كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

المستعمل اسماً دالاً على فعل ضعف عمله لتعلقه بالمفعول
المسألة الرابعة قدم العلم بمن ضل على العلم بالمهتدي في كثير من المواضع منها في سورة الأنعام ومنها في سورة ن ومنها في السورة لأن في المواضع كلها المذكور نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) والمعاندون فذكرهم أولاً تهديداً لهم وتسلية لقلب نبيه عليه الصلاة والسلام
المسألة الخامسة قال في موضع واحد من المواضع هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ ( الأنعام 117 ) وفي غيره قال بِمَن ضَلَّ فهل عندك فيه شيء قلت نعم ونبين ذلك ببحث عقلي وآخر نقلي أما العقلي فهو أن العلم القديم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه إن وجد أمس علم أنه وجد أمس في نهار أمس وليس مثل علمنا حيث يجوز أن يتحقق الشيء أمس ونحن لا نعلمه إلا في يومنا هذا بل لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ ولا يتأخر الواقع عن علمه طرفة عين وأما النقلي فهو أن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل إذا كان بمعنى المستقبل ولا يعمل عمله إذا كان ماضياً فلا تقول أنا ضارب زيداً أمس والواجب إن كنت تنصب أن تقول ضربت زيداً وإن كنت تستعمل اسم الفاعل فالواجب الإضافة تقول ضارب زيد أمس أنا ويجوز أن يقال أنا غداً ضارب زيداً والسبب فيه أن الفعل إذا وجد فلا تجدد له في ( غير ) الاستقبال ولا تحقق له في الحال فهو عدم وضعف عن أن يعمل وأما الحال وما يتوقع فله وجود فيمكن إعماله إذا ثبت هذا فنقول لما قال ضَلَّ كان الأمر ماضياً وعلمه تعلق به وقت وجوده فعلم وقوله أَعْلَمُ بمعنى عالم فيصير كأنه قال عالم بمن ضل فلو ترك الباء لكان إعمالاً للفاعل بمعنى الماضي ولما قال يُضِلَّ كان يعلم الضلال عند الوقوع وإن كان قد علم في الأزل أنه سيضل لكن للعلم بعد ذلك تعلق آخر سيوجد وهو تعلقه بكون الضلال قد وقع وحصل ولم يكن ذلك في الأزل فإنه لا يقال إنه تعالى علم أن فلاناً ضل في الأزل وإنما الصحيح أن يقال علم في الأزل فإنه سيضل فيكون كأنه يعلم أنه يضل فيكون اسم الفاعل بمعنى المستقبل وهو يعمل عمل الفعل فلا يقال زيد أعلم مسألتنا من عمرو وإنما الواجب أن يقال زيد أعلم بمسألتنا من عمرو ولهذا قالت النحاة في سورة الأنعام إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ يعلم من يضل وقالوا أَعْلَمُ للتفضيل لا يبنى إلا من فعل لازم غير متعد فإن كان متعدياً يرد إلى لازم وقولنا علم كأنه من باب علم بالضم وكذا في التعجب إذا قلنا ما أعلمه بكذا كأنه من فعل لازم وأما أنا فقد أجبت عن هذا بأن قوله أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ معناه عالم وقد قدمنا ما يجب أن يعتقد في أوصاف الله في أكثر الأمر أن معناه أنه عالم ولا عالم مثله فيكون أعلم على حقيقته وهو أحسن من أن يقال هو بمعنى عالم لا غير فإن قيل فلم قال ههنا بِمَن ضَلَّ وقال هناك يُضِلَّ قلنا لأن ههنا حصل الضلال في الماضي وتأكد حيث حصل يأس الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأمر بالإعراض وأما هناك فقال تعالى من قبل وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الاْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِهِ ( الأنعام 116 )
ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن يُضِلَّ بمعنى إن ضللت يعلمك الله فكان الضلال غير حاصل فيه فلم يستعمل صيغة الماضي
المسألة السادسة قال في الضلال عن سبيله وهو كاف في الضلال لأن الضلال لا يكون إلا في السبيل وأما بعد الوصول فلا ضلال أو لأن

من ضل عن سبيله لا يصل إلى المقصود سواء سلك سبيلاً أو ( لم ) يسلك وأما من اهتدى إلى سبيل فلا وصول إن لم يسلكه ويصحح هذا أن من ضل في غير سبيله فهو ضال ومن اهتدى إليها لا يكون مهتدياً إلا إذا اهتدى إلى كل مسألة يضر الجهل بها بالإيمان فكان الاهتداء اليقيني هو الاهتداء المطلق فقال بِمَنِ اهْتَدَى وقال بِالْمُهْتَدِينَ ( القلم 7 )
ثم قال تعالى
وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض لِيَجْزِى َ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى
إشارة إلى كمال غناه وقدرته ليذكر بعد ذلك ويقول إن ربك هو أعلم من الغني القادر لأن من علم ولم يقدر لا يتحقق منه الجزاء فقال وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن اللام في قوله لِيَجْزِى َ كاللام في قوله تعالى وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ( النحل 8 ) وهو جرى في ذلك على مذهبه فقال وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ معناه خلق ما فيهما لغرض الجزاء وهو لا يتحاشى مما ذكره لما عرف من مذهب الاعتزال وقال الواحدي اللام للعاقبة كما في قوله تعالى لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً ( القصص 8 ) أي أخذوه وعاقبته أنه يكون لهم عدواً والتحقيق فيه وهو أن حتى ولام الغرض متقاربان في المعنى لأن الغرض نهاية الفعل وحتى للغاية المطلقة فبينهما مقاربة فيستعمل أحدهما مكان الآخر يقال سرت حتى أدخلها ولكي أدخلها فلام العاقبة هي التي تستعمل في موضع حتى للغاية ويمكن أن يقال هنا وجه أقرب من الوجهين وإن كان أخفى منهما وهو أن يقال إن قوله لِيَجْزِى َ متعلق بقوله ضل واهتدى لا بالعلم ولا بخلق ما في السموات تقديره كأنه قال هو أعلم بمن ضل واهتدى لِيَجْزِى َ أن من ضل واهتدى يجزي الجزاء والله أعلم به فيصير قوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ كلاماً معترضاً ويحتمل أن يقال هو متعلق بقوله تعالى فَأَعْرَضَ ( النجم 29 ) أي أعرض عنهم ليقع الجزاء كما يقول المريد فعلاً لمن يمنعه منه زرني لأفعله وذلك لأن ما دام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم ييأس ما كان العذاب ينزل والإعراض وقت اليأس وقوله تعالى وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى حينئذ يكون مذكوراً ليعلم أن العذاب الذي عند إعراضه يتحقق ليس مثل الذي قال تعالى فيه وَاتَّقُواْ فِتْنَة ً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّة ً ( الأنفال 25 ) بل هو مختص بالذين ظلموا وغيرهم لهم الحسنى وقوله تعالى في حق المسيء بِمَا عَمِلُواْ وفي حق المحسن بِالْحُسْنَى فيه لطيفة لأن جزاء المسيء عذاب فنبه على ما يدفع الظلم فقال لا يعذب إلا عن ذنب وأما في الحسنى فلم يقل بما عملوا لأن الثواب إن كان لا على حسنة يكون في غاية الفضل فلا يخل بالمعنى هذا إذا قلنا الحسنى هي المثوبة بالحسنى وأما إذا قلنا الأعمال الحسنى ففيه لطيفة غير ذلك وهي أن أعمالهم لم يذكر فيها التساوي وقال في أعمال المحسنين الْحُسْنَى إشارة إلى الكرم والصفح حيث ذكر أحسن الإسمين والحسنى صفة أقيمت مقام الموصوف كأنه تعالى قال بالأعمال الحسنى كقوله تعالى الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( الأعراف 180 ) وحينئذ هو كقوله تعالى لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( العنكبوت 7 ) أي يأخذ أحسن أعمالهم ويجعل ثواب كل ما وجد منهم لجزاء ذلك الأحسن أو هي صفة المثوبة كأنه قال ويجزي الذين

أحسنوا بالمثوبة الحسنى أو بالعاقبة الحسنى أي جزاؤهم حسن العاقبة وهذا جزاء فحسب وأما الزيادة التي هي الفضل بعد الفضل فغير داخلة فيه
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَة ِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّة ٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى
ثم قال تعالى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ الذين يحتمل أن يكون بدلاً عن الذين أحسنوا وهو الظاهر وكأنه تعالى قال ليجزي الذين أساءوا ويجزي الذين أحسنوا ويتبين به أن المحسن ليس ينفع الله بإحسانه شيئاً وهو الذي لا يسيء ولا يرتكب القبيح الذي هو سيئة في نفسه عند ربه فالذين أحسنوا هم الذين اجتنبوا ولهم الحسنى وبهذا يتبين المسيء والمحسن لأن من لا يجتنب كبائر الإثم يكون مسيئاً والذي يجتنبها يكون محسناً وعلى هذا ففيه لطيفة وهو أن المحسن لما كان هو من يجتنب الآثام فالذي يأتي بالنوافل يكون فوق المحسن لكن الله تعالى وعد المحسن بالزيادة فالذي فوقه يكون له زيادات فوقها وهم الذين لهم جزاء الضعف ويحتمل أن يكون ابتداء كلام تقديره الذين يجتنبون كبائر الإثم يغفر الله لهم والذي يدل عليه قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَة ِ وعلى هذا تكون هذه الآية مع ما قبلها مبينة لحال المسيء والمحسن وحال من لم يحسن ولم يسيء وهم الذين لم يرتكبوا سيئة وإن لم تصدر منهم الحسنات وهم كالصبيان الذين لم يوجد فيهم شرائط التكليف ولهم الغفران وهو دون الحسنى ويظهر هذا بقوله تعالى بعده هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّة ٌ أي يعلم الحالة التي لا إحسان فيها ولا إساءة كما علم من أساء وضل ومن أحسن واهتدى وفيه مسائل
المسألة الأولى إذا كان بدلاً عن الذين أحسنوا فلم خالف ما بعده بالمضي والاستقبال حيث قال تعالى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ ( النجم 31 ) وقال الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ ولم يقل اجتنبوا نقول هو كما يقول القائل الذين سألوني أعطيتهم الذين يترددون إلى سائلين أي الذين عادتهم التردد والسؤال سألوني وأعطيتهم فكذلك ههنا قال الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ أي الذين عادتهم ودأبهم الاجتناب لا الذين اجتنبوا مرة وقدموا عليها أخرى فإن قيل في كثير من المواضع قال في الكبائر وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ( الشورى 37 ) وقال في عباد الطاغوت وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ ( الزمر 17 ) فما الفرق نقول عبادة الطاغوت راجعة إلى الاعتقاد والاعتقاد إذا وجد دام ظاهراً فمن اجتنبها اعتقد بطلانها فيستمر وأما مثل الشرب والزنا أمر يختلف أحوال الناس فيه فيتركه زماناً ويعود إليه ولهذا يستبرأ الفاسق إذا تاب ولا يستبرأ الكافر إذا أسلم فقال في الآثام الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ دائماً ويثابرون على الترك أبداً وفي عبادة الأصنام اجْتَنَبُواْ بصيغة الماضي ليكون أدل على الحصول ولأن كبائر الإثم لها عدد أنواع فينبغي أن يجتنب عن نوع ويجتنب عن آخر ويجتنب عن ثالث ففيه تكرر وتجدد فاستعمل فيه صيغة الاستقبال وعبادة الصنم أمر واحد متحد فترك فيه ذلك الاستعمال وأتى بصيغة الماضي الدالة على وقوع الاجتناب لها دفعة
المسألة الثانية الكبائر جمع كبيرة وهي صفة فما الموصوف نقول هي صفة الفعلة كأنه يقول الفعلات الكبائر من الإثم فإن قيل فما بال اختصاص الكبيرة بالذنوب في الاستعمال ولو قال قائل الفعلة الكبيرة الحسنة لا يمنعه مانع نقول الحسنة لا تكون كبيرة لأنها إذا قوبلت بما يجب أن يوجد من العبد في

مقابلة نعم الله تعالى تكون في غاية الصغر ولولا أن الله يقبلها لكانت هباء لكن السيئة من العبد الذي أنعم الله عليه بأنواع النعم كبيرة ولولا فضل الله لكان الاشتغال بالأكل والشرب والإعراض عن عبادته سيئة ولكن الله غفر بعض السيئات وخفف بعضها
المسألة الثالثة إذا ذكر الكبائر فما الفواحش بعدها نقول الكبائر إشارة إلى ما فيها من مقدار السيئة والفواحش إشارة إلى ما فيها من وصف القبح كأنه قال عظيمة المقادير قبيحة الصور والفاحش في اللغة مختص بالقبيح الخارج قبحه عن حد الخفاء وتركيب الحروف في التقاليب يدل عليه فإنك إذا قلبتها وقلت حشف كان فيه معنى الرداءة الخارجة عن الحد ويقال فحشت الناقة إذا وقفت على هيئة مخصوصة للبول فالفحش يلازمه القبح ولهذا لم يقل الفواحش من الإثم وقال في الكبائر كَبَائِرَ الإثْمِ لأن الكبائر إن لم يميزها بالإضافة إلى الإثم لما حصل المقصود بخلاف الفواحش
المسألة الرابعة كثرت الأقاويل في الكبائر والفواحش فقيل الكبائر ما أوعد الله عليه بالنار صريحاً وظاهراً والفواحش ما أوجب عليه حداً في الدنيا وقيل الكبائر ما يكفر مستحله وقيل الكبائر مالا يغفر الله لفاعله إلا بعد التوبة وهو على مذهب المعتزلة وكل هذه التعريفات تعريف الشيء بما هو مثله في الخفاء أو فوقه وقد ذكرنا أن الكبائر هي التي مقدارها عظيم والفواحش هي التي قبحها واضح فالكبيرة صفة عائدة إلى المقدار والفاحشة صفة عائدة إلى الكيفية كما يقال مثلاً في الأبرص علته بياض لطخة كبيرة ظاهرة اللون فالكبيرة لبيان الكمية والظهور لبيان الكيفية وعلى هذا فنقول على ما قلنا إن الأصل في كل معصية أن تكون كبيرة لأن نعم الله كثيرة ومخالفة المنعم سيئة عظيمة غير أن الله تعالى حط عن عباده الخطأ والنسيان لأنهما لا يدلان على ترك التعظيم إما لعمومه في العباد أو لكثرة وجوده منهم كالكذبة والغيبة مرة أو مرتين والنظرة والقبائح التي فيها شبهة فإن المجتنب عنها قليل في جميع الأعصار ولهذا قال أصحابنا إن استماع الغناء الذي مع الأوتار يفسق به وإن استمعه من أهل بلدة لا يعتدون أمر ذلك لا يفسق فعادت الصغيرة إلى ما ذكرنا من أن العقلاء إن لم يعدوه تاركاً للتعظيم لا يكون مرتكباً للكبيرة وعلى هذا تختلف الأمور باختلاف الأوقات والأشخاص فالعالم المتقي إذا كان يتبع النساء أو يكثر من اللعب يكون مرتبكاً للكبيرة والدلال والباعة والمتفرغ الذي لا شغل له لا يكون كذلك وكذلك اللعب وقت الصلاة واللعب في غير ذلك الوقت وعلى هذا كل ذنب كبيرة إلا ما علم المكلف أو ظن خروجه بفضل الله وعفوه عن الكبائر
المسألة الخامسة في اللمم وفيه أقوال أحدها ما يقصده المؤمن ولا يحققه وهو على هذا القول من لم يلم إذا جمع فكأنه جمع عزمه وأجمع عليه وثانيها ما يأتي به المؤمن ويندم في الحال وهو من اللمم الذي هو مس من الجنون كأنه مسه وفارقه ويؤيد هذا قوله تعالى وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ ( آل عمران 135 ) ثالثها اللمم الصغير من الذنب من ألم إذا نزل نزولاً من غير لبث طويل ويقال ألم بالطعام إذا قلل من أكله وعلى هذا فقوله إِلاَّ اللَّمَمَ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون ذلك استثناء من الفواحش وحينئذ فيه وجهان أحدهما استثناء منقطع لأن اللمم ليس من الفواحش وثانيهما غير منقطع لما بينا أن كل معصية إذا نظرت إلى جانب الله تعالى وما يجب أن يكون عليه فهي كبيرة وفاحشة ولهذا قال الله تعالى وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً ( الأعراف 28 ) غير أن الله تعالى استثنى منها أموراً يقال الفواحش كل معصية

