كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

كانت أفعالهم كأفعالهم فقال قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ أي قوم نوح وعاد وثمود وهذا ترتيب في غاية الحسن وذلك لأنه في وقت الامتنان والإحسان قال اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ( مريم 40 ) أي آتاكم الوجود ثم البقاء ووقت الخذلان بالطغيان قال ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ ( الروم 41 ) أي قلل رزقكم ثم قال تعالى سِيرُواْ فِى الاْرْضِ أي هو أعدمكم كم أعدم من قبلكم فكأنه قال أعطاكم الوجود والبقاء ويسلب منكم الوجود والبقاء وأما سلب البقاء فبإظهار الفساد وأما سلب الوجود فبالإهلاك وعند الإعطاء قدم الوجود على البقاء لأن الوجود أولاً ثم البقاء وعند السلب قدم البقاء وهو الاستمرار ثم الوجود
وقوله كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ يحتمل وجوهاً ثلاثة أحدها أن الهلاك في الأكثر كان بسبب الشرك الظاهر وإن كان بغيره أيضاً كالإهلاك بالفسق والمخالفة كما كان على أصحاب السبت الثاني أن كل كافر أهلك لم يكن مشركاً بل منهم من كان معطلاً نافياً لكنهم قليلون وأكثر الكفار مشركون الثالث أن العذاب العاجل لم يختص بالمشركين حين أتى كما قال تعالى وَاتَّقُواْ فِتْنَة ً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّة ً ( الأنفال 25 ) بل كان على الصغار والمجانين ولكن أكثرهم كانوا مشركين
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ الْقِيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلاًّنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ
لما نهى الكافر عما هو عليه أمر المؤمن بما هو عليه وخاطب النبي عليه السلام ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلف به فإنه أمر به أشرف الأنبياء وللمؤمنين في التكليف مقام الأنبياء كما قال عليه الصلاة والسلام ( إن الله أمر عباده المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين ) وقد ذكرنا معناه وقوله مِن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يحتمل وجهين الأول أن يكون قوله مِنَ اللَّهِ متعلقاً بقوله يَأْتِى َ والثاني أن يكون المراد لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي الله لا يرد وغيره عاجز عن رده فلا بد من وقوعه يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي تفرقون ثم أشار إلى التفرق بقوله مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلاِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً ولم يقل ومن آمن وذلك لأن العمل الصالح به يكمل الإيمان فذكره تحريضاً للمكلف عليه وأما الكفر إذا جاء فلا زنة للعمل معه ووجه آخر وهو أن الكفر قسمان أحدهما فعل وهو الاشراك والقول به والثاني ترك وهو عدم النظر والإيمان فالعاقل البالغ إذا كان في مدينة الرسول ولم يأت بالإيمان فهو كافر سواء قال بالشرك أو لم يقل لكن الإيمان لا بد معه من العمل الصالح فإن الاعتقاد الحق عمل القلب وقول لا إله إلا الله عمل اللسان وشيء منه لا بد منه
المسألة الثانية قال فَعَلَيْهِ فوحد الكناية وقال فَلاِنفُسِهِمْ جمعها إشارة إلى أن الرحمة أعم من

الغضب فتشمله وأهله وذريته أما الغضب فمسبوق بالرحمة لازم لمن أساء
المسألة الثالثة قال فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ولم يبين وقال في المؤمن فَلاِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ تحقيقاً لكمال الرحمة فإنه عند الخير بين وفصل بشارة وعند غيره أشار إليه إشارة
لِيَجْزِى َ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
ذكر زيادة تفصيل لما يمهده المؤمن لفعله الخير وعمله الصالح وهو الجزاء الذي يجازيه به الله والملك إذا كان كبيراً كريماً ووعد عبداً من عباده بأني أجازيك يصل إليه منه أكثر مما يتوقعه ثم أكده بقوله مِن فَضْلِهِ يعني أنا المجازي فكيف يكون الجزاء ثم إني لا أجازيك من العدل وإنما أجازيك من الفضل فيزداد الرجاء ثم قال تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ أوعدهم بوعيد ولم يفصله لما بينا وإن كان عند المحقق هذا الإجمال فيه كالتفصيل فإن عدم المحبة من الله غاية العذاب وأفهم ذلك ممن يكون له معشوق فإنه إذا أخبر العاشق بأنه وعدك بالدراهم والدنانير كيف تكون مسرته وإذا قيل له إنه قال إني أحب فلاناً كيف يكون سروره
وفيه لطيفة وهي أن الله عندما أسند الكفر والإيمان إلى العبد قدم الكافر فقال مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ( الروم 44 ) وعندما أسند الجزاء إلى نفسه قدم المؤمن فقال إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ثم قال تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ لأن قوله مَن كَفَرَ في الحقيقة لمنع الكافر عن الكفر بالوعيد ونهيه عن فعله بالتهديد وقوله مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً لتحريض المؤمن فالنهي كالإيعاد والتحريض للتقرير والإيعاد مقدم عند الحكيم الرحيم وأما عندما ذكر الجزاء بدأ بالإحسان إظهاراً للكرم والرحمة فإن قال قائل هذا إنما يصح أن لو كان الذكر في كل موضع كذلك وليس كذلك فإن الله كثير من المواضع قدم إيمان المؤمن على كفر الكافر وقدم التعذيب على الإثابة فنقول إن كان الله يوفقنا لبيان ذلك نبين ما اقتضى تقديمه ونحن نقول بأن كل كلمة وردت في القرآن فهي لمعنى وكل ترتيب وجد فهو لحكمة وما ذكر على خلافه لا يكون في درجة ما ورد به القرآن فلنبين من جملته مثالاً وهو قوله تعالى يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَة ٍ ( الروم 14 15 ) قدم المؤمن على الكافر وههنا ذكر مثل ذلك المعنى في قوله يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( الروم 43 ) أي يتفرقون فقدم الكافر على المؤمن فنقول هناك أيضاً قدم الكافر في الذكر لأنه قال من قبل وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ( الروم 12 ) فذكر الكافر وإبلاسه ثم قال تعالى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ( الروم 14 ) فكان ذكر المؤمن وحده لا بد منه ليبين كيفية التفرق بمجموع قوله يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وقوله في حق المؤمن فِى رَوْضَة ٍ يُحْبَرُونَ لكن الله تعالى أعاد ذكر المجرمين مرة أخرى للتفصيل فقال وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ
وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِى َ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ لما ذكر أن ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح لما ذكرنا غير مرة أن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً ويذكر لأضراره سبباً لئلا يتوهم به الظلم فقال يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ قيل بالمطر كما قال تعالى بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ ( الأعراف 57 ) أي قبل المطر ويمكن أن يقال مبشرات بصلاح الأهوية والأحوال فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد
ثم قال تعالى وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ عطف على ما ذكرنا أي ليبشركم بصلاح الهواء وصحة الأبدان وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ بالمطر وقد ذكرنا أن الإذاقة تقال في القليل ولما كان أمر الدنيا قليلاً وراحتها نزر قال وَلِيُذِيقَكُمْ وأما في الآخرة فيرزقهم ويوسع عليهم ويديم لهم وَلِتَجْرِى َ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تُشْرِكُونَ لما أسند الفعل إلى الفلك عقبه بقوله بِأَمْرِهِ أي الفعل ظاهراً عليه ولكنه بأمر الله ولذلك لما قال وَلِتَبْتَغُواْ مسنداً إلى العباد ذكر بعده مِن فَضْلِهِ أي لا استقلال لشيء بشيء وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الترتيب فنقول في الرياح فوائد منها إصلاح الهواء ومنها إثارة السحاب ومنها جريان الفلك بها فقال مُبَشّراتٍ بإصلاح الهواء فإن إصلاح الهواء يوجد من نفس الهبوب ثم الأمطار بعده ثم جريان الفلك فإنه موقوف على اختبار من الآدمي بإصلاح السفن وإلقائها على البحر ثم ابتغاء الفضل بركوبها
المسألة الثانية قال في قوله تعالى ظَهَرَ الْفَسَادُ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ ( الروم 41 ) وقال ههنا وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ فخاطب ههنا تشريفاً وَأَنْ رَحْمَتِهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ فالمحسن قريب فيخاطب والمسيء بعيد فلم يخاطبهم وأيضاً قال هناك بعض الذي علموا وقال ههنا مّن رَّحْمَتِهِ فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته وفيه معنيان أحدهما ما ذكرنا أن الكريم لا يذكر لإحسانه ورحمته عوضاً وإن وجد فلا يقول أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول هذا لك مني وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي وثانيهما أن ما يكون بسبب فعل العبد قليل فلو قال أرسلت الرياح بسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة وأما إذا قال مّن رَّحْمَتِهِ كان غاية البشارة ومعنى ثالث وهو أنه لو قال بما فعلتم لكان ذلك موهماً لنقصان ثوابهم في الآخرة وأما في حق الكفار فإذا قال بما فعلتم ينبىء عن نقصان عقابهم وهو كذلك
المسألة الثالثة قال هناك لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وقال ههنا وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ قالوا وإشارة إلى أن توفيقهم للشكر من النعم فعطف على النعم
المسألة الرابعة إنما أخر هذه الآية لأن في الآيات التي قد سبق ذكرها قلنا إنه ذكر من كل باب آيتين فذكر من المنذرات يُرِيكُمُ الْبَرْقَ والحادث في الجو في أكثر الأمر نار وريح فذكر الرياح ههنا تذكيراً وتقريراً للدلائل ولما كانت الريح فيها فائدة غير المطر وليس في البرق فائدة إن لم يكن مطر ذكر

هناك خوفاً وطمعاً أي قد يكون وقد لا يكون وذكر ههنا مُبَشّراتٍ لأن تعديل الهواء أو تصفيته بالريح أمر لازم وحكمه به حكم جازم
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ
لما بين الأصلين ببراهين ذكر الأصل الثالث وهو النبوة فقال وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً أي إرسالهم دليل رسالتك فإنهم لم يكن لهم شغل غير شغلك ولم يظهر عليهم غير ما ظهر عليك ومن كذبهم أصابهم البوار ومن آمن بهم كان لهم الانتصار وله وجه آخر يبين تعلق الآية بما قبلها وهو أن الله لما بين البراهين ولم ينتفع بها الكفار سلى قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال حال من تقدمك كان كذلك وجاءوا أيضاً بالبينات وكان في قومهم كافر ومؤمن كما في قومك فانتقمنا من الكافرين ونصرنا المؤمنين وفي قوله تعالى وَكَانَ حَقّاً وجهان أحدهما فانتقمنا وكان الانتقام حقاً واستأنف وقال علينا نصر المؤمنين وعلى هذا يكون هذا بشارة للمؤمنين الذين آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي علينا نصركم أيها المؤمنون والوجه الثاني وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا أي نصر المؤمنين كان حقاً علينا وعلى الأول لطيفة وعلى الآخر أخرى أما على الأول فهو أنه لما قال فانتقمنا بين أنه لم يكن ظلماً وإنما كان عدلاً حقاً وذلك لأن الانتقام لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلا زيادة الإثم وولادة الكافر الفاجر وكان عدمهم خيراً من وجودهم الخبيث وعلى الثاني تأكيد البشارة لأن كلمة على تفيد معنى اللزوم يقال على فلان كذا ينبىء عن اللزوم فإذا قال حقاً أكد ذلك المعنى وقد ذكرنا أن النصر هو الغلبة التي لا تكون عاقبتها وخيمة فإن إحدى الطائفتين إذا انهزمت أولاً ثم عادت آخراً لا يكون النصر إلا للمنهزم وكذلك موسى وقومه لما انهزموا من فرعون ثم أدركه الغرق لم يكن انهزامهم إلا نصرة فالكافر إن هزم المسلم في بعض الأوقات لا يكون ذلك نصرة إذ لا عاقبة له
اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانظُرْ إِلَى ءَاثَارِ رَحْمَة ِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْى ِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْى ِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ

بين دلائل الرياح على التفصيل الأول في إرسالها قدرة وحكمة أما القدرة فظاهرة فإن الهواء اللطيف الذي يشقه الودق يصير بحيث يقلع الشجر وهو ليس بذاته كذلك فهو بفعل فاعل مختار وأما الحكمة ففي نفس الهبوب فيما يفضي إليه من إثارة السحب ثم ذكر أنواع السحب فمنه ما يكون متصلاً ومنه ما يكون منقطعاً ثم المطر يخرج منه والماء في الهواء أعجب علامة للقدرة وما يفضي إليه من إنبات الزرع وإدرار الضرع حكمة بالغة ثم إنه لا يعم بل يختص به قوم دون قوم وهو علامة المشيئة وقوله تعالى وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مّن قَبْلِهِ اختلف المفسرون فيه فقال بعضهم هو تأكيد كما في قوله تعالى فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وقال بعضهم من قبل التنزيل من قبل المطر والأولى أن يقال من قبل أن ينزل عليهم من قبله أي من قبل إرسال الرياح وذلك لأن بعد الإرسال يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس فقبل المطر إذا هبت الريح لا يكون مبلساً فلما قال من قبل أن ينزل عليهم لم يقل إنهم كانوا مبلسين لأن من قبله قد يكون راجباً غالباً على ظنه المطر برؤية السحب وهبوب الرياح فقال من قبله أي من قبل ما ذكرنا من إرسال الريح وبسط السحاب ثم لما فصل قال فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمَة ِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْى ِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْى ِ الْمَوْتَى لما ذكر الدلائل قال لمحيي باللام المؤكدة وباسم الفاعل فإن الإنسان إذا قال إن الملك يعطيك لا يفيد ما يفيد قوله إنه معطيك لأن الثاني يفيد أنه أعطاك فكان وهو معط متصفاً بالعطاء والأول يفيد أنه سيتصف به ويتبين هذا بقوله إنك ميت فإنه آكد من قوله إنك تموت وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ تأكيد لما يفيد الاعتراف
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَآ أَنتَ بِهَادِ الْعُمْى ِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِأايَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ
لما بين أنهم عند توقف الخير يكونون مبلسين آيسين وعند ظهوره يكونون مستبشرين بين أن تلك الحالة أيضاً لا يدومون عليها بل لو أصاب زرعهم ريح مصفر لكفروا فهم منقلبون غير ثابتين لنظرهم إلى الحال لا إلى المآل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال في الآية الأولى يُرْسِلُ الرّيَاحَ على طريقة الإخبار عن الإرسال وقال ههنا وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا لا على طريقة الإخبار عن الإرسال لأن الرياح من رحمته وهي متواترة والريح من عذابه

وهو تعالى رؤوف بالعباد يمسكها ولذلك نرى الرياح النافعة تهب في الليالي والأيام في البراري والآكام وريح السموم لا تهب إلا في بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة
المسألة الثانية سمى النافعة رياحاً والضارة ريحاً لوجوه أحدها النافعة كثيرة الأنواع كثيرة الأفراد فجمعها فإن كل يوم وليلة تهب نفحات من الرياح النافعة ولا تهب الريح الضارة في أعوام بل الضارة في الغالب لا تهب في الدهور الثاني هو أن النافعة لا تكون إلا رياحاً فإن ما يهب مرة واحدة لا يصلح الهواء ولا ينشىء السحاب ولا يجري السفن وأما الضارة بنفحة واحدة تقتل كريح السموم الثالث هو أن الريح المضرة إما أن تضر بكيفيتها أو بكميتها أما الكيفية فهي إذا كانت حارة أو متكيفة بكيفية سم وهذا لا يكون للريح في هبوبها وإنما يكون بسبب أن الهواء الساكن في بقعة فيها حشائش رديئة أو في موضع غائر وهو حار جداً أو تكون متكونة في أول تكونها كذلك وكيفما كان فتكون واحدة لأن ذلك الهواء الساكن إذا سخن ثم ورد عليه ريح تحركه وتخرجه من ذلك المكان فتهب على مواضع كاللهيب ثم ما يخرج بعد ذلك من ذلك المكان لا يكون حاراً ولا متكيفاً لأن المكث الطويل شرط التكيف ألا ترى أنك لو أدخلت إصبعك في نار وأخرجتها بسرعة لا تتأثر والحديد إذا مكث فيها يذوب فإذا تحرك ذلك الساكن وتفرق لا يوجد في ذلك الوقت غيره من جنسه وأما المتولدة كذلك فنادرة وموضع ندرتها واحد وأما الكمية فالرياح إذا اجتمعت وصارت واحدة صارت كالخلجان ومياه العيون إذا اجتمعت تصير نهراً عظيماً لا تسده السدود ولا يرده الجلمود ولا شك أن في ذلك تكون واحدة مجتمعة من كثير فلهذا قال في المضرة ريح وفي النافعة رياح
ثم إنه تعالى لما علم رسوله أنواع الأدلة وأصناف الأمثلة ووعد وأوعد ولم يزدهم دعاؤه إلا فراراً وإنباؤه إلا كفراً وإضراراً قال له فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الترتيب فنقول إرشاد الميت محال والمحال أبعد من الممكن ثم إرشاد الأصم صعب فإنه لا يسمع الكلام وإنما يفهم ما يفهمه بالإشارة لا غير والإفهام بالإشارة صعب ثم إرشاد الأعمى أيضاً صعب فإنك إذا قلت له الطريق على يمينك يدور إلى يمينه لكنه لا يبقى عليه بل يحيد عن قريب وإرشاد الأصم أصعب فلهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسهل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع شيئاً لأن غاية الإفهام بالكلام فإن ما لا يفهم بالإشارة يفهم بالكلام وليس كل ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة فإن المعدوم والغائب لا إشارة إليهما فقال أولا لا تسمع الموتى ثم قال ولا الأصم ولا تهدي الأعمى الذي دون الأصم
المسألة الثانية قال في الصم إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ ليكون أدخل في الامتناع وذلك لأن الأصم وإن كان يفهم فإنما يفهم بالإشارة فإذا ولى ولا يكون نظره إلى المشير فإنه يسمع ولا يفهم
المسألة الثالثة قال في الأصم لاَ تُسْمِعُ الصُّمُّ الدُّعَاء ولم يقل في الموتى ذلك لأن الأصم قد يسمع الصوت الهائل كصوت الرعد القوي ولكن صوت الداعي لا يبلغ ذلك الحد فقال إنك داع لست بملجىء إلى الإيمان والداعي لا يسمع الأصم الدعاء
المسألة الرابعة قال وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعَمَى أي ليس شغلك هداية العميان كما يقول القائل فلان ليس بشاعر وإنما ينظم بيتاً وبيتين أي ليس شغله ذلك فقوله إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى نفى ذلك عنه وقوله

وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى ِ يعني ليس شغلك ذلك وما أرسلت له
ثم قال تعالى وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى ِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ ( النمل 81 ) لما نفى إسماع الميت والأصم وأثبت إسماع المؤمن بآياته لزم أن يكون المؤمن حياً سميعاً وهو كذلك لأن المؤمن ترد على قلبه أمطار البراهين فتنبت في قلبه العقائد الحقة ويسمع زواجر الوعظ فتظهر منه الأفعال الحسنة وهذا يدل على خلاف مذهب المعتزلة فإنهم قالوا الله يريد من الكل الإيمان غير أن بعضهم يخالف إرادة الله وقوله إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ دليل على أنه يؤمن فيسمعه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما يجب أن يفعل فهم مسلمون مطيعون كما قال تعالى عنهم قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ( البقرة 285 )
اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّة ٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّة ٍ ضَعْفاً وَشَيْبَة ً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ
لما أعاد من الدلائل التي مضت دليلاً من دلائل الآفاق وهو قوله اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً ( الروم 48 ) وذكر أحوال الريح من أوله إلى آخره أعاد دليلاً من دلائل الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله فقال خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ أي مبناكم على الضعف كما قال تعالى خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( الأنبياء 37 ) ومن ههنا كما تكون في قول القائل فلان زين فلانا من فقره وجعله غنياً أي من حالة فقره ثم قال تعالى ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّة ٍ فقوله من ضعف إشارة إلى حالة كان فيها جنيناً وطفلاً مولوداً ورضيعاً ومفطوماً فهذه أحوال غاية الضعف وقوله ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّة ٍ إشارة إلى حالة بلوغه وانتقاله وشبابه واكتهاله وقوله ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّة ٍ ضَعْفاً وَشَيْبَة ً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ
إشارة إلى ما يكون بعد الكهولة من ظهور النقصان والشيبة هي تمام الضعف ثم بين بقوله يَخْلُقُ مَا يَشَاء إن هذا ليس طبعاً بل هو بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى في دلائل الآفاق فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء ( الروم 48 ) هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ لما قدم العلم على القدرة وقال من قبل وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( الروم 27 ) فالعزة إشارة إلى تمام القدرة والحكمة إلى العلم فقدم القدرة هناك وقدم العلم على القدرة ههنا فنقول هناك المذكور الإعادة بقوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( الروم 27 ) لأن الإعادة تكون بكن فيكون فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الابداء وهو أطوار وأحوال والعلم بكل حال حاصل فالعلم ههنا أظهر ثم إن قوله تعالى وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ تبشير وإنذار لأنه إذا كان عالماً بأعمال الخلق كان عالماً بأحوال المخلوقات فإن عملوا خيراً علمه وإن عملوا شراً علمه ثم إذا كان قادراً فإذا علم الخير أثاب وإذا علم الشر عاقب ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب الذين هما بالقدرة قدم العلم وأما في الآخرة فالعلم بتلك الأحوال مع العقاب فقال وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وإلى مثل هذا مثل هذا أشار في قوله فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 ) عقيب خلق الإنسان فنقول

أحسن إشارة إلى العلم لأن حسن الخلق بالعلم والخلق المفهوم من قوله الْخَالِقِينَ إشارة إلى القدرة ثم لما بين ذكر الابداء والاعادة كالابداء ذكره بذكر أحوالها وأوقاتها
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَة ٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ
قيل ما لبثوا في الدنيا غير ساعة وقيل ما لبثوا في القبور وقيل ما لبثوا من وقت فناء الدنيا إلى وقت النشور كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ يصرفون من الحق إلى الباطل ومن الصدق إلى الكذب
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَاكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ
قوله وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ من الملائكة وغيرهم لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ونحن نبين ما هو المعنى اللطيف في هاتين الآيتين فنقول الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستكثر الأجل ويريد تعجيله والموعد بوعيد إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها لكن المجرم إذا حشر علم أن مصيره إلى النار فيستقل مدة اللبث ويختار تأخير الحشر والإبقاء في القبر والمؤمن إذا حشر علم أن مصيره إلى الجنة فيستكثر المدة ولا يريد التأخير فيختلف الفريقان ويقول أحدهما إن مدة لبثنا قليل وإليه الإشارة بقوله يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَة ٍ ويقول الآخر لبثنا مديداً وإليه الإشارة بقوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ يعني كان في كاتب الله ضرب الأجل إلى يوم البعث ونحن صبرنا إلى يوم البعث فَهَاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَاكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ يعني طلبكم التأخير لأنكم كنتم لا تعلمون البعث ولا تعترفون به فصار مصيركم إلى النار فتطلبون التأخير
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ
أي لا يطلب منهم الإعتاب وهو إزالة العتب يعني التوبة التي تزيل آثار الجريمة لا تطلب منهم لأنها لا تقبل منهم

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِأايَة ٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ
قوله وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءانِ مِن مَثَلُ إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وإلى أنه لم يبق من جانب الرسول تقصير فإن طلبوا شيئاً آخر فذلك عناد ومن هان عليه تكذيب دليل لا يصعب عليه تكذيب الدلائل بل لا يجوز للمستدل أن يشرع في دليل آخر بعد ما ذكر دليلاً جيداً مستقيماً ظاهراً لا غبار عليه وعانده الخصم لأنه إما أن يعترف بورود سؤال الخصم عليه أو لا يعترف فإن اعترف يكون انقطاعاً وهو يقدح في الدليل أو المستدل إما بأن الدليل فاسد وإما بأن المستدل جاهل بوجه الدلالة والاستدلال وكلاهما لا يجوز الاعتراف به من العالم فكيف من النبي عليه الصلاة والسلام وإن لم يعترف يكون الشروع في غيره موهماً أن الخصم ليس معانداً فيكون اجتراؤه على العناد في الثاني أكثر لأنه يقول العناد أفاد في الأول حيث التزم ذكر دليل آخر فإن قيل فالأنبياء عليهم السلام ذكروا أنواعاً من الدلائل نقول سردوها سرداً ثم قرروها فرداً فرداً كمن يقول الدليل عليه من وجوه الأول كذا والثاني كذا والثالث كذا وفي مثل هذا الواجب عدم الالتفات إلى عناد المعاند لأنه يزيده بعناده حتى يضيع الوقت فلا يتمكن المستدل من الإتيان بجميع ما وعد من الدلائل فتنحط درجته فاذن لكل مكان مقال وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله تعالى وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَة ٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ وفي توحيد الخطاب بقوله وَلَئِن جِئْتَهُمْ والجمع في قوله إِنْ أَنتُمْ لطيفة وهي أن الله تعالى قال وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِكُلّ ءايَة ٍ جاءت بها الرسل ويمكن أن يجاء بها يقولون أنتم كلكم أيها المدعون للرسالة مبطلون ثم بين تعالى أن ذلك بطبع الله على قلوبهم بقوله كَذالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ فإن قيل من لا يعلم شيئاً أية فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه نقول المعنى هو أن من لا يعلم الآن فقد طبع الله على قلبه من قبل ثم إنه تعالى سلى قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي أن صدقك يبين وقوله وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ إشارة إلى وجوب مداومة النبي عليه الصلاة والسلام على الدعاء إلى الإيمان فإنه لو سكت لقال الكافر إنه متقلب الرأي لا ثبات له والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين

سورة لقمان
عليه السلام
مكية كلها إلا آيتين نزلنا بالمدينة وهما وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ الآيتين وإلا آية
نزلت بالمدينة وهي الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ لأن الصلاة
والزكاة نزلتا بالمدينة وهي ثلاث وقيل أربع وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الم
الم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ
وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر ما قبلها هو أن الله تعالى لما قال وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ ( الروم 58 ) إشارة إلى كونه معجزة وقال وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَة ٍ ( الروم 58 ) إشارة إلى أنهم يكفرون بالآيات بين ذلك بقوله الم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ولم يؤمنوا بها وإلى هذا أشار بعد هذا بقوله وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً ( لقمان 7 )
تِلْكَ ءاَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَة ً لِّلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ بِالاٌّ خِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
فقوله هُدًى أي بياناً وفرقاناً وأما التفسير فمثل تفسير قوله تعالى الم ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى ( البقرة 1 و 2 ) وكما قيل هناك إن المعنى بذلك هذا كذلك قيل بأن المراد بتلك هذه ويمكن أن يقال كما قلنا هناك إن تلك إشارة إلى الغائب معناها آيات القرآن آيات الكتاب الحكيم وعند إنزال هذه الآيات التي نزلت مع الم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ لم تكن جميع الآيات نزلت فقال تلك إشارة إلى الكل أي آيات القرآن تلك آيات وفيه مسائل

المسألة الأولى قال في سورة البقرة ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 1 ) ولم يقل الحكيم وههنا قال الْحَكِيمُ فلما زاد ذكر وصف الكتاب زاد ذكر أمر في أحواله فقال هُدًى وَرَحْمَة ً وقال هناك هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 1 ) فقوله هُدًى في مقابلة قوله الْكِتَابِ وقوله وَرَحْمَة ً في مقابلة قوله الْحَكِيمُ ووصف الكتاب بالحكيم على معنى ذي الحكم كقوله تعالى فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) أي ذات رضا
المسألة الثانية قال هناك لّلْمُتَّقِينَ وقال ههنا لّلْمُحْسِنِينَ لأنه لما ذكر أنه هدى ولم يذكر شيئاً آخر قال لّلْمُتَّقِينَ أي يهتدي به من يتقي الشرك والعناد والتعصب وينظر فيه من غير عناد ولما زاد ههنا رحمة قال لّلْمُحْسِنِينَ أي المتقين الشرك والعناد الآتين بكلمة الإحسان فالمحسن هو الآتي بالإيمان والمتقي هو التارك للكفر كما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ( النحل 128 ) ومن جانب الكفر كان متقياً وله الجنة ومن أتى بحقيقة الإيمان كان محسناً وله الزيادة لقوله تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) ولأنه لما ذكر أنه رحمة قال لّلْمُحْسِنِينَ لأن رحمة الله قريب من المحسنين
المسألة الثالثة قال هناك الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ ( البقرة 3 ) وقال ههنا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ ولم يقل يؤمنون لما بينا أن المتقي هو التارك للكفر ويلزمه أن يكون مؤمناً والمحسن هو الآتي بحق الإيمان ويلزمه أن لا يكون كافراً فلما كان المتقي دالاً على المؤمن في الالتزام صرح بالإيمان هناك تبييناً ولما كان المحسن دالاً على الإيمان بالتنصيص لم يصرح بالإيمان وقوله تعالى الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ قد ذكرنا ما في الصلاة وإقامتها مراراً وما في الزكاة والقيام بها وذكرنا في تفسير الأنفال في أوائلها أن الصلاة ترك التشبه بالسيد فإنها عبادة صورة وحقيقة والله تعالى تجب له العبادة ولا تجوز عليه العبادة وترك التشبه لازم على العبد أيضاً في أمور فلا يجلس عند جلوسه ولا يتكىء عند اتكائه والزكاة تشبه بالسيد فإنها دفع حاجة الغير والله دافع الحاجات والتشبه لازم على العبد أيضاً في أمور كما أن عبد العالم لا يتلبس بلباس الأجناد وعبد الجندي لا يتلبس بلباس الزهاد وبهما تتم العبودية
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
لما بين أن القرآن كتاب حكيم يشتمل على آيات حكمية بين من حال الكفار أنهم يتركون ذلك ويشتغلون بغيره ثم إن فيه ما يبين سوء صنيعهم من وجوه الأول أن ترك الحكمة والاشتغال بحديث آخر قبيح الثاني هو أن الحديث إذا كان لهواً لا فائدة فيه كان أقبح الثالث هو أن اللهو قد يقصد به الإحماض كما ينقل عن ابن عباس أنه قال أحمضوا ونقل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( روحوا القلوب ساعة فساعة ) رواه الديلمي عن أنس مرفوعاً ويشهد له ما في مسلم ( يا حنظلة ساعة وساعة ) والعوام يفهمون منه الأمر بما يجوز

من المطايبة والخواص يقولون هو أمر بالنظر إلى جانب الحق فإن الترويح به لا غير فلما لم يكن قصدهم إلا الإضلال لقوله لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كان فعله أدخل في القبح
ثم قال تعالى بِغَيْرِ عِلْمٍ عائد إلى الشراء أي يشتري بغير علم ويتخذها أي يتخذ السبيل أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ قوله مُّهِينٌ إشارة إلى أمر يفهم منه الدوام وذلك لأن الملك إذا أمر بتعذيب عبد من عبيده فالجلاد إن علم أنه ممن يعود إلى خدمة الملك ولا يتركه الملك في الحبس يكرمه ويخفف من تعذيبه وإن علم أنه لا يعود إلى ما كان عليه وأمره قد انقضى فإنه لا يكرمه فقوله عَذَابٌ مُّهِينٌ إشارة إلى هذا وبه يفرق بين عذاب المؤمن وعذاب الكافر فإن عذاب المؤمن ليطهر فهو غير مين
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
أي يشتري الحديث الباطل والحق الصراح يأتيه مجاناً يعرض عنه وإذا نظرت فيه فهمت حسن هذا الكلام من حيث إن المشتري يطلب المشترى مع أنه يطلبه ببذل الثمن ومن يأتيه الشيء لا يطلبه ولا يبذل شيئاً ثم إن الواجب أن يطلب العاقل الحكمة بأي شيء يجده ويشتريها وهم ما كانوا يطلبونها وإذا جاءتهم مجاناً ما كانوا يسمعونها ثم إن فيه أيضاً مراتب الأولى التولية عن الحكمة وهو قبيح والثاني الاستكبار ومن يشتري حكاية رستم وبهرام ويحتاج إليها كيف يكون مستغنياً عن الحكمة حتى يستكبر عنها وإنما يستكبر الشخص عن الكلام وإذا كان يقول أنا أقول مثله فمن لا يقدر يصنع مثل تلك الحكايات الباطلة كيف يستكبر على الحكمة البالغة التي من عند الله الثالث قوله تعالى كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا شغل المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام ويجعل نفسه كأنها غافلة الرابع قوله كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً أدخل في الإعراض ثم قال تعالى فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أي له عذاب مهين بشره أنت به وأوعده أو يقال إذا كان حاله هذا فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

لما بين حال من إذا تتلى عليه الآيات ولى بين حال من يقبل على تلك الآيات ويقبلها وكما أن ذلك له مراتب من التولية والاستكبار فهذا له مراتب من الإقبال والقبول والعمل به فإن من سمع شيئاً وقبله قد لا يعمل به فلا تكون درجته مثل من يسمع ويطيع ثم إن هذا له جنات النعيم ولذلك عذاب مهين وفيه لطائف إحداها توحيد العذاب وجمع الجنات إشارة إلى أن الرحمة واسعة أكثر من الغضب الثانية تنكير العذاب وتعريف الجنة بالإضافة إلى المعرف إشارة إلى أن الرحيم يبين النعمة ويعرفها إيصالاً للراحة إلى القلب ولا يبين النقمة وإنما ينبه عليها تنبيهاً الثالثة قال عذاب ولم يصرح بأنهم فيه خالدون وإنما أشار إلى الخلود بقوله مُّهِينٌ وصرح في الثواب بالخلود بقوله خَالِدِينَ فِيهَا الرابعة أكد ذلك بقوله وَعْدَ اللَّهِ حَقّا ولم يذكره هناك الخامسة قال هناك لغيره فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ وقال ههنا بنفسه وَعَدَ اللَّهُ ثم لم يقل أبشركم به لأن البشارة لا تكون إلا بأعظم ما يكون لكن الجنة دون ما يكون للصالحين بشارة من الله وإنما تكون بشارتهم منه برحمته ورضوانه كما قال تعالى يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ( التوبة 21 ) ولولا قوله مِنْهُ لما عظمت البشارة ولو كانت مِنْهُ مقرونة بأمر دون الجنة لكان ذلك فوق الجنة من غير إضافة فإن قيل فقد بشر بنفس الجنة بقوله وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّة ِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( فصلت 30 ) نقول البشارة هناك لم تكن بالجنة وحدها بل بها وبما ذكر بعدها إلى قوله تعالى نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ والنزل ما يهيأ عند النزول والإكرام العظيم بعده وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كامل القدرة يعذب المعرض ويثيب المقبل كامل العلم يفعل الأفعال كما ينبغي فلا يعذب من يؤمن ولا يثيب من يكفر
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِى الأرض رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّة ٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ
ثم قال تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا
بين عزته وحكمته بقوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ اختلف قول العلماء في السموات فمنهم من قال إنها مبسوطة كصفيحة مستوية وهو قول أكثر المفسرين ومنهم من قال إنها مستديرة وهو قول جميع المهندسين والغزالي رحمه الله قال نحن نوافقهم في ذلك فإن لهم عليها دليلاً من المحسوسات ومخالفة الحس لا تجوز وإن كان في الباب خبر نؤوله بما يحتمله فضلاً من أن ليس في القرآن والخبر ما يدل على ذلك صريحاً بل فيه ما يدل على الاستدارة كما قال تعالى كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) والفلك اسم لشيء مستدير بل الواجب أن يقال بأن السموات سواء كانت مستديرة أو مصفحة فهي مخلوقة بقدرة الله لا موجودة بإيجاب وطبع وإذا علم هذا فنقول السماء في مكان وهو فضاء لا نهاية له وكون السماء في بعضه دون بعض ليس إلا بقدرة مختارة وإليه الإشارة بقوله بِغَيْرِ عَمَدٍ أي ليس على شيء يمنعها الزوال من موضعها وهي لا تزول إلا بقدرة الله تعالى وقال بعضهم المعنى أن السموات بأسرها ومجموعها لا مكان لها لأن المكان ما يعتمد عليه ما فيه فيكون متمكناً والحيز ما يشار إلى ما فيه بسببه يقال ههنا وهناك على هذا قالوا إن من يقع من شاهق جبل فهو في الهواء في حيز إذ يقال له هو ههنا وهناك وليس في مكان إذ لا يعتمد على شيء فإذا حصل على الأرض حصل في مكان إذا علم هذا فالسموات ليس في مكان تعتمد عليه فلا عمد لها وقوله تَرَوْنَهَا فيه وجهان أحدهما أنه راجع إلى السموات أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك بغير عمد والثاني أنه راجع إلى العمد أي بغير عمد مرئية وإن كان هناك عمد غير مرئية فهي قدرة الله وإرادته

ثم قال تعالى وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّة ٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن
أي جبالاً راسية ثابتة أَن تَمِيدَ أي كراهية أن تميد وقيل المعنى أن لا تميد واعلم أن الأرض ثباتها بسبب ثقلها وإلا كانت تزول عن موضعها بسبب المياه والرياح ولو خلقها مثل الرمل لما كانت تثبت للزراعة كما نرى الأراضي الرملة ينتقل الرمل الذي فيها من موضع إلى موضع ثم قال تعالى وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّة ٍ أي سكون الأرض فيه مصلحة حركة الدواب مأسكنا الأرض وحركنا الدواب ولو كانت الأرض متزلزلة وبعض الأراضي يناسب بعض الحيوانات لكانت الدابة التي لا تعيش في موضع تقع في ذلك الموضع فيكون فيه هلاك الدواب أما إذا كانت الأرض ساكنة والحيوانات متحركة تتحرك في المواضع التي تناسبها وترعى فيها وتعيش فيها ثم قال تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء هذه نعمة أخرى أنعمها الله على عباده وتمامها بسكون الأرض لأن البذر إذا لم يثبت إلى أن ينبت لم يكن يحصل الزرع ولو كانت أجزاء الأرض متحركة كالرمل لما حصل الثبات ولما كمل النبات والعدول من المغايبة إلى النفس فيه فصاحة وحكمة أما الفصاحة فمذكورة في باب الالتفات من أن السامع إذا سمع كلاماً طويلاً من نمط واحد ثم ورد عليه نمط آخر يستطيبه ألا ترى أنك إذا قلت قال زيد كذا وكذا وقال خالد كذا وكذا وقال عمرو كذا ثم إن بكراً قال قولاً حسناً يستطاب لما قد تكرر القول مراراً وأما الحكمة فمن وجهين أحدهما أن خلق الأرض ثقيل والسماء في غير مكان قد يقع لجاهل أنه بالطبع وبث الدواب يقع لبعضهم أنه باختيار الدابة لأن لها اختيار فنقول الأول طبيعي والآخر اختياري للحيوان ولكن لا يشك أحد في أن الماء في الهواء من جهة فوق ليس طبعاً فإن الماء لا يكون بطبعه فوق ولا اختياراً إذ الماء لا اختيار له فهو بإرادة الله تعالى فقال وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء الثاني هو أن إنزال الماء نعمة ظاهرة متكررة في كل زمان متكثرة في كل مكان فأسنده إلى نفسه صريحاً ليتنبه الإنسان لشكر نعمته فيزيد له من رحمته وقوله تعالى فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ أي من كل جنس وكل جنس فتحته زوجان لأن النبات إما أن يكون شجراً وإما أن يكون غير شجر والذي هو الشجر إما أن يكون مثمراً وإما أن يكون غير مثمر والمثمر كذلك ينقسم قسمين وقوله تعالى كَرِيمٌ أي ذي كرم لأنه يأتي كثيراً من غير حساب أو مكرم مثل بغض للمبغض
هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ
قوله تعالى هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ يعني الله خالق وغيره ليس بخالق فكيف تتركون عبادة الخالق وتشتغلون بعبادة المخلوق
ثم قال تعالى بَلِ الظَّالِمُونَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ أي بين أو مبين للعاقل أنه ضلال وهذا لأن ترك

