كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

الحكم الأول
هذه الآية تدل على أنه تعالى ليس بجسم إذ لو كان جسماً لكان غائباً عنا أبداً فكان آفلاً أبداً وأيضاً يمتنع أن يكون تعالى ينزل من العرش إلى السماء تارة ويصعد من السماء إلى العرش أخرى وإلا لحصل معنى الأفول
الحكم الثاني
هذه الآية تدل على أنه تعالى ليس محلاً للصفات المحدثة كما تقوله الكرامية وإلا لكان متغيراً وحينئذ يحصل معنى الأفول وذلك محال
الحكم الثالث
تدل هذه الآية على أن الدين يجب أن يكون مبنياً على الدليل لا على التقليد وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة
الحكم الرابع
تدل هذه الآية على أن معارف الأنبياء بربهم استدلالية لا ضرورية وإلا لما احتاج إبراهيم إلى الاستدلال
الحكم الخامس
تدل على هذه الآية على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخر لما عدل إبراهيم عليه السلام إلى هذه الطريقة والله أعلم
أما قوله تعالى فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَاذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لاَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالّينَ
ففيه مسألتان
المسألة الأولى يقال بزغ القمر إذا ابتدأ في الطلوع وبزغت الشمس إذا بدأ منها طلوع ونجوم بوازغ قال الأزهري كأنه مأخوذ في البزغ وهو الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقاً ومعنى الآية أنه اعتبر في القمر مثل ما اعتبر في الكوكب
المسألة الثانية دل قوله لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لاَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالّينَ على أن الهداية ليست إلا من الله تعالى ولا يمكن حمل لفظ الهداية على التمكن وإزاحة الأغدار ونصب الدلائل لأن كل ذلك كان حاصلاً فالهداية التي كان يطلبها بعد حصول تلك الأشياء لا بد وأن تكون زائدة عليها
واعلم أن كون إبراهيم عليه السلام على مذهبنا أظهر من أن يشتبه على العاقل لأنه في هذه الآية أضاف الهداية إلى الله تعالى وكذا في قوله الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وكذا في قوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ

أما قوله فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَة ً قَالَ هَاذَا رَبّى هَاذَا أَكْبَرُ ففيه مسائل
المسألة الأولى إنما قال في الشمس هذا مع أنها مؤنثة ولم يقل هذه لوجوه أحدها أن الشمس بمعنى الضياء والنور فحمل اللفظ على التأويل فذكر وثانيها أن الشمس لم يحصل فيها علامة التأنيث فلما أشبه لفظها لفظ المذكر وكان تأويلها تأويل النور صلح التذكير من هاتين الجهتين وثالثها أراد هذا الطالع أو هذا الذي أراه ورابعها المقصود منه رعاية الأدب وهو ترك التأنيث عند ذكر اللفظ الدال على الربوبية
المسألة الثانية قوله هَاذَا أَكْبَرُ المراد منه أكبر الكواكب جرماً وأقواها قوة فكان أولى بالآلهية
فإن قيل لما كان الأفول حاصلاً في الشمس والأفول يمنع من صفة الربوبية وإذا ثبت امتناع صفة الربوبية للشمس كان امتناع حصولها للقمر ولسائر الكواكب أولى وبهذا الطريق يظهر أن ذكر هذا الكلام في الشمس يغني عن ذكره في القمر والكواكب فلم لم يقتصر على ذكر الشمس رعاية للإيجاز والاختصار
قلنا إن الأخذ من الأدون فالأدون مترقياً إلى الأعلى فالأعلى له نوع تأثير في التقرير والبيان والتأكيد لا يحصل من غيره فكان ذكره على هذا الوجه أولى
أما قوله قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ فالمعنى أنه لما ثبت بالدليل أن هذه الكواكب لا تصلح للربوبية والإلهية لا جرم تبرأ من الشرك
ولقائل أن يقول هب أنه ثبت بالدليل أن الكواكب والشمس والقمر لا تصلح للربوبية والإلهية لكن لا يلزم من هذا القدر نفي الشريك مطلقاً وإثبات التوحيد فلم فرع على قيام الدليل على كون هذه الكواكب غير صالحة للربوبية الجزم بإثبات التوحيد مطلقاً
والجواب أن القوم كانوا مساعدين على نفي سائر الشركاء وإنما نازعوا في هذه الصورة المعينة فلما ثبت بالدليل أن هذه الأشياء ليست أرباباً ولا آلهة وثبت بالاتفاق نفي غيرها لا جرم حصل الجزم بنفي الشركاء على الإطلاق
أما قوله إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ ففيه مسألتان
المسألة الأولى فتح الياء من وَجْهِى َ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم والباقون تركوا هذا الفتح
المسألة الثانية هذا الكلام لا يمكن حمله على ظاهره بل المراد وجهت عبادتي وطاعتي وسبب جواز هذا المجاز أن من كان مطيعاً لغيره منقاداً لأمره فإنه يتوجه بوجهه إليه فجعل توجيه الوجه إليه كناية عن الطاعة
وأما قوله لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ففيه دقيقة وهي أنه لم يقل وجهت وجهي إلى الذي فطر السموات والأرض بل ترك هذا اللفظ وذكر قوله وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى والمعنى أن توجيه وجه القلب ليس إليه لأنه متعال عن الحيز والجهة بل توجيه وجه القلب إلى خدمته وطاعته لأجل عبوديته فترك كلمة ( إلى ) هنا والاكتفاء بحرف اللام دليل ظاهر على كون المعبود متعالياً عن الحيز والجهة ومعنى فطر أخرجهما

إلى الوجود وأصله من الشق يقال تفطر الشجر بالورق والورد إذا أظهرهما وأما الحنيف فهو المائل قال أبو العالية الحنيف الذي يستقبل البيت في صلاته وقيل إنه العادل عن كل معبود دون الله تعالى
وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّو نِّى فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْئاً وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَى ْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ
اعلم أن إبراهيم عليه السلام لما أورد عليهم الحجة المذكورة فالقوم أوردوا عليه حججاً على صحة أقوالهم منها أنهم تمسكوا بالتقليد كقولهم إِنَّا وَجَدْنَا ءابَائِنَا عَلَى أُمَّة ٍ ( الزخرف 23 ) وكقولهم للرسول عليه السلام أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ ( ص 5 ) ومنها أنهم خوفوه بأنك لما طعنت في إلهية هذه الأصنام وقعت من جهة هذه الأصنام في الآفات والبليات ونظيره ما حكاه الله تعالى في قصة قوم هود إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء ( هود 54 ) فذكروا هذا الجنس من الكلام مع إبراهيم عليه السلام
فأجاب الله عن حجتهم بقوله قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى يعني لما ثبت بالدليل الموجب للهداية واليقين صحة قولي فكيف يلتفت إلى حجتكم العليلة وكلماتكم الباطلة
وأجاب عن حجتهم الثانية وهي أنهم خوفوه بالأصنام بقوله وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر والأصنام جمادات لا تقدر ولا قدرة لها على النفع والضر فكيف يحصل الخوف منها
فإن قيل لا شك أن للطلسمات آثاراً مخصوصة فلم لا يجوز أن يحصل الخوف منها من هذه الجهة
قلنا الطلسم يرجع حاصله إلى تأثيرات الكواكب وقد دللنا على أن قوى الكواكب على التأثيرات إنما يحصل من خلق الله تعالى فيكون الرجاء والخوف في الحقيقة ليس إلا من الله تعالى
وأما قوله إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى ففيه وجوه أحدها إلا أن أذنب فيشاء إنزال العقوبة بي وثانيها إلا أن يشاء أن يبتليني بمحن الدنيا فيقطع عني بعض عادات نعمه وثالثها إلا أن يشاء ربي فأخاف ما تشركون به بأن يحييها ويمكنها من ضري ونفعي ويقدرها على إيصال الخير والشر إلي واللفظ يحتمل كل هذه الوجوه وحاصل الأمر أنه لا يبعد أن يحدث للإنسان في مستقبل عمره شيء من المكاره والحمقى من الناس يحملون ذلك على أنه إنما حدث ذلك المكروه بسبب أنه طعن في إلهية الأصنام فذكر إبراهيم عليه السلام ذلك حتى لو أنه حدث به شيء من المكاره لم يحمل على هذا السبب

ثم قال عليه السلام وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَى ْء عِلْماً يعني أنه علام الغيوب فلا يفعل إلا الصلاح والخير والحكمة فبتقدير أن يحدث من مكاره الدنيا فذاك لأنه تعالى عرف وجه الصلاح والخير فيه لا لأجل أنه عقوبة على الطعن في إلهية الأصنام
ثم قال أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ والمعنى أفلا تتذكرون أن نفي الشركاء والأضداد والأنداد عن الله تعالى لا يوجب حلول العقاب ونزول العذاب والسعي في إثبات التوحيد والتنزيه لا يوجب استحقاق العقاب والله أعلم
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر أَتُحَاجُّونّى خفيفة النون على حذف أحد النونين والباقون على التشديد على الإدغام وأما قوله وَقَدْ هَدَانِى قرأ نافع وابن عامر هَدَانِى بإثبات الياء على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف
المسألة الثالثة أن إبراهيم عليه السلام حاجهم في الله وهو قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ والقوم أيضاً حاجوه في الله وهو قوله تعالى خبراً عنهم وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى اللَّهِ فحصل لنا من هذه الآية أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للمدح العظيم والثناء البالغ وهي المحاجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام وذلك المدح والثناء هو قوله تعالى وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ وتارة تكون موجبة للذم وهو قوله قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى اللَّهِ ولا فرق بين هذين البابين إلا أن المحاجة في تقرير الدين الحق توجب أعظم أنواح المدح والثناء والمحاجة في تقرير الدين الباطل توجب أعظم أنواع الذم والزجر
وإذا ثبت هذا الأصل صار هذا قانوناً معتبراً فكل موضع جاء في القرآن والأخبار يدل على تهجين أمر المحاجة والمناظرة فهو محمول على تقرير الدين الباطل وكل موضع جاء يدل على مدحه فهو محمول على تقرير الدين الحق والمذهب الصدق والله أعلم
وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَى ُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالاٌّ مْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَائِكَ لَهُمُ الاٌّ مْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ
اعلم أن هذا من بقية الجواب عن الكلام الأول والتقدير وكيف أخاف الأصنام التي لا قدرة لها على النفع والضر وأنتم لا تخافون من الشرك الذي هو أعظم الذنوب وقوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فيه

وجهان الأول أن قوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً كناية عن امتناع وجود الحجة والسلطان في مثل هذه القصة ونظيره قوله تعالى وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ( المؤمنون 117 ) والمراد منه امتناع حصول البرهان فيه والثاني أنه لا يمتنع عقلاً أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للدعاء والصلاة فقوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً معناه عدم ورود الأمر به وحاصل هذا الكلام مالكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف ولم يقل فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم احترازاً من تزكية نفسه فعدل عنه إلى قوله فَأَى ُّ الْفَرِيقَيْنِ يعني فريقي المشركين والموحدين ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ وهذا من تمام كلام إبراهيم في المحاجة والمعنى أن الذين حصل لهم الأمن المطلق هم الذين يكونون مستجمعين لهذن الوصفين أولهما الإيمان وهو كمال القوة النظرية وثانيهما وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ وهو كمال القوة العملية
ثم قال أُوْلَئِكَ لَهُمُ الاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ اعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية من وجه والمعتزلة يتمسكون بها من وجه آخر أما وجه تمسك أصحابنا فهو أن نقول إنه تعالى شرط في الإيمان الموجب للأمن عدم الظلم ولو كان ترك الظلم أحد أجزاء مسمى الإيمان لكان هذا التقييد عبثاً فثبت أن الفاسق مؤمن وبطل به قول المعتزلة وأما وجه تمسك المعتزلة بها فهو أنه تعالى شرط في حصول الأمن حصول الأمرين الإيمان وعدم الظلم فوجب أن لا يحصل الأمن للفاسق وذلك يوجب حصول الوعيد له
وأجاب أصحابنا عنه من وجهين
الوجه الأول أن قوله وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ المراد من الظلم الشرك لقوله تعالى حكاية عن لقمان إذ قال لابنه يَعِظُهُ يابُنَى َّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) فالمراد ههنا الذين آمنوا بالله ولم يثبتوا لله شريكاً في المعبودية
والدليل على أن هذا هو المراد أن هذه القصة من أولها إلى آخرها إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات فوجب حمل الظلم ههنا على ذلك
الوجه الثاني في الجواب أن وعيد الفاسق من أهل الصلاة يحتمل أن يعذبه الله ويحتمل أن يعفو عنه وعلى كلا التقديرين فالأمن زائل والخوف حاصل فلم يلزم من عدم الأمن القطع بحصول العذاب والله أعلم
وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَتِلْكَ إشارة إلى كلام تقدم وفيه وجوه الأول أنه إشارة إلى قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ

والثاني أنه إشارة إلى أن القوم قالوا له أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لأجل أنك شتمتهم فقال لهم أفلا تخافون أنتم حيث أقدمتهم على الشرك بالله وسويتم في العبادة بين خالق العالم ومدبره وبين الخشب المنحوت والصنم المعمول والثالث أن المراد هو الكل
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَتِلْكَ مبتدأ وقوله حُجَّتُنَا خبره وقوله إِبْراهِيمَ عَلَى صفة لذلك الخبر
المسألة الثانية قوله وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ يدل على أن تلك الحجة إنما حصلت في عقل إبراهيم عليه السلام بإيتاء الله وبإظهاره تلك الحجة في عقله وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى ويتأكد هذا أيضاً بقوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء فإن المراد أنه تعالى رفع درجات إبراهيم بسبب أنه تعالى آتاه تلك الحجة ولو كان حصول العلم بتلك الحجة إنما كان من قبل إبراهيم لا من قبل الله تعالى لكان إبراهيم عليه السلام هو الذي رفع درجات نفسه وحينئذ كان قوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء باطلاً فثبت أن هذا صريح قولنا في مسألة الهدى والضلال
المسألة الثالثة هذه الآية من أدل الدلائل على فساد قول الحشوية في الطعن في النظر وتقرير الحجة وذكر الدليل لأنه تعالى أثبت لإبراهيم عليه السلام حصول الرفعة والفوز بالدرجات العالية لأجل أنه ذكر الحجة في التوحيد وقررها وذب عنها وذلك يدل على أنه لا مرتبة بعد النبوة والرسالة أعلى وأشرف من هذه المرتبة
المسألة الرابعة قرأ عاصم وحمزة والكسائي دَرَجَاتٌ بالتنوين من غير إضافة والباقون بالإضافة فالقراءة الأولى معناها نرفع من نشاء درجات كثيرة فيكون ( من ) في موضع النصب قال ابن مقسم هذه القراءة أدل على تفضيل بعضهم على بعض في المنزلة والرفعة وقال أبو عمرو الإضافة تدل على الدرجة الواحدة وعلى الدرجات الكثيرة والتنوين لا يدل إلا على الدرجات الكثيرة
المسألة الخامسة اختلفوا في تلك الدرجات قيل درجات أعماله في الآخرة وقيل تلك الحجج درجات رفيعة لأنها توجب الثواب العظيم وقيل نرفع من نشاء في الدنيا بالنبوة والحكمة وفي الآخرة بالجنة والثواب وقيل نرفع درجات من نشاء بالعلم واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن كمال السعادة في الصفات الروحانية وفي البعد عن الصفات الجسمانية
والدليل عليه أنه تعالى قال وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ
ثم قال بعده نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء وذلك يدل على أن الموجب لحصول هذه الرفعة هو إيتاء تلك الحجة وهذا يقتضي أن وقوف النفس على حقيقة تلك الحجة وإطلاعها على إشراقها اقتضت ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعالي العالم الروحاني وذلك يدل على أنه لا رفعة ولا سعادة إلا في الروحانيات والله أعلم
وأما معنى حَكِيمٌ عَلِيمٌ فالمعنى أنه إنما يرفع درجات من يشاء بمقتضى الحكمة والعلم لا بموجب الشهوة والمجازفة فإن أفعال الله منزهة عن العبث والفساد والباطل

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه أظهر حجة الله تعالى في التوحيد ونصرها وذب عنها عدد وجوه نعمه وإحسانه عليه فأولها قوله وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ والمراد إنا نحن آتيناه تلك الحجة وهديناه إليها وأوقفنا عقله على حقيقتها وذكر نفسه باللفظ الدال على العظمة وهو كناية الجمع على وفق ما يقوله عظماء الملوك فعلنا وقلنا وذكرنا ولما ذكر نفسه تعالى ههنا باللفظ الدال على العظمة وجب أن تكون تلك العظمة عظمة كاملة رفيعة شريفة وذلك يدل على أن إيتاء الله تعالى إبراهيم عليه السلام تلك الحجة من أشرف النعم ومن أجل مراتب العطايا والمواهب وثانيها أنه تعالى خصه بالرفعة والاتصال إلى الدرجات العالية الرفيعة وهي قوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء وثالثها أنه جعله عزيزاً في الدنيا وذلك لأنه تعالى جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله ومن ذريته وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة لأن من أعظم أنواع السرور علم المرء بأنه يكون من عقبه الأنبياء والملوك والمقصود من هذه الآيات تعديد أنواع نعم الله على إبراهيم عليه السلام جزاء على قيامه بالذب عن دلائل التوحيد فقال وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ لصلبه وَيَعْقُوبَ بعده من إسحق
فإن قالوا لم لم يذكر إسمعيل عليه السلام مع إسحق بل أخر ذكره عنه بدرجات قلنا لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل وهم بأسرهم أولاد إسحق ويعقوب وأما إسمعيل فإنه ما خرج من صلبه أحد من الأنبياء إلا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يجوز ذكر محمد عليه الصلاة والسلام في هذا المقام لأنه تعالى أمر محمداً عليه الصلاة والسلام أن يحتج على العرب في نفي الشرك بالله بأن إبراهيم لما ترك الشرك وأصر على

التوحيد رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا ومن النعم العظيمة في الدنيا أن آتاه الله أولاداً كانوا أنبياء وملوكاً فإذا كان المحتج بهذه الحجة هو محمد عليه الصلاة والسلام امتنع أن يذكر نفسه في هذا المعرض فلهذا السبب لم يذكر إسمعيل مع إسحق
وأما قوله وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ فالمراد أنه سبحانه جعل إبراهيم في أشرف الأنساب وذلك لأنه رزقه أولاداً مثل إسحق ويعقوب وجعل أنبياء بني إسرائيل من نسلهما وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين مثل نوح وإدريس وشيث فالمقصود بيان كرامة إبراهيم عليه السلام بحسب الأولاد وبحسب الآباء
أما قوله وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ فقيل المراد ومن ذرية نوح ويدل عليه وجوه الأول أن نوحاً أقرب المذكورين وعود الضمير إلى الأقرب واجب الثاني أنه تعالى ذكر في جملتهم لوطاً وهو كان ابن أخ إبراهيم وما كان من ذريته بل كان من ذرية نوح عليه السلام وكان رسولاً في زمان إبراهيم الثالث أن ولد الإنسان لا يقال أنه ذريته فعلى هذا إسمعيل عليه السلام ما كان من ذرية إبراهيم بل هو من ذرية نوح عليه السلام الرابع قيل إن يونس عليه السلام ما كان من ذرية إبراهيم عليه السلام وكان من ذرية نوح عليه السلام
والقول الثاني أن الضمير عائد إلى إبراهيم عليه السلام والتقدير ومن ذرية إبراهيم داود وسليمان واحتج القائلون بهذا القول بأن إبراهيم هو المقصود بالذكر في هذه الآيات وإنما ذكر الله تعالى نوحاً لأن كون إبراهيم عليه السلام من أولاده أحد موجبات رفعة إبراهيم
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر من الأنبياء داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسمعيل واليسع ويونس ولوطاً والمجموع ثمانية عشر
فإن قيل رعاية الترتيب واجبة والترتيب إما أن يعتبر بحسب الفضل والدرجة وإما أن يعتبر بحسب الزمان والمدة والترتيب بحسب هذين النوعين غير معتبر في هذه الآية فما السبب فيه
قلنا الحق أن حرف الواو لا يوجب الترتيب وأحد الدلائل على صحة هذا المطلوب هذه الآية فإن حرف الواو حاصل ههنا مع أنه لا يفيد الترتيب البتة لا بحسب الشرف ولا بحسب الزمان وأقول عندي فيه وجه من وجوه الترتيب وذلك لأنه تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الإكرام والفضل
فمن المراتب المعتبرة عند جمهور الخلق الملك والسلطان والقدرة والله تعالى قد أعطى داود وسليمان من هذا الباب نصيباً عظيماً
والمرتبة الثانية البلاء الشديد والمحنة العظيمة وقد خص الله أيوب بهذه المرتبة والخاصية
والمرتبة الثالثة من كان مستجمعاً لهاتين الحالتين وهو يوسف عليه السلام فإنه نال البلاء الشديد الكثير في أول الأمر ثم وصل إلى الملك في آخر الأمر
والمرتبة الرابعة من فضائل الأنبياء عليهم السلام وخواصهم قوة المعجزات وكثرة البراهين والمهابة

العظيمة والصولة الشديدة وتخصيص الله تعالى إياهم بالتقريب العظيم والتكريم التام وذلك كان في حق موسى وهرون
والمرتبة الخامسة الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا وترك مخالطة الخلق وذلك كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ولهذا السبب وصفهم الله بأنهم من الصالحين
والمرتبة السادسة الأنبياء الذين لم يبق لهم فيما بين الخلق أتباع وأشياع وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط فإذا اعتبرنا هذا الوجه الذي راعيناه ظهر أن الترتيب حاصل في ذكر هؤلاء الأنبياء عليهم السلام بحسب هذا الوجه الذي شرحناه
المسألة الثانية قال تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا اختلفوا في أنه تعالى إلى ماذا هداهم وكذا الكلام في قوله وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وكذا قوله في آخر الآية ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ
قال بعض المحققين المراد من هذه الهداية الثواب العظيم وهي الهداية إلى طريق الجنة وذلك لأنه تعالى لما ذكر هذه الهداية قال بعدها وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وذلك يدل على أن تلك الهداية كانت جزاء المحسنين على إحسانهم وجزاء المحسن على إحسانه لا يكون إلا الثواب فثبت أن المراد من هذه الهداية هو الهداية إلى الجنة فأما الإرشاد إلى الدين وتحصيل المعرفة في قلبه فإنه لا يكون جزاء له على عمله وأيضاً لا يبعد أن يقال المراد من هذه الهداية هو الهداية إلى الدين والمعرفة وإنما ذلك كان جزاء على الإحسان الصادر منهم لأنهم اجتهدوا في طلب الحق فالله تعالى جازاهم على حسن طلبهم بإيصالهم إلى الحق كما قال وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ ( العنكبوت 69 )
والقول الثالث أن المراد من هذه الهداية الإرشاد إلى النبوة والرسالة لأن الهداية المخصوصة بالأنبياء ليست إلا ذلك
فإن قالوا لو كان الأمر كذلك لكان قوله وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ يقتضي أن تكون الرسالة جزاء على عمل وذلك عندكم باطل
قلنا يحمل قوله وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ على الجزاء الذي هو الثواب والكرامة فيزول الإشكال والله أعلم
المسألة الثالثة احتج القائلون بأن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة بقوله تعالى بعد ذكر هؤلاء عليهم السلام وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وذلك لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى فيدخل في لفظ العالم الملائكة فقوله تعالى وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ يقتضي كونهم أفضل من كل العالمين وذلك يقتضي كونهم أفضل من الملائكة ومن الأحكام المستنبطة من هذه الآية أن الأنبياء عليهم السلام يجب أن يكونوا أفضل من كل الأولياء لأن عموم قوله تعالى وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ يوجب ذلك قال بعضهم وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ معناه فضلناه على عالمي زمانهم قال القاضي ويمكن أن يقال المراد وكلاًّ من الأنبياء يفضلون على كل من سواهم من العالمين ثم الكلام بعد ذلك في

أن أي الأنبياء أفضل من بعض كلام واقع في نوع آخر لا تعلق به بالأول والله أعلم
المسألة الرابعة قرأ حمزة والكسائي واللسيع بتشديد اللام وسكون الياء والباقون إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ بلام واحدة قال الزجاج يقال فيه الليسع واليسع بتشديد اللام وتخفيفها
المسألة الخامسة الآية تدل على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأن الله تعالى جعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أنه لا ينتسب إلى إبراهيم إلا بالأم فكذلك الحسن والحسين من ذرية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإن انتسبا إلى رسول الله بالأم وجب كونهما من ذريته ويقال إن أبا جعفر الباقر استدل بهذه الآية عند الحجاج بن يوسف
المسألة السادسة قوله تعالى وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ يفيد أحكاماً كثيرة الأول أنه تعالى ذكر الآباء والذريات والأخوان فالآباء هم الأصول والذريات هم الفروع والأخوان فروع الأصول وذلك يدل على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء الأنبياء بنوع من الشرف والكرامة والثاني أنه تعالى قال وَمِنْ ءابَائِهِمْ وكلمة ( من ) للتبعيض
فإن قلنا المراد من تلك الهداية الهداية إلى الثواب والجنة والهداية إلى الإيمان والمعرفة فهذه الكلمة تدل على أنه قد كان في آباء هؤلاء الأنبياء من كان غير مؤمن ولا واصل إلى الجنة أما لو قلنا المراد بهذه الهداية النبوة لم يفد ذلك الثالث أنا إذا فسرنا هذه الهداية بالنبوة كان قوله وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ كالدلالة على أن شرط كون الإنسان رسولاً من عند الله أن يكون رجلاً وأن المرأة لا يجوز أن تكون رسولاً من عند الله تعالى وقوله تعالى بعد ذلك وَاجْتَبَيْنَاهُمْ يفيد النبوة لأن الاجتباء إذا ذكر في حق الأنبياء عليهم السلام لا يليق به إلا الحمل على النبوة والرسالة
ثم قال تعالى ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ واعلم أنه يجب أن يكون المراد من هذا الهدى هو معرفة التوحيد وتنزيه الله تعالى عن الشرك لأنه قال بعده وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الأنعام 88 ) وذلك يدل على أن المراد من ذلك الهدي ما يكون جارياً مجرى الأمر المضاد للشرك
وإذا ثبت أن المراد بهذا الهدى معرفة الله بوحدانيته ثم إنه تعالى صرح بأن ذلك الهدى من الله تعالى ثبت أن الإيمان لا يحصل إلا بخلق الله تعالى ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بنفي الشرك فقال وَلَوْ أَشْرَكُواْ والمعنى أن هؤلاء الأنبياء لو أشركوا لحبط عنهم طاعاتهم وعباداتهم والمقصود منه تقرير التوحيد وإبطال طريقة الشرك وأما الكلام في حقيقة الإحباط فقد ذكرناه على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة فلا حاجة إلى الإعادة والله أعلم
أُوْلَائِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَاؤُلا ءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ

اعلم أن قوله أُوْلَائِكَ إشارة إلى الذين مضى ذكرهم قبل ذلك وهم الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم الله تعالى قبل ذلك ثم ذكر تعالى أنه آتاهم الكتاب والحكم والنبوة
واعلم أن العطف يوجب المغايرة فهذه الألفاظ الثلاثة لا بد وأن تدل على أمور ثلاثة متغايرة
واعلم أن الحكام على الخلق ثلاث طوائف أحدها الذين يحكمون على بواطن الناس وعلى أرواحهم وهم العلماء وثانيها الذين يحكمون على ظواهر الخلق وهم السلاطين يحكمون على الناس بالقهر والسلطنة وثالثها الأنبياء وهم الذين أعطاهم الله تعالى من العلوم والمعارف ما لأجله بها يقدرون على التصرف في بواطن الخلق وأرواحهم وأيضاً أعطاهم من القدرة والمكنة ما لأجله يقدرون على التصرف في ظواهر الخلق ولما استجمعوا هذين الوصفين لا جرم كانوا هم الحكام على الإطلاق
إذا عرفت هذه المقدمة فقوله الْكِتَابَ مِن إشارة إلى أنه تعالى أعطاهم العلم الكثير وقوله وَالْحُكْمَ إشارة إلى أنه تعالى جعلهم حكاماً على الناس نافذي الحكم فيهم بحسب الظاهر وقوله وَالنُّبُوَّة َ إشارة إلى المرتبة الثالثة وهي الدرجة العالية الرفيعة الشريفة التي يتفرع على حصولها حصول المرتبتين المقدمتين المذكورتين وللناس في هذه الألفاظ الثلاثة تفسيرات كثيرة والمختار عندنا ما ذكرناه
واعلم أن قوله الْكِتَابَ مِن يحتمل أن يكون المراد من هذا الإيتاء الابتداء بالوحي والتنزيل عليه كما في صحف إبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى عليه السلام وقرآن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويحتمل أن يكون المراد منه أن يؤتيه الله تعالى فهماً تاماً لما في الكتاب وعلماً محيطاً بحقائقه وأسراره وهذا هو الأولى لأن الأنبياء الثمانية عشر المذكورين ما أنزل الله تعالى على كل واحد منهم كتاباً إلهياً على التعيين والتخصيص
ثم قال تعالى فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء والمرادفان يكفر بهذا التوحيد والطعن في الشرك كفار قريش فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن ذلك القوم من هم على وجوه فقيل هم أهل المدينة وهم الأنصار وقيل المهاجرون والأنصار وقال الحسن هم الأنبياء الثمانية عشر الذين تقدم ذكرهم وهو اختيار الزجاج قال الزجاج والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ وقال أبو رجاء يعني الملائكة وهو بعيد لأن اسم القوم قلما يقع على غير بني آدم وقال مجاهد هم الفرس وقال ابن زيد كل من لم يكفر فهو منهم سواء كان ملكاً أو نبياً أو من الصحابة أو من التابعين
المسألة الثانية قوله تعالى فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ يدل على أنه إنما خلقهم للإيمان وأما غيرهم فهو تعالى ما خلقهم للإيمان لأنه تعالى لو خلق الكل للإيمان كان البيان والتمكين وفعل الألطاف مشتركاً فيه بين المؤمن وغير المؤمن وحينئذ لا يبقى لقوله فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ معنى
وأجاب الكعبي عنه من وجهين الأول أنه تعالى زاد المؤمنين عند إيمانهم وبعده من ألطافه وفوائده وشريف أحكامه ما لا يحصيه إلا الله وذكر في الجواب وجهاً ثانياً فقال وبتقدير أن يسوى لكان بعضهم إذا قصر ولم ينتفع صح أن يقال بحسب الظاهر أن لم يحصل له نعم الله كالوالد الذي يسوي بين الولدين في

العطية فإنه يصح أن يقال إنه أعطى أحدهما دون الآخر إذا كان ذلك الآخر ضيعه وأفسده
واعلم أن الجواب الأول ضعيف لأن الألطاف الداعية إلى الإيمان مشتركة فيما بين الكافر والمؤمن والتخصيص عند المعتزلة غير جائز والثاني أيضاً فاسد لأن الوالد لما سوى بين الولدين في العطية ثم إن أحدهما ضيع نصيبه فأي عاقل يجوز أن يقال أن الأب ما أنعم عليه وما أعطاه شيئاً
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أنه تعالى سينصر نبيه ويقوي دينه ويجعله مستعلياً على كل من عاداه قاهراً لكل من نازعه وقد وقع هذا الذي أخبر الله تعالى عنه في هذا الموضع فكان هذا جارياً مجرى الأخبار عن الغيب فيكون معجزاً والله أعلم
أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى لا شبهة في أن قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ هم الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء ولا شك في أن قوله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ أمر لمحمد عليه الصلاة والسلام وإنما الكلام في تعيين الشيء الذي أمر الله محمداً أن يقتدي فيه بهم فمن الناس من قال المراد أنه يقتدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال وسائر العقليات وقال آخرون المراد الاقتداء بهم في جميع الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة الكاملة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم وقال آخرون المراد الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل وبهذا التقدير كانت هذه الآية دليلاً على أن شرع من قبلنا يلزمنا وقال آخرون إنه تعالى إنما ذكر الأنبياء في الآية المتقدمة ليبين أنهم كانوا محترزين عن الشرك مجاهدين بإبطاله بدليل أنه ختم الآية بقوله وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الأنعام 88 ) ثم أكد إصرارهم على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ
ثم قال في هذه الآية أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي هداهم إلى إبطال الشرك وإثبات التوحيد فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ أي اقتد بهم في نفس الشرك وإثبات التوحيد وتحمل سفاهات الجهال في هذا الباب وقال آخرون اللفظ مطلق فهو محمول على الكل إلا ما خصه الدليل المنفصل قال القاضي يبعد حمل هذه الآية على أمر الرسول بمتابعة الأنبياء عليهم السلام المتقدمين في شرائعهم لوجوه أحدها أن شرائعهم مختلفة متناقضة فلا يصح مع تناقضها أن يكون مأموراً بالاقتداء بهم في تلك الأحكام المتناقضة وثانيها أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل

وإذا ثبت هذا فنقول دليل ثبات شرعهم كان مخصوصاً بتلك الأوقات لا في غير ذلك الأوقات فكان الاقتداء بهم في ذلك الهدى هو أن يعلم وجوب تلك الأفعال في تلك الأوقات فقط وكيف يستدل بذلك على اتباعهم في شرائعهم في كل الأوقات وثالثها أن كونه عليه الصلاة والسلام متبعاً لهم في شرائعهم يوجب أن يكون منصبه أقل من منصبهم وذلك باطل بالإجماع فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على وجوب الاقتداء بهم في شرائعهم
والجواب عن الأول أن قوله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ يتناول الكل فأما ما ذكرتم من كون بعض الأحكام متناقضة بحسب شرائعهم فنقول ذلك العام يجب تخصيصه في هذه الصورة فيبقى فيما عداها حجة
وعن الثاني أنه عليه الصلاة والسلام لو كان مأموراً بأن يستدل بالدليل الذي استدل به الأنبياء المتقدمون لم يكن ذلك متابعة لأن المسلمين لما استدلوا بحدوث العالم على وجود الصانع لا يقال إنهم متبعون لليهود والنصارى في هذا الباب وذلك لأن المستدل بالدليل يكون أصيلاً في ذلك الحكم ولا تعلق له بمن قبله البتة والاقتداء والاتباع لا يحصل إلا إذا كان فعل الأول سبباً لوجوب الفعل على الثاني وبهذا التقرير يسقط السؤال
وعن الثالث أنه تعالى أمر الرسول بالاقتداء بجميعهم في جميع الصفات الحميدة والأخلاق الشريفة وذلك لا يوجب كونه أقل مرتبة منهم بل يوجب كونه أعلى مرتبة من الكل على ما سيجيء تقريره بعد ذلك إن شاء الله تعالى فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا
المسألة الثانية احتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من جميع الأنبياء عليهم السلام وتقريره هو أنا بينا أن خصال الكمال وصفات الشرف كانت مفرقة فيهم بأجمعهم فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء ويوسف كان مستجمعاً لهاتين الحالتين وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة والمعجزات الظاهرة وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كانوا أصحاب الزهد وإسماعيل كان صاحب الصدق ويونس صاحب التضرع فثبت إنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء لأن الغالب عليه كان خصلة معينة من خصال المدح والشرف ثم أنه تعالى لما ذكر الكل أمر محمداً عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بهم بأسرهم فكان التقدير كأنه تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ولما أمره الله تعالى بذلك امتنع أن يقال إنه قصر في تحصيلها فثبت أنه حصلها ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه اجتمع فيه من فصال الخير ما كان متفرقاً فبهم بإسرهم ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يقال إنه أفضل منهم بكليتهم والله أعلم
المسألة الثالثة قال الواحدي قوله هُدَى اللَّهِ دليل على أنهم مخصوصون بالهدى لأنه لو هدى جميع المكلفين لم يكن لقوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فائدة تخصيص
المسألة الرابعة قال الواحدي الاقتداء في اللغة إتيان الثاني بمثل فعل الأول لأجل أنه فعله روى اللحياني عن الكسائي أنه قال يقال لي بك قدوة وقدوة

المسألة الخامسة قال الواحدي قرأ ابن عامر اقْتَدِهْ بكسر الدال وبشم الهاء للكسر من غير بلوغ ياء والباقون اقْتَدِهْ ساكنة الهاء غير أن حمزة والكسائي يحذفانها في الوصل ويثبتانها في الوقف والباقون يثبتونها في الوصل والوقف
والحاصل أنه حصل الإجماع على إثباتها في الوقف قال الواحدي الوجه الإثبات في الوقف والحذف في الوصل لأن هذه الهاء هاء وقعت في السكت بمنزلة همزة الوصل في الابتداء وذلك لأن الهاء للوقف كما أن همزة الوصل للابتداء بالساكن فكما لا تثبت الهمزة حال الوصل كذلك ينبغي أن لا تثبت الهاء إلا أن هؤلاء الذين أثبتوا راموا موافقة المصحف فإن الهاء ثابتة في الخط فكرهوا مخالفة الخط في حالتي الوقف والوصل فأثبتوا وأما قراءة ابن عامر فقال أبو بكر ومجاهد هذا غلط لأن هذه الهاء هاء وقف فلا تعرب في حال من الأحوال وإنما تذكر ليظهر بها حركة ما قبلها قال أبو علي الفارسي ليس بغلط ووجهها أن تجعل الهاء كناية عن المصدر والتقدير فبهداهم اقتد الاقتداء فيضمر الاقتداء لدلالة الفعل عليه وقياسه إذا وقف أن تسكن الهاء لأن هاء الضمير تسكن في الوقف كما تقول اشتره والله أعلم
أما قوله تعالى قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً فالمراد به أنه تعالى لما أمره بالاقتداء بهدى الأنبياء عليهم السلام المتقدمين وكان من جملة هداهم ترك طلب الأجر في إيصال الدين وإبلاغ الشريعة لا جرم اقتدى بهم في ذلك فقال لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ولا أطلب منكم مالاً ولا جعلاً إِنْ هُوَ يعني القرإن إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ يريد كونه مشتملاً على كل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم وقوله إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مبعوث إلى كل أهل الدنيا لا إلى قوم دون قوم والله أعلم
وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَى ْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ ءَابَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ
اعلم أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك وقرر تعالى ذلك الدليل بالوجوه الواضحة شرع بعده في تقرير أمر النبوة فقال وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حيث أنكروا النبوة والرسالة فهذا بيان وجه نظم هذه الآيات وأنه في غاية الحسن وفي الآية مسائل

المسألة الأولى في تفسير قوله تعالى مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وجوه قال ابن عباس ما عظموا الله حق تعظيمه وروى عنه أيضاً أنه قال معناه ما آمنوا إن الله على كل شيء قدير وقال أبو العالية ما وصفوه حق صفته وقال الأخفش ما عرفوه حق معرفته وحقق الواحدي رحمه الله ذلك فقال يقال قدر الشيء إذا سبره وحرره وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضم قدراً ومنه قوله عليه السلام ( وإن غم عليكم فاقدروا له ) أي فاطلبوا أن تعرفوه هذا أصله في اللغة ثم قال يقال لمن عرف شيئاً هو يقدر قدره وإذا لم يعرفه بصفاته أنه لا يقدر قدره فقوله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ صحيح في كل المعاني المذكورة
المسألة الثانية أنه تعالى لما حكى عنهم أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ بين السبب فيه وذلك هو قولهم ما أنزل الله علي بشر من شيء
واعلم أن كل من أنكر النبوة والرسالة فهو في الحقيقة ما عرف الله حق معرفته وتقريره من وجوه الأول أن منكر البعثة والرسالة إما أن يقول إنه تعالى ما كلف أحداً من الخلق تكليفاً أصلاً أو يقول إنه تعالى كلفهم التكاليف والأول باطل لأن ذلك يقتضي أنه تعالى أباح لهم جميع المنكرات والقبائح نحو شتم الله ووصفه بما لا يليق به والاستخفاف بالأنبياء والرسل وأهل الدين والإعراض عن شكر النعم ومقابلة الإنعام بالإساءة ومعلوم أن كل ذلك باطل وإما أن يسلم أنه تعالى كلف الخلق بالأوامر والنواهي فههنا لا بد من مبلغ وشارع ومبين وما ذاك إلا الرسول
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال العقل كاف في إيجاب الواجبات واجتناب المقبحات
قلنا هب أن الأمر كما قلتم إلا أنه لا يمتنع تأكيد التعريف العقلي بالتعريفات المشروعة على ألسنة الأنبياء والرسل عليهم السلام فثبت أن كل من منع البعثة والرسالة فقد طعن في حكمة الله تعالى وكان ذلك جهلاً بصفة الإلهية وحينئذ يصدق في حقه قوله تعالى وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
الوجه الثاني في تقرير هذا المعنى أن من الناس من يقول إنه يمتنع بعثة الأنبياء والرسل لأنه يمتنع إظهار المعجزة على وفق دعواه تصديقاً له والقائلون بهذا القول لهم مقامان
المقام الأول أن يقولوا إنه ليس في الإمكان خرق العادات ولا إيجاد شيء على خلاف ما جرت به العادة
والمقام الثاني الذين يسلمون إمكان ذلك إلا أنهم يقولون إن بتقدير حصول هذه الأفعال الخارقة للعادات لا دلالة لها على صدق مدعي الرسالة وكلا الوجهين يوجب القدح في كمال قدرة الله تعالى
أما المقام الأول فهو أنه ثبت أن الأجسام متماثلة وثبت أن ما يحتمله الشيء وجب أن يحتمله مثله وإذا كان كذلك كان جرم الشمس والقمر قابلاً للتمزق والتفرق
فإن قلنا إن الإله غير قادر عليه كان ذلك وصفاً له بالعجز ونقصان القدرة وحينئذ يصدق في حق هذا القائل أنه ما قدر الله حق قدره
وإن قلنا إنه تعالى قادر عليه فحينئذ لا يمتنع عقلاً انشقاق القمر ولا حصول سائر المعجزات