إلا ما استثناه الله تعالى منها ووعدنا بالعفو عنه ثانيها إِلا بمعنى غير وتقديره والفواحش غير اللمم وهذا للوصف إن كان للتمييز كما يقال الرجال غير أولي الإربة فاللمم عين الفاحشة وإن كان لغيره كما يقال الرجال غير النساء جاؤوني لتأكيد وبيان فلا وثالثها هو استثناء من الفعل الذي يدل عليه قوله تعالى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ لأن ذلك يدل على أنهم لا يقربونه فكأنه قال لا يقربونه إلا مقاربة من غير مواقعة وهو اللمم
ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَة ِ وذلك على قولنا الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ ابتداء الكلام في غاية الظهور لأن المحسن مجزى وذنبه مغفور ومجتنب الكبائر كذلك ذنبه الصغير مغفور والمقدم على الكبائر إذا تاب مغفور الذنب فلم يبق ممن لم تصل إليهم مغفرة إلا الذين أساؤا وأصروا عليها فالمغفرة واسعة وفيه معنى آخر لطيف وهو أنه تعالى لما أخرج المسيء عن المغفرة بين أن ذلك ليس لضيق فيها بل ذلك بمشيئة الله تعالى ولو أراد الله مغفرة كل من أحسن وأساء لفعل وما كان يضيق عنهم مغفرته والمغفرة من الستر وهو لا يكون إلا على قبيح وكل من خلقه الله إذا نظرت في فعله ونسبته إلى نعم الله تجده مقصراً مسيئاً فإن من جازى المنعم بنعم لا تحصى مع استغنائه الظاهر وعظمته الواضحة بدرهم أو أقل منه يحتاج إلى ستر ما فعله
ثم قال تعالى هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّة ٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ وفي المناسبة وجوه أحدها هو تقرير لما مر من قوله هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ ( النجم 30 ) كأن العامل من الكفار يقول نحن نعمل أموراً في جوف الليل المظلم وفي البيت الخالي فكيف يعلمه الله تعالى فقال ليس عملكم أخفى من أحوالكم وأنتم أجنة في بطون أمهاتكم والله عالم بتلك الأحوال ثانيها هو إشارة إلى الضال والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله فإن الحق علم أحوالهم وهم في بطون الأمهات فكتب على البعض أنه ضال والبعض أنه مهتد ثالثها تأكيد وبيان للجزاء وذلك لأنه لما قال لِيَجْزِى َ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ ( النجم 31 ) قال الكافرون هذا الجزاء لا يتحقق إلا بالحشر وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيد من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط غير ممكن فقال تعالى هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ فيجمعها بقدرته على وفق علمه كماأنشأكم وفيه مسائل
المسألة الأولى العامل في إِذْ يحتمل أن يكون ما يدل عليه أَعْلَمُ أي علمكم وقت الإنشاء ويحتمل أن يكون اذكروا فيكون تقريراً لكونه عالماً ويكون تقديره هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ وقد تم الكلام ثم يقول إن كنتم في شك من علمه بكم فاذكروا حال إنشائكم من التراب
المسألة الثانية ذكرنا مراراً أن قوله مّنَ الاْرْضِ من الناس من قال آدم فإنه من تراب وقررنا أن كل أحد أصله من التراب فإنه يصير غذاء ثم يصير نطفة
المسألة الثالثة لو قال قائل لا بد من صرف إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ إلى آدم لأن وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّة ٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ

عائد إلى غيره فإنه لم يكن جنيناً ولو قلت بأن قوله تعالى إِذْ أَنشَأَكُمْ عائد إلى جميع الناس فينبغي أن يكون جميع الناس أجنة في بطون الأمهات وهو قول الفلاسفة نقول ليس كذلك لأنا نقول الخطاب مع الموجودين حالة الخطاب وقوله تعالى هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ خطاب مع كل من بعد الإنزال على قول ومع من حضر وقت الإنزال على قول ولا شك أن كل هؤلاء من الأرض وهم كانوا أجنة
المسألة الرابعة الأجنة هم الذين في بطون الأمهات وبعد الخروج لا يسمى إلا ولداً أو سقطاً فما فائدة قوله تعالى فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ نقول التنبيه على كمال العلم والقدرة فإن بطن الأم في غاية الظلمة ومن علم بحال الجنين فيها لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد
المسألة الخامسة لقائل أن يقول إذا قلنا إن قوله هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ تقرير لكونه عالماً بمن ضل فقوله تعالى فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ تعلقه به ظاهر وأما إن قلنا إنه تأكيد وبيان للجزاء فإنه يعلم الأجزاء فيعيدها إلى أبدان أشخاصها فكيف يتعلق به فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ نقول معناه حينئذ فلا تبرئوا أنفسكم من العذاب ولا تقولوا تفرقت الأجزاء فلا يقع العذاب لأن العالم بكم عند الإنشاء عالم بكم عند الإعادة وعلى هذا قوله أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى أي يعلم أجزاءه فيعيدها إليه ويثيبه بما أقدم عليه
المسألة السادسة الخطاب مع من فيه ثلاثة احتمالات الأول مع الكفار وهذا على قولنا إنهم قالوا كيف يعلمه الله فرد عليهم قولهم الثاني كل من كان زمان الخطاب وبعده من المؤمنين والكفار الثالث هو مع المؤمنين وتقريره هو أن الله تعالى لما قال فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ( النجم 29 ) قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) قد علم كونك ومن معك على الحق وكون المشركين على الباطل فأعرض عنهم ولا تقولوا نحن على الحق وأنتم على الضلال لأنهم يقابلونكم بمثل ذلك وفوض الأمر إلى الله تعالى فهو أعلم بمن اتقى ومن طغى وعلى هذا فقول من قال فَأَعْرَضَ منسوخ أظهر وهو كقوله تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدِى َ أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( سبأ 24 ) والله أعلم بجملة الأمور ويحتمل أن يقال على هذا الوجه الثالث إنه إرشاد للمؤمنين فخاطبهم الله وقال هو أعلم بكم أيها المؤمنون علم ما لكم من أول خلقكم إلى آخر يومكم فلا تزكوا أنفسكم رياء وخيلاء ولا تقولوا لآخر أنا خير منك وأنا أزكى منك وأتقى فإن الأمر عند الله ووجه آخر وهو إشارة إلى وجوب الخوف من العاقبة أي لا تقطعوا بخلاصكم أيها المؤمنون فإن الله يعلم عاقبة من يكون على التقي وهذا يؤيد قول من يقول أنا مؤمن إن شاء الله للصرف إلى العاقبة ثم قال تعالى
أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعض المفسرين نزلت الآية في الوليد بن المغيرة جلس عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسمع وعظه وأثرت الحكمة فيه تأثيراً قوياً فقال له رجل لم تترك دين آبائك ثم قال له لا تخف وأعطني كذا وأنا أتحمل عنك أوزارك فأعطاه بعض ما التزمه وتولى عن الوعظ وسماع الكلام من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال بعضهم

نزلت في عثمان رضي الله عنه كان يعطي ماله عطاء كثيراً فقال له أخوه من أمه عبد الله بن سعد بن أبي سرح يوشك أن يفنى مالك فأمسك فقال له عثمان إن لي ذنوباً أرجو أن يغفر الله لي بسبب العطاء فقال له أخوه أنا أتحمل عنك ذنوبك إن تعطي ناقتك مع كذا فأعطاه ما طلب وأمسك يده عن العطاء فنزلت الآية وهذا قول باطل لا يجوز ذكره لأنه لم يتواتر ذلك ولا اشتهر وظاهر حال عثمان رضي الله عنه يأبى ذلك بل الحق أن يقال إن الله تعالى لما قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) من قبل فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا ( النجم 29 ) وكان التولي من جملة أنواعه تولى المستغني فإن العالم بالشيء لا يحضر مجالس ذكر ذلك الشيء ويسعى في تحصيل غيره فقال أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى عن استغناء أعلم بالغيب
المسألة الثانية الفاء تقتضي كلاماً يترتب هذا عليه فماذا هو نقول هو ما تقدم من بيان علم الله وقدرته ووعده المسيء والمحسن بالجزاء وتقديره هو أن الله تعالى لما بين أن الجزاء لا بد من وقوعه على الإساءة والإحسان وأن المحسن هو الذي يجتنب كبائر الإثم فلم يكن الإنسان مستغنياً عن سماع كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأتباعه فبعد هذا من تولى لا يكون توليه إلا بعد غاية الحاجة ونهاية الافتقار
المسألة الثالثة الَّذِى على ما قال بعض المفسرين عائد إلى معلوم وهو ذلك الرجل وهو الوليد والظاهر أنه عائد إلى مذكور فإن الله تعالى قال من قبل فَأَعْرَضَ مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وهو المعلوم لأن الأمر بالإعراض غير مختص بواحد من المعاندين فقال أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى أي الذي سبق ذكره فإن قيل كان ينبغي أن يقول الذين تولوا لأن ( من ) في قوله الَّذِى تَوَلَّى للعموم نقول العود إلى اللفظ كثير شائع قال تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ ( القصص 84 ) ولم يقل فلهم
المسألة الرابعة قوله تعالى وَأَعْطَى قَلِيلاً ما المراد منه نقول على ما تقدم هو المقدار الذي أعطاه الوليد وقوله وَأَكْدَى هو ما أمسك عنه ولم يعط الكل وعلى هذا لو قال قائل إن الإكداء لا يكون مذموماً لأن الإعطاء كان بغير حق فالامتناع لا يذم عليه وأيضاً فلا يبقى لقوله قَلِيلاً فائدة لأن الإعطاء حينئذ نفسه يكون مذموماً نقول فيه بيان خروجهم عن العقل والعرف أما العقل فلأنه منع من الإعطاء لأجل حمل الوزر فإنه لا يحصل به وأما العرف فلأن عادة الكرام من العرب الوفاء بالعهد وهو لم يف به حيث التزم الإعطاء وامتنع والذي يليق بما ذكرنا هو أن نقول تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا يعني إعطاء ما وجب إعطاؤه في مقابلة ما يجب لإصلاح أمور الآخرة ويقع في قوله تعالى عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ في مقابلة قوله تعالى ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ ( النجم 30 ) أي لم يعلم الغيب وما في الآخرة وقوله تعالى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( النجم 36 38 ) في مقابلة قوله هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ إلى قوله لِيَجْزِى َ الَّذِينَ ( النجم 30 31 ) لأن الكلامين جميعاً لبيان الجزاء ويمكن أن يقال إن الله تعالى لما بين حال المشركين المعاندين العابدين للات والعزى والقائلين بأن الملائكة بنات الله شرع في بيان أهل الكتاب وقال بعدما رأيت حال المشرك الذي تولى عن ذكرنا أفرأيت حال من تولى وله كتاب وأعطى قليلاً من الزمان حقوق الله تعالى ولما بلغ زمان محمد أكدى فهل علم الغيب فقال شيئاً لم يرد في كتبهم ولم ينزل عليهم في الصحف المتقدمة ووجد فيها بأن كل واحد يؤاخذ بفعله ويجازى

بعمله وقوله تعالى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى يخبر أن المتولي المذكور من أهل الكتاب
المسألة الخامسة أكدى قيل هو من بلغ الكدية وهي الأرض الصلبة لا تحفر وحافر البئر إذا وصل إليها فامتنع عليه الحفر أو تعسر يقال أكدى الحافر والأظهر أنه الرد والمنع يقال أكديته أي رددته وقوله تعالى فأَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ قد علم تفسيره جملة أن المراد جهل المتولي وحاجته وبيان قبح التولي مع الحاجة إلى الإقبال وعلم الغيب أي العلم بالغيب أي علم ما هو غائب عن الخلق وقوله فَهُوَ يَرَى تتمة بيان وقت جواز التولي وهو حصول الرؤية وهو الوقت الذي لا ينفع الإيمان فيه وهناك لا يبقى وجوب متابعة أحد فيما رآه لأن الهادي يهدي إلى الطريق فإذا رأى المهتدي مقصده بعينه لا ينفيه السماع فقال تعالى هل علم الغيب بحيث رآه فلا يكون علمه علماً نظرياً بل علماً بصرياً فعصى فتولى وقوله تعالى فَهُوَ يَرَى يحتمل أن يكون مفعول يَرَى هو احتمال الواحد وزر الآخر كأنه قال فهو يرى أن وزره محمول ألم يسمع أن وزره غير محمول فهو عالم بالحمل وغافل عن عدم الحمل ليكون معذوراً ويحتمل أن لا يكون له مفعول تقديره فهو يرى رأي نظر غير محتاج إلى هاد ونذير
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى
وقوله تعالى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى حال أخرى مضادة للأولى يعذر فيها المتولي وهو الجهل المطلق فإن من علم الشيء علماً تاماً لا يؤمر بتعلمه والذي جهله جهلاً مطلقاً وهو الغافل على الإطلاق كالنائم أيضاً لا يؤمر فقال هذا المتولي هل علم الكل فجاز له التولي أولم يسمع شيئاً وما بلغه دعوة أصلاً فيعذر ولا واحد من الأمرين بكائن فهو في التولي غير معذور وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى بِمَا وَفَّى يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد ما فيها لا بصفة كونه فيها فكأنه تعالى يقول أم لم ينبأ بالتوحيد والحشر وغير ذلك وهذه أمور مذكورة في صحف موسى مثال يقول القائل لمن توضأ بغير الماء توضأ بما توضأ به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا فالكلام مع الكل لأن المشرك وأهل الكتاب نبأهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما في صحف موسى ثانيهما أن المراد بما في الصحف مع كونه فيها كما يقول القائل فيما ذكرنا من المثال توضأ بما في القربة لا بما في الجرة فيريد عين ذلك لا جنسه وعلى هذا فالكلام مع أهل الكتاب لأنهم الذين نبئوا به
المسألة الثانية صحف موسى وإبراهيم هل جمعها لكونها صحفاً كثيرة أو لكونها مضافة إلى اثنين كما قال تعالى فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم 4 ) الظاهر أنها كثيرة قال الله تعالى وَأَخَذَ الاْلْوَاحِ ( الأعراف 154 ) وقال تعالى وَأَلْقَى الالْوَاحَ ( الأعراف 150 ) وكل لوح صحيفة
المسألة الثالثة ما المراد بالذي فيها نقول قوله تعالى أَلاَّ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( النجم 38 39 ) وما بعده من الأمور المذكورة على قراءة من قرأ أن بالفتح وعلى قراءة من يكسر ويقول وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ففيه وجوه أحدها هو ما ذكر بقوله أَلاَّ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى وهو الظاهر وإنما احتمل غيره لأن صحف موسى وإبراهيم ليس فيها هذا فقط

