كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

ثم قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً معنى التواب أنه يعود على عبده بفضله ومغفرته إذا تاب اليه من ذنبه وأما قوله كَانَ تَوبَا فقد تقدم الوجه فيه

بداية الجزء العاشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَائِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن المرتكبين للفاحشة إذا تابا وأصلحا زال الاذى عنهما وأخبر على الاطلاق أيضا أنه تواب رحيم ذكر وقت التوبة وشرطها ورغبهم في تعجيلها لئلا يأتيهم الموت وهم مصرون فلا تنفعهم التوبة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أما حقيقة التوبة فقد ذكرناها في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ البقرة 54 ) واحتج القاضي على أنه يجب على الله عقلا قبول التوبة بهذه الآية من وجهين الأول ان كلمة ( على ) للوجوب فقوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يدل على أنه يجب على الله عقلا قبولها الثاني لو حملنا قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى عَلَى اللَّهِ على مجرد القبول لم يبق بينه وبين قوله فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فرق لأن هذا أيضا إخبار عن الوقوع أما إذا حملنا ذلك على وجوب القبول وهذا على الوقوع يظهر الفرق بين الآيتين ولا يلزم التكرار
واعلم أن القول بالوجوب على الله باطل ويدل عليه وجوه الأول أن لازمة الوجوب استحقاق الذم عند الترك فهذه اللازمة اما أن تكون ممتنعة الثبوت في حق الله تعالى أو غير ممتنعة في حقه والأول باطل لأن ترك ذلك الواجب لما كان مستلزما لهذا الذم وهذا الذم محال الثبوت في حق الله تعالى وجب أن يكون ذلك الترك ممتنع الثبوت في حق الله وإذا كان الترك ممتنع الثبوت عقلا كان الفعل واجب الثبوت فحينئذ يكون الله تعالى موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار وذلك باطل وأما ان كان استحقاق الذم غير ممتنع الحصول في حق الله تعالى فكل ما كان ممكنا لا يلزم من فرض وقوعه محال فيلزم جواز أن يكون الاله مع كونه إلها يكون موصوفا باستحقاق الذم وذلك محال لا يقوله عاقل ولما بطل هذان القسمان ثبت أن القول بالوجوب على الله تعالى باطل
الحجة الثانية أن قادرية العبد بالنسبة إلى فعل التوبة وتركها إما أن يكون

على السوية أولا يكون على السوية فان كان على السوية لم يترجح فعل التوبة على تركها إلا لمرجح ثم ذلك المرجح إن حدث لا عن محدث لزم نفي الصانع وإن حدث عن العبد عاد التقسيم وإن حدث عن الله فحينئذ العبد إنما أقدم على التوبة بمعونة الله وتقويته فتكون تلك التوبة إنعاما من الله تعالى على عبده وإنعام المولى على عبده لا يوجب عليه أن ينعم عليه مرة أخرى فثبت أن صدور التوبة عن العبد لا يوجب على الله القبول وأما إن كانت قادرية العبد لا تصلح للترك والفعل فحينئذ يكون الجبر ألزم وإذا كان كذلك كان القول بالوجوب أظهر بطلانا وفسادا
الحجة الثالثة التوبة عبارة عن الندم على ما مضى والعزم على الترك في المستقبل والندم والعزم من باب الكراهات والارادات والكراهة والارادة لا يحصلان باختيار العبد وإلا افتقر في تحصيلهما إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل وإذا كان كذلك كان حصول هذا الندم وهذا العزم بمحض تخليق الله تعالى وفعل الله لا يوجب على الله فعلا آخر فثبت أن القول بالوجوب باطل
الحجة الرابعة أن التوبة فعل يحصل باختيار العبد على قولهم فلو صار ذلك علة للوجوب على الله لصار فعل العبد مؤثراً في ذات الله وفي صفاته وذلك لا يقوله عاقل
فأما الجواب عما احتجوا به فهو أنه تعالى وعد قبول التوبة من المؤمنين فاذا وعد الله بشيء وكان الخلف في وعده محالا كان ذلك شبيها بالواجب فبهذا التأويل صح اطلاق كلمة ( على ) وبهذا الطريق ظهر الفرق بين قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ وبين قوله فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
إن قيل فلما أخبر عن قبول التوبة وكل ما أخبر الله عن وقوعه كان واجب الوقوع فيلزمكم أن لا يكون فاعلا مختارا
قلنا الاخبار عن الوقوع تبع للوقوع والوقوع تبع للايقاع والتبع لا يغير الأصل فكان فاعلا مختارا في ذلك الايقاع أما أنتم تقولون بأن وقوع التوبة من حيث أنها هي تؤثر في وجوب القبول على الله تعالى وذلك لا يقوله عاقل فظهر الفرق
المسألة الثانية أنه تعالى شرط قبول هذه التوبة بشرطين أحدهما قوله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَة ٍ وفيه سؤالان أحدهما أن من عمل ذنبا ولم يعلم أنه ذنب لم يستحق عقابا لأن الخطأ مرفوع عن هذه الأمة فعلى هذا الذين يعملون السوء بجهالة فلا حاجة بهم الى التوبة والسؤال الثاني أن كلمة ( إنما ) للحصر فظاهر هذه الآية يقتضي أن من أقدم على السوء مع العلم بكونه سوأ أن لا تكون توبته مقبولة وذلك بالاجماع باطل
والجواب عن السؤال الأول أن اليهودي اختار اليهودية وهو لا يعلم كونها ذنبا مع أنه يستحق العقاب عليها
والجواب عن السؤال الثاني أن من أتى بالمعصية مع الجهل بكونها معصية يكون حاله أخف ممن أتى بها مع العلم بكونها معصية واذا كان كذلك لا جرم خص القسم الأول بوجوب قبول التوبة وجوبا على سبيل الوعد والكرم وأما القسم الثاني فلما كان ذنبهم أغلظ لا جرم لم يذكر فيهم هذا التأكيد في قبول

التوبة فتكون هذه الآية دالة من هذا الوجه على أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى
واذا عرفت الجواب عن هذين السؤالين فلنذكر الوجوه التي ذكرها المفسرون في تفسير الجهالة
الأول قال المفسرون كل من عصى الله سمي جاهلا وسمي فعله جهالة قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ ( يوسف 33 ( وقال حكاية عن يوسف عليه السلام أنه قال لأخوته هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ( يوسف 89 ) وقال تعالى قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( هود 46 ) وقال تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( البقرة 67 ) وقد يقول السيد لعبده حال ما يذمه على فعل ياجاهل لم فعلت كذا وكذا والسبب في إطلاق اسم الجاهل على العاصي لربه أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية فلما لم يستعمل ذلك العلم صار كأنه لا علم له فعلى هذا الطريق سمي العاصي لربه جاهلا وعلى هذا الوجه يدخل فيه المعصية سواء أتى بها الانسان مع العلم بكونهامعصية أو مع الجهل بذلك
والوجه الثاني في تفسير الجهالة أن يأتي الانسان بالمعصية مع العلم بكونها معصية إلا أن يكون جاهلا بقدر عقابه وقد علمنا أن الانسان إذا أقدم على ما لا ينبغي مع العلم بأنه مما لا ينبغي إلا أنه لا يعلم مقدار ما يحصل في عاقبته من الآفات فانه يصح أن يقال على سبيل المجاز انه جاهل بفعله
والوجه الثالث أن يكون المراد منه أن يأتي الانسان بالمعصية مع أنه لا يعلم كونه معصية لكن بشرط أن يكون متمكنا من العلم بكونه معصية فانه على هذا التقدير يستحق العقاب ولهذا المعنى أجمعنا على أن اليهودي يستحق على يهوديته العقاب وإن كان لا يعلم كون اليهودية معصية إلا أنه لما كان متمكنا من تحصيل العلم بكون اليهودية ذنبا ومعصية كفى ذلك في ثبوت استحقاق العقاب ويخرج عما ذكرنا النائم والساهي فانه أتى بالقبيح ولكنه ما كان متمكنا من العلم بكونه قبيحا وهذا القول راجح على غيره من حيث أن لفظ الجهالة في الوجهين الأولين محمول على المجاز وفي هذا الوجه على الحقيقة إلا أن على هذا الوجه لا يدخل تحت الآية إلا من عمل القبيح وهو لا يعلم قبحه أما المتعمد فانه لا يكون داخلا تحت الآية وإنما يعرف حاله بطريق القياس وهو أنه لما كانت التوبة على هذا الجاهل واجبة فلأن تكون واجبة على العامد كان ذلك أولى فهذا هو الكلام في الشرط الأول من شرائط التوبة وأما الشرط الثاني فهو قوله ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ وقد أجمعوا على أن المراد من هذا القرب حضور زمان الموت ومعاينة أهواله وإنما سمى تعالى هذه المدة قريبة لوجوه أحدها أن الأجل آت وكل ما هو آت قريب وثانيها للتنبيه على أن مدة عمر الانسان وإن طالت فهي قليلة قريبة فانها محفوفة بطرفي الأزل والأبد فاذا قسمت مدة عمرك إلى ما على طرفيها صار كالعدم وثالثها أن الانسان يتوقع في كل لحظة نزول الموت به وما هذا حاله فانه يوصف بالقرب
فان قيل ما معنى ( من ) في قوله مِن قَرِيبٍ
الجاب أنه لابتداء الغاية أي يجعل مبتدأ توبته زمانا قريبا من المعصية لئلا يقع في زمرة المصرين فأما من تاب بعد المعصية بزمان بعيد وقبل الموت بزمان بعيد فانه يكون خارجا عن المخصوصين بكرامة حتم

قبول التوبة على الله بقوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ وبقوله فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ومن لم تقع توبته على هذا الوجه فانه يكفيه أن يكون من جملة الموعودين بكلمة ( عسى ) في قوله عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ( التوبة 102 ) ولا شك أن بين الدرجتين من التفاوت ما لا يخفى وقيل معناه التبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب كأنه تعالى سمى ما بين وجود المعصية وبين حضور الموت زمانا قريبا ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب وإلا فهو تائب من بعيد
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذين الشرطين قال فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
فان قيل فما فائدة قوله فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بعد قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ
قلنا فيه وجهان الأول أن قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ إعلام بأنه يجب على الله قبولها وجوب الكرم والفضل والاحسان لا وجوب الاستحقاق وقوله فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إخبار بأنه سيفعل ذلك والثاني أن قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ يعني إنما الهداية الى التوبة والارشاد اليها والاعانة عليها على الله تعالى في حق من أتى بالذنب على سبيل الجهالة ثم تاب عنها عن قريب وترك الاصرار عليها وأتى بالاستغفار عنها ثم قال فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني أن العبد الذي هذا شأنه إذا أتى بالتوبة قبلها الله منه فالمراد بالأول التوفيق على التوبة وبالثاني قبول التوبة
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي وكان الله عليما بأنه إنما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشهوة والغضب والجهالة عليه حكيما بأن العبد لما كان من صفته ذلك ثم إنه تاب عنها من قريب فانه يجب في الكرم قبول توبته
وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الاٌّ نَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَائِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
اعلم أنه تعالى لما ذكر شرائط التوبة المقبولة أردفها بشرح التوبة التي لا تكون مقبولة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الآية دالة على أن من حضره الموت وشاهد أهواله فان توبته غير مقبولة وهذه المسألة مشتملة على بحثين
البحث الأول الذي يدل على أن توبة من وصفنا حاله غير مقبولة وجوه الأول هذه الآية وهي صريحة في المطلوب الثاني قوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 85 ) الثالث قال في صفة فرعون حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْراءيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ

ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( يونس 90 91 ) فلم يقبل الله توبته عند مشاهدة العذاب ولو أنه أتى بذلك الايمان قبل تلك الساعة بلحظة لكان مقبولا الرابع قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَة ٌ هُوَ قَائِلُهَا ( المؤمنون 99 100 ) الخامس قوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن ( المنافقون 10 11 ) فأخبر تعالى في هذه الآيات أن التوبة لا تقبل عند حضور الموت السادس روى أبو أيوب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر أي ما لم تتردد الروح في حلقه وعن عطاء ولو قبل موته بفواق الناقة وعن الحسن أن ابليس قال حين أهبط إلى الأرض وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دامت روحه في جسده فقال وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر
واعلم أن قوله حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ( النساء 18 ) أي علامات نزول الموت وقربه وهو كقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ( البقرة 180 )
البحث الثاني قال المحققون قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة بل المانع من قبول التوبة مشاهدة الأحوال التي عندها يحصل العلم بالله تعالى على سبيل الاضطرار وإنما قلنا إن نفس القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة لوجوه الأول أن جماعة أماتهم الله تعالى ثم أحياهم مثل قوم من بنى إسرائيل ومثل أولاد أيوب عليه السلام ثم إنه تعالى كلفهم بعد ذلك الاحياء فدل هذا على أن مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف الثاني أن الشدائد التي يلقاها من يقرب موته تكون مثل الشدائد الحاصلة عند القولنج ومثل الشدائد التي تلقاها المرأة عند الطلق أو أزيد منها فاذا لم تكن هذه الشدائد مانعة من بقاء التكليف فكذا القول في تلك الشدائد الثالث أن عند القرب من الموت إذا عظمت الآلام صار اضطرار العبد أشد وهو تعالى يقول أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ( النمل 62 ) فتزايد الآلام في ذلك الوقت بأن يكون سببا لقبول التوبة أولى من أين يكون سبباً لعدم قبول التوبة فثبت بهذه الوجوه أن نفس القرب من الموت ونفس تزايد الآلام والمشاق لا يجوز أن يكون مانعاً من قبول التوبة ونقول المانع من قبول التوبة أن الانسان عند القرب من الموت إذا شاهد أحوالا وأهوالا صارت معرفته بالله ضرورية عند مشاهدته تلك الأهوال ومتى صارت معرفته بالله ضرورية سقط التكليف عنه ألا ترى أن أهل الآخرة لما صارت معارفهم ضرورية سقط التكليف عنهم وإن لم يكن هناك موت ولا عقاب لأن توبتهم عند الحشر والحساب وقبل دخول النار لا تكون مقبولة
واعلم أن ههنا بحثا عميقاً أصوليا وذلك لأن أهل القيامة لا يشاهدون إلا أنهم صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتا ويشاهدون أيضا النار العظيمة وأصناف الأهوال وكل ذلك لا يوجب أن يصير العلم بالله ضروريا لأن العلم بأن حصول الحياة بعد أن كانت معدومة يحتاج إلى الفاعل علم نظري عند أكثر شيوخ المعتزلة وبتقدير أن يقال هذا العلم ضروري لكن العلم بأن الاحياء لا يصح من غير الله لا شك أنه نظري وأما العلم بأن فاعل تلك النيران العظيمة ليس إلا الله فهذا أيضا استدلالي فكيف يمكن ادعاء أن أهل الآخرة لأجل مشاهدة أهوالها يعرفون الله بالضرورة ثم هب أن الأمر كذلك فلم قلتم بأن العلم بالله إذا كان

ضروريا منع من صحة التكليف وذلك أن العبد مع علمه الضروري بوجود الاله المثيب المعاقب قد يقدم على المعصية لعلمه بأنه كريم وأنه لا ينفعه طاعة العبد ولا يضره ذنبه وإذا كان الأمر كذلك فلم قالوا بأن هذا يوجب زوال التلكيف وأيضا فهذا الذي يقوله هؤلاء المعتزلة من أن العلم بالله في دار التكليف يجب أن يكون نظريا فاذا صار ضروريا سقط التكليف كلام ضعيف لأن من حصل في قلبه العلم بالله إن كان تجويز نقيضه قائما في قلبه فهذا يكون ظنا لا علما وإن لم يكن تجويز نقيضه قائما امتنع أن يكون علم آخر أقوى منه وآكد منه وعلى هذا التقدير لا يبقى ألبتة فرق بين العلم الضروري وبين العلم النظري فثبت أن هذه الأشياء التي تذكرها المعتزلة كلمات ضعيفة واهية وأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فهو بفضله وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات وبعدله أخبر عن عدم قبول التوبة في وقت آخر وله أن يقلب الأمر فيجعل المقبول مردوداً والمردود مقبولا لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 )
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر قسمين فقال في القسم الأول إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَة ٍ ( النساء 17 ) وهذا مشعر بأن قبول توبتهم واجب وقال في القسم الثاني وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ فهذاجزم بأنه تعالى لا يقبل توبة هؤلاء فبقي بحكم التقسيم العقلي فيما بين هذين القسمين قسم ثالث وهم الذين لم يجزم الله تعالى بقبول توبتهم ولم يجزم برد توبتهم فلما كان القسم الأول هم الذين يعملون السوء بجهالة والقسم الثاني هم الذين لا يتوبون إلا عند مشاهدة البأس وجب أن يكون القسم المتوسط بين هذين القسمين هم الذين يعملون السوء على سبيل العمد ثم يتوبون فهؤلاء ما أخبر الله عنهم أنه يقبل توبتهم وما أخبر عنهم أنه يرد توبتهم بل تركهم في المشيئة كما أنه تعالى ترك مغفرتهم في المشيئة حيث قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء
المسألة الثالثة أنه تعالى لما بين أن من تاب عند حضور علامات الموت ومقدماته لا تقبل توبته قال وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وفيه وجهان الأول معناه الذين قرب موتهم والمعنى أنه كما أن التوبة عن المعاصي لا تقبل عند القرب من الموت كذلك الايمان لا يقبل عند القرب من الموت الثاني المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر فلو تابوا في الآخرة لا تقبل توبتهم
المسألة الرابعة تعلقت الوعيدية بهذه الآية على صحة مذهبهم من وجهين الأول قالوا إنه تعالى قال وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الاْنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فعطف الذين يعملون السيئات على الذين يموتون وهم كفار والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فثبت أن الطائفة الأولى ليسوا من الكفار ثم إنه تعالى قال في حق الكل أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فهذا يقتضي شمول هذا الوعيد للكفار والفساق الثاني أنه تعالى أخبر أنه لا توبة لهم عند المعاينة فلو كان يغفر لهم مع ترك التوبة لم يكن لهذا الاعلام معنى
والجواب أنا قد جمعنا جملة العمومات الوعيدية في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) وأجبنا عن تمسكهم بها وذكرنا وجوها كثيرة من الأجوبة ولا حاجة إلى إعادتها في كل واحد من هذه العمومات ثم نقول الضمير يجب أن يعود الى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات من قوله أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً هو قوله وَلاَ

الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فلم لا يجوز أن يكون قوله أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً عائدا إلى الكفار فقط وتحقيق الكلام فيه أنه تعالى أخبر عن الذين لا يتوبون إلا عند الموت أن توبتهم غير مقبولة ثم ذكر الكافرين بعد ذلك فبين أن ايمانهم عند الموت غير مقبول ولا شك أن الكافر أقبح فعلا وأخس درجة عند الله من الفاسق فلا بد وأن يخصه بمزيد إذلال وإهانة فجاز أن يكون قوله أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً مختصاً بالكافرين بيانا لكونهم مختصين بسبب كفرهم بمزيد العقوبة والاذلال
أما الوجه الثاني مما عولوا عليه فهو أنه أخبر أنه لا توبة عند المعاينة واذا كان لا توبة حصل هناك تجويز العقاب وتجويز المغفرة وهذا لا يخلو عن نوع تخويف وهو كقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) على أن هذا تمسك بدليل الخطاب والمعتزلة لا يقولون به والله أعلم
المسألة الخامسة أنه تعالى عطف على الذين يتوبون عند مشاهدة الموت الكفار والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فهذا يقتضي أن الفاسق من أهل الصلاة ليس بكافر ويبطل به قول الخوارج إن الفاسق كافر ولا يمكن أن يقال المراد منه المنافق لأن الصحيح أن المنافق كافر قال تعالى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ( المنافقون 1 ) والله أعلم
المسألة السادسة أعتدنا أي أعددنا وهيأنا ونظيره قوله تعالى في صفة نار جهنم أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( البقرة 24 آل عمران 131 ) احتج أصحابنا بهذه الآية على أن النار مخلوقة لأن العذاب الأليم ليس إلا نار جهنم وبرده وقوله أَعْتَدْنَا إخبار عن الماضي فهذا يدل على كون النار مخلوقة من هذا الوجه والله أعلم
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيِّنَة ٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
اعلم أنه تعالى بعد وصف التوبة عاد الى أحكام النساء واعلم أن أهل الجاهلية كانوا يؤذون النساء بأنواع كثيرة من الايذاء ويظلمونهن بضروب من الظلم فالله تعالى نهاهم عنها في هذه الآيات
فالنوع الأول قوله تعالى لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية قولان الأول كان الرجل في الجاهلية إذا مات وكانت له زوجة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه على المرأة وقال ورثت امرأته كما ورثت ماله فصار أحق بها من سائر الناس ومن نفسها فان شاء تزوجها بغير صداق إلا لصداق الأول الذي أصدقها الميت وإن شاء زوجها من إنسان آخر وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا فأنزل الله تعالى هذه الآية وبين أن ذلك حرام وأن الرجل

لا يرث امرأة الميت منه فعلى هذا القول المراد بقوله أَن تَرِثُواْ النّسَاء عين النساء وأنهن لا يورثن من الميت
والقول الثاني ان الوراثة تعود الى المال وذلك أن وارث الميت كان له أن يمنعها من الأزواج حتى تموت فيرثها مالها فقال تعالى لا يحل لكم أن ترثوا أموالهن وهن كارهات
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي كَرْهاً بضم الكاف وفي التوبة أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ( التوبة 53 ) وفي الأحقاف حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ( الأحقاف 15 ) كل ذلك بالضم وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم والباقي بالفتح وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالفتح في جميع ذلك قال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد وقال الفراء الكره بالفتح الا الاكراه وبالضم المشقة فما أكره عليه فهو كره بالفتح وما كان من قبل نفسه فهو كره بالضم
النوع الثاني من الأشياء التي نهى الله عنها مما يتعلق بالنساء قوله تعالى وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى في محل وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ قولان الأول انه نصب بالعطف على حرف ( أن ) تقديره ولا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا أن تعضلوهن في قراءة عبدالله والثاني أنه جزم بالنهي عطفا على ما تقدم تقديره ولا ترثوا ولا تعضلوا
المسألة الثانية العضل المنع ومنه الداء العضال وقد تقدم الاستقصاء فيه في قوله فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ ( البقرة 232 )
المسألة الثالثة المخاطب في قوله وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ من هو فيه أقوال الأول أن الرجل منهم قد كان يكره زوجته ويريد مفارقتها فكان يسيء العشرة معها ويضيق عليها حتى تفتدي منه نفسها بمهرها وهذا القول اختيار أكثر المفسرين فكأنه تعالى قال لا يحل لكم التزوج بهن بالاكراه وكذلك لا يحل لكم بعد التزوج بهن العضل والحبس لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن الثاني أنه خطاب للوارث بأن يترك منعها من التزوج بمن شاءت وأرادت كما كان يفعله أهل الجاهلية وقوله لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ معناه أنهم كانوا يحبسون امرأة الميت وغرضهم أن تبذل المرأة ما أخذت من ميراث الميت الثالث أنه خطاب للأولياء ونهى لهم عن عضل المرأة الرابع أنه خطاب للأزواج فانهم في الجاهلية كانوا يطلقون المرأة وكانوا يعضلونهن عن التزوج ويضيقون الأمر عليهن لغرض أن يأخذوا منهن شيئا الخامس أنه عام في الكل
أما قوله تعالى إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى في الفاحشة المبينة قولان الأول أنها النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله والمعنى إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع ويدل عليه قراءة أبي بن كعب إلا أن يفحش عليكم
والقول الثاني أنها الزنا وهو قول الحسن وأبي قلابة والسدي
المسألة الثانية قوله إِلاَّ أَن يَأْتِينَ استثناء من ماذا فيه وجوه الأول انه استثناء من أخذ الأموال

يعني لا يحل له أن يحبسها ضراراً حتى تفتدي منه إلا إذا زنت والقائلون بهذا منهم من قال بقي هذا الحكم وما نسخ ومنهم من قال انه منسوخ بآية الجلد الثاني أنه استثناء من الحبس والامساك الذي تقدم ذكره في قوله فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ ( النساء 15 ) وهو قول أبي مسلم وزعم أنه غير منسوخ الثالث يمكن أن يكون ذلك استثناء من قوله وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لأن العضل هو الحبس فدخل فيه الحبس في البيت فالأولياء والأزواج نهوا عن حبسهن في البيوت إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فعند ذلك يحل للأولياء والأزواج حبسهن في البيوت
المسألة الثالثة قرأ نافع وأبو عمرو مُّبَيّنَة ٍ بكسر الياء و مُّبَيّنَاتٍ وَاللَّهُ ( النور 34 ) بفتح الياء حيث كان قال لأن في قوله مُبَيّنَاتٍ قصد إظهارها وفي قوله بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ لم يقصد اظهارها وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بالفتح فيهما والباقون بكسر الياء فيهما أما من قرأ بالفتح فله وجهان الأول أن الفاحشة والآيات لا فعل لهما في الحقيقة إنما الله تعالى هو الذي بينهما والثاني ان الفاحشة تتبين فان يشهد عليها أربعة صارت مبينة وأما الآيات فان الله تعالى بينها وأما من قرأ بالكسر فوجهه أن الآيات إذا تبينت وظهرت صارت أسبابا للبيان وإذا صارت أسبابا للبيان جاز إسناد البيان اليها كما أن الاصنام لما كانت أسبابا للضلال حسن اسناد الاضلال اليها كقوله تعالى رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 )
النوع الثالث من التكاليف المتعلقة بأحوال النساء قوله تعالى وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وكان القوم يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم وعاشروهن بالمعروف قال الزجاج هو النصفة في المبيت والنفقة والاجمال في القول
ثم قال تعالى فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ أي كرهتم عشرتهن بالمعروف وصحبتهن وآثرتم فراقهن فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً والضمير في قوله فِيهِ إلى ماذا يعود فيه وجهان الأول المعنى انكم إن كرهتم صحبتهن فأمسكوهن بالمعروف فعسى أن يكون في صحبتهن الخير الكثير ومن قال بهذا القول فتارة فسر الخير الكثير بولد يحصل فتنقلب الكراهة محبة والنفرة رغبة وتارة بأنه لما كره صحبتها ثم إنه يحمل ذلك المكروه طلبا لثواب الله وأنفق عليها وأحسن اليها على خلاف الطبع استحق الثواب الجزيل في العقبى والثناء الجميل في الدنيا الثاني أن يكون المعنى إن كرهتموهن ورغبتم في مفارقتهن فربما جعل الله في تلك المفارقة لهن خيرا كثيرا وذلك بأن تتخلص تلك المرأة من هذا الزوج وتجد زوجا خيراً منه ونظيره قوله وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ ( النساء 130 ) وهذا قول أبي بكر الأصم قال القاضي وهذا بعيد لأنه تعالى حث بما ذكر على سبيل الاستمرار على الصحبة فكيف يريد بذلك المفارقة
النوع الرابع من التكاليف المتعلقة بالنساء

وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً
فيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى في الآية الأولى لما أذن في مضارة الزوجات إذا أتين بفاحشة بين في هذه الآية تحريم المضارة في غير حال الفاحشة فقال وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ روي أن الرجل منهم إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجة نفسه بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج المرأة التي يريدها قال تعالى وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ الآية والقنطار المال العظيم وقد مر تفسيره في قوله تعالى وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَة ِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّة ِ ( آل عمران 14 )
المسألة السادسة قالوا الآية تدل على جواز المغالاة في المهر روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر ألا لا تغالوا في مهور نسائكم فقامت امرأة فقالت يا ابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية فقال عمر كل الناس أفقه من عمر ورجع عن كراهة المغالاة وعندي أن الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة لأن قوله وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ لا يدل على جواز إيتاء القنطار كما أن قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) لا يدل على حصول الآلهة والحاصل أنه لا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع وقال عليه الصلاة والسلام ( من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ) ولم يلزم منه جواز القتل وقد يقول الرجل لو كان الاله جسما لكان محدثا وهذا حق ولا يلزم منه ان قولنا الاله جسم حق
المسألة الثالثة هذه الآية يدخل فيها ما إذا آتاها مهرها وما إذا لم يؤتها وذلك لأنه أوقع العقد على ذلك الصداق في حكم الله فلا فرق فيه بين ما إذا آتاها الصداق حساً وبين ما إذا لم يؤتها
المسألة الرابعة احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر قال وذلك لأن الله تعالى منع الزوج من أن يأخذ منها شيئا من المهر وهذا المنع مطلق ترك العمل به قبل الخلوة فوجب أن يبقى معمولا به بعد الخلوة قال ولا يجوز أن يقال انه مخصوص بقوله تعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( البقرة 237 ) وذلك لأن الصحابة اختلفوا في تفسير المسيس فقال علي وعمر المراد من المسيس الخلوة وقال عبدالله هو الجماع واذا صار مختلفا فيه امتنع جعله مخصصا لعموم هذه الآية
والجواب ان هذه الآية المذكورة ههنا مختصة بما بعد الجماع بدليل قوله تعالى وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وإفضاء بعضهم إلى البعض هو الجماع على قول أكثر المفسرين وسنقيم الدلائل على صحة ذلك
المسألة الخامسة اعلم أن سوء العشرة اما أن يكون من قبل الزوج وإما أن يكون من قبل الزوجة فان كان من قبل الزوج كره له أنه يأخذ شيئا من مهرها لأن قوله تعالى وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ

وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً صريح في أن النشوز إذا كان من قبله فانه يكون منهيا عن أن يأخذ من مهرها شيئا ثم ان وقعت المخالعة ملك الزوج بدل الخلع كما ان البيع وقت النداء منهي عنه ثم انه يفيد الملك واذا كان النشوز من قبل المرأة فههنا يحل أخذ بدل الخلع لقوله تعالى وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ ( النساء 19 )
ثم قال تعالى أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وفيه مسائل
المسألة الأولى البهتان في اللغة الكذب الذي يواجه الانسان به صاحبه على جهة المكابرة وأصله من بهت الرجل إذا تحير فالبهتان كذب يحير الانسان لعظمته ثم جعل كل باطل يتحير من بطلانه بُهْتَاناً ومنه الحديث ( إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهته )
المسألة الثانية في أنه لم انتصب قوله بُهْتَاناً وجوه الأول قال الزجاج البهتان ههنا مصدر وضع موضع الحال والمعنى أتأخذونه مباهتين وآثمين الثاني قال صاحب ( الكشاف ) يحتمل أنه انتصب لأنه مفعول له وإن لم يكن غرضاً في الحقيقة كقولك قعد عن القتال جبنا الثالث انتصب بنزع الخافض أي ببهتان الرابع فيه اضمار تقديره تصيبون به بهتانا وإثما
المسألة الثالثة في تسمية هذا الأخذ ( بهتانا ) وجوه الأول أنه تعالى فرض لها ذلك المهر فمن استرده كان كأنه يقول ليس ذلك بفرض فيكون بهتانا الثاني أنه عند العقد تكفل بتسليم ذلك المهر اليها وأن لا يأخذه منها فاذا أخذه صار ذلك القول الأول بهتانا الثالث أنا ذكرنا أنه كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشتري نفسها منه بذلك المهر فلما كان هذا الأمر واقعا على هذا الوجه في الأغلب الأكثر جعل كأن أحدهما هو الآخر الرابع أنه تعالى ذكر في الآية السابقة وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ والظاهر من حال المسلم أنه لا يخالف أمر الله فاذا أخذ منها شيئاً أشعر ذلك بأنها قد أتت بفاحشة مبينة فاذا لم يكن الأمر كذلك في الحقيقة صح وصف ذلك الأخذ بأنه بهتان من حيث أنه يدل على إتيانها بالفاحشة مع أن الأمر ليس كذلك وفيه تقرير آخر وهو أن أخذ المال طعن في ذاتها وأخذ لمالها فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر فكان ذلك معصية عظيمة من أمهات الكبائر الخامس أن عقاب البهتان والاثم المبين كان معلوماً عندهم فقوله أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً معناه أتأخذون عقاب البهتان فهو كقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 )
المسألة الرابعة قوله أَتَأْخُذُونَهُ استفهام على معنى الانكار والاعظام والمعنى أن الظاهر أنكم لا تفعلون مثل هذا الفعل مع ظهور قبحه في الشرع والعقل
واعلم أنه تعالى ذكر في علة هذا المنع أمورا أحدهما أن هذا الأخذ يتضمن نسبتها إلى الفاحشة المبينة فكان ذلك بهتانا والبهتان من أمهات الكبائر وثانيها أنه إثم مبين لأن هذا المال حقها فمن ضيق الأمر عليها ليتوسل بذلك التشديد والتضييق وهو ظلم إلى أخذ المال وهو ظلم آخر فلا شك أن التوسل

بظلم إلى ظلم آخر يكون إثما مبينا وثالثها قوله تعالى وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى أصل أفضى من الفضاء الذي هو السعة يقال فضا يفضو وفضاء إذا اتسع قال الليث أفضى فلان إلى فلان أي وصل اليه وأصله أنه صار في فرجته وفضائه وللمفسرين في الافضاء في هذه الآية قولان أحدهما أن الافضاء ههنا كناية عن الجماع وهو قول ابن عباس ومجاهد والسدي واختيار الزجاج وابن قتيبة ومذهب الشافعي لأن عنده الزوج إذا طلق قبل المسيس فله أن يرجع في نصف المهر وإن خلا بها
والقول الثاني في الافضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها قال الكلبي الافضاء أن يكون معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها وهذا القول اختيار الفراء ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه لأن الخلوة الصحيحة تقرر المهر
واعلم أن القول الأول أولى ويدل عليه وجوه الأول أن الليث قال أفضى فلان إلى فلانة أي صار في فرجتها وفضائها ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل في الحقيقة عند الجماع أما في غير وقت الجماع فهذا غير حاصل الثاني أنه تعالى ذكر هذا في معرض التعجب فقال وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الافضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة وهو الجماع لا مجرد الخلوة فوجب حمل الافضاء عليه الثالث وهو أن الافضاء اليها لا بد وأن يكون مفسرا بفعل منه ينتهي اليه لأن كلمة ( إلى ) لانتهاء الغاية ومجرد الخلوة ليس كذلك لأن عند الخلوة المحضة لم يصل فعل من أفعال واحد منهما إلى الآخر فامتنع تفسير قوله أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ بمجرد الخلوة
فان قيل فاذا اضطجعا في لحاف واحد وتلامسا فقد حصل الافضاء من بعضهم إلى بعض فوجب أن يكون ذلك كافيا وأنتم لا تقولون به
قلنا القائل قائلان قائل يقول المهر لا يتقرر إلا بالجماع وآخر انه يتقرر بمجرد الخلوة وليس في الأمة أحد يقول إنه يتقرر بالملامسة والمضاجعة فكان هذا القول باطلا بالاجماع فلم يبق في تفسير إفضاء بعضهم إلى بعض إلا أحد أمرين إما الجماع وإما الخلوة والقول بالخلوة باطل لما بيناه فبقي أن المراد بالافضاء هو الجماع الرابع أن المهر قبل الخلوة ما كان متقرراً والشرع قد علق تقرره على إفضاء البعض إلى البعض وقد اشتبه الأمر في أن المراد بهذا الافضاء هو الخلوة أو الجماع وإذا وقع الشك وجب بقاء ما كان على ما كان وهو عدم التقرير فبهذه الوجوه ظهر ترجيح مذهب الشافعي والله أعلم
المسألة الثانية قوله وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ كلمة تعجب أي لأي وجه ولأي معنى تفعلون هذا فانها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذتك وتمتعك وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئاً بذله لها بطبية نفسه إن هذا لا يليق ألبتة بمن له طبع سليم وذوق مستقيم
الوجه الرابع من الوجوه التي جعلها الله مانعا من استرداد المهر قوله وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقاً غَلِيظاً في

تفسير هذا الميثاق الغليظ وجوه الأول قال السدي وعكرمة والفراء هو قولهم زوجتك هذه المرأة على ما أخذه الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح باحسان ومعلوم أنه إذا ألجأها إلى أن بذلت المهر فما سرحها بالاحسان بل سرحها بالاساءة الثاني قال ابن عباس ومجاهد الميثاق الغليظ كلمة النكاح المعقودة على الصداق وتلك الكلمة كلمة تستحل بها فروج النساء قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( اتقوا الله في النساء فانكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله الثالث قوله وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقاً غَلِيظاً أي أخذن منكم بسبب إفضاء بعضكم إلى بعض ميثاقا غليظا وصفه بالغلظة لقوته وعظمته وقالوا صحبة عشرين يوما قرابة فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج
النوع الخامس من الأمور التي كلف الله تعالى بها في هذه الآية من الأمور المتعلقة بالنساء
وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً
فيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس وجمهور المفسرين كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهاهم الله بهذه الآية عن ذلك الفعل
المسألة الثانية قال أبو حنيفة رضي الله عنه يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه وقال الشافعي رحمة الله عليه لا يحرم احتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال إنه تعالى نهى الرجل أن ينكح منكوحة أبيه والنكاح عبارة عن الوطء فكان هذا نهيا عن نكاح موطوءة أبيه إنما قلنا إن النكاح عبارة عن الوطء لوجوه الأول قوله تعالى فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( البقرة 230 ) أضاف هذا النكاح إلى الزوج والنكاح المضاف إلى الزوج هو الوطء لا العقد لأن الانسان لا يمكنه أن يتزوج بزوجة نفسه لأن تحصيل الحاصل محال ولأنه لو كان المراد بالنكاح في هذه الآية هوالعقد لوجب أن يحصل التحليل بمجرد العقد وحيث لم يحصل علمنا أن المراد من النكاح في هذه الآية ليس هو العقد فتعين أن يكون هو الوطء لأنه لا قائل بالفرق الثاني قوله تعالى وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ ( النساء 6 ) والمراد من النكاح ههنا الوطء لا العقد لأن أهلية العقد كانت حاصلة أبدا الثالث قوله تعالى الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً ( النور 3 ) فلو كان المراد ههنا العقد لزم الكذب الرابع قوله عليه الصلاة والسلام ( ناكح اليد ملعون ) ومعلوم أن المراد ليس هو العقد بل هو الوطء فثبت بهذه الوجوه أن النكاح عبارة عن الوطء فلزم أن يكون قوله تعالى وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ أي ولا تنكحوا ما وطئهن آباؤكم وهذا يدخل فيه المنكوحة والمزنية لا يقال كما أن لفظ النكاح ورد بمعنى الوطء فقد ورد أيضاً بمعنى العقد قال تعالى وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ ( النور 32 ) فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النسار 3 ) إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ( الأحزاب 49 ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح ) فلم كان حمل