وأما المقام الثاني وهو أن حدوث هذه الأفعال الخارقة للعادة عند دعوى مدعي النبوة تدل على صدقهم فهذا أيضاً ظاهر على ما مقرر في كتب الأصول فثبت أن كل من أنكر إمكان البعثة والرسالة فقد وصف الله بالعجز ونقصان القدرة وكل من قال ذلك فهو ما قدر الله حق قدره
والوجه الثالث أنه لما ثبت حدوث العالم فنقول حدوثه يدل على أن إله العالم قادر عالم حكيم وأن الخلق كلهم عبيده وهو مالك لهم على الإطلاق وملك لهم على الإطلاق والملك المطاع يجب أن يكون له أمر ونهي وتكليف على عباده وأن يكون له وعد على الطاعة ووعيد على المعصية وذلك لا يتم ولا يكمل إلا بإرسال الرسل وإنزال الكتب فكل من أنكر ذلك فقد طعن في كونه تعالى ملكاً مطاعاً ومن اعتقد ذلك فهو ما قدر الله حق قدره فثبت أن كل من قال ما أنزل الله علي بشر من شيء فهو ما قدر الله حق قدره
المسألة الثالثة في هذه الآية بحث صعب وهو أن يقال هؤلاء الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ عَلَى َّ بَشَرٍ مّن شَى ْء إما أن يقال إنهم كفار قريش أو يقال إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى فإن كان الأول فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله تعالى قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى وذلك لأن كفار قريش والبراهمة كما ينكرون رسالة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكذلك ينكرون رسالة سائر الأنبياء فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم وأما إن كان الثاني وهو أن قائل هذا القول قوم من اليهود والنصارى فهذا أيضاً صعب مشكل لأنهم لا يقولون هذا القول وكيف يقولونه مع أن مذهبهم أن التوراة كتاب أنزله الله على موسى والإنجيل كتاب أنزله الله على عيسى وأيضاً فهذه السورة مكية والمناظرات التي وقعت بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين اليهود والنصارى كلها مدنية فكيف يمكن حمل هذه الآية عليها فهذا تقرير الإشكال القائم في هذه الآية واعلم أن الناس اختلفوا فيه على قولين
فالقول الأول إن هذه الآية نزلت في حق اليهود وهو القول المشهور عند الجمهور قال ابن عباس إن مالك بن الصيف كان من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رجلاً سميناً فدخل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها إن الله يبغض الحبر السمين وأنت الحبر السمين وقد سمنت من الأشياء التي تطعمك اليهود ) فضحك القوم فغضب مالك بن الصيف ثم التفت إلى عمر فقال ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له قومه ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك فقال إنه أغضبني ثم إن اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه عن رياستهم وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف فهذا هو الرواية المشهورة في سبب نزول هذه الآية وفيها سؤالات
السؤال الأول اللفظ وإن كان مطلقاً بحسب أصل اللغة إلا أنه قد يتقيد بحسب العرف ألا ترى أن المرأة إذا أرادت أن تخرج من الدار فغضب الزوج وقال إن خرجت من الدار فأنت طالق فإن كثيراً من الفقهاء قالوا اللفظ وإن كان مطلقاً إلا أنه بحسب العرف يتقيد لتلك المرة فكذا ههنا قوله مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء وإن كان مطلقاً بحسب أصل اللغة إلا أنه بحسب العرف يتقيد بتلك الواقعة فكان قوله مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء مراده منه أنه ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين

وإذا صار هذا المطلق محمولاً على هذا المقيد لم يكن قوله مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى مبطلاً لكلامه فهذا أحد السؤالات
السؤال الثاني أن مالك بن الصيف كان مفتخراً بكونه يهودياً متظاهراً بذلك ومع هذا المذهب البتة أن يقول ما أنزل الله على بشر من شيء إلا على سبيل الغضب المدهش للعقل أو على سبيل لا يمكنه طغيان اللسان ومثل هذا الكلام لا يليق بالله سبحانه وتعالى إنزال القرآن الباقي على وجه الدهر في إبطاله
والسؤال الثالث أن الأكثرين اتفقوا على أن هذه السورة مكية وأنها أنزلت دفعة واحدة ومناظرات اليهود مع الرسول عليه الصلاة والسلام كانت مدنية فكيف يمكن حمل هذه الآية على تلك المناظرة وأيضاً لما نزلت السورة دفعة واحدة فكيف يمكن أن يقال هذه الآية المعينة إنما نزلت في الواقعة الفلانية فهذه هي السؤالات الواردة على هذا القول والأقرب عندي أن يقال لعل مالك بن الصيف لما تأذى من هذا الكلام طعن في نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وقال ما أنزل الله عليك شيئاً البتة ولست رسولاً من قبل الله البتة فعند هذا الكلام نزلت هذه الآية والمقصود منها أنك لما سلمت أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام فعند هذا لا يمكنك الإصرار على أنه تعالى ما أنزل علي شيئاً لأني بشر وموسى بشر أيضاً فلما سلمت أن الله تعالى أنزل الوحي والتنزيل على بشر امتنع عليك أن تقطع وتجزم بأنه ما أنزل الله علي شيئاً فكان المقصود من هذه الآية بيان أن الذي ادعاه محمد عليه الصلاة والسلام ليس من قبيل الممتنعات وأنه ليس للخصم اليهودي أن يصر على إنكاره بل أقصى ما في الباب أن يطالبه بالمعجز فإن أتى به فهو المقصود وإلا فلا فإما أن يصر اليهودي على أنه تعالى ما أنزل على محمد شيئاً البتة مع أنه معترف بأن الله تعالى أنزل الكتاب على موسى فذاك محض الجهالة والتقليد وبهذا التقدير يظهر الجواب عن السؤالين الأولين
فأما السؤال الثالث وهو قوله هذه السورة مكية ونزلت دفعة واحدة وكل واحد من هذين الوجهين يمنع من القول بأن سبب نزول هذه الآية مناظرة اليهودي
قلنا القائلون بهذا القول قالوا السورة كلها مكية ونزلت دفعة واحدة إلا هذه الآية فإنها نزلت بالمدينة في هذه الواقعة فهذا منتهى الكلام في تقرير هذا الوجه
والقول الثاني أن قائل هذا القول أعني ما أنزل الله على بشر من شيء قوم من كفار قريش فهذا القول قد ذكره بعضهم
بقي أن يقال كفار قريش ينكرون نبوة جميع الأنبياء عليهم السلام فكيف يمكن إلزام نبوة موسى عليهم وأيضاً فما بعد هذه الآية لا يليق بكفار قريش وإنما يليق باليهود وهو قوله تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلّمْتُمْ وَمَا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ ( الأنعام 91 ) فمن المعلوم بالضرورة أن هذه الأحوال لا تليق إلا باليهود وهو قول من يقول إن أول الآية خطاب مع الكفار وآخرها خطاب مع اليهود فاسد لأنه يوجب تفكيك نظم الآية وفساد تركيبها وذلك لا يليق بأحسن الكلام فضلاً عن كلام رب العالمين فهذا تقرير الإشكال على هذا القول

أما السؤال الأول فيمكن دفعه بأن كفار قريش كانوا مختلطين باليهود والنصارى وكانوا قد سمعوا من الفريقين على سبيل التواتر ظهور المعجزات القاهرة على يد موسى عليه السلام مثل انقلاب العصا ثعباناً وفلق البحر وإظلال الجبل وغيرها والكفار كانوا يطعنون في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بسبب أنهم كانوا يطلبون منه أمثال هذه المعجزات وكانوا يقولون لو جئتنا بأمثال هذه المعجزات لآمنا بك فكان مجموع هذه الكلمات جارياً مجرى ما يوجب عليهم الاعتراف بنبوة موسى عليه السلام وإذا كان الأمر كذلك لم يبعد إيراد نبوة موسى عليه السلام إلزاماً عليهم في قولهم مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء
وأما السؤال الثاني فجوابه أن كفار قريش واليهود والنصارى لما كانوا متشاركين في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لم يبعد أن يكون الكلام الواحد وارداً على سبيل أن يكون بعضه خطاباً مع كفار مكة وبقيته يكون خطاباً مع اليهود والنصارى فهذا ما يحضرنا في هذا البحث الصعب وبالله التوفيق
المسألة الرابعة مذهب كثير من المحققين أن عقول الخلق لا تصل إلى كنه معرفة الله تعالى البتة ثم إن الكثير من أهل هذا المذهب يحتجون على صحته بقوله تعالى وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي وما عرفوا الله حق معرفته وهذا الاستدلال بعيد لأنه تعالى ذكر هذه اللفظة في القرآن في ثلاثة مواضع وكلها وردت في حق الكفار فههنا ورد في حق اليهود أو كفار مكة وكذا القول في الموضعين الآخرين وحينئذ لا يبقى في هذا الاستدلال فائدة والله أعلم
المسألة الخامسة في هذه الآية أحكام
الحكم الأول
أن النكرة في موضع النفي تفيد العموم والدليل عليه هذه الآية فإن قوله مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء نكرة في موضع النفي فلو لم تفد العموم لما كان قوله تعالى قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى إبطالاً له ونقضاً عليه ولو لم يكن كذلك لفسد هذا الاستدلال ولما كان ذلك باطلاً ثبت أن النكرة في موضع النفي تعم والله أعلم
الحكم الثاني
النقض يقدح في صحة الكلام وذلك لأنه تعالى نقض قولهم مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء بقوله قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى فلو لم يدل النقض على فساد الكلام لما كانت حجة الله مفيدة لهذا المطلوب
واعلم أن قول من يقول إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقص مبطلاً ضعيف إذ لو كان الأمر كذلك لسقطت حجة الله في هذه الآية لأن اليهودي كان يقول معجزات موسى أظهر وأبهر من معجزاتك فلم يلزم من إثبات النبوة هناك إثباتها هنا ولو كان الفرق مقبولاً لسقطت هذه الحجة وحيث لا يجوز القول بسقوطها علمنا أن النقض على الإطلاق مبطل والله أعلم

الحكم الثالث
تفلسف الغزالي فزعم أن هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وذلك لأن حاصله يرجع إلى أن موسى أنزل الله تعالى عليه شيئاً وأحد من البشر ما أنزل الله عليه شيئاً ينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال وليست هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم ما أنزل الله على بشر من شيء فوجب القول بكونها كاذبة فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف والله أعلم
واعلم أنه تعالى لما قال قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى وصف بعده كتاب موسى بالصفات
فالصفة الأولى كونه نوراً وهدى للناس
واعلم أنه تعالى سماه نوراً تشبيهاً له بالنور الذي به يبين الطريق
فإن قالوا فعلى هذا التفسير لا يبقى بين كونه نوراً وبين كونه هدى للناس فرق وعطف أحدهما على الآخر يوجب التغاير
قلنا النور له صفتان إحداهما كونه في نفسه ظاهراً جلياً والثانية كونه بحيث يكون سبباً لظهور غيره فالمراد من كونه نوراً وهدى هذان الأمران
واعلم أنه تعالى وصف القرآن أيضاً بهذين الوصفين في آية أخرى فقال وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا
الصفة الثانية قوله تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وفيه مسائل
المسألة الأول قرأ أبو عمرو وابن كثير يجعلونه على لفظ الغيبة وكذلك يبدونها ويخفون لأجل أنهم غائبون ويدل عليه قوله تعالى لِلْعَالَمِينَ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء فلما وردت هذه الألفاظ على لفظ المغايبة فكذلك القول في البواقي ومن قرأ بالتاء على الخطاب فالتقدير قل لهم تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً والدليل عليه قوله تعالى وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ فجاء على الخطاب فكذلك ماقبله
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي قوله تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ أي يجعلونه ذات قراطيس أي يودعونه إياها
فإن قيل إن كل كتاب فلا بد وأن يودع في القراطيس فإذا كان الأمر كذلك في كل الكتب فما السبب في أن حكى الله تعالى هذا المعنى في معرض الذم لهم
قلنا الذم لم يقع على هذا المعنى فقط بل المراد أنهم لما جعلوه قراطيس وفرقوه وبعضوه لا جرم قدروا على إبداء البعض وإخفاء البعض وهو الذي فيه صفة محمد عليه الصلاة والسلام

فإن قيل كيف يقدرون على ذلك مع أن التوراة كتاب وصل إلى أهل المشرق والمغرب وعرفه أكثر أهل العلم وحفظوه ومثل هذا الكتاب لا يمكن إدخال الزيادة والنقصان فيه والدليل عليه أن الرجل في هذا الزمان لو أراد إدخال الزيادة والنقصان في القرآن لم يقدر عليه فكذا القول في التوراة
قلنا قد ذكرنا في سورة البقرة أن المراد من التحريف تفسير آيات التوراة بالوجوه الباطلة الفاسدة كما يفعله المبطلون في زماننا هذا بآيات القرآن
فإن قيل هب أنه حصل في التوراة آيات دالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام إلا أنها قليلة والقوم ما كانوا يخفون من التوراة إلا تلك الآيات فلم قال ويخفون كثيراً
قلنا القوم كما يخفون الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فكذلك يخفون الآيات المشتملة على الأحكام ألا ترى أنهم حاولوا على إخفاء الآية المشتملة على رجم الزاني المحصن
الصفة الثالثة قوله وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ والمراد أن التوراة كانت مشتملة على البشارة بمقدم محمد واليهود قبل مقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يقرؤن تلك الآيات وما كانوا يفهمون معانيها فلما بعث الله محمداً ظهر أن المراد من تلك الآيات هو مبعثه ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا هو المراد من قوله وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ
واعلم أنه تعالى لما وصف التوراة بهذه الصفات الثلاث قال قُلِ اللَّهُ والمعنى أنه تعالى قال في أول الآية قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الذي صفته كذا وكذا فقال بعده قُلِ اللَّهُ والمعنى أن العقل السليم والطبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف بالصفات المذكورة المؤيد قول صاحبه بالمعجزات القاهرة الباهرة مثل معجزات موسى عليه السلام لا يكون إلا من الله تعالى فلما صار هذا المعنى ظاهراً بسبب ظهور الحجة القاطعة لا جرم قال تعالى لمحمد قل المنزل لهذا الكتاب هو الله تعالى ونظيره قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ وأيضاً إن الرجل الذي حاول إقامة الدلالة على وجود الصانع يقول من الذي أحدث الحياة بعد عدمها ومن الذي أحدث العقل بعد الجهالة ومن الذي أودع في الحدقة القوة الباصرة وفي الصماخ القوة السامعة ثم إن ذلك القائل نفسه يقول اللَّهِ والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة والبينة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها فسواء أقر الخصم به أو لم يقر فالمقصود حاصل فكذا ههنا
ثم قال تعالى بعده ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المعنى أنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والأنذار وهذا المبلغ العظيم فحينئذ لم يبق عليك من أمرهم شيء البتة ونظيره قوله تعالى إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ
المسألة الثانية قال بعضهم هذه الآية منسوخة بآية السيف وهذا بعيد لأن قوله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ مذكور لأجل التهديد وذلك لا ينافي حصول المقاتلة فلم يكن ورود الآية الدالة على وجوب المقاتلة رافعاً لشيء من مدلولات هذه الآية فلم يحصل النسخ فيه والله أعلم

وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
اعلم أنه تعالى لما أبطل بالدليل قول من قال ما أنزل الله على بشر من شيء ذكر بعده أن القرآن كتاب الله أنزله الله تعالى على محمد عليه الصلاة والسلام
واعلم أن قوله وَهَاذَا إشارة إلى القرآن وأخبر عنه بأنه كتاب وتفسير الكتاب قد تقدم في أول سورة البقرة ثم وصفه بصفات كثيرة
الصفة الأولى قوله أَنزَلْنَاهُ والمقصود أن يعلم أنه من عند الله تعالى لا من عند الرسول لأنه لا يبعد أن يخص الله محمداً عليه الصلاة والسلام بعلوم كثيرة يتمكن بسببها من تركيب ألفاظ القرآن على هذه الصفة من الفصاحة فبين تعالى أنه ليس الأمر على هذه الصفة وأنه تعالى هو الذي تولى إنزاله بالوحي على لسان جبريل عليه السلام
الصفة الثانية قوله تعالى مُّبَارَكٌ قال أهل المعاني كتاب مبارك أي كثير خيره دائم بركته ومنفعته يبشر بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية وأقول العلوم إما نظرية وإما عملية أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه ولا ترى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب وأما العلوم العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح وإما أعمال القلوب وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب ثم قد جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة
يقول مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي وأنا قد نقلت أنواعاً من العلوم النقلية والعقلية فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادات في الدين والدنيا مثل ما حصل بسبب خدمة هذا العلم
الصفة الثالثة قوله مُّصَدّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ فالمراد كونه مصدقاً لما قبله من الكتب والأمر في الحقيقة كذلك لأن الموجود في سائر الكتب الإلهية إما علم الأصول وإما علم الفروع
أما علوم الأصول فيمتنع وقوع التفاوت فيه بسبب اختلاف الأزمنة والأمكنة فوجب القطع بأن المذكور في القرآن موافق ومطابق لما في التوراة والزبور والإنجيل وسائر الكتب الإلهية
وأما علم الفروع فقد كانت الكتب الإلهية المتقدمة على القرآن مشتملة على البشارة بمقدم محمد عليه الصلاة والسلام وإذا كان الأمر كذلك فقد حصل في تلك الكتب أن التكاليف الموجودة فيها إنما

تبقى إلى وقت ظهور محمد عليه الصلاة والسلام وأما بعد ظهور شرعه فإنها تصير منسوخة فثبت أن تلك الكتب دلت على ثبوت تلك الأحكام على هذا الوجه والقرآن مطابق لهذا المعنى وموافق فثبت كون القرآن مصدقاً لكل الكتب الإلهية في جملة علم الأصول والفروع
الصفة الرابعة قوله تعالى وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وههنا أبحاث
البحث الأول اتفقوا على أن ههنا محذوفاً والتقدير ولتنذر أهل أم القرى واتفقوا على أن أم القرى هي مكة واختلفوا في السبب الذي لأجله سميت مكة بهذا الاسم فقال ابن عباس سميت بذلك لأن الأرضين دحيت من تحتها ومن حولها وقال أبو بكر الأصم سميت بذلك لأنها قبل أهل الدنيا فصارت هي كالأصل وسائر البلاد والقرى تابعة لها وأيضاً من أصول عبادات أهل الدنيا الحج وهو إنما يحصل في تلك البلدة فلهذا السبب يجتمع الخلق إليها كما يجتمع الأولاد إلى الأم وأيضاً فلما كان أهل الدنيا يجتمعون هناك بسبب الحج لا جرم يحصل هناك أنواع من التجارات والمنافع ما لا يحصل في سائر البلاد ولا شك أن الكسب والتجارة من أصول المعيشة فلهذا السبب سميت مكة أم القرى وقيل إنما سميت مكة أم القرى لأن الكعبة أول بيت وضع للناس وقيل أيضاً إن مكة أول بلدة سكنت في الأرض
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَمَنْ حَوْلَهَا دخل فيه سائر البلدان والقرى
والبحث الثاني زعمت طائفة من اليهود أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان رسولاً إلى العرب فقط واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية وقالوا إنه تعالى بين أنه إنما أنزل عليه هذا القرآن ليبلغه إلى أهل مكة وإلى القرى المحيطة بها والمراد منها جزيرة العرب ولو كان مبعوثاً إلى كل العالمين لكان التقييد بقوله لّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا باطلاً
والجواب أن تخصيص هذه المواضع بالذكر لا يدل على انتفاء الحكم فيما سواها إلا بدلالة المفهوم وهي ضعيفة لا سيما وقد ثبت بالتواتر الظاهر المقطوع به من دين محمد عليه الصلاة والسلام أنه كان يدَّعي كونه رسولاً إلى كل العالمين وأيضاً قوله وَمَنْ حَوْلَهَا يتناول جميع البلاد والقرى المحيطة بها وبهذا التقدير فيدخل فيه جمع بلاد العالم والله أعلم
البحث الثالث قرأ عاصم في رواية أبي بكر لّيُنذِرَ بالياء جعل الكتاب هو المنذر لأن فيه إنذاراً ألا ترى أنه قال تُحَرّكْ بِهِ أي بالكتاب وقال وَأَنذِرْ بِهِ وقال إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْى ِ فلا يمتنع إسناد الإنذار إليه على سبيل الاتساع وأما الباقون فإنهم قرؤا وَلِتُنذِرَ بالتاء خطاباً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن المأمور والموصوف بالإنذار هو قال تعالى إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ وقال وَأَنذِرِ الَّذِينَ يَخَافُونَ
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وظاهر هذا يقتضي أن الإيمان بالآخرة جار مجرى السبب للإيمان بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والعلماء ذكروا في تقرير هذه السببية وجوهاً الأول أن الذي يؤمن بالآخرة هو الذي يؤمن بالوعد والوعيد والثواب والعقاب ومن كان كذلك فإنه يعظم رغبته في تحصيل الثواب ورهبته عن حلول العقاب ويبالغ في النظر والتأمل في دلائل التوحيد والنبوة فيصل إلى العلم والإيمان والثاني أن دين محمد عليه الصلاة والسلام مبني على الإيمان بالبعث والقيامة وليس لأحد من الأنبياء

مبالغة في تقرير هذه القاعدة مثل ما في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام فلهذا السبب كان الإيمان بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وبصحة الآخرة أمرين متلازمين والثالث يحتمل أن يكون المراد من هذا الكلام التنبيه على إخراج أهل مكة من قبول هذا الدين لأن الحامل على تحمل مشقة النظر والاستدلال وترك رياسة الدنيا وترك الحقد والحسد ليس إلا الرغبة في الثواب والرهبة عن العقاب وكفار مكة لما لم يعتقدوا في البعث والقيامة امتنع منهم ترك الحسد وترك الرياسة فلا جرم يبعد قبولهم لهذا الدين واعترافهم بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام
ثم قال وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ والمراد أن الإيمان بالآخرة كما يحمل الرجل على الإيمان بالنبوة فكذلك يحمله على المحافظة على الصلوات وليس لقائل أن يقول الإيمان بالآخرة يحمل على كل الطاعات فما الفائدة في تخصيص الصلاة بالذكر لأنا نقول المقصود منه التنبيه على أن الصلاة أشرف العبادات بعد الإيمان بالله وأعظمها خطراً ألا ترى أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة كما قال تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( البقرة 143 ) أي صلاتكم ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة قال عليه الصلاة والسلام ( من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر ) فلما اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام والله أعلم
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَى َّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَى ْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَة ُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما شرح كون القرآن كتاباً نازلاً من عند الله وبين ما فيه من صفات الجلالة والشرف والرفعة ذكر عقيبه ما يدل على وعيد من ادعى النبوة والرسالة على سبيل الكذب والافتراء فقال وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى عظم وعيد من ذكر أحد الأشياء الثلاثة فأولها أن يفتري على الله كذباً قال المفسرون نزل هذا في مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة وفي الأسود العنسي صاحب صنعاء فإنهما كانا يدعيان النبوة والرسالة من عند الله على سبيل الكذب والافتراء وكان مسيلمة يقول محمد رسول قريش وأنا رسول بني حنيفة قال القاضي الذي يفتري على الله الكذب

يدخل فيه من يدعي الرسالة كذباً ولكن لا يقتصر عليه لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فكل من نسب إلى الله تعالى ما هو برىء منه إما في الذات وإما في الصفات وإما في الأفعال كان داخلاً تحت هذا الوعيد قال والافتراء على الله في صفاته كالمجسمة وفي عدله كالمجبرة لأن هؤلاء قد ظلموا أعظم أنواع الظلم بأن افتروا على الله الكذب وأقول أما قوله المجسمة قد افتروا على الله الكذب فهو حق وأما قوله إن هذا افتراء على الله في صفاته فليس بصحيح لأن كون الذات جسماً ومتحيزاً ليس بصفة بل هو نفس الذات المخصوصة فمن زعم أن إله العالم ليس بجسم كان معناه أنه يقول جميع الأجسام والمتحيزات محدثة ولها بأسرها خالق هو موجود ليس بمتحيز والمجسم ينفي هذه الذات فكان الخلاف بين الموحد والمجسم ليس في الصفة بل في نفس الذات لأن الموحد يثبت هذه الذات والمجسم ينفيها فثبت أن هذا الخلاف لم يقع في الصفة بل في الذات وأما قول المجبرة قد افتروا على الله تعالى في صفاته فليس بصحيح لأنه يقال له المجبرة ما زادوا على قولهم الممكن لا بد له من مرجح فإن كذبوا في هذه القضية فكيف يمكنهم أن يعرفوا وجود الإله وإن صدقوا في ذلك لزمهم الإقرار بتوقيف صدور الفعل على حصول الداعي بتخليق الله تعالى وذلك عين ما نسميه بالجبر فثبت أن الذي وصفه بكونه افتراء على الله باطل بل المفتري على الله من يقول الممكن لا يتوقف رجحان أحد طرفيه على الآخر على حصول المرجح فإن من قال هذا الكلام لزمه نفي الصانع بالكلية بل يلزمه نفي الآثار والمؤثرات بالكلية
والنوع الثاني من الأشياء التي وصفها الله تعالى بكونها افتراء قوله أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَى َّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَى ْء والفرق بين هذا القول وبين ما قبله أن في الأول كان يدعي أنه أوحى إليه وما كان يكذب بنزول الوحي على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأما في هذا القول فقد أثبت الوحي لنفسه ونفاه عن محمد عليه الصلاة والسلام وكان هذا جمعاً بين نوعين عظيمين من الكذب وهو إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود
والنوع الثالث قوله سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ قال المفسرون المراد ما قاله النضر بن الحرث وهو قوله لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَا وقوله في القرآن إنه من أساطير الأولين وكل أحد يمكنه الإتيان بمثله وحاصله أن هذا القائل يدعي معارضة القرآن وروى أيضاً أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب الوحي للرسول عليه الصلاة والسلام فلما نزل قوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنون 12 ) أملاء الرسول عليه السلام فلما انتهى إلى قوله ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً عجب عبد الله منه فقال فتبارك الله أحسن الخالقينا فقال الرسول هكذا أنزلت الآية فسكت عبد الله وقال إن كان محمد صادقاً فقد أوحى إلي وإن كان كاذباً فقد عارضته فهذا هو المراد من قوله سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ
أما قوله تعالى وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ فاعلم أن أول الآية وهو قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يفيد التخويف العظيم على سبيل الإجمال وقوله بعد ذلك وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ كالتفصيل لذلك المجمل والمراد بالظالمين الذين ذكرهم وغمرات الموت جمع غمرة وهي شدة الموت وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه ومنه غمرة الماء وغمرة الحرب ويقال غمره الشيء إذا علاه وغطاه وقال الزجاج يقال لكل من كان في شيء كثير قد غمره ذلك وغمره الدين إذا كثر

عليه هذا هو الأصل ثم يقال للشدائد والمكاره الغمرات وجواب ( لو ) محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً والملائكة باسطو أيديهم قال ابن عباس ملائكة العذاب باسطو أيديهم يضربونهم ويعذبونهم كما يقال بسط إليه يده بالمكروه أخرجوا أنفسكم ههنا محذوف والتقدير يقولون أخرجوا أنفسكم وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية سؤال وهو أنه لا قدرة لهم على إخراج أرواحهم من أجسادهم فما الفائدة في هذا الكلام
فنقول في تفسير هذه الكلمة وجوه
الوجه الأول ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى غمرات الموت في الآخرة فأدخلوا جهنم فغمرات الموت عبارة عما يصيبهم هناك من أنواع الشدائد والتعذيبات والملائكة باسطو أيديهم عليهم بالعذاب يبكتونهم ويقولون لهم أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب الشديد إن قدرتم
الوجه الثاني أن يكون المعنى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت عند نزول الموت بهم في الدنيا والملائكة باسطو أيديهم لقبض أرواحهم يقولون لهم أخرجوا أنفسكم من هذه الشدائد وخلصوها من هذه الآفات والآلام
والوجه الثالث أن قوله أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ أي أخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم الملازم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له أخرج إلي ما لي عليك الساعة ولا أبرح من مكاني حتى أنزعه من أحداقك
والوجه الرابع أن هذه اللفظة كناية عن شدة حالهم وأنهم بلغوا في البلاء والشدة إلى حيث تولى بنفسه إزهاق روحه
والوجه الخامس أن قوله أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ليس بأمر بل هو وعيد وتقريع كقول القائل امض الآن لترى ما يحل بك قال المفسرون إن نفس المؤمن تنشط في الخروج للقاء ربه ونفس الكافر تكره ذلك فيشق عليها الخروج لأنها تصير إلى أشد العذاب كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أراد لقاء الله أراد الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ) وذلك عند نزع الروح فهؤلاء الكفار تكرههم الملائكة على نزع الروح
المسألة الثانية الذين قالوا إن النفس الإنسانية شيء غير هذا الهيكل وغير هذا الجسد احتجوا عليه بهذه الآية وقالوا لا شك أن قوله أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ معناه أخرجوا أنفسكم عن أجسادكم وهذا يدل على أن النفس مغايرة للأجساد إلا أنا لو حملنا الآية على الوجهين الأولين من التأويلات الخمسة المذكورة لم يتم هذا الاستدلال
ثم قال تعالى الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ قال الزجاج عذاب الهون أي العذاب الذي يقع به الهوان الشديد قال تعالى أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ ( النحل 59 ) والمراد منه أنه تعالى جمع هناك بين الإيلام وبين الإهانة فإن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم فكذلك العقاب شرطه أن

يكون مضرة مقرونة بالإهانة قال بعضهم الهون هو الهوان والهون هو الرفق والدعة قال تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً ( الفرقان 63 ) وقوله بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ( الأنعام 93 ) وذلك يدل أن هذا العذاب الشديد إنما حصل بسبب مجموع الأمرين الافتراء على الله والتكبر على آيات الله وأقول هذان النوعان من الآفات والبلاء ترى أكثر المتوسمين بالعلم متوغلين فيه مواظبين عليه نعوذ بالله منه ومن آثاره ونتائجه وذكر الواحدي أن المراد بقوله وَكُنتُمْ عَنْ ءايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ أي لا تصلون له قال عليه السلام ( من سجد لله سجدة بنية صادقة فقد برىء من الكبر )
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
اعلم أن قوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى يحتمل وجهين الأول أن يكون هذا معطوفاً على قول الملائكة أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ فبين تعالى أنهم كما يقولون ذلك على وجه التوبيخ كذلك يقولون حكاية عن الله تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى فيكون الكلام أجمع حكاية عنهم وأنهم يوردون ذلك على هؤلاء الكفار وعلى هذا التقدير فيحتمل أن يكون قائل هذا القول الملائكة الموكلين بقبض أرواحهم ويحتمل أن يكون القائل هم الملائكة الموكلون بعقابهم
والقول الثاني أن قائل هذا القول هو الله تعالى ومنشأ هذا الاختلاف إن الله تعالى هل يتكلم مع الكفار أو لا فقوله تعالى في صفة الكفار وَلاَ يُكَلّمُهُمُ يوجب أن لا يتكلم معهم وقوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 92 ) وقوله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( الأعراف 6 ) يقتضي أن أن يكون تعالى يتكلم معهم فلهذا السبب وقع هذا الاختلاف والقول الأول أقوى لأن هذه الآية معطوفة على ما قبلها والعطف يوجب التشريك
المسألة الثانية فُرَادَى لفظ جمع وفي واحده قولان قال ابن قتيبة فرادى جمع فردان مثل سكارى وسكران وكسالى وكسلان وقال غيره فرادى جمع فريد مثل ردافى ورديف وقال الفراء فرادى جمع واحده فرد وفردة وفريد وفردان
إذا عرفت هذا فقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى المراد منه التقريع والتوبيخ وذلك لأنهم صرفوا جدهم وجهدهم في الدنيا إلى تحصيل أمرين أحدهما تحصيل المال والجاه والثاني أنهم عبدوا الأصنام لاعتقادهم أنها تكون شفعاء لهم عند الله ثم إنهم لما وردوا محفل القيامة لم يبق معهم شيء من تلك الأموال ولم يجدوا من تلك الأصنام شفاعة لهم عند الله تعالى فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا وعولوا عليه بخلاف أهل الإيمان فإنهم صرفوا عمرهم إلى تحصيل المعارف الحقة والأعمال الصالحة وتلك

المعارف والأعمال الصالحة بقيت معهم في قبورهم وحضرت معهم في مشهد القيامة فهم في الحقيقة ما حضروا فرادى بل حضروا مع الزاد ليوم المعاد
ثم قال تعالى لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وحفص عن عاصم والكسائي بَيْنِكُمْ بالنصب والباقون بالرفع قال الزجاج الرفع أجود ومعناه لقد تقطع وصلكم والنصب جائز والمعنى لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم قال أبو علي هذا الاسم يستعمل على ضربين أحدهما أن يكون اسماً منصرفاً كالافتراق والأجود أن يكون ظرفاً والمرفوع في قراءة من قرأ بَيْنِكُمْ هو الذي كان ظرفاً ثم استعمل اسماً والدليل على جواز كونه اسماً قوله تعالى وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ( فصلت 5 ) و هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ ( الكهف 78 ) فلما استعمل اسماً في هذه المواضع جاز أن يسند إليه الفعل الذي هو تُقَطَّعَ في قول من رفع قال ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفاً أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو ظرف اتسع فيه أو يكون الذي هو مصدر والقسم الثاني باطل وإلا لصار تقدير الآية لقد تقطع افتراقكم وهذا ضد المراد لأن المراد من الآية لقد تقطع وصلكم وما كنتم سالفون عليه
فإن قيل كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل مع أن أصله الافتراق والتباين
قلنا هذا اللفظ إنما يستعمل في الشيئين اللذين بينهما مشاركة ومواصلة من بعض الوجوه كقولهم بيني وبينه شركة وبيني وبينه رحم فلهذا السبب حسن استعمال هذا اللفظ في معنى الوصلة فقوله لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ معناه لقد تقطع وصلكم أما من قرأ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ بالنصب فوجهه أنه أضمر الفاعل والتقدير لقد تقطع وصلكم بينكم وقال سيبويه إنهم قالوا إذا كان غداً فأتني والتقدير إذا كان الرجاء أو البلاء غداً فأتني فأضمر لدلالة الحال فكذا ههنا وقال ابن الأنباري التقدير لقد تقطع ما بينكم فحذفت لوضوح معناها
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية مشتملة على قانون شريف في معرفة أحوال القيامة فأولها أن النفس الإنسانية إنما تعلقت بهذا الجسد آلة له في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة فإذا فارقت النفس الجسد ولم يحصل هذين المطلوبين البتة عظمت حسراته وقويت آفاته حيث وجد مثل هذه الآلة الشريفة التي يمكن اكتساب السعادة الأبدية بها ثم إنه ضيعها وأبطلها ولم ينتفع بها البتة وهذا هو المراد من قوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وثانيها أن هذه النفس مع أنها لم تكتسب بهذه الآلة الجسدانية سعادة روحانية وكمالاً روحانياً فقد عملت عملاً آخر أردأ من الأول وذلك لأنها طول العمر كانت في الرغبة في تحصيل الماء والجاه وفي تقوية العشق عليها وتأكيد المحبة وفي تحصيلها والإنسان في الحقيقة متوجه من العالم الجسماني إلى العالم الروحاني فهذا المسكين قلب القضية وعكس القضية وأخذ يتوجه من المقصد الروحاني إلى العالم الجسماني ونسي مقصده واغتر باللذات الجسمانية فلما مات انقلبت القضية شاء أم أبى توجه من العالم الجسماني إلى العالم الروحاني فبقيت الأموال التي اكتسبها وأفنى عمره في تحصيلها وراء ظهره والشيء الذي يبقى وراء ظهر الإنسان لا يمكنه أن ينتفع به وربما بقي

منقطع المنفعة معوج الرقبة معوج الرأس بسبب التفاته إليها مع الهجز عن الانتفاع بها وذلك يوجب نهاية الخيبة والغم والحسرة وهو المراد من قوله وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وهذا يدل على أن كل مال يكتسبه الإنسان ولم يصرفه في مصارف الخيرات فصفته هذه التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية أما إذا صرفها إلى الجهات الموجبة للتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فما ترك تلك الأموال وراء ظهره ولكنه قدمها تلقاء وجهه كما قال تعالى وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ( البقرة 110 ) وثالثها أن أولئك المساكين أتعبوا أنفسهم في نصرة الأديان الباطلة والمذاهب الفاسدة وظنوا أنهم ينتفعون بها عند الورود في محفل القيامة فإذا وردوه وشاهدوا ما في تلك المذاهب من العذاب الشديد والعقاب الدائم حصلت فيه جهات كثيرة من العذاب منها عذاب الحسرة والندامة وهو أنه كيف أنفق ماله في تحمل العناء الشديد والبلاء العظيم في تحصيل ما لم يحصل له منه إلا العذاب والعناء ومنها عذاب الخجلة وهو أنه ظهر له أن كل ما كان يعتقده في دار الدنيا كان محض الجهالة وصريح الضلالة ومنها حصول اليأس الشديد مع الطمع العظيم ولا شك أن مجموع هذه الأحوال يوجب العذاب الشديد والآلام العظيمة الروحانية وهو المراد من قوله وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء ورابعها أنه لما بدا له أنه فاته الأمر الذي به يقدر على اكتساب الخيرات وحصل عنده الأمر الذي يوجب حصول المضرات فإذن بقي له رجاء في التدارك من بعض الوجوه فههنا يحف ذلك الألم ويضعف ذلك الحزن أما إذا حصل الجزم واليقين بأن التدارك ممتنع وجبر ذلك النقصان متعذر فههنا يعظم الحزن ويقوى البلاء جداً وإليه الإشارة بقوله تعالى لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ والمعنى أن الوصلة الحاصلة بين النفس والجسد قد تقطعت ولا سبيل إلى تحصيلها مرة أخرى وعند الوقوف على حقائق هذه المراتب يظهر أنه لا بيان فوق هذا البيان في شرح أحوال هؤلاء الضالين
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَى ِّ ذالِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما تكلم في التوحيد ثم أردفه بتقرير أمر النبوة ثم تكلم في بعض تفاريع هذا الأصل عاد ههنا إلى ذكر الدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وحكمته وقدرته تنبيهاً على أن المقصود الأصلي من جميع المباحث العقلية والنقلية وكل المطالب الحكمية إنما هو معرفة الله بذاته وصفاته وأفعاله وفي قوله فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى قولان

