الأولى وإن كان لا يرى شخصه كانت الحاجة إلى المعجزة أقوى لاحتمال أنه حصل الاشتباه في

الصوت إلا أن الإشكال في أن الحاجة إلى إظهار المعجزة في كل مرة لم يقل به أحد
المسألة السابعة دلّت المناظرات المذكورة في القرآن بين الله تعالى وبين إبليس على أنه تعالى كان يتكلم مع إبليس من غير واسطة فذلك هل يسمى وحياً من الله تعالى إلى إبليس أو لا الأظهر منعه ولا بد في هذا الموضع من بحث غامض كامل
المسألة الثامنة قرأ نافع أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً برفع اللام فيوحي بسكون الياء ومحله رفع على تقدير وهو يرسل فيوحي والباقون بالنصب على تأويل المصدر كأنه قيل ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً إو إسماعاً لكلامه من وراء حجاب أو يرسل لكن فيه إشكال لأن قوله وحياً أو إسماعاً اسم وقوله أَوْ يُرْسِلَ فعل وعطف الفعل على الاسم قبيح فأجيب عنه بأن التقدير وما كان لبشر أن يكلمه إلا أن يوحي إليه وحياً أو يسمع إسماعاً من وراء حجاب أو يرسل رسولاً
المسألة التاسعة الصحيح عند أهل الحق أن عندما يبلغ الملك الوحي إلى الرسول لا يقدر الشيطان على إلقاء الباطل في أثناء ذلك الوحي وقال بعضهم يجوز ذلك لقوله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى الشفاعة ترتجى وكان صديقنا الملك سام بن محمد رحمه الله وكان أفضل من لقيته من أرباب السلطنة يقول هذا الكلام بعد الدلائل القوية القاهرة باطل من وجهين آخرين الأول أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بصورتيا ) فإذا لم يقدر الشيطان على أن يتمثل في المنام بصورة الرسول فكيف قدر على التشبه بجبريل حال اشتغال تبليغ وحي الله تعالى والثاني أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما سلك عمر فجاً إلا وسلك الشيطان فجاً آخر ) فإذا لم يقدر الشيطان أن يحضر مع عمر في فج واحد فكيف يقدر على أن يحضر مع جبريل في موقف تبليغ وحي الله تعالى
المسألة العاشرة قوله تعالى فيوحي بإذنه ما يشاء يعني فويحي ذلك الملك بإذن الله ما يشاء الله وهذا يقتضي أن الحسن لا يحسن لوجه عائد عليه وأن القبيح لا يقبح لوجه عائد إليه بل لله أن يأمر بما يشاء من غير تخصيص وأن ينهى عما يشاء من غير تخصيص إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما صح قوله مَا يَشَاء والله أعلم
ثم قال تعالى في آخر الآية إِنَّهُ عَلِى ٌّ حَكِيمٌ يعني أنه علي عن صفات المخلوقين حكيم يجري أفعاله على موجب الحكمة فيتكلم تارة بغير واسطة على سبيل الإلهام وأخرى بإسماع الكلام وثالثاً بتوسيط الملائكة الكرام ولما بيّن الله تعالى كيفية أقسام الوحي إلى الأنبياء عليهم السلام قال وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا والمراد به القرآن وسماه روحاً لأنه يفيد الحياة من موت الجهل أو الكفر
ثم قال تعالى مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ واختلف العلماء في هذه الآية مع الإجماع على أنه لا يجوز أن يقال الرسل كانوا قبل الوحي على الكفر وذكروا في الجواب وجوهاً الأول مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ أي القرآن وَلاَ الإِيمَانُ أي الصلاة لقوله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( البقرة 143 )

أي صلاتكم الثاني أن يحمل هذا على حذف المضاف أي ما كنت تدري ما الكتاب ومن أهل الإيمان يعني من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن الثالث ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان حين كنت طفلاً في المهد الرابع الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف الله تعالى به وإنه قبل النبوّة ما كان عارفاً بجميع تكاليف الله تعالى بل إنه كان عارفاً بالله تعالى وذلك لا ينافي ما ذكرناه الخامس صفات الله تعالى على قسمين منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقل ومنها ما لا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النبوّة
ثم قال تعالى وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا واختلفوا في الضمير في قوله وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ منهم من قال إنه راجع إلى القرآن دون الإيمان لأنه هو الذي يعرف به الأحكام فلا جرم شبه بالنور الذي يهتدي به ومنهم من قال إنه راجع إليهما معاً وحسن ذلك لأن معناهما واحد كقوله تعالى وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا ( الجمعة 11 )
ثم قال نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وهذا يدل على أنه تعالى بعد أن جعل القرآن نفسه في نفسه هدى ً كما قال هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) فإنه قد يهدي به البعض دون البعض وهذه الهداية ليست إلا عبارة عن الدعوة وإيضاح الأدلة لأنه تعالى قال في صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وهو يفيد العموم بالنسبة إلى الكل وقوله نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا يفيد الخصوص فثبت أن الهداية بمعنى الدعوة عامة والهداية في قوله نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا خاصة والهداية الخاصة غير الهداية العامة فوجب أن يكون المراد من قوله نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا أمراً مغايراً لإظهار الدلائل ولإزالة الأعذار ولا يجوز أيضاً أن يكون عبارة عن الهداية إلى طريق الجنّة لأنه تعالى قال وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا أي جعلنا القرآن نوراً نهدي به من نشاء وهذا لا يليق إلا بالهداية التي تحصل في الدينا وأيضاً فالهذاية إلى الجنّة عندكم في حق البعض واجب وفي حق الآخرين محظور وعلى التقديرين فلا يبقى لقوله مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا فائدة فثبت أن المراد أنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ولا اعتراض عليه فيه
ثم قال تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ فبيّن تعالى أنه كما أن القرآن يهدي فكذلك الرسول يهدي وبيّن أنه يهدي إلى صراط مستقيم وبيّن أن ذلك الصراط هو صِراطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ نبّه بذلك على أن الذي تجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض والغرض منه إبطال قول من يعبد غير الله
ثم قال أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الاْمُورُ وذلك كالوعيد والزجر فبيّن أن أمر من لا يقبل هذه التكاليف يرجع إلى الله تعالى أي إلى حيث لا حاكم سواه فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب

سورة الزخرف
وهي تسع وثمانون آية مكية
بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِى ٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الاٌّ وَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِى ٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الاٌّ وَّلِينَ
اعلم أن قوله حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ يحتمل وجهين الأول أن يكون التقدير هذه حام والكتاب المبين فيكون القسم واقعاً على أن هذه السورة هي سورة حام ويكتن قوله إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً ابتداء لكلام رخر الثاني أن يكون التقدير هذه حام
ثم قال وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً فيكون المقسم عليه هو قوله إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً وفي المراد بالكتاب قولان أحدهما أن المراد به القرآن وعلى هذا التقدير فقد أقسم بالقرآن أنه جعله عربياً الثاني أن المراد بالكتاب الكتابة والخط وأقسم بالكتابة لكثرة ما فيثا من المنافع فإن العلوم إنما تكاملت بسبب الخط فإن المتقدم إذا استنبط علماً وأثبته في كتاب وجاء المتأخر ووقف عليه أمكنه أن يزيد في استنباط الفوائد فبهذا الطريق تكاثرت الفوائد وانتهت إلى الغايات العظيمة وفي وصف الكتاب بكونه مبيناً من وجوه الألأل أنه المبين للذين أنزل إليهم لأنه بلغتهم ولسانهم والثاني المبين هو الذي

أبان طريق الهدى من طريق الضلالة وأبان كل باب عما سواه وجعلها مفصلة ملخصة
واعلم أن وصفه بكونه مبيناً نجاز لأن المبين هو الله تعالى وسمي القرآن بذلك توسعاً من حيث إنه حصل البيان عنده
أما قوله إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى القائلون بحدوث القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه الأول أن الآية تدل على أن القرآن مجعول والمجعول هو المصنوع المخلوق فإن قالوا لم لا يجوز أن يكون المراد أنه سماه عربياً قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول أنه لو كان المراد بالجعل هذا لوجب أن من سماه عجمياً أن يصير عجمياً وإن كان بلغة العرب ومعلوم أنه باطل الثاني أنه لو صرف الجعل إلى التسمية لزم كون التسمية مجعولة والتسمية أيضاً كلام الله وذلك يوجب أنه فعل بعض كلامه وإذا صح ذلك في البعض صح في الكل الثاني أنه وصفه بكونه قرآناً وهو إنما سمي قرآناً لأنه جعل بعضه مقروناً بالبعض وما كان كذلك كان مصنوعاً معمولاً الثالث أنه وصفه بكونه عربياً وهو إنما كان عربياً لأن هذه الألفاظ إنما اختصت بمسمياتهم بوضع العرب واصطلاحاتهم وذلك يدل على كونه معمولاً ومجعولاً والرابع أن القسم بغير الله لا يجوز على ما هو معلوم فكان التقدير حام ورب الكتاب المبين وتأكد هذا أيضاً بما روي أنه عليه السلام كان يقول يا رب طه وياس ويا رب القرآن العظيم والجواب أن هذا الذي ذكرتموه حق وذلك لأنكم إنما استدللتم بهذه الوجوه على كون هذه الحروف المتوالية والكلمات المتعاقبة محدثة مخلوقة وذلك معلوم بالضرورة ومن ينازعكم فيه بل كان كلامكم يرجع حاصله إلى إقامة الدليل على ما عرف ثبوته بالضرورة
المسألة الثانية كلمة لعلّ للتمني والترجي وهو لا يليق بمن كان عالماً بعواقب الأمور فكان المراد منها هاهنا كي أي أنزلناه قرآناً عربياً لكي تعقلوا معناه وتحيطوا بفحواه قالت المعتزلة فصار حاصل الكلام إنا أنزلناه قرآناً عربياً لأجل أن تحيطوا بمعناه وهذا يفيد أميرين أحدهما أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض والدواعي والثاني أنه تعالى إنما أنزل القرآن ليهتدي به الناس وذلك يدل على أنه تعالى أراد من الكل الهداية والمعرفة خلاف قول من يقول إنه تعالى أراد من البعض الكفر والإعراض واعلم أن هذا النوع من استدلالات المعتزلة مشهور وأجوبتنا عنه مشهورة فلا فائدة في الإعادة والله أعلم
المسألة الثالثة قوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يدل على أن القرآن معلوم وليس فيه شيء مبهم مجهول خلافاً لمن يقول بعضه معلوم وبعضه مجهول
ثم قال تعالى وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِى ٌّ حَكِيمٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي أُمُّ الْكِتَابِ بكسر الألف والباقون بالضم
المسألة الثانية الضمير في قوله وَأَنَّهُ عائد إلى الكتاب الذي تقدم ذكره في أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا واختلفوا في المراد بأم الكتاب على قولين فالقول الأول إنه اللوح المحفوظ لقوله بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( البروج 22 )

واعلم أن على هذا التقدير فالصفات المذكورة ههنا كلها صفات اللوح المحفوظ
الصفة الأولى أنه أم الكتاب والسبب فيه أن أصل كل شيء أمه والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ ثم نقل إلى سماء الدنيا ثم أنزل حالاً بحسب المصلحة عن ابن عباس رضي الله عنه ( إن أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق ) فالكتاب عنده فإن قيل وما الحكمة في خلق هذا اللوح المحفوظ مع أنه تعالى علاّم الغيوب ويستحيل عليه السهو والنسيان قلنا إنه تعالى لما أثبت في ذلك أحكام حوادث المخلوقات ثم إن الملائكة يشاهدون أن جميع الحوادث إنما تحدث على موافقة ذلك المكتوب استدلوا بذلك على كمال حكمة الله وعلمه
الصفة الثانية من صفات اللوح المحفوظ قوله لَدَيْنَا هكذا ذكره ابن عباس و ( إنما خصه الله تعالى بهذا التشريف لكونه كتاباً جامعاً لأحوال جميع المحدثات فكأنه الكتاب المشتمل على جميع ما يقع في ملك الله وملكوته فلا جرم حصل له هذا التشريف قال الواحدي ويحتمل أن يكون هذا صفة القرآن والتقدير إنه لدينا في أم الكتاب
الصفة الثالثة كونه علياً والمعنى كونه عالياً عن وجوه الفساد والبطلان وقيل المراد كونه عالياً على جميع الكتب بسبب كونه معجزاً باقياً على وجه الدهر
الصفة الرابعة كونه حكيماً أي محكماً في أبواب البلاغة والفصاحة وقيل حكيم أي ذو حكمة بالغة وقيل إن هذه الصفات كلها صفات القرآن على ما ذكرناه والقول الثاني في تفسير أم الكتاب أنه الآيات المحكمة لقوله تعالى هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ مِنْ أُمَّة ٍ الْكِتَابِ ( آل عمران 7 ) ومعناه أن سورة حام واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم
ثم قال تعالى أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحمزة والكسائي إِن كُنتُمْ بكسر الألف تقديره ءن كنتم مسرفين لا نضرب عنكم الذكر صفحاً وقيل ( إن ) بمعنى إذ كقوله تعالى وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( البقرة 278 ) وبالجملة فالجزاء مقدم على الشرط وقرأ الباقون بفتح الألف على التعليل أي لأن كنتم مسرفين
المسألة الثانية قال الفرّاء والزجاج يقول ضربت عنه وأضربت عنه أي تركته وأمسكت عنه وقوله صَفْحاً أي إعراضاً والأصل فيه أنك توليت بصفحة عنقك وعلى هذا فقوله أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذّكْرَ صَفْحاً تقديره أفنضرب عنكم إضرابنا أو تقديره أفنصفح عنكم صفحاً واختلفوا في معنى الذكر فقيل معناه أفنرد عنكم ذكر عذاب الله وقيل أفنرد عنكم النصائح والمواعظ وقيل أفنرد عنكم القرآن وهذا استفهام رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة إذا عرفت هذا فنقول هذا الكلام يحتمل وجهين الأول الرحمة يعني أن لا نترككم مع سوء اختياركم بل نذكركم ونعظكم إلى أن ترجعوا إلى الطريق الحق الثاني المبالغة في التغليظ يعني أتظنون أن تتركوا مع ما

تريدون كلا بل نلزمكم العمل وندعوكم إلى الدين ونؤاخذكم متى أخللتم بالواجب وأقدمتم على القبيح
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) الفاء في قوله أَفَنَضْرِبُ للعطف على محذوف تقديره أنهملكم فنضرب عنكم الذكر
ثم قال تعالى وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ فِى الاْوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نَّبِى ّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ والمعنى أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء فلا ينبغي أن تتأذى من قومك بسبب إقدامهم على التكذيب والاستهزاء لأن المصيبة إذا عمت خفت
ثم قال تعالى فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً يعني أن أولئك المتقدمين الذين أرسل الله إليهم الرسل كانوا أشد بطشاً من قريش يعني أكثر عدداً وجلداً ثم قال وَمَضَى مَثَلُ الاْوَّلِينَ والمعنى أن كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم فقد ضربنا لهم مثلهم كما قال وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الاْمْثَالَ ( الفرقان 39 ) وكقوله وَسَكَنتُمْ فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ إلى قوله وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامْثَالَ ( إبراهيم 45 ) والله أعلم
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِى خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالاٌّ نْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَة َ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ
اعلم أنه قد تقدم ذكر المسرفين وهم المشركون وتقدم أيضاً ذكر الأنبياء فقوله ولئن سألتهم يحتمل أن يرجع إلى الأنبياء ويحتمل أن يرجع إلى الكفار إلا أن الأقرب رجوعه إلى الكفار فبيّن تعال أنهم مقرون بأن خالق السماوات والأرض وما بينهما هو الله العزيز الحكيم والمقصود أنهم مع كونهم مقرين بهذا المعنى يعبدون معه غيره وينكرون قدرته على البعث وقد تقدم الإخبار عنهم ثم إنه تعالى ابتدأ دالاً على نفسه بذكر مصنوعاته فقال الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً ولو كان هذا من

جملة كلام الكفار ولوجب أن يقولوا الذي جعل لنا الأرض مهداً ولأن قوله في أثناء الكلام فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً لا يتعلق إلا بكلام الله ونظيره من كلام الناس يأن يسمع الرجل رجلاً يقول الذي بنى هذا المسجد فلان العالم فيقول السامع لهذا الكلام الزاهد الكريم كأن ذلك السامع يقول أنا أعرفه بصفات حميدة فوق ما تعرفه فأزيد في وصفه فيكون النعتان جميعاً من رجلين لرجل واحد إذا عرفت كيفية النظم في الآية فنقول إنها تدل على أنواع من صفات الله تعالى
الصفة الأولى كونه خالقاً للسموات والأرض والمتكلمون بينوا أن أول العمل بالله العلم بكونه محدثاً للعالم فاعلاً له فلهذا السبب وقع الابتداء بذكر كونه خالقاً وهذاإنما يتم إذا فسرنا الخلق بالإحداث والإبداع
الصفة الثانية العزيز وهو الغالب وما لأجله يحصل المكنة من الغلبة هو القدرة وكان العزيز إشارة إلى كمال القدرة
الصفة الثالثة العليم وهو إشارة إلى كمال العلم واعلم أن كمال العلم والقدرة إذا حصل كان الموصوف به قادراً على خلق جميع الممكنات فلهذا المعنى أثبت تعالى كونه موصوفاً بهاتين الصفتين ثم فرع عليه سائر التفاصيل
الصفة الرابعة قوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن كون الأرض مهداً إنما حصل لأجل كونها واقفة ساكنة ولأجل كونها موصوفة بصفات مخصوصة باعتبارها يمكن الانتفاع بها في الزراعة وبناء الأبنية في كونها ساترة لعيوب الأحياء والأموات ولما كان المهد موضع الراحة للصبي جعل الأرض مهداً لكثرة ما فيها من الراحات
الصفة الخامسة قوهل وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً والمقصود أن انتفاع الناس إنما يكمل إذا قدر كل أحد أن يذهب من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم ولولا أن الله تعالى هيأ تلك السبل ووضع عليها علامات مخصوصة وإلا لما حصل هذا الانتفاع
ثم قال تعالى لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ يعني المقصود من وضع السبل أن يحصل لكم المكنة من الاهتداء والثاني المعنى لتهتدوا إلى الحق في الدين
الصفة السادسة قوله تعالى وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً وههنا مباحث أحدها أن ظاهر هذه الآية يقتضي أن الماء ينزل من السماء فهل الأمر كذلك أو يقال إنه ينزل من السحاب وسمي نازلاً من السماء لأن كل ماسماك فهو سماء وهذا البحث قد مرّ ذكره بالاستقصاء وثانيها قوله بِقَدَرٍ أي إنما ينزل من السماء بقدر ما يحتاج إليه أهل تلك البقعة من غير زيادة ولا نقصان لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم بل يقدر حتى يكون معاشاً لكم ولأنعامكم وثالثها قوله فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً أي خالية من النبات فأحييناها وهو الإنشار
ثم قال كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ يعني أن هذا الدليل كما يدل على قدرة الله وحكمته فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة ووجه التشبيه أنه يجعلهم أحياء بعد الإماتة كهذه الأرض التي أنشرت بعد ما كانت