اللفظ على الوطء أولى من حمله على العقد
أجابوا عنه من ثلاثة أوجه الأول ما ذهب اليه الكرخي وهو أن لفظ النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد بدليل أن لفظ النكاح في أصل اللغة عبارة عن الضم ومعنى الضم حاصل في الوطء لا في العقد فكان لفظ النكاح حقيقة في الوطء ثم إن العقد سمي بهذا الاسم لأن العقد لما كان سبباً له أطلق اسم المسبب على السبب كما أن العقيقة اسم للشعر الذي يكون على رأس الصبي حال ما يولد ثم تسمى الشاة التي تذبح عند حلق ذلك الشعر عقيقة فكذا ههنا
واعلم أنه كان مذهب الكرخي أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد بالاعتبار الواحد في حقيقته ومجازه معا فلا جرم كان يقول المستفاد من هذه الآية حكم الوطء أما حكم العقد فانه غير مستفاد من هذه الآية بل من طريق آخر ودليل آخر
الوجه الثاني أن من الناس من ذهب إلى أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في مفهوميه معا فهذا القائل قال دلت الآيات المذكورة على أن لفظ النكاح حقيقة في الوطء وفي العقد معا فكان قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ نهيا عن الوطء وعن العقد معا حملا للفظ على كلا مفهوميه
الوجه الثالث في الاستدلال وهو قول من يقول اللفظ المشترك لا يجوز استعماله في مفهوميه معا قالوا ثبت بالدلائل المذكورة أن لفظ النكاح قد استعمل في القرآن في الوطء تارة وفي العقد أخرى والقول بالاشتراك والمجاز خلاف الأصل ولا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو معنى الضم حتى يندفع الاشتراك والمجاز وإذا كان كذلك كان قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ نهيا عن القدر المشترك بين هذين القسمين والنهي عن القدر المشترك بين القسمين يكون نهيا عن كل واحد من القسمين لا محالة فان النهي عن التزويج يكون نهيا عن العقد وعن الوطء معا فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا الاستدلال
والجواب عنه من وجوه الأول لا نسلم أن اسم النكاح يقع على الوطء والوجوه التي احتجوا بها على ذلك فهي معارضة بوجوه أحدها قوله عليه الصلاة والسلام ( النكاح سنتي ) ولا شك أن الوطء من حيث كونه وطأ ليس سنة له وإلا لزم أن يكون الوطء بالسفاح سنة له فلما ثبت أن النكاح سنة وثبت أن الوطء ليس سنة ثبت أن النكاح ليس عبارة عن الوطء كذلك التمسك بقوله تناكحوا تكثروا ولو كان الوطء مسمى بالنكاح لكان هذا إذنا في مطلق الوطء وكذلك التمسك بقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ ( النور 32 ) وقوله فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 )
لا يقال لما وقع التعارض بين هذه الدلائل فالترجيح معنا وذلك لأنا لو قلنا الوطء مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة لزم دخول المجاز في دلائلنا ومتى وقع التعارض بين المجاز والتخصيص كان التزام التخصيص أولى
لأنا نقول أنتم تساعدون على أن لفظ النكاح مستعمل في العقد فلو قلنا إن النكاح حقيقة في الوطء لزم دخول التخصيص في الآيات التي ذكرناها ولزم القول بالمجاز في الآيات التي ذكر النكاح فيها بمعنى العقد أما قولنا ان النكاح فيها بمعنى الوطء فلا يلزمنا التخصيص فقولكم يوجب المجاز

والتخصيص معا وقولنا يوجب المجاز فقط فكان قولنا أولى
الوجه الثاني من الوجوه الدالة على أن النكاح ليس حقيقة في الوطء قوله عليه الصلاة والسلام ( ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح ) أثبت نفسه مولودا من النكاح وغير مولود من السفاح وهذا يقتضي أن لا يكون السفاح نكاحا والسفاح وطء فهذا يقتضي أن لا يكون الوطء نكاحا
الوجه الثالث أنه من حلف في أولاد الزنا أنهم ليسوا أولاد النكاح لم يحنث ولو كان الوطء نكاحا لوجب أن يحنث وهذا دليل ظاهر على أن الوطء ليس مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة الثاني سلمنا أن الوطء مسمى بالنكاح لكن العقد أيضاً مسمى به فلم كان حمل الآية على ما ذكرتم أولى من حملها على ما ذكرنا
أما الوجه الأول وهو الذي ذكره الكرخي فهو في غاية الركاكة وبيانه من وجهين الأول أو الوطء مسبب العقد فكما يحسن إطلاق اسم المسبب على السبب مجازا فكذلك يحسن اطلاق اسم السبب على المسبب مجازا فكما يحتمل أن يقال النكاح اسم للوطء ثم أطلق هذا الاسم على العقد لكونه سببا للوطء فكذلك يحتمل أن يقال النكاح اسم للعقد ثم أطلق هذا الاسم على الوطء لكون الوطء مسبباً له فلم كان أحدهما أولى من الآخر بل الاحتمال الذي ذكرناه أولى لأن استلزام السبب للمسبب أتم من استلزام المسبب للسبب المعين فانه لا يمتنع أن يكون لحصول الحقيقة الواحدة أسباب كثيرة كالملك فانه يحصل بالبيع والهبة والوصية والارث ولا شك أن الملازمة شرط لجواز المجاز فثبت أن القول بأن اسم النكاح حقيقة في العقد مجاز في الوطء أولى من عكسه
الوجه الثاني أن النكاح لو كان حقيقة في الوطء مجازا في العقد وقد ثبت في أصول الفقه أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه معا فحينئذ يلزم أن لا تكون الآية دالة على حكم العقد وهذا وإن كان قد التزمه الكرخي لكنه مدفوع بالدليل القاطع وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول هذه الآية هو أنهم كانوا يتزوجون بأزواج آبائهم وأجمع المسلمون على أن سبب نزول الآية لا بد وأن يكون داخلا تحت الآية بل اختلفوا في أن غيره هل يدخل تحت الآية أم لا وأما كون سبب النزول داخلا فيها فذاك مجمع عليه بين الأمة فاذا ثبت باجماع المفسرين أن سبب نزول هذه الآية هو العقد لا الوطء وثبت باجماع المسلمين أن سبب النزول لا بد وأن يكون مراداً ثبت بالاجماع أن النهي عن العقد مراد من هذه الآية فكان قول الكرخي واقعا على مضادة هذا الدليل القاطع فكان فاسداً مردودا قطعا
أما الوجه الثاني مما ذكروه وهو أنا نحمل لفظ النكاح على مفهوميه فنقول هذا أيضا باطل وقد بينا وجه بطلانه في أصول الفقه
وأما الوجه الثالث فهو أحسن الوجوه المذكورة في هذا الباب وهو أيضاً ضعيف لأن الضم الحاصل في الوطء عبارة عن تجاور الأجسام وتلاصقها والضم الحاصل في العقد ليس كذلك لأن الايجاب والقبول أصوات غير باقية فمعنى الضم والتلاقي والتجاور فيها محال وإذا كان كذلك ثبت أنه ليس بين الوطء وبين العقد مفهوم مشترك حتى يقال إن لفظ النكاح حقيقة فيه فاذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال لفظ النكاح مشترك بين الوطء وبين العقد ويقال إنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر وحينئذ يرجع الكلام إلى

الوجهين الأولين فهذا هو الكلام الملخص في هذا
الوجه الثاني في الجواب عن هذا الاستدلال أن نقول سلمنا أن النكاح بمعنى الوطء ولكن لم قلتم إن قوله مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ المراد منه المنكوحة والدليل عليه إجماعهم على أن لفظه ( ما ) حقيقة في غير العقلاء فلو كان المراد منه ههنا المنكوحة لزم هذا المجاز وإنه خلاف الأصل بل أهل العربية اتفقوا على أن ( ما ) مع بعدها في تقدير المصدر فتقدير الآية ولا تنكحوا نكاح آبائكم وعلى هذا يكون المراد منه النهي عن أن تنكحوا نكاحا مثل نكاح آبائكم فان أنكحتهم كانت بغير ولي ولا شهود وكانت موقتة وكانت على سبيل القهر والالجاء فالله تعالى نهاهم بهذه الآية عن مثل هذه الأنكحة وهذا الوجه منقول عن محمد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية
الوجه الثالث في الجواب عن هذا الاستدلال سلمنا أن المراد من قوله مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ المنكوحة والتقدير ولا تنكحوا من نكح آباؤكم ولكن قوله من نكح آباؤكم ليس صريحا في العموم بدليل أنه يصح إدخال لفظي الكل والبعض عليه فيقال ولا تنكحوا كل ما نكح آباؤكم ولا تنكحوا بعض من نكح آباؤكم ولو كان هذا صريحا في العموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريراً وإدخال لفظ البعض عليه نقصا ومعلوم أنه ليس كذلك فثبت أن قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ لا يفيد العموم وإذا لم يفد العموم لم يتناول محل النزاع
لا يقال لو لم يفد العموم لم يكن صرفه إلى بعض الأقسام أولى من صرفه الى الباقي فحينئذ يصير مجملا غير مفيد والأصل أن لا يكون كذلك
لأنا نقول لا نسلم أن بتقدير أن لا يفيد العموم لم يكن صرفه إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزوله إنما هو التزوج بزوجات الآباء فكان صرفه إلى هذا القسم أولى وبهذا التقدير لا يلزم كون الآية مجملة ولا يلزم كونها متناولة لمحل النزاع
الوجه الرابع سلمنا أن هذا النهي يتناول محل النزاع لكن لم قلتم إنه يفيد التحريم أليس أن كثيرا من أقسام النهي لا يفيد التحريم بل يفيد التنزيه فلم قلتم إنه ليس الأمر كذلك أقصى ما في الباب أن يقال هذا على خلاف الأصل ولكن يجب المصير إليه إذا دل الدليل وسنذكر دلائل صحة هذا النكاح إن شاء الله تعالى
الوجه الخامس أن ما ذكرتم هب أنه يدل على فساد هذا النكاح إلا أن ههنا ما يدل على صحة هذا النكاح وهو من وجوه
الحجة الأولى هذا النكاح منعقد فوجب أن يكون صحيحا بيان أنه منعقد أنه عند أبي حنيفة رضي الله عنه منهي عنه بهذه الآية ومن مذهبه أن النهي عن الشيء يدل على كونه في نفسه منعقدا وهذا هو أصل مذهبه في مسألة البيع الفاسد وصوم يوم النحر فيلزم من مجموع هاتين المقدمتين أن يكون هذا النكاح منعقدا على أصل أبي حنيفة وإذا ثبت القول بالانعقاد في هذه الصورة وجب القول بالصحة لأنه لا قائل بالفرق فهذا وجه حسن من طريق الالزام عليهم في صحة هذا النكاح

الحجة الثانية عموم قوله تعالى وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) نهى عن نكاح المشركات ومد النهي إلى غاية وهي إيمانهن والحكم الممدود إلى غاية ينتهي عند حصول تلك الغاية فوجب أن ينتهي المنع من نكاحهن عند إيمانهن وإذا انتهى المنع حصل الجواز فهذا يقتضي جواز نكاحهن على الاطلاق ولا شك أنه يدخل في هذا العموم مزنية الأب وغيرها أقصى ما في الباب أن هذا العموم دخله التخصيص في مواضع يبقى حجة في غير محل التخصيص وكذلك نستدل بجميع العمومات الواردة في باب النكاح كقوله تعالى وَأَنْكِحُواْ الايَامَى ( النور 32 ) وقوله فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) وأيضا نتمسك بقوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ( النساء 24 ) وليس لأحد أن يقول إن قوله مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ضمير عائد إلى المذكور السابق ومن جملة المذكور السابق قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ وذلك لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات اليه هو من قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ( النساء 23 ) فكان قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ عائدا اليه ولا يدخل فيه قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ وأيضاً نتمسك بعمومات الأحاديث كقوله عليه الصلاة والسلام ( إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه ) وقوله ( زوجوا بناتكم الاكفاء ) فكل هذه العمومات يتناول محل النزاع واعلم أنا بينا في أصول الفقه أن الترجيح بكثرة الأدلة جائز وإذا كان كذلك فنقول بتقدير أن يثبت لهم أن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد فلو حملنا الآية على العقد لم يلزمنا إلا مجاز واحد وبتقدير أن نحمل تلك الآية على حرمة النكاح يلزمنا هذه التخصيصات الكثيرة فكان الترجيح من جانبنا بسبب كثرة الدلائل
الحجة الثالثة الحديث المشهور في المسألة وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( الحرام لا يحرم الحلال ) أقصى ما في الباب أن يقال إن قطرة من الخمر إذا وقعت في كوز من الماء فههنا الحرام حرم الحلال وإذا اختلطت المنكوحة بالاجنبيات واشتبهت بهن فههنا الحرام حرم الحلال إلا أنا نقول دخول التخصيص فيه في بعض الصور ولا يمنع من الاستدلال به
الحجة الرابعة من جهة القياس أن نقول المقتضى لجواز النكاح قائم والفارق بين محل الاجماع وبين محل النزاع ظاهر فوجب القول بالجواز أما المقتضى فهو أن يقيس نكاح هذه المرأة على نكاح سائر النسوان عند حصول الشرائط المتفق عليها بجامع ما في النكاح من المصالح وأما الفارق فهو أن هذه المحرمية إنما حكم الشرع بثبوتها سعيا في إبقاء الوصلة الحاصلة بسبب النكاح ومعلوم أن هذا لا يليق بالزنا
بيان المقام الأول من تزوج بامرأة فلو لم يدخل على المرأة أب الرجل وابنه ولم تدخل على الرجل أم المرأة وبنتها لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح ولو أذنا في هذا الدخول ولم نحكم بالمحرمية فربما امتد عين البعض إلى البعض وحصل الميل والرغبة وعند حصول التزوج بأمها أو ابنتها تحصل النفرة الشديدة بينهن لأن صدور الايذاء عن الأقارب أقوى وقعا وأشد إيلاما وتأثيرا وعند حصول النفرة الشديدة يحصل التطليق والفراق أما إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع وانحبست الشهورة فلا يحصل ذلك الضرر فبقي النكاح بين الزوجين سليما عن هذه المفسدة

فثبت أن المقصود من حكم الشرع بهذه المحرمية السعي في تقرير الاتصال الحاصل بين الزوجين وإذا كان المقصود من شرع المحرمية ابقاء ذلك الاتصال فمعلوم أن الاتصال الحاصل عند النكاح مطلوب البقاء فيتناسب حكم الشرع باثبات هذه المحرمية وأما الاتصال الحاصل عند الزنا فهو غير مطلوب البقاء فلم يتناسب حكم الشرع باثبات هذه المحرمية وهذا وجه مقبول مناسب في الفرق بين البابين وهذا هو من قول الامام الشافعي رضي الله عنه عند مناظرته في هذه المسألة محمد بن الحسن حيث قال وطء حمدت به ووطء رجمت به فكيف يشتبهان ولنكتف بهذا القدر من الكلام في هذه المسألة
واعلم أن السبب في ذكر هذا الاستقصاء ههنا أن أبا بكر الرازي طول في هذه المسألة في تصنيفه وما كان ذلك التطويل إلا تطويلا في الكلمات المختلطة والوجوه الفاسدة الركيكة ثم إنه لما آل الأمر إلى المكالمة مع الامام الشافعي أساء في الأدب وتعدى طوره وخاض في السفاهة وتعامى عن تقرير دلائله وتغافل عن إيراد حججه ثم انه بعد أن كتب الأوراق الكثيرة في الترهات التي لا نفع لمذهبه منها ولا مضرة على خصومه بسببها أظهر القدح الشديد والتصلف العظيم في كثرة علوم أصحابه وقلة علوم من يخالفهم ولو كان من أهل التحصيل لبكى على نفسه من تلك الكلمات التي حاولت نصرة قوله بها ولتعلم الدلائل ممن كان أهلا لمعرفتها ومن نظر في كتابنا ونظر في كتابه وأنصف علم أنا أخذنا منه خرزة ثم جعلناها لؤلؤة من شدة التخليص والتقرير ثم أجبنا عنه بأجوبة مستقيمة على قوانين الأصول منطبقة على قواعد الفقه ونسأل الله حسن الخاتمة ودوام التوفيق والنصرة
المسألة الثالثة ذكر المفسرون في قوله إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ وجوها الأول وهو أحسنها ما ذكره السيد صاحب حل المقل فقال هذا استثناء على طريق المعنى لأن قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ قبل نزول آية التحريم فانه معفو عنه الثاني قال صاحب ( الكشاف ) هذا كما استثنى ( غير أن سيوفهم ) من قوله وَلاَ لَكُمْ فِيهِمْ يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فانه لا يحل لكم غيره وذلك غير ممكن والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته كما يقال حتى يبيض القار وحتى يلج الجمل في سم الخياط الثالث أن هذا استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل والمعنى لكن ما قد سلف فان الله تجاوز عنه والرابع ( إلا ) ههنا بمعنى بعد كقوله تعالى لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَة َ الاْولَى ( الدخان 56 ) أي بعد الموتة الأولى الخامس قال بعضهم معناه إلا ما قد سلف فانكم مقرون عليه قالوا إنه عليه الصلاة والسلام أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن وإنما فعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج وقيل إن هذا خطأ لأنه عليه الصلاة والسلام ما أقر أحدا على نكاح امرأة أبيه وإن كان في الجاهلية روى البراء أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث أبا بردة الى رجل عرس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله
المسألة الرابعة الضمير في قوله تعالى أَنَّهُ إلى ماذا يعود فيه وجهان الأول أنه راجع إلى هذا النكاح قبل النهي أعلم الله تعالى أن هذا الذي حرمه عليهم كان لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه مقتى وذلك لأن زوجة الأب تشبه الأم وكان نكاح الأمهات من أقبح الأشياء عند العرب فلما كان هذا النكاح يشبه ذلك لا جرم كان مستقبحا عندهم فبين الله تعالى

أن هذا النكاح أبدا كان ممقوتا وقبيحا الثاني أن هذا الضمير راجع إلى هذا النكاح بعد النهي فبين الله تعالى أنه كان فاحشة في الإسلام ومقتا عند الله وإنما قال كَانَ لبيان أنه كان في حكم الله وفي علمه موصوفا بهذا الوصف
المسألة الخامسة أنه تعالى وصفه بأمور ثلاثة أولها أنه فاحشة وإنما وصف هذا النكاح بأنه فاحشة لما بينا أن زوجة الأب تشبه الأم فكانت مباشرتها من أفحش الفواحش وثانيها المقت وهو عبارة عن بغض مقرون باستحقار حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه وهو من الله في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار وثالثها قوله وَسَاء سَبِيلاً قال الليث ( ساء ) فعل لازم وفاعله مضمر و ( سبيلا ) منصوب تفسيرا لذلك الفاعل كما قال وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 ) واعلم أن مراتب القبح ثلاثة القبح في العقول وفي الشرائع وفي العادات فقوله إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً إشارة إلى القبح العقلي وقوله وَمَقْتاً إشارة إلى القبح الشرعي وقوله وَسَاء سَبِيلاً إشارة إلى القبح في العرف والعادة ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح والله أعلم
النوع السادس من التكاليف المتعلقة بالنساء المذكورة في هذه الآيات
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الاٌّ خِ وَبَنَاتُ الاٍّ خْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَة ِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاٍّ خْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
قوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الاْخِ وَبَنَاتُ الاْخْتِ
اعلم أنه تعالى نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النسوان سبعة منهن من جهة النسب وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت وسبعة أخرى لا من جهة النسب الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء وبنات النساء بشرط أن يكون قد دخل بالنساء وأزواج الابناء والآباء إلا أن أزواج الأبناء مذكورة ههنا وأزواج الآباء مذكورة في الآية المتقدمة والجمع بين الأختين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذهب الكرخي إلى أن هذه الآية مجملة قال لأنه أضيف التحريم فيها إلى الأمهات والبنات والتحريم لا يمكن إضافته إلى الاعيان وإنما يمكن إضافته إلى الافعال وذلك الفعل غير مذكور في الآية فليست إضافة هذا التحريم إلى بعض الافعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات أولى من بعض فصارت الآية مجملة من هذا الوجه
والجواب عنه من وجهين الأول أن تقديم قوله تعالى وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ ( النساء 22 ) يدل على أن المراد من قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ تحريم نكاحهن الثاني أن من المعلوم بالضرورة من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن المراد منه تحريم نكاحهن والأصل فيه أن الحرمة والاباحة إذا أضيفتا إلى الاعيان فالمراد

تحريم الفعل المطلوب منها في العرف فاذا قيل حرمت عليكم الميتة والدم فهم كل أحد أن المراد تحريم أكلهما وإذا قيل حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم فهم كل أحد أن المراد تحريم نكاحهن ولما قال عليه الصلاة والسلام ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا لاحدى معان ثلاث ) فهم كل أحد أن المراد لا يحل إراقة دمه وإذا كانت هذه الأمور معلومة بالضرورة كان إلقاء الشبهات فيها جاريا مجرى القدح في البديهيات وشبه السوفسطائية فكانت في غاية الركاكة والله أعلم
بلى عندي فيه بحث من وجوه أخرى أحدها أن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ مذكور على ما لم يسم فاعله فليس فيه تصريح بأن فاعل هذا التحريم هو الله تعالى وما لم يثبت ذلك لم تفد الآية شيئا آخر ولا سبيل اليه إلا بالاجماع فهذه الآية وحدها لا تفيد شيئا بل لا بد معها من الاجماع على هذه المقدمة وثانيها أن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ليس نصا في ثبوت التحريم على سبيل التأييد فان القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه الى المؤبد والى المؤقت كأنه تعالى تارة قال حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم الى الوقت الفلاني فقط وأخرى حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم مؤبدا مخلدا واذا كان القدر المذكور في الآية صالحا لأن يجعل موردا للتقسيم بهذين القسمين لم يكن نصا في التأييد فاذن هذا التأييد لا يستفاد من ظاهر الآية بل من دلالة منفصلة وثالثها أن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ خطاب مشافهة فيخصص بأولئك الحاضرين فاثبات هذا التحريم في حق الكل إنما يستفاد من دليل منفصل ورابعها أن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ إخبار عن ثبوت هذا التحريم في الماضي وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل فلا يعرف ذلك إلا بدليل منفصل وخامسها أن ظاهر قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ يقتضي أنه قد حرم على كل أحد جميع أمهاتهم وجميع بناتهم ومعلوم أنه ليس كذلك بل المقصود أنه تعالى قابل الجمع بالجمع فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد فهذا يقتضي أن الله تعالى قد حرم على كل أحد أمه خاصة وبنته خاصة وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر وسادسها أن قوله حُرُمَاتِ يشعر ظاهره بسبق الحل إذ لو كان أبدا موصوفا بالحرمة لكان قوله حُرُمَاتِ تحريماً لما هو في نفسه حرام فيكون ذلك إيجاد الموجود وهو محال فثبت أن المراد من قوله حُرُمَاتِ ليس تجديد التحريم حتى يلزم الاشكال المذكور بل المراد الاخبار عن حصول التحريم فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان الالهية بل ان زرداشت رسول المجوس قال بحله إلا أن أكثر المسلمين اتفقوا على انه كان كذابا أما نكاح الاخوات فقد نقل أن ذلك كان مباحا في زمن آدم عليه السلام وإنما حكم الله باباحة ذلك على سبيل الضرورة ورأيت بعض المشايخ أنكر ذلك وقال انه تعالى كان يبعث الحواري من الجنة ليزوج بهن أبناء آدم عليه السلام وهذا بعيد لأنه إذا كان زوجات أبنائه وأزواج بناته من أهل الجنة فحينئذ لا يكون هذا النسل من أولاد آدم فقط وذلك بالاجماع باطل وذكر العلماء أن السبب لهذا التحريم أن الوطء إذلال وإهانة فان الانسان يستحي من ذكره ولا يقدم عليه إلا في الموضع الخالي وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره وإذا كان الأمر كذلك وجب صون الأمهات عنه لأن إنعام الأم

على الولد أعظم وجوه الانعام فوجب صونها عن هذا الاذلال والبنت بمنزلة جزء من الانسان وبعض منه قال عليه الصلاة والسلام ( فاطمة بضعة مني ) فيجب صونها عن هذا الاذلال لأن المباشرة معها تجري مجرى الاذلال وكذا القول في البقية والله أعلم ولنشرع الآن في التفاصيل فنقول
النوع الأول من المحرمات الأمهات وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله الأمهات جمع الأم والأم في الأصل أمهة فأسقط الهاء في التوحيد قال الشاعر
أمهتى خندف والياس أبي
وقد تجمع الأم على أمات بغير هاء وأكثر ما يستعمل في الحيوان غير الآدمي قال الراعي
كانت نجائب منذر ومحرق أماتهن وطرقهن فحيلا المسألة الثانية كل امرأة رجع نسبك اليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمك بدرجة أو بدرجات بإناث رجعت إليها أو بذكور فهي أمك ثم ههنا بحث وهو أن لفظ الأم لا شك أنه حقيقة في الأم الأصلية فأما في الجدات فاما ان يكون حقيقة أو مجازا فان كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية وفي الجدات فاما أن يكون لفظا متواطئا أو مشتركا فان كان لفظا متواطئا أعني أن يكون لفظ الأم موضوعا بازاء قدر مشترك بين الأم الأصلية وبين سائر الجدات فعلى هذا التقدير يكون قوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ نصا في تحريم الأم الأصلية وفي تحريم جميع الجدات وأما إن كان لفظ الام مشتركا في الأم الأصلية وفي الجدات فهذا يتفرع على أن اللفظ المشترك بين أمرين هل يجوز استعماله فيهما معا أم لا فمن جوزه حمل اللفظ ههنا على الكل وحينئذ يكون تحريم الجدات منصوصا عليه ومن قال لا يجوز فالقائلون بذلك لهم طريقان في هذا الموضع أحدهما أن لفظ الأم لا شك أنه أريد به ههنا الأم الأصلية فتحريم نكاحها مستفاد من هذا الوجه وأما تحريم نكاح الجدات فغير مستفاد من هذا النص بل من الاجماع والثاني أنه تعالى تكلم بهذه الآية مرتين يريد في كل مرة مفهوما آخر أما إذا قلنا لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية مجاز في الجدات فقد ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد دفعة واحدة في حقيقته ومجازه معا وحينئذ يرجع الطريقان اللذان ذكرناهما فيما إذا كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية وفي الجدات
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله إذا تزوج الرجل بأمه ودخل بها يلزمه الحد وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يلزمه حجة الشافعي أن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة فكان هذا الوطء زنا محضا فيلزمه الحد لقوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ ( النور 2 ) إنما قلنا إن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة لأنه تعالى قال حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وقد علم بالضرورة من دين محمد عليه الصلاة والسلام أن مراد الله تعالى من هذه الآية تحريم نكاحها وإذا ثبت هذا فنقول الموجود ليس إلا صيغة الايجاب والقبول فلو حصل هذا الانعقاد فاما أن يقال إنه حصل في الحقيقة أو في حكم الشرع والأول باطل لأن صيغة الايجاب والقبول كلام وهو عرض لا يبقى والقبول لا يوجد إلا بعد الايجاب وحصول الانعقاد بين الموجود والمعدوم محال والثاني باطل لأن الشرع بين في هذه الآية بطلان هذا

العقد قطعا ومع كون هذا العقد باطلا قطعا في حكم الشرع كيف يمكن القول بأنه منعقد شرعا فثبت أن وجود هذا العقد وعدمه بمثابة واحدة وإذا ثبت ذلك فباقي التفريع والتقرير ما تقدم
النوع الثاني من المحرمات البنات وفيه مسألتان
المسألة الأولى كل أنثى يرجع نسبها اليك بالولادة بدرجة أو بدرجات باناث أو بذكرو فهي بنتك وأما بنت الابن وبنت البنت فهل تسمى بنتا حقيقة أو مجازا فالبحث فيه عين ما ذكرناه في الأمهات
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله البنت المخلوقة من ماء الزنا لا تحرم على الزاني وقال أبو حنيفة تحرم حجة الشافعي أنها ليست بنتاً له فوجب أن لا تحرم إنما قلنا إنها ليست بنتا لوجوه الأول أن أبا حنيفة إما أن يثبت كونها بنتا له بناء على الحقيقة وهي كونها مخلوقة من مائه أو بناء على حكم الشرع بثبوت هذا النسب والأول باطل على مذهبه طردا وعكسا أما الطرد فهو أنه إذا اشترى جارية بكرا وافتضها وحبسها في داره فأتت بولد فهذا الولد معلوم أنه مخلوق من مائه مع أن أبا حنيفة قال لا يثبت نسبها إلا عن الاستلحاق ولو كان السبب هو كون الولد متخلقا من مائه لما توقف في ثبوت هذا النسب بغير الاستلحاق وأما العكس فهو أن المشرقي إذا تزوج بالمغربية وحصل هناك ولد فأبو حنيفة أثبت النسب هنا مع القطع بأنه غير مخلوق من مائه فثبت أن القول بجعل التخليق من مائه سببا للنسب باطل طردا وعكسا على قول أبي حنيفة وأما إذا قلنا النسب إنما يثبت بحكم الشرع فههنا أجمع المسلمون على أنه لا نسب لولد الزنا من الزاني ولو انتسب إلى الزاني لوجب على القاضي منعه من ذلك الانتساب فثبت أن انتسابها اليها غير ممكن لا بناء على الحقيقة ولا بناء على حكم الشرع
الوجه الثاني التمسك بقوله عليه الصلاة والسلام ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) فقوله الولد للفراش يقتضي حصر النسب في الفراش
الوجه الثالث لو كانت بنتاً له لأخذت الميراث لقوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( النساء 11 ) ولثبتت له ولاية الاجبار لقوله عليه السلام ( زوجوا بناتكم الاكفاء ) ولوجب عليه نفقتها وحضانتها ولحلت الخلوة بها فلما لم يثبت شيء من ذلك علمنا انتفاء البنتية وإذا ثبت أنها ليست بنتاً له وجب أن يحل التزوج بها لأن حرمة التزوج بها إما للبنتية أو لأجل أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة وهذا الحصر ثابت بالاجماع والبنتية باطلة كما ذكرنا وحرمة المصاهرة بسبب الزنا أيضا باطلة كما تقدم شرح هذه المسألة فثبت أنها غير محرمة على الزاني والله أعلم
النوع الثالث من المحرمات الأخوات ويدخل فيه الأخوات من الأب والأم معا والأخوات من الأب فقط والأخوات منالأم فقط
النوع الرابع والخامس العمات والخالات قال الواحدي رحمه الله كل ذكر رجع نسبك اليه فأخته عمتك وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أبي أمك وكل أنثى رجع نسبك اليها بالولادة فأختها خالتك وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك
النوع السادس والسابع بنات الأخ وبنات الأخت والقول في بنات الأخ وبنات الأخت كالقول في

بنات الصلب فهذه الأقسام السبعة محرمة في نص الكتاب بالانساب والارحام قال المفسرون كل امرأة حرم الله نكاحها للنسب والرحم فتحريمها مؤبد لا يحل بوجه من الوجوه وأما اللواتي يحل نكاحهن ثم يصرن محرمات بسبب طارىء فهن اللاتي ذكرن في باقي الآية
النوع الثامن والتاسع
قوله تعالى وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُم مّنَ الرَّضَاعَة ِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله المرضعات سماهن أمهات لأجل الحرمة كما أنه تعالى سمى أزواج النبي عليه السلام أمهات المؤمنين في قوله وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( الأحزاب 6 ) لأجل الحرمة
المسألة الثانية أنه تعالى نص في هذه الآية على حرمة الأمهات والأخوات من جهة الرضاعة إلا أن الحرمة غير مقصورة عليهن لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) وإنما عرفنا أن الأمر كذلك بدلالة هذه الآيات وذلك لأنه تعالى لما سمى المرضعة أماً والمرضعة أختا فقد نبه بذلك على أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب وذلك لانه تعالى حرم بسبب النسب سبعا اثنتان منها هما المنتسبتان بطريق الولادة وهما الأمهات والبنات وخمس منها بطريق الأخوة وهو الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت ثم انه تعالى لما شرع بعد ذلك في أحوال الرضاع ذكر من هذين القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي فذكر من قسم قرابة الولادة الأمهات ومن قسم قرابة الاخوة الأخوات ونبه بذكر هذين المثالين من هذين القسمين على أن الحال في باب الرضاع كالحال في النسب ثم انه عليه السلام أكد هذا البيان بصريح قوله ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فصار صريح الحديث مطابقاً لمفهوم الآية وهذا بيان لطيف
المسألة الثالثة أم الأنسان من الرضاع هي التي أرضعته وكذلك كل امرأة انتسبت الى تلك المرضعة بالأمومة إما من جهة النسب أو من جهة الرضاع والحال في الأب كما في الأم واذا عرفت الأم والأب فقد عرفت البنت أيضا بذلك الطريق وأما الأخوات فثلاثة الأولى أختك لأبيك وأمك وهي الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلبن أبيك سواء أرضعتها معك أو مع ولد قبلك أو بعدك والثانية أختك لأبيك دون أمك وهي التي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيك والثالثة أختك لأمك دون أبيك وهي التي أرضعتها أمك بلبن رجل آخر واذا عرفت ذلك سهل عليك معرفة العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمة الله عليه الرضاع يحرم بشرط أن يكون خمس رضعات وقال أبو حنيفة رضي الله عنه الرضعة الواحدة كافية وقد مرت هذه المسألة في سورة البقرة واحتج أبو بكر الرازي بهذه الآية فقال انه تعالى علق هذا الاسم يعني الأمومة والاخوة بفعل الرضاع فحيث حصل هذا الفعل وجب أن يترتب عليه الحكم ثم سأل نفسه فقال ان قوله تعالى وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ

بمنزلة قول القائل وأمهاتكم اللاتي أعطينكم وأمهاتكم اللاتي كسونكم وهذا يقتضي تقدم حصول صفة الأمومة والأختية على فعل الرضاع بل لو أنه تعالى قال اللاتي أرضعنكم هن أمهاتكم لكان مقصودكم حاصلا
وأجاب عنه بأن قال الرضاع هو الذي يكسوها سمة الأمومة فلما كان الاسم مستحقا بوجود الرضاع كان الحكم معلقا به بخلاف قوله وأمهاتكم اللاتي كسونكم لأن اسم الأمومة غير مستفاد من الكسوة قال ويدل على أن ذلك مفهوم من هذه الآية ما روي أنه جاء رجل الى ابن عمر رضي الله عنهما فقال قال ابن الزبير لا بأس بالرضعة ولا بالرضعتين فقال ابن عمر قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير قال الله تعالى وَأَخَواتُكُم مّنَ الرَّضَاعَة ِ قال فعقل ابن عمر من ظاهر اللفظ التحريم بالرضاع القليل
واعلم أن هذا الجواب ركيك جداً أما قوله ان اسم الأمومة إنما جاء من فعل الرضاع فنقول وهل النزاع الا فيه فان عندي أن اسم الأمومة إنما جاء من الرضاع خمس مرات وعندك إنما جاء من أصل الرضاع وأنت إنما تمسكت بهذه الآية لاثبات هذا الأصل فاذا أثبت التمسك بهذه الآية على هذا الأصل كنت قد أثبت الدليل بالمدلول وإنه دور وساقط وأما التمسك بأن ابن عمر فهم من الآية حصول التحريم بمجرد فعل الرضاع فهو معارض بما أن ابن الزبير ما فهمه منه وكان كل واحد منهما من فقهاء الصحابة ومن العلماء بلسان العرب فكيف جعل فهم أحدهما حجة ولم يجعل فهم الآخر حجة على قول خصمه ولولا التعصب الشديد المعمي للقلب لما خفي ضعف هذه الكلمات ثم ان أبا بكر الرازي أخد يتمسك في إثبات مذهبه بالأحاديث والأقيسة ومن تكلم في أحكام القرآن وجب أن لا يذكر إلا ما يتسنبطه من الآية فأما ما سوى ذلك فانما يليق بكتب الفقه
النوع العاشر من المحرمات
قوله تعالى وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى يدخل في هذه الآية الأمهات الأصلية وجميع جداتها من قبل الأب والأم كما بينا مثله في النسب
المسألة الثانية مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين أن من تزوج بامرأة حرمت عليه أمها سواء دخل بها أو لم يدخل وزعم جمع من الصحابة أن أم المرأة إنما تحرم بالدخول بالبنت كما أن الربيبة إنما تحرم بالدخول بأمها وهو قول علي وزيد وابن عمر وابن الزبير وجابر وأظهر الروايات عن ابن عباس وحجتهم أنه تعالى ذكر حكمين وهو قوله وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ ثم ذكر شرطا وهو قوله مّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فوجب أن يكون ذلك الشرط معتبرا في الجملتين معا وحجة القول الأول أن قوله تعالى وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ جملة مستقلة بنفسها ولم يدل الدليل على عود ذلك الشرط اليه فوجب القول ببقائه على عمومه وإنما قلنا إن هذا الشرط غير عائد لوجوه الأول وهو أن

الشرط لا بد من تعليقه بشيء سبق ذكره فاذا علقناه باحدى الجملتين لم يكن بنا حاجة إلى تعليقه بالجملة الثانية فكان تعليقه بالجملة الثانية تركا للظاهر من غير دليل وانه لا يجوز الثاني وهو أن عموم هذه الجملة معلوم وعود الشرط اليه محتمل لأنه يجوز أن يكون الشرط مختصاً بالجملة الأخيرة فقط ويجوز أن يكون عائدا إلى الجملتين معا والقول بعود هذا الشرط إلى الجملتين ترك لظاهر العموم بمخصص مشكوك وانه لا يجوز الثالث وهو أن هذا الشرط لو عاد إلى الجملة الأولى فاما أن يكون مقصورا عليها وإما أن يكون متعلقا بها وبالجملة الثانية أيضاً والأول باطل لأن على هذا التقدير يلزم القول بتحريم الربائب مطلقا وذلك باطل بالاجماع والثاني باطل أيضا لأن على هذا التقدير يصير نظم الآية هكذا وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فيكون المراد بكلمة ( من ) ههنا التمييز ثم يقول وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فيكون المراد بكلمة ( من ) ههنا ابتداء الغاية كما يقول بنات الرسول من خديجة فيلزم استعمال اللفظ الواحد المشترك في كلا مفهوميه وانه غير جائز ويمكن أن يجاب عنه فيقال إن كلمة ( من ) للاتصال كقوله تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( ما أنا من دد ولا الدد مني ) ومعنى مطلق الاتصال حاصل في النساء والربائب معا
الوجه الرابع في الدلالة على ما قلناه ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل واذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فان شاء تزوج البنت وطعن محمد بن جرير الطبري في صحة هذا الحديث وكان عبدالله بن مسعود يفتي بنكاح أم المرأة إذا طلق بنتها قبل المسيس وهو يومئذ بالكوفة فاتفق أن ذهب الى المدينة فصادفهم مجمعين على خلاف فتواه فلما رجع الى الكوفة لم يدخل داره حتى ذهب الى ذلك الرجل وقرع عليه الباب وأمره بالنزول عن تلك المرأة وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال الرجل إذا طلق امرأته قبل الدخول وأراد أن يتزوج أمها فان طلقها قبل الدخول تزوج أمها وإن ماتت لم يتزوج أمها واعلم أنه إنما فرق بين الموت والطلاق في التحريم لأن الطلاق قبل الدخول لا يتعلق به شيء من أحكام الدخول ألا ترى أنه لا يجب عليها عدة وأما الموت فلما كان في حكم الدخول في باب وجوب العدة لا جرم جعله الله سببا لهذا التحريم
النوع الحادي عشر من المحرمات
قوله تعالى وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ مّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
وفيه مسائل
المسألة الأولى الربائب جمع ربيبة وهي بنت امرأة الرجل من غيره ومعناها مربوبة لأن الرجل