القول الأول وهو مروي عن ابن عباس وقول الضحاك ومقاتل فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى أي خالق الحب والنوى قال الواحدي ذهبوا بفالق مذهب فاطر وأقول الفطر هو الشق وكذلك الفلق فالشيء قبل أن دخل في الوجود كان معدوماً محضاً ونفياً صرفاً والعقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انفلاق ولا انشقاق فإذا أخرجه المبدع الموجد من العدم إلى الوجود فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم وفلقه وأخرج ذلك المحدث من ذلك الشق فبهذا التأويل لا يبعد حمل الفالق على الموجد والمحدث والمبدع
والقول الثاني وهو قول الأكثرين أن الفلق هو الشق والحب هو الذي يكون مقصوداً بذاته مثل حبة الحنطة والشعير وسائر الأنواع والنوى هو الشيء الموجود في داخل الثمرة مثل نوى الخوخ والتمر وغيرهما
إذا عرفت هذا فنقول إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مر به قدر من المدة أظهر الله تعالى في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقاً ومن أسفلها شقاً آخر أما الشق الذي يظهر في أعلى الحبة والنواة فإنه يخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء وأما الشق الذي يظهر في أسفل تلك الحبة فإنه يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض وهي المسماة بعروق الشجرة وتصير تلك الحبة والنواة سبباً لاتصال الشجرة الصاعدة في الهواء بالشجرة الهابطة في الأرض
ثم إن ههنا عجائب فإحداها أن طبيعة تلك الشجرة إن كانت تقتضي الهوى في عمق الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة في الهواء وإن كانت تقتضي الصعود في الهواء فكيف تولدت منها الشجرة الهابطة في الأرض فلما تولد منها هاتان الشجرتان مع أن الحس والعقل يشهد بكون طبيعة إحدى الشجرتين مضادة لطبيعة الشجرة الأخرى علمنا أن ذلك ليس بمقتضى الطبع والخاصية بل بمقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين والاختراع وثانيها أن باطن الأرض جرم كثيف صلب لا تنفذ المسلة القوية فيه ولا يغوص السكين الحاد القوي فيه ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق في غاية الدقة واللطافة بحيث لو دلكها الإنسان بأصبعه بأدنى قوة لصارت كالماء ثم إنها مع غاية اللطافة تقوى على النفوذ في تلك الأرض الصلبة والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة فحصول هذه القوى الشديدة لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة لا بد وأن يكون بتقدير العزيز الحكيم وثالثها أنه يتولد من تلك النواة شجرة ويحصل في تلك الشجرة طبائع مختلفة فإن قشر الخشبة له طبيعة مخصوصة وفي داخل ذلك القشر جرم الخشبة وفي وسط تلك الخشبة جسم رخو ضعيف يشبه العهن المنفوش ثم إنه يتولد من ساق الشجرة أغصانها ويتولد على الأغصان الأوراق أولاً ثم الأزهار والأنوار ثانياً ثم الفاكهة ثالثاً ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشر مثل الجوز فإن قشره على الأعلى هو ذلك الأخضر وتحت ذلك القشر الذي يشبه الخشب وتحته ذلك القشر الذي هو كالغشاء الرقيق المحيط باللب وتحته ذلك اللب وذلك اللب مشتمل على جرم كثيف هو أيضاً كالقشر وعلى جرم لطيف وهو الدهن وهو المقصود الأصلي فتولد هذه الأجسام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وأشكالها وطعومها مع تساوي تأثيرات الطبائع والنجوم والفصول الأربعة والطبائع الأربع يدل على أنها إنما حدثت بتدبير الحكيم الرحيم المختار القادر لا بتدبير الطبائع والعناصر ورابعها أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة فالأترنج قشره حار يابس ولحمه بارد رطب

وحماضه بارد يابس وبذره حار يابس وكذلك العنب قشره وعجمه بارد يابس وماؤه ولحمه حار رطب فتولد هذه الطبائع المضادة والخواص المتنافرة عن الحبة الواحدة لا بد وأن يكون بإيجاد الفاعل المختار وخامسها أنك تجد أحوال الفواكه مختلفة فبعضها يكون اللب في الداخل والقشر في الخارج كما في الجوز واللوز وبعضها يكون الفاكهة المطلوبة في الخارج وتكون الخشبة في الداخل كالخوخ والمشمس وبعضها يكون النواة لها لب كما في نوى المشمش والخوخ وبعضها لا لب له كما في نوى التمر وبعض الفواكه لا يكون له من الداخل والخارج قشر بل يكون كله مطلوباً كالتين فهذه أحوال مختلفة في هذه الفواكه وأيضاً هذه الحبوب مختلفة في الأشكال والصور فشكل الحنطة كأنه نصف دائرة وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتيهما وشكل العدس كأنه دائرة وشكل الحمص على وجه آخر فهذه الأشكال المختلفة لا بد وأن تكون لأسرار وحكم علم الخالق أن تركيبها لا يكمل إلا على ذلك الشكل وأيضاً فقد أودع الخالق تعالى في كل نوع من أنواع الحبوب خاصية أخرى ومنفعة أخرى وأيضاً فقد تكون الثمرة الواحدة غذاء لحيوان وسماً لحيوان آخر فاختلاف هذه الصفات والأشكال والأحوال مع اتحاد الطبائع وتأثيرات الكواكب يدل على أن كلها إنما حصلت بتخليق الفاعل المختار الحكيم وسادسها أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة وجدت خطاً واحداً مستقيماً في وسطها كأنه بالنسبة إلى تلك الورقة كالنخاع بالنسبة إلى بدن الإنسان وكما أنه ينفصل من النخاع أعصاب كثيرة يمنة ويسرة في بدن الإنسان ثم لا يزال ينفصل عن كل شعبة شعب أخر ولا تزال تستدق حتى تخرج عن الحس والأبصار بسبب الصغر فكذلك في تلك الورقة قد ينفصل عن ذلك الخط الكبير الوسطاني خطوط منفصلة وعن كل واحد منها خطوط مختلفة أخرى أدق من الأولى ولا يزال يبقى على هذا المنهج حتى تخرج تلك الخطوط عن الحس والبصر والخالق تعالى إنما فعل ذلك حتى أن القوى الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة تقوى على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة فلما وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة علمت أن عنايته في تخليق جملة تلك الشجرة أكمل وعرفت أن عنايته في تكوين جملة النبات أكمل
ثم إذا عرفت أنه تعالى إنما خلق جملة النبات لمصلحة الحيوان علمت أن عنايته بتخليق الحيوان أكمل ولما علمت أن المقصود من تخليق جملة الحيوانات هو الإنسان علمت أن عنايته في تخليق الإنسان أكمل ثم إنه تعالى إنما خلق النبات والحيوان في هذا العالم ليكون غذاء ودواء للإنسان بحسب جسده والمقصود من تخليق الإنسان هو المعرفة والمحبة والخدمة كما قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 )
فانظر أيها المسكين بعين رأسك في تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة واعرف كيفية خلقة تلك العروق والأوتار فيها ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية فحينئذ ينفتح عليك باب من المكاشفات لا آخر لها ويظهر لك أن أنواع نعم الله في حقك غير متناهية كما قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقة تلك الورقة من الحبة والنواة فهذا كلام مختصر في تفسير قوله إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى ومتى وقف الإنسان عليه أمكنه تفريقها وتشعيبها إلى ما لا آخر له ونسأل الله التوفيق والهداية

المسألة الثانية أما قوله تعالى يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَى ّ ففيه مباحث الأول أن الْحَى ّ اسم لما يكون موصوفاً بالحياة و الْمَيّتِ اسم لما كان خالياً عن صفة الحياة فيه وعلى هذا التقدير النبات لا يكون حياً
إذا عرفت هذا فللناس في تفسير هذا الْحَى ّ و الْمَيّتِ قولان الأول حمل هذين اللفظين على الحقيقة قال ابن عباس يخرج من النطفة بشراً حياً ثم يخرج من البشر الحي نطفة ميتة وكذلك يخرج من البيضة فروجة حية ثم يخرج من الدجاجة بيضة ميتة والمقصود منه أن الحي والميت متضادان متنافيان فحصول المثل عن المثل يوهم أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية أما حصول الضد من الضد فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية بل لا بد وأن يكون بتقدير المقدر الحكيم والمدبر العليم
والقول الثاني أن يحمل الْحَى ّ و الْمَيّتِ على ما ذكرناه وعلى الوجوه المجازية أيضاً وفيه وجوه الأول قال الزجاج يخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس ويخرج اليابس من النبات الحي النامي الثاني قال ابن عباس يخرج المؤمن من الكافر كما في حق إبراهيم والكافر من المؤمن كما في حق ولد نوح والعاصي من المطيع وبالعكس الثالث قد يصير بعض ما يقطع عليه بأنه يوجب المضرة سبباً للنفع العظيم وبالعكس ذكروا في الطب أن إنساناً سقوه الأفيون الكثير في الشراب لأجل أن يموت فلما تناوله وظن القوم أنه سيموت في الحال رفعوه من موضعه ووضعوه في بيت مظلم فخرجت حية عظيمة فلدغته فصارت تلك اللدغة سبباً لاندفاع ضرر ذلك الأفيون منه فإن الأفيون يقتل بقوة برده وسم الأفعى يقتل بقوة حره فصارت تلك اللدغة سبباً لاندفاع ضرر الأفيون فههنا تولد عما يعتقد فيه كونه أعظم موجبات الشر أعظم الخيرات وقد يكون بالعكس من ذلك وكل هذه الأحوال المختلفة والأفعال المتدافعة تدل على أن لهذا العالم مدبراً حكيماً ما أهمل مصالح الخلق وما تركهم سدى وتحت هذه المباحث مباحث عالية شريفة
البحث الثاني من مباحث هذه الآية قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم الْمَيّتِ مشددة في الكلمتين والباقون بالتخفيف في الكلمتين وكذلك كل هذا الجنس في القرآن
البحث الثالث أن لقائل أن يقول إنه قال أولاً يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ ثم قال وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَى ّ وعطف الاسم على الفعل قبيح فما السبب في اختيار ذلك
قلنا قوله وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَى ّ معطوف على قوله فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى وقوله يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ كالبيان والتفسير لقوله فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر النامي من جنس إخراج الحي من الميت لأن النامي في حكم الحيوان ألا ترى إلى قوله يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ وفيه وجه آخر وهو أن لفظ الفعل يدل على أن ذلك الفاعل يعتني بذلك الفعل في كل حين وأوان وأما لفظ الاسم فإنه لا يفيد التجدد والاعتناء به ساعة فساعة وضرب الشيخ عبد القاهر الجرجاني لهذا مثلاً في كتاب ( دلائل الإعجاز ) فقال قوله هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ السَّمَاء إنما ذكره بلفظ الفعل وهو قوله يَرْزُقُكُمْ لأن صيغة الفعل تفيد أنه تعالى يرزقهم حالاً فحالاً وساعة فساعة

وأما الاسم فمثاله قوله تعالى وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ ( الكهف 18 ) فقوله بَاسِطٌ يفيد البقاء على تلك الحالة الواحدة
إذا ثبت هدا فنقول الحي أشرف من الميت فوجب أن يكون الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من الاعتناء بإخراج الميت من الحي فلهذا المعنى وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل وعن الثاني بصيغة الاسم تنبيهاً على أن الاعتناء بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الاعتناء بإيجاد الميت من الحي والله أعلم بمراده
ثم قال تعالى في آخر الآية ذالِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال بعضهم معناه ذلكم الله المدبر الخالق النافع الضار المحيي المميت فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ في إثبات القول بعبادة الأصنام والثاني أن المراد أنكم لما شاهدتم أنه تعالى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ثم شاهدتم أنه أخرج البدن الحي من النطفة الميتة مرة واحدة فكيف تستبعدون أن يخرج البدن الحي من ميت التراب الرميم مرة أخرى والمقصود الإنكار على تكذيبهم بالحشر والنشر وأيضاً الضدان متساويان في النسبة فكما لا يمتنع الانقلاب من أحد الضدين إلى الآخر وجب أن لا يمتنع الانقلاب من الثاني إلى الأول فكما لا يمتنع حصول الموت بعد الحياة وجب أيضاً أن لا يمتنع حصول الحياة بعد الموت وعلى كلا التقديرين فيخرج منه جواز القول بالبعث والحشر والنشر
المسألة الثانية تمسك الصاحب بن عباد بقوله فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ على أن فعل العبد ليس مخلوقاً لله تعالى قال لأنه تعالى لو خلق الأفك فيه فكيف يليق به أن يقول مع ذلك فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
والجواب عنه أن القدرة بالنسبة إلى الضدين على السوية فإن ترجح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح فحينئذ لا يكون هذا الرجحان من العبد بل يكون محض الاتفاق فكيف يحسن أن يقال له فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وأن توقف ذلك المرجح على حصول مرجح وهي الداعية الجاذبة إلى الفعل فحصول تلك الداعية يكون من الله تعالى وعند حصولها يجب الفعل وحينئذ يلزمكم كل ما ألزمتموه علينا والله أعلم
فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته فالنوع المتقدم كان مأخوذاً من دلالة أحوال النبات والحيوان والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعاً من الأحوال الأرضية وتقرير الحجة من وجوه الأول أن نقول الصبح صبحان

فالصبح الأول هو الصبح المستطيل كذنب السرحان ثم تعقبه ظلمة خالصة ثم يطلع بعده الصبح المستطير في جميع الأفق فنقول أما الصبح الأول وهو المستطيل الذي يحصل عقيبه ظلمة خالصة فهو من أقوى الدلائل على قدرة الله وحكمته وذلك لأنا نقول إن ذلك النور إما أن يقال إنه حصل من تأثير قرص الشمس أو ليس الأمر كذلك والأول باطل وذلك لأن مركز الشمس إذا وصل إلى دائرة نصف الليل فأهل الموضع الذي تكون تلك الدائرة أفقاً لهم قد طلعت الشمس من مشرقهم وفي ذلك الموضع أيضاً نصف كرة الأرض وذلك يقتضي أنه حصل الضوء في الربع الشرقي من بلدتنا وذلك الضوء يكون منتشراً مستطيراً في جميع أجزاء الجو ويجب أن يكون ذلك الضوء في كل ساعة إلى القوة والزيادة والكمال والصبح الأول لو كان أثر قرص الشمس لامتنع كونه خطاً مستطيلاً بل يجب أن يكون مستطيراً في جميع الأفق منتشراً فيه بالكلية وأن يكون متزايداً متكاملاً بحسب كل حين ولحظة ولما لم يكن الأمر كذلك بل علمنا أن الصبح الأول يبدو كالخيط الأبيض الصاعد حتى تشبهه العرب بذنب السرحان ثم إنه يحصل عقيبه ظلمة خالصة ثم يحصل الصبح المستطير بعد ذلك علمنا أن ذلك الصبح المستطيل ليس من تأثير قرص الشمس ولا من جنس نوره فوجب أن يكون ذلك حاصلاً بتخليق الله تعالى ابتداء تنبيهاً على أن الأنوار ليس لها وجود إلا بتخليقه وإن الظلمات لا ثبات لها إلا بتقديره كما قال في أول هذه السورة وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ
والوجه الثاني في تقرير هذا الدليل أنا لما بحثنا وتأملنا علمنا أن الشمس والقمر وسائر الكواكب لا تقع أضواؤها إلى على الجرم المقابل لها فأما الذي لا يكون مقابلاً لها فيمتنع وقوع أضوائها عليه وهذه مقدمة متفق عليها بين الفلاسفة وبين الرياضيين الباحثين عن أحوال الضوء المضيء ولهم في تقريرها وجوه نفيسة
إذا عرفت هذا نقول الشمس عند طلوع الصبح غير مرتفعة من الأفق فلا يكون جرم الشمس مقابلاً لجزء من أجزاء وجه الأرض فيمتنع وقوع ضوء الشمس على وجه الأرض وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ضوء الصبح من تأثير قرص الشمس فوجب أن يكون ذلك بتخليق الفاعل المختار
فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال الشمس حين كونها تحت الأرض توجب إضاءة ذلك الهواء المقابل له ثم ذلك الهواء مقابل للهواء الواقف فوق الأرض فيصيره ضوء الهواء الواقف تحت الأرض سبباً لضوء الهواء الواقف فوق الأرض ثم لا يزال يسري ذلك الضوء من هواء إلى هواء آخر ملاصق له حتى يصل إلى الهواء المحيط بنا هذا هو الوجه الذي عول عليه أبو علي بن الهيثم في تقرير هذا المعنى في كتابه الذي سماه ( بالمناظر الكثة )
والجواب أن هذا العذر باطل من وجهين الأول أن الهواء جرم شفاف عديم اللون وما كان كذلك فإنه لا يقبل النور واللون في ذاته وجوهره وهذا متفق عليه بين الفلاسفة واحتجوا عليه بأنه لو استقر النور على سطحه لوقف البصر على سطحه ولو كان كذلك لما نفذ البصر فيما وراءه ولصار إبصاره مانعاً عن إبصار ما وراءه فحيث لم يكن كذلك علمنا أنه لم يقبل اللون والنور في ذاته وجوهره وما كان كذلك امتنع أن ينعكس النور منه إلى غيره فامتنع أن يصير ضوءه سبباً لضوء هواء آخر مقابل له

فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال إنه حصل في الأفق أجزاء كثيفة من الأبخرة والأدخة وهي لكثافتها تقبل النور عن قرص الشمس ثم إن بحصول الضوء فيها يصير سبباً لحصول الضوء في الهواء المقابل لها فنقول لو كان السبب ما ذكرتم لكان كلما كانت الأبخرة والأدخنة في الأفق أكثر وجب أن يكون ضوء الصباح أقوى لكنه ليس الأمر كذلك بل على العكس منه فبطل هذا العذر
الوجه الثاني في إبطال هذا الكلام الذي ذكره ابن الهيثم أن الدائرة التي هي دائرة الأفق لنا فهي بعينها دائرة نصف النهار لقوم آخرين فإذا كان كذلك فالدائرة التي هي نصف النهار في بلدنا وجب كونها دائرة الأفق لأولئك الأقوام
إذا ثبت هذا فنقول إذا وصل مركز الشمس إلى دائرة نصف الليل وتجاوز عنها فالشمس قد طلعت على أولئك الأقوام واستنار نصف العام هناك والربع من الفلك الذي هو ربع شرقي لأهل بلدنا فهو بعينه ربع غربي بالنسبة إلى تلك البلدة وإذا كان كذلك فالشمس إذا تجاوز مركزها عن دائرة نصف الليل قد صار جرمها محاذياً لهواء الربع الشرقي لأهل بلدنا فلو كان الهواء يقبل كيفية النور من الشمس لوجب أن يحصل الضوء والنور في هواء الربع الشرقي من بلدنا بعد نصف الليل وأن يصير هواء الربع الشرقي في غاية الإضاءة والإنارة بعد نصف الليل وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الهواء لا يقبل كيفية النور في ذاته وإذا بطل هذا بطل العذر الذي ذكره ابن الهيثم فقد ذكرنا برهانين دقيقين عقليين محضين على أن خالق الضوء والظلمة هو الله تعالى لا قرص الشمس والله أعلم
والوجه الثالث هب أن النور الحاصل في العالم إنما كان بتأثير الشمس إلا أنا نقول الأجسام متماثلة في تمام الماهية ومتى كان الأمر كذلك كان حصول هذه الخاصية لقرص الشمس يجب أن يكون بتخليق الفاعل المختار أما بيان المقام الأول فهو أن الأجسام متماثلة في كونها أجساماً ومتحيزة فلو حصل الاختلاف بينها لكان ذلك الاختلاف واقعاً في مفهوم مغاير لمفهوم الجسمية ضرورة أن ما به المشاركة مغاير لما به المخالفة فنقول ذلك الأمر إما أن يكون محلاً للجسمية أو حالاً فيها أو لا محلاً لها ولا حالاً فيها والأول باطل لأنه يقتضي كون الجسم صفة قائمة بذات أخرى وذلك محال لأن ذلك المحل إن كان متحيزاً ومختصاً بحيز كان محل الجسم غير الجسم وهو محال وإن لم يكن كذلك كان الحاصل في الحيز حالاً في محل لا تعلق له بشيء من الأحياز والجهات وذلك مدفوع في بديهة العقل والثاني أيضاً باطل لأن على هذا التقدير الذوات هي الأجسام وما به قد حصلت المخالفة هو الصفات وكل ما يصح على الشيء صح على مثله فلما كانت الذوات متماثلة في تمام الماهية وجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر وهو المطلوب والثالث وهو القول بأن ما به حصلت المخالفة ليس محلاً للجسم ولا حالاً فيه وفساد هذا القسم ظاهر فثبت بهذا البرهان أن الأجسام متماثلة
وإذا ثبت هذا فنقول كل ما يصح على أحد المثلين فإنه يصح أيضاً على المثل الثاني وإذا استوت الأجسام بأسرها في قبول جميع الصفات على البدل كان اختصاص جسم الشمس لهذه الإضاءة وهذه الإنارة لا بد وأن يكون بتخصيص الفاعل المختار وإذا ثبت هذا كان فالق الإصباح في الحقيقة هو الله تعالى وذلك هو المطلوب والله أعلم

الوجه الرابع في تقرير هذا المطلوب أن الظلمة شبيهة بالعدم بل البرهان القاطع قد دل على أنه مفهوم عدمي والنور محض الوجود فإذا أظلم الليل حصل الخوف والفزع في قلب الكل فاستولى النوم عليهم وصاروا كالأموات وسكنت المتحركات وتعطلت التأثيرات ورفعت التفعيلات فإذا وصل نور الصباح إلى هذا العالم فكأنه نفخ في الصور مادة الحياة وقوة الإدراك فضعف النوم وابتدأت اليقظة بالظهور وكلما كان نور الصباح أقوى وأكمل كان ظهور قوة الحس والحركة في الحيوانات أكمل ومعلوم أن أعظم نعم الله على الخلق هو قوة الحياة والحس والحركة ولما كان النور هو السبب الأصلي لحصول هذه الأحوال كان تأثير قدرة الله تعالى في تخليق النور من أعظم أقسام النعم وأجل أنواع الفضل والكرم
إذا عرفت هذا فكونه سبحانه فالقاً للأصباح في كونه دليلاً على كمال قدرة الله تعالى أجل أقسام الدلائل وفي كونه فضلاً ورحمة وإحساناً من الله تعالى على الخلق أجل الأقسام وأشرف الأنواع فهذا ما حضرنا في تقرير دلالة قوله تعالى فَالِقُ الإِصْبَاحِ على وجود الصانع القادر المختار الحكم والله أعلم
ولنختم هذه الدلائل بخاتمة شريفة فنقول إنه تعالى فالق ظلمة العدم بصباح التكوين والإيجاد وفالق ظلمة الجمادية بصباح الحياة والعقل والرشاد وفالق ظلمة الجهالة بصباح العقل والإدراك وفالق ظلمات العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى صبحة عالم الأفلاك وفالق ظلمات الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات
المسألة الثالثة في تفسير الإِصْبَاحِ وجوه الأول قال الليث الصبح والصباح هما أول النهار وهو الإصباح أيضاً قال تعالى فَالِقُ الإِصْبَاحِ يعني الصبح قال الشاعر أفنى رياحاً وبنى رياح
تناسخ الإمساء والإصباح
والقول الثاني أن الإِصْبَاحِ مصدر سمي به الصبح
فإن قيل ظاهر الآية يدل على أنه تعالى فلق الصبح وليس الأمر كذلك فإن الحق أنه تعالى فلق الظلمة بالصبح فكيف الوجه فيه فنقول فيه وجوه الأول أن يكون المراد فالق ظلمة الإصباح وذلك لأن الأفق من الجانب الشمالي والغربي والجنوبي مملوء من الظلمة والنور وإنما ظهر في الجانب الشرقي فكأن الأفق كان بحراً مملوءاً من الظلمة ثم إنه تعالى شق ذلك البحر المظلم بأن أجرى جدولاً من النور فيه والحاصل أن المراد فالق ظلمة الإصباح بنور الإصباح ولما كان المراد معلوماً حسن الحذف والثاني أنه تعالى كما يشق بحر الظلمة عن نور الصبح فكذلك يشق نور الصبح عن بياض النهار فقوله فَالِقُ الإِصْبَاحِ أي فالق الإصباح ببياض النهار والثالث أن ظهور النور في الصباح أنما كان لأجل أن الله تعالى فلق تلك الظلمة فقوله فَالِقُ الإِصْبَاحِ أي مظهر الإصباح إلا أنه لما كان المقتضى لذلك الإظهار هو ذلك الفلق لا جرم ذكر اسم السبب والمراد منه المسبب الرابع قال بعضهم الفالق هو الخالق فكان المعنى خالق الإصباح وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والله أعلم
أما قوله تعالى وَجَاعِلُ فَالِقُ الإِصْبَاحِ فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية ثلاثة أنواع من الدلائل الفلكية

على التوحيد فأولها ظهور الصباح وقد فسرناه بمقدار الفهم وثانيها قوله وَجَاعِلُ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وفيه مباحث
المبحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) السكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن إليه استئناساً به واسترواحاً إليه من زوج أو حبيب ومنه قيل للنار سكن لأنه يستأنس بها ألا تراهم سموها المؤنسة ثم إن الليل يطمئن إليه الإنسان لأنه أتعب نفسه بالنهار واحتاج إلى زمان يستريح فيه وذلك هو الليل
فإن قيل أليس أن الخلق يبقون في الجنة في أهنأ عيش وألذ زمان مع أنه ليس هناك ليل فعلمنا أن وجود الليل والنهار ليس من ضروريات اللذة والخير في الحياة قلنا كلامنا في أن الليل والنهار من ضروريات مصالح هذا العالم أما في الدار الآخرة فهذه العادات غير باقية فيه فظهر الفرق
المبحث الثاني قرأ عاصم والكسائي وَجَعَلَ الَّيْلَ على صيغة الفعل والباقون جاعل على صيغة اسم الفاعل حجة من قرأ باسم الفاعل أن المذكور قبله اسم الفاعل وهو قوله فَالِقُ الْحَبّ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وجاعل أيضاً اسم الفاعل ويجب كون المعطوف مشاركاً للمعطوف عليه وحجة من قرأ بصيغة الفعل أن قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ منصوبان ولا بد لهذا النصب من عامل وما ذاك إلا أن يقدر قوله وَجَعَلَ بمعنى وجاعل الشمس والقمر حسباناً وذلك يفيد المطلوب
وأما قوله تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ففيه مباحث
المبحث الأول معناه أنه قدر حركة الشمس والقمر بحساب معين كما ذكره في سورة يونس في قوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ ( يونس 5 ) وقال في سورة الرحمن الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( الرحمن 5 ) وتحقيق الكلام فيه أنه تعالى قدر حركة الشمس مخصوصة بمقدار من السرعة والبطء بحيث تتم الدورة في سنة وقدر حركة القمر بحيث يتم الدورة في شهر وبهذه المقادير تنتظم مصالح العالم في الفصول الأربعة وبسببها يحصل ما يحتاج إليه من نضج الثمار وحصول الغلات ولو قدرنا كونها أسرع أو أبطأ مما وقع لاختلت هذه المصالح فهذا هو المراد من قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً
المبحث الثاني في الحسبان قولان الأول وهو قول أبي الهيثم أنه جمع حساب مثل ركاب وركبان وشهاب وشهبان والثاني أن الحسبان مصدر كالرجحان والنقصان وقال صاحب ( الكشاف ) الحسبان بالضم مصدر حسب كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب ونظيره الكفران والغفران والشكران
إذا عرفت هذا فنقول معنى جعل الشمس والقمر حسباناً جعلهما على حساب لأن حساب الأوقات لا يعلم إلا بدورهما وسيرهما
المبحث الثالث قال صاحب ( الكشاف ) وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ قرئا بالحركات الثلاث فالنصب على إضمار فعل دل عليه قوله جَاعِلِ الَّيْلَ أي وجعل الشمس والقمر حسباناً والجر عطف على لفظ الليل والرفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره والشمس والقمر مجعولان حسباناً أي محسوبان
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله ذالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ والعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة

إلى كمال علمه ومعناه أن تقدير إجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيئاتها المحدودة وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار والله أعلم
وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الاٌّ يَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
هذا هو النوع الثالث من الدلائل الدالة على كمال القدرة والرحمة والحكمة وهو أنه تعالى خلق هذه النجوم لمنافع العباد وهي من وجوه
الوجه الأول أنه تعالى خلقها لتهتدي الخلق بها إلى الطرق والمسالك في ظلمات البر والبحر حيث لا يرون شمساً ولا قمراً لأن عند ذلك يهتدون بها إلى المسالك والطرق التي يريدون المرور فيها
الوجه الثاني وهو أن الناس يستدلون بأحوال حركة الشمس على معرفة أوقات الصلاة وإنما يستدلون بحركة الشمس في النهار على القبلة ويستدلون بأحوال الكواكب في الليالي على معرفة القبلة
الوجه الثالث أنه تعالى ذكر في غير هذه السورة كون هذه الكواكب زينة للسماء فقال تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً ( الفرقان 61 ) وقال تعالى إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَة ٍ الْكَواكِبِ ( الصافات 6 ) وقال وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ( البروج 1 )
الوجه الرابع أنه تعالى ذكر في منافعها كونها رجوماً للشياطين
الوجه الخامس يمكن أن يقال لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر أي في ظلمات التعطيل والتشبيه فإن المعطل ينفي كونه فاعلاً مختاراً والمشبه يثبت كونه تعالى جسماً مختصاً بالمكان فهو تعالى خلق هذه النجوم ليهتدى بها في هذين النوعين من الظلمات أما الاهتداء بها في ظلمات بر التعطيل فذلك لأنا نشاهد هذه الكواكب مختلفة في صفات كثيرة فبعضها سيارة وبعضها ثابتة والثوابت بعضها في المنطقة وبعضها في القطبين وأيضاً الثوابت لامعة والسيارة غير لامعة وأيضاً بعضها كبيرة درية عظيمة الضوء وبعضها صغيرة خفية قليلة الضوء وأيضاً قدروا مقاديرها على سبع مراتب
إذا عرفت هذا فنقول قد دللنا على أن الأجسام متماثلة وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كان اختصاص كل واحد منها بصفة معينة دليلاً على أن ذلك ليس إلا بتقدير الفاعل المختار فهذا وجه الاهتداء بها في ظلمات بر التعطيل وأما وجه الاهتداء بها في ظلمات بحر التشبيه فلأنا نقول إنه لا عيب يقدح في إلهية هذه

الكواكب إلا أنها أجسام فتكون مؤلفة من الأجزاء والأبعاض وأيضاً إنها متناهية ومحدودة وأيضاً إنها متغيرة ومتحركة ومنتقلة من حال إلى حال فهذه الأشياء إن لم تكن عيوباً في الإلهية امتنع الطعن في إلهيتها وإن كانت عيوباً في الإلهية وجب تنزيه الإله عنها بأسرها فوجب الجزم بأن إله العالم والسماء والأرض منزه عن الجسمية والأعضاء والأبعاض والحد والنهاية والمكان والجهة فهذا بيان الاهتداء بهذه الكواكب في بر التعطيل وبحر التشبيه وهذا وإن كان عدولاً عن حقيقة اللفظ إلى مجازه إلا أنه قريب مناسب لعظمة كتاب الله تعالى
الوجه السادس في منافع هذه الكواكب ما ذكره الله تعالى في قوله وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) فنبه على سبيل الإجمال على أن في وجود كل واحد منها حكمة عالية ومنفعة شريفة وليس كل ما لا يحيط عقلنا به على التفصيل وجب نفيه فمن أراد أن يقدر حكمة الله تعالى في ملكه وملكوته بمكيال خياله ومقياس قياسه فقد ضل ضلالاً مبيناً ثم إنه تعالى لما ذكر الاستدلال بأحوال هذه النجوم قال قَدْ فَصَّلْنَا الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وفيه وجوه الأول المراد أن هذه النجوم كما يمكن أن يستدل بها على الطرقات في ظلمات البر والبحر فكذلك يمكن أن يستدل بها على معرفة الصانع الحكيم وكمال قدرته وعلمه الثاني أن يكون المراد من العلم ههنا العقل فقوله قَدْ فَصَّلْنَا الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ نظير قوله تعالى في سورة البقرة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( البقرة 164 ) إلى قوله لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وفي آل عمران في قوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ ( آل عمران 190 ) والثالث أن يكون المراد من قوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لقوم يتفكرون ويتأملون ويستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من الشاهد إلى الغائب
وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة ٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الاٌّ يَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ
هذا نوع رابع من دلائل وجود الإله وكمال قدرته وعلمه وهو الاستدلال بأحوال الإنسان فنقول لا شبهة في أن النفس الواحدة هي آدم عليه السلام وهي نفس واحدة وحواء مخلوقة من ضلع من أضلاعه فصار كل الناس من نفس واحدة وهي آدم
فإن قيل فما القول في عيسى
قلنا هو أيضاً مخلوق من مريم التي هي مخلوقة من أبويها
فإن قالوا أليس أن القرآن قد دل على أنه مخلوق من الكلمة أو من الروح المنفوخ فيها فكيف يصح ذلك
قلنا كلمة ( من ) تفيد ابتداء الغاية ولا نزاع أن ابتداء تكون عيسى عليه السلام كان من مريم وهذا

القدر كاف في صحة هذا اللفظ قال القاضي فرق بين قوله أَنشَأَكُمْ وبين قوله خَلَقَكُمْ لأن أنشأكم يفيد أنه خلقكم لا ابتداء ولكن على وجه النمو والشنوء لا من مظهر من الأبوين كما يقال في النبات إنه تعالى أنشأه بمعنى النمو والزيادة إلى وقت الانتهاء وأما قوله فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ففيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن كثير وأبو عمرو فَمُسْتَقَرٌّ بكسر القاف والباقون بفتحها قال أبو علي الفارسي قال سيبويه يقال قر في مكانه واستقر فمن كسر القاف كان المستقر بمعنى القار وإذا كان كذلك وجب أن يكون خبره المضمر ( منكم ) أي منكم مستقر ومن فتح القاف فليس على أنه مفعول به لأن استقر لا يتعدى فلا يكون له مفعول به فيكون اسم مكان فالمستقر بمنزلة المقر وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون خبره المضمر ( منكم ) بل يكون خبره ( لكم ) فيكون التقدير لكم مقر وأما المستودع فإن استودع فعل يتعدى إلى مفعولين تقول استودعت زيداً ألفاً وأودعت مثله فالمستودع يجوز أن يكون اسماً للإنسان الذي استودع ذلك المكان ويجوز أن يكون المكان نفسه
إذا عرفت هذا فنقول من قرأ مستقراً بفتح القاف جعل المستودع مكاناً ليكون مثل المعطوف عليه والتقدير فلكم مكان استقرار ومكان استيداع ومن قرأ فَمُسْتَقَرٌّ بالكسر فالمعنى منكم مستقر ومنكم مستودع والتقدير منكم من استقر ومنكم من استودع والله أعلم
المبحث الثاني الفرق بين المستقر والمستودع أن المستقر أقرب إلى النبات من المستودع فالشيء الذي حصل في موضع ولا يكون على شرف الزوال يسمى مستقراً فيه وأما إذا حصل فيه وكان على شرف الزوال يسمى مستودعاً لأن المستودع في معرض أن يسترد في كل حين وأوان
إذا عرفت هذا فنقول كثر اختلاف المفسرين في تفسير هذين اللفظين على أقوال فالأول وهو المنقول عن ابن عباس في أكثر الروايات أن المستقر هو الأرحام والمستودع الأصلاب قال كريب كتب جرير إلى ابن عباس يسأله عن هذه الآية فأجاب المستودع الصلب والمستقر الرحم ثم قرأ وَنُقِرُّ فِى الاْرْحَامِ مَا نَشَاء ( الحج 5 ) ومما يدل أيضاً على قوة هذا القول أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زماناً طويلاً والجنين يبقى في رحم الأم زماناً طويلاً ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى
والقول الثاني أن المستقر صلب الأب والمستودع رحم الأم لأن النطفة حصلت في صلب الأب لا من قبل الغير وهي حصلت في رحم الأم بفعل الغير فحصول تلك النطفة في الرحم من قبل الرجل مشبه بالوديعة لأن قوله فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ يقتضي كون المستقر متقدماً على المستودع وحصول النطفة في صلب الأب مقدم على حصولها في رحم الأم فوجب أن يكون المستقر ما في أصلاب الآباء والمستودع ما في أرحام الأمهات
والقول الثالث وهو قول الحسن المستقر حاله بعد الموت لأنه إن كان سعيداً فقد استقرت تلك السعادة وإن كان شقياً فقد استقرت تلك الشقاوة ولا تبديل في أحوال الإنسان بعد الموت وأما قبل الموت فالأحوال متبدلة فالكافر قد ينقلب مؤمناً والزنديق قد ينقلب صديقاً فهذه الأحوال لكونها على شرف الزوال والفناء لا يبعد تشبيهها بالوديعة التي تكون مشرفة على الزوال والذهاب

والقول الرابع وهو قول الأصم إن المستقر من خلق من النفس الأولى ودخل الدنيا واستقر فيها والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق
والقول الخامس للأصم أيضاً المستقر من استقر في قرار الدنيا والمستودع من في القبور حتى يبعث وعن قتادة على العكس منه فقال مستقر في القبر ومستودع في الدنيا
القول السادس قول أبي مسلم الأصبهاني أن التقدير هو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمنكم مستقر ذكر ومنكم مستودع أنثى إلا أنه تعالى عبر عن الذكر بالمستقر لأن النطفة إنما تتولد في صلبه وإنما تستقر هناك وعبر عن الأنثى بالمستودع لأن رحمها شبيهة بالمستودع لتلك النطفة والله أعلم
المبحث الثالث مقصود الكلام أن الناس إنما تولدوا من شخص واحد وهو آدم عليه السلام ثم اختلفوا في المستقر والمستودع بحسب الوجوه المذكورة فنقول الأشخاص الإنسانية متساوية في الجسمية ومختلفة في الصفات التي باعتبارها حصل التفاوت في المستقر والمستودع والاختلاف في تلك الصفات لا بد له من سبب ومؤثر وليس السبب هو الجسمية ولوازمها وإلا لامتنع حصول التفاوت في الصفات فوجب أن يكون السبب هو الفاعل المختار الحكيم ونظير هذه الآية في الدلالة قوله تعالى وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ
ثم قال تعالى قَدْ فَصَّلْنَا الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ والمراد من هذا التفصيل أنه بين هذه الدلائل على وجه الفصل للبعض عن البعض ألا ترى أنه تعالى تمسك أولاً بتكوين النبات والشجر من الحب والنوى ثم ذكر بعده التمسك بالدلائل الفلكية من ثلاثة وجوه ثم ذكر بعده التمسك بأحوال تكوين الإنسان فقد ميز تعالى بعض هذه الدلائل عن بعض وفصل بعضها عن بعض لقوم يفقهون وفيه أبحاث الأول قوله لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ظاهره مشعر بأنه تعالى قد يفعل الفعل لغرض وحكمة
وجواب أهل السنة أن اللام لام العاقبة أو يكون ذلك محمولاً على التشبيه بحال من يفعل الفعل لغرض والثاني أن هذه الآية تدل على أنه تعالى أراد من جميع الخلق الفقه والفهم والإيمان وما أراد بأحد منهم الكفر وهذا قول المعتزلة
وجواب أهل السنة أن المراد منه كأنه تعالى يقول إنما فصلت هذا البيان لمن عرف وفقه وفهم وهم المؤمنون لا غير والثالث أنه تعالى ختم الآية السابقة وهي الآية التي استدل فيها بأحوال النجوم بقوله يَعْلَمُونَ وختم آخر هذه الآية بقوله يَفْقَهُونَ والفرق أن إنشاء الإنس من واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً فكان ذكر الفقه ههنا لأجل أن الفقه يفيد مزيد فطنة وقوة وذكاء وفهم والله أعلم

وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَى ْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَة ٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذالِكُمْ لاٌّ يَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن هذا النوع الخامس من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته ووجوه إحسانه إلى خلقه
واعلم أن هذه الدلائل كما أنها دلائل فهي أيضاً نعم بالغة وإحسانات كاملة والكلام إذا كان دليلاً من بعض الوجوه وكان إنعاماً وأحساناً من سائر الوجوه كان تأثيره في القلب عظيماً وعند هذا يظهر أن المشتغل بدعوة الخلق إلى طريق الحق لا ينبغي أن يعدل عن هذه الطريقة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ظاهر قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء يقتضي نزول المطر من السماء وعند هذا اختلف الناس فقال أبو علي الجبائي في ( تفسيره ) إنه تعالى ينزل الماء من السماء إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض قال لأن ظاهر النص يقتضي نزول المطر من السماء والعدول عن الظاهر إلى التأويل إنما يحتاج إليه عند قيام الدليل على أن إجراء اللفظ على ظاهره غير ممكن وفي هذا الموضع لم يقم دليل على امتناع نزول المطر من السماء فوجب إجراء اللفظ على ظاهره
وأما قول من يقول إن البخارات الكثيرة تجتمع في باطن الأرض ثم تصعد وترتفع إلى الهواء فينعقد الغيم منها ويتقاطر وذلك هو المطر فقد احتج الجبائي على فساده من وجوه الأول أن البرد قد يوجد في وقت الحر بل في صميم الصيف ونجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد وذلك يبطل قولهم
ولقائل أن يقول إن القوم يجيبون عنه فيقولون لا شك أن البخار أجزاء مائية وطبيعتها البرد ففي وقت الصيف يستولي الحر على ظاهر السحاب فيهرب البرد إلى باطنه فيقوى البرد هناك بسبب الاجتماع فيحدث البرد وأما في وقت برد الهواء يستولي البرد على ظاهر السحاب فلا يقوى البرد في باطنه فلا جرم لا ينعقد جمداً بل ينزل ماء هذا ما قالوه ويمكن أن يجاب عنه بأن الطبقة العالية من الهواء باردة جداً عندكم فإذا كان اليوم يوماً بارداً شديد البرد في صميم الشتاء فتلك الطبقة باردة جداً والهواء المحيط بالأرض أيضاً بارد جداً فوجب أن يشتد البرد وأن لا يحدث المطر في الشتاء البتة وحيث شاهدنا أنه قد يحدث فسد قولكم والله أعلم
الحجة الثانية مما ذكره الجبائي أنه قال إن البخارات إذا ارتفعت وتصاعدت تفرقت وإذا تفرقت لم

يتولد منها قطرات الماء بل البخار إنما يجتمع إذا اتصل بسقف متصل أملس كسقوف الحمامات المزججة أما إذا لم يكن كذلك لم يسل منه ماء كثير فإذا تصاعدت البخارات في الهواء وليس فوقها سطح أملس متصل به تلك البخارات وجب أن لا يحصل منها شيء من الماء ولقائل أن يقول القوم يجيبون عنه بأن هذه البخارات إذا تصاعدت وتفرقت فإذا وصلت عند صعودها وتفرقها إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت والبرد يوجب الثقل والنزول فبسبب قوة ذلك البرد عادت من الصعود إلى النزول والعالم كروي الشكل فلما رجعت من الصعود إلى النزول فقد رجعت من فضاء المحيط إلى ضيق المركز فتلك الذرات بهذا السبب تلاصقت وتواصلت فحصل من اتصال بعض تلك الذرات بعض قطرات الأمطار
الحجة الثالثة ما ذكره الجبائي قال لو كان تولد المطر من صعود البخارات فالبخارات دائمة الارتفاع من البحار فوجب أن يدوم هناك نزول المطر وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا فساد قولهم قال فثبت بهذه الوجوه أنه ليس تولد المطر من بخار الأرض ثم قال والقوم إنما احتاجوا إلى هذا القول لأنهم اعتقدوا أن الأجسام قديمة وإذا كانت قديمة امتنع دخول الزيادة والنقصان فيها وحينئذ لا معنى لحدوث الحوادث إلا اتصاف تلك الذرات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى فلهذا السبب احتالوا في تكوين كل شيء عن مادة معينة وأما المسلمون فلما اعتقدوا أن الأجسام محدثة وأن خالق العالم فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد فعند هذا لا حاجة إلى استخراج هذه التكلفات فثبت أن ظاهر القرآن يدل في هذه الآية على أن الماء إنما ينزل من السماء ولا دليل على امتناع هذا الظاهر فوجب القول بحمله على ظاهره ومما يؤكد ما قلناه أن جميع الآيات ناطقة بنزول المطر من السماء قال تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ( الفرقان 48 ) وقال وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ ( الأنفال 11 ) وقال وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ( النور 43 ) فثبت أن الحق أنه تعالى ينزل المطر من السماء بمعنى أنه يخلق هذه الأجسام في السماء ثم ينزلها إلى السحاب ثم من السحاب إلى الأرض
والقول الثاني المراد إنزال المطر من جانب السماء ماء
والقول الثالث أنزل من السحاب ماء وسمى الله تعالى السحاب سماء لأن العرب تسمي كل ما فوقك سماء كسماء البيت فهذا ما قيل في هذا الباب
المسألة الثانية نقل الواحدي في ( البسيط ) عن ابن عباس يريد بالماء ههنا المطر ولا ينزل نقطة من المطر إلا ومعها ملك والفلاسفة يحملون ذلك الملك على الطبيعة الحالة في تلك الجسمية الموجبة لذلك النزول فأما أن يكون معه ملك من ملائكة السموات فالقول به مشكل والله أعلم
المسألة الثالثة قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَى ْء فيه أبحاث
البحث الأول ظاهر قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَى ْء يدل على أنه تعالى إنما أخرج النبات بواسطة الماء وذلك يوجب القول بالطبع والمتكلمون ينكرونه وقد بالغنا في تحقيق هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ فلا فائدة في الإعادة

البحث الثاني قال الفراء قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَى ْء ظاهره يقتضي أن يكون لكل شيء نبات وليس الأمر كذلك فكان المراد فأخرجنا به نبات كل شيء له نبات فإذا كان كذلك فالذي لا نبات له لا يكون داخلاً فيه
البحث الثالث قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ بعد قوله أَنَزلَ يسمى التفاتاً ويعد ذلك من الفصاحة
واعلم أن أصحاب العربية ادعوا أن ذلك يعد من الفصاحة وما بينوا أنه من أي الوجوه يعد من هذا الباب وأما نحن فقد أطنبنا فيه في تفسير قوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَة ٍ ( يونس 22 ) فلا فائدة في الإعادة
والبحث الرابع قوله فَأَخْرَجْنَا صيغة الجمع والله واحد فرد لا شريك له إلا أن الملك العظيم إذا كنى عن نفسه فإنما يكنى بصيغة الجمع فكذلك ههنا ونظيره قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ
أما قوله فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً فقال الزجاج معنى خضر كمعنى أخضر يقال أخضر فهو أخضر وخضر مثل أعور فهو أعور وعور وقال الليث الخضر في كتاب الله هو الزرع وفي الكلام كل نبات من الخضر وأقول إنه تعالى حصر النبت في الآية المتقدمة في قسمين حيث قال إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى فالذي ينبت من الحب هو الزرع والذي ينبت من النوى هو الشجر فاعتبر هذه القسمة أيضاً في هذه الآية فابتدأ بذكر الزرع وهو المراد بقوله فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً وهو الزرع كما رويناه عن الليث وقال ابن عباس يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز والمراد من هذا الخضر العود الأخضر الذي يخرج أولاً ويكون السنبل في أعلاه وقوله نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً يعني يخرج من ذلك الخضر حباً متراكباً بعضه على بعض في سنبلة واحدة وذلك لأن الأصل هو ذلك العود الأخضر وتكون السنبلة مركبة عليه من فوقه وتكون الحبات متراكبة بعضها فوق بعض ويحصل فوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كأنها الأبر والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة
ولما ذكر ما ينبت من الحب أتبعه بذكر ما ينبت من النوى وهو القسم الثاني فقال وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوانٌ دَانِيَة ٌ وههنا مباحث
البحث الأول أنه تعالى قدم ذكر الزرع على ذكر النخل وهذا يدل على أن الزرع أفضل من النخل وهذا البحث قد أفرد الجاحظ فيه تصنيفاً مطولاً
البحث الثاني روى الواحدي عن أبي عبيدة أنه قال أطلعت النخل إذا أخرجت طلعها وطلعها كيزانها قبل أن ينشق عن الأغريض والأغريض يسمى طلعاً أيضاً قال والطلع أول ما يرى من عذق النخلة الواحدة طلعة وأما قِنْوانٌ فقال الزجاج القنوان جمع قنو مثل صنوان وصنو وإذا ثنيت القنو قلت قنوان بكسر النون فجاء هذا الجمع على لفظ الاثنين والإعراب في النون للجمع
إذا عرفت تفسير اللفظ فنقول قوله قِنْوانٌ دَانِيَة ٌ قال ابن عباس يريد العراجين التي قد تدلت من الطلع دانية ممن يجتنيها وروى عنه أيضاً أنه قال قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض قال الزجاج ولم

يقل ومنها قنوان بعيدة لأن ذكر أحد القسمين يدل على الثاني كما قال سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( النحل 81 ) ولم يقل سرابيل تقيكم البرد لأن ذكر أحد الضدين يدل على الثاني فكذا ههنا وقيل أيضاً ذكر الدانية في القريبة وترك البعيدة لأن النعمة في القريبة أكمل وأكثر
والبحث الثالث قال صاحب ( الكشاف ) قِنْوانٌ رفع بالابتداء وَمِنَ النَّخْلِ خبره وَمِنْ طَلْعِهَا بدل منه كأنه قيل وحاصلة من طلع النخل قنوان ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة أخرجنا عليه تقديره ومخرجه من طلع النخل قنوان ومن قرأ يخرج منه حُبَّ كان طَلْعِهَا قِنْوانٌ عنده معطوفاً على قوله حُبَّ وقرىء قِنْوانٌ بضم القاف وبفتحها على أنه اسم جمع كركب لأن فعلان ليس من باب التكسير
ثم قال تعالى وَجَنَّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ وفيه أبحاث
البحث الأول قرأ عاصم جَنَّاتُ بضم التاء وهي قراءة علي رضي الله عنه والباقون جَنَّاتُ بكسر التاء أما القراءة الأولى فلها وجهان الأول أن يراد وثم وجنات من أعناب أي مع النخل والثاني أن يعطف على قِنْوانٌ على معنى وحاصلة أو ومخرجة من النخل قنوان وجنات من أعناب وأما القراءة بالنصب فوجهها العطف على قوله نَبَاتَ كُلّ شَى ْء والتقدير وأخرجنا به جنات من أعناب وكذلك قوله وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ ( الأنعام 141 ) قال صاحب ( الكشاف ) والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص كقوله تعالى وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ ( النساء 162 ) لفضل هذين الصنفين
والبحث الثاني قال الفراء قوله وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ يريد شجر الزيتون وشجر الرمان كما قال وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) يريد أهلها
البحث الثالث اعلم أنه تعالى ذكر ههنا أربعة أنواع من الأشجار النخل والعنب والزيتون والرمان وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء وثمار الأشجار فواكه والغذاء مقدم على الفاكهة وإنما قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابهة في خواص كثيرة بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات ولهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام ( أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من بقية طينة آدم ) وإنما ذكر العنب عقيب النخل لأن العنب أشرف أنواع الفواكه وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعاً به إلى آخر الحال فأول ما يظهر على الشجر يظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم لذيذة المطعم وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه ثم بعده يظهر الحصرم وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء وقد يتخذ الطبيخ منه فكأنه ألذ الطبائخ الحامضة ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها ويمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر وهو في الحقيقة ألذ الفواكه المدخرة ثم يبقى منه أربعة أنواع من المتناولات وهي الزبيب والدبس والخمر والخل ومنافع هذه الأربعة لا يمكن ذكرها إلى في المجلدات والخمر وإن كان الشرع قد حرمها ولكنه تعالى قال في صفتها وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ثم قال وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا فأحسن ما في العنب عجمه والأطباء يتخذون منه جوارشنات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة فثبت أن العنب كأنه سلطان الفواكه وأما الزيتون فهو أيضاً

كثير النفع لأنه يمكن تناوله كما هو وينفصل أيضاً عنه دهن كثير عظيم النفع في الأكل وفي سائر وجوه الاستعمال وأما الرمان فحاله عجيب جداً وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام قشره وشحمه وعجمه وماؤه
أما الأقسام الثلاثة الأول وهي القشر والشحم والعجم فكلها باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة وفيه تقوية للمزاج الضعيف وهو غذاء من وجه ودواء من وجه فإذا تأملت في الرمان وجدت الأقسام الثلاثة موصوفة بالكثافة التامة الأرضية ووجدت القسم الرابع وهو ماء الرمان موصوفاً باللطافة والاعتدال فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغايرين فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم
واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة التي هي أشرف أنواع النبات واكتفي بذكرها تنبيهاً على البواقي ولما ذكرها قال تعالى مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ وفيه مباحث الأول في تفسير مُشْتَبِهاً وجوه الأول أن هذه الفواكه قد تكون متشابهة في اللون والشكل مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذة وقد تكون مختلفة في اللون والشكل مع أنها تكون متشابهة في الطعم واللذة فإن الأعناب والرمان قد تكون متشابهة في الصورة واللون والشكل ثم إنها تكون مختلفة في الحلاوة والحموضة وبالعكس الثاني أن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القشر والعجم متشابهاً في الطعم والخاصية وأما ما فيها من اللحم والرطوبة فإنه يكون مختلفاً في الطعم والثالث قال قتادة أوراق الأشجار تكون قريبة من التشابه أما ثمارها فتكون مختلفة ومنهم من يقول الأشجار متشابهة والثمار مختلفة والرابع أقول إنك قد تأخذ العنقود من العنب فترى جميع حباته مدركة نضيجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة منها بقيت على أول حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة وعلى هذا التقدير فبعض حبات ذلك العنقود متشابهة وبعضها غير متشابه
والبحث الثاني يقال اشتبه الشيآن وتشابها كقولك استويا وتساويا والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً وقرىء مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ
والبحث الثالث إنما قال مشتبهاً ولم يقل مشتبهين إما اكتفاء بوصف أحدهما أو على تقدير والزيتون مشتبهاً وغير متشابه والرمان كذلك كقوله رماني بأمر كنت منه ووالدي
بريا ومن أجل الطوى رماني
ثم قال تعالى انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ وفيه مباحث
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي ثَمَرِهِ بضم الثاء والميم وقرأ أبو عمرو ثَمَرِهِ بضم الثاء وسكون الميم والباقون بفتح الثاء والميم أما قراءة حمزة والكسائي فلها وجهان
الوجه الأول وهو الأبين أن يكون جمع ثمرة على ثمر كما قالوا خشبة وخشب قال تعالى كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَة ٌ ( المنافقون 4 ) وكذلك أكمة وأكم ثم يخففون فيقولون أكم قال الشاعر

ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
والوجه الثاني أن يكون جمع ثمرة على ثمار ثم جمع ثماراً على ثمر فيكون ثمر جمع الجمع وأما قراءة أبي عمرو فوجهها أن تخفيف ثمر ثمر كقولهم رسل ورسل وأما قراءة الباقين فوجهها أن الثمر جمع ثمرة مثل بقرة وبقر وشجرة وشجر وخرزة وخرز
والبحث الثاني قال الواحدي الينع النضج قال أبو عبيدة يقال ينع يينع بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل وقال الليث ينعت الثمرة بالكسر وأينعت فهي تينع وتونع إيناعاً وينعاً بفتح الياء وينعاً بضم الياء والنعت يانع ومونع قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء وَيَنْعِهِ بضم الياء وقرأ ابن محيصن ويانعه
والبحث الثالث قوله مُتَشَابِهٍ انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ أمر بالنظر في حال الثمر في أول حدوثها وقوله وَيَنْعِهِ أمر بالنظر في حالها عند تمامها وكمالها وهذا هو موضع الاستدلال والحجة التي هي تمام المقصود من هذه الآية ذلك لأن هذه الثمار والأزهار تتولد في أول حدوثها على صفات مخصوصة وعند تمامها وكمالها لا تبقى على حالاتها الأولى بل تنتقل إلى أحوال مضادة للأحوال السابقة مثل أنها كانت موصوفة بلون الخضرة فتصير ملونة بلون السواد أو بلون الحمرة وكانت موصوفة بالحموضة فتصير موصوفة بالحلاوة وربما كانت في أول الأمر باردة بحسب الطبيعة فتصير في آخر الأمر حارة بحسب الطبيعة فحصول هذه التبدلات والتغيرات لا بد له من سبب وذلك السبب ليس هو تأثير الطبائع والفصول والأنجم والأفلاك لأن نسبة هذه الأحوال بأسرها إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية متشابهة والنسب المتشابهة لا يمكن أن تكون أسباباً لحدوث الحوادث المختلفة ولما بطل إسناد حدوث هذه الحوادث إلى الطبائع والأنجم والأفلاك وجب إسنادها إلى القادر المختار الحكيم الرحيم المدبر لهذا العالم على وفق الرحمة والمصلحة والحكمة ولما نبه الله سبحانه على ما في هذا الوجه اللطيف من الدلالة قال إِنَّ فِى ذالِكُمْ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قال القاضي المراد لمن يطلب الإيمان بالله تعالى لأنه آية لمن آمن ولمن لم يؤمن ويحتمل أن يكون وجه تخصيص المؤمنين بالذكر أنهم الذين انتفعوا به دون غيرهم كما تقدم تقريره في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ
ولقائل أن يقول بل المراد منه أن دلالة هذا الدليل على إثبات الإله القادر المختار ظاهرة قوية جلية فكأن قائلاً قال لم وقع الاختلاف بين الخلق في هذه المسألة مع وجود مثل هذه الدلالة الجلية الظاهرة القوية فأجيب عنه بأن قوة الدليل لا تفيد ولا تنفع إلا إذا قدر الله للعبد حصول الإيمان فكأنه قيل هذه الدلالة على قوتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله في حقه بالإيمان فأما من سبق قضاء الله له بالكفر لم ينتفع بهذه الدلالة البتة أصلاً فكان المقصود من هذا التخصيص التنبيه على ما ذكرناه والله أعلم

وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر هذه البراهين الخمسة من دلائل العالم الأسفل والعالم الأعلى على ثبوت الإلهية وكمال القدرة والرحمة ذكر بعد ذلك أن من الناس من أثبت لله شركاء واعلم أن هذه المسألة قد تقدم ذكرها إلا أن المذكور ههنا غير ما تقدم ذكره وذلك لأن الذين أثبتوا الشريك لله فرق وطوائف
فالطائفة الأولى عبدة الأصنام فهم يقولون الأصنام شركاء لله في العبودية ولكنهم معترفون بأن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخلق والإيجاد والتكوين
والطائفة الثانية من المشركين الذين يقولون مدبر هذا العالم هو الكواكب وهؤلاء فريقان منهم من يقول إنها واجبة الوجود لذاتها ومنهم من يقول إنها ممكنة الوجود لذواتها محدثة وخالقها هو الله تعالى إلا أنه سبحانه فوض تدبير هذا العالم الأسفل إليها وهؤلاء هم الذين حكى الله عنهم أن الخليل ( صلى الله عليه وسلم ) ناظرهم بقوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ وشرح هذا الدليل قد مضى
والطائفة الثالثة من المشركين الذين قالوا لجملة هذا العالم بما فيه من السموات والأرضين إلهان أحدهما فاعل الخير والثاني فاعل الشر والمقصود من هذه الآية حكاية مذهب هؤلاء فهذا تقرير نظم الآية والتنبيه على ما فيها من الفوائد فروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قوله تعالى وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ نزلت في الزنادقة الذين قالوا إن الله وإبليس أخوان فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور
واعلم أن هذا القول الذي ذكره ابن عباس أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية وذلك لأن بهذا الوجه يحصل لهذه الآية مزيد فائدة مغايرة لما سبق ذكره في الآيات المتقدمة قال ابن عباس والذي يقوي هذا الوجه قوله تعالى وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّة ِ نَسَباً ( الصافات 158 ) وإنما وصف بكونه من الجن لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار والملائكة والروحانيون لا يرون بالعيون فصارت كأنها مستترة من العيون فبهذا التأويل أطلق لفظ الجن عليها وأقول هذا مذهب المجوس وإنما قال ابن عباس هذا قول الزنادقة لأن المجوس يلقبون بالزنادقة لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله مسمى بالزند والمنسوب إليه يسمى زندي ثم عرب فقيل زنديق ثم جمع فقيل زنادقة

واعلم أن المجوس قالوا كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن وهو المسمى بإبليس في شرعنا ثم اختلفوا فالأكثرون منهم على أن أهرمن محدث ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة والأقلون منهم قالوا إنه قديم أزلي وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه شريك لله في تدبير هذا العالم فخيرات هذا العالم من الله تعالى وشروره من إبليس فهذا شرح ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما
فإن قيل فعلى هذا التقدير القوم أثبتوا لله شريكاً واحداً وهو إبليس فكيف حكى الله عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء
والجواب أنهم يقولون عسكر الله هم الملائكة وعسكر إبليس هم الشياطين والملائكة فيهم كثرة عظيمة وهم أرواح طاهرة مقدسة وهم يلهمون تلك الأرواح البشرية بالخيرات والطاعات والشياطين أيضاً فيهم كثرة عظيمة وهي تلقي الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشرية والله مع عسكره من الملائكة يحاربون إبليس مع عسكره من الشياطين فلهذا السبب حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء من الجن فهذا تفصيل هذا القول
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَخَلَقَهُمْ إشارة إلى الدليل القاطع الدال على فساد كون إبليس شريكاً لله تعالى في ملكه وتقريره من وجهين الأول أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم بل هو محدث
إذا ثبت هذا فنقول إن كل محدث فله خالق وموجد وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى ولما كان إبليس أصلاً لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح والمجوس سلموا أن خالقه هو الله تعالى فحينئذ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقبائح والمفاسد وإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا لا بد من إلهين يكون أحدهما فاعلاً للخيرات والثاني يكون فاعلاً للشرور لأن بهذا الطريق ثبت أن إله الخير هو بعينه الخالق لهذا الذي هو الشر الأعظم فقوله تعالى وَخَلَقَهُمْ إشارة إلى أن تعالى هو الخالق لهؤلاء الشياطين على مذهب المجوس وإذا كان خالقاً لهم فقد اعترفوا بكون إله الخير فاعلاً لأعظم الشرور وإذا اعترفوا بذلك وسقط قولهم لا بد للخيرات من إله وللشرور من إله آخر
والوجه الثاني في استنباط الحجة من قوله وَخَلَقَهُمْ ما بينا في هذا الكتاب وفي كتاب ( الأربعين في أصول الدين ) أن ما سوى الواحد ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو محدث ينتج أن ما سوى الواحد الأحد الحق فهو محدث فيلزم القطع بأن إبليس وجميع جنوده يكونون موصوفين بالحدوث وحصول الوجود بعدم العدم وحينئذ يعود الإلزام المذكور على ما قررناه فهذا تقرير المقصود الأصلي من هذه الآية وبالله التوفيق
المسألة الثانية قوله تعالى وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ معناه وجعلوا الجن شركاء لله
فإن قيل فما الفائدة في التقديم

قلنا قال سيبويه إنهم يقدمون الأهم الذي هم بشأنه أعنى فالفائدة في هذا التقديم استعظام أن يتخذ لله شريك سواء كان ملكاً أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك فهذا هو السبب في تقديم اسم الله على الشركاء
إذا عرفت هذا فنقول قرىء الْجِنَّ بالنصب والرفع والجر أما وجه النصب فالمشهور أنه بدل من قوله شُرَكَاء قال بعض المحققين هذا ضعيف لأن البدل ما يقوم مقام المبدل فلو قيل وجعلوا لله الجن لم يكن كلاماً مفهوماً بل الأولى جعله عطف بيان أما وجه القراءة بالرفع فهو أنه لما قيل وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء فهذا الكلام لو وقع الاقتصار عليه لصح أن يراد به الجن والأنس والحجر والوثن فكأنه قيل ومن أولئك الشركاء فقيل الجن وأما وجه القراءة بالجر فعلى الإضافة التي هي للتبيين
المسألة الثالثة اختلفوا في تفسير هذه الشركة على ثلاثة أوجه فالأول ما ذكرناه من أن المراد منه حكاية قول من يثبت للعالم إلهين أحدهما فاعل الخير والثاني فاعل الشر
والقول الثاني أن الكفار كانوا يقولون الملائكة بنات الله وهؤلاء يقولون المراد من الجن الملائكة وإنما حسن إطلاق هذا الاسم عليهم لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار والملائكة مستترون عن الأعين وكان يجب على هذا القائل أن يبين أنه كيف يلزم من قولهم الملائكة بنات الله قولهم بجعل الملائكة شركاء لله حتى يتم انطباق لفظ الآية على هذا المعنى ولعله يقال إن هؤلاء كانوا يقولون الملائكة مع أنها بنات الله فهي مدبرة لأحوال هذا العالم وحينئذ يحصل الشرك
والقول الثالث وهو قول الحسن وطائفة من المفسرين أن المراد أن الجن دعوا الكفار إلى عبادة الأصنام وإلى القول بالشرك فقبلوا من الجن هذا القول وأطاعوهم فصاروا من هذا الوجه قائلين يكون الجن شركاء لله تعالى وأقول الحق هو القول الأول والقولان الأخيران ضعيفان جداً أما تفسير هذا الشرك بقول العرب الملائكة بنات الله فهذا باطل من وجوه
الوجه الأول أن هذا المذهب قد حكاه الله تعالى بقوله وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 100 ) فالقول بإثبات البنات لله ليس إلا قول من يقول الملائكة بنات الله فلو فسرنا قوله وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ بهذا المعنى يلزم منه التكرار في الموضع الواحد من غير فائدة وأنه لا يجوز
الوجه الثاني في إبطال هذا التفسير أن العرب قالوا الملائكة بنات الله وإثبات الولد لله غير وإثبات الشريك له غير والدليل على الفرق بين الأمرين أنه تعالى ميز بينهما في قوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( الإخلاص 3 4 ) ولو كان أحدهما عين الآخر لكان هذا التفصيل في هذه السورة عبثاً
الوجه الثالث أن القائلين بيزدان وأهرمن يصرحون بإثبات شريك لإله العالم في تدبير هذا العالم فصرف اللفظ عنه وحمله على إثبات البنات صرف للفظ عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة وأنه لا يجوز
وأما القول الثاني وهو قول من يقول المراد من هذه الشركة أن الكفار قبلوا قول الجن في عبادة الأصنام فهذا في غاية البعد لأن الداعي إلى القول بالشرك لا يجوز تسميته بكونه شريكاً لله لا بحسب حقيقة اللفظ ولا بحسب مجازه وأيضاً فلو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لزم وقوع التكرير من غير فائدة لأن

الرد على عبدة الأصنام وعلى عبدة الكواكب قد سبق على سبيل الاستقصاء فثبت سقوط هذين القولين وظهر أن الحق هو القول الذي نصرناه وقويناه
وأما قوله تعالى وَخَلَقَهُمْ ففيه بحثان
البحث الأول اختلفوا في أن الضمير في قوله خَلْقَهُمْ إلى ماذا يعود على قولين
فالقول الأول إنه عاد إلى الْجِنَّ والمعنى أنهم قالوا الجن شركاء الله ثم إن هؤلاء القوم اعترفوا بأن إهرمن محدث ثم إن في المجوس من يقول إنه تعالى تفكر في مملكة نفسه واستعظمها فحصل نوع من العجب فتولد الشيطان عن ذلك العجب ومنهم من يقول شك في قدرة نفسه فتولد من شكه الشيطان فهؤلاء معترفون بأن إهرمن محدث وأن محدثه هو الله تعالى فقوله تعالى وَخَلَقَهُمْ إشارة إلى هذا المعنى ومتى ثبت أن هذا الشيطان مخلوق لله تعالى امتنع جعله شريكاً لله في تدبير العالم لأن الخالق أقوى وأكمل من المخلوق وجعل الضعيف الناقص شريكاً للقوي الكامل محال في العقول
والقول الثاني أن الضمير عائد إلى الجاعلين وهم الذين أثبتوا الشركة بين الله تعالى وبين الجن وهذا القول عندي ضعيف لوجهين أحدهما أنا إذا حملناه على ما ذكرناه صار ذلك اللفظ الواحد دليلاً قاطعاً تاماً كاملاً في إبطال ذلك المذهب وإذا حملناه على هذا الوجه لم يظهر منه فائدة وثانيهما أن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب وأقرب المذكورات في هذه الآية هو الجن فوجب أن يكون الضمير عائداً إليه
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَخَلَقَهُمْ أي اختلاقهم للأفك يعني وجعلوا الله خلقهم حيث نسبوا ذبائحهم إلى الله في قولهم وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا
ثم قال وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وفيه مباحث
البحث الأول أقول إنه تعالى حكى عن قوم أنهم أثبتوا إبليس شريكاً لله تعالى ثم بعد ذلك حكى عن أقوام آخرين أنهم أثبتوا لله بنين وبنات أما الذين أثبتوا البنين فهم النصارى وقوم من اليهود وأما الذين أثبتوا البنات فهم العرب الذين يقولون الملائكة بنات الله وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ كالتنبيه على ما هو الدليل القاطع في فساد هذا القول وفيه وجوه
الحجة الأولى أن الإله يجب أن يكون واجب الوجود لذاته فولده إما أن يكون واجب الوجود لذاته أو لا يكون فإن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلاً بنفسه قائماً بذاته لا تعلق له في وجوده بالآخر ومن كان كذلك لم يكن والد له البتة لأن الولد مشعر بالفرعية والحاجة وأما إن كان ذلك الولد ممكن الوجود لذاته فحينئذ يكون وجوده بإيجاد واجب الوجود لذاته ومن كان كذلك فيكون عبداً له ولا ولداً له فثبت أن من عرف أن الإله ما هو امتنع منه أن يثبت له البنات والبنين
الحجة الثانية أن الولد يحتاج إليه أن يقوم مقامه بعد فنائه وهذا إنما يعقل في حق من يفنى أما من تقدس عن ذلك لم يعقل الولد في حقه
الحجة الثالثة أن الولد مشعر بكونه متولداً عن جزء من أجزاء الوالد وذلك إنما يعقل في حق من

يكون مركباً ويمكن انفصال بعض أجزائه عنه وذلك في حق الواحد الفرد الواجب لذاته محال فحاصل الكلام أن من علم أن الإله ما حقيقته استحال أن يقول له ولد فكان قوله وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ إشارة إلى هذه الدقيقة
البحث الثاني قرأ نافع وَخَرَقُواْ مشددة الراء والباقون خرقوا خفيفة الراء قال الواحدي الاختيار التخفيف لأنها أكثر والتشديد للمبالغة والتكثير
البحث الثالث قال الفراء معنى خرقوا افتعلوا وافتروا قال وخرقوا واخترقوا وخلقوا واختلقوا وافتروا واحد وقال الليث يقال تخرق الكذب وتخلقه وحكى صاحب ( الكشاف ) أنه سئل الحسن عن هذه الكلمة فقال كلمة عربية كانت تقولها كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم قد خرقها والله أعلم ثم قال ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه أي شقوا له بنين وبنات
ثم إنه تعالى ختم الآية فقال عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ فقوله سبحانه تنزيه لله عن كل ما لا يليق به وأما قوله وَتَعَالَى فلا شك أنه لا يفيد العلو في المكان لأن المقصود ههنا تنزيه الله تعالى عن هذه الأقوال الفاسدة والعلو في المكان لا يفيد هذا المعنى فثبت أن المراد ههنا التعالي عن كل اعتقاد باطل وقول فاسد
فإن قالوا فعلى هذا التقدير لا يبقى بين قوله ( سبحانه ) وبين قوله ( وتعالى ) فرق
قلنا بل يبقى بينهما فرق ظاهر فإن المراد بقوله سبحانه أن هذا القائل يسبحه وينزهه عما لا يليق به والمراد بقوله وَتَعَالَى كونه في ذاته متعالياً متقدساً عن هذه الصفات سواء سبحه مسبح أو لم يسبحه فالتسبيح يرجع إلى أقوال المسبحين والتعالي يرجع إلى صفته الذاتية التي حصلت له لذاته لا لغيره
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَة ٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين فساد قول طوائف أهل الدنيا من المشركين شرع في إقامة الدلائل على فساد قول من يثبت له الولد فقال بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
واعلم أن تفسير قوله بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قد تقدم في سورة البقرة إلا أنا نشير ههنا إلى ما هو المقصود الأصلي من هذه الآية فنقول الإبداع عبارة عن تكوين الشيء من غير سبق مثال ولذلك فإن من أتى في فن من الفنون بطريقة لم يسبقه غيره فيها يقال إنه أبدع فيه

إذا عرفت هذا فنقول إن الله تعالى سلم للنصارى أن عيسى حدث من غير أب ولا نطفة بل أنه إنما حدث ودخل في الوجود لأن الله تعالى أخرجه إلى الوجود من غير سبق الأب
إذا عرفت هذا فنقول المقصود من الآية أن يقال إنكم إما أن تريدوا بكونه والداً لله تعالى أنه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة ووالد وإما أن تريدوا بكونه ولد الله تعالى كما هو المألوف المعهود من كون الإنسان ولداً لأبيه وإما أن تريدوا بكونه ولداً لله مفهوماً ثالثاً مغايراً لهذين المفهومين
أما الاحتمال الأول فباطل وذلك لأنه تعالى وإن كان يحدث الحوادث في مثل هذا العالم الأسفل بناء على أسباب معلومة ووسايط مخصوصة إلا أن النصارى يسلمون أن العالم الأسفل محدث وإذا كان الأمر كذلك لزمهم الاعتراف بأنه تعالى خلق السموات والأرض من غير سابقة مادة ولا مدة وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون إحداثه للسموات والأرض إبداعاً فلو لزم من مجرد كونه مبدعاً لإحداث عيسى عليه السلام كونه والداً له لزم من كونه مبدعاً للسموات والأرض كونه والداً لهما ومعلوم أن ذلك باطل بالاتفاق فثبت أن مجرد كونه مبدعاً لعيسى عليه السلام لا يقتضي كونه والداً له فهذا هو المراد من قوله بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وإنما ذكر السموات والأرض فقط ولم يذكر ما فيهما لأن حدوث ما في السموات والأرض ليس على سبيل الإبداع أما حدوث ذات السموات والأرض فقد كان على سبيل الإبداع فكان المقصود من الإلزام حاصلاً بذكر السموات والأرض لا بذكر ما في السموات والأرض فهذا إبطال الوجه الأول
وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون مراد القوم من الولادة هو الأمر المعتاد المعروف من الولادة في الحيوانات فهذا أيضاً باطل ويدل عليه وجوه
الوجه الأول أن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة وشهوة وينفصل عنه جزء ويحتبس ذلك الجزء في باطن تلك الصاحبة وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والحد والنهاية والشهوة واللذة وكل ذلك على خالق العالم محال وهذا هو المراد من قوله أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة
والوجه الثاني أن تحصيل الولد بهذا الطريق إنما يصح في حق من لا يكون قادراً على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة فلما أراد الولد وعجز عن تكوينه دفعة واحدة عدل إلى تحصيله بالطريق المعتاد أما من كان خالقاً لكل الممكنات قادراً على كل المحدثات فإذا أراد إحداث شيء قال له كن فيكون ومن كان هذا الذي ذكرنا صفته ونعته امتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة وهذا هو المراد من قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء
والوجه الثالث وهو أن هذا الولد إما أن يكون قديماً أو محدثاً لا جائز أن يكون قديماً لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته وما كان واجب الوجود لذاته كان غنياً عن غيره فامتنع كونه ولداً لغيره فبقي أنه لو كان ولداً لوجب كونه حادثاً فنقول إنه تعالى عالم بجميع المعلومات فإما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالاً ونفعاً أو يعلم أنه ليس الأمر كذلك فإن كان الأول فلا وقت يفرض أن الله تعالى خلق هذا الولد

فيه إلا والداعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلاً قبل ذلك ومتى كان الداعي إلى إيجاده حاصلاً قبله وجب حصول الولد قبل ذلك وهذا يوجب كون ذلك الولد أزلياً وهو محال وإن كان الثاني فقد ثبت أنه تعالى عالم بأنه ليس له في تحصيل الولد كمال حال ولا ازدياد مرتبة في الإلهية وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يحدثه البتة في وقت من الأوقات وهذا هو المراد من قوله وَهُوَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ وفيه وجه آخر وهو أن يقال الولد المعتاد إنما يحدث بقضاء الشهوة وقضاء الشهوة يوجب اللذة واللذة مطلوبة لذاتها فلو صحت اللذة على الله تعالى مع أنها مطلوبة لذاتها وجب أن يقال إنه لا وقت إلا وعلم الله بتحصيل تلك اللذة يدعوه إلى تحصيلها قبل ذلك الوقت لأنه تعالى لما كان عالماً بكل المعلومات وجب أن يكون هذا المعنى معلوماً وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يحصل تلك اللذة في الأزل فلزم كون الولد أزلياً وقد بينا أنه محال فثبت أن كونه تعالى عالماً بكل المعلومات مع كونه تعالى أزلياً يمنع من صحة الولد عليه وهذا هو المراد من قوله وَهُوَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ فثبت بما ذكرنا أنه لا يمكن إثبات الولد لله تعالى بناء على هذين الاحتمالين المعلومين فأما إثبات الولد لله تعالى بناء على احتمال ثالث فذلك باطل لأنه غير متصور ولا مفهوم عند العقل فكان القول بإثبات الولادة بناء على ذلك الاحتمال الذي هو غير متصور خوضاً في محض الجهالة وأنه باطل فهذا هو المقصود من هذه الآية ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يذكروا في هذه المسألة كلاماً يساويه في القوة والكمال لعجزوا عنه فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَى ْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ وَكِيلٌ
اعلم أنه تعالى لما أقام الحجة على وجود الإله القادر المختار الحكيم الرحيم وبين فساد قول من ذهب إلى الإشراك بالله وفصل مذاهبهم على أحسن الوجوه وبين فساد كل واحد منها بالدلائل اللائقة به ثم حكى مذهب من أثبت لله البنين والبنات وبين بالدلائل القاطعة فساد القول بها فعند هذا ثبت أن إله العالم فرد واحد صمد منزه عن الشريك والنظير والضد والند ومنزه عن الأولاد والبنين والبنات فعند هذا صرح بالنتيجة فقال ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل ما سواه فاعبدوه ولا تعبدوا غيره أحداً فإنه هو المصلح لمهمات جميع العباد وهو الذي يسمع دعاءهم ويرى ذلهم وخضوعهم ويعلم حاجتهم وهو الوكيل لكل أحد على حصول مهماته ومن تأمل في هذا النظم والترتيب في تقرير الدعوة إلى التوحيد والتنزيه وإظهار فساد الشرك علم أنه لا طريق أوضح ولا أصلح منه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) ( ذلكم ) إشارة إلى الموصوف بما تقدم من الصفات وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة وهي اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَى ْء أي ذلك الجامع لهذه الصفات

فاعبدوه على معنى أن من حصلت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا أحداً سواء
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى بين في هذه السورة بالدلائل الكثيرة افتقار الخلق إلى خالق وموجد ومحدث ومبدع ومدبر ولم يذكر دليلاً منفصلاً يدل على نفي الشركاء والأضداد والأنداد ثم إنه اتبع الدلائل الدالة على وجود الصانع بأن نقل قول من أثبت لله شريكاً فهذا القدر يكون أوجب الجزم بالتشريك من الجن ثم أبطله ثم إنه تعالى بعد ذلك أتى بالتوحيد المحض حيث قال ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَى ْء فَاعْبُدُوهُ وعند هذا يتوجه السؤال وهو أن حاصل ما تقدم إقامة الدليل على وجود الخالق وتزييف دليل من أثبت لله شريكاً فهذا القدر كيف أوجب الجزم بالتوحيد المحض فنقول للعلماء في إثبات التوحيد طرق كثيرة ومن جملتها هذه الطريقة وتقريرها من وجوه الأول قال المتقدمون الصانع الواحد كاف وما زاد على الواحد فالقول فيه متكافىء فوجب القول بالتوحيد أما قولنا الصانع الواحد كاف فلأن الإله القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات كاف في كونه إلهاً للعالم ومدبراً له وأما أن الزائد على الواحد فالقول فيه متكافىء فلأن الزائد على الواحد لم يدل الدليل على ثبوته فلم يكن إثبات عدد أولى من إثبات عدد آخر فيلزم إما إثبات آلهة لا نهاية لها وهو محال أو إثبات عدد معين مع أنه ليس ذلك العدد أولى من سائر الأعداد وهو أيضاً محال وإذا كان القسمان باطلين لم يبق إلا القول بالتوحيد
الوجه الثاني في تقرير هذه الطريقة أن الإله القادر على كل الممكنات العالم بكل المعلومات كاف في تدبير العالم فلو قدرنا إلهاً ثانياً لكان ذلك الثاني إما أن يكون فاعلاً وموجوداً لشيء من حوادث هذا العالم أو لا يكون والأول باطل لأنه لما كان كل واحد منهما قادراً على جميع الممكنات فكل فعل يفعله أحدهما صار كونه فاعلاً لذلك الفعل مانعاً للآخر عن تحصيل مقدوره وذلك يوجب كون كل واحد منهما سبباً لعجز الآخر وهو محال وإن كان الثاني لا يفعل فعلاً ولا يوجد شيئاً كان ناقصاً معطلاً وذلك لا يصلح للإلهية
والوجه الثالث في تقرير هذه الطريقة أن نقول إن هذا الإله الواحد لا بد وأن يكون كاملاً في صفات الإلهية فلو فرضنا إلهاً ثانياً لكان ذلك الثاني إما أن يكون مشاركاً للأول في جميع صفات الكمال أو لا يكون فإن كان مشاركاً للأول في جميع صفات الكمال فلا بد وأن يكون متميزاً عن الأول بأمر ما إذ لو لم يحصل الامتياز بأمر من الأمور لم يحصل التعدد والإثنينية وإذا حصل الامتياز بأمر ما فذلك الأمر المميز إما أن يكون من صفات الكمال أو لا يكون فإن كان من صفات الكمال مع أنه حصل الامتياز به لم يكن جميع صفات الكمال مشتركاً فيه بينهما وإن لم يكن ذلك المميز من صفات الكمال فالموصوف به يكون موصوفاً بصفة ليست من صفات الكمال وذلك نفصان فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الإله الواحد كاف في تدبير العالم والإيجاد وأن الزائد يجب نفيه فهذه الطريقة هي التي ذكرها الله تعالى ههنا في تقرير التوحيد وأما التمسك بدليل التمانع فقد ذكرناه في سورة البقرة
المسألة الثالثة تمسك أصحابنا بقوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء على أنه تعالى هو الخالق لأعمال العباد قالوا أعمال العباد أشياء والله تعالى خالق كل شيء بحكم هذه الآية فوجب كونه تعالى خالقاً لها واعلم أنا