ميتة وقال بعضهم بل وجه التشبيه أن يعيدهم ويخرجهم من الأرض بماء كالمني كما تنبت الأرض بماء المطر وهذا الوجه ضعيف لأنه ليس في ظاهر اللفظ إلا إثبات الإعادة فقط دون هذه الزيادة
الصفة السابعة قوله تعالى وَالَّذِى خَلَقَ الازْواجَ كُلَّهَا قال ابن عباس الأزاج الضروب والأنواع كالحلو الحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى وقال بعض المحققين كل ما سوى الله فهو زوج كالفوق والتحت واليمين واليسار والقدام والخلف والماضي والمستقبل والذوات والصفات والصيف والشتاء والربيع والخريف وكونها أزواجاً يدل على كونها ممكنة الوجود في ذواتها مخدثة مسبوقة بعدم فأما الحق سبحانه فهو الفرد المنزّه عن الشد والند والمقابل والمعاضد فلهذا قال سبحانه وَالَّذِى خَلَقَ الاسْمَاء كُلَّهَا أي كل ما هو زوج فهو مخلوق فدل هذا على أن خالقها فرد مطلق منزّه عن الزوجية وأقول أيضاً العلماء بعلم الحساب بينوا أن الفرد أفضل من الزوج من وجوه الأول أن أقل الأزواج هو الإثنان وهو لا يوجد إلا عند حصول وحدتين فالزوج يحتاج إلى الفرد وهو الوحدة غنية عن الزوج والغني أفضل من المحتاج الثاني أن الزوج يقبل القسمة بقسمين متساويين والفرد هو الذي لا يقل القسمة وقبول القسمة انفعال وتأثر وعدم قبولها قوة وشدة ومقاومة فكان الفرد أفضل من الزوج الثالث أن العدد الفرد لا بد وأن يكون أحد قسميه زوجاً والثاني فرداً فالعدد الفرد حصل فيه الزوج والفرد معاً وأما العدد الزوج فلا بد وأن يكون كل واحد من قسميه وزجاً والمشتمل على القسمين أفضل من الذي لا يكون كذلك الرابع أن الزوجية عبارة عن كون كل واحد من قسميه معادلاً للقسم الآخر في الذات والصفات والمقدار وإذا كان كل ما حصل له من الكمال فمثله حاصل لغيره لم يكن هو كاملاً على الإطلاق أما الفرد فالفردية كائنة له خاصة لا لغيره ولا لمثله فكماله حاصلاً له لا لغيره فكان أفضل الخامس أن الزوج لا بد وأن يكون كل واحد من قسميه مشاركاً للقسم الآخر في بعض الأمور ومغايراً له في أمور أخرى وما به المشاركة غير ما به المخالفة فكل زوجين فهما ممكنا الوجود لذاتيهما وكل ممكن فهو محتاج فثبت أن الزوجية منشأ الفقر والحاجة وأما الفردانية فهي منشأ الاستغناء والاستقلال لأن العدد محتاج إلى كل واحد من تلك الوحدات وأما كل واحد من تلك الوحدات فإنه غني عن ذلك العدد فثبت أن الأزواج ممكنات ومحدثات ومخلوقات وأن الفرد هو القائم بذاته المستقبل بنفسه الغين عن كل ما سواه فلهذا قال سبحانه وَالَّذِى خَلَقَ الازْواجَ كُلَّهَا
الصفة الثامنة قوله وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْفُلْكِ وَالاْنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ وذلك لأن السفر إما سفر البحر أو البر أما سفر البحر فالحامل هو السفينة وأما سفر البر فالحامل هو الأنعام وههنا سؤالان
السؤال الأول لم لم يقل على ظهورها أجابوا عنه من وجوه الأول قال أبو عبيدة التذكير لقوله ما والتقدير ما تركبون الثاني قال الفرّاء أضاف الظهور إلى واحد فيه معنى الجمع بمنزل الجيش والجند ولذلك ذكر وجمع الظهور الثالث أن هذا التأنيث ليس تأنيثاً حقيقياً فجاز أن يختلف اللفظ فيه كما يقال عندي من النساء من يوافقك
السؤال الثاني يقال ركبوا الأنعام وركبوا في الفلك وقد ذكر الجنسين فكيف قال تركبون والجواب غلب المتعدي بغير واسطة لقوته على المعتدي بواسطة
ثم قال تعالى ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَة َ رَبّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ومعنى ذكر نعمة الله أن يذكروها في

قلوبهم وذلك الذكر هو أن يعرف أن الله تعالى خلق وجه البحر وخلق الرياح وخلق جرم السفينة على وجه يتمكن الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي جانب شاء وأراد فإذا تذكروا أن خلق البحر وخلق الرياح وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصريفات الإنسان ولتحريكاته ليس من تدبير ذلك الإنسان وإنما هو من تدبير الحكيم العليم القدير عرف أن ذلك نعمة عظيمة من الله تعالى فيحمله ذلك على الانقياد والطاعة له تعالى وعلى الاشتغال بالشكر لنعمه التي لا نهاية لها
ثم قال تعالى وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ
واعلم أنه تعالى عين ذكراً معيناً لركوب السفينة وهو قوله بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ( هود 41 ) وذكراً آخر لركوب الأنعام وهو قوله سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وذكر عند دخول المنازل ذكراً آخر وهو قوله رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ( المؤمنون 29 ) وتحقيق القول فيه أن الدابة التي يركبها الإنسان لا بد وأن تكون أكثر قوة من الإنسان بكثير وليس لها عقل يهديها إلى طاعة الإنسان ولكنه سبحانه خلق تلك البهيمة على وجوه مخصوصة في خلقها الظاهر وفي خلقها الباطن يحصل منها هذا الانتفاع أما خلقها الظاهر فلأنها تمشي على أربع قوائم فكان ظاهرها كالموضع الذي يحسن استقرار الإنسان عليه وأما خلقها الباطن فلأنها مع قوتها الشديدة قد خلقها الله سبحانه بحث تصير منقادة للإنسان ومسخّرة له فإذا تأمل الإنسان في هذه العجائب وغاص بعقله في بحار هذه الأسرار عظم تعجبه من تلك القدرة القاهرة والحكمة غير المتناهية فلا بد وأن يقول سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ قال أبو عبيدة فلان مقرن لفلان أي ضابط له قال الواحدي وكان اشتقاقه من قولك ضرب له قرناً ومعن أنا قرن لفلان أي مثاله في الشدة فكان المعنى أنه ليس عندنا من القوة والطاقة أن نقرن هذه الدابة والفلك وأن نضبطها فسبحان من سخرها لنا بعلمه وحكمته وكمال قدرته روى صاحب ( الكشفا ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان إذا وضع رجليه في الركاب قال ( بسم الله فإذا استوى على الدابة قال الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا إلى قوله لمنقلبون ) وروى القاضي في ( تفسيره ) عن أبي مخلد أن الحسن بن علي عليهما السلام رأى رجلاً ركب دابة فقال سبحان الذي من علينا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والحمد لله الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس ثم تقول سبحان الذي سخر لنا هذا وروي أيضاً عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه كان إذا سافر وركب راحلته كبر ثلاثاً ثم يقول سبحان الذي سخّر لنا هذا ثم قال اللّهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللّهم هون علينا السفر واطوِ عنا بعد الأرض اللّهم أنت الصاحب في السفر والخليفة على الأهل اللّهم أصحبنا في سفرنا وأخلفنا في أهلنا ) وكان إذا رجع إلى أهله يقول ( آيبون تائبون لربنا حامدون ) قال صاحب ( الكشاف ) دلّت هذه الآية على خلاف قول المجبرة من وجوه الأول أنه تعالى قال لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَة َ رَبّكُمْ فذكره بلام كي وهذا يدل على أنه تعالى أراد منا هذا الفعل وهذايدل على بطلان قولهم أنه تعالى أراد الكفر منه وأراد الإصرار على الإنكار الثاني أن قوله لِتَسْتَوُواْ يدل على أن فعله معلل بالأغراض الثالث أنه تعالى بيّن أن خلق هذه الحيوانات على هذه الطبائع إنما كان لغرض أن يصدر الشكر على العبد فلو كان فعل القبد فعلاً لله تعالى لكان معنى الآية إني

خلقت هذه الحيوانات لأجل أن أخلق سبحان الله في لسان العبد وهذا بالطل لأنه تعالى قارد على أن يخلق هذا اللفظ في لسانه بدون هذه الوسايط
واعلم أن الكلام على هذه الوجوه معلوم فلا فائدة في الإعادة
ثم قال تعالى وَإِنَّا إِلَى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ واعلم أن وجه اتصال هذا الكلام بما قبله أن ركوب الفلك في خطر الهلاك فإنه كثيراً ما تنكسر السفينة ويهلك الإنسان وراكب الدابة أيضاً كذلك لأن الدابة قد يتفق لها اتفاقات توجب هلاك الراكب وإذا كان كذلك فركوب الفلك والدابة يوجب تعريض النفس للهلاك فوجب على الراكب أن يتذكر أمر الموت وأن يقطع أنه هالك لا محالة وأنه منقلب إلى الله تعالى وغير منقلب من قضائه وقدره حتى لو اتفق له ذلك المحذور كان قد وطن نفسه على الموت
وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَة ِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْألُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( الزخرف 9 ) بين أنهم مع إقرارهم بذلك جعلوا له من عباده جزءاً والمقصود منه التنبيه على قلة عقولهم وسخافة عقولهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية أبي بكر جُزْء بضم الزاي والهمزة في كل القرآن وهما لغتان وأما حمزة فإذا وقف عليه قال جزا بفتح الزاي بلا همزة
المسألة الثانية في المراد من قوله وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا قولان الأول وهو المشهور أن المراد أنهم أثبتوا له ولداً وتقرير الكلام أن ولد الرجل جزء منه قال عليه السلام ( فاطمة بضعة مني ) ولأن المعقول من الوابد أن ينفصل عنه جزء من أجزائه ثم يتربى ذلك الجزء ويتولد منه شخص مثل ذلك اوصل وإذا كان كذلك فولد الرجل جزء منه وبعض منه فقوله وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا معنى جعلوا حكموا وأثبتوا وقالوا به والمعنى أنهم أثبتوا له جزءاً وذلك الجزء هو عبد من عباده
واعلم أنه لو قال وجعلوا لعباده منه جزءاً أفاد ذلك أنهم أثبتوا أنه حصل جزء من أجزائه في بعض

عباده وذلك هو الولد فكذا قوله وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا معناه وأثبتوا له جزءاً وذلك الجزء هو عبد من عباده والحاصل أنهم أثبتوا لله ولداً وذكروا في تقرير هذا القول وجوهاً أُخر فقالوا الجزء هو الأنثى في لغة العرب واحتجوا في إثبات هذه اللغة ببيتين فالأول قوله
إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب
قد تجزىء الحرة المذكاة أحياناً وقوله
زوجتها من بنات الأوس مجزئة
للعوسج اللدن في أبياتها غزل وزعم الزجاج والأزهري وصاحب ( الكشاف ) أن هذه اللغة فاسدة وأن هذه الأبيات مصنوعة والقول الثاني في تفسير الآية أن المراد من قوله وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا إثبات الشركاء لله وذلك لأنهم لما أثبتوا الشركاء لله تعالى فقد زعموا أن كل العباد ليس لله بل بعضها لله وبعضها لغير الله فهم ما جعلوا لله من عباده كلهم بل جعلوا له منهم بعضاً وجزءاً منهم قالوا والذي يدل على أن هذا القول أولى من الأول أنا إذا حملنا هذه الآية على إنكار الشريك لله وحملنا الآية التي بعدها إلى إنكار الولد لله كانت الآية جامعة للرد على جميع المبطلين
ثم قال تعالى أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ
واعلم أنه تعهالى رتب هذه المناظرة على أحسن الوجوه وذلك لأنه تعالى بيّن أن إثبات الولد لله محال وبتقدير أن يثبت الولد فجعله بنتاً أيضاً محال أما بيان أن إثبات الولد لله محال فلأن الولد لا بد وأن يكون جزءاً من الوالد وما كان له جزء كان مركباً وكل مركب ممكن وأيضاً ما كان كذلك فإنه يقبل الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق وما كان كذلك فهو عبد محدث فلا يكون إلهاً قديماً أزلياً
وأما المقام الثاني وهو أن بتقدير ثبوت الولد فإنه يمتنع كونه بنتاً وذلك أن الابن أفضل من البنت فلو قلنا إنه اتخذ لنفسه البنات وأعطى البنين لعباده لزم أن يكون حال العبد أكمل وأفضل من حال الله وذلك مدفوع في بديهة العقل يقال أصفيت فلاناً بكذا أي آثرته به إيثاراً حصل له على سبيل الصفاء من غير أن يكون له فيه مشارك وهو كقوله أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ ( الإسراء 40 ) ثم بيّن نقصان البنات من وجوه الأول قوله وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ والمعنى أن الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحد كيف يجوز للعاقل إثباته لله تعالى وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة فقالت
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نلد البنيناليس لنا من أمرنا ماشينا
وإنما نأخذ ما أعطينا وقوله ظِلّ أي صار كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء مسود مسواد والتقدير وهو مسود فتقع هذه الجملة موقع الخبر والثاني قوله أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَة ِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ

وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ينشؤ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين على ما لم يسم فاعله أي يربى والباقون ينشأ بضم الياء وسكون النون وفتح الشين قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء يناشأ قال ونظير المناشأة بمعنى الإنشاء المغالاة بمعنى الإغلاء
المسألة الثانية المراد من قوله أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَة ِ التنبيه على نقصانها وهو أن الذي يربى في الحلية يكون ناقص الذات لأنه لولا نقصان في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية ثم بيّن نقصان حالها بطريق آخر وهو قوله وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ يعني أنها إذا احتاجت المخاصمة والمنازعة عجزت وكانت غير مبين وذلك لضعف لسانها وقلة عقلها وبلادة طبعها ويقال قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بما كان حجة عليها فهذه الوجوه دالة على كمال نقصها فكيف يجوز إضافتهن بالولدية إليها
المسألة الثالثة دلت الآية على أن التحلي مباح للنساء وأنه حرام للرجال لأنه تعالى جعل ذلك من المعايب وموجبات النقصان وإقدام الرجل عليه يكون إلقاء لنفسه في الذل وذلك حرام لقوله عليه السلام ( ليس للمؤمن أن يذل نفسه ) وإنما زينة الرجل الصبر على طاعة الله والتزين بزينة التقوى قال الشافعي فتدرعت يوماً للقنوع حصينة
أصون بها عرضي أوجعلها ذخراً
فولم أحذر الدهر الخئون وإنما
قصاراه أن يرمي بي الموت والفقرا
ففأعددت للموت الإله وعفوه
وأعددت للفقر التجلد والصبرا
ثم قال تعالى وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً وفيه مسائل
المسألة الأولى المراد بقوله جَعَلُواْ أي حكموا به ثم قال أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ وهذا استفهام على سبيل الإنكار يعني أنهم لم يشهدوا خلقهم وهذا مما لا سبيل إلى معرفته بالدلائل العقلية وأما الدلائل النقلية فكلها مفرعة على إثبات النبوّة وهؤلاء الكفار منكرون للنبوة فلا سبيل لهم إلى إثبات هذا المطلوب بالدلائل النقلية فثبت أنهم ذكروا هذه الدعوى من غير أن عرفوه لا بضرورة ولا بدليل ثم إنه تعالى هددهم فقال سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ وهذا يدل على أن القول بغير دليل منكر وأن التقليد يوجب الذم العظيم والعقاب الشديد قال أهل التحقيق هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه أولها إثبات الولد لله تعالى وثانيها أن ذلك الولد بنت وثالثها الحكم على الملائكة بالأنوثة
المسألة الثانية قرأ نافع وابن كثير وابن عامر ( عند الرحمن ) بالنون وهو اختيار أبي حاتم واحتج عليه بوجوه الأول أنه يوافق قوله إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ ( الأعراف 206 ) وقوله وَمَنْ عِندَهُ ( الأنبياء 19 ) والثاني أن كل الخلق عباده فلا مدح لهم فيه والثالث أن التقدير أن الملائكة يكونون عند الرحمن لا عند هؤلاء الكفار فكيف عرفوا كونهم إناثاً وأما الباقون فقرأوا عباد جمع عبد وقيل جمع عابد كقائم وقيام وصائم وصيام ونائم ونيام وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد قال لأنه تعالى رد عليهم قولهم إنهم بنات الله وأخبر أنهم عبيد ويؤيد هذه القراءة قوله بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( الأنبياء 26 )

المسألة الثالثة قرأ نافع وحده آأشهدوا بهمزة ومدة بعدها خفيفة لينة وضمة أي ( أ ) أحضروا خلقهم وعن نافع غير ممدود على ما لم يسم فاعله والباقون أشهدوا بفتح الألف من ( أ ) شهدوا أي أحضروا
المسألة الرابعة احتج من قال بتفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية فقال أما قراءة ( عند ) بالنون فهذه العندية لا شك أنها عندية الفضل والقرب من الله تعالى بسبب الطاعة ولفظة قَرْنٍ هُمْ توجب الحصر والمعنى أنهم هم الموصوفون بهذه العندية لا غيرهم فوجب كونهم أفضل من غيرهم رعاية للفظ الدال على الحصر وأما من قرأ ( عباد ) جمع العبد فقد ذكرنا أن لفظ العباد مخصوص في القرآن بالمؤمنين فقوله هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ يفيد حصر العبودية فيهم فإذا كان اللفظ الدال على العبودية دالاً على الفضل والشرف كان اللفظ الدال على حصر العبودية دالاً على حصر الفضل والمنقبة والشرف فيهم وذلك يوجب كونهم أفضل من غيرهم والله أعلم
وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّة ٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَة ٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّة ٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذِّبِينَ
اعلم أنه تعالى حكى نوعاً آخر من كفرهم وشبهاتهم وهو أنهم قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم وفيه مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة في أن كفر الكافر يقع بإرادة الله من وجهين الأول أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ وهذا صريح قول المجبرة ثم إنه تعالى أبطله بقوله مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ فثبت أنه حكى مذهب المجبرة ثم أردفه بالإبطال والإفساد فثبت أن هذا المذهب باطل ونظيره قوله تعالى في سورة الأنعام سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا إلى قوله قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ

( الأنعام 148 ) والوجه الثاني أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنواع كفرهم فأولها قوله وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا ( الزخرف 15 ) وثانيها قوله وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) وثالثها قوله تعالى وَقَالُواْ لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ فلما حكى هذه الأقاويل الثلاثة بعضها على إثر بعض وثبت أن القولين الأولين كفر محض فكذلك هذا القول الثالث يجب أن يكون كفراً واعلم أن الواحدي أجاب في ( البسيط ) عنه من وجهين الأول ما ذكره الزجاج وهو أن قوله تعالى مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ عائد إلى قولهم الملائكة إناث وإلى قولهم الملائكة بنات الله والثاني أنهم أرادوا بقولهم لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ أنه أمرنا بذلك وأنه رضي بذلك وأقرنا عليه فأنكر ذلك عليهم فهذا ما ذكره الواحدي في الجواب وعندي هذان الوجهان ضعيفان أما الأول فلأنه تعالى حكى عن القوم قولين باطلين وبين وجه بطلانهما ثم حكى بعده مذهباً ثالثاً في مسألة أجنبية عن المسألتين الأوليين ثم حكم بالبطلان والوعيد فصرف هذا الإبطال عن هذا الذي ذكره عقيبه إلى كلام متقدم أجنبي عنه في غاية البعد وأما الوجه الثاني فهو أيضاً ضعيف لأن قوله لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ليس فيه بيان متعلق بتلك المشيئة والإجمال خلاف الدليل فوجب أن يكون التقدير لو شاء الله ألاة نعبدهم ما عبدناهم وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فهذا يدل على أنه لم توجد مشيئة الله لعدم عبادتهم وهذا عين مذهب المجبرة فالإبطال والإفساد يرجع إلى هذا المعنى ومن الناس من أجاب عن هذا الاستدلال بأن قال إنهم إنما ذكروا ذلك الكلام على سبيل الاستهزاء والسخرية فلهذا السبب استوجبوا الطعن والذم وأجاب صاحب ( الكشاف ) عنه من وجهين الأول أنه ليس في اللفظ ما يدل على أنهم قالوا مستهزئين وادعاء ما لا دليل عليه باطل الثاني أنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أشياء وهي أنهم جعلوا له من عباده جزءاً وأنهم جعلوا الملائكة إناثاً وأنهم قالوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ فلو قلنا بأنه إنما جاء الذم على القول الثالث لأنهم ذكروه على طريق الجد وجب أن يكون الحال في حكاية القولين الأولين كذلك فلزم أنهم لو نطقوا بتلك الأشياء على سبيل الجد أن يكونوا محقين ومعلوم أنه كفر وأما القول بأن الطعن في القولين الأولين إنما توجه على نفس ذلك القول وفي القول الثالث لا على نفسه بل على سبيل الاستهزاء فهذايوجب تشويش النظم وأنه لا يجوز في كلام الله
واعلم أن الجواب الحق عندي عن هذا الكلام ما ذكرناه في سورة الأنعام وهو أن القوم إنما ذكروا هذا الكلام لأنهم استدلوا بمشيئة الله تعالى للكفر على أنه لا يجوز ورود الأمر بالإيمان فاعتقدوا أن الأمر والإرادة يجب كونهما متطابقين وعندنا أن هذا باطل فالقوم لم يستحقوا الذم بمجرد قولهم إن الله يريد الكفر من الكافر بل لأجل أنهم قالوا لما أراد الكفر من الكافر وجب أن يقبح منه أمر الكافر بالإيمان وإذا صرفنا الذم والطعن إلى هذا المقام سقط استدلال المعتزلة بهذه الآية وتمام التقرير مذكور في سورة الأنعام والله أعلم
المسألة الثانية أنه تعالى لما حكى عنهم ذلك المذهب الباطل قال مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ وتقريره كأنه قيل إن القوم يقولون لما أراد الله الكفر من الكافر وخلق فيه ما أوجب ذلك الكفدر وجب أن يقبح منه أن يأمره بالإيمان لأن مثل هذا التكليف قبيح في الشاهد فيكون قبيحاً في الغائب فقال تعالى مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي ما لهم بصحة هذا القياس من علم وذلك لأن أفعال الواحد منا وأحكامه