الطريق والحيد عنه ضلال ثم إن كان الحيد يمنة أو يسرة فهو لا يبعد عن الطريق المستقيم مثل ما يكون المقصد إلى وراء فإنه يكون غاية الضلال فالمقصد هو الله تعالى فمن يطلبه ويلتفت إلى غيره من الدنيا وغيرها فهو ضال لكن من وجهه إلى الله قد يصل إلى المقصود ولكن بعد تعب وطول مدة ومن يطلبه ولا يلتفت إلى ما سواه يكون كالذي على الطريق المستقيم يصل عن قريب من غير تعب وأما الذي تولى لا يصل إلى المقصود أصلاً وإن دام في السفر والمراد بالظالمين المشركون الواضعون لعبادتهم في غير موضعها أو الواضعون أنفسم في عبادة غير الله
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة َ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِى ٌّ حَمِيدٌ
قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة َ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ لما بين الله فساد اعتقادهم بسبب عنادهم بإشراك من لا يخلق شيئاً بمن خلق كل شيء بقوله هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ وبين أن المشرك ظالم ضال ذكر ما يدل على أن ضلالهم وظلمهم بمقتضى الحكمة وإن لم يكن هناك نبوة وهذا إشارة إلى معنى وهو أن اتباع النبي عليه السلام لازم فيما لا يعقل معناه إظهاراً للتعبد فكيف ما لا يختص بالنبوة بل يدرك بالعقل معناه وما جاء به النبي عليه السلام مدرك بالحكمة وذكر حكاية لقمان وأنه أدركه بالحكمة وقوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة َ عبارة عن توفيق العمل بالعلم فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة وإن أردنا تحديدها بما يدخل فيه حكمة الله تعالى فنقول حصول العمل على وفق المعلوم والذي يدل على ما ذكرنا أن من تعلم شيئاً ولا يعلم مصالحه ومفاسده لا يسمى حكيماً وإنما يكون مبخوتاً ألا ترى أن من يلقي نفسه من مكان عال ووقع على موضع فانخسف به وظهر له كنز وسلم لا يقال إنه حكيم وإن ظهر لفعله مصلحة وخلو عن مفسدة لعدم علمه به أولاً ومن يعلم أن الإلقاء فيه إهلاك النفس ويلقي نفسه من ذلك المكان وتنكسر أعضاؤه لا يقال إنه حكيم وإن علم ما يكون في فعله ثم الذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى أَنِ اشْكُرْ للَّهِ فإن أن في مثل هذا تسمى المفسرة ففسر الله إيتاء الحكمة بقوله أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وهو كذلك لأن من جملة ما يقال إن العمل موافق للعلم لأن الإنسان إذا علم أمرين أحدهما أهم من الآخر فإن اشتغل بالأهم كان عمله موافقاً لعلمه وكان حكمة وإن أهمل الأهم كان مخالفاً للعلم ولم يكن من الحكمة في شيء لكن شكر الله أهم الأشياء فالحكمة أول ما تقتضي ثم إن الله تعالى بين أن بالشكر لا ينتفع إلا الشاكر بقوله وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وبين أن بالكفران لا يتضرر غير الكافر بقوله وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِى ٌّ حَمِيدٌ أي الله غير محتاج إلى شكر حتى يتضرر بكفران الكافر وهو في نفسه محمود سواء شكره الناس أو لم يشكروه وفي الآية مسائل ولطائف الأولى فسر الله إيتاء الحكمة بالأمر بالشكر لكن الكافر والجاهل مأموران بالشكر فينبغي أن يكون قد أوتي الحكمة والجواب أن قوله تعالى أَنِ اشْكُرْ للَّهِ أمر تكوين معناه آتيناه الحكمة بأن جعلناه من الشاكرين وفي الكافر الأمر بالشكر أمر تكليف
المسألة الثانية قال في الشكر ومن يشكر بصيغة المستقبل وفي الكفران ومن كفر فإن الله غني وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد كقول القائل من دخل داري فهو حر ومن يدخل داري فهو حر فنقول فيه إشارة إلى معنى وإرشاد إلى أمر وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر

النعمة فمن شكر ينبغي أن يكرر والكفر ينبغي أن ينقطع فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران ولأن الشكر من الشاكر لا يقع بكماله بل أبداً يكون منه شيء في العدم يريد الشاكر إدخاله في الوجود كما قال رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ( النمل 19 ) وكما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( النحل 18 ) فأشار إليه بصيغة المستقبل تنبيهاً على أن الشكر بكماله لم يوجد وأما الكفران فكل جزء يقع منه تام فقال بصيغة الماضي
المسألة الثالثة قال تعالى هنا وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ بتقديم الشكر على الكفران وقال في سورة الروم وَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلاِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( الروم 44 ) فنقول هناك كان الذكر للترهيب لقوله تعالى من قبل فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ الْقِيّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( الروم 43 ) وههنا الذكر للترغيب لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف والوعد وقوله وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً يحقق ما ذكرنا أولاً لأن المذكور في سورة الروم لما كان بعد اليوم الذي لا مرد له تكون الأعمال قد سبقت فقال بلفظ الماضي ومن عمل وههنا لما كان المذكور في الابتداء قال وَمَن يَشْكُرْ بلفظ المستقبل وقوله وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِى ٌّ عن حمد الحامدين حميد في ذاته من غير حمدهم وإنما الحامد ترتفع مرتبته بكونه حامداً لله تعالى
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابُنَى َّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
عطف على معنى ما سبق وتقديره آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكراً في نفسه وحين جعلناه واعظاً لغيره وهذا لأن علو مرتبة الإنسان بأن يكون كاملاً في نفسه ومكملاً لغيره فقوله أَنِ اشْكُرْ إشارة إلى الكمال وقوله وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ إشارة إلى التكميل وفي هذا لطيفة وهي أن الله ذكر لقمان وشكر سعيه حيث أرشد ابنه ليعلم منه فضيلة النبي عليه السلام الذي أرشد الأجانب والأقارب فإن إرشاد الولد أمر معاد وأما تحمل المشقة في تعليم الأباعد فلا ثم إنه في الوعظ بدأ بالأهم وهو المنع من الإشراك وقال إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ أما أنه ظلم فلأنه وضع للنفس الشريف المكرم بقوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ( الإسراء 70 ) في عبادة الخسيس أو لأنه وضع العبادة في غير موضعها وهي غير وجه الله وسبيله وأما أنه عظيم فلأنه وضع في موضع ليس موضعه ولا يجوز أن يكون موضعه وهذا لأن من يأخذ مال زيد ويعطي عمراً يكون ظلماً من حيث إنه وضع مال زيد في يد عمرو ولكن جائز أن يكون ذلك ملك عمرو أو يصير ملكه ببيع سابق أو بتمليك لاحق وأما الإشراك فوضع المعبودية في غير الله تعالى ولا يجوز أن يكون غيره معبوداً أصلاً

وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ إِلَى َّ الْمَصِيرُ
لما منعه من العبادة لغير الله والخدمة قريبة منها في الصورة بين أنها غير ممتنعة بل هي واجبة لغير الله في بعض الصور مثل خدمة الأبوين ثم بين السبب فقال حَمَلَتْهُ أُمُّهُ يعني لله على العبيد نعمة الإيجاد ابتداء بالخلق ونعمة الإبقاء بالرزق وجعل بفضله لأم ما له صورة ذلك وإن لم يكن لها حقيقة فإن الحمل به يظهر الوجود وبالرضاع يحصل التربية والبقاء فقال حملته أمه أي صارت بقدرة الله سبب وجوده وفصاله في عامين أي صارت بقدرته أيضاً سبب بقائه فإذا كان منها ما له صورة الوجود والبقاء وجب عليه ما له شبه العبادة من الخدمة فإن الخدمة لها صورة العبادة فإن قال قائل وصى الله بالوالدين وذكر السبب في حق الأم فنقول خص الأم بالذكر وفي الأب ما وجد في الأم فإن الأب حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ وقوله أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ لما كان الله تعالى بفضله جعل من الوالدين صورة ما من الله فإن الوجود في الحقيقة من الله وفي الصورة يظهر من الوالدين جعل الشكر بينهما فقال أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ ثم بين الفرق وقال إِلَى َّ الْمَصِيرُ يعني نعمتهما مختصة بالدنيا ونعمتي في الدنيا والآخرة فإن إلي المصير أو نقول لما أمر بالشكر لنفسه وللوالدين قال الجزاء على وقت المصير إلي
وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَى َّ ثُمَّ إِلَى َّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يعني أن خدمتهما واجبة وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاعة الله أما إذا أفضى إليه فلا تطعهما وقد ذكرنا تفسير الآية في العنكبوت وقال ههنا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَى َّ يعني صاحبهما بجسمك فإن حقهما على جسمك واتبع سبيل النبي عليه السلام بعقلك فإنه مربي عقلك كما أن الوالد مربي جسمك
يابُنَى َّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَة ٍ أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ أَوْ فِى الأرض يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
لما قال فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وقع لابنه أن ما يفعل في خفية يخفي فقال وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا أي الحسنة والسيئة إن كانت في الصعر مثل حبة خردل وتكون مع ذلك الصغر في موضع حريز كالصخرة لا تخفي على الله وفيه مسائل

المسألة الأولى قوله فَتَكُنْ بالفاء لإفادة الاجتماع يعني إن كانت صغيرة ومع صغرها تكون خفية في موضع حريز كالصخرة لا تخفى على الله لأن الفاء للاتصال بالتعقيب
المسألة الثانية لو قيل الصخرة لا بد من أن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة في ذكرها ولأن القائل لو قال هذا رجل أو امرأة أو ابن عمرو لا يصح هذا الكلام لكون ابن عمرو داخلاً في أحد القسمين فكيف يفهم هذا فنقول الجواب عنه من أوجه أحدها ما قاله بعض المفسرين وهو أن المراد بالصخرة صخرة عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء والثاني ما قاله الزمخشري وهو أن فيه إضماراً تقديره فتكن في صخرة أو في موضع آخر في السموات أو في الأرض والثالث أن نقول تقديم الخاص وتأخير العام في مثل هذا التقسيم جائز وتقديم العام وتأخير الخاص غير جائز أما الثاني فلما بينتم أن من قال هذا في دار زيد أو في غيرها أو في دار عمرو لا يصح لكون دار عمرو داخلة في قوله أو في غيرها وأما الأول فلأن قول القائل هذا في دار زيد أو في دار عمرو أو في غيرها صحيح غير قبيح فكذلك ههنا قدم الأخص أو نقول خفاء الشيء يكون بطرق منها أن يكون في غاية الصغر ومنها أن يكون بعيداً ومنها أن يكون في ظلمة ومنها أن يكون من وراء حجاب فإن انتفت الأمور بأسرها بأن يكون كبيراً قريباً في ضوء من غير حجاب فلا يخفى في العبادة فأثبت الله الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط فقوله إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ إشارة إلى الصغر وقوله فَتَكُنْ فِى صَخْرَة ٍ إشارة إلى الحجاب وقوله أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ إشارة إلى البعد فإنها أبعد الأبعاد وقوله أَوْ فِى الاْرْضِ إشارة إلى الظلمات فإن جوف الأرض أظلم الأماكن وقوله يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أبلغ من قول القائل يعلمها الله لأن من يظهر له الشيء ولا يقدر على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دون حال من يظهر له الشيء ويظهره لغيره فقوله يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي يظهرها الله للإشهاد وقوله إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أي نافذ القدرة خَبِيرٌ أي عالم ببواطن الأمور
يابُنَى َّ أَقِمِ الصَّلَواة َ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاٍّ مُورِ
لما منعه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بما يلزمه من التوحيد وهو الصلاة وهي العبادة لوجه الله مخلصاً وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيئتها اختلفت
ثم قال تعالى وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي إذا كملت أنت في نفسك بعبادة الله فكمل غيرك فإن شغل الأنبياء وورثتهم من العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم ويكملوا غيرهم فإن قال قائل كيف قدم في وصيته لابنه الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر وقبل قدم النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف فإنه أول ما قال يَعِظُهُ يابُنَى َّ لاَ تُشْرِكْ ثم قال لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً أَقِمِ الصَّلَواة َ فنقول هو كان يعمل من ابنه أنه معترف بوجود الله فما أمره بهذا المعروف ونهاه عن المنكر الذي يترتب على هذا المعروف فإن المشرك بالله لا يكون نافياً لله في الاعتقاد وإن كان يلزمه نفيه بالدليل فكان كل معروف في مقابلته منكر والمعروف في

معرفة الله اعتقاد وجوده والمنكر اعتقاد وجود غيره معه فلم يأمره بذلك المعروف لحصوله ونهاه عن المنكر لأنه ورد في التفسير أن ابنه كان مشركاً فوعظه ولم يزل يعظه حتى أسلم وأما ههنا فأمر أمراً مطلقاً والمعروف مقدم على المنكر ثم قال تعالى وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ يعني أن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذي فأمره بالصبر عليه وقوله إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ أي من الأمور الواجبة المعزومة أي المقطوعة ويكون المصدر بمعنى المفعول كما تقول أكلي في النهار رغيف خبز أي مأكولي
وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الأرض مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
لما أمره أمره بأن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره وكان يخشى بعدهما من أمرين أحدهما التكبر على الغير بسبب كونه مكملاً له والثاني التبختر في النفس بسبب كونه كاملاً في نفسه فقال وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ تكبراً وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا تبختراً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ يعني من يكون به خيلاء وهو الذي يرى الناس عظمة نفسه وهو التكبر فَخُورٌ يعني من يكون مفتخراً بنفسه وهو الذي يرى عظمة لنفسه في عينه وفي الآية لطيفة وهو أن الله تعالى قدم الكمال على التكميل حيث قال أَقِمِ الصَّلَواة َ ثم قال وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وفي النهي قدم ما يورثه التكميل على ما يورثه الكمال حيث قال وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ ثم قال وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا لأن في طرف الإثبات من لا يكون كاملاً لا يمكن أن يصير مكملاً فقدم الكمال وفي طرف النفي من يكون متكبراً على غيره متبختراً لأنه لا يتكبر على الغير إلا عند اعتقاده أنه أكبر منه من وجه وأما من يكون متبختراً في نفسه لا يتكبر ويتوهم أنه يتواضع للناس فقدم نفي التكبر ثم نفي التبختر لأنه لو قد نفي التبختر للزم منه نفي التكبر فلا يحتاج إلى النهي عنه ومثاله أنه لا يجوز أن يقال لا تفطر ولا تأكل لأن من لا يفطر لا يأكل ويجوز أن يقال لا تأكل ولا تفطر لأن من لا يأكل قد يفطر بغير الأكل ولقائل أن يقول إن مثل هذا الكلام يكون للتفسير فيقول لا تفطر ولا تأكل أي لا تفطر بأن تأكل ولا يكون نهيين بل واحداً
وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاٌّ صْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ
لما قال وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا وعدم ذلك قد يكون بضده وهو الذي يخالف غاية الاختلاف وهو مشي المتماوت الذي يرى من نفسه الضعف تزهداً فقال وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ أي كن وسطاً بين الطرفين المذمومين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هل للأمر بالغض من الصوت مناسبة مع الأمر بالقصد في المشي فنقول نعم سواء علمناها نحن أو لم نعلمها وفي كلام الله من الفوائد ما لا يحصره حد ولا يصيبه عد ولا يعلمه أحد والذي يظهر وجوه الأول هو أن الإنسان لما كان شريفاً تكون مطالبه شريفة فيكون فواتها خطراً فأقدر الله

الإنسان على تحصيلها بالمشي فإن عجز عن إدراك مقصوده ينادي مطلوبه فيقف له أو يأتيه مشياً إليه فإن عجز عن إبلاغ كلامه إليه وبعض الحيوانات يشارك الإنسان في تحصيل المطلوب بالصوت كما أن الغنم تطلب السخلة والبقرة العجل والناقة الفصيل بالثغاء والخوار والرغاء ولكن لا تتعدى إلى غيرها والإنسان يميز البعض عن البعض فإذا كان المشي والصوت مفضيين إلى مقصود واحد لما أرشده إلى أحدهما أرشده إلى الآخر الثاني هو أن الإنسان له ثلاثة أشياء عمل بالجوارح يشاركه فيه الحيوانات فإنه حركة وسكون وقول باللسان ولا يشاركه فيه غيره وعزم بالقلب وهو لا اطلاع عليه إلا لله وقد أشار إليه بقوله إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مّنْ خَرْدَلٍ أي أصلح ضميرك فإن الله خبير بقي الأمران فقال وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إشارة إلى التوسط في الأفعال والأقوال الثالث هو أن لقمان أراد إرشاد ابنه إلى السداد في الأوصاف الإنسانية والأوصاف التي هي للملك الذي هو أعلى مرتبة منه والأوصاف التي للحيوان الذي هو أدنى مرتبة منه فقوله وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ إشارة إلى المكارم المختصة بالإنسان فإن الملك لا يأمر ملكاً آخر بشيء ولا ينهاه عن شيء وقوله وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحاً الذي هو إشارة إلى عدم التكبر والتبختر إشارة إلى المكارم التي هي صفة الملائكة فإن عدم التكبر والتبختر صفتهم وقوله وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إشارة إلى المكارم التي هي صفة الحيوان ثم قال تعالى إِلَى َّ أَنكَرَ الاْصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ وفيه مسائل
المسألة الأولى لم ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي نقول أما على قولنا إن المشي والصوت كلاهما موصلان إلى شخص مطلوب إن أدركه بالمشي إليه فذاك وإلا فيوقفه بالنداء فنقول رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة وربما يخرق الغشاء الذي داخل الأذن وأما السرعة في المشي فلا تؤذي أو إن كانت تؤذي فلا تؤذي غير من في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين واليسار ولأن المشي يؤذي آلة المشي والصوت يؤذي آلة السمع وآلة السمع على باب القلب فإن الكلام ينتقل من السمع إلى القلب ولا كذلك المشي وأما على قولنا الإشارة بالشيء والصوت إلى الأفعال والأقوال فلأن القول قبيحه أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان ترجمان القلب والاعتبار يصحح الدعوى
المسألة الثانية كيف يفهم كونه أنكر مع أن مس المنشار بالمبرد وحت النحاس بالحديد أشد تنفيراً نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن المراد أن أنكر أصوات الحيوانات صوت الحمير فلا يرد ما ذكرتم وما ذكرتم في أكثر الأمر لمصلحة وعمارة فلا ينكر بخلاف صوت الحمير وهذا وهو الجواب الثاني
المسألة الثالثة أنكر هو أفعل التفضيل فمن أي باب هو نقول يحتمل أن يكون من باب أطوع له من بنانه بمعنى أشدها طاعة فإن أفعل لا يجىء في مفعل ولا في مفعول ولا في باب العيوب إلا ما شذ كقولهم أطوع من كذا للتفضيل على المطيع وأشغل من ذات النحيين للتفضيل على المشغول وأحمق من فلان من باب العيوب وعلى هذا فهو في باب أفعل كأشغل في باب مفعول فيكون للتفضيل على المنكر أو نقول هو من باب أشغل مأخوذاً من نكر الشيء فهو منكر وهذا أنكر منه وعلى هذا فله معنى لطيف وهو أن كل حيوان قد يفهم من صوته بأنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو غير ذلك والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق فصوته منكور ويمكن أن يقال هو من نكير كأجدر من جدير

أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَة ً وَبَاطِنَة ً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ
لما استدل بقوله تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ على الوحدانية وبين بحكاية لقمان أن معرفة ذلك غير مختصة بالنبوة بل ذلك موافق للحكمة وما جاء به النبي عليه السلام من التوحيد والصلاة ومكارم الأخلاق كلها حكمة بالغة ولو كان تعبداً محضاً للزم قبوله فضلاً عن أنه على وفق الحكمة استدل على الوحدانية بالنعمة لأنا بينا مراراً أن الملك يخدم لعظمته وإن لم ينعم ويخدم لنعمته أيضاً فلما بين أنه المعبود لعظمته بخلقه السموات بلا عمد وإلقائه في الأرض الرواسي وذكر بعض النعم بقوله وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء ( المؤمنون 18 ) ذكر بعده عامة النعم فقال سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَاوَاتِ أي سخر لأجلكم ما في السموات فإن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمر الله وفيها فوائد لعباده وسخر ما في الأرض لأجل عباده وقوله وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَة ً وهي ما في الأعضاء من السلامة وَبَاطِنَة ً وهي ما في القوى فإن العضو ظاهر وفيه قوة باطنة ألا ترى أن العين والأذن شحم وغضروف ظاهر واللسان والأنف لحم وعظم ظاهر وفي كل واحد معنى باطن من الأبصار والسمع والذوق والشم وكذلك كل عضو وقد تبطل القوة ويبقى العضو قائماً وهذا أحسن مما قيل فإن على هذا الوجه يكون الاستدلال بنعمة الآفاق وبنعمة الأنفس فقوله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يكون إشارة إلى النعم الآفاقية وقوله وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَة ً وَبَاطِنَة ً يكون إشارة إلى النعم الأنفسية وفيهما أقوال كثيرة مذكورة في جميع كتب التفاسير ولا يبعد أن يكون ما ذكرناه مقولاً منقولاً وإن لم يكن فلا يخرج من أن يكون سائغاً معقولاً
ثم قال تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ يعني لما ثبت الوحدانية بالخلق والإنعام فمن الناس من يجادل في الله ويثبت غيره إما إلهاً أو منعماً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ هذه أمور ثلاثة مرتبة العلم والهدى والكتاب والعلم أعلى من الهدى والهدى من الكتاب وبيانه هو أن العلم تدخل فيه الأشياء الواضحة اللائحة التي تعلم من غير هداية هاد ثم الهدى يدخل فيه الذي يكون في كتاب والذي يكون من إلهام ووحي فقال تعالى يُجَادِلُ ذلك المجادل لا من علم واضح ولا من هدى أتاه من هاد ولا من كتاب وكأن الأول إشارة إلى من أوتي من لدنه علماً كما قال تعالى وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ( النساء 113 ) والثاني إشارة إلى مرتبة من هدى إلى صراط مستقيم بواسطة كما قال تعالى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( النجم 5 ) والثالث إشارة إلى مرتبة من اهتدى بواسطتين ولهذا قال تعالى الم ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) وقال في هذه السورة هُدًى وَرَحْمَة ً لّلْمُحْسِنِينَ ( لقمان 3 ) وقال في السجدة وَءاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إِسْراءيلَ ( الإسراء 2 ) فالكتاب هدى لقوم النبي عليه السلام والنبي هداه من الله تعالى من غير واسطة أو بواسطة الروح الأمين فقال تعالى يجادل من يجادل لا بعلم آتيناه من لدنا كشفاً ولا بهدى أرسلناه إليه وحياً ولا بكتاب يتلى عليه وعظاً ثم فيه لطيفة أخرى وهو أنه

تعالى قال في الكتاب وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ لأن المجادل منه من كان يجادل من كتاب ولكنه محرف مثل التوراة بعد التحريف فلو قال ولا كتاب لكان لقائل أن يقول لا يجادل من غير كتاب فإن بعض ما يقولون فهو في كتابهم ولأن المجوس والنصارى يقولون بالتثنية والتثليث عن كتابهم فقال وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ فإن ذلك الكتاب مظلم ولما لم يحتمل في المرتبة الأولى والثانية التحريف والتبديل لم يقل بغير علم ولا هدى منير أو حق أو غير ذلك
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَة ُ الاٌّ مُورِ
قوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا بين أن مجادلتهم مع كونها من غير علم فهي في غاية القبح فإن النبي عليه السلام يدعوهم إلى كلام الله وهم يأخذون بكلام آبائهم وبين كلام الله تعالى وكلام العلماء بون عظيم فكيف ما بين كلام الله وكلام الجهلاء ثم إن ههنا شيئاً آخر وهو أنهم قالوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا يعني نترك القول النازل من الله ونتبع الفعل والقول أدل من الفعل لأن الفعل يحتمل أن يكون جائزاً ويحتمل أن يكون حراماً وهم تعاطوه ويحتمل أن يكون واجباً في اعتقادهم والقول بين الدلالة فلو سمعنا قول قائل افعل ورأينا فعله يدل على خلاف قوله لكان الواجب الأخذ بالقول فكيف والقول من الله والفعل من الجهال ثم قال تعالى أَوْ لَّوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ استفهاماً على سبيل التعجب في الإنكار يعني الشيطان يدعوهم إلى العذاب والله يدعو إلى الثواب وهم مع هذا يتبعون الشيطان ثم قال تعالى وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَة ُ الاْمُورِ لما بين حال المشرك والمجادل في الله بين حال المسلم المستسلم لأمر الله فقوله وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ إشارة إلى الإيمان وقوله وَهُوَ مُحْسِنٌ إشارة إلى العمل الصالح فتكون الآية في معنى قوله تعالى مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وقوله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى أي تمسك بحبل لا انقطاع له وترقى بسببه إلى أعلى المقامات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ههنا وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وقال في سورة البقرة بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ فعدى ههنا بإلى وهناك باللام قال الزمخشري معنى قوله أَسْلَمَ لِلَّهِ أي جعل نفسه لله سالماً أي خالصاً والوجه بمعنى النفس والذات ومعنى قوله يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ يسلم نفسه إلى الله كما يسلم واحد متاعاً إلى غيره ولم يزد على هذا ويمكن أن يزاد عليه ويقال من أسلم لله أعلى درجة ممن يسلم إلى الله لأن إلى للغاية واللام للاختصاص يقول القائل أسلمت وجهي إليك أي توجهت نحوك وينبىء هذا عن عدم الوصول

لأن التوجه إلى الشيء قبل الوصول وقوله أسلمت وجهي لك يفيد الاختصاص ولا ينبىء عن الغاية التي تدل على المسافة وقطعها للوصول إذا علم هذا فنقول في البقرة قالت اليهود والنصارى لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 111 ) فقال الله رداً عليهم تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ( البقرة 111 ) ثم بين فساد قولهم بقوله تعالى بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي أنتم مع أنكم تتركون الله للدنيا وتولون عنه للباطل وتشترون بآياته ثمناً قليلاً تدخلون ( النار ) ومن كان بكليته لله لا يدخلها هذا كلام باطل فأورد عليهم من أسلم لله ولا شك أن النقض بالصورة التي هي ألزم أولى فأورد عليهم المخلص الذي ليس له أمر إلا الله وقال أنتم تدخلون الجنة وهذا لا يدخلها ثم بين كذبهم وقال بلى وبين أن له فوق الجنة درجة وهي العندية بقوله فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ وأما ههنا أراد وعد المحسن بالثواب والوصول إلى الدرجة العالية فوعد من هو دونه ليدخل فيه من هو فوقه بالطريق الأولى ويعم الوعد وهذا من الفوائد الجليلة ثم قال تعالى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى أوثق العرى جانب الله لأن كل ما عداه هالك منقطع وهو باق لا انقطاع له ثم قال تعالى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَة ُ الاْمُورِ يعني استمسك بعروة توصله إلى الله وكل شيء عاقبته إليه فإذا حصل في الحال ما إليه عاقبته في عاقبته في غاية الحسن وذلك لأن من يعلم أن عاقبة الأمور إلى واحد ثم يقدم إليه الهدايا قبل الوصول إليه يجد فائدته عند القدوم عليه وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ( البقرة 110 )
وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ
لما بين حال المسلم رجع إلى بيان حال الكافر فقال وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ أي لا تحزن إذا كفر كافر فإن من يكذب وهو قاطع بأن صدقه يتبين عن قريب لا يحزن بل قد يؤنب المكذب على الزيادة في التكذيب إذا لم يكن من الهداة ويكون المكذب من العداة ليخجله غاية التخجيل وأما إذا كان لا يرجو ظهور صدقه يتألم من التكذيب فقال فلا يحزنك كفره فإن المرجع إلي فأنبئهم بما عملوا فيخجلون وقوله إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أي لا يخفى عليه سرهم وعلانيتهم فينبئهم بما أضمرته صدورهم وذات الصدور هي المهلك ثم إن الله تعالى فصل ما ذكرنا وقال نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً أي بقاؤهم مدة قليلة ثم بين لهم وبال تكذيبهم وكفرهم بقوله ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ أي نسلط عليهم أغلظ عذاب حتى يدخلوا بأنفسهم عذاباً غليظاً فيضطرون إلى عذاب النار فراراً من الملائكة الغلاظ الشداد الذين يعذبونهم بمقامع من نار وفيه وجه آخر لطيف وهو أنهم لما كذبوا الرسل ثم تبين لهم الأمر وقع عليهم من الخجالة ما يدخلون النار ولا يختارون الوقوف بين يدي ربهم بمحضر الأنبياء وهو يتحقق بقوله تعالى فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ

وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
الآية متعلقة بما قبلها من وجهين أحدهما أنه تعالى لما استدل بخلق السموات بغير عمد وبنعمه الظاهرة والباطنة بين أنهم معترفون بذلك غير منكرين له وهذا يقتضي أن يكون الحمد كله لله لأن خالق السموات والأرض يحتاج إليه كل ما في السموات والأرض وكون الحمد كله لله يقتضي أن لا يعبد غيره لكنهم لا يعلمون هذا والثاني أن الله تعالى لما سلى قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم أي لا تحزن على تكذيبهم فإن صدقك وكذبهم يتبين عن قريب عند رجوعهم إلينا قال وليس لا يتبين إلا ذلك اليوم بل هو يتبين قبل يوم القيامة لأنهم معترفون بأن خلق السموات والأرض من الله وهذا يصدقك في دعوى الوحدانية ويبين كذبهم في الإشراك فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ على ظهور صدقك وكذب مكذبيك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أي ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك وعلى هذا يكون لا يعلمون استعمالاً للفعل مع القطع عن المفعول بالكلية كما يقول القائل فلأن يعطي ويمنع ولا يكون في ضميره من يعطي بل يريد أن له عطاءً ومنعاً فكذلك ههنا قال لا يعلمون أي ليس لهم علم وعلى الأول يكون لا يعلمون له مفعول مفهوم وهو أنهم لا يعلمون أن الحمد كله لله والثاني أبلغ لأن قول القائل فلان لا علم له بكذا دون قوله فلان لا علم له وكذا قوله فلان لا ينفع زيداً ولا يضره دون قوله فلان لا يضر ولا ينفع
لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ
ذكر بما يلزم منه وهو أنه يكون له ما فيهما والأمر كذلك عقلاً وشرعاً أما عقلاً فلأن ما في السموات المخلوقة مخلوق وإضافة خلقه إلى من منه خلق السموات والأرض لازم عقلاً لأنها ممكنة والممكن لا يقع ولا يوجد إلا بواجب من غير واسطة كما هو مذهب أهل السنة أو بواسطة كما يقوله غيرهم وكيفما فرض فكله من الله لأن سبب السبب سبب وأما شرعاً فلأن من يملك أرضاً وحصل منها شيء ما يكون ذلك لمالك الأرض فكذلك كل ما في السموات والأرض حاصل فيهما ومنهما فهو لمالك السموات والأرض وإذا كان الأمر كذلك تحقق أن الحمد كله لله ثم قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ فيه معان لطيفة أحدها أن الكل لله وهو غير محتاج إليه غير منتفع به وفيها منافع فهي لكم خلقها فهو غني لعدم حاجته حميد مشكور لدفعه حوائجكم بها وثانيها أن بعد ذكر الدلائل على أن الحمد كله لله ولا تصلح العبادة إلا لله افترق المكلفون فريقين مؤمن وكافر والكافر لم يحمد الله والمؤمن حمده فقال إنه عني عن حمد الحامدين فلا يلحقه نقص بسبب كفر الكافرين وحميد في نفسه فيتبين به إصابة المؤمنين وتكمل بحمده الحامدون وثالثها هو أن السموات وما فيها والأرض وما فيها إذا كانت لله ومخلوقة له فالكل محتاجون فلا غني إلا الله فهو الغني المطلق وكل محتاج فهو حامد لاحتياجه إلى من يدفع حاجته فلا يكون الحميد المطلق إلا الغني

المطلق فهو الحميد وعلى هذا ( يكون ) الحميد بمعنى المحمود والله إذا قيل له الحميد لا يكون معناه إلا الواصف أي وصف نفسه أو عباده بأوصاف حميدة والعبد إذا قيل له حامد يحتمل ذلك المعنى ويحتمل كونه عابداً شاكراً له
وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأرض مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَة ٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
لما قال تعالى للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وكان ذلك موهماً لتناهي ملكه لانحصار ما في السموات وما في الأرض فيهما وحكم العقل الصريح بتناهيهما بين أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها فقال وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ ويكتب بها والأبحر مداد لا تفني عجائب صنع الله وعلى هذا فالكلمة مفسرة بالعجيبة ووجهها أن العجائب بقوله كن وكن كلمة وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز يقول الشجاع لمن يبارزه أنا موتك ويقال للدواء في حق المريض هذا شفاؤك ودليل صحة هذا هو أن الله تعالى سمى المسيح كلمة لأنه كان أمراً عجيباً وصنعاً غريباً لوجوده من غير أب فإن قال قائل الآية واردة في اليهود حيث قالوا الله ذكر كل شيء في التوراة ولم يبق شيء لم يذكره فقال الذي في التوراة بالنسبة إلى كلام الله تعالى ليس إلا قطرة من بحار وأنزل هذه الآية وقيل أيضاً إنها نزلت في واحد قال للنبي عليه السلام إنك تقول وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 85 ) وتقول وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 269 ) فنزلت الآية دالة على أنه خير كثير بالنسبة إلى العباد وبالنسبة إلى الله وعلومه قليل وقيل أيضاً إنها نزلت رداً على الكفار حيث قالوا بأن ما يورده محمد سينفد فقال إنه كلام الله وهو لا ينفد وما ذكر من أسباب النزول ينافي ما ذكرتم من التفسير لأنها تدل على أن المراد الكلام فنقول ما ذكرتم من اختلاف الأقوال فيه يدل على جواز ما ذكرنا لأنه إذا صلح جواباً لهذه الأشياء التي ذكرتموها وهي متباينة علم أنها عامة وما ذكرنا لا ينافي هذا لأن كلام الله عجيب معجز لا يقدر أحد على الإتيان بمثله وإذا قلنا بأن عجائب الله لا نهاية لها دخل فيها كلامه لا يقال إنك جعلت الكلام مخلوقاً لأنا نقول المخلوق هو الحرف والتركيب وهو عجيب وأما الكلمات فهي من صفات الله تعالى واعلم أن الآية وإن كانت نازلة على ترتيب غير الذي هو مكتوب ولكن الترتيب المكتوب عليه القرآن بأمر الله فإنه بأمر الرسول كتب كذلك وأمر الرسول من أمر الله وذلك محقق متيقن من سنن الترتيب الذي فيه ثم إن الآية فيها لطائف الأولى قال وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ وحد الشجرة وجمع الأقلام ولم يقل ولو أن ما في الأرض من الأشجار أقلام ولا قال ولو أن ما في الأرض من شجرة قلم إشارة إلى التكثير يعني ولو أن بعدد كل شجرة أقلاماً الثانية قوله والبحر يمده تعريف البحر باللام لاستغراق الجنس