أطنبنا الكلام في هذا الدليل في كتاب ( الجبر والقدر ) ونكتفي ههنا من تلك الكلمات بنكت قليلة قالت المعتزلة هذا اللفظ وإن كان عاماً إلا أنه حصل مع هذه الآية وجوه تدل على أن أعمال العباد خارجة عن هذا العموم فأحدهما أنه تعالى قال خَالِقُ كُلّ شَى ْء فَاعْبُدُوهُ فلو دخلت أعمال العباد تحت قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء لصار تقدير الآية أنا خلقت أعمالكم فافعلوها بأعيانها أنتم مرة أخرى ومعلوم أن ذلك فاسد وثانيها أنه تعالى إنما ذكر قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء في معرض المدح والثناء على نفسه فلو دخل تحته أعمال العباد لخرج عن كونه مدحاً وثناء لأنه لا يليق به سبحانه أن يتمدح بخلق الزنا واللواط والسرقة والكفر وثالثها أنه تعالى قال بعد هذه الآية قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا وهذا تصريح بكون العبد مستقلاً بالفعل والترك وأنه لا مانع له البتة من الفعل والترك وذلك يدل على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى إذ لو كان مخلوقاً لله تعالى لما كان العبد مستقلاً به لأنه إذا أوجده الله تعالى امتنع منه الدفع وإذا لم يوجده الله تعالى امتنع منه التحصيل فلما دلت هذه الآية على كون العبد مستقلاً بالفعل والترك وثبت أن كونه كذلك يمنع أن يقال فعل العبد مخلوق لله تعالى ثبت أن ذكر قوله فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا يوجب تخصيص ذلك العموم ورابعها أن هذه الآية مذكورة عقيب قوله وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وقد بينا أن المراد منه رواية مذهب المجوس في إثبات إلهين للعالم أحدهما يفعل اللذات والخيرات والآخر يفعل الآلام والآفات فقوله بعد ذلك لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَى ْء يجب أن يكون محمولاً على إبطال ذلك المذهب وذلك إنما يكون إذا قلنا إنه تعالى هو الخالق لكل ما في هذا العالم من السباع والحشرات والأمراض والآلام فإذا حملنا قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء على هذا الوجه لم يدخل تحت أعمال العباد قالوا فثبت أن هذه الدلائل الأربعة توجب خروج أعمال العباد عن عموم قوله تعالى خَالِقُ كُلّ شَى ْء
والجواب أنا نقول الدليل العقلي القاطع قد ساعد على صحة ظاهر هذه الآية وتقريره أن الفعل موقوف على الداعي وخالق الداعي هو الله تعالى ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل وذلك يقتضي كونه تعالى خالقاً لأفعال العباد وإذا تأكد هذا الظاهر بهذا البرهان العقلي القاطع زالت الشكوك والشبهات
المسألة الرابعة قوله تعالى خَالِقُ كُلّ شَى ْء فَاعْبُدُوهُ يدل على ترتيب الأمر بالعبادة على كونه تعالى خالقاً لكل الأشياء بفاء التعقيب وترتيب الحكم على الوصف بحرف الفاء مشعر بالسببية فهذا يقتضي أن يكون كونه تعالى خالقاً للأشياء هو الموجب لكونه معبوداً على الإطلاق والإله هو المستحق للمعبودية فهذا يشعر بصحة ما يذكره بعض أصحابنا من أن الإله عبارة عن القادر على الخلق والإبداع والإيجاد والاختراع
المسألة الخامسة احتج كثير من المعتزلة بقوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء على نفي الصفات وعلى كون القرآن مخلوقاً أما نفي الصفات فلأنهم قالوا لو كان تعالى عالماً بالعلم قادراً بالقدرة لكان ذلك العلم والقدرة إما أن يقال إنهما قديمان أو محدثان والأول باطل لأن عموم قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء يقتضي كونه خالقاً لكل الأشياء أدخلنا التخصيص في

هذا العموم بحسب ذاته تعالى ضرورة أنه يمتنع أن يكون خالقاً لنفسه فوجب أن يبقى على عمومه فيما سواه والقول بإثبات الصفات القديمة يقتضي مزيد التخصيص في هذا العموم وأنه لا يجوز والثاني وهو القول بحدوث علم الله وقدرته فهو باطل بالإجماع ولأنه يلزم افتقار إيجاد ذلك العلم والقدرة إلى سبق علم آخر وقدرة أخرى وأن ذلك محال وأما تمسكهم بهذه الآية على كون القرآن مخلوقاً فقالوا القرآن شيء وكل شيء فهو مخلوق لله تعالى بحكم هذا العموم فلزم كون القرآن مخلوقاً لله تعالى أقصى ما في هذا الباب أن هذا العموم دخله التخصيص في ذات الله تعالى إلا أن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص ولذلك فإن دخول هذا التخصيص في هذا العموم لم يمنع أهل السنة من التمسك به في إثبات أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى
وجواب أصحابنا عنه أنا نخصص هذا العموم بالدلائل الدالة على كونه تعالى عالماً بالعلم قادراً بالقدرة وبالدلائل الدالة على أن كلام الله تعالى قديم
المسألة السادسة قوله تعالى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء وَكِيلٌ المراد منه أن يحصل للعبد كمال التوحيد وتقريره وهو أن العبد وإن كان يعتقد أنه لا إله إلا هو وأنه لا مدبر إلا الله تعالى إلا أن هذا العالم عالم الأسباب
وسمعت الشيخ الإمام الزاهد الوالد رحمه الله يقول لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب وإذا كان الأمر كذلك فقد يعلق الرجل القلب بالأسباب الظاهرة فتارة يعتمد على الأمير وتارة يرجع في تحصيل مهماته إلى الوزير فحينئذ لا ينال إلا الحرمان ولا يجد إلا تكثير الأحزان والحق تعالى قال وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء وَكِيلٌ والمقصود أن يعلم الرجل أنه لا حافظ إلا الله ولا مصلح للمهمات إلا الله فحينئذ ينقطع طمعه عن كل ما سواه ولا يرجع في مهم من المهمات إلا إليه
المسألة الرابعة أنه قال قبل هذه الآية بقليل وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء وقال ههنا خَالِقُ كُلّ شَى ْء وهذا كالتكرار
والجواب من وجوه الأول أن قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء إشارة إلى الماضي
أما قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء فهو اسم الفاعل وهو يتناول الأوقات كلها والثاني وهو التحقيق أنه تعالى ذكر هناك قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء ليجعله مقدمة في بيان نفي الأولاد وههنا ذكر قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء ليجعله مقدمة في بيان أنه لا معبود إلا هو والحاصل أن هذه المقدمة مقدمة توجب أحكاماً كثيرة ونتائج مختلفة فهو تعالى يذكرها مرة بعد مرة ليفرع عليها في كل موضع ما يليق بها من النتيجة
المسألة الثامنة لقائل أن يقول الإله هو الذي يستحق أن يكون معبوداً فقوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ معناه لا يستحق العبادة إلا هو فما الفائدة في قوله بعد ذلك فَاعْبُدُوهُ فإن هذا يوهم التكرير
والجواب قوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ أي لا يستحق العبادة إلا هو وقوله فَاعْبُدُوهُ أي لا تعبدوا غيره
المسألة التاسعة القوم كانوا معترفين بوجود الله تعالى كما قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) وما أطلقوا لفظ الله على أحد سوى الله سبحانه كما قال تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( مريم 65 ) فقال ذالِكَ اللَّهُ رَبُّكُمُ ( إبراهيم 34 ) أي الشيء الموصوف بالصفات التي تقدم ذكرها هو الله تعالى ثم قال بعده رَبُّكُمْ يعني الذي يربيكم ويحسن إليكم بأصناف التربية ووجوه الإحسان وهي أقسام

بلغت في الكثرة إلى حيث يعجز العقل عن ضبطها كما قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا
ثم قال لاَ إله إِلاَّ هُوَ يعني أنكم لما عرفتم وجود الإله المحسن المتفضل المتكرم فاعلموا أنه لا إله سواه ولا معبود سواه
ثم قال خَالِقُ كُلّ شَى ْء يعني إنما صح قولنا لا إله سواه لأنه لا خالق للخلق سواه ولا مدبر للعالم إلا هو فهذا الترتيب ترتيب مناسب مفيد
لاَّ تُدْرِكُهُ الاٌّ بْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاٌّ بْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى تجوز رؤيته والمؤمنين يرونه يوم القيامة من وجوه الأول في تقرير هذا المطلوب أن نقول هذه الآية تدل على أنه تعالى تجوز رؤيته
وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة
أما المقام الأول فتقريره أنه تعالى تمدح بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ وذلك مما يساعد الخصم عليه وعليه بنوا استدلالهم في إثبات مذهبهم في نفي الرؤية
وإذا ثبت هذا فنقول لو لم يكن تعالى جائز الرؤية لما حصل التمدح بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ألا ترى أن المعدوم لا تصح رؤيته والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا تصح رؤيتها فثبت أن قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يفيد المدح وثبت أن ذلك إنما يفيد المدح لو كان صحيح الرؤية وهذا يدل على أن قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يفيد كونه تعالى جائز الرؤية وتمام التحقيق فيه أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث يمتنع رؤيته فحينئذ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه كانت هذه القدرة الكاملة دالة على المدح والعظمة فثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته
وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة والدليل عليه أن القائل قائلان قائل قال بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه وقائل قال لا يرونه ولا تجوز رؤيته فأما القول بأنه تعالى تجوز رؤيته مع أنه لا يراه أحد من المؤمنين فهو قول لم يقل به أحد من الأمة فكان باطلاً فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية تدل على أنه تعالى جائز الرؤية في ذاته وثبت أنه متى كان الأمر كذلك وجب القطع بأن المؤمنين يرونه فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على حصول الرؤية وهذا استدلال لطيف من هذه الآية

الوجه الثاني أن نقول المراد بالأبصار في قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ليس هو نفس الإبصار فإن البصر لا يدرك شيئاً البتة في موضع من المواضع بل المدرك هو المبصر فوجب القطع بأن المراد من قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ هو أنه لا يدركه المبصرون وإذا كان كذلك كان قوله وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ المراد منه وهو يدرك المبصرين ومعتزلة البصرة يوافقوننا على أنه تعالى يبصر الأشياء فكان هو تعالى من جملة المبصرين فقوله وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ يقتضي كونه تعالى مبصراً لنفسه وإذا كان الأمر كذلك كان تعالى جائز الرؤية في ذاته وكان تعالى يرى نفسه وكل من قال إنه تعالى جائز الرؤية في نفسه قال إن المؤمنين يرونه يوم القيامة فصارت هذه الآية دالة على أنه جائز الرؤية وعلى أن المؤمنين يرونه يوم القيامة وإن أردنا أن نزيد هذا الاستدلال اختصاراً قلنا قوله تعالى وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ المراد منه إما نفس البصر أو المبصر وعلى التقديرين فيلزم كونه تعالى مبصراً لأبصار نفسه وكونه مبصراً لذات نفسه وإذا ثبت هذا وجب أن يراه المؤمنون يوم القيامة ضرورة أنه لا قائل بالفرق
الوجه الثالث في الاستدلال بالآية أن لفظ الاْبْصَارِ صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهي تفيد الاستغراق فقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يفيد أنه لا يراه جميع الأبصار فهذا يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب
إذا عرفت هذا فنقول تخصيص هذا السلب بالمجموع يدل على ثبوت الحكم في بعض أفراد المجموع ألا ترى أن الرجل إذا قال إن زيداً ما ضربه كل الناس فإنه يفيد أنه ضربه بعضهم
فإذا قيل إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما آمن به كل الناس أفاد أنه آمن به بعض الناس وكذا قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ معناه أنه لا تدركه جميع الأبصار فوجب أن يفيد أنه تدركه بعض الأبصار أقصى ما في الباب أن يقال هذا تمسك بدليل الخطاب فنقول هب أنه كذلك إلا أنه دليل صحيح لأن بتقدير أن لا يحصل الإدراك لأحد البتة كان تخصيص هذا السلب بالمجموع من حيث هو مجموع عبثاً وصون كلام الله تعالى عن العبث واجب
الوجه الرابع في التمسك بهذه الآية ما نقل أن ضرار بن عمرو الكوفي كان يقول إن الله تعالى لا يرى بالعين وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة واحتج عليه بهذه الآية فقال دلت هذه الآية على تخصيص نفي إدراك الله تعالى بالبصر وتخصيص الحكم بالشيء يدل على أن الحال في غيره بخلافه فوجب أن يكون إدراك الله بغير البصر جائزاً في الجملة ولما ثبت أن سائر الحواس الموجودة الآن لا تصلح لذلك ثبت أن يقال إنه تعالى يخلق يوم القيامة حاسة سادسة بها تحصل رؤية الله تعالى وإدراكه فهذه وجوه أربعة مستنبطة من هذه الآية يمكن العويل عليها في إثبات أن المؤمنين يرون الله في القيامة
المسألة الثانية في حكاية استدلال المعتزلة بهذه الآية في نفي الرؤية
اعلم أنهم يحتجون بهذه الآية من وجهين الأول أنهم قالوا الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية بدليل أن قائلاً لو قال أدركته ببصري وما رأيته أو قال رأيته وما أدركته ببصري فإنه يكون كلامه متناقضاً فثبت أن الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية

إذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال والدليل على صحة هذا العموم وجهان الأول يصح استثناء جميع الأشخاص وجميع الأحوال عنه فيقال لا تدركه الأبصار إلا بصر فلان وإلا في الحالة الفلانية والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فثبت أن عموم هذه الآية يفيد عموم النفي عن كل الأشخاص في جميع الأحوال وذلك يدل على أن أحداً لا يرى الله تعالى في شيء من الأحوال
الوجه الثاني في بيان أن هذه الآية تفيد العموم أن عائشة رضي الله عنها لما أنكرت قول ابن عباس في أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) رأى به ليلة المعراج تمسكت في نصرة مذهب نفسها بهذه الآية ولو لم تكن هذه الآية مفيدة للعموم بالنسبة إلى كل الأشخاص وكل الأحوال لما تم ذلك الاستدلال ولا شك أنها كانت من أشد الناس علماً بلغة العرب فثبت أن هذه الآية دالة على النفي بالنسبة إلى كل الأشخاص وذلك يفيد المطلوب
الوجه الثاني في تقرير استدلال المعتزلة بهذه الآية أنهم قالوا إن ما قبل هذه الآية إلى هذا الموضع مشتمل على المدح والثناء وقوله بعد ذلك وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ أيضاً مدح وثناء فوجب أن يكون قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ مدحاً وثناء وإلا لزم أن يقال إن ما ليس بمدح وثناء وقع في خلال ما هو مدح وثناء وذلك يوجب الركاكة وهي غير لائقة بكلام الله
إذا ثبت هذا فنقول كل ما كان عدمه مدحاً ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصاً في حق الله تعالى والنقص على الله تعالى محال لقوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ( البقرة 255 ) وقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) وقوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ( الإخلاص 3 ) إلى غير ذلك فوجب أن يقال كونه تعالى مرئياً محال
واعلم أن القوم إنما قيدوا ذلك بما لا يكون من باب الفعل لأنه تعالى تمدح بنفي الظلم عن نفسه في قوله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ ( آل عمران 108 ) وقوله وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فصلت 46 ) مع أنه تعالى قادر على الظلم عندهم فذكروا هذا القيد دفعاً لهذا النقض عن كلامهم فهذا غاية تقرير كلامهم في هذا الباب
والجواب عن الوجه الأول من وجوه الأول لا نسلم أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية والدليل عليه أن لفظ الإدراك في أصل اللغة عبارة عن اللحوق والوصول قال تعالى قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( الشعراء 61 ) أي لملحقون وقال حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ ( يونس 90 ) أي لحقه ويقال أدرك فلان فلاناً وأدرك الغلام أي بلغ الحلم وأدركت الثمرة أي نضجت فثبت أن الإدراك هو الوصول إلى الشيء
إذا عرفت هذا فنقول المرئي إذا كان له حد ونهاية وأدركه البصر بجميع حدوده وجوانبه ونهاياته صار كأن ذلك الإبصار أحاط به فتسمى هذه الرؤية إدراكاً أما إذا لم يحط البصر بجوانب المرئي لم تسم تلك الرؤية إدراكاً فالحاصل أن الرؤية جنس تحتها نوعان رؤية مع الإحاطة ورؤية لا مع الإحاطة والرؤية مع الإحاطة هي المسماة بالإدراك فنفي الإدراك يفيد نفي نوع واحد من نوعي الرؤية ونفي النوع لا يوجب نفي الجنس فلم يلزم من نفي الإدراك عن الله تعالى نفي الرؤية عن الله تعالى فهذا وجه حسن مقبول في الاعتراض على كلام الخصم

قلنا هذا بعيد لأن الإدراك أخص من الرؤية وإثبات الأخص يوجب إثبات الأعم وأما نفي الأخص لا يوجب نفي الأعم فثبت أن البيان الذي ذكرناه يبطل كلامكم ولا يبطل كلامنا
الوجه الثاني في الاعتراض أن نقول هب أن الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية لكن لم قلتم أن قوله لا تدركه الأبصار يفيد عموم النفي عن كل الأشخاص وعن كل الأحوال وفي كل الأوقات وأما الاستدلال بصحة الاستثناء على عموم النفي فمعارض بصحة الاستثناء عن جمع القلة مع أنها لا تفيد عموم النفي بل نسلم أنه يفيد العموم إلا أن نفي العموم غير وعموم النفي غير وقد دللنا على أن هذا اللفظ لا يفيد إلا نفي العموم وبينا أن نفي العموم يوجب ثبوت الخصوص وهذا هو الذي قررناه في وجه الاستدلال وأما قوله إن عائشة رضي الله عنها تمسكت بهذه الآية في نفي الرؤية فنقول معرفة مفردات اللغة إنما تكتسب من علماء اللغة فأما كيفية الاستدلال بالدليل فلا يرجع فيه إلى التقليد وبالجملة فالدليل العقلي دل على أن قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يفيد نفي العموم وثبت بصريح العقل أن نفي العموم مغاير لعموم النفي ومقصودهم إنما يتم لو دلت الآية على عموم النفي فسقط كلامهم
الوجه الثالث أن نقول صيغة الجمع كما تحمل على الاستغراق فقد تحمل على المعهود السابق أيضاً وإذا كان كذلك فقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يفيد أن الأبصار المعهودة في الدنيا لا تدركه ونحن نقول بموجبه فإن هذه الأبصار وهذه الأحداق ما دامت تبقى على هذه الصفات التي هي موصوفة بها في الدنيا لا تدرك الله تعالى وإنما تدرك الله تعالى إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها فلم قلتم أن عند حصول هذه التغيرات لا تدرك الله
الوجه الرابع سلمنا أن الأبصار البتة لا تدرك الله تعالى فلم لا يجوز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة مغايرة لهذه الحواس كما كان ضرار بن عمرو يقول به وعلى هذا التقدير فلا يبقى في التمسك بهذه الآية فائدة
الوجه الخامس هب أن هذه الآية عامة إلا أن الآيات الدالة على إثبات رؤية الله تعالى خاصة والخاص مقدم على العام وحينئذ ينتقل الكلام من هذا المقام إلى بيان أن تلك الآيات هل تدل على حصول رؤية الله تعالى أم لا
الوجه السادس أن نقول بموجب الآية فنقول سلمنا أن الأبصار لا تدرك الله تعالى فلم قلتم إن المبصرين لا يدركون الله تعالى فهذا مجموع الأسئلة على الوجه الأول وأما الوجه الثاني فقد بينا أنه يمتنع حصول التمدح بنفي الرؤية لو كان تعالى في ذاته بحيث تمتنع رؤيته بل إنما يحصل التمدح لو كان بحيث تصح رؤيته ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته وبهذا الطريق يسقط كلامهم بالكلية ثم نقول إن النفي يمتنع أن يكون سبباً لحصول المدح والثناء وذلك لأن النفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجباً للمدح والثناء والعلم به ضروري بل إذا كان النفي دليلاً على حصول صفة ثابتة من صفات المدح والثناء قيل بأن ذلك النفي يوجب المدح ومثاله أن قوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ لا يفيد المدح نظراً إلى هذا النفي فإن الجماد لا تأخذه سنة ولا نوم إلا أن هذا النفي في حق الباري تعالى يدل على كونه

تعالى عالماً بجميع المعلومات أبداً من غير تبدل ولا زوال وكذلك قوله وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ( الأنعام 14 ) يدل على كونه قائماً بنفسه غنياً في ذاته لأن الجماد أيضاً لا يأكل ولا يطعم
إذا ثبت هذا فنقول قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يمتنع أن يفيد المدح والثناء إلا إذا دل على معنى موجود يفيد المدح والثناء وذلك هو الذي قلناه فإنه يفيد كونه تعالى قادراً على حجب الأبصار ومنعها عن إدراكه ورؤيته وبهذا التقرير فإن الكلام ينقلب عليهم حجة فسقط استدلال المعتزلة بهذه الآية من كل الوجوه
المسألة الثالثة اعلم أن القاضي ذكر في ( تفسيره ) وجوهاً أخرى تدل على نفي الرؤية وهي في الحقيقة خارجة عن التمسك بهذه الآية ومنفصلة عن علم التفسير وخوض في علم الأصول ولما فعل القاضي ذلك فنحن ننقلها ونجيب عنها ثم نذكر لأصحابنا وجوهاً دالة على صحة الرؤية أما القاضي فقد تمسك بوجوه عقلية أولها أن الحاسة إذا كانت سليمة وكان المرئي حاضراً وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة وهي أن لا يحصل القرب القريب ولا البعد البعيد ولا يحصل الحجاب ويكون المرئي مقابلاً أو في حكم المقابل فإنه يجب حصول الرؤية إذ لو جاز مع حصول هذه الأمور أن لا تحصل الرؤية جاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبلات ولا نسمعها ولا نراها وذلك يوجب السفسطة
قالوا إذا ثبت هذا فنقول إن انتفاء القرب القريب والبعد البعيد والحجاب وحصول المقابلة في حق الله تعالى ممتنع فلو صحت رؤيته لوجب أن يكون المقتضي لحصول تلك الرؤية هو سلامة الحاسة وكون المرئي تصح رؤيته وهذان المعنيان حاصلان في هذا الوقت فلو كان بحيث تصح رؤيته لوجب أن تحصل رؤيته في هذا الوقت وحيث لم تحصل هذه الرؤية علمنا أنه ممتنع الرؤية
والحجة الثانية أن كل ما كان مرئياً كان مقابلاً أو في حكم المقابل والله تعالى ليس كذلك فوجب أن تمتنع رؤيته
والحجة الثالثة قال القاضي ويقال لهم كيف يراه أهل الجنة دون أهل النار إما أن يقرب منهم أو يقابلهم فيكون حالهم معه بخلاف أهل النار وهذا يوجب أنه جسم يجوز عليه القرب والبعد والحجاب
والحجة الرابعة قال القاضي إن قلتم إن أهل الجنة يرونه في كل حال حتى عند الجماع وغيره فهو باطل أو يرونه في حال دون حال وهذا أيضاً باطل لأن ذلك يوجب أنه تعالى مرة يقرب وأخرى يبعد وأيضاً فرؤيته أعظم اللذات وإذا كان كذلك وجب أن يكونوا مشتهين لتلك الرؤية أبداً فإذا لم يروه في بعض الأوقات وقعوا في الغم والحزن وذلك لا يليق بصفات أهل الجنة فهذا مجموع ما ذكره في ( كتاب التفسير ) واعلم أن هذه الوجوه في غاية الضعف
أما الوجه الأول فيقال له هب أن رؤية الأجسام والأعراض عند حصول سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول سائر الشرائط واجبة فلم قلتم إنه يلزم منه أن يكون رؤية الله تعالى عند سلامة الحاسة وعند كون المرئي بحيث يصح رؤيته واجبة ألم تعلموا أن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ولا يلزم من ثبوت حكم في شيء ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالفه والعجب من هؤلاء المعتزلة أن أولهم وآخرهم

عولوا على هذا الدليل وهم يدعون الفطنة التامة والكياسة الشديدة ولم يتنبه أحد منهم لهذا السؤال ولم يخطر بباله ركاكة هذا الكلام
وأما الوجه الثاني فيقال له إن النزاع بيننا وبينك وقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصاً بمكان وجهة هل يجوز رؤيته أم لا فإما أن تدعوا أن العلم بامتناع رؤية هذا الموجود الموصوف بهذه الصفة علم بديهي أو تقولوا أنه علم استدلالي والأول باطل لأنه لو كان العلم به بديهياً لما وقع الخلاف فيه بين العقلاء وأيضاً فبتقدير أن يكون هذا العلم بديهياً كان الاشتغال بذكر الدليل عبثاً فاتركوا الاستدلال واكتفوا بادعاء البديهة وإن كان الثاني فنقول قولكم المرئي يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل إعادة لعين الدعوى لأن حاصل الكلام أنكم قلتم الدليل على أن ما لا يكون مقابلاً ولا في حكم المقابل لا تجوز رؤيته أن كل ما كان مرئياً فإنه يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل ومعلوم أنه لا فائدة في هذا الكلام إلا إعادة الدعوى
وأما الوجه الثالث فيقال له لم لا يجوز أن يقال إن أهل الجنة يرونه وأهل النار لا يرونه لا لأجل القرب والبعد كما ذكرت بل لأنه تعالى يخلق الرؤية في عيون أهل الجنة ولا يخلقها في عيون أهل النار فلو رجعت في إبطال هذا الكلام إلى أن تجويزه يفضي إلى تجويز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبلات ولا نراها ولا نسمعها كان هذا رجوعاً إلى الطريقة الأولى وقد سبق جوابها
وأما الوجه الرابع فيقال لم لا يجوز أن يقال إن المؤمنين يرون الله تعالى في حال دون حال أما قوله فهذا يقتضي أن يقال إنه تعالى مرة يقرب ومرة يبعد فيقال هذا عود إلى أن الإبصار لا يحصل إلا عند الشرائط المذكورة وهو عود إلى الطريق الأول وقد سبق جوابه وقوله ثانياً الرؤية أعظم اللذات فيقال له إنها وإن كانت كذلك إلا أنه لا يبعد أن يقال إنهم يشتهونها في حال دون حال بدليل أن سائر لذات الجنة ومنافعها طيبة ولذيذة ثم إنها تحصل في حال دون حال فكذا ههنا فهذا تمام الكلام في الجواب عن الوجوه التي ذكرها في هذا الباب
المسألة الرابعة في تقرير الوجوه الدالة على أن المؤمنين يرون الله تعالى ونحن بعدها هنا عدا ونحيل تقريرها إلى المواضع اللائقة بها فالأول أن موسى عليه السلام طلب الرؤية من الله تعالى وذلك يدل على جواز رؤية الله تعالى والثاني أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل حيث قال فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى ( الأعراف 143 ) واستقرار الجبل جائز والمعلق على الجائز جائز وهذان الدليلان سيأتي تقريرهما إن شاء الله تعالى في سورة الأعراف
الحجة الثالثة التمسك بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ من الوجوه المذكورة
الحجة الرابعة التمسك بقوله تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ( يونس 26 ) وزيادة وتقريره قد ذكرناه في سورة يونس
الحجة الخامسة التمسك بقوله تعالى فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ ( الكهف 110 ) وكذا القول في جميع الآيات المشتملة على اللقاء وتقريره قد مر في هذا التفسير مراراً وأطواراً

الحجة السادسة التمسك بقوله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ( الأنسان 20 ) فإن إحدى القراآت في هذه الآية مَلَكًا بفتح الميم وكسر اللام وأجمع المسلمون على أن ذلك الملك ليس إلا الله تعالى وعندي التمسك بهذه الآية أقوى من التمسك بغيرها
الحجة السابعة التمسك بقوله تعالى كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ( المطففين 15 ) وتخصيص الكفار بالحجب يدل على أن المؤمنين لا يكونون محجوبين عن رؤية الله عز وجل
الحجة الثامنة التمسك بقوله تعالى وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَة ً أُخْرَى عِندَ سِدْرَة ِ الْمُنتَهَى ( النجم 13 14 ) وتقرير هذه الحجة سيأتي في تفسير سورة النجم
الحجة التاسعة أن القلوب الصافية مجبولة على حب معرفة الله تعالى على أكمل الوجوه وأكمل طرق المعرفة هو الرؤية فوجب أن تكون رؤية الله تعالى مطلوبة لكل أحد وإذا ثبت هذا وجب القطع بحصولها لقوله تعالى وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ ( فصلت 31 )
الحجة العاشرة قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ( الكهف 107 ) دلت هذه الآية على أنه تعالى جعل جميع جنات الفردوس نزلاً للمؤمنين والاقتصار فيها على النزل لا يجوز بل لا بد وأن يحصل عقيب النزل تشريف أعظم حالاً من ذلك النزل وما ذاك إلا الرؤية
الحجة الحادية عشرة قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ ( القيامة 22 23 ) وتقرير كل واحد من هذه الوجوه سيأتي في الموضع اللائق به من هذا الكتاب وأما الأخبار فكثيرة منها الحديث المشهور وهو قوله عليه السلام ( سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته ) واعلم أن التشبيه وقع في تشبيه الرؤية بالرؤية في الجلاء والوضوح لا في تشبيه المرئي بالمرئي ومنها ما اتفق الجمهور عليه من أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ قوله تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) فقال الحسنى هي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله ومنها أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هل رأى الله ليلة المعراج ولم يكفر بعضهم بعضاً بهذا السبب وما نسبه إلى البدعة والضلالة وذا يدل على أنهم كانوا مجمعين على أنه لا امتناع عقلاً في رؤية الله تعالى فهذا جملة الكلام في سمعيات مسألة الرؤية
المسألة الخامسة دل قوله تعالى وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ على أنه تعالى يرى الأشياء ويبصرها ويدركها وذلك لأنه إما أن يكون المراد من الأبصار عين الأبصار أو المراد منه المبصرين فإن كان الأول وجب الحكم بكونه تعالى رائياً لرؤية الرائين ولأبصار المبصرين وكل من قال ذلك قال إنه تعالى يرى جميع المرئيات والمبصرات وإن كان الثاني وجب الحكم بكونه تعالى رائياً للمبصرين فعلى كلا التقديرين تدل هذه الآية على كونه تعالى مبصراً للمبصرات رائياً للمرئيات
المسألة السادسة قوله تعالى وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ يفيد الحصر معناه أنه تعالى هو يدرك الأبصار ولا يدركها غير الله تعالى والمعنى أن الأمر الذي به يصير الحي رائياً للمرئيات ومبصراً للمبصرات ومدركاً للمدركات أمر عجيب وماهية شريفة لا يحيط العقل بكنهها ومع ذلك فإن الله تعالى مدرك لحقيقتها

مطلع على ماهيتها فيكون المعنى من قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ هو أن شيئاً من القوى المدركة لا تحيط بحقيقته وأن عقلاً من العقول لا يقف على كنه صمديته فكلت الأبصار عن إدراكه وارتدعت العقول عن الوصول إلى ميادين عزته وكما أن شيئاً لا يحيط به فعلمه محيط بالكل وإدراكه متناول للكل فهذا كيفية نظم هذه الآية
المسألة السابعة قوله وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ اللطافة ضد الكثافة والمراد منه الرقة وذلك في حق الله ممتنع فوجب المصير فيه إلى التأويل وهو من وجوه
الوجه الأول المراد لطف صنعه في تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة والأغشية الرقيقة والمنافذ الضيقة التي لا يعلمها أحد إلا الله تعالى
الوجه الثاني أنه سبحانه لطيف في الإنعام والرأفة والرحمة
والوجه الثالث أنه لطيف بعباده حيث يثني عليهم عند الطاعة ويأمرهم بالتوبة عند المعصية ولا يقطع عنهم سواد رحمته سواء كانوا مطيعين أو كانوا عصاة
الوجه الرابع أنه لطيف بهم حيث لا يأمرهم فوق طاقتهم وينعم عليهم بما هو فوق استحقاقهم وأما الخبير فهو من الخبر وهو العلم والمعنى أنه لطيف بعباده مع كونه عالماً بما هم عليه من ارتكاب المعاصي والإقدام على القبائح وقال صاحب ( الكشاف ) اللَّطِيفُ معناه أنه يلطف عن أن تدركه الأبصار الْخَبِيرُ بكل لطيف فهو يدرك الأبصار ولا يلطف شيء عن إدراكه وهذا وجه حسن
قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما قرر هذه البيانات الظاهرة والدلائل القاهرة في هذه المطالب العالية الشريفة الإلهية عاد إلى تقرير أمر الدعوى والتبليغ والرسالة فقال قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ والبصائر جمع البصيرة وكما أن البصر اسم للإدراك التام الكامل الحاصل بالعين التي في الرأس فالبصيرة اسم للإدراك التام الحاصل في القلب قال تعالى بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة ٌ ( القيامة 14 ) أي له من نفسه معرفة تامة وأراد بقوله قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ الآيات المتقدمة وهي في أنفسها ليست بصائر إلا أنها لقوتها وجلالتها توجب البصائر لمن عرفها ووقف على حقائقها فلما كانت هذه الآيات أسباباً لحصول البصائر سميت هذه الآيات أنفسها بالبصائر والمقصود من هذه الآية بيان ما يتعلق بالرسول وما لا يتعلق به
أما القسم الأول وهو الذي يتعلق بالرسول فهو الدعوة إلى الدين الحق وتبليغ الدلالة والبينات

فيها وهو أنه عليه السلام ما قصر في تبليغها وإيضاحها وإزالة الشبهات عنها وهو المراد من قوله قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ
وأما القسم الثاني وهو الذي لا يتعلق بالرسول فإقدامهم على الإيمان وترك الكفر فإن هذا لا يتعلق بالرسول بل يتعلق باختيارهم ونفعه وضره عائد إليهم والمعنى من أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر وإياها نفع ومن عمي عنه فعلى نفسه عمي وإياها ضر بالعمى وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ احفظ أعمالكم وأجازيكم عليها إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم
المسألة الثانية في أحكام هذه الآية وهي أربعة ذكرها القاضي فالأول الغرض بهذه البصائر أن ينتفع بها اختياراً استحق بها الثواب لا أن يحمل عليها أو يلجأ إليها لأن ذلك يبطل هذا الغرض والثاني أنه تعالى إنما دلنا وبين لنا منافع وأغراض المنافع تعود إلينا لا لمنافع تعود إلى الله تعالى والثالث أن المرء بعدوله عن النظر والتدبر يضر بنفسه ولم يؤت إلا من قبله لا من قبل ربه والرابع أنه متمكن من الأمرين فلذلك قال فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا قال وفيه إبطال قول المجبرة في المخلوق وفي أنه تعالى يكلف بلا قدرة
واعلم أنه متى شرعت المعتزلة في الحكمة والفلسفة والأمر والنهي فلا طريق فيه إلا معارضته بسؤال الداعي فإنه يهدم كل ما يذكرونه
المسألة الثالثة المراد من الإبصار ههنا العلم ومن العمي الجهل ونظيره قوله تعال فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 )
المسألة الرابعة قال المفسرون قوله فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا معناه لا آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ عليكم والوكيل قالوا وهذا إنما كان قبل الأمر بالقتال فلما أمر بالقتال صار حفيظاً عليهم ومنهم من يقول آية القتال ناسخة لهذه الآية وهو بعيد فكأن هؤلاء المفسرين مشغوفون بتكثير النسخ من غير حاجة إليه والحق ما تقرره أصحاب أصول الفقه إن الأصل عدم النسخ فوجب السعي في تقليله بقدر الإمكان
وَكَذالِكَ نُصَرِّفُ الاٌّ يَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في الإلهيات إلى هذا الموضع شرع من هذا الموضع في إثبات النبوات فبدأ تعالى بحكاية شبهات المنكرين لنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
فالشبهة الأولى قولهم يا محمد إن هذا القرآن الذي جئتنا به كلام تستفيده من مدارسة العلماء ومباحثة الفضلاء وتنظمه من عند نفسك ثم تقرأه علينا وتزعم أنه وحي نزل عليك من الله تعالى ثم إنه تعالى

أجاب عنه بالوجوه الكثيرة فهذا تقرير النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المراد من قوله وَكَذالِكَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ يعني أنه تعالى يأتي بها متواترة حالاً بعد حال ثم قال وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وفيه مباحث
البحث الأول حكى الواحدي في قوله درس الكتاب قولين الأول قال الأصمعي أصله من قولهم درس الطعام إذا داسه يدرسه دراساً والدراس الدياس بلغة أهل الشام قال ودرس الكلام من هذا أي يدرسه فيخف على لسانه والثاني قال أبو الهيثم درست الكتاب أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه من قولهم درست الثوب أدرسه درساً فهو مدروس ودريس أي أخلقته ومنه قيل للثوب الخلق دريس لأنه قد لان والدراسة الرياضة ومنه درست السورة حتى حفظتها ثم قال الواحدي وهذا القول قريب مما قاله الأصمعي بل هو نفسه لأن المعنى يعود فيه إلى الدليل والتليين
البحث الثاني قرأ ابن كثير وأبو عمرو دارست بالألف ونصب التاء وهو قراءة ابن عباس ومجاهد وتفسيرها قرأت على اليهود وقرؤا عليك وجرت بينك وبينهم مدارسة ومذاكرة ويقوى هذه القراءة قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ ( الفرقان 4 ) وقرأ ابن عامر دَرَسْتَ أي هذه الأخبار التي تلوتها علينا قديمة قد درست وانمحت ومضت من الدرس الذي هو تعفى الأثر وإمحاء الرسم قال الأزهري من قرأ دَرَسْتَ فمعناه تقادمت أي هذا الذي تتلوه علينا قد تقادم وتطاول وهو من قولهم درس الأثر يدرس دروساً
واعلم أن صاحب ( الكشاف ) روى ههنا قراآت أخرى فإحداها دَرَسْتَ بضم الراء مبالغة في دَرَسْتَ أي اشتد دروسها وثانيها دَرَسْتَ على البناء للمفعول بمعنى قدمت وعفت وثالثها دارست وفسروها بدارست اليهود محمداً ورابعها درس أي درس محمد وخامسها دارسات على معنى هي دارسات أي قديمات أو ذات درس كعيشة راضية
البحث الثالث ( الواو ) في قوله الاْيَاتِ وَلِيَقُولُواْ عطف على مضمر والتقدير وكذلك نصرف الآيات لنلزمهم الحجة وليقولوا فحذف المعطوف عليه لوضوح معناه
البحث الرابع اعلم أنه تعالى قال وَكَذالِكَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ ثم ذكر الوجه الذي لأجله صرف هذه الآيات وهو أمران أحدهما قوله تعالى وَلِيَقُولُواْ والثاني قوله دَرَسْتَ وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أما هذا الوجه الثاني فلا إشكال فيه لأنه تعالى بين أن الحكمة في هذا التصريف أن يظهر منه البيان والفهم والعلم وإنما الكلام في الوجه الأول وهو قوله وَلِيَقُولُواْ لأن قولهم للرسول دارست كفر منهم بالقرآن والرسول وعند هذا الكلام عاد بحث مسألة الجبر والقدر فأما أصحابنا فإنهم أجروا الكلام على ظاهره فقالوا معناه إنا ذكرنا هذه الدلائل حالاً بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزداد كفراً على كفر وتثبيتاً لبعضهم فيزداد إيماناً على إيمان ونظيره قوله تعالى مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ( البقرة 26 ) وقوله وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( التوبة 125 ) وأما المعتزلة فقد تحيروا قال الجبائي والقاضي وليس فيه إلا أحد وجهين الأول أن يحمل هذا الإثبات على النفي والتقدير وكذلك نصرف