وليس هذا معظم المقصود بخلاف قراءة الفتح فإن فيها تكون جميع الأصول على ما بين ثانيها هو أن الآخرة خير من الأولى يدل عليه قوله تعالى إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى ( الأعلى 18 19 ) ثالثها أصول الدين كلها مذكورة في الكتب بأسرها ولم يخل الله كتاباً عنها ولهذا قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) وليس المراد في الفروع لأن فروع دينه مغايرة لفروع دينهم من غير شك
المسألة الرابعة قدم موسى ههنا ولم يقل كما قال في سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( الأعلى 1 ) فهل فيه فائدة نقول مثل هذا في كلام الفصحاء لا يطلب له فائدة بل التقديم والتأخير سواء في كلامهم فيصح أن يقتصر على هذا الجواب ويمكن أن يقال إن الذكر هناك لمجرد الإخبار والإنذار وههنا المقصود بيان انتفاء الأعذار فذكر هناك على ترتيب الوجود صحف إبراهيم قبل صحف موسى في الإنزال وأما ههنا فقد قلنا إن الكلام مع أهل الكتاب وهم اليهود فقدم كتابهم وإن قلنا الخطاب عام فصحف موسى عليه السلام كانت كثيرة الوجود فكأنه قيل لهم انظروا فيها تعلموا أن الرسالة حق وأرسل من قبل موسى رسل والتوحيد صدق والحشر واقع فلما كانت صحف موسى عند اليهود كثيرة الوجود قدمها وأما صحف إبراهيم فكانت بعيدة وكانت المواعظ التي فيها غير مشهورة فيما بينهم كصحف موسى فأخر ذكرها
المسألة الخامسة كثيراً ما ذكر الله موسى فأخر ذكره عليه السلام لأنه كان مبتلى في أكثر الأمر بمن حواليه وهم كانوا مشركين ومتهودين والمشركون كانوا يعظمون إبراهيم عليه السلام لكونه أباهم وأما قوله تعالى وَفَّى ففيه وجهان أحدهما أنه الوفاء الذي يذكر في العهود وعلى هذا فالتشديد للمبالغة يقال وفى ووفى كقطع وقطع وقتل وقتل وهو ظاهر لأنه وفى بالنذر وأضجع ابنه للذبح وورد في حقه قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ( الصافات 105 ) وقال تعالى إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ ( الصافات 106 ) وثانيهما أنه من التوفية التي من الوفاء وهو التمام والتوفية الإتمام يقال وفاه أي أعطاه تاماً وعلى هذا فهو من قوله وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ( البقرة 124 ) وقيل وَفَّى أي أعطى حقوق الله في بدنه وعلى هذا فهو على ضد من قال تعالى فيه وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى مدح إبراهيم ولم يصف موسى عليه السلام نقول أما بيان توفيته ففيه لطيفة وهي أنه لم يعهد عهداً إلا وفى به وقال لأبيه سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ( يوسف 98 ) فاستغفر ووفى بالعهد ولم يغفر الله له فعلم ءانٍ لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وأن وزره لا تزره نفس أخرى وأما مدح إبراهيم عليه السلام فلأنه كان متفقاً عليه بين اليهود والمشركين والمسلمين ولم ينكر أحد كونه وفياً وموفياً وربما كان المشركون يتوقفون في وصف موسى عليه السلام ثم قال تعالى أَلاَّ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى وقد تقدم تفسيره في سورة الملائكة والذي يحسن بهذا الموضع مسائل
الأولى أنا بينا أن الظاهر أن المراد من قوله بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى هو ما بينه بقوله أَلاَّ تَزِرُ فيكون هذا بدلاً عن ما وتقديره أم لم ينبأ بألا تزر وذكرنا هناك وجهين أحدهما المراد أن الآخرة خير وأبقى وثانيهما الأصول
المسألة الثانية أَلاَّ تَزِرُ أن خفيفة من الثقيلة كأنه قال أنه لا تزر وتخفيف الثقيلة لازم وغير لازم

جائز وغير جائز فاللازم عندما يكون بعدها فعل أو حرف داخل على فعل ولزم فيها التخفيف لأنها مشبهة بالفعل في اللفظ والمعنى والفعل لا يمكن إدخاله على فعل فأخرج عن شبه الفعل إلى صورة تكون حرفاً مختصاً بالفعل فتناسب الفعل فتدخل عليه
المسألة الثالثة إن قال قائل الآية مذكورة لبيان أن وزر المسيء لا يحمل عنه وبهذا الكلام لا تحصل هذه الفائدة لأن الوازرة تكون مثقلة بوزرها فيعلم كل أحد أنها لا تحمل شيئاً ولو قال لا تحمل فارغة وزر أخرى كان أبلغ تقول ليس كما ظننت وذلك لأن المراد من الوازرة هي التي يتوقع منها الوزر والحمل لا التي وزرت وحملت كما يقال شقاني الحمل وإن لم يكن عليه في الحال حمل وإذا لم تزر تلك النفس التي يتوقع منها ذلك فكيف تتحمل وزر غيرها فتكون الفائدة كاملة
وقوله تعالى وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى تتمة بيان أحوال المكلف فإنه لما بين له أن سيئته لا يتحملها عنه أحد بين له أن حسنة الغير لا تجدي نفعاً ومن لم يعمل صالحاً لا ينال خيراً فيكمل بها ويظهر أن المسيء لا يجد بسبب حسنة الغير ثواباً ولا يتحمل عنه أحد عقاباً وفيه أيضاً مسائل
الأولى لَّيْسَ لِلإنسَانِ فيه وجهان أحدهما أنه عام وهو الحق وقيل عليه بأن في الأخبار أن ما يأتي به القريب من الصدقة والصوم يصل إلى الميت والدعاء أيضاً نافع فللإنسان شيء لم يسمع فيه وأيضاً قال الله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ( الأنعام 160 ) وهي فوق ما سعى الجواب عنه أن الإنسان إن لم يسع في أن يكون له صدقة القريب بالإيمان لا يكون له صدقته فليس له إلا ما سعى وأما الزيادة فنقول الله تعالى لما وعد المحسن بالأمثال والعشرة وبالأضعاف المضاعفة فإذا أتى بحسنة راجياً أن يؤتيه الله ما يتفضل به فقد سعى في الأمثال فإن قيل أنتم إذن حملتم السعي على المبادرة إلى الشيء يقال سعى في كذا إذا أسرع إليه والسعي في قوله تعالى إِلاَّ مَا سَعَى معناه العمل يقال سعى فلان أي عمل ولو كان كما ذكرتم لقال إلا ما سعى فيه نقول على الوجهين جميعاً لا بد من زيادة فإن قوله تعالى لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ليس المراد منه أن له عين ما سعى بل المراد على ما ذكرت ليس له إلا ثواب ما سعى أو إلا أجر ما سعى أو يقال بأن المراد أن ما سعى محفوظ له مصون عن الإحباط فإذن له فعله يوم القيامة الوجه الثاني أن المراد من الإنسان الكافر دون المؤمن وهو ضعيف وقيل بأن قوله لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى كان في شرع من تقدم ثم إن الله تعالى نسخه في شرع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجعل للإنسان ما سعى وما لم يسع وهو باطل إذ لا حاجة إلى هذا التكلف بعدما بان الحق وعلى ما ذكر فقوله مَا سَعَى مبقى على حقيقته معناه له عين ما سعى محفوظ عند الله تعالى ولا نقصان يدخله ثم يجزى به كما قال تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ( الزلزلة 7 )
المسألة الثانية أن مَا خبرية أو مصدرية نقول كونها مصدرية أظهر بدليل قوله تعالى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى أي سوف يرى المسعي والمصدر للمفعول يجيء كثيراً يقال هذا خلق الله أي مخلوقه
المسألة الثالثة المراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة أو بيان كل عمل نقول المشهور أنهما لكل عمل فالخير مثاب عليه والشر معاقب به والظاهر أنه لبيان الخيرات يدل عليه اللام في قوله تعالى لِلإِنسَانِ فإن اللام لعود المنافع وعلى لعود المضار تقول هذا له وهذا عليه ويشهد له ويشهد عليه في المنافع

والمضار وللقائل الأول أن يقول بأن الأمرين إذا اجتمعا غلب الأفضل كجموع السلامة تذكر إذا اجتمعت الإناث مع الذكور وأيضاً يدل عليه قوله تعالى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الاوْفَى والأوفى لا يكون إلا في مقابلة الحسنة وأما في السيئة فالمثل أو دونه العفو بالكلية
المسألة الرابعة إِلاَّ مَا سَعَى بصيعة الماضي دون المستقبل لزياد الحث على السعي في العمل الصالح وتقريره هو أنه تعالى لو قال ليس للإنسان إلا ما يسعى تقول النفس إني أصلي غداً كذا ركعة وأتصدق بكذا درهماً ثم يجعل مثبتاً في صحيفتي الآن لأنه أمر يسعى وله فيه ما يسعى فيه فقال ليس له إلا ما قد سعى وحصل وفرغ منه وأما تسويلات الشيطان وعداته فلا اعتماد عليها ثم قال تعالى
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى
أي يعرض عليه ويكشف له من أريته الشيء وفيه بشارة للمؤمنين على ما ذكرنا وذلك أن الله يريه أعماله الصالحة ليفرح بها أو يكون يرى ملائكته وسائر خلقه ليفتخر العامل به على ما هو المشهور وهو مذكور لفرح المسلم ولحزن الكافر فإن سعيه يرى للخلق ويرى لنفسه ويحتمل أن يقال هو من رأى يرى فيكون كقوله تعالى وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ( التوبة 105 ) وفيها وفي الآية التي بعدها مسائل
الأولى العمل كيف يرى بعد وجوده ومضيه نقول فيه وجهان أحدهما يراه على صورة جميلة إن كان العمل صالحاً ثانيهما هو على مذهبنا غير بعيد فإن كل موجود يرى والله قادر على إعادة كل معدوم فبعد الفعل يرى وفيه وجه ثالث وهو أن ذلك مجاز عن الثواب يقال سترى إحسانك عند الملك أي جزاءه عليه وهو بعيد لما قال بعده ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الاوْفَى
المسألة الثانية الهاء ضمير السعي أي ثم يجزى الإنسان سعيه بالجزاء والجزاء يتعدى إلى مفعولين قال تعالى وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّة ً وَحَرِيراً ( الإنسان 12 ) ويقال جزاك الله خيراً ويتعدى إلى ثلاثة مفاعيل بحرف يقال جزاه الله على عمله الخير الجنة ويحذف الجار ويوصل الفعل فيقال جزاه الله عمله الخير الجنة هذا وجه وفيه وجه آخر وهو أن الضمير للجزاء وتقديره ثم يجزى جزاء ويكون قوله الْجَزَاء الاوْفَى تفسيراً أو بدلاً مثل قوله تعالى وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( الأنبياء 3 ) فإن التقدير والذين ظلموا أسروا النجوى الذين ظلموا والجزاء الأوفى على ما ذكرنا يليق بالمؤمنين الصالحين لأنه جزاء الصالح وإن قال تعالى فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا ( الإسراء 63 ) وعلى ما قيل يجاب أن الأوفى بالنظر إليه فإن جهنم ضررها أكثر بكثير مع نفع الآثام فهي في نفسها أوفى
المسألة الثالثة ثُمَّ لتراخي الجزاء أو لتراخي الكلام أي ثم نقول يجزاه فإن كان لتراخي الجزاء فكيف يؤخر الجزاء عن الصالح وقد ثبت أن الظاهر أن المراد منه الصالح نقول الوجهان محتملان وجواب

السؤال هو أن الوصف بالأوفى يدفع ما ذكرت لأن الله تعالى من أول زمان يموت الصالح يجزيه جزاء على خيره ويؤخر له الجزاء الأوفى وهي الجنة أو نقول الأوفى إشارة إلى الزيادة فصار كقوله تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ( يونس 26 ) وهي الجنة وَزِيَادَة ٌ وهي الرؤية فكأنه تعالى قال وأن سعيه سوف يرى ثم يرزق الرؤية وهذا الوجه يليق بتفسير اللفظ فإن الأوفى مطلق غير مبين فلم يقل أوفى من كذا فينبغي أن يكون أوفى من كل واف ولا يتصف به غير رؤية الله تعالى
المسألة الرابعة في بيان لطائف في الآيات الأولى قال في حق المسيء أَلاَّ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى وهو لا يدل إلا على عدم الحمل عن الوازرة وهذا لا يلزم منه بقاء الوزر عليها من ضرورة اللفظ لجواز أن يسقط عنها ويمحو الله ذلك الوزر فلا يبقى عليها ولا يتحمل عنها غيرها ولو قال لا تزر وازرة إلا وزر نفسها كان من ضرورة الاستثناء أنها تزر وقال في حق المحسن ليس للإنسان إلا ما سعى ولم يقل ليس له ما لم يسع لأن العبارة الثانية ليس فيها أن له ما سعى وفي العبارة الأولى أن له ما سعى نظراً إلى الاستثناء وقال في حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءه وفي حق المحسن بعبارة تقطع خوفه كل ذلك إشارة إلى سبق الرحمة الغضب
ثم قال تعالى
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى
القراءة المشهورة فتح الهمزة على العطف على ما يعني أن هذا أيضاً في الصحف وهو الحق وقرىء بالكسر على الاستئناف وفيه مسائل
الأولى ما المراد من الآية قلنا فيه وجهان أحدهما وهو المشهور بيان المعاد أي للناس بين يدي الله وقوف وعلى هذا فهو يتصل بما تقدم لأنه تعالى لما قال ثُمَّ يُجْزَاهُ كأن قائلاً قال لا ترى الجزاء ومتى يكون فقال إن المرجع إلى الله وعند ذلك يجازى الشكور ويجزي الكفور وثانيهما المراد التوحيد وقد فسر الحكماء أكثر الآيات التي فيها الانتهاء والرجوع بما سنذكره غير أن في بعضها تفسيرهم غير ظاهر وفي هذا الموضع ظاهر فنقول هو بيان وجود الله تعالى ووحدانيته وذلك لأنك إذا نظرت إلى الموجودات الممكنة لا تجد لها بداً من موجد ثم إن موجدها ربما يظن أنه ممكن آخر كالحرارة التي تكون على وجه يظن أنها من إشراق الشمس أو من النار فيقال الشمس والنار ممكنتان فمم وجودهما فإن استندتا إلى ممكن آخر لم يجد العقل بداً من الانتهاء إلى غير ممكن فهو واجب الوجود فإليه ينتهي الأمر فالرب هو المنتهى وهذا في هذا الموضع ظاهر معقول موافق للمنقول فإن المروي عن أبي بن كعب أنه قال عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( وأن إلى ربك المنتهى لا فكرة في الرب ) أي انتهى الأمر إلى واجب الوجود وهو الذي لا يكون وجوده بموجد ومنه كل وجود وقال أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إذا ذكر الرب فانتهوا ) وهو محتمل لما ذكرنا وأما بعض الناس فيبالغ ويفسر كل آية فيها الرجعى والمنتهى وغيرهما بهذا التفسير حتى قيل إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) بهذا المعنى وهذا دليل الوجود وأما دليل الوحدانية فمن حيث إن العقل انتهى إلى واجب الوجود من حيث إنه واجب الوجود لأنه لو لم يكن واجب الوجود لما كان منتهى بل يكون له موجد فالمنتهى هو الواجب من حيث إنه واجب وهذا المعنى واحد في الحقيقة والعقل لأنه لا بد من