وكل بحر مداد ثم قوله يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ إشارة إلى بحار غير موجودة يعني لو مدت البحار الموجودة بسبعة أبحر أخر وقوله سَبْعَة ُ ليس لانحصارها في سبعة وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ولو بألف بحر والسبعة خصصت بالذكر من بين الأعداد لأنها عدد كثير يحصر المعدودات في العادة والذي يدل عليه وجوه الأول هو أن ما هو معلوم عند كل أحد لحاجته إليه هو الزمان والمكان لأن المكان فيه الأجسام والزمان فيه الأفعال لكن المكان منحصر في سبعة أقاليم والزمان في سبعة أيام ولأن الكواكب السيارة سبعة وكان المنجمون ينسبون إليها أموراً فصارت السبعة كالعدد الحاصر للكثرات الواقعة في العادة فاستعملت في كل كثير الثاني هو أن الآحاد إلى العشرة وهي العقد الأول وما بعده يبتدىء من الآحاد مرة أخرى فيقال أحد عشر واثنا عشر ثم المئات من العشرات والألوف من المئات إذا علم هذا فنقول أقل ما يلتئم منه أكثر المعدودات هو الثلاثة لأنه يحتاج إلى طرفين مبدأ ومنتهى ووسط ولهذا يقال أقل ما يكون الإسم والفعل منه هو ثلاثة أحرف فإذا كانت الثلاثة هو القسم الأول من العشرة التي هو العدد الأصلي تبقى السبعة القسم الأكثر فإذا أريد بيان الكثرة ذكرت السبعة ولهذا فإن المعدودات في العبادات من التسبيحات في الانتقالات في الصلوات ثلاثة والمرار في الوضوء ثلاثة تيسيراً للأمر على المكلف اكتفاءً بالقسم الأول إذا ثبت هذا فنقول قوله عليه السلام ( المؤمن يأكل في معى والكافر يأكل في سبعة أمعاء ) إشارة إلى قلة الأكل وكثرته من غير إرادة السبعة بخصوصها ويحتمل أن يقال إن لجهنم سبعة أبواب بهذا التفسير ثم على هذا فقولنا للجنة ثمانية أبواب إشارة إلى زيادتها فإن فيها الحسنى وزيادة فلها أبواب كثيرة وزائدة على كثرة غيرها والذي يدل على ما ذكرنا في السبعة أن العرب عند الثامن يزيدون واواً يقول الفراء إنها واو الثمانية وليس ذلك إلا للاستئناف لأن العدد بالسبعة يتم في العرف ثم بالثامن استئناف جديد اللطيفة الثالثة لم يقل في الأقلام المدد لوجهين أحدهما هو أن قوله وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ بينا أن المراد منه هو أن يكون بعدد كل شجرة موجودة أقلام فتكون الأقلام أكثر من الأشجار الموجودة وقوله في البحر وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ إشارة إلى أن البحر لو كان أكثر من الموجود لاستوى القلم والبحر في المعنى والثاني هو أن النقصان بالكتابة يلحق المداد أكثر فإنه هو النافد والقلم الواحد يمكن أن يكتب به كتب كثيرة فذكر المدد في البحر الذي هو كالمداد
ثم قال تعالى أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لما ذكر أن ملكوته كثيراً أشار إلى ما يحقق ذلك فقال إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي كامل القدرة فيكون له مقدورات لا نهاية لها وإلا لانتهت القدرة إلى حيث لا تصلح للإيجاد وهو حكيم كامل العلم ففي علمه ما لا نهاية له فتحقق أن البحر لو كان مداداً لما نفد ما في علمه وقدرته
ثم قال تعالى مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَة ٍ لما بين كمال قدرته وعلمه ذكر ما يبطل استبعادهم للمعشر وقال مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَة ٍ ومن لا نفاد لكلماته يقول للموتى كونوا فيكونوا
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ سميع لما يقولون بصير بما يعملون فإذا كونه قادراً على البعث ومحيطاً بالأقوال والأفعال يوجب ذلك الاجتناب التام والاحتراز الكامل

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
يحتمل أن يقال إن وجه الترتيب هو أن الله تعالى لما قال أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ على وجه العموم ذكر منها بعض ما هو فيهما على وجه الخصوص بقوله يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وقوله وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ إشارة إلى ما في السموات وقوله بعد هذا أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ إشارة إلى ما في الأرض ويحتمل أن يقال إن وجهه هو أن الله تعالى لما ذكر البعث وكان من الناس من يقول وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ ( الجاثية 24 ) والدهر هو الليالي والأيام قال الله تعالى هذه الليالي والأيام التي تنسبون إليها الموت والحياة هي بقدرة الله تعالى فقال أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ ثم إن قائلاً لو قال إن ذلك اختلاف مسير الشمس تارة تكون القوس التي هي فوق الأرض أكثر من التي تحت الأرض فيكون الليل أقصر والنهار أطول وتارة تكون بالعكس وتارة يتساويان فيتساويان فقال تعالى وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يعني إن كنتم لا تعترفون بأن هذه الأشياء كلها في أوائلها من الله فلا بد من الاعتراف بأنها بأسرها عائدة إلى الله تعالى فالآجال إن كانت بالمدد والمدد بسير الكواكب فسير الكواكب ليس إلا بالله وقدرته وفي الآية مسائل
المسألة الأولى إيلاج الليل في النهار يحتمل وجهين أحدهما أن يقال المراد إيلاج الليل في زمان النهار أي يجعل في الزمان الذي كان فيه النهار الليل وذلك لأن الليل إذا كان مثلاً اثنتي عشرة ساعة ثم يطول يصير الليل موجوداً في زمان كان فيه النهار وثانيهما أن يقال المراد إيلاج زمان الليل في النهار أي يجعل زمان الليل في النهار وذلك لأن الليل إذا كان كما ذكرنا اثنتي عشرة ساعة إذا قصر صار زمان الليل موجوداً في النهار ولا يمكن غير هذا لأن إيلاج الليل في النهار محال الوجود فما ذكرنا من الإضمار لا بد منه لكن الأول أولى لأن الليل والنهار أفعال والأفعال في الأزمنة لأن الزمان ظرف فقولنا الليل في زمان النهار أقرب من قولنا زمان الليل في النهار لأن الثاني يجعل الظرف مظروفاً إذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ أي يوجده في وقت كان فيه النهار والله تعالى قدم إيجاد الليل على إيجاد النهار في كثير من المواضع كما في قوله تعالى وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ ( الإسراء 12 ) وقوله وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) وقوله وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( الجاثية 5 ) ومن جنسه قوله خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( الجاثية 5 ) وهذا إشارة إلى مسألة حكمية وهي أن الظلمة قد يظن بها أنها عدم النور والليل عدم النور والليل عدم النهار والحياة عدم الموت وليس كذلك إذ في الأزل لم يكن نهار ولا نور ولا حياة لممكن ولا يمكن أن يقال كان فيه موت أو ظلمة أو ليل فهذه الأمور كالأعمى والأصم فالعمي والصمم

ليس مجرد عدم البصر وعدم السمع إذ الحجر والشجر لا بصر لهما ولا سمع ولا يقال لشيء منهما إنه أصم أو أعمى إذا علم هذا فنقول ما يتحقق فيه العمى والصمم لا بد من أن يكون فيه اقتضاء لخلافهما وإلا لما كان يقال له أعمى وأصم وما يكون فيه اقتضاء شيء ويترتب عليه مقتضاه لا تطلب النفس له سبباً لأن من يرى المتعيش في السوق لا يقول لم دخل السوق وما يثبت على خلاف المقتضى تطلب النفس له سبباً كمن يرى ملكاً في السوق يقول لم دخل فإذن سبب العمى والصمم يطلبه كل واحد فيقول لم صار فلان أعمى ولا يقول لم صار فلان بصيراً وإذا كان كذلك قدم الله تعالى ما تطلب النفس سببه وهو الليل الذي هو على وزان العمى والظلمة والموت لكون كل واحد طالباً سببه ثم ذكر بعده الأمر الآخر
المسألة الثانية قال يُولِجُ بصيغة المستقبل وقال في الشمس والقمر سخر بصيغة الماضي لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدد كل فصل بل كل يوم وتسخير الشمس والقمر أمر مستمر كما قال تعالى حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ ( ي س 39 )
المسألة الثالثة قدم الشمس على القمر مع تقدم الليل الذي فيه سلطان القمر على النهار الذي فيه سلطان الشمس لما بينا أن تقديم الليل كان لأن الأنفس تطلب سببه أكثر مما تطلب سبب النهار وههنا كذلك لأن الشمس لما كانت أكبر وأعظم كانت أعجب والنفس تطلب سبب الأمر العجيب أكثر مما تطلب سبب الأمر الذي لا يكون عجيباً
المسألة الرابعة ما تعلق قوله تعالى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ بما تقدم نقول لما كان الليل والنهار محل الأفعال بين أن ما يقع في هذين الزمانين اللذين هما بتصرف الله لا يخفى على الله
المسألة الخامسة قوله تعالى أَلَمْ تَرَ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الخطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعليه الأكثرون وكأنه ترك الخطاب مع غيره لأن من هو غيره من الكفار لا فائدة للخطاب معهم لإصرارهم ومن هو غيره من المؤمنين فهم مؤتمرون بأمر النبي عليه الصلاة والسلام ناظرون إليه الوجه الثاني أن يقال المراد منه الوعظ والواعظ يخاطب ولا يعين أحداً فيقول لجمع عظيم يا مسكين إلى الله مصيرك فمن نصيرك ولماذا تقصيرك فقوله أَلَمْ تَرَ يكون خطاباً من ذلك القبيل أي يا أيها الغافل ألم تر هذا الأمر الواضح
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ
ولما ذكر تعالى أوصاف الكمال بقوله إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ ( لقمان 26 ) وقوله أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( البقرة 220 ) وقوله إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( المجادلة 1 ) وأشار إلى الإرادة والكمال بقوله مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ( لقمان 27 ) وبقوله يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وعلى الجملة فقوله هُوَ الْغَنِى ُّ إشارة إلى كل صفة سلبية فإنه إذا كان غنياً لا يكون عرضاً محتاجاً إلى الجوهر في القوام ولا جسماً محتاجاً إلى الحيز في الدوام ولا شيئاً من الممكنات المحتاجة إلى

الموجد وذكر بعده جميع الأوصاف الثبوتية صريحاً وتضمناً فإن الحياة في ضمن العلم والقدرة قال ذلك بأن الله هو الحق أي ذلك الاتصاف بأنه هو الحق والحق هو الثبوت والثابت الله وهو الثابت المطلق الذي لا زوال له وهو الثبوت فإن المذهب الصحيح أن وجوده غير حقيقته فكل ما عداه فله زوال نظراً إليه والله له الثبوت والوجود نظراً إليه فهو الحق وما عداه الباطل لأن الباطل هو الزائل يقال بطل ظله إذا زال وإذا كان له الثبوت من كل وجه يكون تاماً لا نقص فيه
ثم اعلم أن الحكماء قالوا الله تام وفوق التمام وجعلوا الأشياء على أربعة أقسام ناقص ومكتف وتام وفوق التمام ( فالناقص ) ما ليس له ما ينبغي أن يكون له كالصبي والمريض والأعمى ( والمكتفي ) وهو الذي أعطى ما يدفع به حاجته في وقته كالإنسان والحيوان الذي له من الآلات ما يدفع به حاجته في وقتها لكنها في التحلل والزوال ( والتام ) ما حصل له كل ما جاز له وإن لم يحتج إليه كالملائكة المقربين لهم درجات لا تزداد ولا ينقص الله منها لهم شيئاً كما قال جبريل عليه السلام ( لو دنوت أنملة لاحترقت ) لقوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 ) ( وفوق التمام ) هو الذي حصل له ما جاز له وحصل لما عداه ما جاز له أو احتاج إليه لكن الله تعالى حاصل له كل ما يجوز له من صفات الكمال ونعوت الجلال فهو تام وحصل لغيره كل ما جاز له أو احتاج إليه فهو فوق التمام إذا ثبت هذا فنقول قوله هُوَ الْحَقُّ إشارة إلى التمام وقوله وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ أي فوق التمام وقوله وَهُوَ الْعَلِى ُّ أي في صفاته وقوله الْكَبِيرُ أي في ذاته وذلك ينافي أن يكون جسماً في مكان لأنه يكون حينئذ جسداً مقدراً بمقدار فيمكن فرض ما هو أكبر منه فيكون صغيراً بالنسبة إلى المفروض لكنه كبير من مطلقاً أكبر من كل ما يتصور
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ ءَايَاتِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
ثم قال تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مّنْ ءايَاتُهُ لما ذكر آية سماوية بقوله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ( لقمان 29 ) وأشار إلى السبب والمسبب ذكر آية أرضية وأشار إلى السبب والمسبب فقوله الْفُلْكَ تَجْرِى إشارة إلى المسبب وقوله بِنِعْمَتِ اللَّهِ إشارة إلى السبب أي إلى الريح التي هي بأمر الله لِيُرِيَكُمْ مّنْ ءايَاتِهِ يعنى يريكم بإجرائها بنعمته مّنْ ءايَاتِهِ أي بعض آياته ثم قال تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ صبار في الشدة شكور في الرخاء وذلك لأن المؤمن متذكر عند الشدة والبلاء عند النعم والآلاء فيصبر إذا أصابته نقمة ويشكر إذا أتته نعمة وورد في كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر ) إشارة إلى أن التكاليف أفعال وتروك والتروك صبر عن المألوف كما قال عليه الصلاة والسلام ( الصوم صبر والأفعال شكر على المعروف )

وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِأايَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ
لما ذكر الله أن في ذلك لآيات ذكر أن الكل معترفون به غير أن البصير يدركه أولا ومن في بصره ضعف لا يدركه أولا فإذا غشيه موج ووقع في شدة اعترف بأن الكل من الله ودعاه مخلصاً أي يترك كل من عداه وينسى جميع من سواه فإذا نجاه من تلك الشدة قد بقي على تلك الحالة وهو المراد بقوله فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وقد يعود إلى الشرك وهو المراد بقوله وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ وحد الموج وجمع الظلل وقيل في معناه كالجبال وقيل كالسحاب إشارة إلى عظم الموج ويمكن أن يقال الموج الواحد العظيم يرى فيه طلوع ونزول وإذا نظرت في الجرية الواحدة من النهر العظيم تبين لك ذلك فيكون ذلك كالجبال المتلاصقة
المسألة الثانية قال في العنكبوت فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ ( العنكبوت 65 ) ثم قال فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ( العنكبوت 65 ) وقال ههنا فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ فنقول لما ذكر ههنا أمراً عظيماً وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الانزجار أو مقتصد في الإخلاص فبقي معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معاينة مثل ذلك الأمر فذكر إشراكهم حيث لم يبق عنده أثر
المسألة الثالثة قوله وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَا في مقابلة قوله تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ يعني يعترف بها الصبار الشكور ويجحدها الختار الكفور والصبار في موازنة الختار لفظاً ومعنى والكفور في موازنة الشكور أما لفظاً فظاهر وأما معنى فلأن الختار هو الغدار الكثير الغدر أو الشديد الغدر والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر لأن الصبور إن لم يكن يعهد مع أحد لا يعهد منه الأضرار فإنه يصبر ويفوض الأمر إلى الله وأما الغدار فيعهد ولا يصبر على العهد فينقضه وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى فظاهر
ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ

لما ذكر الدلائل من أول السورة إلى آخرها وعظ بالتقوى لأنه تعالى لما كان واحداً أوجب التقوى البالغة فإن من يعلم أن الأمر بيد اثنين لا يخاف أحدهما مثل ما يخاف لو كان الأمر بيد أحدهما لا غير ثم أكد الخوف بذكر اليوم الذي يحكم الله فيه بين العباد وذلك لأن الملك إذا كان واحداً ويعهد منه أنه لا يعلم شيئاً ولا يستعرض عباده لا يخاف منه مثل ما يخاف إذا علم أن له يوم استعراض واستكشاف ثم أكده بقوله لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وذلك لأن المجرم إذا علم أن له عند الملك من يتكلم في حقه ويقضي ما يخرج عليه برفد من كسبه لا يخاف مثل ما يخاف إذا علم أنه ليس له من يقضي عنه ما يخرج عليه ثم ذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد ليستدل بالأدنى على الأعلى وذكر الولد والوالد جميعاً فيه لطيفة وهي أن من الأمور ما يبادر الأب إلى التحمل عن الولد كدفع المال وتحمل الآلام والولد لا يبادر إلى تحمله عن الوالد مثل ما يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد ومنها ما يبادر الولد إلى تحمله عن الوالد ولا يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد كالإهانة فإن من يريد إحضار والد أحد عند وال أو قاض يهون على الإبن أن يدفع الإهانة عن والده ويحضر هو بدله فإذا انتهى الأمر إلى الإيلام يهون على الأب أن يدفع الإيلام عن ابنه ويتحمله هو بنفسه فقوله لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ في دفع الآلام وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً في دفع الاهانة وفي قوله لاَّ يَجْزِى وقوله وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ ( لطيفة أخرى ) وهي أنا ذكرنا أن الفعل يتأتى وإن كان ممن لا ينبغي ولا يكون من شأنه لأن الملك إذا كان يخيط شيئاً يقال إنه يخيط ولا يقال هو خياط وكذلك من يحيك شيئاً ولا يكون ذلك صنعته يقال هو يحيك ولا يقال هو حائك إذا علمت هذا فنقول الإبن من شأنه أن يكون جازياً عن والده لما له عليه من الحقوق والوالد يجزي لما فيه من الشفقة وليس بواجب عليه ذلك فقال في الوالد لا يجزي وقال في الولد وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ
ثم قال تعالى إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وهو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون تحقيقاً لليوم يعني اخشوا يوماً هذا شأنه وهو كائن لوعد الله به ووعده حق والثاني أن يكون تحقيقاً لعدم الجزاء يعني لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ لأن الله وعد ب أَلاَّ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( النجم 38 ) ووعد الله حق فلا يجزي والأول أحسن وأظهر
ثم قال تعالى فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا يعني إذا كان الأمر كذلك فلا تغتروا بالدنيا فإنها زائلة لوقوع ( ذلك ) اليوم المذكور بالوعد الحق
ثم قال تعالى وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ يعني الدنيا لا ينبغي أن تغركم بنفسها ولا ينبغي أن تغتروا ( بها ) وإن حملكم على محبتها غار من نفس أمارة أو شيطان فكان الناس على أقسام منهم من تدعوه الدنيا إلى نفسها فيميل إليها ومنهم من يوسوس في صدره الشيطان ويزين في عينه الدنيا ويؤمله ويقول إنك تحصل بها الآخرة أو تلتذ بها ثم تتوب فتجتمع لك الدنيا والآخرة فنهاهم عن الأمرين وقال كونوا قسما ثالثاً وهم الذين لا يلتفتون إلى الدنيا ولا إلى من يحسن الدنيا في الأعين
إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الاٌّ رْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَى ِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ

يقول بعض المفسرين إن الله تعالى نفى علم أمور خمسة بهذه الآية عن غيره وهو كذلك لكن المقصود ليس ذلك لأن الله يعلم الجوهر الفرد الذي كان في كثيب رمل في زمان الطوفان ونقله الريح من المشرق إلى المغرب كم مرة ويعلم أنه أين هو ولا يعلمه غيره ولأن يعلم أنه يوجد بعد هذه السنين ذرة في برية لا يسلكها أحد ولا يعلمه غيره فلا وجه لاختصاص هذه الأشياء بالذكر وإنما الحق فيه أن نقول لما قال الله وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وذكر أنه كائن بقوله إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ كأن قائلاً قال فمتى يكون هذا اليوم فأجيب بأن هذا العلم ما لم يحصل لغير الله ولكن هو كائن ثم ذكر الدليلين الذين ذكرناهما مراراً على البعث أحدهما إحياء الأرض بعد موتها كما قال تعالى وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مّن قَلْبَهُ لَمُبْلِسِينَ فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمَة ِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْى ِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْى ِ الْمَوْتَى ( الروم 49 50 ) وقال تعالى وَيُحْى ِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ( الروم 19 ) وقال ههنا يا أيها السائل إنك لا تعلم وقتها ولكنها كائنة والله قادر عليها كما هو قادر على إحياء الأرض حيث قال وَهُوَ الَّذِى يُنَزّلُ الْغَيْثَ ( الشورى 28 ) وقال يُخْرِجُ الْحَى َّ ( الروم 19 ) وثانيهما الخلق ابتداء كما قال وَهُوَ الَّذِى اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( الروم 27 ) وقال تعالى قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىء النَّشْأَة َ الاْخِرَة َ ( العنكبوت 20 ) إلى غير ذلك فقال ههنا وَيَعْلَمُ مَا فِى الاْرْحَامِ إشارة إلى أن الساعة وإن كنت لا تعلمها لكنها كائنة والله قادر عليها وكما هو قادر على الخلق في الأرحام كذلك يقدر على الخلق من الرخام ثم قال لذلك الطالب علمه يا أيها السائل إنك تسأل عن الساعة أيان مرساها فلك أشياء أهم منها لا تعلمها فإنك لا تعلم معاشك ومعادك ولا تعلم ماذا تكسب غداً مع أنه فعلك وزمانك ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك فكيف تعلم قيام الساعة متى تكون فالله ما أعلمك كسب غدك مع أن لك فيه فوائد تبنى عليها الأمور من يومك ولا أعلمك أين تموت مع أن لك فيه أغراضاً تهيىء أمورك بسبب ذلك العلم وإنما لم يعلمك لكي تكون في وقت بسبب الرزق راجعاً إلى الله تعالى متوكلاً على الله ولا أعلمك الأرض التي تموت فيها كي لا تأمن الموت وأنت في غيرها فإذا لم يعلمك ما تحتاج إليه كيف يعلمك ما لا حاجة لك إليه وهي الساعة وإنما الحاجة إلى العلم بأنها تكون وقد أعلمت الله على لسان أنبيائه
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ لما خصص أولا علمه بالأشياء المذكورة بقوله إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ذكر أن علمه غير مختص بها بل هو عليم مطلقاً بكل شيء وليس علمه علماً بظاهر الأشياء فحسب بل خبير علمه واصل إلى بواطن الأشياء والله أعلم بالصواب

سورة السجدة
وتسمى سورة المضاجع مكية عند أكثرهم
وهي تسع وعشرون آية وقيل ثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
ال م تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ
لما ذكر الله تعالى في السورة المتقدمة دليل الوحدانية وذكر الأصل وهو الحشر وختم السورة بهما بدأ ببيان الرسالة في هذه السورة فقال الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وقد علم ما في قوله الم وفي قوله لاَ رَيْبَ فِيهِ من سورة البقرة وغيرها غير أن ههنا قال مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ وقال من قبل هُدًى وَرَحْمَة ً لّلْمُحْسِنِينَ ( لقمان 3 ) وقال في البقرة هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) وذلك لأن من يرى كتاباً عند غيره فأول ما تصير النفس طالبة تطلب ما في الكتاب فيقول ما هذا الكتاب فإذا قيل هذا فقه أو تفسير فيقول بعد ذلك تصنيف من هو ولا يقال أولا هذا الكتاب تصنيف من ثم يقول فيماذا هو إذا علم هذا فقال أولا هذا الكتاب هدى ورحمة ثم قال ههنا هو كتاب الله تعالى وذكره بلفظ رب العالمين لأن كتاب من يكون رب العالمين يكون فيه عجائب العالمين فتدعو النفس إلى مطاعته
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
يعني أتعترفون به أم تقولون هو مفترى ثم أجاب وبين أن الحق أنه حق من ربه ثم بين فائدة التنزيل وهو الإنذار وفيه مسائل
المسألة الأولى كيف قال لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مع أن النذر سبقوه الجواب من وجهين أحدهما معقول والآخر منقول أما المنقول فهو أن قريشاً كانت أمة أمية لم يأتيهم نذير قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو

بعيد فإنهم كانوا من أولاد إبراهيم وجميع أنبياء بني إسرائيل من أولاد أعمامهم وكيف كان الله يترك قوماً من وقت آدم إلى زمان محمد بلا دين ولا شرع وإن كنت تقول بأنهم ما جاءهم رسول بخصوصهم يعني ذلك القرن فلم يكن ذلك مختصاً بالعرب بل أهل الكتاب أيضاً لم يكن ذلك القرن قد أتاهم رسول وإنما أتى الرسل آباءهم وكذلك العرب أتى الرسل آباءهم كيف والذي عليه الأكثرون أن آباء محمد عليه الصلاة والسلام كانوا كفاراً ولأن النبي أوعدهم وأوعد آباءهم بالعذاب وقال تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( الإسراء 15 ) وأما المعقول وهو أن الله تعالى أجرى عادته على أن أهل عصر إذا ضلوا بالكلية ولم يبق فيهم من يهديهم يلطف بعباده ويرسل رسولاً ثم إنه إذا أراد طهرهم بإزالة الشرك والكفر من قلوبهم وإن أراد طهر وجه الأرض باهلاكهم ثم أهل العصر ضلوا بعد الرسل حتى لم يبق على وجه الأرض عالم هاد ينتفع بهدايته قوم وبقوا على ذلك سنين متطاولة فلم يأتهم رسول قبل محمد عليه الصلاة والسلام فقال لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم أي بعد الضلال الذي كان بعد الهداية لم يأتهم نذير
المسألة الثانية لو قال قائل التخصيص بالذكر يدل على نفي ما عداه فقوله لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم يوجب أن يكون إنذاره مختصاً بمن لم يأته نذير لكن أهل الكتاب قد أتاهم نذير فلا يكون الكتاب منزلاً إلى الرسول لينذر أهل الكتاب فلا يكون رسولاً إليهم نقول هذا فاسد من وجوه أحدها أن التخصيص لا يوجب نفي ما عداه والثاني أنه وإن قال به قائل لكنه وافق غيره في أن التخصيص إن كان له سبب غير نفي ما عداه لا يوجب نفي ما عداه وههنا وجد ذلك لأن إنذارهم كان أولى ألا ترى أنه تعالى قال وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( العراء 214 ) ولم يفهم منه أنه لا ينذر غيرهم أو لم يأمر بإنذار غيرهم وإنذار المشركين كان أولى لأن إنذارهم كان بالتوحيد والحشر وأهل الكتاب لم ينذروا إلا بسبب إنكارهم الرسالة فكانوا أولى بالذكر فوقع التخصيص لأجل ذلك الثالث هو أن على ما ذكرنا لا يرد ما ذكره أصلا لأن أهل الكتاب كانوا قد ضلوا ولم يأتهم نذير من قبل محمد بعد ضلالهم فلزم أن يكون مرسلا إلى الكل على درجة سواء وبهذا يتبين حسن ما اخترناه وقوله لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ يعني تنذرهم راجياً أنت اهتداءهم
اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ
لما ذكر الرسالة بين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل فقال اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الله مبتدأ وخبره الذي خلق يعني الله هو الذي خلق السموات والأرض ولم يخلقهما إلا واحد فلا إله إلا واحد وقد ذكرنا أن قوله تعالى فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ إشارة إلى ستة أحوال في نظر الناظرين وذلك لأن السموات والأرض وما بينهما ثلاثة أشياء ولكل واحد منها ذات وصفة فنظراً إلى خلقه ذات السموات حالة ونظراً إلى خلقه صفاتها أخرى ونظراً إلى ذات الأرض وإلى صفاتها كذلك ونظراً إلى ذوات ما بينهما وإلى صفاتها كذلك فهي ستة أشياء على ستة أحوال وإنما ذكر الأيام لأن الإنسان إذا نظر إلى الخلق رآه فعلا

والفعل ظرفه الزمان والأيام أشهر الأزمنة وإلا فقبل السموات لم يكن ليل ولا نهار وهذا مثل ما يقول القائل لغيره إن يوماً ولدت فيه
كان يوماً مباركاً
وقد يجوز أن يكون ذلك قد ولد ليلاً ولا يخرج عن مراده لأن المراد هو الزمان الذي هو ظرف ولادته
ثم قال تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ اعلم أن مذهب العلماء في هذه الآية وأمثالها على وجهين أحدهما ترك التعرض إلى بيان المراد وثانيهما التعرض إليه والأول أسلم والى الحكمة أقرب أما أنه أسلم فذلك لأن من قال أنا لا أتعرض إلى بيان هذا ولا أعرف المراد من هذا لا يكون حاله إلا حال من يتكلم عند عدم وجوب الكلام أو لا يعلم شيئاً لم يجب عليه أن يعلمه وذلك لأن الأصول ثلاثة التوحيد والقول بالحشر والاعتراف بالرسل لكن الحشر أجمعنا واتفقنا أن العلم به واجب والعلم بتفصيله أنه متى يكون غير واحب ولهذا قال تعالى في آخر السورة المتقدمة إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) فكذلك الله يجب معرفة وجوده ووحدانيته واتصافه بصفات الجلال ونعوت الكمال على سبيل الإجمال وتعاليه عن وصمات الإمكان وصفات النقصان ولا يجب أن يعلم جميع صفاته كما هي وصفة الاستواء مما لا يجب العلم بها فمن ترك التعرض إليه لم يترك واجباً وأما من يتعرض إليه فقد يخطىء فيه فيعتقد خلاف ما هو عليه فالأول غاية ما يلزمه أنه لا يعلم والثاني يكاد أن يقع في أن يكون جاهلاً مركباً وعدم العلم الجهل المركب كالسكوت والكذب ولا يشك أحد في أن السكوت خير من الكذب وأما إنه أقرب إلى الحكمة فذلك لأن من يطالع كتاباً صنفه إنسان وكتب له شرحاً والشارح دون المصنف فالظاهر أنه لا يأتي على جميع ما أتى عليه المصنف ولهذا كثيراً ما نرى أن الإنسان يورد الإشكالات على المصنف المتقدم ثم يجيء من ينصر كلامه ويقول لم يرد المصنف هذا وإنما أراد كذا وكذا وإذا كان حال الكتب الحادثة التي تكتب عن علم قاصر كذلك فما ظنك بالكتاب العزيز الذي فيه كل حكمة يجوز أن يدعي جاهل أني علمت كل سر في هذا الكتاب وكيف ولو ادعى عالم اني علمت كل سر وكل فائدة يشتمل عليه الكتاب الفلاني يستقبح منه ذلك فكيف من يدعي أنه علم كل ما في كتاب الله ثم ليس لقائل أن يقول بأن الله تعالى بين كل ما أنزله لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز ولعل القرآن ما لا يحتاج إليه أحد غير نبيه فبين له لا لغيره إذا ثبت هذا علم أن في القرآن ما لا يعلم وهذا أقرب إلى ذلك الذي لا يعلم للتشابه البالغ الذي فيه لكن هذا المذهب له شرط وهو أن ينفي بعض ما يعلمه قطعاً أنه ليس بمراد وهذا لأن قائلاً إذا قال إن هذه الأيام أيام قرء فلانة يعلم أنه لا يريد أن هذه الأيام أيام موت فلانة ولا يريد أن هذه الأيام أيام سفر فلانة وإنما المراد منحصر في الطهر أو الحيض فكذلك ههنا يعلم أن المراد ليس ما يوجب نقصاً في ذاته لاستحالة ذلك والجلوس والاستقرار المكاني من ذلك الباب فيجب القطع بنفي ذلك والتوقف فيما يجوز بعده والمذهب الثاني خطر ومن يذهب إليه فريقان أحدهما من يقول المراد ظاهره وهو القيام والانتصاب أو الاستقرار المكاني وثانيهما من يقول المراد الاستيلاء والأول جهل محض والثاني يجوز أن يكون جهلاً والأول مع كونه جهلاً هو بدعة وكاد يكون كفراً والثاني وإن كان جهلاً فليس بجهل يورث بدعة وهذا كما أن واحداً إذا اعتقد أن الله يرحم الكفار ولا يعاقب أحداً منهم يكون جهلاً وبدعة وكفراً وإذا اعتقد أنه يرحم زيداً الذي هو مستور

الحال لا يكون بدعة غاية ما يكون أنه اعتقاد غير مطابق ومما قيل فيه إن المراد منه استوى على ملكه والعرش يعبر به عن الملك يقال الملك قعد على سرير المملكة بالبلدة الفلانية وإن لم يدخلها وهذا مثل قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ ( المائدة 64 ) إشارة إلى البخل مع أنهم لم يقولوا بأن على يد الله غلا على طريق الحقيقة ولو كان مراد الله ذلك لكان كذباً جل كلام الله عنه ثم لهذا فضل تقرير وهو أن الملوك على درجات فمن يملك مدينة صغيرة أو بلاداً يسيرة ما جرت العادة بأن يجلس أول ما يجلس على سرير ومن يكون سلطاناً يملك البلاد الشاسعة والديار الواسعة وتكون الملوك في خدمته يكون له سرير يجلس عليه وقدامه كرسي يجلس عليه وزيره فالعرش والكرسي في العادة لا يكون إلا عند عظمة المملكة فلما كان ملك السموات والأرض في غاية العظمة عبر بما ينبىء في العرف عن العظمة ومما ينبهك لهذا قوله تعالى إِنَّا خَلَقْنَا ( الإنسان 2 ) إِنَّا زَيَّنَّا ( الصافات 6 ) نَحْنُ أَقْرَبُ ( ق 16 ) نَحْنُ نَزَّلْنَا ( الحجر 9 ) أيظن أو يشك مسلم في أن المراد ظاهره من الشريك وهل يجد له محملاً غير أن العظيم في العرف لا يكون واحداً وإنما يكون معه غيره فكذلك الملك العظيم في العرف لا يكون إلا ذا سرير يستوي عليه فاستعمل ذلك مريداً للعظمة ومما يؤيد هذا أن المقهور المغلوب المهزوم يقال له ضاقت به الأرض حتى لم يبق له مكان أيظن أنهم يريدون به أنه صار لا مكان له وكيف يتصور الجسم بلا مكان ولا سيما من يقول بأن إلهه في مكان كيف يخرج الإنسان عن المكان فكما يقال للمقهور الهارب لم يبق له مكان مع أن المكان واجب له يقال للقادر القاهر هو متمكن وله عرش وإن كان التنزه عن المكان واجباً له وعلى هذا كلمة ثم معناها خلق السموات والأرض ثم القصة أنه استوى على الملك وهذا كما يقول القائل فلان أكرمني وأنعم علي مراراً ويحكي عنه أشياء ثم يقول إنه ما كان يعرفني ولا كنت فعلت معه ما يجازيني بهذا فنقول ثم للحكاية لا للمحكي الوجه الآخر قيل استوى جاء بمعنى استولى على العرش واستوى جاء بمعنى استولى نقلاً واستعمالاً أما النقل فكثير مذكور في ( كتاب اللغة ) منها ديوان الأدب وغيره مما يعتبر النقل عنه وأما الاستعمال فقول القائل قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
وعلى هذا فكلمة ثم معناها ما ذكرنا كأنه قال خلق السموات والأرض ثم ههنا ما هو أعظم منه استوى على العرش فإنه أعظم من الكرسي والكرسي وسع السموات والأرض والوجه الثالث قيل إن المراد الاستقرار وهذا القول ظاهر ولا يفيد أنه في مكان وذلك لأن الإنسان يقول استقر رأي فلان على الخروج ولا يشك أحد أنه لا يريد أن الرأي في مكان وهو الخروج لما أن الرأي لا يجوز فيه أن يقال إنه متمكن أو هو مما يدخل في مكان إذا علم هذا فنقول فهم التمكن عند استعمال كلمة الاستقرار مشروط بجواز التمكن حتى إذا قال قائل استقر زيد على الفلك أو على التخت يفهم منه التمكن وكونه في مكان وإذا قال قائل استقر الملك على فلان لا يفهم أن الملك في فلان فقول القائل الله استقر على العرش لا ينبغي أن يفهم كونه في مكان ما لم يعلم أنه مما يجوز عليه أن يكون في مكان أو لا يجوز فإذن فهم كونه في مكان من هذه اللفظة مشروط بجواز أن يكون في مكان فجواز كونه في مكان إن استفيد من هذه اللفظة يلزم تقدم الشيء على نفسه وهو محال ثم الذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون على العرش بمعنى كون

العرش مكاناً له وجوه من القرآن أحدها قوله تعالى وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِى ُّ ( الحج 64 ) وهذا يقتضي أن يكون غنياً على الإطلاق وكل ما هو في مكان فهو في بقائه محتاج إلى مكان لأن بديهة العقل حاكمة بأن الحيز إن لم يكن لا يكون المتحيز باقياً فالمتحيز ينتفي عند انتفاء الحيز وكل ما ينتفي عند انتفاء غيره فهو محتاج إليه في استمراره فالقول باستقراره يوجب احتياجه في استمراره وهو غنى بالنص الثاني قوله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) فالعرش يهلك وكذلك كل مكان فلا يبقى وهو يبقى فاذن لا يكون في ذلك الوقت في مكان فجاز عليه أن لا يكون في مكان وما جاز له من الصفات وجب له فيجب أن لا يكون في مكان الثالث قوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ ( الحديد 4 ) ووجه التمسك به هو أن على إذا استعمل في المكان يفهم كونه عليه بالذات كقولنا فلان على السطح وكلمة مع إذا استعملت في متمكنين يفهم منها اقترانهما بالذات كقولنا زيد مع عمرو إذا استعمل هذا فإن كان الله في مكان ونحن متمكنون فقوله إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا وقوله وَهُوَ مَعَكُمْ كان ينبغي أن يكون للاقتران وليس كذلك فإن قيل كلمة مع تستعمل لكون ميله إليه وعلمه معه أو نصرته يقال الملك الفلاني مع الملك الفلاني أي بالإعانة والنصر فنقول كلمة على تستعمل لكون حكمه على الغير يقول القائل لولا فلان على فلان لأشرف في الهلاك ولأشرف على الهلاك وكذلك يقال لولا فلان على أملاك فلان أو على أرضه لما حصل له شيء منها ولا أكل حاصلها بمعنى الإشراف والنظر فكيف لا نقول في استوى على العرش إنه استوى عليه بحكمه كما نقول هو معناه بعلمه الرابع قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ ( الأنعام 103 ) ولو كان في مكان لأحاط به المكان وحينئذٍ فإما أن يرى وإما أن لا يرى لا سبيل إلى الثاني بالاتفاق لأن القول بأنه في مكان ولا يرى باطل بالإجماع وإن كان يرى فيرى في مكان أحاط به فتدركه الأبصار وأما إذا لم يكن في مكان فسواء يرى أو لا يرى لا يلزم أن تدركه الأبصار أما إذا لم ير فظاهر وأما إذا رؤي فلأن البصر لا يحيط به فلا يدركه وإنما قلنا إن البصر لا يحيط به لأن كل ما أحاط به البصر فله مكان يكون فيه وقد فرضنا عدم المكان ولو تدبر الإنسان القرآن لوجده مملوءاً من عدم جواز كونه في مكان كيف وهذا الذي يتمسك به هذا القائل يدل على أنه ليس على العرش بمعنى كونه في المكان وذلك لأن كلمة ثم للتراخي فلو كان عليه بمعنى المكان لكان قد حصل عليه بعد ما لم يكن عليه فقبله إما أن يكون في مكان أو لا يكون فإن كان يلزم محالان أحدهما كون المكان أزلياً ثم إن هذا القائل يدعى مضادة الفلسفي فيصير فلسفياً يقول بقدم سماء من السموات والثاني جواز الحركة والانتقال على الله تعالى وهو يفضي إلى حدوث الباري أو يبطل دلائل حدوث الأجسام وإن لم يكن مكان وما حصل في مكان يحيل العقل وجوده بلا مكان ولو جاز لما أمكن أن يقال بأن الجسم لو كان أزلياً فإما أن يكون في الأزل ساكناً أو متحركاً لأنهما فرعا الحصول في مكان وإذا كان كذلك فيلزمه القول بحدوث الله أو عدم القول بحدوث العالم لأنه إن سلم أنه قبل المكان لا يكون فهو القول بحدوث الله تعالى وإن لم يسلم فيجوز أن يكون الجسم في الأزل لم يكن في مكان ثم حصل في مكان فلا يتم دليله في حدوث العالم فيلزمه أن لا يقول بحدوثه ثم إن هذا القائل يقول إنك تشبه الله بالمعدوم فإنه ليس في مكان ولا يعلم أنه جعله معدوماً حيث أحوجه إلى مكان وكل محتاج نظراً إلى عدم ما يحتاج إليه معدوم ولو كتبنا ما فيها لطال الكلام
ثم قال تعالى مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ لما ذكر أن الله خالق السموات

