كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

فقد اتفقوا على أنه عليه السلام ما كفر بالله لحظة واحدة ثم قالت المعتزلة هذا غير جائز عقلاً لما فيه من التنفير وعند أصحابنا هذا غير ممتنع عقلاً لأنه جائز في العقول أن يكون الشخص كافراً فيرزقه الله الإيمان ويكرمه بالنبوة إلا أن الدليل السمعي قام على أن هذا الجائز لم يقع وهو قوله تعالى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( النجم 2 ) ثم ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً كثيرة أحدها ما روي عن ابن عباس والحسن والضحاك وشهر بن حوشب وَوَجَدَكَ ضَالاًّ عن معالم النعمة وأحكام الشريعة غافلاً عنها فهداك إليها وهو المراد من قوله مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وقوله وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ( يوسف 3 ) وثانيها ضل عن مرضعته حليمة حين أرادت أن ترده إلى جده حتى دخلت إلى هبل وشكت ذلك إليه فتساقطت الأصنام وسمعت صوتاً يقول إنما هلاكنا بيد هذا الصبي وفيه حكاية طويلة وثالثها ما روي مرفوعاً أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع كاد الجوع يقتلني فهداني الله ) ذكره الضحاك وذكر تعلقه بأستار الكعبة وقوله يا رب رد ولدي محمدا
اردده ربي واصطنع عندي يداً
فما زال يردد هذا عند البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة وبين يديه محمد وهو يقول لا ندري ماذا نرى من ابنك فقال عبد المطلب ولم قال إني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم فلما أركبته أمامي قامت الناقة كأن الناقة تقول يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدى وقال ابن عباس رده الله إلى جده بيد عدوه كما فعل بموسى حين حفظه على يد عدوه ورابعها أنه عليه السلام لما خرج مع غلام خديجة ميسرة أخذ كافر بزمام بعيره حتى ضل فأنزل الله تعالى جبريل عليه السلام في صورة آدمي فهداه إلى القافلة وقيل إن أبا طالب خرج به إلى الشأم فضل عن الطريق فهداه الله تعالى وخامسها يقال ضل الماء في اللبل إذا صار مغموراً فمعنى الآية كنت مغموراً بين الكفار بمكة فقواك الله تعالى حتى أظهرت دينه وسادسها العرب تسمي الشجرة الفريدة في الفلاة ضالة كأنه تعالى يقول كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان بالله ومعرفته إلا أنت فأنت شجرة فريدة في مفازة الجهل فوجدتك ضالاً فهديت بك الخلق ونظيره قوله عليه السلام ( الحكمة ضالة المؤمن ) وسابعها ووجدك ضالاً عن معرفة الله تعالى حين كنت طفلاً صبياً كما قال وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا ( النحل 78 ) فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة والمراد من الضال الخالي عن العلم لا الموصوف بالاعتقاد الخطأ وثامنها كنت ضالاً عن النبوة ما كنت تطمع في ذلك ولا خطر شيء من ذلك في قلبك فإن اليهود والنصارى كانوا يزعمون أن النبوة في بني إسرائيل فهديتك إلى النبوة التي ما كنت تطمع فيها ألبتة وتاسعها أنه قد يخاطب السيد ويكون المراد قومه فقوله وَوَجَدَكَ ضَالاًّ أي وجد قومك ضلالاً فهداهم بك وبشرعك وعاشرها وجدك ضالاًّ عن الضالين منفرداً عنهم مجانباً لدينهم فكلما كان بعدك عنهم أشد كان ضلالهم أشد فهداك إلى أن اختلطت بهم ودعوتهم إلى الدين المبين الحادي عشر وجدك ضالاً عن الهجرة متحيراً في يد قريش متمنياً فراقهم وكان لا يمكنك الخروج بدون إذنه تعالى فلما أذن له ووافقه الصديق عليه وهداه إلى خيمة أم معبد وكان ما كان من حديث سراقه وظهور القوة في الدين كان ذلك المراد بقوله فَهَدَى الثاني عشر ضالاًّ عن القبلة فإنه كان يتمنى أن تجعل الكعبة قبلة له وما كان يعرف أن ذلك هل يحصل له أم لا فهداه الله بقوله فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا ( البقرة 144 ) فكأنه سمي ذلك التحير بالضلال الثالث عشر أنه حين ظهرها له جبريل عليه السلام في أول أمره ما كان يعرف

أهو جبريل أم لا وكان يخافه خوفاً شديداً وربما أراد أن يلقي نفسه من الجبل فهداه الله حتى عرف أنه جبريل عليه السلام الرابع عشر الضلال بمعنى المحبة كما في قوله إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ( يوسف 95 ) أي محبتك ومعناه أنك محب فهديتك إلى الشرائع التي بها تتقرب إلى خدمة محبوبك الخامس عشر ضالاًّ عن أمور الدنيا لا تعرف التجارة ونحوها ثم هديتك حتى ربحت تجارتك وعظم ربحت حتى رغبت خديجة فيك والمعنى أنه ما كان لك وقوف على الدنيا وما كنت تعرف سوى الدين فهديتك إلى مصالح الدنيا بعد ذلك السادس عشر وَوَجَدَكَ ضَالاًّ أي ضائعاً في قومك كانوا يؤذونك ولا يرضون بك رعية فقوي أمرك وهداك إلى أن صرت آمراً والياً عليهم السابع عشر كنت ضالاً ما كنت تهتدي على طريق السموات فهديتك إذ عرجت بك إلى السموات ليلة المعراج الثامن عشر ووجدك ضالاًّ أي ناسياً لقوله تعالى أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا ( البقرة 282 ) فهديتك أي ذكرتك وذلك أنه ليلة المعراج نسي ما يجب أن يقال بسبب الهيبة فهداه الله تعالى إلى كيفية الثناء حتى قال ( لا أحصي ثناء عليك ) التاسع عشر أنه وإن كان عارفاً بالله بقلبه إلا أنه كان في الظاهر لا يظهر لهم خلافاً فعبر عن ذلك بالضلال العشرون روى علي عليه السلام عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته فإني قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة لو حفظت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشبان فخرجت أريد ذلك حتى أتيت أول دار من دور مكة فسمعت عزفاً بالدفوف والمزامير فقالوا فلان ابن فلان يزوج بفلانة فجلست أنظر إليهم وضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس قال فجئت صاحبي فقال ما فعلت فقلت ما صنعت شيئاً ثم أخبرته الخبر قال ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مس الشمس ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله تعالى برسالته )
وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى
أما قوله تعالى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ففيه مسائل
المسألة الأولى العائل هو ذو العيلة وذكرنا ذلك عند قوله أَن لا تَعُولُواْ ( النساء 3 ) ويدل عليه قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً ( التوبة 28 ) ثم أطلق العائل على الفقير وإن لم يكن له عيال وههنا في تفسير العائل قولان
الأول وهو المشهور أن المراد هو الفقير ويدل عليه ما روى أنه في مصحف عبد الله ( ووجدك عديماً ) وقرىء عيلاً كما قرىء سيحات ثم في كيفية الإغناء وجوه الأول أن الله تعالى أغناه بتربية أبي طالب ولما اختلت أحوال أبي طالب أغناه ( الله ) بمال خديجة ولما اختل ذلك أغناه ( الله ) بمال أبي بكر ولما اختل ذلك أمره بالهجرة وأغناه بإعانة الأنصار ثم أمره بالجهاد وأغناه بالغنائم وإن كان إنما حصل

بعد نزول هذه السورة لكن لما كان ذلك معلوم الوقوع كان كالواقع روي أنه عليه السلام ( دخل على خديجة وهو مغموم فقالت له مالك فقال الزمان زمان قحط فإن أنا بذلت المال ينفذ مالك فأستحي منك وإن لم أبذل أخاف الله فدعت قريشاً وفيهم الصديق قال الصديق فأخرجت دنانير وصبتها حتى بلغت مبلغاً لم يقع بصري على من كان جالساً قدامي لكثرة المال ثم قالت اشهدوا أن هذا المال ماله إن شاء فرقه وإن شاء أمسكه ) الثاني أغناه بأصحابه كانوا يعبدون الله سراً حتى قال عمر حين أسلم أبرز أتعبد اللات جهراً ونعبد الله سراً فقال عليه السلام حتى تكثر الأصحاب فقال حسبك الله وأنا فقال تعالى حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الأنفال 64 ) فأغناه الله بمال أبي بكر وبهيبة عمر ) الثالث أغناك بالقناعة فصرت بحال يستوي عندك الحجر والذهب لا تجد في قلبك سوى ربك فربك غني عن الأشياء لا بها وأنت بقناعتك استغنيت عن الأشياء وإن الغنى الأعلى الغنى عن الشيء لا به ومن ذلك أنه عليه السلام خير بين الغنى والفقر فاختار الفقر الرابع كنت عائلاً عن البراهين والحجج فأنزل الله عليك القرآن وعلمك مالم تكن تعلم فأغناك
القول الثاني في تفسير العائل أنت كنت كثير العيال وهم الأمة فكفاك وقيل فأغناهم بك لأنهم فقراء بسبب جهلهم وأنت صاحب العلم فهداهم على يدك وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الحكمة في أنه تعالى اختار له اليتم قلنا فيه وجوه أحدها أن يعرف قدر اليتامى فيقوم بحقهم وصلاح أمرهم ومن ذلك كان يوسف عليه السلام لا يشبع فقيل له في ذلك فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجياع وثانيها ليكون اليتيم مشاركاً له في الاسم فيكرم لأجل ذلك ومن ذلك قال عليه السلام ( إذا سميتم الولد محمداً فأكرموه ووسعوا له في المجلس ) وثالثها أن من كان له أب أو أم كان اعتماده عليهما فسلب عنه الولدان حتى لا يعتمد من أول صباه إلى آخر عمره على أحد سوى الله فيصير في طفوليته متشبهاً بإبراهيم عليه السلام في قوله حسبي من سؤالي علمه بحالي وكجواب مريم أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( آل عمران 37 ) ورابعها أن العادة جارية بأن اليتيم لا تخفى عيوبه بل تظهر وربما زادوا على الموجود فاختار تعالى له اليتيم ليتأمل كل أحد في أحواله ثم لا يجدوا عليه عيباً فيتفقون على نزاهته فإذا اختاره الله للرسالة لم يجدوا عليه مطعناً وخامسها جعله يتيماً ليعلم كل أحد أن فضيلته من الله ابتداء لأن الذي له أب فإن أباه يسعى في تعليمه وتأديبه وسادسها أن اليتم والفقر نقص في حق الخلق فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام مع هذين الوصفين أكرم الخلق كان ذلك قلباً للعادة فكان من جنس المعجزات
السؤال الثاني ما الحكمة في أن الله ذكر هذه الأشياء الجواب الحكمة أن لا ينسى نفسه فيقع في العجب
السؤال الثالث روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( سألت ربي مسألة وددت أني لم أسألها قلت اتخذت إبراهيم خليلاً وكلمت موسى تكليماً وسخرت مع داود الجبال وأعطيت سليمان كذا وكذا وأعطيت فلاناً كذا وكذا فقال ألم أجدك يتيماً فآويتك ألم أجدك ضالاًّ فهديتك ألم أجدك عائلاً فأغنيتك قلت بلى فقال ألم أشرح لك صدرك قلت بلى قال ألم أرفع لك ذكرك قلت بلى قال

ألم أصرف عنك وزرك قلت بلى ألم أوتك مالم أوت نبياً قبلك وهي خواتيم سورة البقرة أم أتخذك خليلاً كما اتخذت إبراهيم خليلاً ) فهل يصح هذا الحديث قلنا طعن القاضي في هذا الخبر فقال إن الأنبياء عليهم السلام لا يسألون مثل ذلك إلا عن إذن فكيف يصح أن يقع من الرسول مثل هذا السؤال ويكون منه تعالى ما يجري مجرى المعاتبة
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ
وقرىء فلا تكهر أي لا تعبس وجهك إليه والمعنى عامله بمثل ما عاملتك به ونظيره من وجه وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( القصص 77 ) ومنه قوله عليه السلام ( الله الله فيمن ليس له إلا الله ) وروي أنها نزلت حين صاح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ولد خديجة ومنه حديث موسى عليه السلام حين ( قال إلهي بم نلت ما نلت قال أتذكر حين هربت منك السخلة فلما قدرت عليها قلت أتعبت نفسك ثم حملتها فلهذا السبب جعلتك ولياً على الخلق فلما نال موسى عليه السلام النبوة بالإحسان إلى الشاة فكيف بالإحسان إلى اليتيم وإذا كان هذا العتاب بمجرد الصياح أو العبوسية في الوجه فكيف إذا أذله أو أكل ماله عن أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام ( إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن ويقول تعالى من أبكى هذا اليتيم الذي واريت والده التراب من أسكته فله الجنة )
وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ
ثم قال تعالى وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ يقال نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره وفي المراد من السائل قولان أحدهما وهو اختيار الحسن أن المراد منه من يسأل العلم ونظيره من وجه عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الاْعْمَى ( عبس 1 2 ) وحينئذ يحصل الترتيب لأنه تعالى قال له أولاً أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ( الضحى 6 8 ) ثم اعتبر هذا الترتيب فأوصاه برعاية حق اليتيم ثم برعاية حق من يسأله عن العلم والهداية ثم أوصاه بشكر نعم الله عليه والقول الثاني أن المراد مطلق السائل ولقد عائب الله رسوله في القرآن في شأن الفقراء في ثلاثة مواضع أحدها أنه كان جالساً وحوله صناديد قريش إذ جاء ابن أم مكتوم الضرير فتخطى رقاب الناس حتى جلس بين يديه وقال علمني مما علمك الله فشق ذلك عليه فعبس وجهه فنزل عَبَسَ وَتَوَلَّى ( عبس 1 ) والثاني حين قالت له قريش لو جعلت لنا مجلساً وللفقراء مجلساً آخر فهم أن يفعل ذلك فنزل قوله وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ( الكهف 28 ) والثالث كان جالساً فجاءه عثمان بعذق من ثمر فوضعه بين يديه فأراد أن يأكل فوقف سائل بالباب فقال رحم الله عبداً يرحمنا فأمر بدفعه إلى السائل فكره عثمان ذلك وأراد أن يأكله النبي عليه السلام فخرج واشتراه من السائل ثم رجع السائل ففعل ذلك ثلاث مرات وكان يعطيه النبي عليه السلام إلى أن قال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أسائل أنت أم بائع فنزل وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ
وَأَمَّا بِنِعْمَة ِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ

ثم قوله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَة ِ رَبّكَ فَحَدّثْ وفيه وجوه أحدها قال مجاهد تلك النعمة هي القرآن فإن القرآن أعظم ما أنعم الله به على محمد عليه السلام والتحديث به أن يقرأه ويقرىء غيره ويبين حقائقه لهم وثانيها روي أيضاً عن مجاهد أن تلك النعمة هي النبوة أي بلغ ما أنزل إليك من ربك وثالثها إذا وفقك الله فراعيت حق اليتيم والسائل وذلك التوفيق نعمة من الله عليك فحدث بها ليقتدي بك غيرك ومنه ما روي عن الحسين بن علي عليه السلام أنه قال إذا عملت خيراً فحدث إخوانك ليقتدوا بك إلا أن هذا إنما يحسن إذا لم يتضمن رياء وظن أن غيره يقتدي به ومن ذلك لما سئل أمير المؤمنين علي عليه السلام عن الصحابة فأثنى عليهم وذكر خصالهم فقالوا له فحدثنا عن نفسك فقال مهلاً فقد نهى الله عن التزكية فقيل له أليس الله تعالى يقول وَأَمَّا بِنِعْمَة ِ رَبّكَ فَحَدّثْ فقال فإني أحدث كنت إذا سئلت أعطيت وإذا سكت ابتديت وبين الجوانح علم جم فاسألوني فإن قيل فما الحكمة في أن أخر الله تعالى حق نفسه عن حق اليتيم والعائل قلنا فيه وجوه أحدها كأنه يقول أنا غني وهما محتاجان وتقديم حق المحتاج أولى وثانيها أنه وضع في حظهما الفعل ورضي لنفسه بالقول وثالثها أن المقصود من جميع الطاعات استغراق القلب في ذكر الله تعالى فجعل خاتمة هذه الطاعات تحدث القلب واللسان بنعم الله تعالى حتى تكون ختم الطاعات على ذكر الله واختار قوله فَحَدّثْ على قوله فخبر ليكون ذلك حديثاً عند لا ينساه ويعيده مرة بعد أخرى والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

بداية الجزء الثانى والثلاثين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

سورة الشرح
ثمان آيات مكية
يروى عن طاووس وعمر بن عبدالعزيز أنهما كانا يقولان هذه السورة وسورة الضحى سورة واحدة وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم والذي دعاهما إلى ذلك هو أن قوله تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ كالعطف على قوله أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً وليس كذلك لأن الأول كان نزوله حال اغتمام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من إيذاء الكفار فكانت حال محنة وضيق صدر والثاني يقتضي أن يكون حال النزول منشرح الصدر طيب القلب فأنى يجتمعان
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ
استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار فأفاد إثبات الشرح وإيجابه فكأنه قيل شرحنا لك صدرك وفي شرح الصدر قولان
الأول ما روى أن جبريل عليه السلام أتاه وشق صدره وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي ثم ملأه علماً وإيماناً ووضعه في صدره
واعلم أن القاضي طعن في هذه الرواية من وجوه أحدها أن الرواية أن هذه الواقعة إنما وقعت في حال صغره عليه السلام وذلك من المعجزات فلا يجوز أن تتقدم نبوته وثانيها أن تأثير الغسل في إزالة الأجسام والمعاصي ليست بأجسام فلا يكون للغسل فيها أثر ثالثها أنه لا يصح أن يملأ القلب علماً بل

الله تعالى يخلق فيه العلوم والجواب عن الأول أن تقويم المعجز على زمان البعثة جائز عندنا وذلك هو المسمى بالإرهاص ومثله في حق الرسول عليه السلام كثير
وأما الثاني والثالث فلا يبعد أن يكون حصول ذلك الدم الأسود الذي غسلوه من قلب الرسول عليه السلام علامة للقلب الذي يميل إلى المعاصي ويحجم عن الطاعات فإذا أزالوه عنه كان ذلك علامة لكون صاحبه مواظباً على الطاعات محترزاً عن السيئات فكان ذلك كالعلامة للملائكة على كون صاحبه معصوماً وأيضاً فلأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
والقول الثاني أن المراد من شرح الصدر ما يرجع إلى المعرفة والطاعة ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها أنه عليه السلام لما بعث إلى الجن والإنس فكان يضيق صدره عن منازعة الجن والإنس والبراءة من كل عابد ومعبود سوى الله فآتاه الله من آياته ما اتسع لكل ما حمله وصغره عنده كل شيء احتمله من المشاق وذلك بأن أخرج عن قلبه جميع الهموم وما ترك فيه إلا هذا الهم الواحد فما كان يخطر بباله هم النفقة والعيال ولا يبالي بما يتوجه إليه من إيذائهم حتى صاروا في عينه دون الذباب لم يجبن خوفاً من وعيدهم ولم يمل إلى مالهم وبالجملة فشرح الصدر عبارة عن علمه بحقارة الدنيا وكما الآخرة ونظيره قوله فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً وروى أنهم قالوا يا رسول الله أينشرح الصدر قال نعم قالوا وما علامة ذلك قال ( التجافي عن الغرور والإنابة إلى دار الخلود والإعداد للموت قبل نزوله ) وتحقيق القول فيه أن صدق الإيمان بالله ووعده ووعيده يوجب للإنسان الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والاستعداد للموت وثانيها أنه انفتح صدره حتى أنه كان يتسع لجميع المهمات لا يقلق ولا يضجر ولا يتغير بل هو في حالتي البؤس والفرح منشرح الصدر مشتغل بأداء ما كلف به والشرح التوسعة ومعناه الإراحة من الهموم والعرب تسمى الغم والهم ضيق صدر كقوله وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ وههنا سؤالات
الأول لم ذكر الصدر ولم يذكر القلب والجواب لأن محل الوسوسة هو الصدر على ما قال يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ فإزالة تلك الوسوسة وإبدالها بدواعي الخير هي الشرح فلا جرم خص ذلك الشرح بالصدر دون القلب وقال محمد بن علي الترمذي القلب محل العقل والمعرفة وهو الذي يقصده الشيطان فالشيطان يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب فإذا وجد مسلكاً أغار فيه ونزل جنده فيه وبث فيه من الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حيئنذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة وإذا طرد العدو في الابتداء منع وحصل الأمن ويزول الضيق وينشرح الصدر ويتيسر له القيام بأداء العبودية
السؤال الثاني لم قال أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ولم يقل ألم نشرح صدرك والجواب من وجهين أحدهما كأنه تعالى يقول لام بلام فأنت إنما تفعل جميع الطاعات لأجلي كما قال لا لِيَعْبُدُونِ وَأَقِمِ الصَّلَواة َ لِذِكْرِى فأنا أيضاً جميع ما أفعله لأجلك وثانيها أن فيها تنبيهاً على أن منافع الرسالة عائدة إليه عليه السلام كأنه تعالى قال إنما شرحنا صدرك لأجلك لا لأجلي

السؤال الثالث لم قال أَلَمْ نَشْرَحْ ولم يقل ألم أشرح والجواب إن حملناه على نون التعظيم فالمعنى أن عظمة المنعم تدل على عظمة النعمة فدل ذلك على أن ذلك الشرح نعمة لا تصل العقول إلى كنه جلالتها وإن حملناه على نون الجميع فالمعنى كأنه تعالى يقول لم أشرحه وحدي بل أعملت فيه ملائكتي فكنت ترى الملائكة حواليك وبين يديك حتى يقوي قلبك فأديت الرسالة وأنت قوي القلب ولحقتهم هيبة فلم يجيبوا لك جواباً فلو كنت ضيق القلب لضحكوا منك فسبحان من جعل قوة قلبك جبناً فيهم وانشراح صدرك ضيقاً فيهم
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ
ثم قال تعالى وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال المبرد هذا محمول على معنى ألم نشرح لا على لفظه لأنك لا تقول ألم وضعنا ولكن معنى ألم نشرح قد شرحنا فحمل الثاني على معنى الأول لا على ظاهر اللفظ لأنه لو كان معطوفاً على ظاهره لوجب أن يقال ونضع عنك وزرك
المسألة الثانية معنى الوزر ثقل الذنب وقد مر تفسيره عند قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ وهو كقوله تعالى لّيَغْفِرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ
وأما قوله أَنقَضَ ظَهْرَكَ فقال علماء اللغة الأصل فيه أن الظهر إذا أثقل الحمل سمع له نقيض أي صوت خفي وهو صوت المحامل والرحال والأضلاع أو البعير إذا أثقله الحمل فهو مثل لما كان يثقل عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أوزاره
المسألة الرابعة احتج بهذه الآية من أثبت المعصية للأنبياء عليهم السلام والجواب عنه من وجهين الأول أن الذين يجوزون الصغائر على الأنبياء عليهم السلام حملوا هذه الآية عليها لا يقال إن قوله الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ يدل على كونه عظيماً فكيف يليق ذلك بالصغائر لأنا نقول إنما وصف ذلك بإنقاض الظهر مع كونها مغفورة لشدة اعتمام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بوقوعه منه وتحسره مع ندمه عليه وأما إنما وصفه بذلك لأن تأثيره فيما يزول به من الثواب عظيم فيجوز لذلك ما ذكره الله تعالى هذا تقرير الكلام على قول المعتزلة وفيه إشكال وهو أن العفو عن الصغيرة واجب على الله تعالى عند القاضي والله تعالى ذكر هذه الآية في معرض الامتنان ومن المعلوم أن الامتنان بفعل الواجب غير جائز الوجه الثاني أن يحمل ذلك على غير الذنب وفيه وجوه أحدها قال قتادة كانت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذنوب سلفت منه في الجاهلية قبل النبوة وقد أثقلته فغفرها له وثانيها أن المراد منه تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها وحفظ موجباتها والمحافظة على حقوقها فسهل الله تعالى ذلك عليه وحط عنه ثقلها بأن يسرها عليه حتى تيسرت له وثالثها الوزر ما كان يكرهه من تغييرهم لسنة الخليل وكان لا يقدر على منعهم إلى أن قواه الله وقال له أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ ورابعها أنها ذنوب أمته صارت كالوزر عليه ماذا يصنع في حقهم إلى أن قال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ فأمنه من العذاب في العاجل ووعد له الشفاعة في الآجل وخامسها معناه عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك لو كان ذلك

الذنب حاصلاً فسمى العصمة وضعاً مجازاً فمن ذلك ما روى أنه حضر وليمة فيها دف ومزامير قبل البعثة ليسمع فضرب الله على أذنه فلم يوقظه إلا حر الشمس من الغد وسادسها الوزر ما أصابه من الهيبة والفزع في أول ملاقاة جبريل عليه السلام حين أخذته الرعدة وكاد يرمي نفسه من الجبل ثم تقوى حتى ألفه وصار بحالة كاد يرمي بنفسه من الجبل لشدة اشتياقه وسابعها الوزر ما كان يلحقه من الأذى والشتم حتى كاد ينقض ظهره وتأخذه الرعدة ثم قواه الله تعالى حتى صار بحيث كانوا يدمون وجهه و ( هو ) يقول ( اللهم اهد قومي ) وثامنها لئن كان نزول السورة بعد موت أبي طالب وخديجة فلقد كان فراقهما عليه وزراً عظيماً فوضع عنه الوزر برفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك وحياة فارتفع له الذكر فلذلك قال وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ وتاسعها أن المراد من الوزر والثقل الحيرة التي كانت له قبل البعثة وذلك أنه بكمال عقله لما نظر إلى عظيم نعم الله تعالى عليه حيث أخرجه من العدم إلى الوجود وأعطاه الحياة والعقل وأنواع النعم ثقل عليه نعم الله وكاد ينقض ظهره من الحياء لأنه عليه السلام كانيرى أن نعم الله عليه لا تنقطع وما كان يعرف أنه كيف كان يطيع ربه فلما جاءته النبوة والتكليف وعرف أنه كيف ينبغي له أن يطيع ربه فحيئذ قل حياؤه وسهلت عليه تلك الأحوال فإن اللئيم لا يستحي من زيادة النعم بدون مقابلتها بالخدمة والإنسان الكريم النفس إذا كثر الإنعام عليه وهو لا يقابلها بنوع من أنواع الخدمة فإنه يثقل ذلك عليه جداً بحيث يميته الحياة فإذا كلفه المنعم بنوع خدمه سهل ذلك عليه وطاب قلبه
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
ثم قال تعالى وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
واعلم أنه عام في كل ما ذكروه من النبوة وشهرته في الأرض والسموات اسمه مكتوب على العرش وأنه يذكر معه في الشهادة والتشهد وأنه تعالى ذكره في الكتب المتقدمة وانتشار ذكره في الآفاق وأنه ختمت به النبوة وأنه يذكر في الخطب والأذان ومفاتيح الرسائل وعند الختم وجعل ذكره في القرآن مقروناً بذكره وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ و أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ويناديه باسم الرسول والنبي حين ينادي غيره بالاسم يا موسى يا عيسى وأيضاً جعله في القلوب بحيث يستطيبون ذكره وهو معنى قوله تعالى سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً كأنه تعالى يقول أملأ العالم من أتباعك كلهم يثنون عليك ويصلون عليك ويحفظون سنتك بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعه سنة فهم يمتثلون في الفريضة أمري وفي السنة أمرك وجعلت طاعتك طاعتي وبيعتك بيعتي مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ لا تأنف السلاطين من أتباعك بل جراءة لأجهل الملوك أن ينصب خليفة من غير قبيلتك فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك والمفسرون يفسرون معاني فرقانك والوعاظ يبلغون وعظك بل العلماء والسلاطين يصلون إلى خدمتك ويسلمون من وراء الباب عليك ويمسحون وجوههم بتراب روضتك ويرجون شفاعتك فشرفك باق إلى يوم القيامة

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً
قال تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً وفيه مسائل
المسألة الأولى وجه تعلق هذه الآية بما قبلها أن المشركين كانوا يعيرون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالفقر ويقولون إن كان غرضك من هذا الذي تدعيه طلب الغنى جمعنا لك مالاً حتى تكون كأيسر أهل مكة فشق ذلك على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى سبق إلى وهمه أنهم إنما رغبوا عن الإسلام لكونه فقيراً حقيرًا عندهم فعدد الله تعالى عليه مننه في هذه السورة وقال أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ أي ما كنت فيه من أمر الجاهلية ثم وعده بالغنى في الدنيا ليزيل عن قلبه ما حصل فيه من التأذي بسبب أنهم عيروه بالفقر والدليل عليه دخول الفاء في قوله فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً كأنه تعالى قال لا يحزنك ما يقول وما أنت فيه من القلة فإنه يحصل في الدنيا يسر كامل
المسألة الثانية قال ابن عباس يقول الله تعالى خلقت عسراً واحداً بين يسرين فلن يغلب عسر يسرين وروى مقاتل عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ( لن يغلب عسر يسرين ) وقرأ هذه الآية وفي تقرير هذا المعنى وجهان الأول قال الفراء والزجاج العسر مذكور بالألف واللام وليس هناك معهود سابق فينصرف إلى الحقيقة فيكون المراد بالعسر في اللفظين شيئاً واحداً وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير فكان أحدهما غير الآخر وزيف الجرجاني هذا وقال إذا قال الرجل إن مع الفارس سيفاً إن مع الفارس سيفاً يلزم أن يكون هناك فارس واحد ومعه سيفان ومعلوم أن ذلك غير لازم من وضع العربية الوجه الثاني أن تكون الجملة الثانية تكريراً للأولى كما كرر قوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ويكون الغرض تقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب كما يكرر المفرد في قولك جاءني زيد زيد والمراد من اليسرين يسر الدنيا وهو ما تيسر من استفتاح البلاد ويسر الآخرة وهو ثواب الجنة لقوله تعالى قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وهما حسن الظفر وحسن الثواب فالمراد من قوله ( لن يغلب عسر يسرين ) هذا وذلك لأن عمر الدنيا بالنسبة إلى يسر الدنيا ويسر الآخرة كالمغمور القليل وههنا سؤالان
الأول ما معنى التنكير في اليسر جوابه التفخيم كأنه قيل إن مع اليسر يسراً إن مع العسر يسراً عظيماً وأي يسر
السؤال الثاني اليس لا يكون مع العسر لأنهما ضدان فلا يجتمعان الجواب لما كان وقوع اليسر بعد العسر بزمان قليل كان مقطوعاً به فجعل كالمقارن له
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ
ثم قال تعالى فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وجه تعلق هذا بما قبله أنه تعالى لما عدد عليه نعمه السالفة ووعدهم بالنعم الآتية لا جرم بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة فقال فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ أي

فاتعب يقال نصب ينصب قال قتادة والضحاك ومقاتل إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فَانصَبْ إِلَى رَبّكَ في الدعاء وارغب إليه في المسألة يعطك وقال الشعبي إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك وقال مجاهد إذا فرغت من أمر دنياك فانصب وصل وقال عبد الله إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل وقال الحسن إذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة وقال علي بن أبي طلحة إذا كنت صحيحاً فانصب يعني اجعل فراغك نصباً في العبادة يدل عليه ما روى أن شريحاً مر برجلين يتصارعان فقال الفارغ ما أمر بهذا إنما قال الله فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وبالجملة فالمعنى أن يواصل بين بعض العبادات وبعض وأن لا يخلي وقتاً من أوقاته منها فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ
وأما قوله تعالى وَإِلَى رَبّكَ فَارْغَبْ ففيه وجهان أحدهما اجعل رغبتك إليه خصوصاً ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه وثانيها ارغب في سائر ما تلتمسه ديناً ودنيا ونصرة على الأعداء إلى ربك وقرىء فرغب أي رغب الناس إلى طلب ما عنده والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة التين
وهي ثمان آيات مكية
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَاذَا الْبَلَدِ الاٌّ مِينِ
وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَاذَا الْبَلَدِ الاْمِينِ
اعلم أن الإشكال هو أن التين والزيتون ليسا من الأمور الشريفة فكيف يليق أن يقسم الله تعالى بهما فلأجل هذا السؤال حصل فيه قولان
الأول أن المراد من التين والزيتون هذان الشيآن المشهوران قال ابن عباس هو تينكم وزيتونكم هذا ثم ذكروا من خواص التين والزيتون أشياء
أما التين فقالوا إنه غذاء وفاكهة ودواء أما كونه غذاء فالأطباء زعموا أنه طعام لطيف سريع الهضم لا يمكث في المعدة يلين الطبع ويخرج الترشح ويقلل البلغم ويطهر الكليتين ويزيل ما في المثانة من الرمل ويسمن البدن ويفتح مسام الكبد والطحال وهو خير الفواكه وأحمدها وروى أنه أهدي لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طبق من تين فأكل منه ثم قال لأصحابه ( كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس ) وعن علي بن موسى الرضا عليهما السلام التين يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج وأما كونه دواء فلأنه يتداوى به في إخراج فضول البدن
واعلم أن لها بعدما ذكرنا خواص أحدها أن ظاهرها كباطنها ليست كالجوز ظاهره قشر ولا كالتمر باطنه قشر بل نقول إن من الثمار ما يخبث ظاهره ويطيب باطنه كالجوز والبطيخ ومنه ما يطيب ظاهره دون باطنه كالتمر والإجاص
أما التين فإنه طيب الظاهر والباطن وثانيها أن الأشجار ثلاثة شجرة تعد وتخلف وهي شجرة

الخلاف وثانية تعد وتفي وهي التي تأتي بالنور أولاً بعده بالثمر كالتفاح وغيره وشجرة تبذل قبل الوعد وهي التين لأنها تخرج الثمرة قبل أن تعد بالورد بل لو غيرت العبارة لقلت هي شجرة تظهر المعنى قبل الدعوى بل لك أن تقول إنها شجرة تخرج الثمرة قبل أن تلبس نفسها بورد أو بورق والتفاح والمشمش وغيرهما تبدأ بنفسها ثم بغيرها أما شجرة التين فإنها تهتم بغيرها قبل اهتمامها بنفسها فسائر الأشجار كأرباب المعاملة في قوله عليه السلام ( ايد بنفسك ثم بمن تعول ) وشجرة التين كالمصطفى عليه السلام كان يبدأ بغيره فإن فضل صرفه إلى نفسه بل من الذين أنثى الله عليهم في قوله وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ وثالثها أن من خواص هذه الشجرة أن سائر الأشجار إذا اسقطت الثمرة من موضعها لم تعد في تلك السنة إلا التين فإنه يعيد البذر وربما سقط ثم يعود مرة أخرى ورابعها أن التين في النوم رجل خير غني فمن نالها في المنام نال مالاً وسعة ومن أكلها رزقه الله أولاداً وخامسها روى أن آدم عليه السلام لما عصى وفارقته ثيابه تستر بورق التين وروى أنه لما نزل وكان متزراً بورق التين استوحش فطاف الظباء حوله فاستأنس بها فأطعمها بعض ورق التين فرزقها الله الجمال صورة والملاحة معنى وغير دمها مسكاً فلما تفرقت الظباء إلى مساكنها رأى غيرها عليها من الجمال ما أعجبها فلما كانت من الغد جاءت الظباء على أثر الأولى إلى آدم فأطعمها من الورق فغير الله حالها إلى الجمال دون المسك وذلك لأن الأولى جاءت لآدم لا إجل الطمع والطائفة الأخرى جاءت للطمع سراً وإلى آدم ظاهرة فلا جرم غير الظاهر دون الباطن وأما الزيتون فشجرته هي الشجرة المباركة فاكهة من وجه وإدام من وجه ودواء من وجه وهي في أغلب البلاد لا تحتاح إلى تربية الناس ثم لا تقتصر منفعتها غذاء بدنك بل هي غذاء السراج أيضاً وتولدها في الجبال التي لا توجد فيها شيء من الدهنية البتة وقيل من أخذ ورق الزيتون في المنام استمسك بالعروة الوثقى وقال مريض لابن سيرين رأيت في المنام كأنه قيل لي كل اللامين تشف فقال كل الزيتون فإنه لا شرقية ولا غربية ثم قال المفسرون التي والزيتون اسم لهذين المأكولين وفيهما هذه المنافع الجليلة فوجب إجراء اللفظ على الظاهر والجزم بأن الله تعالى أقسم بهما لما فيهما هذه المصالح والمنافع
القول الثاني أنه ليس المراد هاتين الثمرتين ثم ذكروا وجوهاً أحدها قال ابن عباس هما جبلان من الأرض المقدسة يقال لهما بالسريانية طور تيناً وطور زيتاً لأنهما منبتاً التين والزيتون فكأنه تعالى أقسم بمنابت الأنبياء فالجبل بالتين لعيسى عليه السلام والزيتون الشأم مبعث أكثر أنبياء بني إسرائيل والطور مبعث موسى عليه السلام والبلد الأمين مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيكون المراد من القسم في الحقيقة تعظيم الأنبياء وإعلاء درجاتهم وثانيها أن المراد من التين والزيتون مسجدان ثم قال ابن زيد التين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس وقال آخرون التين مسجد أصحاب أهل الكف والزيتون مسجد إيليا وعن ابن عباس التين مسجد نوح المبني على الجودي والزيتون مسجد بيت المقدس والقائلون بهذا القول إنما ذهبوا إليه لأن القسم بالمسجد أحسن لأنه موضع العبادة والطاعة فلما كانت هذه المساجد في هذه المواضع التي يكثر فيها التين والزيتون لا جرم اكتفى بذكر التين والزيتون وثالثها المراد من التين والزيتون بلدان فقال كعب التين دمشق والزيتون بيت المقدس وقال شهر بن حوشب التين الكوفة والزيتون الشام وعن الربيع هما جبلان بين همدان وحلوان والقائلون بهذا القول إنما ذهبوا إليه لأن اليهود والنصارى والمسلمين ومشركي قريش كل واحد منهم يعظم بلدة من هذه البلاد

فالله تعالى أقسم بهذه البلاد بأسرها أو يقال إن دمشق وبيت المقدس فيهما نعم الدنيا والطور ومكة فيهما نعم الدين
أما قوله تعالى وَطُورِ سِينِينَ فالمراد من الطُّورِ الجبل الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عليه واختلفوا في سِينِينَ والأولى عند النحويين أن يكون سينين وسينا اسمين للمكان الذي حصل فيه الجبل أو ضيفاً إلى ذلك المكان وأما المفسرون فقال ابن عباس في رواية عكرمة الطُّورِ الجبل وسينين الحسن بلغة الحبشة وقال مجاهد وَطُورِ سِينِينَ المبارك وقال الكلبي هو الجبل المشجر ذو الشجر وقال مقاتل كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسينا بلغة النبط قال الواحدي والأولى أن يكون سينين اسماً للمكان الذي به الجبل ثم لذلك سمي سينين أو سيناً لحسنه أو لكونه مباركاً ولا يجوز أن يكون سينين نعتاً للطور لإضافته إليه
أما قوله تعالى وَهَاذَا الْبَلَدِ الاْمِينِ فالمراد مكة والأمين الآمن قال صاحب الكشاف من أمن الرجل أمانة فهو أمين وأمانته أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه ويجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل كما وصف بالأمن في قوله حَرَماً ءامِناً يعني ذا أمن وذكروا في كونه أميناً وجوهاً أحدها أن الله تعالى حفظه عن الفيل على ما يأتيك شرحه إن شاء الله تعالى وثانيها أنها تحفظ لك جميع الأشياء فمباح الدم عند الالتجاء إليها آمن من السباع والصيود تستفيد منها الحفظ عند الالتجاء إليها وثالثها ما روى أن عمر كان يقبل الحجر ويقول إنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقبلك ما قبلتك فقال له علي عليه السلام إما أنه يضر وينفع إن الله تعالى لما أخذ على ذرية آدم الميثاق كتبه في رق أبيض وكان لهذا الركن يومئذ لسان وشفتان وعينان فقال افتح فاك فألقمه ذلك الرق وقال تشهد لمن وافاك بالموافاة إلى يوم القيامة فقال عمر لأبقيت في قوم لست فيهم يا أبا الحسن
لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
المراد من الإنسان هذه الماهية والتقويم تصبير الشيء على ما ينبغي أن يكون في التألف والتعديل يقال قومته تقويماً فاستقام وتقوم وذكروا في شرح ذلك الحسن وجوهاً أحدها أنه تعالى خلق كل ذي روح مكباً على وجهه إلا الإنسان فإنه تعالى خلقه مديد القامة يتناول مأكوله بيده وقال الأصم في أكمل عقل وفهم وأدب وعلم وبيان والحاصل أن القول الأول راجع إلى الصورة الظاهرة والثاني إلى السيرة الباطنة وعن يحيى بن أكثم القاضي أنه فسر التقويم بحسن الصورة فإنه حكى أن ملك زمانه خلا بزوجته في ليلة مقمرة فقال إن لم تكوني أحسن من القمر فأنت كذا فأفتى الكل بالحنث إلا يحيى بن أكثم فإنه قال لا يحنث فقيل له خالفت شيوخك فقال الفتوى بالعلم ولقد أفتى من هو أعلم منا وهو الله تعالى فإنه يقوله لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وكان بعض الصالحين يقول إلهنا أعطيتنا في الأولى أحسن الأشكال فأعطنا في الآخرة أحسن الفعال وهو العفو عن الذنوب والتجاوز عن العيوب

ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ
أما قوله تعالى ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ففيه وجهان الأول قال ابن عباس يريد أرذل العمر وهو مثل قوله يرد إلى أرذل العمر قال ابن قتيبة السافلون هم الضعفاء والزمني ومن لا يستطيع حيلة ولا يجد سبيلاً يقال سفل يسفل فهو سافل وهم سافلون كما يقال علا يعلو فهو عال وهم عالون أراد أن الهرم يخرف ويضعف سمعه وبصره وعقله وتقل حيلته ويعجز عن عمل الصالحات فيكون أسفل الجميع وقال الفراء ولو كانت أسفل سافل لكان صواباً لأن لفظ الإنسان واحد وأنت تقول هذا أفضل قائم ولا تقول أفضل قائمين إلا أنه قيل سافلين على الجمع لأن الإنسان في معنى جمع فهو كقوله وَالَّذِى جَاء بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وقال وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنسَانَ مِنَّا رَحْمَة ً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ
والقول الثاني ما ذكره مجاهد والحسن ثم رددناه إلى النار قال علي عليه السلام وضع أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض فيبدأ بالأسفل فيملأ وهو أسفل سافلين وعلى هذا التقدير فالمعنى ثم رددناه إلى أسفل سافلين إلى النار
إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
أما قوله تعالى إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فاعلم أن هذا الاستثناء على القول الأول منقطع والمعنى ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله أياهم بالشيخوخة والهرم وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة وعلى تخاذل نهوضهم وأما على القول الثاني فالاستثناء متصل ظاهر الاتصال
أما قوله تعالى فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ففيه قولان أحدهما غير منقوص ولا مقطوع وثانيهما أجر غير ممنون أي لا يمن به عليهم وأعلم أن كل ذلك من صفات الثواب لأنه يجب أن يكون غير منقطع وأن لا يكون منعصاً بالمنة
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ
ثم قال تعالى فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ وفيه سؤالان
الأولى من المخاطب بقوله فَمَا يُكَذّبُكَ الجواب فيه قولان أحدهما أنه خطاب للإنسان على طريقة الالتفات والمراد من قوله فَمَا يُكَذّبُكَ أن كل من أخبر عن الواقع بأنه لا يقع فهو كاذب والمعنى فما الذي يلجئك إلى هذا الكذب والثاني وهو اختيار الفراء أنه خطاب مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى فمن يكذبك يا أيها الرسول بعد ظهور هذه الدلائل بالدين
السؤال الثاني ما وجه التعجب الجواب أن خلق الإنسان من النطفة وتقويمع بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي تم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر دليل واضح على قدرة الخالقة على الحشر والنشر فمن شاهد هذه الحالة ثم بقي مصراً على إنكار الحشر فلا شيء أعجب منه

أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ
ثم قال تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في تفسيره وجهين أحدهما أن هذا تحقيق لما ذكر من خلق الإنسان ثم رده إلى أرذل العمر يقول الله تعالى أليس الذي فعل ذلك بأحكم الحاكمين صنعاً وتدبيراً وإذا ثبتت القدرة والحكمة بهذه الدلالة صح القول بإمكان الحشر ووقوعه أما الإمكان فبالنظرة إلى القدرة وأما الوقوع فبالنظر إلى الحكمة لأن عدم ذلك يقدح في الحكمة كما قال تعالى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ والثاني أن هذا تنبيه من الله تعالى لنبيه عليه السلام بأنه يحكم بينه وبين خصومه يوم القيامة بالعدل
المسألة الثانية قال القاضي هذه الآية من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلق أفعال العباد مع ما فيها من السفه والظلم فإنه لو كان الفاعل لأفعال العباد هو الله تعالى لكان كل سفه وكل أمر بسفه وكل ترغيب في سفه فهو من الله تعالى ومن كان كذلك فهو أسفه السفهاء كما أنه لا حكمة ولا أمر بالحكمة ولا ترغيب في الحكمة إلا من الله تعالى ومن كان كذلك فهو أحكم الحكماء ولما ثبت في حقه تعال الأمران لم يكن وصفه بأنه أحكم الحكماء أولى من وصفه بأنه أسفه السفهاء ولما امتنع هذا الوصف في حقه تعالى علمنا أنه ليس خالقاً لأفعال العباد والجواب المعارضة بالعلم والداعي ثم نقول السفيه من قامت السفاهة به لا من خلق السفاهة كما أن المتحرك والساكن من قامت الحركة والسكون به لا من خلقهما والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة العلق
تسع عشرة آية مكية
زعم المفسرون أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن وقال آخرون الفاتحة أول ما نزل ثم سورة العلق
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ اعلم أن في الباء من قوله بِاسْمِ رَبّكَ قولين أحدهما قال أبو عبيدة الباء زائدة والمعنى اقرأ اسم ربك كما قال الأخطل هن الحرائر لا ربات أخمرة
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ومعنى اقرأ اسم ربك أي أذكر اسمه وهذا القول ضعيف لوجوه أحدها أنه لو كان معناه اذكر اسم ربك ما حسن منه أن يقول ما أنا بقارىء أي لا أذكر اسم ربي وثانيها أن هذا الأمر لا يليق بالرسول لأنه ما كان له شغل سوى ذكر الله فكيف يأمره بأن يشتغل بما كان مشغولاً به أبداً وثالثها أن فيه تضييع الباء من غير فائدة
القول الثاني أن المراد من قوله اقْرَأْ أي اقرأ القرآن إذ القراءة لا تستعمل إلا فيه قال تعالى فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ وقال وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وقوله بِاسْمِ رَبّكَ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون محل باسم ربك النصب على الحال فيكون التقدير اقرأ القرآن مفتتحاً باسم ربك أي قل باسم الله ثم اقرأ وفي هذا دلالة على أنه يجب قراءة التسمية

في ابتداء كل سورة كما أنزل الله تعالى وأمر به وفي هذه الآية رد على من لا يرى ذلك واجباً ولا يبتدىء بها وثانيها أن يكون المعنى اقرأ القرآن مستعيناً باسم ربك كأنه يجعل الاسم آلة فيما يحاوله من أمر الدين والدنيا نظيره كتبت بالقلم وتحقيقه أنه لما قال له اقْرَأْ فقال له لست بقارىء فقال اقْرَأْ اسْمَ رَبّكَ أي استعن باسم ربك واتخذه آلة في تحصيل هذا الذي عسر عليك وثالثها أن قوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ أي اجعل هذا الفعل لله وافعله لأجله كما تقول بنيت هذه الدار باسم الأمير وصنعت هذا الكتاب باسم الوزير ولأجله فإن العبادة إذا صارت لله تعالى فكيف يجترىء الشيطان أن يتصرف فيما هو لله تعالى فإن قيل كيف يستمر هذا التأويل في قولك قبل الأكل بسم الله وكذا قبل كل فعل مباح قلنا فيه وجهان أحدهما أن ذلك إضافة مجازبة كما تضيف مجازية كما تضيف ضيعتك إلى بعض الكبار لتدفع بذلك ظلم الظلمة كذا تضيف فعلك إلى الله ليقطع الشيطان طمعه عن مشاركتك فقد روى أن من لم يذكر اسم الله شاركه الشيطان في ذلك الطعام والثاني أنه ربما استعان بذلك المباح على التقوى على طاعة الله فيصير المباح طاعة فيصح ذلك التأويل فيه
أما قوله رَبَّكَ ففيه سؤالان
أحدها وهو أن الرب من صفات الفعل والله من أسماء الذات وأسماء الذات أشرف من أسماء الفعل ولأنا قد دللنا بالوجوه الكثيرة على أن اسم الله أشرف من اسم الرب ثم إنه تعالى قال ههنا بِاسْمِ رَبّكَ ولم يقل اقرأ باسم الله كما قال في التسمية المعروفة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وجوابه أنه أمر بالعبادة وبصفات الذات وهو لا يستوجب شيئاً وإنما يستوجب العبادة بصفات الفعل فكان ذلك أبلغ في الحث على الطاعة ولأن هذه السورة كانت من أوائل ما نزل على ما كان الرسول عليه السلام قد فزع فاستماله ليزول الفزع فقال هو الذي رباك فكيف يفزعك فأفاد هذا الحرف معنيين أحدهما ربيتك فلزمك القضاء فلا تتكاسل والثاني أن الشروع ملزم للاتمام وقد ربيتك منذ كذا فكيف أضيعك أي حين كنت علقاً لم أدع تربيتك فبعد أن صرت خلقاً نفيساً موحداً عارفاً بي كيف أضيعكا
السؤال الثاني ما الحكمة في أنه أضاف ذاته إليه فقال بِاسْمِ رَبّكَ الجواب تارة يضيف ذاته إليه بالربوبية كما ههنا وتارة يضيفه إلى نفسه بالعبودية أسرى بعبده نظيره قوله عليه السلام ( علي مني وأنا منه ) كأنه تعالى يقول هو لي وأنا له يقرره قوله تعالى مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ أو نقول إضافة ذاته إلى عبده أحسن من إضافة العبد إليه إذ قد علم في الشاهد أن من له إبنان ينفعه أكبرهما دون الأصغر يقول هو ابني فحسب لما أنه ينال منه المنفعة فيقول الرب تعالى المنفعة تصل مني إليك ولم تصل منك إلى خدمة ولا طاعة إلى الآن فأقول أنا لك ولا أقول أنت لي ثم إذا أتيت بما طلبته منك من طاعة أو توبة أضفتك إلى نفسي فقلت أنزل على عبده قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ
السؤال الثالث لم ذكر عقيب قوله رَبَّكَ قوله الَّذِى خَلَقَ الجواب كأن العبد يقول ما الدليل على أنك ربي فيقول لأنك كنت بذاتك وصفاتك معدوماً ثم صرت موجوداً فلا بد لك في ذاتك وصفاتك من خالق وهذا الخلق والإيجاد تربية فدل ذلك على أني ربك وأنت مربوبي

خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ
أما قوله تعالى الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير هذه الآية ثلاثة أوجه أحدها أن يكون قوله الَّذِى خَلَقَ لا يقدر له مفعول ويكون المعنى أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه والثاني أن يقدر له مفعول ويكون المعنى أنه الذي خلق كل شيء فيتناول كل مخلوق لأنه مطلق فليس حمله على البعض أولى من حمله على الباقي كقولنا الله أكبر أي من كل شيء ثم قوله بعد ذلك خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ تخصيص للإنسان بالذكر من بين جملة المخلوقات إما لأن التنزيل إليه أو لأنه أشرف ما على وجه الأرض والثالث أن يكون قوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ مبهماً ثم فسره بقوله خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ تفخيماً لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته
المسألة الثانية احتج الأصحاب بهذه الآية على أنه لا خالق غير الله تعالى قالوا لأنه سبحانه جعل الخالقية صفة مميزة لذات الله تعالى عن سائر الذوات وكل صفة هذا شأنها فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها قالوا وبهذا الطريق عرفنا أن خاصية الإلهية هي القدرة على الاختراع ومما يؤكد ذلك أن فرعون لما طلب حقيقة الإله فقال وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قال موسى رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ والربوبية إشارة إلى الخلالقية التي ذكرها ههنا وكل ذلك يدل على قولنا
المسألة الثالثة اتفق المتكلمون على أن أول الواجبات معرفة الله تعالى أو النظر في معرفة الله أو القصد إلى ذلك النظر على الاختلاف المشهور فيما بينهم ثم إن الحكيم سبحانه لما أراد أن يبعثه رسولاً إلى المشركين لو قال له اقرأ باسم ربك الذي لا شريك له لأبوا أن يقبلوا ذلك منه لكنه تعالى قدم ذلك مقدمة تلجئهم إلى الاعتراف به كما يحكى إن زفر لما بعثه أبو حنيفة إلى البصرة لتقرير مذهبه فلما ذكر أبو حنيفة زيفوه ولم يلتفتوا إليه فرجع إلى أبي حنيفة وأخبره بذلك فقال إنك لم تعرف طريق التبليغ لكن ارجع إليهم واذكر في المسألة أقاويل أئمتهم ثم بين ضعفها ثم قل بعد ذلك ههنا قول آخر واذكر قولي وحجتي فإذا تمكن ذلك في قلبهم فقل هذا قول أبي حنيفة لأنهم حينئذ يستحيون فلا يردون فكذا ههنا أن الحق سبحانه يقول إن هؤلاء عباد الأوثان فلو أثنيت علي وأعرضت عن الأوثان لأبوا ذلك لكن اذكر لهم أنهم هم الذين خلقوا من العلقة فلا يمكنهم إنكاره ثم قل ولا بد للفعل من فاعل فلا يمكنهم أن يضيفوا ذلك إلى الوثن لعلمهم بأنهم نحتوه فبهذا التدريج يقرون بأني أنا المستحق للثناء دون الأوثان كما قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ثم لما صارت الإلهية موقوفة على الخالقية وحصل القطع بأن من لم يخلق لم يكن إلهاً فلهذا قال تعالى أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ودلت الآية على أن القول بالطبع باطل لأن المؤثر فيه إن كان حادثاً افتقر إلى مؤثر آخر وإن كان قديماً فإما أن يكون موجباً أو قادراً فإن كان موجباً لزم أن يقارنه الأثر فلم يبق إلا أنه مختار وهو عالم لأن التغير حصل على الترتيب الموافق للمصلحة
المسألة الرابعة إنما قال مِنْ عَلَقٍ على الجمع لأن الإنسان في معنى الجمع كقوله إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ

اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاٌّ كْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
أما قوله تعالى اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم اقرأ أولاً لنفسك والثاني للتبليغ أو الأول للتعلم من جبريل والثاني للتعليم أو قرأ في صلاتك والثاني خارج صلاتك
المسألة الثانية الكرم إفادة ما ينبغي لا لعوض فمن يهب السكين ممن يقتل به نفسه فهو ليس بكريم ومن أعطى ثم طلب عوضاً فهو ليس بكريم وليس يجب أن يكون العوض عيناً بل المدح والثواب والتلخص عن المذمة كله عوض ولهذا قال أصحابنا إنه تعالى يستحيل أن يفعل فعلاً لغرض لأنه لو فعل فعلاً لغرض لكان حصول ذلك الغرض أولى له من لا حصوله فحينئذ يستفيد بفعل ذلك الشيء حصول تلك الأولوية ولو لم يفعل ذلك الفعل لما كان يحصل له تلك الأولوية فيكون ناقصاً بذاته مستكملاً بغيره وذلك محال ثم ذكروا في بيان أكرميته تعالى وجوهاً أحدها أنه كم من كريم يحلم وقت الجناية لكنه لا يبقى إحسانه على الوجه الذي كان قبل الجناية وهو تعالى أكرم لأنه يزيد بإحسانه بعد الجناية ومنه قول القائل
متى زدت تقصيراً تزد لي تفضلاً
كأني بالتقصير أستوجب الفضلا وثانيها إنك كريم لكن ربك أكرم وكيف لا وكل كريم ينال بكرمه نفعاً إما مدحاً أو ثواباً أو يدفع ضرراً أما أنا فالأكرم إذ لا أفعله إلا لمحض الكرم وثالثها أنه الأكرم لأن له الابتداء في كل كرم وإحسان وكرمه غير مشوب بالتقصير ورابعها يحتمل أن يكون هذا حثاً على القراءة أي هذا الأكرم لأنه يجازيك بكل حرف عشراً أو حثاً على الإخلاص أي لا تقرأ لطمع ولكن لأجلي ودع على أمرك فأنا أكرم من أن لا أعطيك ما لا يخطر ببالك ويحتمل أن المعنى تجرد لدعوة الخلق ولا تخف أحداً فأنا أكرم من أن آمرك بهذا التكيف الشاق ثم لا أنصرك
المسألة الثالثة أنه سبحانه وصف نفسه بأنه خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ وثانياً بأنه علقة وهي بالقلم ولا مناسبة في الظاهر بين لأمرين لكن التحقيق أن أول حوال الإنسان كونه علقة وهي أخس الأشياء وآخر أمره هو صيرورته عالماً بحقائق الأشياء وهو أشرف مراتب المخلوقات فكأنه تعالى يقول انتقلت من أخس المراتب إلى أعلى المراتب فلا بد لك من مدبر مقدر ينقلك من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة الشريفة ثم فيه تنبيه على أن العلم أشرف الصفات الإنسانية كأنه تعالى يقول الإيجاد والإحياء والإفدار والرزق كرم وربوبية أما الأكرم هو الذي أعطاك العلم لأن العلم هو النهاية في الشرف
المسألة الرابعة قوله بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة وقوله الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالسمع فالأول كأنه إشارة إلى معرفة الربوبية والثاني إلى النبوة وقدم الأول على الثاني تنبيهاً على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية
المسألة الخامسة في قوله عَلَّمَ بِالْقَلَمِ وجهان أحدهما أن المراد من القلم الكتابة التي

تعرف بها الأمور الغائبة وجعل القلم كناية عنها والثاني أن المراد علم الإنسان الكتاب بالقلم وكلا القولين متقارب إذ المراد التنبيه على فضيلة الكتابة يروى أن سليمان عليه السلام سأل عفريتاً عن الكلام فقال ريح لا يبقى قال فما قيده قال الكتابة فالقلم صياد يصيد العلوم يبكي ويضحك بركوعه تسجد الأنام وبحركته تبقى العلوم على مر الليالي والأيام نظيره قول زكريا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً أخفى وأسمع فكذا القلم لا ينطق ثم يسمع الشرق والفرب فسبحانه من قادر بسوادها جعل الدين منوراً كما أنه جعلك بالسواد مبصراً فالقلم قوام الإنسان والإنسان قوام العين ولا تقل القلم نائب اللسان فإن القلم ينوب عن اللسان واللسان لا ينوب عن القلم التراب طهور ولو إلى عشر حجج والقلم بدل ( عن اللسان ) ولو ( بعث ) إلى المشرق والمغرب
عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ
أما قوله تعالى عَلَّمَ الإِنسَانَ لَمْ يَعْلَمْ فيحتمل أن يكون المراد علمه بالقلم وعلمه أيضاً غير ذلك ولم يذكر واو النسق وقد يجري مثل هذا في الكلام تقول أكرمتك أحسنت إليك ملكتك الأموال وليتك الولايات ويحتمل أن يكون المراد من اللفظين واحداً ويكون المعنى علم الإنسان بالقلم مالم يعلمه فيكون قوله عَلَّمَ الإِنسَانَ لَمْ يَعْلَمْ بياناً لقوله عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى
قال تعالى كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى وفيه مسائل
المسألة الأولى أكثر المفسرين على أن المراد من الإنسان ههنا إنسان واحد وهو أبو جهل ثم منهم من قال نزلت السورة من ههنا إلى آخرها في أبي جهل وقيل نزلت من قوله أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إلى آخر السورة في أبي جهل قال ابن عباس كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي فجاء أبو جهل فقال ألم أنهك عن هذا فزجره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أبو جهل والله إنك لتعلم أني ى كثر أهل الوادي نادياً فأنزل الله تعالى فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ قال ابن عباس والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله فكأنه تعالى لما عرفه أنه مخلوق من علق فلا يليق به التكبر فهو عند ذلك ازداد طغياناً وتعززاً بماله ورياسته في مكة ويروى أنه قال ليس بمكة أكرم مني ولعله لعنه الله قال ذلك رداً لقوله وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ ثم القائلون بهذا القول منهم من زعم أنه ليست هذه السورة من أوائل ما نزل ومنهم من قال يحتمل أن يكون خمس آيات من أول السورة نزلت أولاً ثم نزلت البقية بعد ذلك في شأن أبي جهل ثم أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بضم ذلك إلى أول السورة لأن تأليف الآيات إنما كان يأمر الله تعالى ألا ترى أن قوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ آخر ما نزل عند المفسرين م هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل القول الثاني أن المراد من الإنسان المذكور في هذه الآية جملة الإنسان والقول الأول وإن كان أظهر بحسب الروايات إلا أن هذا القول أقرب بحسب الظاهر لأنه تعالى بين أن الله سبحانه مع أنه خلقه من علقة

وأنعم عليه بالنعم التي قدمنا ذكرها إذ أغناه وزاد في النعمة عليه فإنه يطغى ويتجاوز الحد في المعاصي واتباع هوى النفس وذلك وعيد وزجر عن هذه الطريقة ثم إنه تعالى أكد هذا الزجر بقوله إِنَّ إِلَى رَبّكَ الرُّجْعَى أي إلى حيث لا مالك سواه فتقع المحاسبة على ما كان منه من العمل والمؤاخذة بحسب ذلك
المسألة الثانية قوله كَلاَّ فيه وجوه أحدها أنه ردع وزجر لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه وثانيها قال مقاتل كلا لا يعلم الإنسان إن الله هو الذي خلقه من العلقة وعلمه بعد الجهل وذلك لأنه عند صيرورته غنياً يطغى ويتكبر ويصير مستغرق القلب في حب الدنيا فلا يتفكر في هذه الأحوال ولا يتأمل فيها وثالثها ذكر الجرجاني صاحب النظم أن كَلاَّ ههنا بمعنى حقاً لأنه ليس قبله ولا بعده شيء تكون كَلاَّ رداً له وهذا كما قالوه في كَلاَّ وَالْقَمَرِ فإنهم زعموا أنه بمعنى أي والقمر
المسألة الثالثة الطغيان هو التكبر والتمرد وتحقيق الكلام في هذه الآية أن الله تعالى لما ذكر في مقدمة السورة دلائل ظاهرة على التوحيد والقدرة والحكمة بحيث يبعد من العاقل أن لا يطلع عليها ولا يقف على حقائقها أتبعها بما هو السبب الأصلي في الغفلة عنها وهو حب الدنيا والاشتغال بالمال والجاه والثروة والقدرة فإنه لا سبب لعمى القلب في الحقيقة إلا ذلك فإن قيل إن فرعون ادعى الربوبية فقال الله تعالى في حقه اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى وههنا ذكر في أبي جهل لَيَطْغَى فأكده بهذه اللام فما السبب في هذه الزيادة قلنا فيه وجوه أحدها أنه قال لموسى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى وذلك قبل أن يلقاه موسى وقبل أن يعرض عليه الأدلة وقبل أن يدعي الربوبية وأما ههنا فإنه تعالى ذكر هذه الآية تسلية لرسوله حين رد عليه أقبح الرد وثانيها أن فرعون مع كمال سلطته ما كان يزيد كفره على القول وما كان ليتعرض لقتل موسى عليها السلام ولا لإيذائه وأما أبو جهل فهو مع قلة جاهه كان يقصد قتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإيذاءه وثالثها أن فرعون أحسن إلى موسى أولاً وقال آخراً ءامَنتُ وأما أبو جهل فكان يحسد النبي في صباه وقال في آخر رمقه بلغوا عني محمداً أني أموت ولا أحد أبغض إلي منه ورابعها أنهما وإن كانا رسولين لكن الحبيب في مقابلة الكليم كاليد في مقابلة العين والعاقل يصون عينه فوق ما يصون يده بل يصون عينه باليد فلهذا السبب كانت المبالغة ههنا أكثر
أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى
أما قوله تعالى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الأخفش لأن رآه فخذف اللام كما يقال أنكم لتطغون أن رأيتم غناكم
المسألة الثانية قال الفراء إنما قال أَن رَّءاهُ ولم يقل رأى نفسه كما يقال قتل نفسه لأن رأى من الأفعال التي تستدعي اسماً وخبراً نحو الظن والحسبان والعرب تطرح النفس من هذا الجنس فنقول رأيتني وظننتني وحسبتني فقوله أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى من هذا الباب
المسألة الثالثة في قوله اسْتَغْنَى وجهان أحدهما استغنى بماله عن ربه والمراد من الآية ليس هو الأول لأن الإنسان قد ينال الثروة فلا يزيد إلا تواضعاً كسليمان عليه السلام فإنه كان يجالس

المساكين ويقول ( مسكين جالس مسكيناً ) وعبد الرحمن بن عوف ما طغى مع كثرة أمواله بل العاقل يعلم أنه عند الغنى يكون أكثر حاجة إلى الله تعالى منه حال فقره لأنه في حال فقره لا يتمنى إلا سلامة نفسه وأما حال الغنى فإنه يتمنى سلامة نفسه وماله ومماليكه وفي الآية وجه ثالث وهو أن سين اسْتَغْنَى سين الطالب والمعنى أن الإنسان رأى أن نفسه إنما نالت الغنى لأنها طلبته وبذلت الجهد في الطلب فنالت الثروة والغنى بسبب ذلك الجهد لا أنه نالها بإعطاء الله وتوفيقه وهذا جهل وحمق فكم من باذل وسعه في الحرص والطلب وهو يموت جوعاً ثم ترى أكثر الأغنياء في الآخرة يصيرون مدبرين خائفين يريهم الله أن ذلك الغنى ما كان بفعلهم وقوتهم
المسألة الرابعة أول السورة يدل على مدح العلم وآخرها على مذمة المال وكفى بذلك مرغباً في الدين والعلم ومنفراً عن الدنيا والمال
إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى
ثم قال تعالى إِنَّ إِلَى رَبّكَ الرُّجْعَى وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا الكلام واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان تهديداً له وتحذيراً من عاقبة الطغيان
المسألة الثانية الرُّجْعَى المرجع والرجوع وهي بأجمعها مصادر يقال رجع إليه رجوعاً ومرجعاً ورجعى على وزن فعلى وفي معنى الآية وجهان أحدهما أنه يرى ثواب طاعته وعقاب تمرده وتكبره وطغيانه ونظيره قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً إلى قوله إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ وهذه الموعظة لا تؤثر إلا في قلب من له قدم صدق أما الجاهل فيغضب ولا يعتقد إلا الفرح العاجل والقول الثاني أنه تعالى يرده ويرجعه إلى النقصان والفقر والموت كما رده من النقصان إلى الكمال حيث نقله من الجمادية إلى الحياة ومن الفقر إلى الغنى ومن الذل إلى العز فما هذا التعزز والقوة
المسألة الثالثة روى أن أبا جهل قال للرسول عليه الصلاة والسلام أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهباً وفضة لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع دينناً ونتبع دينك فنزل جبريل وقال إن شئت فعلنا ذلك ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم مثل ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الدعاء إبقاء عليهم
أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى
قوله تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى وفيه مسائل
المسألة الأولى روى عن أبي جهل لعنه الله أنه قال هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم قالوا نعم قال فوالذي يحلف به لئن رأيته لأطأن عنقه ثم إنه رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الصلاة فنكص على عقبيه فقالوا له مالك يا أبا الحكم فقال إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً شديداً وعن الحسن أن أمية بن

خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة
واعلم أن ظاهر الآية أن المراد في هذه الآية هو الإنسان المتقدم ذكره فلذلك قالوا إنه ورد في أبي جهل وذكروا ما كان منه من التوعد لمحمد عليه الصلاة والسلام حين رآه يصلي ولا يمتنع أن يكون نزولها في أبي جهل ثم يعم في الكل لكن ما بعده يقتضي أنه في رجل بعينه
المسألة الثانية قوله أَرَأَيْتَ خطاب مع الرسول على سبيل التعجب ووجه التعجب فيه أمور أحدها أنه عليه السلام قال اللهم أعز الإسلام إما بأبي جعل بن هشام أو بعمر فكأنه تعالى قال له كنت تظن أنه يعز به الإسلام أمثله يعز به الإسلام وهو يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى وثانيها أنه كان يلقب بأبي الحكم فكأنه تعالى يقول كيف يليق به هذا اللقب وهو ينهى العبد عن خدمة ربه أيوصف بالحكمة من يمنع عن طاعة الرحمن ويسجد للأوثانا وثالثها أن ذلك الأحمق يأمر وينهى ويعتقد أنه يجب على الغير طاعته مع أنه ليس بخالق ولا رب ثم إنه ينهى عن طاعة الرب والخالق ألا يكون هذا غاية الحماقة
المسألة الثالثة قال يَنْهَى عَبْداً ولم يقل ينهاك وفيه فوائد أحدها أن التنكير في عبداً يدل على كونه كاملاً في العبودية كأنه يقول إنه عبد لا يفي العالم بشرح بيانه وصفة إخلاصه في عبوديته يروى في هذا المعنى أن يهودياً من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيام خلافته فقال أخبرني عن أخلاق رسولكم فقال عمر اطلبه من بلال فهو أعلم به مني ثم إن بلالاً دله على فاطمة ثم قاطمة دلته على علي عليه السلام فلما سأل علياً عنه قال صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه فقال الرجل هذا لا يتيسر لي فقال علي عجزت عن وصف متاع الدنيا وقد شهد الله على قلته حيث قال قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ فكيف أصف أخلاق النبي وقد شهد الله تعالى بأنه عظيم حيث قال وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ فكأنه تعالى قال ينهى أشد الخلق عبودية عن العبودية وذلك عين الجهل والحمق وثانيها أن هذا أبلغ في الذم لأن المعنى أن هذا دأبه وعادته فينهى كل من يرى وثالثها أن هذا تخويف لكل من نهى عن الصلاة روى عن علي عليه السلام أنه رأى في المصلى أقواماً يصلون قبل صلاة العيد فقال ما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يفعل ذلك فقيل له ألا تنهاهم فقال أخشى أن أدخل تحت قوله أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى فلم يصرح بالنهي عن الصلاة وأخذ أبو حنيفة منه هذا الأدب الجميل حيث قال له أبو يوسف أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع اللهم اغفر لي قال يقول ربنا لك الحمد ويسجد ولم يصرح بالنهي ورابعها أيظن أبو جهل أنه لو لم يسجد محمد لي لا أجد ساجداً غيره إن محمد عد واحد ولي من الملائكة المقربين مالا يحصيهم إلا أنا وهم دائماً في الصلاة والتسبيح وخامسها أنه تفخيم لشأن النبي عليه السلام يقول إنه مع التنكير معرف نظيره الكناية في سورة القدر حملت على القرآن ولم يسبق له ذكر أَسْرَى بِعَبْدِهِ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ
أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى
ثم قال تعالى أَرَءيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى وفيه مسائل

المسألة الأولى قوله أَرَأَيْتَ خطاب لمن فيه وجهان الأول أنه خطاب للنبي عليه السلام والدليل عليه أن الأول وهو قوله أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والثالث وهو قوله أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى للنبي عليه الصلاة والسلام فلو جعلنا الوسط لغير النبي لخرج الكلام عن النظم الحسن يقول الله تعالى يا محمد أرأيت إن كان هذا الكافر ولم يقل لو كان إشارة إلى المستقبل كأنه يقول أرأيت إن صار على الهدى واشتغل بأمر نفسه أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة فلو اختار الدين والهدى والأمر بالتقوى أما كان ذلك خيراً له من الكفر بالله والنهي عن خدمته وطاعته كأنه تعالى يقول تلهف عليه كيف فوت على نفسه المراتب العالية وقنع بالمراتب الدنيئة
القول الثاني أنه خطاب للكافر لأن الله تعالى كالمشاهد للظالم والمظلوم وكالمولى الذي قام بين يديه عبدان وكالحاكم الذي حضر عنده المدعى والمدعى عليه فخاطب هذا مرة وهذا مرة فلما قال للنبي أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى التفت بعد ذلك إلى الكافر فقال أرأيت يا كافر إن كانت صلاته هدى ودعاؤه إلى الله أمراً بالتقوى أتنهاه مع ذلك
المسألة الثانية ههنا سؤال وهو أن المذكور في أول الآية هو الصلاة وهو قوله أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى والمذكور ههنا أمران وهو قوله أَرَءيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى في فعل الصلاة فلم ضم إليه شيئاً ثانياً وهو قوله أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى جوابه من وجوه أحدها أن الذي شق على أبي جهل من أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام هو هذان الأمران الصلاة والدعاء إلى الله فلا جرم ذكرهما ههنا وثانيها أن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يوجد إلا في أحد أمرين إما في إصلاح نفسه وذلك بفعل الصلاة أو في إصلاح غيره وذلك بالأمر بالتقوى وثالثها أنه عليه السلام كان في صلاته على الهدى وآمراً بالتقوى لأن كل من رآه وهو في الصلاة كان يرق قلبه فيميل إلى الإيمان فكان فعل الصلاة دعوة بلسان الفعل وهو أقوى من الدعوة بلسان القول
أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى
ثم قال تعالى أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى وفيه قولان
القول الأول أنه خطاب مع الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك لأن الدلائل التي ذكرها في أول هذه السورة جلية ظاهرة وكل أحد يعلم ببديهة عقله أن منع العبد من خدمة مولاه فعل باطل وسفه ظاهر فإذن كل من كذب بتلك الدلائل وتولى عن خدمة مولاه بل منع غيره عن خدمة مولاه يعلم بعقله السليم أنه على الباطل وأنه لا يفعل ذلك إلا عناداً فلهذا قال تعالى لرسوله أرأيت يا محمد إن كذب هذا الكافر بتلك الدلائل الواضحة وتولى عن خدمة خالقه ألم يعلم بعقله أن الله يرى منه هذه الأعمال القبيحة ويعلمها أفلا يزجره ذلك عن هذه الأعمال القبيحة والثاني أنه خطاب للكافر والمعنى إن كان يا كافر محمد كاذباً أو متولياً ألا يعلم بأن الله يرى حتى ينتهي بل احتاج إلى نهيك
أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى
أما قوله أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ففيه مسألتان
المسألة الأولى المقصود من الآية التهديد بالحشر والنشر والمعنى أنه تعالى عالم بجميع المعلومات

حكيم لا يهمل الم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فلا بد وأن يوصل جزاء كل أحد إليه بتمامه فيكون هذا تخويفاً شديداً للعصاة وترغيباً عظيماً لأهل الطاعة
المسألة الثانية هذه الآية وإن نزلت في حق أبي جهل فكل من نهى من طاعة الله فهو شريك أبي جهل في هذا الوعيد ولا يرد عليه المنع من الصلاة في الدار المغصوبة والأوقات المكروهة لأن المنهى عنه غير الصلاة وهو المعصية ولا يرد المولى بمنع عبده عن قيام الليل وصوم التطوع وزوجته عن الاعتكاف لأن ذلك لاستيفاء مصلحته بإذن ربه لا بغضاً لعبادة ربه
كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَة ِ نَاصِيَة ٍ كَاذِبَة ٍ خَاطِئَة ٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ
ثم قال تعالى كَلاَّ وفيه وجوه أحدها أنه ردع لأبي جهل ومنه له عن نهيه عن عبادة الله تعالى وأمره بعبادة اللات وثانيها كلا لن يصل أبو جهل إلى ما يقول إنه يقتل محمداً أو يطأ عنقه بل تلميذ محمد هو الذي يقتله ويطأ صدره وثالثها قال مقاتل كلا لا يعلم أن الله يرى وإن كان يعلم لكن إذا كان لا ينتفع بما يعلم فكأنه لا يعلم
ثم قال تعالى لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ أو عما هو فيه لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَة ِ نَاصِيَة ٍ كَاذِبَة ٍ خَاطِئَة ٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله لَنَسْفَعاً وجوه أحدها لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدة وهو كقوله فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاْقْدَامِ وثانيها السفع الضرب أي لنلطمن وجهه وثالثها لنسودن وجهه قال الخليل تقول للشيء إذا لفحته النار لفحاً يسيراً يغير لون البشرة قد سفعته النار قال والسفع ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر سميت بذلك لسوادها قال والسفعة سواد في الخدين وبالجملة فتسويد الوجهعلامة الإذلال والإهانة ورابعها لنسمنه قال ابن عباس في قوله سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ إنه أبو جهل خامسها لنذلنه
المسألة الثانية قرىء لنسفعن بالنون المشددة أي الفاعل لهذا الفعل هو الله والملائكة كما قال فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وقرأ ابن مسعود لأسعفن أي يقول الله تعالى يا محمد أنا الذي أتولى إهانته نظيره هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَة َ
المسألة الثالثة هذا السفع يحتمل أن يكون المراد منه إلى النار في الآخرة وأن يكون المراد منه في الدنيا وهذا أيضاً على وجوه أحدها ما روى أن أبا جهل لما قال إن رأيته يصلي لأطأن عنقه فأنزل الله هذه السورة وأمره جبريل عليه السلام بأن يقرأ على أبي جهل ويخر لله ساجداً في آخرها ففعل فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعاً فقيل له مالك قال إن بيني وبينه فخلاً فاغراً فاه لو مشيت إليه لالتقمني وقيل كان جبريل وميكائيل عليهما السلام على كتفيه في صورة الأسد والثاني أن يكون المراد يوم بدر فيكون ذلك بشارة بأنه تعالى يمكن المسلمين من ناصيته حتى يجرونه إلى القتل إذا عاد إلى النهي فلما عاد لا جرم مكنهم الله تعالى من ناصيته يوم بدر روى أنه لما نزلت سورة الرحمن

عَلَّمَ الْقُرْءانَ قال عليه السلام لأصحابه من يقرؤها منكم على رؤساء قريش فتثاقلوا مخافة أذيتهم فقام ابن مسعود وقال أنا يا رسول الله فأجلسه عليه السلام ثم قال من يقرؤها عليهم فلم يقم إلا ابن مسعود ثم ثالثاً كذلك إلى أن أذن له وكان عليه السلام يبقى عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر جثته ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة فافتتح قراءة السورة فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه فانصرف وعيناه تدمع فلما رآه النبي عليه السلام رق قلبه وأطرق رأسه مغموماً فإذا جبريل عليه السلام يجيء ضاحكاً مستبشراً فقال يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكيا فقال ستعلم فلما ظهر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في المجاهدين فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع يخور فخاف أن تكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه ولعل هذا معنى قوله سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ثم لما عرف عجزه ولم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى إليه بحيلة فلما رآه أبو جهل قال يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعباً فقال ابن مسعود الإسلام يعلو ولا يعلى عليه فقال أبو جهل بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي ولا أبغض إلي منه في حال مماتي فروى أنه عليه السلام لما سمع ذلك قال ( فرعوني أشد من فرعون موسى فإنه قال ءامَنتُ وهو قد زاد عتواً ) ثم قال لابن مسعود اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحد وأقطع فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفاً لأجل أن لا يقوى على الحمل لوجوه أحدها أنه كلب والكلب يجر والثاني لشق الأذن فيقتص الأذن بالأذن والثالث لتحقيق الوعيد المذكور بقوله لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَة ِ فتجر تلك الرأس على مقدمها ثم إن ابن مسعود لما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجبريل بين يديه يضحك ويقول يا محمد أذن بأذن لكن الرأس ههنا مع الأذن فهذا ما روى في مقتل أبي جهل نقلته معنى لا لفظاً الخاطىء معنى قوله لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَة ِ
المسألة الرابعة الناصية شعر الجبهة وقد يسمى مكان الشعر الناصية ثم إنه تعالى كنى ههنا عن الوجه والرأس بالناصية ولعل السبب فيه أن أبا جهل كان شديد الاهتمام بترجيل تلك الناصية وتطييبها وربما كان يهتم أيضاً بتسويدها فأخبره الله تعالى أنه يسودها مع الوجه
المسألة الخامسة أنه تعالى عرف الناصية بحرف التعريف كأنه تعالى يقول الناصية المعروفة عندكم ذاتها لكنها مجهولة عندكم صفاتها ناصية وأي ناصية كاذبة قولاً خاطئة فعلاً وإنما وصف بالكذب لأنه كان كاذباً على الله تعالى في أنه لم يرسل محمداً وكاذباً على رسوله في أنه ساحر أو كذاب أو ليس بنبي وقيل كذبه أنه قال أنا أكثر أهل هذا الوادي نادياً ووصف الناصية بأنها خاطئة لأن صاحبها متمرد على الله تعال قال الله تعالى لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ والفرق بين الخاطىء والمخطىء أن الخاطىء معاقب مؤاخذ والمخطىء غير مؤاخذ ووصف الناصية بالخاطئة الكاذبة كما وصف الوجوه بأنها ناظرة في قوله تعالى إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ
المسألة السادسة نَاصِيَة ٍ بدل من الناصية وجاز إبدالها من المعرفة وهي نكرة لأنها وصفت فاستقلت بفائدة

المسألة السابعة قرىء ناصية بالرفع والتقدير هي ناصية وناصية بالنصب وكلاهما على الشتم واعلم أن الرسول عليه السلام لما أغلظ في القول لأبي جهل وتلا عليه هذه الآيات قال يا محمد بمن تهددني وأني لأكثر هذا الوادي نادياً فافتخر بجماعته الذين كانوا يأكلون حطامه فنزل قوله تعالى فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ وفيه مسائل
المسألة الأولى قد مر تفسير النادي عند قوله وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قال أبو عبيدة ناديه أي أهل مجلسه وبالجملة فالمراد من النادي أهل النادي ولا يسمى المكان نادياً حتى يكون فيه أهله وسمى نادياً لأن القوم يندون إليه نداً وندوة ومنه دار الندوة بمكة وكانوا يجتمعون فيها للتشاور وقيل سمي نادياً لأنه مجلس الندى والجود ذكر ذلك على سبيل النهكم أي أجمع أهل الكرم والدفاع في زعمك لينصروك
المسألة الثانية قال أبو عبيدة والمبرد واحد الزبانية زبنية وأصله من زبنية إذا دفعته وهو متمرد من إنس أو جن ومثله في المعنى والتقدير عفرية يقال فلان زبنية عفرية وقال الأخفش قال بعضهم واحده الزباني وقال آخرون الزابن وقال آخرون هذا من الجمع الذي لا واحد له من لفظه في لغة الغرب مثل أبابيل وعباديد وبالجملة فالمراد ملائكة العذاب ولا شك أنهم مخصوصون بقوة شديدة وقال مقاتل هم خزنة جهنم أرجلهم في الأرض ورؤسهم في السماء وقال قتادة الزبانية هم الشرط في كلام العرب وهم الملائكة الغلاظ الشداد وملائكة النار سموا الزبانية لأنهم يزبنون الكفار أي يدفعونهم في جهنم
المسألة الثالثة في الآية قولان الأول أي فليفعل ما ذكره من أنه يدعو أنصاره ويستعين بهم في مباطلة محمد فإنه لو فعل ذلك فنحن ندعو الزبانية الذين لا طاقة لناديه وقومه بهم قال ابن عباس لو دعا ناديه لأخذته الزبانية من ساعته معاينة وقيل هذا إخبار من الله تعالى بأنه يجر في الدنيا كالكلب وقد فعل به ذلك يوم بدر وقيل بل هذا إخبار بأن الزبانية يجرونه في الآخرة إلى النار القول الثاني أن في الآية تقديماً وتأخيراً أي لنسفعاً بالناصية وسندع الزبانية في الآخرة فليدع هو ناديه حينئذ فليمنعوه
المسألة الرابعة الفاء في قوله فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ تدل على المعجز لأن هذا يكون تحريضاً للكافر على دعوة ناديه وقومه ومتى فعل الكافر ذلك ترتب عليه دعوة الزبانية فلما لم يجترىء الكافر على ذلك دل على ظهور معجزة الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الخامسة قرىء ستدعى على المجهول وهذه السير ليست للشك عسى من الله واجب الوقوع وخصوصاً عند بشارة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأن ينتقم له من عدوه ولعل فائدة السين هو المراد من قوله عليه السلام ( لأنصرنك ولو بعد حين )

كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب
ثم قال فَاقِرَة ٌ كَلاَّ وهو ردع لأبي جهل وقيل معناه لن يصل إلى ما يتصلف به من أنه يدعو ناديه ولئن دعاهم لن ينفعوه ولن ينصروه وهو أذل وأحقر من أن يقاومك ويحتمل لن ينال ما يتمنى من طاعتك له حين نهاك عن الصلاة وقيل معناه ألا لا تطعه
ثم قال لاَ تُطِعْهُ وهو كقوله فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ وَاسْجُدْ وعند أكثر أهل التأويل أراد به صل وتوفر على عبادة الله تعالى فعلاً وإبلاغاً وليقل فكرك في هذا العدو فإن الله مقويك وناصرك وقال بعضهم بل المراد الخضوع وقال آخرون بل المراد نفس السجود في الصلاة
ثم قال وَاقْتَرِب والمراد وابتغ بسجودك قرب المنزلة منربك وفي الحديث ( أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد ) وقال بعضهم المراد اسجد يا محمد واقترب يا أبا جهل منه حتى تبصر ما ينالك من أخذ الزبانية إياك فكأنه تعالى أمره بالسجود ليزداد غيظ الكافر كقوله لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ والسبب الموجب لازدياد الغيظ هو أن الكفار كان يمنعه من القيام فيكون غيظه وغضبه عند مشاهدة السجود أتم ثم قال عند ذلك وَاقْتَرِب منه يا أبا جهل وضع قدمك عليه فإن الرجل ساجد مشغول بنفسه وهذا تهكم به واستحقار لشأنه والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة القدر
خمس آيات مكية
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أجمع المفسرون على أن المراد إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر ولكنه تعالى ترك التصريح بالذكر لأن هذا التركيب يدل على عظم القرآن من ثلاثة أوجه أحدها أنه أسند إنزاله إليه وجعله مختصاً به دون غيره والثاني أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التصريح ألا ترى أنه في السورة المتقدمة لم يذكر اسم أبي جهل ولم يخف على أحد لاشتهاره وقوله فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ لم يذكر الموت لشهرته فكذا ههنا والثالث تعظيم الوقت الذي أنزل فيه
المسألة الثانية أنه تعالى قال في بعض المواضع إِنّى كقوله إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً وفي بعض المواضع أَنَاْ كقوله إِنَّا أَنزَلْنَا فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ وأعلم أن قوله أَنَاْ تارة يراد به التعظيم وحمله على الجمع محال لأن الدلائل دلت على وحدة الصانع ولأنه لو كان في الآلهة كثرة لانحطت رتبة كل واحد منهم عن الإلهية لأنه لو كان كل واحد منهم قادراً على الكمال لاستغنى بكل واحد منهم عن كل واحد منهم وكونه مستغنى عنه نقص في حقه فيكون الكل ناقصاً وإن لم يكن كل واحد منهم قادراً على الكمال كان ناقصاً فعلمنا أن قوله أَنَاْ محمول على التعظيم لا على الجمع
المسألة الثالثة إن قيل ما معنى إنه أنزل في ليلة القدر مع العلم بأنه أنزل نجوماً قلنا فيه وجوه

أحدهما قال الشعبي ابتداء بإنزاله ليلة القدر لأن البعث كان في رمضان والثاني قال ابن عباس أنزل إلى سماء الدنيا جملة ليلة القدر ثم إلى الأرض نجوماً كما قال فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وقد ذكرنا هذه المسألة في قوله شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ لا يقال فعلى هذا القول لم لم يقل أنزلناه إلى السماء لأن إطلاقه يوهم الإنزال إلى الأرض لأنا نقول إن إنزاله إلى السماء كإنزاله إلى الأرض لأنه لم يكن ليشرع في أمر ثم لا يتمه وهو كغائب جاء إلى نواحي البلد يقال جاء فلان أو يقال الغرض من تقريبه وإنزاله إلى سماء الدنيا أن يشوقهم إلى نزوله كمن يسمع الخبر بمجيء منشور لوالده أو أمه فإنه يزداد شوقه إلى مطالعته كما قال
وأبرح ما يكون الشوق يوماً
إذا دنت الديار من الديار وهذا لأن السماء كالمشترك بيننا وبين الملائكة فهي لهم مسكن ولنا سقف وزينة كما قال وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً فإنزاله القرآن هناك كإنزاله ههنا والوجه الثالث في الجواب أن التقدير أنزلنا هذا الذكر فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ أي في فضيلة ليلة القدر وبيان شرفها
المسألة الرابعة القدر مصدر قدرت أقدر قدراً والمراد به ما يمضيه الله من الأمور قال إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ والقدر والقدر واحد إلا أنه بالتسكين مصدر وبالفتح اسم قال الواحدي القدر في اللغة بمعنى التقدير وهو جعل لشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان واختلفوا في أنه لم سميت هذه الليلة ليلة القدر على وجوه أحدهما أنها ليلة تقدير الأمور والأحكام قال عطاء عن ابن عباس أن الله قدر ما يكون في كل تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية ونظيره قوله تعالى فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ واعلم أن تقدير الله لا يحدث في تلك الليلة فإنه تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض في الأزل بل المراد إظهار تلك الليلة المقادير للملائكة في تلك الليلة بأن يكتبها في اللوح المحفوظ وهذا القول اختيار عامة العلماء الثاني نقل عن الزهري أنه قال لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ليلة العظمة والشرف من قولهم لفلان قدر عند فلان أي منزلة وشرف ويدل عليه قوله لَيْلَة ُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ثم هذا يحتمل وجهين أحدهما أن يرجع ذلك إلى الفاعل أي من أتى فيها بالطاعات صار ذا قدر وشرف وثانيهما إلى الفعل أي الطاعات لها في تلك الليلة قدر زائد وشرف زائد وعن أبي بكر الوراق سميت لَيْلَة ِ الْقَدْرِ لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي قدر على أمة لها قدر ولعل الله تعالى إنما ذكر لفظة القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب
والقول الثالث ليلة القدر أي الضيق فإن الأرض تضيق عن الملائكة
المسألة الخامسة أنه تعالى أخفى هذه الليلة لوجوه أحدها أنه تعالى أخفاها كما أخفى سائر الأشياء فإنه أخفى رضاه في الطاعات حتى يرغبوا في الكل وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء وأخفى في الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف فكذا أخفى هذه

الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان وثانيها كأنه تعالى يثول لو عينت ليلة القدر وأنا عالم بتجاسركم على المعصية فربما دعتك الشهوة في تلك الليلة إلى المعصية فوقعت في الذنب فكانت معصيتك مع علمك أشد من معصيتك لا مع علمك فلهذا السبب أخفيتها عليك روى أنه عليه السلام دخل المسجد فرأى نائماً فقال يا علي نبهه ليتوضأ فأيثظه علي ثم قال علي يا رسول الله إنك سباق إلى الخيرات فلم لم تنبهه قال لأن رده عليك ليس بكفر ففعلت ذلك لتخف جنايته لو أبى فإذا كان هذا رحمة الرسول فقس عليه رحمة الرب تعالى فكأنه تعالى يقول إذا علمت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر وإن غصيت فيها اكتسب عقاب ألف شهر ودفع العقاب أولى من جلب الثواب وثالثها أني أخفيت هذه الليلة حتى يجتهد المكلف في طلبها فيكتسب ثواب الاجتهاد ورابعها أن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر فإنه يجتهد في الطاعة في جميع ليالي رمضان على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليلة القدر فيباهي الله تعالى بهم ملائكته يقول كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء فهذا جده واجتهاده في الليلة المظنونة فكيف لو جعلتها معلومة لها فحينئذ يظهر سر قوله إِنِي أَعْلَمُ مَالاً تَعْلَمُونَ
المسألة السادسة اختلفوا في أن هذه الليلة هل تستتبع اليوم قال الشعبي نعم يومها كليلتها ولعل الوجه فيه أن ذكر الليالي يستبع الأيام ومنه إذا نذر اعتكاف ليلتين الزمناه بيوميهما قال تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً أي اليوم يخلف ليلته وبالضد
المسألة السابعة هذه الليلة هل هي باقية قال الخليل من قال إن فضلها لنزول القرآن فيها يقول انقطعت وكانت مرة والجمهور على أنها باقية وعلى هذا هل هي مختصة برمضان أم لا روى عن ابن مسعود أنه قال من يقم الحول يصبها وفسرها عكرمة بليلة البراءة في قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ والجمهور على أنها مختصة برمضان واحتجوا عليه بقوله تعالى شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقال إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ فوجب أن تكون ليلة القدر في رمضان لئلا يلزم التناقص وعلى هذا القول اختلفوا في تعيينها على ثمانية أقوال فقال ابن رزين ليلة القدر هي الليلة الأولى من رمضان وقال الحسن البصري السابعة عشرة وعن أنس مرفوعاً التاسعة عشرة وقال محمد بن إسحق الحادية والعشرون وعن ابن عباس الثالثة والعشرون وقال ابن مسعود الرابعة والعشرون وقال أبو ذر الغفاري الخامسة والعشرون وقال أبي بن كعب وجماعة من الصحابة السابعة والعشرون وقال بعضهم التاسعة والعشرون أما الذين قالوا إنها الليلة الأولى ( فقد ) قالوا روى وهب أن صحف إبراهيم أنزلت في الليلة الأولى من رمضان والتوراة ليست ليال مضين من رمضان بعد صحف إبراهيم بسبعمائة سنة وأنزل الزبور على داود لثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان بعد التوراة بخمسمائة عام وأنزل الإنجيل على عيسى لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان بعد الزبور بستمائة عام وعشرين عاماً وكان القرآن ينزل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في كل ليلة قدر من السنة إلى السنة كان جبريل عليه السلام ينزل به من بيت العزة من السماء السابعة إلى سماء الدنيا فأنزل الله تعالى القرآن في عشرين شهراً في عشرين سنة فلما كان هذا الشهر هو الشهر الذي حصلت فيه هذه الخيرات العظيمة لا جرم كان في غاية الشرف والقدر والرتبة فكانت الليلة الأولى منه ليلة القدر وأما الحسن البصري فإنه قال هي ليلة سبعة عشر لأنها ليلة كانت صبيحتها وقعة بدر وأما التاسعة

عشرة فقد روى أنس فيها خبراً وأما ليلة السابع والعشرين فقد مال الشافعي إليه لحديث الماء والطين والذي عليه المعظم أنها ليلة السابع والعشرين وذكروا فيه أمارات ضعيفة أحدها حديث ابن عباس أن السورة ثلاثون كلمة وقوله هِى َ هي السابعة والعشرون منها وثانيها روى أن عمر سأل الصحابة ثم قال لابن عباس غص يا غواص فقال زيد بن ثابت أحضرت أولاد المهاجرين وماأحضرت أولادنا فقال عمر لعلك تقول إن هذا غلام ولكن عنده ما ليس عندكم فقال ابن عباس أحب الأعداد إلى الله تعالى الوتر أحب الوتر إليه السبعة فذكر السموات السبع والأرضين السبع والأسبوع ودركات النار وعدد الطواف والأعضاء السبعة فدل على أنها السابعة والعشرون وثالثها نقل أيضاً عن ابن عباس أنه قال لَيْلَة ِ الْقَدْرِ تسعة أحرف وهو مذكور ثلاث مرات فتكون السابعة والعشرين ورابعها أنه كان لعثمان بن أبي العاص غلام فقال يا مولاي إن البحر يعذب ماؤه ليلة من الشهر قال إذا كانت تلك الليلة فأعلمني فإذا هي السابعة والعشرون من رمضان وأما من قال إنها الليلة الأخيرة قال لأنها هي الليلة التي تتم فيها طاعات هذا الشهر بل أول رمضان كآدم وآخره كمحمد ولذلك روى في الحديث يعتق في آخر رمضان بعدد ما أعتق من أول الشهر بل الليلة الأولى كمن ولد له ذكر فهي ليلة شكر والأخيرة ليلة الفراق كمن مات له ولد فهي ليلة صبر وقد علمت فرق ما بين الصبر والشكر
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَة ُ الْقَدْرِ
ثم قال تعالى وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَة ُ الْقَدْرِ يعني ولم تبلغ درايتك غاية فضلهاومنتهى علو قدرها ثم إنه تعالى بين فضيلتها من ثلاثة أوجه
لَيْلَة ُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ
الأول قوله تعالى لَيْلَة ُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير الآية وجوه أحدها أن العبادة فيها خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ليس فيها هذه الليلة لأنه كالمستحيل أن يقال إنها خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ فيها هذه الليلة وإنما كان كذلك لما يزيد الله فيها من المنافع والأرزاق وأنواع الخير وثانيها قال مجاهد كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد حتى يمسي فعل ذلك ألف شهر فتعجب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمون من ذلك فأنزل الله هذه الآية أي ليلة القدر لأمتك خير من ألف شهر لذلك الإسرائيلي الذي حمل السلاح ألف شهر وثالثها قال مالك بن أنس أرى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعمار الناس فاستقصر أعمار أمته وخاف أن لا يبلغوا من الأعمال مثل ما بلغه سائر الأمم فأعطاه الله ليلة القدر وهي خير من ألف شهر لسائر الأمم ورابعها روى القاسم بن فضل عن عيسى بن مازن قال قلت للحسن بن علي عليه السلام يا مسود وجوه المؤمنين عمدت إلى هذا الرجل فبايعت له يعني معاوية فقال إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رأى في منامه بني أمية يطؤن منبره واحداً بعد واحد وفي رواية ينزون على منبره نزو القردة فشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ إلى قوله خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ يعني ملك بني أمية قال القاسم فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر طعن القاضي في هذه الوجوه فقال ما ذكر من أَلْفِ شَهْرٍ في أيام بني أمية بعيد لأنه تعالى لا يذكر فضلها بذكر ألف شهر مذمومة وأيام بني أمية كانت مذمومة

واعلم أن هذا الطعن ضعيف وذلك لأن أيام بني أمية كانت أياماً عظيمة بحسب السعادات الدنيوية فلا يمتنع أن يقول الله تعالى إني أعطيتك ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من تلك السعادات الدنيوية
المسألة الثانية هذه الآية فيها بشارة عظيمة وفيها تهديد عظيم أما البشارة فهي أنه تعالى ذكر أن هذه الليلة خير ولم يبين قدر الخيرية وهذا كقوله عليه السلام لمبارزة علي عليه السلام مع عمرو بن عبد ود ( العامري ) أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة فلم يقل مثل عمله بل قال أفضل كأنه يقول حسبك هذا من الوزن والباقي جزاف
واعلم أن من أحياها فكأنما عبد الله تعالى نيفاً وثمانين سنة ومن أحياها كل سنة فكأنه رزق أعماراً كثيرة ومن أحيا الشهر لينالها بيقين فكأنه أحيا ثلاثين قدراً يروى أنه يجاء يوم القيامة بالإسرائيلي الذي عبد الله أربعمائة سنة ويجاء برجل من هذه الأمة وقد عبد الله أربعين سنة فيكون ثوابه أكثر فيقول الإسرائيلي أنت العدل وأرى ثوابه أكثر فيقول إنهكم كنتم تخافون العقوبة المعجلة فتعبدون وأمة محمد كانوا آمنين لقوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ثم إنهم كانوا يعبدون فلهذا السبب كانت عبادتهم أكثر ثواباً وأما التهديد فهو أنه تعالى توعد صاحب الكبيرة بالدخول في النار وأن إحياء مائة ليلة من القدر لا يخلصه عن ذلك العذاب المستحق بتطفيف حبة واحدة فلهذا فيه إشارة إلى تعظيم حال الذنب والمعصية
المسألة الثالثة لقائل أن يقول صح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أجرك على قدر نصبك ) ومن المعلوم أن الطاعة في ألف شهر أضق من الطاعة في ليلة واحدة فكيف يعقل استواؤهما والجواب من وجوه أحدها أن الفعل الواحد قد يختلف حاله في الحسن والقبح بسبب اختلاف الوجوه المنضمة إليه ألا ترى أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بكذا درجة مع أن الصورة قد تنتقض فإن المسبوق سقطت عنه ركعة واحدة وأيضاً فأنت تقول لمن يرجم إنه إنما يرجم إنه زان فهو قول حسن ولو قلته للنصراني فقذف يوجب التعزيز ولو قلته للمحصن فهو يوجب الحد فقد اختلفت الأحكام في هذه المواضع مع أن الصورة واحدة في الكل بل لو قلته في حق عائشة كان كفراً ولذلك قال وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ وذلك لأن هذا طعن في حق عائشة التي كانت رحلة في العلم لقوله عليه السلام ( خذوا ثلثي دينكم من هذه الحميراء ) وطعن في صفوان مع أنه كان رجلاً بدرياً وطعن في كافة المؤمنين لأنها أم المؤمنين وللولد حق المطالبة بقذف الأم وإن كان كافراً بل طعن في النبي الذي كان أشد خلق الله غيره بل طعن في حكمة الله إذ لا يجوز أن يتركه حتى يتزوج بامرأة زانية ثم القائل بقوله هذا زان فقد ظن أن هذه اللفظة سهلة مع أنها أثقل من الجبال فقد ثبت بهذا أن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب لاختلاف وجوهها فلا يبعد أن تكون الطاعة القليلة في الصورة مساوية في الثواب للطاعات الكثيرة والوجه الثاني في الجواب أن مقصود الحكيم سبحانه أن يجر الخلق إلى الطاعات فتارة يجعل ثمن الطاعة ضعفين فقال إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ومرة عشراً ومرة سبعمائة وتارة بحسب الأزمنة وتارة بحسب الأمكنة والمقصود الأصلي من الكل جر المكلف إلى الطاعة وصرفه عن الاشتغال بالدنيا فتارة يرجح البيت وزمزم على سائر البلاد وتارة يفضل رمضان على سائر الشهور وتارة

يفضل الجمعة على سائر الأيام وتارة يفضل ليلة القدر على سائر الليالي والمقصود ما ذكرناه الوجه الثاني من فضائل هذه الليلة
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ
قوله تعالى تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ وَالرُّوحُ فِيهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن نظر الملائكة على الأرواح ونظر البشر على الأشباح ثم إن الملائكة لما رأوا روحك محلاً للصفات الذميمة من الشهوة والغضب ما قبلوك فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء وأبواك لما رأوا قبح صورتك في أول الأمر حين كنت منياً وعلقة ما قبلوك أيضاً بل أظهروا النفرة واستقذروا ذلك المني والعلقة وغسلوا ثيابهم عنه ثم كم احتالوا للإسقاط والإبطال ثم إنه تعالى لما أعطاك الصورة الحسنة فالأبوان لما رأوا تلك الصورة الحسنة قبلوك ومالوا إليك فكذا الملائكة لما رأوا في روحك الصورة الحسنة وهي معرفة الله وطاعته أحبوك فنزلوا إليك معتذرين عما قالوه أولاً فهذا هو المراد من قوله تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ فإذا نزلوا إليك رأوا روحك في ظلمة ليل البدن وظلمة القوى الجسمانية فحينئذ يعتذرون عما تقدم وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ
المسألة الثانية أن قوله تعالى تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ يقتضي ظاهره نزول كل الملائكة ثم الملائكة لهم كثرة عظيمة لا تحتمل كلهم الأرض فلهذا السبب اختلفوا فقال بعضهم إنها تنزل بأسرها إلى السماء الدنيا فإن قيل الإشكال بعد باق لأن السما مملوءة بحيث لا يوجد فيها موضع إهاب إلا وفيه ملك فكيف تسع الجميع سماء واحدة قلنا يقضي بعموم الكتاب على خبر الواحد كيف والمروي إنهم ينزلون فوجاً فوجاً فمن نازل وصاعد كأهل الحج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة بالكلية لكن الناس بين داخل وخارج ولهذا السبب مدت إلى غاية طلوع الفجر فلذلك ذكر بلفظ تُنَزَّلَ الذي يفيد المرة بعد المرة
والقول الثاني وهو اختيار الأكثرين أنهم ينزلون إلى الأرض وهو الأوجه لأن الغرض هو الترغيب في إحياء هذه الليلة ولأنه دلت الأحاديث على أن الملائكة ينزلون في سائر الأيام إلى مجالس الذكر والدين فلأن يحصل ذلك في هذه الليلة مع علو شأنها أولى ولأن النزول المطلق لا يفيد إلا النزول من السماء إلى الأرض ثم اختلف من قال ينزلون إلى الأرض على وجوه أحدها قال بعضهم ينزلون ليروا عبادة البشر وحدهم واجتهادهم في الطاعة وثانيها أن الملائكة قالوا وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ فهذا يدل على أنهم كانوا مأمورين بذلك النزول فلا يدل على غاية المحبة
وأما هذه الآية وهو قوله بِإِذْنِ رَبّهِمْ فإنها تدل على أنهم استأذنوا أولاً فأذنوا وذلك يدل على غاية المحبة لأنهم كانوا يرغبون إلينا ويتمنون لقاءنا لكن كانوا ينتظرون الإذن فإن قيل قوله وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ينافي قوله تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ قلنا نصرف الحالتين إلى زمانين مختلفين

وثالثها أنه تعالى وعد في الآخرة أن الملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ فههنا في الدنيا إن اشتغلت بعبادتي نزلت الملائكة عليك حتى يدخلوا عليك للتسلم والزيارة روى عن علي عليه السلام ( أنهم ينزلون ليسلموا علينا وليشفعوا لنا فمن أصابته التسليمة غفر له ذنبه ) ورابعها أن الله تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الاشتغال بطاعته في الأرض فهم ينزلون إلى الأرض لتصير طاعاتهم أكثر ثواباً كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعته هناك أكثر ثواباً وكل ذلك ترغيب للإنسان في الطاعة وخامسها أن الإنسان يأتي بالطاعات والخيرات عند حضور الأكابر من العلماء والزهاد أحسن مما يكون في الخلوة فالله تعالى أنزل الملائكة المقربين حتى أن المكلف يعلم أنه إنما يأتي بالطاعات في حضور أولئك العلماء العباد الزهاد فيكون أتم وعن النقصان أبعد وسادسها أن من الناس من خص لفظ الملائكة ببعض فرق الملائكة عن كعب أن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة مما يلي الجنة فهي على حد هواء الدنيا وهواء الآخرة وساقها في الجنة وأغصانها تحت الكرسي فيها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله يعبدون الله ومقام جبريل في وسطها ليس فيها ملك إلا وقد أعطى الرأفة والرحمة للمؤمنين ينزلون مع جبريل ليلة القدر فلا تبقى بقعة من الأرض إلا وعليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات وجبريل لا يدع أحداً من الناس إلا صافحهم وعلامة ذلك من اقشعر جلده ورق قلبه ودمعت عيناه فإن ذلك من مصافحة جبريل عليه السلام من قال فيها ثلاث مرات لا إله إلا الله غفر له بواحدة ونجاه من النار بواحدة وأدخله الجنة بواحدة وأول من يصعد جبريل حتى يصير أمام الشمس فيبسط جناحين أخضرين لا ينشرهما إلا تلك الساعة من تلك الليلة ثم يدعو ملكاً ملكاً فيصعد الكل ويجتمع نور الملائكة ونور جناح جبريل عليه السلام فيقيم جبريل ومن معه من الملائكة بين الشمس وسماء الدنيا يومهم ذلك مشغولين بالدعاء والرحمة والاستغفار للمؤمنين ولمن صام رمضان احتساباً فإذا أمسوا دخلوا سماء الدنيا فيجلسون حلقاً حلقاً فتجمع إليهم ملائكة السماء فيسألونهم عن رجل رجل وعن امرأة امرأة حتى يقولوا ما فعل فلان وكيف وجدتموه فيقولون وجدناه عام أول متعبداً وفي هذا العام مبتدعاً وفلان كان عام أول مبتدعاً وهذا العام متعبداً فيكفون عن الدعاء للأول ويشتغلون بالدعاء للثاني ووجدنا فلاناً تالياً وفلاناً راكعاً وفلاناً ساجداً فهم كذلك يومهم وليلتهم حتى يصعدوا السماء الثانية وهكذا يفعلون في كل سماء حتى ينتهوا إلى السدرة فتقول لهم السدرة يا سكاني حدثوني عن الناس فإن لي عليكم حقاً وإني أحب من أحب الله فذكر كعب أنهم يعدون لها الرجل والمرأة بأسمائهم وأسماء آبائهم ثم يصل ذلك الخبر إلى الجنة فتقول الجنة اللهم عجلهم إلي والملائكة وأهل السدرة يقولون آمين آمين إذا عرفت هذا فنقول كلما كان الجمع أعظم كان نزول الرحمة هناك أكثر ولذلك فإن أعظم الجموع في موثق الحج لا جرم كان نزول الرحمة هناك أكثر فكذا في ليلة القدر يحصل مجمع الملائكة المقربين فلا جرم كان نزل الرحمة أكثر
المسألة الثالثة ذكروا في الروح أقوالاً أحدها أنه ملك عظيم لو التقم السموات والأرضين كان ذلك له لقمة واحدة وثانيها طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا ليلة القدر كالزهاد الذين لا نراهم إلا يوم العيد وثالثها خلق من خلق الله يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس ولعلهم خدم أهل الجنة ورابعها يحتمل أنه عيسى عليه السلام لأنه اسمه ثم إنه ينزل في مواقفة الملائك ليطلع على أمة محمد وخامسها أنه القرآن وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا وسادسها الرحمة

قرىء لا يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن بالرفع كأنه تعالى يقول الملائكة ينزلون رحمتي تنزل في أثرهم فيجدون سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وسابعها الروح أشرف الملائكة وثامنها عن أبي نجيح الروح هم الحفظة والكرام الكاتبون فصاحب اليمين يكتب إتيانه بالواجب وصاحب الشمال يكتب تركه للقبيح والأصح أن الروح ههنا جبريل وتخصيصه بالذكر لزيادة شرفه كأنه تعالى يقول الملائكة في كفة والروح في كفة
أما قوله تعالى بِإِذْنِ رَبّهِمْ فقد ذكرنا أن هذا يدل على أنهم كانوا مشتاقين إلينا فإن قيل كيف يرغبون إلينا مع علمهم بكثرة معاصينا قلنا إنهم لا يقفون على تفصيل المعاصي روى أنهم يطالعون اللوح فيرون فيه طاعة المكلف مفصلة فإذا وصلوا إلى معاصيه أرخى الستر فلا ترونها فحينئذ يقول سبحان من أظهر الجميل وستر على القبيح ثم قد ذكرنا فوائد في نزولهم ونذكر الآن فوائد أخرى وحاصلها أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات أشياء ما رأوها في عالم السموات أحدها أن الأغنياء يجيئون بالطعام من بيوتهم فيجعلونه ضيافة للفقراء والفقراء يأكلون طعام الأغنياء ويعبدون الله وهذا نوع من الطاعة لا يوجد في السموات وثانيها أنهم يسمعون أنين العصاة وهذا لا يوجد في السموات وثالثها أنه تعالى قال ( لأنين المذنبين أحب إلي من زجل المسبحين ) فقالوا تعالوا نذهب إلى الأرض فنسمع صوتاً هو أحب إلى ربنا من صوت تسبيحنا وكيف لا يكون أحب وزجل المسبحين إظهار لكمال حال المطيعين وأنين العصاة إظهار لغفارية رب الأرض والسموات ( وهذه هي المسألة الأولى )
المسألة الثانية هذه الآية دالة على عصمة الملائكة ونظيرها قوله وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ وقوله لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وفيها دقيقة وهي أنه تعالى لم يقل مأذونين بل قال بِإِذْنِ رَبّهِمْ وهو إشارة إلى أنهم لا يتصرفون تصرفاً ما إلا بإذنه ومن ذلك قول الرجل لامرأته إن خرجت إلا بإذني فإنه يعتبر الإذن في كل خرجة
المسألة الثالثة قوله رَّبُّهُمْ يفيد تعظيماً للملائكة وتحقيراً للعصاة كأنه تعالى قال كانوا لي فكنت لهم ونظيره في حقنا إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وقال لمحمد عليه السلام وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ ونظيره ما روى أن داود لما مرض مرض الموت قال إلهي كن لسليمان كما كنت لي فنزل الوحي وقال قل لسليمان فليكن لي كما كنت لي وروى عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه فقد الضيف أياماً فخرج بالسفرة ليلتمس ضيفاً فإذا بخيمة فنادى أتريدون الضيف فقيل نعم فقال للمضيف أيوجد عندك إدام لبن أو عسل فرفع الرجل صخرتين فضرب إحداهما بالأخرى فانشقا فخرج من إحداهما اللبن ومن الأخرى العسل فتعجب إبراهيم وقال إلهي أنا خليلك ولم أجد مثل ذلك الإكرام فماله فنزل الوحي يا خليلي كان لنا فكنا له

أما قوله تعالى مّن كُلّ أَمْرٍ فمعناه تنزل الملائكة والروح فيها من أجل كل أمر والمعنى أن كل واحد منهم إنما نزل لمهم آخر ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها أنهم كانوا في أشغال كثيرة فبعضهم للركوع وبعضهم للسجود وبعضهم بالدعاء وكذا القول في التفكر والتعليم وإبلاغ الوحي وبعضهم لإدراك فضيلة الليلة أو ليسلموا على المؤمنين وثانيها وهو قول الأكثرين من أجل كل أمر قدر في تلك السنة من خير أو شر وفيه إشارة إلى أن نزولهم إنما كان عبادة فكأنهم قالوا ما نزلنا إلى الأرض لهوى أنفسنا لكن لأجل كل أمر فيه مصلحة المكلفين وعم لفظ الأمر ليعم خير الدنيا والآخرة بياناً منه أنهم ينزلون بما هو صلاح المكلف في دينه ودنياه كأن السائل يقول من أين جئت فيقول مالك وهذا الفضول ولكن قل لأي أمر جئت لأنه حظك وثالثها قرأ بعضهم مِن كُلّ امْرِىء أي من أجل كل إنسان وروى أنهم لا يلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلا سلموا عليه قيل أليس أنه قد روى أنه تقسم الآجال والأرزاق ليلة النصف من شعبان والآن تقولون إن ذلك يكون ليلة القدر قلنا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله يقدر المقادير في ليلة البراءة فإذا كان ليلة القدر يسلمها إلى أربابها ) وقيل يقدر ليلة البراءة الآجال والأرزاق وليلة القدر يقدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة وقيل يقدر في ليلة القدر ما يتعلق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين وأما ليلة البراءة فيكتب فيها أسماء من يموت ويسلم إلى ملك الموت
سَلَامٌ هِى َ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ
الوجه الثالث من فضائل هذه الليلة قوله تعالى سَلَامٌ هِى َ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله سلام وجوه أحدها أن ليلة القدر إلى طلوع الفجر سلام أي تسلم الملائكة على المطيعين وذلك لأن الملائكة ينزلون فوجاً فوجاً من ابتداء الليل إلى طلوع الفجر فترادف النزول لكثرة السلام وثانيها وصفت الليلة بأنها سلام ثم يجب أن لا يستحقر هذا السلام لأن سبعة من الملائكة سلموا على الخليل في قصة العجل الحنيذ فازداد فرحع بذلك على فرحع بملك الدنيا بل الخليل لما سلم الملائكة عليه صار نار نمروذ عليه بَرْداً وَسَلَامَا أفلا تصير ناره تعالى ببركة تسليم الملائكة علينا برداً وسلاماً لكن ضيافة الخليل لهم كانت عجلاً مشوياً وهم يريدون منا قلباً مشوياً بل فيه دقيقة وهي إظهار فضل هذه الأمة فإن هناك الملائكة نزلوا على الخليل وههنا نزلوا على أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها أنه سلام من الشرور والآفات أي سلامة وهذا كما يقال إنما فلان حج وغزو أي هو أبداً مشغول بهما ومثله ( فإنما هي إقبال وإدبار )
وقالوا تنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بالخيرات والسعادات ولا ينزل فيها من تقدير المضار شيء فما ينزل في هذه الليلة فهو سلام أي سلامة ونفع وخير ورابعها قال أبو مسلم سلام أي الليلة سالمة عن الرياح والأذى والصواعق إلى ما شابه ذلك وخامسها سلام لا يستطيع الشيطان فيها سوءاً وسادسها

أن الوقف عند قوله مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَامٌ فيتصل السلام بما قبله ومعناه أن تقدير الخير والبركة والسلامة يدوم إلى طلوع الفجر وهذا الوجه ضعيف وسابعها أنها من أولها إلى مطلع الفجر سالمة في أن العبادة في كل واحد من أجزائها خير من ألف شهر ليست كسائر الليالي في أنه يستحب للفرض الثلث الأول وللعبادة النصف وللدعاء السحر بل هي متساوية الأوقات والأجزاء وثامنها سلام هي أي جنة هي لأن من أسماء الجنة دار السلام أي الجنة المصوغة من السلامة
المسألة الثانية المطلع الطلوع يقال طلع الفجر طلوعاً ومطلعاً والمعنى أنه يدوم ذلك السلام إلى طلوع الفجر ومن قرأ بكسر اللام فهو اسم لوقت الطلوع وكذا مكان الطلوع مطلع قاله الزجاج أما أبو عبيدة والفراء وغيرهما فإنهم اختاروا فتح اللام لأنه بمعنى المصدر وقالوا الكسر اسم نحو المشرق ولا معنى لاسم موضع الطلوع ههنا بل إن حمل على ما ذكره الزجاج من اسم وقت الطلوع صح قال أبو علي ويمكن حمله على المصدر أيضاً لأن من المصادر التي ينبغي أن تكون على المفعل ما قد كسر كقولهم علاء المكبر والمعجز قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ فكذلك كسر المطلع جاء شاذاً عما عليه بابه والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة البينة
وهي ثمانية آيات مدنية
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَة ُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَة ً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَة ٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَة ُ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَة ُ رَسُولٌ مّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَة ً فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَة ٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَة ُ
إعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي في كتاب البسيط هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً وقد تخبط فيها الكبار من العلماء ثم إنه رحمه الله تعالى لم يلخص كيفية الإشكال فيها وأنا أقول وجه الإشكال أن تقدير الآية لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُنفَكّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَة ُ التي هي الرسول ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا لكنه معلوم إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه فصار التقدير لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول ثم إن كلمة حتى لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول ثم قال بعد ذلك وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَة ُ وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر هذا منتهى الإشكال فيما أظن والجواب عنه من وجوه أولها وأحسنها الوجه الذي لخصه صاحب الكشاف وهو أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأوثان كانوا يقولون قبل مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى

يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل وهو محمد عليه السلام فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه لست أمتنع مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى فلما رزقه الله الغنى ازداد فسقاً فيقول واعظه لم تكن منفكاً عن الفسق حتى توسر وما عمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار بذكره ما كان يقوله توبيخاً وإلزاماً وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد وهو أن قوله لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُنفَكّينَ عن كفرهم حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَة ُ مذكورة حكاية عنهم وقوله وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ هو إخبار عن الواقع والمعنى أن الذي وقع كان على خلاف ما ادعوا وثانيها أن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وعلى هذا التقدير يزول الإشكال هكذا ذكره القاضي إلا أن تفسير لفظة حتى بهذا ليس من اللغة في شيء وثالثها أنا لا نحمل قوله مُنفَكّينَ على الكفر بل على كونهم منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل والمعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل حتى تأتيهم البينة قال ابن عرفة أي حتى أتتهم فاللفظ لفظ المضارع ومعناه الماضي وهو كقوله تعالى مَا تَتْلُواْ الشَّياطِينِ أي ما تلت والمعنى أنهم ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه ثم لما جاءهم محمد تفرقوا فيه وقال كل واحد فيه قولاً آخر ردياً ونظيره قوله تعالى وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ والقول المختار في هذه الآية هو الأول وفي الآية وجه رابع وهو أنه تعالى حكم على الكفار أنهم ما كانوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجيء الرسول وكلمة حتى تقتضي أن يكون الحال بعد ذلك بخلاف ما كان قبل ذلك والأمر هكذا كان لأن ذلك المجموع ما بقوا على الكفر بل تفرقوا فمنهم من صار مؤمناً ومنهم من صار كافراً ولما لم يبق حال أولئك الجمع بعد مجيء الرسول كما كان قبل مجيئه كفى ذلك في العمل بمدلول لفظ حتى وفيها وجه خامس وهو أن الكفار كانوا قبل مبعث الرسول منفكين عن التردد في كفرهم بل كانوا جازمين به معتقدين حقيقته ثم زال ذلك الجزم بعد مبعث الرسول بل بقوا شاكين متحيرين في ذلك الدين وفي سائر الأديان ونظيره قوله كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ والمعنى أن الدين الذي كانوا عليه صار كأنه اختلط بلحمهم ودمهم فاليهودي كان جازماً في يهوديته وكذا النصراني وعابد الوثن فلما بعث محمد عليه الصلاة والسلام اضطربت الخواطر والأفكار وتشكك كل أحد في دينه ومذهبه ومقالته وقوله مُنفَكّينَ مشعر بهذا لأن انفكاك الشيء عن الشيء هو انفصاله عنه فمعناه أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد وما انفصلت عن الجزم بصحتها ثم إن بعد المعبث لم يبق الأمر على تلك الحالة
المسألة الثانية الكفار كانوا جنسين أحدهما أهل الكتاب كفرق اليهود والنصارى وكانوا كفاراً بإحداثهم في دينهم ما كفروا به كقولهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ و الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وتحريفهم كتاب الله ودينه والثاني المشركون الذين كانوا لا ينسبون إلى كتاب فذكر الله تعالى الجنسين بقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ على الإجمال ثم أردف ذلك الإجمال بالتفضل وهو قوله مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وههنا سؤالان

السؤال الأول تقدير الآية لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين فهذا يقتضي أن أهل الكتاب منهم كافر ومنهم ليس بكافر وهذا حق وأن المشركين منهم كافر ومنهم ليس بكافر ومعلوم أن ليس بحق والجواب من وجوه أحدها كلمة من ههنا ليست للتبعيض بل للتبيين كقوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ وثانيها أن الذين كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام بعضهم من أهل الكتاب وذلك لأن النصارى مثلثة واليهود عامتهم مشبهة وهذا كله شرك وقد يقول القائل جاءني العقلاء والظرفاء يريد بذلك قوماً بأعيانهم يصفهم بالأمرين وقال تعالى الركِعُونَ السَّاجِدونَ الاْمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ وهذا وصف لطائفة واحدة وفي القرآن من هذا الباب كثير وهو أن ينعت قوم بنعوت شتى يعطف بعضها على بعض بواو العطف ويكون الكل وصفاً لموصوف واحد
السؤال الثاني المجوس هل يدخلون في أهل الكتاب قلنا ذكر بعض العلماء أنهم داخلون في أهل الكتاب لقوله عليه السلام ( سنوليهم سنة أهل الكتاب ) وأنكره الآخرون قال لأنه تعالى إنما ذكر من الكفار من كان في بلاد العرب وهم اليهود والنصارى قال تعالى حكاية عنهم أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا والطائفتان هم اليهود والنصارى
السؤال الثالث ما الفائدة في تقديم أهل الكتاب في الكفر على المشركين حيث قال لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ الجواب أن الواو لا تفيد الترتيب ومع هذا ففيه فوائد أحدها أن السورة مدنية فكأن أهل الكتاب هم المقصودون بالذكر وثانيها أنهم كانوا علماء بالكتب فكانت قدرتهم على معرفة صدق محمد أتم فكان إصرارهم على الكفر أقبح وثالثها أنهم لكونهم علماء يقتدي غيرهم بهم فكان كفرهم أصلاً لكفر غيرهم فلهذا قدموا في الذكر ورابعها أنهم لكونهم علماء أشرف من غيرهم فقدموا في الذكر
السؤال الرابع لم قال من أهل الكتاب ولم يقل من اليهود والنصارى الجواب لأن قوله مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يدل على كونهم علماء وذلك يقتضي إما مزيد تعظيم فلا جرم ذكروا بهذا اللقب دون اليهود والنصارى أو لأن كونه عالماً يقتضي مزيد قبح في كفره فذكروا بهذا الوصف تنبيهاً على تلك الزيادة من العقاب
المسألة الثانية هذه الآية فيها أحكام تتعلق بالشرع أحدها أنه تعالى فسر قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ بأهل الكتاب وبالمشركين فهذا يقتضي كون الكل واحداً في الكفر فمن ذلك قال العلماء الكفر كله ملة واحدة فالمشرك يرث اليهودي وبالعكس والثاني أن العطف أوجب المغايرة فلذلك نقول الذمي ليس بمشرك وقال عليه السلام ( غيرنا كحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ) فأثبت التفرقة بين الكتابي والمشرك الثالث نبه بذكر أهل الكتاب أنه لا يجوز الاغترار بأهل العلم إذ قد حدث في أهل القرآن مثل ما حدث في الأمم الماضية
المسألة الرابعة قال القفال الانفكاك هو انفراج الشيء عن الشيء وأصله من الفك وهو الفتح

والزوال ومنه فككت الكتاب إذا أزلت ختمه ففتحته ومنه فكاك الرهن وهو زوال الإنغلاق الذي كان عليه ألا ترى أن ضد قوله انفك الرهن ومنه فكاك الأسير وفكه فثبت أن انفكاك الشيء عن الشيء هو أن يزيله بعد التحامه به كالعظم إذا انفك من مفصله والمعنى أنهم متشبثون بدينهم تشبثاً قوياً لا يزيلونه إلا عند مجيء البينة أما البينة فهي الحجة الظاهرة التي بها يتيمز الحق من الباطل فهي من البيان أو البينونة لأنها تبين الحق من الباطل وفي المراد من البينة في هذه الآية أقوال
الأول أنها هي الرسول ثم ذكروا في أنه لم سمي الرسول بالبينة وجوهاً الأول أن ذاته كانت بينة على نبوته وذلك لأنه عليه السلام كان في نهاية الجد في تقرير النبوة والرسالة ومن كان كذاباً متصنعاً فإنه لا يتأتى منه ذلك الجد المتناهي فلم يبق إلا أن يكون صادقاً أو معتوهاً والثاني معلوم البطلان لأنه كان في غاية كمال العقل فلم يبق إلا أنه كان صادقاً الثاني أن مجموع الأخلاف الحاصلة فيه كان بالغاً إلى حد كمال الإعجاز والجاحظ قرر هذا المعنى والغزالي رحمه الله نصره في كتاب المنقذ فإذاً لهذين الوجهين سمي هو في نفسه بأنه بينة الثالث أن معجزاته عليه الصلاة والسلام كانت في غاية الظهور وكانت أيضاً في غاية الكثرة فلاجتماع هذين الأمرين جعل كأنه عليه السلام في نفسه بينة وحجة ولذلك سماه الله تعالى سِرَاجاً مُّنِيراً واحتج القائلون بأن المراد من البينة هو الرسول بقوله تعالى بعد هذه الآية رَسُولٌ مّنَ اللَّهِ فهو رفع على البدن من البينة وقرأ عبد الله رَسُولاً حال من البينة قالوا والألف واللام في قوله الْبَيّنَة ُ للتعريف أي هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى أو يقال إنها للتفخيم أي هو الْبَيّنَة ُ التي لا مزيد عليها أو البينة كل البينة لأن التعريف قد يكون للتفخيم وكذا التنكير وقد جمعهما الله ههنا في حق الرسول عليه لسلام فبدأ بالتعريف وهو لفظ البينة ثم ثنى بالتنكير فقال رَسُولٌ مّنَ اللَّهِ أي هو رسول وأي رسول ونظيره ما ذكره الله تعالى في الثناء على نفسه فقال ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ثم قال فَعَّالٌ فنكر بعد التعريف
القول الثاني أن المراد من الْبَيّنَة ُ مطلق الرسل وهو قول أبي مسلم قال المراد من قوله حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَة ُ أي حتى تأتيهم رسل من ملائكة الله تتلوا عليهم صحفاً مطهرة وهو كقوله يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السَّمَاء وكقوله بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىء مّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَة ً
القول الثالث وهو قتادة وابن زيد الْبَيّنَة ُ هي القرآن ونظيره قوله أَوَ لَمْ تَأْتِيَهُمُ بَيّنَة ُ مَا فِى الصُّحُفِ الاْولَى ثم قوله بعد ذلك رَسُولٌ مّنَ اللَّهِ لا بد فيه من مضاف محذوف والتقدير وتلك البينة وحي رَسُولٌ مّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَة ً
أما قوله تعالى يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَة ً فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَة ٌ فاعلم أن الصحف جمع صحيفة وهي ظرف للمكتوب وفي المطهرة وجوه أحدها مَّرْفُوعَة ٍ مُّطَهَّرَة ٍ عن الباطل وهي كقوله لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ وقوله مَّرْفُوعَة ٍ مُّطَهَّرَة ٍ وثانيها مطهرة عن الذكر القبيح فإن القرآن يذكر بأحسن الذكر ويثني عليه أحسن الثناء وثالثها أن يقال مطهرة أي ينبغي أن لا يمسها إلا المطهرون كقوله تعالى فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ

واعلم أن المطهرة وإن جرت نعتاً للصحف في الظاهر فهي نعت لما في الصحف وهو القرآن وقوله كِتَابَ فيه قولان أَحَدُهُمَا المراد من الكتب الآيات المكتوبة في الصحف والثاني قال صاحب النظم الكتب قد يكون بمعنى الحكم كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ ومنه حديث العسيف ( لأقضين بينكما بكتاب الله ) أي بحكم الله فيحتمل أن يكون المراد من قوله كُتُبٌ قَيّمَة ٌ أي أحكام قيمة أما القيمة ففيها قولانالأول قال الزجاج مستقيمة لا عوج فيها تبين الحق من الباطل من قام يقوم كالسيد والميت وهو كقولهم قام الدليل على كذا إذا ظهر واستقام الثاني أن تكون القيمة بمعنى القائمة أي هي قائمة مستقلة بالحجة والدلالة من قولهم قام فلان بالأمر يقوم به إذا أجراه على وجهه ومنه يقال للقائم بأمر القوم القيم فإن قيل كيف نسب تلاوة الصحف المطهرة إلى الرسول مع أنه كان أمياً قلنا إذا تلا مثلاً المسطور في تلك الصحف كان تالياً ما فيها وقد جاء في كتاب منسوب إلى جعفر الصادق أنه عليه السلام كان يقرأ من الكتاب وإن كان لا يكتب ولعل هذا كان من معجزاته ( صلى الله عليه وسلم )
وأما قوله تعالى وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَة ُ ففيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية سؤال وهو أنه تعالى ذكر في أول السورة أهل الكتاب والمشركين وههنا ذكر أهل الكتاب فقط فما السبب فيه وجوابه من وجوه أحدها أن المشركين لم يقروا على دينهم فمن آمن فهو المراد ومن لم يؤمن قتل بخلاف أهل الكتاب الذين يقرون على كفرهم ببذل الجزية وثانيها أن أهل الكتاب كانوا عالمين بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب أنهم وجدوها في كتبهم فإذا وصفوا بالتفرق مع العلم كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف
المسألة الثانية قال الجبائي هذه الآية تبطل قول القدرية الذين قالوا إن الناس تفرقوا في الشقاوة والسعادة في أصلاب الآباء قبل أن تأتيهم البينة والجواب أن هذا ركيك لأن المراد منه أن علم الله بذلك وإرادته له حاصل في الأزل أما ظهروه من المكلف فإنما وقع بعد الحالة المخصوصة
المسألة الثالثة قالوا هذه الآية دالة على أن الكفر والتفرق فعلمهم لا أنه مقدر عليهم لأنه قال إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَة ُ ثم قال أُمُّ الْكِتَابِ أي أن الله وملائكته آتاهم ذلك فالخير والتوفيق مضاف إلى الله والشر والتفرق والكفر مضاف إليهم
المسألة الرابعة المقصود من هذه الآية تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أي لا يغمنك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبت وعبادة العجل إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَة ُ فهي عادة قديمة لهم
وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُواْ الزَّكَواة َ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَة ِ
أما قوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُواْ الزكاة وذلك دين القيمة وفيه مسائل

المسألة الأولى في قوله وَمَا أُمِرُواْ وجهان أحدهما أن يكون المراد وَمَا أُمِرُواْ في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي فيكون المراد أنهم كانوا مأمورين بذلك إلا أنه تعالى لما أتبعه بقوله وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَة ِ علمنا أن ذلك الحكم كما أنه كان مشروعاً في حقهم فهو مشروع في حقنا وثانيها أن يكون المراد وما أمر أهل الكتاب على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلا بهذه الأشياء وهذا أولى لثلاثة أوجه أحدها أن الآية على هذا التقدير تفيد شرعاً جديداً وحمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة أولى وثانيها وهو أن ذكر محمد عليه السلام قد مر ههنا وهو قوله حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَة ُ وذكر سائر الأنبياء عليهم السلام لم يتقدم وثالثها أنه تعالى ختم الآية بقوله وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَة ِ فحكم بكون ما هو متعلق هذه الآية ديناً قيماً فوجب أن يكون شرعاً في حقنا سواء قلنا بأنه شرع من قبلنا أو شرع جديد يكون هذا بياناً لشرع محمد عليه الصلاة والسلام وهذا قول مقاتل
المسألة الثانية في قوله إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ دقيقة وهي أن هذه اللام لام الغرض فلا يمكن حمله على ظاهره لأن كل من فعل فعلاً لغرض فهو ناقص لذاته مستكمل بذلك الغرض فلو فعل الله فعلاً لكان ناقصاً لذاته مستكملاً بالغير وهو محال لأن ذلك الغرض إن كان قديماً لزم من قدمه قدم الفعل وإن كان محدثاً افتقر إلى غرض آخر فلزم التسلسل وهو محال ولأنه إن عجز عن تحصيل ذلك الغرض إلا بتلك الواسطة فهو عاجز وإن كان قادراً عليه كان توسيط تلك الواسطة عبثاً فثبت أنه لا يمكن حمله على ظاهره فلا بد فيه من التأويل ثم قال الفراء العرب تجعل اللام في موضع أن في الأمر والإرادة كثيراً من ذلك قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ وقال في الأمر وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ وهي في قراءة عبد الله وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ ءانٍ عَبْدُ اللَّهِ فثبت أن المراد وما أمروا إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين والإخلاص عبارة عن النية الخالصة والنية الخالصة لما كانت معتبرة كانت النية معتبرة فقد دلت الآية على أن كل مأمور به فلا بد وأن يكون منوباً ثم قالت الشافعية الوضوء مأمور به في قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ودلت هذه الآية على أن كل مأمور يجب أن يكون منوياً فيلزم من مجموع الآيتين وجوب كون الوضوء منوياً وأما المعتزلة فإنهم يوجبون تعليل أفعال الله وأحكامه بالأغراض لا جرم أجروا الآية على ظاهرها فقالوا معنى الآية وما أمروا بشيء إلا لأجل أن يعبدوا الله والإستدلال على هذا القول أيضاً قوي لأن التقدير وما أمروا بشيء إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين في ذلك الشيء وهذا أيضاً يقتضي اعتبار النية في جميع المأمورات فإن قيل النظر في معرفة الله مأمور به ويستحيل اعتبار النية فيه لأن النية لا يمكن اعتبارها إلا بعد المعرفة فما كان قبل المعرفة لا يمكن اعتبار النية فيه قلنا هب أنه خص عموم الآية في هذه الصورة بحكم الدليل العقلي الذي ذكرتم فيبقى في الباقي حجة
المسألة الثالثة قوله أُمِرُواْ مذكور بلفظ ما لم يسم فاعله وهو كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ قالوا فيه وجوه أحدها كأنه تعالى يقول العبادة شاقة ولا أريد مشقتك إرادة أصلية بل إرادتي لعبادتك كإرادة الوالدة لحجامتك ولهذا لما آل الأمر إلى الرحمة قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وذكر في الواقعات إذا أراد الأب من ابنه عملاً يقول له أولاً ينبغي أن تفعل هذا ولا يأمره

صريحاً لأنه ربما يرد عليه فتعظم جنايته فههنا أيضاً لم يصرح بالأمر لتخف جناية الراد وثانيها أنا على القول بالحسن والقبح العقليين نقول كأنه تعالى يقول لست أنا الآمر للعبادة فقط بل عقلك أيضاً يأمرك لأن النهاية في التعظيم لمن أوصل إليك ( أن ) نهاية الإنعام واجبة في العقول
المسألة الرابعة اللام في قوله وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ تدل على مذهب أهل السنة حيث قالوا العبادة ما وجبت لكونها مفضية إلى ثواب الجنة أو إلى البعد عن عقاب النار بل لأجل أنك عبد وهو رب فلو لم يحصل في الدين ثواب ولا عقاب البتة ثم أمرك بالعبادة وجبت لمحض العبودية وفيها أيضاً إشارة إلى أنه من عبد الله للثواب والعقاب فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب والحق واسطة ونعم ما قيل من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثائي ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول
المسألة الخامسة العبادة هي التذلل ومنه طريق معبد أي مذلل ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ لأن جماعة عبدوا الملائكة والمسيح والأصنام وما أطاعوهم ولكن في الشرع صارت اسماً لكل طاعة الله أديت له على وجه التذلل والنهاية في التعظيم واعلم أن العبادة بهذا المعنى لا يستحقها إلا من يكون واحداً في ذاته وصفاته الذاتية والقعلية فإن كان مثل لم يجز أن يصرف إليه النهاية في التعظيم ثم نقول لا بد في كون الفعل عبادة من شيئين أحدهما غاية التعظيم ولذلك قلنا إن صلاة الصبي ليست بعبادة لأنه لا يعرف عظمة الله فلا يكون فعله في غاية التعظيم والثاني أن يكون مأموراً به ففعل اليهودي ليس بعبادة وإن تضمن نهاية التعظيم لأنه غير مأمور به والنكتة الوعظية فيه أن فعل الصبي ليس بعبادة لفقد التعظيم وفعل اليهودي ليس بعبادة لفقد الأمر فكيف يكون ركوعك الناقص عبادة ولا أمر ولا تعظيم
المسألة السادسة الإخلاص هو أن يأتي بالفعل خالصاً لداعية واحدة ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل والنكت والوعظية فيه من وجوه أحدها كأنه تعالى يقول عبدي لا تسع في إكثار الطاعة بل في إخلاصها لأني ما بذلت كل مقدوري لك حتى أطلب منك كل مقدورك بل بذلت لك البعض فأطلب منك البعض نصفاً من العشرين وشاة من الأربعين لكن القدر الذي فعلته لم أرد بفعله سواك فلا ترد بطاعتك سواي فلا تستثن من طاعتك لنفسك فضلاً من أن تستثنيه لغيرك فمن ذلك المباح الذي يوجد منك في الصلاة كالحكة والتنحنح فهو حظ استثنيته لنفسك فانتفى الإخلاص وأما الإلتفات المكروه فذا حظ الشيطان وثانيها كأنه تعالى قال يا عقل أنت حكيم لا تميل إلى الجهل والسفه وأنا حكيم لا أفعل ذلك البتة فإذاً لا تريد إلا ما أريد ولا أريد إلا ما تريد ثم إنه سبحانه ملك العالمين والعقل ملك لهذا البدن فكأنه تعالى بفضله قال الملك لا يخدم الملك لكن ( لكي ) نصطلح أجعل جميع ما أفعله لأجلك هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم فِى الاْرْضِ جَمِيعاً فاجعل أنت أيضاً جميع ما تفعله لأجلي وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ
واعلم أن قوله مُخْلِصِينَ نصب على الحال فهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص منابتداء الفعل إلى انتهائه والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه والواجب لوجوبه فيأتي بالفعل لوجهه

مخلصاً لربه لا يريد رياء ولا سمعة ولا غرضاً آخر بل قالوا لا يجعل طلب الجنة مقصوداً ولا النجاة عن النار مطلوباً وإن كان لا بد من ذلك وفي التوراة ما آريد به وجهي فقليله كثير وما أريد به غير وجهي فكثيره قليل وقالوا من الإخلاص أن لا يزيد في العبادات عبادة أخرى لأجل الغير مثل الواجب من الأضحية شاة فإذا ذبحت إثنتين واحدة لله وواحدة للأمير لم يجز لأنه شرك وإن زدت في الخشوع لأن الناس يرونه لم يجز فهذا إذا خلطت بالعبادة عبادة أخرى فكيف ولو خلطت بها محظوراً مثل أن تتقدم على إمامك بل لا يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين والمولودين ولا إلى العبيد ولا الإماء لأنه لم يخلص فإذا طلبت بذلك سرور والدك أو ولدك يزول الإخلاص فكيف إذا طلبت مسرة شهوتك كيف يبقى الإخلاص وقد اختلفت ألفاظ السلف في معنى قوله مُخْلِصِينَ قال بعضهم مقرين له بالعبادة وقال آخرون قاصدين بقلوبهم رضا الله في العبادة وقال الزجاج أي يعبدونه موحدين له لا يعبدون معه غيره ويدل على هذا قوله وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً واحِداً
أما قوله تعالى حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُواْ الزَّكَواة َ ففيه أقوال
الأول قال مجاهد متبعين دين إبراهيم عليه السلام ولذلك قال ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وهذا التفسير فيه لطيف كأنه سبحانه لما علم أن التقليد مستول على الطباع لم يستجز منعه عن التقليد بالكلية ولم يستجز التعويل على التقليد أيضاً بالكلية فلا جرم ذكر قوماً أجمع الخلق بالكلية على تزكيتهم وهو إبراهيم ومن معه فقال قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ فِى إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ فكأنه تعالى قال إن كنت تقلد أحداً في دينك فكن مقلداً إبراهيم حيث تبرأ من الأصنام وهذا غير عجيب فإنه قد تبرأ من نفسه حين سلمها إلى النيران ومن ماحين بذله للضيفان ومن ولده حين بذله للقربان بل روى أنه سمع سبوح قدوس فاستطابه ولم ير شخصاً فاستعاده فقال أما بغير أجر فلا فبذل كل ما ملكه فظهر له جبريل عليه السلام وقال حق لك حيث سماك خليلاً فخذ مالك فإن القائل كنت أنا بل انقطع إلى الله حتى عن جبريل حين قال أما إليك فلا فالحق سبحانه كأنه يقول إن كنت عابداً فاعبد كعبادته فإذا لم تترك الحلال وأبواب السلاطين أما تترك الحرام وموافقة الشياطين فإن لم تقدر على متابعة إبراهيم فاجتهد في متابعة ولده الصبي كيف إنقاد لحكم ربه مع صفره فمد عنقه لحكم الرؤبا وإن كنت دون الرجل فاتبع الموسوم بنقصان العقل وهو أم الذبيح كيف تجرعت تلك الغصة ثم إن المرأة الحرة نصف الرجل فإن الإثنتين يقومان مقام الرجل الواحد في الشهادة والإراث والرقيقة نصف الحرة بدليل إن للحرة ليلتين من القسم فهاجر كانت ربع الرجل ثم أنظر كيف أطاعت ربها فتحملت المحنة في ولادها ثم صبرت حين تركها الخليل وحيدة فريدة في جبال مكة بلا ماء ولا زاد وانصرف لا يكلمها ولا يعطف عليها قالت آلله أمرك بهذا فأومأ برأسه نعم فرضيت بذلك وصبرت على تلك المشاق
والقول الثاني المراد من قوله حُنَفَاء أي مستقيمين والحنف هو الاستقامة وإنما سمي مائل القدم أحنف على سبيل التفاؤل كقولنا للأعمى بصير وللمهلكة مفازة ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

والقول الثالث قال ابن عباس رضي الله عنهما حجاجاً وذلك لأنه ذكر العباد أولاً ثم قال حُنَفَاء وإنما قدم الحج على الصلاة لأن في الحج صلاة وإنفاق مال الرابع قال أبو قلابة الحنيف الذي آمن بجميع الرسل ولم يستثن أحداً منهم فمن لم يؤمن بأفضل الأنبياء كيف يكون حنيفاً الخامس حنفاء أي جامعين لكل الدين إذ الحنيفية كل الدين قال عليه السلام ( بعثن بالحنيفية السهلة السمحة ) السادس قال قتادة هي الختان وتحريم نكاح المحارم أي مختونين محرمين لنكاح الأم والمحارم فقوله حُنَفَاء إشارة إلى النفي ثم أردفه بالإثبات وهو قوله وَيُقِيمُواْ الصَّلَواة َ السابع قال أبو مسلم أصله من الحنف في الرجل وهو إدبار إبهامها عن أخوانها حتى يقبل على إبهام الأخرى فيكون الحنيف هو الذي يعدل عن الأديان كلها إلى الإسلام الثامن قال الربيع بن أنيس الحنيف الذي يستقبل القبلة بصلاته وإنما قال ذلك لأنه عند التكبير يقول وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وأما الكلام في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقد مر مراراً كثيرة ثم قال وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال المبرد والزجاج ذلك دين الملة القيمة فالقيمة نعت لموصوف محذوف والمراد من القيمة إما المستقيمة أو القائمة وقد ذكرنا هذين القولين في قوله كُتُبٌ قَيّمَة ٌ وقال الفراء هذا من إضافة النعت إلى المنعوت كقوله إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ والهاء للمبالغة كما في قوله كُتُبٌ قَيّمَة ٌ
المسألة الثانية في هذه الآية لطائف إحداها أن الكمال في كل شيء إنما يحصل إذا حصل الأصل والفرع معاً فقوم أطنبوا في الأعمال من غير إحكام الأصول وهم اليهود والنصارى والمجوس فإنهم ربما اتعبوا أنفسهم في الطاعات ولكنهم ما حصلوا الدين الحق وقوم حصلوا الأصول وأهملوا الفروع وهم المرجثة الذين قالوا لا يضر الذنب مع الإيمان والله تعالى خطأ الفريقين في هذه الآية وبين أنه لا بد من العلم والإخلاص في قوله مُخْلِصِينَ ومن العمل في قوله وَيُقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُواْ الزَّكَواة َ ثم قال وذلك المجموع كله هو دِينُ القَيّمَة ِ أي البينة المستقيمة المعتدلة فكمال أن مجموع الأعضاء بدن واحد كذا هو المجموع دين واحد فقلب دينك الاعتقاد ووجهه الصلاة ولسانه الواصف لحقيقته الزكاة لأن باللسان يظهر قدر فضلك وبالصدقة يظهر قدر دينك ثم إن القيم من يقوم بمصالح من يعجز عن إقامة مصالح نفسه فكأنه سبحانه يقول القائم بتحصيل مصالحك عاجلاً وآجلاً هو هذا المجموع ونظيره قوله تعالى دِينًا قِيَمًا وقوله في القرآن قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا لأن القرآن هو القيم بالإرشاد إلى الحق ويؤيده قوله عليه السلام ( من كان في عمل الله كان الله في عمله ) وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام ( يا دنيا من خدمك فاستخدميه ومن خدمني فاخدميه ) وثانيها أن المحسنين في أفعالهم هم مثل الحق سبحانه وذلك بالإحسان إلى عبيده والملائكة وذلك بأنهم اشتغلوا بالتسبيح لخالقهم فالإحسان من الله لا من الملائكة والتعظيم والعبودية من الملائكة لا من الله ثم إن الإنسان إذا حضر عرصة القيامة فيقول الله مباهياً بهم ملائكتي هؤلاء أمثالكم سبحوا وهللوا بل في بعض الأفعال أمثالي أحسنوا وتصدقوا ثم إني أكرمكم يا ملائكتي بمجرد ما أتيتم به من العبودية وأنتم تعظموني بمجرد ما فعلت من الإحسان فأنتم صبرتم على أحد الأمرين أقاموا الصلاة أتوا بالعبودية وآتوا الزكاة أتوا بالإحسان فأنتم صبرتم على أحد الأمرين وهم صبروا على الأمرين فتتعجب الملائكة منهم وينصبون إليهم النظارة

فلهذا قال وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ أفلا يكون هذا الدين قيماً وثالثها أن الدين كالنفس فحياة الدين بالمعرفة ثم النفس العالمة بلا قدرة كالزمن العاجز والقادرة بلا علم مجنونة فإذا اجتمع العلم والقدرة كانت النفس كاملة فكذا الصلاة للذين كالعلم والزكاة كالقدرة فإذا اجتمعتا سمي الدين قيمة ورابعها وهو فائدة الترتيب أن الحكم تعالى أمر رسوله أن يدعوهم إلى أسهل شيء وهو القول والاعتقاد فقال مُخْلِصِينَ ثم لما أجابوه زاده فسألهم الصلاة التي بعد أدائها تبقى النفس سالمة كما كانت ثم لما أجابوه وأراد منهم الصدقة وعلم أنها تشق عليهم قال ( لا زكاة في مال يحول عليه الحول ) ثم لما ذكر الكل قال وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَة ِ
المسألة الثالثة احتج من قال الإيمان عبادة عن مجموع القول والاعتقاد والعمل بهذه الآية فقال مجموع القول والفعل والعمل هو الدين والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان فاداً مجموع القول والفعل والعمل هو الإيمان لأنه تعالى ذكر في هذه الآية مجموع الثلاثة ثم قال وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَة ِ أي وذلك المذكور هو دين القيمة وإنما قلنا إن الدين هو ازسلام لقوله تعالى إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ وإنما قلنا إن الإسلام هو الإيمان لوجهين الأول أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولاً عند الله تعالى لقوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ لكن الإيمان بالإجماع مقبول عند الله فهو إذاً عين الإسلام والثاني قوله تعالى فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ فاستثناء المسلم من المؤمن يدل على أن الإسلام يصدق عليه وإذا ثبتت هذه المقدمات ظهر أن مجموع هذه الثلاثة أعني القول والفعل والعمل هو الإيمان وحينئذ يبطل قول من قال الإيمان اسم لمجرد المعرفة أو المجرد الإقرار أولهما معاً والجواب لم لا يجوز أن تكون الإشارة بقوله وَذَلِكَ إلى الإخلاص فقط والدليل عليه أنا على هذا التقدير لا نحتاج إلى الإضمار أولى وأنتم تحتاجون إلى الإضمار فتقولون المراد وذلك المذكور ولا شك أن عدم الإضمار أولى سلمنا أن قوله وَذَلِكَ إشارة إلى مجموع ما تقدم لكنه يدل على أن ذلك المجموع هو الدين القيم فلم قلتم إن ذلك المجموع هو الدين وذلك لأن الدين غير والدين القيم فالدين هو الدين الكامل المستقبل بنفسه وذلك إنما يكون إذا كان الدين حاصلاً وكانت آثاره ونتائجهة معه حاصلة أيضاً وهي الصلاة والزكاة وإذا لم يوجد هذا المجموع لم يكن الدين القيم حاصلاً لكن لم قلتم إن أصل الدين لا يكون حاصلاً والنزاع ما وقع إلا فيه والله أعلم
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَائِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّة ِ
قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّة ِ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الكفار أولاً في قوله لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ثم ذكر ثانياً حال المؤمنين في قوله وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ أعاد في آخر هذه السورة

ذكر كلا الفريقين فبدأ أيضاً بحال الكفار فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ واعلم أنه تعالى ذكر من أحوالهم أمرين أحدهما الخلود في نار جهنم والثاني أنهم شر الخلق وههنا سؤالات
السؤال الأول لم قدم أهل الكتاب على المشركين في الذكر الجواب من وجوه أحدها أنه عليه الصلاة والسلام كان يقدم حق الله سبحانه على حق نفسه ألا ترى أن القوم لما كسروا رباعيته قال ( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) ولما فاتته صلاة العصر يوم الخندق قال ( اللهم املأ بطونهم وقبورهم ناراً ) فكأنه عليه السلام قال كانت الضربة ثم على وجه الصورة وفي يوم الخندق على وجه السيرة التي هي الصلاة ثم إنه سبحانه قضاه ذلك فقال كما قدمت حقي على حقك فأنا أيضاً أقدم حقك على حق نفسي فمن ترك الصلاة طول عمره لا يكفر ومن طعن في شعرة من شعراتك يكفر إذا عرفت ذلك فنقول أهل الكتاب ما كانوا يطعنون في الله بل في الرسول وأما المشركون فإنهم كانوا يطعنون في الله فلما أراد الله تعالى في هذه الآية أن يذكر سوء حالهم بدأ أولاً في النكاية بذكر من طعن في محمد عليه الصلاة والسلام وهم أهل الكتاب ثم ثانياف بذكر من طعن فيه تعالى وهم المشركون وثانيها أن جناية أهل الكتاب في حق الرسول عليه السلام كانت أعظم لأن المشركين رأوه صغيراً ونشأ فيهما بينهم ثم سفه أحلامهم وأبطل أديانهم وهذا أمر شاق أما أهل الكتاب فقد كانوا يستفتحون برسالته ويقرون بمبعثه فلما جاءهم أنكروه مع العلم به فكانت جنايتهم أشد
السؤال الثاني لم ذكر كَفَرُواْ بلفظ الفعل وَالْمُشْرِكِينَ باسم الفاعل والجواب تنبيهاً على أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر لأنهم كانوا مصدقين بالتوراة والإنجيل ومقرين بمبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إنهم كفروا بذلك بعد مبعثه عليه السلام بخلاف المشركين فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان وإنكار الحشر والقيامة
السؤال الثالث أن المشركين كانوا ينكرون الصانع وينكرون النبوة وينكرون القيامة أما أهل الكتاب فكانوا مقرين بكل هذه الأشياء إلا أنهم كانوا منكرين لنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان كفر أهل الكتاب أخف من كفر المشركين وإذا كان كذلك فكيف يجوز التسوية بين الفريقين في العذاب والجواب يقال بئر جهنام إذا كان بعيد القعر فكأنه تعالى يقول تكبروا طلباً للرفعة فصاروا إلى أسفل السافلين ثم إن الفريقين وإن اشتراكا في ذلك لكنه لا ينافي اشتراكهم في هذا القدر تفاوتهم في مراتب العذاب واعلم أن الوجه في حسن هذا العذاب أن الإساءة على قسمين إساءة إلى من أساء إليك وإساءة إلى من أحسن إليك وهذا القسم الثاني هو أقبح القمسين والإحسان أيضاً على قسمين إحسان إلى من أحسن إليك وإحسان إلى من أساء إليك وهذا أحسن القسمين فكان إحسان الله إلى هؤلاء الكفار أعظم أنواع الإحسان وإساءتهم وكفرهم أقبح أنواع الإساءة ومعلوم أن العقوبة إنما تكون بحسب الجناية فبالشتم تعزير وبالقذف حد وبالسرقة قط وبالزنا رجم وبالقتل قصاص بل شتم المماثل يوجب التعزير والنظر الشزر إلى الرسول يوجب القتل فلما كانت جناية هؤلاء الكفار أعظم الجنايات لا جرم استحقوا أعظم العقوبات وهو نار

جهنم فإنها نار في موضع عميق مظلم هائل لا مفر عنه البتة ثم كأنه قال قائل هب أنه ليس هناك رجاء الفرار فهل هناك رجاء الإخراج فقال لا بل يبقون خالدين فيها ثم كأنه قيل فهل هناك أحد يرق قلبه عليهم فقال لا بل يذمونهم ويلعنونهم لأنهم شر البرية
السؤال الرابع ما السبب في أنه لم يقل ههنا خالدين فيها أبداً وقال في صفة أهل الثواب خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً والجواب من وجوه أحدها التنبيه على أن رحمته أزيد من غضبه وثانيها أن العقوبات والحدود والكفارات تتداخل أما الثواب فأقسامه لا تتداخل وثالثها روى حكاية عن الله أنه قال يا داود حببني إلى خلقي قال وكيف أفعل ذلك قال اذكر لهم سعة رحمتي فكان هذا من هذا الباب
السؤال الخامس كيف القراءة في لفظ البرية الجواب قرأ نافع البريئة بالهمز وقرأ الباقون بغير همز وهو من برأ الله الخلق والقياس فيها الهمز إلا أنه ترك همزه كالنبي والذرية والخابية والهمزة فيه كالرد إلى الأصل المتروك في الاستعمال كما أن من همز النبي كان كذلك وترك الهمز فيه أجود وإن كان الهمز هو الأصل لأن ذلك صار كالشيء المرفوض المتروك وهمز من همز البرية يدل على فساد قول من قال إنه من البرأ الذي هو التراب
السؤال السادس ما الفائدة في قوله هم شر البرية الجواب أنه يفيد النفي والإثبات أي هم دون غيرهم واعلم أن شر البرية جملة يطول تفصيلها شر من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وشر من قطاع الطريق لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق وشر من الجهال الأجلاف لأن الكبر مع العلم يكون كفر عناد فيكون أقبح
واعلم أن هذا تنبيه على أن وعيد علماء السوء أعظم من وعيد كل أحد
السؤال السابع هذه الآية هل هي مجراة على عمومها الجواب لا بل هي مخصوصة بصورتين إحداهما أن من تاب منهم وأسلم خرج عن الوعيد والثانية قال بعضهم لا يجوز أن يدخل في الآية من مضي من الكفار لأن فرعون كان شراً منهم فأما الآية الثانية وهي الآية الدالة على ثواب المؤمنين فعامة فيمن تقدم وتأخر لأنهم أفضل الأمم
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة ِ
قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة ِ فيه مسائل
المسألة الأولى الوجه في حسن تقديم الوعيد على الوعد وجوه أحدها أن الوعيد كالدواء والوعد كالغذاء ويجب تقديم الدواء حتى إذا صار البدن نقياً انتفع بالغذاء فإن البدن غير النقي كلما عذوته زدته شراً هكذا قاله بقراط في كتاب الفصول وثانيها أن الجلد بعد الدبغ يصير صالحاً للمدارس والخف أما قبله فلا ولذلك فإن الإنسان متى وقع في محنة أو شدة رجع إلى الله فإذا نال الدنيا أعرض على ما قال فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ وثالثها أن فيه بشارة كأنه تعالى يقول لما لم يكن بد من الأمرين ختمت بالوعد الذي هو بشارة مني في أني أختم أمرك بالخير ألست كنت نجساً في

مكان نجس ثم أخرجتك إلى الدنيا طاهراً أفلا أخرجك إلى الجنة طاهراً
المسألة الثانية احتج من قال إن الطاعات ليست داخلة في مسمى الإيمان بأن الأعمال الصالحة معطوفة في هذه الآية على الإيمان والمعطوف غير المعطوف عليه
المسألة الثالثة قال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ولم يقل إن المؤمنين إشارة إلى أنهم أقاموا سوق الإسلام حال كساده وبذلوا الأموال والمهج لأجله ولهذا السبب استحقوا الفضيلة العظمى كما قال لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ولفظة ءامَنُواْ أي فعلوا الإيمان مرة
واعلم أن الذين يعتبرون الموافاة يحتجون بهذه الآية وذلك لأنها تدل على أن من أتى بالإيمان مرة واحدة فله هذا الثواب والذي يموت على الكفر لا يكون له هذا الثواب فعلمنا أنه ما صدر الإيمان عنه في الحقيقة قبل ذلك
المسألة الرابعة قوله وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ من مقابلة الجمع بالجمع فلا يكلف الواحد بجميع الصالحات بل لكل مكلف حظ فحظ الغني الإعطاء وحظ الفقير الأخذ
المسألة الخامسة احتج بعضهم بهذه الآية في تفضيل البشر على الملك قالوا روى أبو هريرة أنه عليه السلام قال ( أتعجبون من منزلة الملائكة من الله تعالى والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من ذلك واقرؤا إن شئتم أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية )
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لوجوه أحدها ما روى عن يزيد النحوي أن البرية بنو آدم من البرا وهو التراب فلا يدخل الملك فيه البتة وثانيها أن قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ غير مختص بالبشر بل يدخل فيه الملك وثالثها أن الملك خرج عن النص بسائر الدلائل قالوا وذلك لأن الفضيلة إما مكتسبة أو موهوبة فإن نظرت إلى الموهوبة فأصلهم من نور وأصلك من حمأ مسنون ومسكنهم دار لم يترك فيها أبوك مع الزلة ومسكنكم أرض هي مسكن الشياطين وأيضاً فمصالحنا منتظمة بهم ورزقنا في يد البعض وروحنا في يد البعض ثم هم العلماء ونحن المتعلمون ثم أنظر إلى عظيم همتهم لا يميلون إلى محقرات الذنوب ومن ذلك فإن الله تعالى لم يحك عنهم سوى دعوى الإلهية حين قال وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ أي لو أقدموا على ذنب فهمتهم بلغت غاية لا يليق بها إلا دعوى الربوبية وأنت أبداً عبد البطن والفرج وأما العبادة فهم أكثر عبادة من النبي لأنه تعالى مدح النبي بإحياء ثلثي الليل وقال فيهم يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ومرة لاَ يَسْئَمُونَ وتمام القول في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة
جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ رَبَّهُ
قوله تعالى جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ

اعلم أن التفسير ظاهر ونحن نذكر ما فيها من اللطائف في مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المكلف لما تأمل وجد نفسه مخلوقاً من المحن والآفات فصاغه من أنجس شيء في أضيق مكان إلى أن خرج باكياً لا للفراق ولكن مشتكياً من وحشة الحبس ليرحم كالذي يطلق من الحبس يغلبه البكاء ليرحم ثم لم يرحم بل شدته القابلة ولم يكن مشدوداً في الرحم ثم لم يمض قليل مدة حتى ألقوا في المهد وشدوه بالقماط ثم لم يمض قليل حتى أسلموه إلى أستاذ يحبسه في المكتب ويضربه على التعليم وهكذا إلى أن بلغ الحلم ثم بعد ذلك شد بمسامير العقل والتكليف ثم إن المكلف يصير كالمتحير يقول من الذي يفعل في هذه الأفعال مع أنه ما صدرت عني جناية ا فلم يزل يتفكر حتى ظفر بالفاعل فوجده عالماً لا يشبه العالمين وقادراً لا يشبه القادرين وعرف أن كل ذلك وإن كان صورته صورة المحنة لكن حقيقته محض الكرم والرحمة فترك الشكاية وأقبل على الشكر ثم وقع في قلب العبد أن يقابل إحسانه بالخدمة له والطاعة فجعل قلبه مسكناً لسطان عرفانه فكأن الحق قال عبدي أنزل معرفتي في قلبك حتى لا يخرجها منه شيء أو يسبقها هناك فيقول العبد يا رب أنزلت حب الثدي في قلبي ثم أخرجته وكذا حب الأب والأم وحب الدنيا وشهواتها وأخرجت الكل أما حبك وعرفانك فلا أخرجهما من قلبي ثم إنه لما بقيت المعرفة والمحبة في أرض القلب انفجر من هذا الينبوع أنهار وجداول فالجدول الذي وصل إلى العين حصل منه الاعتبار والذي وصل إلى الأذن حصل منه استماع مناجاة الموجودات وتسبيحاتهم وهكذا في جميع الأعضاء والجوارح فيقول الله عبدي جعلت قلبك كالجنة لي وأجريت فيه تلك الأنهار دائمة مخلدة فأنت مع عجزك وقصورك فعلت هذا فأنا أولى بالجود والكرم والرحمة فجنة بجنة فلهذا قال جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ بل كأن الكريم الرحيم يقول عبدي أعطاني كل ما ملكه وأنا أعطيته بعض ما في ملكي وأنا أولى منه بالكرم والجود فلا جرم جعلت هذا البعض منه موهوباً دائماً مخلداً حتى يكون دوامه وخلوده جابراً لما فيه من النقصان الحاصل بسبب البعضية
المسألة الثانية الجزاء اسم لما يقع به الكفاية ومنه اجتزت الماشية بالحشيش الرطب عن الماء فهذا يفيد معنيين أحدهما أنه يعطيه الجزاء الوافر من غير نقص والثاني أنه تعالى يعطيه ما يقع به الكفاية فلا يبقى في نفسه شيء إلا والمطلوب يكون حاصلاً على ما قال وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ
المسألة الثانية قال جَزَآؤُهُمْ فأضاف الجزاء إليهم والإضافة المطلقة تدل على الملكية فكيف الجمع بينه وبين قوله الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَة ِ مِن فَضْلِهِ والجواب أما أهل السنة فإنهم يقولون إنه لو قال الملك الكريم من حرك أصبعه أعطيته ألف دينار فهذا شرط وجزاء بحسب اللغة وبحسب الوضع لا بحسب الاستحقاق الذاتي فقوله جَزَآؤُهُمْ يكفي في صدقه هذا المعنى وأما المعتزلة فإنهم قالوا في قوله تعالى الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَة ِ مِن فَضْلِهِ إن كلمة من لابتداء الغاية فالمعنى أن استحقاق هذه الجنان إنما حصل بسبب فضلك السابق فإنك لولا أنك خلقتنا وأعطيتنا القدرة والعقل وأزلت الأعذار وأعطيت الألطاف وإلا لما وصلنا إلى هذه الدرجة فإن قيل فإذا كان لا حق

لأحد عليه في مذهبكم فما السبب في التزام مثل هذا الأنعام قلنا أتسأل عن إنعامه الأمسى حال عدمنا أو عن إنعامه اليومي حال التكليف أو عن إنعامه في غد القيامة فإن سألت عن الأمسى فكأنه يقول أنا منزه عن الإنتفاع والمائدة مملوءة من المنافع فلو لم أخلق الخلق لضاعت هذه المنافع فكما أن من له مال ولا عيال له فإنه يشتري العبيد والجواري لينتفعوا بماله فهو سبحانه اشترى من دار العدم هذا الخلق لينتفعوا بملكه كما روى ( الخلق عيال الله ) وأما اليومي فالنعمان يوجب الإتمام بعد الشروع فالرحمن أولى وأما الغد فأنا مديونهم بحكم الوعد والإخبار فكيف لا أفي بذلك
المسألة الرابعة في قوله عِندَ رَبّهِمْ لطائف
أحدها قال بعض الفقهاء لو قال لا شيء لي على فلان فهذا يختص بالديون وله أن يدعي الوديعة ولو قال لا شيء لي عند فلان انصرف إلى الوديعة دون الدين ولو قال لا شيء لي قبل فلان انصرف إلى الدين والوديعة معاً إذا عرفت هذا فقوله عِندَ رَبّهِمْ يفيد أنه وديعة والوديعة عين ولو قال لفلان على فهو إقرار بالدين والعين أشرف من الدين فقوله عِندَ رَبّهِمْ يفيد أنه كالمال المعين الحاضر العتيد فإن قيل الوديعة أمانة وغير مضمونة والدين مضمون والمضمون خير مما كان غير مضمون قلنا المضمون خير إذا تصور الهلاك فيه وهذا في حق الله تعالى محال فلا جرم قلنا الوديعة هناك خير من المضمون
وثانيها إذا وقعت الفتنة في البلدة فوضعت مالك عند إمام المحلة على سبيل الوديعة صرت فارغ القلب فههنا ستقع الفتنة في بلدة بدنك وحينئذ تخاف الشيطان من أن يغيروا عليها فضع وديعة أمانتك عندي فإني أكتب لك به كتاباً يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة وهو قوله جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ حتى أسلمه إليك أحوج ما تكون إليه وهو في عرصة القيامة
وثالثها أنه قال عِندَ رَبّهِمْ وفيه بشارة عظيمة كأنه تعالى يقول أنا الذي ربيتك أولاً حين كنت معدوماً صفر اليد من الوجود والحياة والعقل والقدرة فخلقتك وأعطيتك كل هذه الأشياء فحين كنت مطلقاً أعطيتك هذه الأشياء وما ضيعتك أترى أنك إذا اكتسبت شيئاً وجعلته وديعة عندي فأنا أضيعها كلا إن هذا مما لا يكون
المسألة الخامسة قوله جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتُ فيه قولان
أحدهما أنه قابل الجمع بالجمع وهو يقتضي مقابلة الفرد بالفرد كما لو قال لأمر أتيه أو عبديه إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما كذا فيحمل هذا على أن يدخل كل واحد منهما داراً على حدة وعن أبي يوسف لم يحنث حتى يدخلا الدارين وعلى هذا إن ملكتما هذين العبدين ودليل القول الأول جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِى ءاذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ فعلى القول الأول بين أن الجزاء لكل مكلف جنة واحدة لكن أدنى تلك الجنات مثل الدنيا بما فيها عشر مرات كذا روى مرفوعاً ويدل عليه قوله تعالى وَمُلْكاً كَبِيراً

ويحتمل أن يراد لكل مكلف جنات كما روى عن أبي يوسف وعليه يدل القرآن لأنه قال وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ثم قال وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فذكر أربعاً للواحد والسبب فيه أنه بكى من خوف الله وذلك البكاء إنما نزل من أربعة أجفان إثنان دون الإثنين فاستحق جنتين دون الجنتين فحصلت له أربع جنات لسكبه البكاء من أربعة أجفان ثم إنه تعالى قدم الخوف في قوله وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ وأخر الخوف في هذه الآية لأنه ختم السورة بقوله ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ رَبَّهُ وفيه إشارة إلى أنه لا بد من دوام الخوف أما قبل العمل فالحاصل خوف الاختلال وأما بعد العمل فالحاصل خوف الخلاف إذ هذه العبادة لا تليق بتلك الحضرة
المسألة السادسة قوله عَدْنٍ يفيد الإقامة لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً يقال عدن بالمكان أقام وروى أن جنات عدن وسط الجنة وقيل عدن من المعدن أي هي معدن النعيم والأمن والسلامة قال بعضهم إنها سميت جنة إما من الجن أو الجنون أو الجنة أو الجنين فإن كانت من الجن فهم المخصوصون بسرعة الحركة يطوفون العالم في ساعة واحدة فكأنه تعالى قال إنها في إيصال المكلف إلى مشتهياته في غاية الإسراع مثل حركة الجن مع أنها دار إقامة وعدن وإما من الجنون فهو أن الجنة بحيث لو رآها العاقل يصير كالمجنون لولا أن الله بفضله يثبته وإما من الجنة فلأنها جنة واقية تقيك من النار أو من الجنين فلأن المكلف يكون في الجنة في غاية التنعم ويكون كالجنين لا يمسه برد ولا حر لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً
المسألة السابعة قوله تَجْرِى إشارة إلى أن الماء الجاري ألطف من الراكد ومن ذلك النظر إلى الماء الجاري يزيد نوراً في البصر بل كأنه تعالى قال طاعتك كانت جارية ما دمت حياً على ما قال وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فوجب أن تكون أنهار إكرامي جارية إلى الأبد ثم قال من تحتها إشارة إلى عدم التنغيص وذلك لأن التنغيص في البستان أما بسبب عدم الماء الجاري فذكر الجري الدائم وإما بسبب الغرق والكثرة فذكر من تحتها ثم الألف واللام في الأنهار للتعريف فتكون منصرفة إلى الأنهار المذكورة في القرآن وهي نهر الماء واللبن والعسل والخمر واعلم أن النهار والأنهار من السعة والضياء فلا تسمى الساقية نهراً بل العظيم هو الذي يسمى نهراً بدليل قوله وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِى َ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَارَ فعطف ذلك على البحر
المسألة الثامنة اعلم أنه تعالى لما وصف الجنة أتبعه بما هو أفضل من الجنة وهو الخلود أولاً والرضا ثانياً وروى أنه عليه السلام قال ( إن الخلود في الجنة خير من الجنة ورضا الله خير من الجنة
أما الصفة الأولى وهي الخلود فاعلم أن الله وصف الجنة مرة بجنات عدن ومرة بجنات النعيم ومرة بدار السلام وهذه الأوصاف الثلاثة إنما حصلت لأنك ركبت إيمانك من أمور ثلاثة اعتقاد وقول وعمل
وأما الصفة الثانية وهي الرضا فاعلم أن العبد مخلوق من جسد وروح فجنة الجسد هي الجنة الموصوفة وجنة الروح هي رضا الرب والإنسان مبتدأ أمره من عالم الجسد ومنتهى أمره من عالم العقل والروح فلا جرم ابتدأ بالجنة وجعل المنتهى هو رضا الله ثم إنه قدم رضى الله عنهم على قوله