هو يربها يقال ربيت فلانا أربه وربيته أربيه بمعنى واحد والحجور جمع حجر وفيه لغتان قال ابن السكيت حجر الانسان وحجره بالفتح والكسر والمراد بقوله فِى حُجُورِكُمْ أي في تربيتكم يقال فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته والسبب في هذه الاستعارة أن كل من ربى طفلا أجلسه في حجره فصار الحجر عبارة عن التربية كما يقال فلان في حضانة فلان وأصله من الحضن الذي هو الابط وقال أبو عبيدة في حجوركم أي في بيوتكم
المسألة الثانية روى مالك بن أوس بن الحدثان عن علي رضي الله عنه أنه قال الربيبة إذا لم تكن في حجر الزوج وكانت في بلد آخر ثم فارق الأم بعد الدخول فانه يجوز له أن يتزوج الربيبة ونقل أنه رضوان الله عليه احتج على ذلك بأنه تعالى قال وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ شرط في كونها ربيبة له كونها في حجره فاذا لم تكن في تربيته ولا في حجره فقد فات الشرط فوجب أن لا تثبت الحرمة وهذا استدلال حسن وأما سائر العلماء فانهم قالوا إذا دخل بالمرأة حرمت عليه ابنتها سواء كانت في تربيته أو لم تكن والدليل عليه قوله تعالى فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ علق رفع الجناح بمجرد عدم الدخول وهذا يقتضي أن المقتضى لحصول الجناح هو مجرد الدخول وأما الجواب عن حجة القول الأول فهو أن الأعم الأغلب أن بنت زوجة الانسان تكون في تربيته فهذا الكلام على الأعم لا أن هذا القيد شرط في حصول هذا التحريم
المسألة الثالثة تمسك أبو بكر الرازي في إثبات أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة بقوله تعالى وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ مّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ قال لأن الدخول بها اسم لمطلق الوطء سواء كان الوطء نكاحا أو سفاحا فدل هذا على أن الزنا بالأم يوجب تحريم البنت وهذا الاستدلال في نهاية الضعف وذلك لأن هذه الآية مختصة بالمنكوحة لدليلين الأول أن هذه الآية إنما تناولت امرأة كانت من نسائه قبل دخوله بها والمزني بها ليست كذلك فيمتنع دخولها في الآية بيان الأول من وجهين الأول أن قوله مّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يقتضي أن كونها من نسائه يكون متقدما على دخوله بها والثاني أنه تعالى قسم نساءهم إلى من تكون مدخولا بها وإلى من لا تكون كذلك بدليل قوله فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وإذا كان نساؤهم منقسمة إلى هذين القسمين علمنا أن كون المرأة من نسائه أمر مغاير للدخول بها وأما بيان أن المزنية ليست كذلك فذلك لأن في النكاح صارت المرأة بحكم العقد من نسائه سواء دخل بها أو لم يدخل بها أما في الزنا فانه لم يحصل قبل الدخول بها حالة أخرى تقتضي صيرورتها من نسائه فثبت بهذا أن المزنية غير داخلة في هذه الآية الثاني لو أوصى لنساء فلان لا تدخل هذه الزانية فيهن وكذلك لو حلف على نساء بني فلان لا يحصل الحنث والبر بهذه الزانية فثبت ضعف هذا الاستدلال والله أعلم
النوع الثاني عشر من المحرمات
قوله تعالى وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وفيه مسائل

المسألة الأولى قال الشافعي رحمه الله لا يجوز للأب أن يتزوج بجارية ابنه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه إنه يجوز احتج الشافعي فقال جارية الابن حليلة وحليلة الابن محرمة على الأب أما المقدمة الأولى فبيانها بالبحث عن الحليلة فنقول الحليلة فعيلة فتكون بمعنى الفاعل أو بمعنى المفعول ففيه وجهان أحدهما أن يكون مأخوذا من الحل الذي هو الاباحة فالحليلة تكون بمعنى المحلة أي المحللة ولا شك أن الجارية كذلك فوجب كونها حليلة له الثاني أن يكون ذلك مأخوذا من الحلول فالحليلة عبارة عن شيء يكون محل الحلول ولا شك أن الجارية موضع حلول السيد فكانت حليلة له أما إذا قلنا الحليلة بمعنى الفاعل ففيه وجهان أيضاً الأول أنها لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر كأنهما يحلان في ثوب واحد وفي لحاف واحد وفي منزل واحد ولا شك أن الجارية كذلك الثاني ان كل واحد منهما كأنه حال في قلب صاحبه وفي روحه لشدة ما بينهما من المحبة والالفة فثبت بمجموع ما ذكرناه أن جارية الابن حليلة وأما المقدمة الثانية وهي أن حليلة الابن محرمة على الأب لقوله تعالى وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ لا يقال إن أهل اللغة يقولون حليلة الرجل زوجته لأنا نقول إنا قد بينا بهذه الوجوه الأربعة من الاشتقاقات الظاهرة أن لفظ الحليلة يتناول الجارية فالنقل الذي ذكرتموه لا يلتفت اليه فكيف وهو شهادة على النفي فانا لا ننكر أن لفظ الحليلة يتناول الزوجة ولكنا نفسره بمعنى يتناول الزوجة والجارية فقول من يقول إنه ليس كذلك شهادة على النفي ولا يلتفت إليه
المسألة الثانية قوله الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ احترازاً عن المتبني وكان المتبني في صدر الإسلام بمنزلة الابن ولا يحرم على الانسان حليلة من ادعاه ابنا إذا لم يكن من صلبه نكح الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) زينب بنت جحش الأسدية وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب وكانت زينب ابنة عمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن كانت زوجة زيد بن حارثة فقال المشركون إنه تزوج امرأة ابنه فأنزل الله تعالى وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ( الأحزاب 4 ) وقال لِكَى ْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ( الأحزاب 37 )
المسألة الثالثة ظاهر قوله وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ لا يتناول حلائل الأبناء من الرضاعة فلما قال في آخر الآية وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ لزم من ظاهر الآيتين حل التزوج بأزواج الأبناء من الرضاع إلا أنه عليه السلام قال ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فاقتضى هذا تحريم التزوج بحليلة الابن من الرضاع لأن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ يتناول الرضاع وغير الرضاع فكان قوله ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) أخص منه فخصصوا عموم القرآن بخبر الواحد والله أعلم
المسألة الرابعة اتفقوا على أن حرمة التزوج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد كما أن حرمة التزوج بحليلة الأب تحصل بنفس العقد وذلك لأن عموم الآية يتناول حليلة الابن سواء كانت مدخولا بها أو لم تكن أما ما روي ان ابن عباس سئل عن قوله وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ أنه تعالى لم يبين أن هذا الحكم مخصوص بما إذا دخل الابن بها أو غير مخصوص بذلك فقال ابن عباس أبهموا ما أبهمه الله فليس مراده من هذا الابهام كونها مجملة مشتبهة بل المراد من هذا الابهام التأييد ألا ترى أنه قال في السبعة المحرمة من جهة النسب انها من المبهمات أي من اللواتي تثبت حرمتهن على سبيل التأبيد

فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الخامسة اتفقوا على أن هذه الآية تقتضي تحريم حليلة ولد الولد على الجد وهذا يدل على أن ولد الولد يطلق عليه أنه من صلب الجد وفيه دلالة على أن ولد الولد منسوب إلى الجد بالولادة
النوع الثالث عشر من المحرمات
قوله تعالى وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ في محل الرفع لأن التقدير حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم والجمع بين الأختين
المسألة الثانية الجمع بين الأختين يقع على ثلاثة أوجه إما أن ينكحهما معا أو يملكهما معاً أو ينكح إحداهما ويمكل الاخرى أما الجمع بين الأختين في النكاح فذلك يقع على وجهين أحدهما أن يعقد عليهما جميعا فالحكم ههنا إما الجمع أو التعيين أو التخيير أو الابطال أما الجمع فباطل بحكم هذه الآية هكذا قالوا إلا أنه مشكل على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه لأن الحرمة لا تقتضي الابطال على قول أبي حنيفة ألا ترى أن الجمع بين الطلقات حرام على قوله ثم انه يقع وكذا النهي عن بيع الدرهم بالدرهمين لم يمنع من انعقاد هذا العقد وكذا القول في جميع المبايعات الفاسدة فثبت أن الاستدلال بالنهي على الفساد لا يستقيم على قوله
فان قالوا وهذا يلزمكم أيضا لأن الطلاق في زمان الحيض وفي طهر جامعها فيه منهي عنه ثم انه يقع
قلنا بين الصورتين فرق دقيق لطيف ذكرناه في الخلافيات فمن أراده فليطلب ذلك الكتاب فثبت أن الجمع باطل وأما أن التعيين أيضا باطل فلأن الترجيح من غير مرجح باطل وأما أن التخيير أيضا باطل فلأن القول بالتخيير يقتضي حصول العقد وبقاءه إلى أوان التعيين وقد بينا بطلانه فلم يبق إلا القول بفساد العقدين جميعا
الصورة الثانية من صور الجمع وهي أن يتزوج إحداهما ثم يتزوج الأخرى بعدها فههنا يحكم ببطلان نكاح الثانية لأن الدفع أسهل من الرفع وأما الجمع بين الأختين بملك اليمين أو بأن ينكح إحداهما ويشتري الأخرى فقد اختلفت الصحابة فيه فقال علي وعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر لا يجوز الجمع بينهما والباقون جوزوا ذلك أما الأولون فقد احتجوا على قولهم بأن ظاهر الآية يقتضي تحريم الجمع بين الأختين مطلقا فوجب أن يحرم الجمع بينهما على جميع الوجوه وعن عثمان أنه قال أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحليل أولى فالآية الموجبة للتحليل هي قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ ( النساء 24 ) وقوله إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المؤمنون 6 )
والجواب عنه من وجهين الأول أن هذه الآيات دالة على تحريم الجمع أيضا لأن المسلمين

أجمعوا على أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في حل الوطء فنقول لو جاز الجمع بينهما في الملك لجاز الجمع بينهما في الوطء لقوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المعارج 29 30 المؤمنون 5 6 ) لكنه لا يجوز الجمع بينهما في الملك فثبت أن هذه الآية بأن تكون دالة على تحريم الجمع بينهما في الملك أولى من أن تكون دالة على الجواز
الوجه الثاني إن سلمنا دلالتها على جواز الجمع لكن نقول الترجيح لجانب الحرمة ويدل عليه وجوه الأول قوله عليه الصلاة والسلام ( ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال ) الثاني أنه لا شك أن الاحتياط في جانب الترك فيجب لقوله عليه الصلاة والسلام ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) الثالث أن مبنى الابضاع في الأصل على الحرمة بدليل أنه إذا استوت الامارات في حصول العقد مع شرائطه وفي عدمه وجب القول بالحرمة ولأن النكاح مشتمل على المنافع العظيمة فلو كان خاليا عن جهة الاذلال والضرر لوجب أن يكون مشروعا في حق الأمهات لأن إيصال النفع اليهن مندوب لقوله تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( البقرة 83 ) ولما كان ذلك محرما علمنا اشتماله على وجه الاذلال والمضارة وإذا كان كذلك كان الأصل فيه هو الحرمة والحل إنما ثبت بالعارض وإذا ثبت هذا ظهر أن الرجحان لجانب الحرمة فهذا هو تقرير مذهب علي رضي الله عنه في هذا الباب أما إذا أخذنا بالمذهب المشهور بين الفقهاء وهو أنه يجوز الجمع بين أمتين أختين في ملك اليمين فاذا وطىء إحداهما حرمت الثانية ولا تزول هذه الحرمة ما لم يزل ملكه عن الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة أو تزويج
المسألة الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه نكاح الأخت في عدة الأخت البائن جائز وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه لا يجوز حجة الشافعي أنه لم يوجد الجمع فوجب أن لا يحصل المنع إنما قلنا إنه لم يوجد الجمع لأن نكاح المطلقة زائل بدليل أنه لا يجوز له وطؤها ولو وطئها يلزمه الحد وإنما قلنا انه لما لم يوجد الجمع وجب أن لا يحصل المنع لقوله تعالى بعد تقرير المحرمات وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ( النساء 24 ) ولا شبهة في انتفاء جميع تلك الموانع إلا كونه جمعا بين أختين فاذا ثبت بالدليل أن الجمع منتف وجب القول بالجواز
فان قيل النكاح باق من عبض الوجوه بدليل وجوب العدة ولزوم النفقة عليها
قلنا النكاح له حقيقة واحدة والحقيقة الواحدة يمتنع كونها موجودة معدومة معا بل لو انقسمت هذه الحقيقة الى نصفين حتى يكون أحدهما موجودا والآخر معدوما صح ذلك أما إذا كانت الحقيقة الواحدة غير قابلة للتنصيف كان هذا القول فاسدا وأما وجوب العدة ولزوم النفقة فاعلم أنه ان حصل النكاح حصلت القدرة على حبسها وهذا لا ينتج أنه حصلت القدرة على حبسها للنكاح لأن استثناء عين التالي لا ينتج فبالجملة فاثبات حق الحبس بعد زوال النكاح بطريق آخر معقول في الجملة فاما القول ببقاء النكاح حال القول بعدمه فذلك مما لا يقبله العقل وتخريج أحكام الشرع على وفق العقول أولى من حملها على ما يعرف بطلانها في بداهة العقول والله أعلم
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمة الله عليه إذا أسلم الكافر وتحته أختان اختار أيتهما شاء وفارق الأخرى وقال أبو حنيفة رضي الله عنه ان كان قد تزوج بهما دفعة واحدة فرق بينه وبينهما وان كان قد

تزوج باحداهما أولا وبالأخرى ثانيا اختار الأولى وفارق الثانية واحتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بقوله وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ قال هذا خطاب عام فيتناول المؤمن والكافر وإذا ثبت أنه تناول الكافر وجب أن يكون النكاح فاسدا لأن النهي يدل على الفساد فيقال له انك بنيت هذا الاستدلال على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع وعلى أن النهي يدل على الفساد وأبو حنيفة لا يقول بواحد من هذين الأصلين فان قال فهما صحيحان على قولكم فكان هذا الاستدلال لازما عليكم فنقول قولنا الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لا نعني به في أحكام الدنيا فانه ما دام كافرا لا يمكن تكليفه بفروع الإسلام وإذا أسلم سقط عنه كل ما مضى بالاجماع بل المراد منه أحكام الآخرة وهو أن الكافر يعاقب بترك فروع الإسلام كما يعاقب على ترك الإسلام إذا عرفت هذا فنقول أجمعنا على أنه لو تزوج الكافر بغير ولي ولا شهود أو تزوج بها على سبيل القهر فبعد الإسلام يقر ذلك النكاح في حقه فثبت أن الخطاب بفروع الشرائع لا يظهر أثره في الأحكام الدنيوية في حق الكافر وحجة الشافعي أن فيروز الديلمي أسلم على ثمان نسوة فقال عليه الصلاة والسلام ( اختر أربعا وفارق سائرهن ) خيره بينهن وذلك ينافي ما ذكرتم من الترتيب والله أعلم
المسألة الخامسة قوله تعالى إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ فيه الاشكال المشهور وهو أن تقدير الآية حرمت عليكم أمهاتكم وكذا وكذا الا ما قد سلف وهذا يقتضي استنثاء الماضي من المستقبل وإنه لا يجوز وجوابه بالوجوه المذكورة في قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ مَا سَلَفَ والمعنى أن ما مضى بدليل قوله إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
النوع الرابع عشر من المحرمات
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَة ً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَة ِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
قوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ
فيه مسائل
المسألة الأولى الاحصان في اللغة المنع وكذلك الحصانة يقال مدينة حصينة ودرع حصينة أي مانعة صاحبها من الجراحة قال تعالى وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة َ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ ( الأنبياء 80 ) معناه لتمنعكم وتحرزكم والحصن الموضع الحصين لمنعه من يريده بالسوء والحصان بالكسر الفرس الفحل لمنعه صاحبه من الهلاك والحصان بالفتح المرأة العفيفة لمنعها فرجها من الفساد قال تعالى وَمَرْيَمَ ابْنَة َ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ( التحريم 12 )
واعلم أن لفظ الاحصان جاء في القرآن على وجوه أحدها الحرية كما في قوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ( النور 4 ) يعني الحرائر ألا ترى أنه لو قذف غير حر لم يجلد ثمانين وكذلك قوله فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ النساء 25 يعني الحرائر وكذلك قوله مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ( النساء 25 ) وقوله مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وقوله وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ( الأنبياء 91 )

أي أعفته وثالثها الإسلام من ذلك قوله فَإِذَا أُحْصِنَّ قيل في تفسيره إذا أسلمن ورابعها كون المرأة ذات زوج يقال امرأة محصنة إذا كانت ذات زوج وقوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ يعني ذوات الأزواج والدليل على أن المراد ذلك أنه تعالى عطف المحصنات على المحرمات فلا بد وأن يكون الاحصان سببا للحرمة ومعلوم أن الحرية والعفاف والاسلام لا تأثير له في ذلك فوجب أن يكون المراد منه المزوجة لأن كون المرأة ذات زوج له تأثير في كونها محرمة على الغير
واعلم أن الوجوه الأربعة مشتركة في المعنى الأصلي اللغوي وهو المنع وذلك لأنا ذكرنا أن الاحصان عبارة عن المنع فالحرية سبب لتحصين الانسان من نفاذ حكم الغير فيه والعفة أيضا مانعة للانسان عن الشروع فيما لا ينبغي وكذلك الإسلام مانع من كثير مما تدعو إليه النفس والشهوة والزوج أيضا مانع للزوجة من كثير من الأمور والزوجة مانعة للزوج من الوقوع في الزنا ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( من تزوج فقد حصن ثلثي دينه ) فثبت أن المرجع بكل هذه الوجوه إلى ذلك المعنى اللغوي والله أعلم
المسألة الثانية قال الواحدي اختلف القراء في الْمُحْصَنَاتِ فقرؤا بكسر الصاد وفتحها في جميع القرآن إلا التي في هذه الآية فانهم أجمعوا على الفتح فيها فمن قرأ بالكسر جعل الفعل لهن يعني أسلمن واخترن العفاف وتزوجن وأحسن أنفسهن بسبب هذه الأمور ومن قرأ بالفتح جعل الفعل لغيرهن يعني أحصنهن أزواجهن والله أعلم
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمة الله عليه الثيب الذمي إذا زنى يرجم وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يرجم حجة الشافعي أنه حصل الزنا مع الاحصان وذلك علة لاباحة الدم فوجب أن يثبت إباحة الدم وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون ذلك بطريق الرجم أما قولنا حصل الزنا مع الاحصان فهذا يعتمد اثبات قيدين أحدهما حصول الزنا ولا شك فيه الثاني حصول الاحصان وهو حاصل لأن قوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء يدل على أن المراد من المحصنة المزوجة وهذه المرأة مزوجة فهي محصنة فثبت أنه حصل الزنا مع الاحصان وإنما قلنا ان الزنا مع الاحصان علة لاباحة الدم لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يحل دم امرىء مسلم الا لاحدى معان ثلاثة ) ومنها قوله ( وزنا بعد إحصان ) جعل الزنا بعد الاحصان علة لاباحة الدم في حق المسلم والمسلم محل لهذا الحكم أما العلة فهي مجرد الزنا بعد الاحصان بدليل أن لام التعليل إنما دخل عليه أقصى ما في الباب أنه حكم في حق المسلم أن الزنا بعد الاحصان علة لاباحة الدم إلا أن كونه مسلما محل الحكم وخصوص محل الحكم لا يمنع من التعدية إلى غير ذلك المحل والا لبطل القياس بالكلية وأما العلة فهي ما دخل عليه لام التعليل وهي ماهية الزنا بعد الاحصان وهذه الماهية لما حصلت في حق الثيب الذمي وجب أن يحصل في حقه اباحة الدم فثبت أنه مباح الدم ثم ههنا طريقان ان شئنا اكتفينا بهذا القدر فانا ندعي كونه مباح الدم والخصم لا يقول به

فصار محجوجا أو نقول لما ثبت أنه مباح الدم وجب أن يكون ذلك بطريق الرجم لأنه لا قائل بالفرق
فان قيل ما ذكرتم إن دل على أن الذمي محصن فههنا ما يدل على أنه غير محصن وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( من أشرك بالله فليس بمحصن )
قلنا ثبت بالدليل الذي ذكرناه ان الذمي محصن وثبت بهذا الخبر الذي ذكرتم أنه ليس بمحصن فنقول إنه محصن بمعنى أنه ذات زوج وغير محصن بمعنى أنه لا يحد قاذفة وقوله من أشرك بالله فليس بمحصن يجب حمله على أنه لا يحد قاذفه لا على أنه لا يحد على الزنا لأنه وصفه بوصف الشرك وذلك جناية والمذكور عقيب الجناية لا بد وأن يكون أمرا يصلح أن يكون عقوبة وقولنا انه لا يحد قاذفه يصلح أن يكون عقوبة أما قولنا لا يحد على الزنا لا يصلح أن يكون عقوبة له فكان المراد من قوله من أشرك بالله فليس بمحصن ما ذكرناه والله أعلم
المسألة الرابعة في قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء قولان أحدهما المراد منها ذوات الأزواج وعلى هذا التقدير ففي قوله إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ وجهان الأول أن المرأة إذا كانت ذات زوج حرمت على غير زوجها إلا إذا صارت ملكا لانسان فانها تحل للمالك الثاني أن المراد بملك اليمين ههنا ملك النكاح والمعنى أن ذوات الأزواج حرام عليكم إلا إذا ملكتموهن بنكاح جديد بعد وقوع البنيوية بينهن وبين أزواجهن والمقصود من هذا الكلام الزجر عن الزنا والمنع من وطئهن إلا بنكاح جديد أو بملك يمين إن كانت المرأة مملوكة وعبر عن ذلك بملك اليمين لأن ملك اليمين حاصل في النكاح وفي الملك
القول الثاني أن المراد ههنا بالمحصنات الحرائر والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( النساء 25 ) ذكر ههنا المحصنات ثم قال بعده وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ كان المراد بالمحصنات ههنا ما هو المراد هناك ثم المراد من المحصنات هناك الحرائر فكذا ههنا وعلى هذا التقدير ففي قوله إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ وجهان الأول المراد منه إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع فصار التقدير حرمت عليكم الحرائر إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع الثاني الحرائر محرمات عليكم إلا ما أثبت الله لكم ملكا عليهن وذلك عند حضور الولي والشهود وسائر الشرائط المعتبرة في الشريعة فهذا الأول في تفسير قوله إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ هو المختار ويدل عليه قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المعارج 29 30 المؤمنون 5 6 ) جعل ملك اليمين عبارة عن ثبوت الملك فيها فوجب أن يكون ههنا مفسرا بذلك لأن تفسير كلام الله تعالى بكلام الله أقرب الطرق الى الصدق والصواب والله أعلم
المسألة الخامسة اتفقوا على أنه إذا سبى أحد الزوجين قبل الأخر وأخرج إلى دار الإسلام وقعت الفرقة أما إذا سبيا معا فقال الشافعي رضي الله عنه ههنا تزول الزوجية ويحل للمالك أن يستبرئها بوضع الحمل إن كانت حاملا من زوجها أو بالحيض وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه لا تزول حجة الشافعي رضي الله عنه أن قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء يقتضي تحريم ذات الأزواج ثم قوله إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ يقتضي أن عند طريان الملك ترفع الحرمة ويحصل الحل قال أبو بكر الرازي لو حصلت الفرقة

بمجرد طريان الملك لوجب أن تقع الفرقة بشراء الأمة واتهابها وإرثها ومعلوم أنه ليس كذلك فيقال له كأنك ما سمعت أن العام بعد التخصيص حجة في الباقي وأيضا فالحاصل عند السبي إحداث الملك فيها وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص فكان الأول أقوى فظهر الفرق
المسألة السادسة مذهب علي وعمر وعبد الرحمن بن عوف أن الأمة المنكوحة إذا بيعت لا يقع عليها الطلاق وعليه إجماع الفقهاء اليوم وقال أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وجابر وأنس إنها إذا بيعت طلقت حجة الجمهور أن عائشة لما اشترت بريرة وأعتقتها خيرها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكانت مزوجة ولو وقع الطلاق بالبيع لما كان لذلك التخيير فائدة ومنهم من روى في قصة بريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال ( بيع الأمة طلاقها ) وحجة أبي كعب وابن مسعود عموم الاستثناء في قوله إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ وحاصل الجواب عنه يرجع إلى تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد والله أعلم ثم إنه تعالى ختم ذكر المحرمات بقوله كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وفيه وجهان الأول أنه مصدر مؤكد من غير لفظ الفعل فان قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ يدل على معنى الكتبة فالتقدير كتب عليكم تحريم ما تقدم ذكره من المحرمات كتابا من الله ومجيء المصدر من غير لفظ الفعل كثير نظيره وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَة ً وَهِى َ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ ( النمل 88 ) الثاني قال الزجاج ويجوز أن يكون منصوبا على جهة الأمر ويكون ( عليكم ) مفسرا له فيكون المعنى الزموا كتاب الله
ثم قال وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وَأُحِلَّ لَكُمْ على ما لم يسم فاعله عطفا على قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ والباقون بفتح الألف والحاء عطفا على كِتَابِ اللَّهِ يعني كتب الله عليكم تحريم هذه الأشياء وأحل لكم ما وراءها
المسألة الثانية اعلم أن ظاهر قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ يقتضي حل كل من سوى الأصناف المذكورة إلا أنه دل الدليل على تحريم أصناف أخر سوى هؤلاء المذكورين ونحن نذكرها
الصنف الأول لا يجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ( وهذا خبر مشهور مستفيض وربما قيل إنه بلغ مبلغ التواتر وزعم الخوارج أن هذا خبر واحد وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز واحتجوا عليه بوجوه الأول أن عموم الكتاب مقطوع المتن ظاهر الدلالة وخبر الواحد مظنون المتن ظاهر الدلالة فكان خبر الواحد أضعف من عموم القرآن فترجيحه عليه بمقتضى تقديم الأضعف على الأقوى وإنه لا يجوز الثاني من جملة الأحاديث المشهورة خبر معاذ وإنه يمنع من تقديم خبر الواحد على عموم القرآن من وجهين لأنه قال بم تحكم قال بكتاب الله قال فان لم تجد قال بسنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقدم التمسك بكتاب الله على التمسك بالسنة وهذا يمنع من تقديم السنة على الكتاب وأيضا فانه قال فان لم تجد قال بسنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علق جواز التمسك بالسنة على عدم الكتاب بكلمة ( إن ) وهي للاشتراط والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط الثالث أن من الأحاديث المشهورة قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافقه فاقبلوه وإلا فردوه ) فهذا الخبر يقتضي أن لا يقبل خبر الواحد إلا عند موافقة الكتاب فاذا كان خبر العمة

والخالة مخالفا لظاهر الكتاب وجب رده الرابع أن قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ مع قوله عليه السلام لا تنكح المرأة على عمتها لا يخلو الحال فيهما من ثلاثة أوجه إما أن يقال الآية نزلت بعد الخبر فحينئذ تكون الآية ناسخة للخبر لأنه ثبت أن العام إذا ورد بعد الخاص كان العام ناسخا للخاص وإما أن يقال الخبر ورد بعد الكتاب فهذا يقتضي نسخ القرآن بخر الواحد وإنه لا يجوز وإما أن يقال وردا معا وهذا أيضا باطل لأن على هذا التقدير تكون الآية وحدها مشتبهة ويكون موضع الحجة مجموع الآية مع الخبر ولا يجوز للرسول المعصوم أن يسعى في تشهير الشبهة ولا يسعى في تشهير الحجة فكان يجب على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن لا يسمع أحدا هذه الآية إلا مع هذا الخبر وأن يوجب إيجابا ظاهرا على جميع الأمة أن لا يبلغوا هذه الآية أحد إلا مع هذا الخبر ولو كان كذلك لزم أن يكون اشتهار هذا الخبر مساويا لاشتهار هذه الآية ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القسم
الوجه الخامس أن بتقدير أن تثبت صحة هذا الخبر قطعا إلا أن التمسك بالآية راجح على التمسك بالخبر وبيانه من وجهين الأول أن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ نص صريح في التحليل كما أن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ نص صريح في التحريم وأما قوله ( لا تنكح المرأة على عمتها ) فليس نصا صريحا لأن ظاهره إخبار وحمل الاخبار على النهي مجاز ثم بهذا التقدير فدلالة لفظ النهي على التحريم أضعف من دلالة لفظ الاحلال على معنى الاباحة الثاني أن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ صريح في تحليل كل ما سوى المذكورات وقوله لا تَنْكِحَ ليس صريحا في العموم بل احتماله للمعهود السابق أظهر
الوجه السادس أنه تعالى استقصى في هذه الآية شرح أصناف المحرمات فعد منها خمسة عشر صنفا ثم بعد هذا التفصيل التام والاستقصاء الشديد قال كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ فلو لم يثبت الحل في كل من سوى هذه الأصناف المذكورة لصار هذا الاستقصاء عبثا لغوا وذلك لا يليق بكلام أحكم الحاكمين فهذا تقرير وجوه السؤال في هذا الباب
والجواب على وجوه الأول ما ذكره الحسن وأبو بكر الأصم وهو أن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ لا يقتضى إثبات الحل على سبيل التأييد وهذا الوجه عندي هو الأصح في هذا الباب والدليل عليه أن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ إخبار عن إحلال كل ما سوى المذكورات وليس فيه بيان أن إحلال كل ما سوى المذكورات وقع على التأييد أم لا والدليل على أنه لا يفيد التأييد أنه يصح تقسيم هذا المفهوم إلى المؤبد وإلى غير المؤبد فيقال تارة وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أبداً وأخرى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ إلى الوقت الفلاني ولو كان قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ صريحا في التأييد لما كان هذا التقسيم ممكنا ولأن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ لا يفيد إلا إحلال من سوى المذكورات وصريح العقل يشهد بأن الاحلال أعم من الاحلال المؤبد ومن الاحلال المؤقت إذا ثبت هذا فنقول قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ لا يفيد إلا حل من عدا المذكورات في ذلك الوقت فأما ثبوت حلهم في سائر الأوقات فاللفظ ساكت عنه بالنفي والاثبات وقد كان حل من سوى المذكورات ثابتا في ذلك الوقت وطريان حرمة بعضهم بعد ذلك لا يكون تخصيصا لذلك النص ولا نسخا له فهذا وجه حسن معقول مقرر وبهذا الطريق

نقول أيضا إن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ( النساء 23 ) ليس نصا في تأبيد هذا التحريم وإن ذلك التأبيد إنما عرفناه بالتواتر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا من هذا اللفظ فهذا هو الجواب المعتمد في هذا الموضع
الوجه الثاني انا لا نسلم أن حرمة الجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها غير مذكورة في الآية وبيانه من وجهين الأول أنه تعالى حرم الجمع بين الأختين وكونهما أختين يناسب هذه الحرمة لأن الأختية قرابة قريبة والقرابة القريبة تناسب مزيد الوصلة والشفقة والكرامة وكون إحداهما ضرة الأخرى يوجب الوحشة العظيمة والنفرة الشديدة وبين الحالتين منافرة عظيمة فثبت أن كونها أختاً لها يناسب حرمة الجمع بينهما في النكاح وقد ثبت في أصول الفقه ان ذكر الحكم مع الوصف المناسب له يدل بحسب اللفظ على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فثبت أن قوله وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ ( النساء 23 ) يدل على كون القرابة القريبة مانعة من الجمع في النكاح وهذا المعنى حاصل بين المرأة وعمتها أو خالتها فكان الحكم المذكور في الأختين مذكورا في العمة والخالة من طريق الدلالة بل ههنا أولى وذلك لأن العمة والخالة يشبهان الأم لبنت الأخ ولبنت الأخت وهما يشبهان الولد للعمة والخالة واقتضاء مثل هذه القرابة لترك المضارة أقوى من اقتضاء قرابة الأختية لمنع المضارة فكان قوله وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ مانعا من العمة والخالة بطريق الأولى الثاني أنه نص على حرمة التزوج بأمهات النساء فقال وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ( النساء 23 ) ولفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة أما على العمة فلأنه تعالى قال مخبرا عن أولاد يعقوب عليه السلام نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ( البقرة 133 ) فأطلق لفظ الأب على اسمعيل مع أنه كان عما وإذا كان العم أباً لزم أن تكون العمة أماً وأما إطلاق لفظ الأم على الخالة فيدل عليه قوله تعالى وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ( يوسف 100 ) والمراد أبوه وخالته فان أمه كانت متوفاة في ذلك الوقت فثبت بما ذكرنا أن لفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة فكان قوله وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ متناولا للعمة والخالة من بعض الوجوه
وإذا عرفت هذا فنقول قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ المراد ما وراء هؤلاء المذكورات سواء كن مذكورات بالقول الصريح أو بدلالة جلية أو بدلالة خفية وإذا كان كذلك لم تكن العمة والخالة خارجة عن المذكورات
الوجه الثالث في الجواب عن شبهة الخوارج أن نقول قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ عام وقوله ( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ) خاص والخاص مقدم على العام ثم ههنا طريقان تارة نقول هذا الخبر بلغ في الشهرة مبلغ التواتر وتخصيص عموم القرآن بخبر المتواتر جائز وعندي هذا الوجه كالمكابرة لأن هذا الخبر وإن كان في غاية الشهرة في زماننا هذا لكنه لما انتهى في الأصل إلى رواية الآحاد لم يخرج عن أن يكون من باب الآحاد وتارة نقول تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد جائز وتقريره مذكور في الأصول فهذا جملة الكلام في هذا الباب والمعتمد في الجواب عندنا الوجه الأول
الصنف الثالث من التخصيصات الداخلة في هذا العموم أن المطلقة ثلاثا لا تحل إلا أن هذا التخصيص ثبت بقوله تعالى فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( البقرة 230 )
الصنف الرابع تحريم نكاح المعتدة ودليله قوله تعالى وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة َ قُرُوء

( البقرة 228 )
الصنف الخامس من كان في نكاحه حرة لم يجز له أن يتزوج بالأمة وهذا بالاتفاق وعند الشافعي القادر على طول الحرة لا يجوز له نكاح الأمة ودليل هذا التخصيص قوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ( النساء 25 ) وسيأتي بيان دلالة هذه الآية على هذا المطلوب
الصنف السادس يحرم عليه التزوج بالخامسة ودليله قوله تعالى مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ
الصنف السابع الملاعنة ودليله قوله عليه الصلاة والسلام ( المتلاعنان لا يجتمعان أبداً )
قوله تعالى أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَن تَبْتَغُواْ في محله قولان الأول أنه رفع على البدل من ( ما ) والتقدير وأحل لكم ما وراء ذلكم وأحل لكم أن تبتغوا على قراءة من قرأ ( وأحل ) بضم الألف ومن قرأ بالفتح كان محل ( أن تبتغوا ) نصبا الثاني أن يكون محله على القراءتين النصب بنزع الخافض كأنه قيل لأن تبتغوا والمعنى وأحل لكم ما وراء ذلكم لارادة أن تبتغوا بأموالكم وقوله مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ أي في حال كونكم محصنين غير مسافحين وقوله مُّحْصِنِينَ أي متعففين عن الزنا وقوله غَيْرَ مُسَافِحِينَ أي غير زانين وهو تكرير للتأكيد قال الليث السفاح والمسافحة الفجور وأصله في اللغة من السفح وهو الصب يقال دموع سوافح ومسفوحة قال تعالى أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا ( الانعام 145 ) وفلان سفاح للدماء أي سفاك وسمي الزاني سفاحا لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة
فان قيل أين مفعول تبتغوا
قلنا التقدير وأحل لكم ما وراء ذلكم لارادة أن تبتغوهن أي تبتغوا ما وراء ذلكم فحذف ذكره لدلالة ما قبله عليه والله أعلم
المسألة الثانية قال أبو حنيفة رضي الله عنه لا مهر أقل من عشرة دراهم وقال الشافعي رضي الله عنه يجوز بالقليل والكثير ولا تقدير فيه احتج أبو حنيفة بهذه الآية وذلك لأنه تعالى قيد التحليل بقيد وهو الابتغاء بأموالهم والدرهم والدرهمان لا يسمى أموالا فوجب أن لا يصح جعلها مهرا
فان قيل ومن عنده عشرة دراهم لا يقال عنده أموال مع أنكم تجوزون كونها مهرا
قلنا ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا تكون العشرة كافية إلا أنا تركنا العمل بظاهر الآية في هذه الصورة لدلالة الاجماع على جوازه فتمسك في الأقل من العشرة بظاهر الآية
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لأن الآية دالة على أن الابتغاء بالأموال جائز وليس فيها دلالة على