والأرض قال بعضهم نحن معترفون بأن خالق السموات والأرض واحد هو إله السموات وهذه الأصنام صور الكواكب منها نصرتنا وقوتنا وقال آخرون هذه صور الملائكة عند الله هم شفعاؤنا فقال الله تعالى لا إله غير الله ولا نصرة من غير الله ولا شفاعة إلا بإذن الله فعبادتكم لهم لهذه الأصنام باطلة ضائعة لا هم خالقوكم ولا ناصروكم ولا شفعاؤكم ثم قال تعالى أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ما علمتموه من أنه خالق السموات والأرض وخلق هذه الأجسام العظام لا يقدر عليه مثل هذه الأصنام حتى تنصركم والملك العظيم لا يكون عنده لهذه الأشياء الحقيرة احترام وعظمة حتى تكون لها شفاعة
يُدَبِّرُ الاٌّ مْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة ٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ذالِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ
لما بين الله تعالى الخلق بين الأمر كما قال تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ( الأعراف 54 ) والعظمة تتبين بهما فإن من يملك مماليك كثيرين عظماء تكون له عظمة ثم إذا كان أمره نافذاً فيهم يزداد في أعين الخلق وإن لم يكن له نفاذ أمر ينقص من عظمته وقوله تعالى ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ معناه والله أعلم أن أمره ينزل من السماء على عباده وتعرج إليه أعمالهم الصالحة الصادرة على موافقة ذلك الأمر فإن العمل أثر الأمر وقوله تعالى فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة ٍ مّمَّا تَعُدُّونَ فيه وجوه أحدها أن نزول الأمر وعروج العمل في مسافة ألف سنة مما تعدون وهو في يوم فإن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة فينزل في مسيرة خمسمائة سنة ويعرج في مسيرة خمسمائة سنة فهو مقدار ألف سنة ثانيها هو أن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر وذلك لأن من نفذ أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة فقوله تعالى فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة ٍ يعني يُدَبّرُ الاْمْرَ في زمان يوم منه ألف سنة فكم يكون شهر منه وكم تكون سنة منه وكم يكون دهر منه وعلى هذا الوجه لا فرق بين هذا وبين قوله مقداره خمسين ألف سنة لأن تلك إذا كانت إشارة إلى دوام نفاذ الأمر فسواء يعبر بالألف أو بالخمسين ألفاً لا يتفاوت إلا أن المبالغة تكون في الخمسين أكثر وتبين فائدتها في موضعها إن شاء الله تعالى ( وفي هذه لطيفة ) وهو أن الله ذكر في الآية المتقدمة عالم الأجسام والخلق وأشار إلى عظمة الملك وذكر في هذه الآية عالم الأرواح والأمر بقوله يُدَبّرُ الاْمْرَ والروح من عالم الأمر كما قال تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( الإسراء 15 ) وأشار إلى دوامه بلفظ يوهم الزمان والمراد دوام البقاء كما يقال في العرف طال زمان فلان والزمان لا يطول وإنما الواقع في الزمان يمتد فيوجد في أزمنة كثيرة فيطول ذلك فيأخذ أزمنة كثيرة فأشار هناك إلى عظمة الملك بالمكان وأشار إلى دوامه ههنا بالزمان فالمكان من خلقه وملكه والزمان بحكمه وأمره واعلم أن ظاهر قوله يُدَبّرُ الاْمْرَ في يوم يقتضي أن يكون أمره في يوم واليوم له ابتداء وانتهاء فيكون أمره في زمان حادث فيكون حادثاً وبعض من يقول بأن الله على العرش استوى يقول

بأن أمره قديم حتى الحروف وكلمة كن فكيف فهم من كلمة على كونه في مكان ولم يفهم من كلمة في كون أمره في زمان ثم بين أن هذا الملك العظيم النافذ الأمر غير غافل فإن الملك إذا كان آمراً ناهياً يطاع في أمره ونهيه ولكن يكون غافلاً لا يكون مهيباً عظيماً كما يكون مع ذلك خبيراً يقظاً لا تخفى عليه أمور الممالك والمماليك فقال ذالِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ ولما ذكر من قبل عالم الأشباح بقوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وعالم الأرواح بقوله يُدَبّرُ الاْمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الاْرْضِ قال عَالِمُ الْغَيْبِ يعلم ما في الأرواح وَالشَّهَادَة ِ يعلم ما في الأجسام أو نقول قال عَالِمُ الْغَيْبِ إشارة إلى ما لم يكن بعد وَالشَّهَادَة ِ إشارة إلى ما وجد وكان وقدم العلم بالغيب لأنه أقوى وأشد إنباء عن كمال العلم ثم قال تعالى الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ لما بين أنه عالم ذكر أنه عزيز قادر على الانتقام من الكفرة رحيم واسع الرحمة على البررة ثم قال تعالى الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ لما بين الدليل الدال على الوحدانية من الآفاق بقوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وأتمه بتوابعه ومكملاته ذكر الدليل الدال عليها من الأنفس بقوله الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْء يعني أحسن كل شيء مما ذكره وبين أن الذي بين السموات والأرض خلقه وهو كذلك لأنك إذا نظرت إلى الأشياء رأيتها على ما ينبغي صلابة الأرض للنبات وسلاسة الهواء للاستنشاق وقبول الانشقاق لسهولة الاستطراق وسيلان الماء لنقدر عليه في كل موضع وحركة النار إلى فوق لأنها لو كانت مثل الماء تتحرك يمنة ويسرة لاحترق العالم فخلقت طالبة لجهة فوق حيث لا شيء هناك يقبل الاحتراق وقوله وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ قيل المراد آدم عليه السلام فإنه خلق من طين ويمكن أن يقال بأن الطين ماء وتراب مجتمعان والآدمي أصله منى والمنى أصله غذاء والأغذية إما حيوانية وإما نباتية والحيوانية بالآخرة ترجع إلى النباتية والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو طين
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَة ٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاٌّ بْصَارَ وَالاٌّ فْئِدَة َ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
وقوله تعالى ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَة ٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ على التفسير الأول ظاهر لأن آدم كان من طين ونسله من سلالة من ماء مهين هو النطفة وعلى التفسير الثاني هو أن أصله من الطين ثم يوجد من ذلك الأصل سلالة هي من ماء مهين فإن قال قائل التفسير الثاني غير صحيح لأن قوله بَدَأَ خَلَقَ الإِنسَانَ ثم

جعل نسله دليل على أن جعل النسل بعد خلق الإنسان من طين فنقول لا بل التفسير الثاني أقرب إلى الترتيب اللفظي فإنه تعالى بدأ بذكر الأمر من الابتداء في خلق الإنسان فقال بدأه من طين ثم جعله سلالة ثم سواه ونفخ فيه من روحه وعلى ما ذكرتم يبعد أن يقال ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ عائد إلى آدم أيضاً لأن كلمة ثم للتراخي فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة وذلك بعد خلق آدم واعلم أن دلائل الآفاق أدل على كمال القدرة كما قال تعالى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرَ ( غافر 57 ) ودلائل الأنفس أدل على نفاذ الإرادة فإن التغيرات فيها كثيرة وإليه الإشارة بقوله ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ثُمَّ سَوَّاهُ أي كان طيناً فجعله منياً ثم جعله بشراً سوياً وقوله تعالى وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ إضافة الروح إلى نفسه كإضافة البيت إليه للتشريف واعلم أن النصارى يفترون على الله الكذب ويقولون بأن عيسى كان روح الله فهو ابن ولا يعلمون أن كل أحد روحه روح الله بقوله وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ أي الروح التي هي ملكه كما يقول القائل داري وعبدي ولم يقل أعطاه من جسمه لأن الشرف بالروح فأضاف الروح دون الجسم على ما يترتب على نفخ الروح من السمع والبصر والعلم فقال تعالى وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وَالاْفْئِدَة َ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال وجعل لكم مخاطباً ولم يخاطب من قبل وذلك لأن الخطاب يكون مع الحي فلما قال وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ خاطبه من بعده وقال جعل لكم فإن قيل الخطاب واقع قبل ذلك كما في قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ( الروم 20 ) فنقول هناك لم يذكر الأمور المرتبة وإنما أشار إلى تمام الخلق وههنا ذكر الأمور المرتبة وهي كون الإنسان طيناً ثم ماءً مهيناً ثم خلقاً مسوى بأنواع القوى مقوي فخاطب في بعض المراتب دون البعض
المسألة الثانية الترتيب في السمع والأبصار والأفئدة على مقتضى الحكمة وذلك لأن الإنسان يسمع أولاً من الأبوين أو الناس أموراً فيفهمها ثم يحصل له بسبب ذلك بصيرة فيبصر الأمور ويجريها ثم يحصل له بسبب ذلك إدراك تام وذهن كامل فيستخرج الأشياء من قبله ومثاله شخص يسمع من أستاذ شيئاً ثم يصير له أهلية مطالعة الكتب وفهم معانيها ثم يصير له أهلية التصنيف فيكتب من قلبه كتاباً فكذلك الإنسان يسمع ثم يطالع صحائف الموجودات ثم يعلم الأمور الخفية
المسألة الثالثة ذكر في السمع المصدر وفي البصر والفؤاد الاسم ولهذا جمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع لأن المصدر لا يجمع وذلك لحكمة وهو أن السمع قوة واحدة ولها فعل

واحد فإن الإنسان لا يضبط في زمان واحد كلامين والأذن محله ولا اختيار لها فيه فإن الصوت من أي جانب كان يصل إليه ولا قدرة لها على تخصيص القوة بإدراك البعض دون البعض وأما الإبصار فمحله العين ولها فيه شبه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب مرئي دون آخر وكذلك الفؤاد محل الإدراك وله نوع اختيار يلتفت إلى ما يريد دون غيره وإذا كان كذلك فلم يكن للمحل في السمع تأثير والقوة مستبدة فذكر القوة في الأذن وفي العين والفؤاد للمحل نوع اختيار فذكر المحل لأن الفعل يسند إلى المختار ألا ترى أنك تقول سمع زيد ورأى عمرو ولا تقول سمع أذن زيد ولا رأى عين عمرو إلا نادراً لما بينا أن المختار هو الأصل وغيره آلته فالسمع أصل دون محله لعدم الاختيار له والعين كالأصل وقوة الأبصار آلتها والفؤاد كذلك وقوة الفهم آلته فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة وفي الأبصار والأفئدة الاسم الذي هو محل القوة ولأن السمع له قوة واحدة ولها فعل واحد ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما ويدرك في زمان واحد صورتين وأكثر ويستبينهما
المسألة الرابعة لم قدم السمع ههنا والقلب في قوله تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ( البقرة 7 ) فنقول ذلك يحقق ما ذكرنا وذلك لأن عند الإعطاء ذكر الأدنى وارتقى إلى الأعلى فقال أعطاكم السمع ثم أعطاكم ما هو أشرف منه وهو القلب وعند السلب قال ليس لهم قلب يدركون به ولا ما هو دونه وهو السمع الذي يسمعون به ممن له قلب يفهم الحقائق ويستخرجها وقد ذكرنا هناك ما هو السبب في تأخير الأبصار مع أنها في الوسط فيما ذكرنا من الترتيب وهو أن القلب والسمع سلب قوتهما بالطبع فجمع بينهما وسلب قوة البصر بجعل الغشاوة عليه فذكرها متأخرة
وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الأرض أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ
لما قال قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ بين عدم شكرهم بإتيانهم بضده وهو الكفر وإنكار قدرته على إحياء الموتى وقد ذكرنا أن الله تعالى في كلامه القديم كلما ذكر أصلين من الأصول الثلاثة لم يترك الأصل الثالث وههنا كذلك لما ذكر الرسالة بقوله تَنزِيلُ الْكِتَابِ إلى قوله لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ وذكر الوحدانية بقوله اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ إلى قوله وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالاْبْصَارَ ذكر الأصل الثالث وهو الحشر بقوله تعالى وَقَالُواْ أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الاْرْضِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الواو للعطف على ما سبق منهم فإنهم قالوا محمد ليس برسول والله ليس بواحد وقالوا الحشر ليس بممكن
المسألة الثانية أنه تعالى قال في تكذيبهم الرسول في الرسالة أم يقولون بلفظ المستقبل وقال في تكذيبهم إياه في الحشر وقالوا بلفظ الماضي وذلك لأن تكذيبهم إياه في رسالته لم يكن قبل وجوده وإنما كان ذلك حالة وجوده فقال يقولون يعني هم فيه وأما إنكارهم للحشر كان سابقاً صادراً منهم ومن آبائهم فقال وقالوا
المسألة الثالثة أنه تعالى صرح بذكر قولهم في الرسالة حيث قال أَمْ يَقُولُونَ وفي الحشر حيث قال وَقَالَ ولم يصرح بذكر قولهم في الوحدانية وذلك لأنهم كانوا مصرين في جميع الأحوال على إنكار الحشر والرسول وأما الوحدانية فكانوا يعترفون بها في المعنى ألا ترى أن الله تعالى قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) فلم يقل قالوا إن الله ليس بواحد وإن كانوا قالوه في الظاهر
المسألة الرابعة لو قال قائل لما ذكر الرسالة ذكر من قبل دليلها وهو التنزيل الذي لا ريب فيه ولما ذكر الوحدانية ذكر دليلها وهو خلق السموات والأرض وخلق الإنسان من طين ولما ذكر إنكارهم الحشر لم يذكر الدليل نقول في الجواب ذكر دليله أيضاً وذلك لأن خلق الإنسان ابتداء دليل على قدرته على إعادته

ولهذا استدل الله على إمكان الحشر بالخلق الأول كما قال ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 ) وقوله قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( ي س 79 ) وكذلك خلق السموات كما قال تعالى أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى ( ي س 81 82 )
وقوله تعالى إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أي أئنا كائنون في خلق جديد أو واقعون فيه بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كَافِرُونَ إضراب عن الأول يعني ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانياً بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب أو نقول معناه لم ينكروا البعث لنفسه بل لكفرهم فإنهم أنكروه فأنكروا المفضى إليه ثم بين ما يكون لهم من الموت إلى العذاب
قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
يعني لا بد من الموت ثم من الحياة بعده وإليه الإشارة بقوله ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ وقوله الَّذِى وُكّلَ بِكُمْ إشارة إلى أنه لا يغفل عنكم وإذا جاء أجلكم لا يؤخركم إذ لا شغل له إلا هذا وقوله يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ينبىء عن بقاء الأرواح فإن التوفي الاستيفاء والقبض هو الأخذ والإعدام المحض ليس بأخذ ثم إن الروح الزكي الطاهر يبقى عند الملائكة مثل الشخص بين أهله المناسبين له والخبيث الفاجر يبقى عندهم كأسير بين قوم لا يعرفهم ولا يعرف لسانهم والأول ينمو ويزيد ويزداد صفاؤه وقوته والآخر يذبل ويضعف ويزداد شقاؤه وكدورته والحكماء يقولون إن الأرواح الطاهرة تتعلق بجسم سماوي خير من بدنها وتكمل به والأرواح الفاجرة لا كمال لها بعد التعلق الثاني فإن أرادوا ما ذكر بها فقد وافقونا وإلا فيغير النظر في ذلك بحسب إرادتهم فقد يكون قولهم حقاً وقد يكون غير حق فإن قيل هم أنكروا الإحياء والله ذكر الموت وبينهما مباينة نقول فيه وجهان أحدهما أن ذلك دليل الإحياء ودفع استبعاد ذلك فإنهم قالوا ما عدم بالكلية كيف يكون الموجود عين ذلك فقال الملك يقبض الروح والأجزاء تتفرق فجمع الأجزاء لا بعد فيه وأمر الملك برد ما قبضه لا صعوبة فيه أيضاً فقوله قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ أي الأرواح معلومة فترد إلى أجسادها
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ
لما ذكر أنهم يرجعون إلى ربهم بين ما يكون عند الرجوع على سبيل الإجمال بقوله وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءوسِهِمْ يعني لو ترى حالهم وتشاهد استخجالهم لترى عجباً وقوله تَرَى يحتمل أن يكون خطاباً مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تشفياً لصدره فإنهم كانوا يؤذونه بالتكذيب ويحتمل أن يكون عاماً مع كل أحد كما يقول القائل إن فلاناً كريم إن خدمته ولو لحظة يحسن إليك طول عمرك ولا يريد به خاصاً وقوله عِندَ رَبّهِمْ

لبيان شدة الخجالة لأن الرب إذا أساء إليه المربوب ثم وقف بين يديه يكون في غاية الخجالة
ثم قال تعالى رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا يعني يقولون أو قائلين رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وحذف يقولون إشارة إلى غاية خجالتهم لأن الخجل العظيم الخجالة لا يتكلم وقوله رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا أي أبصرنا الحشر وسمعنا قول الرسول فارجعنا إلى دار الدنيا لنعمل صالحاً وقولهم إِنَّا مُوقِنُونَ معناه إنا في الحال آمنا ولكن النافع الإيمان والعمل الصالح ولكن العمل الصالح لا يكون إلا عند التكليف به وهو في الدنيا فارجعنا للعمل وهذا باطل منهم فإن الإيمان لا يقبل في الآخرة كالعمل الصالح أو نقول المراد منه أنهم ينكرون الشرك كما قالوا وَمَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فقالوا إن هذا الذي جرى علينا ما جرى إلا بسبب ترك العمل الصالح وأما الإيمان فإنا موقنون وما أشركنا
وَلَوْ شِئْنَا لاّتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاّمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
ثم قال تعالى وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ جواباً عن قولهم رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا وبيانه هو أنه تعالى قال إني لو أرجعتكم إلى الإيمان لهديتكم في الدنيا ولما لم أهدكم تبين أني ما أردت وما شئت إيمانكم فلا أردكم وقوله وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا صريح في أن مذهبنا صحيح حيث نقول إن الله ما أراد الإيمان من الكافر وما شاء منه إلا الكفر ثم قال تعالى وَلَاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ أي وقع القول وهو قوله تعالى لإبليس لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ ( ص 85 ) هذا من حيث النقل وله وجه في العقل وهو أن الله تعالى لم يفعل فعلاً خالياً عن حكمة وهذا متفق عليه والخلاف في أنه هل قصد الفعل للحكمة أو فعل الفعل ولزمته الحكمة لا بحيث تحمله تلك الحكمة على الفعل وإذا علم أن فعله لا يخلو عن الحكمة فقال الحكماء حكمة أفعاله بأمرها لا تدرك على سبيل التفصيل لكن تدرك على سبيل الإجمال فكل ضرب يكون في العالم وفساد فحكمته تخرج من تقسيم عقلي وهو أن الفعل إما أن يكون خيراً محضاً أو شراً محضاً أو خيراً مشوباً بشر وهذا القسم على ثلاثة أقسام قسم خيره غالب وقسم شره غالب وقسم خيره وشره مثلان إذا علم هذا فخلق الله عالماً فيه الخير المحض وهو عالم الملائكة وهو العالم العلوي وخلق عالماً فيه خير وشر وهو عالمنا وهو العالم السفلي ولم يخلق عالماً فيه شر محض ثم إن العالم السفلي الذي هو عالمنا وإن كان الخير والشر موجودين فيه لكنه من القسم الأول الذي خيره غالب فإنك إذا قابلت المنافع بالمضار والنافع بالضار تجد المنافع أكثر وإذا قابلت الشرير بالخير تجد الخير أكثر وكيف لا والمؤمن يقابله الكافر ولكن المؤمن قد يمكن وجوده بحيث لا يكون فيه شر أصلاً من أول عمره إلى آخره كالأنبياء عليهم السلام والأولياء والكافر لا يمكن وجوده بحيث لا يكون فيه خير أصلاً غاية ما في الباب أن الكفر يحبط خيره ولا ينفعه إنما يستحيل نظراً إلى العادة أن يوجد كافر لا يسقي العطشان شربة ماء ولا يطعم الجائع لقمة خبز ولا يذكر ربه في عمره وكيف لا وهو في زمن صباه كان مخلوقاً على الفطرة المقتضية للخيرات إذا ثبت هذا فنقول قالوا لولا الشر في هذا العالم لكانت مخلوقات الله تعالى منحصرة في الخير المحض ولا يكون قد خلق القسم الذي فيه الخير الغالب والشر

القليل ثم إن ترك خلق هذا القسم إن كان لما فيه من الشر فترك الخير الكثير لأجل الشر القليل لا يناسب الحكمة ألا ترى أن التاجر إذا طلب منه درهم بدينار فلو امتنع وقال في هذا شر وهو زوال الدرهم عن ملكي فيقال له لكن في مقابلته خير كثير وهو حصول الدينار في ملكك وكذلك الإنسان لو ترك الحركة اليسيرة لما فيها من المشقة مع علمه بأنه تحصل له راحة مستمرة ينسب إلى مخالفة الحكمة فإذا نظر إلى الحكمة كان وقوع الخير الكثير المشوب بالشر القليل من اللطف فخلق العالم الذي يقع فيه الشر وإلى هذا أشار بقوله إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ( البقرة 30 ) فقال الله تعالى في جوابهم إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( البقرة 30 ) أي أعلم أن هذا القسم يناسب الحكمة لأن الخير فيه كثير ثم بين لهم خيره بالتعليم كما قال تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) يعني أيها الملائكة خلق الشر المحض والشر الغالب والشر المساوي لا يناسب الحكمة وأما الخير الكثير المشوب بالشر القليل مناسب فقوله تعالى أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا إشارة إلى الشر وأجابهم الله بما فيه من الخير بقوله وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء فإن قال قائل فالله تعالى قادر على تخليص هذا القسم من الشر بحيث لا يوجد فيه شر فيقال له ما قاله الله تعالى وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ( السجدة 13 ) يعني لو شئنا لخلصنا الخير من الشر لكن حينئذٍ لا يكون الله تعالى خلق الخير الكثير المشوب بالشر القليل وهو قسم معقول فما كان يجوز تركه للشر القليل وهو لا يناسب الحكمة لأن ترك الخير الكثير للشر القليل غير مناسب للحكمة وإن كان لا كذلك فلا مانع من خلقه فيخلقه لما فيه من الخير الكثير وهذا الكلام يعبر عنه من يقول برعاية المصالح إن الخير في القضاء والشر في القدر فالله قضى بالخير ووقع الشر في القدر بفعله المنزه عن القبح والجهل وقوله مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ لأنه تعالى قال لإبليس لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ ( ص 85 ) وهذا إشارة إلى أن النار لمن في العالم السفلي والذين في العالم العلوي مبرءون عن دخول النار وهم الملائكة وهذا يقتضي أن لا يكون إبليس من الملائكة وهو الصحيح وقوله أَجْمَعِينَ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون تأكيداً وهو الظاهر والثاني أن يكون حالاً أي مجموعين فإن قيل كيف جعل جميع الإنس والجن مما يملأ بهم النار نقول هذا لبيان الجنس أي جهنم تملأ من الجن والإنس لا غير أمناً للملائكة ولا يقتضي ذلك دخول الكل كما يقول القائل ملأت الكيس من الدراهم لا يلزم أن لا يبقى درهم خارج الكيس فإن قيل فهذا يقتضي أن تكون جهنم ضيقة تمتلىء ببعض الخلق نقول هو كذلك وإنما الواسع الجنة التي هي من الرحمة الواسعة والله أعلم ولما بين الله تعالى بقوله وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا أنهم لا رجوع لهم قال لهم إذا علمتم أنكم لا رجوع لكم
فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
المسألة الأولى قوله فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء لقاء يحتمل أن يكون منصوباً بذوقوا أي ذوقوا لقاء يومكم

بما نسيتم وعلى هذا يحتمل أن يكون المنسي هو الميثاق الذي أخذ منهم بقوله أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) أو بما في الفطرة من الوحدانية فينسى بالإقبال على الدنيا والاشتغال بها ويحتمل أن يكون منصوباً بقوله نَسِيتُمْ أي بما نسيتم لقاء هذا اليوم ذوقوا وعلى هذا لو قال قائل النسيان لا يكون إلا في المعلوم أولاً إذا جهل آخراً نقول لما ظهرت براهينه فكأنه ظهر وعلم ولما تركوه بعد الظهور ذكر بلفظ النسيان إشارة إلى كونهم منكرين لأمر ظاهر كمن ينكر أمراً كان قد علمه
المسألة الثانية قوله تعالى هذا يحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن يكون إشارة إلى اليوم أي فذوقوا بما نسيتم لقاء هذا اليوم وثانيها أن يكون إشارة إلى لقاء اليوم أي فذوقوا بما نسيتم هذا اللقاء وثالثها أن يكون إشارة إلى العذاب أي فذوقوا هذا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم ثم قال إنا نسيناكم أي تركناكم بالكلية غير ملتفت إليكم كما يفعله الناسي قطعاً لرجائكم ثم ذكر ما يلزم من تركه إياهم كما يترك الناسي وهو خلود العذاب لأن من لا يخلصه الله فلا خلاص له فقال وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِأايَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
إشارة إلى أن الإيمان بالآيات كالحاصل وإنما ينساه البعض فإذا ذكر بها خرّ ساجداً له يعني انقادت أعضاؤه له وسبح بحمده يعني ويحرك لسانه بتنزيهه عن الشرك وهم لا يستكبرون يعني وكان قلبه خاشعاً لا يتكبر ومن لا يستكبر عن عبادته فهو المؤمن حقاً
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
يعني بالليل قليلاً ما يهجعون وقوله يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي يصلون فإن الدعاء والصلاة من باب واحد في المعنى أو يطلبونه وهذا لا ينافي الأول لأن الطلب قد يكون بالصلاة والحمل على الأول أولى لأنه قال بعده وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وفي أكثر المواضع التي ذكر فيها الزكاة ذكر الصلاة قبلها كقوله تعالى وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( البقرة 3 ) وقوله خَوْفًا وَطَمَعًا يحتمل أن يكون مفعولاً له ويحتمل أن يكون حالاً أي خائفين طامعين كقولك جاؤني زوراً أي زائرين وكأن في الآية الأولى إشارة إلى المرتبة العالية وهي العبادة لوجه الله تعالى مع الذهول عن الخوف والطمع بدليل قوله تعالى إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا خَرُّواْ ( السجدة 15 ) فإنه يدل على أن عند مجرد الذكر يوجد منهم السجود وإن لم يكن خوف وطمع وفي الآية الثانية إشارة إلى المرتبتين الأخيرتين وهي العبادة خوفاً كمن يخدم الملك الجبار مخافة سطوته أو يخدم الملك الجواد طمعاً في بره ثم بين ما يكون لهم جزاء فعلهم

فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِى َ لَهُم مِّن قُرَّة ِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يعني مما تقر العين عنده ولا تلتفت إلى غيره يقال إن هذا لا يدخل في عيني يعني عيني تطلع إلى غيره فإذا لم يبق تطلع للعين إلى شيء آخر لم يبق للعين مسرح إلى غيره فتقر جزاء بحكم الوعد وهذا فيه لطيفة وهي أن من العبد شيئاً وهو العمل الصالح ومن الله أشياء سابقة من الخلق والرزق وغيرهما وأشياء لاحقة من الثواب والإكرام فلله تعالى أن يقول جزاء الإحسان إحسان وأنا أحسنت أولا والعبد أحسن في مقابلته فالثواب تفضل ومنحة من غير عوض وله أن يقول جعلت الأول تفضلاً لا أطلب عليه جزاء فإذا أتى العبد بالعمل الصالح فليس عليه شيء لأني أبرأته مما عليه من النعم فكان هو آتياً بالحسنة ابتداء وجزاء الإحسان إحسان فأجعل الثواب جزاء كلاهما جائز لكن غاية الكرم أن يجعل الأول هبة ويجعل الثاني مقابلاً وعوضاً لأن العبد ضعيف لو قيل له بأن فعلك جزاء فلا تستحق جزاء وإنما الله يتفضل يثق ولكن لا يطمئن قلبه وإذا قيل له الأول غير محسوب عليك والذي أتيت به أنت به باد ولك عليه استحقاق ثواب يثق ويطمئن ثم إذا عرف أن هذا من فضل الله فالواجب من جانب العبد أن يقول فعلى جزاء نعم الله السابقة ولا أستحق به جزاء فإذا أثابه الله تعالى يقول الذي أتيت به كان جزاء وهذا ابتداء إحسان من الله تعالى يستحق حمداً وشكراً فيأتي بحسنة فيقول الله إني أحسنت إليه جزاء فعله الأول وما فعلت أولا لا أطلب له جزاء فيجازيه ثالثاً فيشكر العبد ثالثاً فيجازيه رابعاً وعلى هذا لا تنقطع المعاملة بين العبد والرب ومثله في الشاهد اثنان تحابا فأهدى أحدهما إلى الآخر هدية ونسيها والمهدي إليه يتذكرها فأهدى إلى المهدي عوضاً فرآه المهدي الأول ابتداء لنسيانه ما أهداه إليه فجازاه بهدية فقال المحب الآخر ما أهديته كان جزاء لهديته السابقة وهذه هدية ما عوضتها فيعوض ويعوض عنه المحب الآخر ويتسلسل الأمر بينهما ولا ينقطع التهادي والتحاب بخلاف من أرسل إلى واحد هدية وهو يتذكرها فإذا بعث إليه المهدي إليه عوضاً يقول المهدي هذا عوض ما أهديت إليه فيسكت ويترك الإهداء فينقطع واعلم أن التكاليف يوم القيامة وإن ارتفعت لكن الذكر والشكر والعبادة لا ترتفع بل العبد يعبد ربه في الجنة أكثر مما يعبده في الدنيا وكيف لا وقد صار حاله مثل حال الملائكة الذين قال في حقهم يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ( الأنبياء 20 ) غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي بمقتضى الطبع ومن جملة الأسباب الموحبة لدوام نعيم الجنة هذا وكيف لا وخدمة الملوك لذة وشرف فلا تترك وإن قرب العبد منه بل تزداد لذتها
أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ

لما بين حال المجرم والمؤمن قال للعاقل هل يستوي الفريقان ثم بين أنهما لا يستويان ثم بين عدم الاستواء على سبيل التفصيل فقال أَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى إشارة إلى ما ذكرنا أن الله أحسن ابتداء لا لعوض فلما آمن العبد وعمل صالحاً قبله منه كأنه ابتداء فجازاه بأن أعطاه الجنة ثم قال تعالى نُزُلاً إشارة إلى أن بعدها أشياء لأن النزل ما يعطي الملك النازل وقت نزوله قبل أن يجعل له راتباً أو يكتب له خبزاً وقوله بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يحقق ما ذكرنا وقوله تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا إشارة إلى حال الكافر وقد ذكرنا مراراً أن العمل الصالح له مع الإيمان أثر أما الكفر إذا جاء فلا التفات إلى الأعمال فلم يقل وأما الذين فسقوا وعملوا السيآت لأن المراد من فسقوا كفروا ولو جعل العقاب في مقابلة الكفر والعمل لظن أن مجرد الكفر لا عقاب عليه وقوله في حق المؤمنين لَهُمْ بلام التمليك زيادة إكرام لأن من قال لغيره اسكن هذه الدار يكون ذلك محمولاً على العارية وله استرداده وإذا قال هذه الدار لك يكون ذلك محمولا على نسبة الملكية إليه وليس له استرداده بحكم قوله وكذلك في قوله لَهُمْ جَنَّاتُ ألا ترى أنه تعالى لما أسكن آدم الجنة وكان في علمه أنه يخرجه منها قال اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة َ ( البقرة 35 ) ولم يقل لكما الجنة وفي الآخرة لما لم يكن للمؤمنين خروج عنها قال لَكُمْ الْجَنَّة ِ و لَهُمْ جَنَّاتُ وقوله كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ إشارة إلى معنى حكمي وهو أن المؤلم إذا تمكن والألم إذا امتد لم يبق به شعور تام ولهذا قال الأطباء إن حرارة حمى الدق بالنسبة إلى حرارة الحمى البلغمية نسبة النار إلى الماء المسخن ثم إن المدقوق لا يحس من الحرارة بما يحس به من به الحمى البلغمية لتمكن الدق وقرب العهد بظهور حرارة الحمى البلغمية وكذلك الإنسان إذا وضع يده في ماء بارد يتألم من البرد فإذا صبر زماناً طويلاً تثلج يده ويبطل عنه ذلك الألم الشديد مع فساد مزاجه إذا علمت هذا فقوله كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا إشارة إلى أن الإله لا يسكن عنهم بل يرد عليهم في كل حال أمر مؤلم يجدد وقوله ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ يقرر ما ذكرنا ومعناه أنهم في الدنيا كانوا يكذبون بعذاب النار فلما ذاقوه كان أشد إيلاماً لأن من لا يتوقع شيئاً فيصيبه يكون أشد تأثيراً ثم إنهم في الآخرة كما في الدنيا يجزمون أن لا عذاب إلا وقد وصل إليهم ولا يتوقعون شيئاً آخر من العذاب فيرد عليهم عذاب أشد من الأول وكانوا يكذبون به بقولهم لا عذاب فوق ما نحن فيه فاذن معنى قوله تعالى ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ ليس مقتصراً على تكذيبهم الذي كان في الدنيا بل كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا وقيل لهم ذوقوا عذاباً كذبتم به من قبل أما في الدنيا بقولكم لا عذاب في الآخرة وأما في الآخرة فبقولكم لا عذاب فوق ما نحن فيه
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الاٌّ دْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاٌّ كْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

يعني قبل عذاب الآخرة نذيقهم عذاب الدنيا فإن عذاب الدنيا لا نسبة له إلى عذاب الآخرة لأن عذاب الدنيا لا يكون شديداً ولا يكون مديداً فإن العذاب الشديد في الدنيا يهلك فيموت المعذب ويستريح منه فلا يمتد وإن أراد المعذب أن يمتد عذاب المعذب لا يعذبه بعذاب في غاية الشدة وأما عذاب الآخرة فشديد ومديد وفي الآية مسألتان
إحداهما قوله تعالى وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ الْعَذَابِ الاْدْنَى في مقابلته العذاب الأقصى والعذاب الأكبر في مقابلته العذاب الأصغر فما الحكمة في مقابلة الأدنى بالأكبر فنقول حصل في عذاب الدنيا أمران أحدهما أنه قريب والآخر أنه قليل صغير وحصل في عذاب الآخرة أيضاً أمرانأحدهما أنه بعيد والآخر أنه عظيم كثير لكن القرب في عذاب الدنيا هو الذي يصلح للتخويف به فإن العذاب العاجل وإن كان قليلاً قد يحترز منه بعض الناس أكثر مما يحترز من العذاب الشديد إذا كان آجلا وكذا الثواب العاجل قد يرغب فيه بعض الناس ويستبعد الثواب العظيم الآجل وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف به هو العظيم والكبير لا البعيد لما بينا فقال في عذاب الدنيا الْعَذَابِ الاْدْنَى ليحترز العاقل عنه ولو قال ( لنذيقنهم من العذاب الأصغر ) ما كان يحترز عنه لصغره وعدم فهم كونه عاجلاً وقال في عذاب الآخرة الأكبر لذلك المعنى ولو قال دون العذاب الأبعد الأقصى لما حصل التخويف به مثل ما يحصل بوصفه بالكبر وبالجملة فقد اختار الله تعالى في العذابين الوصف الذي هو أصلح للتخويف من الوصفين الآخرين فيهما لحكمة بالغة
المسألة الثانية قوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعل هذه الترجى والله تعالى محال ذلك عليه فما الحكمة فيه نقول فيه وجهان أحدهما معناه لنذيبقنهم إذاقة الراجين كقوله تعالى إِنَّا نَسِينَاكُمْ ( السجدة 14 ) يعني تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلا فكذلك ههنا نذيقهم على الوجه الذي يفعل بالراجي من التدريج وثانيهما معناه نذيقهم العذاب إذاقة يقول القائل لعلهم يرجعون بسببه ونزيد وجهاً آخر من عندنا وهو أن كل فعل يتلوه أمر مطلوب من ذلك الفعل يصح تعليل ذلك الفعل بذلك الأمر كما يقال فلان اتجر ليربح ثم إن هذا التعليل إن كان في موضع لا يحصل الجزم بحصول الأمر من الفعل نظراً إلى نفس الفعل وإن حصل الجزم والعلم بناء على أمر من خارج فإنه يصح أن يقال يفعل كذا رجاء كذا كما يقال يتجر رجاء أن يربح وإن حصل للتاجر جزم بالربح لا يقدح ذلك في صحة قولنا يرجو لما أن الجزم غير حاصل نظراً إلى التجارة وإن كان الجزم حاصلاً نظراً إلى الفعل لا يصح أن يقال يرجو وإن كان ذلك الجزم يحتمل خلافه كقول القائل فلان حز رقبة عدوه رجاء أن يموت لا يصح لحصوله الجزم بالموت عقيب الحز نظراً إليه وإن أمكن أن لا يموت نظراً إلى قدرة الله تعالى ويصحح قولنا قوله تعالى في حق إبراهيم وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى ( الشعراء 82 ) مع أنه كان عالماً بالمغفرة لكن لما لم يكن الجزم حاصلاً من نفس الفعل أطلق عليه الطمع وكذلك قوله تعالى وَارْجُواْ الْيَوْمَ الاْخِرَ ( العنكبوت 36 ) مع أن الجزم به لازم إذا علم ما ذكرنا فنقول في كل صورة قال الله تعالى لَعَلَّهُمْ فإن نظرنا إلى الفعل لا يلزم الجزم فإن من التعذيب لا يلزم الرجوع لزوماً بيناً فصح قولنا يرجو وإن كان علمه حاصلاً بما يكون غاية ما في الباب أن الرجاء في أكثر الأمر استعمل فيما لا يكون الأمر معلوماً فأوهم أن لا يجوز الإطلاق في حق الله تعالى وليس كذلك بل الترجي يجوز في حق الله تعالى ولا يلزم منه عدم العلم وإنما يلزم عدم الجزم بناء على ذلك