الآيات لئلا يقولوا درست ونظيره قوله تعالى يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ومعناه لئلا تضلوا والثاني أن تحمل هذه اللام على لام العاقبة والتقدير أن عاقبة أمرهم عند تصريفنا هذه الآيات أن يقولوا هذا القول مستندين إلى اختيارهم عادلين عما يلزم من النظر في هذه الدلائل هذا غاية كلام القوم في هذا الباب
ولقائل أن يقول أما الجواب الأول فضعيف من وجهين الأول أن حمل الإثبات على النفي تحريف لكلام الله وتغيير له وفتح هذا الباب يوجب أن لا يبقى وثوق لا بنفيه ولا بإثباته وذلك يخرجه عن كونه حجة وأنه باطل والثاني أن بتقدير أن يجوز هذا النوع من التصرف في الجملة إلا أنه غير لائق البتة بهذا الموضع وذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يظهر آيات القرآن نجماً نجما والكفار كانوا يقولون إن محمداً يضم هذه الآيات بعضها إلى بعض ويتفكر فيها ويصلحها آية فآية ثم يظهرها ولو كان هذا بوحي نازل إليه من السماء فلم لايأتي بهذا القرآن دفعة واحدة كما أن موسى عليه السلام أتى بالتوراة دفعة واحدة
إذا عرفت هذا فنقول إن تصريف هذه الآيات حالاً فحالاً هي التي أوقعت الشبهة للقوم في أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) إنما يأتي بهذا القرآن على سبيل المدارسة مع التفكر والمذاكرة مع أقوام آخرين وعلى ما يقول الجبائي والقاضي فإنه يقتضي أن يكون تصريف هذه الآيات حالاً بعد حال يوجب أن يمتنعوا من القول بأن محمداً عليه الصلاة والسلام إنما أتى بهذا القرآن على سبيل المدارسة والمذاكرة فثبت أن الجواب الذي ذكره إنما يصح لو جعلنا تصريف الآيات علة لأن يمتنعوا من ذلك القول مع أنا بينا أن تصريف الآيات هو الموجب لذلك القول فسقط هذا الكلام
وأما الجواب الثاني وهو حمل اللام على لام العاقبة فهو أيضاً بعيد لأن حمل هذه اللام على لام العاقبة مجاز وحمله على لام الغرض حقيقة والحقيقة أقوى من المجاز فلو قلنا ( اللام ) في قوله وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ لام العاقبة في قوله وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ للحقيقة فقد حصل تقديم المجاز على الحقيقة في الذكر وأنه لا يجوز فثبت بما ذكرنا ضعف هذين الجوابين وأن الحق ما ذكرنا أن المراد منه عين المذكور في قوله تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ومما يؤكد هذا التأويل قوله وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني أنا ما بيناه إلا لهؤلاء فأما الذين لا يعلمون فما بينا هذه الآيات لهم ولما دل هذا على أنه تعالى ما جعله بياناً إلا للمؤمنين ثبت أنه جعله ضلالاً للكافرين وذلك ما قلنا والله أعلم
اتَّبِعْ مَآ أُوحِى َ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
قوله تعالى اتَّبِعْ مَا أُوحِى َ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم ينسبونه في إظهار هذا القرآن إلى الافتراء أو إلى أنه يدارس أقواماً ويستفيد هذه العلوم منهم ثم ينظمها قرآناً ويدعي أنه نزل عليه من الله تعالى أتبعه بقوله اتَّبِعْ مَا أُوحِى َ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ

لئلا يصير ذلك القول سبباً لفتوره في تبليغ الدعوة والرسالة والمقصود تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي حصل بسبب سماع تلك الشبهة ونبه بقوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ على أنه تعالى لما كان واحداً في الإلهية فإنه يجب طاعته ولا يجوز الإعراض عن تكاليفه بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين
وأما قوله وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فقيل المراد ترك المقابلة فلذلك قالوا إنه منسوخ وهذا ضعيف لأن الأمر بترك المقابلة في الحال لا يفيد الأمر بتركها دائماً وإذا كان الأمر كذلك لم يجب التزام النسخ وقيل المراد ترك مقابلتهم فيما يأتونه من سفه وأن يعدل صلوات الله عليه إلى الطريق الذي يكون أقرب إلى القبول وأبعد عن التنفير والتغليظ
قوله تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
اعلم أن هذا الكلام أيضاً متعلق بقولهم للرسول عليه السلام إنما جمعت هذا القرآن من مدارسة الناس ومذاكرتهم فكأنه تعالى يقول له لا تلتفت إلى سفاهات هألاء الكفار ولا يثقلن عليك كفرهم فإني لو أردت إزالة الكفر عنهم لقدرت ولكني تركتهم مع كفرهم فلا ينبغي أن تشغل قلبك بكلماتهم
واعلم أن أصحابنا تمسكوا بقوله تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ والمعنى ولو شاء الله أن لا يشركوا ما أشركوا وحيث لم يحصل الجزاء علمنا أنه لم يحصل الشرط فعلمنا أن مشيئة الله تعالى بعدم إشراكهم غير حاصلة قالت المعتزلة ثبت بالدليل أنه تعالى أراد من الكل الإيمان وما شاء من أحد الكفر والشرك وهذه الآية تقتضي أنه تعالى ما شاء من الكل الإيمان فوجب التوفيق بين الدليلين فيحمل مشيئة الله تعالى لإيمانهم على مشيئة الإيمان الاختياري الموجب للثواب والثناء ويحمل عدم مشيئته لإيمانهم على الإيمان الحاصل بالقهر والجبر وللإلجاء يعني أنه تعالى ما شاء منهم أن يحملهم على الإيمان على سبيل القهر والإلجاء لأن ذلك يبطل التكليف ويخرج الإنسان عن استحقاق الثواب هذا ما عول القوم عليه في هذا الباب وهو في غاية الضعف ويدل عليه وجوه الأول لا شك أنه تعالى هو الذي أقدر الكافر على الكفر فقدرة الكفر إن لم تصلح للإيمان فخالق تلك القدرة لا شك أنه كان مريداً للكفر وإن كانت صالحة للإيمان لم يترجح جانب الكفر على جانب الإيمان إلا عند حصول داع يدعوه إلى الإيمان وإلا لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال ومجموع القدرة مع الداعي إلى الكفر يوجب الكفر وإذا كان خالق القدرة والداعي هو الله تعالى وثبت أن مجموعهما يوجب الكفر ثبت أنه تعالى قد أراد الكفر من الكافر الثاني في تقرير هذا الكلام أن نقول إنه تعالى كان عالماً بعدم الإيمان من الكافر ووجود الإيمان مع العلم بعدم الإيمان متضادان ومع وجود أحد الضدين كان حصول الضد الثاني محالاً والمحال مع العلم بكونه محالاً غير مراد فامتنع أن يقال إنه تعالى يريد الإيمان من الكافر الثالث هب أن الإيمان الاختياري أفضل وأنفع من الإيمان الحاصل بالجبر والقهر إلا أنه تعالى لما علم أن ذلك الأنفع لا يحصل البتة فقد كان يجب في حكمته ورحمته أن يحلق فيه الإيمان على سبيل الإلجاء لأن هذا الإيمان وإن كان لا يوجب الثواب العظيم فأقل ما فيه أن يخلصه من العقاب العظيم فترك إيجاد هذا الإيمان فيه على سبيل الإلجاء يوجب وقوعه في أشد العذاب وذلك لا يليق بالرحمة والإحسان ومثاله أن من كان له ولد عزيز وكان هذا الأب في غاية الشفقة وكان هذا الولد واقفاً على طرف البحر فيقول الوالد له غص في قعر هذا البحر

لتستخرج اللآلي العظيمة الرفيعة العالية منه وعلم الوالد قطعاً أنه إذا غاص في البحر هلك وغرق فهذا الأب إن كان ناظراً في حقه مشفقاً عليه وجب عليه أن يمنعه من الغوص في قعر البحر ويقول له اترك طلب تلك اللآلي فإنك لا تحدها وتهلك ولكن الأولى لك أن تكتفي بالرزق القليل مع السلامة فأما أن يأمره بالغوص في قعر البحر مع اليقين التام بأنه لا يستفيد منه إلا الهلاك فهذا يدل على عدم الرحمة وعلى السعي في الإهلاك فكذا ههنا والله أعلم
واعلم أنه تعالى لما بين أنه لا قدرة لأحد على إزالة الكفر عنهم ختم الكلام بما يكمل معه تبصير الرسول عليه السلام وذلك أنه تعالى بين له قدر ما جعل إليه فذكر أنه تعالى ما جعله عليهم حفيظاً ولا وكيلاً على سبيل المنع لهم وإنما فوض إليه البلاغ بالأمر والنهي في العمل والعلم وفي البيان بذكر الدلائل والتنبيه عليها فإن انقادوا للقبول فنفعه عائد إليه وإلا فضرره عائد عليهم وعلى التقديرين فلا يخرج ( صلى الله عليه وسلم ) من الرسالة والنبوة والتبليغ
وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أن هذا الكلام أيضاً متعلق بقولهم للرسول عليه السلام إنما جمعت هذا القرآن من مدارسة الناس ومذاكرتهم فإنه لا يبعد أن بعض المسلمين إذا سمعوا ذلك الكلام من الكفار غضبوا وشتموا آلهتهم على سبيل المعارضة فنهى الله تعالى عن هذا العمل لأنك متى شتمت آلهتهم غضبوا فربما ذكروا الله تعالى بما لا ينبغي من القول فلأجل الاحتراز عن هذا المحذور وجب الاحتراز عن ذلك المقال وبالجملة فهو تنبيه على أن خصمك إذا شافهك بجهل وسفاهة لم يجز لك أن تقدم على مشافهته بما يجري مجرى كلامه فإن ذلك يوجب فتح باب المشاتمة والسفاهة وذلك لا يليق بالعقلاء وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب نزول الآية وجوهاً الأول قال ابن عباس لما نزل إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 98 ) قال المشركون لئن لم تنته عن سب آلهتنا وشتمها لنهجون إلهك فنزلت هذه الآية أقول لي ههنا إشكالان الأول أن الناس اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة فكيف يمكن أن يقال إن سبب نزول هذه الآية كذا وكذا الثاني أن الكفار كانوا مقرين بالإله تعالى وكانوا يقولون إنما حسنت عبادة الأصنام لتصير شفعاء لهم عند الله تعالى وإذا كان كذلك فكيف يعقل إقدامهم على شتم الله تعالى وسبه

والقول الثاني في سبب نزول هذه الآية قال السدي لما قربت وفاة أبي طالب قالت قريش ندخل عليه ونطلب منه أن ينهى ابن أخيه عنا فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان يمنعه فلما مات قتلوه فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر الحرث مع جماعة إليه وقالوا له أنت كبيرنا وخاطبوه بما أرادوا فدعا محمداً عليه الصلاة والسلام وقال هؤلاء قومك وبنو عمك يطلبون منك أن تتركهم على دينهم وأن يتركوك على دينك فقال عليه الصلاة والسلام ( قولوا لا إله إلا الله ) فأبوا فقال أبو طالب قل غير هذه الكلمة فإن قومك يكرهونها فقال عليه الصلاة والسلام ( ما أنا بالذي أقول غيرها حتى تأتوني بالشمس فتضعوها في يدي فقالوا له اترك شتم آلهتنا وإلا شتمناك ومن يأمرك بذلك فذلك قوله تعالى فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ
واعلم أنا قد دللنا على أن القوم كانوا مقرين بوجود الإله تعالى فاستحال إقدامهم على شتم الإله بل ههنا احتمالات أحدها أنه ربما كان بعضهم قائلاً بالدهر ونفي الصانع فما كان يبالي بهذا النوع من السفاهة وثانيها أن الصحابة متى شتموا الأصنام فهم كانوا يشتمون الرسول عليه الصلاة والسلام فالله تعالى أجرى شتم الرسول مجرى شتم الله تعالى كما في قوله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وكقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ( الأحزاب 57 ) وثالثها أنه ربما كان في جهالهم من كان يعتقد أن شيطاناً يحمله على ادعاء النبوة والرسالة ثم إنه لجهله كان يسمي ذلك الشيطان بأنه إله محمد عليه الصلاة والسلام فكان يشتم إله محمد بناء على هذا التأويل
المسألة الثانية لقائل أن يقول إن شتم الأصنام من أصول الطاعات فكيف يحسن من الله تعالى أن ينهى عنها
والجواب أن هذا الشتم وإن كان طاعة إلا أنه إذا وقع على وجه يستلزم وجود منكر عظيم وجب الاحتراز منه والأمر ههنا كذلك لأن هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم الله وشتم رسوله وعلى فتح باب السفاهة وعلى تنفيرهم عن قبول الدين وإدخال الغيظ والغضب في قلوبهم فلكونه مستلزماً لهذه المنكرات وقع النهي عنه
المسألة الثالثة قرأ الحسن فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بضم العين وتشديد الواو ويقال عدا فلان عدواً وعدواً وعدواناً وعداً أي ظلم ظلماً جاوز القدر قال الزجاج وعدواً منصوب على المصدر لأن المعنى فيعدوا عدواً قال ويجوز أن يكون بإرادة اللام والمعنى فينسبوا الله للظلم
المسألة الرابعة قال الجبائي دلت هذه الآية على أنه لا يجوز أن يفعل بالكفار ما يزدادون به بعداً عن الحق ونفوراً إذ لو جاز أن يفعله لجاز أن يأمر به وكان لا ينهى عما ذكرنا وكان لا يأمر بالرفق بهم عند الدعاء كقوله لموسى وهرون فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وذلك يبين بطلان مذهب المجبرة
المسألة الخامسة قالوا هذه الآية تدل على أن الأمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى إلى ارتكاب منكر والنهي عن المنكر يقبح إذا أدى إلى زيادة منكر وغلبة الظن قائمة مقام العلم في هذا الباب وفيه تأديب لمن

يدعو إلى الدين لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها
وأما قوله تعالى كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ فاحتج أصحابنا بهذا على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر وللمؤمن الإيمان وللعاصي المعصية وللمطيع الطاعة قا الكعبي حمل الآية على هذا المعنى محال لأنه تعالى هو الذي يقول الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ ( محمد 25 ) ويقول وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ( البقرة 257 ) ثم إن القوم ذكروا في الجواب وجوهاً الأول قال الجبائي المراد زينا لكل أمة تقدمت ما أمرناهم به من قبول الحق والكعبي أيضاً ذكر عين هذا الجواب فقال المراد أنه تعالى زين لهم ما ينبغي أن يعملوا وهم لا ينتهون الثاني قال آخرون المراد زينا لكل أمة من أمم الكفار سوء عملهم أي خليناهم وشأنهم وأمهلناهم حتى حسن عندهم سوء عملهم والثالث أمهلنا الشيطان حتى زين لهم والرابع زيناه في زعمهم وقولهم إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا هذا مجموع التأويلات المذكورة في هذه الآية والكل ضعيف وذلك لأن الدليل العقلي القاطع دل على صحة ما أشعر به ظاهر هذا النص وذلك لأنا بينا غير مرة أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على حصول الداعي وبينا أن تلك الداعية لا بد وأن تكون بخلق الله تعالى ولا معنى لتلك الداعية إلا علمه واعتقاده أو ظنه باشتمال ذلك الفعل على نفع زائد ومصلحة راجحة وإذا كانت تلك الداعية حصلت بفعل الله تعالى وتلك الداعية لا معنى لها إلا كونه معتقداً لاشتمال ذلك الفعل على النفع الزائد والمصلحة الراجحة
ثبت أنه يمتنع أن يصدر عن العبد فعل ولا قول ولا حركة ولا سكون إلا إذا زين الله تعالى ذلك الفعل في قلبه وضميره واعتقاده وأيضا الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفراً وجهلاً والعلم بذلك ضروري بل إنما يختاره لاعتقاده كونه إيماناً وعلماً وصدقاً وحقاً فلولا سابقة الجهل الأول لما اختار هذا الجهل الثاني ثم إنا ننقل الكلام إلى أنه لم اختار ذلك الجهل السابق فإن كان ذلك لسابقة جهل آخر فقد لزم أن يستمر ذلك إلى ما لا نهاية له من الجهالات وذلك محال ولما كان ذلك باطلاً وجب انتهاء تلك الجهالات إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه ابتداء وهو بسبب ذلك الجهل ظن في الكفر كونه إيماناً وحقاً وعلماً وصدقاً فثبت أنه يستحيل من الكافر اختيار الجهل والكفر إلا إذا زين الله تعالى ذلك الجهل في قلبه فثبت بهذين البرهانين القاطعين القطعيين أن الذي يدل عليه ظاهر هذه الآية هو الحق الذي لا محيد عنه وإذا كان الأمر كذلك فقد بطلت التأويلات المذكورة بأسرها لأن المصير إلى التأويل إنما يكون عند تعذر حمل الكلام على ظاهره أما لما قام الدليل على أنه لا يمكن العدول عن الظاهر فقد سقطت هذه التكليفات بأسرها والله أعلم وأيضاً فقوله تعالى كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ بعد قوله فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ مشعر بأن إقدامهم على ذلك المنكر إنما كان بتزيين الله تعالى فأما أن يحمل ذلك على أنه تعالى زين الأعمال الصالحة في قلوب الأمم فهذا كلام منقطع عما قبله وأيضاً فقوله كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ يتناول الأمم الكافرة والمؤمنة فتخصيص هذا الكلام بالأمة المؤمنة ترك لظاهر العموم وأما سائر التأويلات فقد ذكرها صاحب ( الكشاف ) وسقوطها لا يخفى والله أعلم
أما قوله تعالى ثُمَّ إِلَى رَبّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فالمقصود منه أن أمرهم مفوض إلى

الله تعالى وإن الله تعالى عالم بأحوالهم مطلع على ضمائرهم ورجوعهم يوم القيامة إلى الله فيجازي كل أحد بمقتضى عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر
وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ ءَايَة ٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الاٌّ يَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار شبهة توجب الطعن في نبوته وهي قولهم إن هذا القرآن إنما جئتنا به لأنك تدارس العلماء وتباحث الأقوام الذين عرفوا التوارة والإنجيل ثم تجمع هذه السور وهذه الآيات بهذا الطريق ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بما سبق وهذه الآية مشتملة على شبهة أخرى وهي قولهم له إن هذا القرآن كيفما كان أمره فليس من جنس المعجزات البتة ولو أنك يا محمد جئتنا بمعجزة قاهرة وبينة ظاهرة لآمنا بك وحلفوا على ذلك وبالغوا في تأكيد ذلك الحلف فالمقصود من هذه الآية تقرير هذه الشبهة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي إنما سمى اليمين بالقسم لأن اليمين موضوعة لتوكيد الخبر الذي يخبر به الإنسان إما مثبتاً للشيء وإما نافياً ولما كان الخبر يدخله الصدق والكذب احتاج المخبر إلى طريق به يتوسل إلى ترجيح جانب الصدق على جانب الكذب وذلك هو الحلف ولما كانت الحاجة إلى ذكر الحلف إنما تحصل عند انقسام الناس عند سماع ذلك الخبر إلى مصدق به ومكذب به سموا الحلف بالقسم وبنوا تلك الصيغة على أفعل فقالوا أقسم فلان يقسم إقساماً وأرادوا أنه أكد القسم الذي اختاره وأحال الصدق إلى القسم الذي اختاره بواسطة الحلف واليمين
المسألة الثانية ذكروا في سبب النزول وجوهاً الأول قالوا لما نزل قوله تعالى إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السَّمَاء ءايَة ً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( الشعراء 4 ) أقسم المشركون بالله لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها فنزلت هذه الآية الثاني قال محمد بن كعب القرظي إن المشركين قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) تخبرنا أن موسى ضرب الحجر بالعصا فانفجر الماء وأن عيسى أحيا الميت وأن صالحاً أخرج الناقة من الجبل فأتنا أيضاً أنت بآية لنصدقك فقال عليه الصلاة والسلام ( ما الذي تحبون ) فقالوا أن تجعل لنا الصفا ذهباً وحلفوا لئن فعل ليتبعونه أجمعون فقام عليه الصلاة والسلام يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال إن شئت كان ذلك ولئن كان فلم يصدقوا عنده ليعذبنهم وإن تركوا تاب على بعضهم فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( بل يتوب على بعضهم ) فأنزل الله تعالى هذه الآية
المسألة الثالثة ذكروا في تفسير قوله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ وجوهاً قال الكلبي ومقاتل إذا حلف الرجل

بالله فهو جهد يمينه وقال الزجاج بالغوا في الأيمان وقوله لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَة ٌ اختلفوا في المراد بهذه الآية فقيل ما روينا من جعل الصفا ذهباً وقيل هي الأشياء المذكورة في قوله تعالى وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) وقيل إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخبرهم بأن عذاب الاستئصال كان ينزل بالأمم المتقدمين الذين كذبوا أنبياءهم فالمشركون طلبوا مثلها
وقوله قُلْ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ ذكروا في تفسير لفظة عِندَ وجوهاً فيحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى هو المختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات دون غيره لأن المعجزات الدالة على النبوات شرطها أن لا يقدر على تحصيلها أحد إلا الله سبحانه وتعالى ويحتمل أن يكون المراد بالعندية أن العلم بأن إحداث هذه المعجزات هل يقتضي إقدام هؤلاء الكفار على الإيمان أم لا ليس إلا عند الله ولفظ العندية بهذا المعنى كما في قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ويحتمل أن يكون المراد أنها وإن كانت في الحال معدومة إلا أنه تعالى متى شاء إحداثها أحدثها فهي جارية مجرى الأشياء الموضوعة عند الله يظهرها متى شاء وليس لكم أن تتحكموا في طلبها ولفظ عِندَ بهذا المعنى هنا كما في قوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ( الحجر 21 )
ثم قال تعالى وَمَا يُشْعِرُكُمْ قال أبو علي ( ما ) استفهام وفاعل يشعركم ضمير ( ما ) والمعنى وما يدريكم إيمانهم فحذف المفعول وحذف المفعول كثير والتقدير وما يدريكم إيمانهم أي بتقدير أن تجيئهم هذه الآيات فهم لا يؤمنون وقوله أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو أَنَّهَا بكسر الهمزة على الاستئناف وهي القراءة الجيدة والتقدير أن الكلام تم عند قوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أي وما يشعركم ما يكون منهم ثم ابتدأ فقال أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ قال سيبويه سألت الخليل عن القراءة بفتح الهمزة في أن وقلت لم لا يجوز أن يكون التقدير ما يدريك أنه لا يفعل فقال الخليل إنه لا يحسن ذلك ههنا لأنه لو قال وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا بالفتح لصار ذلك عذراً لهم هذا كلام الخليل وتفسيره إنما يظهر بالمثال فإذا اتخذت ضيافة وطلبت من رئيس البلد أن يحضر فلم يحضر فقيل لك لو ذهبت أنت بنفسك إليه لحضر فإذا قلت وما يشعركم أني لو ذهبت إليه لحضر كان المعنى أني لو ذهبت إليه بنفسي فإنه لا يحضر أيضاً فكذا ههنا قوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ معناه أنها إذا جاءت آمنوا وذلك يوجب مجيء هذه الآيات ويصير هذا الكلام عذراً للكفار في طلب الآيات والمقصود من الآية دفع حجتهم في طلب الآيات فهذا تقرير كلام الخليل وقرأ الباقون من القراء أَنَّهَا بالفتح وفي تفسيره وجوه الأول قال الخليل ءانٍ بمعنى لعل تقول العرب ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً أي لعلك فكأنه تعالى قال لعلها إذا جاءت لا يؤمنون قال الواحدي ءانٍ بمعنى لعل كثير في كلامهم قال الشاعر أريني جواداً مات هولاً لأنني
أرى ما تريني أو بخيلاً مخلداً
وقال آخر هل أنتم عاجلون بنا لأنا
نرى العرصات أو أثر الخيام
وقال عدي بن حاتم

أعاذل ما يدريك أن منيتي
إلى ساعة في اليوم أوفي ضحى الغد
وقال الواحدي وفسر علي لعل منيتي روى صاحب ( الكشاف ) أيضاً في هذا المعنى قول امرىء القيس عوجاً على الطلل المحيل لأننا
نبكي الديار كما بكى ابن خذام
قال صاحب ( الكشاف ) ويقوي هذا الوجه قراءة أبي أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
الوجه الثاني في هذه القراءة أن تجعل لا صلة ومثله مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ ( الأعراف 12 ) معناه أن تسجد وكذلك قوله وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ( الأنبياء 95 ) أي يرجعون فكذا ههنا التقدير وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون والمعنى أنها لو جاءت لم يؤمنوا قال الزجاج وهذا الوجه ضعيف لأن ما كان لغواً يكون لغواً على جميع التقديرات ومن قرأ أَنَّهَا بالكسر فكلمة لا في هذه القراءة ليست بلغو فثبت أنه لا يجوز جعل هذا اللفظ لغواً قال أبو علي الفارسي لم لا يجوز أن يكون لغواً على أحد التقديرين ويكون مفيداً على التقدير الثاني واختلف القراء أيضاً في قوله لاَ يُؤْمِنُونَ فقرأ بعضهم بالياء وهو الوجه لأن قوله وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ إنما يراد به قوم مخصوصون والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة َ وليس كل الناس بهذا الوصف والمعنى وما يشعركم أيها المؤمنون لعلهم إذا جاءتهم الآية التي اقترحوها لم يؤمنوا فالوجه الياء وقرأ حمزة وابن عامر بالتاء وهو على الانصراف من الغيبة إلى الخطاب والمراد بالمخاطبين في تُؤْمِنُونَ هم الغائبون المقسمون الذين أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون وذهب مجاهد وابن زيد إلى أن الخطاب في قوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ للكفار الذين أقسموا قال مجاهد وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت وهذا يقوي قراءة من قرأ تُؤْمِنُونَ بالتاء على ما ذكرناأولاً الخطاب في قوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ للكفار الذين أقسموا وعلى ما ذكرنا ثانياً الخطاب في قوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ للمؤمنين وذلك لأنهم تمنوا نزول الآية ليؤمن المشركون وهو الوجه كأنه قيل للمؤمنين تتمنون ذلك وما يدريكم أنهم يؤمنون
المسألة الرابعة حاصل الكلام أن القوم طلبوا من الرسول معجزات قوية وحلفوا أنها لو ظهرت لآمنوا فبين الله تعالى أنهم وإن حلفوا على ذلك إلا أنه تعالى عالم بأنها لو ظهرت لم يؤمنوا وإذا كان الأمر كذلك لم يجب في الحكمة إجابتهم إلى هذا المطلوب قال الجبائي والقاضي هذه الآية تدل على أحكام كثيرة متعلقة بنصرة الاعتزال
الحكم الأول
أنها تدل على أنه لو كان في المعلوم لطف يؤمنون عنده لفعله لا محالة إذ لو جاز أن لا يفعله لم يكن لهذا الجواب فائدة لأنه إذا كان تعالى لا يجيبهم إلى مطلوبهم سواء آمنوا أو لم يؤمنوا لم يكن تعليق ترك الإجابة بأنهم لا يؤمنون عنده منتظماً مستقيماً فهذه الآية تدل على أنه تعالى يجب عليه أن يفعل كل ما هو في مقدوره من الألطاف والحكمة

الحكم الثاني
أن هذا الكلام إنما يستقيم لو كان لإظهار هذه المعجزات أثر في حملهم على الإيمان وعلى قول المجبرة ذلك باطل لأن عندهم الإيمان إنما يحصل بخلق الله تعالى فإذا خلقه حصل وإذا لم يخلقه لم يحصل فلم يكن لفعل الإلطاف أثر في حمل المكلف على الطاعات
وأقول هذا الذي قاله القاضي غير لازم أما الأول فلأن القوم قالوا لو جئتنا يا محمد بآية لآمنا بك فهذا الكلام في الحقيقة مشتمل على مقدمتين إحداهما أنك لو جئتنا بهذه المعجزات لآمنا بك والثانية أنه متى كان الأمر كذلك وجب عليك أن تأتينا بها والله تعالى كذبهم في المقام الأول وبين أنه تعالى وإن أظهرها لهم فهم لا يؤمنون ولم يتعرض البتة للمقام الثاني ولكنه في الحقيقة باق
فإن لقائل أن يقول هب أنهم لا يؤمنون عند إظهار تلك المعجزات فلم لم يجب على الله تعالى إظهارها اللهم إلا إذا ثبت قبل هذا البحث أن اللطف واجب على الله تعالى فحينئذ يحصل هذا المطلوب من هذه الآية إلا أن القاضي جعل هذه الآية دليلاً على وجوب اللطف فثبت أن كلامه ضعيف
وأما البحث الثاني وهو قوله إذا كان الكل بخلق الله تعالى لم يكن لهذه الألطاف أثر فيه فنقول الذي نقول به أن المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي والعلم بحصول هذا اللطف أحد أجزاء الداعي وعلى هذا التقدير فيكون لهذا اللطف أثر في حصول الفعل
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
هذا أيضاً من الآيات الدالة على قولنا إن الكفر والإيمان بقضاء الله وقدره والتقلب والقلب واحد وهو تحويل الشيء عن وجهه ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار هو أنه إذا جاءتهم الآيات القاهرة التي اقترحوها وعرفوا كيفية دلالتها على صدق الرسول إلا أنه تعالى إذا قلب قلوبهم وأبصارهم عن ذلك الوجه الصحيح بقوا على الكفر ولم ينتفعوا بتلك الآيات والمقصود من هذه الآية تقرير ما ذكرناه في الآية الأولى من أن تلك الآيات القاهرة لو جاءتهم لما آمنوا بها ولما انتفعوا بظهورها البتة
أجاب الجبائي عنه بأن قال المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يأمنوا به أول مرة في دار الدنيا
وأجاب الكعبي عنه بأن المراد من قوله وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ بأنا لا نفعل بهم ما نفعله بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم
وأجاب القاضي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الآيات التي قد ظهرت فلا تجدهم يؤمنون بها آخراً كما لم يؤمنوا بها أولاً
واعلم أن كل هذه الوجوه في غاية الضعف وليس لأحد أن يعيبنا فيقول إنكم تكررون هذه الوجوه في كل موضع فإنا نقول إن هؤلاء المعتزلة لهم وجوه معدودة في تأويلات آيات الجزاء فهم يكررونها في كل آية فنحن أيضاً نكرر الجواب عنها في كل آية فنقول قد بينا أن القدرة الأصلية صالحة للضدين وللطرفين على السوية فإذا لم ينضم على تلك القدرة داعية مرجحة امتنع حصول الرجحان فإذا انضمت

الداعية المرجحة إما إلى جانب الفعل أو إلى جانب الترك ظهر الرجحان وتلك الداعية ليست إلا من الله تعالى قطعاً للتسلسل وقد ظهر صحة هذه المقدمات بالدلائل القاطعة اليقينية التي لا يشك فيها العاقل وهذا هو المراد من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء ) فالقلب كالموقوف بين داعية الفعل وبين داعية الترك فإن حصل في القلب داعي الفعل ترجح جانب الفعل وإن حصل فيه داعي الترك ترجح جانب الترك وهاتان الداعيتان لما كانتا لا تحصلان إلا بإيجاد الله وتخليقه وتكوينه عبر عنهما بأصبعي الرحمن والسبب في حسن هذه الاستعارة أن الشيء الذي يحصل بين أصبعي الإنسان يكون كامل القدرة عليه فإن شاء أمسكه وإن شاء أسقطه فههنا أيضاً كذلك القلب واقف بين هاتين الداعيتين وهاتان الداعيتان حاصلتان بخلق الله تعالى والقلب مسخر لهاتين الداعيتين فلهذا السبب حسنت هذه الاستعارة وكان عليه الصلاة والسلام يقول ( يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك ) والمراد من قوله مقلب القلوب أن الله تعالى يقلبه تارة من داعي الخير إلى داعي الشر وبالعكس
إذا عرفت هذه القاعدة فقوله تعالى وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ محمول على هذا المعنى الظاهر الجلي الذي يشهد بصحته كل طبع سليم وعقل مستقيم فلا حاجة البتة إلى ما ذكروه من التأويلات المستكرهة وإنما قدم الله تعالى ذكر تقليب الأفئدة على تقليب الأبصار لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر إليه شاء أم أبى وإذا حصلت الصوارف في القلب انصرف البصر عنه فهو وإن كان يبصره في الظاهر إلا أنه لا يصير ذلك الإبصار سبباً للوقوف على الفوائد المطلوبة وهذا هو المراد من قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً فلما كان المعدن هو القلب وأما السمع والبصر فهما آلتان للقلب كانا لا محالة تابعين لأحوال القلب فلهذا السبب وقع الابتداء بذكر تقليب القلوب في هذه الآية ثم أتبعه بذكر تقليب البصر وفي الآية الأخرى وقع الابتداء بذكر تحصيل الكنان في القلب ثم أتبعه بذكر السمع فهذا هو الكلام القوي العقلي البرهاني الذي ينطبق عليه لفظ القرآن فكيف يحسن مع ذلك حمل هذا اللفظ على التكلفات التي ذكروها ولنرجع إلى ما يليق بتلك الكلمات الضعيفة فنقول أما الوجه الذي ذكره الجبائي فمدفوع لأن الله تعالى قال وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ثم عطف عليه فقال وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ولا شك أن قوله وَنَذَرُهُمْ إنما يحصل في الدنيا فلو قلنا المراد من قوله وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إنما يحصل في الآخرة كان هذا سوأ للنظم في كلام الله تعالى حيث قدم المؤخر وأخر المقدم من غير فائدة وأما الوجه الذي ذكره الكعبي فضعيف أيضاً لأنه إنما استحق الحرمان من تلك الألطاف والفوائد بسبب إقدامه على الكفر فهو الذي أوقع نفسه ذلك ذلك الحرمان والخدلان فكيف تحسن إضافته إلى الله تعالى في قوله تعالى وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ
وأما الوجه الثاني الذي ذكره القاضي فبعيد أيضاً لأن المراد من قوله وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ تقليب القلب من حالة إلى حالة ونقله من صفة إلى صفة وعلى ما يقوله القاضي فليس الأمر كذلك بل القلب باق على حالة واحدة إلا أنه تعالى أدخل التقليب والتبديل في الدلائل فثبت أن الوجوه التي ذكروها فاسدة باطلة بالكلية

أما قوله تعالى كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّة ٍ فقال الواحدي فيه وجهان
الوجه الأول دخلت الكاف على محذوف تقديره فلا يؤمنون بهذه الآيات كما لم يؤمنوا بظهور الآيات أول مرة أتتهم الآيات مثل انشقاق القمر وغيره من الآيات والتقدير فلا يؤمنون في المرة الثانية من ظهور الآيات كما لم يؤمنوا به في المرة الأولى وأما الكناية في بِهِ فيجوز أن تكون عائدة إلى القرآن أو إلى محمد عليه الصلاة والسلام أو إلى ما طلبوا من الآيات
الوجه الثاني قال بعضهم الكاف في قوله كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ بمعنى الجزاء ومعنى الآية ونقلب أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم على تركهم الإيمان في المرة الأولى يعني كما لم يؤمنوا به أول مرة فكذلك نقلب أفئدتهم وأبصارهم في المرة الثانية وعلى هذا الوجه فليس في الآية محذوف ولا حاجة فيها إلى الإضمار
وأما قوله تعالى وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ فالجبائي قال وَنَذَرُهُمْ أي لا نحول بينهم وبين اختيارهم ولا نمنعهم من ذلك بمعاجلة الهلاك وغيره لكنا نمهلهم فإن أقاموا على طغيانهم فذلك من قبلهم وهو يوجب تأكيد الحجة عليهم وقال أصحابنا معناه إنا نقلب أفئدتهم من الحق إلى الباطل ونتركهم في ذلك الطغيان وفي ذلك الضلال والعمه
ولقائل أن يقول للجبائي إنك تقول إن إله العالم ما أراد بعبيده إلا الخير والرحمة فلم ترك هذا المسكين حتى عمه في طغيانه ولم لا يخلصه عنه على سبيل الإلجاء والقهر أقصى ما في الباب أنه إن فعل به ذلك لم يكن مستحقاً للثواب فيفوته الاستحقاق فقط ولكن يسلم من العقاب أما إذا تركه في ذلك العمه مع علمه بأنه يموت عليه فإنه لا يحصل استحقاق الثواب ويحصل له العقاب العظيم الدائم فالمفسدة الحاصلة عند خلق الإيمان فيه على سبيل الإلجاء مفسدة واحدة وهي فوت استحقاق الثواب أما المفسدة الحاصلة عند إبقائه على ذلك العمه والطغيان حتى يموت عليه فهي فوت استحقاق الثواب مع استحقاق العقاب الشديد والرحيم المحسن الناظر لعباده لا بد وأن يرجح الجانب الذي هو أكثر صلاحاً وأقل فساداً فعلمنا أن إبقاء ذلك الكافر في ذلك العمه والطغيان يقدح في أنه لا يريد به إلا الخير والإحسان
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَة َ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَى ْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ
اعلم أنه تعالى بين في هذه الآية تفصيل ما ذكره على سبيل الإجمال بقوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ فبين أنه تعالى لو أعطاهم ما طلبوه من إنزال الملائكة وإحياء الموتى حتى كلموهم بل لو زاد في

ذلك ما لا يبلغه اقتراحهم بأن يحشر عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس المستهزئون بالقرآن كانوا خمسة الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحرث بن حنظلة ثم إنهم أتوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في رهط من أهل مكة وقالوا له أرنا الملائكة يشهدوا بأنك رسول الله أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقوله أم باطل أو ائتنا بالله والملائكة قبيلاً أي كفيلاً على ما تدعيه فنزلت هذه الآية وقد ذكرنا مراراً أنهم لما اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة كان القول بأن هذه الآية نزلت في الواقعة الفلانية مشكلاً صعباً فأما على الوجه الذي قررناه وهو أن المقصود منه جواب ما ذكره بعضهم وهو أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لو جاءتهم آية لآمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام فذكر الله تعالى هذا الكلام بياناً لكذبهم وأنه لا فائدة في إنزال الآيات بعد الآيات وإظهار المعجزات بعد المعجزات بل المعجزة الواحدة لا بد منها ليتميز الصادق عن الكاذب فأما الزيادة عليها فتحكم محض ولا حاجة إليه وإلا فلهم أن يطلبوا بعد ظهور المعجزة الثانية ثالثة وبعد الثالثة رابعة ويلزم أن لا تستقر الحجة وأن لا ينتهي الأمر إلى مقطع ومفصل وذلك يوجب سد باب النبوات
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر قُبُلاً ههنا وفي الكهف بكسر القاف وفتح الباء وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالضم فيهما في السورتين وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ههنا وفي الكهف بالكسر قال الواحدي قال أبو زيد يقال لقيت فلاناً قبلاً ومقابلة وقبلاً وقبلاً وقبيلاً كله واحد وهو المواجهة قال الواحدي فعلى قول أبي زيد المعنى في القراءتين واحد وإن اختلف اللفظان ومن الناس من أثبت بين اللفظين تفاوتاً في المعنى فقال أما من قرأ قُبُلاً بكسر القاف وفتح الباء فقال أبو عبيدة والفراء والزجاج معناه عيانا يقال لقيته قبلاً أي معاينة وروي عن أبي ذر قال قلت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أكان آدم نبياً قال ( نعم كان نبياً كلمه الله تعالى قبلاً ) وأما من قرأ قُبُلاً فله ثلاثة أوجه أحدها أن يكون جمع قبيل الذي يراد به الكفيل يقال قبلت بالرجل أقبل قبالة أي كلفت به ويكون المعنى لو حشر عليهم كل شيء وكفلوا بصحة ما يقول لما آمنوا وموضع الإعجاز فيه أن الأشياء المحشورة منها ما ينطق ومنها ما لا ينطق فإذا أنطق الله الكل وأطبقوا على قبول هذه الكفالة كان ذلك من أعظم المعجزات وثانيها أن يكون قُبُلاً جمع قبيل بمعنى الصنف والمعنى وحشرنا عليهم كل شيء قبيلاً قبيلاً وموضع الإعجاز فيه هو حشرها بعد موتها ثم إنها على اختلاف طبائعها تكون مجتمعة في موقف واحد وثالثها أن يكون قُبُلاً بمعنى قبلا أي مواجهة ومعاينة كما فسره أبو زيد
أما قوله تعالى مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى المراد من الآية أنه تعالى لو أظهر جميع تلك الأشياء العجيبة الغريبة لهؤلاء الكفار فإنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله إيمانهم قال أصحابنا فلما لم يؤمنوا دل ذلك الدليل على أنه تعالى ما شاء منهم الإيمان وهذا نص في المسألة قالت المعتزلة دل الدليل على أنه تعالى أراد الإيمان من جميع الكفار والجبائي ذكر الوجوه المشهورة التي لهم في هذه المسألة أولها أنه تعالى لو لم يرد منهم الإيمان لما وجب عليهم الإيمان كما لو لم يأمرهم لم يجب عليهم وثانيها لو أراد الكفر من الكافر لكان الكافر