مبنية على رعاية المصالح والمفاسد لأجل أن كل ما سوى الله فإنه ينتفع بحصول المصالح ويستضر بحصول المفاسد فلا جرم أن صريح طبعه وعقله يحمله على بناء أحكامه وأفعاله على رعاية المصالح أما الله سبحانه وتعالى فإنه لا ينفعه شيء ولا يضره شيء فكيف يمكن القطع بأنه تعالى يبني أحكامه وأفعاله على رعاية المصالح مع ظهور هذا الفارق العظيم فقوله تعالى مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي ما لهم بصحة قياس الغائب على الشاهد في هذا الباب علم
ثم قال إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ أي كما لم يثبت لهم صحة ذلك القياس فقد ثبت بالبرهان القاطع كونهم كذابين خراصين في ذلك القياس لأن قياس المنزّه عن النفع والضر من كل الوجوه على المحتاج المنتفع المتضرر قياس باطل في بديهة العقل
ثم قال أَمْ ءاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ يعني أن القول الباطل الذي حكاه الله تعالى عنهم عرفوا صحته بالعقل أو بالنقل أما إثباته بالعقل فهو باطل لقوله مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ وأما إثباته بالنقل فهو أيضاً بالطل لقوله أَمْ ءاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ والضمير في قوله مِن قَبْلِهِ للقرآن أو للرسول والمعنى أنهم ( هل ) وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزّل قبل القرآن حتى جاز لهم أن يعولوا عليه وأن يتمسكوا به والمقصود منه ذكره في معرض الإنكار ولما ثبت أنه لم يدل عليه لا دليل عقلي ولا دليل نقلي وجب أن يكون القول به باطلاً
ثم قال تعالى بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّة ٍ وَإِنَّا عَلَى ءاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ والمقصود أنه تعالى لما بيّن أن تمسك الجهال بطريقة التقليد أمر كان حاصلاً من قديم الدهر فقال وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّة ٍ وَإِنَّا عَلَى وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرىء عَلَى أُمَّة ٍ بالكسر وكلتاهما من الأم وهو القصد فالأمة الطريقة التي تؤم أي تقصد كالرحلة للمرحول إليه والإمة الحالة التي يكون عليها الآم وهو القاصد
المسألة الثانية لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآيات لكفت في إبطال القول بالتقليد وذلك لأنه تعالى بيّن أن هؤلاء الكفار لم يتمسكوا في إثبات ما ذهبوا إليه لا بطريق عقلي ولا بدليل نقلي ثم بيّن أنهم إنما ذهبوا إليه بمجرد تقليد الآباء والأسلاف وإنم ذكر تعالى هذه المعاني في معرض الذم والتهجين وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل ومما يدل عليه أيضاً من حيث العقل أن التقليد أمر مشترك فيه بين المبطل وبين المحق وذلك لأنه كم حصل لهذه الطائفة قوم من المقلدة فكذلك حصل لأضدادهم أقوام من المقلدة فلو كان التقليد طريقاً إلى الحق لوجب كون الشيء ونقيضه حقاً ومعلوم أن ذلك باطل
المسألة الثالثة أنه تعالى بيّن أن الداعي إلى القول بالتقليد والحامل عليه إنما هو حب التنعم في طيبات الدنيا وحب الكسل والبطالة وبغض تحمل مشاق النظر والاستدلال لقوله وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَة ٍ مّن والمترفون هم الذين أترفتهم النعمة أي أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق وإذاعرفت هذا علمت أن رأسي جميع الآفات حب الدينا واللذات

الجسمانية ورأس جميع الخيرات هو حب الله والدار الآخرة فلهذا قال عليه السلام ( حب الدنيا رأس كل خطيئة )
ثم قال تعالى لرسوله قَالَ أُوْحِى لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءابَاءكُمْ أي بدين أهدى من دين آبائكم فعند هذات حكى الله عنهم أنهم قالوا إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه وإن جئتنا بما هو أهدى فَإِنَّمَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وإن كان أهدى مما كنا عليه فعند هذا لم يبق لهم عذر ولا علة فلهذا قال تعالى فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذّبِينَ والمراد منه تهديد الكفار والله أعلم
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَة ً بَاقِيَة ً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هَاؤُلاَءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة أنه ليس لأولئك الكفار داع يدعوهم إلى تلك الأقاويل الباطلة إلا تقليد الآباء والأسلاف ثم بيّن أنه طريق باطل ومنهج فاسد وأن الرجوع إلى الدليل أولى من الاعتماد على التقليد أردفه بهذه الآية والمقصود منها ذكر وجه آخر يدل على فساد القول بالتقليد وتقريره من وجهين الأول أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تبرأ عن دين آبائه بناء على الدليل فنقول إما أن يكون تقليد الآباء في الأديان محرماً أو جائزاً فإن كان محرماً فقد بطل القول بالتقليد وإن كان جائزاً فمعلوم أن أشرف آباء العرب هو إبراهيم عليه السلام وذلك لأنهم ليس لهم فخر ولا شرف إلا بأنهم من أولاده وإذا كان كذلك فتقليد هذا الأب الذي هو أشرف الآباء أولى من تقليد سائر الآباء وإذا ثبت أن تقليده أولى من تقليد غيره فنقول إنه ترك دين الآباء وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعة الآباء وإذا كان كذلك وجب تقليده في ترك تقليد الآباء ووجب تقليدعه في ترجيح الدليل على التقليد وإذا ثبت هذا فنقول فقد ظهر أن القول بوجوب التقليد يوجب المنع من التقليد وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلاً فوجب أن يكون القول بالتقليد باطلاً فهذا طريق رقيق في إبطال التقليد وهو المراد بهذه الآية
الوجه الثاني في بيان أن ترك التقليد والرجوع إلى متابعة الدليل أولى في الدنيا وفي الدين أنه تعالى بيّن أن إبراهيم عليه السلام لما عدل عن طريقة أبيه إلى متابعة الدليل لا جرم جعل الله دينه ومذهله باقياً في عقبه إلى يوم القيامة وأما أديان آبائه فقد اندرست وبطلت فثبت أن الرجوع إلى متابعة الدليل يبقى محمود الأثر إلى قيام الساعة وأن التقليد والإصرار ينقطع أثره ولا يبقى منه في الدينا خير ولا أير فثبت من هذين الوجهين أن متابعة الدليل وترك التقليد أولى فهذا بيان المقصود الأصلي من هذه الآية ولنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية

أما قوله إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ فقال الكسائي والفرّاء والمبرد والزجاج بَرَاء مصدر لا يثنى وا يجمع مثل عدل ورضا وتقول العرب أنا البراء منك والخلاء منك ونحن الراء منك والخلاء ولا يقولون البراآن ولا البرؤن لأن المعنى ذوا البراء وذوو البراء فإن قلت برىء وخلى ثنيت وجمعت
ثم استثنى خالقه من البراءة فقال إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى والمعنى أنا أتبرأ مما تعبدون إلا من الله عزّ وجلّ ويجوز أن يكون إلا بمعنى لكن فيكون المعنى لكن الذي فطرني فإنه سيهدين أي سيرشدني لدينه ويوفقني لطاعته
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام في آية أخرى أنه قال الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الشعراء 78 ) وحكى عنه ههنا أنه قال سَيَهْدِينِ فأجمع بينهما وقدر كأنه قال فهو يهدين وسيهدين فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال وَجَعَلَهَا أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ جارياً مجرى لا إله وقوله إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى جارياً مجرى قوله إلا الله فكان مجموع قوله إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى جارياً مجرى قوله لا إله إلا الله ثم بيّن تعالى أن إبراهيم جعل هذه الكلمة باقية في عقبه أي في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم وقيل وجعلها الله وقرىء كلمة على التخفيف وفي عقيبه
ثم قال تعالى بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء وَءابَاءهُمْ يعني أهل مكة وهم عقب إبراهيم بالمد في العمر والنعمة فاغتروا بالمهلة واشتغلوا بالتنعم واتباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وهو القرآن وَرَسُولٌ مُّبِينٌ بين الرسالة وأوضحها بما معه من الآيات والبينات فكذبوا به وسموه ساحراً وما جاء به سحراً وكفروا به ووجه النظم أنهم لما عولوا على تقليد الآباء ولم يتفكروا في الحجة اغتروا بطول الإمهال وإمتاع الله إياهم بنعيم الدينا فأعرضوا عن الحق قال صاحب ( الكشاف ) إن قيل ما وجه قراءة من قرأ متعت بفتح التاء قلنا كأن الله سبحانه اعترض على ذاته في قوله وَجَعَلَهَا كَلِمَة ً بَاقِيَة ً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فقال بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد وأراد بذلك المبالغة في تعييرهم لأنه إذا متعهم بزيادة النعم وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سبباً في زيادة الشكر والثبات على التوحيد لا أن يشركوا به ويجعلوا له أنداداً فمثاله أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه ثم يقبل على نفسه فيقول أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك إليه وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعل نفسه
وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة َ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَة ُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ

اعلم أن هذا هو النوع الرابع من كفرياتهم التي حكاها الله تعالى عنهم في هذه السورة وهؤلاء المساكين قالوا منصب رسالة الله منصب شريف فلا يليق إلا برجل شريف وقد صدقوا في ذلك إلا أنهم ضموا إليه مقدمة فاسدة وهي أن الرجل الشريف هو الذي يكون كثير المال والجاه ومحمد ليس كذلك فلا تليق رسالة الله به وإنما يليق هذا المنصب برجل عظيم الجاه كثير المال في إحدى القريتين وهي مكة والطائف قال المفسرون والذي بمكة هو الوليد بن المغيرة والذي بالطائف هو عروة بن مسعود الثقفي ثم أبطل الله تعالى هذه الشبهة من وجهين الأول قوله أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتِ رَبّكَ وتقرير هذا الجواب من وجوه أحدها أنا أوقعنا التفاوت في مناصب الدنيا ولم يقدر أحد من الخلق على تغييره فالتفاوت الذي أوقعناه في مناصب الدين والنبوّة بأن لا يقدروا على التصريف فيه كان أولى وثانيها أن يكون المراد أن اختصاص ذلك الغنى بذلك المال الكثير إنما كان لأجل حكمنا وفضلنا وإحساننا إليه فكيف يليق بالعقل أن نجلع إحساننا إليه بكثرة المال حجة علينا في أن نحسن إليه أيضاً بالنبوّة وثالثها إنا لما أوقعنا التفاوت في الإحسان بمناصب الدينا لا لسبب سابق فلم لا يجوز أيضاً أن نوقع التفاوت في الإحسان بمناصب الدين والنبوّة لا لسبب سابق فهذا تقرير الجواب ونرجع إلى تفسير الألفاظ فنقول الهمزة في قوله أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتِ رَبّكَ للإنكار الدال على التجهيل والتعجب من إعراضهم وتحكمهم أن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوة ثم ضرب لهذا مثالاً فقال نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى أنا أوقعنا هذا التفاوت بين العباد في القوة والضعف والعلم والجهل والحذاقة والبلاهة والشهرة والخمول وإنما فعلنا ذلك لأنا لو سوينا بينهم في كل هذه الأحوال لم يخدم أحد أحداً ولم يصر أحد منهم مسخراً لغيره وحينئذ يفضي ذلك إلى خراب العالم وفساد نظام الدينا ثم إن أحداً من الخلق لم يقدر على تغيير حكمنا ولا على الخروج عن قضائنا فإن عجزوا عن الإعراض عن حكمنا في أحوال الدنيا مع قلتها ودناءتها فكيف يمكنهم الاعتراض على حكمنا وقضائنا في تخصيص العباد بمنصب النبوة والرسالة
المسألة الثانية قوله تعالى نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواة ِ يقتضي أن تكون كل أقسام معايشهم إنتما تحصل بحكم الله وتقديره وهذا يقتضي أن يكون الرزق الحرام والحلال كله من الله تعالى والوجه الثاني في الجواب ما هو المراد من قوله وَرَحْمَة ُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ وتقريره أن الله تعالى إذا خص بعض عبيده بنوع فضله ورحمته في الدين فهذه الرحمة خير من الأموال التي يجمعها لأن الدينا على شرف الانقضاء والانقراض وفضل الله ورحمته تبقى أبد الآباد

وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً وَاحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّة ٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى أجاب عن الشبهة التي ذكروها بناء على تفضيل الغني على الفقير بوجه ثالث وهو أنه تعالى بيّن أن منافع الدينا وطيباتها حقيرة خسيسة عند الله وبين حقارتها بقوله وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً والمعنى لولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكافر في سعة من الخير والرزق لأعطيتهم أكثر الأسباب المفيدة للتنعم أحدها أن يكون سقفهم من فضة وثانيها معارج أيضاً من فضة عليها يظهرون وثالثها أن نجعل لبيوتهم أبواباً من فضة وسرراً أيضاً من فضة عليها يتكئون
ثم قال وَزُخْرُفاً وله تفسيران أحدها أنه الذهب والثاني أنه الزينة بدليل قوله تعالى حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الاْرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ ( يونس 24 ) فعلى التقدير الأول يكون المعنى ونجعل بهم مع ذلك ذهباً كثيراً وعلى الثاني أنا نعطيهم زينة عظيمة في كل باب ثم بيّن تعالى أن كل ذلك متاع الحياة الدينا وإنما سماه متاعاً لأن الإنسان يستمتع به قليلاً ثم ينقضي في الحال وأما الآخرة فهي باقية دائمة وهي عند الله تعهالى وفي حكمه للمتقين عن حب الدينا المقبلين على حب المولى وحاصل الجواب أن أولئك الجهال ظنوا أن الرجل الغني أولى بمنصظب الرسالة من محمد بسبب فقره فبيّن تعالى أن المال والجاه حقيران عند الله وأنهما شرف الزوال فحصولهما لا يفيد حصول الشرف والله أعلم
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو سَقْفاً بفتح السين وسكون القاف على لفظ الواحد لإرادة الجنس كما في قوله فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ ( النحل 26 ) والباقون سقفاً على الجمع واختلفوا فقيل هو جمع سقف كرهن ورهن قال أبو عبيد ولا ثالث لهما وقيل السقف جمع سقوف كرهن ورهون وزبر وزبور فهو جمع الجمع
المسألة الثالثة قوله لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ فقوله لِبُيُوتِهِمْ بدل اشتمال من قوله لِمَن يَكْفُرُ قال صاحب ( الكشاف ) قرىء معارج ومعاريج والمعارج كمع معرج أو اسم جمع لمعراج وهي المصاعد إلى المساكن العالية كالدرج والسلالم عليها يظهرون أي على تلك المعارج يطهرون وفي نصب

قوله وَزُخْرُفاً قولان قيل لجعلنا لبيوتهم سقفاً من فضة ولجعلنا لهم زخرفاً وقيل من فضة وزخرف فلما حذف الخافض انتصب وأما قوله وَإِن كُلُّ ذَلِكَ وَأَبْقَى قَالُواْ لَن قرأ عاصم وحمزة لَّمّاً بتشديد الميم والباقون بالتخفيف وأما قراءة حمزة بالتشديد فإنه جعل لما في معنى إلا وحكى سيبويه نشدتك بالله لما فعلت بمعنى إلا فعلت ويقوي هذه القراءة أن في حرف أبي وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا وهذايدل على أن لما بمعنى إلا وأما القراءة بالتخفيف فقال الواحدي لفظة ما لغو والتقدير لمتاع الحياة الدنيا قال أبو الحسن الوجه التخفيف لأن لما بمعنى إلا لا تعرف وحكي عن الكسائي أنه قال لا أعرف وجه التثقيل
المسألة الرابعة قالت المعتزلة دلت الآية على أنه تعالى إنما لم يعط الناس نعم الدنيا لأجل أنه لو فعل بهم ذلك لدعاهم ذلك إلى الكفر فهو تعالى لم يفعل بهم ذلك لأجل أن يدعوهم إلى الكفر وهذا يدل على أحكام أحدها أنه إذا لم يفعل بهم ما يدعوهم إلى الكفر فلأن لا يخلق فيهم الكفر أولى وثانيها أنه ثبت أن فعل اللطلفل قائم مقام إزاحة العذر والعلة فلما بيّن تعالى أنه لم يفعل ذلك إزاحة للعذر والعلة عنهم دل ذلك على أنه يجب أن يفعل بهم كل ما كان لطفاً داعياً لهم إلى الإيمان فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على أنه يجب على الله تعالى فعل اللطف وثالثها أنه ثبت بهذه الآية أن الله تعالى إنما يفعل ما يفعله ويترك ما يتركه لأجل حكمة ومصلحة وذلك يدل على تعليل أحكام الله تعالى وأفعاله بالمصالح والعلل فإن قيل لما بيّن تعالى أنه لو فتح على الكافر أبواب النعم لصار ذلك سبباً لاجتماع الناس على الكفر فلم لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير ذلك سبباً لاجتماع الناس على الإسلام قلنا لأن الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام لطلب الدنيا وهذا الإيمان إيمان المنافقين فكان الأصوب أن يضيق الأمر على المسلمين حتى أن كل من دخل الإسلام فإنما يدخل فيه لمتابعة الدليل ولطلب رضوان الله تعالى فحينئذ يعظم ثوابه لهذا السبب
ثم قال تعالى وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ والمراد منه التنبيه على آفات الدنيا وذلك أن من فاز بالمال والجاه صار كالأعشى عن ذكر الله ومن صار كذلك صار من جلساء الشياطين الضالين المضلين فهذا وجه تعلق هذا الكلام بما قبله قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَمَن يَعْشُ بضم الشين وفتحها والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل عشي وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل عشى ونظيره عرج لمن به الآفة وعرج لمن مشى مشية العرجان من غير عرج قال الحطيئة
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
أي تنظر إليه نظر العشي لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء وقرىء يعشو على أن من موصولة غير مضنة معنى الشرط وحق هذا القارىء أن يرفع نُقَيّضْ ومعنى القراءة بالفتح ومن يعم عن ذكر الرحمن وهو القرآن كقوله صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ ( البقرة 18 ) وأما القراءة بالضم فمعناها ومن يتعام عن ذكره أي يعرف أنه الحق وهو يتجاهل ويتعامى كقوله تعالى وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ( النمل 14 ) و نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً قال مقاتل نضم إليه شيطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ
ثم قال وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ يعني وإن الشياطين ليصدونهم عن سبيل الهدى والحق وذكر