الفعل وعلم الله ليس مستفاداً من الفعل فيصح حقيقة الترجي في حقه على ما ذكرنا من المعنى
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِأايَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَة ٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِأايَاتِنَا يُوقِنُونَ
قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايَاتِ رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا يعني لنذيقنهم ولا يرجعون فيكونون قد ذكروا بآيات الله من النعم أولا والنقم ثانياً ولم يؤمنوا فلا أظلم منهم أحد لأن من يكفر بالله ظالم فإن الله لذوي البصائر ظاهر لا يحتاج المستنير الباطن إلى شاهد يشهد عليه بل هو شهيد على كل شيء كما قال تعالى أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ ( فصلت 53 ) أي دليلك الله لا يحتاج المستنير الباطن إلى دليل على الله ولهذا قال بعض العارفين رأيت الله قبل كل شيء فمن لم يكفه الله فسائر الموجودات سواء كان فيها نفع أو ضر كاف في معرفة الله كما قال تعالى سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت 53 ) فإن لم يكفهم ذلك فبسبغه عليهم نعمه ظاهرة وباطنة فالأول الذي لا يحتاج إلى غير الله هو عدل والثاني الذي يحتاج إلى دليل فهو متوسط والثالث الذي لم تكفه الآفاق ظالم والرابع الذي لم تقنعه النعم أظلم من ذلك الظالم وقد يكون أظلم منه آخر وهو الذي إذا أذيق العذاب لا يرحع عن ضلالته فإن الأكثر كان من صفتهم أنهم إذا مسهم ضر دعوا ربهم منيبين إليه فهذا لما عذب ولم يرجع فلا أظلم منه أصلا فقال وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايَاتِ رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا
ثم قال تعالى إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ أي لما لم ينفعهم العذاب الأدنى فأنا منتقم منهم بالعذاب الأكبر
ثم قال تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لما قرر الأصول الثلاثة على ما بيناه عاد إلى الأصل الذي بدأ به وهو الرسالة المذكورة في قوله لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ ( القصص 46 ) وقال قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ ( الأحقاف 9 ) بل كان قبلك رسل مثلك واختار من بينهم موسى لقربه من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ووجود من كان على دينه إلزاماً لهم وإنما لم يختر عيسى عليه السلام للذكر والاستدلال لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته وأما النصارى فكانوا يعترفون بنبوة موسى عليه السلام فتمسك بالمجمع عليه وقوله فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَة ٍ مّن لّقَائِهِ قيل معناه فلا تكن في شك من لقاء موسى فإنك تراه وتلقاه وقيل بأنه رآه ليلة المعراج وقيل معناه فلا تكن في شك من لقاء الكتاب فإنك تلقاه كما لقي موسى الكتاب ويحتمل أن تكون الآية واردة لا للتقرير بل لتسلية النبي عليه السلام فإنه لما أتى بكل آية وذكر بها وأعرض عنها قومه حزن عليهم فقيل له

تذكر حال موسى ولا تحزن فإنه لقي ما لقيت وأوذي كما أوذيت وعلى هذا فاختيار موسى عليه السلام لحكمة وهي أن أحداً من الأنبياء لم يؤذه قومه إلا الذين لم يؤمنوا به وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى فإن لم يؤمن به آذاه مثل فرعون وغيره ومن آمن به من بني إسرائيل أيضاً آذاه بالمخالفة وطلب أشياء منه مثل طلب رؤية الله جهرة ومثل قوله اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا ( المائدة 24 ) ثم بين له أن هدايته غير خالية عن المنفعة كما أنه لم تخل هداية موسى فقال وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِنَبِى ّ إِسْراءيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا فحيث جعل الله كتاب موسى هدى وجعل منهم أئمة يهدون كذلك يجعل كتابك هدى ويجعل من أمتك صحابة يهدون كما قال عليه السلام ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) ثم بين أن ذلك يحصل بالصبر فقال لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِئَايَاتِنَا يُوقِنُونَ فكذلك اصبروا وآمنوا بأن وعد الله حق
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقَيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ
قوله إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقَيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ هذا يصلح جواباً لسؤال وهو أنه لما قال تعالى وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ كان لقائل أن يقول كيف كانوا يهدون وهم اختلفوا وصاروا فرقاً وسبيل الحق واحد فقال فيهم هداة والله بين المبتدع من المتبع كما يبين المؤمن من الكافر يوم القيامة وفيه وجه آخر وهو أن الله تعالى بين أنه يفصل بين المختلفين من أمة واحدة كما يفصل بين المختلفين من الأمم فينبغي أن لا يأمن من آمن وإن لم يجتهد فإن المبتدع معذب كالكافر غاية ما في الباب أن عذاب الكافر أشد وآلم وأمد وأدوم
ثم قال تعالى أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْقُرُونِ قد ذكرنا أن قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تقرير لرسالة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإعادة لبيان ما سبق في قوله لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ ( القصص 46 ) ولما أعاد ذكر الرسالة أعاد ذكر التوحيد فقال تعالى أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ وقوله يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ زيادة إبانة أي مساكن المهلكين دالة على حالهم وأنتم تمشون فيها وتبصرونها وقوله تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ اعتبر فيه السمع لأنهم ما كان لهم قوة الإدراك بأنفسهم والاستنباط بعقولهم فقال أفلا يسمعون يعني ليس لهم درجة المتعلم الذي يسمع الشيء ويفهمه

أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأرض الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
قوله تعالى أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الاْرْضِ الْجُرُزِ لما بين الإهلاك وهو الإماتة بين الإحياء ليكون إشارة إلى أن الضر والنفع بيد الله والجرز الأرض اليابسة التي لا نبات فيها والجرز هو القطع وكأنها المقطوع عنها الماء والنبات ثم قال تعالى فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ قدم الأنعام على الأنفس في الأكل لوجوه أحدها أن الزرع أول ما ينبت يصلح للدواب ولا يصلح للإنسان والثاني وهو أن الزرع غذاء الدواب وهو لا بد منه وأما غذاء الإنسان فقد يحصل من الحيوان فكأن الحيوان يأكل الزرع ثم الإنسان يأكل من الحيوان الثالث إشارة إلى أن الأكل من ذوات الدواب والإنسان يأكل بحيوانيته أو بما فيه من القوة العقلية فكماله بالعبادة ثم قال تعالى أَفَلاَ يُبْصِرُونَ لأن الأمر يرى بخلاف حال الماضين فإنها كانت مسموعة ثم لما بين الرسالة والتوحيد بين الحشر بقوله تعالى وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ إلى آخر السورة فصار ترتيب آخر السورة كترتيب أولها حيث ذكر الرسالة في أولها بقوله لِتُنذِرَ قَوْماً ( القصص 46 ) وفي آخرها بقوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ( البقرة 87 ) وذكر التوحيد بقوله الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وقوله الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ وفي آخر السورة ذكره بقوله أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ وقوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ وذكر الحشر في أولها بقوله وَقَالُواْ أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الاْرْضِ ( السجدة 10 ) وفي آخرها بقوله وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْفَتْحُ
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ
قوله تعالى قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ أي لا يقبل إيمانهم في تلك الحالة لأن الإيمان المقبول هو الذي يكون في دار الدنيا ولا ينظرون أي لا يمهلون بالإعادة إلى الدنيا ليؤمنوا فيقبل إيمانهم ثم لما بين المسائل وأتقن الدلائل ولم ينفعهم قال تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تناظرهم بعد ذلك وإنما الطريق بعد هذا القتال وقوله وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ يحتمل وجوهاً أحدها وانتظر هلاكهم فإنهم ينتظرون هلاكك وعلى هذا فرق بين الانتظارين لأن انتظار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأمر الله تعالى بعد وعده وانتظارهم بتسويل أنفسهم والتعويل على الشيطان وثانيها وانتظر النصر من الله فإنهم ينتظرون النصر من آلهتهم وفرق بين الانتظارين وثالثها وانتظر عذابهم بنفسك فإنهم ينتظرونه بلفظهم استهزاء كما قالوا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ( الأعراف 70 ) وقالوا مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( النمل 71 ) إلى غير ذلك والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ
قوله تعالى قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ أي لا يقبل إيمانهم في تلك الحالة لأن الإيمان المقبول هو الذي يكون في دار الدنيا ولا ينظرون أي لا يمهلون بالإعادة إلى الدنيا ليؤمنوا فيقبل إيمانهم ثم لما بين المسائل وأتقن الدلائل ولم ينفعهم قال تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تناظرهم بعد ذلك وإنما الطريق بعد هذا القتال وقوله وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ يحتمل وجوهاً أحدها وانتظر هلاكهم فإنهم ينتظرون هلاكك وعلى هذا فرق بين الانتظارين لأن انتظار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأمر الله تعالى بعد وعده وانتظارهم بتسويل أنفسهم والتعويل على الشيطان وثانيها وانتظر النصر من الله فإنهم ينتظرون النصر من آلهتهم وفرق بين الانتظارين وثالثها وانتظر عذابهم بنفسك فإنهم ينتظرونه بلفظهم استهزاء كما قالوا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ( الأعراف 70 ) وقالوا مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( النمل 71 ) إلى غير ذلك والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين

سورة الأحزاب
سبعون وثلاث آيات وهي مدنية بإجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
يأَيُّهَا النَّبِى ِّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
قوله تعالى مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ في تفسير الآية مسائل
الأولى في الفرق بين النداء والمنادى بقوله يا رجل ويا أيها الرجل وقد قيل فيه ما قيل ونحن نقول قول القائل يا رجل يدل على النداء وقوله يا أيها الرجل يدل على ذلك أيضاً وينبىء عن خطر خطب المنادي له أو غفلة المنادى أما الثاني فمذكور وأما الأول فلأن قوله ( يا أي ) جعل المنادى غير معلوم أولاً فيكون كل سامع متطلعاً إلى المنادى فإذا خص واحداً كان في ذلك إنباء الكل لتطلعهم إليه وإذا قال يا زيد أو يا رجل لا يلتفت إلى جانب المنادى إلا المذكور إذا علم هذا فنقول فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا لا يجوز حمله على غفلة النبي لأن قوله النَّبِى ّ ينافي الغفلة لأن النبي عليه السلام خبير فلا يكون غافلاً فيجب حمله على خطر الخطب
المسألة الثانية الأمر بالشيء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمور به إذ لا يصلح أن يقال للجالس اجلس وللساكت اسكت والنبي عليه السلام كان متقياً فما الوجه فيه نقول فيه وجهان احدهما منقول وهو أنه أمر بالمداومة فإنه يصح أن يقول القائل للجالس اجلس ههنا إلى أن أجيئك ويقول القائل للساكت قد أصبت فاسكت تسلم أي دم على ما أنت عليه والثاني وهو معقول لطيف وهو أن الملك يتقي منه عباده على ثلاثة أوجه بعضهم يخاف من عقابه وبعضهم يخاف من قطع ثوابه وثالث يخاف من احتجابه فالنبي لم يؤمر بالتقوى بالمعنى الأول ولا بالمعنى الثاني وأما الثالث فالمخلص لا يأمنه ما دام في الدنيا وكيف والأمور الدنيوية شاغلة والآدمي في الدنيا تارة مع الله وأخرى مقبل على ما لابد منه وإن كان معه الله وإلى هذا إشارة بقوله إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحِى إِلَى َّ ( فصلت 6 ) يعني يرفع الحجاب عني

وقت الوحي ثم أعود إليكم كأني منكم فالأمر بالتقوى يوجب استدامة الحضور الوجه الثاني هو أن النبي عليه الصلاة والسلام كل لحظة كان يزداد علمه ومرتبته حتى كان حاله فيما مضى بالنسبة إلى ما هو فيه تركا للأفضل فكان له في كل ساعة تقوى متجددة فقوله اتَّقِ اللَّهَ على هذا أمر بما ليس فيه وإلى هذا أشار عليه الصلاة والسلام بقوله ( من استوى يوماه فهو مغبون ) ولأنه طلب من ربه بأمر الله إياه به زيادة العلم حيث قال وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) وأيضاً إلى هذا وقعت الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام ( إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة ) يعني يتجدد له مقام يقول الذي أتيت به من الشكر والعبادة لم يكن شيئاً إذا علم هذا فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بحكم إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( فصلت 6 ) كان قد وقع له خوف ما يسير من جهة ألسنة الكفار والمنافقين ومن أيديهم بدليل قوله تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ( الأحزاب 37 ) فأمره الله بتقوى أخرى فوق ما يتقيه بحيث تنسيه الخلق ولا يريد إلا الحق وزاد الله به درجته فكان ذلك بشارة له في مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ أنت ما بقيت في الدرجة التي يقنع منك بتقوى مثل تقوى الآحاد أو تقوى الأوتاد بل لا يقنع منك إلا بتقوى تنسيك نفسك ألا ترى أن الإنسان إذا كان يخاف فوت مال إن هجم عليه غاشم يقصد قتله يذهل عن المال ويهرب ويتركه فكذلك النبي عليه الصلاة والسلام أمر بمثل هذه التقوى ومع هذه التقوى لا يبقى الخوف من أحد غير الله وخرج هذا مخرج قول القائل لمن يخاف زيد أو عمراً خف عمراً فإن زيداً لا يقدر عليك إذا كان عمرو معك فلا يكون ذلك أمراً بالخوف من عمرو فإنه يخاف وإنما يكون ذلك نهياً عن الخوف من زيد في ضمن الأمر بزيادة الخوف من عمرو حتى ينسيه زيداً
ثم قوله تعالى وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ يقرر قولنا أي اتق الله تقوى تمنعك من طاعتهم
المسألة الثالثة لم خص الكافرين والمنافقين بالذكر مع أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ينبغي أن لا يطيع أحداً غير الله نقول لوجهين أحدهما أن ذكر الغير لا حاجة إليه لأن غيرهما لا يطلب من النبي عليه الصلاة والسلام الاتباع ولا يتوقع أن يصير النبي عليه السلام مطيعاً له بل يقصد اتباعه ولا يكون عنده إلا مطاعاً والثاني هو أنه تعالى لما قال وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ منعه من طاعة الكل لأن كل من طلب من النبي عليه الصلاة والسلام طاعته فهو كافر أو منافق لأن من يأمر النبي عليه الصلاة والسلام بأمر أمر إيجاب معتقداً على أنه لو لم يفعله يعاقبه بحق يكون كافراً
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً إشارة إلى أن التقوى ينبغي تكون عن صميم قلبك لا تخفى في نفسك تقوى غير الله كما يفعله الذي يرى من نفسه الشجاعة حيث يخاف في نفسه ويتجلد فإن التقوى من الله وهو عليم وقوله حَكِيماً إشارة إلى دفع وهم متوهم وهو أن متوهما لو قال إذا قال الله شيئاً وقال جميع الكافرين والمنافقين مع أنهم أقارب النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً آخر ورأوا المصلحة فيه وذكروا وجهاً معقولاً فاتباعهم لا يكون إلا مصلحة فقال الله تعالى إنه حكيم ولا تكون المصلحة إلى في قول الحكيم فإذا أمرك الله بشيء فاتبعه ولو منعك أهل العالم عنه

وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ
يقرر ما ذكرنا من أنه حكيم فاتباعه هو الواجب ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً لما قال إنه عليم بما في قلوب العباد بين أنه عالم خبير بأعمالكم فسووا قلوبكم وأصلحوا أعمالكم ثم قال تعالى وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً يعني اتق الله وإن توهمت من أحد فتوكل على الله فإنه كفى به دافعاً ينفع ولا يضر معه شيء وإن ضر لا ينفع معه شيء
ثم قال تعالى مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ قال بعض المفسرين الآية نزلت في أبي معمر كان يقول لي قلبان أعلم وأفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد فرد الله عليه بقوله مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ وقال الزمخشري قوله وَمَا جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ أي ما جعل لرجل قلبين كما لم يجعل لرجل أمين ولا لابن أبوين وكلاهما ضعيف بل الحق أن يقال إن الله لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ فكان ذلك أمراً له بتقوى لا يكون فوقها تقوى ومن يتقي ويخاف شيئاً خوفاً شديداً لا يدخل في قلبه شيء آخر ألا ترى أن الخائف الشديد الخوف ينسى مهماته حالة الخوف فكأن الله تعالى قال يا أيها النبي اتق الله حق تقاته ومن حقها أن لا يكون في قلبك تقوى غير الله فإن المرء ليس له قلبان حى يتقي بأحدهما الله وبالآخرة غيره فإن اتقى غيره فلا يكون ذلك إلا بصرف القلب عن جهة الله إلى غيره وذلك لا يليق بالمتقي الذي يدعي أنه يتق الله حق تقاته ثم ذكر للنبي عليه الصلاة والسلام أنه لا ينبغي أن يتقي أحداً ولا مثل ما اتقيت في حكاية زينب زوجة زيد حيث قال الله تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ( الأحزاب 37 ) يعني مثل تلك التقوى لا ينبغي أن تدخل في قلبك ثم لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام بتلك الحالة ذكر ما يدفع عنه السوء فقال وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ أي وما جعل الله دعي المرء ابنه ثم قدم عليه ما هو دليل قوي على اندفاع القبح وهو قوله وَمَا جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ أي إنكم إذا قلتم لأزواجكم أنت علي كظهر أمي فلا تصير هي أماً بإجماع الكل أما في الإسلام فلأنه ظهار لا يحرم الوطء وأما في الجاهلية فلأنه كان طلاقاً حتى كان يجوز للزوج أن يتزوج بها من جديد فإذا كان قول القائل لزوجته أنت أمي أو كظهر أمي لا يوجب صيرورة الزوجة أماً كذلك قول القائل للدعي أنت أبي لا يوجب كونه ابناً فلا تصير زوجته زوجة الابن فلم

يكن لأحد أن يقول في ذلك شيئاً فلم يكن خوفك من الناس له وجه كيف ولو كان أمراً مخوفاً ما كان يجوز أن تخاف غير الله أو ليس لك قلبان وقلبك مشغول بتقوى الله فما كان ينبغي أن تخاف أحداً
ثم قال تعالى ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْواهِكُمْ فيه لطيفة وهو أن الكلام المعتبر على قسمين أحدهما كلام يكون عن شيء كان فيقال والثاني كلام يقال فيكون كما قيل والأول كلام الصادقين الذين يقولون ما يكون والآخر كلام الصديقين الذين إذا قالوا شيئاً جعله الله كما قالوه وكلاهما صادر عن قلب والكلام الذي يكون بالفم فحسب هو مثل نهيق الحمار أو نباح الكلب لأن الكلام المعتبر هو الذي يعتمد عليه والذي لا يكون عن قلب وروية لا اعتماد عليه والله تعالى ما كرم ابن آدم وفضله على سائر الحيوانات ينبغي أن يحترز من التخلق بأخلاقها فقول القائل هذا ابن فلان مع أنه ليس ابنه ليس كلاماً فإن الكلام في الفؤاد وهذا في الفم لا غير واللطيفة هي أن الله تعالى ههنا قال ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْواهِكُمْ وقال في قوله وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِمْ ( التوبة 30 ) يعني نسبة الشخص إلى غير الأب قول لا حقيقة له ولا يخرج من قلب ولا يدخل أيضاً في قلب فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ إشارة إلى معنى لطيف وهو أن العاقل ينبغي أن يكون قوله إما عن عقل أو عن شرع فإذا قال فلان ابن فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو يكون عن شرع بأن يكون ابنه شرعاً وإن لم يعلم الحقيقة كمن تزوج بامرأة فولدت لستة أشهر ولداً وكانت الزوجة من قبل زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه فإنا نلحقه بالزوج الثاني فلقيام الفراش ونقول إنه ابنه وفي الدعي لم توجد الحقيقة ولا ورد الشرع به لأنه لا يقول إلا الحق وهذا خلاف الحق لأن أباه مشهور ظاهر ووجه آخر فيه وهو أنهم قالوا هذه زوجة الابن فتحرم وقال الله تعالى هي لك حلال وقولهم لا اعتبار به فإنه بأفواههم كأصوات البهائم وقول الله حق فيجب اتباعه وقوله وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ يؤكد قوله وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ يعني يجب اتباعه لكونه حقاً ولكونه هادياً وقوله تعالى ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ فيه لطيفة وهو أن الكلام الذي بالفم فحسب يشبه صوت البهائم الذي يوجد لا عن قلب ثم إن الكلام الذي بالقلب قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً لأن من يقول شيئاً عن اعتقاد قد يكون مطابقاً فيكون حقاً وقد لا يكون فيكون باطلاً فالقول الذي بالقلب وهو المعتبر من أقوالكم قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً لأنه يتبع الوجود وقول الله حق لأنه يتبعه الوجود فإنه يقول عما كان أو يقول فيكون فإذن قول الله خير من أقوالكم التي عن قلوبكم فكيف تكون نسبته إلى أقوالكم التي بأفواهكم فإذن لا يجوز أن تأخذوا بقولكم الكاذب اللاغي وتتركوا قول الله الحق فمن يقول بأن تزوج النبي عليه الصلاة والسلام بزينب لم يكن حسناً يكون قد ترك قول الله الحق وأخذ بقول خرج عن الفم
ثم قال تعالى وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ إشارة إلى أن اتباع ما أنزل الله خير من الأخذ بقول الغير
ادْعُوهُمْ لاًّبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا ءَابَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً

ثم بين الهداية وقال ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ ءابَاءهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِى الدّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ
قوله تعالى ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ أرشد وقال هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ أي أعدل فإنه وضع الشيء في موضعه وهو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون ترك الإضافة للعموم أي أعدل كل كلام كقول القائل الله أكبر وثانيهما أن يكون ما تقدم منوياً كأنه قال ذلك أقسط من قولكم هو ابن فلان ثم تمم الإرشاد وقال ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ يعني قولوا لهم إخواننا وأخو فلان فإن كانوا محررين فقولوا مولى فلان ثم قال تعالى وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ يعني قول القائل لغيره يا بني بطريق الشفقة وقول القائل لغيره يا أبي بطريق التعظيم فإنه مثل الخطأ ألا ترى أن اللغو في اليمين مثل الخطأ وسبق اللسان فكذلك سبق اللسان في قول القائل ابني والسهو في قوله ابني من غير قصد إلى إثبات النسب سواء وقوله وَلَاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ مبتدأ خبره محذوف يدل عليه ما سبق وهو الجناح يعني ما تعمدت قلوبكم فيه جناح وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً يغفر الذنوب ويرحم المذنب وقد ذكرنا كلاماً شافياً في المغفرة والرحمة في مواضع ونعيد بعضها ههنا فنقول المغفرة هو أن يسترد القادر القبيح الصادر ممن تحت قدرته حتى أن العبد إذا ستر عيب سيده مخافة عقابه لا يقال إنه غفر له والرحمة هو أن يميل إليه بالإحسان لعجز المرحوم إليه لا لعوض فإن من مال إلى إنسان قادر كالسلطان لا يقال رحمه وكذا من أحسن إلى غيره رجاء في خيره أو عوضاً عما صدر منه آنفاً من الإحسان لا يقال رحمه إذا علم هذا فالمغفرة إذا ذكرت قبل الرحمة يكون معناها أنه ستر عيبه ثم رآه مفلساً عاجزاً فرحمه وأعطاه ما كفاه وإذا ذكرت المغفرة بعد الرحمة وهو قليل يكون معناها أنه مال إليه لعجزه فترك عقابه ولم يقتصر عليه بل ستر ذنوبه
النَّبِى ُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الاٌّ رْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُوراً
قوله تعالى النَّبِى ُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ تقرير لصحة ما صدر منه عليه الصلاة والسلام من التزوج بزينب وكأن هذا جواب عن سؤال وهو أن قائلاً لو قال هب أن الأدعياء ليسوا بأبناء كما قلت لكن من سماه غيره ابناً إذا كان لدعيه شيء حسن لا يليق بمروءته أن يأخذه منه ويطعن فيه عرفاً فقال الله تعالى النَّبِى ُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ جواباً عن ذلك السؤال وتقريره هو أن دفع الحاجات على مراتب دفع حاجة الأجانب ثم دفع حاجة الأقارب الذين على حواشي النسب ثم دفع حاجة الأصول والفصول ثم دفع حاجة النفس والأول عرفاً دون الثاني وكذلك شرعاً فإن العاقلة تتحمل الدية عنهم ولا تتحملها عن الأجانب والثاني دون الثالث أيضاً وهو ظاهر بدليل النفقة والثالث دون الرابع فإن النفس تقدم على الغير وإليه أشار النبي عليه الصلاة

والسلام بقوله ( ابدأ بنفسك ثم

بمن تعول ) إذا علمت هذا فالإنسان إذا كان معه ما يغطي به إحدى الرجلين أو يدفع به حاجة عن أحد شقي بدنه فلو أخذ الغطاء من أحدهما وغطى به الآخر لا يكون لأحد أن يقول له لم فعلت فضلاً عن أن يقول بئسما فعلت اللهم إلا أن يكون أحد العضوين أشرف من الآخر مثل ما إذا وقى الإنسان عينه بيده ويدفع البرد عن رأسه الذي هو معدن حواسه ويترك رجله تبرد فإنه الواجب عقلاً فمن يعكس الأمر يقال له لم فعلت وإذا تبين هذا فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أولى بالمؤمن من نفسه فلو دفع المؤمن حاجة نفسه دون حاجة نبيه يكون مثله مثل من يدهن شعره ويكشف رأسه في برد مفرط قاصداً به تربية شعره ولا يعلم أنه يؤذي رأسه الذي لا نبات لشعره إلا منه فكذلك دفع حاجة النفس فراغها إلى عبادة الله تعالى ولا علم بكيفية العبادة إلا من الرسول عليه الصلاة والسلام فلو دفع الإنسان حاجته لا للعبادة فهو ليس دفعاً للحاجة لأن دفع الحاجة ما هو فوق تحصيل المصلحة وهذا ليس فيه مصلحة فضلاً عن أن يكون حاجة وإذا كان للعبادة فترك النبي الذي منه يتعلم كيفية العبادة في الحاجة ودفع حاجة النفس مثل تربية الشعر مع إهمال أمر الرأس فتبين أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أراد شيئاً حرم على الأمة التعرض إليه في الحكمة الواضحة
ثم قال تعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ تقريراً آخر وذلك لأن زوجة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما جعلها الله تعالى في حكم الأم إلا لقطع نظر الأمة عما تعلق به غرض النبي عليه الصلاة والسلام فإذا تعلق خاطره بامرأة شاركت الزوجات في التعلق فحرمت مثل ما حرمت أزواجه على غيره فلو قال قائل كيف قال وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وقال من قبل وَمَا جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ إشارة إلى أن غير من ولدت لا تصير أماً بوجه ولذلك قال تعالى في موضع آخر إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ فنقول قوله تعالى في الآية المتقدمة وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ جواب عن هذا معناه أن الشرع مثل الحقيقة ولهذا يرجع العاقل عند تعذر اعتبار الحقيقة إلى الشريعة كما أن امرأتين إذا ادعت كل واحدة ولداً بعينه ولم يكن لهما بينة وحلفت إحداهما دون الأخرى حكم لها بالولد وإن تبين أن التي حلفت دون البلوغ أو بكر ببينة لا يحكم لها بالولد فعلم أن عند عدم الوصول إلى الحقيقة يرجع إلى الشرع لا بل في بعض المواضع على الندور تغلب الشريعة الحقيقة فإن الزاني لا يجعل أباً لولد الزنا إذا ثبت هذا فالشارع له الحكم فقول القائل هذه أمي قول يفهم لا عن حقيقة ولا يترتب عليه حقيقة وأما قول الشارع ( فهو ) حق والذي يؤيده هو أن الشارع به الحقائق حقائق فله أن يتصرف فيها ألا ترى أن الأم ما صارت أماً إلا بخلق الله الولد في رحمها ولو خلقه في جوف غيرها لكانت الأم غيرها فإذا كان هو الذي يجعل الأم الحقيقية أماً فله أن يسمى امرأة أماً ويعطيها حكم الأمومة والمعقول في جعل أزواجه أمهاتنا هو أن الله تعالى جعل زوجة الأب محرمة على الإبن لأن الزوجة محل الغيرة والتنازع فيها فإن تزوج الإبن بمن كانت تحت الأب يفضي ذلك إلى قطع الرحم والعقوق لكن النبي عليه الصلاة والسلام أشرف وأعلى درجة من الأب وأولى بالإرضاء فإن الأب يربي في الدنيا فحسب والنبي عليه الصلاة والسلام يربي في الدنيا والآخرة فوجب أن تكون زوجاته مثل زوجات الآباء فإن قال قائل فلم لم يقل إن النبي أبوكم ويحصل هذا المعنى أو لم يقل إن أزواجه أزواج أبيكم فنقول لحكمة وهي أن النبي لما بينا أنه إذا أراد زوجة واحد من الأمة وجب عليه تركها ليتزوج بها النبي عليه الصلاة والسلام فلو قال أنت أبوهم لحرم عليه زوجات المؤمنين على التأبيد ولأنه لما جعله أولى بهم من أنفسهم والنفس مقدم على الأب لقوله عليه الصلاة والسلام ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) ولذلك فإن المحتاج إلى القوت لا يجب عليه صرفه إلى الأب ويجب عليه صرفه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ثم إن أزواجه لهم حكم زوجات الأب حتى لا تحرم أولادهن على المؤمنين ولا أخواتهن ولا أمهاتهن وإن كان الكل يحرمن في الأم الحقيقية والرضاعية
ثم قال تعالى وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُوراً إشارة إلى الميراث وقوله إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً إشارة إلى الوصية يعني إن أوصيتم فغير الوارثين أولى وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم فإن قيل فعلى هذا أي تعلق للميراث والوصية بما ذكرت نقول تعلق قوي خفي لا يتبين إلا لمن هداه الله بنوره وهو أن غير النبي عليه الصلاة والسلام في حال حياته لا يصير له مال الغير وبعد وفاته لا يصير ماله لغير ورثته والنبي عليه الصلاة والسلام في حال حياته كان يصير له مال الغير إذا أراده ولا يصير ماله لورثته بعد وفاته كأن الله تعالى عوض النبي عليه الصلاة والسلام عن قطع ميراثه بقدرته على تملك مال الغير وعوض المؤمنين بأن ما تركه يرجع إليهم حتى لا يكون حرج على المؤمنين في أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أراد شيئاً يصير له ثم يموت ويبقى لورثته فيفوت عليهم ولا يرجع إليهم فقال تعالى وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ يعني بينكم التوارث فيصير مال أحدكم لغيره بالإرث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فينبغي أن يكون له بدل هذا أنه أولى في حياته بما في أيديكم الثاني هو أن الله تعالى ذكر دليلاً على أن النبي عليه الصلاة والسلام أولي بالمؤمنين وهو أن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض ثم إذا أراد أحد براً مع صديق فيوصي له بشيء فيصير أولى من قريبه وكأنه بالوصية قطع الإرث وقال هذا مالي لا ينتقل عني إلا إلى من أريده فكذلك الله تعالى جعل لصديقه من الدنيا ما أراده ثم ما يفضل منه يكون لغيره وقوله ( كان ذلك في الكتاب مسطوراً ) فيه وجهان أحدهما في القرآن وهو آية المواريث والوصية والثاني في اللوح المحفوظ
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظاً
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ ( الأحزاب 1 ) وأكده بالحكاية التي خشى فيها الناس لكي لا يخشى فيها أحداً غيره وبين أنه لم يرتكب أمراً يوجب الخشية بقوله النَّبِى ُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ( الأحزاب 6 ) أكده بوجه آخر وقال وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ كأنه قال اتق الله ولا تخف أحداً واذكر أن الله أخذ ميثاق النبيين في أنهم يبلغون رسالات الله ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع وفيه مسائل
المسألة الأولى المراد من الميثاق المأخوذ من النبيين إرسالهم وأمرهم بالتبليغ

المسألة الثانية خص بالذكر أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن موسى وعيسى كان لهما في زمان نبينا قوم وأمة فذكرهما احتجاجاً على قومهما وإبراهيم كان العرب يقولون بفضله وكانوا يتبعونه في الشعائر بعضها ونوحاً لأنه كان أصلاً ثانياً للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان وعلى هذا لو قال قائل فآدم كان أولى بالذكر من نوح فنقول خلق آدم كان للعمارة ونبوته كانت مثل الإرشاد للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب وأما نوح فكان مخلوقاً للنبوة وأرسل للإنذار ولهذا أهلك قومه وأغرقوا
المسألة الثالثة في كثير من المواضع يقول الله عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ( البقرة 87 ) الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ( المائدة 17 ) إشارة إلى أنه لا أب له إذ لو كان لوقع التعريف به وقوله وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً غَلِيظاً غلظ الميثاق هو سؤالهم عما فعلوا في الإرسال كما قال تعالى فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ ( الأعراف 6 ) وهذا لأن الملك إذا أرسل رسولاً وأمره بشيء وقبله فهو ميثاق فإذا أعلمه بأنه يسأل عن حاله في أفعاله وأقواله يكون ذلك تغليظاً للميثاق عليه حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة وعلى هذا يمكن أن يقال بأن المراد من قوله تعالى وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقاً غَلِيظاً ( النساء 21 ) هو الإخبار بأنهم مسؤلون عنها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) وكما أن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء جعل الأنبياء قائمين بأمور أمتهم وإرشادهم إلى سبيل الرشاد
لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً
يعني أرسل الرسل وعاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب لأن الصادق محاسب والكافر معذب وهذا كما قال علي عليه السلام ( الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب ) وهذا مما يوجب الخوف العام فيتأكد قوله مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الاٌّ بْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ
تحقيقاً لما سبق من الأمر بتقوى الله بحيث لا يبقى معه خوف من أحد وذلك لأن واقعة اجتماع الأحزاب واشتداد الأمر على الأصحاب حيث اجتمع المشركون بأسرهم واليهود بأجمعهم ونزلوا على المدينة وعمل النبي عليه السلام الخندق كان الأمر في غاية الشدة والخوف بالغاً إلى الغاية والله دفع القوم عنهم من غير قتال وآمنهم من الخوف فينبغي أن لا يخاف العبد غير ربه فإنه كاف أمره ولا يأمن مكره فإنه قادر على كل

ممكن فكان قادراً على أن يقهر المسلمين بالكفار مع أنهم كانوا ضعفاء كما قهر الكافرين بالمؤمنين مع قوتهم وشوكتهم وقوله فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا إشارة إلى ما فعل الله بهم من إرسال ريح باردة عليهم في ليلة شاتية وإرسال الملائكة وقذف الرعب في قلوبهم حتى كان البعض يلتزق بالبعض من خوف الخيل في جوف الليل والحكاية مشهورة وقوله وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إشارة إلى أن الله علم التجاءكم إليه ورجاءكم فضله فنصركم على الأعداء عند الاستعداء وهذا تقرير لوجوب الخوف وعدم جواز الخوف من غير الله فإن قوله فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا أي الله يقضي حاجتكم وأنتم لا ترون فإن كان لا يظهر لكم وجه الأمن فلا تلتفتوا إلى عدم ظهوره لكم لأنكم لا ترون الأشياء فلا تخافون غير الله والله بصير بما تعملون فلا تقولوا بأنا نفعل شيئاً وهو لا يبصره فإنه بكل شيء بصير وقوله إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ بيان لشدة الأمر وغاية الخوف وقيل مّن فَوْقِكُمْ أي من جانب الشرق وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ من جانب الغرب وهم أهل مكة وزاغت الأبصار أي مالت عن سننها فلم تلتفت إلى العدو لكثرته وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ كناية عن غاية الشدة وذلك لأن القلب عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص فيلتصق بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يسد مجرى النفس لا يقدر المرء يتنفس ويموت من الخوف ومثله قوله تعالى حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ( الواقعة 83 ) وقوله وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ الألف واللام يمكن أن يكونا بمعنى الاستغراق مبالغة يعني تظنون كل ظن لأن عند الأمر العظيم كل أحد يظن شيئاً ويمكن أن يكون المراد ظنونهم المعهودة لأن المعهود من المؤمن ظن الخير بالله كما قال عليه السلام ( ظنوا بالله خيراً ) ومن الكافر الظن السوء كما قال تعالى ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ص 27 ) وقوله إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ( النجم 23 ) فإن قال قائل المصدر لا يجمع فما الفائدة في جمع الظنون فنقول لا شك في أنه منصوب على المصدر ولكن الاسم قد يجعل مصدراً كما يقال ضربته سياطاً وأدبته مراراً فكأنه قال ظننتم ظناً بعد ظن أي ما ثبتم على ظن فالفائدة هي أن الله تعالى لو قال تظنون ظناً جاز أن يكونوا مصيبين فإذا قال ظنوناً تبين أن فيهم من كان ظنه كاذباً لأن الظنون قد تكذب كلها وقد يكذب بعضها إذا كانت في أمر واحد مثاله إذا رأى جمع من بعيد جسماً وظن بعضهم أنه زيد وآخرون أنه عمرو وقال ثالث إنه بكر ثم ظهر لهم الحق قد يكون الكل مخطئين والمرئي شجر أو حجر وقد يكون أحدهم مصيباً ولا يمكن أن يكونوا كلهم مصيبين فقوله الظُّنُونَاْ أفاد أن فيهم من أخطأ الظن ولو قال تظنون بالله ظناً ما كان يفيد هذا
هُنَالِكَ ابْتُلِى َ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً
أي عند ذلك امتحن الله المؤمنين فتميز الصادق عن المنافق والامتحان من الله ليس لاستبانة الأمر له