وَرَضُواْ عَنْهُ لأن الأزلي هو المؤثر في المحدث والمحدث لا يؤثر في الآزلي
المسألة التاسعة إنما قال رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يقل رضي الرب عنهم ولا سائر الأسماء لأن أشد الأسماء هيبة وجلالة لفظ الله لأنه هو الاسم الدال على الذات والصفات بأسرها أعني صفات الجلال وصفات الإكرام فلو قال رضي الرب عنهم لم يشعر ذلك بكمال طاعة العبد لأن المربي قد يكتفي بالقليل أما لفظ الله فيفيد غاية الجلالة والهيبة وفي مثل هذه الحضرة لا يحصل الرضا إلا بالفعل الكامل والخدمة التامة فقوله رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ يفيد تطرية فعل العبد من هذه الجهة
المسألة العاشرة اختلفوا في قوله رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ فقال بعضهم معناه رضي أعمالهم وقال بعضهم المراد رضي بأن يمدحهم ويعظمهم قال لأن الرضا عن الفاعل غير الرضا بفعله وهذا هو الأقرب وأما قوله وَرَضُواْ عَنْهُ فالمراد أنه رضوا بما جازاهم من النعيم والثواب
أما قوله تعالى ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ رَبَّهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى الخوف في الطاعة حال حسنة قال تعالى وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ ولعل الخشية أشد من الخوف لأنه تعالى ذكره في صفات الملائكة مقروناً بالإشفاق الذي هو أشد الخوف فقال هُم مّنْ خَشْية ِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ والكلام في الخوف والخشية مشهور
المسألة الثانية هذه الآية إذا ضم إليها آية أخرى صار المجموع دليلاً على فضل العلم والعلماء وذلك لأنه تعالى قال إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء فدلت هذه الآية على أن العالم يكون صاحب الخشية وهذه الآية وهي قوله ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ رَبَّهُ تدل على أن صاحب الخشية تكون له الجنة فيتولد من مجموع الآيتين أن الجنة حق العلماء
المسألة الثالثة قال بعضهم هذه الآية تدل على أن المرء لا ينتهي إلى حد يصير معه آمناً بأن يعلم أنه من أهل الجنة وجعل هذع الآية دالة عليه وهذا المذهب غير قوي لأن الأنبياء عليهم السلام قد علموا أنهم من أهل الجنة وهم مع ذلك من أشد العباد خشية لله تعالى كما قال عليه الصلاة والسلام ( أعرفكم بالله أخوفكم من الله وأنا أخوفكم منه ) والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة الزلزلة
وهي ثمان آيات مكية
إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا
إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا ههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في المناسبة بين أول هذه السورة وآخر السورة المتقدمة وجوهاً أحدها أنه تعالى لما قال جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ فكأن المكلف قال ومتى يكون ذلك يا رب فقال إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا فالعالمون كلهم يكونون في الخوف وأنت في ذلك الوقت تنال جزاؤك وتكون آمناً فيه كما قال وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ وثانيها أنه تعالى لما ذكر في السورة المتقدمة وعيد الكافر ووعد المؤمن أراد أن يزيد في وعيد الكافر فقال أجازيه حين يقول الكافر السابق ذكره ما للأرض تزلزل نظير قوله يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ثم ذكر الطائفتين فقال فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ثم جمع بينهم في آخر السورة فذكر الذرة من الخير والشر
المسألة الثانية في قوله إِذَا بحثان أحدهما أن لقائل أن يقول إِذَا للوقت فكيف وجه البداية بها في أول السورة وجوابه من وجوه الأول كانوا يسألونه متى الساعة فقال إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ كأنه تعالى قال لا سبيل إلى تعيينه بحسب وقته ولكني أعينه بحسب علاماته الثاني أنه تعالى أراد أن يخبر المكلف أن الأرض تحدث وتشهد يوم القيامة مع أنها في هذه الساعة جماد فكأنه قيل متى يكون ذلك فقال إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ
البحث الثاني قالوا كلمة ءانٍ في المجوز وَإِذَا في المقطوع به تقول إن دخلت الدار فأنت

طالق لأن الدخول يجوز أما إذا أردت التعليق بما يوجد قطعاً لا تقول إن بل تقول إذا ( نحو إذا ) جاء غد فأنت طالق لأنه يوجد لا محالة هذا هو الأصل فإن استمل على خلافه فمجاز فلما كان الزلزال مقطوعاً به قال إِذَا زُلْزِلَتِ
المسألة الثالثة قال الفراء الزلزال بالكسر المصدر والزلزال بالفتح الاسم وقد قرىء بهما وكذلك الوسواس هم الاسم أي اسم الشيطان الذي يوسوس إليك والوسواس بالكسر المصدر والمعنى حركت حركة شديدة كما قال إِذَا رُجَّتِ الاْرْضُ رَجّاً وقال قوم ليس المراد من زلزلت حركت بل المراد تحركت واضطربت والدليل عليه أنه تعالى يخبر عنها في جميع السورة كما يخبر عن المختار القادر ولأن هذا أدخل في التهويل كأنه تعالى يقول إن الجماد ليضطرب لأوائل القيامة أما آن لك أن تضطرب وتتيقظ من غفلتك ويقرب منه لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ واعلم أن زل للحركة المعتادة وزلزل للحركة الشديدة العظيمة لما فيه من معنى التكرير وهو كالصرصر في الريح ولأجل شدة هذه الحركة وصفها الله تعالى بالعظم فقال إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ
المسألة الرابعة قال مجاهد المراد من الزلزلة المذكورة في هذه الآية النفخة الأولى كقوله يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَة ُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَة ُ أي تزلزل في النفخة الأولى ثم تزلزل ثانياً فتخرج موتاها وهي الأثقال وقال آخرون هذه الزلزلة هي الثانية بدليل أنه تعالى جعل من لوازمها أنها تخرج الأرض أثقالها وذلك إنما يكون في الزلزلة الثانية
المسألة الخامسة في قوله زِلْزَالَهَا بالإضافة وجوه أحدها القدر اللائق بها في الحكمة كقولك أكرم التقي إكرامه وأهن الفاسق إهانته تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة والثاني أن يكون المعنى زلزالها كله وجميع ما هو ممكن منه والمعنى أنه وجد من الزلزلة كل ما يحتمله المحل والثالث زِلْزَالَهَا الموعود أو المكتوب عليها إذا قدرت تقدير الحي تقريره ماروى أنها تزلزل من شدة صوت إسرافيل لما أنها قدرت تقدير الحي
وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا
أما قوله وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا ففيه مسألتان
المسألة الأولى في الأثقال قولان أَحَدُهُمَا أنه جمع ثقل وهو متاع البيت وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالاً لها قال أبو عبيدة والأخفش إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها وقيل سمي الجن والإنس بالثقلين لأن الأرض تثقل بهم إذا كانوا في بطنها ويثقلون عليها إذا كانوا فوقها ثم قال المراد من هذه الزلزلة الزلزلة الأولى يقول أخرجت الأرض أثقالها يعني الكنوز فيمتلىء ظهر الأرض ذهباً ولا أحد يلتفت إليه كأن الذهب يصيح ويقول أما كنت تخرب دينك ودنياك لأجليا أو تكون الفائدة في إخراجها كما قال تعالى يَوْمٍ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ ومن قال المراد من هذه الزلزلة الثانية وهي بعد القيامة قال تخرج الأثقال يعني الموتى أحياء كالأم تلده حياً وقيل تلفظه الأرض ميتا كما دفن ثم يحييه الله تعالى والقول الثاني

أثقالها أسرارها فيومئذ تكشف الأسرار ولذلك قال يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا فتشهد لك أو عليك
المسألة الثانية أنه تعالى قال في صفة الأرض أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ كِفَاتاً ثم صارت بحال ترميك وهو تقرير لقوله تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وقوله يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء
وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا
أما قوله تعالى وَقَالَ الإِنسَانُ ففيه مسائل
المسألة الأولى مالها تزلزل هذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في بطنها وذلك إما عند النفخة الأولى حين تلفظ ما فيها من الكنوز والدفائن أو عند النفخة الثانية حين تلفظ ما فيها من الأموات
المسألة الثانية قيل هذا قول الكافر وهو كما يقولون ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا فأما المؤمن فيقول هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ وقيل بل هو عام في حق المؤمن والكافر أي الإنسان الذي هو كنود جزوع ظلوم الذي من شأنه الغفلة والجهالة يقول مالها وهو ليس بسؤال بل هو للتعجب لما يرى من العجائب التي لم تسمع بها الآذان ولا تطلق بها لسان ولهذا قال الحسن إنه للكافر والفاجر معاً
المسألة الثالثة إنما قال مالها على غير المواجهة لأنه يعاتب بهذا الكلام نفسه كأنه يقول يا نفس ما للأرض تفعل ذلك يعني يا نفس أنت السبب فيه فإنه لولا معاصيك لما صارت الأرض كذلك فالكفار يقولون هذا الكلام والمؤمنون يقولون وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا
أما قوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا فاعلم أن ابن مسعود قرأ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا وسعيد بن جبير تنبيء ثم فيه سؤالات
الأول أين مفعولاً تحدث الجواب قد حذف أولهما والثاني أخبارها وأصله تحدث الخلق أخبارها إلا أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار لا ذكر الخلق تعظيماً
السؤال الثاني ما معنى تحديث الأرض قلنا فيه وجوه أحدها وهو قول أبي مسلم يومئذ يتبين لكل أحد جزاء عمله فكأنها حدثت بذلك كقولك الدار تحدثنا بأنها كانت مسكونة فكذا انتقاض الأرض بسبب الزلزلة تحدث أن الدنيا قد انقضت وأن الآخرة قد أقبلت والثاني وهو قول الجمهور أن الله تعالى يجعل الأرض حيواناً عاقلاً ناطفاً ويعرفها جميع ما عمل أهلها فحينئذ تشهد لمن أطاع وعلى من عصي قال عليه السلام ( أن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عمل عليها ) ثم تلا هذه الآية وهذا على مذهبنا غير بعيد لأن البنية عندنا ليست شرطاً لقبول الحياة فالأرض مع بقائها على شكلها ويبسها وقشفها يخلق الله فيها الحياة والنطق والمقصود كأن الأرض تشكو من العصاة وتشكر من أطاع الله فنقول إن فلاناً صلى وزكى وصام

وحج في وإن فلاناً كفر وزنى وسرق وجار حتى يود الكافر أن يساق إلى النار وكان علي عليه السلام إذا فرغ بيت المال صلى فيه ركعتين ويقول لتشهدن أني ملأتك يحق وفرغك بحق والقول الثالث وهو قول المعتزلة أن الكلام يجوز خلقه في الجماد فلا يبعد أن يخلق الله تعالى في الأرض حال كونها جماداً أصواتاً مقطعة مخصوصة فيكون المتكلم والشاهد على هذا التقدير هو الله تعالى
السؤال الثالث إذ ويومئذ ما ناصبهما الجواب يومئذ بدل من إذا وناصبهما تحدث
السؤال الرابع لفظ التحديث يفيد الاستئناس وهناك لا استئناس فما وجه هذا اللفظ الجواب أن الأرض كأنها تبث شكواها إلى أولياء الله وملائكته
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا
أما قوله تعالى بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ففيه سؤالان
السؤال الأول بم تعلقت الباء في قوله بِأَنَّ رَبَّكَ الجواب بتحدث ومعناه تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها
السؤال الثاني لم لم يقل أوحى إليها الجواب فيه وجهان الأول قال أبو عبيدة أَوْحَى لَهَا أي أوحى إليها وأنشد العجاج
( أوحى لها القرار فاستقرت )
الثاني لعله إنما قال لها أي فعلنا ذلك لأجلها حتى تتوسل الأرض بذلك إلى التشفي من العصاة
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ
قوله تعالى يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ الصدور ضد الورد فالوارد الجائي والصادر والمنصرف واشتاتاً متفرقين فيحتمل أن يردوا الأرض ثم يصدرون عنها الأرض إلى عرصة القيامة ويحتمل أن يردوا عرصة القيامة للمحاسبة ثم يصدرون عنها إلى موضع الثواب والعقاب فإن قوله أَشْتَاتاً أقرب إلى الوجه الأول ولفظة الصدر أقرب إلى الوجه الثاني وقوله لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ أقرب إلى الوجه الأول لأن رؤية أعمالهم مكتوبة في الصحائف أقرب إلى الحقيقة من رؤية جزاء الأعمال وإن صح أيضاً أن يحمل على رؤية جزاء الأعمال وقوله أَشْتَاتاً فيه وجوه أحدها أن بعضهم يذهب إلى الموقف راكباً مع الثياب الحسنة وبياض الوجه والمنادى ينادي بين يديه هذا ولي الله وآخرون يذهب بهم سود الوجوه حفاة عراة مع السلاسل والأغلال والمنادي ينادي بين يديه هذا عدو الله وثانيها أشتاتاً أي كل فريق مع شكله اليهودي مع اليهودي والنصراني مع النصراني وثالثها أشتاتاً من أقطار الأرض من كل ناحية ثم إنه سبحانه ذكر المقصود وقال لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ قال بعضهم ليروا صحائف أعمالهم لأن الكتابة يوضع بين يدي الرجل فيقول هذا طلاقك وبيعك هل تراه والمرئي وهو الكتاب وقال آخرون ليروا جزاء أعمالهم وهو الجنة أو النار وإنما أوقع اسم العمل على الجزاء لأنه الجزاء وفاق فكأنه نفس العمل بل المجاز في ذلك أدخل من الحقيقة وفي قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لّيُرَوْاْ بالفتح

فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ
ثم قال تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ أي زنة ذرة قال الكلبي الذرة أصغر النمل وقال ابن عباس إذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها فكل واحد مما لزق به من التراب مثقال ذرة فليس من عبد عمل خيراً أو شراً قليلاً أو كثيراً إلا أراه الله تعالى إياه
المسألة الثانية في رواية عن عاصم يَرَهُ برفع الياء وقرأ الباقون يَرَهُ بفتحها وقرأ بعضهم يَرَهُ بالجزم
المسألة الثالثة في الآية إشكال وهو أن حسنات الكافر محبطة بكفره وسيئات المؤمن مغفورة إما ابتداء وإما بسبب اجتناب الكبائر فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرة من الخير والشر
واعلم أن المفسرين أجابوا عنه من وجوه أحدها قال أحمد بن كعب القرظي فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا حتى يلقى الآخرة وليس له فيها شيء وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً ويدل على صحة هذا التأويل ما روى أنه عليه السلام قال لأبي بكر ( يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى توفاها يوم القيامة ) وثانيها قال ابن عباس ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيراً أو شراً ءلا أراه الله إياه فأما المؤمن فيغفر الله سيئاته ويثيبه بحسناته وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته وثالثها أن حسنات الكافر وإن كانت محبطة بكفره ولكن الموازنة معتبرة فتقدر تلك الحسنات انحبطت من عقاب كفره وكذا القول في الجانب الآخر فلا يكون ذلك قادحاً في عموم الآية ورابعها أن تخصص عموم قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ونقول المراد فمن يعمل من السعداء مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل من الأشقياء مثقال ذرة شراً يره
المسألة الرابعة لقائل أن يقول إذا كان الأمر إلى هذا الحد فأين الكرم والجواب هذا هو الكرم لأن المعصية وإن قلت ففيها استخفاف والكريم لا يحتمله وفي الطاعة تعظيم وإن قل فالكريم لا يضيعه وكأن الله سبحانه يقول لا تحسب مثقال الذرة من الخير صغيراً فإنك مع لؤمك وضعفك لم تضيع مني الذرة بل اعتبرتها ونظرت فيها واستدللت بها على ذاتي وصفاتي واتخذتها مركباً به وصلت إلي فإذا لم تضيع ذرتي أفأضيع ذرتكا ثم التحقيق أن المقصود هو النية والقصد فإذا كان العمل قليلاً لكن النية خالصة فقد حصل المطلوب وإن كان العمل كثيراً والنية دائرة فالمقصود فائت ومن ذلك ما روى عن كعب لا تحقروا شيئاً من المعروف فإن رجلاً دخل الجنة بإعارة إبرة في سبيل الله وإن امرأة أعانت بحبة في بناء بيت المقدس فدخلت الجنة وعن عائشة ( كانت بين يديها عنب فقدمته إلى نسوة بحضرتها فجاء سائل فأمرت له بحبة من ذلك العنب فضحك بعض من كان عندها فقالت إن فيما ترون مثاقيل الذرة وتلت هذه الآية ) ولعلها كان غرضها التعليم وإلا فهي كانت في غاية السخاوة روى ( أن ابن الزبير بعث إليها بمائة ألف وثمانين ألف درهم في غرارتين فدعت بطبق وجعلت تقسمه بين الناس فلما أمست قالت يا جارية فطوري هلمي فجاءت بخبز ويزت فقيل لها أما أمسكت النار درهماً نشتري به لحماً نفطر عليه فقالت لو ذكرتيني لفعلت

ذلك ) وقال مقاتل نزلت هذه الآية في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ويقول ما هذا بشيء وإنما نؤجر على ما نعطيا وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ويقول لا شيء علي من هذا إنما الوعيد بالنار على الكبائر فنزلت هذه الآي ترغيباً في القليل من الخير فإنه يوشك أن يكثر وتحذيراً من اليسير من الذنب فإنه يوشك أن يكبر ولهذا قال عليه السلام ( اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة ) والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة العاديات
إحدى عشرة آية مكية
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً
اعلم أن الضبح أصوات أنفاس الخيل إذا عدت وهو صوت ليس بصهيل ولا حمحمة ولكنه صوت نفس ثم اختلفوا في المراد بالعاديات على قولين
الأول ما روى عن علي عليه السلام وابن مسعود أنها الإبل وهو قول إبراهيم والقرظي روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ( بينا أنا جالس في الحجر إذا أتاني رجل فسألني عن العاديات ضبحاً ففسرتها بالخيل فذهب إلى عليه عليه السلام وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت فقال ادعه لي فلما وقفت على رأسه قال تفتي الناس بما لا علم لك به والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً الإبل من عرفة إلى مزدلفة ومن المزدلفة إلى منى يعني إبل الحاج قال ابن عباس فرجعت عن قولي إلى قول علي عليه السلام ) ويتأكد هذا القول بما روى أبي في فضل السورة مرفوعاً ( من قرأها أعطى من الأجر بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعاً ) وعلى هذا القول فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً أن الحوافر ترمى بالحجر من شدة العدو فتضرب به حجراً آخر فتورى النار أو يكون المعنى الذين يركبون الإبل وهم الحجيج إذا أوقدوا نيرانهم بالمزدلفة فَالْمُغِيراتِ الإغارة سرعة السير وهم يندفعون صبيحة يوم النحر مسرعين إلى منى فَأَثَرْنَ بِهِ نَفْعاً يعني غباراً بالعدو وعن محم د بن كعب النقع ما بين المزدلفة إلى منى فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً يعني مزدلفة لأنها تسمى الجمع لاجتماع الحاج بها وعلى هذا التقدير فوجه القسم به من وجوه أحدها ما ذكرنا من المنافع الكثيرة فيه في قوله أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ

وثانيها كأنه تعريض بالآدمي الكنود فكأنه تعالى يقول إني سخرت مثل هذا لك وأنت متمرد عن طاعتي وثالثها الغرض بذكر إبل الحج الترغيب في الحج كأنه تعالى يقول جعلت ذلك الإبل مقسماً به فكيف أضيع عملكا وفيه تعريض لمن يرغب الحج فإن الكنود هو الكفور والذي لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك كما في قوله تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ إلى قوله وَمَن كَفَرَ
القول الثاني قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعطاء وأكثر المحققين أنه الخيل وروى ذلك مرفوعاً قال الكلبي بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سرية إلى أناس من كنانة فمكث ما شاء الله أن يمكث لا يأتيه منهم خبر فتخوف عليها فنزل جبريل عليه السلام بخبر مسيرها فإن جعلنا الألف واللام في وَالْعَادِيَاتِ للمعهود السابق كان محل القسم خيل تلك السرية وإن جعلناهما للجنس كان ذلك قسماً بكل خيل عدت في سبيل الله
واعلم أن ألفاظ هذه الآيات تنادي أن المراد هو الخيل وذلك لأن الضبح لا يكون إلا للفرس واستعمال هذا اللفظ في الإبل يكون على سبيل الاستعارة كما استعير المشافر والحافر للإنسان والشفتان للمهر والعدول من الحقيقة إلى المجاز بغير ضرورة لا يجوز وأيضاً فالقدح يظهر بالحافر مالا يظهر بخف الإبل وكذا قوله فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً لأنه بالخيل أسهل منه بغيره وقد روينا أنه ورد في بعض السرايا وإذا كان كذلك فالأقرب أن السورة مدنية لأن الإذن بالقتال كان بالمدينة وهو الذي قاله الكلبي إذا عرفت ذلك فههنا مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى إنما أقسم بالخيل لأن لها في العدو من الخصال الحميدة ما ليس لسائر الدواب فإنها تصلح للطلب والهرب والكر والفر فإذا ظننت أن النفع في الطلب عدوت إلى الخصم لتفوز بالغنيمة وإذا ظننت أن المصلحة في الهرب قدرت على أشد العدو ولا شك أن السلامة إحدى الغنيمتين فأقسم تعالى بفرس الغازي لما فيه من منافع الدنيا والدين وفيه تنبيه على أن الإنسان يجب عليه أن يمسكه لا للزينة والتفاخر بل لهذه المنفعة وقد نبه تعالى على هذا المعنى في قوله وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة ً فأدخل لام التعليل على الركوب وما أدخله على الزينة وإنما قال صُبْحاً لأنه أمارة يظهر به التعب وأنه يبذل كل الوسع ولا يقف عند التعب فكأنه تعالى يقول إنه مع ضعفه لا يترك طاعتك فليكن العبد في طاعة مولاه أيضاً كذلك
المسألة الثانية ذكروا في انتصاب ضَبْحاً وجوهاً أحدها قال الزجاج والعاديات تضبح ضبحاً وثانيها أن يكون وَالْعَادِيَاتِ في معنى والضابحات لأن الضبح يكون مع العدو وهو قول الفراء وثالثها قال البصريون التقدير والعاديات ضابحة فقوله ضَبْحاً نصب على الحال
فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً
أما قوله تعالى فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً
فاعلم أن الإيراء إخراج النار والقدح الصك تقول قدح فأورى وقد فأصلد ثم في تفسير الآية وجوه

أحدها قال ابن عباس يريد ضرب الخيل بحوافرها الجبل فأورت منه النار مثل الزبد إذا قدح وقال مقاتل يعني الخيل تقدحن بحوافرهن في الحجارة ناراً كنار الحباحب والحباحب اسم رجل كان بخيلاً لا يوقد النار إلا إذا نام الناس فإذا انتبه أحد أطفأ ناره لئلا ينتفع بها أحد فشبهت هذه النار التي تنقدح من حوافر الخيل بتلك النار التي لم يكن فيها نفع ومن الناس من يقول إنها نعل الحديد يصك الحجر فتخرج النار والأول أبلغ لأن على ذلك التقدير تكون السنابك نفسها كالحديد وثالثها قال قوم هذه الآيات في الخيل ولكن إبراؤها أن تهبج الحرب بين أصحابها وبين عدوهم كما قال تعالى كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ومنه يقال للحرب إذا التحمت حمى الوطيس وثالثها هم الذين يغزون فيورون بالليل نيرانهم لحاجتهم وطعامهم فَالمُورِيَاتِ هم الجماعة من الغزاة ورابعها إنها هي الألسنة توري نار العداوة لعظم ما تتكلم به وخامسها هي أفكار الرجال توري نار المكر والخديعة روى ذلك عن ابن عباس ويقال لأقدحن لك ثم لأورين لك أي لأهيجن عليك شراً وحرباً وقيل هو المكر إلا أنه مكر بإيقاد النار ليراهم العدو كثيراً ومن عادة العرب عند الغزو إذا قربوا من العدو أن يوقدوا نيراناً كثيرة لكي إذا نظر العدو إليهم ظنهم كثيراً وسادسها قال عكرمة الموريات قدحاً الأسنة وسابعها فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً أي فالمنجحات أمراً يعني الذين وجدوا مقصودهم وفازوا بمطلوبهم من الغزو والحج ويقال للمنجح في حاجته وروى زنده ثم يرجع هذا إلى الجماعة المنجحة ويجوز أن يرجع إلى الخيل ينجح ركبانها قال جرير وجدنا الأزد أكرمهم جوادا
وأوراهم إذا قدحوا زناداً
ويقال فلان إذا قدح أورى وإذا منح أورى واعلم أن الوجه الأول أقرب لأن لفظ الإيراء حقيقة في إيراء النار وفي غيره مجاز ولا يجوز ترك الحقيقة بغير دليل
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً
أما قوله تعالى فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً يعني الخيل تغير على العدو وقت الصبح وكانوا يغيرون صباحاً لأنهم في الليل يكونون في الظلمة فلا يبصرون شيئاً وأما النهار فالناس يكونون فيه كالمستعدين للمدافعة والمحاربة أما هذا الوقت فالناس يكونون فيه في الغفلة وعدم الاستعداد وأما الذين حملوا هذه الآيات على الإبل قالوا المراد هو الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى والسنة أن لا تغير حتى تصبح ومعنى الإغارة في اللغة الإسراع يقال أغار إذا أسرع وكانت العرب في الجاهلية تقول أشرق ثبير كيما نغير أي نسرع في الإفاضة
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً
أما قوله فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ففيه مسائل
المسألة الأولى في النقع قولان أحدهما أنا هو الغبار وقيل إنه مأخوذ من نقع الصوت إذا ارتفع

فالغبار يسمى نقعاً لارتفاعه وقيل هو من النقع في الماء فكأن صاحب الغبار غاص فيه كما يغوص الرجل في الماء والثاني النقع الصباح من قوله عليه الصلاة والسلام ( مالم يكن نقع ولا لقلقة ) أي فهيجن في المغار عليهم صياح النوائح وارتفعت أصواتهن ويقال ثار الغبار والدخان أي ارتفع وثار القطا عن مفحصه وأثرن الغبار أي هيجنه والمعنى أن الخيل أثرن الغبار لشدة العدو في الموضع الذي أغرن فيه
المسألة الثانية الضمير في قوله به إلى ماذا يعود فيه وجوه أحدها وهو قول الفراء أنه عائد إلى المكان الذي انتهى إليه والموضع الذي تقع فيه الإغارة لأن في قوله فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً دليلاً على أن الإغارة لا بد لها من وضع وإذا علم المعنى جاز أن يكنى عما لم يجز ذكره بالتصريح كقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ وثانيها إنه عائد إلى ذلك الزمان الذي وقعت فيه الإغارة أي فأثرن في ذلك الوقت نقعاً وثالثها وهو قول الكسائي أنه عائد إلى العدو أي فأثرن بالعدو نقعاً وقد تقدم ذكر العدو في قوله وَالْعَادِيَاتِ
المسألة الثالثة فإن قيل على أي شيء عطف قوله فَأَثَرْنَ قلنا على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه والتقدير واللائي عدون فأورين وأغرن فأثرن
المسألة الرابعة قرأ أبو حيوة فَأَثَرْنَ بالتشديد بمعنى فأظهرن به غباراً لأن التأثير فيه معنى الإظهار أو قلب ثورن إلى وثرن وقلب الواو همزة
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً
أما قوله تعالى فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال الليث وسطت النهر والمفازة أسطها وسطاً وسطة أي صرت في وسطها وكذلك وسطتها وتوسطتها ونحو هذا قال الفراء والضمير في قوله بِهِ إلى ماذا يرجع فيه وجوه أحدها قال مقاتل أي بالعدو وذلك أن العاديات تدل على العدو فجازت الكناية عنه وقوله جَمْعاً يعني جمع العدو والمعنى صرن بعدوهن وسط جمع العدو ومن حمل الآيات على الإبل قال يعني جمع مني وثانيها أن الضمير عائد إلى النقع أي وسطن بالنقع الجمع وثالثها المراد أن العاديات وسطن ملبساً بالنقع جمعاً من جموع الأعداء
المسألة الثانية قرىء نَقْعاً فَوَسَطْنَ بالتشديد للتعدية والباء مزيدة للتوكيد كقوله وَأُتُواْ بِهِ وهي مبالغة في وسطن واعلم أن الناس أكثروا في صفة الفرس وهذا القدر الذي ذكره الله أحسن وقال عليه الصلاة والسلام ( الخيل معقود بنواصيها الخير ) وقال أيضاً ( ظهرها حرز وبطنها كنز ) واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به ذكر المقسم عليه وهو أمور ثلاثة
إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ
أحدها قوله إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ قال الواحدي أصل الكنود منع الحق والخير والكنود الذي

يمنع ما عليه والأرض الكنود هي التي لا تنبت شيئاً ثم للمفسرين عبارات فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة الكنود هو الكفور قالوا ومنه سمي الرجل المشهور كندة لأنه كند أباه ففارقه وعن الكلبي الكنود بلسان كندة العاصي وبلسان بني مالك البخيل وبلسان مضر وربيعة الكفور وروى أبو أمامة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن الكنود هو الكفور الذي يمنع رفده ويأكل وحده ويضرب عبده وقال الحسن الكنود اللوام لربه يعد المحن والمصائب وينسى النعم والراحات وهو كقوله وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبَّهُ فَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ
واعلم أن معنى الكنود لا يخرج عن أن يكون كفراً أو فسقاً وكيفما كان فلا يمكن حمله على كل الناس فلا بد من صرفه إلى كافر معين أو إن حملناه على الكل كان المعنى أن طبع الإنسان يحمله على ذلك إلا إذا عصمه الله بلطفه وتوفيقيه من ذلك والأول قول الأكثرين قالوا لأن ابن عباس قال إنها نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي وأيضاً فقوله أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ لا يليق إلا بالكافر لأن ذلك كالدلالة على أنه منكر لذلك الأمر
الثاني من الأمور التي أقسم الله عليها قوله وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وفيه قولان أحدهما أن الإنسان على ذلك أي على كنوده لشهيد يشهد على نفسه بذلك أما لأنه أمر ظاهر لا يمكنه أن يجحده أو لأنه يشهد على نفسه بذلك في الآخرة ويعترف بذنوبه القول الثاني المراد وإن الله على ذلك لشهيد قالوا وهذا أولى لأن للضمير عائد إلى أقرب المذكورات والأقرب ههنا هو لفظ الرب تعالى ويكون ذلك كالوعيد والزجر له عين المعاصي من حيث إنه يحصى عليه أعماله وأما الناصرون للقول الأل فقالوا إن قوله بعد ذلك وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ الضمير فيه عائد إلى الإنسان فيجب أن يكون الضمير في الآية التي قبله عائداً إلى الإنسان ليكون النظم أحسن
الأمر الثالث مما أقسم الله عليه قوله وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ الخير المال من قوله تعالى إِن تَرَكَ خَيْرًا وقوله وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً وهذالأن الناس يعدون المال فيما بينهم خيراً كما أنه تعالى سمي ما ينال المجاهد من الجراح وأذى الحرب سوءاً في قوله لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء والشديد البخيل الممسك يقال فلان شديدة ومتشدد قال طرفة أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
ثم في التفسيري وجوه أحدها أنه لأجل حب المال لبخيل ممسك وثانيها أن يكون المراد من الشديدة القرى ويكون المعنى وإنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه ضعيف تقول هو شديد لهذا الأمر وقوي له وإذا كان مطيقاً له ضابطاً وثالثها أراد إنه لحب الخيرات غير هني منبسط ولكنه شديد منقبض ورابعها قال الفراء يجوز أن يكون المعنى وإنه لحب الخير لشديد الحب يعني أنه يحب المال ويحب كونه محباً له إلا أنه اكتفى بالحب الأول عن الثاني كما قال اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ أي في يوم عاصف الريح فاكتفى بالأولى عن الثانية وخامسها قال قطرب أي إنه شديد حب الخير كقولك إنه لزيد ضروب أي أنه ضروب زيد

أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ
واعلم أنه تعالى لما عد عليه قبائح أفعاله خوفه فقال أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى القول في بُعْثِرَ مضى في قوله تعالى وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ وذكرنا أن معنى بُعْثِرَتْ بعث وأثير وأخرج وقرىء بحثر
المسألة الثانية لقائل أن يسأل لم قال بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ ولم يقل بعثر من في القبور ثم إنه لما قال ما في القبور فلم قال إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ ولم يقل إن ربها بها يومئذ لخبيير الجواب عن السؤال الأول هو أن ما في الأرض من غير المكلفين أكثر فأخرج الكلام على الأغلب أو يقال إنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل بعد البعث يصيرون كذلك فلا جرم كان الضمير الأول ضمير غير العقلاء والضمير الثاني ضمير العقلاء
وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ
ثم قال تعالى وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ قال أبو عبيدة أي ميز ما في الصدور وقال الليث الحاصل من كل شيء ما بقي وثبت وذهب سواه والتحصيل تمييز ما يحصل والاسم الحصيلة قال لبيد وكل امرىء يوماً سيعلم سعيه
إذا حصلت عند الإله الحصائل
وفي التفسير وجوه أحدها معنى حصل جمع في الصحف أي أظهرت محصلاً مجموعاً وثانيها أنه لا بد من التمييز بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحظور فإن لكل واحد ومنه قيل للمنخل المحصل وثالثها أن كثيراً ما يكون باطن الإنسان بخلاف ظاهره أما في يوم القيامة فإنه تتكشف الأسرار وتبتهك الأستار ويظهر ما في البواطن كما قال يَوْمٍ تُبْلَى السَّرَائِرُ
واعلم أن حظ الوعظ منه أن يقال إنك تستعد فيما لا فائدة لك فيه فتبني المقابرة وتشتري التابوت وتفصل الكفن وتغزل العجوز الكفن فيقال هذا كله للديدان فأين حظ الرحمنا بل المرأة إذا كانت حاملاً فإنها تعد للطفل ثياباً فإذا قلت لها لا طفل لك فما هذا الاستعداد فتقول أليس يبعثر ما في بطني فيقول الرب لك ألا يبعثر ما في بطن الأرض فأين الاستعداد وقرىء وحصل بالفتح والتخفيف بمعنى ظهر
إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ
ثم قال إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ اعلم أن فيه سؤالات
الأول أنه يوهم أن علمه بهم في ذلك اليوم إنما حصل بسبب الخبرة وذلك يقتضي سبق الجهل وهو على الله تعالى محال الجواب من وجهين أحدهما كأنه تعالى يقول إن من لم يكن عالماً فإنه يصير بسبب الاختبار عالماً فمن كان لم يزل عالماً أن يكون خبيراً بأحوالكا وثانيهما أن فائدة تخصيص ذلك الوقت في قوله فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ مع كونه عالماً لم يزل أنه وقت الجزاء وتقريره لمن الملك كأنه يقول لا حاكم

يروج حكمه ولا عالم تروج فتواه يومئذ إلا هو وكم عالم لا يعرف الجواب وقت الواقعة ثم يتذكره بعد ذلك فكأنه تعالى يقول لست كذلك
السؤال الثاني لم خص أعمال القلوب بالذكر في قوله وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ وأهمل ذكر أعمال الجوارح الجواب لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلب فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب لما حصلت أفعال الجوارح ولذلك إنه تعالى جعلها الأصل في الذم فقال قَلْبُهُ وَاللَّهُ والأصل في المدح فقال وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
السؤال الثالث لم قال وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ ولم يقل وحصل ما في القلوب الجواب لأن القلب مطية الروح وهو بالطبع محب لمعرفة الله وخدمته إنما المنازع في هذا الباب هو النفس ومحلسها ما يقرب من الصدر ولذلك قال يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ وقال أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فجعل الصدر موضعاً للإسلام
السؤال الرابع الضمير في قوله إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ عائد إلى الإنسان وهو واحد والجواب الإنسان في معنى الجمع كقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ثم قال إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ولولا أنه للجمع وإلا لما صح ذلك واعلم أنه بقي من مباحث هذه الآية مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية تعدل على كونه تعالى عالماً بالجزئيات الزمانيات لأنه تعالى نص على كونه عالماً بكيفية أحوالهم في ذلك اليوم فيكون منكره كافراً
المسألة الثانية نقل أن الحجاج سبق على لسانه أن بالنصب فأسقط اللام من قوله لَّخَبِيرٌ حتى لا يكون الكلام لحناً وهذا يذكر في تقرير فصاحته فزعم بعض المشايخ أن هذا كفر لأنه قصد لتغيير المنزل ونقل عن أبي السماءل أنه قرأ على هذا الوجه والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة القارعة
إحدى عشرة آية مكية
سُورَة ٌ الْقَارِعَة ُ إِحْدَى عَشْرَة َ ءايَة ً اعلم أنه سبحانه وتعالى لما ختم السورة المتقدمة بقوله الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ فكأنه قيل وما ذلك اليوم فقيل هي القارعة
الْقَارِعَة ُ مَا الْقَارِعَة ُ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة ُ
الْقَارِعَة ُ مَا الْقَارِعَة ُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة ُ اعلم أن فيه مسائل
المسألة الأولى القرع الضرب بشدة واعتماد ثم سميت الحادثة العظيمة من حوادث الدهر قارعة قال الله تعالى وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَة ٌ ومنه قولهم العبد يقرع بالعصا ومنه المقرعة وقوارع القرآن وقرع الباب وتقارعوا تضاربوا بالسيوف واتفقوا على أن القارعة اسم من أسماء القيامة واختلفوا في لمية هذه التسمية على وجوه أحدها أن سبب ذلك هو الصيحة التي تموت منها الخلائق لأن في الصيحة الأولى تذهب العقول قال تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ وفي الثانية تموت الخلائق سوى إسرافيل ثم يميته الله ثميحييه فينفخ الثالثة فيقومون وروى أن الصور له ثقب على عدد الأموات لكل واحد ثقبة معلومة فيحيي الله كل جسد بتلك النفخة الواصلة إليه من تلك الثقبة المعينة والذي يؤكد هذا الوجه قوله تعالى مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَة ً واحِدَة ً فَإِنَّمَا هِى َ زَجْرَة ٌ واحِدَة ٌ وثانيها أن الأجرام العلوية والسفلية يصطكان اصطكاكاً شديداً عند تخريب العالم فبسبب تلك القرعة سمي يوم القيامة بالقارعة وثالثها أن القارعة هي التي تقرع الناس بالأهوال والإفزاع وذلك في السموات بالانشقاق والإنفطار وفي الشمس والقمر بالتكور وفي الكواكب بالانتثار وفي الجبال بالدك والنسف وفي الأرض بالطي والتبديل وهو قول الكلبي ورابعها أنها تقرع أعداء الله بالعذاب والخزي والنكال وهو قول مقاتل قال بعض المحققين وهذا أولى من قول

الكلبي لقوله تعالى وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ
المسألة الثانية في إعراب قوله الْقَارِعَة ُ مَا الْقَارِعَة ُ وجوه أحدها أنه تحذير وقد جاء التحذير بالرفع والنصب تقول الأسد الأسد فيجوز الرفع والنصب وثانيها وفيه إضمار أي ستأتيكم القارعة على ما أخبرت عنه في قوله إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ وثالثها رفع بالابتداء وخبره مَا الْقَارِعَة ُ وعلى قول قطرب الخبر وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة ُ فإن قيل إذا أخبرت عن شيء بشيء فلا بد وأن تستفيد منه علماً زائداً وقوله وَمَا أَدْرَاكَ يفيد كونه جاهلاً به فكيف يعقل أن يكون هذا خبراً قلنا قد حصل لنا بهذا الخبر علم زائد لأنا كنا نظن أنها قارعة كسائر القوارع فبهذا التجهيل علمنا أنها قارعة فاقت القوارع في الهول والشدة
المسألة الثالثة قوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة ُ فيه وجوه أحدها معناه لا علم لك بكنهها لأنها في الشدة بحيث لا يبلغها وهم أحد ولا فهمه وكيفما قدرته فهو أعظم من تقديرك كأنه تعالى قال قوارع الدنيا في جنب تلك القارعة كأنها ليست بقوارع ونار الدنيا في جنب نار الآخرة كأنها ليست بنار ولذلك قال في آخر السورة نَارٌ حَامِيَة ٌ تنبيهاً على أن نار الدنيا في جنب تلك ليست بحامية وصار آخر السورة مطابقاً لأولها من هذا الوجه فإن قيل ههنا قال وَمَا أَدْرَاكَ وقال في آخر السورة فَأُمُّهُ ولم يقل وماأدراك ما هاوية فما الفرق قلنا الفرق أن كونها قارعة أمر محسوس أما كونها هاوية فليس كذلك فظهر الفرق بين الموضعين وثانيها أن ذلك التفصيل لا سبيل لأحد إلى العلم به إلا بأخبار الله وبيانه لأنه بحث عن وقوع الوقعات لا عن وجوب الواجبات فلا يكون إلى معرفته دليل إلا بالسمع
المسألة الرابعة نظير هذه الآية قوله الْحَاقَّة ُ مَا الْحَاقَّة ُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّة ُ ثم قال المحققون قوله الْقَارِعَة ُ مَا الْقَارِعَة ُ أشد من قوله الْحَاقَّة ُ مَا الْحَاقَّة ُ لأن النازل آخراً لا بد وأن يكون أبلغ لأن المقصود منه زيادة التنبيه وهذه الزيادة لا تحصل إلا إذا كانت أقوى وأما بالنظر إلى المعنى فالحاقة أشد لكونه راجعاً إلى معنى العدل والقارعة أشد لما أنها تهجم على القلوب بالأمر الهائل
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ
ثم قال تعالى يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ
قال صاحب الكشاف الظرف نصب بمضمر دلت عليه القارعة أي تقرع يوم يكون الناس كذا
واعلم أنه تعالى وصف ذلك اليوم بأمرين الأول كون الناس فيه كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ قال الزجاج الفراش هو الحيوان الذي يتهافت في النار وسمي فراشاً لتفرشه وانتشاره ثم إنه تعالى شبه الخلق وقت البعث ههنا بالفراش المبثوث وفي آية أخرى بالجراد المنتشر أما وجه التشبيه بالفراش فلأن الفراش