الانتهاء إلى هذا الواجب أو إلى ذلك الواجب فلا يثبت الواجب معنى غير أنه واجب فيبعد إذاً وجوبه فلو كان واجبان في الوجود لكان كل واحد قبل المنتهى لأن المجموع قبله الواجب فهو المنتهى وهذان دليلان ذكرتهما على وجه الاختصار
المسألة الثانية قوله تعالى إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى في المخاطب وجهان أحدهما أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل ثانيهما الخطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه بيان صحة دينه فإن كل أحد كان يدعى رباً وإلهاً لكنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما قال ( ربي الذي هو أحد وصمد ) يحتاج إليه كل ممكن فإذاً ربك هو المنتهى وهو رب الأرباب ومسبب الأسباب وعلى هذا القول الكاف أحسن موقعاً أما على قولنا إن الخطاب عام فهو تهديد بليغ للمسيء وحث شديد للمحسن لأن قوله أيها السامع كائناً من كان إلى ربك المنتهى يفيد الأمرين إفادة بالغة حد الكمال وأما على قولنا الخطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهو تسلية لقلبه كأنه يقول لا تحزن فإن المنتهى إلى الله فيكون كقوله تعالى فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إلى أن قال تعالى في آخر السورة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ي س 76 83 ) وأمثاله كثيرة في القرآن
المسألة الثالثة اللام على الوجه الأول للعهد لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول أبداً إن مرجعكم إلى الله فقال وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى الموعود المذكور في القرآن وكلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى الوجه الثاني للعموم أي إلى الرب كل منتهى وهو مبدأ وعلى هذا الوجه نقول منتهى الإدراكات المدركات فإن الإنسان أولاً يدرك الأشياء الظاهرة ثم يمعن النظر فينتهي إلى الله فيقف عنده
ثم قال تعالى
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى
وفيه مسائل
الأولى على قولنا إليه المنتهى المراد منه إثبات الوحدانية هذه الآيات مثبتات لمسائل يتوقف عليها الإسلام من جملتها قدرة الله تعالى فإن من الفلاسفة من يعترف بأن الله المنتهى وأنه واحد لكن يقول هو موجب لا قادر فقال تعالى هو أوجد ضدين الضحك والبكاء في محل واحد والموت والحياة والذكورة والأنوثة في مادة واحدة وإن ذلك لا يكون إلا من قادر واعترف به كل عاقل وعلى قولنا إن قوله تعالى وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( النجم 42 ) بيان المعاد فهو إشارة إلى بيان أمره فهو كما يكون في بعضها ضاحكاً فرحاً وفي بعضها باكياً محزوناً كذلك يفعل به في الآخرة
المسألة الثانية أَضْحَكَ وَأَبْكَى لا مفعول لهما في هذا الموضع لأنهما مسوقتان لقدرة الله لا لبيان المقدور فلا حاجة إلى المفعول يقول القائل فلأن بيده الأخذ والعطاء يعطي ويمنع ولا يريد ممنوعاً ومعطى
المسألة الثالثة اختار هذين الوصفين للذكر والأنثى لأنهما أمران لا يعللان فلا يقدر أحد من الطبيعيين أن يبدي في اختصاص الإنسان بالضحك والبكاء وجهاً وسبباً وإذا لم يعلل بأمر ولا بد له من موجد فهو الله تعالى بخلاف الصحة والسقم فإنهم يقولون سببهما اختلال المزاج وخروجه عن الاعتدال ويدلك على

هذا أنهم إذا ذكروا في الضحك أمراً له الضحك قالوا قوة التعجب وهو في غاية البطلان لأن الإنسان ربما يبهت عند رؤية الأمور العجيبة ولا يضحك وقيل قوة الفرح وليس كذلك لأن الإنسان يفرح كثيراً ولا يضحك والحزين الذي عند غاية الحزن يضحكه المضحك وكذلك الأمر في البكاء وإن قيل لأكثرهم علماً بالأمور التي يدعيها الطبيعيون إن خروج الدمع من العين عند أمور مخصوصة لماذا لا يقدر على تعليل صحيح وعند الخواص كالتي في المغناطيس وغيرها ينقطع الطبيعي كما أن عند أوضاع الكواكب ينقطع هو والمهندس الذي لا يفوض أمره إلى قدرة الله تعالى وإرادته
ثم قال تعالى
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا
والبحث فيه كما في الضحك والبكاء غير أن الله تعالى في الأول بين خاصة النوع الذي هو أخص من الجنس فإنه أظهر وعن التعليل أبعد ثم عطف عليه ما هو أعم منه ودونه في البعد عن التعليل وهي الإماتة والإحياء وهما صفتان متضادتان أي الموت والحياة كالضحك والبكاء والموت على هذا ليس بمجرد العدم وإلا لكان الممتنع ميتاً وكيفما كان فالإماتة والإحياء أمر وجودي وهما من خواص الحيوان ويقول الطبيعي في الحياة لاعتدال المزاج والمزاج من أركان متضادة هي النار والهواء والماء والتراب وهي متداعية إلى الانفكاك ومالا تركيب فيه من المتضادات لا موت له لأن المتضادات كل أحد يطلب مفارقة مجاوره فقال تعالى الذي خلق ومزج العناصر وحفظها مدة قادر على أن يحفظها أكثر من ذلك فإذا مات فليس عن ضرورة فهو بفعل فاعل مختار وهو الله تعالى فهو الذي أمات وأحيا فإن قيل متى أمات وأحيا حتى يعلم ذلك بل مشاهدة الإحياء والإماتة بناء على الحياة والموت نقول فيه وجوه أحدها أنه على التقديم والتأخير كأنه قال أحيا وأمات ثانيها هو بمعنى المستقبل فإن الأمر قريب يقال فلان وصل والليل دخل إذا قرب مكانه وزمانه فكذلك الإحياء والإماتة ثالثها أمات أي خلق الموت والجمود في العناصر ثم ركبها وأحيا أي خلق الحس والحركة فيها
ثم قال تعالى
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاٍّ نثَى
وهو أيضاً من جملة المتضادات التي تتوارد على النطفة فبعضها يخلق ذكراً وبعضها أنثى ولا يصل إليه فهم الطبيعي الذي يقول إنه من البرد والرطوبة في الأنثى فرب امرأة أيبس مزاجاً من الرجل وكيف وإذا نظرت في المميزات بين الصغير والكبير تجدها أموراً عجيبة منها نبات اللحية وأقوى ما قالوا في نبات اللحية أنهم قالوا الشعور مكونة من بخار دخاني ينحدر إلى المسام فإذا كانت المسام في غاية الرطوبة والتحلل كما في مزاج الصبي والمرأة لا ينبت الشعر لخروج تلك الأدخنة من المسام الرطبة بسهولة قبل أن يتكون شعراً وإذا كانت في غاية اليبوسة والتكاثف ينبت الشعر لعسر خروجه من المخرج الضيق ثم إن تلك المواد تنجذب إلى مواضع مخصوصة فتندفع إما إلى الرأس فتندفع إليه لأنه مخلوق كقبة فوق الأبخرة والأدخنة فتتصاعد إليه تلك المواد فلهذا يكون شعر الرأس أكثر وأطول ولهذا في الرجل مواضع تنجذب إليها الأبخرة والأدخنة منها الصدر لحرارة القلب والحرارة تجذب الرطوبة كالسراج للزيت ومنها بقرب آلة التناسل لأن حرارة الشهوة تجذب أيضاً ومنها اللحيان فإنها كثيرة الحركة بسبب الأكل والكلام والحركة أيضاً جاذبة فإذا قيل لهم فما السبب الموجب لتلازم نبات شعر اللحية وآلة التناسل فإنها إذا قطعت لم تنبت اللحية وما الفرق بين سن الصبا وسن الشباب

وبين المرأة والرجل ففي بعضها يبهت وفي بعضها يتكلم بأمور واهية ولو فوضها إلى حكمة إلهية لكان أولى وفي مسألتان
الأول قال تعالى وَأَنَّهُ خَلَقَ ولم يقل وأنه هو خلق كما قال وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( النجم 43 ) وذلك لأن الضحك والبكاء ربما يتوهم متوهم أنه بفعل الإنسان وفي الإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم بعيداً لكن ربما يقول به جاهل كما قال من حاج إبراهيم الخليل عليه السلام حيث قال أَنَا أُحْى ِ وَأُمِيتُ ( البقرة 258 ) فأكد ذلك بذكر الفصل وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحد أن يفعل أحد من الناس فلم يؤكد بالفصل ألا ترى إلى قوله تعالى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ( النجم 48 ) حيث كان الإغناء عندهم غير مستند إلى الله تعالى وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى ( القصص 78 ) ولذلك قال وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى ( النجم 49 ) لأنهم كانوا يستبعدون أن يكون رب محمد هو رب الشعرى فأكد في مواضع استبعادهم النسبة إلى الله تعالى الإسناد ولم يؤكده في غيره
المسألة الثانية الذكر والأنثى اسمان هما صفة أو اسمان ليسا بصفة المشهور عند أهل اللغة الثاني والظاهر أنهما من الأسماء التي هي صفات فالذكر كالحسن والعزب والأنثى كالحبلى والكبرى وإنما قلنا إنها كالحبلى في رأي لأنها حيالها أنشئت لا كالكبرى وإن قلنا إنها كالكبرى في رأي وإنما قلنا إن الظاهر أنهما صفتان لأن الصفة ما يطلق على شيء ثبت له أمر كالعالم يطلق على شيء له علم والمتحرك يقال لشيء له حركة بخلاف الشجر والحجر فإن الشجر لا يقال لشيء بشرط أن يثبت له أمر بل هو اسم موضوع لشيء معين والذكر اسم يقال لشيء له أمر ولهذا يوصف به ولا يوصف بالشجر يقال جاءني شخص ذكر أو إنسان ذكر ولا يقال جسم شجر والذي ذهب إلى أنه اسم غير صفة إنما ذهب إليه لأنه لم يرد له فعل والصفة في الغالب له فعل كالعالم والجاهل والعزب والكبرى والحبلى وذلك لا يدل على ما ذهب إليه لأن الذكورة والأنوثة من الصفات التي لا يتبدل بعضها ببعض فلا يصاغ لها أفعال لأن الفعل لما يتوقع له تجدد في صورة الغالب ولهذا لم يوجد للإضافيات أفعال كالأبوة والبنوة والأخوة إذ لم تكن من الذي يتبدل ووجد للإضافيات المتبدلة أفعال يقال واخاه وتبناه لما لم يكن مثبتاً بتكلف فقبل التبدل
مِن نُّطْفَة ٍ إِذَا تُمْنَى
وقوله تعالى مِن نُّطْفَة ٍ أي قطعة من الماء
وقوله تعالى إِذَا تُمْنَى من أمنى المني إذا نزل أو منى يمني إذا قدر وقوله تعالى مِن نُّطْفَة ٍ تنبيه على كمال القدرة لأن النطفة جسم متناسب الأجزاء ويخلق الله تعالى منه أعضاء مختلفة وطباعاً متباينة وخلق الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون على ما بينا ولهذا لم يقدر أحد على أن يدعيه كما لم يقدر أحد على أن يدعي خلق السموات ولهذا قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ كما قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( الزمر 38 )
ثم قال تعالى
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَة َ الاٍّ خْرَى
وهي في قول أكثر المفسرين إشارة إلى الحشر والذي ظهر لي بعد طول التفكر والسؤال من فضل الله تعالى الهداية فيه إلى الحق أنه يحتمل أن يكون المراد نفخ

الروح الإنسانية فيه وذلك لأن النفس الشريفة لا الأمارة تخالط الأجسام الكثيفة المظلمة وبها كرم الله بني آدم وإليه الإشارة في قوله فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءاخَرَ ( المؤمنون 14 ) غير خلق النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظاماً وبهذا الخلق الآخر تميز الإنسان عن أنواع الحيوانات وشارك الملك في الإدراكات فكما قال هنالك ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ ( المؤمنون 14 ) بعد خلق النطفة قال ههنا وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَة َ الاْخْرَى فجعل نفخ الروح نشأة أخرى كما جعله هنالك إنشاء آخر والذي أوجب القول بهذا هو أن قوله تعالى وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( النجم 42 ) عند الأكثرين لبيان الإعادة وقوله تعالى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الاوْفَى ( النجم 41 ) كذلك فيكون ذكر النشأة الأخرى إعادة ولأنه تعالى قال بعد هذا وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ( النجم 48 ) وهذا من أحوال الدنيا وعلى ما ذكرنا يكون الترتيب في غاية الحسن فإنه تعالى يقول خلق الذكر والأنثى ونفخ فيهما الروح الإنسانية الشريفة ثم أغناه بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره ثم أقناه بالكسب بعد كبره فإن قيل فقد وردت النشأة الأخرى للحشر في قوله تعالى فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىء النَّشْأَة َ الاْخْرَى ( العنكبوت 20 ) نقول الآخرة من الآخر لا من الآخر لأن الآخر أفعل وقد تقدم على أن هناك لما ذكر البدء حمل على الإعادة وههنا ذكر خلقه من نطفة كما في قوله ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً ثم قال ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ ( المؤمنون 14 ) وفي الآية مسائل
المسألة الأولى عَلَى للوجوب ولا يجب على الله الإعادة فما معنى قوله تعالى وَأَنَّ عَلَيْهِ قال الزمخشري على ما هو مذهبه عليه عقلاً فإن من الحكمة الجزاء وذلك لا يتم إلا بالحشر فيجب عليه عقلاً الإعادة ونحن لا نقول بهذا القول ونقول فيه وجهان الأول عليه بحكم الوعد فإنه تعالى قال إِنَّا نَحْنُ نُحْى ِ الْمَوْتَى ( ي س 12 ) فعليه بحكم الوعد لا بالعقل ولا بالشرع الثاني عليه للتعيين فإن من حضر بين جمع وحاولوا أمراً وعجزوا عنه يقال وجب عليك إذن أن تفعله أي تعينت له
المسألة الثانية قرىء النَّشْأَة َ على أنه مصدر كالضربة على وزن فعلة وهي للمرة تقول ضربته ضربتين أي مرة بعد مرة يعني النشأة مرة أخرى عليه وقرىء النشأة بالمد على أنه مصدر على وزن فعالة كالكفالة وكيفما قرىء فهي من نشأ وهو لازم وكان الواجب أن يقال عليه الإنشاء لا النشأة نقول فيه فائدة وهي أن الجزم يحصل من هذا بوجود الخلق مرة أخرى ولو قال عليه الإنشاء ربما يقول قائل الإنشاء من باب الإجلاس حيث يقال في السعة أجلسته فما جلس وأقمته فما قام فيقال أنشاء وما نشأ أي قصده لينشأ ولم يوجد فإذا قال عليه النشأة أي يوجد النشء ويحققه بحيث يوجد جزماً
المسألة الثالثة هل بين قول القائل عليه النشأة مرة أخرى وبين قوله عليه النشأة الأخرى فرق نقول نعم إذا قال عليه النشأة مرة أخرى لا يكون النشء قد علم أولاً وإذا قال عَلَيْهِ النَّشْأَة َ الاْخْرَى يكون قد علم حقيقة النشأة الأخرى فنقول ذلك المعلوم عليه
ثم قال تعالى
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى
وقد ذكرنا تفسيره فنقول أَغْنَى يعني دفع حاجته ولم يتركه محتاجاً لأن الفقير في مقابلة الغني فمن لم يبق فقيراً بوجه من الوجوه فهو غني مطلقاً ومن لم يبق فقيراً من وجه