بل لحكمة أخرى وهي أن الله تعالى عالم بما هم عليه لكنه أراد إظهار الأمر لغيره من الملائكة والأنبياء كما أن السيد إذا علم من عبده المخالفة وعزم على معاقبته على مخالفته وعنده غيره من العبيد وغيرهم فيأمره بأمر عالماً بأنه يخالفه فيبين الأمر عند الغير فتقع المعاقبة على أحسن الوجوه حيث لا يقع لأحد أنها بظلم أو من قلة حلم وقوله وَزُلْزِلُواْ أي أزعجوا وحركوا فمن ثبت منهم كان من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وبذكر الله تطمئن مرة أخرى وهم المؤمنون حقاً
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَة ٌ مِّنْهُمْ ياأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِى َّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَة ٌ وَمَا هِى َ بِعَوْرَة ٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً
فسر الظنون وبينها فظن المنافقون أن ما قال الله ورسوله كان زوراً ووعدهما كان غروراً حيث قطعوا بأن الغلبة واقعة وقوله وَإِذْ قَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْهُمْ ياأَهْلَ أَهْلُ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ أي لا وجه لإقامتكم مع محمد كما يقال لا إقامة على الذل والهوان أي لا وجه لها ويثرب اسم للبقعة التي هي المدينة فارجعوا أي عن محمد واتفقوا مع الأحزاب تخرجوا من الأحزان ثم السامعون عزموا على الرجوع واستأذنوه وتعللوا بأن بيوتنا عورة أي فيها خلل لا يأمن صاحبها السارق على متاعه والعدو على أتباعه ثم بين الله كذبهم بقوله وَمَا هِى َ بِعَوْرَة ٍ وبين قصدهم وما تكن صدورهم وهو الفرار وزوال القرار بسبب الخوف
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَة َ لاّتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً
إشارة إلى أن ذلك الفرار والرجوع ليس لحفظ البيوت لأن من يفعل فعلاً لغرض فإذا فاته الغرض لا يفعله كمن يبذل المال لكي لا يؤخذ منه بيته فإذا أخذ منه البيت لا يبذله فقال الله تعالى هم قالوا بأن رجوعنا عنك لحفظ بيوتنا ولو دخلها الأحزاب وأخذوها منهم لرجعوا أيضاً وليس رجوعهم عنك إلا بسبب كفرهم وحبهم الفتنة وقوله وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ احتمل أن يكون المراد المدينة واحتمل أن يكون البيوت وقوله وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا يحتمل أن يكون المراد الفتنة إِلاَّ يَسِيراً فإنها تزول وتكون العاقبة للمتقين ويحتمل أن يكون المراد المدينة أو البيوت أي ما تلبثوا بالمدينة إلا يسيراً فإن المؤمنين يخرجونهم
وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاٌّ دْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً

بياناً لفساد سريرتهم وقبح سيرتهم لنقضهم العهود فإنهم قبل ذلك تخلفوا وأظهروا عذراً وندماً وذكروا أن القتال لا يزال لهم قدماً ثم هددهم بقوله وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً وقوله قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ إشارة إلى أن الأمور مقدرة لا يمكن الفرار مما وقع عليه القرار وما قدره الله كائن فمن أمر بشيء إذا خالفه يبقى في ورطة العقاب آجلاً ولا ينتفع بالمخالفة عاجلاً ثم قال تعالى وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً كأنه يقول ولو فررتم منه في يومكم مع أنه غير ممكن لما دمتم بل لا تمتعون إلا قليلاً فالعاقل لا يرغب في شيء قليل مع أنه يفوت عليه شيئاً كثيراً فلا فرار لكم ولو كان لما متعتم بعد الفرار إلا قليلاً
قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُو ءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَة ً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
بياناً لما تقدم من قوله لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ وقوله وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ تقرير لقوله مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ أي ليس لكم ولي يشفع لمحبته إياكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم السوء إذا أتاكم
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً
أي الذين يثبطون المسلمين ويقولون تعالوا إلينا ولا تقاتلوا مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه وجهان أحدهما أنهم المنافقون الذين كانوا يقولون للأنصار لا تقاتلوا وأسلموا محمداً إلى قريش وثانيهما اليهود الذين كانوا يقولون لأهل المدينة تعالوا إلينا وكونوا معنا وهلم بمعنى تعال أو احضر ولا تجمع في لغة الحجاز وتجمع في غيرها فيقال للجماعة هلموا وللنساء هلمن وقوله وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً يؤيد الوجه الأول وهو أن المراد منهم المنافقون وهو يحتمل وجهين أحدهما لاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ بمعنى يتخلفون عنكم ولا يخرجون معكم وحينئذٍ قوله تعالى أَشِحَّة ً عَلَيْكُمْ أي بخلاء حيث لا ينفقون في سبيل الله شيئاً وثانيهما لا يأتون البأس بمعنى لا يقاتلون معكم ويتعللون عن الاشتغال بالقتال وقت الحضور معكم وقوله أَشِحَّة ً عَلَيْكُمْ أي بأنفسهم وأبدانهم
أَشِحَّة ً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَة ٍ حِدَادٍ أَشِحَّة ً عَلَى الْخَيْرِ أوْلَائِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً

إشارة إلى غاية جبنهم ونهاية روعهم واعلم أن البخل شبيه الجبن فلما ذكر البخل بين سببه وهو الجبن والذي يدل عليه هو أن الجبان يبخل بماله ولا ينفقه في سبيل الله لأنه لا يتوقع الظفر فلا يرجو الغنيمة فيقول هذا إنفاق لا بدل له فيتوقف فيه وأما الشجاع فيتيقن الظفر والاغتنام فيهون عليه إخراج المال في القتال طمعاً فيما هو أضعاف ذلك وأما بالنفس والبدن فكذلك فإن الجبان يخاف قرنه ويتصور الفشل فيجبن ويترك الإقدام وأما الشجاع فيحكم بالغلبة والنصر فيقدم وقوله تعالى فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم أي غلبوكم بالألسنة وآذوكم بكلامهم يقولون نحن الذين قاتلنا وبنا انتصرتم وكسرتم العدو وقهرتم ويطالبونكم بالقسم الأوفر من الغنيمة وكانوا من قبل راضين من الغنيمة بالإياب وقوله أَشِحَّة ً عَلَى الْخَيْرِ قيل الخير المال ويمكن أن يقال معناه أنهم قليلو الخير في الحالتين كثيرو الشر في الوقتين في الأول يبخلون وفي الآخر كذلك
ثم قال تعالى أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يعني لم يؤمنوا حقيقة وإن أظهروا الإيمان لفظاً فأحبط الله أعمالهم التي كانوا يأتون بها مع المسلمين وقوله وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً إشارة إلى ما يكون في نظر الناظر كما في قوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 ) وذلك لأن الإحباط إعدام وإهدار وإعدام الأجسام إذا نظر الناظر يقول الجسم بتفريق أجزائه فإن من أحرق شيئاً يبقى منه رماد وذلك لأن الرماد إن فرقته الريح يبقى منه ذرات وهذا مذهب بعض الناس والحق هو أن الله يعدم الأجسام ويعيد ما يشاء منها وأما العمل فهو في العين معدوم وإن كان يبقى يبقى بحكمه وآثاره فإذا لم يكن له فائدة واعتبار فهو معدوم حقيقة وحكماً فالعمل إذا لم يعتبر فهو معدوم في الحقيقة بخلاف الجسم
يَحْسَبُونَ الاٌّ حْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ الاٌّ حْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الاٌّ عْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاٌّ خِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً
أي من غاية الجبن عند ذهابهم كانوا يخافونهم وعند مجيئهم كانوا يودون لو كانوا في البوادي ولا يكونون بين المقاتلين مع أنهم عند حضورهم كأنهم غائبون حيث لا يقاتلون كما قال تعالى وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً

وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الاٌّ حْزَابَ قَالُواْ هَاذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً
لما بين حال المنافقين ذكر حال المؤمنين وهو أنهم قالوا هذا ما وعدنا الله من الابتلاء ثم قالوا وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ في مقابلة قولهم مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ( الأحزاب 12 ) وقولهم وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ليس إشارة إلى ما وقع فإنهم كانوا يعرفون صدق الله قبل الوقوع وإنما هي إشارة إلى بشارة وهو أنهم قالوا هَاذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وقد وقع وصدق الله في جميع ما وعد فيقع الكل مثل فتح مكة وفتح الروم وفارس وقوله مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً بوقوعه وتسليماً عند وجوده
مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً لِّيَجْزِى َ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً
إشارة إلى وفائهم بعهدهم الذي عاهدوا الله أنهم لا يفارقون نبيه إلا بالموت فمنهم من قضى نحبه أي قاتل حتى قتل فوفى بنذره والنحب النذر ومنهم من هو بعد في القتال ينتظر الشهادة وفاء بالعهد وما بدلوا تبديلاً بخلاف المنافقين فإنهم قالوا لا نولي الأدبار فبدلوا قولهم وولوا أدبارهم وقوله لّيَجْزِى َ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ أي بصدق ما وعدهم في الدنيا والآخرة كما صدقوا مواعيدهم ويعذب المنافقين الذين كذبوا واخلفوا وقوله إِن شَاء ذلك فيمنعهم من الإيمان أو يتوب عليهم إن أراد وإنما قال ذلك حيث لم يكن قد حصل يأس النبي عليه الصلاة والسلام عن إيمانهم وآمن بعد ذلك ناس منهم وقوله وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً حيث ستر ذنوبهم و رَّحِيماً حيث رحمهم ورزقهم الإيمان فيكون هذا فيمن آمن بعده أو نقول وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ مع أنه كان غفوراً رحيماً لكثرة ذنبهم وقوة جرمهم ولو كان دون ذلك لغفر لهم ثم بين بعض ما جازاهم الله به على صدقهم فقال وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ أي مع غيظهم لم يشفوا صدراً ولم يحققوا أمراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ أي لم يحوجهم إلى قتال وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً غير محتاج إلى قتالهم عزيزاً قادراً على استئصال الكفار وإذلالهم
وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً

أي عاونوهم من أهل الكتاب وهم بنو قريظة من صياصيهم من قلاعهم وقذف في قلوبهم الرعب حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونسائهم للسبي فريقاً تقتلون وهم الرجال وتأسرون فريقاً وهم الصبيان والنسوان فإن قيل هل في تقديم المفعول حيث قال فريقاً تقتلون وتأخيره حيث قال وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً فائدة قلت قد أجبنا أن ما من شيء من القرآن إلا وله فوائد منها ما يظهر ومنها ما لا يظهر والذي يظهر من هذا والله أعلم أن القائل يبدأ بالأهم فالأهم والأعرف فالأعرف والأقرب فالأقرب والرجال كانوا مشهورين فكان القتل وارداً عليهم والأسرى كانوا هم النساء والصغار ولم يكونوا مشهورين والسبي والأسر أظهر من القتل لأنه يبقى فيظهر لكل أحد أنه أسير فقدم من المحلين ما هو أشهر على الفعل القائم به وما هو أشهر من الفعلين قدمه على المحل الأخفى وإن شئنا نقول بعبارة توافق المسائل النحوية فنقول قوله فَرِيقاً تَقْتُلُونَ فعل ومفعول والأصل في الجمل الفعلية تقديم الفعل على المفعول والفاعل أما أنها جملة فعلية فلأنها لو كانت إسمية لكان الواجب في فريق الرفع وكان يقول فريق منهم تقتلونهم فلما نصب كان ذلك بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره تقتلون فريقاً تقتلون والحامل على مثل هذا الكلام شدة الاهتمام ببيان المفعول وههنا كذلك لأنه تعالى لما ذكر حال الذين ظاهروهم وأنه قذف في قلوبهم الرعب فلو قال تقتلون إلى أن يسمع السامع مفعول تقتلون يكون زمان وقد يمنعه مانع فيفوته فلا يعلم أنهم هم المقتولون فأما إذا قال فريقاً مع سبق في قلوبهم الرعب إلى سمعه يستمع إلى تمام الكلام وإذا كان الأول فعلاً ومفعولاً قدم المفعول لفائدة عطف الجملة الثانية عليها على الأصل فعدم تقديم الفعل لزوال موجب التقديم إذا عرف حالهم وما يجىء بعده يكون مصروفاً إليهم ولو قال بعد ذلك وفريقاً تأسرون فمن سمع فريقاً ربما يظن أن يقال فيهم يطلقون أو لا يقدرون عليهم فكان تقديم الفعل ههنا أولى وكذلك الكلام في قوله وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم وقوله وَقَذَفَ فإن قذف الرعب قبل الإنزال لأن الرعب صار سبب الإنزال ولكن لما كان الفرح في إنزالهم أكثر قدم الإنزال على قذف الرعب والله أعلم
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيراً
فيه ترتيب على ما كان فإن المؤمنين أولاً تملكوا أرضهم بالنزول فيها والاستيلاء عليها ثم تملكوا ديارهم بالدخول عليهم وأخذ قلاعهم ثم أموالهم التي كانت في بيوتهم وقوله وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا قيل

المراد القلاع وقيل المراد الروم وأرض فارس وقيل كل ما يؤخذ إلى يوم القيامة وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيراً هذا يؤكد قول من قال إن المراد من قولهم وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا هو ما سيؤخذ بعد بني قريظة ووجهه هو أن الله تعالى لما ملكهم تلك البلاد ووعدهم بغيرها دفع استبعاد من لا يكون قوي الاتكال على الله تعالى وقال أليس الله ملككم هذه فهو على كل شيء قدير يملككم غيرها
ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لاٌّ زْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الاٌّ خِرَة َ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً
وجه التعلق هو أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله ( الصلاة وما ملكت أيمانكم ) ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ ( الأحزاب 1 ) ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة ولهذا قدمهن في النفقة وفي الآية مسائل فقهية منها أن التخيير هل كان واجباً على النبي عليه السلام أم لا فنقول التخيير قولاً كان واجباً من غير شك لأنه إبلاغ الرسالة لأن الله تعالى لما قال له قل لهم صار من الرسالة وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا والظاهر أنه للوجوب ومنها أن واحدة منهن لو اختارت الفراق هل كان يصير اختيارها فراقاً والظاهر أنه لا يصير فراقاً وإنما تبين المختارة نفسها بإبانة من جهة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لقوله تعالى فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ومنها أن واحدة منهن إن اختارت نفسها وقلنا بأنها لا تبين إلا بإنابة من جهة النبي عليه السلام فهل كان يجب على النبي عليه السلام الطلاق أم لا الظاهر نظراً إلى منصب النبي عليه السلام أنه كان يجب لأن الخلف في الوعد من النبي غير جائز بخلاف واحد منا فإنه لا يلزمه شرعاً الوفاء بما يعد ومنها أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا والظاهر أنها لا تحرم وإلا لا يكون التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنيا ومنها أن من اختارت الله ورسوله كان يحرم على النبي عليه الصلاة والسلام طلاقها أم لا الظاهر الحرمة نظراً إلى منصب الرسول عليه الصلاة والسلام على معنى أن النبي عليه السلام لا يباشره أصلاً بمعنى أنه لو أتى به لعوقب أو عوتب وفيها لطائف لفظية منها تقديم اختيار الدنيا إشارة إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام غير ملتفت إلى جانبهن غاية الالتفات وكيف وهو مشغول بعبادة ربه ومنها قوله عليه السلام وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً إشارة إلى ما ذكرنا فإن السراح الجميل مع التأذي القوي لا يجتمع في العادة فعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يتأثر من اختيارهن فراقه بدليل أن التسريح الجميل منه ومنها قوله وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ إعلاماً لهن بأن في اختيار النبي عليه السلام اختيار الله ورسوله والدار الآخرة وهذه الثلاثة هي الدين وقوله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أي لمن عمل صالحاً منكن وقوله تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الاْخِرَة َ فيه معنى الإيمان وقوله لِلْمُحْسِنَاتِ لبيان الإحسان حتى تكون الآية في المعنى كقوله تعالى وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ( لقمان 22 ) وقوله تعالى مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ( الكهف 88 ) وقوله الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( البقرة 82 ) والأجر العظيم الكبير في الذات الحسن في الصفات الباقي في الأوقات وذلك لأن العظيم في الأجسام لا يطلق إلا على الزائد في الطول وفي العرض وفي العمق حتى لو كان زائداً في الطول يقال له طويل ولو كان زائداً في العرض يقال له عريض وكذلك العميق فإذا وجدت

الأمور الثلاثة قيل عظيم فيقال جبل عظيم إذا كان عالياً ممتداً في الجهات وإن كان مرتفعاً فحسب يقال جبل عال إذا عرفت هذا فأجر الدنيا في ذاته قليل وفي صفاته غير خال عن جهة قبح لما في مأكوله من الضرر والثقل وكذلك في مشروبه وغيره من اللذات وغير دائم وأجر الآخرة كثير خال عن جهات القبح دائم فهو عظيم
يانِسَآءَ النَّبِى ِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيِّنَة ٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً
لما خيرهن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهددهن للتوقي عما يسوء النبي عليه السلام ويقبح بهن من الفاحشة التي هي أصعب على الزوج من كل ما تأتي به زوجته وأوعدهن بتضعيف العذاب وفيه حكمتان إحداهما أن زوجة الغير تعذب على الزنا بسبب ما في الزنا من المفاسد وزوجة النبي تعذب إن أتت به لذلك ولإيذاء قلبه والإزراء بمنصبه وعلى هذا بنات النبي عليه السلام كذلك ولأن امرأة لو كانت تحت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأتت بفاحشة تكون قد اختارت غير النبي عليه السلام ويكون ذلك الغير خيراً عندها من النبي وأولى والنبي أولى من النفس التي هي أولى من الغير فقد نزلت منصب النبي مرتبتين فتعذب من العذاب ضعفين ثانيتهما أن هذا إشارة إلى شرفهن لأن الحرة عذابها ضعف عذاب الأمة إظهاراً لشرفها ونسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادات إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم فكذلك زوجاته وقرائبه اللاتي هن أمهات المؤمنين وأم الشخص امرأة حاكمة عليه واجبة الطاعة وزوجته مأمورة محكومة له وتحت طاعته فصارت زوجة الغير بالنسبة إلى زوجة النبي عليه السلام كالأمة بالنسبة إلى الحرة واعلم أن قول القائل من يفعل ذلك في قوة قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ولا يقع في بعض الصور جزماً وفي بعض يقع جزماً من مات فقد استراح وفي البعض يتردد السامع في الأمرين فقوله تعالى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة ٍ عندنا من القبيل الأول فإن الأنبياء صان الله زوجاتهم عن الفاحشة وقوله تعالى وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي ليس كونكن تحت النبي عليه السلام وكونكن شريفات جليلات مما يدفع العذاب عنكن وليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهم وأعوانهم أو شفعائهم وإخوانهم
وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً
قوله تعالى وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً بياناً لزيادة ثوابهن كما بين زيادة عقابهن نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ في مقابلة قوله تعالى يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ مع لطيفة وهي أن عند إيتاء

الأجر ذكر المؤتي وهو الله وعند العذاب لم يصرح بالمعذب فقال يُضَاعِفُ إشارة إلى كمال الرحمة والكرم كما أن الكريم الحي عند النفع يظهر نفسه وفعله وعند الضر لا يذكر نفسه وقوله تعالى وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً وصف رزق الآخرة بكونه كريماً مع أن الكريم لا يكون إلا وصفاً للرزاق إشارة إلى معنى لطيف وهو أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس التاجر يسترزق من السوقة والمعاملين والصناع من المستعملين والملوك من الرعية والرعية منهم فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه وإنما هو مسخر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار وأما في الآخرة فلا يكون له مرسل وممسك في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرزاق وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق
يانِسَآءَ النَّبِى ِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
ثم قال تعالى كَرِيماً يانِسَاء النَّبِى ّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء لما ذكر أن عذابهن ضعف عذاب غيرهن وأجرهن مثلاً أجر غيرهن صرن كالحرائر بالنسبة إلى الإماء فقال لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ ومعنى قول القائل ليس فلان كآحاد الناس يعني ليس فيه مجرد كونه إنساناً بل وصف أخص موجود فيه وهو كونه عالماً أو عاملاً أو نسيباً أو حسيباً فإن الوصف الأخص إذا وجد لا يبقى التعريف بالأعم فإن من عرف رجلاً ولم يعرف منه غير كونه رجلاً يقول رأيت رجلاً فإن عرف علمه يقول رأيت زيداً أو عمراً فكذلك قوله تعالى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء يعني فيكن غير ذلك أمر لا يوجد في غيركن وهو كونكن أمهات جميع المؤمنين وزوجات خير المرسلين وكما أن محمداً عليه السلام ليس كأحد من الرجال كما قال عليه السلام ( لست كأحدكم ) كذلك قرائبه اللاتي يشرفن به وبين الزوجين نوع من الكفاءة
ثم قوله تعالى إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون متعلقاً بما قبله على معنى لستن كأحد إن اتقيتن فإن الأكرم عند الله هو الأتقى وثانيهما أن يكون متعلقاً بما بعده على معنى إن اتقيتن فلا تخضعن والله تعالى لما منعهن من الفاحشة وهي الفعل القبيح منعهن من مقدماتها وهي المحادثة مع الرجال والانقياد في الكلام للفاسق ثم قوله تعالى فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ أي فسق وقوله تعالى وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً أي ذكر الله وما تحتجن إليه من الكلام والله تعالى لما قال فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ذكر بعده وَقُلْنَ إشارة إلى أن ذلك ليس أمراً بالإيذاء والمنكر بل القول المعروف وعند الحاجة هو المأمور به لا غيره
وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّة ِ الاٍّ ولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَواة َ وَءَاتِينَ الزَّكَواة َ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً

قوله تعالى وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ من القرار وإسقاط أحد حرفي التضعيف كما قال تعالى فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ وقيل بأنه من الوقار كما يقال وعد يعد عد وقول وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّة ِ الاْولَى قيل معناه لا تتكسرن ولا تتغنجن ويحتمل أن يكون المراد لا تظهرن زينتكن وقوله تعالى الْجَاهِلِيَّة ِ الاْولَى فيه وجهان أحدهما أن المراد من كان في زمن نوح والجاهلية الأخرى من كان بعده وثانيهما أن هذه ليست أولى تقتضي أخرى بل معناه تبرج الجاهلية القديمة كقول القائل أين الأكاسرة الجبابرة الأولى
ثم قال تعالى وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّة ِ يعني ليس التكليف في النهي فقط حتى يحصل بقوله تعالى لا تَخْضَعْنَ وَلاَ تَبَرَّجْنَ بل فيه وفي الأوامر إِلَى الصَّلَواة ِ التي هي ترك التشبه بالجبار المتكبر وَقَرْنَ فِى التي هي تشبه بالكريم الرحيم وَأَطِعْنَ اللَّهَ أي ليس التكليف منحصراً في المذكور بل كل ما أمر الله به فأتين به وكل ما نهى الله عنه فانتهين عنه
ثم قال تعالى إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً
يعني ليس المنتفع بتكليفكن هو الله ولا تنفعن الله فيما تأتين به وإنما نفعه لكن وأمره تعالى إياكن لمصلحتكن وقوله تعالى لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ فيه لطيفة وهي أن الرجس قد يزول عيناً ولا يطهر المحل فقوله تعالى لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أي يزيل عنكم الذنوب ويطهركم أي يلبسكم خلع الكرامة ثم إن الله تعالى ترك خطاب المؤنثات وخاطب بخطاب المذكرين بقوله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ ليدخل فيه نساء أهل بيته ورجالهم واختلفت الأقوال في أهل البيت والأولى أن يقال هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعلي منهم لأنه كان من أهل بيته بسبب معاشرته ببنت النبي عليه السلام وملازمته للنبي

وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَة ِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً
ثم قال تعالى وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَة ِ أي القرآن وَالْحِكْمَة ِ أي كلمات النبي عليه السلام إشارة إلى ما ذكرنا من أن التكاليف غير منحصرة في الصلاة والزكاة وما ذكر الله في هذه الآية فقال وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى ليعلمن الواجبات كلها فيأتين بها والمحرمات بأسرها فينتهين عنها
( وقوله ) إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً إشارة إلى أنه خبير بالبواطن لطيف فعلمه يصل إلى كل شيء ومنه اللطيف الذي يدخل في المسام الضيقة ويخرج من المسالك المسدودة
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَة ً وَأَجْراً عَظِيماً
ثم قال تعالى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ لما أمرهن ونهاهن وبين ما يكون لهن وذكر لهن عشر مراتب الأولى الإسلام والانقياد لأمر الله والثانية الإيمان بما يرد به أمر الله فإن المكلف أولاً يقول كل ما يقوله أقبله فهذا إسلام فإذا قال الله شيئاً وقبله صدق مقالته وصحح اعتقاده فهو إيمان ثم اعتقاده يدعوه إلى الفعل الحسن والعمل الصالح فيقنت ويعبد وهو المرتبة الثالثة المذكورة بقوله وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ثم إذا آمن وعمل صالحاً كمل فيكمل غيره ويأمر بالمعروف وينصح أخاه فيصدق في كلامه عند النصيحة وهو المراد بقوله وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ ثم إن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يصيبه أذى فيصبر عليه كما قال تعالى وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ ثم إنه إذا كمل وكمل قد يفتخر بنفسه ويعجب بعبادته فمنعه منه بقوله وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ أو نقول لما ذكر هذه الحسنات أشار إلى ما يمنع منها وهو إما حب الجاه أو حب المال من الأمور الخارجية أو الشهوة من الأمور الداخلة والغضب منهما يكون لأنه يكون بسبب نقص جاه أو فوت مال أو منع من أمر مشتى فقوله وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ أي المتواضعين الذين لا يميلهم الجاه عن العبادة ثم قال تعالى وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ أي الباذلين الأموال الذين لا يكنزونها لشدة محبتهم إياها ثم قال تعالى والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ إشارة إلى الذين لا تمنعهم الشهوة البطنية من عبادة الله ثم قال تعالى وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ أي الذين لا تمنعهم الشهوة الفرجية
ثم قال تعالى وَالذكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذكِراتِ يعني هم في جميع هذه الأحوال يذكرون الله ويكون إسلامهم وإيمانهم وقنوتهم وصدقهم وصبرهم وخشوعهم وصدقتهم وصومهم بنية صادقة لله واعلم أن الله تعالى في أكثر المواضع حيث ذكر الذكر قرنه بالكثرة ههنا وفي قوله بعد هذا عَلِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ( الأحزاب 41 ) وقال من قبل لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ( الأحزاب 21 ) لأن الإكثار من الأفعال البدنية غير ممكن أو عسر فإن الإنسان أكله وشربه وتحصيل مأكوله ومسروبه يمنعه من أن يشتغل دائماً بالصلاة ولكن لا مانع له من أن يذكر الله تعالى وهو آكل ويذكره وهو شارب أو ماش أو بائع أو شار وإلى هذا أشار بقوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ( آل عمران 191 ) ولأن جميع الأعمال بذكر الله تعالى وهي النية
ثم قال تعالى أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَة ً تمحو ذنوبهم وقوله وَأَجْراً عَظِيماً ذكرناه فيما تقدم
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَة ٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَة ُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً
قيل بأن الآية نزلت في زينب حيث أراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تزويجها من زيد بن حارثة فكرهت إلا النبي عليه

السلام وكذلك أخوها امتنع فنزلت الآية فرضيا به والوجه أن يقال إن الله تعالى لما أمر نبيه بأن يقول لزوجاته إنهن مخيرات فهم منه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يريد ضرر الغير فمن كان ميله إلى شيء يمكنه النبي عليه السلام من ذلك ويترك النبي عليه السلام حق نفسه لحظ غيره فقال في هذه الآية لا ينبغي أن يظن ظان أن هوى نفسه متبعه وأن زمام الاختيار بيد الإنسان كما في الزوجات بل ليس لمؤمن ولا مؤمنة أن يكون له اختيار عند حكم الله ورسوله فما أمر الله هو المتبع وما أراد النبي هو الحق ومن خالفهما في شيء فقد ضل ضلالاً مبيناً لأن الله هو المقصد والنبي هو الهادي الموصل فمن ترك المقصد ولم يسمع قول الهادي فهو ضال قطعاً
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَى ْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً
وهو زيد أنعم الله عليه بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالتحرير والإعتاق أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ همَّ زيد بطلاق زينب فقال له النبي أمسك أي لا تطلقها وَاتَّقِ اللَّهَ قيل في الطلاق وقيل في الشكوى من زينب فإن زيداً قال فيها إنها تتكبر علي بسبب النسب وعدم الكفاءة وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ من أنك تريد التزوج بزينب بِرَبّ النَّاسِ من أن يقولوا أخذ زوجة الغير أو الإبن وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ليس إشارة إلى أن النبي خشي الناس ولم يخش الله بل المعنى الله أحق أن تخشاه وحده ولا تخش أحداً معه وأنت تخشاه وتخشى الناس أيضاً فاجعل الخشية له وحده كما قال تعالى الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ ( الأحزاب )
ثم قال تعالى فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا أي لما طلقها زيد وانقضت عدتها وذلك لأن الزوجة ما دامت في نكاح الزوج فهي تدفع حاجته وهو محتاج إليها فلم يقض منها الوطر بالكلية ولم يستغن وكذلك إذا كان في العده له بها تعلق لإمكان شغل الرحم فلم يقض منها بعد وطره وأما إذا طلق وانقضت عدتها استغنى عنها ولم يبق له معها تعلق فيقضي منها الوطر وهذا موافق لما في الشرع لأن التزوج بزوجة الغير أو بمعتدته لا يجوز فلهذا قال فَلَمَّا قَضَى وكذلك قوله لِكَى ْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً

أي إذا طلقوهن وانقضت عدتهن وفيه إشارة إلى أن التزويج من النبي عليه السلام لم يكن لقضاء شهوة النبي عليه السلام بل لبيان الشريعة بفعله فإن الشرع يستفاد من فعل النبي وقوله وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً أي مقضياً ما قضاه كائن
ثم بين أن تزوجه عليه السلام بها مع أنه كان مبيناً لشرع مشتمل على فائدة كان خالياً من المفاسد فقال
مَّا كَانَ عَلَى النَّبِى ِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّة َ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً
مَّا كَانَ عَلَى النَّبِى ّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّة َ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ يعني كان شرع من تقدمه كذلك كان يتزوج الأنبياء بنسوة كثيرة أبكار ومطلقات الغير وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً أي كل شيء بقضاء وقدر والقدر التقدير وبين المفعول والمقدور فرق مقول بين القضاء والقدر فالقضاء ما كان مقصوداً في الأصل والقدر ما يكون تابعاً له مثاله من كان يقصد مدينة فنزل بطريق تلك المدينة بخان أو قرية يصح منه في العرف أن يقول في جواب من يقول لم جثت إلى هذه القرية إني ما جئت إلى هذه وإنما قصدت المدينة الفلانية وهذه وقعت في طريقي وإن كان قد جاءها ودخلها وإذا عرفت هذا فإن الخير كله بقضاء وما في العالم من الضرر بقدر فالله تعالى خلق المكلف بحيث يشتهي ويغضب ليكون اجتهاده في تغليب العقل والدين عليهما مثاباً عليه بأبلغ وجه فأفضى ذلك في البعض إلى أن زنى وقتل فالله لم يخلقهما فيه مقصوداً منه القتل والزنا وإن كان ذلك بقدر الله إذا علمت هذا ففي قوله تعالى أولا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً وقوله ثانياً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً لطيفة وهي أنه تعالى لما قال زَوَّجْنَاكَهَا قال وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً أي تزويجنا زينب إياك كان مقصوداً متبوعاً مقضياً مراعى ولما قال سُنَّة َ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ إشارة إلى قصة داود عليه السلام حيث افتتن بامرأة أوريا قال وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً أي كان ذلك حكماً تبعياً فلو قال قائل هذا قول المعتزلة بالتوليد والفلاسفة بوجوب كون الأشياء على وجوه مثل كون النار تحرق حيث قالوا الله تعالى أراد أن يخلق ما ينضج الأشياء وهو لا يكون إلا محرقاً بالطبع فخلق النار للنفع فوقع اتفاق أسباب أوجبت احتراق دار زيد أو دار عمرو فنقول معاذ الله أن نقول بأن الله غير مختار في أفعاله أو يقع شيء لا باختياره ولكن أهل السنة يقولون أجرى الله عادته بكذا أي وله أن يخلق النار بحيث عند حاجة إنضاج اللحم تنضج وعند مساس ثوب العجوز لا تحرق ألا ترى أنها لم تحرق إبراهيم عليه السلام مع قوتها وكثرتها لكن خلقها على غير ذلك الوجه بمحض إرادته أو لحكمة خفية ولا يسأل عما يفعل فنقول ما كان في مجرى عادته تعالى على وجه تدركه العقول البشرية نقول بقضاء وما يكون على وجه يقع لعقل قاصر أن يقول لم كان ولماذا لم يكن على خلافه نقول بقدر ثم بين الذين خلوا بقوله
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً
يعني كانوا هم أيضاً مثلك رسلا ثم ذكره بحالهم أنهم جردوا الخشية ووحدوها بقوله وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ فصار كقوله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) وقوله وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً أي محاسباً فلا تخش غيره أو محسوباً فلا تلتفت إلى غيره ولا تجعله في حسابك

مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيماً
لما بين الله ما في تزوج النبي عليه السلام بزينب من الفوائد بين أنه كان خالياً من وجوه المفاسد وذلك لأن ما كان يتوهم من المفسدة كان منحصراً في التزوج بزوجة الابن فإنه غير جائز فقال الله تعالى إن زيداً لم يكن ابناً له لا بل أحد الرجال لم يكن ابن محمد فإن قائل النبي كان أبا أحد من الرجال لأن الرجل اسم الذكر من أولاد آدم قال تعالى وَإِن كَانُواْ إِخْوَة ً رّجَالاً وَنِسَاء ( النساء 176 ) والصبي داخل فيه فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن الرجل في الاستعمال يدخل في مفهومه الكبر والبلوغ ولم يكن للنبي عليه السلام ابن كبير يقال إنه رجل والثاني هو أنه تعالى قال مّن رّجَالِكُمْ ووقت الخطاب لم يكن له ولد ذكر ثم إنه تعالى لما نفى كونه أباً عقبه بما يدل على ثبوت ما هو في حكم الأبوة من بعض الوجوه فقال وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ فإن رسول الله كالأب للأمة في الشفقة من جانبه وفي التعظيم من طرفهم بل أقوى فإن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم والأب ليس كذلك ثم بين ما يفيد زيادة الشفقة من جانبه والتعظيم من جهتهم بقوله وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ وذلك لأن النبي الذي يكون بعده نبي إن ترك شيئاً من النصيحة والبيان يستدركه من يأتي بعده وأما من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم وأجدى إذ هو كوالد لولده الذي ليس له غيره من أحد وقوله وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء عَلِيماً يعني علمه بكل شيء دخل فيه أن لا نبي بعده فعلم أن من الحكمة إكمال شرع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بتزوجه بزوجة دعيه تكميلاً للشرع وذلك من حيث إن قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يفيد شرعاً لكن إذا امتنع هو عنه يبقى في بعض النفوس نفرة ألا ترى أنه ذكر بقوله ما فهم منه حل أكل الضب ثم لما لم يأكله بقي في النفوس شيء ولما أكل لحم الجمل طاب أكله مع أنه في بعض الملل لا يؤكل وكذلك الأرنب
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن السورة أصلها ومبناها على تأديب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقد ذكرنا أن الله تعالى بدأ بذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبي عليه السلام مع الله وهو التقوى وذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبي عليه السلام مع أهله وأقاربه بقوله قَدِيراً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لاْزْواجِكَ ( الأحزاب 28 ) والله تعالى يأمر عباده المؤمنين بما يأمر به أنبياءه المرسلين فأرشد عباده كما أدب نبيه وبدأ بما يتعلق بجانبه من التعظيم فقال عَلِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً كما قال لنبيه مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ ( الأحزاب 1 )
ثم ههنا لطيفة وهي أن المؤمن قد ينسى ذكر الله فأمر بدوام الذكر أما النبي لكونه من المقربين لا ينسى ولكن قد يغتر المقرب من الملك بقربه منه فيقل خوفه فقال اتَّقِ اللَّهَ فإن المخلص على خطر عظيم وحسنة الأولياء سيئة الأنبياء وقوله ذِكْراً كَثِيراً قد ذكرنا أن الله في كثير من المواضع لما ذكر وصفه بالكثرة إذ لا مانع من الذكر على ما بينا

وَسَبِّحُوهُ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً
أي إذا ذكرتموه فينبغي أن يكون ذكركم إياه على وجه التعظيم والتنزيه عن كل سوء وهو المراد بالتسبيح وقيل المراد منه الصلاة وقيل للصلاة تسبيحه بكرة وأصيلاً إشارة إلى المداومة وذلك لأن مريد العموم قد يذكر الطرفين ويفهم منهما الوسط كقوله عليه السلام ( لو أن أولكم وآخركم ) ولم يذكر وسطكم ففهم منه المبالغة في العموم
هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً
يعني هو يصلي عليكم ويرحمكم وأنتم لا تذكرونه فذكر صلاته تحريضاً للمؤمنين على الذكر والتسبيح لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ يعني يهديكم برحمته والصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار فقيل بأن اللفظ المشترك يجوز استعماله في معنييه معاً وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ جائز وينسب هذا القول إلى الشافعي رضي الله عنه وهو غير بعيد فإن أريد تقريبه بحيث يصير في غاية القرب نقول الرحمة والاستغفار يشتركان في العناية بحال المرحوم والمستغفر له والمراد هو القدر المشترك فتكون الدلالة تضمنية لكون العناية جزأ منهما كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً بشارة لجميع المؤمنين وإشارة إلى أن قوله يُصَلّى عَلَيْكُمْ غير مختص بالسامعين وقت الوحي
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً
ثم قال تعالى تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ لما بين الله عنايته في الأولى بين عنايته في الآخرة وذكر السلام لأنه هو الدليل على الخيرات فإن من لقي غيره وسلم عليه دل على المصافاة بينهما وإن لم يسلم دل على المنافاة وقوله يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي يوم القيامة وذلك لأن الإنسان في دنياه غير مقبل بكليته على الله وكيف وهو حالة نومه غافل عنه وفي أكثر أوقاته مشغول بتحصيل رزقه وأما في الآخرة فلا شغل لأحد يلهيه عن ذكر الله فهو حقيقة اللقاء
ثم قال تعالى وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً لو قائل قائل الإعداد إنما يكون ممن لا يقدر عند الحاجة إلى الشيء عليه وأما الله تعالى فلا حاجة ولا عجز فحيث يلقاه الله يؤتيه ما يرضى به وزيادة فما معنى الاعداد من قبل فنقول الإعداد للإكرام لا للحاجة وهذا كما أن الملك إذا قيل له فلان واصل فإذا أراد إكرامه يهيىء له بيتاً وأنواعاً من الإكرام ولا يقول بأنه إذا وصل نفتح باب الخزانة ونؤتيه ما يرضيه فكذلك الله لكمال الإكرام أعد للذاكر أجراً كريماً والكريم قد ذكرناه في الرزق أي أعد له أجراً يأتيه من غير طلبه بخلاف الدنيا فإنه يطلب الرزق ألف مرة ولا يأتيه إلا بقدر وقوله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ مناسب لحالهم لأنهم لما ذكروا الله في دنياهم حصل لهم معرفة ولما سبحوه تأكدت المعرفة حيث عرفوه كما ينبغي بصفات الجلال ونعوت الكمال والله يعلم حالهم في الدنيا فأحسن إليهم بالرحمة كما قال تعالى هُوَ الَّذِى يُصَلّى عَلَيْكُمْ وقال وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً

( الأحزاب 43 ) والمتعارفان إذا التقيا وكان أحدهما شفيقاً بالآخر والآخر معظماً له غاية التعظيم لا يتحقق بينهما إلا السلام وأنواع الإكرام
ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً
قد ذكرنا أن السورة فيها تأديب للنبي عليه السلام من ربه فقوله في ابتدائها مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ اشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع ربه وقوله قَدِيراً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لاْزْواجِكَ إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع أهله وقوله كَرِيماً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع عامة الخلق وقوله تعالى شَاهِداً يحتمل وجوهاً أحدهما أنه شاهد على الخلق يوم القيامة كما قال تعالى وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقر 143 ) وعلى هذا فالنبي بعث شاهداً أي متحملاً للشهادة ويكون في الآخرة شهيداً أي مؤدياً لما تحمله ثانيها أنه شاهد أن لا إله إلا الله وعلى هذا لطيفة وهو أن الله جعل النبي شاهداً على الوحدانية والشاهد لا يكون مدعياً فالله تعالى لم يجعل النبي في مسئلة الوحدانية مدعياً لها لأن المدعى من يقول شيئاً على خلاف الظاهر والوحدانية أظهر من الشمس والنبي عليه السلام كان ادعى النبوة فجعل الله نفسه شاهداً له في مجازاة كونه شاهداً لله فقال تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ( المنافقون 1 ) وثالثها أنه شاهد في الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط وشاهد في الآخرة بأحوال الدنيا بالطاعة والمعصية والصلاح والفساد وقوله وَمُبَشّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً فيه ترتيب حسن وذلك من حيث إن النبي عليه السلام أرسل شاهداً بقوله لا إله إلا الله ويرغب في ذلك بالبشارة فإن لم يكف ذلك يرهب بالإندار ثم لا يكتفي بقولهم لا إله إلا الله بل يدعوهم إلى سبيل الله كما قال تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ ( النحل 125 ) وقوله وَسِرَاجاً مُّنِيراً أي مبرهناً على ما يقول مظهراً له بأوضح الحجج وهو المراد بقوله تعالى بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 )
وفيه لطائف إحداها قوله تعالى وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ حيث لم يقل وشاهداً باذنه ومبشراً وعند الدعاء قال وداعياً باذنه وذلك لأن من يقول عن ملك إنه ملك الدنيا لا غيره لا يحتاج فيه إلى إذن منه فإنه وصفه بما فيه وكذلك إذا قال من يطيعه يسعد ومن يعصه يشقى يكون مبشراً ونذيراً ولا يحتاج إلى إذن من الملك في ذلك وأما إذا قال تعالوا إلى سماطه واحضروا على خوانه يحتاج فيه إلى إذنه فقال تعالى وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ ووجه آخر وهو أن النبي يقول إني أدعو إلى الله والولي يدعو إلى الله والأول لا إذن له فيه من أحد والثاني مأذون من جهة النبي عليه السلام كما قال تعالى قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى ادْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة ٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى ( يوسف 108 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( رحم الله عبداً سمع مقالتي فأداها كما سمعها ) والنبي عليه السلام هو المأذون من الله في الدعاء إليه من غير واسطة
اللطيفة الثانية قال في حق النبي عليه السلام سراجاً ولم يقل إنه شمس مع أنه أشد إضاءة من السراج لفوائد منها أن الشمس نورها لا يؤخذ منه شيء والسراج يؤخذ منه أنوار كثيرة فإذا انطفأ الأول يبقى الذي أخذ منه وكذلك إن غاب والنبي عليه السلام كان كذلك إذ كل صحابي أخذ منه نور الهداية كما قال عليه السلام ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) وفي الخبر لطيفة وإن كانت ليست من التفسير ولكن الكلام يجر الكلام وهي أن النبي عليه السلام لم يجعل أصحابه كالسرج وجعلهم كالنجوم لأن النجم لا يؤخذ منه نور بل له في نفسه نور إذا غرب هو لا يبقى نور مستفاد منه وكذلك الصحابي إذا مات فالتابعي يستنير بنو النبي

عليه السلام ولا يأخذ منه إلا قول النبي عليه السلام وفعله فأنوار المجتهدين كلهم من النبي عليه السلام ولم جعلهم كالسرج والنبي عليه السلام أيضاً سراج كان للمجتهد أن يستنير بمن أراد منهم ويأخذ النور ممن اختار وليس كذلك فإن مع نص النبي عليه السلام لا يعمل بقول الصحابي فيؤخذ من النبي النور ولا يؤخذ من الصحابي فلم يجعله سراجاً وهذا يوجب ضعفاً في حديث سراج الأمة والمحدثون ذكروه وفي تفسير السراج وجه آخر وهو أن المراد منه القرآن وتقديره إنا أرسلناك وسراجاً منيراً عطفاً على محل الكاف أي وأرسلنا سراجاً منيراً وعلى قولنا إنه عطف على مبشراً ونذيراً يكون معناه وذا سراج لأن الحال لا يكون إلا وصفاً للفاعل أو المفعول والسراج ليس وصفاً لأن النبي عليه السلام لم يكن سراجاً حقيقة أو يكون كقول القائل رأيته أسداً أي شجاعاً فقوله سراجاً أي هادياً مبيناً كالسراج يرى الطريق ويبين الأمر
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً
وقوله تعالى وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ عطف على مفهوم تقديره إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً فاشهد وبشر ولم يذكر فاشهد للاستغناء عنه وأما البشارة فإنها ذكرت إبانة للكرم ولأنها غير واجبة لولا الأمر وقوله تعالى بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ اللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً هو مثل قوله وَأَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَة ً وَأَجْراً عَظِيماً ( الأحزاب 35 ) فالعظيم والكبير متقاربان وكونه من الله كبير فكيف إذا كان مع ذلك كبارة أخرى
وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً
إشارة إلى الإنذار يعني خالفهم وورد عليهم وعلى هذا فقوله تعالى وَدَعْ أَذَاهُمْ أي دعه إلى الله فإنه يعذبهم بأيديكم وبالنار ويبين هذا قوله تعالى وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً أي الله كاف عبده قال بعض المعتزلة لا يجوز تسمية الله بالوكيل لأن الوكيل أدون من الموكل وقوله تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً حجة عليه وشبهته واهية من حيث إن الوكيل قد يوكل للترفع وقد يوكل للعجز والله وكيل عباده لعجزهم عن التصرف وقوله تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً يتبين إذا نظرت في الأمور التي لأجلها لا يكفى الوكيل الواحد منها أن لا يكون قوياً قادراً على العمل كالملك الكثير الأشغال يحتاج إلى وكلاء لعجز الواحد عن القيام بحميع أشغاله ومنها أن لا يكون عالماً بما فيه التوكيل ومنها أن لا يكون غنياً والله تعالى عالم قادر وغير محتاج فكيفي وكيلاً
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّة ٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى في هذه السورة ذكر مكارم الأخلاق وأدب نبيه على ما

ذكرناه لكن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه المرسل فكلما ذكر للنبي مكرمة وعلمه أدباً ذكر للمؤمنين ما يناسبه فكما بدأ الله في تأديب النبي عليه الصلاة والسلام بذكر ما يتعلق بجانب الله بقوله مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ ( الأحزاب 1 ) وثنى بما يتعلق بجانب من تحت يده من أزواجه بقوله بعد قَدِيراً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لاْزْواجِكَ ( الأحزاب 28 ) وثلث بما يتعلق بجانب العامة بقوله كَرِيماً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ( الأحزاب 45 ) كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله فقال عَلِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ( الأحزاب 41 ) ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله وَكِيلاً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثم كما ثلث في تأديب النبي بجانب الأمة ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بجانب نبيهم فقال بعد هذا رَّقِيباً يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ّ ( الأحزاب 53 ) وبقوله النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ ( الأحزاب 56 ) وفي الآية مسائل
المسألة الأولى إذا كان الأمر على ما ذكرت من أن هذا إرشاد إلى ما يتعلق بجانب من هو من خواص المرء فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس بالذكر فنقول هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها وبيانه هو أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكد العهد ولهذا قال الله تعالى في حق الممسوسة وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقاً غَلِيظاً ( النساء 21 ) وإذا أمر الله بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينها فما ظنك بمن حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما والقرآن في الحجم صغير ولكن لو استنبطت معانيه لا تفى بها الأقلام ولا تكفي لها الأوراق وهذا مثل قوله تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ( الإسراء 23 ) لو قال لا تضربهما أو لا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى مختص بالضرب أو الشتم أما إذا قال لا تقل لهما أف علم منه معان كثيرة وكذلك ههنا لما أمر بالإحسان مع من لا مودة معها علم منه الإحسان مع الممسوسة ومن لم تطلق بعد ومن ولدت عنده منه
وقوله إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ التخصيص بالذكر إرشاد إلى أن المؤمن ينبغي أن ينكح المؤمنة فإنها أشد تحصيناً لدينه وقوله ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ يمكن التمسك به في أن تعليق الطلاق بالنكاح لا يصح لأن التطليق حينئذ لا يكون إلا بعد النكاح والله تعالى ذكره بكلمة ثم وهي للتراخي وقوله فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّة ٍ بين أن العدة حق الزوج فيها غالب وإن كان لا يسقط بإسقاطه لما فيه من حق الله تعالى وقوله تَعْتَدُّونَهَا أي تستوفون أنتم عددها فَمَتّعُوهُنَّ قيل بأنه مختص بالمفوضة التي لم يسم لها إذا طلقت قبل المسيس وجب لها المتعة وقيل بأنه عام وعلى هذا فهو أمر وجوب أو أمر ندب اختلف العلماء فيه فمنهم من قال للوجوب فيجب مع نصف المهر المتعة أيضاً ومنهم من قال للاستحباب فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء وقوله تعالى وَسَرّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً الجمال في التسريح أن لا يطالبها بما آتاها

ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللاَّتِى هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَة ً مُّؤْمِنَة ً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِى ِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِى ُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَة ً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
ذكر للنبي عليه السلام ما هو الأولى فإن الزوجة التي أوتيت مهرها أطيب قلباً من التي لم تؤت والمملوكة التي سباها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل لأنها لا يدري كيف حالها ومن هاجرت من أقارب النبي عليه السلام معه أشرف ممن لم تهاجر ومن الناس من قال بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه إعطاء المهر أولاً وذلك لأن المرأة لها الامتناع إلى أن تأخذ مهرها والنبي عليه السلام ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان كان حلالا لنا وكيف والنبي عليه السلام إذا طلب شيئاً حرم الامتناع عن المطلوب والظاهر أن الطالب في المرة الأولى إنما يكون هو الرجل لحياء المرأة فلو طلب النبي عليه السلام من المرأة التمكين قبل المهر للزم أن يجب وأن لا يجب وهذا محال ولا كذلك أحدنا وقال ويؤكد هذا قوله تعالى وَامْرَأَة ً مُّؤْمِنَة ً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِى ّ يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها وقوله تعالى إِنْ أَرَادَ النَّبِى ُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا إشارة إلى أن هبتها نفسها لا بد معها من قبول وقوله تعالى خَالِصَة ً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قال الشافعي رضي الله عنه معناه إباحة الوطء بالهبة وحصول التزوج بلفظها من خواصك وقال أبو حنيفة تلك المرأة صارت خالصة لك زوجة ومن أمهات المؤمنين لا تحل لغيرك أبداً والترجيح يمكن أن يقال بأن على هذا فالتخصيص بالواهبة لا فائدة فيه فإن أزواجه كلهن خالصات له وعلى ما ذكرنا يتبين للتخصيص فائدة وقوله قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أَزْواجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ معناه أن ما ذكرنا فرضك وحكمك مع نسائك وأما حكم أمتك فعندنا علمه ونبينه لهم وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان للنبي عليه الصلاة والسلام فإن له في النكاح خصائص ليست لغيره وكذلك في السراري وقوله تعالى لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أي تكون في فسحة من الأمر فلا يبقى لك شغل قلب فينزل الروح الأمين بالآيات على قلبك الفارغ وتبلغ رسالات ربك بجدك واجتهادك وقوله تعالى وَكَانَ اللَّهُ تَوَّاباً رَّحِيماً يغفر الذنوب جميعاً ويرحم العبيد

تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً
ثم قال تعالى تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ
لما بين أنه أحل له ما ذكرنا من الأزواج بين أنه أحل له وجوه المعاشرة بهن حتى يجتمع كيف يشاء ولا يجب عليه القسم وذلك لأن النبي عليه السلام بالنسبة إلى أمته نسبة السيد المطاع والرجل وإن لم يكن نبياً فالزوجة في ملك نكاحه والنكاح عليها رق فكيف زوجات النبي عليه السلام بالنسبة إليه فإذن هن كالمملوكات له ولا يجب القسم بين المملوكات والإرجاء التأخير والإيواء الضم وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ يعني إذا طلبت من كنت تركتها فلا جناح عليك في شيء من ذلك ومن قال بأن القسم كان واجباً مع أنه ضعيف بالنسبة إلى المفهوم من الآية قال المراد تُرْجِى مَن تَشَاء أي تؤخرهن إذا شئت إذ لا يجب القسم في الأول وللزوج أن لا ينام عند أحد منهن وإن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك فابدأ بمن شئت وتمم الدور والأول أقوى
ثم قال تعالى ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ
يعني إذا لم يجب عليك القسم وأنت لا تترك القسم تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ لتسويتك بينهن ولا يحزن بخلاف ما لو وجب عليك ذلك فليلة تكون عند إحداهن تقول ما جاءني لهوى قلبه إنما جاءني لأمر الله وإيجابه عليه وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءاتَيْتَهُنَّ من الإرجاء والإيواء إذ ليس لهن عليك شيء حتى لا يرضين
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً
أي إن أضمرن خلاف ما أظهرن فالله يعلم ضمائر القلوب فإنه عليم فإن لم يعاتبهن في الحال فلا يغتررن فإنه حليم لا يعجل
لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ رَّقِيباً
لما لم يوجب الله على نبيه القسم وأمره بتخييرهن فاخترن الله ورسوله ذكر لهن ما جازاهن به من تحريم غيرهن على النبي عليه السلام ومنعه من طلاقهن بقوله وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله لاَّ يَحِلُّ لَكَ النّسَاء مِن بَعْدُ قال المفسرون من بعدهن والأولى أن يقال لا يحل لك النساء من بعد اختيارهن الله ورسوله ورضاهن بما يؤتيهن من الوصل والهجران والنقص والحرمان
المسألة الثانية قوله وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ يفيد حرمة طلاقهن إذ لو كان جائزاً لجاز أن يطلق الكل وبعدهن إما أن يتزوج بغيرهن أولا يتزوج فإن لم يتزوج يدخل في زمرة العزاب والنكاح فضيلة لا يتركها النبي وكيف وهو يقول ( النكاح سنتي ) وإن تزوج بغيرهن يكون قد تبدل بهن وهو ممنوع من التبدل

المسألة الثالثة من المفسرين من قال بأن الآية ليس فيها تحريم غيرهن ولا المنع من طلاقهن بل المعنى أن لا يحل لك النساء غير اللاتي ذكرنا لك من المؤمنات المهاجرات من بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك وأما غيرهن من الكتابيات فلا يحل لك التزوج بهن وقوله وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ منع من شغل الجاهلية فإنهم كانوا يبادلون زوجة بزوجة فينزل أحدهم عن زوجته وبأخذ زوجة صديقه ويعطيه زوجته وعلى التفسيرين وقع خلاف في مسألتين إحداهما حرمة طلاق زوجاته والثانية حرمة تزوجه بالكتابيات فمن فسر على الأول حرم الطلاق ومن فسر على الثاني حرم التزوج بالكتابيات
المسألة الرابعة قوله وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ أي حسن النساء قال الزمخشري قوله وَلَوْ أَعْجَبَكَ في معنى الحال ولا يجوز أن يكون ذو الحال قوله مِنْ أَزْوَاجٍ لغاية التنكير فيه ولكون ذي الحال لا يحسن أن يكون نكرة فإذن هو النبي عليه السلام يعني لا يحل لك النساء ولا أن تبدل بهن من أزواج وأنت معجب بحسنهن
المسألة الخامسة ظاهر هذا ناسخ لما كان قد ثبت له عليه السلام من أنه إذا رأى واحدة فوقعت في قلبه موقعاً كانت تحرم على الزوج ويجب عليه طلاقها وهذه المسألة حكمية وهي أن النبي عليه السلام وسائر الأنبياء في أول النبوة تشتد عليهم برحاء الوحي ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم يتحدثون مع أصحابهم لا يمنعهم من ذلك مانع ففي أول الأمر أحل الله من وقع في قلبه تفريغاً لقلبه وتوسيعاً لصدره لئلا يكون مشغول القلب بغير الله ثم لما استأنس بالوحي وبمن على لسانه الوحي نسخ ذلك إما لقوته عليه السلام للجمع بين الأمرين وإما أنه بدوام الإنزال لم يبق له مألوف من أمور الدنيا فلم يبق له التفات إلى غير الله فلم يبق له حاجة إلى إحلال التزوج بمن وقع بصره عليها
المسألة السادسة اختلف العلماء في أن تحريم النساء عليه هل نسخ أم لا فقال الشافعي نسخ وقد قالت عائشة ما مات النبي إلا وأحل له النساء وعلى هذا فالناسخ قوله تعالى جَمِيلاً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْواجَكَ ( الأحزاب 50 ) إلى أن قال وَبَنَاتِ عَمّكَ وقال وَامْرَأَة ً مُّؤْمِنَة ً على قول من يقول لا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد إذ الناسخ غير متواتر إن كان خبراً
ثم قال تعالى إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ لم يحرم عليه المملوكات لأن الإيذاء لا يحصل بالمملوكة ولهذا لم يجز للرجل أن يجمع بين ضرتين في بيت لحصول التسوية بينهما وإمكان المخاصمة ويجوز أن يجمع الزوجة وجمعاً من المملوكات لعدم التساوي بينهن ولهذا لا قسم لهن على أحد
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء رَّقِيباً أي حافظاً عالماً بكل شيء قادراً عليه لأن الحفظ لا يحصل إلا بهما
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِى ِّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْى ِ مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْألُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً

ثم قال تعالى يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ
لما ذكر الله تعالى في النداء الثالث كَرِيماً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ( الأحزاب 45 ) بياناً لحاله مع أمته العامة قال للمؤمنين في هذا النداء لا تدخلوا إرشاداً لهم وبياناً لحالهم مع النبي عليه السلام من الاحترام ثم إن حال الأمة مع النبي على وجهين أحدهما في حال الخلوة والواجب هناك عدم إزعاجه وبين ذلك بقوله لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ّ وثانيهما في الملأ والواجب هناك إظهار التعظيم كما قال تعالى النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً ( الأحزاب 56 ) وقوله إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ أي لا تدخلوا بيوت النبي إلى طعام إلا أن يؤذن لكم
ثم قال تعالى وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِى ّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ
لما بين من حال النبي أنه داع إلى الله بقوله وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ قال ههنا لا تدخلوا إلا إذا دعيتم يعني كما أنكم ما دخلتم الدين إلا بدعائه فكذلك لا تدخلوا عليه إلا بعد دعائه وقوله غَيْرَ نَاظِرِينَ منصوب على الحال والعامل فيه على ما قاله الزمخشري لا تدخلوا قال وتقديره ولا تدخلوا بيوت النبي إلا مأذونين غير ناظرين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ إما أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره ولا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم فلا يكون منعاً من الدخول في غير وقت الطعام بغير الإذن وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فيكون معناه ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام فيكون الإذن مشروطاً بكونه إلى الطعام فإن لم يؤذن لكم إلى طعام فلا يجوز الدخول فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام لا يجوز نقول المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدخول وأما قوله فلا يجوز إلا بالإذن الذي إلى طعام نقول قال الزمخشري الخطاب مع قوم كانوا يجيئون حين الطعام ويدخلون من غير إذن فمنعوا من الدخول في وقته بغير إذن والأولى أن يقال المراد هو الثاني لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل وقوله إِلَى طَعَامٍ من باب التخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه لا سيما إذا علم أن غيره مثله فإن من جاز دخول بيته بإذنه إلى طعامه جاز دخوله إلى غير طعامه بإذنه فإن غير الطعام ممكن وجوده مع الطعام فإن من الجائز أن يتكلم معه وقتما يدعوه إلى طعام ويستقضيه في حوائجه ويعلمه مما عنده من العلوم مع زيادة الإطعام فإذا رضي بالكل فرضاه بالبعض أقرب إلى الفعل فيصير من باب وَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ( الإسراء 23 ) وقوله غَيْرَ نَاظِرِينَ يعني أنتم لا تنتظروا وقت الطعام فإنه ربما لا يتهيأ

المسألة الثانية قوله تعالى وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فيه لطيفة وهي أن العادة إذا قيل لمن كان يعتاد دخول دار من غير إذن لا تدخلها إلا بإذن يتأذى وينقطع بحيث لا يدخلها أصلاً لا بالدعاء ولا بالدعاء فقال لا تفعلوا مثل ما يفعله المستنكفون بل كونوا طائعين سامعين إذا قيل لكم لا تدخلوا لا تدخلوا وإذا قيل لكم ادخلوا فادخلوا وإناه قيل وقته وقيل استواؤه وقوله إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ يفيد الجواز وقوله وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ يفيد الوجود فقوله وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ ليس تأكيداً بل هو يفيد فائدة جديدة
المسألة الثالثة لا يشترط في الإذن التصريح به بل إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ولهذا قال إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ من غير بيان فاعل فالآذن إن كان الله أو النبي أو العقل المؤيد بالدليل جاز والنقل دال عليه حيث قال تعالى أَوْ صَدِيقِكُمْ وحد الصداقة لما ذكرنا فلو جاء أبو بكر وعلم أن لا مانع في بيت عائشة من بيوت النبي عليه السلام من تكشف أو حضور غير محرم عندها أو علم خلو الدار من الأهل أو هي محتاجة إلى إطفاء حريق فيها أو غير ذلك جاز الدخول
المسألة الرابعة قوله فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ كأن بعض الصحابة أطال المكث يوم وليمة النبي عليه السلام في عرس زينب والنبي عليه السلام لم يقل له شيئاً فوردت الآية جامعة لآداب منها المنع من إطالة المكث في بيوت الناس وفي معنى البيت موضع مباح اختاره شخص لعبادته أو اشتغاله بشغل فيأتيه أحد ويطيل المكث عنده وقوله وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ قال الزمخشري هو عطف على غَيْرَ نَاظِرِينَ مجرور ويحتمل أن يكون منصوباً عطفاً على المعنى فإن معنى قوله تعالى لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ لا تدخلوها هاجمين فعطف عليه وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ ثم إن الله تعالى بين كون ذلك أدباً وكون النبي حليماً بقوله يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى إشارة إلى أن ذلك حق وأدب وقوله كان إشارة إلى تحمل النبي عليه السلام ثم ذكر الله أدباً آخر وهو قوله يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ّ لما منع الله الناس من دخول بيوت النبي عليه السلام وكان في ذلك تعذر الوصول إلى الماعون بين أن ذلك غير ممنوع منه فليسأل وليطلب من وراء حجاب وقوله ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ يعني العين روزنة القلب فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب أما إن رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي فالقلب عند عدم الرؤية أطهر وعدم الفتنة حينئذ أظهر ثم إن الله تعالى لما علم المؤمنين الأدب أكده بما يحملهم على محافظته فقال وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وكل ما منعتم عنه مؤذ فامتنعوا عنه وقوله تعالى وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً قيل سبب نزوله أن بعض الناس قيل هو طلحة بن عبيد الله قال لئن عشت بعد محمد لأنكحن عائشة وقد ذكرنا أن اللفظ العام لا يغير معناه سبب النزول فإن المراد أن إيذاء الرسول حرام والتعرض لنسائه في حياته إيذاء فلا يجوز ثم قال لا بل ذلك غير جائز مطلقاً ثم أكد بقوله إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً أي إيذاء الرسول
إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيماً

يعني إن كنتم لا تؤذونه في الحال وتعزمون على إيذائه أو نكاح أزواجه بعده فالله عليم بذات الصدور
لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ شَهِيداً
ثم إن الله تعالى لما أنزل الحجاب استثنى المحارم بقوله لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءابَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاء إِخْوانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاء أَخَواتِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الحجاب أوجب السؤال من وراء الحجاب على الرجال فلم لم يستثن الرجال عن الجناح ولم يقل لا جناح على آبائهن فنقول قوله تعالى يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ ( الأحزاب 53 ) أمر بسدل الستر عليهن وذلك لا يكون إلا بكونهن مستورات محجوبات وكان الحجاب وجب عليهن ثم أمر الرجال بتركهن كذلك ونهوا عن هتك أستارهن فاستثنين عند الآباء والأبناء وفيه لطيفة وهي أن عند الحجاب أمر الله الرجل بالسؤال من وراء حجاب ويفهم منه كون المرأة محجوبة عن الرجل بالطريق الأولى وعند الاستثناء قال تعالى لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ عند رفع الحجاب عنهن فالرجال أولى بذلك
المسألة الثانية قدم الآباء لأن اطلاعهم على بناتهن أكثر وكيف وهم قد رأوا جميع بدن البنات في حال صغرهن ثم الأبناء ثم الإخوة وذلك ظاهر إنما الكلام في بني الإخوة حيث قدمهم الله تعالى على بني الأخوات لأن بني الأخوات آباؤهم ليسوا بمحارم إنما هم أزواج خالات أبنائهم وبني الأخوة آباؤهم محارم أيضاً ففي بني الأخوات مفسدة ما وهي أن الابن ربما يحكي خالته عند أبيه وهو ليس بمحرم ولا كذلك بنو الإخوة
المسألة الثالثة لم يذكر الله من المحارم الأعمام والأخوال فلم يقل ولا أعمامهن ولا أخوالهن لوجهين أحدهما أن ذلك علم من بني الإخوة وبني الأخوات لأن من علم أن بني الأخ للعمات محارم علم أن بنات الأخ للأعمام محارم وكذلك الحال في أمر الخال ثانيهما أن الأعمام ربما يذكرون بنات الأخ عند أبنائهم وهم غير محارم وكذلك الحال في ابن الخال
المسألة الرابعة وَلاَ نِسَائِهِنَّ مضافة إلى المؤمنات حتى لا يجوز التكشف للكافرات في وجه
المسألة الخامسة وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ هذا بعد الكل فإن المفسدة في التكشف لهم ظاهرة ومن الأئمة من قال المراد من كان دون البلوغ

ثم قوله تعالى وَاتَّقِينَ اللَّهَ عند المماليك دليل على أن التكشف لهم مشروط بشرط السلامة والعلم بعدم المحذور وقوله إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيداً في غاية الحسن في هذا الموضع وذلك لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم فقال إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض فخلوتكم مثل ملئكم بشهادة الله تعالى فاتقوا
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ِّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ لما أمر الله المؤمنين بالاستئذان وعدم النظر إلى وجوه نسائه احتراماً كمل بيان حرمته وذلك لأن حالته منحصرة في اثنتين حالة خلواته وذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ّ وحالة يكون في ملأ والملأ إما الملأ الأعلى وإما الملأ الأدنى ما في الملأ الأعلى فهو محترم فإن الله وملائكته يصلون عليه وأما في الملأ الأدنى فذلك واجب الاحترام بقوله تعالى النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الصلاة الدعاء يقال في اللغة صلى عليه أي دعا له وهذا المعنى غير معقول في حق الله تعالى فإنه لا يدعو له لأن الدعاء للغير طلب نفعه من ثالث فقال الشافعي رضي الله عنه استعمل اللفظ بمعان وقد تقدم في تفسير قوله هُوَ الَّذِى يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلَئِكَتُهُ ( الأحزاب 43 ) والذي نزيده ههنا هو أن الله تعالى قال هناك هُوَ الَّذِينَ يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلَئِكَتُهُ جعل الصلاة لله وعطف الملائكة على الله وههنا جمع نفسه وملائكته وأسند الصلاة إليهم فقال يَصِلُونَ وفيه تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام وهذا لأن إفراد الواحد بالذكر وعطف الغير عليه يوجب تفضيلاً للمذكور على المعطوف كما أن الملك إذا قال يدخل فلان وفلان أيضاً يفهم منه تقديم لا يفهم لو قال فلان وفلان يدخلان إذا علمت هذا فقال في حق النبي عليه السلام إنهم يصلون إشارة إلى أنه في الصلاة على النبي عليه السلام كالأصل وفي الصلاة على المؤمنين الله يرحمهم ثم إن الملائكة يوافقونه فهم في الصلاة على النبي عليه السلام يصلون بالإضافة كأنها واجبة عليهم أو مندوبة سواء صلى الله عليه أو لم يصل وفي المؤمنين ليس كذلك
المسألة الثانية هذا دليل على مذهب الشافعي لأن الأمر للوجوب فتجب الصلاة على النبي عليه السلام ولا تجب في غير التشهد فتجب في التشهد
المسألة الثالثة سئل النبي عليه السلام كيف نصلي عليك يا رسول الله فقال ( قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد )
المسألة الرابعة إذا صلى الله وملائكته عليه فأي حاجة إلى صلاتنا نقول الصلاة عليه ليس لحاجته إليها وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه وإنما هو لإظهار تعظيمه كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه ولا حاجة له إليه وإنما هو لإظهار تعظيمه منا شفقة علينا ليثيبنا عليه ولهذا قال عليه السلام ( من صلى علي مرة صلي الله عليه عشراً )
المسألة الخامسة لم يترك الله النبي عليه السلام تحت منة أمته بالصلاة حتى عوضهم منه بأمره بالصلاة على الأمة حيث قال وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ( التوبة 103 ) وقوله وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً أمر فيجب ولم يجب في غير الصلاة فيجب فيها وهو قولنا السلام عليك أيها النبي في التشهد وهو حجة على من

قال بعدم وجوبه وذكر المصدر للتأكيد ليكمل السلام عليه ولم يؤكد الصلاة بهذا التأكيد لأنها كانت مؤكدة بقوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً
فصل الأشياء بتبيين بعض أضدادها فبين حال مؤذي النبي ليبين فضيلة المسلم عليه واللعن أشد المحذورات لأن البعد من الله لا يرجى معه خير بخلاف التعذيب بالنار وغيره ألا ترى أن الملك إذا تغير على مملوك إن كان تأذيه غير قوي يزجره ولا يطرده ولو خير المجرم ( بين ) أن يضرب أو يطرد عندما يكون الملك في غاية العظمة والكرم يختار الضرب على الطرد ولا سيما إذا لم يكن في الدنيا ملك غير سيده وقوله فِى الدُّنُيَا وَالاْخِرَة ِ إشارة إلى بعد لا رجاء للقرب معه لأن المبعد في الدنيا يرجو القربة في الآخرة فإذا أبعد في الآخرة فقد خاب وخسر لأن الله إذا أبعده وطرده فمن الذين يقربه يوم القيامة القيامة ثم إنه تعالى لم يحصر جزاءه في الإبعاد بل أوعده بالعذاب بقوله وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكر إيذاء الله وإيذاء الرسول وذكر عقيبه أمرين اللعن والتعذيب فاللعن جزاء الله لأن من آذى الملك يبعده عن بابه إذا كان لا يأمر بعذابه والتعذيب جزاء إيذاء الرسول لأن الملك إذا آذى بعض عبيده كبير يستوفي منه قصاصه لا يقال فعلى هذا من يؤذي الله ولا يؤذي الرسول لا يعذب لأنا نقول انفكاك أحدهما على هذا الوجه عن الآخر محال لأن من آذى الله فقد آذى الرسول وأما على الوجه الآخر وهو أن من يؤذي النبي عليه السلام ولا يؤذي الله كمن عصى من غير إشراك كمن فسق أو فجر من غير ارتداد وكفر فقد آذى النبي عليه السلام غير أن الله تعالى صبور غفور رحيم فيجزيه بالعذاب ولا يلعنه بكونه يبعده عن الباب
المسألة الثانية أكد العذاب بكونه مهيناً لأن من تأذى من عبده وأمر بحبسه وضربه فإن أمر بحبسه في موضع مميز أو أمر بضربه رجلاً كبيراً يدل على أن الأمر هين وإن أمر بضربه على ملأ وحبسه بين المفسدين ينبىء عن شدة الأمر فمن آذى الله ورسوله من المخلدين في النار فيعذب عذاباً مهيناً وقوله أَعَدَّ لَهُمْ للتأكيد لأن السيد إذا عذب عبده حالة الغضب من غير إعداد يكون دون ما إذا أعد له قيداً وغلا فإن الأول يمكن أن يقال هذا أثر الغضب فإذا سكت الغضب يزول ولا كذلك الثاني
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
لما كان الله تعالى مصلياً على نبيه لم ينفك إيذاء الله عن إيذانه فإن من آذى الله فقد آذى الرسول فبين الله للمؤمنين أنكم إن أتيتم بما أمرتكم وصليتم على النبي كما صليت عليه لا ينفك إيذاؤكم عن إيذاء

الرسول فيأثم من يؤذيكم لكون إيذائكم إيذاء الرسول كما أن إيذائي إيذاؤه وبالجملة لما حصلت الصلاة من الله والملائكة والرسول والمؤمنين صار لا يكاد ينفك إيذاء أحد منهم عن إيذاء الآخر كما يكون حال الأصدقاء الصادقين في الصداقة وقوله بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ احتراز عن الأمر بالمعروف من غير عنف زائد فإن من جلد مائة على شرب الخمر أو حد أربعين على لعب النرد آذى بغير ما اكتسب أيضاً ومن جلد على الزنا أو حد الشرب لم يؤذ بغير ما اكتسب ويمكن أن يقال لم يؤذ أصلاً لأن ذلك إصلاح حال المضروب وقوله فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً البهتان هو الزور وهو لا يكون إلا في القول والإيذاء قد يكون بغير القول فمن آذى مؤمناً بالضرب أو أخذ ماله لا يكون قد احتمل بهتاناً فنقول المراد والذين يؤذون المؤمنين بالقول وهذا لأن الله تعالى أراد إظهار شرف المؤمن فلما ذكر أن من آذى الله ورسوله لعن وإيذاء الله بأن ينكر وجود الله بعد معرفة دلائل وجوده أو يشرك به من لا يبصر ولا يسمع أو من لا يقدر ولا يعلم أو من هو محتاج في وجوده إلى موجد وهو قول ذكر إيذاء المؤمن بالقول وعلى هذا خص الأنبياء بالقول بالذكر لأنه أعم وأتم وذلك لأن الإنسان لا يقدر أن يؤذي الله بما يؤلمه من ضرب أو أخذ ما يحتاج إليه فيؤذيه بالقول ولأن الفقير الغائب لا يمكن إيذاؤه بالفعل ويمكن إيذاؤه بالقول بأن يقول فيه ما يصل إليه فيتأذى والوجه الثاني في الجواب هو أن نقول قوله بعد ذلك وَإِثْماً مُّبِيناً مستدرك فكأنه قال احتمل بهتاناً إن كان بالقول وإثماً مبيناً كيفما كان الإيذاء وكيفما كان فإن الله خص الإيذاء القولي بالذكر لما بينا أنه أعم ولأنه أتم لأنه يصل إلى القلب فإن الكلام يخرج من القلب واللسان دليله ويدخل في القلب والآذان سبيله
ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لاًّزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
لما ذكر أن من يؤذي المؤمنين يحتمل بهتاناً وكان فيه منع المكلف عن إيذاء المؤمن أمر المؤمن باجتناب المواضع التي فيها التهم الموجبة للتأذي لئلا يحصل الإيذاء الممنوع منه ولما كان الإيذاء القولي مختصاً بالذكر اختص بالذكر ما هو سبب الإيذاء القولي وهو النساء فإن ذكرهن بالسوء يؤذي الرجال والنساء بخلاف ذكر الرجال فإن من ذكر امرأة بالسوء تأذت وتأذى أقاربها أكثر من تأذيها ومن ذكر رجلاً بالسوء تأذى ولا يتأذى نساؤه وكان في الجاهلية تخرج الحرة والأمة مكشوفات يتبعهن الزناة وتقع التهم فأمر الله الحرائر بالتجلبب
وقوله ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ قيل يعرفن أنهن حرائر فلا يتبعن ويمكن أن يقال المراد يعرفن أنهن لا يزنين لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة لا يطمع فيها أنها تكشف عورتها فيعرفن أنهن مستورات