مطيعاً لله بفعل الكفر لأنه لا معنى للطاعة إلا بفعل المراد وثالثها لو جاز من الله أن يريد الكفر لجاز أن يأمر به ورابعها لو جاز أن يريد منهم الكفر لجاز أنه يأمرنا بأن نريد منهم الكفر قالوا فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما شاء إلا الإيمان منهم وظاهره هذه الآية يقتضي أنه تعالى ما شاء الإيمان منهم والتناقض بين الدلائل ممتنع فوجب التوفيق وطريقه أن نقول إنه تعالى شاء من الكل الإيمان الذي يفعلونه على سبيل الاختيار وأنه تعالى ما شاء منهم الإيمان الحاصل على سبيل الإلجاء والقهر وبهذا الطريق زال الإشكال
واعلم أن هذا الكلام أيضاً ضعيف من وجوه الأول أن الإيمان الذي سموه بالإيمان الاختياري إن عنوا به أن قدرته صالحة للإيمان والكفر على السوية ثم إنه يصدر عنها الإيمان دون الكفر لا لداعية مرجحة ولا لإرادة مميزة فهذا قول برجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال وأيضاً فبتقدير أن يكون ذلك معقولاً في الجملة إلا أن حصول ذلك الإيمان لا يكون منه بل يكون حادثاً لا لسبب ولا مؤثر أصلاً لأن الحاصل هناك ليس إلا القدرة وهي بالنسبة إلى الضدين على السوية ولم يصدر من هذا القدر تخصيص لأحد الطرفين على الآخر بالوقوع والرجحان ثم إن أحد الطرفين قد حصل بنفسه فهذا لا يكون صادراً منه بل يكون صادراً لا عن سبب البتة وذلك يبطل القول بالفعل والفاعل والتأثير والمؤثر أصلاً ولا يقوله عاقل وإما أن يكون هذا الذي سموه بالإيمان الاختياري هو أن قدرته وإن كانت صالحة للضدين إلا أنها لا تصير مصدراً للإيمان إلا إذا انضم إلى تلك القدرة حصول داعية الإيمان كان هذا قولاً بأن مصدر الإيمان هو مجموع القدرة مع الداعي وذلك المجموع موجب للإيمان فذلك هو عين ما يسمونه بالجبر وأنتم تنكرونه فثبت أن هذا الذي سموه بالإيمان الاختياري لم يحصل منه معنى معقول مفهوم وقد عرفت أن هذا الكلام في غاية القوة
والوجه الثاني سلمنا أن الإيمان الاختياري مميز عن الإيمان الحاصل بتكوين الله تعالى إلا أنا نقول قوله تعالى وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة َ وكذا وكذا ما كانوا ليؤمنوا معناه ما كانوا ليؤمنوا إيماناً اختيارياً بدليل أن عند ظهور هذه الأشياء لا يبعد أن يؤمنوا إيماناً على سبيل الإلجاء والقهر فثبت أن قوله مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ المراد ما كانوا ليؤمنوا على سبيل الاختيار ثم استثنى عنه فقال إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ والمستثنى يجب أن يكون من جنس المستثنى عنه والإيمان الحاصل بالإلجاء والقهر ليس من جنس الإيمان الاختياري فثبت أنه لا يجوز أن يقال المراد بقولنا إلا أن يشاء الله الإيمان الاضطراري بل يجب أن يكون المراد منه الإيمان الاختياري وحينئذ يتوجه دليل أصحابنا ويسقط عنه سؤال المعتزلة بالكلية
المسألة الثانية قال الجبائي قوله تعالى إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ يدل على حدوث مشيئة الله تعالى لأنها لو كانت قديمة لم يجز أن يقال ذلك كما لا يقال لا يذهب زيد إلى البصرة إلا أن يوحد الله تعالى وتقريره أنا إذا قلنا لا يكون كذلك إلا أن يشاء الله فهذا يقتضي تعليق حدوث هذا الجزاء على حصول المشيئة فلو كانت المشيئة قديمة لكان الشرط قديماً ويلزم من حصول الشرط حصول المشروط فيلزم كون الجزاء قديماً والحس دل على أنه محدث فوجب كون الشرط حادثاً وإذا كان الشرط هو المشيئة لزم القول بكون المشيئة حادثة هذا تقرير هذا الكلام
والجواب أن المشيئة وإن كانت قديمة إلا أن تعلقها بإحداث ذلك المحدث في الحال إضافة حادثة

وهذا القدر يكفي لصحة هذ الكلام ثم أنه تعالى ختم هذه الآية بقوله وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ قال أصحابنا المراد يجهلون بأن الكل من الله وبقضائه وقدره وقال المعتزلة المراد أنهم جهلوا أنهم يبقون كفاراً عند ظهور الآيات التي طلبوها والمعجزات التي اقترحوها وكان أكثرهم يظنون ذلك
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِى ٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَكَذالِكَ منسوق على شيء وفي تعيين ذلك الشيء قولان الأول أنه منسوق على قوله وَكَذالِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ أي كما فعلنا ذلك كَذالِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً الثاني معناه جعلنا لك عدواً كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء فيكون قوله كَذالِكَ عطفاً على معنى ما تقدم من الكلام لأن ما تقدم يدل على أنه تعالى جعل له أعداء
المسألة الثانية ظاهر قوله تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً أنه تعالى هو الذي جعل أولئك الأعداء أعداء للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا شك أن تلك العداوة معصية وكفر فهذا يقتضي أن خالق الخير والشر والطاعة والمعصية والإيمان والكفر هو الله تعالى أجاب الجبائي عنه بأن المراد بهذا الجعل الحكم والبيان فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل أنه كفره وإذا أخبر عن عدالته قيل أنه عدله فكذا ههنا أنه تعالى لما بين للرسول عليه الصلاة والسلام كونهم أعداء له لا جرم قال إنه جعلهم أعداء له وأجاب أبو بكر الأصم عنه بأنه تعالى لما أرسل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) إلى العالمين وخصه بتلك المعجزة حسدوه وصار ذلك الحسد سبباً للعداوة القوية فلهذا التأويل قال إنه تعالى جعلهم أعداء له ونظيره قول المتنبي فأنت الذي صيرتهم لي حسداً
وأجاب الكعبي عنه بأنه تعالى أمر الأنبياء بعدواتهم وأعلمهم كونهم أعداء لهم وذلك يقتضي صيرورتهم أعداء للأنبياء لأن العداوة لا تحصل إلا من الجانبين فلهذا الوجه جاز أن يقال إنه تعالى جهلهم أعداء للأنبياء عليهم السلام واعلم أن هذه الأجوبة ضعيفة جداً لما بينا أن الأفعال مستندة إلى الدواعي وهي حادثة من قبل الله تعالى ومتى كان الأمر كذلك فقد صح مذهبنا ثم ههنا بحث آخر وهو أن العداوة والصداقة يمتنع أن تحصل باختيار الإنسان فإن الرجل قد يبلغ

في عداوة غيره إلى حيث لا يقدر البتة على إزالة تلك الحالة عن قلبه بل قد لا يقدر على إخفاء آثار تلك العداوة ولو أتى بكل تكلف وحيلة لعجز عنه ولو كان حصول العداوة والصداقة في القلب باختيار الإنسان لوجب أن يكون الإنسان متمكناً من قلب العداوة بالصداقة وبالضد وكيف لا نقول ذلك والشعراء عرفوا أن ذلك خارج عن الوسع قال المتنبي يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقل
والعاشق الذي يشتد عشقه قد يحتال بجميع الحيل في إزالة عشقه ولا يقدر عليه ولو كان حصول ذلك الحب والبغض باختياره لما عجز عن إزالته
المسألة الثالثة النصب في قوله شَيَاطِينَ فيه وجهان الأول أنه منصوب على البدل من قوله عَدُوّا والثاني أن يكون قوله عَدُوّا منصوباً على أنه مفعول ثان والتقدير وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء الأنبياء
المسألة الرابعة اختلفوا في معنى شياطين الإنس والجن على قولين الأول أن المعنى مردة الإنس والجن والشيطان كل عات متمرد من الإنس والجن وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء ومجاهد والحسن وقتادة وهؤلاء قالوا إن من الجن شياطين ومن الإنس شياطين وإن الشيطان من الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه والدليل عليه ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال لأبي ذر ( هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والإنس ) قال قلت وهل للإنس من شياطين قال ( نعم هم شر من شياطين الجن )
والقول الثاني أن الجميع من ولد إبليس إلا أنه جعل ولده قسمين فأرسل أحد القسمين إلى وسوسة الإنس والقسم الثاني إلى وسوسة الجن فالفريقان شياطين الإنس والجن ومن الناس من قال القول الأول أولى لأن المقصود من الآية الشكاية من سفاهة الكفار الذين هم الأعداء وهم الشياطين ومنهم من يقول القول الثاني أولى لأن لفظ الآية يقتضي إضافة الشياطين إلى الإنس والجن والإضافة تقتضي المغايرة وعلى هذا التقدير فالشياطين نوع مغاير للجن وهم أولاد إبليس
المسألة الخامسة قال الزجاج وابن الأنباري قوله عَدُوّا بمعنى أعداء وأنشد ابن الأنباري إذا أنا لم أنفع صديقي بوده
فإن عدوي لن يضرهمو بغضي
أراد أعدائي فأدى الواحد عن الجمع وله نظائر في القرآن ومنها قوله ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( الذاريات 24 ) جعل المكرمين وهو جمع نعتاً للضيف وهو واحد وثانيها قوله وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ ( ق 10 ) وثالثها قوله أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْراتِ النّسَاء ( النور 31 ) ورابعها قوله إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( العصر 2 ) وخامسها قوله كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ ( آل عمران 93 ) أكد المفرد بما يؤكد الجمع به ولقائل أن يقول لا حاجة إلى هذا التكلف فإن التقدير وكذلك جعلنا لكل واحد من الأنبياء عدواً واحداً إذ لا يجب لكل واحد من الأنبياء أكثر من عدو واحد

أما قوله تعالى يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فالمراد أن أولئك الشياطين يوسوس بعضهم بعضاً
واعلم أنه لا يجب أن تكون كل معصية تصدر عن إنسان فإنها تكون بسبب وسوسة شيطان وإلا لزم دخول التسلسل أو الدور في هؤلاء الشياطين فوجب الاعتراف بانتهاء هذه القبائح والمعاصي إلى قبيح أول ومعصية سابقة حصلت لا بوسوسة شيطان آخر
إذا ثبت هذا الأصل فنقول إن أولئك الشياطين كما أنهم يلقون الوساوس إلى الإنس والجن فقد يوسوس بعضهم بعضاً وللناس فيه مذاهب منهم من قال الأرواح إما فلكية وإما أرضية والأرواح الأرضية منها طيبة طاهرة خيرة آمرة بالطاعة والأفعال الحسنة وهم الملائكة الأرضية ومنها خبيثة قذرة شريرة آمرة بالقبائح والمعاصي وهم الشياطين ثم إن تلك الأرواح الطيبة كما أنها تأمر الناس بالطاعات والخيرات فكذلك قد يأمر بعضهم بعضاً بالطاعات والأرواح الخبيثة كما أنها تأمر الناس بالقبائح والمنكرات فكذلك قد يأمر بعضهم بعضاً بتلك القبائح والزيادة فيها وما لم يحصل نوع من أنواع المناسبة بين النفوس البشرية وبين تلك الأرواح لم يحصل ذلك الانضمام فالنفوس البشرية إذا كانت طاهرة نقية عن الصفات الذميمة كانت من جنس الأرواح الطاهرة فتنضم إليها وإذا كانت خبيثة موصوفة بالصفات الذميمة كانت من جنس الأرواح الخبيثة فتنضم إليها ثم إن صفات الطهارة كثيرة وصفات الخبث والنقصان كثيرة وبحسب كل نوع منها طوائف من البشر وطوائف من الأرواح الأرضية بحسب تلك المجانسة والمشابهة والمشاكلة ينضم الجنس إلى جنسه فإن كان ذلك في أفعال الخير كان الحامل عليها ملكاً وكان تقوية ذلك الخاطر إلهاماً وإن كان في باب الشر كان الحامل عليها شيطاناً وكان تقوية ذلك الخاطر وسوسة
إذا عرفت هذا الأصل فنقول إنه تعالى عبر عن هذه الحالة المذكورة بقوله يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فيجب علينا تفسير ألفاظ ثلاثة الأول الوحي وهو عبارة عن الإيماء والقول السريع والثاني الزخرف وهو الذي يكون باطنه باطلاً وظاهره مزيناً ظاهراً يقال فلان يزخرف كلامه إذا زينه بالباطل والكذب وكل شيء حسن مموه فهو مزخرف
واعلم أن تحقيق الكلام فيه إن الإنسان ما لم يعتقد في أمر من الأمور كونه مشتملاً على خير راجح ونفع زائد فإنه لا يرغب فيه ولذلك سمي الفاعل المختار مختاراً لكونه طالباً للخير والنفع ثم إن كان هذا الاعتقاد مطابقاً للمعتقد فهو الحق والصدق والإلهام وإن كان صادراً من الملك وإن لم يكن معتقداً مطابقاً للمعتقد فحينئذ يكون ظاهره مزيناً لأنه في اعتقاده سبب للنفع الزائد والصلاح الراجح ويكون باطنه فاسداً باطلاً لأن هذا الاعتقاد غير مطابق للمعتقد فكان مزخرفاً فهذا تحقيق هذا الكلام والثالث قوله غُرُوراً قال الواحدي غُرُوراً منصوب على المصدر وهذا المصدر محمول على المعنى لأن معنى إيحاء الزخرف من القول معنى الغرور فكأنه قال يغرون غروراً وتحقيق القول فيه أن المغرور هو الذي يعتقد في الشيء كونه مطابقاً للمنفعة والمصلحة مع أنه في نفسه ليس كذلك فالغرور إما أن يكون عبارة عن عين هذا الجهل أو عن حالة متولدة عن هذا الجهل فظهر بما ذكرنا أن تأثير هذه الأرواح الخبيثة بعضها في

بعض لا يمكن أن يعبر عنه بعبارة أكمل ولا أقوى دلالة على تمام المقصود من قوله يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً
ثم قال تعالى وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ وأصحابنا يحتجون به على أن الكفر والإيمان بإرادة الله تعالى والمعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء وقد سبق تقرير هذه المسألة على الاستقصاء فلا فائدة في الإعادة
ثم قال تعالى فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ قال ابن عباس معناه يريد ما زين لهم إبليس وغرهم به قال القاضي هذا القول يتضمن التحذير الشديد من الكفر والترغيب الكامل في الإيمان ويقتضي زوال الغم عن قلب الرسول من حيث يتصور ما أعد الله للقوم على كفرهم من أنواع العذاب وما أعد له من منازل الثواب بسبب صبره على سفاهتهم ولطفه بهم
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الصغو في اللغة معناه الميل يقال في المستمع إذا مال بحاسته إلى ناحية الصوت أنه يصغي ويقال أصغى الإناء إذا أماله حتى انصب بعضه في البعض ويقال للقمر إذا مال إلى الغروب صغا وأصغى فقوله وَلِتَصْغَى أي ولتميل
المسألة الثانية ( اللام ) وَلِتَصْغَى لا بد له من متعلق فقال أصحابنا التقدير وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من شياطين الجن والإنس ومن صفته أنه يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً وإنما فعلنا ذلك لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون أي وإنما أوجدنا العداوة في قلب الشياطين الذين من صفتهم ما ذكرناه ليكون كلامهم المزخرف مقبولاً عند هؤلاء الكفار قالوا وإذا حملنا الآية على هذا الوجه يظهر أنه تعالى يريد الكفر من الكافر أما المعتزلة فقد أجابوا عنه من ثلاثة أوجه
الوجه الأول وهو الذي ذكره الجبائي قال إن هذا الكلام خرج مخرج الأمر ومعناه الزجر كقوله تعالى وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ وكذلك قوله وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ ( الأنعام 113 ) وتقدير الكلام كأنه قال للرسول فذرهم وما يفترون ثم قال لهم على سبيل التهديد ولتصغى إليه أفئدتهم وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون
والوجه الثاني وهو الذي اختاره الكعبي أن هذه اللام لام العاقبة أي ستؤل عاقبة أمرهم إلى هذه الأحوال قال القاضي ويبعد أن يقال هذه العاقبة تحصل في الآخرة لأن الإلجاء حاصل في الآخرة فلا يجوز أن تميل قلوب الكفار إلى قبول المذهب الباطل ولا أن يرضوه ولا أن يقترفوا الذنب بل يجب أن تحمل على أن عاقبة أمرهم تؤل إلى أن يقبلوا الأباطيل ويرضوا بها ويعملوا بها

والوجه الثالث وهو الذي اختاره أبو مسلم قال ( اللام ) في قوله وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ متعلق بقوله يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً والتقدير أن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول ليغروا بذلك وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ الذنوب ويكون المراد أن مقصود الشياطين من ذلك الإيحاء هو مجموع هذه المعاني فهذا جملة ما ذكروه في هذا الباب
أما الوجه الأول وهو الذي عول عليه الحبائي فضعيف من وجوه ذكرها القاضي فأحدها أن ( الواو ) في قوله وَلِتَصْغَى تقتضي تعلقه بما قبله فحمله على الابتداء بعيد وثانيها أن ( اللام ) في قوله وَلِتَصْغَى لام كي فيبعد أن يقال إنها لام الأمر ويقرب ذلك من أن يكون تحريفاً لكلام الله تعالى وأن لا يجوز
وأما الوجه الثاني وهو أن يقال هذه اللام لام العاقبة فهو ضعيف لأنهم أجمعوا على أن هذا مجاز وحمله على ( كي ) حقيقة فكان قولنا أولى
وأما الوجه الثالث وهو الذي ذكره أبو مسلم فهو أحسن الوجوه المذكورة في هذا الباب لأنا نقول إن قوله يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً يقتضي أن يكون الغرض من ذلك الإيحاء هو التغرير وإذا عطفنا عليه قوله وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فهذا أيضاً عين التغرير لا معنى التغرير إلا أنه يستميله إلى ما يكون باطنه قبيحاً وظاهره حسناً وقوله وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ عين هذه الاستمالة فلو عطفنا لزم أن يكون المعطوف عين المعطوف عليه وأنه لا يجوز أما إذا قلنا تقدير الكلام وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من شأنه أن يوحي زخرف القول لأجل التغرير وإنما جعلنا مثل هذا الشخص عدواً للنبي لتصغى إليه أفئدة الكفار فيبعدوا بذلك السبب عن قبول دعوة ذلك النبي وحينئذ لا يلزم على هذا التقدير عطف الشيء على نفسه فثبت أن ما ذكرناه أولى
المسألة الثالثة زعم أصحابنا أن البنية ليست مشروطاً للحياة فالحي هو الجزء الذي قامت به الحياة والعالم هو الجزء الذي قام به العلم وقالت المعتزلة الحي والعالم هو الجملة ( لا ) ذلك الجزء
إذا عرفت هذا فنقول احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم لأنه قال تعالى وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فجعل الموصوف بالميل والرغبة هو القلب لا جملة الحي وذلك يدل على قولنا
المسألة الرابعة الذين قالوا الإنسان شيء مغاير للبدن اختلفوا منهم من قال المتعلق الأول هو القلب وبواسطته تتعلق النفس بسائر الأعضاء كالدماغ والكبد ومنهم من قال القلب متعلق النفس الحيوانية والدماغ متعلق النفس الناطقة والكبد متعلق النفس الطبيعية والأولون تعلقوا بهذه الآية فإنه تعالى جعل محل الصغو الذي هو عبارة عن الميل والإرادة القلب وذلك يدل على أن المتعلق بالنفس القلب
المسألة الخامسة الكناية في قوله وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ عائدة إلى زخرف القول وكذلك في قوله وَلِيَرْضَوْهُ
وأما قوله وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ فاعلم أن الاقتراف هو الاكتساب يقال في المثل الاعتراف

يزيل الاقتراف كما يقال التوبة تمحو الحوبة وقال الزجاج ليقترفوا أي ليختلفوا وليكذبوا والأول أصح
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها أجاب عنه بأنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرين على كفرهم ثم إنه تعالى بين في هذه الآية أن الدليل الدال على نبوته قد حصل وكمل فكان ما يطلبونه طلباً للزيادة وذلك مما لا يجب الالتفات إليه وإنما قلنا إن الدليل الدال على نبوته قد حصل لوجهين
الوجه الأول أن الله قد حكم بنبوته من حيث إنه أنزل إليه الكتاب المفصل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته فظهور مثل هذا المعجز عليه يدل عى أنه تعالى قد حكم بنبوته فقوله مُّقْتَرِفُونَ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً يعني قل يا محمد إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله حكماً فإن كل أحد يقول إن ذلك غير جائز ثم قل إنه تعالى حكم بصحة نبوتي حيث خصني بمثل هذا الكتاب المفصل الكامل البالغ إلى حد الإعجاز
والوجه الثاني من الأمور الدالة على نبوته اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على أن محمداً عليه الصلاة والسلام رسول حق وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى وهو المراد من قوله وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بِالْحَقّ ( الأنعام 114 ) وبالجملة فالوجهان مذكوران في قوله تعالى قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( الرعد 43 )
أما قوله تعالى في آخر الآية فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ففيه وجوه الأول أن هذا من باب التهييج والإلهاب كقوله وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ والثاني التقدير فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق والثالث يجوز أن يكون قوله فَلاَ تَكُونَنَّ خطاباً لكل واحد والمعنى أنه لما ظهرت الدلائل فلا ينبغي أن يمتري فيها أحد الرابع قيل هذا الخطاب وإن كان في الظاهر للرسول إلا أن المراد منه أمته
المسألة الثانية قوله وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بِالْحَقّ قرأ ابن عامر وحفص مُنَزَّلٌ بالتشديد والباقون بالتخفيف والفرق بين التنزيل والإنزال قد ذكرناه مراراً

المسألة الثالثة قال الواحدي أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً الحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة غير أن بعض أهل التأويل قال الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم كل من يحكم وأما الحكم فهو الذي لا يحكم إلا بالحق والمعنى أنه تعالى حكم حق لا يحكم إلا بالحق فلما أظهر المعجز الواحد وهو القرآن فقد حكم بصحة هذه النبوة ولا مرتبة فوق حكمه فوجب القطع بصحة هذه النبوة فأما أنه هل يظهر سائر المعجزات أم لا فلا تأثير له في هذا الباب بعد أن ثبت أنه تعالى حكم بصحة هذه النبوة بواسطة إظهار المعجز الواحد
وَتَمَّتْ كَلِمَة ُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ بغير ألف على الواحد والباقون كَلِمَاتُ على الجمع قال أهل المعاني الكلمة والكمات معناهما ما جاء من وعد ووعيد وثواب وعقاب فلا تبديل فيه ولا تغيير له كما قال مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ ( ق 29 ) فمن قرأ كَلِمَاتُ بالجمع قال لأن معناها الجمع فوجب أن يجمع في اللفظ ومن قرأ على الوحدة فلأنهم قالوا الكلمة قد يراد بها الكلمات الكثيرة إذا كانت مضبوطة بضابط واحد كقولهم قال زهير في كلمته يعني قصيدته وقال قس في كلمته أي خطبته فكذلك مجموع القرآن كلمة واحدة في كونه حقاً وصدقاً ومعجزاً
المسألة الثانية أن تعلق هذه الآية بما قبلها أنه تعالى بين في الآية السابقة أن القرآن معجز فذكر في هذه الآية أنه تمت كلمة ربك والمراد بالكلمة القرآن أي تم القرآن في كونه معجزاً دالاً على صدق محمد عليه السلام وقوله صِدْقاً وَعَدْلاً أي تمت تماماً صدقاً وعدلاً وقال أبو علي الفارسي صِدْقاً وَعَدْلاً مصدران ينصبان على الحال من الكلمة تقديره صادقة عادلة فهذا وجه تعلق هذه الآية بما قبلها
المسألة الثالثة اعلم أن هذه الآية تدل على أن كلمة ا لله تعالى موصوفة بصفات كثيرة
فالصفة الأولى كونها تامة وإليه الإشارة بقوله وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ وفي تفسير هذا التمام وجوه الأول ما ذكرنا أنها كافية وافية بكونها معجزة دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام والثاني أنها كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى قيام القيامة عملاً وعلماً والثالث أن حكم الله تعالى هو الذي حصل في الأزل ولا يحدث بعد ذلك شيء فذلك الذي حصل في الأزل هو التمام والزيادة عليه ممتنعة وهذا الوجه هو المراد من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة )
الصفة الثانية من صفات كلمة الله كونها صدقاً والدليل عليه أن الكذب نقص والنقص على الله محال ولا يجوز إثبات أن الكذب على الله محال بالدلائل السمعية لأن صحة الدلائل السمعية موقوفة على أن الكذب على الله محال فلو أثبتنا امتناع الكذب على الله بالدلائل السمعية لزم الدور وهو باطل واعلم

أن هذا الكلام كما يدل على أن الخلف في وعد الله تعالى محال فهو أيضاً يدل على أن الخلف في وعيده محال بخلاف ما قاله الواحدي في تفسير قوله تعالى وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا إن الخلق في وعيد الله جائز وذلك لأن وعد الله ووعيده كلمة الله فلما دلت هذه الآية على أن كلمة الله يجب كونها موصوفة بالصدق على أن الخلف كما أنه ممتنع في الوعد فكذلك ممتنع في الوعيد
الصفة الثالثة من صفات كلمات الله كونها عدلاً وفيه وجهان الأول أن كل ما حصل في القرآن نوعان الخبر والتكليف أما الخبر فالمراد كل ما أخبر الله عن وجوده أو عن عدمه ويدخل فيه الخبر عن وجود ذات الله تعالى وعن حصول صفاته أعني كونه تعالى عالماً قادراً سميعاً بصيراً ويدخل فيه الأخبار عن صفات التقديس والتنزيه كقوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ( الإخلاص 3 ) وكقوله لاَ تَأْخُذْ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ( البقرة 255 ) ويدخل فيه الخبر عن أقسام أفعال الله وكيفية تدبيره لملكوت السموات والأرض وعالمي الأرواح والأجسام ويدخل فيه كل أمر عن أحكام الله تعالى في الوعد والوعيد والثواب والعقاب ويدخل فيه الخبر عن أحوال المتقدمين والخبر عن الغيوب المستقبلة فكل هذه الأقسام داخلة تحت الخبر وأما التكليف فيدخل فيه كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبده سواء كان ذلك العبد ملكاً أو بشر أو جنياً أو شيطاناً وسواء كان ذلك في شرعنا أو في شرائع الأنبياء عليهم السلام المتقدمين أو في شرائع الملائكة المقربين الذين هم سكان السموات والجنة والنار والعرش وما وراءه مما لا يعلم أحوالهم إلا الله تعالى
وإذا عرفت انحصار مباحث القرآن في هذين القسمين فنقول قال تعالى وَتَمَّتْ كَلِمَة ُ رَبّكَ صِدْقاً إن كان من باب الخبر وَعَدْلاً إن كان من باب التكاليف وهذا ضبط في غاية الحسن
والقول الثاني في تفسير قوله وَعَدْلاً أن كل ما أخبر الله تعالى عنه من وعد ووعيد وثواب وعقاب فهو صدق لأنه لا بد وأن يكون واقعاً وهو بعد وقوعه عدل لأن أفعاله منزهة عن أن تكون موصوفة بصفة الظلمية
الصفة الرابعة من صفات كلمة الله قوله لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ وفيه وجوه الأول أنا بينا أن المراد من قوله وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ أنها تامة في كونها معجزة دالة على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم )
ثم قال لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ والمعنى أن هؤلاء الكفار يلقون الشبهات في كونها دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام إلا أن تلك الشبهات لا تأثير لها في هذه الدلائل التي لا تقبل التبديل البتة لأن تلك الدلالة ظاهرة باقية جلية قوية لا تزول بسبب ترهات الكفار وشبهات أولئك الجهال
والوجه الثاني أن يكون المراد أنها تبقى مصونة عن التحريف والتغيير كما قال تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 )
والوجه الثالث أن يكون المراد أنها مصونة عن التناقض كما قال وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 )
والوجه الرابع أن يكون المراد أن أحكام الله تعالى لا تقبل التبديل والزوال لأنها أزلية والأزلي لا يزول
واعلم أن هذا الوجه أحد الأصول القوية في إثبات الجبر لأنه تعالى لما حكم على زيد بالسعادة وعلى

عمرو بالشقاوة ثم قال لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ اللَّهِ يلزم امتناع أن ينقلب السعيد شقياً وأن ينقلب الشقي سعيداً فالسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه
وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات الكفار ثم بين بالدليل صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بين أن بعد زوال الشبهة وظهور الحجة لا ينبغي أن يلتفت العاقل إلى كلمات الجهال ولا ينبغي أن يتشوش بسبب كلماتهم الفاسدة فقال وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الاْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وهذا يدل على أن أكثر أهل الأرض كانوا ضلالاً لأن الإضلال لا بد وأن يكون مسبوقاً بالضلال واعلم أن حصول هذا الضلال والإضلال لا يخرج عن أحد أمور ثلاثة أولها المباحث المتعلقة بالإلهيات فإن الحق فيها واحد وأما الباطل ففيه كثرة ومنها القول بالشرك أما كما تقوله الزنادقة وهو الذى أخبر الله عنه في قوله وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وإما كما يقوله عبدة الكواكب وإما كما يقوله عبدة الأصنام وثانيها المباحث المتعلقة بالنبوات إما كما يقوله من ينكر النبوة مطلقاً أو كما يقوله من ينكر النشر أو كما يقوله من ينكر نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويدخل في هذا الباب المباحث المتعلقة بالمعاد وثالثها المباحث المتعلقة بالأحكام وهي كثيرة فإن الكفار كانوا يحرمون البحائر والسوائب والوصائل ويحللون الميتة فقال تعالى وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الاْرْضِ فيما يعتقدونه من الحكم على الباطل بأنه حق وعلى الحق بأنه باطل يضلوك عن سبيل الله أي عن الطريق والمنهج الصدق
ثم قال إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك في دينك ومذهبك غير قاطعين بصحة مذاهبهم بل لا يتبعون إلا الظن وهم خراصون كذابون في ادعاء القطع وكثير من المفسرين يقولون المراد من ذلك الظن رجوعهم في إثبات مذاهبهم إلى تقليد أسلافهم لا إلى تعليل أصلاً
المسألة الثانية تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا رأينا أن الله تعالى بالغ في ذم الكفار في كثير من آيات القرآن بسبب كونهم متبعين للظن والشيء الذي يجعله الله تعالى موجباً لذم الكفار لا بد وأن يكون في أقصى مراتب الذم والعمل بالقياس يوجب اتباع الظن فوجب كونه مذموماً محرماً لا يقال لما ورد الدليل القاطع بكونه حجة كان العمل به عملاً بدليل مقطوع لا بدليل مظنون لأنا نقول هذا مدفوع من وجوه الأول أن ذلك الدليل القاطع إما أن يكون عقلياً وإما أن يكون سمعياً والأول باطل لأن العقل لا مجال له

في أن العمل بالقياس جائز أو غير جائز لا سيما عند من ينكر تحسين العقل وتقبيحه والثاني أيضاً باطل لأن الدليل السمعي إنما يكون قاطعاً لو كان متواتراً وكانت ألفاظه غير محتملة لوجه آخر سوى هذا المعنى الواحد ولو حصل مثل هذا الدليل لعلم الناس بالضرورة كون القياس حجة ولارتفع الخلاف فيه بين الأمة فحيث لم يوجد ذلك علمنا أن الدليل القاطع على صحة القياس مفقود الثاني هب أنه وجد الدليل القاطع على أن القياس حجة إلا أن مع ذلك لا يتم العمل بالقياس إلا مع اتباع الظن وبيانه أن التمسك بالقياس مبني على مقامين الأول أن الحكم في محل الوفاق معلل بكذا والثاني أن ذلك المعنى حاصل في محل الخلاف فهذان المقامان إن كانا معلومين على سبيل القطع واليقين فهذا ما لا خلاف فيه بين العقلاء في صحته وإن كان مجموعهما أو كان أحدهما ظنياً فحينئذ لا يتم العمل بهذا القياس إلا بمتابعة الظن وحينئذ يندرج تحت النص الدال على أن متابعة الظنم مذمومة
والجواب لم لا يجوز أن يقال الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة وهو مثل اعتقاد الكفار أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستنداً إلى أمارة فهذا الاعتقاد لا يسمى ظناً وبهذا الطريق سقط هذا الاستدلال
ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسيره قولان الأول أن يكون المراد أنك بعد ما عرفت أن الحق ما هو وأن الباطل ما هو فلا تكن في قيدهم بل فوض أمرهم إلى خالقهم لأنه تعالى عالم بأن المهتدي من هو والضال من هو فيجازي كل واحد بما يليق بعمله والثاني أن يكون المراد أن هؤلاء الكفار وإن أظهروا من أنفسهم ادعاء الجزم واليقين فهم كاذبون والله تعالى عالم بأحوال قلوبهم وبواطنهم ومطلع على كونهم متحيرين في سبيل الضلال تائهين في أودية الجهل
المسألة الثانية قوله إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ فيه قولان الأول قال بعضهم أَعْلَمُ ههنا بمعنى يعلم والتقدير إن ربك يعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين
فإن قيل فهذا يوجب وقوع التفاوت في علم الله تعالى وهو محال
قلنا لا شك أن حصول التفاوت في علم الله تعالى محال إلا أن المقصود من هذا اللفظ أن العناية بإظهار هداية المهتدين فوق العناية بإظهار ضلال الضالين ونظيره قوله تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فذكر الإحسان مرتين والإسارة مرة واحدة والثاني أن موضع مِنْ رفع بالابتداء ولفظها لفظ الاستفهام والمعنى إن ربك هو أعلم أي الناس يضل عن سبيله قَالَ وهذا مثل قوله تعالى لنعلم أي الحزبين أحصى وهذا قول المبرد والزجاج والكسائي والفراء
فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ
في الآية مباحث نذكرها في معرض السؤال والجواب

السؤال الأول ( الفاء ) في قوله فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يقتضي تعلقاً بما تقدم فما ذلك الشيء
والجواب قوله فَكُلُواْ مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحللون الحرام ويحرمون الحلال وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوه مما قتلتموه أنتم فقال الله للمسلمين إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وهو المذكى ببسم الله
السؤال الثاني القوم كانوا يبيحون أكل ما ذبح على اسم الله ولا ينازعون فيه وإنما النزاع في أنهم أيضاً كانوا يبيحون أكل الميتة والمسلمون كانوا يحرمونها وإذا كان كذلك كان ورود الأمر بإباحة ما ذكر اسم الله عليه عبثاً لأنه يقتضي إثبات الحكم في المتفق عليه وترك الحكم في المختلف فيه
والجواب فيه وجهان الأول لعل القوم كانوا يحرمون أكل المذكاة ويبيحون أكل الميتة فالله تعالى رد عليهم في الأمرين فحكم بحل المذكاة بقوله فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وبتحريم الميتة بقوله وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الثاني أن نحمل قوله فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ على أن المراد اجعلوا أكلكم مقصوراً على ما ذكر اسم الله عليه فيكون المعنى على هذا الوجه تحريم أكل الميتة فقط
السؤال الثالث قوله فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ صيغة الأمر وهي للإباحة وهذه الإباحة حاصلة في حق المؤمن وغير المؤمن وكلمة ءانٍ في قوله إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ تفيد الاشتراط
والجواب التقدير ليكن أكلكم مقصوراً على ما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين والمراد أنه لو حكم بإباحة أكل الميتة لقدح ذلك في كونه مؤمناً
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحفص عن عاصم وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ بالفتح في الحرفين وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بالضم في الحرفين وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم فَصْلٌ بالفتح وَحَرَّمَ بالضم فمن قرأ بالفتح في الحرفين فقد احتج بوجهين الأول أنه تمسك في فتح قوله فَصْلٌ بقوله قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ وفي فتح قوله حَرَّمَ بقوله أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ
والوجه الثاني التمسك بقوله مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فيجب أن يكون

الفعل مسنداً إلى الفاعل لتقدم ذكر اسم الله تعالى وأما الذين قرؤا بالضم في الحرفين فحجتهم قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وقوله حُرُمَاتِ تفصيل لما أجمل في هذه الآية فلما وجب في التفصيل أن يقال حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ بفعل ما لم يسم فاعله وجب في الإجمال كذلك وهو قوله مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ولما ثبت وجوب حَرَّمَ بضم الحاء فكذلك يجب فَصْلٌ بضم الفاء لأن هذا المفصل هو ذلك المحرم المجمل بعينه وأيضاً فإنه تعالى قال وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وقوله مُفَصَّلاً يدل على فصل وأما من قرأ فَصْلٌ بالفتح وحرم بالضم فحجته في قوله فَصْلٌ قوله قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ وفي قوله حَرَّمَ قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ
المسألة الثانية قوله وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ أكثر المفسرين قالوا المراد منه قوله تعالى في أول سورة المائدة حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وفيه إشكال وهو أن سورة الأنعام مكية وسورة المائدة مدنية وهي آخر ما أنزل الله بالمدينة وقوله وَقَدْ فَصَّلَ يقتضي أن يكون ذلك المفصل مقدماً على هذا المجمل والمدني متأخر عن المكي والمتأخر يمتنع كونه متقدماً بل الأولى أن يقال المراد قوله بعد هذه الآية قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَيْكَ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يطعمه وهذه الآية وإن كانت مذكورة بعد هذه الآية بقليل إلا أن هذا القدر من التأخير لا يمنع أن يكون هو المراد والله أعلم وقوله إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة
ثم قال وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو لَّيُضِلُّونَ بفتح الياء وكذلك في يونس رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ وفي إبراهيم لِيُضِلُّواْ وفي الحج ثَانِى َ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ وفي لقمان لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ وفي الزمر أَندَاداً لّيُضِلَّ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي جميع ذلك بضم الياء وقرأ نافع وابن عامر ههنا وفي يونس بفتح الياء وفي سائر المواضع بالضم فمن قرأ بالفتح أشار إلى كونه ضالاً ومن قرأ بالضم أشار إلى كونه مضلاً قال وهذا أقوى في الذم لأن كل مضل فإنه يجب كونه ضالاً وقد يكون ضالاً ولا يكون مضلاً فالمضل أكثر استحقاقاً للذم من الضال
المسألة الثانية المراد من قوله لَّيُضِلُّونَ قيل إنه عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أول من غير دين إسمعيل واتخذ البحائر والسوائب وأكل الميتة وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ يريد أن عمرو بن لحي أقدم على هذه المذاهب عن الجهالة الصرفة والضلالة المحضة وقال الزجاج المراد منه الذين يحللون الميتة ويناظرونكم في إحلالها ويحتجون عليها بقولهم لما حل ما تذبحونه أنتم فبأن يحل ما يذبحه الله أولى وكذلك كل ما يضلون فيه من عبادة الأوثان والطعن في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإنما يتبعون فيه الهوى والشهوة ولا بصيرة عندهم ولا علم
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة والآية دلت على أن ذلك حرام
ثم قال تعالى إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ والمراد منه أنه هو العالم بما في قلوبهم وضمائرهم من