الكناية عن الإنسان والشياطين بلفظ الجمع لأن قوله وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً يفيد الجمع وإن كان اللفظ على الواحد وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ يعني الشياطين يصدون الكفار عن السبيل واتلكفار يحسبون أنهم مهتدون ثم عاد إلى لفظ الواحد فقال حَتَّى إِذَا جَاءنَا يعني الكافر وقرىء ( جاءانا ) يعني الكافر وشيطانه روي أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطانه بيده فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار فذلك حيث يقول قَالَ يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ والمراد يا ليت حصل بيني وبينك بعد على أعظم الوجوه واختلفوا في تفسير قوله بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ وذكروا فيه وجوهاً الأول قال الأكثرون المراد بعد المشرق والمغرب ومن عادة العرب تسمية الشيئين المتقابلين باسم أحدهما قال الفرزدق
لنا قمراها والنجوم الطوالع
يريد الشمس والقمر ويقولون للكوفة والبصرة البصرتان وللغداة والعصر العصران ولأبي بكر وعمر العمران وللماء والتمر الأسودان الثاني أن أهل النجوم يقولون الحركة التي تكون من المشرق إلى المغرب هي حركة الفلك الأعظم والحركة التي من المغرب إلى المشرق هي حركة الكواكب الثابتة وحركة الأفلاك الممثلة التي للسيارات سوى القمر وإذاكان كذلك فالمشرق والمغرب كل واحد منهما مشرق بالنسبة إلى شيء آخر فثبت أن إطلاق لفظ المشرق على كل واحد من الجهتين حقيقة الثالث قالوا يحمل ذلك على مشرق الصيف ومشرق الشتاء وبينهما بعد عظيم وهذا بعيد عندي لأن المقصود من قوله قَالَ يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ المبالغة في حصول البعد وهذه المبالغة إنما تحصل عن ذكر بعد لا يمكن وجود بعد آخر أزيد منه والبعد بين مشرق الصيف ومشرق الشتاء ليس كذلك فيبعد حمل اللفظ عليه الرابع وهو أن الحس يدل على أن الحركة اليومية إنما تحصل بطلوع الشمس من المشرق إلى المغرب وأما القمر فإنه يظهر في أول الشهر في جانب المغرب ثم لا يزال يتقدم إلى جانب المشرق وذلك يدل على أن مشرق حركة القمر هو المغرب وإذا ثبت هذا فالجانب المسمى بالمشرق هو مشرق الشمس ولكنه مغرب القمر وأما الجانب المسمى بالمغرب فإنه مشرق القمر ولكنه مغرب الشمس وبهذا التقدير يصح تسمية المشرق والمغرب بالمشرقين ولعل هذا الوجه أقرب إلى مطابقة اللفظ ورعاية المقصود من سائر الوجوه والله أعلم
ثم قال تعالى فَبِئْسَ الْقَرِينُ أي الكافر يقول لذلك الشيطان يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين أنت فهذا ما يتعلق بتفسير الألفاظ والمقصود من هذا الكلام تحقير الدنيا وبيان ما في المال والجاه من المضار العظيمة وذلك لأن كثرة المال والجاه تجعل الإنسان كالأعشى عن مطالعة ذكر الله تعالى ومن صار كذلك صار جليساً للشيطان ومن صار كذلك ضل عن سبيل الهدى والحق وبقي جليس الشيطان في الدنيا وفي القيامة ومجالسة الشيطان حالة توجب الضرر الشديد في القيامة بحيث يقول الكافر يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين أنت فثبت بما ذكرنا أن كثرة المال والجاه توجب كمال النقصان والحرمان في الدين والدنيا وإذا ظهر هذا فقد ظهر أن الذين قالوا لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) قالوا كلاماً فاسداً وشبهة باطلة

ثم قال تعالى وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ فقوله إِنَّكُمْ في محل الرفع على الفاعلية يعني ولن ينفعكم اليوم كونكم مشتركين في العذاب والسبب فيه أن الناس يقولون المصيبة إذا عمت طابت وقالت الخنساء في هذا المعنى
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسيولا يبكون مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي فبيّن تعالى أن حصول الشركة في ذلك العذاب لا يفيد التخفيف كما كان يفيده في الدنيا والسبب فيه وجوه الأول أن ذلك العذاب شديد فاشتغال كل واحد بنفسه يذهله عن حال الآخر فلا جرم الشركة لا تفيد الخفة الثاني أن قوماً إذا اشتركوا في العذاب أعان كل واحد منهم صاحبه بما قدر عليه فيحصل بسببه بعض التخفيف وهذا المعنى متعذر في القيامة الثالث أن جلوس الإنسان مع قرينه يفيده أنواعاً كثيرة من السلوة فبيّن تعالى أن الشيطان وإن كان قريناً إلا أن مجالسته في القيامة لا توجب السلوة وخفة العقنبة وفي كتاب ابن مجاهد عن ابن عامر قرأ إِذَا ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ بكسر الألف وقرأ الباقون أنكم بفتح الألف والله أعلم
أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْى َ وَمَن كَانَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِى َ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْألُونَ وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ ءَالِهَة ً يُعْبَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما وصفهم في الآية المتقدمة بالعشي وصفهم في هذه الآية بالصمم والعمى وما أحسن هذا الترتيب وذلك لأن الإنسان في أول اشتغاله بطلب الدينا يكون كمن حصل بعينه رمد ضعيف ثم كلما كان اشتغاله بتلك الأعمال أكثركان ميله إلى الجسمانيات أشد وإعراضه عن الروحانيات أكمل لما ثبت في علوم العقل أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات الراسخة فينتقل الإنسان من الرمد إلى أن يصير أعشى فإذا واظب على تلك الحالة أياماً أخرى انتقل من كونه أعشى إلى كونه أعمى فهذا ترتيب حسن موافق لما ثبت بالبراهين اليقينية روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يجتهد في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا تصميماً على الكفر وتمادياً في الغي فقال تعالى أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْى َ يعني أنهم بلغوا في النفرة عنك وعن دينك إلى حيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالأصم وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالأعمى ثم بيّن

تعالى أن صممهم وعماهم إنما كان بسبب كونهم في ضلال مبين
ولما بيّن تعالى أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم قال فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ يريد حصول الموت قبل نزول النقمة بهم فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ بعدك أو نرينك في حياتك ما وعدناهم من الذل والقتل فإنا مقتدرون على ذلك واعلم أن هذا الكلام يفيد كمال التسلية للرسول عليه السلام لأنه تعالى بيّن أنهم لا تؤثر فيهم دعوته واليأس إحدى الراحتين ثم بيّن أنه لا بد وأن ينتقم لأجله متهم إما حال حياته أو بعد وفاته وذلك أيضاً يوجب التسلية فبعد هذا أمره أن يستمسك بما أمره تعالى فقال فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِى َ إِلَيْكَ بأن تعتقد أنه حق وبأن تعمل بموجبه فإنه الصراط المستقيم الذي لا يميل عنه إلا ضال في الدين
ولما بيّن تأثير التمسك بهذا الدين فيمنافع الدين بيّن أيضاً تأثيره في منافع الدنيا فقال وَأَنَّهُ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ أي إنه يوجب الشرف العظيم لك ولقولنك حيث يقال إن هذا الكتاب العظيم أنزله الله على رجل من قوم هؤلاء واعلم أن هذه الآية تدل على أن الإنسان لا بد وأن يكون عظيم الرغبة في الثناء الحسن والذكر الجميل ولو لم يكن الذكر الجميل أمراً مرغوباً فيه لما منَّ الله به على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قال وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ولما طلبه إبراهيم عليه السلام حيث قال وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) ولأن الذكر الجميل قائم مقام الحياة الشريفة بل الذكر أفضل من الحياة لأن أثر الحياة لا يحصل إلا في مسكن ذلك الحي أما أثر الذكر الجميل فإنه يحصل في كل مكان وفي كل زمان
ثم قال تعالى وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ وفيه وجوه الأول قال الكلبي تسألون هل أديتم شكر إنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل الثاني قال مقاتل المراد أن من كذب به يسأل لم كذبه فيسأل سؤال توبيخ الثالث تسألون هل عملتم بما دل عليه من التكاليف واعلم أن السبب الأقوى في إنكار الكفار لرسالة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولبغضهم له أنه كان ينكر عبادة الأصنام فبيّن تعالى أن إنكار عبادة الأصنام ليس من خواص دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بل كل الأنبياء والرسل كانوا مطبقين على إنكاره فقال وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ ءالِهَة ً يُعْبَدُونَ وفيه أقوال الأول معناه واسأل مؤمني أهل الكتاب أي أهل التوراة والإنجيل فإنهم سيخبرونك أنه لم يرد في دين أحد من الأنبياء عبادة الأصنام وإذا كان هذا الأمر متفقاً عليه بين كل الأنبياء والرسل وجب أن لا يجعلوه سبباً لبغض محمد ( صلى الله عليه وسلم )
والقول الثاني قال عطاء عن ابن عباس ( لما أسرى به ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المسجد الأقصى بعث الله له آدم وجميع المرسلين من ولده فأذن جبريل ثم أقام فقال يا محمد تقدم فصل بهم فلما فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الصلاة قال له جبريل عليه السلام واسأل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا الآية فقال ( صلى الله عليه وسلم ) لا أسأل لأني لست شاكاً فيه )
والقول الثلث أن ذكر السؤال في موضع لا يمكن السؤال فيه يكون المراد منه النظر والاستدلال كقول من قال سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك فإنها إن لم تجبك جواباً أجابتك اعتباراً فههنا سؤال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الأنبياء الذين كانوا قبله ممتنع فكان المراد منه انظر في هذه المسألة بعقلك وتدبر فيها بفهمك والله أعلم

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِأايَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاًّيْهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَآءَهُم بِأايَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ ءَايَة ٍ إِلاَّ هِى َ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُواْ ياأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ ياقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَاذِهِ الاٌّ نْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِى َ عَلَيْهِ أَسْوِرَة ٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَة ُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلاٌّ خِرِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من إعادة قصة موسى عليه السلام وفرعون في هذا المقام تقرير الكلام الذي تقدم وذلك لأن كفار قريش طعنوا في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب كونه فقيراً عديم المال والجاه فبيّن الله تعالى أن موسى عليه السلام بعد أن أورد المعجزات القاهرة الباهرة التي لا يشك في صحتها عاقل أورد فرعون عليه هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال إني غني كثير المال والجاه ألا ترون أنه حصل لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي وأما موسى فإنه فقير مهين وليس له بيان ولسان والرجل الفقير كيفليكون رسولاً من عند الله إلى الملك الكبير الغني فثبت أن هذه الشبهة التي ذكرها كفارمكة وهي قولهن لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) وقد أوردها بعينها فرعون على موسى ثم إنا انتقمنا منهم فأغرقناهم والمقظصود من إيراد هذه القصة تقرير أمرين أحدهما أن الكفار والجهال أبداً يحتجون على الأنبياء بهذه الشبهة الركيكة فلا يبالي بها ولا يلتفت إليها والثاني أن فرعون على غاية كمال حاله في الدنيا صار مقهوراً باطلاً فيكون الأمر في حق أعدائك هكذا فثبت أنه ليس المقصود من إعادة هذه القصة عين هذه القصة بل المقصود تقرير الجواب عن الشبهة المذكورة وعلى هذا

فلا يكون هذا تقريراً للقصة ألبتة وهذا من نفائس الأبحاث والله أعلم
المسألة الثانية في تفسير الألفاظ ذكر تعالى أنه أرسل موسى بآياته وهي المعجزات التي كانت مع موسى عليه السلام إلى فرعون وملائه أي قومه فقال موسى إني رسول ربّ العالمين فلما جاءهم بتلك الآيات إذا هم منها يضحكون قيل إنه لما ألقى عصاه صار ثعباناً ثم أخذ فعاد عصاً كما كان ضحكوا ولم عرض عليهم اليد البيضاء ثم عادت كما كانت ضحكوا فإن قيل كيف جاز أن يجاب عن لما بإذا الذي يفيد المفاجأة قلنا لأن فعل المفاجأة معها مقدر كأنه قيل فلما جاءهم بآياتنا فاجأوا وقت ضحكهم
ثم قال وَمَا نُرِيِهِم مّنْ ءايَة ٍ إِلاَّ هِى َ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا فإن قيل ظاهر اللفظ يقتضي كون كل واحد منها أفضل من التالي وذلك محال قلنا إذا أُريد المبالغة في كون كل من تلك الأشياء بالغاً إلى أقصى الدرجات في الفضيلة فقد يذكر هذا الكلام بمعنى أنه لا يبعد في أناس ينظرون إليها أن يقول هذا إن هذا أفضل من الثاني وأن يقول الثاني لا بل الثاني أفضل وأن يقول الثالث أفضل وحينئذ يصير كل واحد من تلك الأشياء مقولاً فيه إنه أفضل من غيره
ثم قال تعالى وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي عن الكفر إلى الإيمان قالت المعتزلة هذا يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل وأنه إنما أظهر تلك المعجزات القاهرة لإرادة أن يرجعوا من الكفر إلى الإيمان قال المفسرون ومعنى قوله وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ أي بالأشياء التي سلطها عليها كالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس
ثم قال تعالى وَقَالُواْ يأَيُّهَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فإن قيل كيف سموه بالساحر مع قولهم إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ قلنا فيه وجوه الأول أنهم كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لأنهم كانوا يستعظمون السحر وكما يقال في زماننا في العامل العجيب الكامل إنه أتى بالسحر الثاني وَقَالُواْ يأَيُّهَ السَّاحِرُ في زعم الناس ومتعارف قوم فرعون كقوله وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( الحجر 6 ) أي نزل عليه الذكر في اعتقاده وزعمه الثالث أن قولهم إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ وقد كانوا عازمين على خلافه ألا ترى إلى قوله فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ فتسميتهم إياه بالسحر لا ينافي قولهم إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ثم بيّن تعالى أنه لما كشف عنهم العذاب نكثوا ذلك العهد
ولما حكى الله تعالى معاملة فرعون مع موسى حكى أيضاً معاملة فرعون معه فقال وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ والمعنى أنه أظهر هذا القول فقال قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَاذِهِ الاْنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى يعني الأنهار التي فصلوها من النيل ومعظمها أربعة نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس قيل كانت تجري تحت قصره وحاصل الأمر أنه احتج بكثرة أمواله وقوة جاهه على فضيلة نفسه
ثم قال أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ وعنى بكونه مهيناً كونه فقيراً ضعيف الحال وبقوله وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ حبسة كانت في لسانه واختفلوا في معنى أم ههنا فقال أبو عبيدة مجازها بل أنا خير وعلى هذا فقد تم الكلام عند قوله أَفلاَ تُبْصِرُونَ ثم ابتدأ فقال أَمْ أَنَا خَيْرٌ بمعنى بل أنا خير وقال الباقون أم هذه متصلة لأن المعنى أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وصع قوله أَنَا خَيْرٌ موضع تبصرون لأنهم إذا قالوا له أنت خير فهم عنده بصراء وقال آخرون إن تمام الكلام عند قوله أَمْ وقوله

أَنَا خَيْرٌ ابتداء الكلام والتقدير أفلا تبصرون لكنه اكتفى فيه بذكر أم كما تقول لغيرك أتأكل أم أي أتأكل أم لا تأكل تقتصر على ذكر كلمة أم إيثاراً للاختصار فكذا ههنا فإن قيل أليس أن موسى عليه السلام سأل الله تعالى أن يزيل الرتة عن لسانه بقوله وَاحْلُلْ عُقْدَة ً مّن لّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي ( طه 27 ) فأعطاه الله تعالى ذلك بقوله قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 36 ) فكيف عابه فرعون بتلك الرتة والجواب عنه من وجهين الأول أن فرعون أراد بقوله وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ حجته التي تدل على صدقه فيما يدعي ولم يرد أنه لا قدرة له على الكلام والثاني أنه عابه بما كان عليه أولاً وذلك أن موسى كان عند فرعون زماناً طويلاً وفي لسانه حبسة فنسبه فرعون إلى ما عهده عليه من الرتة لأنه لم يعلم أن الله تعالى أزال ذلك العيب عنه
ثم قال فَلَوْلاَ أُلْقِى َ عَلَيْهِ أَسْوِرَة ٌ مّن ذَهَبٍ والمراد أن عادة القوم جرت بأنهم إذا جعلوا واحداً منهم رئيساً لهم سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب فطلب فرعون من موسى مثل هذه الحالة واختلف القراء في أسورة فبعضهم قرأ وآخرون أساورة فأسورة جمع سوار لأدنى العدد كقولك حمار وأحمرة وغراب وأغربة ومن قرأ أساورة فذاك لأن أساوير جمع أسوار وهو السوار فأساورة تكون الهاء عوضاً عن الياء نحو بطريق وبطارقة وزنديق وزنادقة وفرزين وفرازنة فتكون أساورة جمع أسوار وحاصل الكلام يرجع إلى حرف واحد وهو أن فرعون كان يقول أنا أكثر مالاً وجاهاً فوجب أن أكون أفضل منه فيمتنع كونه رسولاً من الله لأن منصب النبوة يقتضي المخدومية والأخس لا يكون مخدوماً للأشرف ثم المقدمة الفاسدة هي قوله من كان أكثر مالاً وجاهاً فهو أفضل وهي عين المقدمة التي تمسك بها كفار قريش في قولهم لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) ثم قال أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَئِكَة ُ مُقْتَرِنِينَ يجوز أن يكون المراد مقرنين به من قولك قرنته به فاقترن وأن يكون من قولهم اقترنوا بمعنى تقارنوا قال الزجاج معناه يمشون معه فيدلون على صحة نبوته
ثم قال تعالى فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ أي طلب منهم الخفة في الإتيان بما كان يأمرهم به فأطاعوه إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ حيث أطاعوا ذلك الجاهل الفاسق فَلَمَّا ءاسَفُونَا أغضبونا حكي أن ابن جريج غضب في شيء فقيل له أتغضب يا أبا خالد فقال قد غضب الذي خلق الأحلام إن الله يقول فَلَمَّا ءاسَفُونَا أي أغضبونا
ثم قال تعالى انتَقَمْنَا مِنْهُمْ واعلم أن ذكر لفظ الأسف في حق الله تعالى محال وذكر لفظ الانتقام وكل واحد منهما من المتشابهات التي يجب أن يصار فيها إلى التأويل ومعنى الغضب في حق الله إرادة العقاب ومعنى الانتقام إرادة العقاب لجرم سابق
ثم قال تعالى فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً السلف كل شيء قدمته من عمل صالح أو قرض فهو سلف والسلف أيضاً من تقدم من آبائك وأقاربك واحدهم سالف ومنه قول طفيل يرثي قومه
مضواً سلفاً قصد السبيل عليهم
وصرف المنايا بالرجال تقلب فعلى هذا قال الفراء والزجاج يقول جعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون أي جعلناهم سلفاً لكفار أمة محمد عليه السلام وأكثر القراء قرأوا بالفتح وهو جمع سالف كما ذكرناه وقرأ حمزة والكسائي سَلَفاً

بالضم وهو جمع سلف قال الليث يقال سلف بضم اللام يسلف سلوفاً فهو سلف أي متقدم وقوله وَمَثَلاً لّلاْخِرِينَ يريد عظة لمن بقي بعدهم وآية وتبرة قال أبو علي الفارسي المثل واحد يراد به الجمع ومن ثم عطف على سلف والدليل على وقوعه على أكثر من واحد قوله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَى ْء وَمَن رَّزَقْنَاهُ ( النحل 75 ) فأدخل تحت المثل شيئين والله أعلم
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَائِكَة ً فِى الأرض يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَة ِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى ذكر أنواعاً كثيرة من كفرياتهم في هذه السورة وأجاب عنها بالوجوه الكثيرة فأولها قوله تعالى وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا ( الزخرف 15 ) وثانيها قوله تعالى وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) وثالثها قوله وَقَالُواْ لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ( الزخرف 20 ) ورابعها قوله وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) وخامسها هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها ولفظ الآية لا يدل إلا على أنه لما ضرب ابن مريم مثلاً أخذ القوم يضجون ويرفعون أصواتهم فأما أن ذلك المثل كيف كان وفي أي شيء كان فاللفظ لا يدل عليه والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً كلها محتملة فالأول أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا إذا عبدوا عيسى فآلهتنا خير من عيسى وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعبدون الملائكة الثاني روي أنه لما نزل قوله تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 98 ) قال عبد الله بن الزبعري هذا خاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( بل لجميع الأمم ) فقال خصمتك ورب الكعبة ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي وتثني عليه خيراً وعلى أمه وقد علمت أن النصارى يعبدونهما واليهود يعبدون عزيراً والملائكة يعبدون فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم فسكت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفرح القوم وضحكوا وضجوا فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( الأنبياء 101 ) ونزلت هذه الآية أيضاً والمعنى ولما ضرب عبدالله بن الزبعري عيسى ابن مريم مثلاً وجادل رسول الله بعبادة النصارى إياه