لا يمكن طلب الزنا منهن وقوله وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً يغفر لكم ما قد سلف برحمته ويثيبكم على ما تأتون به راحماً عليكم
لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَة ِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً
لما ذكر حال المشرك الذي يؤذي الله ورسوله والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين ذكر حال المسر الذي يظهر الحق ويضمر الباطل وهو المنافق ولما كان المذكور من قبل أقواماً ثلاثة نظراً إلى اعتبار أمور ثلاثة وهم المؤذون الله والمؤذون الرسول والمؤذون المؤمنين ذكر من المسرين ثلاثة نظراً إلى اعتبار أمور ثلاثة أحدها المنافق الذي يؤذي الله سراً والثاني الذي قلبه مرض الذي يؤذي المؤمن باتباع نسائه والثالث المرجف الذي يؤذي النبي عليه السلام بالإرجاف بقوله غلب محمد وسيخرج من المدينة وسيؤخذ وهؤلاء وإن كانوا قوماً واحداً إلا أن لهم ثلاث اعتبارات وهذا في مقابلة قوله تعالى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( الأحزاب 35 ) حيث ذكر أصنافاً عشرة وكلهم يوجد في واحد فهم واحد بالشخص كثير بالاعتبار وقوله لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي لنسلطنك عليهم ولنخرجنهم من المدينة ثم لا يجاوزونك وتخلو المدينة منهم بالموت أو الإخراج ويحتمل أن يكون المراد لنغرينك بهم فإذا أغريناك لا يجاورونك والأول كقول القائل يخرج فلان ويقرأ إشارة إلى أمرين والثاني كقوله يخرج فلان ويدخل السوق ففي الأول يقرأ وإن لم يخرج وفي الثاني لا يدخل إلا إذا خرج والاستثناء فيه لطيفة وهي أن الله تعالى وعد النبي عليه السلام أنه يخرج أعداءه من المدينة وينفيهم على يده إظهاراً لشوكته ولو كان النفي بإرادة الله من غير واسطة النبي لأخلي المدينة عنهم في ألطف آن ( بقوله ) كن فيكون ولكن لما أراد الله أن يكون على يد النبي لا يقع ذلك إلا بزمان وإن لطف فقال ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً وهو أن يتهيؤا ويتأهبوا للخروج
مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً
أي في ذلك القليل الذي يجاورونك فيه يكونون ملعونين مطرودين من باب الله وبابك وإذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة ولا يجدون ملجأ بل أينما يكونون يطلبون ويؤخذون ويقتلون
سُنَّة َ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّة ِ اللَّهِ تَبْدِيلاً
يعني هذا ليس بدعاً بكم بل هو سنة جارية وعادة مستمرة تفعل بالمكذبين وَلَن تَجِدَ لِسُنَّة ِ اللَّهِ تَبْدِيلاً أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ

يَسْألُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَة ِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة َ تَكُونُ قَرِيباً
لما بين حالهم في الدنيا أنهم يلعنون ويهانون ويقتلون أراد أن يبين حالهم في الآخرة فذكرهم بالقيامة وذكر ما يكون لهم فيها فقال يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَة ِ أي عن وقت القيامة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ لا يتبين لكم فإن الله أخفاها لحكمة هي امتناع المكلف عن الاجتراء وخوفهم منها في كل وقت
ثم قال تعالى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة َ تَكُونُ قَرِيباً إشارة إلى التخويف وذلك لأن قول القائل الله يعلم متى يكون الأمر الفلاني ينبىء عن إبطاء الأمر ألا ترى أن من يطالب مديوناً بحقه فإن استمهله شهراً أو شهرين ربما يصبر ذلك وإن قال له اصبر إلى أن يقدم فلان من سفره يقول الله يعلم متى يجىء فلان ويمكن أن يكون مجىء فلان قبل انقضاء تلك المدة فقال ههنا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة َ تَكُونُ قَرِيباً يعني هي في علم الله فلا تستبطئوها فربما تقع عن قريب والقريب فعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث قال تعالى وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ( الأعراف 56 ) ولهذا لم يقل لعل الساعة تكون قريبة
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً يعني كما أنهم ملعونون في الدنيا عندكم فكذلك ملعونون عند الله وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً كما قال تعالى لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ( الأحزاب 57 ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ( المائدة 119 ) مطيلين المكث فيها مستمرين لا أمد لخروجهم
وقوله لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً لما ذكر خلودهم بين تحقيقه وذلك لأن المعذب لا يخلصه من العذاب إلا صديق يشفع له أو ناصر يدفع عنه ولا ولي لهم يشفع ولا نصير يدفع
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ يَقُولُونَ يالَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ رَبَّنَآ ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً
لما بين أنه لا شفيع لهم يدفع عنهم العذاب بين أن بعض أعضائهم أيضاً لا يدفع العذاب عن البعض بخلاف عذاب الدنيا فإن الإنسان يدفع عن وجهه الضربة إتقاء بيده فإن من يقصد رأسه ووجهه تجده يجعل يده جنة أو يطأطىء رأسه كي لا يصيب وجهه وفي الآخرة تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ فما ظنك بسائر أعضائهم التي تجعل جنة للوجه ووقاية له يَقُولُونَ يالَيْتَنَا يالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ فيتحسرون ويندمون حيث لا تغنيهم الندامة والحسرة لحصول علمهم بأن الخلاص ليس إلا للمطيع ثم يقولون إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا يعني بدل طاعة الله تعالى أطعنا السادة وبدل طاعة الرسول أطعنا الكبراء وتركنا طاعة سيد السادات وأكبر الأكابر فبدلنا الخير بالشر فلا جرم فاتنا خير الجنان وأوتينا شر النيران ثم إنهم يطلبون بعض

التشفي بتعذيب المضلين ويقولون رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أي بسبب ضلالهم وإضلالهم وفي قوله تعالى ضِعْفَيْنِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَثِيراً معنى لطيف وهو أن الدعاء لا يكون إلا عند عدم حصول الأمر المدعو به والعذاب كان حاصلاً لهم واللعن كذلك فطلبوا ما ليس بحاصل وهو زيادة العذاب بقولهم ضِعْفَيْنِ وزيادة اللعن بقولهم لَعْناً كَبِيراً
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ ءَاذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً
لما بين الله تعالى أن من يؤذي الله ورسوله يلعن ويعذب وكان ذلك إشارة إلى إيذاء هو كفر أرشد المؤمنين إلى الامتناع من إيذاء هو دونه وهو لا يورث كفراً وذلك مثل من لم يرض بقسمة النبي عليه السلام وبحكمه بالفيء لبعض وغير ذلك فقال كَبِيراً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ ءاذَوْاْ مُوسَى وحديث إيذاء موسى مختلف فيه قال بعضهم هو إيذاؤهم إياه بنسبته إلى عيب في بدنه وقال بعضنم ( إن ) قارون قرر مع امرأة فاحشة حتى تقول عند بني إسرائيل إن موسى زنى بي فلما جمع قارون القوم والمرأة حاضرة ألقى الله في قلبها أنها صدقت ولم تقل ما لقنت وبالجملة الإيذاء المذكور في القرآن كاف وهو أنهم قالوا له اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا ( المائدة 24 ) وقولهم لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة ً ( البقرة 55 ) وقولهم لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ ( البقرة 61 ) إلى غير ذلك فقال للمؤمنين لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول إلى القتال أي لا تقولوا اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا ولا تسألوا ما لم يؤذن لكم فيه ( وإذا أمركم الرسول بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) وقوله فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ على الأول ظاهر لأنه أبرز جسمه لقومه فرأوه وعلموا فساد اعتقادهم ونطقت المرأة بالحق وأمر الملائكة حتى عبروا بهرون عليهم فرأوه غير مجروح فعلموا براءة موسى عليه السلام عن قتله الذي رموه به وعلى ما ذكرنا فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ أي أخرجه عن عهدة ما طلبوا بإعطائه البعض إياهم وإظهاره عدم جواز البعض وبالجملة قطع الله حجتهم ثم ضرب عليهم الذلة والمسكنة وغضب عليهم وقوله وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً أي ذا وجاهة ومعرفة والوجيه هو الرجل الذي يكون له وجه أي يكون معروفاً بالخير وكل أحد وإن كان عند الله معروفاً لكن المعرفة المجردة لا تكفي في الوجاهة فإن من عرف غيره لكونه خادماً له وأجيراً عنده لا يقال هو وجيه عند فلان وإنما الوجيه من يكون له خصال حميدة تجعل من شأنه أن يعرف ولا ينكر وكان كذلك
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً

ثم قال تعالى وَجِيهاً يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أرشدهم إلى ما ينبغي أن يصدر منهم من الأفعال والأقوال أما الأفعال فالخير وأما الأقوال فالحق لأن من أتى بالخير وترك الشر فقد اتقى الله ومن قال الصدق قال قولاً سديداً ثم وعدهم على الأمرين بأمرين على الخيرات بإصلاح الأعمال فإن بتقوى الله يصلح العمل والعمل الصالح يرفع ويبقى فيبقى فاعله خالداً في الجنة وعلى القول السديد بمغفرة الذنوب
ثم قال تعالى وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً فطاعة الله هي طاعة الرسول ولكن جمع بينهما لبيان شرف فعل المطيع فإنه يفعله الواحد اتخذ عند الله عهداً وعند الرسول يداً وقوله فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً جعله عظيماً من وجهين أحدهما أنه من عذاب عظيم والنجاة من العذاب تعظم بعظم العذاب حتى أن من أراد أن يضرب غيره سوطاً ثم نجا منه لا يقال فاز فوزاً عظيماً لأن العذاب الذي نجا منه لو وقع ما كان يتفاوت الأمر تفاوتاً كثيراً والثاني أنه وصل إلى ثواب كثير وهو الثواب الدائم الأبدي
إِنَّا عَرَضْنَا الاٌّ مَانَة َ عَلَى السَّمَاوَاتِ والأرض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً
لما أرشد الله المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وأدب النبي عليه السلام بأحسن الآداب بين أن التكليف الذي وجهه الله إلى الإنسان أمر عظيم فقال إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَة َ أي التكليف وهو الأمر بخلاف ما في الطبيعة واعلم أن هذا النوع من التكليف ليس في السموات ولا في الأرض لأن الأرض والجبل والسماء كلها على ما خلقت عليه الجبل لا يطلب منه السير والأرض لا يطلب منها الصعود ولا من السماء الهبوط ولا في الملائكة لأن الملائكة وإن كانوا مأمورين منهيين عن أشياء لكن ذلك لهم كالأكل والشرب لنا فيسبحون الليل والنهار لا يفترون كما يشتغل الإنسان بأمر موافق لطبعه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الأمانة وجوه كثيرة منها من قال هو التكليف وسمي أمانة لأن من قصر فيه فعليه الغرامة ومن وفر فله الكرامة ومنهم من قال هو قول لا إله إلا الله وهو بعيد فإن السموات والأرض والجبال بألسنتها ناطقة بأن الله واحد لا إله إلا هو ومنهم من قال الأعضاء فالعين أمانة ينبغي أن يحفظها والأذن كذلك واليد كذلك والرجل والفرج واللسان ومنهم من قال معرفة الله بما فيها والله أعلم
المسألة الثانية في العرض وجوه منهم من قال المراد العرض ومنهم من قال الحشر ومنهم من قال المقابلة أي قابلنا الأمانة على السموات فرجحت الأمانة على أهل السموات والأرض
المسألة الثالثة فِي السَّمَاوَاتِ والاْرْضِ وجهان أحدهما أن المراد هي بأعيانها والثاني المراد أهلوها ففيه إضمار تقديره إنا عرضنا الأمانة على أهل السموات والأرض
المسألة الرابعة قوله فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ( الحجر 31 ) من وجهين أحدهما أن هناك السجود كان فرضاً وههنا الأمانة كانت عرضاً وثانيهما أن الإباء كان هناك استكباراً وههنا استصغاراً استصغرن أنفسهن بدليل قوله وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
المسألة الخامسة ما سبب الإشفاق نقول الأمانة لا تقبل لوجوه أحدها أن يكون عزيزاً صعب

الحفظ كالأواني من الجواهر التي تكون عزيزة سريعة الانكسار فإن العاقل يمتنع عن قبولها ولو كانت من الذهب والفضة لقبلها ولو كانت من الزجاج لقبلها في الأول لأمانه من هلاكها وفي الثاني لكونها غير عزيزة الوجود والتكليف كذلك والثاني أن يكون الوقت زمان شهب وغارة فلا يقبل العاقل في ذلك الوقت الودائع والأمر كان كذلك لأن الشيطان وجنوده كانوا في قصد المكلفين إذ الغرض كان بعد خروج آدم من الجنة الثالث مراعاة الأمانة والإتيان بما يجب كإيداع الحيوانات التي تحتاج إلى العلف والسقي وموضع مخصوص يكون برسمها فإن العاقل يمتنع من قبولها بخلاف متاع يوضع في صندوق أو في زاوية بيت والتكليف كذلك فإنه يحتاج إلى تربية وتنمية
المسألة السادسة كيف حملها الإنسان ولم تحملها هذه الأشياء فيه جوابان أحدهما بسبب جهله بما فيها وعلمهن ولهذا قال تعالى إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً والثاني أن الأشياء نظرت إلى أنفسهن فرأين ضعفهن فامتنعن والإنسان نظر إلى جانب المكلف وقال المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها وقال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( الفاتحة 5 )
المسألة السابعة قوله تعالى إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً فيه وجوه أحدها أن المراد منه آدم ظلم نفسه بالمخالفة ولم يعلم ما يعاقب عليه من الإخراج من الجنة ثانيها المراد الإنسان يظلم بالعصيان ويجهل ما عليه من العقاب ثالثها إنه كان ظلوماً جهولا أي كان من شأنه الظلم والجهل يقال فرس شموس ودابة جموح وماء طهور أي من شأنه ذلك فكذلك الإنسان من شأنه الظلم والجهل فلما أودع الأمانة بقي بعضهم على ما كان عليه وبعضهم ترك الظلم كما قال تعالى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ( الأنعام 82 ) وترك الجهل كما قال تعالى في حق آدم عليه السلام وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) وقال في حق المؤمنين عامة وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ ( آل عمران 7 ) وقال تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) رابعها إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً في ظن الملائكة حيث قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ( البقرة 30 ) وبين علمه عندهم حيث قال تعالى أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء ( البقرة 31 ) وقال بعضهم في تفسير الآية إن المخلوق على قسمين مدرك وغير مدرك والمدرك منه من يدرك الكلي والجزئي مثل الآدمي ومنه من يدرك الجزئي كالبهائم ثم تدرك الشعير الذي تأكله ولا تتفكر في عواقب الأمور ولا تنظر في الدلائل والبراهين ومنه من يدرك الكلي ولا يدرك الجزئي كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل قالوا وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَة ِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء ( البقرة 31 ) فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات والتكليف لم يكن إلا على مدرك الأمرين إذ له لذات بأمور جزئية فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية هي مثل لذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته وأما غيره فإن كان مكلفاً يكون مكلفاً لا بمعنى الأمر بما فيه عليهم كلفة ومشقة بل بمعنى الخطاب فإن المخاطب يسمى مكلفاً لما أن المكلف مخاطب فسمي المخاطب مكلفاً وفي الآية لطائف الأولى الأمانة كان عرضها على آدم فقبلها فكان أميناً عليها والقول قول الأمين فهو فائز بقي أولاده أخذوا الأمانة منه والآخذ من الأمين ليس بمؤتمن ولهذا وارث المودع لا يكون القول قوله ولم يكن له بد من تجديد عهد وائتمان فالمؤمن اتخذ عند الله عهداً فصار أميناً من الله فصار القول قوله فكان له ما كان لآدم من الفوز ولهذا قال تعالى وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( الأحزاب 73 ) أي كما تاب على آدم في قوله تعالى فَتَابَ عَلَيْهِ ( البقرة 37 ) والكافر صار آخذاً

للأمانة من المؤتمن فبقي في ضمانه ثم إن المؤمن إذا أصاب الأمانة في يده شيء بقضاء الله وقدره كان ذلك من غير تقصير منه والأمين لا يضمن ما فات بغير تقصير والكافر إذا أصاب الأمانة في يده شيء ضمن وإن كان بقضاء الله وقدره لأنه يضمن ما فات وإن لم يكن بتقصير اللطيفة الثانية خص الأشياء الثلاثة بالذكر لأنها أشد الأمور وأحملها للأثقال وأما السموات فلقوله تعالى وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ( النبأ 12 ) والأرض والجبال لا تخفى شدتها وصلابتها ثم إن هذه الأشياء لما كانت لها شدة وصلابة عرض الله تعالى الأمانة عليها واكتفى بشدتهن وقوتهن فامتنعن لأنهن وإن كن أقوياء إلا أن أمانة الله تعالى فوق قوتهن وحملها الإنسان مع ضعفه الذي قال الله تعالى فيه وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ( النساء 28 ) ولكن وعده بالإعانة على حفظ الأمانة بقوله وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ( الطلاق 3 ) فإن قيل فالذي يعينه الله تعالى كيف يعذب فلم يعذب الكافر نقول قال الله تعالى ( أنا أعين من يستعين بي ويتوكل علي ) والكافر لم يرجع إلى الله تعالى فتركه مع نفسه فيبقى في عهدة الأمانة اللطيفة الثالثة قوله تعالى فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وقوله تعالى وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إشارة إلى أن فيه مشقة بخلاف ما لو قال فأبين أن يقبلنها وقبلها الإنسان ومن قال لغيره افعل هذا الفعل فإن لم يكن في الفعل تعب يقابل بأجرة فإذا فعله لا يستحق أجرة فقال تعالى وَحَمَلَهَا إشارة إلى أنه مما يستحق الأجر عليه أي على مجرد حمل الأمانة وإما على رعايتها حق الرعاية فيستحق الزيادة فإن قيل فالكل حملوها غاية ما في الباب أن الكافر لم يأت بشيء زائد على الحمل فينبغي أن يستحق الأجر على الحمل فنقول الفعل إذا كان على وفق الإذن من المالك الآمر يستحق الفاعل الأجرة ألا ترى أنه لو قال احمل هذا إلى الضيعة التي على الشمال فحمل ونقلها إلى الضيعة التي على الجنوب لا يستحق الأجرة ويلزمه ردها إلى الموضع الذي كان فيه كذلك الكافر حملها على غير وجه الإذن فغرم وزالت حسناته التي عملها بسببه
لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
أي حملها الإنسان ليقع تعذيب المنافق والمشرك فإن قال قائل لم قدم التعذيب على التوبة نقول لما سمى التكليف أمانة والأمانة من حكمها اللازم أن الخائن يضمن وليس من حكمها اللازم أن الأمين الباذل جهده يستفيد أجرة فكان التعذيب على الخيانة كاللازم والأجر على الحفظ إحسان والعدل قبل الإحسان وفيه مسألتان
المسألة الأولى لم عطف المشرك على المنافق ولم يعد اسمه تعالى فلم يقل ويعذب الله المشركين وعند التوبة أعاد اسمه وقال ويتوب الله ولو قال ويتوب على المؤمنين كان المعنى حاصلاً نقول أراد تفضيل المؤمن على المنافق فجعله كالكلام المستأنف ويجب هناك ذلك الفاعل فقال وَيَتُوبَ اللَّهُ ويحقق هذا قراءة من قرأ ويتوب الله بالرفع

المسألة الثانية ذكر الله في الإنسان وصفين الظلوم والجهول وذكر من أوصافه وصفين فقال وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً أي كان غفوراً للظلوم ورحيماً على الجهول وذلك لأن الله تعالى وعد عباده بأنه يغفر الظلم جميعاً إلا الظلم العظيم الذي هو الشرك كما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وأما الوعد فقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) وأما الرحمة على الجهل فلأن الجهل محل الرحمة ولذلك يعتذر المسيء بقوله ما علمت
وههنا لطيفة وهي أن الله تعالى أعلم عبده بأنه غفور رحيم وبصره بنفسه فرآه ظلوماً جهولاً ثم عرض عليه الأمانة فقبلها مع ظلمه وجهله لعلمه فيما يجبرها من الغفران والرحمة والله أعلم

سورة سبأ
مكية وقيل فيها آية مدنية وهي
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ الاْيَة َ
وهي أربع وقيل خمس وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الاٌّ خِرَة ِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ
السور المفتتحة بالحمد خمس سور سورتان منها في النصف الأول وهما الأنعام والكهف وسورتان في الأخير وهما هذه السورة وسورة الملائكة والخامسة وهي فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فإن الله تعالى خلقنا أولاً برحمته وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه يخلقنا مرة أخرى ويخلق لنا ما يدوم فلنا حالتان الابتداء والإعادة وفي كل حالة له تعالى علينا نعمتان نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال في النصف الأول الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد ويدل عليه قوله تعالى فيه هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ ( الأنعام 2 ) إشارة إلى الإيجاد الأول وقال في السورة الثانية وهي الكهف الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً ( الكهف 1 2 ) إشارة إلى الشكر على نعمة الإبقاء فإن الشرائع بها البقاء ولولا شرع ينقاد له الخلق لاتبع كل واحد هواه ولو وقعت المنازعات في المشتبهات وأدى إلى التقاتل والتفاني ثم قال في هذه السورة الْحَمْدُ للَّهِ إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني ويدل عليه قوله تعالى وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الاْخِرَة ِ وقال في الملائكة الْحَمْدُ للَّهِ إشارة إلى نعمة الإبقاء ويدل عليه قوله تعالى جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ( فاطر 1 ) والملائكة بأجمعهم لا يكونون رسلاً إلى يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين كما قال تعالى وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَة ُ ( الأنبياء 103 ) وقال تعالى عنهم سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( الزمر 73 ) وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذكر النعمتين بقوله تعالى الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الفاتحة ) إشارة إلى

النعمة العاجلة وقوله مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ إشارة إلى النعمة الآجلة قرئت في الافتتاح وفي الاختتام ثم في مسائل
المسألة الأولى الحمد شكر والشكر على النعمة والله تعالى جعل ما في السموات وما في الأرض لنفسه بقوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ولم يبين أنه لنا حتى يجب الشكر نقول جواباً عنه الحمد يفارق الشكر في معنى وهو أن الحمد أعم فيحمد من فيه صفات حميدة وإن لم ينعم على الحامد أصلاً فإن الإنسان يحسن منه أن يقول في حق عالم لم يجتمع به أصلاً أنه عالم عامل بارع كامل فيقال له إنه يحمد فلاناً ولا يقال إنه يشكره إلا إذا ذكر نعمه أو ذكره على نعمه فالله تعالى محمود في الأزل لاتصافه بأوصاف الكمال ونعوت الجلال ومشكور ولا يزال على ما أبدى من الكرم وأسدى من النعم فلا يلزم ذكر النعمة للحمد بل يكفي ذكر العظمة وفي كونه مالك ما في السموات وما في الأرض عظمة كاملة فله الحمد على أنا نقول قوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يوجب شكراً أتم مما يوجبه قوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ وذلك لأن ما في السموات والأرض إذا كان لله ونحن المنتفعون به لا هو يوجب ذلك شكراً لا يوجبه كون ذلك لنا
المسألة الثانية قد ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعمة التي في الآخرة فلم ذكر الله السموات والأرض فنقول نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض ثم قال وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الاْخِرَة ِ ليقاس نعم الآخرة بنعم الدنيا ويعلم فضلها بدوامها وفناء العاجلة ولهذا قال وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إشارة إلى أن خلق هذه الأشياء بالحكمة والخير والحكمة صفة ثابتة لله لا يمكن زوالها فيمكن منه إيجاد أمثال هذه مرة أخرى في الآخرة
المسألة الثالثة الحكمة هي العلم الذي يتصل به الفعل فإن من يعلم أمراً ولم يأت بما يناسب علمه لا يقال له حكيم فالفاعل الذي فعله على وفق العلم هو الحكيم والخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها فقوله حَكِيمٌ أي في الابتداء يخلق كما ينبغي وخبير أي بالانتهاء يعلم ماذا يصدر من المخلوق وما لا يصدر إلى ماذا يكون مصير كل أحد فهو حكيم في الابتداء خبير في الانتهاء
يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَة ُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ لِّيَجْزِى َ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
ثم بين الله تعالى كما أخبره بقوله يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الاْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ
ما يلج في الأرض من الحبة والأموات ويخرج منها من السنابل والأحياء وما ينزل من السماء من أنواع رحمته منها المطر ومنها الملائكة ومنها القرآن وما يعرج فيها منها الكلم الطيب لقوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ومنها الأرواح ومنها الأعمال الصالحة لقوله وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر 10 ) وفيه مسائل

المسألة الأولى قدم ما يلج في الأرض على ما ينزل من السماء لأن الحبة تبذر أولاً ثم تسقى ثانياً
المسألة الثانية قال وما يعرج فيها ولم يقل يعرج إليها إشارة إلى قبول الأعمال الصالحة ومرتبة النفوس الزكية وهذا لأن كلمة إلى للغاية فلو قال وما يعرج إليها لفهم الوقوف عند السموات فقال وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ليفهم نفوذها فيها وصعودها منها ولهذا قال في الكلم الطيب إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ لأن الله هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه وأما السماء فهي دنيا وفوقها المنتهى
المسألة الثالثة قال وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ رحيم بالإنزال حيث ينزل الرزق من السماء غفور عندما تعرج إليه الأرواح والأعمال فرحم أولاً بالإنزال وغفر ثانياً عند العروج
ثم بين أن هذه النعمة التي يستحق الله بها الحمد وهي نعمة الآخرة أنكرها قوم فقال تعالى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَة ُ ثم رد عليهم وقال قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ لّيَجْزِى َ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
أخبر بإتيانها وأكده باليمين قال الزمخشري رحمه الله لو قال قائل كيف يصح التأكيد باليمين مع أنهم يقولون لا رب وإن كانوا يقولون به لكن المسألة الأصولية لا تثبت باليمين وأجاب عنه بأنه لم يقتصر على اليمين بل ذكر الدليل وهو قوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ وبيان كونه دليلاً هو أن المسيء قد يبقى في الدنيا مدة مديدة في اللذات العاجلة ويموت عليها والمحسن قد يدوم في دار الدنيا في الآلام الشديدة مدة ويموت فيها فلولا دار تكون الأجزية فيها لكان الأمر على خلاف الحكمة والذي أقوله أنا هو أن الدليل المذكور في قوله عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ أظهر وذلك لأنه إذا كان عالماً بجميع الأشياء يعلم أجزاء الأحياء ويقدر على جمعها فالساعة ممكنة القيام وقد أخبر عنها الصادق فتكون واقعة وعلى هذا فقوله تعالى فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح والأجسام أجزاؤها في الأرض والأرواح في السماء فقوله لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ إشارة إلى علمه بالأرواح وقوله وَلاَ فِى الاْرْضِ إشارة إلى علمه بالأجسام وإذا علم الأرواح والأشباح وقدر على جمعها لا يبقى استبعاد في المعاد وقوله وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ إشارة إلى أن ذكر مثقال الذرة ليس للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب وعلى هذا فلو قال قائل فأي حاجة إلى ذكر الأكبر فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد من أن يعلم الأكبر فنقول لما كان الله تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغائر لكونها محل النسيان أما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال الإثبات

في الكتاب ليس كذلك فإن الأكبر أيضاً مكتوب فيه ثم لما بين علمه بالصغائر والكبائر ذكر أن جمع ذلك وإثباته للجزاء فقال لّيَجْزِى َ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ذكر فيهم أمرين الإيمان والعمل الصالح وذكر لهم أمرين المغفرة والرزق الكريم فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور له ويدل عليه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) وقوله عليه السلام فيما أخبرنا به تاج الدين عيسى بن أحمد بن الحاكم البندهي قال أخبرني والدي عن جدي عن محيي السنة عن عبد الواحد المليجي عن أحمد بن عبد الله النعيمي عن محمد بن يوسف الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري ( يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان ) والرزق الكريم من العمل الصالح وهو مناسب فإن من عمل لسيد كريم عملاً فعند فراغه من العمل لا بد من أن ينعم عليه إنعاماً ويطعمه طعاماً ووصف الرزق بالكريم قد ذكرنا أنه بمعنى ذي كرم أو مكرم أو لأنه يأتي من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه ما لم يطلب ويتسبب فيه لا يأتي وفي التفسير مسائل
المسألة الأولى قوله أُوْلئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون لهم ذلك جزاء فيوصله إليهم لقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وثانيهما أن يكون ذلك لهم والله يجزيهم بشيء آخر لأن قوله أُوْلئِكَ لَهُمْ جملة تامة إسمية وقوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً جملة فعلية مستقلة وهذا أبلغ في البشارة من قول القائل ليجزي الذين آمنوا رزقاً
المسألة الثانية اللام في ليجزي للتعليل معناه الآخرة للجزاء فإن قال قائل فما وجه المناسبة فنقول الله تعالى أراد أن لا ينقطع ثوابه فجعل للمكلف داراً باقية ليكون ثوابه واصلاً إليه دائماً أبداً وجعل قبلها داراً فيها الآلام والأسقام وفيها الموت ليعلم المكلف مقدار ما يكون فيه في الآخرة إذا نسبه إلى ما قبلها وإذا نظر إليه في نفسه
المسألة الثالثة ميز الرزق بالوصف بقوله كريم ولم يصف المغفرة واحدة هي للمؤمنين والرزق منه شجرة الزقوم والحميم ومنه الفواكه والشراب الطهور فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ولم يميز المغفرة لعدم الانقسام فيها
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِى ءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ
لما بين حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين وقوله وَالَّذِينَ سَعَوْا فِى ءايَاتِنَا أي بالإبطال ويكون معناه الذين كذبوا بآياتنا وحينئذٍ يكون هذا في مقابلة ما تقدم لأن قوله تعالى ءامَنُواْ معناه صدقوا وهذا معناه كذبوا فإن قيل من أين علم كون سعيهم في الإبطال مع أن المذكور مطلق السعي فنقول فهم من قوله تعالى مُعَاجِزِينَ وذلك لأنه حال معناه سعوا فيها وهم يريدون التعجيز وبالسعي في التقرير والتبليغ لا يكون الساعي معاجزاً لأن القرآن وآيات الله معجزة في نفسها لا حاجة لها إلى أحد وأما المكذب فهو آت بإخفاء آيات بينات فيحتاج إلى السعي العظيم والجد البليغ ليروج كذبه لعله يعجز المتمسك به وقيل بأن المراد من قوله مُعَاجِزِينَ أي ظانين أنهم يفوتون الله وعلى هذا يكون كون الساعي ساعياً بالباطل في

غاية الظهور ولهم عذاب في مقابلة لهم رزق وفي الآية لطائف الأولى قال ههنا لَهُمْ عَذَابَ ولم يقل يجزيهم الله وقد تقدم القول منا أن قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يحتمل أن يكون الله يجزيهم بشيء آخر وقوله أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ إخبار عن مستحقهم المعد لهم وعلى الجملة فاحتمال الزيادة هناك قائم نظراً إلى قوله لِيَجْزِى َ وههنا لم يقل ليجازيهم فلم يوجد ذلك الثانية قال هناك لهم مغفرة ثم زادهم فقال وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وههنا لم يقل إلا لهم عذاب من رجز أليم والجواب تقدم في مثله الثالثة قال هناك لَّهُم مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ولم يقلله بمن التبعيضية فلم يقل لهم نصيب من رزق ولا رزق من جنس كريم وقال ههنا لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ بلفظة صالحة للتبعيض وكل ذلك إشارة إلى سعة الرحمة وقلة الغضب بالنسبة إليها والرجز قيل أسوأ العذاب وعلى هذا مِنْ لبيان الجنس كقول القائل خاتم من فضة وفي الأليم قراءتان الجر والرفع فالرفع على أن الأليم وصف العذاب كأنه قال عذاب أليم من أسوأ العذاب والجر على أنه وصف للرجز والرفع أقرب نظراً إلى المعنى والجر نظراً إلى اللفظ فإن قيل فلم تنحصر الأقسام في المؤمن الصالح عمله والمكذب الساعي المعجز لجواز أن يكون أحد مؤمناً ليس له عمل صالح أو كافر متوقف فنقول إذا علم حال الفريقين المذكورين يعلم أن المؤمن قريب الدرجة ممن تقدم أمره والكافر قريب الدرجة ممن سبق ذكره وللمؤمن مغفرة ورزق كريم وإن لم يكن في الكرامة مثل رزق الذي عمل صالحاً وللكافر غير المعاند عذاب وإن لم يكن من أسوأ الأنواع التي للمكذبين المعاندين
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
لما بين حال من يسعى في التكذيب في الآخرة بين حاله في الدنيا وهو أن سعيه باطل فإن من أوتي علماً لا يغتر بتكذيبه ويعلم أن ما أنزل إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حق وصدق وقوله هو الحق يفيد الحصر أي ليس الحق إلا ذلك وأما قول المكذب فباطل بخلاف ما إذا تنازع خصمان والنزاع لفظي فيكون قول كل واحد حقاً في المعنى وقوله تعالى وَيَهْدِى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ يحتمل أن يكون بياناً لكونه هو الحق فإنه هاد إلى هذا الصراط ويحتمل أن يكون بياناً لفائدة أخرى وهي أنه مع كونه حقاً هادياً والحق واجب القبول فكيف إذا كان فيه فائدة في الاستقبال وهي الوصول إلى الله وقوله الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ يفيد رغبة ورهبة فإنه إذا كان عزيزاً يكون ذا انتقام ينتقم من الذي يسعى في التكذيب وإذا كان حميداً يشكر سعي من يصدق ويعمل صالحاً فإن قيل كيف قدم الصفة التي للهيبة على الصفة التي للرحمة مع أنك أبداً تسعى في بيان تقديم جانب الرحمة نقول كونه عزيزاً تام الهيبة شديد الانتقام يقوي جانب الرغبة لأن رضا الجبار العزيز أعز وأكرم من رضا من لا يكون كذلك فالعزة كما تخوف ترجى أيضاً وكما ترغب عن التكذيب ترغب في

التصديق ليحصل القرب من العزيز
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ
وجه الترتيب هو أن الله تعالى لما بين أنهم أنكروا الساعة ورد عليهم بقوله قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ ( سبأ 3 ) وبين ما يكون بعد إتيانها من جزاء المؤمن على عمله الصالح وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب على السيئات بين حال المؤمن والكافر بعد قوله قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ فقال المؤمن هو الذي يقول الذي أنزل إليك الحق وهو يهدي وقال الكافر هو الذي يقول هو باطل ومن غاية اعتقادهم وعنادهم في إبطال ذلك قالوا على سبيل التعجب هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ( سبأ 7 ) وهذا كقول القائل في الاستبعاد جاء رجل يقول إن الشمس تطلع من المغرب إلى غير ذلك من المحالات
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّة ٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ
ثم قال تعالى أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّة ٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ هذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون تمام قول الذين كفروا أولاً أعني هو من كلام من قال هَلْ نَدُلُّكُمْ ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب لمن قال هَلْ نَدُلُّكُمْ كأن السامع لما سمع قول القائل هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ قال له أهو يفتري على الله كذباً إن كان يعتقد خلافه أم به جنة ( أي ) جنون إن كان لا يعتقد خلافه وفي هذا لطيفة وهي أن الكافر لا يرضى بأن يظهر كذبه ولهذا قسم ولم يجزم بأنه مفتر بل قال مفتر أو مجنون احترازاً من أن يقول قائل كيف يقول بأنه مفتر مع أنه جائز أن يظن أن الحق ذلك فظن الصدق يمنع تسمية القائل مفترياً وكاذباً في بعض المواضع ألا ترى أن من يقول جاء زيد فإذا تبين أنه لم يجىء وقيل له كذبت يقول ما كذبت وإنما سمعت من فلان أنه جاء فظننت أنه صادق فيدفع الكذب عن نفسه بالظن فهم احترزوا عن تبين كذبهم فكل عاقل ينبغي أن يحترز عن ظهور كذبه عند الناس ولا يكون العاقل أدنى درجة من الكافر ثم إنه تعالى أجابهم مرة أخرى وقال بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ فِى الْعَذَابِ في مقابلة قولهم افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وقوله وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ في مقابلة قولهم بِهِ جِنَّة ٌ وكلاهما مناسب أما العذاب فلأن نسبة الكذب إلى الصادق مؤذية لأنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوه إلى الكذب وأما الجنون فلأن نسبة الجنون إلى العاقل دونه في الإيذاء لأنه لا يشهد عليه بأنه يعذب ولكن ينسبه إلى عدم الهداية فبين أنهم هم الضالون ثم وصف ضلالهم بالبعد لأن من يسمي المهتدي ضالاً يكون هو الضال فمن يسمي الهادي ضالاً يكون أضل

والنبي عليه الصلاة والسلام كان هادي كل مهتد
أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَآءِ والأرض إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَة ً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ
ثم قال تعالى أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الاْرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ لما ذكر الدليل بكونه عالم الغيب وكونه جازياً على السيئات والحسنات ذكر دليلاً آخر وذكر فيه تهديداً أما الدليل فقوله مّنَ السَّمَاء والاْرْضِ فإنهما يدلان على الوحدانية كما بيناه مراراً وكما قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) ويدلان على الحشر لأنهما يدلان على كمال قدرته ومنها الإعادة وقد ذكرناه مراراً وقال تعالى أَوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ( ي س 81 ) وأما التهديد فبقوله إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الاْرْضَ يعني نجعل عين نافعهم ضارهم بالخسف والكسف
ثم قال تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَة ً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ أي لكل من يرجع إلى الله ويترك التعصب ثم إن الله تعالى لما ذكر من ينيب من عباده ذكر منهم من أناب وأصاب ومن جملتهم داود كما قال تعالى عنه فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ( ص 24 ) وبين ما أتاه الله على إنابته فقال
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ياجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى مِنَّا إشارة إلى بيان فضيلة داود عليه السلام وتقريره هو أن قوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً مستقل بالمفهوم وتام كما يقول القائل آتي الملك زيداً خلعة فإذا قال القائل آتاه منه خلعة يفيد أنه كان من خاص ما يكون له فكذلك إيتاء الله الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ومثل هذا قوله تعالى يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ ( التوبة 21 ) فإن رحمة الله واسعة تصل إلى كل أحد في الدنيا لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من عنده لخواصه فقال يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ
المسألة الثانية في قوله فَضْلاً ياجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ قال الزمخشري مِن جِبَالٍ بدل من قوله فَضْلاً معناه آتيناه فضلاً قولنا يا جبال أو من آتينا ومعناه قلنا يا جبال
المسألة الثالثة قرىء أوبي بتشديد الواو من التأويب وبسكونها وضم الهمزة أوبي من الأوب وهو الرجوع والتأويب الترجيع وقيل بأن معناه سيرى معه وفي قوله يُسَبّحْنَ قالوا هو من السباحة وهي الحركة المخصوصة
المسألة الرابعة قرىء وَالطَّيْرُ بالنصب حملاً على محل المنادى والطير بالرفع حملاً على لفظه
المسألة الخامسة لم يكن الموافق له في التأويب منحصراً في الجبال والطير ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجمود والطير للنفور تستبعد منهما الموافقة فإذا وافقه هذه الأشياء فغيرها أولى ثم إن من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشد قسوة من الحجارة
المسألة السادسة قوله وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ عطف والمعطوف عليه يحتمل أن يكون قلنا المقدر في قوله يا جبال تقديره قلنا مِن جِبَالٍ أوبي وألنا ويحتمل أن يكون عطفاً على آتينا تقديره آتيناه فضلاً وألنا له

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66