أن الابتغاء بغير الأموال لا يجوز إلا على سبيل المفهوم وأنتم لا تقولون به ثم نقول الذي يدل على أنه لا تقدير في المهر وجوه
الحجة الأولى التمسك بهذه الآية وذلك لأن قوله بِأَمْوالِكُمْ مقابلة الجمع بالجمع فيقتضي توزع الفرد على الفرد فهذا يقتضي أن يتمكن كل واحد من ابتغاء النكاح بما يسمى مالا والقليل والكثير في هذه الحقيقة وفي هذا الاسم سواء فيلزم من هذه الآية جواز ابتغاء النكاح بأي شيء يسمى مالا من غير تقدير
الحجة الثانية التمسك بقوله تعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( البقرة 237 ) دلت الآية على سقوط النصف عن المذكور وهذا يقتضي أنه لو وقع العقد في أول الأمر بدرهم أن لا يجب عليه إلا نصف درهم وأنتم لا تقولون به
الحجة الثالثة الأحاديث منها ما روي أن امرأة جيء بها الى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقد تزوج بها رجل على نعلين فقال عليه الصلاة والسلام ( رضيت من نفسك بنعلين ) فقالت نعم فأجازه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والظاهر أن قيمة النعلين تكون أقل من عشرة دراهم فان مثل هذا الرجل والمرأة اللذين لا يكون تزوجهما إلا على النعلين يكونان في غاية الفقر ونعل هذا الانسان يكون قليل القيمة جدا ومنها ما روي عن جابر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من أعطى امرأة في نكاح كف دقيق أو سويق أو طعام فقد استحل ) ومنها ما روي في قصة الواهبة أنه عليه الصلاة والسلام قال لمن أراد التزوج بها ( التمس ولو خاتما من حديد ) وذلك لا يساوي عشرة دراهم
المسألة الثالثة قال أبو حنيفة رضي الله عنه لو تزوج بها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهراً ولها مهر مثلها ثم قال إذا تزوج امرأة على خدمته سنة فان كان حراً لها مهر مثلها وإن كان عبدا فلها خدمة سنة وقال الشافعي رحمة الله عليه يجوز جعل ذلك مهرا احتج أبو حنيفة على قوله بوجوه الأول هذه الآية وذلك أنه تعالى شرط في حصول الحل أن يكون الابتغاء بالمال والمال اسم للأعيان لا للمنافع الثاني قال تعالى فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ( النساء 4 ) وذلك صفة الأعيان
أجاب الشافعي عن الأول بأن الآية تدل على أن الابتغاء بالمال جائز وليس فيه بيان أن الابتغاء بغير المال جائز أم لا وعن الثاني أن لفظ الايتاء كما يتناول الأعيان يتناول المنافع الملتزمة وعن الثالث أنه خرج الخطاب على الأعم الأغلب ثم احتج الشافعي رضي الله عنه على جواز جعل المنفعة صداقا لوجوه
الحجة الأولى قوله تعالى في قصة شعيب إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَى َّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِى َ حِجَجٍ ( القصص 27 ) جعل الصداق تلك المنافع والأصل في شرع من تقدمنا البقاء الى أن يطرأ الناسخ
الحجة الثانية ان التي وهبت نفسها لما لم يجد الرجل الذي أراد أن يتزوج بها شيئا قال عليه الصلاة والسلام ( هل معك شيء من القرآن قال نعم سورة كذا قال زوجتكها بما معك من القرآن ) والله أعلم

المسألة الرابعة قال أبو بكر الرازي دلت الآية على أن عتق الأمة لا يكون صداقا لها لأن الآية تقتضي كون البضع مالا وما روي أنه عليه السلام أعتق صفية وجعل عتقها صداقها فذاك من خواص الرسول عليه السلام
المسألة الخامسة قوله مُّحْصِنِينَ فيه وجهان أحدهما أن يكون المراد أنهم يصيرون محصنين بسبب عقد النكاح والثاني أن يكون الاحصان شرطا في الاحلال المذكور في قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ والأول أولى لأن على هذا التقدير تبقى الآية عامة معلومة المعنى وعلى هذا التقدير الثاني تكون الآية مجملة لأن الاحصان المذكور فيه غير مبين والمعلق على المجمل يكون مجملا وحمل الآية على وجه يكون معلوما أولى من حملها على وجه يكون مجملا
قوله تعالى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَة ً
فيه مسائل
المسألة الأولى الاستمتاع في اللغة الانتفاع وكل ما انتفع به فهو متاع يقال استمتع الرجل بولده ويقال فيمن مات في زمان شبابه لم يتمتع بشبابه قال تعالى رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ( الأنعام 128 ) وقال أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ( الأحقاف 20 ) يعني تعجلتم الانتفاع بها وقال فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ ( التوبة 69 ) يعني بحظكم ونصيبكم من الدنيا وفي قوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ وجهان الأول فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو عقد عليهن فآتوهن أجورهن عليه ثم أسقط الراجع إلى ( ما ) لعدم الالتباس كقوله إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ ( الشورى 43 ) فأسقط منه والثاني أن يكون ( ما ) في قوله مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ بمعنى النساء و ( من ) في قوله مِنْهُنَّ للتبعيض والضمير في قوله بِهِ راجع إلى لفظ مَا لأنه واحد في اللفظ وفي قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ إلى معنى ( ما ) لأنه جمع في المعنى وقوله أُجُورَهُنَّ أي مهورهن قال تعالى وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً ( النساء 25 ) إلى قوله فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ( النساء 25 ) وهي المهور وكذا قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ ههنا وقال تعالى في آية أخرى لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ( الممتحنة 10 ) وإنما سمي المهر أجراً لأنه بدل المنافع وليس ببدل من الأعيان كما سمي بدل منافع الدار والدابة أجرا والله أعلم
المسألة الثانية قال الشافعي الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر وقال أبو حنيفة تقرره واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية لأن قوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مشعر بأن وجوب إيتائهن مهورهن كان لأجل الاستمتاع بهن ولو كانت الخلوة الصحيحة مقررة للمهر كان الظاهر أن الخلوة الصحيحة تتقدم الاستمتاع بهن فكان المهر يتقرر قبل الاستمتاع وتقرره قبل الاستمتاع يمنع من تعلق ذلك التقرر بالاستمتاع والآية دالة على أن تقرر المهر يتعلق بالاستمتاع فثبت أن الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر

المسألة الثالثة في هذه الآية قولان أحدهما وهو قول أكثر علماء الأمة أن قوله أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمْ المراد منه ابتغاء النساء بالأموال على طريق النكاح وقوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فان استمتع بالدخول بها آتاها المهر بالتمام وإن استمتع بعقد النكاح آتاها نصف المهر
والقول الثاني أن المراد بهذه الآية حكم المتعة وهي عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين فيجامعها واتفقوا على أنها كانت مباحة في ابتداء الإسلام روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قدم مكة في عمرته تزين نساء مكة فشكا أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) طول العزوبة فقال استمتعوا من هذه النساء واختلفوا في أنها هل نسخت أم لا فذهب السواد الأعظم من الأمة إلى أنها صارت منسوخة وقال السواد منهم إنها بقيت مباحة كما كانت وهذا القول مروي عن ابن عباس وعمران بن الحصين أما ابن عباس فعنه ثلاث روايات احداها القول بالاباحة المطلقة قال عمارة سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح قال لا سفاح ولا نكاح قلت فما هي قال هي متعة كما قال تعالى قلت هل لها عدة قال نعم عدتها حيضة قلت هل يتوارثان قالا لا
والرواية الثانية عنه أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس في المتعة قال ابن عباس قاتلهم الله إني ما أفتيت باباحتها على الاطلاق لكني قلت إنها تحل للمضطر كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير له
والرواية الثالثة أنه أقر بأنها صارت منسوخة روى عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ قال صارت هذه الآية منسوخة بقوله تعالى الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( الطلاق 1 ) وروي أيضا أنه قال عند موته اللهم إني أتوب اليك من قولي في المتعة والصرف وأما عمران بن الحصين فانه قال نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ولم ينزل بعدها آية تنسخها وأمرنا بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتمتعنا بها ومات ولم ينهنا عنه ثم قال رجل برأيه ما شاء وأما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فالشيعة يروون عنه إباحة المتعة وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لولا أن عمر نهى الناس عن المتعة ما زنى إلا شقي وروى محمد بن على المشهور بمحمد بن الحنفية أن عليا رضي الله عنه مر بابن عباس وهو يفتي بجواز المتعة فقال أمير المؤمنين انه ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عنها وعن لحوم الحمر الأهلية فهذا ما يتعلق بالروايات واحتج الجمهور على حرمة المتعة بوجوه الأول أن الوطء لا يحل إلا في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المعارج 29 30 المؤمنون 5 6 ) وهذه المرأة لا شك أنها ليست مملوكة وليست أيضا زوجة ويدل عليه وجوه أحدها لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما لقوله تعالى وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ( النساء 12 ) وبالاتفاق لا توارث بينهما وثانيها ولثبت النسب لقوله عليه الصلاة والسلام ( الولد للفراش ) وبالاتفاق لا يثبت وثالثها ولوجبت العدة عليها لقوله تعالى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( البقرة 234 ) واعلم أن هذه الحجة كلام حسن مقرر
الحجة الثانية ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في خطبته متعتان كانتا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما ذكر هذا الكلام في مجمع الصحابة وما أنكر عليه أحد فالحال ههنا لا يخلو

إما أن يقال انهم كانوا عالمين بحرمة المتعة فسكتوا أو كانوا عالمين بأنها مباحة ولكنهم سكتوا على سبيل المداهنة أو ما عرفوا إباحتها ولا حرمتها فسكتوا لكونهم متوقفين في ذلك والأول هو المطلوب والثاني يوجب تكفير عمر وتكفير الصحابة لأن من علم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكم باباحة المتعة ثم قال إنها محرمة محظورة من غير نسخ لها فهو كافر بالله ومن صدقه عليه مع علمه بكونه مخطئا كافرا كان كافرا أيضا وهذا يقتضي تكفير الأمة وهو على ضد قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ( آل عمران 110 )
والقسم الثالث وهو أنهم ما كانوا عالمين بكون المتعة مباحة أو محظورة فلهذا سكتوا فهذا أيضا باطل لأن المتعة بتقدير كونها مباحة تكون كالنكاح واحتياج الناس إلى معرفة الحال في كل واحد منهما عام في حق الكل ومثل هذا يمنع أن يبقى مخفيا بل يجب أن يشتهر العلم به فكما أن الكل كانوا عارفين بأن النكاح مباح وأن إباحته غير منسوخة وجب أن يكون الحال في المتعة كذلك ولما بطل هذان القسمان ثبت أن الصحابة إنما سكتوا عن الانكار على عمر رضي الله عنه لأنهم كانوا عالمين بأن المتعة صارت منسوخة في الاسلام
فان قيل ما ذكرتم يبطل بما أنه روي أن عمر قال لا أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته ولا شك أن الرجم غير جائز مع أن الصحابة ما أنكروا عليه حين ذكل ذلك فدل هذا على أنهم كانوا يسكتون عن الانكار على الباطل
قلنا لعله كان يذكر ذلك على سبيل التهديد والزجر والسياسة ومثل هذه السياسات جائزة للامام عند المصلحة ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام قال ( من منع منا الزكاة فانا آخذوها منه وشطر ماله ) ثم أن أخذ شطر المال من مانع الزكاة غير جائز لكنه قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك للمبالغة في الزجر فكذا ههنا والله أعلم
الحجة الثالثة على أن المتعة محرمة ما روى مالك عن الزهري عن عبدالله والحسن ابني محمد ابن علي عن أبيهما عن علي أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الانسية وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال غدوت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاذا هو قائم بين الركن والمقام مسند ظهره إلى الكعبة يقول ( يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ألا وإن الله قد حرمها عليكم إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً ) وروي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( متعة النساء حرام ) وهذه الأخبار الثلاثة ذكرها الواحدي في البسيط وظاهر أن النكاح لا يسمى استمتاعا لأنا بينا أن الاستمتاع هو التلذذ ومجرد النكاح ليس كذلك أما القائلون باباحة المتعة فقد احتجوا بوجوه
الحجة الأولى التمسك بهذه الآية أعني قوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ وفي الاستدلال بهذه الآية طريقان
الطريق الأول أن قول نكاح المتعة داخل في هذه الآية وذلك لأن قوله أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمْ يتناول من ابتغى بماله الاستمتاع بالمرأة على سبيل التأييد ومن ابتغى بماله على سبيل التأقيت وإذا كان كل واحد من القسمين داخلا فيه كان قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمْ يقتضي حل

القسمين وذلك يقتضي حل المتعة
الطريق الثاني أن نقول هذه الآية مقصورة على بيان نكاح المتعة وبيانه من وجوه الأول ما روي أن أبي بن كعب كان يقرأ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ وهذا أيضا هو قراءة ابن عباس والأمة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة فكان ذلك إجماعا من الأمة على صحة هذه القراءة وتقريره ما ذكرتموه في أن عمر رضي الله عنه لما منع من المتعة والصحابة ما أنكروا عليه كان ذلك إجماعا على صحة ما ذكرنا وكذا ههنا واذا ثبت بالاجماع صحة هذه القراءة ثبت المطلوب الثاني أن المذكور في الآية إنما هو مجرد الابتغاء بالمال ثم انه تعالى أمر بايتائهن أجورهن بعد الاستمتاع بهن وذلك يدل على أن مجرد الابتغاء بالمال يجوز الوطء ومجرد الابتغاء بالمال لا يكون إلا في نكاح المتعة فأما في النكاح المطلق فهناك الحل إنما يحصل بالعقد ومع الولي والشهود ومجرد الابتغاء بالمال لا يفيد الحل فدل هذا على أن هذه الآية مخصوصة بالمتعة الثالث أن في هذه الآية أوجب إيتاء الأجور بمجرد الاستمتاع والاستمتاع عبارة عن التلذذ والانتفاع فأما في النكاح فايتاء الأجور لا يجب على الاستمتاع ألبتة بل على النكاح ألا ترى أن بمجرد النكاح يلزم نصف المهر فظاهر أن النكاح لا يسمى استمتاعا لأنا بينا أن الاستمتاع هو التلذذ ومجرد النكاح ليس كذلك الرابع أنا لو حملنا هذه الآية على حكم النكاح لزم تكرار بيان حكم النكاح في السورة الواحدة لأنه تعالى قال في أول هذه السورة فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( النساء 3 ) ثم قال وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَة ً ( النساء 4 ) أما لو حملنا هذه الآية على بيان نكاح المتعة كان هذا حكما جديدا فكان حمل الآية عليه أولى والله أعلم
الحجة الثانية على جواز نكاح المتعة أن الأمة مجمعة على أن نكاح المتعة كان جائزا في الإسلام ولا خلاف بين أحد من الأمة فيه إنما الخلاف في طريان الناسخ فنقول لو كان الناسخ موجودا لكان ذلك الناسخ إما أن يكون معلوما بالتواتر أو بالآحاد فان كان معلوما بالتواتر كان علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس وعمران بن الحصين منكرين لما عرف ثبوته بالتواتر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك يوجب تكفيرهم وهو باطل قطعا وإن كان ثابتا بالآحاد فهذا أيضا باطل لأنه لما كان ثبوت إباحة المتعة معلوما بالاجماع والتواتر كان ثبوته معلوما قطعا فلو نسخناه بخبر الواحد لزم جعل المظنون رافعاً للمقطوع وإنه باطل قالوا ومما يدل أيضا على بطلان القول بهذا النسخ أن أكثر الروايات أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الاهلية يوم خيبر وأكثر الروايات أنه عليه الصلاة والسلام أباح المتعة في حجة الوداع وفي يوم الفتح وهذان اليومان متأخران عن يوم خيبر وذلك يدل على فساد ما روي أنه عليه السلام نسخ المتعة يوم خيبر لأن الناسخ يمتنع تقدمه على المنسوخ وقول من يقول انه حصل التحليل مراراً والنسخ مراراً ضعيف لم يقل به أحد من المعتبرين إلا الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الروايات
الحجة الثالثة ما روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر متعتان كانتا مشروعتين في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا أنهي عنهما متعة الحج ومتعة النكاح وهذا منه تنصيص على أن متعة النكاح كانت موجودة في عهد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقوله وأنا أنهي عنهما يدل على أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ما نسخه وإنما عمر هو الذي نسخه وإذا ثبت هذا فنقول هذا الكلام يدل على أن حل المتعة كان ثابتا في عهد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأنه عليه السلام ما نسخه وأنه ليس ناسخ الا نسخ عمر وإذا ثبت هذا وجب أن لا يصير منسوخا لأن ما كان ثابتا في

زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وما نسخه الرسول يمتنع أن يصير منسوخا بنسخ عمر وهذا هو الحجة التي احتج بها عمران بن الحصين حيث قال ان الله أنزل في المتعة آية وما نسخها بآية أخرى وأمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمتعة وما نهانا عنها ثم قال رجل برأيه ما شاء يريد أن عمر نهى عنها فهذا جملة وجوه القائلين بجواز المتعة
والجواب عن الوجه الأول أن نقول هذه الآية مشتملة على أن المراد منها نكاح المتعة وبيانه من ثلاثة أوجه الأول أنه تعالى ذكر المحرمات بالنكاح أولا في قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ثم قال في آخر الآية وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ فكان المراد بهذا التحليل ما هو المراد هناك بهذا التحريم لكن المراد هناك بالتحريم هو النكاح فالمراد بالتحليل ههنا أيضا يجب أن يكون هو النكاح الثاني أنه قال مُّحْصِنِينَ والاحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح والثالث قوله غَيْرَ مُسَافِحِينَ سمى الزنا سفاحا لأنه لا مقصود فيه إلا سفح الماء ولا يطلب فيه الولد وسائر مصالح النكاح والمتعة لا يراد منها إلا سفح الماء فكان سفاحا هذا ما قاله أبو بكر الرازي أما الذي ذكره في الوجه الأول فكأنه تعالى ذكر أصناف من يحرم على الانسان وطؤهن ثم قال وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أي وأحل لكم وطء ما وراء هذه الأصناف فأي فساد في هذا الكلام وأما قوله ثانياً الاحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح فلم يذكر عليه دليلا وأما قوله ثالثاً الزنا إنما سمي سفاحا لأنه لا يراد منه إلا سفح الماء والمتعة ليست كذلك فان المقصود منها سفح الماء بطريق مشروع مأذون فيه من قبل الله فان قلتم المتعة محرمة فنقول هذا أول البحث فلم قلتم إن الأمر كذلك فظهر أن الكلام رخو والذي يجب أن يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول إنا لا ننكر أن المتعة كانت مباحة إنما الذي نقوله إنها صارت منسوخة وعلى هذا التقدير فلو كانت هذه الآية دالة على أنها مشروعة لم يكن ذلك قادحا في غرضنا وهذا هو الجواب أيضا عن تمسكهم بقراءة أبي وابن عباس فان تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل ألا على أن المتعة كانت مشروعة ونحن لا ننازع فيه إنما الذي نقوله إن النسخ طرأ عليه وما ذكرتم من الدلائل لا يدفع قولنا وقولهم الناسخ إما أن يكون متواتراً أو آحادا
قلنا لعل بعضهم سمعه ثم نسيه ثم إن عمر رضي الله عنه لما ذكر ذلك في الجمع العظيم تذكروه وعرفوا صدقه فيه فسلموا الأمر له
قوله إن عمر أضاف النهي عن المتعة إلى نفسه
قلنا قد بينا أنه لو كان مراده أن المتعة كانت مباحة في شرع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا أنهي عنه لزم تكفيره وتكفير كل من لم يحاربه وينازعه ويفضي ذلك إلى تكفير أمير المؤمنين حيث لم يحاربه ولم يرد ذلك القول عليه وكل ذلك باطل فلم يبق إلا أن يقال كان مراده أن المتعة كانت مباحة في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا أنهي عنها لما ثبت عندي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) نسخها وعلى هذا التقدير يصير هذا الكلام حجة لنا في مطلوبنا والله أعلم
ثم قال تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء والمعنى أن إيتاءهن أجورهن ومهورهن فريضة لازمة وواجبة وذكر صاحب ( الكشاف ) في قوله فَرِيضَة ً ثلاثة أوجه أحدها أنه حال من الأجور بمعنى مفروضة وثانيها أنها وضعت موضع إيتاء لأن الايتاء مفروض وثالثها أنه مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة

ثم قال تعالى وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَة ِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
وفيه مسائل
المسألة الأولى الذين حملوا الآية المتقدمة على بيان حكم النكاح قالوا المراد أنه إذا كان المهر مقدرا بمقدار معين فلا حرج في أن تحط عنه شيئا من المهر أو تبرئه عنه بالكلية فعلى هذا المراد من التراضي الحط من المهر أو الابراء عنه وهو كقوله تعالى فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ( النساء 4 ) وقوله إَّلا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ ( البقرة 237 ) وقال الزجاج معناه لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها أو يهب الزوج للمرأة تمام المهر إذا طلقها قبل الدخول وأما الذين حملوا الآية المتقدمة على بيان المتعة قالوا المراد من هذه الآية أنه إذا انقضى أجل المتعة لم يبق للرجل على المرأة سبيل ألبتة فان قال لها زيديني في الأيام وأزيدك في الأجرة كانت المرأة بالخيار ان شاءت فعلت وان شاءت لم تفعل فهذا هو المراد من قوله وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَة ِ أي من بعد المقدار المذكور أولا من الأجر والأجل
المسألة الثانية قال أبو حنيفة رضي الله عنه إلحاق الزيادة في الصداق جائز وهي ثابتة ان دخل بها أو مات عنها أما إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة وكان لها نصف المسمى في العقد وقال الشافعي رحمة الله عليه الزيادة بمنزلة الهبة فان أقبضها ملكته بالقبض وان لم يقبضها بطلت احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقوله لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَة ِ يتناول ما وقع التراضي به في طرفي الزيادة والنقصان فكان هذا بعمومه يدل على جواز إلحاق الزيادة بالصداق قال بل هذه الآية بالزيادة أخص منها بالنقصان لأنه تعالى علقه بتراضيهما والبراءة والحط لا يحتاج إلى رضا الزوج والزيادة لا تصح إلا بقبوله فاذا علق ذلك بتراضيهما جميعا دل على أن المراد هو الزيادة
والجواب لم لا يجوز أن تكون الزيادة عبارة عما ذكره الزجاج وهو أنه إذا طلقها قبل الدخول فان شاءت المرأة أبرأته عن النصف وان شاء الزوج سلم اليها كل المهر وبهذا التقدير يكون قد زادها عما وجب عليه تسليمه اليها وأيضا عندنا أنه لا جناح في تلك الزيادة إلا أنها تكون هبة والدليل القاطع على بطلان هذه الزيادة أن هذه الزيادة لو التحقت بالأصل لكان إما مع بقاء العقد الأول أو بعد زوال العقد والأول باطل لأن العقد لما انعقد على القدر الأول فلو انعقد مرة أخرى على القدر الثاني لكان ذلك تكوينا لذلك العقد بعد ثبوته وذلك يقتضى تحصيل الحاصل وهو محال والثاني باطل لانعقاد الاجماع على أن عند إلحاق الزيادة لا يرتفع العقد الأول فثبت فساد ما قالوه والله أعلم ثم إنه تعالى لما ذكر في هذه الآية أنواعا كثيرة من التكاليف والتحريم والاحلال بين أنه عليم بجميع المعلومات لا يخفى عليه منها خافية أصلا وحكيم لا يشرع الأحكام إلا على وفق الحكمة وذلك يوجب التسليم لأوامره والانقياد لأحكامه والله أعلم
النوع السابع من التكاليف المذكورة في هذه السورة

وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة ٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين من يحل ومن لا يحل بين فيمن يحل أنه متى يحل وعلى أي وجه يحل فقال وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الكسائي الْمُحْصَنَاتِ بكسر الصاد وكذلك مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وكذلك فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ كلها بكسر الصاد والباقون بالفتح فالفتح معناه ذوات الأزواج والكسر معناه العفائف والحرائر والله أعلم
المسألة الثانية الطول الفضل ومنه التطول وهو التفضل وقال تعالى ذِى الطَّوْلِ ( غافر 3 ) ويقال تطاول لهذا الشيء أي تناوله كما يقال يدفلان مبسوطة وأصل هذه الكلمة من الطول الذي هو خلاف القصر لأنه إذا كان طويلا ففيه كمال وزيادة كما أنه إذا كان قصيرا ففيه قصور ونقصان وسمي الغنى أيضاً طولا لأنه ينال به من المرادات مالا ينال عند الفقر كما أن بالطول ينال ما لا ينال بالقصر
إذا عرفت هذا فنقول الطول القدرة وانتصابه على أنه مفعول ( يستطع ) و أَن يَنكِحَ في موضع النصب على أنه مفعول القدرة
فان قيل الاستطاعة هي القدرة والطول أيضا هو القدرة فيصير تقدير الآية ومن لم يقدر منكم على القدرة على نكاح المحصنات فما فائدة هذا التكرير في ذكر القدرة
قلنا الأمر كما ذكرت والأولى أن يقال المعنى فمن لم يستطع منكم استطاعة بالنكاح المحصنات وعلى هذا الوجه يزول الاشكال فهذا ما يتعلق باللغة
أما ما قاله المفسرون فوجوه الأول ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح أمة الثاني أن يفسر النكاح بالوطء والمعنى ومن لم يستطع منكم طولا وطء الحرائر فلينكح أمة وعلى هذا التقدير فكل من ليس تحته حرة فانه يجوز له التزوج بالأمة وهذا التفسير لائق بمذهب أبي حنيفة فان مذهبه أنه إذا كان تحته حرة لم يجز له التزوج بالأمة وهذا التفسير لائق بمذهب أبي حنيفة فان مذهبه أنه إذا كان تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة سواء قدر على التزوج

بالحرة أو لم يقدر والثالث الاكتفاء بالحرة فله أن يتزوج بالأمة سواء كان تحته حرة أو لم يكن كل هذه الوجوه إنما حصلت لأن لفظ الاستطاعة محتمل لكل هذه الوجوه
المسألة الثالثة المراد بالمحصنات في قوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ هو الحرائر ويدل عليه أنه تعالى أثبت عند تعذر نكاح المحصنات نكاح الاماء فلا بد وأن يكون المراد من المحصنات من يكون كالضد للاماء والوجه في تسمية الحرائر بالمحصنات على قراءة من قرأ بفتح الصاد أنهن أحصن بحريتهن عن الأحوال التي تقدم عليها الأماء فان الظاهر أن الأمة تكون خراجة ولاجة ممتهنة مبتذلة والحرة مصونة محصنة من هذه النقصانات واما على قراءة من قرأ بكسر الصاد فالمعنى أنهن أحصن أنفسهن بحريتهن
المسألة الرابعة مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الله تعالى شرط في نكاح الاماء شرائط ثلاثة اثنان منها في الناكح والثالث في المنكوحة أما اللذان في الناكح فأحدهما أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق وهو معنى قوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فعدم استطاعة الطول عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة
فان قيل الرجل إذا كان يستطيع التزوج بالأمة يقدر على التزوج بالحرة الفقيرة فمن أين هذا التفاوت
قلنا كانت العادة في الاماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة السادات وعلى هذا التقدير يظهر هذا التفاوت
وأما الشرط الثاني فهو المذكور في آخر الآية وهو قوله ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ( النساء 25 ) أي بلغ الشدة في العزوبة
وأما الشرط الثالث المعتبر في المنكوحة فأن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة فان الأمة إذا كانت كافرة كانت ناقصة من وجهين الرق والكفر ولا شك أن الولد تابع للأم في الحرية والرق وحينئذ يعلق الولد رقيقا على ملك الكافر فيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكا للكافر فهذه الشرائط الثلاثة معتبرة عند الشافعي في جواز نكاح الأمة
وأما أبو حنيفة رضي الله عنه فيقول إذا كان تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة أما إذا لم يكن تحته حرة جاز له ذلك سواء قدر على نكاح الحرة أو لم يقدر واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية وتقريره من وجهين الأول أنه تعالى ذكر عدم القدرة

على طول الحرة ثم ذكر عقيبه التزوج بالأمة وذلك الوصف يناسب هذا الحكم لأن الانسان قد يحتاج الى الجماع فاذا لم يقدر على جماع الحرة بسبب كثرة مؤنتها ومهرها وجب أن يؤذن له في نكاح الأمة إذا ثبت هذا فنقول الحكم إذا كان مذكورا عقيب وصف يناسبه فذلك الاقتران في الذكر يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف إذا ثبت هذا فنقول لو كان نكاح الأمة جائزا بدون القدرة على طول الحرة ومع القدرة عليه لم يكن لعدم هذه القدرة أثر في هذا الحكم ألبتة لكنا بينا دلالة الآية على أن له أثرا في هذا الحكم فثبت أنه لا يجوز التزوج بالأمة مع القدرة على طول الحرة الثاني أن نتمسك بالآية على سبيل المفهوم وهو أن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه والدليل عليه أن القائل إذا قال الميت اليهودي لا يبصر شيئا فان كل أحد يضحك من هذا الكلام ويقول إذا كان غير اليهودي أيضا لا يبصر فما فائدة التقييد بكونه يهوديا فلما رأينا أن أهل العرف يستقبحون هذا الكلام ويعللون ذلك الاستقباح بهذه العلة علمنا اتفاق أرباب اللسان على أن التقييد بالصفة يقتضي نفي الحكم في غير محل القيد قال أبو بكر الرازي تخصيص هذه الحالة بذكر الاباحة فيها لا يدل على حظر ما عداه كقوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَة َ إِمْلَاقٍ ( الإسراء 31 ) ولا دلالة فيه على إباحة القتل عند زوال هذه الحالة وقوله لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة ً ( آل عمران 130 ) لا دلالة فيه على إباحة الأكل عند زوال هذه الحالة وقوله لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة ً لا دلالة فيه على إباحة الأكل عند زوال هذه الحالة فيقال له ظاهر اللفظ يقتضي ذلك إلا أنه ترك العمل به بدليل منفصل كما أن عندك ظاهر الأمر للوجوب وقد يترك العمل به في صور كثيرة لدليل منفصل والسؤال الجيد على التمسك بالآية ما ذكرناه حيث قلنا لم لا يجوز أن يكون المراد من النكاح الوطء والتقدير ومن لم يستطع منكم وطء الحرة وذلك عند من لا يكون تحته حرة فانه يجوز له نكاح الأمة وعلى هذا التقدير تنقلب الآية حجة لأبي حنيفة
وجوابه أن أكثر المفسرين فسروا الطول بالغنى وعدم الغنى تأثيره في عدم القدرة على العقد لا في عدم القدرة على الوطء واحتج أبو بكر الرازي على صحة قوله بالعمومات كقوله تعالى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) وقوله وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وقوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ وقوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( المائدة 5 ) وهو متناول للاماء الكتابيات والمراد من هذا الاحصان العفة
والجواب ان آيتنا خاصة والخاص مقدم على العام ولأنه دخلها التخصيص فيا إذا كان تحته حرة وإنما خصت صونا للولد عن الارقاق وهو قائم في محل النزاع
المسألة الخامسة ظاهر قوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ يقتضي كون الايمان معتبرا في الحرة فعلى هذا لو قدر على حرة كتابية ولم يقدر على طول حرة مسلمة فانه يجوز له أن يتزوج الأمة وأكثر العلماء أن ذكر الايمان في الحرائر ندب واستحباب لأنه لا فرق بين الحرة الكتابية وبين المؤمنة في كثرة المؤنة وقلتها
المسألة السادسة من الناس من قال انه لا يجوز التزوج بالكتابيات ألبتة واحتجوا بهذه الآيات فقالوا انه تعالى بين أن عند العجز عن نكاح الحرة المسلمة يتعين له نكاح الأمة المسلمة ولو كان التزوج بالحرة الكتابية جائزا لكان عند العجز عن الحرة المسلمة لم تكن الأمة المسلمة متعينة وذلك ينفي دلالة الآية ثم أكدوا هذه الدلالة بقوله تعالى وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) وقد بينا بالدلائل الكثيرة في تفسير هذه الآية أن الكتابية مشركة
المسألة السابعة الآية دالة على التحذير من نكاح الاماء وأنه لا يجوز الاقدام عليه إلا عند الضرورة والسبب فيه وجوه الأول أن الولد يتبع الأم في الرق والحرية فاذا كانت الأم رقيقة علق الولد رقيقا وذلك يوجب النقص في حق ذلك الانسان وفي حق ولده والثاني أن الأمة قد تكون تعودت الخروج والبروز والمخالطة بالرجال وصارت في غاية الوقاحة وربما تعودت الفجور وكل ذلك ضرر على الأزواج

الثالث أن حق المولى عليها أعظم من حق الزوج فمثل هذه الزوجة لا تخلص للزوج كخلوص الحرة فربما احتاج الزوج اليها جدا ولا يجد اليها سبيلا لأن السيد يمنعها ويحبسها الرابع أن المولى قد يبيعها من إنسان آخر فعلى قول من يقول بيع الأمة طلاقها تصير مطلقة شاء الزوج أم أبى وعلى قول من لا يرى ذلك فقد يسافر المولى الثاني بها وبولدها وذلك من أعظم المضار الخامس أن مهرها ملك لمولاها فهي لا تقدر على هبة مهرها من زوجها ولا على إبرائه عنه بخلاف الحرة فلهذه الوجه ما أذن الله في نكاح الأمة إلا على سبيل الرخصة والله أعلم
قوله تعالى فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ فيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم أي فليتزوج مما ملكت أيمانكم قال ابن عباس يريد جارية أختك فان الانسان لا يجوز له أن يتزوج بجارية نفسه
المسألة الثانية الفتيات المملوكة جمع فتاة والعبد فتى وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يقولن أحدكم عبدي ولكن ليقل فتاي وفتاتي ) ويقال للجارية الحديثة فتاة وللغلام فتى والأمة تسمى فتاة عجوزاً كانت او شابة لأنها كالشابة في أنها لا توقر توقير الكبير
المسألة الثالثة قوله مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ يدل على تقييد نكاح الأمة بما إذا كانت مؤمنة فلا يجوز التزوج بالأمة الكتابية سواء كان الزوج حراً أو عبدا وهذا قول مجاهد وسعيد والحسن وقول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يجوز التزوج بالأمة الكتابية
حجة الشافعي رضي الله عنه أن قوله مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ تقييد لجواز نكاح الأمة بكونها مؤمنة وذلك ينفي جواز نكاح غير المؤمنة من الوجهين اللذين ذكرناهما في مسألة طول الحرة وأيضا قال تعالى وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 )
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه النص والقياس أما النص فالعمومات التي ذكرنا تمسكه بها في طول الحرة وآكدها قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ( المائدة 5 ) وأما القياس فهو أنا أجمعنا على أن الكتابة الحرة مباحة والكتابية المملوكة أيضا مباحة فكذلك إذا تزوج بالكتابية المملوكة وجب أنه يجوز
والجواب عن العمومات أن دلائلنا خاصة فتكون مقدمة على العمومات وعن القياس أن الشافعي قال إذا تزوج بالحرة الكتابية فهناك نقص واحد أما إذا تزوج بالأمة الكتابية فهناك نوعان من النقص الرق والكفر فظهر الفرق
ثم قال تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ قال الزجاج معناه اعملوا على الظاهر في الايمان فانكم مكلفون بظواهر الأمور والله يتولى السرائر والحقائق
ثم قال تعالى بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ وفيه وجهان الأول كلكم أولاد آدم فلا تداخلنكم أنفة من تزوج الاماء عند الضرورة والثاني ان المعنى كلكم مشتركون في الايمان والايمان أعظم الفضائل فاذا حصل الاشتراك في أعظم الفضائل كان التفاوت فيما وراءه غير ملتفت اليه ونظيره قوله تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ

وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 ) وقوله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات 13 ) قال الزجاج فهذا الثاني أولى لتقدم ذكر المؤمنات أو لأن الشرف بشرف الإسلام أولى منه بسائر الصفات وهو يقوي قول الشافعي رضي الله عنه ان الايمان شرط لجواز نكاح الأمة
واعلم أن الحكمة في ذكر هذه الكلمة أن العرب كانوا يفتخرون بالأنساب فأعلم في ذكر هذه الكلمة أن الله لا ينظر و يلتفت اليه روي عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ثلاث من أمر الجاهلية الطعن في الأنساب والفخر بالأحساب والاستسقاء بالانواء ولا يدعها الناس في الإسلام ) وكان أهل الجاهلية يضعون من ابن الهجين فذكر تعالى هذه الكلمة زجرا لهم عن أخلاق أهل الجاهلية
ثم أنه تعالى شرح كيفية هذا النكاح فقال فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اتفقوا على أن نكاح الأمة بدون إذن سيدها باطل ويدل عليه القرآن والقياس أما القرآن فهو هذه الآية فان قوله تعالى فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ يقتضي كون الاذن شرطا في جواز النكاح وان لم يكن النكاح واجبا وهو كقوله عليه الصلاة والسلام ( من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) فالسلم ليس بواجب ولكنه إذا إختار أن يسلم فعليه استيفاء هذه الشرائط كذلك النكاح وان لم يكن واجبا لكنه إذا أراد أن يتزوج أمة وجب أن لا يتزوجها إلا باذن سيدها وأما القياس فهو أن الأمة ملك للسيد وبعد التزوج يبطل عليه أكثر منافعها فوجب أن لا يجوز ذلك إلا باذنه واعلم أن لفظ القرآن مقتصر على الأمة وأما العبد فقد ثبت ذلك في حقه بالحديث عن جابر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا تزوج العبد بغير اذن السيد فهو عاهر )
المسألة الثانية قال الشافعي رضي الله عنه المرأة البالغة العاقلة لا يصح نكاحها إلا باذن الولي وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يصح احتج الشافعي بهذه الآية وتقريره أن الضمير في قوله فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ عائد إلى الاماء والأمة ذات موصوفة بصفة الرق وصفة الرق صفة زائلة والاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة زائلة ذات موصوفة بصفة الرق وصفة الرق صفة زائلة والاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة زائلة لا يتناول الاشارة إلى تلك الصفة ألا ترى أنه لو حلف لا يتكلم مع هذا الشاب فصار شيخا ثم تكلم معه يحنث في يمينه فثبت أن الاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة عرضية زائلة باقية بعد زوال تلك الصفة العرضية وإذا ثبت هذا فنقول قوله فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ اشارة إلى الاماء فهذه الاشارة وجب أن تكون باقية حال زوال الرق عنهن وحصول صفة الحرية لهن وإذا كان كذلك فالحرة البالغة العاقلة في هذه الصورة يتوقف جواز نكاحها على إذن وليها وإذا ثبت ذلك في هذه الصورة وجب ثبوت هذا الحكم في سائر الصور ضرورة أنه لا قائل بالفرق احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على فساد قول الشافعي في هذه المسألة فقال مذهبه أنه لا عبارة للمرأة في عقد النكاح فعلى هذا لا يجوز للمرأة أن تزوج أمتها بل مذهبه أن توكل غيرها بتزويج أمتها قال وهذه الآية تبطل ذلك لأن ظاهر هذه الآية يدل على الاكتفاء بحصول اذن أهلها فمن قال لا يكفي ذلك كان تاركا لظاهر الآية
والجواب من وجوه الأول أن المراد بالاذن الرضا وعندنا أن رضا المولى لا بد منه فأما أنه كاف فليس في الآية دليل عليه وثانيها أن أهلهن عبارة عمن يقدر على نكاحهن وذلك إما المولى أن كان رجلا أو ولي مولاها إن كان مولاها امرأة وثالثها هب أن الاهل عبارة عن المولى لكنه عام يتناول الذكور