إذا قومك قريش منه أي من هذا المثل يصدون أي يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحاً وجدلاً وضحكاً بسبب ما رأوا من إسكات رسول الله فإنه قد جرت العادة بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الثاني الفرح والضجيج وقالوا أآلهتنا أهون الوجه الثالث في التأويل وهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح وجعلوه إلهاً لأنفسهم قال كفار مكة إن محمداً يريد أن يجعل لنا إلهاً كما جعل النصارى المسيح إلهاً لأنفسهم ثم عند هذا قالوا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا يعني أآلهتنا خير أم محمد وذكروا ذلك لأجل أنهم قالوا إن محمداً يدعونا إلى عبادة نفسه وآباؤنا زعموا أنه يجب عبادة هذه الأصنام وإذا كان لا بد من أحد هذين الأمرين فعبادة هذه الأصنام أولى لأن آباءنا وأسلافنا كانوا متطابقين عليه وأما محمد فإنه متهم في أمرنا بعبادته فكان الاشتغال بعبادة الأصنام أولى ثم إنه تعالى بيّن أنا لم نقل إن الاشتغال بعبادة المسيح طريق حسن بل هو كلام باطل فإن عيسى ليس إلا عبداً أنعمنا عليه فإذا كان الأمر كذلك فقد زالت شبهتهم في قولهم إن محمداً يريد أن يأمرنا بعبادة نفسه فهذه الوجوه الثلاثة مما يحتمل كل واحد منها لفظ الآية
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم يصدون بضم الصاد وهو قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام والباقون بكسر الصاد وهي قراءة ابن عباس واختلفوا فقال الكسائي هما بمعنى نحو يعرشون ويعرشون ويعكفون ومنهم من فرق أما القراءة بالضم فمن الصدود أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه وأما بالكسر فمعناه يضجون
المسألة الثالثة قرأ عاصم وحمزة والكسائي أآلهتنا استفهاماً بهمزتين الثانية مطولة والباقون استفهاماً بهمزة ومدة
ثم قال تعالى مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ أي ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الجدل والغلبة في القول لا لطلب الفرق بين الحق والباطل بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ مبالغون في الخصومة وذلك لأن قوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يتناول الملائكة وعيسى وبيانه من وجوه الأول أن كلمة ما لا تتناول العقلاء ألبتة والثاني أن كلمة ما ليست صريحة في الاستغراق بدليل أنه يصح إدخال لفظتي الكل والبعض عليه فيقال إنكم وكل ما تعبدون من دون الله أو إنكم وبعض ما تبعدون من دون الله الثالث أن قوله إنكم وكل ما تعبدون من دون الله أو وبعض ما تعبدون خطاب مشافهة فلعله ما كان فيهم أحد يعبد المسيح والملائكة الرابع أن قوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هب أنه عام إلا أن النصوص الدالة على تعظيم الملائكة وعيسى أخص منه والخاص مقدم على العام
المسألة الرابعة القائلون بذم الجدل تمسكوا بهذه الآية إلا أنا قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى مَا يُجَادِلُ فِى ءايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( غافر 4 ) أن الآيات الكثيرة دالة على أن الجدل موجب للمدح والثناء وطريق التوفيق أن تصرف تلك الآيات إلى الجدل الذي يفيد تقرير الحق وأن تصرف هذه الآية إلى الجدل الذي يوجب تقرير الباطل
ثم قال تعالى إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ يعني ما عيسى إلا عبد كسائر العبيد أنعمنا عليه حيث جعلناه آية بأن خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم وشرفناه بالنبوة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ

لولدنا منك يا رجال مَلَئِكَة ٌ ضَلَلْنَا فِى الاْرْضِ كما يخلفكم أولادكم كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ولتعرفوا أن دخول التوليد والتولد في الملائكة أمر ممكن وذات الله متعالية عن ذلك وَأَنَّهُ أي عيسى لَعِلْمٌ لّلسَّاعَة ِ شرط من أشراطها تعلم به فسمي الشرط الدال على الشيء علماً لحصول العلم به وقرأ ابن عباس لَعِلْمٌ وهو العلامة وقرىء للعلم وقرأ أبي لذكر وفي الحديث ( أن عيسى ينزل على ثنية في الأرض المقدسة يقال لها أفيق وبيده حربة وبها يقتل الدجال فيأتي ببيت المقدس في صلاة الصبح والإمام يؤم بهم فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به ) فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا من المرية وهو الشك وَاتَّبِعُونِ واتبعوا هداي وشرعي هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ أي هذا الذي أدعوكم إليه صراط مستقيم وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ قد بانت عداواته لكم لأجل أنه هو الذي أخرج أباكم من الجنّة ونزع عنه لباس النور
وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَة ِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الاٌّ حْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَة َ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَة ً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
اعلم أنه تعالى ذكر أنه لما جاء عيسى بالمعجزات وبالشرائع البينات الواضحات قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَة ِ وهي معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وَلابَيّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ يعني أن قوم موسى كانوا قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكاليف واتفقوا على أشياء فجاء عيسى ليبين لهم الحق في تلك المسائل الخلافية وبالجملة فالحكمة معناها أصول الدين لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ معناه فروع الدين فإن قيل لم لم يبين لهم كل الذي يختلفون فيه قلنا لأن الناس قد يختلفون في أشياء لا حاجة بهم إلى معرفتها فلا يجب على الرسول بيانها ولما بين الأصول والفروع قال فَاتَّقُواْ اللَّهَ في الكفر به والإعراض عن دينه وَأَطِيعُونِ فيما أبلغه إليكم من التكاليف إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ والمعنى ظاهر فَاخْتَلَفَ الاْحْزَابُ أي الفرق المتحزبة بعد عيسى وهم الملكانية واليعقوبية والنسطورية وقيل اليهود والنصارى فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ وهو وعيد بيوم الأحزاب فإن قيل قوله مِن بَيْنِهِمْ الضمير فيه إلى من يرجع قلنا إلى الذين خاطبهم عيسى في قوله قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَة ِ وهم قومه
ثم قال هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَة َ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَة ً فقوله أن تأتيهم بدل من الساعة والمعنى هل ينظرون

إلا إتيان الساعة فإن قالوا قوله بَغْتَة ً يفيد عين ما يفيده قوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فما الفائدة فيه قلنا يجوز أن تأتيهم بغتة وهم يعرفونه بسبب أنهم يشاهدونه
الاٌّ خِلاَءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِأايَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاٌّ نْفُسُ وَتَلَذُّ الاٌّ عْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَة ٌ كَثِيرَة ٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَة َ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَة ً ( الزخرف 66 ) ذكر عقيبه بعض ما يتعلق بأحوال القيامة فأولها الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ والمعنى الاْخِلاء في الدنيا يَوْمَئِذٍ يعني في الآخرة بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني أن الخلة إذا كانت على المعصية والكفر صارت عداوة يوم القيامة إِلاَّ الْمُتَّقِينَ يعني الموحدين الذين يخالل بعضهم بعضاً على الإيمان والتقوى فإن خلتهم لا تصير عداوة وللحكماء في تفسير هذه الآية طريق حسن قالوا إن المحبة أمر لا يحصل إلا عند اعتقاد حصول خير أو دفع ضرر فمتى حصل هذا الاعتقاد حصلت المحبة لا محالة ومتى حصل اعتقاد أنه يوجب ضرراً حصل البغض والنفرة إذا عرفت هذا فنقول تلك الخيرات التي كان اعتقاد حصولها يوجب حصول المحبة إما أن تكون قابلة للتغير والتبدل أو لا تكون كذلك فإن كان الواقع هو القسم الأول وجب أن تبدل تلك المحبة بالنفرة لأن تلك المحبة إنما حصلت لاعتقاد حصول الخير والراحة فإذا زال ذلك الاعتقاد وحصل عقيبه اعتقاد أن الحاصل هو الضرر والألم وجب أن تتبدل تلك المحبة بالبغضة لأن تبدل العلة يوجب تبدل المعلول أما إذا كانت الخيرات الموجبة للمحبة خيرات باقية أبدية غير قابلة للتبدل والتغير كانت تلك المحبة أيضاً محبة باقية آمنة من التغير إذا عرفت هذا الأصل فنقول الذين حصلت بينهم محبة ومودة في الدنيا إن كانت تلك المحبة لأجل طلب الدينا وطيباتها ولذاتها فهذه المطالب لا تبقى في القيامة بل يصير طلب الدنيا سبباً لحصول الآلام والآفات في يوم القيامة فلا جرم تنقلب هذه المحبة الدنيوية بغضة ونفرة في القيامة أما إن كان الموجب لحصول المحبة في الدنيا الاشتراك في محبة الله وفي خدمته وطاعته فهذا السبب غير قابل للنسخ والتغير فلا جرم كانت هذه المحبة باقية في القيامة بل كأنها تصير أقوى وأصفى وأكمل وأفضل مما كانت في الدنيا فهذا هو التفسير المطابق لقوله

تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ تَحْزَنُونَ وقد ذكرنا مراراً أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المطيعين المتقين فقوله فَبَشّرْ عِبَادِ كلام الله تعالى فكأن الحق يخاطبهم بنفسه ويقول لهم الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ وفيه أنواع كثيرة مما يوجب الفرح أولها أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطة وثانيها أنه تعالى وصفهم بالعبودية وهذا تشريف عظيم بدليل أنه لما أراد أن يشرف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج قال سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ ( الإسراء 1 ) وثالثها قوله لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ فأزال عنهم الخوف في يوم القيامة بالكلية وهذا من أعظم النعم ورابعها قوله وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ فنفى عنهم الحزن بسبب فوت الدنيا الماضية
ثم قال تعالى الَّذِينَ ءامَنُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ قيل الَّذِينَ كَفَرُواْ مبتدأ وخبره مضمر والتقدير يقال لهم أدخلوا الجنة ويحتمل أن يكون المعنى أعني الذين آمنوا قال مقاتل إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى منادٍ الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم فيقال الَّذِينَ ءامَنُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ فتنكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم الحكم الثالث من وقائع القيامة أنه تعالى إذا أمن المؤمنين من الخوف والحزن وجب أن يمر حسابهم على أسهل الوجوه وعلى أحسنها ثم يقال لهم ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ أَنتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ والحبرة المبالغة في الإكرام فيما وصف بالجميل يعني يكرمون إكراماً على سبيل المبالغة وهذا مما سبق تفسيره في سورة الروم
ثم قال يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ قال الفراء الكوب المستدير الرأس الذي لا أذن له فقوله يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ إشارة إلى المطعوم وقوله وَأَكْوابٍ إشارة إلى المشروب ثم إنه تعالى ترك التفصيل وذكر بياناً كلياً فقال وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
ثم قال وَتِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وقد ذكرنا في وراثة الجنة وجهين في قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ( المؤمنون 10 11 ) ولما ذكر الطعام والشراب فيما تقدم ذكر ههنا حال الفاكهة فقال لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَة ٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ
واعلم أنه تعالى بعث محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) إلى العرب أولاً ثم إلى العالمين ثانياً والعرب كانوا في ضيق شديد بسبب المأكول والمشروب والفاكهة فلهذا السبب تفضل الله تعالى عليهم بهذه المعاني مرة بعد أخرى تكميلاً لرغبتهم وتقوية لدواعيهم

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعد أردفه بالوعيد على الترتيب المستمر في القرآن وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج القاضي على القطع بوعيد الفسق بقوله إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ولفظ المجرم يتناول الكافر والفاسق فوجب كون الكل في عذاب جهنم وقوله خَالِدُونَ يدل على الخلود وقوله أيضاً لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ يدل على الخلود والدوام أيضاً والجواب أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على أن المراد من لفظ المجرمين ههنا الكفار أما ما قبل هذه الآية فلأنه قال عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِئَايَاتِنَا ( الزخرف 68 69 ) فهذا يدل على أن كل من آمن بآيات الله وكانوا مسلمين فإنهم يدخلون تحت قوله الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ والفاسق من أهل الصلاة آمن بالله تعالى وبآياته وأسلم فوجب أن يكون داخلاً تحت ذلك الوعد ووجب أن يكون خارجاً عن هذا الوعيد وأما ما بعد هذه الآية فهو قوله جِئْنَاكُم بِالْحَقّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ والمراد بالحق ههنا إما الإسلام وإما القرآن والرجل المسلم لا يكره الإسلام ولا القرآن فثبت أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على أن المراد من المجرمين الكفار والله أعلم
المسألة الثانية أنه تعالى وصف عذاب جهنم في حق المجرمين بصفات ثلاثة أحدهما الخلود وقد ذكرنا في مواضع كثيرة أنه عبارة عن طول المكث ولا يفيد الدوام وثانيها قوله لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ أي لا يخفف ولا ينقص من قولهم فترت عنه الحمى إذا سكنت ونقص حرها وثالثها قوله وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ والمبلس اليائس الساكت سكوت يائس من فرج عن الضحاك يجعل المجرم في تابوت من نار ثم يقفل عليه فيبقى فيه خالداً لا يرى قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء وَهُمْ فِيهَا أي وهم في النار
المسألة الثالثة احتج القاضي بقوله تعالى وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ فقال إن كان خلق فيهم الكفر ليدخلهم النار فما الذي نفه بقوله وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وما الذي نسبه إليهم مما نفاه عن نفسه أو ليس لو أثبتناه ظلماً لهم كان لا يزيد على ما يقوله القوم فإن قالوا ذلك الفعل لم يقع بقدرة الله عزّ وجل فقط بل إنما وقع بقدرة الله مع قدرة العبد معاً فلم يكن ذلك ظلماً من الله قلنا عندكم أن القدرة على الظلم موجبة للظلم وخالق تلك القدرة هو الله تعالى فكأنه لما فعل مع خلق الكفر قدرة على الكفر خرج عن أن يكون ظالماً لهم وذلك محال لأن من يكون ظالماً في فعل فإذا فعل معه ما يوجب ذلك الفعل يكون بذلك أحق فيقال للقاضي قدرة العبد هل هي صالحة للطرفين أو هي متعينة لأحد الطرفين فإن كانت صالحة لكلا الطرفين فالترجيح إن وقع لا لمرجع لزم نفي الصانع وإن افتقر إلى مرجح عاد التقسيم الأول فيه ولا بد وأن ينتهي إلى داعية مرجحة يخلقها الله في العبد وإن كانت متعينة لأحد الطرفين فحينئذٍ يلزمك ما أوردته علينا

واعلم أنه ليس الرجل من يرى وجه الاستدلال فيذكره إنما الرجل الذي ينظر فيما قبل الكلام وفيما بعده فإن رآه وارداً على مذهبه بعينه لم يذكره والله أعلم
المسألة الرابعة قرأ ابن مسعود مّن مَّالِ بحذف الكاف للترخيم فقيل لابن عباس إن ابن مسعود قرأ وَنَادَوْاْ يامَالِكُ مَّالِ فقال ما أشغل أهل النار عن هذا الترخيما واجيب عنه بأنه إنما حسن هذا الترخيم لأنه يدل على أنهم بلغوا في الضعف والنحافة إلى حيث لا يمكنهم أن يذكروا من الكلمة إلا بعضها
المسألة الخامسة اختلفوا في أن قولنم وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ على أي وجه طلبوا فقال بعضهم على التمني وقال آخرون على وجه الاستغاثة وإلا فهم عالمون بأنه لا خلاص لهم عن ذلك العقاب وقيل لا يبعد أن يقال إنهم لشدة ما هم فيه من العذاب نسوا تلك المسألة فذكروه على وجه الطلب ثم إنه تعالى بيّن أن مالكاً يقول لهم إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ وليس في القرآن متى أجابهم هل أجابهم في الحال أو بمدة طويلة فلا يمتنع أن تؤخر الإجابة استخفافاً بهم وزيادة في غمهم فعن عبد الله بن عمر بعد أربعين سنة وعن غيره بعد مائة سنة وعن ابن عباس بعد ألف سنة والله أعلم بذلك المقدار
ثم بيّن تعالى أن مالكاً لما أجابهم بقوله إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ ذكر بعده ما هو كالعلة لذلك الجواب فقال لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ والمراد نفرتهم عن محمد وعن القرآن وشدة بغضهم لقبول الدين الحق فإن قيل كيف قال وَنَادَوْاْ يامَالِكُ مَالِكَ بعد ما وصفهم بالإبلاس قلنا تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتاً لشدة ما بهم روي أنه يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون ادعوا مالكاً فيدعون وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ولما ذكر الله تعالى كيفية عذابهم في الآخرة ذكر بعده كيفية مكرهم وفساد باطنهم في الدنيا فقال أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ والمعنى أم أبرموا أي مشركون مكة أمراً من كيدهم ومكرهم برسول الله فإنا مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ ( الطور 42 ) قال مقاتل نزلت في تدبيرهم في المكر به في دار الندوة وهو ما ذكره الله تعالى في قوله تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الأنفال 30 ) وقد ذكرنا القصة
ثم قال أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُم السر ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال والنجوى ما تكلموا به فيما بينهم بَلَى نسمعها ونطلع عليها وَرُسُلُنَا يريد الحفظة يَكْتُبُونَ عليهم تلك الأحوال وعن يحيى بن معاذ من ستر من الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السموات فقد جعله أهون الناظرين إليه وهو من علامات النفاق

قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ والأرض رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمآءِ إِلَاهٌ وَفِى الأرض إِلَاهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَة َ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ وَقِيلِهِ يارَبِّ إِنَّ هَاؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وَلَدَ بضم الواو وإسكان اللام والباقون بفتحها فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ قرأ نافع فَإِنَّا بفتحة طويلة على النون والباقون بلا تطويل
المسألة الثانية اعلم أن الناس ظنوا أن قوله قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لو أجريناه على ظاهره فإنه يقتضي وقوع الشك في إثبات ولد لله تعالى وذلك محال فلا جرم افتقروا إلى تأويل الآية وعندي أنه ليس الأمر كذلك وليس في ظاهر اللفظ ما يوجب العدول عن الظاهر وتقريره أن قوله إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ قضية شرطية والقضية الشرطية مركبة من قضيتين خبريتين أدخل على إحداهما حرف الشرط وعلى الأخرى حرف الجزاء فحصل بمجموعها قضية واحدة ومثاله هذه الآية فإن قوله إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ قضية مركبة من قضيتين إحداهما قوله قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ والثانية قوله فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدُونَ ثم أدخل حرف الشرط وهو لفظة إن على لقضية الأولى وحرف الجزاء وهو الفاء على القضية الثانية فحصل من مجموعها قضية الأولى واحدة وهو القضية الشرطية إذ عرفت هذا فنقول القضية الشرطية لا تفيد إلا كون الشرط مستلزماً للجزاء وليس فيه إشعار بكون الشرط حقاً أو باطلاً أو بكون الجزاء حقاً أو باطلاً بل نقول القضية الشرطية الحقة قد تكون مركبة من قضيتين حقيتين أو من قضيتين باطلتين أو من شرط باطل وجزاء حق أو من شرط حق وجزاتء باطل فأما القسم الرابع وهو أن تكون القضية الشرطية الحقة مركبة من شرط حق وجزاء باطل فهذا محال
ولنبين أمثال هذه الأقسام الأربعة فإذا قلنا إن كان الإنسان حيواناً فالإنسان جسم فهذه شرطية حقة وهي مركبة من قضيتين حقيتين إحداهما قولنا الإنسان حيوان والثانية قولنا الإنسان