إذا ثار لم يتجه لجهة واحدة بل كل واحدة منها تذهب إلى غير جهة الأخرى يدل هذا على أنهم إذا بعثوا فزعوا واختلفوا في المقاصد على جهات مختلفة غير معلومة والمبثوث المفرق يقال بثه إذا فرقه وأما وجه التشبيه بالجراد فهو في الكثرة قال الفراء كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضاً وبالجملة فالله سبحانه وتعالى شبه الناس في وقت البعث بالجراد المنتشر وبالفراش المبثوث لأنهم لما بعثوا يموج بعضهم في بعض كالجراد والفراش ويأكد ما ذكرنا بقوله تعالى فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً وقوله يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وقوله في قصة يأجوج ومأجوج وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ فإن قيل الجراد بالنسبة إلى الفراش كبار فكيف شبه الشيء الواحد بالصغير والكبير معاً قلنا شبه الواحد بالصغير والكبير لكن في وصفين أما التشبيه بالفراش فبذهاب كل واحدة إلى غير جهة الأخرى وأما بالجراد فبالكثرة والتتابع ويحتمل أن يقال إنها تكون كباراً أولاً كالجراد ثم تصير صغاراً كالفراش بسبب احتراقهم بحر الشمس وذكروا في التشبيه بالفراش وجوهاً أخرى أحدها ما روى أنه عليه السلام قال ( الناس عالم ومتعلم وسائر الناس همج رعاع ) فجعلهم الله في الأخرى كذلك جَزَاء وِفَاقاً وثانيها أنه تعالى إنما أدخل حرف التشبيه فقال كَالْفَرَاشِ لأنهم يكونون في ذلك اليوم أذل من الفراش لأن الفراش لا يعذب وهؤلاء يعذبون ونظيره كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
الصفة الثانية من صفات ذلك اليوم قوله تعالى وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ العهن الصوف ذو الألوان وقد مر تحقيقه عند قوله وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ والنفش فك الصوف حتى ينتفش بعضه عن بعض وفي قراءة ابن مسعود كالصوف المنفوش
واعلم أن الله تعالى أخبر أن الجبال مختلفة الألوان على ما قال وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ثم إنه سبحانه يفرق أجزاءها ويزيل التأليف والتركيب عنها فيصبر ذلك مشابهاً للصوف الملون بالألوان المختلفة إذا جعل منفوشاً وههنا مسائل
المسألة الأولى إنما ضم بين حال الناس وبين حال الجبال كأنه تعالى نبه على أن تأثير تلك القرعة في الجبال هو أنها صارت كالعهن المنفوش فكيف يكون حال الإنسان عند سماعهاا فالويل ثم الويل لابن آدم إن لم تتداركه رحمة ربه ويحتمل أن يكون المراد أن جبال النار تصير كالعهن المنفوش لشدة حمرتها
المسألة الثانية قد وصف الله تعالى تغير الأحوال على الجبال من وجوه أولها أن تصير قطعاً كما قال دُكَّتِ الاْرْضُ دَكّاً وثانيها أن تصير كثيباً مهيلاً كما قال وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَة ً وَهِى َ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ثم تصير كالعهن المنفوش وهي أجزاء كالذر تدخل من كوة البيت لا تمسها الأيدي ثم قال في الرابع تصير سراباً كما قال وَسُيّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً
المسألة الثالثة لم يقل يوم يكون الناس كالفراش المبثوث والجبال كالعهن المنفوش بل قال وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ لأن التكوير في مثل هذا المقام أبلغ في التحذير

فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
واعلم أنه تعالى لماوصف يوم القيامة قسم الناس فيه إلى قسمين فقال فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ واعلم أن في الموازين قولين أحدهما أنه جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله وهذا قول الفراء قال ونظيره يقال عندي درهم بميزان درهمك ووزن درهمك وداري بميزان دارك ووزن دارك أي بحذائها والثاني أنه جمع ميزان قال ابن عباس الميزان له لسان وكفتان لا يوزن فيه إلا الأعمال فيؤتى بحسنات المطيع في أحسن صورة فإذا رجح فالجنة له ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة فيخف وزنه فيدخل النار وقال الحسن في الميزان له كفتان ولا يوصف قال المتكلمون إن نفس الحسنات والسيئات لا يصح وزنهما خصوصاً وقد نقضيا بل المراد أن الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات توزن أو يجعل النور علامة الحسنات والظلمة علامة السيئات أو تصور صحيفة الحسنات بالصورة الحسنة وصحيفة السيئات بالصورة القبيحة فيظهر بذلك الثقل والخفة وتكون الفائدة في ذلك ظهور حال صاحب الحسنات في الجمع العظيم فيزداد سروراً وظهور حال صاحب السيئات فيكون ذلك كالفضيحة له عند الخلائق
فَهُوَ فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ
أما قوله تعالى فَهُوَ فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ فالعيشة مصدر بمعنى العيش كالخيفة بمعنى الخوف وأما الراضية فقال الزجاج معناه أي عيشة ذات رضا يرضاها صاحبها وهي كقولهم لابن وتامر بمعنى ذو لبن وذو تمر ولهذا قال المفسرون تفسيرها مرضية على معنى يرضاها صاحبها
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
ثم قال تعالى وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أي قلت حسناته فرجحت السيئات على الحسنات قال أبو بكر رضي الله عنه إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً وقال مقاتل إنما كان كذلك لأن الحق ثقيل والباطل خفيف
أما قوله تعالى فَأُمُّهُ هَاوِيَة ٌ ففيه وجوه أحدها أن الهاوية من أسماء النار وكأنها النار العميقة يهوى أهل النار فيها مهوى بعيداً والمعنى فمأواه النار وقيل للمأوى أم على سبيل التشبيه بالأم التي لا يقع الفزع من الولد إلا إليها وثانيها فأم رأسه هاوية في النار ذكره الأخفش والكلبي وقتادة قال لأنهم يهوون في النار على رؤوسهم وثالثها أنهم إذا دعوا على الرجل بالهلاك قالوا هوت أمه لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه حزناً وثكلاً فكأنه قيل وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فقد هلك
فَأُمُّهُ هَاوِيَة ٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ
ثم قال تعالى وَمَا أَدْرَاكَ قال صاحب الكشاف هيه ضمير الداهية التي دل عليها قوله

مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَة ٌ في التفسير الثالث أو ضمير هاوية والهاء للسكت فإذا وصل جاز حذفها والاختيار الوقف بالهاء لاتباع المصحف والهاء ثابتة فيه وذكرنا الكلام في هذه الهاء عند قوله لَمْ يَتَسَنَّهْ فَبِهُدَاهُمُ الْقَاضِيَة َ مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ
نَارٌ حَامِيَة ٌ
ثم قال تعالى نَارٌ حَامِيَة ٌ والمعنى أن سائر النيران بالنسبة إليها كأنها ليست حامية وهذا القدر كاف في التنبيه على قوة سخونتها نعوذ بالله منها ومن جميع أنواع العذاب ونسأله التوفيق وحسن المآب رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ

سورة التكاثر
ثمان آيات مكية
أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ
أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ فيه مسائل
المسأة الأولى الإلهاء الصرف إلى اللهو واللهو الانصراف إلى ما يدعو إليه الهوى ومعلوم أن الانصراف إلى الشيء يقتضي الإعراض عن غيره فلهذا قال أهل اللغة ألهاني فلان عن كذا أي أنساني وشغلني ومنه الحديث ( أن الزبير كان سمع صوت الرعد لهى عن حديثه ) أن تركه وأعرض عنه وكل شيء تركته فقد لهيت عنه والتكاثر التباهي بكثرة المال والجاه والمناقب يقال تكاثر القوم تكاثراً إذا تعادلوا مالهم من كثرة المناقب وقال أبو مسلم التكاثر تفاعل عن الكثرة والتفاعل يقع على أحد وجوه ثلاثة يحتمل أن يكون بين الإثنين فيكون مفاعله ويحتمل تكلف الفعل تقول تكارهت على كذا إذا فعلته وأنت كاره وتقول تباعدت عن الأمر إذا تكلفت العمى عنه وتقول تغافلت ويحتمل أيضاً الفعل بنفسه كما تقول تباعدت عن الأمر أي بعدت عنه ولفظ التكاثر في هذه الآية ويحتمل الوجهين الأولين فيحتمل التكاثر بمعنى المفاعلة لأنه كم من إثنين يقول كل واحد منهما لصاحبه أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ويحتمل تكلف الكثرة فإن الحريص يتكلف جميع عمره تكثير ماله واعلم أن التفاخر والتكاثر شيء واحد ونظير هذه الآية قوله تعالى وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
المسألة الثانية اعلم أن التفاخر إنما يكون بإثبات الإنسان نوعاً من أنواع السعادة لنفسه وأجناس السعادة ثلاثة
فأحدها في النفس والثانية في البدن والثالثة فيما يطيف بالبدن من خارج أما التي في النفس

فهي العلوم والأخلاق الفاضلة وهما المرادان بقوله حكاية عن إبراهيم رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وبهما ينال البقاء الأبدي والسعادة السرمدية
وأما التي في البدن فهي الصحة والجمال وهي المرتبة الثانية وأما التي تطيف بالبدن من خارج فقسمان ة أحدهما ضروري وهو المال والجاه والآخر غير ضروري وهو الأقرباء والأصدقاء وهذا الذي عددناه في المرتبة الثالثة إنما يراد كله للبدن بدليل أنه إذا تألم عضو من أعضائه فإنه يجعل المال والجاه فداء له
وأما السعادة البدنية فالفضلاء من الناس إنما يريدونها للسعادة النفسانية فإنه ما لم يكن صحيح البدن لم يتفرغ لاكتساب السعادات النفسانية الباقية إذا عرفت هذا فنقول العاقل ينبغي أن يكون سعيه في تقديم الأهم على المهم فالتفاخر بالمال والجاه والأعوان والأقرباء تفاخر بأخس المراتب من أسباب السعادات والاشتغال به يمنع الإنسان من تحصيل السعادة النفسانية بالعلم والعمل فيكون ذلك ترجيحاً لأخس المراتب في السعادات على أشرف المراتب فيها وذلك يكون عكس الواجب ونقيض الحق فلهذا السبب ذمهم الله تعالى فقال أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ ويدخل فيه التكاثر بالعدد وبالمال والجاه والأقرباء والأنصار والجيش وبالجملة فيدخل فيه التكاثر بكل ما يكون من الدنيا ولذاتها وشهواتها
المسألة الثالثة قوله أَلْهَاكُمُ يحتمل أن يكون إخباراً عنهم ويحتمل أن يكون استفهاماً بمعنى التوبيخ والتقويع أي أألهاكم كما قرىء أنذرتهم وأأنذرتهم وإذا كنا عظاماً وأئذا كنا عظاماً
المسألة الرابعة الآية دلت على أن التكاثر والتفاخر مذموم والعقل دل على إن التكاثر والتفاخر في السعادات الحقيقية غير مذموم ومن ذلك ما روى من تفاخر العباس بأن السقاية بيده وتفاخر شيبة بأن المفتاح بيده إلى أن قال علي عليه السلام وأنا قطعت خرطوم الكفر بسيفي فصار الكفر مثلة فأسلمتم فشق ذلك عليهم فنزل قوله تعالى أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة َ الْحَاجّ الآية وذكرنا في تفسير قوله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَة ِ رَبّكَ فَحَدّثْ أنه يجوز للإنسان أن يفتخر بطاعاته ومحاسن أخلاقه إذا كان يظن أن غيره يقتدي به فثبت أن مطلق التكاثر ليس بمذموم بل التكاثر في العلم والطاعة والأخلاق الحميدة هو المحمود وهو أصل الخيرات فالألف واللام في التكاثر ليسا للاستغراق بل للمعهود السابق وهو التكاثر في الدنيا ولذاتها وعلائقها فإنه هو الذي يمنع عن طاعة الله تعالى وعبوديته ولما كان ذلك مقرراً في العقول ومتفقاً عليه في الأديان لا جرم حسن إدخال حرف التعريف عليه
المسألة الخامسة في تفسير الآية وجوه أحدها أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ بالعدد روى أنها نزلت في بني سهم وبني عبد مناف تفاخروا أيهم أكثر فكان بنو عبد مناف أكثر فقال بنو سهم عدواً مجموع أحيائنا وأمواتنا مع مجموع أحيائكم وأمواتكم ففعلوا فزاد بنو سهم فنزلت الآية وهذه الرواية مطابقة لظاهر القرآن لأن قوله حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ يدل على أنه أمر مضى فكأنه تعالى يعجبهم من أنفسهم ويقول هب أنكم أكثر منهم عدداً فماذا ينفع والزيارة إتيان الموضع وذلك يكون لأغراض كثيرة وأهمها وأولاها بالرعاية ترقيق القلب وإزالة حب الدنيا فإن مشاهدة القبور تورث ذلك على ما قال عليه السلام ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن في زيارتها تذكرة ) ثم إنكم زرتم القبور بسبب قساوة القلب والاستغراق في

حب الدنيا فلما انعكست هذه القضية لا جرم ذكر الله تعالى ذلك في معرض التعجيب
والقول الثاني أن المراد هو التكاثر بالمال واستدلوا عليه بما روى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه عليه السلام كان يقرأ أَلْهَاكُمُ وقال ابن آدم يقول مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنبت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت والمراد من قوله حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ أي حتى متم وزيارة القبر عبارة عن الموت يقال لمن مات زار قبره وزار رمسه قال جرير للأخطل
زار القبور أبو مالك
فأصبح ألأم زوارها أي مات فيكون معنى الآية ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت وأنتم على ذلك يقال حمله على هذا الوجه مشكل من وجهين الأول أن الزائر هو الذي يزور ساعة ثم ينصرف والميت يبقى في قبره فكيف يقال إنه زار القبر والثاني أن قوله حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ إخبار عن الماضي فكيف يحمل على المستقبل والجواب عن السؤال الأول أنه قد يمكث الزائر لكن لا بد له من الرحيل وكذا أهل القبور يرحلون عنها إلى مكان الحساب والجواب عن السؤال الثاني من وجوه أحدها يحتمل أن يكون المراد من كان مشرفاً على الموت بسبب الكبر ولذلك يقال فيه إنه على شفير القبر وثانيها أن الخبر عمن تقدمهم وعظاً لهم فهو كالخبر عنهم لأنهم كانوا على طريقتهم ومنه قوله تعالى وَيَقْتُلُونَ وثالثها قال أبو مسلم إن الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييراً للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدمت منهم زيارة القبور
القول الثالث حَامِيَة ٌ أَلْهَاكُمُ الحرص على المال وطلب تكثيره حتى منعتم الحقوق المالية إلى حين الموت ثم تقول في تلك الحالة أوصيت لأجل الزكاة بكذا ولأجل الحج بكذا
القول الرابع أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ فلا تلتفتون إلى الدين بل قلوبكم كأنها أحجار لا تنكسر البتة إلا إذا زرتم المقابر هكذا ينبغي أن تكون حالكم وهو أن يكون حظكم من دينكم ذلك القدر القليل من الانكسار ونظيره قوله تعالى قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ أي لا أقنع منكم بهذا القدر القليل من الشكر
المسألة السادسة أنه تعالى لم يقل أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ عن كذا وإنما لم يذكره لأن المطلق أبلغ في الذم لأنه يذهب الوهم فيه كل مذهب فيدخل فيه جميع ما يحتمله الموضع أي ألهاكم التكاثر عن ذكر الله وعن الواجبات والمندوبات في المعرفة والطاعة والتفكر والتدبر أو نقول إن نظرنا إلى ما قبل هذه الآية فالمعنى ألهاكم التكاثر عن التدبر في أمر القارعة والاستعداد لها قبل الموت وإن نظرنا إلى الأسفل فالمعنى ألهاكم التكاثر فنسيتم القبر حتى زرتموه
كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
أما قوله تعالى كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ فهو يتصل بما قبله وبما بعده أما الأول

فعلى وجه الرد والتكذيب أي ليس الأمر كما يتوهممه هؤلاء من أن السعادة الحقيقية بكثرة العدد والأولاد وأما اتصاله بما بعده فعلى معنى القسم أي حقاً سوف تعلمون لكن حين يصير الفاسق تائباً والكافر مسلماً والحريص زاهداً ومنه قول الحسن لا يغرنك كثرة من ترى حولك فإنك تموت وحدك وتحاسب وحدك وتقريره يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء وَيَأْتِينَا فَرْداً وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى إلى أن قال وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وهذا يمنعك عن التكاثر وذكروا في التكوير وجوهاً أحدها أنه للتأكيد وأنه وعيد بعد وعيد كما تقول للمنصوح أقول لك ثم أقول لك لا تفعل وثانيها أن الأول عند الموت حيث يقال له لا بشرى والثاني في سؤال القبر من ربك والثالث عند النشور حين ينادي المنادي فلأن شقى شقاوة لا سعادة بعدها أبداً وحين يقال وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ وثالثها عن الضحاك سوف تعلمون أيها الكفار ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ أيها المؤمنون وكان يقرؤها كذلك فالأول وعيد والثاني وعد ورابعها أن كل أحد يعلم قبح الظلم والكذب وحسن العدل والصدق لكن لا يعرف قدر آثارها ونتائجها ثم إنه تعالى يقول سوف تعلم العلم المفضل لكن التفصيل يحتمل الزائد فمهما حصلت زيادة لذة ازداد علماً وكذا في جانب العقوبة فقسم ذلك على الأحواس فعند المعاينة يزداد ثم عند البعث ثم عند الحساب ثم عند دخول الجنة والنار فلذلك وقع التكرير وخامسها أن إحدى الحالتين عذاب القبر والأخرى عذاب القيامة كما روى عن ذر أنه قال كنت أشك في عذاب القبر حتى سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول إن هذه الآية تدل على عذاب القبر وإنما قال ثُمَّ لأن بين العالمين والحياتين موتاً
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ
ثم قال تعالى كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ وفيه مسائل
المسألة الأولى اتفقوا على أن جواب لو محذوف وأنه ليس قوله لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جواب لو ويدل عليه وجهان أحدهما أن ما كان جواب لو فنفيه إثبات وإثباته نفي فلو كان قوله لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جواباً للو لوجب أن لا تحصل هذه الرؤية وذلك باطل فإن هذه الرؤية واقعة قطعاً فإن قيل المراد من هذه الرؤية رؤيتها بالقلب في الدنيا ثم إن هذه الرؤية غير واقعة قلنا ترك الظاهر خلاف الأصل والثاني أن قوله ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ إخبار عن أمر سيقع قطعاً فعطفه على مالا يوجد ولا يقع قبيح في النظم واعلم أن ترك الجواب في مثل هذا المكان أحسن يقول الرجل للرجل لو فعلت هذا أي لكان كذا قال الله تعالى لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ ولم يجيء له جواب وقال وَلَوْ تَرَى إِذَا وُقِفُواْ عَلَى رَبّهِمْ إذا عرفت هذا فنقول ذكروا في جواب لو وجوهاً أحدها قال الأخفش لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ما ألهاكم التكاثر وثانيها قال أبو مسلم لو علمتم ماذا يجب عليكم لتمسكتم به أو لو علمتم لأي أمر خلقتم لاشتغلتم به وثالثها أنه حذف الجواب ليذهب الوهم كل مذهب فيكون التهويل أعظم وكأنه قال لَوْ عَلِمْتُمُ عِلْمَ الْيَقِينِ لفعلتم مالا يوصف ولا يكتنه ولكنكم ضلال وجهلة وأما قوله لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ فاللام يدل على أنه جواب قسم محذوف والقسم لتوكيد الوعيد وأن ما أوعدا به مما لا مدخل فيه للريب وكرره معطوفاً بثم تغليظاً للتهديد وزيادة في التهويل

المسألة الثانية أنه تعالى أعاد لفظ كلا وهو للزجر وإنما حسنت الإعادة لأنه عقبه في كل موضع بغير ما عقب به الموضع الآخر كأنه تعالى قال لا تفعلوا هذا فإنكم تستحقون به من العذاب كذا لا تفعلوا هذا فإنكم تستوجبون به ضرراً آخر وهذا التكرير ليس بالمكروه بل هو مرضي عندهم وكان الحسن رحمه الله يجعل معنى كَلاَّ في هذا الموضع بمعنى حقاً كأنه قيل حقاً لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ
المسألة الثالثة في قوله عِلْمَ الْيَقِينِ وجهان أحدهما أن معناه علماً يقيناً فأضيف الموصوف إلى الصفة كقوله تعالى وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ وكما يقال مسجد الجامع وعام الأول والثاني أن اليقين ههنا هو الموت والبعث والقيامة وقد سمي الموت يقيناً في قوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ولأنهما إذا وقعا جاء اليقين وزال الشك فالمعنى لو تعلمون علم الموت وما يلقى الإنسان معه وبعده في القبر وفي الآخرة لم يلهكم التكاثر والتفاخر عن ذكر الله وقد يقول الإنسان أنا أعلم علم كذا أي أتحققه وفلان يعلم علم الطب وعلم الحساب لأن العلوم أنواع فيصلح لذلك أن يقال علمت علم كذا
المسألة الرابعة العلم من أشد البواعث على العمل فإذا كان وقت العمل أمامه كان وعداً وعظة وإن كان بعد وفاة وقت العمل فحينئذ يكون حسرة وندامة كما ذكر أن ذا القرنين لما دخل الظلمات ( وجد خرزاً ) فالذين كانوا معه أخذوا من تلك الخرز فلما خرجوا من الظلمات وجدوها جواهر ثم الأخذون كانوا في الغم أي لما لم يأخذوا أكثر مما أخذوا والذين لم يأخذوا كانوا أيضاً في الغم فهكذا يكون أحوال أهل القيامة
المسألة الخامسة في الآية تهديد عظيم للعلماء فإنها دلت على أنه لو حصل اليقين بما في التكاثر والتفاخر من الآفة لتركوا التكاثر والتفاخر وهذا يقتضي أن من لم يترك التكاثر والتفاخر لا يكون اليقين حاصلاً له فالويل للعالم الذي لا يكون عاملاً ثم الويل له
المسألة السادسة في تكرار الرؤية وجوه أحدها أنه لتأكيد الوعيد أيضاً لعل القوم كانوا يكرهون سماع الوعيد فكرر لذلك ونون للتأكيد تقتضي كون تلك الرؤية اضطرارية يعني لو خليتم ورأيكم ما رأيتموها لكنكم تحملون على رؤيتها شئتم أم أبيتم وثانيها أن أولهما الرؤية من البعيد إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وقوله وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى والرؤية الثانية إذا صاروا إلى شفير النار وثالثها أن الرؤية الأولى عند الورود والثانية عند الدخول فيها قيل هذا التفسير ليس بحسن لأنه قال ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ والسؤال يكون قبل الدخول ورابعها الرؤية الأولى للوعد والثانية المشاهدة وخامسها أن يكون المراد لترون الجحيم غير مرة فيكون ذكر الرؤية مرتين عبارة عن تتابع الرؤية واتصالها لأنهم مخلدون في الجحيم فكأنه قيل لهم على جهة الوعيد لئن كنتم اليوم شاكين فيها غير مصدقين بها فسترونها رؤية دائمة متصلة فتزول عنكم الشكوك وهو كقوله مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ إِلَى قَوْلُهُ فَارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ بمعنى لو أعدت النظر فيها ما شئت لم تجد فطوراً ولم يرد مرتين فقط فكذا ههنا إن قيل ما فائدة تخصيص الرؤية الثانية باليقين قلنا لأنهم في المرة الأولى رأوا لهباً لا غير وفي المرة الثانية رأوا نفس الحفرة وكيفية السقوط فيها وما فيها من الحيوانات المؤذية ولا شك

أن هذه الرؤية أجلى والحكمة في النقل من العلم الأخفى إلى الأجلى التفريع على ترك النظر لأنهم كانوا يقتصرون على الظن ولا يطلبون الزيادة
المسألة السابعة قراءة العامة لترون بفتح التاء وقرىء بضمها من رأيته الشيء والمعنى أنهم يحشرون إليها فيرونها وهذه القراءة تروي عن ابن عامر والكسائي كأنهما أرادا لترونها فترونها ولذلك قرأ الثانية ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا بالفتح وفي هذه الثانية دليل على أنهم إذا أروها رأوها وفي قراءة العامة الثانية تكرير للتأكيد ولسائر الفوائد التي عددناها واعلم أن قراءة العامة أولى لوجهين الأول قال الفراء قراءة العامة أشبه بكلام العرب لأنه تغليظ فلا ينبغي أن الجحيم لفظه الثاني قال أبو علي المعنى في لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ لترون عذاب الجحيم ألا ترى أن الجحيم يراها المؤمنون أيضاً بدلالة قوله وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا وإذا كان كذلك كان الوعيد في رؤية عذابها لا في رؤية نفسها يدل على هذا قوله إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ وقوله وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ وهذا يدل على أن لترون أرجح من لترون
ثُمَّ لَتُسْألُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ
قوله تعالى الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ فيه قولان
المسألة الأولى في أن الذي يسأل عن النعيم من هو فيه قولان
أحدهما وهو الأظهر أنهم الكفار قال الحسن لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار ويدل عليه وجهان الأول ما روى أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال يا رسول الله أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم وبسر وماء عذب أن تكون من النعيم الذي نسأل عنه فقال عليه الصلاة والسلام إنما ذلك للكفار ثم قرأ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ والثاني وهو أن ظاهر الآية يدل على ما ذكرناه وذلك لأن الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله تعالى والاشتغال بشكره فالله تعالى يسألهم عنها يوم القيامة حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه سبباً لسعادتهم هو كان من أعظم أسباب الشقاء لهم في الآخرة
والقول الثاني أنه عام في حق المؤمن والكافر واحتجوا بأحاديث روى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة عن النعيم فيقال له ألم نصحح لك جسمك ونروك من المار البارد ) وقال محمود بن لبيد لما نزلت هذه السورة قالوا يا رسول الله عن أبي نعيم نسأل إنما هما الماء والتمر وسيوفنا على عواتقنا والعدو حاضر فعن أي نعيم نسأل قال ( إن ذلك سيكون ) وروى عن عمر أنه قال أي نعيم نسأل عنه يا رسول الله وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ظلال المساكن والأشجار والأخبية التي تقيكم من الحر والبرد والماء البارد في اليوم الحار ) وقريب منه ( من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) وروى أن شاباً أسلم في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعلمه رسول الله سورة ألهاكم ثم زوجه رسول الله امرأة فلما دخل عليها ورآى الجهاز العظيم والنعيم الكثير خرج وقال لا أريد ذلك فسأله النبي عليه الصلاة والسلام عنه فقال ألست علمتني ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ

وأنا لا أطيق الجواب عن ذلك وعن أنس لما نزلت الآية قام محتاج فقال هل علي من النعمة شيء قال الظل والنعلان والماء البارد وأشهر الأخبار في هذا ما روى أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات ليلة إلى المسجد فلم يلبث أن جاء أبو بكر فقال ما أخرجك يا أبا بكر قال الجوع قال والله ما أخرجني إلا الذي أخرجك ثم دخل عمر فقال مثل ذلك فقال قوموا بنا إلى منزل أبي الهيثم فدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الباب وسلم ثلاث مرات فلم يجب أحد فانصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فخرجت امرأته تصيح كنا نسمع صوتك لكن أردنا أن تزيد من سلامك فقال لها خيراً ثم قالت بأبي أنت وأمي إن أبا الهيثم خرج يستعذب لنا الماء ثم عمدت إلى صاع من شعير فطحنته وخبزته ورجع أبو الهيثم فذبح عناقاً وأتاهم بالرطب فأكلوا وشربوا فقال عليه الصلاة والسلام ( هذا من النعيم الذي تسألون عنه ) وروى أيضاً ( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع عن عمره وماله وشبابه وعمله ) وعن معاذ عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن العبد ليسأل يوم القيامة حتى عن كحل عينيه وعن فتات الطينة بأصبعه عن لمس ثوب أخيه ) واعلم أن الأولى أن يقال السؤال يعم المؤمن والكافر لكن سؤال الكافر توبيخ لأنه ترك الشكر وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر وأطاع
المسألة الثانية ذكروا في النعيم المسئول عنه وجوهاً أحدها ما روى أنه خمس شبع البطون وبارد الشراب ولذة النوم وإظلال المساكن واعتدال الخلق وثانيها قال ابن مسعود إنه الأمن والصحة والفراغ وثالثها قال ابن عباس إنه الصحة وسائر ملاذ المأكول والمشروب ورابعها قال بعضهم الانتفاع بإدراك السمع والبصر وخامسها قال الحسن بن الفضل تخفيف الشرائع وتيسير القرآن وسادسها قال ابن عمر إنه الماء البارد وسابعها قال الباقر إنه العافية ويروى أيضاً عن جابر الجعفي قال دخلت على الباقر فقال ما تقول أرباب التأويل في قوله ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ فقلت يقولون الظل والماء البارد فقال لو أنك أدخلت بيتك أحداً وأقعدته في ظل وأسقيته ماء بارداً أتمن عليه فقلت لا قال فالله أكرم من أن يطعم عبده ويسقيه ثم يسأله عنه فقلت ما تأويله قال النعيم هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنعم الله به على هذا العالم فاستنقذهم به من الضلالة أما سمعت قوله تعالى لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً الآية القول الثامن إنما يسألون عن الزائد مما لا بد منه من مطعم وملبس ومسكن والتاسع وهو الأولى أنه يجب حمله على جميع النعم ويدل عليه وجوه أحدها أن الألف واللام يفيدان الاستغراق وثانيها أنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى الباقي لاسيما وقد دل الدليل على أن المطلوب من منافع هذه الدنيا اشتغال العبد بعبودية الله تعالى وثالثها أنه تعالى قال خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ والمراد منه جميع النعم من فلق البحر والإنجاء من فرعون وإنزال المن والسلوى فكذا ههنا ورابعها أن النعيم التام كالشيء الواحد الذي له أبعاض وأعضاء فإذا أشير إلى النعيم فقد دخل فيه الكل كما أن الترياق اسم للمعجون المركب من الأدوية الكثيرة فإذا ذكر الترياق فقد دخل الكل فيه
واعلم أن النعم أقسام فمنها ظاهرة وباطنة ومنها متصلة ومنفصلة ومنها دينية ودنيوية وقد ذكرنا أقسام السعادات بحسب الجنس في تفسير أول هذه السورة وأما تعديدها بحسب النوع والشخص فغير ممكن على ما قاله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا واستعن في معرفة نعم الله

عليك في صحة بدنك بالأطباء ثم هم أشد الخلق غفلة وفي معرفة نعم الله عليك بخلق السموات والكواكب بالمنجمين وهم أشد الناس جهلاً بالصانع وفي معرفة سلطان الله بالملوك ثم هم أجهل الخلق وأما الذي يروى عن ابن عمر أنه الماء البارد فمعناه هذا من جملته ولعله إنما خصه بالذكر لأنه أهون موجود وأعز مفقود ومنه قول ابن السماك للرشيد أرأيت لو احتجت إلى شربة ماء في فلاة أكنت تبذل فيه نصف الملك فلا تغتر بملك كانت الشربة الواحدة من الماء قيمته مرتين أو لأن أهل النار يطلبون الماء أشد من طلبهم لغيره قال تعالى أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أو لأن السورة نزلت في المترفين وهم المختصون بالماء البارد والظل والحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعيم سواء كان مما لا بد منه ( أولاً ) وليس كذلك لأن كل ذلك يجب أن يكون مصروفاً إلى طاعة الله لا إلى معصيته فيكون السؤال واقعاً عن الكل ويؤكده ما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به ) فكل النعيم من الله تعالى داخل فيما ذكره عليه الصلاة والسلام
المسألة الثالثة اختلفوا في أن هذا السؤال أين يكون
فالقول الأول أن هذا السؤال إنما يكون في موقف الحساب فإن قيل هذا لا يستقيم لأنه تعالى أخبر أن هذا السؤال متأخر عن مشاهدة جهنم بقوله ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ وموقف السؤال متقدم على مشاهدة جهنم قلنا المراد من قوله ثُمَّ أي ثم أخبركم أنكم تسألون يوم القيامة وهو كقوله فَكُّ رَقَبَة ٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ إلى قوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ
القول الثاني أنهم إذا دخلوا النار سئلوا عن النعيم توبيخاً لهم كما قال كُلَّمَا أُلْقِى َ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا وقال مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ولا شك أن مجيء الرسول نعمة من الله فقد سئلوا عنه بعد دخولهم النار أو يقال إنهم إذا صاروا في الجحيم وشاهدوها يقال لهم إنما حل بكم هذا العذاب لأنكم في دار الدنيا اشتغلتم بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم من هذه النار ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة الفائزين بالدرجات فيكون ذلك من الملائكة سؤالاً عن نعيمهم في الدنيا والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة العصر
ثلاث آيات مكية
وَالْعَصْرِ
وَالْعَصْرِ اعلم أنهم ذكروا في تفسير العصر أقوالاً
الأول أنه الدهر واحتج هذا القائل بوجوه أحدها ما روى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أقسم بالدهر وكان عليه السلام يقرأ والعصر ونوائب الدهر إلا أنا نقول هذا مفسد للصلاة فلا نقول إنه قرأه قرآناً بل تفسيراً ولعله تعالى لم يذكر الدهل لعلمه بأن الملحد مولع بذكره وتعظيمه ومن ذلك ذكره في هَلْ أَتَى رداً على فساد قولهم بالطبع والدهر وثانيها أن الدهر مشتمل على الأعاجيب لأنه يحصل فيه السراء والضراء والصحة والسقم والغنى والفقر بل فيه ما هو أعجب من كل عجب وهو أن العقل لا يقوى على أن يحكم عليه بالعدم فإنه مجزأ مقسم بالسنة والشهر واليوم والساعة ومحكوم عليه بالزيادة والنقصان والمطابقة وكونه ماضياً ومستقبلاً فكيف يكون معدوماً ولا يمكنه أن يحكم عليه بالوجود لأن الحاضر غير قابل للقسمة والماضي والمستقبل معدومان فكيف يمكن الحكم عليه بالوجود وثالثها أن بقية عمر المرء لا قيمة له فلو ضيعت ألف سنة ثم تبث في اللمحة الأخيرة من العمر بقيت في الجنة أبد الآباد فعلمت حينئذ أن أشرف الأشياء حياتك في تلك اللمحة فكأن الدهر والزمان من جملة أصول النعم فلذلك أقسم به ونبه على أن الليل والنهار فرصة يضيعها المكلف وإليه الإشارة بقوله وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ورابعها وهو أن قوله تعالى في سورة الأنعام قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُلِ اللَّهُ إشارة إلى المكان والمكانيات ثم قال وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وهو إشارة إلى الزمان والزمانيات وقد بينا هناك أن الزمان

أعلم وأشرف من المكان فلما كان كذلك كان القسم بالعصر قسماً بأشرف النصفين من ملك الله وملكوته وخامسها أنهم كانوا يضيفون الخسران إلى نوائت الدهر فكأنه تعالى أقسم على أن الدهر والعصر نعمة حاصلة لا عيب فيها إنما الخاسر المعيب هو الإنسان وسادسها أنه تعالى ذكر العصر الذي بمضيه ينتقص عمرك فإذا لم يكن في مقابلته كسب صار ذلك النقصان عن الخسران ولذلك قال لَفِى خُسْرٍ ومنه قول القائل
إنا لنفرح بالأيام نقطعها
وكل يوم مضى نقص من الأجل فكأن المعنى والعصر العجيب أمره حيث يفرح الإنسان بمضيه لظنه أنه وجد الربح مع أنه هدم لعمره وإنه لفي خسر والقول الثاني وهو قول أبي مسلم المراد بالعصر أحد طرفي النهار والسبب فيه وجوه أحدها أنه أقسم تعالى بالعصر كما أقسم بالضحى لما فيهما جميعاً من دلائل القدرة فإن كل بكرة كأنها القيامة يخرجون من القبور وتصير الأموات أحياء ويقام الموازين وكل عشية تشبه تخريب الدنيا بالصعق والموت وكل واحد من هاتين الحالتين شاهد عدل ثم إذا لم يحكم الحاكم عقيب الشاهدين عد خاسراً فكذا الإنسان الغافل عنهما في خسر وثانيها قال الحسن رحمه الله إنما أقسم بهذا الوقت تنبيهاً على أن الأسواق قد دنا وقت انقطاعها وانتهاء التجارة والكسب فيها فإذا لم تكتسب ودخلت الدار وطاف العيال عليك يسألك كل أحد ما هو حقه فحينئذ تخجل فتكون من الخاسرين فكذا نقول والعصر أي عصر الدنيا قد دنت القيامة و ( أنت ) بعد لم تستعد وتعلم أنك تسأل غداً عن النعيم الذي كنت فيه في دنياك وتسأل في معاملتك مع الخلق وكل أحد من المظلومين يدعي ما عليك فءذا أنت خاسر ونظيره اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَة ٍ مُّعْرِضُونَ وثالثها أن هذا الوقت معظم والدليل عليه قوله عليه السلام ( من حلف بعد العصر كاذباً لا يكلمه الله ولا ينظر إليه يوم القيامة ) فكما أقسم في حق الرابح بالضحى فكذا أقسم في حق الخاسر بالعصر وذلك لأنه أقسم بالضحى في حق الرابح وبشر الرسول أن أمره إلى الإقبال وههنا في حق الخاسر توعده أن أمره إلى الإدبار ثم كأنه يقول بعض النهار باق فيحثه على التدارك في البقية بالتوبة وعن بعض السلف تعلمت معنى السورة من بائع الثلج كان يصيح ويقول ارحموا من يذوب رأسه ماله ارحموا من يذوب رأس ماله فقلت هذا معنى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ يمر به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب فإذا هو خاسر
القول الثالث وهو قول مقاتل أراد صلاة العصر وذكروا فيه وجوهاً أحدها أنه تعالى أقسم بصلاة العصر لفضلها بدليل قوله حَافِظُواْ عَلَى صلاة العصر في مصحف حفصة وقيل في قوله تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلواة ِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إنها صلاة العصر وثانيها قوله عليه السلام ( من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ) وثالثها أن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واشتغالهم بمعايشهم ورابعها روى أن امرأة كانت تصيح في سكك المدينة وتقول دلوني على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فرآها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألها ماذا حدث قالت يا رسول الله إن زوجي غاب عني فزنيت فجاءني ولد من الزنا فألقيت الولد في دن من الخل حتى مات ثم بعنا ذلك الخل فهل لي من توبة فقال عليه السلام أما الزنا فعليك الرجم أما قتل الولد فجزاؤه جهنم وأما بيع الخل فقد ارتكبت

كبيراً لكن ظننت أنك تركت صلاة صلاة العصر ) ففي هذا الحديث إشارة إلى تفخيم أمر هذه الصلاة وخامسها أن صلاة العصر بها يحصل ختم طاعات النهار فهي كالتوبة بها يختم الأعمال فكما تجب الوصية بالتوبة كذا بصلاة العصر لأن الأمور بخواتيمها فأقسم بهذه الصلاة تفخيماً لشأنها وزيادة توصية المكلف على أدائها وإشارة منه أنك إن أديتها على وجهها عاد خسرانك ربحاً كما قال إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وسادسها قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يكلمهم ولا يزكيهم ( عد ) منهم رجل حلف بعد العصر كاذباً ) فَانٍ قِيلَ صلاة العصر فعلنا فكيف يجوز أن يقال أقسم الله تعالى به والجواب أنه ليس قسماً من حيث إنها فعلنا بل من حيث إنها أمر شريف تعبدنا الله تعالى بها
القول الرابع أنه قسم بزمان الرسول عليه السلام واحتجوا عليه بقوله عليه السلام ( إنما مثلكم ومثل من كان قبلكم مثل رجل استأجر أجيراً فقال من يعمل من الفجر إلى الظهر بقيراط فعملت اليهود ثم قال من يعمل من الظهر إلى العصر بقيراط فعملت النصارى ثم ثال من يعمل من العصر إلى المغبر بقراطين فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى وقالوا نحن أكثر عملاً وأقل أجراً فقال الله وهل نقصت من أجركم شيئاً قالوا لا قال فهذا فضلى أوتيه من أشاء فكنتم أقل عملاً وأكثر أجراً ) فهذا الخبر دل على أن العصر هو الزمان المختص به وبأمته فلا جرم أقسم الله به فقوله وَالْعَصْرِ أي والعصر الذي أنت فيه فهو تعالى أقسم بزمانه في هذه الآية وبمكانه في قوله وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ وبعمره في قوله لَعَمْرُكَ فكأنه قال وعصرك وبلدك وعمرك وذلك كله كالظرف له فإذا وجب تعظيم حال الظرف فقس حال المظروف ثم وجه القسم كأنه تعالى يقول أنت يا محمد حضرتهم ودعوتهم وهم أعرضوا عنك وما التفتوا إليك فما أعظم خسرانهم وما أجل خذلانهم
إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ
قوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى الألف واللام في الإنسان يحتمل أن تكون للجنس وأن تكون للمعهود السابق فلهذا ذكر المفسرون فيه قولين الأول أن المراد منه الجنس وهو كقولهم كثر الدرهم في أيدي الناس ويدل على هذا القول استثناء الذين آمنوا من الإنسان والقول الثاني المراد منه شخص معين قال ابن عباس يريد جماعة من المشركين كالوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وقال مقاتل نزلت في أبي لهب وفي خبر مرفوع إنه أبو جهل وروى أن هؤلاء كانوا يقولون إن محمداً لفي خسر فأقسم تعالى أن الأمر بالضد مما توهمون
المسألة الثانية الخسر الخسران كما قيل الكفر في الكفران ومعناه النقصان وذهاب رأس المال ثم