فهو غني من ذلك الوجه قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم ) وحمل ذلك على زكاة الفطر ومعناه إذا أتاه ما احتاج إليه وقوله تعالى أقنى معناه وزاد عليه الإقناء فوق الإغناء والذي عندي أن الحروف متناسبة في المعنى فنقول لما كان مخرج القاف فوق مخرج الغين جعل الإقناء لحالة فوق الإغناء وعلى هذا فالإغناء هو ما آتاه الله من العين واللسان وهداه إلى الارتضاع في صباه أو هو ما أعطاه الله تعالى من القوت واللباس المحتاج إليهما وفي الجملة كل ما دفع الله به الحاجة فهو إغناء وكل ما زاد عليه فهو إقناء
ثم قال تعالى
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى
إشارة إلى فساد قول قوم آخرين وذلك لأن بعض الناس يذهب إلى أن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده فمن كسب استغنى ومن كسل افتقر وبعضهم يذهب إلى أن ذلك بالبخت وذلك بالنجوم فقال وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وإن قائل الغنى بالنجوم غالط فنقول هو رب النجوم وهو محركها كما قال تعالى هُوَ رَبُّ الشّعْرَى وقوله هُوَ رَبُّ الشّعْرَى لإنكارهم ذلك أكد بالفصل والشعرى نجم مضيء وفي النجوم شعريان إحداهما شامية والأخرى يمانية والظاهر أن المراد اليمانية لأنهم كانوا يعبدونها
ثم قال تعالى
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاٍّ ولَى
لما ذكر أنه أَغْنَى وَأَقْنَى ( النجم 48 ) وكان ذلك بفضل الله لا بعطاء الشعرى وجب الشكر لمن قد أهلك وكفى لهم دليلاً حال عاد وثمود وغيرهم و عَاداً الاْولَى قيل بالأولى تميزت من قوم كانوا بمكة هم عاد الآخرة وقيل الأولى لبيان تقدمهم لا لتمييزهم تقول زيد العالم جاءني فتصفه لا لتميزه ولكن لتبين علمه وفيه قراءات عَاداً الاْولَى بكسر نون التنوين لالتقاء الساكنين و عَادٍ الاْولَى بإسقاط نون التنوين أيضاً لالتقاء الساكنين كقراءة عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ( التوبة 30 ) وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ( النجم 50 ) و عَاداً الاْولَى بإدغام النون في اللام ونقل ضمة الهمزة إلى اللام و عادالؤلي بهمزة الواو وقرأ هذا القارىء عَلَى ( الفتح 29 ) ودليله ضعيف وهو يحتمل هذا في موضع المؤقدة و المؤصدة ( الهمزة 6 8 ) للضمة والواو فهي في هذا الموضع تجزي على الهمزة وكذا في سؤقه لوجود الهمزة في الأصل وفي موسى وقوله لا يحسن
ثم قال تعالى
وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَى
الاْولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى يعني وأهلك ثمود وقوله فَمَا أَبْقَى عائد إلى عاد وثمود أي فما أبقى عليهم ومن المفسرين من قال فما أبقاهم أي فما أبقى منهم أحداً ويؤيد هذا قوله تعالى فَهَلْ تَرَى لَهُم مّن بَاقِيَة ٍ ( الحاقة 8 ) وتمسك الحجاج على من قال إن ثقيفاً من ثمود بقوله تعالى فَمَا أَبْقَى
وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى
وَقَوْمَ نُوحٍ أي أهلكهم مِن قَبْلُ والمسألة مشهورة في قبل وبعد تقطع عن الإضافة فتصير كالغاية فتبنى على الضمة أما البناء فلتضمنه الإضافة وأما على الضمة فلأنها لو بنيت على الفتحة لكان قد أثبت فيه ما يستحقه بالإعراب من حيث إنها ظروف زمان فتستحق النصب والفتح مثله ولو بنيت على الكسر لكان الأمر على ما يقتضيه الإعراب وهو الجر بالجار فبنى على ما يخالف حالتي إعرابها
وقوله تعالى إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى أما الظلم فلأنهم هم البادئون به المتقدمون فيه ( ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ) والبادىء أظلم وأما أطغى فلأنهم سمعوا المواعظ وطال عليهم الأمد ولم يرتدعوا حتى دعا عليهم نبيهم ولا يدعو نبي على قومه إلا بعد الإصرار العظيم والظالم واضع

الشيء في غير موضعه والطاغي المجاوز الحد فالطاغي أدخل في الظلم فهو كالمغاير والمخالف فإن المخالف مغاير مع وصف آخر زائد وكذا المغاير والمضاد وكل ضد غير وليس كل غير ضداً وعليه سؤال وهو أن قوله وَقَوْمَ نُوحٍ المقصود منه تخويف الظالم بالهلاك فإذا قال هم كانوا في غاية الظلم والطغيان فأهلكوا يقول الظالم هم كانوا أظلم فأهلكوا لمبالغتهم في الظلم ونحن ما بالغنا فلا نهلك وأما لو قال أهلكوا لأنهم ظلمة لخاف كل ظالم فما الفائدة في قوله أَظْلَمَ نقول المقصود بيان شدتهم وقوة أجسامهم فإنهم لم يقدموا على الظلم والطغيان الشديد إلا بتماديهم وطول أعمارهم ومع ذلك ما نجا أحد منهم فما حال من هو دونهم من العمر والقوة فهو كقوله تعالى أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً ( الزخرف 8 )
بم وقوله تعالى
وَالْمُؤْتَفِكَة َ أَهْوَى
المؤتفكة المنقلبة وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء وَالْمُؤْتَفِكَاتِ والمشهور فيه أنها قرىء قوم لوط لكن كانت لهم مواضع ائتفكت فهي مؤتفكات ويحتمل أن يقال المراد كل من انقلبت مساكنه ودثرت أماكنه ولهذا ختم المهلكين بالمؤتفكات كمن يقول مات فلان وفلان وكل من كان من أمثالهم وأشكالهم
المسألة الثانية أَهْوَى أي أهواها بمعنى أسقطها فقيل أهواها من الهوى إلى الأرض من حيث حملها جبريل عليه السلام على جناحه ثم قلبها وقيل كانت عمارتهم مرتفعة فأهواها بالزلزلة وجعل عاليها سافلها
المسألة الثالثة قوله تعالى وَالْمُؤْتَفِكَة َ أَهْوَى على ما قلت كقول القائل والمنقلبة قلبها وقلب المنقلب تحصيل الحاصل نقول ليس معناه المنقلبة ما انقلبت بنفسها بل الله قلبها فانقلبت
المسألة الرابعة ما الحكمة في اختصاص المؤتفكة باسم الموضع في الذكر وقال في عاد وثمود وقوم نوح اسم القوم نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن ثمود اسم الموضع فذكر عاداً باسم القوم وثمود باسم الموضع وقوم نوح باسم القوم والمؤتفكة باسم الموضع ليعلم أن القوم لا يمكنهم صون أماكنهم عن عذاب الله تعالى ولا الموضع يحصن القوم عنه فإن في العادة تارة يقوي الساكن فيذب عن مسكنه وأخرى يقوي المسكن فيرد عن ساكنه وعذاب الله لا يمنعه مانع وهذا المعنى حصل للمؤمنين في آيتين أحدهما قوله تعالى وَكَفَّ أَيْدِى َ النَّاسِ عَنْكُمْ ( الفتح 20 ) وقوله تعالى وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ اللَّهِ ( الحشر 2 ) ففي الأول لم يقدر الساكن على حفظ مسكنه وفي الثاني لم يقو الحصن على حفظ الساكن والوجه الثاني هو أن عاداً وثمود وقوم نوح كان أمرهم متقدماً وأماكنهم كانت قد دثرت ولكن أمرهم كان مشهوراً متواتراً وقوم لوط كانت مساكنهم وآثار الانقلاب فيها ظاهرة فذكر الأظهر من الأمرين في كل قوم
ثم قال تعالى
فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى
يحتمل أن يكون ما مفعولاً وهو الظاهر ويحتمل أن يكون الذي غشي هو الله تعالى فيكون كقوله تعالى

وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ويحتمل أن يكون فاعلاً يقال ضربه من ضربه وعلى هذا نقول يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى سبب غضب الله عليهم أي غشاها عليهم السبب بمعنى أن الله غضب عليهم بسببه يقال لمن أغضب ملكاً بكلام فضربه الملك كلامك الذي ضربك
ثم قال تعالى
فَبِأَى ِّ آلا ءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى
قيل هذا أيضاً مما في الصحف وقيل هو ابتداء كلام والخطاب عام كأنه يقول بأي النعم أيها السامع تشك أو تجادل وقيل هو خطاب مع الكافر ويحتمل أن يقال مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يقال كيف يجوز أن يقول للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) تَتَمَارَى لأنا نقول هو من باب لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) يعني لم يبق فيه إمكان الشك حتى أن فارضاً لو فرض النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ممن يشك أو يجادل في بعض الأمور الخفية لما كان يمكنه المراء في نعم الله والعموم هو الصحيح كأنه يقول بأي آلاء ربك تتمارى أيها الإنسان كما قال وَأَخَّرَتْ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( الانفطار 6 ) وقال تعالى وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً ( الكهف 54 ) فإن قيل المذكور من قبل نعم والآلاء نعم فكيف آلاء ربك نقول لما عد من قبل النعم وهو الخلق من النطفة ونفخ الروح الشريفة فيه والإغناء والإقناء وذكر أن الكافر بنعمه أهلك قال فَبِأَى ّ الاء رَبّكَ تَتَمَارَى فيصيبك مثل ما أصاب الذين تماروا من قبل أو تقول لما ذكر الإهلاك قال للشاك أنت ما أصابك الذي أصابهم وذلك بحفظ الله إياك فَبِأَى ّ الاء رَبّكَ تَتَمَارَى وسنزيده بياناً في قوله فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( الرحمن 13 ) في مواضع
ثم قال تعالى
هَاذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الاٍّ وْلَى
وفيه مسائل
المسألة الأولى المشار إليه بهذا ماذا نقول فيه وجوه أحدها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من جنس النذر الأولى ثانيها القرآن ثالثها ما ذكره من أخبار المهلكين ومعناه حينئذ هذا بعض الأمور التي هي منذرة وعلى قولنا المراد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالنذير هو المنذر و مِنْ لبيان الجنس وعلى قولنا المراد هو القرآن يحتمل أن يكون النذير بمعنى المصدر ويحتمل أن يكون بمعنى الفاعل وكون الإشارة إلى القرآن بعيد لفظاً ومعنى أما معنى فلأن القرآن ليس من جنس الصحف الأولى لأنه معجز وتلك لم تكن معجزة وذلك لأنه تعالى لما بين الوحدانية وقال فَبِأَى ّ الاء رَبّكَ تَتَمَارَى قال هَاذَا نَذِيرٌ إشارة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإثباتاً للرسالة وقال بعد ذلك أَزِفَتِ الاْزِفَة ُ إشارة إلى القيامة ليكون في الآيات الثلاث المرتبة إثبات أصول ثلاث مرتبة فإن الأصل الأول هو الله ووحدانيته ثم الرسول ورسالته ثم الحشر والقيامة وأما لفظاً فلأن النذير إن كان كاملاً فما ذكره من حكاية المهلكين أولى لأنه أقرب ويكون على هذا من بقي على حقيقة التبعيض أي هذا الذي ذكرنا بعض ما جرى ونبذ مما وقع أو يكون لابتداء الغاية بمعنى هذا إنذار من المنذرين المتقدمين يقال هذا الكتاب وهذا الكلام من فلان وعلى الأقوال كلها ليس ذكر الأولى لبيان الموصوف بالوصف وتمييزه عن النذر الآخرة كما يقال الفرقة الأولى احترازاً عن الفرقة الأخيرة وإنما هو لبيان الوصف للموصوف كما يقال زيد العالم جاءني فيذكر العالم إما لبيان أن زيداً عالم غير أنك لا تذكره بلفظ الخبر فتأتي به على طريقة الوصف وإما لمدح زيد به وإما لأمر آخر والأولى على العود إلى لفظ الجمع وهو النذر ولو كان

لمعنى الجمع لقال من النذر الأولين يقال من الأقوام المتقدمة والمتقدمين على اللفظ والمعنى
ثم قال تعالى
أَزِفَتِ الاٌّ زِفَة ُ
وهو كقوله تعالى وَقَعَتِ الْوَاقِعَة ُ ( الواقعة 1 ) ويقال كانت الكائنة وهذا الاستعمال يقع على وجوه منها ما إذا كان الفاعل صار فاعلاً لمثل ذلك الفعل من قبل ثم صدر منه مرة أخرى مثل الفعل فيقال فعل الفاعل أي الذي كان فاعلاً صار فاعلاً مرة أخرى يقال حاكه الحائك أي من شغله ذلك من قبل فعله ومنها ما يصير الفاعل فاعلاً بذلك الفعل ومنه يقال ( إذا مات الميت انقطع عمله ) وإذا غصب العين غاصب ضمنه فقوله أَزِفَتِ الاْزِفَة ُ يحتمل أن يكون من القبيل الأول أي قربت الساعة التي كل يوم يزداد قربها فهي كائنة قريبة وازدادت في القرب ويحتمل أن يكون كقوله تعالى وَقَعَتِ الْوَاقِعَة ُ أي قرب وقوعها وأزفت فاعلها في الحقيقة القيامة أو الساعة فكأنه قال أزفت القيامة الآزفة أو الساعة أو مثلها
بم وقوله تعالى
لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَة ٌ
فيه وجوه أحدها لا مظهر لها إلا الله فمن يعلمها لا يعلم إلا بإعلام الله تعالى إياه وإظهاره إياها له فهو كقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) وقوله تعالى لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ( الأعراف 187 ) ثانيها لا يأتي بها إلا الله كقوله تعالى وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 17 ) وفيه مسائل
الأولى مِنْ زائدة تقديره ليس لها غير الله كاشفة وهي تدخل على النفي فتؤكد معناه تقول ما جاءني أحد وما جاءني من أحد وعلى هذا يحتمل أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره ليس لها من كاشفة دون الله فيكون نفياً عاماً بالنسبة إلى الكواشف ويحتمل أن يقال ليست بزائدة بل معنى الكلام أنه ليس في الوجود نفس تكتشفها أي تخبر عنها كما هي ومتى وقتها من غير الله تعالى يعني من يكشفها فإنما يكشفها من الله لا من غير الله يقال كشف الأمر من زيد ودون يكون بمعنى غير كما في قوله تعالى ءالِهَة ً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ( الصافات 86 ) أي غير الله
المسألة الثانية كاشفة صفة لمؤنث أي نفس كاشفة وقيل هي للمبالغة كما في العلامة وعلى هذا لا يقال بأنه نفى أن يكون لها كاشفة بصيغة المبالغة ولا يلزم من الكاشف الفائق نفي نفس الكاشف لأنا نقول لو كشفها أحد لكان كاشفاً بالوجه الكامل فلا كاشف لها ولا يكشفها أحد وهو كقوله تعالى وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( ق 29 ) من حيث نفى كونه ظالماً مبالغاً ولا يلزم منه نفي كونه ظالماً وقلنا هناك إنه لو ظلم عبيده الضعفاء بغير حق لكان في غاية الظلم وليس في غاية الظلم فلا يظلمهم أصلاً
المسألة الثالثة إذا قلت إن معناه ليس لها نفس كاشفة فقوله مِن دُونِ اللَّهِ استثناء على الأشهر من الأقوال فيكون الله تعالى نفساً لها كاشفة نقول الجواب عنه من وجوه الأول لا فساد في ذلك قال الله تعالى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( المائدة 116 ) حكاية عن عيسى عليه السلام والمعنى الحقيقة الثاني ليس هو صريح الاستثناء فيجوز فيه أن لا يكون نفساً الثالث الاستثناء الكاشف المبالغ

ثم قال تعالى
أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ
قيل من القرآن ويحتمل أن يقال هذا إشارة إلى حديث أَزِفَتِ الاْزِفَة ُ ( النجم 57 ) فإنهم كانوا يتعجبون من حشر الأجساد وجمع العظام بعد الفساد
وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ
وقوله تعالى وَتَضْحَكُونَ يحتمل أن يكون المعنى وتضحكون من هذا الحديث كما قال تعالى فَلَمَّا جَاءهُم بِئَايَاتِنَا إِذَا هُم مِنْهَا يَضْحَكُونَ ( الزخرف 47 ) في حق موسى عليه السلام وكانوا هم أيضاً يضحكون من حديث النبي والقرآن ويحتمل أن يكون إنكاراً على مطلق الضحك مع سماع حديث القيامة أي أتضحكون وقد سمعتم أن القيامة قربت فكان حقاً أن لا تضحكوا حينئذ
وقوله تعالى وَلاَ تَبْكُونَ أي كان حقاً لكم أن تبكوا منه فتتركون ذلك وتأتون بضده
وَأَنتُمْ سَامِدُونَ
وقوله تعالى وَأَنتُمْ سَامِدُونَ أي غافلون وذكر باسم الفاعل لأن الغفلة دائمة وأما الضحك والعجب فهما أمران يتجددان ويعدمان
فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ
يحتمل أن يكون الأمر عاماً ويحتمل أن يكون التفاتاً فيكون كأنه قال أيها المؤمنون اسجدوا شكراً على الهداية واشتغلوا بالعبادة ولم يقل اعبدوا الله إما لكونه معلوماً وإما لأن العبادة في الحقيقة لا تكون إلا لله فقال وَاعْبُدُواْ أي ائتوا بالمأمور ولا تعبدوا غير الله لأنها ليست بعبادة وهذا يناسب السجدة عند قراءته مناسبة أشد وأتم مما إذا حملناه على العموم
والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين

سورة القمر
خمسون وخمس آيات مكية
اقْتَرَبَتِ السَّاعَة ُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ
أول السورة مناسب لآخر ما قبلها وهو قوله أَزِفَتِ الاْزِفَة ُ ( النجم 57 ) فكأنه أعاد ذلك مع الدليل وقال قلت أَزِفَتِ الاْزِفَة ُ وهو حق إذ القمر انشق والمفسرون بأسرهم على أن المراد أن القمر انشق وحصل فيه الانشقاق ودلت الأخبار على حديث الانشقاق وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة وقالوا سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) آية الانشقاق بعينها معجزة فسأل ربه فشقه ومضى وقال بعض الفسرين المراد سينشق وهو بعيد ولا معنى له لأن من منع ذلك وهو الفلسفي يمنعه في الماضي والمستقبل ومن يجوزه لا حاجة إلى التأويل وإنما ذهب إليه ذلك الذاهب لأن الانشقاق أمر هائل فلو وقع لعم وجه الأرض فكان ينبغي أن يبلغ حد التواتر نقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان يتحدى بالقرآن وكانوا يقولون إنا نأتي بأفصح ما يكون من الكلام وعجزوا عنه فكان القرآن معجزة باقية إلى قيام القيامة لا يتمسك بمعجزة أخرى فلم ينقله العلماء بحيث يبلغ حد التواتر وأما المؤرخون فتركوه لأن التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم وهو لما وقع الأمر قالوا بأنه مثل خسوف القمر وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر فتركوا حكايته في تواريخهم والقرآن أدل دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشك فيه وقد أخبر عنه الصادق فيجب اعتقاد وقوعه وحديث امتناع الخرق والالتئام حديث اللئام وقد ثبت جواز الخرق والتخريب على السموات وذكرناه مراراً فلا نعيده
بم وقوله تعالى
وَإِن يَرَوْاْ ءَايَة ً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ
تقديره وبعد هذا إن يروا آية يقولوا سحر فإنهم رأوا آيات أرضية وآيات سماوية ولم يؤمنوا ولم يتركوا عنادهم فإن يروا ما يرون بعد هذا لا يؤمنون وفيه وجه آخر وهو أن يقال المعنى أن عادتهم أنهم إن يروا آية يعرضوا فلما رأوا انشقاق القمر أعرضوا لتلك العادة وفيه مسائل
الأولى قوله ءايَة ً ماذا نقول آية اقتراب الساعة فإن انشقاق القمر من آياته وقد ردوا وكذبوا فإن يروا غيرها أيضاً يعرضوا أو آية الانشقاق فإنها معجزة أما كونها معجزة ففي غاية الظهور وأما كونها آية

الساعة فلأن منكر خراب العالم ينكر انشقاق السماء وانفطارها وكذلك قوله في كل جسم سماوي من الكواكب فإذا انشق بعضها ثبت خلاف ما يقول به وبان جواز خراب العالم وقال أكثر المفسرين معناه أن من علامات قيام الساعة انشقاق القمر عن قريب وهذا ضعيف حملهم على هذا القول ضيق المكان وخفاء الأمر على الأذهان وبيان ضعفه هو أن الله تعالى لو أخبر في كتابه أن القمر ينشق وهو علامة قيام الساعة لكان ذلك أمراً لا بد من وقوعه مثل خروج دابة الأرض وطلوع الشمس من المغرب فلا يكون معجزة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما أن هذه الأشياء عجائب وليست بمعجزة للنبي لا يقال الإخبار عنها قبل وقوعها معجزة لأنا نقول فحينئذ يكون هذا من قبيل الإخبار عن الغيوب فلا يكون هو معجزة برأسه وذلك فاسد ولا يقال بأن ذلك كان معجزة وعلامة فأخبر الله في الصحف والكتب السالفة أن ذلك يكون معجزة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتكون الساعة قريبة حينئذ وذلك لأن بعثة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) علامة كائنة حيث قال ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) ولهذا يحكى عن سطيح أنه لما أخبر بوجود النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال عن أمور تكون فكان وجوده دليل أمور وأيضاً القمر لما انشق كان انشقاقه عند استدلال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على المشركين وهم كانوا غافلين عما في الكتب وأما أصحاب الكتب فلم يفتقروا إلى بيان علامة الساعة لأنهم كانوا يقولون بها وبقربها فهي إذن آية دالة على جواز تخريب السموات وهو العمدة الكبرى لأن السموات إذا طويت وجوز ذلك فالأرض ومن عليها لا يستبعد فناؤهما إذا ثبت هذا فنقول معنى اقْتَرَبَتِ السَّاعَة ُ يحتمل أن يكون في العقول والأذهان يقول من يسمع أمراً لا يقع هذا بعيد مستبعد وهذا وجه حسن وإن كان بعض ضعفاء الأذهان ينكره وذلك لأن حمله على قرب الوقوع زماناً لا إمكاناً يمكن الكافر من مجادلة فاسدة فيقول قال الله تعالى في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اقْتَرَبَتِ ويقولون بأن من قبل أيضاً في الكتب ( السابقة ) كان يقول ( اقترب الوعد ) ثم مضى مائة سنة ولم يقع ولا يبعد أن يمضي ألف آخر ولا يقع ولو صح إطلاق لفظ القرب زماناً على مثل هذا لا يبقى وثوق بالإخبارات وأيضاً قوله اقْتَرَبَتِ لانتهاز الفرصة والإيمان قبل أن لا يصح الإيمان فللكافر أن يقول إذا كان القرب بهذا المعنى فلا خوف منها لأنها لا تدركني ولا تدرك أولادي ولا أولاد أولادي وإذا كان إمكانها قريباً في العقول يكون ذلك رداً بالغاً على المشركين والفلاسفة والله سبحانه وتعالى أول ما كلف الاعتراف بالوحدانية واليوم الآخر وقال اعلموا أن الحشر كائن فخالف المشرك والفلسفي ولم يقنع بمجرد إنكار ما ورد الشرع ببيانه ولم يقل لا يقع أو ليس بكائن بل قال ذلك بعيد ولم يقنع بهذا أيضاً بل قال ذلك غير ممكن ولم يقنع به أيضاً بل قال فإن امتناعه ضروري فإن مذهبهم أن إعادة المعدوم وإحياء الموتى محال بالضرورة ولهذا قالوا أَءذَا مِتْنَا ( المؤمنون 82 ) أَءذَا كُنَّا عِظَاماً ( الأسراء 49 ) أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الاْرْضِ ( السجدة 10 ) بلفظ الاستفهام بمعنى الإنكار مع ظهور الأمر فلما استبعدوا لم يكتف الله ورسوله ببيان وقوعه بل قال إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا ( الحج 7 ) ولم يقتصر عليه بل قال وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة َ تَكُونُ قَرِيباً ( الأحزاب 63 ) ولم يتركها حتى قال ( اقتربت الساعة واقترب الوعد الحق اقترب للناس حسابهم ) اقتراباً عقلياً لا يجوز أن ينكر ما يقع في زمان طرفة عين لأنه على الله يسير كما أن تقليب الحدقة علينا يسير بل هو أقرب منه بكثير والذي يقويه قول العامة إن زمان وجود العالم زمان مديد والباقي بالنسبة إلى الماضي شيء يسير فلهذا قال اقْتَرَبَتِ السَّاعَة ُ

وأما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) فمعناه لا نبي بعدي فإن زماني يمتد إلى قيام الساعة فزماني والساعة متلاصقان كهاتين ولا شك أن الزمان زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وما دامت أوامره نافذة فالزمان زمانه وإن كان ليس هو فيه كما أن المكان الذي تنفذ فيه أوامر الملك مكان الملك يقال له بلاد فلان فإن قيل كيف يصح حمله على القرب بالمعقول مع أنه مقطوع به قلت كما صح قوله تعالى لَعَلَّ السَّاعَة َ تَكُونُ قَرِيباً ( الأحزاب 63 ) فإن لعل للترجي والأمر عند الله معلوم وفائدته أن قيام الساعة ممكن لا إمكاناً بعيداً عن العادات كحمل الآدمي في زماننا حملاً في غاية الثقل أو قطعة مسافة بعيدة في زمان يسير فإن ذلك ممكن إمكاناً بعيداً وأما تقليب الحدقة فممكن إمكاناً في غاية القرب
المسألة الثانية الجمع الذين تكون الواو ضميرهم في قوله يَرَوْاْ و يُعْرِضُواْ غير مذكور فمن هم نقول هم معلومون وهم الكفار تقديره وهؤلاء الكفار إن يروا آية يعرضوا
المسألة الثالثة التنكير في الآية للتعظيم أي إن يروا آية قوية أو عظيمة يعرضوا
المسألة الرابعة قوله تعالى وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ما الفائدة فيه نقول فائدته بيان كون الآية خالية عن شوائب الشبه وأن الاعتراف لزمهم لأنهم لم يقدروا أن يقولوا نحن نأتي بمثلها وبيان كونهم معرضين لا إعراض معذور فإن من يعرض إعراض مشغول بأمر مهم فلم ينظر في الآية لا يستقبح منه الإعراض مثل ما يستقبح لمن ينظر فيها إلى آخرها ويعجز عن نسبتها إلى أحد ودعوى الإتيان بمثلها ثم يقول هذا ليس بشيء هذا سحر لأن ما من آية إلا ويمكن المعاند أن يقول فيها هذا القول
المسألة الخامسة ما المستمر نقول فيه وجوه أحدها دائم فإن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان يأتي كل زمان بمعجزة قولية أو فعلية أرضية أو سماوية فقالوا هذا سحر مستمر دائم لا يختلف بالنسبة إلى النبي عليه السلام بخلاف سحر السحرة فإن بعضهم يقدر على أمر وأمرين وثلاثة ويعجز عن غيرها وهو قادر على الكل وثانيها مستمر أي قوى من حبل مرير الفتل من المرة وهي الشدة وثالثها من المرارة أي سحر مر مستبشع ورابعها مستمر أي مار ذاهب فإن السحر لا بقاء له
وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ
ثم قال تعالى وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ وهو يحتمل أمرين أحدهما وكذبوا محمداً المخبر عن اقتراب الساعة وثانيهما كذبوا بالآية وهي انشقاق القمر فإن قلنا كذبوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فقوله وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ أي تركوا الحجة وأولوا الآيات وقالوا هو مجنون تعينه الجن وكاهن يقول عن النجوم ويختار الأوقات للأفعال وساحر فهذه أهواءهم وإن قلنا كذبوا بانشقاق القمر فقوله وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ في أنه سحر القمر وأنه خسوف والقمر لم يصبه شيء فهذه أهواءهم وكذلك قولهم في كل آية
وقوله تعالى وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ فيه وجوه أحدها كل أمر مستقر على سنن الحق يثبت والباطل يزهق وحينئذ يكون تهديداً لهم وتسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو كقوله تعالى ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُم ( الزمر 7 )

أي بأنها حق ثانيها وكل أمر مستقر في علم الله تعالى لا يخفى عليه شيء فهم كذبوا واتبعوا أهواءهم والأنبياء صدقوا وبلغوا ما جاءهم كقوله تعالى لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَى ْء ( غافر 16 ) وكما قال تعالى في هذه السورة وَكُلُّ شَى ْء فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ( القمر 52 53 ) ثالثها هو جواب قولهم سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ أي ليس أمره بذاهب بل كل أمر من أموره مستقر
ثم قال تعالى
وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الاٌّ نبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ
إشارة إلى أن كل ما هو لطف بالعباد قد وجد فأخبرهم الرسول باقتراب الساعة وأقام الدليل على صدقه وإمكان قيام الساعة عقيب دعواه بانشقاق القمر الذي هو آية لأن من يكذب بها لا يصدق بشيء من الآيات فكذبوا بها واتبعوا الأباطيل الذاهبة وذكروا الأقاويل الكاذبة فذكر لهم أنباء المهلكين بالآيتين تخويفاً لهم وهذا هو الترتيب الحكمي ولهذا قال بعد الآيات حِكْمَة ٌ بَالِغَة ٌ ( القمر 5 ) أي هذه حكمة بالغة والأنباء هي الأخبار العظام ويدلك على صدقه أن في القرآن لم يرد النبأ والأنباء إلا لما له وقع قال وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ( النمل 22 ) لأنه كان خبراً عظيماً وقال إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ ( الحجرات 6 ) أي محاربة أو مسالمة وما يشبهه من الأمور العرفية وإنما يجب التثبت فيما يتعلق به حكم ويترتب عليه أمر ذو بال وكذلك قال تعالى ذالِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ( آل عمران 44 ) فكذلك الأنباء ههنا وقال تعالى عن موسى لَّعَلّى اتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَة ٍ ( القصص 29 ) حيث لم يكن يعلم أنه يظهر له شيء عظيم يصلح أن يقال له نبأ ولم يقصده والظاهر أن المراد أنباء المهلكين بسبب التكذيب وقال بعضهم المراد القرآن وتقديره جاء فيه الأنباء وقيل قوله جَاءكُمْ مّنَ الاْنبَاء يتناول جميع ما ورد في القرآن من الزواجر والمواعظ وما ذكرناه أظهر لقوله فِيهِ مُزْدَجَرٌ وفي مَا وجهان أحدهما أنها موصولة أي جاءكم الذي فيه مزدجر ثانيهما موصوفة تقديره جاءكم من الأنباء شيء موصوف بأن فيه مزدجر وهذاأظهر والمزدجر فيه وجهان أحدهما ازدجار وثانيهما موضع ازدجار كالمرتقى ولفظ المفعول بمعنى المصدر كثير لأن المصدر هو المفعول الحقيقي ثم قال تعالى
حِكْمَة ٌ بَالِغَة ٌ فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ
وفيه وجوه الأول على قول من قال وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الاْنبَاء المراد منه القرآن قال حِكْمَة ٌ بَالِغَة ٌ بدل كأنه قال ولقد جاءهم حكمة بالغة ثانيها أن يكون بدلاً عن ما في قوله مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ الثاني حكمة بالغة خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه حكمة بالغة والإشارة حينئذ تحتمل وجوهاً أحدها هذا الترتيب الذي في إرسال الرسول وإيضاح الدليل والإنذار بمن مضى من القرون وانقضى حكمة بالغة ثانيها إنزال ما فيه الأنباء حِكْمَة ٌ بَالِغَة ٌ ثالثها هذه الساعة المقتربة والآية الدالة عليها حكمة الثالث قرىء بالنصب فيكون حالاً وذو الحال ما في قوله مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي جاءكم ذلك حكمة فإن قيل إن كان مَا موصولة تكون معرفة فيحسن كونه ذا الحال فأما إن كانت بمعنى جاءهم من الأنباء شيء فيه ازدجار يكون منكراً وتنكير ذي الحال قبيح نقول كونه موصوفاً يحسن ذلك
وقوله فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ فيه وجهان أحدهما أن مَا نافية ومعناه أن النذر لم يبعثوا ليغنوا ويلجئوا قومهم إلى الحق وإنما أرسلوا مبلغين وهو كقوله تعالى فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ( الشورى 48 ) ويؤيد هذا قوله تعالى فَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي ليس عليك ولا على الأنبياء الإغناء والإلجاء فإذا بلغت فقد