جسم وإذا قلنا إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين فهذه شرطية حقة لكنها مركبة من قولنا لخمسة زوج ومن قولنا لخمسة منقسمة بمتساويين وهما باطلان وكونهم باطلين لا يمنع من أن كيون استلزام أحدهما للآخر حقاً وقد ذكرنا أن القضية الشرطية لا تفيد إلا مجرد الاستلزام وإذا قلنا إن كان الإنسان حجراً فهو جسم فهذ جسم فهذا أيضاً حق لكنها مركبة من شرط باطل وهو قولنا الإنسان حجر ومن جزء حق وهو قولنا الإنسان جسم وإنما جاز هذالأن الباطل قد يكون بحيث يلزم من فرض وقوعه وقوع حق فإنا فرضنا كون لإنسان حجراً وجب كونه جسماً فهذا شرط باطل يستلزم جزءاً حقاً
وأما القسم الرابع وهو تركيب قضية شرطية حقة من شرط حق وجزاء باطل فهذا محال لأن هذا التركيب يلزم منه كون الحق مستلزماً للباطل وذلك محال بخلاف القسم الثالث فإنه يلزم منه كون الباطل مستلزماً للحق وذلك ليس بمحال إذا عرفت هذا الأصل فلنرجع إلى الآية فنقول قوله إِن كَانَ الرَّحْمَنُ وَلَداً فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ قضية شرطية حقة من شرط باطل ومن جزاء باطل لأن قولنا كان للرحمن ولد باطل وقولنا أنا أول العابدين لذلك الولد باطل أيضاً إلا أنا بينا أن كون كل واحد منهما باطلاً لا يمنع من أن يكون استلزام أحدهما للآخر حقاً كما ضربنا من المثال في قولنا إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين فثبت أن هذا لكلام لا امتناع في إجرائه على ظاهره ويكون المراد منه أنه إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لذلك الولد فإن لسلطان إذا كان له ولد فكما يجب على عبده أن يخدمه فكذلك يجب عليه أن يخدم ولده وقد بينا أن هذا التركيب لا يدل على الاعتراف بإثبات ولد أم لا
ومما يقرب من هذا الباب قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) فهذا الكلام قضية شرطية والشرط هو قولنا فِيهِمَا الِهَة ٌ والجزاء هو قولنا فسدتا فالشرط في نفسه باطل والجزاء أيضاً باطل لأن الحق أنه ليس فيهما آلهة وكلمة لو تفيد الشيء باتنفاء غيره لأنهما ما فسدتا ثم مع كون الشرط باطلاً وكون الجزاء باطلاً كان استلزام ذلك الشرط لهذا الجزء حقاً فكذا ههنا فإن قالوا الفرق أن هننا ذكر الله تعالى هذه الشرطية بصيغة لو فقال يُنشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره وأما في لآية التي نحن في تفسيرها إنما ذكر الله تعالى كلمة إن وهذه الكلمة لا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره بل هذه الكلمة تفيد الشك في أنه هل حصل الشرط أم لا وحصول هذا الشك للرسول غير ممكن قلنا القرف الذي ذكرتم صحيح إلا أن مقصودنا بيان أنه لا يلزم من كون الشرطية صادقة كون جزءيها صادقتين أو كذبتين على ما قررناه أما قوله إن لفظة أن تفيد حصول الشرط هل حصل أم لا قلنا هذا ممنوع فإن حرف ءن حرف الشرط وحرف الشرط لا يفيد كون الشرط مستلزماً للجزار وأما بيان أن ذلك الشرط معلوم الوقوع أو مشكوك الوقوع فاللفظ لا دلالة فيه عليه البتة فظهر من المباحث التي لخصناها أن الكلام ههنا ممكن الإجراء على ظاهره من جميع الوجوه وأنه لا حاجة فيه ألبتة إلى التأويل والمعنى أنه تعالى قال قُلْ يا محمد إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لذلك الولد وأنا أول الخادمين له والمقصود من هذا الكلام بيان أنى لا أنكر ولده لأجل العناد والمنازعة فإن بتقدير أن يقوم الدليل على ثبوت هذا الولد كنت مقراً به معترفاً بوجوب خدمته إلا أنه لم يوجد هذا الولد ولم يقم الدليل على ثبوته ألبتة فكيف أقول به بل الدليل القاطع قائم على عدمه فكيف أقول به وكيف أعترف بوجوده وهذا الكلام ظاهر كامل لا حاجة به ألبتة إلى التأويل والعدول عن الظاهر فهذا ما عندي في هذ الموضع ونقل عن السدي من المفسرين أنه كان يقول حمل هذه الآية على ظاهرها ممكن ولا حاجة إلى لتأويل والتقرير الذي ذكرناه يدل على أن الذي قاله هو الحق أما القائلون بأنه لا بد من التأويل فقد ذكروا وجوهاً الأول قال الواحدي كثرت الوجوه في تفسير هذه الآية والأقوى أن يقال المعنى إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ في زعمكم فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ أي الموحدين لله

المكذبين لوقلكم بإضافة الولد إليه ولقائل أن يقول إما أن يكون تقدير الكلام إن يثبت للرحمن ولد في نفس الأمر فأنا أول المنكرين له أو يكون التقدير إن يثبت لكم ادعاء أن للرحمن ولداً فأنا أول المنكرين له والأول باطل لأن ثبوت الشيء في نفسه لا يقتضي كون الرسول منكراً له لأن قوله إن كان الشيء إثباتاً في نفسه فأنا أول المنكرين يقتضي إصراره على الكذب والجهل وذلك لا يليق بالرسول والثاني أيضاً باطل لأنهم سواء أثبتوا لله ولداً أو لم يثبتوه له فالرسول منكر لذلك الولد فلم يكن لزعمهم تأثير في كون الرسول منكراً لذلك الولد فلم يصلح جعل زعمهم إثبات الولد مؤثراً في كون الرسول منكراً للولد
الوجه الثاني قالوا معناه إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتدت أنفته فهو عبد وعابد وقرأ بعضهم ( عبدين )
واعلم أن السؤال المذكور قائم ههنا لأنه إن كان المراد إن كان للرحمن ولد في نفس الأمر فأنا أول الآنفين من الإقرار به فهذا يقتضي الإصرار على الجهل والكذب وإن كن المرد إن كان للرحمن ولد في زعمكم واعتقادكم فأنا أول الآنفين فهذا التعليق فاسد لأن هذه الأنفة حاصلة سواء حصل ذلك الزعم والاعتقاد أو لم يحصل وإذا كان الأمر كذلك لم يكن هذا التعليق جائزاً
والوجه الثالث قال بعضهم إن كلمة إن ههنا هي النفية والتقدير ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له
واعلم أن التزام هذه الوجوه البعيدة إنما يكون للضرورة وقد بينا أنه لا ضرورة ألبتة فلم يجز المصير إليها والله أعلم
ثم قال سبحانه وتعالى سُبْحَانَ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ والمعنى أن إله العالم يجب أن يكون واجب الوجود لذاته وكل ما كان كذلك فهو فرد مطلق لا يقبل التجزأ بوجه من الوجوه والولد عبارة عن أن ينفصل عن الشيء جزء من أجزائه فيتولد عن ذلك الجزء شخص مثله وهذا إنما يعقل فيما تكون ذاته قابلة للتجزىء والتبعيض وإذا كان ذلك محالاً في حق إله العالم امتنع إثبات الولد له ولما ذكر هذا البرهان القاطع قال فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ والمقصود منه التهديد يعني قد ذكرت الحجة القاطعة على فساد ما ذكروا وهم لم يلتفتوا إليها لأجل كونهم مستغرقين في طلب المال والجاه والرياسة فاتركهم في ذلك الباطل واللعب حتى يصلوا إلى ذلك اليوم الذي وعدوا فيه بما وعدوا والمقصود منه التهديد
ثم قال تعالى وَهُوَ الَّذِى فِى السَّماء إِلَاهٌ وَفِى الاْرْضِ إِلَاهٌ وفي أبحاث
البحث الأول قال أبو علي نظرت فيما يرتفع به إله فوجدت ارتفاعه يصح بأن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير وهو الذي في السماء هو إله
والبحث الثاني هذه الآية من أدل الدلائل على أنه تعالى غير مستقر في المساء لأنه تعالى بيّن بهذه الآية أن نسبته إلى السماء بالإلهية كنسبته إلى الأرض فلما كان إلهاً للأرض مع أنه غير مستقر فيها فكذلك يجب أن يكون إلهاً للسماء مع أنه لا يكون مستقراً فيها فإن قيل وأي تعلق لهذا الكلام بنفي الولد عن الله

تعالى قلنا تعلقه به أنه تعالى خلق عيسى بمحض كن فيكون من غير واسطة النطفة والأب فكأنه قيل إن هذا القدر لا يوجب كون عيسى ولداً لله سبحانه لأن هذا المعنى حاصل في تخليق السموات والأرض وما بينهما من انتفاء حصول الولدية هناك
ثم قال تعالى وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وقد ذركنا في سورة الأنعام أن كون تعالى حكيماً عليماً ينافي حصول الولد له
ثم قال وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ واعلم أن قوله تبارك إما أن يكون مشتقاً من الثبات والبقاء وإما أن يكون مشتقاً من كثرة الخير وعلى التقديرين فكل واحد من هذين الوجهين ينافي كون عيسى عليه السلام ولداً لله تعالى لأنه إن كان المراد منه الثبات والبقاء فعيس عليه السلام لم يكن واجب البقاء والدوام لأنه حدث بعد أن لم يكن ثم عند النصارى أنه قتل ومات ومن كان كذلك لم يكن بينه وبين الباقي الدائم الأزلي مجانسة ومشابهة فامتنع كونه ولداً له وإن كان المراد بالبركة كثرة الخيرات مثل كونه خالقاً للسموات والأرض وما بينهما فعيسى لم يكن كذلك بل كان محتاجاً إلى الطعام وعند النصارى أنه كان خائفاً من اليهود وبالآخرة أخذوه وقتلوه فالذي هذا صفته كيف يكون ولدً لمن كان خالقاً للسموات والأرض وما بينهماا
وأما قوله وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ فالمقصود منه أنه لما شرح كمال قدرته فكذلك شرح كمال علمه والمقصود التنبيه على أن من كان كاملاً في الذات والعلم والقدرة على الحد الذي شرحناه امتنع أن يكون ولده في العجز وعدم الوقوف على أحوال العالم بالحد الذي وصفه النصارى
ولما أطنب الله تعالى في نفي الولد أردفه ببيان نفي الشركاء فقال وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَة َ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَهُمْ ذكر المفسرون في هذه الآية قولين أحدهما أن الذين يدعون من دونه الملائكة وعيسى وعزيز والمعنى أن الملائكة وعيس وعزيزاً لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق روي أن النصر بن الحرث ونفراً معه قالوا إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من محمد فأنزل الله هذه الآية يقول لا يقدر هؤلاء أن يشفعوا لأحد ثم استثنى فقال الشَّفَاعَة َ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ والمعنى على هذا القول هؤلاء لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق فأضمر اللام أو يقال التقدير إلا شفاعة من شهد بلحق فحذف المضاف وهذ على لغة من يعدي الشفاعة بغير لام فيقول شفعت فلاناً بمعنى شفعت له كما تقول كلمته وكلمت له ونصحته ونصحت له والقول الثاني ى ن الذين يدعون من دونه كل معبود من دون الله وقوله إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ الملائكة وعيسى وعزيز والمعنى أن الأشياء التي عبدها الكفار لا يملكون الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم الملائكة وعيسى وعزيز فإن لهم شفاعة عند الله ومنزلة ومعنى من شهد بالحق من شهد أنه لا إله إلا الله
ثم قال تعالى وَهُمْ يَعْلَمُونَ وهذا القيد يدل على أن الشهادة باللسان فقط لا تفيد ألبتة واحتج القائلون بأن إيمان المقلد لا ينفع ألبتة فقالوا بيّن الله تعالى أن الشهادة لا تنفع إلا إذا حصل معها العلم والعلم عبارة عن اليقين الذي لو شكك صاحبه فيه لم يتشكك وهذا لم يحصل إلا عند الدليل فثبت أن إيمان المقلد لا ينفع ألبتة

ثم قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ظن قوم أن هذه الآية وأمثالها في القرآن تدل على أن القوم مضطرون إلى الاعتراف بوجود الإله للعالم قال الجبائي وهذا لا يصح لأن قوم فرعون قالوا لا إله لهم غيره وقوم إبراهيم قالوا وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ ( إبراهيم 9 ) فيقال لهم لا نسلم أن قوم فرعون كانوا منكرين لوجود الإله والدليل على قولنا قوله تعالى وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً ( النمل 14 ) وقال موسى لفرعون لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بَصَائِرَ ( الإسراء 102 ) فالقراءة بفتح التاء في علمت تدل على أن فرعون كان عارفاً بالله وأما قوم إبراهيم حيث قالوا وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ فهو مصروف إلى إثبات القيامة وإثبات التكاليف وإثبات النبوة
المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى ذكر هذا الكلام في أول هذه السورة وفي آخرها والمقصود التنبيه على أنهم لما اعتقدوا أن خالق العالم وخالق الحيوانات هو الله تعالى فكيف أقدموا مع هذا الاعتقاد على عبادة أجسام خسيسة وأصنام خبيثة لا تضر ولا تنفع بل هي جمادات محضة
وأما قوله فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ معناه لم تكذبون على الله فتقولون إن الله أمرنا بعبادة الأصنام وقد احتج بعض أصحابنا به على أن إفكهم ليس منهم بل من غيرهم بقوله فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وأجاب القاضي بأن من يضل في فهم الكلام أو في الطريق يقال له أين يذهب بك والمراد أين تذهب وأجاب الأصحاب بأن قول القائل أين يذهب بك ظاهره يدل على أن ذاهباً آخر ذهب به فصرف الكلام عن حقيقته خلاف الأصل الظاهر وأيضاً فإن الذي ذهب به هو الذي خلق تلك الداعية في قلبه وقد ثبت بالبرهان الباهر أن خالق تلك الداعية هو الله تعالى
ثم قال تعالى وَقِيلِهِ يارَبّ رَبّ إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ وفيه مباحث
الأول قرأ الأكثرون وَقِيلِهِ بفتح اللام وقرأ عاصم وحمزة بكسر اللام قال الواحدي وقرأ أناس من غير السبعة بالرفع أما الذين قرؤا بالنصب فذكر الإخفش والفراء فيه قولين أحدهما أنه نصب على المصدر بتقدير وقال قيله وشكا شكواه إلى ربه يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فانتصب قيله بإضمار قال والثاني أنه عطف على ما تقدم من قوله أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُم وَقِيلِهِ ( الزخرف 80 ) وذكر الزجاج فيه وجهاً ثالثاً فقال إنه نصب على موضع الساعة لأن قوله وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ معناه أنه علم الساعة والتقدير علم الساعة وقيله ونظيره قولك عجبت من ضرب زيد وعمراً وأما القراءة يبالجر فقال الأخفش والفراء والزجاج إنه معطوف على الساعة أي عنده علم الساعة وعلم قيله يا رب قال المبرد العطف على المنصوب حسن وإن تباعد المعطوف من المعطوف عليه لأنه يجوز أن يفصل بين المنصوب وعامله والمجرور يجوز ذلك فيه على قبح وأما القراءة بالرفع ففيها وجهان الأول أن يكون وَقِيلِهِ مبتدأ وخبره ما بعده والثاني أن يكون معطوفاً على علم الساعة على تقدير حذف المضاف معناه وعنده علم الساعة وعلم قيله قال صاحب ( الكشاف ) هذه الوجوه ليست قوية في المعنى لا سيما وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضاً ثم ذكر وجهاً آخر وزعم أنه أقوى مما سبق وهو أن يكون النصب والجر على إضمار حرف القسم وحذفه والرفع على قولهم أيمن الله وأمانة الله ويمين الله يكون قوله إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ جواب القسم كأنه قيل

وأقسم بقيله يا رب أو وقيله يا رب قسمي وأقوله هذا الذي ذكره صاحب ( الكشاف ) متكلف أيضاً وههنا إضمار امتلأ القرآن منه وهو إضمار اذكر والتقدير واذكر قيله يا رب وأما القراءة بالجر فالتقدير واذكر وقت قيله يا رب وإذا وجب التزام الإضمار فلأن يضمر شيئاً جرت العادة في القرآن بالتزام إضمار أولى من غيره وعن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله وَقِيلِهِ يارَبّ رَبّ المراد وقيل يا رب والهاء زيادة
البحث الثاني القيل مصدر كالقول ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( نهى عن قيل وقال ) قال الليث تقول العرب كثر فيه القيل والقال وروى شمر عن أبي زيد يقال ما أحسن قيلك وقولك وقالك ومقالتك خمسة أوجه
البحث الثالث الضمير في قيله لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
البحث الرابع أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما ضجر منهم وعرف إصرارهم أخبر عنهم أنهم قوم لا يؤمنون وهو قريب مما حكى الله عن نوح أنه قال رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً ( نوح 21 )
ثم إنه تعالى قال له فَاصْفَحْ عَنْهُمْ فأمره بأن يصفح عنهم وفي ضمنه منعه من أن يدعو عليهم بالعذاب والصفح هو الإعراض
ثم قال وَقُلْ سَلَامٌ قال سيبويه إنما معناه المتاركة ونظيره قول إبراهيم لأبيه سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ( مريم 47 ) وكقوله سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ( القصص 55 )
قوله فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ والمقصود منه التهديد وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر تعلمون بالتاء على الخطاب والباقون بالياء كناية عن قوم لا يؤمنون
المسألة الثانية احتج قوم بهذه الآية على أنه يجوز السلام على الكافر وأقول إن صظح هذا الاستدلال فهذا يوجب الاقتصار على نجرد قوله سلام وأن يقال للمؤمن سلام عليكم والمقصود التنبيه على التحية التي تذكر للمسلم والكافر
المسألة الثالثة قال ابن عباس قوله تعالى فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ منسوخ بآية السيف وعندي أن التزام النسخ في أمثال هذه المواضع مشكل لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة فإذا أتى به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ فأي حاجة فيه إلى التزام النسخ وأيضاً فمثله يمين الفور مشهورة عند الفقهاء وهي دالة على أن اللفظ قد يتقيد بحسب قرينة العرف وإذا كان الأمر كذلك فلا حاجة فيه إلى التزام النسخ والله أعلم بالصواب

سورة الدخان
خمسون وتسع آيات مكية
إلا قوله إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ
بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَة ً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ لاَ إله إِلاَّ هُوَ يُحْى ِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الاٌّ وَّلِينَ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ وجوه من الاحتمالات أولها أن يكون التقدير هذه حام والكتاب المبين كقولك هذا زيد والله وثانيها أن يكون الكلام قد تمّ عند قوله حم ثم يقال وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ وثالثها أن يكون التقدير وحام والكتاب المبين إنا أنزلناه فيكون ذلك في التقدير قسمين على شيء واحد
المسألة الثانية قالوا هذا يدل على حدوث القرآن لوجوه الأول أن قوله حم تقديره هذه حام يعني هذاشيء مؤلف من هذه الحروف والمؤلفد من الحروف المتعاقبة محدث الثاني أنه ثبت أن الحلف لا يصح بهذه الأشياء بل بإلاه هذه الأشياء فيكون التقدير ورب حام ورب الكتاب المبين وكل من كان مربوباً فهو محدث الثالث أنه وصفه بكونه كتاباً والكتاب مشتق من الجمع فمعناه أنه مجموع والمجموع محل تصرف