فيه تفسيران وذلك لأنا إذا حملنا الإنسان على الجنس كان معنى الخسر هلاك نفسه وعمره إلا المؤمن العامل فإنه ما هلك عمره وماله لأنه اكتسب بهما سعادة أبدية وإن حملنا لفظ الإنسان على الكافر كان المراد كونه في الضلالة والكفر إلا من آمن من هؤلاء فحينئذ يتخلص من ذلك الخسار إلى الربح
المسألة الثالثة إنما قال لَفِى خُسْرٍ ولم يقل لفي الخسر لأن التنكير يفيد التهويل تارة والتحقير أخرى فإن حملنا على الأول كان المعنى إن الإنسان لفي خسر عظيم لا يعلم كنهه إلا لله وتقريره أن الذنب يعظم بعظم من في حقه الذنب أو لأنه وقع في مقابلة النعم العظيمة وكلا الوجهين حاصلان في ذنب العبد في حق ربه فلا جرم كان ذلك الذنب في غاية العظم وإن حملناه على الثاني كان المعنى أن خسران الإنسان دون خسران الشيطان وفيه بشارة أن في خلقي من هو أعصى منك والتأويل الصحيح هو الأول
المسألة الرابعة لقائل أن يقول قوله لَفِى خُسْرٍ يفيد التوحيد مع أنه في أنواع من الخسر والجواب أن الخسر الحقيقي هو حرمانه عن خدمة ربه وأما البواقي وهو الحرمان عن الجنة والوقوع في النار فبالنسبة إلى الأول كالعدم وهذا كماأن الإنسان في وجوده فوائد ثم قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ أي لما كان هذا المقصود أجل المقاصد كان سائر المقاصد بالنسبة إليه كالعدم
واعلم أن الله تعالى قرن بهذه الآية قرائن تدل على مبالغته تعالى في بيان كون الإنسان في خسر أحدها قوله لَفِى خُسْرٍ يفيد أنه كالمغمور في الخسران وأنه أحاط به من كل جانب وثانيها كلمة إن فإنها للتأكيد وثالثها حرف اللام في لفي خسر وههنا احتمالان
الأول في قوله تعالى لَفِى خُسْرٍ أي في طريق الخسر وهذا كقوله في أكل أموال اليتامى إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً لما كانت عاقبته النار
الاحتمال الثاني أن الإنسان لا ينفك عن خسر لأن الخسر هو تضييع رأس المال ورأس ماله هو عمره وهو قلما ينفك عن تضييع عمره وذلك لأن كل ساعة تمر بالإنسان فإن كانت مصروفة إلى المعصية فلا شك في الخسران وإن كانت مشغولة بالمباحات فالخسران أيضاً حاصل لأنه كما ذهب لم يبق منه أثر مع أنه كان متمكناً من أن يعمل فيه عملاً يبقى أثره دائماً وإن كانت مشغولة بالطاعات فلا طاعة إلا ويمكن الإتيان بها أو بغيرها على وجه أحسن من ذلك لأن مراتب الخضوع والخشوع لله غير متناهية فإن مراتب جلال الله وقهره غير متناهية وكلما كان علم الإنسان بها أكثر كان خوفه منه تعالى أكثر فكان تعظيمه عند الإتيان بالطاعات أتم وأكمل وترك الأعلى والاقتصار بالأدنى نوع خسران فثبت أن الإنسان لا ينفك البتة عن نوع خسران
واعلم أن هذه الآية كالتنبيه على أن الأصل في الإنسان أن يكون في الخسران والخيبة وتقريره أن سعادة الإنسان في حب الآخرة والإعراض عن الدنيا ثم إن الأسباب الداعية إلى الآخرة خفية والأسباب الداعية إلى حب الدنيا ظاهرها وهي الحواس الخمس والشهوة والغضب فلهذا السبب صار أكثر الخلق مشتغلين بحب الدنيا مستغرقين في طلبها فكانوا في الخسران والبوار فإن قيل إنه تعالى قال في سورة

التين لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ فهناك يدل على أن الابتداء من الكمال والانتهاء إلى النقصان وههنا يدل على أن الابتداء من النقصان والانتهاء إلى الكمال فكيف وجه الجمع قلنا المذكور في سورة التين أحوال البدن وههنا أحوال النفس فلا تناقض بين القولين
إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ
قوله تعالى إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
اعلم أن الإيمان والأعمال الصالحة قد تقدم تفسيرهما مراراً ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى احتج من قال العمل غير داخل في مسمى الإيمان بأن الله تعالى عطف عمل الصالحات على الإيمان ولو كان عمل الصالحات داخلاً في مسمى الإيمان لكان ذلك تكريراً ولا يمكن أن يقال هذا التكرير واقع في القرآن كقوله تعالى وَإِذَا أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وقوله وَمَلَئِكَتُهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ لأنا نقول هناك إنما حسن لأن إعادته تدل على كونه أشرف أنواع ذلك الكلي وعمل الصالحات ليس أشرف أنواع الأمور المسماة بالإيمان فبطل هذا التأويل قال الحليمي هذا التكرير واقع لا محالة لأن الإيمان وإن لم يشتمل على عمل الصالحات لكن قوله وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يشتمل على الإيمان فيكون قوله وعملواا لصالحات مغنياً عن ذكر قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وأيضاً فقوله وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يشتمل على قوله وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ فوجب أن يكون ذلك تكراراً أجاب الأولون وقالوا إنا لا نمنع ورود التكرير لأجل التأكيد لكن الأصل عدمه وهذا القدر يكفي في الاستدلال
المسألة الثانية احتج القاطعون بوعيد الفساق بهذه الآية قالوا الآية دلت على أن الإنسان في الخسارة مطلقاً ثم استثنى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ والمعلق على الشرطين مفقود عند فقد أحدهما فعلمنا أن من لم يحصل له الإيمان والأعمال الصالحة لا بد وأن يكون في الخسار في الدنيا وفي الآخرة ولما كان المستجمع لهاتين الخصلتين في غاية القلة وكان الخسار لازماً لمن لم يكن مستجمعاً لهما كان الناجي أقل من الهالك ثم لو كان الناجي أكثر كان الخوف عظيماً حتى لا تكون أنت من القليل كيف والناجي أقل أفلا ينبغي أن يكون الخوف أشدا
المسألة الثالثة أن هذا الاستثناء فيه أمور ثلاثة أحدها أنه تسلية للمؤمن من فوت عمره وشبابه لأن العمل قد أوصله إلى خير من عمره وشبابه وثانيها أنه تنبيه على أن كل ما دعاك إلى طاعة الله فهو الصلاح وكل ما شغلك عن الله بغيره فهو الفساد وثالثها قالت المعتزلة تسمية الأعمال بالصالحات تنبيه على أن وجه حسنها ليس هو الأمر على ما يقوله الأشعرية لكن الأمر إنما ورد لكونها في أنفسها مشتملة على وجوه الصلاح وأجابت الأشعرية بأن الله تعالى وصفها بكونها صالحة ولم يبين أنها صالحة بسبب وجوه عائدة إليها أو بسبب الأمر
المسألة الرابعة لسائل أن يسأل فيقول إنه في جانب الخسر ذكر الحكم ولم يذكر السبب وفي جانب

الربح ذكر السبب وهو الإيمان والعمل الصالح ولم يذكر الحكم فما الفرق قلنا إنه لم يذكر سبب الخسر لأن الخسر كما يحصل بالفعل وهو الإقدام على المعصية يحصل بالترك وهو عدم الإقدام على الطاعة أما الربح فلا يحصل إلا بالفعل فلهذا ذكر سبب الربح وهو العمل وفيه وجه آخر وهو أنه تعالى في جانب الخسر أبهم ولم يفصل وفي جانب الربح فصل وبين وهذا هو اللائق بالكرم
أما قوله تعالى وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ
فاعلم أنه تعالى لما بين في أهل الاستثناء أنهم بإيمانهم وعملهم الصالح خرجوا عن أن يكونوا في خسر وصاروا أرباب السعادة من حيث إنهم تمسكوا بما يؤديهم إلى الفوز بالثواب والنجاة من العقاب وصفهم بعد ذلك بأنهم قد صاروا لشدة محبتهم للطاعة لا يقتصرون على ما يخصهم بل يوصون غيرهم بمثل طريقتهم ليكونوا أيضاً سبباً لطاعات الغير كما ينبغي أن يكون عليه أهل الدين وعلى هذا الوجه قال تعالى وَأَبْكَاراً يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً فالتواصي بالحق يدخل فيه سائر الدين من علم وعمل والتواصي بالصبر يدخل فيه حمل النفس على مشقة التكليف في القيام بما يجب وفي اجتنابهم ما يحرم إذ الإقدام على المكروه والإحجام عن المراد كلاهما شاق شديد وههنا مسائل
المسألة الأولى هذه الآية فيها وعيد شديد وذلك لأنه تعالى حكم بالخسار على جميع الناس إلا من كان آتياً بهذه الأشياء الأربعة وهي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور وإنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه فكذلك يلزمه في غيره أمور منها الدعاء إلى الدين والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يحب له ما يحب لنفسه ثم كرر التواصي ليضمن الأول الدعاء إلى الله والثاني الثبات عليه والأول الأمر بالمعروف والثاني النهي عن المنكر ومنه قوله وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ وقال عمر رحم الله من أهدى إلى عيوبي
المسألة الثانية دلت الآية على أن الحق ثقيل وأن المحن تلازمة فلذلك قرن به التواصي
المسألة الثالثة إنما قال وَتَوَاصَوْاْ ولم يقل ويتواصون لئلا يقع أمراً بل الغرض مدحهم بما صدر عنهم في الماضي وذلك يفيد رغبتهم في الثبات عليه في المستقبل
المسألة الرابعة قرأ أبو عمرو بِالصَّبْرِ بشم الباء شيئاً من الحرف لا يشبع قال أبو علي وهذا مما يجوز في الوقف ولا يكون في الوصل إلا على إجراء الوصل مجرى الوقف وهذا لا يكاد يكون في القراءة وعلى هذا ما يروى عن سلام بن المنذر أنه قرأ والعصر بكسر الصاد ولعله وقف لانقطاع نفس أو لعارض منعه من إدراج القراءة وعلى هذا يحمل لا على إجراء الوصل مجرى الوقف والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة الهمزة
تسع آيات مكية
وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَة ٍ لُّمَزَة ٍ
وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَة ٍ لُّمَزَة ٍ فيه مسائل
المسألة الأولى الويل لفظة الذم والسخط وهي كلمة كل مكروب يتولون فيدعو بالويل وأصله وي لفلان ثم كثرت في كلامهم فوصلت باللام وروى أنه جبل في جهنم إن قيل لم قال ههنا وَيْلٌ وفي موضع آخر وَلَكُمُ الْوَيْلُ قلنان لأن ثمة قالوا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فقال وَلَكُمُ الْوَيْلُ وههنا نكر لأنه لا يعلم كنهه إلا الله وقيل في ويل إنها كلمة تقبيح وويس استصغار وويح ترحم فنبه بهذا على قبح هذا الفعل واختلفوا في الوعيد الذي في هذه السورة هل يتناول كل من يتمسك بهذه الطريقة في الأفعال الرديئة أو هو مخصوص بأقوام معينين أما المحققون فقالوا إنه عام لكل من يفعل هذا الفعل كائناً من كان وذلك لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ وقال آخرون إنه مختص بأناس معينين ثم قال عطاى والكلبي نزلت في الأخنس بن شريق كان يلمز الناس ويغتابهم وخاصة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال مقاتل نزلت في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من ورائه ويطعن عليه في وجهه وقال محمد بن إسحاق ما زلنا نسمع أن هذه السورة نزلت في أمية بن خلف قال الفراء وكون اللفظ عاماً لا ينافي أن يكون المراد منه شخصاً معيناً كما أن إنساناً لو قال لك لا أزورك أبداً فتقول أنت كل من لم يزرني لا أزوره وأنت إنما تريده بهذه الجملة العامة وهذا هو المسمى في أصول الفقه بتخصيص العام بقرينة العرف

المسألة الثانية الهمز الكسر قال تعالى هَمَّازٍ مَّشَّاء واللمز الطعن والمراد الكسر من أعراض الناس والغض منهم والطعن فيهم قال تعالى وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وبناء فعله يدل على أن ذلك عادة منه قد ضري بها ونحوهما اللعنة والضحكة وقرىء وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَة ٍ لُّمَزَة ٍ بسكون الميم وهي المسخرة التي تأتي بالأوابد والأضاحيك فيضحك منه ويشتم وللمفسرين ألفاظاً أحدها قال ابن عباس الهمزة المغتاب واللمزة العياب وثانيها قال أبو زيد الهمزة باليد واللمزة باللسان وثالثها قال أبو العالية الهمزة بالمواجهة واللمزة بظهر الغيب ورابعها الهمزة جهراً واللمزة سراً بالحاجب والعين وخامسها الهمزة واللمزة الذي يلقب الناس بما يكرهون وكان الوليد بن المغيرة يفعل ذلك لكنه لا يليق بمنصب الرياسة إنما ذلك من عادة السقاط ويدخل فيه من يحاكي الناس بأقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا وقد حكى الحكم بن العاص مشية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنفاه عن المدينة ولعنه وسادسها قال الحسن الهمزة الذي يهمز جليسه يكسر عليه عينه واللمزة الذي يذكر أخاه بالسوء ويعيبه وسابعها عن أبي الجوزاء قال قلت لابن عباس وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَة ٍ لُّمَزَة ٍ من هؤلاء الذين يذمهم الله بالويل فقال هم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الناعتون للناس بالعيب
واعلم أن جميع هذه الوجوه متقاربة راجعة إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب ثم هذا على قسمين فإنه إما أن يكون بالجد كما يكون عند الحسد والحقد وإما أن يكون بالهزل كما يكون عند السخرية والإضحاك وكل واحد من القسمين إما أن يكون في أمر يتعلق بالدين وهو ما يتعلق بالصورة أو المشي أو الجلوس وأنواعه كثيرة وهي غير مضبوطة ثم إظهار العيب في هذه الأقسام الأربعة قد يكون لحاضر وقد يكون لغائب وعلى التقديرين فقد يكون باللفظ وقد يكون بإشارة الرأس والعين وغيرهما وكل ذلك داخل تحت النهي والزجر إنما البحث في أن اللفظ بحسب اللغة موضوع لماذا فما كان اللفظ موضوعاً له كان منهياً بحسب اللفظ ومالم يكن اللفظ موضوعاً له كان داخلاً تحت النهي بحسب القياس الجلي ولما كان الرسول أعظم الناس منصباً في الدين كان الطعن فيه عظيماً عند الله فلا جرم قال وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَة ٍ لُّمَزَة ٍ
الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ
ثم قال تعالى الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى الَّذِى بدل من كل أو نصب على ذم وإنما وصفه الله تعالى بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب والعلة في الهمز واللمز وهو إعجابه بما جمع من المال وظنه أن الفضل فيه لأجل ذلك فيستنقص غيره
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي وابن عامر جمع بالتشديد والباقون بالتخفيف والمعنى في جمع وجمع واحد متقارب والفرق أن جَمَعَ بالتشديد يفيد أنه جمعه من ههنا وههنا وأنه لم يجمعه في يوم واحد ولا في يومين ولا في شهر ولا في شهرين يقال فلان يجمع الأموال أي يجمعها من ههنا وههنا وأما جمع بالتخفيف فلا يفيد ذلك وأما قوله مَالاً فالتنكير فيه يحتمل وجهين أحدهما أن يقال

المال اسم لكل ما في الدنيا كما قال الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَة ُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فمال الإنسان الواحد بالنسبة إلى مال كل الدنيا حقير فكيف يليق به أن يفتخر بذلك القليل والثاني أن يكون المراد منه التعظيم أي مال بلغ في الخبث والفساد أقصى النهايات فكيف يليق بالعاقل أن يفتخر به أما قوله وَعَدَّدَهُ ففيه وجوه أحدها أنه مأخوذ من العدة وهي الذخيرة يقال أعددت الشيء لكذا وعددته إذا أمسكته له وجعلته عدة وذخيرة لحوادث الدهر وثانيها عدده أي أحصاه وجاء التشديد لكثرة المعدود كما يقال فلان يعدد فضائل فلان ولهذا قال السدي وعدده أي أحصاه يقول هذا لي وهذا لي يلهيه ماله بالنهار فإذا جاء الليل كان يخفيه وثالثها عدده أي كثره يقال في بني فلان عدد أي كثرة وهذان القولان الأخيران راجعان إلى معي العدد والقول الثالث إلى معنى العدة وقرأ بعضهم وعدده بالتخفيف وفيه وجهان أحدهما أن يكون المعنى جمع المال وضبط عدده وأحصاه وثانيهما جمع ماله وعدد قومه الذين ينصرونه من قولك فلان ذو عدد وعدد إذا كان له عدد وافر من الأنصار والرجل متى كان كذلك كان أدخل في التفاخر
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ
ثم وصفه تعالى بضرب آخر من الجهل فقال يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ
واعلم أن أخلده وخلده بمعنى واحد ثم في التفسير وجوه أحدها يحتمل أن يكون المعنى طول المال أمله حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أن ماله تركه خالداً في الدنيا لا يموت وإنما قال أَخْلَدَهُ ولم يقل يخلده لأن المراد يحسب هذا الإنسان أن المال ضمن له الخلود وأعطاه الأمان من الموت وكأنه حكم قد فرغ منه ولذلك ذكره على الماضي قال الحسن ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه كالموت وثانيها يعمل الأعمال المحكمة كتشييد البنيان بالآجر والجص عمل من يظن أنه يبقى حياً أو لأجل أن يذكر بسببه بعد الموت وثالثها أحب المال حباً شديداً حتى اعتقد أنه إن انتقص مالي أموت فلذلك يحفظه من النقصان ليبثى حياً وهذا غير بعيد من اعتقاد البخيل ورابعها أن هذا تعريض بالعمل الصالح وأنه هو الذي يخلد صاحبه في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخر في النعيم المقيم
أما قوله تعالى كَلاَّ ففيه وجهان أحدهما أنه ردع له عن حسبانه أي ليس الأمر كما يظن أن المال يخلده بل العلم والصلاح ومنه قول علي عليه السلام مات خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر والقول الثاني معناه حقاً لَيُنبَذَنَّ واللام في لَيُنبَذَنَّ جواب القسم المقدر فدل ذلك على حصول معنى القسم في كلا
كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَة ِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَة ُ
أما قوله تعالى لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَة ِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَة ُ فإنما ذكره بلفظ النبذ الدال على الإهانة لأن الكافر كان يعتقد أنه من أهل الكرامة وقرىء لنبذان أي هو وماله ولينبذن بضم الذال أي هو وأنصاره وأما الْحُطَمَة ِ فقال المبرد إنها النار التي تحطم كل من وقع فيها ورجل حطمة أي شديد الأكل يأتي على زاد القوم وأصل الحطم في اللغة الكسر ويقال شر الرعاء الحطمة يقال راع حطمة وحطم بغير هاء كأنه يحطم الماشية أي يكسرها عند سوقها لعنفه قال المفسرون الحطمة اسم من أسماء النار وهي الدركة الثانية من دركات النار وقال مقاتل هي تحطم العظام وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب

وروى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الملك ليأخذ الكافر فيكسره على صلبه كما توضع الخشبة على الركبة فتكسر ثم يرمى به في النار )
واعلم أن الفائدة في ذكر جهنم بهذا الاسم ههنا وجوه أحدها الاتحاد في الصورة كأنه تعالى يقول إن كنت همزة لمزة فوراءك الحطمة والثاني أن الهامز بكسر عين ليضع قدره فيلقيه في الحضيض فيقول تعالى وراءك الحطمة وفي الحطم كسر فالحطمة تكسرك وتلقيك في حضيض جهنم لكن الهمزة ليس إلا الكسر بالحاجب أما الحطمة فإنها تكسر كسراً لا تبقي ولا تذر الثالث أن الهماز اللماز يأكل لحم الناس والحطمة أيضاً اسم للنار من حيث إنها تأكل الجلد واللحم ويمكن أن يقال ذكر وصفين الهمز واللمز ثم قابلهما باسم واحد وقال خذ واحداً مني بالإثنين منك فإنه يفي ويكفي فكأن السائل يقول كيف يفي الواحد بالإثنين فقال إنما تقول هذا لأنك لا تعرف هذا الواحد فلذلك قال وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَة ُ
نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَة ُ
أما قوله تعالى نَارُ اللَّهِ فالإضافة للتفخيم أي هي نار لا كسائر النيران الْمُوقَدَة ُ التي لا تخمد أبداً أو الْمُوقَدَة ُ بأمره أو بقدرته ومنه قول علي عليه السلام عجباً ممن يعصى الله على وجه الأرض والنار تسعر من تحته وفي الحديث ( أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت ثم ألف سنة حتى ابيضت ثم ألف سنة حتى اسودت فهي الآن سوداء مظلمة )
الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاٌّ فْئِدَة ِ
أما قوله تعالى الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاْفْئِدَة ِ فاعلم أنه يقال طلع الجبل واطلع عليه إذا علاه ثم في تفسير الآية وجهان الأول أن النار تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد ولا أشد تألماً منه بأدنى أذى مماسه فكيف إذا اطلعت نار جهنم واستولت عليه ثم إن الفؤاد مع استيلاء النار عليه لا يحترق إذ لو احترق لمات وهذا هو المراد من قوله لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى ومعنى الاطلاع هو أن النار تنزل من اللحم إلى الفؤاد والثاني أن سبب تخصيص الأفئدة بذلك هو أنها مواطن الكفر والعقائد الخبيثة والنيات الفاسدة واعلم أنه روى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن النار تأكل أهلها حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت ثم إن الله تعالى يعيد لحمهم وعظمهم مرة أخرى
إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة ٌ
أما قوله تعالى إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة ٌ فقال الحسن مُّؤْصَدَة ُ أي مطبقة من أصدت الباب وأوصدته لغتان ولم يقل مطبقة لأن المؤصدة هي الأبواب المغلقة والإطباق لا يفيد معنى الباب
واعلم أن الآية تفيد المبالغة في العذاب من وجوه أحدها أن قوله لَيُنبَذَنَّ يقتضي أنه موضع له قعر عميق جداً كالبئر وثانيها أنه لو شاء يجعل ذلك الموضع بحيث لا يكون له باب لكنه بالباب يذكرهم الخروج فيزيد في حسرتهم وثالثها أنه قال عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة ٌ ولم يقل مؤصدة عليهم لأن قوله عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة ٌ يفيد أن المقصود أولاً كونهم بهذه الحالة وقوله مؤصدة عليهم لا يفيد هذا المعنى بالقصد الأول

فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَة ِ
أما قوله تعالى فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَة ِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء في عمد بضمتين وعمد بسكون الميم وعمد بفتحتين قال الفراء عمد وعمد وعمد مثل الأديم والإدم والأدم والإهاب والأهب والأهب والعقيم والعقم والعقم وقال المبرد وأبو علي العمد جمع عمود على غير واحد أما الجمع على واحد فهو العمد مثل زبور وزبر ورسول ورسل
المسألة الثانية العمود كل مستطيل من خشب أو حديد وهو أصل للبناء يقال عمود البيت للذي يقوم به البيت
المسألة الثالثة في تفسير الآية وجهان الأول أنها عمد أغلقت بها تلك الأبواب كنحو ما تغلق به الدروب وفي بمعنى الباء أي أنها عليهم مؤصدة بعمد مدت عليها ولم يقل بعمد لأنها لكثرتها صارت كأن الباب فيها والقول الثاني أن يكون المعنى إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة ٌ حال كونهم موثقين فِى عَمَدٍ مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص اللهم أجرنا منها يا أكرم الأكرمين

سورة الفيل
خمس آيات مكية
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ
مُّمَدَّدَة ِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ
روى أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصخمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس وأراد أن يصرف إليها الحاج فخرج من بني كنانة رجل وتغوط فيها ليلاً فأغضبه ذلك
وقيل أججت رفقة من العرب ناراً فحملتها الريح فأحرقتها فحلف ليهدمن الكعبة فخرج بالحبشة ومعه فيل اسمه محمود وكان قوياً عظيماً وثمانية أخرى وقيل إثنا عشر وقيل ألف فلما بلغ قريباً من مكة خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى وعبأ جيشه وقدم الفيل فكانوا كلما وجهوه إلى جهة الحرم برك ولم يبرح وإذا وجهوه إلى جهة اليمن أو إلى سائر الجهات هرول ثم إن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير فخرج إليهم فيها فعظم في عين أبرهة وكان رجلاً جسيماً وسيماً وقيل هذا سيد قريش وصاحب عير مكة فلما ذكر حاجته قال سقطت من عيني جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك فألهاك عنه ذود أخذلك فقال أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعك عنه ثم رجع وأتى البيت وأخذ بحلقته وهو يقول
لا هم إن المرء يم
نع حله فامنع حلالك

وانصر على آل الصلي
ب وعابديه اليوم آلك لا يغلبن صليبهم
ومحالهم عدوا محالك إن كنت تاركهم وكع
بتنا فأمر ما بدالك ويقول
يا رب لا أرجو لهم سواكا
يا رب فامنع عنهم حماكا فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن فقال والله إنها لطير غريبة ما هي بنجدية ولا تهامية وكان مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة وعن ابن عباس أنه رأى منها عند أم هانيء نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفارى فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره وعلى كل حجر اسم من يقع عليه فهلكوا في كل طريق ومنهل ودوى أبرهة فتساقطت أنامله وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة فلما أتمها وقع عليه الحجر وخر ميتاً بين يديه وعن عائشة قالت ( رأيت قائد الفيل ) وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان ثم في الآية سؤالات
الأول لم قال أَلَمْ تَرَ مع أن هذه الواقعة وقعت قبل المبعث بزمان طويل الجواب المراد من الرؤية العلم والتذكير وهو إشارة إلى أن الخبر به متواتر فكان العلم الحاصل به ضرورياً مساوياً في القوة والجلاء للرؤية ولهذا السبب قال لغيره على سبيل الذم أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ لا يقال فلم قال أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ لأنا نقول الفرق أن مالا يتصور إدراكه لا يستعل فيه إلا العلم لكونه قادراً وأما الذي يتصور إدراكه كفرار الفيل فإنه يجوز أن يستعمل فيه الرؤية
السؤال الثاني لم قال أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ولم يقل ألم تر ما فعل ربك الجواب لأن الأشياء لها ذوات ولها كيفيات باعتبارها يدل على مداومتها وهذه الكيفية هي التي يسميها المتكلمون وجه الدليل واستحقاق المدح إنما يحصل برؤية هذه الكيفيات لا برؤية الذوات ولهذا قال أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا ولا شك أن هذه الواقعة كانت دالة على قدرة الصانع وعلمه وحكمته وكانت دالة على شرف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأن مذهبنا أنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة تأسيساً لنبوتهم وإرهاصاً لها ولذلك قالوا كانت الغمامة تظله وعند المعتزلة أن ذلك لا يجوز فلا جرم زعموا أنه لا بد وأن يقال كان في ذلك الزمان نبي ( أو خطيب ) كخالد بن سنان أو قس بن ساعدة ثم قالوا ولا يجب أن يشتهر وجودهما ويبلغ إلى حد التواتر لا حتمال أنه كان مبعوثاً إلى جمع قليلين فلا جرم لم يشتهر خبره
واعلم أن قصة الفيل واقعة على الملحدين جداً لأنهم ذكروا في الزلازل والرياح والصاعق وسائر

الأشياء التي عذب الله تعالى بها الأمم أعذاراً ضعيفة أما هذه الواقعة فلا تجرى فيها تلك الأعذار لأنها ليس في شيء من الطبائع والحيل أن يقبل طير معها حجارة فتقصد قوماً دون قوم فتقتلهم ولا يمكن أن يقال إنه كسائر الأحاديث الضعيفة لأنه لم يكن بين عام الفيل ومبعث الرسول إلا نيف وأربعون سنة ويوم تلا الرسول هذه السورة كان قد بقي بمكة جمع شاهدوا تلك الواقعة ولو كان النقل ضعيفاً لشافهوه بالتكذيب فلما لم يكن كذلك علمنا أنه لا سبب للطعن فيه
السؤال الثالث لم قال فِعْلَ ولم يقل جعل ولا خلق ولا عمل الجواب لأن خلق يستعمل لابتداء الفعل وجعل للكيفيات قال تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ وعمل بعد الطلب وفعل عام فكان أولى لأنه تعالى خلق الطيور وجعل طبع الفيل على خلاف ما كانت عليه وسألوه أن يحفظ البيت ولعله كان فيهم من يستحق الإجابة فلو ذكر الألفاظ الثلاثة لطال الكلام فذكر لفظاً يشمل الكل
السؤال الرابع لما قال ربك ولم يقل الرب الجواب من وجوه أحدها كأنه تعالى قال إنهم لما شاهدوا هذا الانتقام ثم لم يتركوا عبادة الأوثان وأنت يا محمد ما شاهدته ثم اعترفت بالشكر والطاعة فكأنك أنت الذي رأيت ذلك الانتقام فلا جرم تبرأت عنهم واخترتك من الكل فأقول ربك أي أنا لك ولست لهم بل عليهم وثانيها كأنه تعالى قال إنما فعلت بأصحاب الفيل ذلك تعظيماً لك وتشريفاً لمقدمك فأنا كنت مربياً لك قبل قومك فكيف أترك تربيتك بعد ظهورك ففيه بشارة له عليه السلام بأنه سيظفر
السؤال الخامس قوله أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ مذكور في معرض التعجب وهذه الأشياء بالنسبة إلى قدرة الله تعالى ليست عجيبة فما السبب لهذا التعجب الجواب من وجوه أحدها أن الكعبة تبع لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأن العلم يؤدي بدون المسجد أما لا مسجد بدون العالم فالعالم هو الدر والمسجد هو الصدف ثم الرسول الذي هو الدر همزه الوليد ولمزه حتى ضاق قلبه فكأنه تعالى يقول إن الملك العظيم لما طعن في المسجد هزمته وأفنيته فمن طعن فيك وأنت المقصود من الكل ألا أفنيه وأعدمها إن هذا لعجيب وثانيها أن الكعبة قبلة صلاتك وقلبك قبلة معرفتك ثم أنا حفظت قبلة عملك عن الأعداء أفلا تسعى في حفظ قبلة دينك عن الآثام والمعاصيا
السؤال السادس لم قال أَصْحَابُ الْفِيلِ ولم يقل أرباب الفيل أو ملاك الفيل الجواب لأن الصاحب يكون من الجنس فقوله أَصْحَابُ الْفِيلِ يدل على أن أولئك الأقوام كانوا من جنس الفيل في البهيمية وعدم الفهم والعقل بل فيه دقيقة وهي أنه إذا حصلت المصاحبة بين شخصين فيقال للأدون إنه صاحب الأعلى ولا يقال للأعلى إنه صاحب الأدون ولذلك يقال لمن صحب الرسول عليه السلام إنهم الصحابة فقوله أَصْحَابُ الْفِيلِ يدل على أن أولئك الأقوام كانوا أقل حال وأدون منزلة من الفيل وهو المراد من قوله تعالى بَلْ هُمْ أَضَلُّ ومما يؤكد ذلك أنهم كلما وجهوا الفيل إلى جهة

الكعبة كان يتحول عنه ويفر عنه كأنه كان يقول لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عزمي حميد فلا أتركه وهم ما كانوا يتركون تلك العزيمة الردية فدل ذلك على أن الفيل كان أحسن حالاً منهم
السؤال السابع أليس أن كفار قريش كانوا ملأوا الكعبة من الأوثان من قديم الدهر ولا شك أن ذلك كان أقبح من تخريب جدران الكعبة فلم سلط الله العذاب على من قصد التخريب ولم يسلط العذاب على من ملأها من الأوثان والجواب لأن وضع الأوثان فيها تعد على حق الله تعالى وتخريبها تعد على حق الخلق ونظيره قاطع الطريق والباغي والقاتل يقتلون مع أنهم مسلمون ولا يقتل الشيخ الكبير والأعمى وصاحب الصومعة والمرأة وإن كانوا كفار لأنه لا يتعدى ضررهم إلى الخلق
السؤال الثامن كيف القول في إعراب هذه الآية الجواب قال الزجاج كيف في موضع نصب بفعل لا بقوله أَلَمْ تَرَ لأن كيف من حروف الاستفهام
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ
واعلم أنه تعالى ذكر ما فعل بهم فقال أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية إن قيل فلم سماه كيداً وأمره كان ظاهراً فإنه كان يصرح أنه يهدم البيت قلنا نعم لكن الذي كان في قلبه شر مما أظهر لأنه كان يضمر الحسد للعرب وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبة منهم ومن بلدهم إلى نفسه وإلى بلدته
المسألة الثانية قالت المعتزلة إضافة الكيد إليهم دليل على أنه تعالى لا يرضى بالقبيح إذ لو رضي لأضافه إلى ذاته كقوله يَأْذَنَ لِى والجواب أنه ثبت في علم النحو أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب فلم لا يكفي في حسن هذه الإضافة وقوعه مطابقاً لإرادتهم واختيارهم
المسألة الثالثة فِى تَضْلِيلٍ أي في تضييع وإبطال يقال ضلل كيده إذا جعله ضالاً ضائعاً ونظيره قوله تعالى وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ وقيل لامرىء القيس الملك الضليل لأنه ضلل ملك أبيه أي ضيعه بمعنى أنهم كادوا البيت أولاً ببناء القليس وأرادوا أن يفتتحوا أمره بصرف وجوه الحاج إليه فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه ثم كادوه ثانياً بإرادة هدمه فضلل بإرسال الطير عليهم ومعنى حرف الظرف كما يقال سعى فلان في ضلال أي سعيهم كان قد ظهر لكل عاقل أنه كان ضلال وخطأ
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ
ثم قال تعالى وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ وفيه سؤالات
السؤال الأول لم قال طَيْراً على التنكير والجواب إما للتحقير فإنه مهما كان أحقر كان صنع الله أعجب وأكبر أو للتفخيم كأنه يقول طيراً وأي طير ترمى بحجارة صغيرة فلا تخطىء المقتل
السؤال الثاني ما الأبابيل الجواب أما أهل اللغة قال أبو عبيدة أبابيل جماعة في تفرقة يقال جاءت

الخيل أبابيل أبابيل من ههنا وههنا وهل لهذه اللفظة واحد أم لا فيه قولان الأول وهو قول الأخفش والفراء أنه لا واحد لها وهو مثل الشماطيط والعباديد لا وحد لها والثاني أنه له واحد ثم على هذا القول ذكروا ثلاثة أوجه أحدها زعم أبو جعفر الرؤاسي وكان ثقة مأموناً أنه سمع واحدها إبالة وفي أمثالهم ضغث على إبالة وهي الحزمة الكبيرة سميت الجماعة من الطير في نظامها بالإبالة وثانيها قال الكسائي كنت أسمع النحويين يقولون إبول وأبابيل كعجول وعجاجيل وثالثها قال الفراء ولو قال قائل واحد الأبابيل إيبالة كان صواباً كما قال دينار ودنانير
السؤال الثالث ما صفة تلك الطير الجواب روى ابن سيرين عن ابن عباس قال كانت طيراً لها خراطيم كخراطيم الفيل وأكل كأكف الكلاب وروى عطاء عنه قال طير سود جاءت من قبل البحر فوجاً فوجاً ولعل السبب أنها أرسلت إلى قوم كان في صورتهم سواد اللون وفي سرهم سواد الكفر والمعصية وعن سعيد بن جبير أنها بيض صغار ولعل السبب أن ظلمة الكفر انهزمت بها والبياض ضد السواد وقيل كانت خضراً ولها رءوس مثل رءوس السباع وأقول إنها لما كانت أفواجاً فلعل كل فوج منها كان على شكل آخر فكل أحد وصف ما رأى وقيل كانت بلقاء كالخطاطيف
تَرْمِيهِم بِحِجَارَة ٍ مِّن سِجِّيلٍ
ثم قال تعالى تَرْمِيهِم بِحِجَارَة ٍ مّن سِجّيلٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو حيوة يرميهم أي الله أو الطير لأنه اسم جمع مذكر وإنما يؤنث على المعنى
المسألة الثانية ذكروا في كيفية الرمي وجوهاً أحدها قال مقاتل كان كل طائر يحمل ثلاثة أحجار واحد في منقاره واثنان في رجليه يقتل كل واحد رجلاً مكتوب على كل حجر اسم صاحبه ما وقع منها حجر على موضع إلا خرج من الجانب الآخر وإن وقع على رأسه خرج من دبره وثانيها روى عكرمة عن ابن عباس قال لما أرسل الله الحجارة على أصحاب الفيل لم يقع حجر على أحد منهم إلا نفط جلده وثار به الجدري وهو قول سعيد بن جبير وكانت تلك الأحجار أصغرها مثل العدسة وأكبرها مثل الحمصة
واعلم أن من الناس من أنكر ذلك وقال لو جوزناأن يكون في الحجارة التي تكون مثل العدسة من الثقل ما يقوى به على أن ينفذ من رأس الإنسان ويخرج من أسفله لجوزنا أن يكون الجبل العظيم خالياً عن الثقل وأن يكون في ومن التينة وذلك يرفع الأمان عن المشاهدات فإنه متى جاز ذلك فليجز أن يكون بحضرتنا شموس وأقمار ولا نراها وأن يحصل الإدراك في عين الضرير حتى يكون هو بالمشرق ويرى بقعة في الأندلس وكل ذلك محال واعلم أن ذلك جائز على مذهبنا إلا أن العادة جارية بأنها لا تقع
المسألة الثالثة ذكروا في السجيل وجوهاً أحدها أن السجيل كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار كما أن سجيناً علم لديوان أعمالهم كأنه قيل بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال ومنه السجل الدلو المملوء ماء وإنما سمي ذلك الكتاب بهذا الاسم

لأنه كتب فيه العذاب والعذاب موصوف بالإرسال لقوله تعالى وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ وقوله فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ فقوله مّن سِجّيلٍ أي مما كتبه الله في ذلك الكتاب وثانيها قال ابن عباس سجيل معناه سنك وكل يعني بعضه حجر وبعضه طين وثالثها قال أبو عبيدة السجيل الشديد ورابعها السجيل اسم لسماء الدنيا وخامسها السجيل حجارة من جهنم فإن سجيل اسم من أسماء جهنم فأبدلت النون باللام
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ
أما قوله تعالى فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تفسير العصف وجوهاً ذكرناها في قوله وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وذكروا ههنا وجوهاً أحدها أنه ورق الزرع الذي يبقى في الأرض بعد الحصاد وتعصفه الرياح فتأكله المواشي وثانيها قال أبو مسلم العصف التبن لقوله ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ لأنه تعصف به الريح عند الذر فتفرقه عن الحب وهو إذا كان مأكولاً فقد بطل ولا رجعة له ولا منعة فيه وثالثها قال الفراء هو أطراف الزرع قبل أن يدرك السنبل ورابعها هو الحب الذي أكل لبه وبقي قشره
المسألة الثانية ذكروا في تفسير المأكول وجوهاً أحدها أنه الذي أكل وعلى هذا الوجه ففيه احتمالان
أحدهما أن يكون المعنى كزرع وتبن قد أكلته الدواب ثم ألقته روثاً ثم يجف وتتفرق أجزاؤه شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث إلا أن العبارة عنه جاءت على ما عليه آداب القرآن كقوله كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ وهو قول مقاتل وقتادة وعطاء عن ابن عباس
والاحتمال الثاني على هذا الوجه أن يكون التشبيه واقعاً بورق الزرع إذا وقع فيه الأكال وهو أن يأكله الدود الوجه الثاني في تفسير قوله مَّأْكُولِ هو أنه جعلهم كزرع قد أكل حبه وبقي تبنه وعلى هذا التقدير يكون المعنى كعصف مأكول الحب كما يقال فلان حسن أي حسن الوجه فأجرى مأكول على العصف من أجل أنه أكل حبه لأن هذا المعنى معلوم وهذا قول الحسن الوجه الثالث في التفسير أن يكون معنى مَّأْكُولِ أنه مما يؤكل يعني تأكله الدواب يقال لكل شيء يصلح للأكل هو مأكول والمعنى جعلهم كتبن تأكله الدواب وهو قول عكرمة والضحاك
المسألة الثالثة قال بعضهم إن الحجاج خرب الكعبة ولم يحدث شيء من ذلك فدل على أن قصة الفيل ما كانت على هذا الوجه وإن كانت هكذا إلا أن السبب لتلك الواقعة أمر آخر سوى تعظيم الكعبة والجواب أنا بينا أن ذلك وقع إرهاصاً لأمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والإرهاص إنما يحتاج إليه قبل قدومه أما بعد قدومه وتأكد نبوته بالدلائل القاطعة فلا حاجة إلى شيء من ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة قريش
وهي أربع آيات مكية
لإِيلَافِ قُرَيْشٍ
لإيلاف قريش إيلافهم اعلم أن ههنا مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله لإيلاف تحتمل وجوهاً ثلاثة فإنها إما أن تكون متعلقة بالسورة التي قبلها أو بالآية التي بعدها أولاً تكون متعلقة لا بما قبلها ولا بما بعدها أما الوجه الأول وهو أن تكون متعلقة بما قبلها ففيه احتمالات
الأول وهو قول الزجاج وأبي عبيدة أن التقدير فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ لإلف قريش أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف فإن قيل هذا ضعيف لأنهم إنما جعلوا كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ لكفرهم ولم يجعلوا كذلك لتأليف قريش قلنا هذا السؤال ضعيف لوجوه أحدها أنا لا نسلم أن الله تعالى إنما فعل بهم ذلك لكفرهم فإن الجزاء على الكفر مؤخر للقيامة قال تعالى الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وقال وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة ٍ ولأنه تعالى لو فعل بهم ذلك لكفرهم لكان قد فعل ذلك بجميع الكفار بل إنما فعل ذلك بهم لإِيلَافِ قُرَيْشٍ ولتعظيم منصبهم وإظهار قدرهم وثانيها هب أن زجرهم عن الكفر مقصود لكن لا ينافي كون شيء آخر مقصود حتى يكون الحكم واقعاً بمجموع الأمرين معاً وثالثها هب أنهم أهلكوا لكفرهم فقط إلا أن ذلك الإهلاك لما أدى إلى إيلاف قريش جاز أن يقال أهلكوا لإيلاف قريش كقوله تعالى لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً وهم لم يلتقطوه لذلك لكن لما آل الأمر إليه حسن أن يمهد عليه الالتقاط