أتيت بماعليك من الحكمة البالغة التي أمرت بها بقوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 ) وتول إذا لم تقدر ثانيهما مَا استفهامية ومعنى الآيات حينئذ أنك أتيت بما عليك من الدعوى وإظهار الآية عليها وكذبوا فأنذرتهم بما جرى على المكذبين فلم يفدهم فهذه حكمة بالغة وما الذي تغني النذر غير هذا فلم يبق عليك شيء آخر
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَى ْءٍ نُّكُرٍ
قوله تعالى فَتَوَلَّ عَنْهُمْ قد ذكرنا أن المفسرين يقولون إلى قوله تَوَلَّ منسوخ وليس كذلك بل المراد منه لا تناظرهم بالكلام
ثم قال تعالى يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَى ْء نُّكُرٍ قد ذكرنا أيضاً أن من ينصح شخصاً ولا يؤثر فيه النصح يعرض عنه ويقول مع غيره ما فيه نصح المعرض عنه ويكون فيه قصد إرشاده أيضاً فقال بعدما قال فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ للتخويف والعامل في يَوْمٍ هو ما بعده وهو قوله يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ والداعي معرف كالمنادي في قوله يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ ( ق 41 ) لأنه معلوم قد أخبر عنه فقيل إن منادياً ينادي وداعياً يدعو وفي الداعي وجوه أحدها أنه إسرافيل وثانيها أنه جبريل وثالثها أنه ملك موكل بذلك والتعريف حينئذ لا يقطع حد العلمية وإنما يكون ذلك كقولنا جاء رجل فقال الرجل وقوله تعالى إِلَى شَى ْء نُّكُرٍ أي منكر وهو يحتمل وجوهاً أحدها إلى شيء نكر في يومنا هذا لأنهم أنكروه أي يوم يدعو الداعي إلى الشيء الذي أنكروه يخرجون ثانيها نكر أي منكر يقول ذلك القائل كان ينبغي أن لا يكون أي من شأنه أن لا يوجد يقال فلان ينهى عن المنكر وعلى هذا فهو عندهم كان ينبغي أن لا يقع لأنه يرديهم في الهاوية فإن قيل ما ذلك الشيء النكر نقول الحساب أو الجمع له أو النشر للجمع وهذا أقرب فإن قيل النشر لا يكون منكراً فإنه إحياء ولأن الكافر من أين يعرف وقت النشر وما يجري عليه لينكره نقول يعرف ويعلم بدليل قوله تعالى عنهم قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ( يس 52 )
ثم قال تعالى
خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الاٌّ جْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ
وفيه قراءات خاشعاً وخاشعة وخشعاً فمن قرأ خاشعاً على قول القائل يخشع أبصارهم على ترك التأنيث لتقدم الفعل ومن قرأ خاشعة على قوله تخشع أبصارهم ومن قرأ خشعاً فله وجوه أحدها على قول من يقول يخشعن أبصارهم على طريقة من يقول أكلوني البراغيث ثانيها في خُشَّعاً ضمير أبصارهم بدل عنه تقديره يخشعون أبصارهم على بدل الاشتمال كقول القائل أعجبوني حسنهم ثالثها فيه فعل مضمر يفسره يخرجون تقديره يخرجون خشعاً أبصارهم على بدل الاشتمال والصحيح خاشعاً روي أن مجاهداً رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في منامه فقال له يا نبي الله خشعاً أبصارهم أو خاشعاً أبصارهم فقال عليه السلام خاشعاً ولهذه القراءة وجه آخر أظهر مما قالوه وهو أن يكون خشعاً منصوباً على أنه مفعول بقوله يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ خشعاً أي يدعو هؤلاء فإن قيل هذا فاسد من وجوه أحدها أن التخصيص لا فائدة فيه لأن الداعي يدعو كل أحد ثانيها قوله يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ بعد الدعاء فيكونون خشعاً قبل الخروج وإنه باطل ثالثها قراءة خاشعاً تبطل هذا نقول أما الجواب عن الأول فهو أن يقال قوله إِلَى شَى ْء نُّكُرٍ يدفع ذلك لأن كل

أحد لا يدعى إلى شيء نكر وعن الثاني المراد ( من شيء نكر ) الحساب العسر يعني يوم يدع الداع إلى الحساب العسر خشعاً ولا يكون العامل في يَوْمَ يَدْعُو يخرجون بل اذكروا أو فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ كما قال تعالى فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة ُ الشَّافِعِينَ ( المدثر 48 ) ويكون يخرجون ابتداء كلام وعن الثالث أنه لا منافاة بين القراءتين وخاشعاً نصب على الحال أو على أنه مفعول يدعو كأنه يقول يدعو الداعي قوماً خاشعة أبصارهم والخشوع السكون قال تعالى وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ ( طه 108 ) وخشوع الأبصار سكونها على كل حال لا تنفلت يمنة ولا يسرة كما في قوله تعالى لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ( إبراهيم 43 ) وقوله تعالى يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ( القمر 7 ) مثلهم بالجراد المنتشر في الكثرة والتموج ويحتمل أن يقال المنتشر مطاوع نشره إذا أحياه فكأنهم جراد يتحرك من الأرض ويدب إشارة إلى كيفية خروجهم من الأجداث وضعفهم
مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ
ثم قال تعالى مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ أي مسرعين إليه إنقياداً يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ يحتمل أن يكون العامل الناصب ليوم في قوله تعالى يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ ( القمر 6 ) أي يوم يدعو الداعي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ وفيه فائدتان إحداهما تنبيه المؤمن أن ذلك اليوم على الكافر عسير فحسب كما قال تعالى فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ( المدثر 9 10 ) يعني له عسر لا يسر معه ثانيتهما هي أن الأمرين متفقان مشتركان بين المؤمن والكافر فإن الخروج من الأجداث كأنهم جراد والانقطاع إلى الداعي يكون للمؤمن فإنه يخاف ولا يأمن العذاب إلا بإيمان الله تعالى إياه فيؤتيه الله الثواب فيبقى الكافر فيقول هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ
ثم إنه تعالى أعاد بعض الأنباء فقال كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فيها تهوين وتسلية لقلب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن حاله كحال من تقدمه وفيه مسائل
المسألة الأولى إلحاق ضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائز بالاتفاق وحسن وإلحاق ضمير الجمع به قبيح عند الأكثرين فلا يجوزون كذبوا قوم نوح ويجوزون كذبت فما الفرق نقول التأنيث قبل الجمع لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل ولا تحصل الأنوثة للفاعل بسبب فعلها الذي هو فاعله فليس إذا قلنا ضربت هذه كانت هذه أنثى لأجل الضرب بخلاف الجمع لأن الجمع للفاعلين بسبب فعلهم الذي هم فاعلوه فإنا إذا قلنا جمع ضربوا وهم ضاربون ليس مجرد اجتماعهم في الوجود يصحح قولنا ضربوا وهم ضاربون لأنهم إن اجتمعوا في مكان فهم جمع ولكن إن لم يضرب الكل لا يصح قولنا ضربوا فضمير الجمع من الفعل فاعلون جمعهم بسبب الاجتماع في الفعل والفاعلية وليس بسبب الفعل فلم يجز أن يقال ضربوا جمع لأن الجمع لم يفهم إلا بسبب أنهم ضربوا جميعهم فينبغي أن يعلم أولاً اجتماعهم في الفعل فيقول الضاربون ضربوا وأما ضربت هند فصحيح لأنه لا يصح أن يقال التأنيث لم يفهم إلا بسبب

أنها ضربت بل هي كانت أنثى فوجد منها ضرب فصارت ضاربة وليس الجمع كانوا جمعاً فضربوا فصاروا ضاربين بل صاروا ضاربين لاجتماعهم في الفعل ولهذا ورد الجمع على اللفظ بعد ورود التأنيث عليه فقيل ضاربة وضاربات ولم يجمع اللفظ أولاً لأنثى ولا لذكر ولهذا لم يحسن أن يقال ضرب هند وحسن بالإجماع ضرب قوم والمسلمون
المسألة الثانية لما قال تعالى كَذَّبَتْ ما الفائدة في قوله تعالى فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا نقول الجواب عنه من وجوه الأول أن قوله كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ أي بآياتنا وآية الانشقاق فكذبوا الثاني كذبت قوم نوح الرسل وقالوا لم يبعث الله رسولاً وكذبوهم في التوحيد فكذبوا عبدنا كما كذبوا غيره وذلك لأن قوم نوح مشركون يعبدون الأصنام ومن يعبد الأصنام يكذب كل رسول وينكر الرسالة لأنه يقول لا تعلق لله بالعالم السفلي وإنما أمره إلى الكواكب فكان مذهبهم التكذيب فكذبوا الثالث قوله تعالى فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا للتصديق والرد عليهم تقديره كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ وكان تكذيبهم عبدنا أي لم يكن تكذيباً بحق كما يقول القائل كذبني فكذب صادقاً
المسألة الثالثة كثيراً ما يخص الله الصالحين بالإضافة إلى نفسه كما في قوله تعالى إِنَّ عِبَادِى ( الحجر 42 ) فِى عِبَادِى ( العنكبوت 56 ) اذْكُرْ عَبْدَنَا ( ص 170 ) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ( يوسف 24 ) وكل واحد عبده فما السر فيه نقول الجواب عنه من وجوه الأول ما قيل في المشهور أن الإضافة إليه تشريف منه فمن خصصه بكونه عبده شرف وهذا كقوله تعالى أَن طَهّرَا بَيْتِى َ ( البقرة 125 ) وقوله تعالى نَاقَة ُ اللَّهِ ( الأعراف 73 ) الثاني المراد من عبدنا أي الذي عبدنا فالكل عباد لأنهم مخلوقون للعبادة لقوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) لكن منهم من عبد فحقق المقصود فصار عبده ويؤيد هذا قوله تعالى كُونُواْ عِبَادًا لّى ( آل عمران 79 ) أي حققوا المقصود الثالث الإضافة تفيد الحصر فمعنى عبدنا هو الذي لم يقل بمعبود سوانا ومن اتبع هواه فقد اتخذ إلهاً فالعبد المضاف هو الذي بكليته في كل وقت لله فأكله وشربه وجميع أموره لوجه الله تعالى وقليل ما هم
المسألة الرابعة ما الفائدة في اختيار لفظ العبد مع أنه لو قال رسولنا لكان أدل على قبح فعلهم نقول قوله عبدنا أدل على صدقه وقبح تكذيبهم من قوله رسولنا لو قاله لأن العبد أقل تحريفاً لكلام السيد من الرسول فيكون كقوله تعالى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( الحاقة 44 46 )
المسألة الخامسة قوله تعالى وَقَالُواْ مَجْنُونٌ إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه حيث رأوا ما عجزوا منه وقالوا هو مصاب الجن أو هو لزيادة بيان قبح صنعهم حيث لم يقنعوا بقولهم إنهم كاذب بل قالوا مجنون أي يقول مالا يقبله عاقل والكاذب العاقل يقول ما يظن به أنه صادق فقالوا مجنون أي يقول مالم يقل به عاقل فبين مبالغتهم في التكذيب
المسألة السادسة وَازْدُجِرَ إخبار من الله تعالى أو حكاية قولهم نقول فيه خلاف منهم من قال إخبار من الله تعالى وهو عطف على كذبوا وقالوا أي هم كذبوا وهو ازدجر أي أوذي وزجر وهو كقوله تعالى كُذّبُواْ وَأُوذُواْ ( الأنعام 34 ) وعلى هذا إن قيل لو قال كذبوا عبدنا وزجروه كان الكلام أكثر مناسبة

نقول لا بل هذا أبلغ لأن المقصود تقوية قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذكر من تقدمه فقال وازدجر أي فعلوا ما يوجب الإنزجار من دعائهم حتى ترك دعوتهم وعدل عن الدعاء إلى الإيمان إلى الدعاء عليهم ولو قال زجروه ما كان يفيد أنه تأذى منهم لأن في السعة يقال آذوني ولكن ما تأذيت وأما أوذيت فهو كاللازم لا يقال إلا عند حصول الفعل لا قبله ومنهم من قال وَازْدُجِرَ حكاية قولهم أي هم قالوا ازدجر تقديره قالوا مجنون مزدجر ومعناه ازدجره الجن أو كأنهم قالوا جن وازدجر والأول أصح ويترتب عليه قوله تعالى
فَدَعَا رَبَّهُ أَنُّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ
ترتيباً في غاية الحسن لأنهم لما زجروه وانزجر هو عن دعائهم دعا ربه أني مغلوب وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء إِنّى بكسر الهمزة على أنه دعاء فكأنه قال إني مغلوب وبالفتح على معنى بأني
المسألة الثانية ما معنى مغلوب نقول فيه وجوه الأول غلبني الكفار فانتصر لي منهم الثاني غلبتني نفسي وحملتني على الدعاء عليهم فانتصر لي من نفسي وهذا الوجه نقله ابن عطية وهو ضعيف الثالث وجه مركب من الوجهين وهو أحسن منهما وهو أن يقال إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يدعو على قومه ما دام في نفسه احتمال وحلم واحتمال نفسه يمتد ما دام الإيمان منهم محتملاً ثم إن يأسه يحصل والاحتمال يفر بعد اليأس بمدة بدليل قوله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ( الكهف 6 ) فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( فاطر 8 ) وقال تعالى وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ ( المؤمنون 27 ) فقال نوح يا إلهي إن نفسي غلبتني وقد أمرتني بالدعاء عليهم فأهلكهم فيكون معناه ( إني ) مغلوب بحكم البشرية أي غلبت وعيل صبري فانتصر لي منهم لا من نفسي
المسألة الثالثة فانتصر معناه انتصر لي أو لنفسك فإنهم كفروا بك وفيه وجوه أحدها فانتصر لي مناسب لقوله مغلوب ثانيها فانتصر لك ولدينك فإني غلبت وعجزت عن الانتصار لدينك ثالثها فانتصر للحق ولا يكون فيه ذكره ولا ذكر ربه وهذا يقوله قوي النفس بكون الحق معه يقول القائل اللهم أهلك الكاذب منا وانصر المحق منا ثم قال تعالى
فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ
عقيب دعائه وفيه مسائل
المسألة الأولى المراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها أو هو مجاز نقول فيه قولان أحدهما حقائقها وللسماء أبواب تفتح وتغلق ولا استبعاد فيه وثانيهما هو على طريق الاستعارة فإن الظاهر أن الماء كان من السحاب وعلى هذا فهو كما يقول القائل في المطر الوابل جرت ميازيب السماء وفتح أفواه القرب أي كأنه ذلك فالمطر في الطوفان كان بحيث يقول القائل فتحت أبواب السماء ولا شك أن المطر من فوق كان في غاية الهطلان
المسألة الثانية قوله تعالى فَفَتَحْنَا بيان أن الله انتصر منهم وانتقم بماء لا بجند أنزله كما قال