والاناث والدلائل الدالة على أن المرأة لا تنكح نفسها خاصة قال عليه الصلاة والسلام ( العاهر هي التي تنكح نفسها ) فثبت بهذا الحديث أنه عبارة لها في نكاح نفسها فوجب أن لا يكون لها عبارة في نكاح مملوكتها ضرورة أنه لا قائل بالفرق والله أعلم
ثم قال تعالى وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الآية قولان الأول ان المراد من الأجور المهور وعلى هذا التقدير فالآية تدل على وجوب مهرها إذا نكحها سمي لها المهر أو لم يسم لأنه تعالى لم يفرق بين من سمى وبين من لم يسم في إيجاب المهر ويدل على أنه قد أراد مهر لمثل قوله تعالى بِالْمَعْرُوفِ ( البقرة 33 ) وهذا إنما يطلق فيما كان مبنيا على الاجتهاد وغالب الظن في المعتاد والمتعارف كقوله تعالى وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ الثاني قال القاضي ان المراد من أجورهن النفقة عليهن قال هذا القائل وهذا أولى من الأول لأن المهر مقدر ولا معنى لاشتراط المعروف فيه فكأنه تعالى بين أن كونها أمة لا يقدح في وجوب نفقتها وكفايتها كما في حق الحرة إذا حصلت التخلية من المولى بينه وبينها على العادة ثم قال القاضي اللفظ وان كان يحتمل ما ذكرناه فأكثر المفسرين يحملونه على المهر وحملوا قوله بِالْمَعْرُوفِ على ايصال المهر اليها على العادة الجميلة عند المطالبة من غير مطل وتأخير
المسألة الثانية نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن بعض أصحاب مالك أن الأمة هي المستحقة لقبض مهرها وان المولى إذا آجرها للخدمة كان المولى هو المستحق للأجر دونها وهؤلاء احتجوا في المهر بهذه الآية وهو قوله وَمَن لَّمْ وأما الجمهور فانهم احتجوا على ان مهرها لمولاها بالنص والقياس أما النص فقوله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَى ْء ( النحل 75 ) وهذا ينفي كون المملوك مالكا لشيء أصلا وأما القياس فهو أن المهر وجب عوضا عن منافع البضع وتلك المنافع مملوكة للسيد وهو الذي أباحها للزوج بقيد النكاح فوجب أن يكون هو المستحق لبدلها
والجواب عن تمسكهم بالآية من وجوه الأول انا إذا حملنا الأجور في الآية على النفقة زال السؤال بالكلية الثاني أنه تعالى إنما أضاف إيتاء المهور اليهن لأنه ثمن بضعهن وليس في قوله وَءاتُوهُنَّ ما يوجب كون المهر ملكا لهن ولكنه عليه الصلاة والسلام قال ( العبد وما في يده لمولاه ) فيصير ذلك المهر ملكا للمولى بهذه الطريق والله أعلم
ثم قال تعالى مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس محصنات أي عفائف وهو حال من قوله فَانكِحُوهُنَّ باذن أهلهن فظاهر هذا يوجب حرمة نكاح الزواني من الاماء واختلف الناس في أن نكاح الزواني هل يجوز أم لا وسنذكره في قوله الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً ( النور 3 ) والأكثرون على أنه يجوز فتكون هذه الآية محمولة على الندب والاستحباب وقوله غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ أي غير زوان وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ جمع خدن كالاتراب جمع ترب والخدن الذي يخادنك وهو الذي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن قال أكثر المفسرين المسافحة هي التي تؤاجر نفسها مع أي رجل أرادها والتي تتخذ الخدن فهي التي تتخذ خدنا معينا وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين وما كانوا يحكمون على ذات الخدن بكونها زانية

فلما كان هذا الفرق معتبرا عندهم لا جرم أن الله سبحانه أفرد كل واحد من هذين القسمين بالذكر ونص على حرمتهما معاً ونظيره أيضاً قوله تعالى قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ( الأعراف 33 )
المسألة الثانية قال القاضي هذه الآية أحد ما يستدل به من لا يجعل الايمان في نكاح الفتيات شرطا لأنه لو كان ذلك شرطا لكان كونهن محصنات عفيفات أيضاً شرطا وهذا ليس بشرط
وجوابه أن هذا معطوف لا على ذكر الفتيات المؤمنات بل على قوله فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ولا شك أن كل ذلك واجب فعلمنا أنه لا يلزم من عدم الوجوب في هذا عدم الوجوب فيما قبله والله أعلم
ثم قال تعالى فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة ٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم أُحْصِنَّ بالفتح في الألف والباقون بضم الألف فمن فتح فمعناه أسلمن هكذا قاله عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي ومن ضم الألف فمعناه أنهن أحصن بالازواج هكذا قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد ومنهم من طعن في الوجه الأول فقال انه تعالى وصف الاماء بالايمان في قوله فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ومن البعيد أن يقال فتياتكم المؤمنات ثم يقال فاذا آمن فان حالهن كذا وكذا ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى ذكر حكمين الأول حال نكاح الاماء فاعتبر الايمان فيه بقوله مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ والثاني حكم ما يجب عليهن عند إقدامهن على الفاحشة فذكر حال إيمانهن أيضا في هذا الحكم وهو قوله فَإِذَا أُحْصِنَّ
المسألة الثانية في الآية إشكال قوي وهو أن المحصنات في قوله فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ إما أن يكون المراد منه الحرائر المتزوجات أو المراد منه الحرائر الأبكار والسبب في إطلاق اسم المحصنات عليهن حريتهن والأول مشكل لأن الواجب على الحرائر المتزوجات في الزنا الرجم فهذا يقتضي أن يجب في زنا الاماء نصف الرجم ومعلوم أن ذلك باطل والثاني وهو أن يكون المراد الحرائر الأبكار فحينئذ يكون هذا الحكم معلقا بمجرد صدور الزنا عنهن وظاهر الآية يقتضي كونه معلقا بمجموع الأمرين الاحصان والزنا لأن قوله فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة ٍ شرط بعد شرط فيقتضي كون الحكم مشروطا بهما نصا فهذا إشكال قوي في الآية
والجواب أنا نختار القسم الثاني وقوله فَإِذَا أُحْصِنَّ ليس المراد منه جعل هذا الاحصان شرطا لأن يجب في زناها خمسون جلدة بل المعنى أن حد الزنا يغلظ عند التزوج فهذه إذا زنت وقد تزوجت فحدها خمسون جلدة لا يزيد عليه فبأن يكون قبل التزوج هذا القدر أيضاً أولى وهذا مما يجري مجرى المفهوم بالنص لأن عند حصول ما يغلظ الحد لما وجب تخفيف الحد لمكان الرق فبأن يجب هذا القدر عند مالا يوجد ذلك المغلظ كان أولى والله أعلم

المسألة الثالثة الخوارج اتفقوا على انكار الرجم واحتجوا بهذه الآية وهو أنه تعالى أوجب على الأمة نصف ما على الحرة المحصنة فلو وجب على الحرة المحصنة الرجم لزم أن يكون الواجب على الأمة نصف الرجم وذلك باطل فثبت أن الواجب على الحرة المتزوجة ليس إلا الجلد والجواب عنه ما ذكرناه في المسألة المتقدمة وتمام الكلام فيه مذكور في سورة النور في تفسير قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ ( النور 2 )
المسألة الرابعة اعلم أن الفقهاء صيروا هذه الآية أصلا في نقصان حكم العبد عن حكم الحر في غير الحد وإن كان في الأمور مالا يجب ذلك فيه والله أعلم
ثم قال تعالى ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ( النساء 25 ) ولم يختلفوا في أن ذلك راجع إلى نكاح الاماء فكأنه قال فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات لمن خشي العنت منكم والعنت هو الضرر الشديد الشاق قال تعالى فيما رخص فيه مخالطة اليتامى وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ( البقرة 220 ) أي لشدد الأمر عليكم فألزمكم تمييز طعامكم من طعامهم فلحقكم بذلك ضرر شديد وقال وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ ( آل عمران 118 ) أي أحبوا أن تقعوا في الضرر الشديد وللمفسرين فيه قولان أحدهما أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة ربما تحمل على الزنا فيقع في الحد في الدنيا وفي العذاب العظيم في الآخرة فهذا هو العنت والثاني أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة قد تؤدي بالانسان إلى الأمراض الشديدة أما في حق النساء فقد تؤدي الى اختناق الرحم وأما في حق الرجال فقد تؤدي إلى أوجاع الوركين والظهر وأكثر العلماء على الوجه الأول لأنه هو اللائق ببيان القرآن
ثم قال تعالى وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد أن نكاح الاماء بعد رعاية شرائطه الثلاثة أعني عدم القدرة على التزوج بالحرة ووجود العنت وكون الأمة مؤمنة الأولى تركه لما بينا من المفاسد الحاصلة في هذا النكاح
المسألة الثانية مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أن الاشتغال بالنكاح أفضل من الاشتغال بالنوافل فان كان مذهبهم أن الاشتغال بالنكاح مطلقاً أفضل من الاشتغال بالنوافل سواء كان النكاح نكاح الحرة أو نكاح الأمة فهذه الآية نص صريح في بطلان قولهم وآن قالوا إنا لا نرجح نكاح الأمة على النافلة فحينئذ يسقط هذا الاستدلال إلا أن هذا التفصيل ما رأيته في شيء من كتبهم والله أعلم
ثم انه تعالى ختم الآية بقوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وهذا كالمؤكد لما ذكره من أن الأولى ترك هذا النكاح يعني انه وان حصل ما يقتضي المنع من هذا الكلام إلا أنه تعالى أباحه لكم لاحتياجكم اليه فكان ذلك من باب المغفرة والرحمة والله أعلم
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

فيه مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله لِيُبَيّنَ لَكُمْ فيه وجهان الأول قالوا إنه قد تقام اللام مقام ( أن ) في أردت وأمرت فيقال أردت أن تذهب وأردت لتذهب وأمرتك أن تقوم وأمرتك لتقوم قال تعالى يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ ( الصف 8 ) يعني يريدون أن يطفؤا وقال وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( الأنعام 71 )
والوجه الثاني أن نقول إن في الآية إضمارا والتقدير يريد الله إنزال هذه الآيات ليبين لكم دينكم وشرعكم وكذا القول في سائر الآيات التي ذكروها فقوله يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ يعني يريدون كيدهم وعنادهم ليطفؤا وأمرنا بما أمرنا لنسلم
المسألة الثانية قال بعض المفسرين قوله يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ معناهما شي واحد والتكرير لأجل التأكيد وهذا ضعيف والحق أن المراد من قوله لِيُبَيّنَ لَكُمْ هو أنه تعالى بين لنا هذه التكاليف وميز فيها الحلال من الحرام والحسن من القبيح
ثم قال وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وفيه قولان أحدهما أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله لنا من النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم أيضا كذلك في جميع الشرائع والملل والثاني أنه ليس المراد ذلك بل المراد أنه تعالى يهديكم سنن الذين من قبلكم في بيان مالكم فيه من المصلحة كما بينه لهم فان الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها إلا أنها متفقة في باب المصالح وفيه قول ثالث وهو أن المعنى أنه يهديكم سنن الذين من قبلكم من أهل الحق لتجتنبوا الباطل وتتبعوا الحق
ثم قال تعالى وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ قال القاضي معناه أنه تعالى كما أراد منا نفس الطاعة فلا جرم بينها وأزال الشبهة عنها كذلك وقع التقصير والتفريط منا فيريد أن يتوب علينا لأن المكلف قد يطيع فيستحق الثواب وقد يعصي فيحتاج إلى التلافي بالتوبة
واعلم أن في الآية إشكالا وهو أن الحق إما أن يكون ما يقول أهل السنة من أن فعل العبد مخلوق لله تعالى وإما أن يكون الحق ما تقوله المعتزلة من أن فعل العبد ليس مخلوقا لله تعالى والآية مشكلة على كلا القولين أما على القول الأول فلأن على هذا القول كل ما يريده الله تعالى فانه يحصل فاذا أراد أن يتوب علينا وجب أن يحصل التوبة لكلنا ومعلوم أنه ليس كذلك وأما على القول الثاني فهو تعالى يريد منا أن نتوب باختيارنا وفعلنا وقوله وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ظاهره مشعر بأنه تعالى هو الذي يخلق التوبة فينا ويحصل لنا هذه التوبة فهذه الآية مشكلة على كلا القولين
والجواب أن نقول إن قوله وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ صريح في أنه تعالى هو الذي يفعل التوبة فينا والعقل أيضا مؤكد له لأن التوبة عبارة عن الندم في الماضي والعزم على عدم العود في المستقبل والندم والعزم من باب الارادات والارادة لا يمكن إرادتها وإلا لزم التسلسل فاذن الارادة يمتنع أن تكون فعل الانسان فعلمنا أن هذا الندم وهذا العزم لا يحصلان إلا بتخليق الله تعالى فصار هذا البرهان العقلي دالا على صحة

ما أشعر به ظاهر القرآن وهو أنه تعالى هو الذي يتوب علينا فأما قوله لو تاب علينا لحصلت هذه التوبة فنقول قوله وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ خطاب مع الأمة وقد تاب عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في هذه الآيات وحصلت هذه التوبة لهم فزال الاشكال والله أعلم
ثم قال تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي عليم بأحوالكم حكيم في كل ما يفعله بكم ويحكم عليكم
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً
فيه مسألتان
المسألة الأولى قيل المجوس كانوا يحلون الأخوات وبنات الاخوة والأخوات فلما حرمهن الله تعالى قالوا إنكم تحلون بنت الخالة والعمة والخالة والعمة عليكم حرام فانكحوا أيضا بنات الأخ والأخت فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية قالت المعتزلة قوله وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ يدل على أنه تعالى يريد التوبة من الكل والطاعة من الكل قال أصحابنا هذا محالا لأنه تعالى علم من الفاسق أنه لا يتوب وعلمه بأنه لا يتوب مع توبته ضدان وذلك العلم ممتنع الزوال ومع وجوب أحد الضدين كانت إرادة الضد الآخر إرادة لما علم كونه محالا وذلك محال وأيضاً إذا كان هو تعالى يريد التوبة من الكل ويريد الشيطان أن تميلوا ميلا عظيما ثم يحصل مراد الشيطان لا مراد الرحمن فحينئذ نفاذ الشيطان في ملك الرحمن أتم من نفاذ الرحمن في ملك نفسه وذلك محال فثبت أن قوله وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ خطاب مع قوم معينين حصلت هذه التوبة لهم
يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى في التخفيف قولان الأول المراد منه إباحة نكاح الأمة عند الضرورة وهو قول مجاهد ومقاتل والباقون قالوا هذا عام في كل أحكام الشرع وفي جميع ما يسره لنا وسهله علينا إحسانا منه الينا ولم يثقل التكليف علينا كما ثقل على بني إسرائيل ونظيره قوله تعالى وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ( الأعراف 157 ) وقوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) وقوله وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( جئتكم بالحنيفية السهلة السمحة )
المسألة الثانية قال القاضي هذا يدل على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى إذ لو كان كذلك فالكافرين يخلق فيه الكفر ثم يقول له لا تكفر فهذا أعظم وجوه التثقيل ولا يخلق فيه الايمان ولا قدرة

للعبد على خلق الايمان ثم يقول له آمن وهذا أعظم وجوه التثقيل قال ويدل أيضا على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع لأنه أعظم وجوه التثقيل
والجواب أنه معارض بالعلم والداعي وأكثر ما ذكرناه
ثم قال وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً والمعنى أنه تعالى لضعف الانسان خفف تكليفه ولم يثقل والأقرب أنه يحمل الضعف في هذا الموضع لا على ضعف الخلقة بل يحمل على كثرة الدواعي إلى اتباع الشهوة واللذة فيصير ذلك كالوجه في أن يضعف عن احتمال خلافه وإنما قلنا ان هذا الوجه أولى لأن الضعف في الخلقة والقوة لو قوى الله داعيته إلى الطاعة كان في حكم القوي والقوي في الخلقة والآلة إذا كان ضعيف الدواعي إلى الطاعة صار في حكم الضعيف فالتأثير في هذا الباب لضعف الداعية وقوتها لا لضعف البدن وقوته هذا كله كلام القاضي وهو كلام حسن ولكنه يهدم أصله وذلك لما سلم أن المؤثر في وجود الفعل وعدمه قوة الداعية وضعفها فلو تأمل لعلم أن قوة الداعية وضعفها لا بد له من سبب فان كان ذلك لداعية أخرى من العبد لزم التسلسل وإن كان الكل من الله فذاك هو الحق الذي لا محيد عنه وبطل القول بالاعتزال بالكلية والله أعلم
المسألة الثالثة روي عن ابن عباس أنه قال ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ ( النساء 26 ) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ( النساء 27 ) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ( النساء 116 ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ ( النساء 40 ) وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ( النساء 110 ) مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ ( آل عمران 147 )
ويقول محمد الرازي مصنف هذا الكتاب ختم الله له بالحسنى اللهم اجعلنا بفضلك ورحمتك أهلا لها يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين
النوع الثامن من التكاليف المذكورة في هذه السورة
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً
اعلم أن في كيفية النظم وجيهن الأول أنه تعالى لما شرح كيفية التصرف في النفوس بسبب النكاح ذكر بعده كيفية التصرف في الأموال والثاني قال القاضي لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإيفاء المهور والنفقات بين من بعد كيف التصرف في الأموال فقال ضَعِيفاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ

وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى خص الأكل ههنا بالذكر وإن كانت سائر التصرفات الواقعة على الوجه الباطل محرمة لما أن المقصود الأعظم من الأموال الأكل ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 )
المسألة الثانية ذكروا في تفسير الباطل وجهين الأول أنه اسم لكل ما لا يحل في الشرع كالربا والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة وجحد الحق وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه يقتضي كونها مجملة لأنه يصير تقدير الآية لا تأكلوا أموالكم التي جعلتموها بينكم بطريق غير مشروع فان الطرق المشروعة لما لم تكن مذكورة ههنا على التفصيل صارت الآية مجملة لا محالة والثاني ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله عنهم أن الباطل هو كل ما يؤخذ من الانسان بغير عوض وبهذا التقدير لا تكون الآية مجملة لكن قال بعضهم إنها منسوخة قالوا لما نزلت هذه الآية تحرج الناس من أن يأكلوا عند أحد شيئا وشق ذلك على الخلق فنسخه الله تعالى بقوله في سورة النور لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ ( النور 61 ) الآية وأيضا ظاهر الآية إذا فسرنا الباطل بما ذكرناه تحرم الصدقات والهبات ويمكن أن يقال هذا ليس بنسخ وإنما هو تخصيص ولهذا روى الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود أنه قال هذه الآية محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة
المسألة الثالثة قوله تعالى لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ يدخل تحته أكل مال الغير بالباطل وأكل مال نفسه بالباطل لأن قوله أَمْوالَكُمْ يدخل فيه القسمان معا كقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ يدل على النهي عن قتل غيره وعن قتل نفسه بالباطل أما أكل مال نفسه بالباطل فهو إنفاقه في معاصي الله وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه
ثم قال إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي تِجَارَة ً بالنصب والباقون بالرفع أما من نصب فعلى ( كان ) الناقصة والتقدير إلا أن تكون التجارة تجارة وأما من رفع فعلى ( كان ) التامة والتقدير إلا أن توجد وتحصل تجارة وقال الواحدي والاختيار الرفع لأن من نصب أضمر التجارة فقال تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة والاضمار قبل الذكر ليس بقوى وإن كان جائزا
المسألة الثانية قوله إِلا فيه وجهان الأول أنه استثناء منقطع لأن التجارة عن تراض ليس من جنس أكل المال بالباطل فكان ( إلا ) ههنا بمعنى ( بل ) والمعنى لكل يحل أكله بالتجارة عن تراض الثاني ان من الناس من قال الاستثناء متصل وأضمر شيئاً فقال التقدير لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وإن تراضيتم كالربا وغيره إلا أن تكون تجارة عن تراض
واعلم أنه كما يحل المستفاد من التجارة فقد يحل أيضاً المال المستفاد من الهبة والوصية والارث وأخذ الصدقات والمهر وأروش الجنايات فان أسباب الملك كثيرة سوى التجارة

فان قلنا إن الاستثناء منقطع فلا إشكال فانه تعالى ذكر ههنا سبباً واحد من أسباب الملك ولم يذكر سائرها لا بالنفي ولا باثبات
وإن قلنا الاستثناء متصل كان ذلك حكما بأن غير التجارة لا يفيد الحل وعند هذا لا بد إما من النسخ أو التخصيص
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمة الله عليه النهي في المعاملات يدل على البطلان وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يدل عليه واحتج الشافعي على صحة قوله بوجوه الأول أن جميع الأموال مملوكة لله تعالى فاذا أذن لبعض عبيده في بعض التصرفات كان ذلك جاريا مجرى ما إذا وكل الانسان وكيلا في بعض التصرفات ثم إن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول الموكل فذاك غير منعقد بالاجماع فاذا كان التصرف الواقع على خلاف قول المالك المجازي لا ينعقد فبأن يكون التصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي غير منعقد كان أولى وثانيها أن هذه التصرفات الفاسدة إما أن تكون مستلزمة لدخول المحرم المنهي عنه في الوجود وإما أن لا تكون فان كان الأول وجب القول ببطلانها قياسا على التصرفات الفاسدة والجامع السعي في أن لا يدخل منشأ النهي في الوجود وإن كان الثاني وجب القول بصحتها قياسا على التصرفات الصحيحة والجامع كونها تصرفات خالية عن المفسد فثبت أنه لا بد من وقوع التصرف على هذين الوجهين فأما القول بتصرف لا يكون صحيحا ولا باطلا فهو محال وثالثها أن قوله لا تبيعوا الدرهم بدرهمين كقوله لا تبيعوا الحر بالعبد فكما أن هذا النهي باللفظ لكنه نسخ للشريعة فكذا الأول وإذا كان ذلك نسخا للشريعة بطل كونه مفيداً للحكم والله أعلم
المسألة الرابعة قال أبو حنيفة رحمة الله عليه خيار المجلس غير ثابت في عقود المعاوضات المحضة وقال الشافعي رحمة الله عليه ثابت احتج أبو حنيفة بالنصوص أولها هذه الآية فان قوله إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ ظاهره يقتضي الحل عند حصول التراضي سواء حصل التفرق أو لم يحصل وثانيها قوله أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد عن نفسه وثالثها قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه ) وقد حصلت الطيبة ههنا بعقد البيع فوجب أن يحصل الحل ورابعها قوله عليه الصلاة والسلام ( من ابتاع طعاما لا يبعه حتى يقبضه ) جوز بيعه بعد القبض وخامسها ما روي أنه عليه السلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصيعان وأباح بيعه إذا جرى فيه الصيعان ولم يشترط فيه الافتراق وسادسها قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ) واتفقوا على أنه كما اشترى حصل العتق وذلك يدل على أنه يحصل الملك بمجرد العقد
واعلم أن الشافعي يسلم عموم هذه النصوص لكنه يقول أنتم أثبتم خيار الرؤية في شراء ما لم يره المشتري بحديث اتفق المحدثون على ضعفه فنحن أيضاً نثبت خيار المجلس بحديث اتفق علماء الحديث على قبوله وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا ) وتأويلات أصحاب أبي حنيفة لهذا الخبر وأجوبتها مذكورة في الخلافيات والله أعلم
قوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً اتفقوا على أن هذا نهي عن أن يقتل بعضهم

بعضا وإنما قال أَنفُسَكُمْ لقوله عليه السلام ( المؤمنون كنفس واحدة ) ولأن العرب يقولون قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم لأن قتل بعضهم يجري مجرى قتلهم واختلفوا في أن هذا الخطاب هل هو نهي لهم عن قتلهم أنفسهم فانكره بعضهم وقال إن المؤمن مع إيمانه لا يجوز أن ينهى عن قتل نفسه لأنه ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه وذلك لأن الصارف عنه في الدنيا قائم وهو الألم الشديد والذم العظيم والصارف عنه أيضا في الآخرة قائم وهو استحقاق العذاب العظيم وإذا كان الصارف خالصا امتنع منه أن يفعل ذلك وإذا كان كذلك لم يكن للنهي عنه فائدة وإنما يمكن أن يذكر هذا النهي فيمن يعتقد في قتل نفسه ما يعتقده أهل الهند وذلك لا يتأتى من المؤمن ويمكن أن يجاب عنه بأن المؤمن مع كونه مؤمناً بالله واليوم الآخر قد يلحقه من الغم والأذية ما يكون القتل عليه أسهل من ذلك ولذلك نرى كثيرا من المسلمين قد يقتلون أنفسهم بمثل السبب الذي ذكرناه وإذا كان كذلك كان في النهي عنه فائدة وأيضا ففيه احتمال آخر كأنه قيل لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من القتل والردة والزنا بعد الاحصان ثم بين تعالى أنه رحيم بعباده ولأجل رحمته نهاهم عن كل ما يستوجبون به مشقة أو محنة وقيل إنه تعالى أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم وكان بكم يا أمة محمد رحيما حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة
ثم قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً
واعلم أن فيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن قوله وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ إلى ماذا يعود على وجوه الأول قال عطاء إنه خاص في قتل النفس المحرمة لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات الثاني قال الزجاج إنه عائد إلى قتل النفس وأكل المال بالباطل لأنهما مذكوران في آية واحدة والثالث قال ابن عباس إنه عائد إلى كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هذا الموضع
المسألة الثانية إنما قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْواناً لأن في جملة ما تقدم قتل البعض للبعض وقد يكون ذلك حقا كالقود وفي جملة ما تقدم أخذ المال وقد يكون ذلك حقا كما في الدية وغيرها فلهذا السبب شرطه تعالى في ذلك الوعيد
المسألة الثالثة قالت المعتزلة هذه الآية دالة على القطع بوعيد أهل الصلاة قالوا وقوله فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وان كان لا يدل على التخليد إلا أن كل من قطع بوعيد الفساق قال بتخليدهم فيلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر لأنه لا قائل بالفرق والجواب عنه بالاستقصاء قد تقدم في مواضع إلا أن الذي نقوله ههنا ان هذا مختص بالكفار لأنه قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْواناً وَظُلْماً ولا بد من الفرق بين العدوان وبين الظلم دفعا للتكرير فيحمل الظلم على ما إذا كان قصده التعدي على تكاليف الله ولا شك أن من كان كذلك كان كافراً لا يقال أليس أنه وصفهم بالايمان فقال ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فكيف يمكن أن يقال المراد بهم الكفار لأنا نقول مذهبكم أن من دخل تحت هذا الوعيد لا يكون مؤمنا ألبتة فلا بد على هذا المذهب أن تقولوا أنهم كانوا مؤمنين ثم لما أتوا بهذه الأفعال ما بقوا على وصف الايمان فاذا كان لا بد لكم من القول بهذا الكلام فلم لا يصح هذا الكلام منا أيضا في تقرير ما قلناه والله أعلم

ثم أنه تعالى ختم الآية فقال وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً
واعلم أن جميع الممكنات بالنسبة إلى قدرة الله على السوية وحينئذ يمتنع أن يقال ان بعض الأفعال أيسر عليه من بعض بل هذا الخطاب نزل على القول المتعارف فيما بيننا كقوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أو يكون معناه المبالغة في التهديد وهو أن أحداً لا يقدر على الهرب منه ولا على الامتناع عليه
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً
اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر الوعيد أتبعه بتفصيل ما يتعلق به فذكر هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى من الناس من قال جميع الذنوب والمعاصي كبائر روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله فان الله تعالى لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعا عن الإسلام أو جاحدا فريضة أو مكذبا بقدر واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه
الحجة الأولى هذه الآية فان الذنوب لو كانت بأسرها كبائر لم يصح الفصل بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر
الحجة الثانية قوله تعالى وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ( القمر 53 ) وقوله لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 )
الحجة الثالثة ان الرسول عليه الصلاة والسلام نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر كقوله الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ وذلك يدل على أن منها ما ليس من الكبائر
الحجة الرابعة قوله تعالى وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ( الحجرات 7 ) وهذا صريح في أن المنهيات أقسام ثلاثة أولها الكفر وثانيها الفسوق وثالثها العصيان فلا بد من فرق بين الفسوق وبين العصيان ليصح العطف وما ذاك إلا لما ذكرنا من الفرق بين الصغائر وبين الكبائر فالكبائر هي الفسوق والصغائر هي العصيان واحتج ابن عباس بوجهين أحدهما كثرة نعم من عصى والثاني إجلال من عصى فان اعتبرنا الأول فنعم الله غير متناهية كما قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( النحل 18 ) وان اعتبرنا الثاني فهو أجل الموجودات وأعظمها وعلى التقديرين وجب أن يكون عصيانه في غاية الكبر فثبت أن كل ذنب فهو كبيرة
والجواب من وجهين الأول كما أنه تعالى أجل الموجودات وأشرفها فكذلك هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين وكل ذلك يوجب خفة الذنب الثاني هب أن الذنوب كلها كبيرة من حيث أنها ذنوب ولكن بعضها أكبر من بعض وذلك يوجب التفاوت

إذا ثبت أن الذنوب على قسمين بعضها صغائر وبعضها كبائر فالقائلون بذلك فريقان منهم من قال الكبيرة تتميز عن الصغيرة في نفسها وذاتها ومنهم من قال هذا الامتياز إنما يحصل لا في ذواتها بل بحسب حال فاعليها ونحن نشرح كل واحد من هذين القولين
أما القول الأول فالذاهبون اليه والقائلون به اختلفوا اختلافا شديداً ونحن نشير إلى بعضها فالأول قال ابن عباس كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة نحو قتل النفس المحرمة وقذف المحصنة والزنا والربا وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف الثاني قال ابن مسعود افتتحوا سورة النساء فكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثين آية فهو كبيرة ثم قال مصداق ذلك إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 ) الثالث قال قوم كل عمد فهو كبيرة واعلم أن هذه الأقوال ضعيفة
أما الأول فلأن كل ذنب لا بد وأن يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب في الآجل فالقول بأن كل ما جاء في القرآن مقرونا بالوعيد فهو كبيرة يقتضي أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه
وأما الثاني فهو أيضا ضعيف لأن الله تعالى ذكر كثيراً من الكبائر في سائر السور ولا معنى لتخصيصها بهذه السورة
وأما الثالث فضعيف أيضا لأنه ان أراد بالعمد أنه ليس بساه عن فعله فما هذا حاله هو الذي نهى الله عنه فيجب على هذا أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه وان أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية فمعلوم أن اليهود والنصارى يكفرون بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهم لا يعلمون أنه معصية وهو مع ذلك كفر كبير فبطلت هذه الوجوه الثلاثة وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق بين الكبائر والصغائر فقال فهذا كله قول من قال الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها
وأما القول الثاني وهو قول من يقول الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب اعتبار أحوال فاعليها فهؤلاء الذين يقولون إن لكل طاعة قدرا من الثواب ولكل معصية قدرا من العقاب فاذا أتى الانسان بطاعة واستحق بها ثوابا ثم أتى بمعصية واستحق بها عقابا فههنا الحال بين ثواب الطاعة وعقاب المعصية بحسب القسمة العقلية يقع على ثلاثة أوجه أحدها أن يتعادلا ويتساويا وهذا وإن كان محتملا بحسب التقسيم العقلي إلا أنه دل الدليل السمعي على أنه لا يوجد لأنه تعالى قال فَرِيقٌ فِى الْجَنَّة ِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ ( الشورى 7 ) ولو وجد مثل هذا المكلف وجب أن لا يكون في الجنة ولا في السعير
والقسم الثاني أن يكون ثواب طاعته أزيد من عقاب معصيته وحينئذ ينحبط ذلك العقاب بما يساويه من الثواب ويفضل من الثواب شيء ومثل هذه المعصية هي الصغيرة وهذا الانحباط هو المسمى بالتكفير
والقسم الثالث أن يكون عقاب معصيته أزيد من ثواب طاعته وحينئذ ينحبط ذلك الثواب بما يساويه من العقاب ويفضل من العقاب شيء ومثل هذه المعصية هي الكبيرة وهذا الانحباط هو المسمى بالاحباط وبهذا الكلام ظهر الفرق بين الكبيرة وبين الصغيرة وهذا قول جمهور المعتزلة

واعلم أن هذا الكلام مبني على ول كلها باطلة عندنا أولها أن هذا مبنى على أن الطاعة توجب ثوابا والمعصية توجب عقابا وذلك باطل لأنا بينا في كثير من مواضع هذا الكتاب أن صدور الفعل عن العبد لا يمكن إلا إذا خلق الله فيه داعية توجب ذلك الفعل ومتى كان كذلك امتنع كون الطاعة موجبة للثواب وكون المعصية موجبة للعقاب وثانيها أن بتقدير أن يكون الأمر كذلك إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة فان ثواب مجموع هذه الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة من الخمر مع أن الأمة مجمعة على أن شرب هذه القطرة من الكبائر فان أصروا وقالوا بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقط أبطلوا على أنفسهم أصلهم فانهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم فان دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد وثالثها أن نعم الله تعالى كثيرة وسابقة على طاعات العبيد وتلك النعم السابقة موجبة لهذه الطاعات فكان أداء الطاعات أدار لما وجب بسبب النعم السابقة ومثل هذا لا يوجب في المستقبل شيئاً آخر وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون شيء من الطاعات موجبا للثواب أصلا وإذا كان كذلك فكل معصية يؤتى بها فان عقابها يكون أزيد من ثواب فاعلها فوجب أن يكون جميع المعاصي كبائر وذلك أيضاً باطل ورابعها أن هذا الكلام مبني على القول بالاحباط وقد ذكرنا الوجوه الكثيرة في إبطال القول بالاحباط في سورة البقرة فثبت أن هذا الذي ذهبت المعتزلة اليه في الفرق بين الصغيرة والكبيرة قول باطل وبالله التوفيق
المسألة الثانية اختلف الناس في أن الله تعالى هل ميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر أم لا فالأكثرون قالوا إنه تعالى لم يميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر لأنه تعالى لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر فاذا عرف العبد أن الكبائر ليست إلا هذه الأصناف المخصوصة عرف أنه متى احترز عنها صارت صغائره مكفرة فكان ذلك إغراءا له بالاقدام على تلك الصغائر والاغراء بالقبيح لا يليق بالجملة أما إذا لم يميز الله تعالى كل الكبائر عن كل الصغائر ولم يعرف في شيء من الذنوب أنه صغيرة ولا ذنب يقدم عليه إلا ويجوز كونه كبيرة فيكون ذلك زاجراً له عن الاقدام عليه قالوا ونظير هذا في الشريعة إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات وليلة القدر في ليالي رمضان وساعة الاجابة في ساعات الجمعة ووقت الموت في جميع الأوقات والحاصل أن هذه القاعدة تقتضي أن لا يبين الله تعالى في شيء من الذنوب أنه صغيرة وأن لا يبين أن الكبائر ليست إلا كذا وكذا فانه لو بين ذلك لكان ما عداها صغيرة فحينئذ تصير الصغيرة معلومة ولكن يجوز أن يبين في بعض الذنوب أنه كبيرة روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما تعدون الكبائر ) فقالوا الله ورسوله أعلم فقال ( الاشراك بالله وقتل النفس المحرمة وعقوق الوالدين والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وقول الزور وأكل الربا وقذف المحصنات الغافلات ) وعن عبدالله بن عمر أنه ذكرها وزاد فيها استحلال آمين البيت الحرام وشرب الخمر وعن ابن مسعود أنه زاد فيها القنوط من رحمة الله واليأس من رحمة الله والأمن من مكر الله وذكر عن ابن عباس أنها سبعة ثم قال هي إلى السبعين أقرب وفي رواية أخرى إلى السبعمائة أقرب والله أعلم

المسألة الثالثة احتج أبو القاسم الكعبي بهذه الآية على القطع بوعيد أصحاب الكبائر فقال قد كشف الله بهذه الآية الشبهة في الوعيد لأنه تعالى بعد أن قدم ذكر الكبائر بين أن من اجتنبها يكفر عن سيآته وهذا يدل على أنهم إذا لم يجتنبوها فلا تكفر ولو جاز أن يغفر تعالى لهم الكبائر والصغائر من غير توبة لم يصح هذا الكلام
وأجاب أصحابنا من وجوه الأول انكم إما أن تستدلوا بهذه الآية من حيث إنه تعالى لما ذكر أن عند اجتناب الكبائر يكفر السيآت وجب أن عند عدم اجتناب الكبائر لا يكفرها لأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه وهذا باطل لأن عند المعتزلة هذا الأصل باطل وعندنا انه دلالة ظنية ضعيفة وإما أن تستدلوا به من حيث أن المعلق بكلمة ( إن ) على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء وهذا أيضا ضعيف ويدل عليه آيات إحداها قوله وَاشْكُرُواْ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( البقرة 172 ) فالشكر واجب سواء عبد الله أو لم يعبد وثانيها قوله تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ( البقرة 283 ) وأداء الأمانة واجب سواء ائتمنه أو لم يفعل ذلك وثالثها فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ( البقرة 282 ) والاستشهاد بالرجل والمرأتين جائز سواء حصل الرجلان أو لم يحصلا ورابعها وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَة ٌ والرهن مشروع سواء وجد الكاتب أو لم يجده وخامسها وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ( النور 33 ) والاكراه على البغاء محرم سواء أردن التحصن أو لم يردن وسادسها وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) والنكاح جائز سواء حصل ذلك الخوف أو لم يحصل وسابعها فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ والقصر جائز سواء حصل الخوف أو لم يحصل وثامنها فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ والثلثان كما أنه حق الثلاثة فهو أيضاً حق الثنتين وتاسعها قوله وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ ( النساء 35 ) وذلك جائز سواء حصل الخوف أو لم يحصل وعاشرها قوله إِن يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ( النساء 35 ) وقد يحصل التوفيق بدون إرادتيهما والحادي عشر قوله وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ ( النساء 130 ) وقد يحصل الغنى بدون ذلك التفرق وهذا الجنس من الآيات فيه كثرة فثبت أن المعلق بكلمة ( إن ) على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء والعجب أن مذهب القاضي عبد الجبار في أصول الفقه هو أن المعلق بكملة ( إن ) على الشيء لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ثم إنه في التفسير استحسن استدلال الكعبي بهذه الآية وذلك يدل على أن حب الانسان لمذهبه قد يلقيه فيما لا ينبغي
الوجه الثاني من الجواب قال أبو مسلم الاصفهاني إن هذه الآية إنما جاءت عقيب الآية التي نهى الله فيها عن نكاح المحرمات وعن عضل النساء وأخذ أموال اليتامى وغير ذلك فقال تعالى إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيناكم عنها كفرنا عنكم ما كان منكم في ارتكابها سالفا وإذا كان هذا الوجه محتملا لم يتعين حمله على ما ذكره المعتزلة وطعن القاضي في هذا الوجه من وجهين الأول أن قوله إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ عام فقصره على المذكور المتقدم لا يجوز الثاني أن قوله إن باجتنابهم في المستقبل هذه المحرمات يكفر الله ما حصل منها في الماضي كلام بعيد لأنه لا يخلو حالهم من أمرين اثنين إما أن يكونوا