الاحتمال الثاني أن يكون التقدير أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ لإِيلَافِ قُرَيْشٍ كأنه تعالى قال كل ما فعلنا بهم فقد فعلناه لإيلاف قريش فإنه تعالى جعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيراً أبابيل حتى صاروا كعصف مأكول فكل ذلك إنما كان لأجل إيلاف قريش
الاحتمال الثالث أن تكون اللام في قوله لإِيلَافِ بمعنى إلى كأنه قال فعلنا كل ما فعلنا في السورة المتقدمة إلى نعمة أخرى عليهم وهي إيلافهم رِحْلَة َ الشّتَاء وَالصَّيْفِ تقول نعمة الله نعمة ونعمة لنعمة سواء في المعنى هذا قول الفراء فهذه احتمالات ثلاثة توجهت على تقدير تعليق اللام بالسورة التي قبل هذه وبقي من مباحث هذا القول أمران
الأول أن للناس في تعليق هذه اللام بالسورة المتقدمة قولين أحدهما أن جعلوا السورتين سورة واحدة واحتجوا عليه بوجوه أحدها أن السورتين لا بد وأن تكون كل واحدة منهما مستقلة بنفسها ومطلع هذه السورة لما كان متعلقاً بالسورة المتقدمة وجب أن لا تكون سورة مستقلة وثانيها أن أبي بن كعب جعلهما في مصحفه سورة واحدة وثالثها ما روى أن عمر قرأ في صلاة المغرب في الركعة الأولى والتين وفي الثانية ألم تر ولإيلاف قريش معاً من غير فصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم القول الثاني وهو المشهور المستفيض أن هذه السورة منفصلة عن سورة الفيل وأما تعلق أول هذه السورة بما قبلها فليس بحجة على ما قالوه لأن القرآن كله كالسورة الواحدة وكالآية الواحدة يصدق بعضها بعضاً ويبين بعضها معنى بعض ألا ترى أن الآيات الدالة على الوعيد مطلقة ثم إنها متعلقة بآيات التوبة وبآيات العفو عنه من يقول به وقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ متعلق بما قبله من ذكر القرآن وأما قوله إن أبياً لم يفصل بينهما فهو معارض بإطباق الكل على الفصل بينهما وأما قراءة عمر فإنها لا تدل على أنهما سورة واحدة لأن الإمام قد يقرأ سورتين
البحث الثاني فيما يتعلق بهذا القول بيان أنه لم صار ما فعله الله بأصحاب الفيل سبباً لإيلاف قريش فنقول لا شك أن مكة كانت خالية عن الزرع والضرع على ما قال تعالى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ إلى قوله فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ فكان أشراف أهل مكة يرتحلون للتجارة هاتين الرحتلين ويأتون لأنفسهم ولأهل بلدهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب وهم إنما كانوا يربحون في أسفارهم ولأن ملوك النواحي كانوا يعظمون أهل مكة ويقولون هؤلاء جيران بيت الله وسكان حرمه وولاة الكعبة حتى إنهم كانوا يسمون أهل مكة أهل الله فلو تم للحبشة ما عزموا عليه من هدم الكعبة لزال عنهم هذا العز ولبطلت تلك المزايا في التعظيم والاحترام ولصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون من كل جانب ويتعرض لهم في نفسهم وأموالهم فلما أهلك الله أصحاب الفيل ورد كيدهم في نحرهم ازداد وقع أهل مكة في القلوب وازداد تعظيم ملوك الأطراف لهم فازدادت تلك المنافع والمتاجر فلهذا قال الله تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ لإِيلَافِ قُرَيْشٍ رِحْلَة َ الشّتَاء وَالصَّيْفِ والوجه الثاني فيما يدل على صحة هذا القول أن قوله تعالى في آخر هذه السورة فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ الَّذِى إشارة إلى أول سورة الفيل كأنه قال

فليعبدوا رب هذا البيت الذي قصده أصحاب الفيل ثم إن رب البيت دفعهم عن مقصودهم لأجل إيلافكم ونفعكم لأن الأمر بالعبادة إنما يحسن مرتباً على إيصال المنفعة فهذا يدل على تعلق أول هذه السورة بالسورة المتقدمة
القول الثاني وهو أن اللام في لإِيلَافِ متعلقة بقوله فَلْيَعْبُدُواْ وهو قول الخليل وسيبويه والتقدير فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش أي ليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النعمة واعترافاً بها فإن قيل فلم دخلت الفاء في قوله فَلْيَعْبُدُواْ قلنا لما في الكلام من معنى الشرط وذلك لأن نعم الله عليهم لا تحصى فكأنه قيل إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبده لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة
القول الثالث أن تكون هذه اللام غير متعلقة لا بما قبلها ولا بما بعدها قال الزجاج قال قوم هذه اللام لام التعجب كأن المعنى اعجبوا لإيلاف قريش وذلك لأنهم كل يوم يزدادون غياً وجهلاً وانغماساً في عبادة الأوثان والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم وينظم أسباب معايشهم وذلك لا شك أنه في غاية التعجب من عظيم حلم الله وكرمه ونظيره في اللغة قولك لزيد وما صنعنا به ولزيد وكرامتنا إياه وهذا اختيار الكسائي والأخفش والفراء
المسألة الثانية ذكروا في الإيلاف ثلاثة أوجه أحدها أن الإيلاف هو الإلف قال علماء اللغة ألفت الشيء وألفته إلفاً وإلافاً وإيلافاً بمعنى واحد أي لزمته فيكون المعنى لإلف قريش هاتين الرحلتين فتتصلا ولا تنقطعا وقرأ أبو جعفر لإلف قريش وقرأ الآخرون لإلاف قريش وقرأ عكرمة ليلاف قريش وثانيها أن يكون هذا من قولك لزمت موضع كذا وألزمنيه الله كذا تقول ألفت كذا وألفنيه الله ويكون المعنى إثبات الألفة بالتدبير الذي فيه لطف ألف بنفسه إلفاً وآلفه غيره إيلافاً والمعنى أن هذه الألفة إنما حصلت في قريش بتدبير الله وهو كقوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ وقال وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وقد تكون المسرة سبباً للمؤانسة والاتفاق كما وقعت عند انهزام أصحاب الفيل لقريش فيكون المصدر ههنا مضافاً إلى المفعول ويكون المعنى لأجل أن يجعل الله قريشاً ملازمين لرحلتيهم وثالثها أن يكون الإيلاف هو التهيئة والتجهيز وهو قول الفراء وابن الأعرابي فيكون المصدر على هذا القول مضافاً إلى الفاعل والمعنى لتجهيز قريش رحلتيها حتى تتصلا ولا تنقطعا وقرأ أبو جعفر ليلاف بغير همز فحذف همزة الإفعال حذفاً كلياً وهو كمذهبه في يستهزءون وقد مر تقريره
المسألة الثالثة التكرير في قوله لإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ هو أنه أطلق الإيلاف أولاً ثم جعل المقيد بدلاً لذلك المطلق تفخيماً لأمر الإيلاف وتذكيراً لعظيم المنة فيه والأقرب أن يكون قوله لإِيلَافِ قُرَيْشٍ عاماً بجمع كل مؤانسة وموافقة كان بينهم فيدخل فيه مقامهم وسيرهم وجميع أحوالهم ثم خص إيلاف الرحلتين بالذكر لسبب أنه قوام معاشهم كما في قوله وَجِبْرِيلُ وفائدة ترك واو العطف التنبيه على أنه كل النعمة تقول العرب ألفت كذا أي لزمته والإلزام ضربان إلزام بالتكليف والأمر وإلزام بالمودة والمؤانسة فإنه ءذا أحب المرء شيئاً لزمه ومنه وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى كما أن الإلجاء ضربان أحدهما لدفع الضرر كالهرب من السبع والثاني لطلب النفع العظيم كمن يجد مالاً عظيماً ولا مانع من أخذه لا عقلاً ولا شرعاً ولا حساً فإنه يكون كالملجأ إلى الأخذ وكذا الدواعي التي

تكون دون الالجاء مرة تكون لدفع الضرر وأخرى لجلب النفع وهو المراد في قوله إِيلَافِهِمْ
المسألة الرابعة اتفقوا على أن قريشاً ولد النضر بن كنانة قال عليه الصلاة والسلام ( إنا بني النضر بن كنانة لأنفقوا أمناً ولا ننتفي من أبينا ) وذكروا في سبب هذه التسمية وجوهاً أحدها أنه تصغير القرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ولا تنطلق إلا بالنار وعن معاوية أنه سأل ابن عباس بم سميت قريش قال بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل تعلو ولا تعلى وأنشد
وقريش هي التي تكسن البح
ر بها سميت قريش قريشاً والتصغير للتعظيم ومعلوم أن قريشاً موصوفون بهذه الصفات لأنها تلي أمر الأمة فإن الأئمة من قريش وثانيها أنه مأخوذ من القرش وهو الكسب لأنهم كانوا كاسبين بتجاراتهم وضربهم في البلاد وثالثها قال الليث كانوا متفرقين في غير الحرم فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوها مسكناً فسموا قريشاً لأن التقرش هو التجمع يقال تقرش القوم إذا اجتمعوا ولذلك سمي قصي مجمعاً قال الشاعر
أبو كم قصي كان يدعى مجمعاً
به جمع الله القبائل من فهر ورابعها أنهم كانوا يسدون خلة محاويج الحاج فسموا بذلك قريشاً لأن القرش التفتيش قال ابن حرة
أيها الشامت المقرش عنا
عند عمرو وهل لذاك بقاء
إِيلَافِهِمْ رِحْلَة َ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ
قوله تعالى رِحْلَة َ الشّتَاء وَالصَّيْفِ فيه مسائل
المسألة الأولى قال الليث الرحلة اسم الارتحال من القول للمسير وفي المراد من هذه الرحلة قولان الأول وهو المشهور قال المفسرون كانت لقريش رحلتان رحلة بالشتاء إلى اليمن لأن اليمن أدفأ وبالصيف إلى الشأم وذكر عطاء عن ابن عباس أن السبب في ذلك هو أن قريشاً إذا أصاب واحداً منهم مخمصة خرج هو وعياله إلى موضع وضربوا على أنفس خباء حتى يموتوا إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف وكان سيد قومه وكان له ابن يقال له أسد وكان له ترب من بني مخزوم يحبه ويلعب معه فشكا إليه الضرر والمجاعة فدخل أسد على أمه يبكي فأرسلت إلى أولئك بدقيق وشحم فعاشوا فيه أياماً ثم أتى ترب أسد إليه مرة أخرى وشكا إليه من الجوع فقام هاشم خطيباً في قريش فقال إنكم أجدبتم جدباً تقلون فيه وتذلون وأنتم أهل حرم الله وأشراف ولد آدم والناس لكم تبع قالوا نحن تبع لك فليس عليك منا خلاف فجمع كل بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارات فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم فجاء الإسلام وهم على ذلك فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالاً ولا أعز من قريش قال الشاعر فيهم
الخالطين فقيرهم بغنيهم
حتى يكون فقيرهم كالكافي واعلم أن وجه النعمة والمنة فيه أنه لو تم لأصحاب الفيل ما أرادوا لترك أهل الأقطار تعظيمهم وأيضاً لتفرقوا وصار حالهم كحال اليهود المذكور في قوله وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الاْرْضِ أُمَمًا

واجتماع القبيلة الواحدة في مكان واحد أدخل في النعمة من أن يكون الاجتماع من قبائل شتى ونبه تعالى أن من شرط السفر المؤانسة والألفة ومنه قوله تعالى وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ والسفر أحوج إلى مكارم الأخلاق من الإقامة القول الثاني أن المراد رحلة الناس إلى أهل مكة فرحلة الشتاء والصيف عمرة رجب وحج ذي الحجة لأنه كان أحدهما شتاء والآخر صيفاً وموسم منافع مكة يكون بهما ولو كان يتم لأصحاب الفيل ما أرادوا لتعطلت هذه المنفعة
المسألة الثانية نصب الرحل بلإيلافهم مفعولاً به وأراد رحلتي الشتاء والصيف فأفرد لأمن الإلباس كقوله كلوا في بعض بطنكم وقيل معناه رحلة الشتاء ورحلة الصيف وقرىء رحلة بضم الراء وهي الجهة
فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ
قوله تعالى فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ اعلم أن الإنعام على قسمين أحدهما دفع الضرر والثاني جلب النفع والأول أهم وأقدم ولذلك قالوا دفع الضرر عن النفس واجب أما جلب النفع ( فإنه ) غير واجب فلهذا السبب بين تعالى نعمة دفع الضرر في سورة الفيل ونعمة جلب النفع في هذه السورة ولما تقرر أن الإنعام لا بد وأن يقابل بالشكر والعبودية لا جرم أتبع ذكر النعمة بطلب العبودية فقال فَلْيَعْبُدُواْ وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكرنا أن العبادة هي التذلل والخضوع للمعبود على غاية ما يكون ثم قال بعضهم أراد فليوحدوا رب هذا البيت لأنه هو الذي حفظ البيت دون الأوثان ولأن التوحيد مفتاح العبادات ومنهم من قال المراد العبادات المتعلقة بأعمال الجوارح ثم ذكر كل قسم من أقسام العبادات والأولى حمله على الكل لأن اللفظ متناول للكل إلا ما أخرجه الدليل وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون معنى فليعبدوا أي فليتركوا رحلة الشتاء والصيف وليشتغلوا بعبادة رب هذا البيت فإنه يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف ولعل تخصيص لفظ الرب تقرير لما قالوه لأبرهة إن للبيت رباً سيحفظه ولم يعولوا في ذلك على الأصنام فلزمهم لإقرارهم أن لا يعبدوا سواه كأنه يقول لما عولتم في الحفظ علي فاصرفوا العبادة والخدمة إلي
المسألة الثانية الإشارة إلى البيت في هذا النظم تفيد التعظيم فإنه سبحانه تارة أضاف العبد إلى نفسه فيقول يا عبادي وتارة يضيف نفسه إلى العبد فيقول وإلهكم كذا في البيت ( تارة ) يضيف نفسه إلى البيت وهو قوله فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ وتارة يضيف البيت إلى نفسه فيقول طَهّرَا بَيْتِى َ
الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْفٍ
ثم قال تعالى الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وفي هذه الإطعام وجوه أحدها أنه تعالى لما آمنهم بالحرم حتى لا يتعرض لهم في رحلتيهم كان ذلك سبب إطعامهم بعدما كانوا فيه من الجوع ثانيها قال مقاتل شق عليهم الذهاب إلى اليمن والشام في الشتاء والصيف لطلب الرزق فقذف الله تعالى في قلوب الحبشة أن يحملوا الطعام في السفن إلى مكة فحملوه وجعل أهل مكة يخرجون إليهم بالإبل والخمر ويشترون طعامهم من جدة على مسيرة ليلتين وتتابع ذلك فكفاهم الله مؤونة الرحلتين ثالثها قال الكلبي

هذه الآية معناها أنهم لما كذبوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) دعا عليهم فقال ( اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) فاشتد عليهم القحط وأصابهم الجهد فقالوا يا محمد ادع الله فإنا مؤمنون فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخصبت البلاد وأخصب أهل مكة بعد القحط فذاك قوله أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ ثم في الآية سؤالات
السؤال الأول العبادة إنما وجبت لأنه تعالى أعطى أصول النعم والإطعام ليس من أصول النعم فلما علل وجوب العبادة بالإطعام والجواب من وجوه أحدها أنه تعالى لما ذكر إنعامه عليهم بحبس الفيل وإرسال الطير وإهلاك الحبشة وبين أنه تعالى فعل ذلك لإيلافهم ثم أمرهم بالعبادة فكان السائل يقول لكن نحن محتاجون إلى كسب الطعام والذب عن النفس فلو اشتغلنا بالعبادة فمن ذا الذي أيطعمنا فقال الذي أطعمهم من جوع قبل أن يعبدوه ألا يطعمهم إذا عبدوها وثانيها أنه تعالى بعد أن أعطى العبد أصول النعم أساء العبد إليه ثم إنه يطعمهم مع ذلك فكأنه تعالى يقول إذا لم تستح من أصول النعم ألا تستحي من إحساني إليك بعد إساءتك وثالثها إنما ذكر الإنعام لأن البهيمة تطيع من يعلفها فكأنه تعالى يقول لست دون البهيمة
السؤال الثاني أليس أنه جعل الدنيا ملكاً لنا بقوله خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً فكيف تحسن المنة علينا بأن أعطانا ملكنا الجواب أنظر في الأشياء التي لا بد منها قبل الأكل حتى يتم الطعام ويتهيأ وفي الأشياء التي لا بد منها بعد الأكل حتى يتم الانتفاع بالطعام المأكول فإنك تعلم أنه لا بد من الأفلاك والكواكب ولا بد من العناصر الأربعة حتى يتم ذلك الطعام ولا بد من جملة الأعضاء على اختلاف أشكالها وصورها حتى يتم الانتفاع بالطعام وحينئذ تعلم أن الإطعام يناسب الأمر بالطاعة والعبادة
السؤال الثالث المنة بالإطعام لا تليق بمن له شيء من الكرم فكيف بأكرم الأكرمين الجواب ليس الغرض منه المنة بل الإرشاد إلى الأصلح لأنه ليس المقصود من الأكل تقوية الشهوة المانعة عن الطاعة بل تقوية البنية على أداء الطاعات فكأن المقصود من الأمر بالعبادة ذلك
السؤال الرابع ما الفائدة في قوله مِن جُوعٍ الجواب فيه فوائد أحدها التنبيه على أن أمر الجوع شديد ومنه قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أصبح آمناً في سربه ) الحديث وثانيها تذكيرهم الحالة الأولى الرديئة المؤلمة وهي الجوع حتى يعرفوا قدر النعمة الحاضرة وثالثها التنبيه على أن خير الطعام ما سد الجوعة لأنه لم يقل وأشبعهم لأن الطعام يزيل الجوع أما الإشباع فإنه يورث البطنة
أما قوله تعالى الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن ففي تفسيره وجوه أحدها أنهم كانوا يسافرون آمنين لا يتعرض لهم أحد ولا يغير عليهم أحد لا في سفرهم ولا في حضرهم وكان غيرهم لا يأمنون من الغارة في السفر والحضر وهذا معنى قوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً ثانيها أنه آمنهم من زحمة أصحاب الفيل وثالثها قال الضحاك والربيع وآمنهم من خوف الجزام فلا يصيبهم ببلدتهم

الجذام ورابعها آمنهم من خوف أن تكون الخلافة في غيرهم وخامسها آمنهم بالإسلام فقد كانوا في الكفر يتفكرون فيعلمون أن الدين الذي هم عليه ليس بشيء إلا أنهم ما كانوا يعرفون الدين الذي يجب على العاقل أن يتمسك به وسادسها أطعمهم من جوع الجهل بطعام الوحي وآمنهم من خوف الضلال ببيان الهدى كأنه تعالى يقول يا أهل مكة كنتم قبل مبعث محمد تسمون جهال العرب وأجلافهم ومن كان ينازعكم كانوا يسمون أهل الكتاب ثم أنزلت الوحي على نبيكم وعلمتكم الكتاب والحكمة حتى صرتم الآن تسمون أهل العلم والقرآن وأولئك يسمون جهال اليهود والنصارى ثم إطعام الطعام الذي يكون غذاء الجسد يوجب الشكر فإطعام الذي هو غذاء الروح ألا يكون موجباً للشكرا وفي الآية سؤالات
السؤال الأول لم لم يقل عن جوع وعن خوف قلنا لأن معنى عن أنه جعل الجوع بعيداً عنهم وهذا يقتضي أن يكون ذلك التبعيد مسبوقاً بمقاشاة الجوع زماناً ثم يصرفه عنه ومن لا تقتضي ذلك بل معناه أنهم عندما يجوعون يطعمون وحين ما يخافون يؤمنون
السؤال الثاني لم قال من جوع من خوف على سبيل التنكير الجواب المراد من التنكير التعظيم أما الجوع فلما روينا أنه أصابتهم شدة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة وأما الخوف فهو الخوف الشديد الحاصل من أصحاب الفيل ويحتمل أن يكون المراد من التنكير التحقير يكون المعنى أنه تعالى لما لم يجوز لغاية كرمه إبقاءهم في ذلك الجوع القليل والخوف القليل فكيف يجوز في كرمه لو عبدوه أن يهمل أمرهم ويحتمل أن يكون المراد أنه أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ دون جوع الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن دون خوف ليكون الجوع الثاني والخوف الثاني مذكراً ما كانوا فيه أولاً من أنواع الجوع والخوف حتى يكونوا شاكرين من وجه وصابرين من وجه آخر فيستحقوا ثواب الخصلتين
السؤال الثالث أنه تعالى إنما أطعمهم وآمنهم إجابة لدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أما في الإطعام فهو قوله وَارْزُقْ أَهْلَهُ وأما الأمان فهو قوله اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا وإذا كان كذلك كان ذلك منة على إبراهيم عليه السلام فكيف جعله منة على أولئك الحاضرين والجواب أن الله تعالى لما قال إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قال إبراهيم وَمِن ذُرّيَتِى فقال الله تعالى لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فنادى إبراهيم بهذا الأدب فحين قال رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ قيده بقوله مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ فقال الله لا حاجة إلى هذا التقيد بل ومن كفر فأمتعه قليلاً فكأنه تعالى قال أما نعمة الأمان فهي دينية فلا تحصل إلا لمن كان تقياً وأما نعمة الدنيا فهي تصل إلى البر والفاجر والصالح والطالح وإن كان كذلك كان إطعام الكافر من الجوع وأمانه من الخوف إنعاماً من الله ابتداء عليه لا بدعوة إبراهيم فزال السؤال والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة الماعون
سبع آيات مكية
أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ
أَرَءيْتَ الَّذِى يُكَذّبُ بِالدّينِ فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ بعضهم أريت بحذف الهمزة قال الزجاج وهذا ليس بالاختيار لأن الهمزة إنما طرحت من المستقبل نحو يرى وأرى وترى فأما رأيت فليس يصح عن العرب فيها ريت ولكن حرف الاستفهام لما كان في أول الكلام سهل إلغاء الهمزة ونظيره صاح هل ريت أو سمعت براع
رد في الضرع ما قرى في العلاب
وقرأ ابن مسعود أرأيتك بزيادة حرف الخطاب كقوله قَالَ أَرَءيْتَكَ هَاذَا الَّذِى عَلَى
المسألة الثانية قوله أَرَأَيْتَ معناه هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو فإن لم تعرفه فَهُوَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ
واعلم أن هذا اللفظ وإن كان في صورة الاستفهام لكن الغرض بمثله المبالغة في التعجب كقولك أرأيت فلاناً ماذا ارتكب ولماذا عرض نفسه ثم قيل إنه خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل بل خطاب لكل عاقل أي أرأيت يا عاقل هذا الذي يكذب بالدين بعد ظهور دلائله ووضوح تبيانه أيفعل ذلك لا لغرض فكيف يليق بالعاقل جر العقوبة الأبدية إلى نفسه من غير غرض أو لأجل الدنيا فكيف يليق بالعاقل أن يبيع الكثير الباقي بالقليل الفاني
المسألة الثالثة في الآية قولان أحدهما أنها مختصة بشخص معين وعلى هذا القول ذكروا

أشخاصاً فقال ابن جريج نزلت في أبي سفيان كان ينحر جزورين في كل أسبوع فأتاه يتيم فسأله لحماً فقرعه بعصاه وقال مقاتل نزلت في العاص بن وائل السهمي وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة والإتيان بالأفعال القبيحة وقال السدي نزلت في الوليد بن المغيرة وحكى الماوردي أنها نزلت في أبي جهل وروى أنه كان وصياً ليتيم فجاءه وهو عريان يسأله شيئاً من مال نفسه فدفعه ولم يعبأ به فأيس الصبي فقال له أكابر قريش قل لمحمد يشفع لك وكان غرضهم الاستهزاء ولم يعرف اليتيم ذلك فجاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والتمس منه ذلك وهو عليه الصلاة والسلام ما كان يرد محتاجاً فذهب معه إلى أبي جهل فرحب به وبذل المال لليتيم فعيرة قريش فقالوا صبوت فقال لا والله ما صبوت لكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة خفت إن لم أجبه يطعنها في وروى عن ابن عباس أنها نزلت في منافق جمع بين البخل والمراءاة والقول الثاني أنه عام لكل من كان مكذباً بيوم الدين وذلك لأن إقدام الإنسان على الطاعات وإحجامه عن المحظورات إنما يكون للرغبة في الثواب والرهبة عن العقاب فإذا كان منكراً للقيامة لم يترك شيئاً من المشتهيات واللذات فثبت أن إنكار القيامة كالأصل لجميع أنواع الكفر والمعاصي
المسألة الرابعة في تفسير الدين وجوه أحدها أن يكون المراد من يكذب بنفس الدين والإسلام إما لأنه كان منكراً للصانع أو لأنه كان منكراً للنبوة أو لأنه كان منكراً للمعاد أو لشيء من الشرائع فإن قيل كيف يمكن حمله على هذا الوجه ولا بد وأن يكون لكل أحد دين والجواب من وجوه أحدها أن الدين المطلق في اصطلاح أهل الإسلام والقرآن هو الإسلام قال الله تعالى إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ أما سائر المذاهب فلا تسمى ديناً إلا بضرب من التقييد كدين النصارى واليهود وثانيها أن يقال هذه المقالات الباطلة ليست بدين لأن الدين هو الخضوع لله وهذه المذاهب إنما هي خضوع للشهوة أو للشبهة وثالثها وهو قوله أكثر المفسرين أن المراد أرأيت الذي يكذب بالحساب والجزاء قالوا وحمله على هذا الوجه أولى لأن من ينكر الإسلام قد يأتي بالأفعال الحميدة ويحترز عن مقابحها إذا كان مقراً بالقيامة والبعث أما المقدم على كل قبيح من غير مبالاة فليس هو إلا المنكر للبعث والقيامة
فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ
ثم قال تعالى فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ
واعلم أنه تعالى ذكر في تعريف من يكذب الدين وصفين أحدهما من باب الأفعال وهو قوله فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ والثاني من باب التروك وهو قوله وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ والفاء في قوله فذلك للسببية أي لما كان كافراً مكذباً كان كفره سبباً لدع اليتيم وإنما اقتصر عليهما على معنى أن الصادر عمن يكذب بالدين ليس إلا ذلك لأنا نعلم أن المكذب بالدين لا يقتصر على هذين بل على سبيل التمثيل كأنه تعالى ذكر في كل واحد من القسمين مثالاً واحداً تنبيهاً بذكره على سائر القبائح أو لأجل أن هاتين الخصلتين كماأنهما قبيحان منكران بحسب الشرع فهما أيضاً مستنكران بحسب المروءة والإنسانية أما قوله يَدُعُّ الْيَتِيمَ فالمعنى أنه يدفعه بعنف وجفوة كقوله يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا وحاصل الأمر في دع اليتيم أمور أحدها دفعه عن حقه وماله بالظلم والثاني ترك المواساة

معه وإن لم تكن المواساة واجبة وقد يذم المرء بترك النوافل لاسيما إذا أسند إلى النفاق وعدم الدين والثالث يزجره ويضربه ويستخف به وقرىء يدع أي يتركه ولا يدعوه بدعوة أي يدعوا جميع الأجانب ويترك اليتيم مع أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ما من مائدة أعظم من مائدة عليها يتيم ) وقرىء يدعو اليتيم أي يدعوه رياء ثم لا يطعمه وإنما يدعوه استخداماً أو قهراً أو استطالة
واعلم أن في قوله يَدُعُّ بالتشديد فائدة وهي أن يدع بالتشديد معناه أنه يعتاد ذلك فلا يتناول الوعيد من وجد منه ذلك وندم عليه ومثله قوله تعالى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ سمى ذنب المؤمن لمماً لأنه كالطيف والخيال يطرأ ولا يبقى لأن المئمن كما يفرغ من الذنب يندم إنما المكذب هو الذي يصر على الذنب
أما قوله وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ففيه وجهان أحدهما أنه لا يحض نفسه على طعام المسكين وإضافة الطعام إلى المسكين تدل على أن ذلك الطعام حق المسكين فكأنه منه المسكين مما هو حقه وذلك يدل على نهاية بخله وقساوة قلبه وخساسة طبعه والثاني لا يحض غيره على إطعام ذلك المسكين بسبب أنه لا يتقد في ذلك الفعل ثواباً والحاصل أنه تعالى جعل علم التكذيب بالقيامة الإقدام على إيذاء الضعيف ومنع المعروف يعني أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد لما صدر عنه ذلك فموضع الذنب هو التكذيب بالقيامة وههنا سؤالان
السؤال الأول أليس قد لا يحض المرء في كثير من الأحوال ولا يكون آثماً الجواب لأنه غيره ينوب منابه أو لأنه لا يقبل قوله أو لمفسدة أخرى يتوقعها أما ههنا فذكر أنه لا يفعل ذلك ( إلا ) لما أنه مكذب بالدين
السؤال الثاني لم لم يقل ولا يطعم المسكين والجواب إذا منع اليتيم حقه فكيف يطعم المسكين من مال نفسه بل هو بخيل من مال غيره وهذا هو النهاية في الخسة فلأن يكون بخيلاً بمال نفسه أولى وضده في مدح المؤمنين وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَة ِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ
فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ
ثم قال تعالى فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه أحدها أنه لا يفعل إيذاء اليتيم والمنع من الإطعام دليلاً على النفاق فالصلاة لا مع الخضوع والخضوع أولى أن تدل على النفاق لأن الإيذاء والمنع من النفع معاملة مع المخلوق أما الصلاة فإنها خدمة للخالق وثانيها كأنه لما ذكر إيذاء اليتيم وتركه للحض كأن سائلاً قال أليس إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر فقال له الصلاة كيف تنهاه عن هذا الفعل المنكر وهي مصنوعة من عين الرياء والسهو وثالثها كأنه يقول إقدامه على إيذاء اليتيم وتركه للحض تقصير فيما يرجع إلى الشفقة على خلق الله وسهوه في الصلاة تقصير فيما يرجع إلى التعظيم لأمر الله فلما وقع التقصير في الأمرين فقد كملت شقاوته فلهذا قال فَوَيْلٌ واعلم أن هذا اللفظ إنما

يستعمل عند الجريمة الشديدة كقوله وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَة ٍ لُّمَزَة ٍ ويروى أن كل أحد ينوح في النار بحسب جريمته فقائل يقول ويلي من حب الشرف وآخر يقول ويلي من الحمية الجاهلية وآخر يقول ويلي من صلاتي فلهذا يستحب عند سماع مثل الآية أن يقول المرء ويلي إن لم يغفر لي
المسألة الثانية الآية دالة على حصول التهديد العظيم بفعل ثلاثة أمور أحدها السهو عن الصلاة وثانيها فعل المراءاة وثالثها منع الماعون وكل ذلك من باب الذنوب ولا يصير المرء به منافقاً فلم حكم الله بمثل هذا الوعيد على فاعل هذه الأفعال ولأجل هذا الإشكال ذكر المفسرون فيه وجوهاً أحدها أن قوله فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ أي فويل للمصلين من المنافقين الذين يأتون بهذه الأفعال وعلى هذا التقدير تدل الآية على أن الكافر له مزبد عقوبة بسبب إقدامه على محظورات الشرع وتركه لواجبات الشرع وهو يدل على صحة قول الشافعي إن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع وهذا الجواب هو العتمد وثانيها ما رواه عطاء عن ابن عباس أنه لو قال الله في صلاتهم ساهون لكان هذا الوعيد في المؤمنين لكنه قال عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ والساهي عن الصلاة هو الذي لا يتذكرها ويكون فارغاً عنها وهذا القول ضعيف لأن السهو عن الصلاة لا يجوز أن يكون مفسراً بترك الصلاة لأنه تعالى أثبت لهم الصلاة بقوله فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ وأيضاً فالسهو عن الصلاة بمعنى الترك لا يكون نفاقاً ولا كفراً فيعود الإشكال ويمكن أن يجاب عن الاعتراض الأول بأنه تعالى حكم عليهم بكونهم مضلين نظراً ءلى الصورة وبأنهم نسوا الصلاة بالكلية نظراً إلى المعنى كما قال إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَواة ِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءونَ ويجاب عن الاعتراض الثاني بأن النسيان عن الصلاة هو أن يبقى ناسياً لذكر الله في جميع أجزاء الصلاة وهذا لا يصدر إلا عن المنافق الذي يعتقد أنه لا فائدة في الصلاة أما المسلم الذي يعتقد فيها فائدة عينية يمتنع أن لا يتذكر أمر الدين والثواب والعقاب في شيء من أجزاء الصلاة بل قد يحصل له السهو في الصلاة بمعنى أنه يصير ساهياً في بعض أجزاء الصلاة فثبت أن السهو في الصلاة من أفعال المؤمن والسهو عن الصلاة من أفعال الكافر وثالثها أن يكون معنى سَاهُونَ أي لا يتعهدون أوقات صلواتهم ولا شرائطها ومعناه أنه لا يبالي سواء صلى أو لم يصل وهو قول سعد بن أبي وقاص ومسروق والحسن ومقاتل
المسألة الثالثة اختلفوا في سهو الرسول عليه الصلاة والسلام في صلاته فقال كثير من العلماء إنه عليه الصلاة والسلام ما سها لكن الله تعالى أذن له في ذلك الفعل حتى يفعل ما يفعله الساهي فيصير ذلك بياناً لذلك الشرع بالفعل والبيان بالفعل أقوى ثم بتقدير وقوع السهو منه فالسهو على أقسام أحدها سهو الرسول والصحابة وذلك منجبر تارة بسجود السهو وتارة بالسنن والنوافل والثاني ما يكون في الصلاة من الغفلة وعدم استحضار المعارف والنيات والثالث الترك لا إلى قضاء والإخراج عن الوقت ومن ذلك صلاة المنافق وهي شر من ترك الصلاة لأنه يستهزىء بالدين بتلك الصلاة
الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ
أما قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ فاعلم أن الفرق بين المنافق والمرائي أن المنافق هو المظهر للإيمان المبطن للكفر والمرائي المظهر ما ليس في قلبه من زيادة خشوع ليعتقد فيه من يراه أنه متدين أو تقول المنافق لا يصلي سراً والمرائي تكون صلاته عند الناس أحسن

اعلم أنه يجب إظهار الفرائض من الصلاة والزكاة لأنها شعائر الإسلام وتاركها مستحق للعن فيجب نفي التهمة بالإظهار إنما الإخفاء في النوافل إلا إذا أظهر النوافل ليقتدي به وعن بعضهم أنه رأى في المسجد رجلاً يسجد للشكر وأطالها فقال ما أحسن هذا لو كان في بيتكا لكن مع هذا قالوا لا يترك النوافل حياء ولا يأتى بها رياء وقلما يتيسر اجتناب الرياء ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على المسح الأسود ) فإن قيل ما معنى المراءاة قلنا هي مفاعلة من الإرادة لأن المرائي يرى الناس عمله وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به
واعلم أن قوله عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ يفيد أمرين إخراجها عن الوقت وكون الإنسان غافلاً فيها قوله الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ يفيد المراءاة فظهر أن الصلاة يجب أن تكون خالية عن هذه الأحوال الثلاثة
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ
ثم لما شرح أمر الصلاة أعقبه بذكر الصلاة فقال وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ وفيه أقوال الأول وهو قول أبي بكر وعلي وابن عباس وابن الحنفية وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والضحاك هو الزكاة وفي حديث أبي ( من قرأ سورة أَرَأَيْتَ غفر الله له إن كان للزكاة مؤدياً ) وذلك يوهم أن الْمَاعُونَ هو الزكاة ولأن الله تعالى ذكره عقيب الصلاة فالظاهر أن يكون ذلك هو الزكاة والقول الثاني وهو قول أكثر المفسرين أن الْمَاعُونَ اسم لما لا يمنع في العادة ويسأله الفقير والغني ينسب مانعه إلى سوء الخلق ولؤم الطبيعة كالفأس والقدر والدلو والمقدحة والغربال والقدوم ويدخل فيه الملح والماء والنار فإنه روى ( ثلاثة لا يحل منعها الماء والنار والملح ) ومن ذلك أن يلتمس جارك أن يخبز في تنورك أو يضع متاعه عندك يوماً أو نصف يوم وأصحاب هذا القول قالوا الماعون فاعول من المعن وهو الشيء القليل ومنه ماله سعته ولا معنة أي كثير و ( لا ) قليل وسميت الزكاة ماعوناً لأنه يؤخذ من المال ربع العشر فهو قليل من كثير ويسمى ما يستعار في العرف كالفأس والشفرة ماعوناً وعلى هذا التقدير يكون معنى الآية الزجر عن البخل بهذه الأشياء القليلة فإن البخل بها يكون في نهاية الدناءة والركاكة والمنافقون كانوا كذلك لقوله تعالى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وقال مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ قال العلماء ومن الفضائل أن يستكثر الرجل في منزله مما يحتاج إليه الجيران فيعيرهم ذلك ولا يقتصر على الواجب والقول الثالث قال الفراء سمعت بعض العرب يقول الماعون هو الماء وأنشدني فيه
يمج بعيره الماعون مجاً
ولعله خصه بذلك لأن أعز مفقود وأرخص موجود وأول شيء يسأله أهل النار الماء كما قال أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء وأول لذة يجدها أهل الجنة هو الماء كما قال وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ القول الرابع الْمَاعُونَ حسن الانقياد يقال رض بعيرك حتى يعطيك الماعون أي حتى يعطيك الطاعة

واعلم أن الأولى أن يحمل على كل طاعة يخف فعلها لأنه أكثر فائدة ثم قال المحققون في الملاءمة بين قوله يُرَاءونَ وبين قوله وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ كأنه تعالى يقول الصلاة لي والماعون للخلق فما يجب جعله لي يعرضونه على الخلق وما هو حق الخلق يسترونه عنهم فكأنه لا يعامل الخلق والرب إلا على العكس فَانٍ قِيلَ لم لم يذكر الله اسم الكافر بعينه فإن قلت للستر عليه قلت لم لم يستر على آدم بل قال وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ والجواب أنه تعالى ذكر زلة آدم لكن بعد موته مقروناً بالتوبة ليكون لطفاً لأولاده أنه أخرج من الجنة بسبب الصغيرة فكيف يطمعون في الدخول مع الكبيرة وأيضاً فإن وصف تلك الزلة رفعة له فإنه رجل لم يصدر عنه إلا تلك الزلة الواحدة ثم تاب عنها مثل هذه التوبة
ولنختم تفسير هذه السورة بالدعاء إلهنا هذه السورة في ذكر المنافقين والسورة التي بعدها في صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فنحن وإن لم نصل في الطاعة إلى محمد عليه الصلاة والسلام وإلى أصحابه لم نصل في الأفعال القبيحة إلى هؤلاء المنافقين فاعف عنا بفضلك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة الكوثر
ثلاث آيات مكية
إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ
اعلم أن هذه السورة على اختصارها فيها لطائف أحداها أن هذه السورة كالمقابلة للسورة المتقدمة وذلك لأن في السورة المتقدمة وصف الله تعالى المنافق بأمور أربعة أولها البخل وهو المراد من قوله يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ الثاني ترك الصلاة وهو المراد من قوله الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ والثالث المراءاة في الصلاة هو المراد من قوله الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ والرابع المنع من الزكاة وهو المراد من قوله وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ فذكر في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعة فذكر في مقابلة البخل قوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ أي إنا أعطيناك الكثير فأعط أنت الكثير ولا تبخل وذكر في مقابلة الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ قوله فَصْلٌ أي دم على الصلاة وذكر في مقابلة الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ قوله لِرَبّكِ أي ائت بالصلاة لرضا ربك لا لمراءاة الناس وذكر في مقابلة وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ قوله وَانْحَرْ وأراد به التصدق بلحم الأضاحي فاعتبر هذه المناسبة العجيبة ثم ختم السورة بقوله إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ أي المنافق الذي يأتي بتلك الأفعال القبيحة المذكورة في تلك السورة سيموت ولا يبقى من دناه أثر ولا خبر وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل وفي الآخرة الثواب الجزيل
والوجه الثاني في لطائف هذه السورة أن السالكين إلى الله تعالى لهم ثلاث درجات أعلاها أن

يكونوا مستغرقين بقلوبهم وأرواحهم في نور جلال الله وثانيها أن يكونوا مشتغلين بالطاعات والعبادات البدنية وثالثها أن يكونوا في مقام منع النفس عن الانصباب إلى اللذات المحسوسة والشهوات العاجلة فقوله الْمَاعُونَ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ إشارة إلى المقام الأول وهو كون روحه القدسية متميزة عن سائر الأرواح البشرية بالكم والكيف أمابالكم فلأنها أكثر مقدمات وأما بالكيف فلأنها أسرع انتقالاً من تلك المقدمات إلى النتائج من سائر الأرواح وأما قوله فَصَلّ لِرَبّكَ فهو إشارة إلى المرتبة الثانية وقوله وَانْحَرْ إشارة إلى المرتبة الثالثة فإن منع النفس عن اللذات العاجلة جار مجرى النحر والذبح ثم قال إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ ومعناه أن النفس التي تدعوك إلى طلب هذه المحسوسات والشهوات العاجلة أنها دائرة فانية وإنما الباقيات الصالحات خير عند ربك وهي السعادات الروحانية والمعارف الربانية التي هي باقية أبدية ولنشرع الآن في التفسير قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ اعلم أن فيه فوائد
الفائدة الأولى أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور وكالأصل لما بعدها من السور أما أنها كالتتمة لما قبلها من السور فلأن الله تعالى جعل سورة وَالضُّحَى في مدح محمد عليه الصلاة والسلام وتفصيل أحواله فذكر في أول السورة ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته أولها قوم مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وثانيها قوله وَلَلاْخِرَة ُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى وثالثها وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ثم ختم هذه السورة بذكر ثلاثة أحوال من أحواله عليه السلام فيما يتعلق بالدنيا وهي قوله أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى
ثم ذكر في سورة أَلَمْ نَشْرَحْ أنه شرفه بثلاثة أشياء أولها أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وثانيها وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ وثالثها وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
ثم إنه تعالى شرفه في سورة التين بثلاثة أنواع من التشريف أولها أنه أقسم ببلده وهو قوله سِينِينَ وَهَاذَا الْبَلَدِ الاْمِينِ وثانيها أنه أخبر عن خلاص أمته عن النار وهو قوله إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وثالثها وصولهم إلى الثواب وهو قوله فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
ثم شرفه في سورة اقرأ بثلاثة أنواع من التشريفات أولها اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ أي اقرأ القرآن على الحق مستعيناً باسم ربك وثانيها أنه قهر خصمه بقوله فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ وثالثها أنه خصه بالقربة التامة وهو وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب
وشرفه في سورة القدر بليلة القدر التي لها ثلاثة أنواع من الفضيلة أولها كونها خَيْرًا مّن أَلْفِ شَهْرٍ وثانيها نزول الْمَلَائِكَة ُ وَالرُّوحُ فِيهَا وثالثها كونها سَلاَماً حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ
وشرفه في سورة لَمْ يَكُنِ بأن شرف أمته بثلاثة تشريفات أولها أنهم خَيْرُ الْبَرِيَّة ِ وثانيها ءانٍ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتُ وثالثها رضا الله عنهم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66