التعدي وطلب نصرة الباطل والسعي في إخفاء الحق وإذا كان عالماً بأحوالهم وكان قادراً على مجازاتهم فهو تعالى يجازيهم عليها والمقصود من هذه الكلمة التهديد والتخويف والله أعلم
وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنه فصل المحرمات أتبعه بما يوجب تركها بالكلية بقوله وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ والمراد من الإثم ما يوجب الإثم وذكروا في ظاهر الإثم وباطنه وجهين الأول أن ظَاهِرَ الإِثْمِ الإعلان بالزنا وَبَاطِنَهُ الاستسرار به قال الضحاك كان أهل الجاهلية يرون الزنا حلالاً ما كان سراً فحرم الله تعالى بهذه الآية السر منه والعلانية الثاني أن هذا النهي عام في جميع المحرمات وهو الأصح لأن تخصيص اللفظ العام بصورة معينة من غير دليل غير جائز ثم قيل المراد ما أعلنتم وما أسررتم وقيل ما عملتم وما نويتم وقال ابن الأنباري يريد وذروا الإثم من جميع جهاته كما تقول ما أخذت من هذا المال قليلاً ولا كثيراً تريد ما أخذت منه بوجه من الوجوه وقال آخرون معنى الآية النهي عن الإثم مع بيان أنه لا يخرج من كونه إثماً بسبب إخفائه وكتمانه ويمكن أن يقال المراد من قوله وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ النهي عن الإقدام على الإثم ثم قال وَبَاطِنَهُ ليظهر بذلك أن الداعي له إلى ترك ذلك الإثم خوف الله لا خوف الناس وقال آخرون ظَاهِرَ الإِثْمِ أفعال الجوارح وَبَاطِنَهُ أفعال القلوب من الكبر والحسد والعجب وإرادة السوء للمسلمين ويدخل فيه الاعتقاد والعزم والنظر والظن والتمني واللوم على الخيرات وبهذا يظهر فساد قول من يقول إن ما يوجد في القلب لا يؤاخذ به إذا لم يقترن به عمل فإنه تعالى نهى عن كل هذه الأقسام بهذه الآية
ثم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ومعنى الاقتراف قد تقدم ذكره وظاهر النص يدل على أنه لا بد وأن يعاقب المذنب إلا أن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب لم يعاقب وأصحابنا زادوا شرطاً ثانياً وهو أنه تعالى قد يعفو عن المذنب فيترك عقابه كما قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 )
وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ

اعلم أنه تعالى لما بين أنه يحل أكل ما ذبح على اسم الله ذكر بعده تحريم ما لم يذكر عليه اسم الله ويدخل فيه الميتة ويدخل فيه ما ذبح على ذكر الأصنام والمقصود منه إبطال ما ذكره المشركون وفي الآية مسائل
المسألة الأولى نقل عن عطاء أنه قال كل ما لم يذكر عليه اسم الله من طعام أو شراب فهو حرام تمسكاً بعموم هذه الآية وأما سائر الفقهاء فإنهم أجمعوا على تخصيص هذا العموم بالذبح ثم اختلفوا فقال مالك كل ذبح لم يذكر عليه اسم الله فهو حرام سواء ترك ذلك الذكر عمداً أو نسياناً وهو قول ابن سيرين وطائفة من المتكلمين وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إن ترك الذكر عمداً حرم وإن ترك نسياناً حل وقال الشافعي رحمه الله تعالى يحل متروك التسمية سواء ترك عمداً أو خطأ إذا كان الذابح أهلاً للذبح وقد ذكرنا هذه المسألة على الاستقصاء في تفسير قوله إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ( المائدة 3 ) فلا فائدة في الإعادة قال الشافعي رحمه الله تعالى هذا النهي مخصوص بما إذا ذبح على اسم النصب ويدل عليه وجوه أحدها قوله تعالى وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وأجمع المسلمون على أنه لا يفسق أكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية وثانيها قوله تعالى وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ( الأنعام 121 ) وهذه المناظرة إنما كانت في مسألة الميتة روي أن ناساً من المشركين قالوا للمسلمين ما يقتله الصقر والكلب تأكلونه وما يقتله الله فلا تأكلونه وعن ابن عباس أنهم قالوا تأكلون ما تقتلونه ولا تأكلون ما يقتله الله فهذه المناظرة مخصوصة بأكل الميتة وثالثها قوله تعالى وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ وهذا مخصوص بما ذبح على اسم النصب يعني لو رضيتم بهذه الذبيحة التي ذبحت على اسم إلهية الأوثان فقد رضيتم بإلهيتها وذلك يوجب الشرك قال الشافعي رحمه الله تعالى فأول الآية وإن كان عاماً بحسب الصيغة إلا أن آخرها لما حصلت فيه هذه القيود الثلاثة علمنا أن المراد من ذلك العموم هو هذا الخصوص ومما يؤكد هذا المعنى هو أنه تعالى قال وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ فقد صار هذا النهي مخصوصاً بما إذا كان هذا الأمر فسقاً ثم طلبنا في كتاب الله تعالى أنه متى يصير فسقاً فرأينا هذا الفسق مفسراً في آية أخرى وهو قوله قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَيْكَ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ ( الأنعام 145 ) فصار الفسق في هذه الآية مفسراً بما أهل به لغير الله وإذا كان كذلك كان قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ مخصوصاً بما أهل به لغير الله
والمقام الثاني أن نترك التمسك بهذه المخصصات لكن نقول لم قلتم إنه لم يوجد ذكر الله ههنا والدليل عليه ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ذكر الله مع المسلم سواء قال أو لم يقل ) ويحمل هذا الذكر على ذكر القلب
والمقام الثالث وهو أن نقول هب أن هذا الدليل يوجب الحرمة إلا أن سائر الدلائل المذكورة في هذه المسألة توجب الحل ومتى تعارضت وجب أن يكون الراجح هو الحل لأن الأصل في المأكولات الحل وأيضاً يدل عليه جميع العمومات المقتضية لحل الأكل والانتفاع كقوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) وقوله كُلُواْ وَاشْرَبُواْ ( البقرة 60 ) لأنه مستطاب بحسب الحس فوجب أن يحل لقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ ( المائدة 4 ) ولأنه مال لأن الطبع يميل إليه فوجب أن لا يحرم لما روي عن

النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه نهى عن إضاعة المال فهذا تقرير الكلام في هذه المسألة ومع ذلك فنقول الأولى بالمسلم أن يحترز عنه لأن ظاهر هذا النص قوي
المسألة الثانية الضمير في قوله وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ إلى ماذا يعود فيه قولان الأول أن قوله لاَ تَأْكُلُواْ يدل على الأكل لأن الفعل يدل على المصدر فهذا الضمير عائد إلى هذا المصدر والثاني كأنه جعل ما لم يذكر اسم الله عليه في نفسه فسقاً على سبيل المبالغة
وأما قوله وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ففيه قولان الأول أن المراد من الشياطين ههنا إبليس وجنوده وسوسوا إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه في أكل الميتة والثاني قال عكرمة وإن الشياطين يعني مردة المجوس ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش وذلك لأنه لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش وكانت بينهم مكاتبة أن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال وما يذبحه الله حرام فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية
ثم قال وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ يعني في استحلال الميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ قال الزجاج وفيه دليل على أن كل من أهل شيئاً مما حرم الله تعالى أو حرم شيئاً مما أحل الله تعالى فهو مشرك وإنما سمي مشركاً لأنه أثبت حاكماً سوى الله تعالى وهذا هو الشرك
المسألة الثالثة قال الكعبي الآية حجة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات وإن كان معناه في اللغة التصديق كما جعل تعالى الشرك اسماً لكل ما كان مخالفاً لله تعالى وإن كان في اللغة مختصاً بمن يعتقد أن لله شريكاً بدليل أنه تعالى سمى طاعة المؤمنين للمشركين في إباحة الميتة شركاً
ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون المراد من الشرك ههنا اعتقاد أن الله تعالى شريكاً في الحكم والتكليف وبهذا التقدير يرجع معنى هذا الشرك إلى الاعتقاد فقط
أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن المشركين يجادلون المؤمنين في دين الله ذكر مثلاً يدل على حال المؤمن المهتدي وعلى حال الكافر الضال فبين أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتاً فجعل حياً بعد ذلك وأعطى نوراً يهتدى به في مصالحه وأن الكافر بمنزلة من هو في ظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها فيكون متحيراً على الدوام

ثم قال تعالى كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وعند هذا عادت مسألة الجبر والقدر فقال أصحابنا ذلك المزين هو الله تعالى ودليله ما سبق ذكره من أن الفعل يتوقف على حصول الداعي وحصوله لا بد وأن يكون بخلق الله تعالى والداعي عبارة عن علم أو اعتقاد أو ظن باشتمال ذلك الفعل على نفع زائد وصلاح راجح فهذا الداعي لا معنى له إلا هذا التزيين فإذا كان موجد هذا الداعي هو الله تعالى كان المزين لا محالة هو الله تعالى وقالت المعتزلة ذلك المزين هو الشيطان وحكوا عن الحسن أنه قال زينه لهم والله الشيطان واعلم أن هذا في غاية الضعف لوجوه الأول الدليل القاطع الذي ذكرناه والثاني أن هذا المثل مذكور ليميز الله حال المسلم من الكافر فيدخل فيه الشيطان فإن كان إقدام ذلك الشيطان على ذلك الكفر لشيطان آخر لزم الذهاب إلى مزين آخر غير النهاية وإلا فلا بد من مزين آخر سوى الشيطان الثالث أنه تعالى صرح بأن ذلك المزين ليس إلا هو فيما قبل هذه الآية وما بعدها أما قبلها فقوله وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ وأما بعد هذه الآية فقوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَة ٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا
المسألة الثانية قوله أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ قرأ نافع مَيْتًا مشدداً والباقون مخففاً قال أهل اللغة الميت مخففاً تخفيف ميت ومعناهما واحد ثقل أو خفف
المسألة الثالثة قال أهل المعاني قد وصف الكفار بأنهم أموات في قوله أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ( النحل 21 ) وأيضاً في قوله لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً ( ي س 70 ) وفي قوله إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ( النمل 80 ) وفي قوله وَمَا يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ وَمَا يَسْتَوِى الاْحْيَاء وَلاَ الاْمْوَاتُ ( فاطر 19 و 22 ) فلما جعل الكفر موتاً والكافر ميتاً جعل الهدى حياة والمهتدي حياً وإنما جعل الكفر موتاً لأنه جهل والجهل يوجب الحيرة والوقفة فهو كالموت الذي يوجب السكون وأيضاً الميت لا يهتدي إلى شيء والجاهل كذلك والهدى علم وبصر والعلم والبصر سبب لحصول الرشد والفوز بالنجاة وقوله وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ عطف على قوله فَأَحْيَيْنَاهُ فوجب أن يكون هذا النور مغايراً لتلك الحياة والذي يخطر بالبال والعلم عند الله تعالى أن الأرواح البشرية لها أربع مراتب في المعرفة فأولها كونها مستعدة لقبول هذه المعارف وذلك الاستعداد الأصلي يختلف في الأرواح فربما كانت الروح موصوفة باستعداد كامل قوي شريف وربما كان ذلك الاستعداد قليلاً ضعيفاً ويكون صاحبه بليداً ناقصاً
والمرتبة الثانية أن يحصل لها العلوم الكلية الأولية وهي المسماة بالعقل
والمرتبة الثالثة أن يحاول ذلك الإنسان تركيب تلك البديهيات ويتوصل بتركيبها إلى تعرف المجهولات الكسبية إلا أن تلك المعارف ربما لا تكون حاضرة بالفعل ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استرجاعها واستحضارها يقدر عليه
والمرتبة الرابعة أن تكون تلك المعارف القدسية والجلايا الروحانية حاضرة بالفعل ويكون جوهر ذلك الروح مشرقاً بتلك المعارف مستضيئاً بها مستكملاً بظهورها فيه
إذا عرفت هذا فنقول

المرتبة الأولى وهي حصول الاستعداد فقط هي المسماة بالموت
والمرتبة الثانية وهي أن تحصل العلوم البديهية الكلية فيه فهي المشار إليها بقوله فَأَحْيَيْنَاهُ
والمرتبة الثالثة وهي تركيب البديهيات حتى يتوصل بتركيباتها إلى تعرف المجهولات النظرية فهي المراد من قوله تعالى وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا
والمرتبة الرابعة وهي قوله يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ إشارة إلى كونه مستحضراً لتلك الجلايا القدسية ناظراً إليها وعند هذا تتم درجات سعادات النفس الإنسانية ويمكن أن يقال أيضاً الحياة عبارة عن الاستعداد القائم بجوهر الروح والنور عبارة عن إيصال نور الوحي والتنزيل به فإنه لا بد في الإبصار من أمرين من سلامة الحاسة ومن طلوع الشمس فكذلك البصيرة لا بد فيها من أمرين من سلامة حاسة العقل ومن طلوع نور الوحي والتنزيل فلهذا السبب قال المفسرون المراد بهذا النور القرآن ومنهم من قال هو نور الدين ومنهم من قال هو نور الحكمة والأقوال بأسرها متقاربة والتحقيق ما ذكرناه وأما مثل الكافر فَهُوَ كَمَنْ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا وفي قوله لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا دقيقة عقلية وهي أن الشيء إذا دام حصوله مع الشيء صار كالأمر الذاتي والصفة اللازمة له فإذا دام كون الكافر في ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت تلك الظلمات كالصفة الذاتية اللازمة له يعسر إزالتها عنه نعوذ بالله من هذه الحالة وأيضاً الواقف في الظلمات يبقى متحيراً لا يهتدي إلى وجه صلاحه فيستولي عليه الخوف والفزع والعجز والوقوف
المسألة الرابعة اختلفوا في أن هذين المثلين المذكورين هل هما مخصوصان بإنسانين معينين أو عامان في كل مؤمن وكافر فيه قولان الأول أنه خاص بإنسانين على التعيين ثم فيه وجوه الأول قال ابن عباس إن أبا جهل رمى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بفرث وحمزة يومئذ لم يؤمن فأخبر حمزة بذلك عند قدومه من صيد له والقوس بيده فعمد إلى أبي جهل وتوخاه بالقوس وجعل يضرب رأسه فقال له أبو جهل أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا فقال حمزة أنتم أسفه الناس تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فنزلت هذه الآية
والرواية الثانية قال مقاتل نزلت هذه الآية في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبي جهل وذلك أنه قال زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسى رهان قالوا منا نبي يوحى إليه والله لا نؤمن به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت هذه الآية
والرواية الثالثة قال عكرمة والكلبي نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل
والرواية الرابعة قال الضحاك نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل
والقول الثاني إن هذه الآية عامة في حق جميع المؤمنين والكافرين وهذا هو الحق لأن المعنى إذا كان حاصلاً في الكل كان التخصيص محض التحكم وأيضاً قد ذكرنا أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة فالقول بأن سبب نزول هذه الآية المعينة كذا وكذا مشكل إلا إذا قيل إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال إن مراد الله تعالى من هذه الآية العامة فلان بعينه

المسألة الخامسة هذه الآية من أقوى الدلائل أيضاً على أن الكفر والإيمان من الله تعالى لأن قوله فَأَحْيَيْنَاهُ وقوله وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ قد بينا أنه كناية عن المعرفة والهدى وذلك يدل على أن كل هذه الأمور إنما تحصل من الله تعالى وبإذنه والدلائل العقلية ساعدت على صحته وهو دليل الداعي على ما لخصناه وأيضاً أن عاقلاً لا يختار الجهل والكفر لنفسه فمن المحال أن يختار الإنسان جعل نفسه جاهلاً كافراً فلما قصد تحصيل الإيمان والمعرفة ولم يحصل ذلك وإنما حصل ضده وهو الكفر والجهل علمنا أن ذلك حصل بإيجاد غيره
فإن قالوا إنما اختاره لاعتقاده في ذلك الجهل أنه علم
قلنا فحاصل هذا الكلام أنه إنما اختار هذا الجهل لسابقة جهل آخر فإن كان الكلام في ذلك الجهل السابق كما في المسبوق لزم الذهاب إلى غير النهاية وإلا فوجب الانتهاء إلى جهل يحصل فيه لإيجاده وتكوينه وهو المطلوب
وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَة ٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
المسألة الأولى ( الكاف ) في قوله وَكَذالِكَ يوجب التشبيه وفيه قولان الأول وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها الثاني أنه معطوف على ماقبله أي كما زينا للكافرين أعمالهم كذلك جعلنا
المسألة الثانية الأكابر جمع الأكبر الذي هو اسم والآية على التقديم والتأخير تقديره جعلنا مجرميها أكابر ولا يجوز أن يكون الأكابر مضافة فإنه لا يتم المعنى ويحتاج إلى إضمار المفعول الثاني للجعل لأنك إذا قلت جعلت زيداً وسكت لم يفد الكلام حتى تقول رئيساً أو ذليلاً أو ما أشبه ذلك لاقتضاء الجعل مفعولين ولأنك إذا أضفت الأكابر فقد أضفت الصفة إلى الموصوف وذلك لا يجوز عند البصريين
المسألة الثالثة صار تقدير الآية جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر ليمكروا فيها وذلك يقتضي أنه تعالى إنما جعلهم بهذه الصفة لأنه أراد منهم أن يمكروا بالناس فهذا أيضاً يدل على أن الخير والشر بإرادة الله تعالى
أجاب الجبائي عنه بأن حمل هذه اللام على لام العاقبة وذكر غيره أنه تعالى لما لم يمنعهم عن المكر صار شبيهاً بما إذا أراد ذلك فجاء الكلام على سبيل التشبيه وهذا السؤال مع جوابه قد تكرر مراراً خارجة عن الحد والحصر

المسألة الرابعة قال الزجاج إنما جعل المجرمين أكابر لأنهم لأجل رياستهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الأباطيل على الناس من غيرهم ولأن كثرة المال وقوة الجاه تحمل الإنسان على المبالغة في حفظهما وذلك الحفظ لا يتم إلا بجميع الأخلاق الذميمة من الغدر والمكر والكذب والغيبة والنميمة والإيمان الكاذبة ولو لم يكن للمال والجاه عيب سوى أن الله تعالى حكم بأنه إنما وصف بهذه الصفات الذميمة من كان له مال وجاه لكفى ذلك دليلاً على خساسة المال والجاه
ثم قال تعالى وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ والمراد منه ما ذكره الله تعالى في آية أخرى وهي قوله وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ وقد ذكرنا حقيقة ذلك في أول سورة البقرة في تفسير قوله تعالى اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ قالت المعتزلة لا شك أن قوله وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ مذكور في معرض التهديد والزجر فلو كان ما قبل هذه الآية يدل على أنه تعالى أراد منهم أن يمكروا بالناس فكيف يليق بالرحيم الكريم الحكيم الحليم أن يريد منهم المكر ويخلق فيهم المكر ثم يهددهم عليه ويعاقبهم أشد العقاب عليه واعلم أن معارضة هذا الكلام بالوجوه المشهورة قد ذكرناها مراراً
وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَة ٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ
اعلم أنه تعالى حكى عن مكر هؤلاء الكفار وحسدهم أنهم متى ظهرت لهم معجزة قاهرة تدل على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا لن نؤمن حتى يحصل لنا مثل هذا المنصب من عند الله وهذا يدل على نهاية حسدهم وأنهم إنما بقوا مصرين على الكفر لا لطلب الحجة والدلائل بل لنهاية الحسد قال المفسرون قال الوليد بن المغيرة والله لو كانت النبوة حقاً لكنت أنا أحق بها من محمد فإني أكثر منه مالاً وولداً فنزلت هذه الآية وقال الضحاك أراد كل واحد منهم أن يخص بالوحي والرسالة كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىء مّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَة ً فظاهر الآية التي نحن في تفسيرها يدل على ذلك أيضاً لأنه تعالى قال وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَة ٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ وهذا يدل على أن جماعة منهم كانوا يقولون هذا الكلام وأيضاً فما قبل هذه الآية يدل على ذلك أيضاً وهو قوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَة ٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ثم ذكر عقيب تلك الآية أنهم قالوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ وظاهره يدل على أن المكر المذكور في الآية الأولى هو هذا الكلام الخبيث

وأما قوله تعالى لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ ففيه قولان
القول الأول وهو المشهور أراد القوم أن تحصل لهم النبوة والرسالة كما حصلت لمحمد عليه الصلاة والسلام وأن يكونوا متبوعين لا تابعين ومخدومين لا خادمين
والقول الثاني وهو قول الحسن ومنقول عن ابن عباس أن المعنى وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع النبي قالوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى تُؤْتِى مِثْلَ مَا أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ وهو قول مشركي العرب لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا إلى قوله حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ من الله إلى أبي جهل وإلى فلان وفلان كتاباً على حدة وعلى هذا التقدير فالقوم ما طلبوا النبوة وإنما طلبوا أن تأتيهم آيات قاهرة ومعجزات ظاهرة مثل معجزات الأنبياء المتقدمين كي تدل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام قال المحققون والقول الأول أقوى وأولى لأن قوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ لا يليق إلا بالقول الأول ولمن ينصر القول الثاني أن يقول إنهم لما اقترحوا تلك الآيات القاهرة فلو أجابهم الله إليها وأظهر تلك المعجزات على وفق التماسهم لكانوا قد قربوا من منصب الرسالة وحينئذ يصلح أن يكون قوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ جواباً على هذا الكلام
وأما قوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ فالمعنى أن للرسالة موضعاً مخصوصاً لا يصلح وضعها إلا فيه فمن كان مخصوصاً موصوفاً بتلك الصفات التي لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولاً وإلا فلا والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله تعالى
واعلم أن الناس اختلفوا في هذه المسألة فقال بعضهم النفوس والأرواح متساوية في تمام الماهية فحصول النبوة والرسالة لبعضها دون البعض تشريف من الله وإحسان وتفضل وقال آخرون بل النفوس البشرية مختلفة بجواهرها وماهياتها فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيات مشرقة بالأنوار الإلهية مستعلية منورة وبعضها خسيسة كدرة محبة للجسمانيات فالنفس ما لم تكن من القسم الأول لم تصلح لقبول الوحي والرسالة ثم إن القسم الأول يقع الاختلاف فيه بالزيادة والنقصان والقوة والضعف إلى مراتب لا نهاية لها فلا جرم كانت مراتب الرسل مختلفة فمنهم من حصلت له المعجزات القوية والتبع القليل ومنهم من حصلت له معجزة واحدة أو اثنتان وحصل له تبع عظيم ومنهم من كان الرفق غالباً عليه ومنهم من كان التشديد غالباً عليه وهذا النوع من البحث فيه استقصاء ولا يليق ذكره بهذا الموضع وقوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ فيه تنبيه على دقيقة أخرى وهي أن أقل ما لا بد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة عن المكر والغدر والغل والحسد وقوله لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ عين المكر والغدر والحسد فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات ثم بين تعالى أنهم لكونهم موصوفين بهذه الصفات الذميمة سيبصيبهم صَغار عند الله وعذاب شديد وتقريره أن الثواب لا يتم إلا بأمرين التعظيم والمنفعة والعقاب أيضاً إنما يتم بأمرين الإهانة والضرر والله تعالى توعدهم بمجموع هذين الأمرين في هذه الآية أما الإهابة فقوله سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ ( الأنعام 124 ) وإنما قدم ذكر الصغار على ذكر الضرر لأن القوم إنما تمردوا عن طاعة محمد عليه الصلاة والسلام طلباً للعز والكرامة فالله تعالى بين أنه يقابلهم بضد مطلوبهم فأول ما يوصل إليهم إنما يوصل الصغار والذل والهوان وفي قوله صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ

وجوه الأول أن يكون المراد أن هذا الصغار إنما يحصل في الآخرة حيث لا حاكم ينفذ حكمه سواه والثاني أنهم يصيبهم صغار بحكم الله وإيجابه في در الدنيا فلما كان ذلك الصغار هذا حاله جاز أن يضاف إلى عند الله الثالث أن يكون المراد سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ ثم استأنف وقال عَندَ اللَّهِ أي معدلهم ذلك والمقصود منه التأكيد الرابع أن يكون المراد صغار من عند الله وعلى هذا التقدير فلا بد من إضمار كلمة ( من ) وأما بيان الضرر والعذاب فهو قوله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ فحصل بهذا الكلام أنه تعالى أعد لهم الخزي العظيم والعذاب الشديد ثم بين أن ذلك إنما يصيبهم لأجل مكرهم وكذبهم وحسدهم
فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى تمسك أصحابنا بهذه الآية في بيان أن الضلال والهداية من الله تعالى
واعلم أن هذه الآية كما أن لفظها يدل على قولنا فلفظها أيضاً يدل على الدليل القاطع العقلي الذي في هذه المسألة وبيانه أن العبد قادر على الإيمان وقادر على الفكر فقدرته بالنسبة إلى هذين الأمرين حاصلة على السوية فيمتنع صدور الإيمان عنه بدلاً من الكفر أو الكفر بدلاً من الإيمان إلا إذا حصل في القلب داعية إليه وقد بينا ذلك مراراً كثيرة في هذا الكتاب وتلك الداعية لا معنى لها إلا علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملاً على مصلحة زائدة ومنفعة راجحة فإنه إذا حصل هذا المعنى في القلب دعاه ذلك إلى فعل ذلك الشيء وإن حصل في القلب علم أو اعتقاد أن ظن بكون ذلك الفعل مشتملاً على ضرر زائد ومفسدة راجحة دعاه ذلك إلى تركه وبينا بالدليل أن حصول هذه الدواعي لا بد وأن يكون من الله تعالى وأن مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل
إذا ثبت هذا فنقول يستحيل أن يصدر الإيمان عن العبد إلاإذا خلق الله في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة زائد المصلحة وإذا حصل في القلب هذا الاعتقاد مال القلب وحصل في النفس رغبة شديدة في تحصيله وهذا هو انشراح الصدر للإيمان فأما إذا حصل في القلب اعتقاد أن الإيمان بمحمد مثلاً سبب مفسدة عظيمة في الدين والدنيا ويوجب المضار الكثيرة فعند هذا يترتب على حصول هذا الاعتقاد نفرة شديدة عن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وهذا هو المراد من أنه تعالى يجعل صدره ضيقاً حرجاً فصار تقدير الآية أن من أراد الله تعالى منه الإيمان قوى دواعيه إلى الإيمان ومن أراد الله منه الكفر

قوى صوارفه عن الإيمان وقوى دواعيه إلى الكفر ولما ثبت بالدليل العقلي أن الأمر كذلك ثبت أن لفظ القرآن مشتمل على هذه الدلائل العقلية وإذا انطبق قاطع البرهان على صريح لفظ القرآن فليس وراءه بيان ولا برهان قالت المعتزلة لنا في هذه الآية مقامان
المقام الأول بيان أنه لا دلالة في هذه الآية على قولكم
المقام الثاني مقام التأويل المطابق لمذهبنا وقولنا
أما المقام الأول فتقريره من وجوه
الوجه الأول أن هذه الآية ليس فيها أنه تعالى أضل قوماً أو يضلهم لأنه ليس فيها أكثر من أنه متى أراد أن يهدي إنساناً فعل به كيت وكيت وإذا أراد إضلاله فعل به كيت وكيت وليس في الآية أنه تعالى يريد ذلك أو لا يريده والدليل عليه أنه تعالى قال لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ( الأنبياء 17 ) فبين تعالى أنه يفعل اللهو لو أراده ولا خلاف أنه تعالى لا يريد ذلك ولا يفعله
الوجه الثاني أنه تعالى لم يقل ومن يرد أن يضله عن الإسلام بل قال وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ فلم قلتم أن المراد ومن يرد أن يضله عن الإيمان
والوجه الثالث أنه تعالى بين في آخر الآية أنه إنما يفعل هذا الفعل بهذا الكافر جزاء على كفره وأنه ليس ذلك على سبيل الابتداء فقال كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( الأنعام 125 )
الوجه الرابع أن قوله وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً فهذا يشعر بأن جعل الصدر ضيقاً حرجاً يتقدم حصوله على حصول الضلالة وأن لحصول ذلك المتقدم أثراً في حصول الضلال وذلك باطل بالإجماع أما عندنا فلا نقول به وأما عندكم فلأن المقتضى لحصول الجهل والضلال هو أن الله تعالى يخلقه فيه لقدرته فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن هذه الآية لا تدل على قولكم
أما المقام الثاني وهو أن تفسير هذه الآية على وجه يليق بقولنا فتقريره من وجوه الأول وهو الذي اختاره الجبائي ونصره القاضي فنقول تقدير الآية ومن يرد الله أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنة يشرح صدره للإسلام حتى يثبت عليه ولا يزول عنه وتفسير هذا الشرح هو أنه تعالى يفعل به ألطافاً تدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه وفي هذا النوع ألطاف لا يمكن فعلها بالمؤمن إلا بعد أن يصير مؤمناً وهي بعد أن يصير الرجل مؤمناً يدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه وإليه الإشارة بقوله تعالى وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ( التغابن 11 ) وبقوله وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( العنكبوت 69 ) فإذا آمن عبد وأراد الله ثباته فحينئذ يشرح صدره أي يفعل به الألطاف التي تقتضي ثباته على الإيمان ودوامه عليه فأما إذا كفر وعاند وأراد الله تعالى أن يضله عن طريق الجنة فعند ذلك يلقي في صدره الضيق والحرج ثم سأل الجبائي نفسه وقال كيف يصح ذلك ونجد الكفار طيبي النفوس لا غم لهم البتة ولا حزن
وأجاب عنه بأنه تعالى لم يخبر بأنه يفعل بهم ذلك في كل وقت فلا يمتنع كونهم في بعض الأوقات طيبي القلوب وسأل القاضي نفسه على هذا الجواب سؤالاً آخر فقال فيجب أن تقطعوا في كل كافر بأنه

يجد من نفسه ذلك الضيق والحرج في بعض الأوقات
وأجاب عنه بأن قال وكذلك نقول ودفع ذلك لا يمكن خصوصاً عند ورود أدلة الله تعالى وعند ظهور نصرة الله للمؤمنين وعند ظهور الذلة والصغار فيهم هذا غاية تقرير هذا الجواب
والوجه الثاني في التأويل قالوا لم لا يجوز أن يقال المراد فمن يرد الله أن يهديه إلى الجنة يشرح صدره للإسلام أي يشرح صدره للإسلام في ذلك الوقت الذي يهديه فيه إلى الجنة لأنه لما رأى أن بسبب الإيمان وجد هذه الدرجة العالية والمرتبة الشريفة يزداد رغبة في الإيمان ويحصل في قلبه مزيد انشراح وميل إليه ومن يرد أن يضله يوم القيامة عن طريق الجنة ففي ذلك الوقت يضيق صدره ويحرج صدره بسبب الحزن الشديد الذي ناله عند الحرمان من الجنة والدخول في النار قالوا فهذا وجه قريب واللفظ محتمل له فوجب حمل اللفظ عليه
والوجه الثالث في التأويل أن يقال حصل في الكلام تقديم وتأخير فيكون المعنى من شرح صدر نفسه بالإيمان فقد أراد الله أن يهديه أي يخصه بالألطاف الداعية إلى الثبات على الإيمان أو يهديه بمعنى أنه يهديه إلى طريق الجنة ومن جعل صدره ضيقاً حرجاً عن الإيمان فقد أراد الله أن يضله عن طريق الجنة أو يضله بمعنى أنه يحرمه عن الألطاف الداعية إلى الثبات على الإيمان فهذا هو مجموع كلامهم في هذا الباب
والجواب عما قالوه أولاً من أن الله تعالى لم يقل في هذه الآية أنه يضله بل المذكور فيه أنه لو أراد أن يضله لفعل كذا وكذا
فنقول قوله تعالى في آخر الآية كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ تصريح بأنه يفعل بهم ذلك الإضلال لأن حرف ( الكاف ) في قوله كَذالِكَ يفيد التشبيه والتقدير وكما جعلنا ذلك الضيق والحرج في صدره فكذلك نجعل الرجس على قلوب الذين لا يؤمنون
والجواب عما قالوه ثانياً وهو قوله ومن يرد الله أن يضله عن الدين
فنقول إن قوله في آخر الآية كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ تصريح بأن المراد من قوله وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ هو أنه يضله عن الدين
والجواب عما قالوه ثالثاً من أن قوله كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ يدل على أنه تعالى إنما يلقي ذلك الضيق والحرج في صدورهم جزاء على كفرهم
فنقول لا نسلم أن المراد ذلك بل المراد كذلك يجعل الله الرجس على قلوب الذين قضي عليهم بأنهم لا يؤمنون وإذا حملنا هذه الآية على هذا الوجه سقط ما ذكروه
والجواب عما قالوه رابعاً من أن ظاهر الآية يقتضي أن يكون ضيق الصدر وحرجه شيئاً متقدماً على الضلال وموجباً له
فنقول الأمر كذلك لأنه تعالى إذا خلق في قلبه اعتقاداً بأن الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) يوجب الذم في الدنيا والعقوبة في الآخرة فهذا الاعتقاد يوجب إعراض النفس ونفور القلب عن قبول ذلك الإيمان ويحصل في ذلك القلب نفرة ونبوة عن قبول ذلك الإيمان وهذه الحالة شبيهة بالضيق الشديد لأن الطريق إذا كان ضيقاً

لم يقدر الداخل على أن يدخل فيه فكذلك القلب إذا حصل فيه هذا الاعتقاد امتنع دخول الإيمان فيه فلأجل حصول هذه المشابهة من هذا الوجه أطلق لفظ الضيق والحرج عليه فقد سقط هذا الكلام
وأما الوجه الأول من التأويلات الثلاثة التي ذكروها
فالجواب عنه أن حاصل ذلك الكلام يرجع إلى تفصيل الضيق والحرج باستيلاء الغم والحزن على قلب الكافر وهذا بعيد لأنه تعالى ميز الكافر عن المؤمن بهذا الضيق والحرج فلو كان المراد منه حصول الغم والحزن في قلب الكافر لوجب أن يكون ما يحصل في قلب الكافر من الغموم والهموم والأحزان أزيد مما يحصل في قلب المؤمن زيادة يعرفها كل أحد ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك بل الأمر في حزن الكافر والمؤمن على السوية بل الحزم والبلاء في حق المؤمن أكثر قال تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ وقال عليه السلام ( خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل )
وأما الوجه الثاني من التأويلات الثلاثة فهو أيضاً مدفوع لأنه يرجع حاصله إلى إيضاح الواضحات لأن كل أحد يعلم بالضرورة أن كل من هداه الله تعالى إلى الجنة بسبب الإيمان فإنه يفرح بسبب تلك الهداية وينشرح صدره للإيمان مزيد انشراح في ذلك الوقت وكذلك القول في قوله وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ ( الزخرف 33 ) المراد من يضله عن طريق الجنة فإنه يضيق قلبه في ذلك الوقت فإن حصول هذا المعنى معلوم بالضرورة فحمل الآية عليه إخراج لهذه الآية من الفائدة
وأما الوجه الثالث من الوجوه الثلاثة فهو يقتضي تفكيك نظم الآية وذلك لأن الآية تقتضي أن يحصل انشراح الصدر من قبل الله أولاً ثم يترتب عليه حصول الهداية والإيمان وأنتم عكستم القضية فقلتم العبد يجعل نفسه أولاً منشرح الصدر ثم إن الله تعالى بعد ذلك يهديه بمعنى أنه يخصه بمزيد الألطاف الداعية له إلى الثبات على الإيمان والدلائل اللفظية إنما يمكن التمسك بها إذا أبقينا ما فيها من التركيبات والترتيبات فأما إذا أبطلناها وأزلناها لم يمكن التمسك بشيء منها أصلاً وفتح هذا الباب يوجب أن لا يمكن التمسك بشيء من الآيات وإنه طعن في القرآن وإخراج له عن كونه حجة فهذا هو الكلام الفصل في هذه السؤالات ثم إنا نختم الكلام في هذه المسألة بهذه الخاتمة القاهرة وهي أنا بينا أن فعل الإيمان يتوقف على أن يحصل في القلب داعية جازمة إلى فعل الإيمان وفاعل تلك الداعية هو الله تعالى وكذلك القول في جانب الكفر ولفظ الآية منطبق على هذا المعنى لأن تقدير الآية فمن يرد الله أن يهديه قوى في قلبه ما يدعوه إلى الإيمان ومن يرد أن يضله ألقى في قلبه ما يصرفه عن الإيمان ويدعوه إلى الكفر وقد ثبت بالبرهان العقلي أن الأمر يجب أن يكون كذلك وعلى هذا التقدير فجميع ما ذكرتموه من السؤالات ساقط والله تعالى أعلم بالصواب
المسألة الثالثة في تفسير ألفاظ الآية أما شرح الصدر ففي تفسير وجهان
الوجه الأول قال الليث يقال شرح الله صدره فانشرح أي وسع صدره لقبول ذلك الأمر فتوسع وأقول إن الليث فسر شرح الصدر بتوسيع الصدر ولا شك أنه ليس المراد منه أن يوسع صدره على سبيل

الحقيقة لأنه لا شبهة أن ذلك محال بل لا بد من تفسير توسيع الصدر فنقول تحقيقه ما ذكرناه فيما تقدم ولا بأس بإعادته فنقول إذا اعتقد الإنسان في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح مال طبعه إليه وقويت رغبته في حصوله وحصل في القلب استعداد شديد لتحصيله فتسمى هذه الحالة بسعة النفس وإذا اعتقد في عمل من الأعمال أن شره زائد وضرره راجح عظمت النفرة عنه وحصل في الطبع نفرة ونبوة عن قبوله ومعلوم أن الطريق إذا كان ضيقاً لم يتمكن الداخل من الدخول فيه وإذا كان واسعاً قدر الداخل على الدخول فيه فإذا حصل اعتقاد أن الأمر الفلاني زائد النفع والخير وحصل الميل إليه فقد حصل ذلك الميل في ذلك القلب فقيل اتسع الصدر له وإذا حصل اعتقاد أنه زائد الضرر والمفسدة لم يحصل في القلب ميل إليه فقيل إنه ضيق فقد صار الصدر شبيهاً بالطريق الضيق الذي لا يمكن الدخول فيه فهذا تحقيق الكلام في سعة الصدر وضيقه
والوجه الثاني في تفسير الشرح يقال شرح فلان أمره إذا أظهره وأوضحه وشرح المسألة إذا كانت مشكلة فبينها
واعلم أن لفظ الشرح غير مختص بالجانب الحق لأنه وارد في الإسلام في قوله أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الزمر 22 ) وفي الكفر في قوله وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ( النحل 106 ) قال المفسرون لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل له كيف يشرح الله صدره فقال عليه السلام ( يقذف فيه نوراً حتى ينفسح وينشرح ) فقيل له وهل لذلك من أمارة يعرف بها فقال عليه السلام ( الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت ) وأقول هذا الحديث من أدل الدلائل على صحة ما ذكرناه في تفسير شرح الله الصدر وتقريره أن الإنسان إذا تصور أن الاشتغال بعمل الآخرة زائد النفع والخير وأن الاشتغال بعمل الدنيا زائد الضرر والشر فإذا حصل الجزم بذلك إما بالبرهان أو بالتجربة أو التقليد لا بد وأن يترتب على حصول هذا الاعتقاد حصول الرغبة في الآخرة وهو المراد من الإنابة إلى دار الخلود والنفرة عن دار الدنيا وهو المراد من التجافي عن دار الغرور وأما الاستعداد للموت قبل نزول الموت فهو مشتمل على الأمرين أعني النفرة عن الدنيا والرغبة في الآخرة
إذا عرفت هذا فنقول الداعي إلى الفعل لا بد وأن يحصل قبل حصول الفعل وشرح الصدر للإيمان عبارة عن حصول الداعي إلى الإيمان فلهذا المعنى أشعر ظاهر هذه الآية بأن شرح الصدر متقدم على حصول الإسلام وكذا القول في جانب الكفر
أما قوله وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً ففيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن كثير ضَيّقاً ساكنة الياء وكذا في كل القرآن والباقون مشددة الياء مكسورة فيحتمل أن يكون المشدد والمخفف بمعنى واحد كسيد وسيد وهين وهين ولين ولين وميت وميت وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم حَرَجاً بكسر الراء والباقون بفتحها قال الفراء وهو في كسره ونصبه بمنزلة الوجل والوجل والقرد والقرد والدنف والدنف قال الزجاج الحرج في اللغة أضيق الضيق ومعناه أنه ضيق جداً فمن قال أنه رجل حرج الصدر بفتح الراء فمعناه ذو حرج في صدره ومن قال حرج جعله فاعلاً وكذلك رجل دنف ذو دنف ودنف نعت

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66