قد تابوا من كل ما تقدم فالتوبة قد أزالت عقاب ذلك لاجتناب هذه الكبائر أو لا يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم فمن أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيآت هذا لفظ القاضي في تفسيره
والجواب عن الأول أنا لا ندعي القطع بأن قوله إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ محمول على ما تقدم ذكره لكنا نقول إنه محتمل ومع هذا الاحتمال لا يتعين حمل الآية على ما ذكروه وعن الثاني أن قولك من أين أن اجتناب هذا الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات سؤال لا استدلال على فساد هذا القسم وبهذا القدر لا يبطل هذا الاحتمال وإذا حضر هذا الاحتمال بطل ما ذكرتم من الاستدلال والله أعلم
الوجه الثالث من الجواب عن هذا الاستدلال هو أنا إذا أعطيناهم جميع مراداتهم لم يكن في الآية زيادة على أن نقول إن من لم يجتنب الكبائر لم تكفر سيآته وحينئذ تصير هذه الآية عامة في الوعيد وعمومات الوعيد ليست قليلة فما ذكرناه جوابا عن سائر العمومات كان جوابا عن تمسكهم بهذه الآية فلا أعرف لهذه الآية مزيد خاصية في هذا الباب وإذا كان كذلك لم يبق لقول الكعبي إن الله قد كشف الشبهة بهذه الآية عن هذه المسألة وجه
الوجه الرابع أن هذه الكبائر قد يكون فيها ما يكون كبيرا بالنسبة إلى شيء ويكون صغيراً بالنسبة إلى شيء آخر وكذا القول في الصغائر إلا أن الذي يحكم بكونه كبيرا على الاطلاق هو الكفر وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يكون المراد بقوله إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ الكفر وذلك لأن الكفر أنواع كثيرة منها الكفر بالله وبأنبيائه وباليوم الآخر وشرائعه فكان المراد أن من اجتنب عن الكفر كان ما وراءه مغفورا وهذا الاحتمال منطبق موافق لصريح قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) وإذا كان هذا محتملا بل ظاهراً سقط استدلالهم بالكلية وبالله التوفيق
المسألة الرابعة قالت المعتزلة إن عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر وعندنا أنه لا يجب عليه شيء بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان وقد تقدم ذكر دلائل هذه المسألة
ثم قال تعالى وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ المفضل عن عاصم يَكْفُرْ وَيُدْخِلْكُمْ بالياء في الحرفين على ضمير الغائب والباقون بالنون على استئناف الوعد وقرأ نافع مُّدْخَلاً بفتح الميم وفي الحج مثله والباقون بالضم ولم يختلفوا في مُدْخَلَ صِدْقٍ بالضم فبالفتح المراد موضع الدخول وبالضم المراد المصدر وهو الادخال أي ويدخلكم إدخالا كريما وصف الادخال بالكرم بمعنى أن ذلك الادخال يكون مقرونا بالكرم على خلاف من قال الله فيهم الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ ( الفرقان 34 )
المسألة الثانية أن مجرد الاجتناب عن الكبائر لا يوجب دخول الجنة بل لا بد معه من الطاعات فالتقدير ان أتيتم بجميع الواجبات واجتنبتم عن جميع الكبائر كفرنا عنكم بقية السيئات وأدخلناكم الجنة فهذا أحد ما يوجب الدخول في الجنة ومن المعلوم أن عدم السبب الواحد لا يوجب عدم المسبب بل ههنا سبب آخر هو السبب الأصلي القوي وهو فضل الله وكرمه ورحمته كما قال قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ( يونس 58 ) والله أعلم

وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيماً
اعلم أن في النظم وجهين الأول قال القفال رحمه الله انه تعالى لما نهاهم في الآية المتقدمة عن أكل الأموال بالباطل وعن قتل النفس أمرهم في هذه الآية بما سهل عليهم ترك هذه المنهيات وهو أن يرضى كل أحد بما قسم الله له فانه إذا لم يرض بذلك وقع في الحسد واذا وقع في الحسد وقع لا محالة في أخذ الأموال بالباطل وفي قتل النفوس فإما إذا رضي بما قدر الله أمكنه الاحتراز عن الظلم في النفوس وفي الأموال
الوجه الثاني في كيفية النظم هو أن أخذ المال بالباطل وقتل النفس من أعمال الجوارح فأمر أولا بتركهما ليصير الظاهر طاهراً عن الأفعال القبيحة وهو الشريعة ثم أمر بعده بترك التعرض لنفوس الناس وأموالهم بالقلب على سبيل الحسد ليصير الباطن طاهرا عن الاخلاق الذميمة وذلك هو الطريقة ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى التمني عندنا عبارة عن ارادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون ولهذا قلنا انه تعالى لو أراد من الكافر أن يؤمن مع علمه بأنه لا يؤمن لكان متمنيا وقالت المعتزلة النهي عن قول القائل ليته وجد كذا أو ليته لم يوجد كذا وهذا بعيد لأن مجرد اللفظ إذا لم يكن له معنى لا يكون تمنيا بل لا بد وأن يبحث عن معنى هذا اللفظ ولا معنى له إلا ما ذكرناه من إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون
المسألة الثانية اعلم أن مراتب السعادات إما نفسانية أو بدنية أو خارجية
أما السعادات النفسانية فنوعان أحدهما ما يتعلق بالقوة النظرية وهو الذكاء التام والحدس الكامل والمعارف الزائدة على معارف الغير بالكمية والكيفية وثانيهما ما يتعلق بالقوة العملية وهي العفة التي هي وسط بين الخمود والفجور والشجاعة التي هي وسط بين التهور والجبن واستعمال الحكمة العملية الذي هو توسط بين البله والجربزة ومجموع هذه الأحوال هو العدالة
وأما السعادات البدنية فالصحة والجمال والعمر الطويل في ذلك مع اللذة والبهجة
وأما السعادات الخارجية فهي كثرة الأولاد الصلحاء وكثرة العشائر وكثرة الأصدقاء والأعوان والرياسة التامة ونفاذ القول وكونه محبوبا للخلق حسن الذكر فيهم مطاع الأمر فيهم فهذا هو الاشارة الى مجامع السعادات وبعضها فطرية لا سبيل للكسب فيه وبعضها كسبية وهذا الذي يكون كسبيا متى تأمل العاقل فيه يجده أيضا محض عطاء الله فانه لا ترجيح للدواعي وإزالة العوائق وتحصيل الموجبات وإلا

فيكون سبب السعي والجد مشتركا فيه ويكون الفوز بالسعادة والوصول الى المطلوب غير مشترك فيه فهذا هو أقسام السعادات التي يفضل الله بعضهم على بعض فيها
المسألة الثانية أن الانسان إذا شاهد أنواع الفضائل حاصلة لانسان ووجد نفسه خاليا عن جملتها أو عن أكثرها فحينئذ يتألم قلبه ويتشوش خاطره ثم يعرض ههنا حالتان إحداهما أن يتمنى زوال تلك السعادات عن ذلك الإنسان والأخرى أن لا يتمنى ذلك بل يتمنى حصول مثلها له أما الأول فهو الحسد المذموم لأن المقصود الأول لمدبر العالم وخالقه الاحسان الى عبيده والجود اليهم وإفاضة أنواع الكرم عليهم فمن تمنى زوال ذلك فكأنه اعترض على الله تعالى فيما هو المقصود بالقصد الأول من خلق العالم وإيجاد المكلفين وأيضا ربما اعتقد في نفسه أنه أحق بتلك النعم من ذلك الانسان فيكون هذا اعتراضا على الله وقدحا في حكمته وكل ذلك مما يلقيه في الكفر وظلمات البدعة ويزيل عن قلبه نور الايمان وكما أن الحسد سبب للفساد في الدين فكذلك هو السبب للفساد في الدنيا فانه يقطع المودة والمحبة والموالاة ويقلب كل ذلك الى أضدادها فلهذا السبب نهى الله عباده عنه فقال وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
واعلم أن سبب المنع من هذا الحسد يختلف باختلاف أصول الأديان أما على مذهب أهل السنة والجماعة فهو أنه تعالى فعال لما يريد لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 ) فلا اعتراض عليه في فعله ولا مجال لأحد في منازعته وكل شيء صنعه ولا علة لصنعه واذا كان كذلك فقد صارت أبواب القيل والقال مسدودة وطرق الاعتراضات مردودة وأما على مذهب المعتزلة فهذا الطريق أيضا مسدود لأنه سبحانه علام الغيوب فهو أعرف من خلقه بوجوه المصالح ودقائق الحكم ولهذا المعنى قال وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ ( الشورى 27 ) وعلى التقديرين فلا بد لكل عاقل من الرضا بقضاء الله سبحانه ولهذا المعنى حكى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن رب العزة أنه قال ( من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر لنعمائي كتبته صديقا وبعثته يوم القيامة مع الصديقين ومن لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر لنعمائي فليطلب ربا سواي ) فهذا هو الكلام فيما إذا تمنى زوال تلك النعمة عن ذلك الانسان ومما يؤكد ذلك ما روى ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتقوم مقامها فان الله هو رازقها ) والمقصود من كل ذلك المبالغة في المنع من الحسد أما إذا لم يتمن ذلك بل تمنى حصول مثلها له فمن الناس من جوز ذلك إلا أن المحققين قالوا هذا أيضا لا يجوز لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ومضرة عليه في الدنيا فلهذا السبب قال المحققون إنه لا يجوز للانسان أن يقول اللهم أعطني دارا مثل دار فلان وزوجة مثل زوجة فلان بل ينبغي أن يقول اللهم أعطني ما يكون صلاحا في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي وإذا تأمل الانسان كثيرا لم يجد دعاء أحسن مما ذكر الله في القرآن تعليما لعباده وهو قوله فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً وَقِنَا ( البقرة 201 ) وروى قتادة عن الحسن أنه قال لا يتمن أحد المال فلعل هلاكه في ذلك المال كما في حق ثعلبة وهذا هو المراد بقوله في هذه الآية وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ
المسألة الرابعة ذكروا في سبب النزول وجوها الأول قال مجاهد قالت أم سلمة يا رسول الله يغزو

الرجال ولا نغزو ولهم من الميراث ضعف ما لنا فليتنا كنا رجالا فنزلت الآية الثاني قال السدي لما نزلت آية المواريث قال الرجال نرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا في الميراث وقال النساء نرجو أن يكون الوزر علينا علينا نصف ما على الرجال كما في الميراث فنزلت الآية الثالث لما جعل الله الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء نحن أحوج لأنا ضعفاء وهم أقدر على طلب المعاش فنزلت الآية الرابع أتت واحدة من النساء الى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت رب الرجال والنساء واحد وأنت الرسول الينا واليهم وأبونا آدم وأمنا حواء فما السبب في أن الله يذكر الرجال ولا يذكرنا فنزلت الآية فقالت وقد سبقنا الرجال بالجهاد فما لنا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن للحامل منكن أجر الصائم القائم فاذا ضربها الطلق لم يدر أحد ما لها من الأجر فاذا أرضعت كان لها بكل مصة أجر إحياء نفس )
ثم قال تعالى لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبْنَ
واعلم أنه يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما يتعلق بأحوال الدنيا وأن يكون ما يتعلق بأحوال الآخرة وأن يكون ما يتعلق بهما
أما الاحتمال الأول ففيه وجوه الأول أن يكون المراد لكل فريق نصيب مما اكتسب من نعيم الدنيا فينبغي أن يرضى بما قسم الله له الثاني كل نصيب مقدر من الميراث على ما حكم الله به فوجب أن يرضى به وأن يترك الاعتراض والاكتساب على هذا القول بمعنى الاصابة والاحراز الثالث كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان فأبطل الله ذلك بهذه الآية وبين أن لكل واحد منهم نصيبا ذكرا كان أو أنثى صغيرا كان أو كبيرا
وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد بهذه الآية ما يتعلق بأحوال الآخرة ففيه وجوه الأول المراد لكل أحد قدر من الثواب يستحقه بكرم الله ولطفه فلا تتمنوا خلاف ذلك الثاني لكل أحد جزاء مما اكتسب من الطاعات فلا ينبغي أن يضيعه بسبب الحسد المذموم وتقديره لا تضيع مالك وتتمن ما لغيرك الثالث للرجال نصيب مما اكتسبوا سبب قيامهم بالنفقة على النساء وللنساء نصيب مما اكتسبن يريد حفظ فروجهن وطاعة أزواجهن وقيامها بمصالح البيت من الطبخ والخبز وحفظ الثياب ومصالح المعاش فالنصيب على هذا التقدير هو الثواب
وأما الاحتمال الثالث فهو أن يكون المراد من الآية كل هذه الوجوه لأن هذا اللفظ محتمل ولا منافاة
ثم قال تعالى وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير والكسائي وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ بغير همز بشرط أن يكون أمراً من السؤال وبشرط أن يكون قبله واو أو فاء والباقون بالهمز في كل القرآن
أما الأول فنقل حركة الهمزة الى السين واستغنى عن ألف الوصل فحذفها
وأما الثاني فعلى الأصل واتفقوا في قوله وَلْيَسْئَلُواْ أنه بالهمزة لأنه أمر لغائب
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي قوله مِن فَضْلِهِ في موضع المفعول الثاني في قول أبي

الحسن ويكون المفعول الثاني محذوفا في قياس قول سيبويه والصفة قائمة مقامه كأنه قيل واسألوا الله نعمته من فضله
المسألة الثالثة قوله وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ تنبيه على أن الانسان لا يجوز له أن يعين شيئاً في الطلب والدعاء ولكن يطلب من فضل الله ما يكون سبباً لصلاحه في دينه ودنياه على سبيل الاطلاق
ثم قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيماً والمعنى أنه تعالى هو العالم بما يكون صالحا للسائلين فليقتصر السائل على المجمل وليحترز في دعائه عن التعيين فربما كان ذلك محض المفسدة والضرر والله أعلم
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الاٌّ خِ وَبَنَاتُ الاٍّ خْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَة ِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاٍّ خْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه يمكن تفسير الآية بحيث يكون الوالدان والأقربون وراثاً ويمكن أيضا بحيث يكونان موروثا عنهما
أما الأول فهو أن قوله وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِى َ مِمَّا تَرَكَ أي ولكل واحد جعلنا ورثة في تركته ثم كأنه قيل ومن هؤلاء الورثة فقيل هم الوالدان والأقربون وعلى هذا الوجه لا بد من الوقف عند قوله مّمَّا تَرَكَ
وأما الثاني ففيه وجهان الأول أن يكون الكلام على التقديم والتأخير والتقدير ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالى أي ورثة و جَعَلْنَا في هذين الوجهين لا يتعدى إلى مفعولين لأن معنى جَعَلْنَا خلقنا الثاني أن يكون التقدير ولكل قوم جعلناهم موالى نصيب مما ترك الوالدان والأقربون فقوله مَوَالِى َ على هذا القول يكون صفة والموصوف يكون محذوفا والراجع إلى قوله وَلِكُلّ محذوفا والخبر وهو قوله نَّصِيبٍ محذوف أيضا وعلى هذا التقدير يكون جَعَلْنَا معتديا إلى مفعولين والوجهان الأولان أولى لكثرة الاضمار في هذا الوجه
المسألة الثانية لفظ مشترك بين معان أحدها المعتق لأنه ولى نعمته في عتقه ولذلك يسمى مولى النعمة وثانيها العبد المعتق لاتصال ولاية مولاه في إنعامه عليه وهذا كما يسمى الطالب غريما لأن له اللزوم والمطالبة بحقه ويسمى المطلوب غريما لكون الدين لازما له وثالثها الحليف لأن المحالف يلي أمره بعقد اليمين ورابعها ابن العم لأنه يليه بالنصرة للقرابة التي بينهما وخامسها المولى الولي لأنه يليه بالنصرة قال تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ

مَوْلَى لَهُمْ ( محمد 11 ) وسادسها العصبة وهو المراد به في هذه الآية لأنه لا يليق بهذه الآية إلا هذا المعنى ويؤكده ما روى أبو صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا أولى بالمؤمنين من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة ومن ترك كلا فأنا وليه ) وقال عليه الصلاة والسلام ( اقسموا هذا المال فما أبقت السهام فلأولي عصبة ذكر )
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي عقدت بغير ألف وبالتخفيف والباقون بالألف والتخفيف وعقدت أضافت العقد إلى واحد والاختيار عاقدت لدلالة المفاعلة على عقد الحلف من الفريقين
المسألة الثانية الأيمان جمع يمين واليمين يحتمل أن يكون معناه اليد وأن يكون معناه القسم فان كان المراد اليد ففيه مجاز من ثلاثة أوجه أحدها أن المعاقدة مسندة في ظاهر اللفظ إلى الأيدي وهي في الحقيقة مسندة إلى الحالفين والسبب في هذا المجاز أنهم كانوا يضربون صفقة البيع بأيمانهم ويأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد
والوجه الثاني في المجاز وهو أن التقدير والذين عاقدت بحلفهم أيمانكم فحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه وحسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه الثالث أن التقدير والذين عاقدتهم إلا أنه حذف الذكر العائد من الصلة إلى الموصول هذا كله إذا فسرنا اليمين باليد أما عاقدتهم إلا أنه حذف الذكر العائد من الصلة إلى الموصول هذا كله إذا فسرنا اليمين باليد أما إذا فسرناها بالقسم والحلف كانت المعاقدة في ظاهر اللفظ مضافة إلى القسم وإنما حسن ذلك لأن سبب المعاقدة لما كان هو اليمين حسنت هذه الاضافة والقول في بقية المجازات كما تقدم
المسألة الثالثة من الناس من قال هذه الآية منسوخة ومنهم من قال إنها غير منسوخة أما القائلون بالنسخ فهم الذين فسروا الآية بأحد هذه الوجوه التي نذكرها فالأول هو أن المراد بالذين عاقدت أيمانكم الحلفاء في الجاهلية وذلك أن الرجل كان يعاقد غيره ويقول دمي دمك وسلمي سلمك وحربي حربك وترثني وأرثك وتعقل عني وأعقل عنك فيكون لهذا الحليف السدس من الميراث فنسخ ذلك بقوله تعالى وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ( الأنفال 75 ) وبقوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ الثاني أن الواحد منهم كان يتخذ إنسانا أجنبيا ابنا له وهم المسمون بالأدعياء وكانوا يتوارثون بذلك السبب ثم نسخ الثالث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يثبت المؤاخاة بين كل رجلين من أصحابه وكانت تلك المؤاخاة سببا للتوارث واعلم أن على كل هذه الوجوه الثلاثة كانت المعاقدة سببا للتوارث بقوله وَلِكُلٍ جَعَلْنَا ثم ان الله تعالى نسخ ذلك بالآيات التي تلوناها
القول الثاني قول من قال الآية غير منسوخة والقائلون بذلك ذكروا في تأويل الآية وجوها الأول تقدير الآية ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم موالي ورثة فآتوهم نصيبهم أي فآتوا الموالي والورثة نصيبهم فقوله وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ معطوف على قوله الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ والمعنى ان ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به وسمى الله تعالى الوارث مولى والمعنى لا تدفعوا المال إلى الحليف بل إلى المولى والوارث وعلى هذا التقدير فلا نسخ في الآية وهذا تأويل

أبي علي الجبائي الثاني المراد بالذين عاقدت أيمانكم الزوج والزوجة والنكاح يسمى عقدا قال تعالى وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَة َ النّكَاحِ ( البقرة 235 ) فذكر تعالى الوالدين والأقربين وذكر معهم الزوج والزوجة ونظيره آية المواريث في أنه لما بين ميراث الولد والوالدين ذكر معهم ميراث الزوج والزوجة وعلى هذا فلا نسخ في الآية أيضا وهو قول أبي مسلم الاصفهاني الثالث أن يكون المراد بقوله وَالَّذِينَ فِى أَيْمَانِكُمْ الميراث الحاصل بسبب الولاء وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا الرابع أن يكون المراد من الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ الحلفاء والمراد بقوله وَلِكُلٍ جَعَلْنَا النصرة والنصيحة والمصافاة في العشرة والمخالصة في المخالطة فلا يكون المراد التوارث وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا الخامس نقل أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي ابنه عبد الرحمن وذلك أنه رضي الله عنه حلف أن لا ينفق عليه ولا يورثه شيئا من ماله فلما أسلم عبد الرحمن أمره الله أن يؤتيه نصيبه وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا السادس قال الاصم إنه نصيب على سبيل التحفة والهدية بالشيء القليل كما أمر تعالى لمن حضر القسمة أن يجعل له نصيب على ما تقدم ذكره وكل هذه الوجوه حسنة محتملة والله أعلم بمراده
المسألة الرابعة القائلون بأن قوله وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ مبتدأ وخبره قوله وَلِكُلٍ جَعَلْنَا قالوا إنما جاء خبره مع الفاء لتضمن ( الذي ) معنى الشرط فلا جرم وقع خبره مع الفاء وهو قوله وَلِكُلٍ جَعَلْنَا ويجوز أن يكون منصوبا على قولك زيدا فاضربه
المسألة الخامسة قال جمهور الفقهاء لا يرث المولى الأسفل من الأعلى وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد أنه قال يرث لما روى ابن عباس أن رجلا أعتق عبدا له فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ميراثه للغلام المعتق ولأنه داخل في قوله تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ
والجواب عن التمسك بالحديث أنه لعل ذلك المال لما صار لبيت المال دفعه النبي عليه الصلاة والسلام إلى ذلك الغلام لحاجته وفقره لأنه كان مالا لا وارث له فسبيله أن يصرف إلى الفقراء
المسألة السادسة قال الشافعي ومالك رضي الله عنهما من اسلم على يد رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره انه لا يرثه بل ميراثه للمسلمين وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يرثه حجة الشافعي أنا بينا أن معنى هذه الآية ولكل شيء مما تركه الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فقد جعلنا له موالى وهم العصبة ثم هؤلاء العصبة إما الخاصة وهم الورثة وإما العامة وهم جماعة المسلمين فوجب صرف هذا المال إلى العصبة العامة ما لم توجد العصبة الخاصة واحتج أبو بكر الرازي لقوله بأن الآية توجب الميراث للذي والاه وعاقده ثم إنه تعالى نسخه بقوله وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ( الأنفال 75 ) فهذا النسخ إنما يحصل إذا وجد أولو الأرحام فاذا لم يوجدوا لزم بقاء الحكم كما كان
والجواب أنا بينا أنه لا دلالة في الآية على أن الحليف يرث بل بينا أن الآية دالة على أنه لا يرث وبينا أن القول بهذا النسخ باطل
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيداً وهو كلمة وعد للمطيعين وكلمة وعيد للعصاة

والشهيد الشاهد والمشاهد والمراد منه إما علمه تعالى بجميع الجزئيات والكليات وإما شهادته على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه وعلى التقدير الأول الشهيد هو العالم وعلى التقدير الثاني هو المخبر
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً
اعلم أنه تعالى قال وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ( النساء 32 ) وقد ذكرنا أن سبب نزول هذه الآية أن النساء تكلمن في تفضيل الله الرجال عليهن في الميراث فذكر تعالى في هذه الآية أنه إنما فضل الرجال على النساء في الميراث لأن الرجال قوامون على النساء فانهما وإن اشتركا في استمتاع كل واحد منهما بالآخر أمر الله الرجال أن يدفعوا اليهن المهر ويدروا عليهن النفقة فصارت الزيادة من أحد الجانبين مقابلة بالزيادة من الجانب الآخر فكأنه لا فضل ألبتة فهذا هو بيان كيفية النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى القوام اسم لمن يكون مبالغا في القيام بالأمر يقال هذا قيم المرأة وقوامها للذي يقوم بأمرها ويهتم بحفظها قال ابن عباس نزلت هذه الآية في بنت محمد بن سلمة وزوجها سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار فانه لطمها لطمة فنشزت عن فراشه وذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وذكرت هذه الشكاية وأنه لطمها وان أثر اللطمة باق في وجهها فقال عليه الصلاة والسلام ( اقتصي منه ثم قال لها اصبري حتى أنظر ) فنزلت هذه الآية الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء أي مسلطون على أدبهن والأخذ فوق أيديهن فكأنه تعالى جعله أميرا عليها ونافذ الحكم في حقها فلما نزلت هذه الآية قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أردنا أمراً وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير ) ورفع القصاص ثم انه تعالى لما أثبت للرجال سلطنة على النساء ونفاذ أمر عليهن بين أن ذلك معلل بأمرين أحدهما قوله تعالى بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( النساء 34 )
واعلم أن فضل الرجل على النساء حاصل من وجوه كثيرة بعضها صفات حقيقة وبعضها أحكام شرعية أما الصفات الحقيقية فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها الى أمرين إلى العلم وإلى القدرة ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر ولا شك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء في العقل والحزم والقوة والكتابة في الغالب والفروسية والرمي وان منهم الأنبياء والعلماء وفيهم الامامة الكبرى والصغرى والجهاد والأذان والخطبة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق وفي الأنكحة عند الشافعي رضي الله عنه وزيادة النصيب

في الميراث والتعصيب في الميراث وفي تحمل الدية في القتل والخطأ وفي القسامة والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج وإليهم الانتساب فكل ذلك يدل على فضل الرجال على النساء
والسبب الثاني لحصول هذه الفضيلة قوله تعالى وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ يعني الرجل أفضل من المرأة لأنه يعطيها المهر وينفق عليها ثم انه تعالى قسم النساء قسمين فوصف الصالحات منهن بأنهن قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرأ ابن مسعود فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ
المسألة الثانية قوله قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ فيه وجهان الأول قانتات أي مطيعات لله حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ أي قائمات بحقوق الزوج وقدم قضاء حق الله ثم أتبع ذلك بقضاء حق الزوج الثاني أن حال المرأة إما أن يعتبر عند حضور الزوج أو عند غيبته أما حالها عند حضور الزوج فقد وصفها الله بأنها قانتة وأصل القنوت دوام الطاعة فالمعنى أنهن قيمات بحقوق أزواجهن وظاهر هذا إخبار إلا أن المراد منه الأمر بالطاعة
واعلم أن المرأة لا تكون صالحة إلا إذا كانت مطيعة لزوجها لأن الله تعالى قال فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ والألف واللام في الجمع يفيد الاستغراق فهذا يقتضي أن كل امرأة تكون صالحة فهي لا بد وأن تكون قانتة مطيعة قال الواحدي رحمه الله لفظ القنوت يفيد الطاعة وهو عام في طاعة الله وطاعة الأزواج وأما حال المرأة عند غيبة الزوج فقد وصفها الله تعالى بقوله حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ واعلم أن الغيب خلاف الشهادة والمعنى كونهن حافظات بمواجب الغيب وذلك من وجوه أحدها أنها تحفظ نفسها عن الزنا لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها ولئلا يلتحق به الولد المتكون من نطفة غيره وثانيها حفظ ماله عن الضياع وثالثها حفظ منزله عما لا ينبغي وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( خير النساء إن نظرت اليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ) وتلا هذه الآية
المسألة الثالثة ( ما ) في قوله بِمَا حَفِظَ اللَّهُ فيه وجهان الأول بمعنى الذي والعائد اليه محذوف والتقدير بما حفظه الله لهن والمعنى أن عليهن ان يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن فقوله بِمَا حَفِظَ اللَّهُ يجري مجرى ما يقال هذا بذاك أي هذا في مقابلة ذاك
والوجه الثاني أن تكون ( ما ) مصدرية والتقدير بحفظ الله وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول أنهن حافظات للغيب بما حفظ الله إياهن أي لا يتيسر لهن حفظ إلا بتوفيق الله فيكون هذا من باب إضافة المصدر إلى الفاعل والثاني أن المعنى هو أن المرأة إنما تكون حافظة للغيب بسبب حفظهن الله أي بسبب حفظهن حدود الله وأوامره فان المرأة لولا أنها تحاول رعاية تكاليف الله وتجتهد في حفظ أوامره لما أطاعت زوجها وهذا الوجه يكون من باب إضافة المصدر إلى المفعول
واعلم أنه تعالى لما ذكر الصالحات ذكر بعده غير الصالحات فقال وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ
واعلم أن الخوف عبارة عن حال يحصل في القلب عند ظن حدوث أمر مكروه في المستقبل قال

الشافعي رضي الله عنه وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ النشوز قد يكون قولا وقد يكون فعلا فالقول مثل أن كانت تلبيه إذا دعاها وتخضع له بالقول إذا خاطبها ثم تغيرت والفعل مثل أن كانت تقوم اليه إذا دخل عليها أو كانت تسارع إلى أمره وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها ثم إنها تغيرت عن كل ذلك فهذه أمارات دالة على نشوزها وعصيانها فحينئذ ظن نشوزها ومقدمات هذه الأحوال توجب خوف النشوز وأما النشوز فهو معصية الزوج والترفع عليه بالخلاف وأصله من قولهم نشز الشيء إذا ارتفع ومنه يقال للأرض المرتفعة ونشز ونشر
ثم قال تعالى فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رضي الله عنه أما الوعظ فانه يقول لها اتقي الله فان لي عليك حقا وارجعي عما أنت عليه واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو هذا ولا يضربها في هذه الحالة لجواز أن يكون لها في ذلك كفاية فان أصرت على ذلك النشوز فعند ذلك يهجرها في المضجع وفي ضمنه امتناعه من كلامها وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه ولا يزيد في هجره الكلام ثلاثا وأيضا فاذا هجرها في المضجع فان كانت تحب الزوج شق ذلك عليها فتترك النشوز وان كانت تبغضه وافقها ذلك الهجران فكان ذلك دليلا على كمال نشوزها وفيهم من حمل ذلك على الهجران في المباشرة لأن إضافة ذلك إلى المضاجع يفيد ذلك ثم عند هذه الهجرة ان بقيت على النشوز ضربها قال الشافعي رضي الله عنه والضرب مباح وتركه أفضل روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال كنا معاشر قريش تملك رجالنا نساءهم فقدمنا المدينة فوجدنا نساءهم تملك رجالهم فاختلطت نساؤنا بنسائهم فذئرن على أزواجهن فأذن في ضربهن فطاف بحجر نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جمع من النسوان كلهن يشكون أزواجهن فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقد أطاف الليلة بآل محمد سبعون امرأة كلهن يشكون أزواجهن ولا تجدون أولئك خياركم ) ومعناه أن الذين ضربوا أزواجهم ليسوا خيرا ممن لم يضربوا قال الشافعي رضي الله عنه فدل هذا الحديث على أن الأولى ترك الضرب فأما إذا ضربها وجب في ذلك الضرب أن يكون بحيث لا يكون مفضيا إلى الهلاك ألبتة بأن يكون مفرقا على بدنها ولا يوالي بها في موضع واحد ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن وأن يكون دون الأربعين ومن أصحابنا من قال لا يبلغ به عشرين لأنه حد كامل في حق العبد ومنهم من قال ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف أو بيده ولا يضربها بالسياط ولا بالعصا وبالجملة فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه
وأقول الذي يدل عليه أنه تعالى ابتدأ بالوعظ ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع ثم ترقى منه إلى الضرب وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الاخف وجب الاكتفاء به ولم يجز الاقدام على الطريق الأشق والله أعلم
المسألة الثانية اختلف أصحابنا قال بعضهم حكم هذه الآية مشروع على الترتيب فان ظاهر اللفظ وان دل على الجمع إلا أن فحوى الآية يدل على الترتيب قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يعظها بلسانه فان انتهت فلا سبيل له عليها فان أبت هجر مضجعها فان أبت ضربها فان لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين وقال آخرون هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز أما عند تحقق النشوز فلا

بأس بالجمع بين الكل وقال بعض أصحابنا تحرير المذهب أن له عند خوف النشوز أن يعظها وهل له أن يهجرها فيه احتمال وله عند إبداء النشوز أن يعظها أو يهجرها أو يضربها
ثم قال تعالى فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أي إذا رجعن عن النشوز إلى الطاعة عند هذا التأديب فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً أي لا تطلبوا عليهن الضرب والهجران طريقاً على سبيل التعنت والايذاء إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً وعلوه لا بعلو الجهة وكبره لا بكبر الجثة بل هو علي كبير لكمال قدرته ونفاذ مشيئته في كل الممكنات وذكر هاتين الصفتين في هذا الموضع في غاية الحسن وبيانه من وجوه الأول أن المقصود منه تهديد الأزواج على ظلم النسوان والمعنى أنهن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم فالله سبحانه علي قاهر كبير قادر ينتصف لهن منكم ويستوفي حقهن منكم فلا ينبغي أن تغتروا بكونكم أعلى يداً منهن وأكبر درجة منهن الثاني لا تبغوا عليهن إذا أطعنكم لعلو أيديكم فان الله أعلى منكم وأكبر من كل شيء وهو متعال عن أن يكلف إلا بالحق الثالث أنه تعالى مع علوه وكبريائه لا يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن محبتكم فانهن لا يقدرن على ذلك الرابع أنه مع علوه وكبرئايه لا يؤاخذ العاصي إذا تاب بل يغفر له فاذا تابت المرأة عن نشوزها فأنتم أولى بأن تقبلوا توبتها وتتركوا معاقبتها الخامس أنه تعالى مع علوه وكبرئايه اكتفى من العبد بالظواهر ولم يهتك السرائر فأنتم أولى أن تكتفوا بظاهر حال المرأة وأن لا تقعوا في التفتيش عما في قلبها وضميرها من الحب والبغض
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً
اعلم أنه تعالى لما ذكر عند نشوز المرأة أن الزوج يعظها ثم يهجرها ثم يضربها بين أنه لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم فقال وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا إلى آخر الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس خِفْتُمْ أي علمتم قال وهذا بخلاف قوله وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فان ذلك محمول على الظن والفرق بين الموضعين أن في الابتداء يظهر له أمارات النشوز فعند ذلك يحصل الخوف وأما بعد الوعظ والهجر والضرب لما أصرت على النشوز فقد حصل العلم بكونها ناشزة فوجب حمل الخوف ههنا على العلم طعن الزجاج فيه فقال خِفْتُمْ ههنا بمعنى أيقنتم خطأ فانا لو علمنا الشقاق على الحقيقة لم نحتج إلى الحكمين
وأجاب سائر المفسرين بأن وجود الشقاق وإن كان معلوما الا أنا لا نعلم أن ذلك الشقاق صدر عن هذا أو عن ذاك فالحاجة إلى الحكمين لمعرفة هذا المعنى ويمكن أن يقال وجود الشقاق في الحال معلوم ومثل هذا لا يحصل منه خوف إنما الخوف في أنه هل يبقى ذلك الشقاق أم لا فالفائدة في بعث

الحكمين ليست إزالة الشقاق الثابت في الحال فان ذلك محال بل الفائدة إزالة ذلك الشقاق في المستقبل
المسألة الثانية للشقاق تأويلان أحدهما أن كل واحد منهما يفعل ما يشق على صاحبه الثاني أن كل واحد منهما صار في شق بالعداوة والمباينة
المسألة الثالثة قوله شِقَاقَ بَيْنِهِمَا معناه شقاقا بينهما إلا أنه أضيف المصدر إلى الظرف وإضافة المصادر إلى الظروف جائزة لحصولها فيها يقال يعجبني صوم يوم عرفة وقال تعالى بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( سبأ 33 )
المسألة الرابعة المخاطب بقوله فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ من هو فيه خلاف قال بعضهم إنه هو الامام أو من يلي من قبله وذلك لأن تنفيذ الأحكام الشرعية اليه وقال آخرون المراد كل واحد من صالحي الأمة وذلك لأن قوله خِفْتُمْ خطاب للجميع وليس حمله على البعض أولى من حمله على البقية فوجب حمله على الكل فعلى هذا يجب أن يكون قوله فَإِنْ خِفْتُمْ خطابا لجميع المؤمنين ثم قال فَابْعَثُواْ فوجب أن يكون هذا أمراً لآحاد الآمة بهذا المعنى فثبت أنه سواء وجد الامام أو لم يوجد فللصالحين أن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها للاصلاح وأيضا فهذا يجري مجرى دفع الضرر ولكل أحد أن يقوم به
المسألة الخامسة إذا وقع الشقاق بينهما فذاك الشقاق إما أن يكون منهما أو منه أو منها أو يشكل فان كان منها فهو النشوز وقد ذكرنا حكمه وان كان منه فان كان قد فعل فعلا حلالا مثل التزوج بامرأة أخرى أو تسري بجارية عرفت المرأة أن ذلك مباح ونهيت عن الشقاق فان قبلت وإلا كان نشوزا وإن كان بظلم من جهته أمره الحاكم بالواجب وإن كان منهما أو كان الأمر متشابها فالقول أيضاً ما قلناه
المسألة السادسة قال الشافعي رضي الله عنه المستحب أن يبعث الحاكم عدلين ويجعلهما حكمين والأولى أن يكون واحد من أهله وواحد من أهلها لأن أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب وأشد طلباً للصلاح فان كانا أجنبيين جاز وفائدة الحكمين أن يخلو كل واحد منهما بصاحبه ويستكشف حقيقة الحال ليعرف أن رغبته في الاقامة على النكاح أو في المفارقة ثم يجتمع الحكمان فيفعلان ما هو الصواب من إيقاع طلاق أو خلع
المسألة السابعة هل يجوز للحكمين تنفيذ أمر يلزم الزوجين بدون إذنهما مثل أن يطلق حكم الرجل أو يفتدى حكم المرأة بشيء من مالها للشافعي فيه قولان أحدهما يجوز وبه قال مالك واسحق والثاني لا يجوز وهو قول أبي حنيفة وعلى هذا هو وكالة كسائر الوكالات وذكر الشافعي رضي الله عنه حديث علي رضي الله عنه وهو ما روى ابن سيرين عن عبيدة أنه قال جاء رجل وامرأة إلى علي رضي الله عنه ومع كل واحد منهما جمع من الناس فأمرهم علي بأن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ثم قال للحكمين تعرفان ما عليكما عليكما ان رأيتما أن تجمعا فاجمعا وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا فقالت المرأة رضيت بكتاب الله تعالى فيما علي ولي فيه فقال الرجل أما الفرقة فلا فقال علي كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به قال الشافعي رضي الله عنه وفي هذا الحديث لكل واحد من القولين دليل