الغير وما كان كذلك فهو محدث الرابع قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ والمنزل محل تصرف الغير وما كان كذلك فهو محدث وقد ذكرنا مراراً أن جميع هذه الدلائل تدل على أن الشيء المركب من الحروف المتعاقبة والأصوات المتوالية محدث والعلم بذلك ضروري بديهي لا ينازع فيه إلا من كان عديم العقل وكان غير عارف بمعنى القديم والمحدث وإذا كان كذلك فكيف ينازع في صحة هذه الدلائل إنما الذي ثبت قدمه شيء آخر سوى ما تركب من هذه الحروف والأصوات
المسألة الثالثة يجوز أن يكون المراد بالكتاب ههنا الكتب المتقدمة التي أنزلها الله على أنبيائه كما قال تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ( الحديد 25 ) ويجوز أن يكون المراد اللوح المحفوظ كما قال يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ( الرعد 39 ) وقال وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا ( الزخرف 4 ) ويجوز أن يكون المراد به القرآن وبهذا التقدير فقد أقسم بالقرآن على أنه أنزل القرآن في ليلة مباركة وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم رجل له حاجة إليه أستشفع بك إليك وأقسم بحقك عليك
المسألة الرابعة الْمُبِينُ هو المشتمل على بيان ما بالناس حاجة إليه في دينهم ودنياهم فوصفه بكونه مبيناً وإن كانت حقيقة الإبانة لله تعالى لأجل أن الإبانة حصلت به كما قال تعالى وَأَنَّ هَاذَا إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يَقُصُّ عَلَى ( النمل 76 ) وقال في آية أخرى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( يوسف 3 ) وقال أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ ( الروم 35 ) فوصفه بالتكلم إذ كان غاية في الإبانة فكأنه ذو لسان ينطق والمعنى فيه المبالغة في وصفه بهذا المعنى
المسألة الخامسة اختلفوا في هذه الليلة المباركة فقال الأكثرون إنها ليلة القدر وقال عكرمة وطائفة آخرون إنها ليلة البراءة وهي ليلة النصف من شعبان أما الأولون فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه أولها أنه تعالى قال إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) وهاهنا قال إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ فوجب أن تكون هذه الليلة المباركة هي تلك المسماة بليلة القدر لئلا يلزم التناقض وثانيها أنه تعالى قال شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( البقرة 185 ) فبيّن أن إنزال القرآن إنما وقع في شهر رمضان وقال هاهنا إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ فوجب بأن تكون هذه الليلة واقعة في شهر رمضان وكل من قال إن هذه الليلة المباركة واقعة في شهر رمضان قال إنها ليلة القدر فثبت أنها ليلة القدر وثالثها أنه تعالى قال في صفة ليلة القدر تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِى َ ( القدر 4 5 ) وقال أيضاً ههنا فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وهذا مناسب لقوله تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ وَالرُّوحُ فِيهَا وههنا قال أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا وقال في تلك الآية بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ وقال ههنا رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ وقال في تلك الآية سَلَامٌ هِى َ وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى ورابعها نقل محمد بن جرير الطبري في ( تفسيره ) عن قتادة أنه قال نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان والتوراة لست ليال منه والزبور لاثنتي عشرة ليلة مضت منه والإنجيل لثمان عشرة ليلة مضت منه والقرآن لأربع وعشرين ليلة مضت من رمضان والليلة المباركة هي ليلة القدر وخامسها أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم ومعلوم أنه ليس قدرها وشرفها لسبب ذلك الزمان لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمور شريفة عالية لها قدر عظيم ومرتبة رفيعة ومعلوم أن

منصب الدين أعلى وأعظم من منصب الدينا وأعلى الأشياء وأشرفها منصباً في الدين هو القرآن لأجل أن به ثبتت نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل في سائر كتب الله المنزّلة كما قال في صفته وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ( المائدة 48 ) وبه ظهرت درجات أرباب السعادات ودركات أرباب الشقاوات فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدراً وأعلى ذكراً وأعظم منصباً منه فلو كان نزوله إنما وقع في ليلة أخرى سوى ليلة القدر لكانت ليلة القدر هي هذه الثانية لا الأولى وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر التي وقعت في رمضان علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة وأما القائلون بأن المراد من الليلة المباركة المذكورة في هذه الآية هي ليلة النصف من شعبان فما رأيت لهم فيه دليلاً يعول عليه وإنما قنعوا فيه بأن نقلوه عن بعض الناس فإن صح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيه كلام فلا مزيد عليه وإلا فالحق هو الأول ثم إن هؤلاء القائلين بهذا القول زعموا أن ليلة النصف من شعبان لها أربعة أسماء الليلة المباركة وليلة البراءة وليلة الصك وليلة الرحمة وقيل إنما سميت بليلة البراءة وليلة الصك لأن البندار إذا استوفى الخلاج من أهله كتب لهم البراءة كذلك الله عزّ وجلّ يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة وقيل هذه الليلة مختصة بخمس خصال الأول تفريق كل أمر حكيم فيها قال تعالى فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ والثانية فضيلة العبادة فيها قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من صلّى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله إليه مائة ملك ثلاثون يبشرونه بالجنة وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان ) الخصلة الثالثة نزول الرحمة قال عليه السلام ( إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب ) والخصلة الرابعة حصول المغفرة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن أو مشاحن أو مدمن خمر أو عاق للوالدين أو مصر على الزنا ) والخصلة الخامسة أنه تعالى أعطى رسوله في هذه الليلة تمام الشفاعة وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطي الثلث منها ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطي الثلثين ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطي الجميع إلا من شرد على الله شراد البعير هذا الفصل نقلته من ( الكشاف ) فإن قيل لا شك أن الزمان عبارة عن المدة الممتدة التي تقديرها حركات الأفلاك والكواكب وأنه في ذاته أمر متشابه الأجزاء فيمتنع كون بعضها أفضل من بعض والمكان عبارة عن الفضاء الممتد والخلاء الخالي فيمتنع كون بعض أجزائه أشرف من البعض وإذا كان كذلك كان تخصيص بعض أجزائه بمزيد الشرف دون الباقي ترجيحاً لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وإنه محال قلنا القول بإثبات حدوث العالم وإثبات أن فاعله فاعل مختار بناء على هذا الحرف وهو أنه لا يبعد من الفاعل المختار تخصيص وقت معين بإحداث العالم فيه دون ما قبله وما بعده فإن بطل هذا الأصل فقد بطل حدوث العالم وبطل الفاعل المختار وحينئذ لا يكون الخوض في تفسير القرآن فائدة وإن صح هذا الأصل فقد زال ما ذكرتم من السؤال فهذا هو الجواب لالمعتمد والناس قالوا لا يبعد ( أن يخص الله تعالى بعض الأوقات بمزيد تشريف حتى يصير ذلك داعياً للمكلف إلى الإقدام على الطاعات في ذلك الوقت ولهذا السبب بيّن أنه تعالى أخفاه في الأوقات وماعيته لأنه لم يكن معيناً جوز المكلف في كل وقت معين أن يكون هو ذلك الوقت الشريف فيصير ذلك حاملاً له على المواظبة على الطاعات في كل الأوقات وإذا وقعت على هذا الحرف ظهر عندك أن الزمان والمكان إنما فازا بالتشريفات الزائدة تبعاً لشرف الإنسان فهو الأصل وكل ما سواه فهو تبع له والله أعلم

المسألة السادسة روي أن عطية الحروري سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) وقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الشهور فقال ابن عباس رضي الله عنهما يا ابن الأسود لو هلكت أنا ووقع هذا في نفسك ولم تجد جوابه هلكت نزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور وهو في السماء الدنيا ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالاً فحالا والله أعلم
المسألة السابعة في بيان نظم هذه الآيات اعلم أن المقصود منها تعظيم القرآن من ثلاثة أوجه أحدها بيان تعظيم القرآن بحسب ذاته الثاني بيان تعظيمه بسبب شرف الوقت الذي نزل فيه الثالث بيان تعظيمه بحسب شرف منزلته أما بيان تعظيمه بحسب ذاته فمن ثلاثة أوجه أحدها أنه تعالى أقسم به وذلك يدل على شرفه وثانيها أنه تعالى أقسم به على كونه نازلاً في ليلة مباركة وقد ذكرنا أن القسم بالشيء على حالة من أحوال نفسه يدل على كونه في غاية الشرف وثالثها أنه تعالى وصفه بكونه مبيناً وذلك يدل أيضاً على شرفه في ذاته
وأما النوع الثاني وهو بيان شرفه لأجل شرف الوقت الذي أنزل فيه فهو قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ وهذا تنبيه على أن نزوله في ليلة مباركة يقتضي شرفه وجلالته ثم نقول إن قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ يقتضي أمرين أحدها أنه تعالى أنزله والثاني كون تلك الليلة مباركة فذكر تعالى عقيب هذه الكلمة ما يجرى مجرى البيان لكل واحد منهما أما بيان أنه تعالى لم أنزله فهو قوله إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ يعني الحكمة في إنزال هذه السورة أن إنذار الخلق لا يتم إلا به وأما بيان أن هذه الليلة ليلة مباركة فهو أمران أحدهما أنه تعالى يفرق فيها كل أمر حكيم والثاني أن ذلك الأمر الحكيم مخصوصاً بشرف أنه إنما يطهر من عنده وإليه الإشارة بقوله أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا
وأما النوع الثالث فهو بيان شرف القرآن لشرف منزله وذلك هو قوله إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ فبيّن أن ذلك الإنذار والإرسال إنما حصل من الله تعالى ثم بيّن أن ذلك الإرسال إنما كان لأجل تكميل الرحمة وهو قوله رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ وكان الواجب أن يقال رحمة منا إلا أنه وضع الظاهر موضع المضمر إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين ثم بيّن أن تلك الرحمة وقعت على وفق حاجات المحتاجين لأنه تعالى يسمع تضرعاتهم ويعلم أنواع حاجاتهم فلهذا قال إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فهذا ما خطر بالبال في كيفية تعلق بعض هذه الآيات ببعض
المسألة الثامنة في تفسير مفردات هذه الألفاظ أما قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ فقد قيل فيه إنه تعالى أنزل كلية القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في هذه الليلة ثم أنزل في كل وقت ما يحتاج إليه المكلف وقيل يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبرائيل وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدينا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت

أما قوله تعالى فِيهَا يُفْرَقُ أي في تلك الليلة المباركة يفرق أي يفصل ويبين من قوله فرقت الشيء أفرقه فرقاً وفرقاناً قال صاحب ( الشكاف ) وقرىء يفرق بالتشديد ويفرق على إسناد الفعل إلى الفاعل ونصل كل والفارق هو الله عز وجل وقرأ زيد بن علي نفرق بالنون
أما قوله كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فالحكيم معناه ذو الحكمة وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل أحد بحالة معينة من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله تعالى فما كانت تلك الأفعال والأقضية دالة على حكمة فاعلها وصفت بكونها حكيمة وهذا من الإسناد بالمجازي لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ووصف الأمر به مجاز ثم قال أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا وفي انتصاب قوله أمْراً وجهان الأول أنه نصب على الاختصاص وذلك أنه تعالى بيّن شرف تلك الأقضية والأحكام بسبب أن وصفها بكونها حكيمة ثم زاد في بين شرفها بأن قال أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا كائناً من لدنا وكما اقتضه علمنا وتدبيرنا والثاني أنه نصب على الحال وفيه ثلاثة أوجه الأول أن يكون حال من أحد الضميرين في أَنزَلْنَاهُ إما من ضمير الفاعل أي إنا أنزلناه آمرين أمراً أو من ضمير المفعول أي إنا أنزلناه في حال كونه أمراً من عندنا بما يجب أن يفعل والثالث ما حكاه أبوعلي الفارسي عن أبي الحسن زحمهما الله أنه حمل قوله أمْراً على الحال وذو الحال قوله كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وهو نكراً
ثم قال إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يعني أنا إنما فعلنا ذلك الإنذار لأجل إنا كنا مرسلين يعني الأنبياء
ثم قال رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ أي للرحمة فهي نصب على أن يكون مفعولاً له
ثم قال إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يعني أن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة لأن المحتاجين إما أن يذكروا بألسنتهم حاجاتهم وإما أن لا يذكروها فهو تعالى يسمع كلامهم فيعرف حاجاتهم وإن لم يذكروها فهي تعالى عالم بها فثبت أن كونه سمعيعاً عليماً يقتضي أن ينزل رحمته عليهم
ثم قال رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ وفيه مسائل
المسألة لأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الباء من رب عطفاً على قوله رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ والباقون بالرفع عطفاً على قوله هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
المسألة الثانية المقصود من هذه الآية أن المنزل إذا كان موصوفاً بهذه الجلالة والكبرياء كان المنزل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة
المسألة الثالثة الفائدة في قوله إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ من وجوه الأول قال أبو مسلم معناه إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه فاعرفوا أن الأمر كما قلنا كقولهم فلان منجد منهم أي يريد نجداً وتهامة والثاني قال صاحب ( الكشاف ) كانوا يقرون بأن للسموت والأرض رباً وخالقاً فقيل لهم إن إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب سبحانه وتعالى ثم قيل إن هذا هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به ومعترفون يأنه رب السموات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم ويقين كما تقول هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه إن بلغك حديثه وسمعت قصته ثم إنه تعالى رد أن يكونوا موقنين بقوله بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ وأن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين ولا عن جد وحقيقة بل قول مخلوط بهزء ولعب والله أعلم

فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَة َ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ
اعلم أن المراد بقوله فَارْتَقِبْ انتظر ويقال ذلك في المكروه والمعنى انتظر يا محمد عذابهم فحذف مفعول الارتقاب لدلالة ما ذكر بعده عليه وهو قوله هَاذَا عَذْبٌ أَلِيمٌ ويجوز أيضاً أن يكون يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاء مفعول الارتقاب وقوله بِدُخَانٍ فيه قولان
الأول أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا على قومه بمكة لما كذبوه فقال ( اللهم اجعل سنيهم كسني يوسف ) فارتفع المطر وأجدبت الأرض وأصابت قريشاً شدة المجاعة حتى أكلوا العظام والكلاب والجيف فكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الرويات ومقاتل مجاهد واختيار الفراء والمزجاج وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه وكان ينكر أن يكنن الدخان إلا هذا الذي أصابهم من شدة الجوع كالظلمة في أبصارهم حتى كانوا كأنهم يرون دخاناً فالحاصل أن هذا الدخان هو الصلمة التي في أبصارهم من شدة الجوع وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان بهذه الحالة وجيهن الأول أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع المطر ويرتفع الغبار الكثير ويظلم الهواء وذلك يشبه الدخان ولهذا يقال لسنة المجاعة الغبراء الثاني أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان فيقول كان بيننا أمر ارتفع له دخان والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان
والقول الثاني في الدخان أنه دخان يظهر في العالم وهو إحدى علامات القيامة قالو فإذا حصلت هذه الحالة حصل لأهل الإيمان منه حالة تشبه الزكام وحصل لأهل الكفر حالة يصير لأجلها رأسه كرأس الحنيذ وهذا القول هو المنقول عن علي بن أبي طلب عليه السلام وهو قول مشهور لابن عباس واحتج القائلون بهذا القول بوجوه الأول أن قوله يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاء بِدُخَانٍ يقتضي وجود دخان تأتي به السماء وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع فذاك ليس بدخان أتت به السماء فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه عدولاً عن الظاهر لا لدليل منفصل وإنه لا يجوز الثاني أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبيناً والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم ومثل هذا لا يوصف بكونها دخاناً مبيناً والثالث أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشي الناس وهذا إنما يصدق إذا وصل

ذلك الدخان إليهم واتصل بهم والحال التي ذكرتموها لا توصف بأنها تغشي الناس إلا على سبيل المجاز وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل الرابع روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم عليهما السلام ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر قال حذيفة يا رسول الله وما الدخان فتلا رسلو الله ( صلى الله عليه وسلم ) الآية وقال دخان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره ) رواه صاحب ( الشكاف ) وروى القاضي عن الحسن عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( باكروا بالأعمال ستاً وذلك منه طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان والدابة ) أما القائلون بالقول الأول فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع والقوم لم يذكروا ذلك الدليل فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلاً جداً فإن قالوا الدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ وهذ إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة استقام فإنه نقل أن القحط لما اشتد بمكة مشى إليه أبو سيفان وناشده بالله والرحم وأوعده أنه إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك لأن عند صهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ ولم يصح أيضاً أن يقال لهم إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ والجواب لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جارياً مجرى ظهور سائر علامات القيامة في أنه لا يوجب انقطاع التكليف فتحدث هذه الحالة ثم إن الناس يخافون جداً فيتضرعون فإاذ زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق وإذ كان هذا محتملاً فقد سقط ما قالوه والله اعلم
ولنرجع إلى التفسير فنقول قوله تعالى يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ أي ظاهر الحال لا يشك أحد في أنه دخان يغشي الناس أي يشملهم وهو في محل الجر صفة لقوله بِدُخَانٍ وفي قوله وَهَاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ قولان الأول أنه منصوب لمحل بفعل مضمر وهو يقولون ويقولون منصوب على الحال أي قائلين ذلك الثاني قال الجرجاني صاحب ( النظم ) هذا إشارة إليه وإخبار عن دنوه واقترابه كما يقال هذا العدو فاستقبله والغرض منه التنبيه على القرب
ثم قال رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ فإن قلنا التقدير يقولون هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب فالمعنى ظاهر وإن لم يضمر القول هناك أضمرناه ههنا والعذاب على القول الأول هو القحط الشديد وعلى القول الثاني الدخان المهلك إِنَّا مْؤْمِنُونَ أي بمحمد وبالقرآن والمراد منه الوعيد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب
ثم قال تعالى أَنَّى لَهُمُ الذّكْرَى يعني كيف يتذكرون وكيف يتعظون بهذه الحالة وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة وهو ما ظهر على رسول الله من لمعجزات القاهرة والبينات الباهرة ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ

ولم يلتفتوا إليه وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ وذلك لأن كفار مكة كان لهم في ظهور القرآن على محمد عليه الصلاة والسلام قولان منهم من كان يقول إن محمداً يتعلم هذه الكلمات من بعض الناس لقوله إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ لّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِى ٌّ ( النحل 103 ) وكقوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ ( الفرقان 4 ) ومنهم من كان يقول إنه مجنون والجن يلقون عليه هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي
ثم قال تعالى إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ أي كما يكشف العذاب عنكم تعودون في الاحال إلى ما كنتم عليه من الشرك والمقصود التنبيه على أنهم لا يوفون بعهدهم وأنهم في حال العجز يتضرعون إلى الله تعالى فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر والتقليد لمذاهب الأسلاف
ثم قال تعالى يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَة َ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء نبطش بضم الطاء وقرأ الحسن نبطش بضم النون كأنه تعالى يأمر الملائكة بأن يبطشوا بهم والبطش الأخذ بشدة وأكثر ما يكون بوقع الضرب المتابع ثم صار بحيث يستعمل في إيصال الآلام المتتابعة وفي المراد بهذا اليوم قولان
القول الأول أنه يوم بدر وهو قول ابن سمعود وابن عباس ومجاهد ومقاتل وأبي لعالية رضي الله تعلى عنهم قالوا إن كفار مكة لما أزال الله تعالى عنهم القحط والجوع عادوا إلى لتكذيب فانتقم الله منهم يوم بدر
والقول الثاني أنه يوم القيامة روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال قال ابن معسود البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة وهذا لقول أصح لأن يوم بدر لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف بهذا الوصف العظيم ولأن الانتقام التام إنما يحصل يوم القيامة لقوله تعالى الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( غفر 17 ) ولأن هذه البطشة لما وصفت بكونها كبرى على الإطلاق وجب أن تكون أعظم أنواع البطش وذلك ليس إلا في القيامة ولفظ الانتقام في حق الله تعالى من المتشابهات كالغضب والحياء ولتعجب والمعنى معلوم والله أعلم
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَى َّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ إِنِّى ءَاتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فَاعْتَزِلُونِ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَاؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَة ٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ والأرض وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ

اعلم أنه تعالى لما بين أن كفار مكة مصرون على كفرهم بين أن كثيراً من المتقدمين أيضاً كانوا كذلك فبين حصول هذه الصفة في أكثر قوم فرعون قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَلَقَدْ فَتَنَّا بالتشديد للتأكيد قال ابن عباس ابتلينا وقال لازجاج بلونا والمعنى عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسول إليهم وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ وهو موسى واختلفوا في معنى الكريم ههنا فقال الكلبي كريم على ربه يعني أنه استحق على ربه أنواعاً كثيرة من الإكرام وقال مقاتل حسن الخلق وقال الفراء يقل فلان كريم قومه لأنه قال ما بعث رسول ألا من أشراف قومه وكرامهم
ثم قال أَنْ أَدُّواْ إِلَى عَبْداً اللَّهِ وفي أن قولان الأول أنها أن المفسرة وذلك لأن مجيء الرسول إلى من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم إلا مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله الثاني أنها المخففة من الثقيلة ومعناه وجاءهم بأن الشأن والحديث أدواء وعبدا الله مفعول به وهم بنو إسرائيل يقول أدوهم إلى وأرسلوهم معي وهو كقوله فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ وَلاَ تُعَذّبْهُمْ ( طه 47 ) ويجوز أيضاً أن يكون نداء لهم والتقدير أدوا إلى عباد الله ما هو واجب عليكم من الإيمان وقبول دعوتي وأتباع سبيلي وعلل ذلك بأنه رَسُولٌ أَمِينٌ قد ائتمنه الله على وحيه ورسالته وأن لا تعلوا أن هذه مثل الأول في وجيهيها أي لا تتكبروا على الله بإهانة وحيه ورسلوه وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى بحجة بينة يعترف بصحتها كل عاقل وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ قيل المراد أن تقتلون وقيل أَن تَرْجُمُونِ بالقول فتقولوا ساحر كذاب وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى أي إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل ما أتيتكم به من الحجة فاللام في لي لام الأجل فَاعْتَزِلُونِ أي اخلوا سبيلي لا لي ولا علي
قل مصنف الكتاب رحمه الله تعالى إن المعتزلة يتصلفون ويقولون إن لفظ الاعتزال أينما جاء في القرآن كان المراد منه الاعتزال عن الباطل لا عن الحق فاتقف حضوري في بعض المحافل وذكر بعضهم هذا الكلام فأوردت عليه هذه الآية وقلت المراد الاعتزال في هذه الآية الاعتزال عن دين موسى عليه السلام وطريقته وذلك لا شك أنه اعتزال عن الحق فانقطع الرجل
ثم قال تعالى فَدَعَا رَبَّهُ الفاء في فدع تدل على أنه متصل بمحذوف قبله التأويل أنهم كفروا ولم يؤمنوا فدعا موسى ربه بأن هؤلاء قوم مجرمون فإن قالوا الكفر أعظم حال من الجرم فما السبب في أن جعل صفة الكفار كونهم مجرمين حل ما أراد المبالغة في ذمهم قلت لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون مجرماً في دينه وقد يكون فاسقاً في دينه فيكون أخس الناس قال صاحب ( الكشاف ) قرىء ( إن هؤلاء ) بالكسر على إضمار القول أي فدعا ربه فقال إن هؤلاء قوم مجرمون
ثم قال فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً قرأ بن كثير ونافع فَأَسْرِ موصولة بالألف والباقون مقطوعة لألف سرى وأسرى لغتان أي أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون أي يتبعكم فرعون وقومه ذلك سبباً

لهلاكهم وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً وفي الرهو قولان أحدهما أنه الساكن يقال عيش راه إذا كان خافضاً وادعاً وافعل ذلك سهواً رهواً أي ساكناً بغير تشدد أراد موسى عليه السلام لما جاوز لبحر أن يضربه بعصاه فينطبق كما كان فأمره الله تعالى بأن يرتكه ساكناً على هيئته قاراً على حاله في انفلاق الماء وبقاء الطريق يبساً حتى تدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم والثاني أن لرهو هو الفرجة الواسعة والمعنى ذا رهو أي ذا فرجة يعني الطريق الذي أظهره الله فيما بين لبحر أنهم جند مفرقون يعني اترك الطريق كما كان يدخلوا فيغرقوا وإنما أخبره الله تعالى بذلك حتى يبقى فارغ القلب عن شرهم وإيذائهم
ثم قال تعالى كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ دلت هذه الآية على أنه تعالى أغرقهم ثم قال بعد غرقهم هذا الكلام وبيّن تعالى أنهم تركوا هذه لأشياء الخمسة وهي الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم والمراد بالمقام الكريم ما كان لهم من المجالس والمنازل الحسنة وقيل المنابر التي كانوا يمدحون فرعون عليها وَنَعْمَة ٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ قال علماء اللغة نعمة العيش بفتح النون حسنه ونضارته ونعمة الله إحسانه وعطاؤه قال صاحب ( الكشاف ) النعمة بالفتح من لتنعم وبالكسر من االإنعام وقرىء فاكهين وفكهين كذلك الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها وأورثناها أو في موضع الرفع على تقدير أن الأمر كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءاخَرِينَ ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء وهم بنو إسرائيل كانوا مستعبدين في أيديهم فأهلكهم الله على أيديهم وأورثهم ملكهم وديارهم
ثم قال تعالى فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالاْرْضُ وفيه وجوه الأول قال الواحدي في ( البسيط ) روى أنس بن مالك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما من عبد إلا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل فيه عمله فإذا مات فقداه وبكيا عليه ) وتلا هذه الآية قال وذلك لأنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً فتبكي عليهم ولم يصعد لهم إلى السماء كلام طيب ولا عمل صالح فتبكي عليهم وهذا قول أكثر المفسرين
القول الثاني التقدير فم بكت عليهم أهل السماء وأهل الأرض فحذف المضاف والمعنى ما بكت عليهم الملائكة ولا المؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين
والقول الثالث أن عادة النس جرت بأن يقولوا في هلاك الرجل العظيم الشأن إنه أظلمت له الدنيا وكسفت الشمس والقمر لأجله وبكت الريح والسماء والأرض ويريدون المبالغة في تعظيم تلك المصيبة لا نفس هذا الكذب ونقل صاحب ( الكشاف ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض )
وقال جرير
الشمس طالعة ليس بكاسفة
تبكي عليك نجوم الليل والقمرا وفيه ما يشبه السخرية بهم يعني أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم وكانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم لو ماتوا لبكت عليهم السماء والأرض فما كانوا في هذا الحد بل كانوا دون ذلك وهذا إنما يذكر على سبيل التهكم

ثم قال وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ أي لما جاء وقت هلاكهم لم ينظروا إلى وقت آخر لتوبة وتدارك وتقصير
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ وَءَاتَيْنَاهُم مِّنَ الاٌّ يَاتِ مَا فِيهِ بَلَؤٌ اْ مُّبِينٌ إِنَّ هَاؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِى َ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاٍّ وْلَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ فَأْتُواْ بِأابَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
علم أنه تعالى لما بيّن كيفية إهلاك فرعون وقومه بيّن كيفية إحسانه إلى موسى وقومه واعلم أن دفع الضرر مقدم على إيصال النفع فبدأ تعالى ببيان دفع الضرر عنهم فقال وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْراءيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والإتعاب في الأعمال الشاقة
ثم قال مِن فِرْعَوْنَ وفيه وجهان الأول أن يكون التقدير من العذاب المهين الصادر من فرعون الثاني أن يكون فرعون بدلاً من لعذاب المهين كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء مِنْ عَذَابِ الْمُهِينِ وعلى هذه القراءة ( فالمهين ) هو فرعون لأنه كان عظيم السعي في إهانة المحقين وفي قراءة ابن عباس مِن فِرْعَوْنَ وهو بمعنى الاستفهام وقوله إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ جوابه كأن التقدير أن يقال هل تعرفونه من هو في عتوه وشيطنته ثم عرف حاله بقوله إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ أي كان عالي الدرجة في طبقة المفسرين ويجوز أن يكون المراد فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً لقوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ ( القصص 4 ) وكان أيضاً مسرفاً ومن إسرافه أنه على حقارته وخسته ادعى الإلهية ولما بيّن الله تعالى أنه كيف دفع الضرر عن بني إسرائيل وبيّن أنه كيف أوصل إليهم الخيرات فقال وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ وفيه بحثان
البحث الأول أن قوله عَلَى عِلْمٍ في موضع الحال ثم فيه وجهان أحدهما أي عالمين بكونهم مستحقين لأن يختاروا ويرجحوا على غيرهم والثاني أن يكون المعنى مع علمنا بأنهم قد يزيغون ويصدر عنهم الفرطات في بعض الأحوال
البحث الثاني ظاهر قوله وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ يقتضي كونهم أفضل من كل

العالمين فقيل المراد على عالمي زمانهم وقيل هذا عام دخله التخصيص كقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ( آل عمران 110 )
ثم قال تعالى وَءاتَيْنَاهُم مِنَ الاْيَاتِ مثل فلق البحر وتظليل الغعمام وإنزال المن والسلوى وغيرها من الآيت القاهرة لتي ما أظهر الله مثلها على أحد سواهم وَءاتَيْنَاهُم مِنَ أي نعمة ظاهرة لأنه تعالى لما كان يبلو بالمحنة فقد يبلو أيضاً بالنعمة اختباراً ظاهراً ليتميز لصديق عن الزنديق وههنا آخر الكلام في قصة موسى عليه السلام ثم رجع إلى ذكر كفار مكة وذلك لأن الكلام فيهم حيث قال بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ أي بل هم في شك من البعث والقيامة ثم بيّن كيفية إصرارهم على كفرهم ثم بيّن أن قوم فرعون كانوا في الإصرار على الكفر على هذه القصة ثم بيّن كيف أهلكهم وكيف أنعم على بني إسرائيل ثم رجع إلى الحديث الأول وهو كون كفار مكة منكرين للبعث فقال إِنَّ هَؤُلاَء لَيَقُولُونَ إِنْ هِى َ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاْوْلَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ فإن قيل القوم كانوا ينكرون الحياة الثانية فكان من حقهم أن يقولوا إن هي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين قلنا إنه قيل لهم إنكم تموتون موتة تعقبها حياة كما أنكم حال كونكم نطفاً كنتم أمواتاً وقد تعقبها حياة وذلك قوله وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ هِى َ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاْوْلَى يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقيب الحياة لها إلا الموتة الأولى خاصة فلا فرق إذاً بين هذا الكلام وبين قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا هذا ما ذكره صاحب ( الكشاف ) ويمكن أن يذكر فيه وجه آخر فيقال قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ سِيَرتَهَا الاْولَى يعني أنه لا يأتينا شيء من الأحوال إلا الموتة الأولى نهذا الكلام يدل على أنهم لا تأتيهم الحياة الثانية ألبتة ثم صرحوا بهذا المزمور فقالوا وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ فلا حاجة إلى التكلف الذي ذكره صاحب ( الكشاف )
ثم قال تعالى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ يقال نشر الله الموتى وأنشرهم إذا بعثهم ثم إن الكفار احتجوا على نفي الحشر والنشر بأن قالوا إن كان البعث والنشور ممكنً معقولاً فجعلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بأن نسألوا ربكم ذلك حتى يصير ذلك دليلاً عندنا على صدق دعواكم في النبوة والبعث في القيامة قيل طلبوا من الرسول لله أن يدعو الله حتى ينشر قصي بن كلاب ليشاوروه في صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي صحة البعث ولما حكى عنهم ذلك قال أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ والمعنى أن كفار مكة لم يذكروا في نفي الحشر والنشر شبهة حتى يحتاج إلى الجواب عنها ولكنهم أصروا على الجهل والتقليد في ذلك الإنكار فلهذا السبب اقتصر لله تعالى على الوعيد فقال إن سائر الكفار كانوا أقوى من هؤلاء ثم إن الله تعالى أهلكهم فكذلك يهلك هؤلاء فقوله تعالى صَادِقِينَ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ استفهام على سبيل الإنكار قال أبو عبيدة ملوك اليمن كان كل واحد منهم يسمى تبعاً لأن أهل الدنيا كانوا يتبعونه وموضع تبع في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام وهم الأعاظم من ملوك العرب قالت عائشة كان تبع رجلاً صالحاً وقال كعب ذم الله قومه ولم يذمه قال الكلبي هو أبو كرب أسعد وعن

النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم ما أدري أكان تبع نبياً أو غير نبي ) فإن قيل ما معنى قوله أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ مع أنه لا خير في الفريقين قلنا معناه أهم خير في القوة والشوكة كقوله أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ ( القمر 43 ) بعد ذكر آل فرعون ثم إنه تعالى ذكر الدليل القاطع على القول بالبعث والقيامة فقال وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ولو لم يحصل البعث لكان هذا الخلق لعباً وعبثاً وقد مرّ تقرير هذه لطريقة بالاستقصاء في أول سورة يونس وفي آخر سورة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حيث قال أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ( المؤمنون 115 ) وفي سورة ص حيث قال دوما خلقنا السماء والأرض وما بينهم باطلاً ( ص 27 )
ثم قال ( ص 27 )
ثم قال مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ والمراد أهل مكة وأما استدلال المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر والفسق ولا يريدهما فهو مع جوابه معلوم والله أعلم
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ إِنَّ شَجَرَة َ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاٌّ ثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ كَغَلْى ِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَاذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ
اعلم أن المقصود من قوله وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ( الدخان 38 ) إثبات القول بالبعث والقيامة فلا جرم ذكر عقيبه قوله إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ وفي تسمية يوم القيامة بيوم الفصل وجوه الأول قال الحسن يفصل الله فيه بين أهل الجنة وأهل النار الثاني يفصل في الحكم والقضاء بين عباده الثالث أنه في حق المؤمنين يوم الفصل بمعنى أنه يفصل بينه وبين كل ما يكرهه وفي حق الكفار بمعنى أنه يفصل بينه وبين كل ما يريده الرابع أنه يظهر حال كل أحد كما هو فلا يبقى في حاله ريبة ولا شبهة فتنفصل الخيالات والشبهات وتبقى الحقائق والبينات قال ابن عباس رضي الله عنهما المعنى أن يوم يفصل الرحمن بين عبداه ميقاتهم أجمعين البر والفاخر ثم وصف ذلك اليوم فقال أَجْمَعِينَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً يريد قريب عن قريب وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ أي ليس لهم ناصر والمعنى أن الذي يتوقع منه النصرة إما القريب في الدين أو في النسب أو المعتق وكل هؤلاء يسمون بالمولى فلما لم تحصل النصرة منهم فبأن لا تحصل ممن سواهم أولى وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا إلى قوله وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( البقرة 123 ) قال الواحدي والمراد بقوله مَوْلًى عَن مَّوْلًى الكفار ألا

ترى أنه ذكر المؤمن فقال إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد المؤمن فإنه تشفع له الأنبياء والملائكة
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة على أن القول بالقيامة حق ثم أردفه بوصف ذلك اليوم ذكر عقيبه وعيد الكفار ثم بعده وعد الأبرار أما وعيد الكفار فهو قوله إِنَّ شَجَرَة َ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاْثِيمِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرىء إِنَّ شَجَرَة َ الزَّقُّومِ بكسر الشين ثم قال وفيها ثلاث لغات شجرة بفتح الشين وكسرها وشيرة بالياء وشبرة بالباء
المسألة الثانية لبحث عن اشتقاق لفظ الزقوم قد تقدم في سورة والصافات فلا فائدة في الإعدة
المسألة الثالثة قالت المعتزلة الآية تدل على حصول هذا الوعيد الشديد للأثيم والأثيم هو الذي صدر عنه الإثم فيكون هذا الوعيد حاصلاً للفساق والجواب أنا بينا في أصول الفقه أن اللفظ المفرد الذي دخل عليه حرف التعريف الأصل فيه أن ينصرف إلى المذكور السابق ولا يفيد المعموم وههنا المذكور السابق هو الكافر فينصرف إليه
المسألة الرابعة مذهب أبي حنيفة أن قرأة القرآن بالمعنى جائز واحتج عليه بأنه نقل أن ابن مسعود كان يقرىء رجلاً هذه الآية فكان يقول طعام اللئيم فقال قل طعام الفاجر وهذا الدليل في غاية الضعف على ما بيناه في أصول الفقه
ثم قال كَالْمُهْلِ قرىء بضم الميم وفتحها وسبق تفسيره في سورة الكهف وقد شبه الله تعالى هذا الطعام بالمهل وهو دردى الزيت وعكر القطران ومذاب النحاس وسائر الفلزات وتمّ الكلام ههنا هم أخبر عن غليانه في بطون الكفار فقال يَغْلِى فِى الْبُطُونِ وقرىء بالتاء فمن قرأ بالتاء فلتأنيث الشجرة ومن قرأ بالياء حمله على الطعام في قوله طَعَامُ الاْثِيمِ لأن الطعام هو ( ثمر ) الشجرة في المعنى واختار أبو عبيد الياء لأن الاسم المذكور يعني المهل هو الذي بل الفعل فصار التذكير به أولى واعلم أنه لا يجوز أن يحمل الغلي على المهل لأن المهل مشبه به وإنما يغلي ما يشبه بالمهل كغلي الحميم والماء إذا اشتد غليانه فهو حميم
ثم قال خُذُوهُ أي خذوا الأثيم فَاعْتِلُوهُ قرىء بكسر التاء قال الليث العتل أن تأخذ بمنكث الرجل فتعتله أي تجره إليك وتذهب به إلى حبس أو منحة وأخذ فلان بزمان النقة يعتلها وذلك إذا قبض على أصل الزمام عند الرأس وقادها قوداً عنيفاً وقال ابن السكيت عتلته إلى السجن وأعتلته إذا دعته دفعاً عنيفاً هذا قول جميع أهل اللغة في العتل وذكروا في اللغتين ضم التاء وكسرها وهما صيحيان مثل يعكفون ويكعفون ويعرضون ويعرشون
قوله تعالى إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ أي إلى وسط الجحيم ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ وكان الأصل أن يقال ثم صبوا من فوق رأسه الحميم أو يصب من فوق رؤوسهم الحميم إلا أن هذه الاستعارة أكمل في المبالغة كأنه يقول صبوا عليه عذاب ذلك الحميم ونظيره قوله تعالى رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ( البقرة 25 ) و ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) وذكروا فيه وجوهاً الأول أنه يخاطب بذلك على

سبيل الاستهزاء والمراد إنك أنت بالضد منه والثاني أن أبا جهل قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً والثالث أنك كنت تعتز لا بالله فانظر ما وقعت فيه وقرىء أنك بمعنى لأنك
ثم قال إِنَّ هَاذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي أن هذا العذاب ما كنتم به تمترون أي تشكون ولمراد منه ما ذكره في أول السورة حيث قال بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ ( الدخان 9 )
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَة ٍ ءَامِنِينَ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَة َ الاٍّ ولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في لآيات المتقدمة ذكر الوعد في هذه الآيات فقال إِنَّ الْمُتَّقِينَ قال أصحابنا كل من اتقى الشرك فقد صدق عليه اسم المتقي فوجب أن يدخل الفاسق في هذا الوعد
واعلم أنه تعالى ذكر من أسباب تنعمهم أربعة أشياء أولها مساكنهم فقال فِى مَقَامٍ أَمِينٍ
واعلم أن المسكين إنما يطيب بشرطين أحدهما أن يكون آمناً عن جميع ما يخاف ويحذر وهو المراد من قوله فِى مَقَامٍ أَمِينٍ قرأ الجمهور في مقام بفتح الميم وقرأ نافع وابن عامر بضم الميم قال صاحب ( الكشاف ) المقام بفتح الميم هو موضع القيام والمراد المكان وهو من الخاص الذي جعل مستعملاً في المعنى العام وبالضم هو موضع الإقامة والأمين من قولك أمن الرجل أمانة فهو أمين وهو ضد الخائن فوصف به المكان استعارة لأن المكان المخيف كأنه يخون صاحبه والشرط الثاني لطيب المكان أن يكون قد حصل فيه أسباب النزهة وهي الجنات والعيون فلما ذكر تعالى هذين الشرطين في مساكن أهل الجنة فقد وصفها بما لا يقبل الزيادة
والقسم الثاني من تنعماتهم الملبوسات فقال يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ قيل السندس ما رقّ من الديباج والإستبرق ما غلظ منه وهو تعريب استبرك فإن قالوا كيف جاز ورود الأعجمي في القرآن قلنا لما عرب فقد صار عربياً

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66