أما دليل القول الأول فهو أنه بعث من غير رضا الزوجين وقال عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا وأقل ما في قوله عليكما أن يجوز لهما ذلك
وأما دليل القول الثاني أن الزوج لما لم يرض توقف على ومعنى قوله كذبت أي لست بمنصف في دعواك حيث لم تفعل ما فعلت هي ومن الناس من احتج للقول الأول بأنه تعالى سماهما حكمين والحكم هو الحاكم وإذا جعله حاكما فقد مكنه من الحكم ومنهم من احتج للقول الثاني بأنه تعالى لما ذكر الحكمين لم يضف اليهما إلا الاصلاح وهذا يقتضي أن يكون ما وراء الاصلاح غير مفوض اليهما
المسألة الثامنة قوله وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا أي شقاقا بين الزوجين ثم إنه وإن لم يجر ذكرهما إلا أنه جرى ذكر ما يدل عليهما وهو الرجال والنساء
ثم قال تعالى إِن يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله إِن يُرِيدَا وجوه الأول ان يرد الحكمان خيرا وإصلاحا يوفق الله بين الحكمين حتى يتفقا على ما هو خير الثاني ان يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين الثالث إن يرد الزوجان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين الرابع إن يرد الزوجان إصلاحا يوفق الله بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح ولا شك أن اللفظ محتمل لكل هذه الوجوه
المسألة الثانية أصل التوفيق الموافقة وهي المساواة في أمر من الأمور فالتوفيق اللطف الذي يتفق عنده فعل الطاعة والآية دالة على أنه لا يتم شيء من الأغراض والمقاصد إلا بتوفيق الله تعالى والمعنى أنه إن كانت نية الحكمين إصلاح ذات البين يوفق الله بين الزوجين
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً والمراد منه الوعيد للزوجين وللحكمين في سلوك ما يخالف طريق الحق
النوع التاسع من التكاليف المذكورة في هذه السورة
وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً
واعلم أنه تعالى لما أرشد كل واحد من الزوجين إلى المعاملة الحسنة مع الآخر وإلى إزالة الخصومة والخشونة أرشد في هذه الآية إلى سائر الأخلاق الحسنة وذكر منها عشرة أنواع
النوع الأول قوله واعبدوا الله قال ابن عباس المعنى وحدوه واعلم أن العبادة عبارة عن كل

فعل وترك يؤتى به لمجرد أمر الله تعالى بذلك وهذا يدخل فيه جميع أعمال القلوب وجميع أعمال الجوارح فلا معنى لتخصيص ذلك بالتوحيد وتحقيق الكلام في العبادة قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى قال ابن عباس المعنى وحدوه واعلم أن العبادة عبارة عن كل فعل وترك يؤتى به لمجرد أمر الله تعالى بذلك وهذا يدخل فيه جميع أعمال القلوب وجميع أعمال الجوارح فلا معنى لتخصيص ذلك بالتوحيد وتحقيق الكلام في العبادة قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ
النوع الثاني قوله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وذلك لأنه تعالى لما أمر بالعبادة بقوله وَاعْبُدُواْ اللَّهَ أمر بالاخلاص في العبادة بقوله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً لأن من عبد مع الله غيره كان مشركا ولا يكون مخلصا ولهذا قال تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينة 5 )
النوع الثالث قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً واتفقوا على أن ههنا محذوفا والتقدير وأحسنوا بالوالدين إحسانا كقوله فَضَرْبَ الرّقَابِ ( محمد 4 ) أي فاضربوها ويقال أحسنت بفلان وإلى فلان قال كثير
أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة لدنيا ولا مقلية إن تقلت
واعلم أنه تعالى قرن إلزام بر الوالدين بعبادته وتوحيده في مواضع أحدها في هذه الآية وثانيها قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) وثالثها قوله أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ إِلَى َّ الْمَصِيرُ ( لقمان 14 ) وكفى بهذا دلالة على تعظيم حقهما ووجوب برهما والاحسان اليهما ومما يدل على وجوب البر اليهما قوله تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ( الإسراء 23 ) وقال وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ أَجْرًا حَسَنًا وقال في الوالدين الكافرين وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ( لقمان 15 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال أَكْبَرَ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من اليمن استأذنه في الجهاد فقال عليه السلام ( هل لك أحد باليمن فقال أبواي فقال أبواك أذنا لك فقال لا فقال فارجع وأستاذنهما فان أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما )
واعلم أن الاحسان إلى الوالدين هو أن يقوم بخدمتهما وألا يرفع صوته عليهما ولا يخشن في الكلام معهما ويسعى في تحصيل مطالبهما والانفاق عليهما بقدر القدرة من البر وأن لا يشهر عليهما سلاحا ولا يقتلهما قال أبو بكر الرازي إلا أن يضطر إلى ذلك بأن يخاف أن يقتله أن ترك قتله فحينئذ يجوز له قتله لأنه إذا لم يفعل ذلك كان قد قتل نفسه بتمكين غيره منه وذلك منهي عنه روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا
النوع الرابع قوله تعالى اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وهو أمر بصلة الرحم كما ذكر في أول السورة بقوله وَالاْرْحَامَ
واعلم أن الوالدين من الأقارب أيضا إلا أن قرابة الولاد لما كانت مخصوصة بكونها أقرب القرابات وكانت مخصوصة بخواص لا تحصل في غيرها لا جرم ميزها الله تعالى في الذكر عن سائر الأنواع فذكر في هذه الآية قرابة الولاد ثم أتبعها بقرابة الرحم
النوع الخامس قوله وَالْيَتَامَى واعلم أن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز أحدهما الصغر والثاني عدم المنفق ولا شك أن من هذا حاله كان في غاية العجز واستحقاق الرحمة قال ابن عباس

يرفق بهم ويربيهم ويمسح رأسهم وإن كان وصيا لهم فليبالغ في حفظ أموالهم
النوع السادس قوله وَالْمَسَاكِينُ واعلم أنه وان كان عديم المال إلا أنه لكبره يمكنه أن يعرض حال نفسه على الغير فيجلب به نفعا أو يدفع به ضررا وأما اليتيم فلا قدرة له عليه فلهذا المعنى قدم الله اليتيم في الذكر على المسكين والاحسان إلى المسكين اما بالاجمال اليه أو بالرد الجميل كما قال تعالى وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ( الضحى 9 )
النوع السابع قوله وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى قيل هو الذي قرب جواره والجار الجنب هو الذي بعد جواره قال عليه الصلاة والسلام ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ألا وان الجوار أربعون داراً ) وكان الزهري يقول أربعون يمنة وأربعون يسرة وأربعون أماما وأربعون خلفا وعن أبي هريرة قيل يا رسول الله ان فلانة تصوم النهار وتصلي الليل وفي لسنانها شيء يؤذي جيرانها أي هي سليطة فقال عليه الصلاة والسلام ( لا خير فيها هي في النار ) وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( والذي نفس محمد بيده لا يؤدي حق الجار إلا من رحم الله وقليل ما هم أتدرون ما حق الجار ان افتقر أغنيته وان استقرض أقرضته وان أصابه خير هنأته وان أصابه شر عزيته وان مرض عدته وان مات شيعت جنازته ) وقال آخرون عني بالجار ذي القربى القريب النسيب وبالجار الجنب الجار الأجنبي وقرىء ( والجار ذا القربى ) نصبا على الاختصاص كما قرىء ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) ( البقرة 238 ) تنبيها على عظم حقه لأنه اجتمع فيه موجبان الجوار والقرابة
النوع الثامن قوله وَالْجَارِ الْجُنُبِ وقد ذكرنا تفسيره قال الواحدي الجنب نعت على وزن فعل وأصله من الجنابة ضد القرابة وهو البعيد يقال رجل جنب إذا كان غريبا متباعداً عن أهله ورجل أجنبي وهو البعيد منك في القرابة وقال تعالى وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ ( إبراهيم 35 ) أي بعدني والجانبان الناحيتان لبعد كل واحد منهما عن الآخر ومنه الجنابة من الجماع لتباعده عن الطهارة وعن حضور المساجد للصلاة ما لم يغتسل ومنه أيضا الجنبان لبعد كل واحد منهما عن الآخر وروى المفضل عن عاصم وَالْجَارِ الْجُنُبِ بفتح الجيم وسكون النون وهو يحتمل معنيين أحدهما أنه يريد بالجنب الناحية ويكون التقدير والجار ذي الجنب فحذف المضاف لأن المعنى مفهوم والآخر أن يكون وصفا على سبيل المبالغة كما يقال فلان كرم وجود
النوع التاسع قوله وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وهو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا في سفر وإما جارا ملاصقا وإما شريكا في تعلم أو حرفة وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الاحسان قيل الصاحب الجنب المرأة فانها تكون معك وتضجع إلى جنبك
النوع العاشر قوله وَابْنِ السَّبِيلِ وهو المسافر الذي انقطع عن بلده وقيل الضيف
النوع الحادي عشر قوله وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
واعلم أن الاحسان إلى المماليك طاعة عظيمة روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال

( من ابتاع شيئا من الخدم فلم توافق شيمته شيمته فليبع وليشتر حتى توافق شيمته شيمته فان للناس شيما ولا تعذبوا عباد الله ) وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان آخر كلامه ( الصلاة وما ملكت أيمانكم ) وروي أنه كان رجل بالمدينة يضرب عبده فيقول العبد أعوذ بالله ويستمعه الرسول عليه السلام والسيد كان يزيده ضربا فطلع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أعوذ برسول الله فتركه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله كان أحق أن يجار عائذه ) قال يا رسول الله فانه حر لوجه الله فقال النبي عليه الصلاة والسلام ( والذي نفس محمد بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار )
واعلم أن الاحسان اليهم من وجوه أحدها أن لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به وثانيها أن لا يؤذيهم بالكلام الخشن بل يعاشرهم معاشرة حسنة وثالثها أن يعطيهم من الطعام والكسوة ما يحتاجون اليه وكانوا في الجاهلية يسيئون إلى المملوك فيكلفون الاماء البغاء وهو الكسب بفروجهن وبضوعهن وقال بعضهم كل حيوان فهو مملوك والاحسان إلى الكل بما يليق به طاعة عظيمة
واعلم أن ذكر اليمين تأكيد وهو كما يقال مشت رجلك وأخذت يدك قال عليه الصلاة والسلام ( على اليد ما أخذت ) وقال تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً ( يس 71 ) ولما ذكر تعالى هذه الأصناف قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً والمختال ذو الخيلاء والكبر قال ابن عباس يريد بالمختال العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق أحد قال الزجاج وإنما ذكر الاختيال ههنا وذكرنا اشتقاق هذه اللفظة عند قوله وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ ( آل عمران 14 ) ومعنى الفخر التطاول والفخور الذي يعدد مناقبه كبرا وتطاولا قال ابن عباس هو الذي يفخر على عباد الله بما أعطاه الله من أنواع نعمه وإنما خص الله تعالى هذين الوصفين بالذم في هذا الموضع لأن المختال هو المتكبر وكل من كان متكبرا فانه قلما يقوم برعاية الحقوق ثم أضاف اليه ذم الفخور لئلا يقدم على رعاية هذه الحقوق لأجل الرياء والسمعة بل لمحض أمر الله تعالى
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي بِالْبُخْلِ بفتح الباء والخاء وفي الحديد مثله وهي لغة الانصار والباقون بِالْبُخْلِ بضم الباء والخاء وهي اللغة العالية
المسألة الثانية الذين يبخلون بدل من قوله مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً والمعنى ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا ولا يحب الذين يبخلون أو نصب على الذم ويجوز أن يكون رفعا على الذم ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون أحقاء بكل ملامة

المسألة الثالثة قال الواحدي البخل فيه أربع اللغات البخل مثل القفل والبخل مثل الكرم والبخل مثل الفقر والبخل بضمتين ذكره المبرد وهو في كلام العرب عبارة عن منع الاحسان وفي الشريعة منع الواجب
المسألة الرابعة قال ابن عباس انهم اليهود بخلوا أن يعترفوا بما عرفوا من نعت محمد عليه الصلاة والسلام وصفته في التوراة وأمروا قومهم أيضا بالكتمان وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ يعني من العلم بما في كتابهم من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَأَعْتَدْنَا في الآخرة لليهود عَذَاباً مُّهِيناً واحتج من نصر هذا القول بأن ذكر الكافر في آخر الآية يدل على أن المراد بأولها الكافر وقال آخرون المراد منه البخل بالمال لأنه تعالى ذكره عقيب الآية التي أوجب فيها رعاية حقوق الناس بالمال فانه قال وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ ( النساء 36 ) ومعلوم أن الاحسان إلى هؤلاء إنما يكون بالمال ثم ذم المعرضين عن هذا الاحسان فقال إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ( النساء 36 ) ثم عطف عليه الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ فوجب أن يكون هذا البخل بخلا متعلقا بما قبله وما ذاك إلا البخل بالمال
والقول الثالث أنه عام في البخل بالعلم والدين وفي البخل بالمال لأن اللفظ عام والكل مذموم فوجب كون اللفظ متناولا للكل
المسألة الخامسة أنه تعالى ذكر في هذه الآية من الأحوال المذمومة ثلاثا أولها كون الانسان بخيلا وهو المراد بقوله الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وثانيها كونهم آمرين لغيرهم بالبخل وهذا هو النهاية في حب البخل وهو المراد بقوله وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وثالثها قوله وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فيوهمون الفقر مع الغنى والاعسار مع اليسار والعجز مع الامكان ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر مثل أن يظهر الشكاية عن الله تعالى ولا يرضى بالقضاء والقدر وهذا ينتهي إلى حد الكفر فلذلك قال وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ومن قال الآية مخصوصة باليهود فكلامه في هذا الموضع ظاهر لأن من كتم الدين والنبوة فهو كافر ويمكن أيضاً أن يكون المراد من هذا الكافر من يكون كافرا بالنعمة لا من يكون كافرا بالدين والشرع
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً
وفيه مسائل
المسألة الأولى إن شئت عطفت الَّذِينَ في هذه الآية على الَّذِينَ في الآية التي قبلها وإن شئت جعلته في موضع خفض عطفا على قوله لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً

المسألة الثانية قال الواحدي نزلت في المنافقين وهو الوجه لذكر الرئاء وهو ضرب من النفاق
وقيل نزلت في مشركي مكة المنفقين على عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والأولى أن يقال إنه تعالى لما أمر بالاحسان إلى أرباب الحاجات بين أن من لا يفعل ذلك قسمان فالأول هو البخيل الذي لا يقدم على إنفاق المال البتة وهم المذمومون في قوله الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ( النساء 37 ) والثاني الذين ينفقون أموالهم لكن لا لغرض الطاعة بل لغرض الرياء والسمعة فهذه الفرقة أيضا مذمومة ومتى بطل القول بهذين القسمين لم يبق إلا القسم الأول وهو إنفاق الأموال لغرض الاحسان
ثم قال تعالى وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً والمعنى أن الشيطان قرين لأصحاب هذه الأفعال كقوله وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( الزخرف 36 ) وبين تعالى أنه بئس القرين إذ كان يضله عن دار النعيم ويورده نار السعير وهو كقوله وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ( الحج 3 4 )
ثم انه تعالى عيرهم وبين سوء اختيارهم في ترك الايمان
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيماً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله وَمَاذَا عَلَيْهِمْ استفهام بمعنى الانكار ويجوز أن يكون ( ماذا ) اسما واحدا فيكون المعنى وأي الشيء عليهم ويجوز أن يكون ( ذا ) في معنى الذي ويكون ( ما ) وحدها اسما ويكون المعنى وما الذي عليهم لو آمنوا
المسألة الثانية احتج القائلون بأن الايمان يصح على سبيل التقليد بهذه الآية فقالوا إن قوله تعالى وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ مشعر بأن الاتيان بالايمان في غاية السهولة ولو كان الاستدلال معتبرا لكان في غاية الصعوبة فانا نرى المستدلين تفرغ أعمارهم ولا يتم استدلالهم فدل هذا على أن التقليد كاف
أجاب المتكلمون بأن الصعوبة في التفاصيل فأما الدلائل على سبيل الجملة فهي سهلة واعلم أن في هذا البحث غورا
المسألة الثالثة احتج جمهور المعتزلة بهذه الآية وضربوا له أمثلة قال الجبائي ولو كانوا غير قادرين لم يجز أن يقول الله ذلك كما لا يقال لمن هو في النار معذب ماذا عليهم لو خرجوا منها وصاروا إلى الجنة وكما لا يقال للجائع الذي لا يقدر على الطعام ماذا عليه لو أكل وقال الكعبي لا يجوز أن يحدث فيه الكفر ثم يقول ماذا عليه لو آمن كما لا يقال لمن أمرضه ماذا عليه لو كان صحيحا ولا يقال للمرأة ماذا عليها لو كانت رجلا وللقبيح ماذا عليه لو كان جميلا وكما لا يحسن هذا القول من العاقل كذا لا يحسن من الله تعالى فبطل بهذا ما يقال إنه وإن قبح من غيره لكنه يحسن منه لأن الملك ملكه وقال القاضي عبد الجبار إنه لا يجوز أن يأمر العاقل وكيله بالتصرف في الضيعة ويحبسه من حيث لا يتمكن من

مفارقة الحبس ثم يقول له ماذا عليك لو تصرفت في الضيعة وإذا كان من يذكر مثل هذا الكلام سفيها دل على أن ذلك غير جائز على الله تعالى فهذا جملة ما ذكروه من الأمثلة
واعلم أن التمسك بطريقة المدح والذم والثواب والعقاب قد كثر للمعتزلة ومعارضتهم بمسألتي العلم والداعي قد كثرت فلا حاجة إلى الاعادة
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً والمعنى أن القصد إلى الرئاء إنما يكون باطنا غير ظاهر فبين تعالى أنه عليم ببواطن الأمور كما هو عليم بظواهرها فان الانسان متى اعتقد ذلك صار ذلك كالرادع له عن القبائح من أفعال القلوب مثل داعية النفاق والرياء والسمعة
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً
اعلم أن تعلق هذه الآية هو بقوله تعالى وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ( النساء 39 ) فكأنه قال فان الله لا يظلم من هذه حاله مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها فرغب بذلك في الايمان والطاعة
واعلم أن هذه الآية مشتملة على الوعد بأمور ثلاثة الأول قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى الذرة النملة الحمراء الصغيرة في قول أهل اللغة وروي عن ابن عباس أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها ثم قال كل واحد من هذه الأشياء ذرة و مِثْقَالَ مفعال من الثقل يقال هذا على مثقال هذا أي وزن هذا ومعنى مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ أي ما يكون وزنه وزن الذرة
واعلم أن المراد من الآية أنه تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيراً ولكن الكلام خرج على أصغر ما يتعارفه الناس يدل عليه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ( يونس 44 )
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أنه تعالى ليس خالقا لأعمال العباد لأن من جملة تلك الأعمال ظلم بعضهم بعضا فلو كان موجد ذلك الظلم هو الله تعالى لكان الظالم هو الله وأيضاً لو خلق الظلم في الظالم ولا قدرة لذلك الظالم على تحصيل ذلك الظلم عند عدمه ولا على دفعه بعد وجوده ثم إنه تعالى يقول لمن هذا شأنه وصفته لم ظلمت ثم يعاقبه عليه كان هذا محض الظلم والآية دالة على كونه تعالى منزها عن الظلم
والجواب المعارضة بالعلم والداعي على ما سبق مراراً لا حد لها وقد ذكرنا أن استدلالات هؤلاء المعتزلة وإن كثرت وعظمت إلا أنها ترجع إلى حرف واحد وهو التمسك بالمدح والذم والثواب والعقاب والسؤال على هذا الحرف معين وهو المعارضة بالعلم والداعي فكلما أعادوا ذلك الاستدلال أعدنا عليهم هذا السؤال

المسألة الثالثة قالت المعتزلة الآية تدل على أنه قادر على الظلم لأنه تمدح بتركه ومن تمدح بترك فعل قبيح لم يصح منه ذلك التمدح إلا إذا كان هو قادرا عليه ألا ترى أن الزمن لا يصح منه أن يتمدح بأنه لا يذهب في الليالي إلى السرقة
والجواب أنه تعالى تمدح بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم ولم يلزم أن يصح ذلك عليه وتمدح بأنه لا تدركه الأبصار ولم يدل ذلك عند المعتزلة على أنه يصح أن تدركه الأبصار
المسألة الرابعة قالت المعتزلة الآية دالة على أن العبد يستحق الثواب على طاعته وأنه تعالى لو لم يثبه لكان ظالما لأنه تعالى بين في هذه الآية أنه لو لم يثبهم على أعمالهم لكان قد ظلمهم وهذا لا يصح إلا إذا كانوا مستحقين للثواب على أعمالهم
والجواب أنه تعالى وعدهم بالثواب على تلك الأفعال فلو لم يثبهم عليها لكان ذلك في صورة ظلم فلهذا أطلق عليه اسم الظلم والذي يدل على أن الظلم محال من الله أن الظلم مستلزم للجهل والحاجة عندكم وهما محالان على الله ومستلزم المحال محال والمحال غير مقدور وأيضاً الظلم عبارة عن التصرف في ملك الغير والحق سبحانه لا يتصرف إلا في ملك نفسه فيمتنع كونه ظالما وأيضاً الظالم لا يكون إلها والشيء لا يصح إلا إذا كانت لوازمه صحيحة فلو صح منه الظلم لكان زوال إلهيته صحيحاً ولو كان كذلك لكانت إلهيته جائزة الزوال وحينئذ يحتاج في حصول صفة الالهية له إلى مخصص وفاعل وذلك على الله محال
المسألة الخامسة قالت المعتزلة إن عقاب قطرة من الخمر يزيل ثواب الايمان والطاعة مدة مائة سنة وقال أصحابنا هذا باطل لأنا نعلم بالضرورة أن ثواب كل تلك الطاعات العظيمة تلك السنن المتطاولة أزيد من عقاب شرب هذه القطرة فاسقاط ذلك الثواب العظيم بعقاب هذا القدر من المعصية ظلم وإنه منفي بهذه الآية
المسألة السادسة قال الجبائي إن عقاب الكبيرة يحبط ثواب جملة الطاعات ولا ينحبط من ذلك العقاب شيء وقال ابنه أبو هاشم بل ينحبط واعلم أن هذا المشروع صار حجة قوية لأصحابنا في بطلان القول بالاحباط فانا نقول لو انحبط ذلك الثواب لكان إما أن يحبط مثله من العقاب أولا يحبط والقسمان باطلان فالقول بالاحباط باطل إنما قلنا إنه لا يجوز انحباط كل واحد منهما بالآخر لأنه إذا كان سبب عدم كل واحد منهما وجود الآخر فلو حصل العدمان معا لحصل الوجدان معا ضرورة أن العلة لا بد وأن تكون حاصلة مع المعلول وذلك محال وإنما قلنا إنه لا يجوز انحباط الطاعة بالمعصية مع أن المعصية لا تنحبط بالطاعة لأن تلك الطاعات لم ينتفع العبد بها ألبتة لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب وذلك ظلم وهو ينافي قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ ولما بطل القسمان ثبت القول بفساد الاحباط على ما تقوله المعتزلة
المسألة السابعة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المؤمنين يخرجون من النار إلى الجنة فقالوا لا شك أن ثواب الايمان والمداومة على التوحيد والاقرار بأنه هو الموصول بصفات الجلال والاكرام والمواظبة على وضع الجبين على تراب العبودية مائة سنة أعظم ثوابا من عقاب شرب الجرعة من الخمر

فاذا حضر هذا الشارب يوم القيامة وأسقط عنه قدر عقاب هذا المعصية من ذلك الثواب العظيم فضل له من الثواب قدر عظيم فاذا أدخل النار بسبب ذلك القدر من العقاب فلو بقي هناك لكان ذلك ظلما وهو باطل فوجب القطع بأنه يخرج إلى الجنة
النوع الثاني من الأمور التي اشتملت عليها هذه الآية
قوله تعالى وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير حَسَنَة ٌ بالرفع على تقديره ( كان ) التامة والمعنى وإن حدثت حسنة أو وقعت حسنة والباقون بالنصب على تقدير ( كان ) الناقصة والتقدير وإن تك زنة الذرة حسنة وقرأ ابن كثير وابن عامر يُضَاعِفْهَا بالتشديد من غير ألف من التضعيف والباقون يُضَاعِفْهَا بالألف والتخفيف من المضاعفة
المسألة الثانية تك أصله من ( كان يكون ) وأصله ( تكون ) سقطت الضمة للجزم وسقطت الواو لسكونها وسكون النون فصار ( تكن ) ثم حذفوا النون أيضا لأنها ساكنة وهي تشبه حروف اللين وحروف اللين إذا وقعت طرفا سقطت للجزم كقولك لم أدر أي لا أدري وجاء القرآن بالحذف والاثبات أما الحذف فههنا وأما الاثبات فكقوله إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً ( النساء 135 )
المسألة الثالثة ان الله تعالى بين بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ أنه لا يبخسهم حقهم أصلا وبين بهذه الآية أن الله تعالى يزيدهم على استحقاقهم
واعلم أن المراد من هذه المضاعفة ليس هو المضاعفة في المدة لأن مدة الثواب غير متناهية وتضعيف غير المتناهي محال بل المراد أنه تعالى يضعفه بحسب المقدار مثلا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب فيجعله عشرين جزءاً أو ثلاثين جزءاً أو أزيد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال يؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين هذا فلان ابن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقال له أعط هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا فيقول الله لملائكته انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فان بقي مثقال ذرة من حسنة ضعفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضله ورحمته مصداق ذلك في كتاب الله تعالى وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا وقال الحسن قوله وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا هذا أحب إلى العلماء مما لو قال في الحسنة الواحدة مائة ألف حسنة لأن ذلك الكلام يكون مقداره إنها خير من ألف شهر وقال أبو عثمان النهدي بلغني عن أبي هريرة أنه قال إن الله ليعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فقدر الله أن ذهبت إلى مكة حاجاً أو معتمرا فألفيته فقلت بلغني عنك أنك تقول إن الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة قال أبو هريرة لم أقل ذلك ولكن قلت إن الحسنة تضاعف بألفي ألف ضعف ثم تلا هذه الآية وقال إذا قال الله أَجْراً عَظِيماً فمن يقدر قدره
النوع الثالث من الأمور التي اشتملت هذه الآية عليها قوله تعالى وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً وفيه مسألتان

المسألة الأولى لدن بمعنى ( عند ) إلا أن ( لدن ) أكثر تمكينا يقول الرجل عندي مال إذا كان ماله ببلد آخر ولا يقال لدي مال ولا لدني إلا ما كان حاضرا
المسألة الثانية اعلم أنه لا بد من الفرق بين هذا وبين قوله وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا والذي يخظر ببالي والعلم عند الله أن ذلك التضعيف يكون من جنس ذلك الثواب وأما هذا الأجر العظيم فلا يكون من جنس ذلك الثواب والظاهر أن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعد بها في الجنة وأما هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه من لدنه فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية وعند الاستغراق في المحبة والمعرفة وإنما خص هذا النوع بقوله مِن لَّدُنْهُ لأن هذا النوع من الغبطة والسعادة والبهجة والكمال لا ينال بالأعمال الجسدانية بل إنما ينال بما يودع الله في جوهر النفس القدسية من الاشراق والصفاء والنور وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادة الجسمانية وهذا الأجر العظيم إشارة إلى السعادة الروحانية
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَاؤُلا ءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرض وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً
وجه النظم هو أنه تعالى بين أن في الآخرة لا يجري على أحد ظلم وأنه تعالى يجازي المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه فبين تعالى في هذه الآية أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق لتكون الحجة على المسىء أبلغ والتبكيت له أعظم وحسرته أشد ويكون سرور من قبل ذلك من الرسول وأظهر الطاعة أعظم ويكون هذا وعيداً للكفار الذين قال الله فيهم إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ ووعداً للمطيعين الذين قال الله فيهم وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا ( النساء 40 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لابن مسعود ( إقرأ القرآن علي ) قال فقلت يا رسول الله أنت الذي علمتنيه فقال ( أحب أن أسمعه من غيري ) قال ابن مسعود فافتتحت سورة النساء فلما انتهيت إلى هذه الآية بكى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال ابن مسعود فأمسكت عن القراءة وذكر السدي أن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يشهدون للرسل بالبلاغ والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يشهد لأمته بالتصديق فلهذا قال جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) وحكي عن عيسى عليه السلام أنه قال وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ( المائدة 117 )
المسألة الثانية من عادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه كيف بك إذا كان كذا وكذا وإذا فعل فلان كذا وإذا جاء وقت كذا فمعنى هذا الكلام كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل امة برسولها واستشهدك على هؤلاء يعني قومه المخاطبين بالقرآن الذين شاهدهم وعرف أحوالهم ثم إن أهل كل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السلام ( وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم )

ثم انه تعالى وصف ذلك اليوم فقال يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ يقتضي كون عصيان الرسول مغايرا للكفر لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز فوجب حمل عصيان الرسول على المعاصي المغايرة للكفر إذا ثبت هذا فنقول الآية دالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام وأنهم كما يعاقبون يوم القيامة على الكفر فيعاقبون أيضا على تلك المعاصي لأنه لو لم يكن لتلك المعصية أثر في هذا المعنى لما كان في ذكر معصيتهم في هذا الموضع أثر
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو تُسَوَّى مضمومة التاء خفيفة السين على ما لم يسم فاعله وقرأ نافع وابن عامر تُسَوَّى مفتوحة التاء مشددة السين بمعنى تتسوى فأدغم التاء في السين لقربها منها ولا يكره اجتماع التشديدين في هذه القراءة لأن لها نظائر في التنزيل كقوله اطَّيَّرْنَا بِكَ ( النمل 47 ) وَازَّيَّنَتْ ( يونس 24 ) ويذكرون ( الأنعام 26 ) وفي هذه القراءة اتساع وهو إسناد الفعل إلى الأرض وقرأ حمزة والكسائي لَوْ تُسَوَّى مفتوحة التاء والسين خفيفة حذفا التاء التى أدغمها نافع لأنها كما اعتلت بالادغام اعتلت بالحذف
المسألة الثالثة ذكروا في تفسير قوله لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاْرْضُ وجوها الأول لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى والثاني يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء الثالث تصير البهائم ترابا فيودون حالها كقوله الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً ( النبأ 40 )
المسألة الرابعة قوله وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فيه لأهل التأويل طريقان الأول أن هذا متصل بما قبله والثاني أنه كلام مبتدأ فاذا جعلناه متصلا احتمل وجهين أحدهما ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما يودون لو تنطبق عليهم الأرض ولم يكونوا كتموا أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا كفروا به ولا نافقوا وعلى هذا القول الكتمان عائد إلى ما كتموا من أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني أن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن الله تعالى يغفر لأهل الإسلام ولا يغفر شركا قالوا تعالوا فلنجحد فيقولون والله ربنا ما كنا مشركين وجاء أن يغفر الله لهم فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يعملون فهنالك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا
الطريق الثاني في التأويل أن هذا الكلام مستأنف فان ما عملوه ظاهر عند الله فكيف يقدرون على كتمانه
المسألة الخامسة فان قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 )
والجواب من وجوه الأول أن مواطن القيامة كثيرة فموطن لا يتكلمون فيه وهو قوله فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ( طه 108 ) وموطن يتكلمون فيه كقوله مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء ( النحل 28 ) وقولهم وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فيكذبون في مواطن وفي مواطن يعترفون على أنفسهم بالكفر ويسألون الرجعة وهو قولهم فَقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا ( الأنعام 27 ) وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم وجلودهم فنعوذ بالله من خزي ذلك اليوم الثاني أن هذا الكتمان غير واقع بل هو داخل

في التمني على ما بينا الثالث أنهم لم يقصدوا الكتمان وإنما أخبروا على حسب ما توهموا وتقديره والله ما كنا مشركين عند أنفسنا بل مصيبين في ظنوننا حتى تحققنا الآن وسيجيء الكلام في هذه المسألة في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى
النوع العاشر من التكاليف المذكورة في هذه السورة
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
في الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب النزول وجهين الأول أن جماعة من أفاضل الصحابة صنع لهم عبد الرحمن بن عوف طعاما وشرابا حين كانت الخمر مباحة فأكلوا وشربوا فلما ثلموا جاء وقت صلاة المغرب فقدموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد فنزلت هذه الآية فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات فاذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون ثم نزل تحريمها على الاطلاق في سورة المائدة وعن عمر رضي الله عنه أنه لما بلغه ذلك قال اللهم إن الخمر تضر بالعقول والأموال فأنزل فيها أمرك فصبحهم الوحي بآية المائدة الثاني قال ابن عباس نزلت في جماعة من أكابر الصحابة قبل تحريم الخمر كانوا يشربونها ثم يأتون المسجد للصلاة مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فنهاهم الله عنه
المسألة الثانية في لفظ الصلاة قولان أحدهما المراد منه المسجد وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن وإليه ذهب الشافعي
واعلم أن إطلاق لفظ الصلاة على المسجد محتمل ويدل عليه وجهان الأول أنه يكون من باب حذف المضاف أي لا تقربوا موضع الصلاة وحذف المضاف مجاز شائع والثاني قوله لَّهُدّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ ( الحج 40 ) والمراد بالصلوات مواضع الصلوات فثبت أن إطلاق لفظ الصلاة والمراد به المسجد جائز
والقول الثاني وعليه الأكثرون أن المراد بالصلاة في هذه الآية نفس الصلاة أي لا تصلوا إذا كنتم سكارى
واعلم أن فائدة الخلاف تظهر في حكم شرعي وهو أن على التقدير الأول يكون المعنى لا تقربوا المسجد وأنتم سكارى ولا جنبا إلا عابري سبيل وعلى هذا الوجه يكون الاستثناء دالا على أنه يجوز للجنب العبور في المسجد وهو قول الشافعي وأما على القول الثاني فيكون المعنى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ولا تقربوها

حال كونكم جنباً إلا عابري سبيل والمراد بعابر السبيل المسافر فيكون هذا الاستثناء دليلا على أنه يجوز للجنب الاقدام على الصلاة عند العجز عن الماء قال أصحاب الشافعي هذا القول الأول أرجح ويدل عليه وجوه الأول أنه قال لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ والقرب والبعد لا يصحان على نفس الصلاة على سبيل الحقيقة إنما يصحان على المسجد الثاني أنا لو حملناه على ما قلنا لكان الاستثناء صحيحا أما لو حملناه على ما قلتم لم يكن صحيحا لأن من لم يكن عابر سبيل وقد عجز عن استعمال الماء بسبب المرض الشديد فانه يجوز له الصلاة بالتيمم وإذا كان كذلك كان حمل الآية على ذلك أولى الثالث انا إذا حملنا عابر السبيل على الجنب المسافر فهذا إن كان واجدا للماء لم يجز له القرب من الصلاة ألبتة فحينئذ يحتاج إلى إضمار هذا الاستثناء في الآية وإن لم يكن واجدا للماء لم يجز له الصلاة إلا مع التيمم فيفتقر إلى إضمار هذا الاستثناء في الآية وإن لم يكن واجدا للماء لم يجز له الصلاة إلا مع التيمم فيفتقر إلى إضمار هذا الشرط في الآية وأما على ما قلناه فانا لا نفتقر إلى إضمار شيء في الآية فكان قولنا أولى الرابع أن الله تعالى ذكر حكم السفر وعدم الماء وجواز التييم بعد هذا فلا يجوز حمل هذا على حكم مذكور في آية بعد هذه الآية والذي يؤكده أن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله حَتَّى تَغْتَسِلُواْ ثم يستأنف قوله وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى لأنه حكم آخر وأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا لم نحتج فيه إلى هذه الالحاقات فكان ما قلناه أولى ولمن نصر القول الثاني أن يقول إن قوله تعالى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ يدل على أن المراد من قوله لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ نفس الصلاة لأن المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع السكر منه أما الصلاة ففيها أقوال مخصوصة يمنع السكر منها فكان حمل لآية على هذا أولى وللقائل الأول ان يجيب بأن الظاهر أن الانسان إنما يذهب إلى المسجد لأجل الصلاة فما يخل بالصلاة كان كالمانع من الذهاب إلى المسجد فلهذا ذكر هذا المعنى
المسألة الثالثة قال الواحدي رحمه الله السكارى جمع سكران وكل نعت على فعلان فانه يجمع على فعالى وفعالى مثل كسالى وكسالى وأصل السكر في اللغة سد الطريق ومن ذلك سكر البثق وهو سده وسكرت عينه سكرا إذا تحيرت ومنه قوله تعالى إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا ( الحجر 15 ) أي غشيت فليس ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقيقتها ومن ذلك سكر الماء وهو رده على سننه في الجري والسكر من الشراب وهو أن ينقطع عما عليه من النفاذ حال الصحو فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في حال صحوه إذا عرفت هذا فنقول في لفظ السكارى في هذه الآية قولان الأول المراد منه السكر من الخمر وهو نقيض الصحو وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين
والقول الثاني وهو قول الضحاك وهو أنه ليس المراد منه سكر الخمر إنما المراد منه سكر النوم قال ولفظ السكر يستعمل في النوم فكان هذا اللفظ محتملا له والدليل دل عليه فوجب المصير إليه أما بيان أن اللفظ محتمل له فمن وجهين الأول ما ذكرنا أن لفظ السكر في أصل اللغة عبارة عن سد الطريق ولا شك أن عند النوم تمتلىء مجاري الروح من الأبخرة الغليظة فتنسد تلك المجاري بها ولا ينفذ الروح الباصر والسامع إلى ظاهر البدن الثاني قول الفرزدق
من السير والادلاج يحسب انما سقاه الكرى في كل منزلة خمرا
واذا ثبت أن اللفظ محتمل له فنقول الدليل دل عليه وبيانه من وجوه الأول أن قوله تعالى

لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ظاهره أنه تعالى نهاهم عن القرب من الصلاة حال صيرورتهم بحيث لا يعلمون ما يقولون وتوجيه التكليف على مثل هذا الانسان ممتنع بالعقل والنقل أما العقل فلأن تكليف مثل هذا الانسان يقتضي تكليف ما لا يطاق وأما النقل فهو قوله عليه الصلاة والسلام ( رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ ) ولا شك أن هذا السكران يكون مثل المجنون فوجب ارتفاع التكليف عنه
والحجة الثانية قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا نعس أحدكم وهو في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم فانه إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب ليستغفر فيسب نفسه ) هذا تقرير قول الضحاك
واعلم أن الصحيح هو القول الأول ويدل عليه وجهان الأول أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر والأصل في الكلام الحقيقة فأما حمله على السكر من الشعق أو من الغضب أو من الخوف أو من النوم فكل ذلك مجاز وإنما يستعمل مقيدا قال تعالى وَجَاءتْ سَكْرَة ُ الْمَوْتِ ( ق 19 ) وقال وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ( الحج 2 ) الثاني أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر وقد ثبت في أصول الفقه ان الآية إذا نزلت في واقعة معينة ولأجل سبب معين امتنع ان لا يكون ذلك السبب مراداً بتلك الآية فأما قول الضحاك كيف يتناوله النهي حال كونه سكران فنقول وهذا أيضا لازم عليكم لأنه يقال كيف يتناوله النهي وهو نائم لا يفهم شيئا ثم الجواب عنه ان المراد من الآية النهي عن الشرب المؤدي إلى السكر المخل بالفهم حال وجوب الصلاة عليهم فخرج اللفظ عن النهي عن الصلاة في حال السكر مع أن المراد منه النهي عن الشرب الموجب للسكر في وقت الصلاة وأما الحديث الذي تمسك به فذاك لا يدل على أن السكر المذكور في الآية هو النوم
المسألة الرابعة قال بعضهم هذه الآية منسوخة بآية المائدة وأقول الذي يمكن ادعاء النسخ فيه أنه يقال نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول والحكم المدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية فهذا يقتضي جواز قربن الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر بآية المائدة فقد رفع هذا الجواز فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلالوت هذه الآية هذا ما خطر ببالي في تقرير هذا النسخ
والجواب عنه أنا بينا أن حاصل هذا النهي راجع إلى النهي عن الشرب الموجب للسكر عند القرب من الصلاة وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه الا على سبيل الظن الضعيف ومثل هذا لا يكون نسخا
المسألة الخامسة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء سُكَارَى بفتح السين و سُكَارَى على أن يكون جمعا نحو هلكى وجوعى
ثم قال تعالى وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ قوله وَلاَ جُنُباً عطف على قوله وَأَنتُمْ سُكَارَى والواو ههنا للحال والتقدير لا تقربوا الصلاة حال ما تكونون سكارى وحال ما تكونون جنبا والجنب يستوى فيه الواحد والجمع المذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الاجناب وقد ذكرنا أن أصل الجنابة البعد وقيل للذي يجب عليه الغسل جنب لأنه يجتنب الصلاة والمسجد وقراءة القرآن حتى

يتطهر ثم قال إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ وقد ذكرنا أن فيه قولين أحدهما أن هذا العبور المراد منه العبور في المسجد الثاني أن المراد بقوله إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ المسافرون وبينا كيفية ترجيح أحدهما على الآخر
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَة َ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ
اعلم أنه تعالى ذكر ههنا أصنافا أربعة المرضى والمسافرين والذين جاؤا من الغائط والذين لامسوا النساء
فالقسمان الأولان يلجئان إلى التيمم وهما المرض والسفر
والقسمان الأخيران يوجبان التطهر بالماء عند وجود الماء وبالتيمم عند عدم الماء ونحن نذكر حكم كل واحد من هذه الأقسام
أما السبب الأول وهو المرض فاعلم أنه على ثلاثة أقسام أحدها أن يكون بحيث لو استعمل الماء لمات كما في الجدري الشديد والقروح العظيمة وثانيها أن لا يموت باستعمال الماء ولكنه يجد الآلام العظيمة وثالثها أن لا يخاف الموت والآلام الشديدة لكنه يخاف بقاء شين أو عيب على البدن فالفقهاء جوزوا التيمم في القسمين الأولين وما جوزوه في القسم الثالث وزعم الحسن البصري أنه لا يجوز التيمم في الكل إلا عند عدم الماء بدليل أنه شرط جواز التيمم للمريض بعدم وجدان الماء بدليل أنه قال في آخر الآية فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء وإذا كان هذا الشرط معتبرا في جواز التيمم فعند فقدان هذا الشرط وجب أن لا يجوز التيمم وهو أيضا قول ابن عباس وكان يقول لو شاء الله لابتلاه بأشد من ذلك ودليل الفقهاء أنه تعالى جوز التيمم للمريض إذا لم يجد الماء وليس فيه دلالة على منعه من التيمم عند وجوده ثم قد دلت السنة على جوازه ويؤيده ما روي عن بعض الصحابة أنه أصابته جنابة كان به جراحة عظيمة فسأل بعضهم فأمره بالاغتسال فلما اغتسل مات فسمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قتلوه قتلهم الله فدل ذلك على جواز ما ذكرناه
السبب الثاني السفر والآية تدل على أن المسافر إذا لم يجد الماء تيمم طال سفره أو قصر لهذه الآية
السبب الثالث قوله أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ والغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان وكان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطاً من الأرض يحجبه عن أعين الناس ثم سمي الحدث بهذا الاسم تسمية للشيء باسم مكانه
السبب الرابع قوله أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء وفيه مسائل

المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي لَامَسْتُمُ بغير ألف من اللمس والباقون لَامَسْتُمُ بالألف من الملامسة
المسألة الثانية اختلف المفسرون في اللمس المذكور ههنا على قولين أحدهما أن المراد به الجماع وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وقول أبي حنيفة رضي الله عنه لأن اللمس باليد لا ينقض الطهارة والثاني أن المراد باللمس ههنا التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو غيره وهو قول ابن مسعود وابن عمر والشعبي والنخعي وقول الشافعي رضي الله عنه
واعلم أن هذا القول أرجح من الأول وذلك لأن إحدى القراءتين هي قوله تعالى أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء واللمس حقيقته المس باليد فأما تخصيصه بالجماع فذاك مجاز والأصل حمل الكلام على حقيقته وأما القراءة الثانية وهي قوله أَوْ لَامَسْتُمُ فهو مفاعلة من اللمس وذلك ليس حقيقة في الجماع أيضاً بل يجب حمله على حقيقته أيضاً لئلا يقع التناقض بين المفهوم من القراءتين المتواترتين واحتج من قال المراد باللمس الجماع بأن لفظ اللمس والمس وردا في القرآن بمعنى الجماع قال تعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ( البقرة 37 ) وقال في آية الظهار فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ( المجادلة 3 ) وعن ابن عباس أنه قال إن الله حيي كريم يعف ويكني فعبر عن المباشرة بالملامسة وأيضا الحدث نوعان الأصغر وهو المراد بقوله أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ فلو حملنا قوله أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء على الحدث الأصغر لما بقي للحدث الأكبر ذكر في الآية فوجب حمله على الحدث الأكبر
واعلم أن كل ما ذكروه عدول عن ظاهر اللفظ بغير دليل فوجب أن لا يجوز وأيضاً فحكم الجنابة تقدم في قوله وَلاَ جُنُباً فلو حملنا هذه الآية على الجنابة لزم التكرار
المسألة الثالثة قال أهل الظاهر إنما ينتقض وضوء اللامس لظاهر قوله أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء أما الملموس فلا وقال الشافعي رضي الله عنه بل ينتقض وضوءهما معا
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأسباب الأربعة قال فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رضي الله عنه إذا دخل وقت الصلاة فطلب الماء ولم يجده وتيمم وصلى ثم دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجب حجة الشافعي قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء وعدم الوجدان مشعر بسبق الطلب فلا بد في كل مرة من سبق الطلب
فان قيل قولنا وجد لا يشعر بسبق الطلب بدليل قوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ( الضحى 7 8 ) وقوله وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ ( الأعراف 102 ) وقوله وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً فان الطلب على الله محال
قلنا الطلب وإن كان في حقه تعالى محالا إلا أنه لما أخرج محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) من بين قومه بما لم يكن لائقا لقومه صار ذلك كأنه طلبه ولما أمر المكلفين بالطاعات ثم إنهم قصروا فيها صار كأنه طلب شيئاً ثم لم يجده فخرجت هذه اللفظة في هذه الآيات على سبيل التأويل من الوجه الذي ذكرناه

المسألة الثانية أجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه يحتاج إليه لعطشه أو عطش حيوان محترم جاز له التيمم أما إذا وجد من الماء مالا يكفيه للوضوء فهل يجب عليه أن يجمع بين استعمال ذلك القدر من الماء وبين التيمم قد أوجبه الشافعي رضي الله عنه متمسكا بظاهر لفظ الآية
ثم قال تعالى فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً وفي مسائل
المسألة الأولى التيمم في اللغة عبارة عن القصد يقال أممته وتيممته وتأممته أي قصدته وأما على الصعيد فهو فعيل بمعنى الصاعد قال الزجاج الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره
المسألة الثانية قال أبو حنيفة رضي الله عنه لو فرضنا صخراً لا تراب عليه فضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافياً وقال الشافعي رضي الله عنه بل لا بد من تراب يلتصق بيده احتج أبو حنيفة بظاهر هذه الآية فقال التيمم هو القصد والصعيد هو ما تصاعد من الأرض فقوله فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً أي أقصدوا أرضا فوجب أن يكون هذا القدر كافيا وأما الشافعي فانه احتج بوجهين الأول أن هذه الآية ههنا مطلقة ولكنها في سورة المائدة مقيدة وهي قوله سبحانه فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ وكلمة ( من ) للتبعيض وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه فان قيل إن كلمة ( من ) لابتداء الغاية قال صاحب ( الكشاف ) لا يفهم أحد من العرب من قول القائل مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب إلا معنى التبعيض ثم قال والاذعان للحق أحق من المراء الثاني ما ذكره الواحدي رحمه الله وهو أنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيبا والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ ( الأعراف 58 ) فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة فكان قوله فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً أمرا بالتيمم بالتراب فقط وظاهر الأمر للوجوب أن قوله صَعِيداً طَيّباً أمر بايقاع التيمم بالصعيد الطيب والصعيد الطيب هو الأرض التي لا سبخة فيها ولا شك أن التيمم بهذا التراب جائز بالاجماع فوجب حمل الصعيد الطيب عليه رعاية لقاعدة الاحتياط لا سيما وقد خصص النبي عليه الصلاة والسلام التراب بهذه الصفة فقال ( جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا ) وقال ( التراب طهور المسلم إذا لم يجد الماء )
المسألة الثالثة قوله تعالى فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ محمول عند كثير من المفسرين على الوجه واليدين إلى الكوعين وعند أكثر الفقهاء يجب مسح اليدين إلى المرفقين وحجتهم أن اسم اليد يتناول جملة هذا العضو إلى الابطين إلا أنا أخرجنا المرفقين منه بدلالة الاجماع فبقي اللفظ متناولا للباقي ثم ختم تعالى الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً وهو كناية عن الترخيص والتيسير لأن من كان من عادته أنه يعفور عن المذنبين فبأن يرخص للعاجزين كان أولى
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً

اعلم أنه تعالى لما ذكر من أول هذه السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من التكاليف والأحكام الشرعية قطع ههنا ببيان الأحكام الشرعية وذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيص المتقدمين لأن البقاء في النوع الواحد من العلم مما يكل الطبع ويكدر الخاطر فأما الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر فانه ينشط الخاطر ويقوى القريحة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله أَلَمْ تَرَ معناه ألم ينته علمك إلى هؤلاء وقد ذكرنا ما فيه عند قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ ( البقرة 258 ) وحاصل الكلام أن العلم اليقيني يشبه الرؤية فيجوز جعل الرؤية استعارة عن مثل هذا العلم
المسألة الثانية الذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود ويدل عليه وجوه الأول أن قوله بعد هذه الآية مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ ( النساء 46 المائدة 41 ) متعلق بهذه الآية الثاني روى ابن عباس ان هذه الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رأس المنافقان عبدالله بن أبي ورهطه فيثبطونهم عن الإسلام الثالث ان عداوة اليهود كانت أكثر من عداوة النصارى بنص القرآن فكانت إحالة هذا المعنى على اليهود أولى
المسألة الثالثة لم يقل تعالى انهم أوتوا علم الكتاب بل قال أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى عليه السلام ولم يعرفوا منها نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأما الذين أسلموا كعبدالله بن سلام وعرفوا الأمرين فوصفهم الله بأن معهم علم الكتاب فقال قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( الرعد 43 ) والله أعلم
المسألة الرابعة اعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين الضلال والاضلال أما الضلال فهو قوله يَشْتَرُونَ الضَّلالَة َ وفيه وجوه الأول قال الزجاج يؤثرون تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام ليأخذوا الرشا على ذلك ويحصل لهم الرياسة وإنما ذكر ذلك بلفظ الاشتراء لأن من اشترى شيئا آثره الثاني ان في الآية إضمارا وتأويله يشترون الضلالة بالهدى كقوله أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ بِالْهُدَى ( البقرة 16 ) أي يستبدلون الضلالة بالهدى ولا إضمار على قول الزجاج الثالث المراد بهذه الآية عوام اليهود فانهم كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم ويطلبون منهم أن ينصروا اليهودية ويتعصبوا لها فكانوا جارين مجرى من يشتري بماله الشبهة والضلالة ولا إضمار على هذا التأويل أيضا ولكن الأولى أن تكون الآية نازلة في علمائهم ثم لما وصفهم تعالى بالضلال وصفهم بعد ذلك بالاضلال فقال وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ يعني أنهم يتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم لكي يخرجوا عن الاسلام
واعلم انك لا ترى حالة أسوأ ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين أعني الضلال والاضلال
ثم قال تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ أي هو سبحانه أعلم بكنه ما في قلوبهم وصدورهم من العداوة والبغضاء
ثم قال تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً والمعنى أنه تعالى لما بين شدة عداوتهم للمسلمين بين أن الله تعالى ولى المسلمين وناصرهم ومن كان الله وليا له وناصرا له لم تضره عداوة الخلق وفي الآية سؤالات
السؤالا الأول ولاية الله لعبده عبارة عن نصرته له فذكر النصير بعد ذكر الولي تكرارا

والجواب ان الولي المتصرف في الشيء والمتصرف في الشيء لا يجب أن يكون ناصرا له فزال التكرار
السؤال الثاني لم لم يقل وكفى بالله وليا ونصيرا وما الفائدة في تكرير قوله وَكَفَى بِاللَّهِ
والجواب ان التكرار في مثل هذا المقام يكون أشد تأثيرا في القلب وأكثر مبالغة
السؤال الثالث ما فائدة الباء في قوله وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً
والجواب ذكروا وجوها الأول لو قيل كفى الله كان يتصل الفعل بالفاعل ثم ههنا زيدت الباء إيذانا أن الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره في الرتبة وعظم المنزلة الثاني قال ابن السراج تقدير الكلام كفى اكتفاؤك بالله وليا ولما ذكرت ( كفى ) دل على الاكتفاء لأنه من لفظه كما تقول من كذب كان شرا له أي كان الكذب شراً له فأضمرته لدلالة الفعل عليه الثالث يخطر ببالي أن الباء في الأصل للالصاق وذلك إنما يحسن في المؤثر الذي لا واسطة بينه وبين التأثير ولو قيل كفى الله دل ذلك على كونه تعالى فاعلا لهذه الكفاية ولكن لا يدل ذلك على أنه تعالى يفعل بواسطة أو بغير واسطة فاذا ذكرت حرف الباء دل على أنه يفعل بغير واسطة بل هو تعالى يتكفل بتحصيل هذا المطلوب ابتداء من غير واسطة أحد كما قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 )
مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يشترون الضلالة شرح كيفية تلك الضلالة وهي أمور أحدها أنهم كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه وفيه مسائل
المسألة الأولى في متعلق قوله مِنَ الَّذِينَ وجوه الأول أن يكون بيانا للذين أوتوا نصيبا من الكتاب والتقدير ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا والثاني أن يتعلق بقوله نَصِيراً والتقدير وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا وهو كقوله وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( الأنبياء 77 ) الثالث أن يكون خبر مبتدأ محذوف و يُحَرّفُونَ صفته تقديره من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم فحذف الموصوف وأقيم الوصف مكانه الرابع أنه تعالى لما قال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَة َ ( النساء 44 ) بقي ذلك مجملا من وجين فكأنه قيل ومن ذلك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب فأجيب وقيل من الذين هادوا ثم قيل وكيف يشترون الضلالة فأجيب وقيل

يحرفون الكلم
المسألة الثانية لقائل أن يقول الجمع مؤنث فكان ينبغي أن يقال يحرفون الكلم عن مواضعها
والجواب قال الواحدي هذا جمع حروفه أقل من حروف واحده وكل جمع يكون كذلك فانه يجوز تذكيره ويمكن أن يقال كون الجمع مؤنثا ليس أمراً حقيقياً بل هو أمر لفظي فكان التذكير والتأنيث فيه جائزا وقرىء يحرفون الكلم
المسألة الثالثة في كيفية التحريف وجوه أحدها أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر مثل تحريفهم اسم ( ربعة ) عن موضعه في التوراة بوضعهم ( آدم طويل ) مكانه ونحو تحريفهم ( الرجم ) بوضعهم ( الحد ) بدله ونظيره قوله تعالى فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ ( البقرة 79 )
فان قيل كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب
قلنا لعله يقال القوم كانوا قليلين والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلة فقدروا على هذا التحريف والثاني أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم وهذا هو الأصح الثالث أنهم كانوا يدخلون على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به فاذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه
المسألة الرابعة ذكر الله تعالى ههنا عَن مَّواضِعِهِ وفي المائدة مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ والفرق أنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الباطلة فههنا قوله يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ معناه أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص فههنا قوله يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ معناه أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب وأما الآية المذكورة في سورة المائدة فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يخرجون اللفظ أيضا من الكتاب فقوله يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ إشارة إلى التأويل الباطل وقوله مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ إشارة إلى إخراجه عن الكتاب
النوع الثاني من ضلالاتهم ما ذكره الله تعالى بقوله وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وفيه وجهان الأول أن النبي عليه السلام كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر سمعنا وقالوا في أنفسهم وعصينا والثاني أنهم كانوا يظهرون قولهم سمعنا وعصينا إظهاراً للمخالفة واستحقاراً للأمر
النوع الثالث من ضلالتهم قوله وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ
واعلم ان هذه الكلمة ذو وجهين يحتمل المدح والتعظيم ويحتمل الاهانة والشتم أما أنه يحتمل المدح فهو أن يكون المراد اسمع غير مسمع مكروها وأما أنه محتمل للشتم والذم فذاك من وجوه الأول أنهم كانوا يقولون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) اسمع ويقولون في أنفسهم لا سمعت فقوله غَيْرَ مُسْمَعٍ معناه غير سامع فان السامع مسمع والمسمع سامع الثاني غير مسمع أي غير مقبول منك ولا تجاب إلى ما تدعو اليه ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك فكأنك ما أسمعت شيئا الثالث اسمع غير مسمع كلاما ترضاه ومتى كان كذلك فان الانسان لا يسمعه لنبو سمعه عنه فثبت بما ذكرنا أن هذه الكلمة محتملة للذم والمدح فكانوا يذكرونها لغرض الشتم

النوع الرابع من ضلالاتهم قولهم وَراعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدّينِ أما تفسير راعِنَا فقد ذكرناه في سورة البقرة وفيه وجوه الأول أن هذه كلمة كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخرية فلذلك نهى المسلمون أن يتلفظوا بها في حضرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني قوله راعِنَا معناه ارعنا سمعك أي اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت لحديثنا وتفهم وهذا مما لا يخاطب به الأنبياء عليهم السلام بل إنما يخاطبون بالاجلال والتعظيم الثالث كانوا يقولون راعنا ويوهمونه في ظاهر الأمر أنهم يريدون أرعنا سمعك وكانوا يريدون سبه بالرعونة في لغتهم الرابع أنهم كانوا يلوون ألسنتهم حتى يصير قولهم راعِنَا راعينا وكانوا يريدون أنك كنت ترعى أغناما لنا وقوله لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ قال الواحدي أصل ( لياً ( لويا لانه من لويت ولكن الواو أدغمت في الياء لسبقها بالسكون ومثله الطي وفي تفسيره وجوه الأول قال الفراء كانوا يقولون راعنا ويريدون به الشتم فذاك هو اللي وكذلك قولهم ( غير مسمع ) وأرادوا به لا سمعت فهذا هو اللي الثاني انهم كانوا يصلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير على سبيل النفاق الثالث لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام على سبيل السخرية كما جرت عادة من يهزأ بانسان بمثل هذا الأفعال ثم بين تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء لطعنهم في الدين لأنهم كانوا يقولون لأصحابهم إنما نشتمه ولا يعرف ولو كان نبيا لعرف ذلك فأظهر الله تعالى ذلك فعرفه خبث ضمائرهم فانقلب ما فعلوه طعناه في نبوته دلالة قاطعة على نبوته لأن الاخبار عن الغيب معجز
فان قيل كيف جاؤا بالقول المحتمل للوجهين بعدما حرفوا وقالوا سمعنا وعصينا
والجواب من وجهين الأول أنا حكينا عن بعض المفسرين أنه قال إنهم ما كانوا يظهرون قولهم وَعَصَيْنَا بل كانوا يقولونه فى أنفسهم والثاني هب أنهم أظهروا ذلك إلا أن جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب والشتم
ثم قال تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ والمعنى أنهم لو قالوا بدل قولهم سمعنا وعصينا سمعنا وأطعنا لعلمهم بصدقك ولاظهارك الدلائل والبينات مرات بعد مرات وبدل قولهم وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ قولهم واسمع وبدل قولهم راعِنَا قولهم انظُرْنَا أي اسمع منا ما نقول وانظرنا حتى نتفهم عنك لكان خيرا لهم عند الله وأقوم أي أعدل وأصوب ومنه يقال رمح قويم أي مستقيم وقومت الشيء من عوج فتقوم
ثم قال وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ والمراد أنه تعالى إنما لعنهم بسبب كفرهم
ثم قال فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وفيه قولان أحدهما أن القليل صفة للقوم والمعنى فلا يؤمن منهم إلا أقوام قليلون ثم منهم من قال كان ذلك القليل عبدالله بن سلام وأصحابه وقيل هم الذين علم الله منهم أنهم يؤمنون بعد ذلك
والقول الثاني أن القليل صفة للايمان والتقدير فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا فانهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى ولكنهم كانوا يكفرون بسائر الأنبياء ورجح أبو علي الفارسي هذا القول على الأول قال لأن ( قليلا ) لفظ مفرد ولو أريد به ناس لجمع نحو قوله إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَة ٌ قَلِيلُونَ ( الشعراء 54 ) ويمكن أن

يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفردا والمراد به الجمع قال تعالى وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 ) وقال وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ ( المعارج 10 11 ) فدل عود الذكر مجموعا إلى القبيلين على أنه اريد بهما الكثرة
يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى بعد أن حكى عن اليهود أنواع مكرهم وإيذائهم أمرهم بالايمان وقرن بهذا الأمر الوعيد الشديد على الترك ولقائل أن يقول كان يجب أن يأمرهم بالنظر والتفكر في الدلائل الدالة على صحة نبوته حتى يكون إيمانهم استدلاليا فلما أمرهم بذلك الايمان ابتداء فكأنه تعالى أمرهم بالايمان على سبيل التقليد
والجواب عنه أن هذا الخطاب مختص بالذين أوتوا الكتاب وهذا صفة من كان عالما بجميع التوراة ألا ترى أنه قال في الآية الأولى أَمْ تُرِيدُونَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ ( النساء 44 ) ولم يقل ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة فلما قال في هذه الآية يقل ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة فلما قال في هذه الآية قَلِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ علمنا أن هذا التكليف مختص بمن كان عالما بكل التوراة ومن كان كذلك فانه يكون عالما بالدلائل الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن التوراة كانت مشتملة على تلك الدلائل ولهذا قال تعالى مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ أي مصدقا للآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) واذا كان العلم حاصلا كان ذلك الكفر محض العناد فلا جرم حسن منه تعالى أن يأمرهم بالايمان بمحمد عليه الصلاة والسلام جزما وأن يقرن الوعيد الشديد بذلك
المسألة الثانية الطمس المحو تقول العرب في وصف المفازة إنها طامسة الأعلام وطمس الطريق وطمس إذا درس وقد طمس الله على بصره إذا أزاله وأبطله وطمست الريح الأثر إذا محته وطمست الكتاب محوته وذكروا في الطمس المذكور في هذه الآية قولين أحدهما حمل اللفظ على حقيقته وهو طمس الوجوه والثاني حمل اللفظ على مجازه
أما القول الأول فهو أن المراد من طمس الوجوه محو تخطيط صورها فان الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه الحواس فاذا أزيلت ومحيت كان ذلك طمسا ومعنى قوله فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا رد الوجوه إلى ناحية القفا وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة فان هذا الوعيد مختص بيوم القيامة على ما سنقيم الدلالة عليه ومما يقرره قوله تعالى وَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ ( الانشقاق 10 ) فانه إذا ردت الوجوه إلى القفا أوتوا الكتاب

من وراء ظهورهم لأن في تلك الجهة العيون والأفواه التي بها يدرك الكتاب ويقرأ باللسان
فاما القول الثاني فهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه ثم ذكروا فيه وجوها الأول قال الحسن المراد نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها أي على ضلالتها والمقصود بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات ونظيره قوله تعالى مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ ( الأنفال 24 ) تحقيق القول فيه أن الانسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس ثم عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات فقد امه عالم المعقولات ووراءه عالم المحسوسات فالمخذول هو الذي يرد من قدامه إلى خلفه كما قال تعالى في صفتهم ناكسورؤسهم ( السجدة 12 ) الثاني يحتمل أن يكون المراد بالطمس القلب والتغيير وبالوجوه رؤساؤهم ووجهاؤهم والمعنى من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب منهم الاقبال والوجاهة ونكسوهم الصغار والادبار والمذلة الثالث قال عبد الرحمن ابن زيد هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وإريحاء من أرض الشام كما جاؤا منها بدءاً وطمس الوجوه على هذا التأويل يحتمل معنيين أحدهما تقبيح صورتهم يقال طمس الله صورته كقوله قبح الله وجهه والثاني إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها
فان قيل إنه تعالى هددهم بطمس الوجوه على القول الثاني فلا إشكال ألبتة وان فسرناه على القول الأول وهو حمله على ظاهره فالجواب عنه من وجوه الأول أنه تعالى ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه بل جعل الوعيد إما الطمس أو اللعن فانه قال أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وقد فعل أحدهما وهو اللعن وهو قوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ وظاهره ليس هو المسخ الثاني قوله تعالى ءامَنُواْ تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم فلزم أن يكون قوله مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً واقعا في الآخرة فصار التقدير آمنوا من قبل أن يجىء وقت نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت الثالث أنا قد بينا أن قوله قَلِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ خطاب مع جميع علمائهم فكان التهديد بهذا الطمس مشروطا بأن لا يأتي أحد منهم بالايمان وهذا الشرط لم يوجد لأنه آمن عبدالله بن سلام وجمع كثير من أصحابه ففات المشروط بفوات الشرط ويقال لما نزلت هذه الآية أتى عبدالله بن سلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يأتي أهله فأسلم وقال يا رسول الله كنت أرى أن لا أصل اليك حتى يتحول وجهي في قفاي الرابع أنه تعالى لم يقل من قبل أن نطمس وجوهكم بل قال مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً وعندنا أنه لا بد من طمس في اليهود أو مسخ قبل قيام الساعة ومما يدل على أن المراد ليس طمس وجوههم بأعيابهم بل طمس وجوه غيرهم من أبناء جنسهم قوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ فذكرهم على سبيل المغايبة ولو كان المراد أولئك المخاطبين لذكرهم على سبيل الخطاب وحمل الآية على طريقة الالتفات وإن كان جائزا إلا أن الأظهر ما ذكرناه
ثم قال تعالى أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ قال مقاتل وغيره نمسخهم قردة كما فعلنا ذلك بأوائلهم وقال أكثر المحققين الأظهر حمل الآية على اللعن المتعارف ألا ترى الى قوله تعالى قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذالِكَ مَثُوبَة ً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَة َ وَالْخَنَازِيرَ

ففصل تعالى ههنا بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير وههنا سؤالات
السؤال الأول الى من يرجع الضمير في قوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ
الجواب الى الوجوه إن أريد الوجهاء أو لأصحاب الوجوه لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم أو يرجع الى الذين أوتوا على طريقة الالتفات
السؤال الثاني قد كان اللعن والطمس حاصلين قبل الوعيد على الفعل فلا بد وأن يتحدا
والجواب أن لعنه تعالى لهم من بعد هذا الوعيد يكون أزيد تأثيرا في الخزي فيصح ذلك فيه
السؤال الثالث قوله تعالى قَلِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ خطاب مشافهة وقوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ خطاب مغايبة فكيف يليق أحدهما بالآخر
الجواب منهم من حمل ذلك على طريقة الالتفات كما في قوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ( يونس 22 ) ومنهم من قال هذا تنبيه على أن التهديد حاصل في غيرهم ممن يكذبون من أبناء جنسهم وعندي فيه احتمال آخر وهو أن اللعن هو الطرد والابعاد وذكر البعيد لا يكون إلا بالمغايبة فلما لعنهم ذكرهم بعبارة الغيبة
ثم قال تعالى وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس يريد لا راد لحكمه ولا ناقض لأمره على معنى أنه لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله كما تقول في الشيء الذي لا شك في حصوله هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد وإنما قال وَكَانَ إخباراً عن جريان عادة الله في الأنبياء المتقدمين أنه مهما أخبرهم بانزال العذاب عليهم فعل ذلك لا محالة فكأنه قيل لهم أنتم تعلمون أنه كان تهديد الله في الأمم السالفة واقعا لا محالة فاحترزوا الآن وكونوا على حذر من هذا الوعيد والله أعلم
المسألة الثانية احتج الجبائي بهذه الآية على أن كلام الله محدث فقال قوله وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً يقتضي أن أمره مفعول والمخلوق والمصنوع والمفعول واحد فدل هذا على أن أمر الله مخلوق مصنوع وهذا في غاية السقوط لأن الأمر في اللغة جاء بمعنى الشأن والطريقة والفعل قال تعالى وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ( هود 97 ) والمراد ههنا ذاك
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً
اعلم أن الله تعالى لما هدد اليهود على الكفر وبين أن ذلك التهديد لا بد من وقوعه لا محالة بين أن مثل هذا التهديد من خواص الكفر فأما سائر الذنوب التي هي مغايرة للكفر فليست حالها كذلك بل هو

سبحانه قد يعفو عنها فلا جرم قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هذه الآية دالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع ويدل عليه وجهان الأول أن الآية دالة على أن ما سوى الشرك مغفور فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية وبالاجماع هي غير مغفورة فدل على أنها داخلة تحت اسم الشرك الثاني أن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود فلولا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك وإلا لم يكن الأمر كذلك
فان قيل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ إلى قوله وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ ( الحج 17 ) عطف المشرك على اليهودي وذلك يقتضي المغايرة
قلنا المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغوي والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعي ولا بد من المصير إلى ما ذكرناه دفعا للتناقض إذا ثبتت هذه المقدمة فنقول قال الشافعي رضي الله عنه المسلم لا يقتل بالذمي وقال أبو حنيفة يقتل حجة الشافعي أن الذمي مشرك لما ذكرناه والمشرك مباح الدم لقوله تعالى اقتلوا المشركين فكان الذمي مباح الدم على الوجه الذي ذكرناه ومباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله ولا يتوجه النهي عن قتله ترك العمل بهذا الدليل في حق النهي فوجب أن يبقى معمولا به في سقوط القصاص عن قاتله
المسألة الثانية هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر
واعلم أن الاستدلال بها من وجوه
الوجه الأول أن قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ معناه لا يغفر الشرك على سبيل التفضل لأنه بالاجماع لا يغفر على سبيل الوجوب وذلك عندما يتوب المشرك عن شركه فاذا كان قوله إن الله لا يغفر الشرك هو أنه لا يغفره على سبيل التفضل وجب أن يكون قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ هو أن يغفره على سبيل التفضل حتى يكون النفي والاثبات متواردين على معنى واحد ألا ترى أنه لو قال فلان لا يعطي أحدا تفضلا ويعطي زائدا فانه يفهم منه أنه يعطيه تفضلا حتى لو صرح وقال لا يعطي أحدا شيئاً على سبيل التفضل ويعطي أزيد على سبيل الوجوب فكل عاقل يحكم بركاكة هذا الكلام فثبت أن قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء على سبيل التفضل إذا ثبت هذا فنقول وجب أن يكون المراد منه أصحاب الكبائر قبل التوبة لأن عند المعتزلة غفران الصغيرة وغفران الكبيرة بعد التوبة واجب عقلا فلا يمكن حمل الآية عليه فاذا تقرر ذلك لم يبق إلا حمل الآية على غفران الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب الثاني أنه تعالى قسم المنهيات على قسمين الشرك وما سوى الشرك ثم إن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة والكبيرة بعد التوبة والصغيرة ثم حكم على الشرك بأنه غير مغفور قطعا وعلى ما سواه بأنه مغفور قطعا لتكن في حق من يشاء فصار تقدير الآية أنه تعالى يغفر كل ما سوى الشرك لكن في حق من شاء ولما دلت الآية على أن كل ما سوى الشرك مغفور وجب أن تكون الكبيرة قبل التوبة أيضاً مغفورة الثالث أنه تعالى قال لِمَن يَشَاء فعلق هذا الغفران بالمشيئة وغفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة مقطوع به

وغير معلق على المشيئة فوجب أن يكون الغفران المذكور في هذه الآية هو غفران الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب واعترضوا على هذا الوجه الأخير بأن تعليق الأمر بالمشيئة لا ينافي وجوبه ألا ترى أنه تعالى قال بعد هذه الآية بَلِ اللَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاء ( النساء 49 ) ثم إنا نعلم أنه تعالى لا يزكي إلا من كان أهلا للتزكية وإلا كان كذباً والكذب على الله محال فكذا ههنا
واعلم أنه ليس للمعتزلة على هذه الوجوه كلام يلتفت إليه إلا المعارضة بعمومات الوعيد ونحن نعارضها بعمومات الوعد والكلام فيه على الاستقصاء مذكور في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) فلا فائدة في الاعادة وروى الواحدي في البسيط باسناده عن ابن عمر قال كنا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن الشهادات وقال ابن عباس إني لأرجو كما لا ينفع مع الشرك عمل كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب ذكر ذلك عند عمر بن الخطاب فسكت عمر وروي مرفوعا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( اتسموا بالايمان وأقربوا به فكما لا يخرج إحسان المشرك المشرك من إشراكه كذلك لا تخرج ذنوب المؤمن المؤمن من إيمانه )
المسألة الثانية روي عن ابن عباس انه قال لما قتل وحشي حمزة يوم أحد وكانوا قد وعدوه بالاعتاق ان هو فعل ذلك ثم أنهم ما وفوا له بذلك فعند ذلك ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذنبهم وانه لا يمنعهم عن الدخول في الإسلام إلا قوله تعالى وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ ( الفرقان 68 ) فقالوا قد ارتكبنا كل ما في الآية فنزل قوله إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ( الفرقان 70 ) فقالوا هذا شرط شديد نخاف أن لا نقوم به فنزل قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء فقالوا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزل قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( الزمر 53 ) فدخلوا عند ذلك في الإسلام وطعن القاضي في هذه الرواية وقال ان من يريد الايمان لا يجوز منه المراجعة على هذا الحد ولأن قوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) لو كان على اطلاقه لكان ذلك اغراء لهم بالثبات على ما هم عليه
والجواب عنه لا يبعد أن يقال انهم استعظموا قتل حمزة وايذاء الرسول إلى ذلك الحد فوقعت الشبهة في قلوبهم أن ذلك هل يغفر لهم أم لا فلهذا المعنى حصلت المراجعة وقوله هذا إعراء بالقبيح فهو انه إنما يتم على مذهبه أما على قولنا انه تعالى فعال لما يريد فالسؤال ساقط والله أعلم
ثم قال وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً أي اختلق ذنبا غير مغفور يقال افترى فلان الكذب إذا اعتمله واختلقه وأصله من الفرى بمعنى القطع
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً

اعمل أنه تعالى لما هدد اليهود بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ فعند هذا قالوا لسنا من المشركين بل نحن خواص الله تعالى كما حكى تعالى عنهم انه قالوا نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) وحكى عنهم أنهم قالوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً وحكى أيضا أنهم قالوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 111 ) وبعضهم كانوا يقولون أن آباءنا كانوا أنبياء فيشفعون لنا وعن ابن عباس رضي الله عنه ان قوما من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا يا محمد هل على هؤلاء ذنب فقال لا فقالوا والله ما نحن إلا كهؤلاء ما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل وبالجملة فالقوم كانوا قد بالغوا في تزكية أنفسهم فذكر تعالى في هذه الآية أنه لا عبرة بتزكية الانسان نفسه وإنما العبرة بتزكية الله له وفي الآية مسائل
المسألة الأولى التزكية في هذا الموضع عبارة عن مدح الانسان نفسه ومنه تزكية المعدل للشاهد قال تعالى فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ( النجم 32 ) وذلك لأن التزكية متعلقة بالتقوى والتقوى صفة في الباطن ولا يعلم حقيقتها إلا الله فلا جرم لا تصلح التزكية إلا من الله فلهذا قال تعالى بَلِ اللَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاء
فان قيل أليس أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض )
قلنا إنما قال ذلك حين قال المنافقون له اعدل في القسمة ولأن الله تعالى لما زكاه أولا بدلالة المعجزة جاز له ذلك بخلاف غيره
المسألة الثانية قوله بَلِ اللَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاء يدل على أن الايمان يحصل بخلق الله تعالى لأن أجل أنواع الزكاة والطهارة وأشرفها هو الايمان فلما ذكر تعالى انه هو الذي يزكي من يشاء دل على أن ايمان المؤمنين لم يحصل إلا بخلق الله تعالى
المسألة الثالثة قوله وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً هو كقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ ( النساء 40 ) والمعنى ان الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تلك التزكية حق جزائهم من غير ظلم أو يكون المعنى أن الذين زكاهم الله فانه يثيبهم على طاعاتهم ولا ينقص من ثوابهم شيئا والفتيل ما فتلت بين أصبعيك من الوسخ فعيل بمعنى مفعول وعن ابن السكيت الفتيل ما كان في شق النواة والنقير النقطة التي في ظهر النواة والقطمير القشرة الرقيقة على النواة وهذه الأشياء كلها تضرب أمثالا للشيء التافه الحقير أي لا يظلمون لا قليلا ولا كثيرا
ثم قال تعالى انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا تعجيب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) من فريتهم على الله وهي تزكيتهم أنفسهم وافتراؤهم على الله وهو قولهم نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وقولهم لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى وقولهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل
المسألة الثانية مذهبنا أن الخبر عن الشيء إذا كان على خلاف المخبر عنه كان كذبا سواء علم قائله كونه كذلك أو لم يعلم وقال الجاحظ شرط كونه كذبا أن يعلم كونه بخلاف ذلك وهذه الآية دليل لنا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66