تعالى وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مّنَ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَة ً واحِدَة ً ( ي س 28 29 ) بياناً لكمال القدرة ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم بمطلوبهم
المسألة الثالثة الباء في قوله بِمَاء مُّنْهَمِرٍ ما وجهه وكيف موقعه نقول فيه وجهان أحدهما كما هي في قول القائل فتحت الباب بالمفتاح وتقديره هو أن يجعل كأن الماء جاء وفتح الباب وعلى هذا تفسير قول من يقول يفتح الله لك بخير أي يقدر خيراً يأتي ويفتح الباب وعلى هذا ففيه لطيفة وهي من بدائع المعاني وهي أن يجعل المقصود مقدماً في الوجود ويقول كأن مقصودك جاء إلى باب مغلق ففتحه وجاءك وكذلك قول القائل لعل الله يفتح برزق أي يقدر رزقاً يأتي إلى الباب الذي كالمغلق فيدفعه ويفتحه فيكون الله قد فتحه بالرزق ثانيهما فَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء مقرونة بِمَاء مُّنْهَمِرٍ والانهمار الانسكاب والانصباب صباً شديداً والتحقيق فيه أن المطر يخرج من السماء التي هي السحاب خروج مترشح من ظرفه وفي ذلك اليوم كان يخرج خروج مرسل خارج من باب ثم قال تعالى
وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ
وفيه من البلاغة ما ليس في قول القائل وفجرنا عيون الأرض وهذا بيان التمييز في كثير من المواضع إذا قلت ضاق زيد ذرعاً أثبت مالا يثبته قولك ضاق ذرع زيد وفيه مسائل
المسألة الأولى قال وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً ولم يقل ففتحنا السماء أبواباً لأن السماء أعظم من الأرض وهي للمبالغة ولهذا قال أَبْوابَ السَّمَاء ولم يقل أنابيب ولا منافذ ولا مجاري أو غيرها
وأما قوله تعالى وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً فهو أبلغ من قوله وفجرنا عيون الأرض لأنه يكون حقيقة لا مبالغة فيه ويكفي في صحة ذلك القول أن يجعل في الأرض عيوناً ثلاثة ولا يصلح مع هذا في السماء إلا قول القائل فأنزلنا من السماء ماء أو مياهاً ومثل هذا الذي ذكرناه في المعنى لا في المعجزة والحكمة قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الاْرْضِ ( الزمر 21 ) حيث لا مبالغة فيه وكلامه لا يماثل كلام الله ولا يقرب منه غير أني ذكرته مثلاً وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاْعْلَى ( النحل 60 )
المسألة الثانية العيون في عيون الماء حقيقة أو مجاز نقول المشهور أن لفظ العين مشترك والظاهر أنها حقيقة في العين التي هي آلة الأبصار ومجاز في غيرها أما في عيون الماء فلأنها تشبه العين الباصرة التي يخرج منها الدمع أو لأن الماء الذي في العين كالنور الذي في العين غير أنها مجاز مشهور صار غالباً حتى لا يفتقر إلى القرينة عند الاستعمال إلا للتمييز بين العينين فكما لا يحمل اللفظ على العين الباصرة إلا بقرينة كذلك لا يحمل على الفوارة إلا بقرينة مثل شربت من العين واغتسلت منها وغير ذلك من الأمور التي توجد في الينبوع ويقال عانه يعينه إذا أصابه بالعين وعينه تعييناً حقيقته جعله بحيث تقع عليه العين وعاينه معاينة وعياناً وعين أي صار بحيث تقع عليه العين
المسألة الثالثة قوله تعالى فَالْتَقَى المَاء قرىء فالتقى الماءان أي النوعان منه ماء السماء وماء

الأرض فتثنى أسماء الأجناس على تأويل صنف تجمع أيضاً يقال عندي تمران وتمور وأتمار على تأويل نوعين وأنواع منه والصحيح المشهور فَالْتَقَى المَاء وله معنى لطيف وذلك أنه تعالى لما قال فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ ( القمر 11 ) ذكر الماء وذكر الانهمار وهو النزول بقوة فلما قال وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً كان من الحسن البديع أن يقول ما يفيد أن الماء نبع منها بقوة فقال فَالْتَقَى المَاء أي من العين فار الماء بقوة حتى ارتفع والتقى بماء السماء ولو جرى جرياً ضعيفاً لما كان هو يلتقي مع ماء السماء بل كان ماء السماء يرد عليه ويتصل به ولعل المراد من قوله وَفَارَ التَّنُّورُ ( هود 40 ) مثل هذا
وقوله تعالى عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ فيه وجوه الأول على حال قد قدرها الله تعالى كما شاء الثاني على حال قدر أحد الماءين بقدر الآخر الثالث على سائر المقادير وذلك لأن الناس اختلفوا فمنهم من قال ماء السماء كان أكثر ومنهم من قال ماء الأرض ومنهم من قال كانا متساويين فقال على أي مقدار كان والأول إشارة إلى عظمة أمر الطوفان فإن تنكير الأمر يفيد ذلك يقول القائل جرى على فلان شيء لا يمكن أن يقال إشارة إلى عظمته وفيه احتمال آخر وهو أن يقال التقى الماء أي اجتمع على أمر هلاكهم وهو كان مقدوراً مقدراً وفيه رد على المنجمين الذين يقولون إن الطوفان كان بسبب اجتماع الكواكب السبعة حول برج مائي والغرق لم يكن مقصوداً بالذات وإنما ذلك أمر لزم من الطوفان الواجب وقوعه فقال لم يكن ذلك إلا لأمر قد قدر ويدل عليه أن الله تعالى أوحى إلى نوح بأنهم من المغرقين
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ
أي سفينة حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه إشارة إلى أنها كانت من ألواح مركبة موثقة بدثر وكان انفكاكها في غاية السهولة ولم يقع فهو بفضل الله والدسر المسامير
تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ
وقوله تعالى تَجْرِى أي سفينة ذات ألواح جارية وقوله تعالى بِأَعْيُنِنَا أي بمرأى منا أو بحفظنا لأن العين آلة ذلك فتستعمل فيه
وقوله تعالى
وقوله تعالى جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون نصبه بقوله حملناه أي حملناه جزاء أي ليكون ذلك الحمل جزاء الصبر على كفرانهم وثانيها أن يكون بقوله وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا لأن فيه معنى حفظنا أي ما تركناه عن أعيننا وعوننا جزاء له ثالثها أن يكون بفعل حاصل من مجموع ما ذكره كأنه قال فتحنا أبواب السماء وفجرنا الأرض عيوناً وحملناه وكل ذلك فعلناه جزاء له وإنما ذكرنا هذا لأن الجزاء ما كان يحصل إلا بحفظه وإنجائه لهم فوجب أن يكون جزاء منصوباً بكونه مفعولاً له بهذه الأفعال ولنذكر ما فيه من اللطائف في مسائل
المسألة الأولى قال في السماء فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء ( القمر 11 ) لأن السماء ذات الرجع وما لها فطور ولم يقل وشققنا السماء وقال في الأرض وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ ( القمر 12 ) لأنها ذات الصدع

الثانية لما جعل المطر كالماء الخارج من أبواب مفتوحة واسعة ولم يقل في الأرض وأجرينا من الأرض بحاراً وأنهاراً بل قال عُيُوناً والخارج من العين دون الخارج من الباب ذكر في الأرض أنه تعالى فجرها كلها فقال وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ لتقابل كثرة عيون الأرض سعة أبواب السماء فيحصل بالكثرة ههنا ما حصل بالسعة ههنا
الثالثة ذكر عند الغضب سبب الإهلاك وهو فتح أبواب السماء وفجر الأرض بالعيون وأشار إلى الإهلاك بقوله تعالى عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( القمر 12 ) أي أمر الإهلاك ولم يصرح وعند الرحمة ذكر الإنجاء صريحاً بقوله تعالى وَحَمَلْنَاهُ وأشار إلى طريق النجاة بقوله ذَاتِ أَلْواحٍ وكذلك قال في موضع آخر فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ ( العنكبوت 14 ) ولم يقل فأهلكوا وقال فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَة ِ ( العنبكوت 15 ) فصرح بالإنجاء ولم يصرح بالإهلاك إشارة إلى سعة الرحمة وغاية الكرم أي خلقنا سبب الهلاك ولو رجعوا لما ضرهم ذلك السبب كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) مَعْزِلٍ يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا ( هود 42 ) وعند الإنجاء أنجاه وجعل للنجاة طريقاً وهو اتخاذ السفينة ولو انكسرت لما ضره بل كان ينجيه فالمقصود عند الإنجاء هو النجاة فذكر المحل والمقصود عند الإهلاك إظهار البأس فذكر السبب صريحاً
الرابعة قوله تعالى تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا أبلغ من حفظنا يقول القائل اجعل هذا نصب عينك ولا يقول احفظه طلباً للمبالغة
الخامسة بِأَعْيُنِنَا يحتمل أن يكون المراد بحفظنا ولهذا يقال الرؤية لسان العين
السادسة قال كان ذلك جزاء على ما كفروا به لا على إيمانه وشكره فما جوزي به كان جزاء صبره على كفرهم وأما جزاء شكره لنا فباق وقرىء جَزَاء بكسر الجيم أي مجازاة كقتال ومقاتلة وقرىء لّمَن كَانَ كُفِرَ بفتح الكاف وأما كُفِرَ ففيه وجهان أحدهما أن يكون كفر مثل شكر يعدى بالحرف وبغير حرف يقال شكرته وشكرت له قال تعالى وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ( البقرة 152 ) وقال تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ ( البقرة 256 ) ثانيهما أن يكون من الكفر لا من الكفران أي جزاء لمن ستر أمره وأنكر شأنه ويحتمل أن يقال كفر به وترك الظهور المراد
ثم قال تعالى
وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا ءايَة ً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
وفي العائد إليه الضمير وجهان أحدهما عائد إلى مذكور وهو السفينة التي فيها ألواح وعلى هذا ففيه وجهان أحدهما ترك الله عينها مدة حتى رؤيت وعلمت وكانت على الجودي بالجزيرة وقيل بأرض الهند وثانيهما ترك مثلها في الناس يذكر وثاني الوجهين الأولين أنه عائد إلى معلوم أي تركنا السفينة آية والأول أظهر وعلى هذا الوجه يحتمل أن يقال تَّرَكْنَاهَا أي جعلناها آية لأنها بعد الفراغ منها صارت متروكة ومجعولة يقول القائل تركت فلاناً مثلة أي جعلته لما بينا أنه من فرغ من أمر تركه وجعله فذكر أحد الفعلين بدلاً عن الآخر
وقوله تعالى فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ إشارة إلى أن الأمر من جانب الرسل قد تم ولم يبق إلا جانب المرسل

إليهم بأن كانوا منذرين متفكرين يهتدون بفضل الله فهل من مدكر مهتد وهذا الكلام يصلح حثاً ويصلح تخويفاً وزجراً وفيه مسائل
الأولى قال ههنا وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا وقال في العنكبوت وَجَعَلْنَاهَا ءايَة ً ( العنكبوت 15 ) قلنا هما وإن كانا في المعنى واحداً على ما تقدم بيانه لكن لفظ الترك يدل على الجعل والفراغ بالأيام فكأنها هنا مذكورة بالتفصيل حيث بين الإمطار من السماء وتفجير الأرض وذكر السفينة بقوله ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ( القمر 13 ) وذكر جريها فقال تَّرَكْنَاهَا إشارة إلى تمام الفعل المقدور وقال هناك وَجَعَلْنَاهَا إشارة إلى بعض ذلك فإن قيل إن كان الأمر كذلك فكيف قال ههنا وَحَمَلْنَاهُ ( القمر 13 ) ولم يقل وأصحابه وقال هناك فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَة ِ نقول النجاة ههنا مذكورة على وجه أبلغ مما ذكره هناك لأنه قال تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا ( القمر 14 ) أي حفظنا وحفظ السفينة حفظ لأصحابه وحفظ لأموالهم ودوابهم والحيوانات التي معهم فقوله فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَة ِ لا يلزم منه إنجاء الأموال إلا ببيان آخر والحكاية في سورة هود أشد تفصيلاً وأتم فلهذا قال قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ( هود 40 ) يعني المحمول ثم قال تعالى وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِى ّ ( هود 44 ) تصريحاً بخلاص السفينة وإشارة إلى خلاص كل من فيها وقوله ءايَة ً منصوبة على أنها مفعول ثان للترك لأنه بمعنى الجعل على ما تقدم بيانه وهو الظاهر ويحتمل أن يقال حال فإنك تقول تركتها وهي آية وهي إن لم تكن على وزن الفاعل والمفعول فهي في معناه كأنه قال تركناها دالة ويحتمل أن يقال نصبها على التمييز لأنها بعض وجوه الترك كقوله ضربته سوطاً
المسألة الثانية مُّدَّكِرٍ مفتعل من ذكر يذكر وأصله مذتكو ( لما ) كان مخرج الذال قريباً من مخرج التاء والحروف المتقاربة المخرج يصعب النطق بها على التوالي ولهذا إذا نظرت إلى الذال مع التاء عند النطق تقرب الذال من أن تصير تاء والتاء تقرب من أن تصير دالاً فجعل التاء دالاً ثم أدغمت الدال فيها ومنهم من قرأ على الأصل مذتكر ومنهم من قلب التاء دالاً وقرأ مذدكر ومن اللغويين من يقول في مدكر مذدكر فيقلب التاء ولا يدغم ولكل وجهة والمدكر المعتبر المتفكر وفي قوله مُّدَّكِرٍ إما إشارة إلى ما في قوله أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) أي هل من يتذكر تلك الحالة وإما إلى وضوح الأمر كأنه حصل للكل آيات الله ونسوها فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ يتذكر شيئاً منها
ثم قال تعالى
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ
وفيه وجهان أحدهما أن يكون ذلك استفهاماً من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تنبيهاً له ووعداً بالعاقبة وثانيهما أن يكون عاماً تنبيهاً للخلق ونذر أسقط منه ياء الإضافة كما حذف ياء يسري في قوله تعالى وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( الفجر 4 ) وذلك عند الوقف ومثله كثير كما في قوله تعالى فَإِيَّاى َ فَاعْبُدُونِ ( العنكبوت 51 ) وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ ( ي س 43 ) ( الزمر 16 ) وقوله تعالى قَلِيلاً وَإِيَّاى َ فَاتَّقُونِ ( الزمر 16 ) وقوله تعالى وَلاَ تَكْفُرُونِ ( البقرة 152 ) وقرىء بإثبات الياء عَذَابِى وفيه مسائل

الأولى ما الذي اقتضى الفاى في قوله تعالى مُّدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ نقول أما إن قلنا إن الاستفهام من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكأنه تعالى قال له قد علمت أخبار من كان قبلك فكيف كان أي بعدما أحاط بهم علمك بنقلها إليك وأما إن قلنا الاستفهام عام فنقول لما قال هَلْ مِنْ مُّدَّكِرٍ ( القمر 15 ) فرض وجودهم وقال يا من يتذكر وعلم الحال بالتذكير فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى ويحتمل أن يقال هو متصل بقوله فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ تقديره مدكر كيف كان عذابي
المسألة الثانية ما رأوا العذاب ولا النذر فكيف استفهم منهم نقول أما على قولنا الاستفهام من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقد علم لما علم وأما على قولنا عام فهو على تقدير الإدكار وعلى تقدير الإدكار يعلم الحال ويحتمل أن يقال إنه ليس باستفهام وإنما هو إخبار عن عظمة الأمر كما في قوله تعالى الْحَاقَّة ُ مَا الْحَاقَّة ُ ( الحاقة 1 2 ) و الْقَارِعَة ُ مَا الْقَارِعَة ُ ( القارعة 1 2 ) وهذا لأن الاستفهام يذكر للأخبار كما أن صيغة هل تذكر للاستفهام فيقال زيد في الدار بمعنى هل زيد في الدار ويقول المنجز وعده هل صدقت فكأنه تعالى قال عذابي وقع وكيف كان أي كان عظيماً وحينئذ لا يحتاج إلى علم من يستفهم منه
المسألة الثالثة قال تعالى من قبل فَفَتَحْنَا وَفَجَّرْنَا ولم يقل كيف كان عذابنا نقول لوجهين أحدهما لفظي وهو أن ياء المتكلم يمكن حذفها لأنها في اللفظ تسقط كثيراً فيما إذا التقى ساكنان تقول غلامي الذي وداري التي وهنا حذفت لتواخي آخر الآيات وأما النون والألف في ضمير الجمع فلا تحذف وأما الثاني وهو المعنوي فنقول إن كان الاستفهام من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فتوحيد الضمير للأنباء وفي فتحنا وفجرنا لترهيب العصاة ونقول قد ذكرنا أن قوله مِن مُّدَّكِرٍ ( القمر 15 ) فيه إشارة إلى قوله أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ ( الأعراف 172 ) فلما وحد الضمير بقوله أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قال فكيف كان
المسألة الرابعة النذر جمع نذير فهل هو مصدر كالنسيب والنحيب أو فاعل كالكبير والصغير نقول أكثر المفسرين على أنه مصدر ههنا أي كيف كان عاقبة عذابي وعاقبة إنذاري والظاهر أن المراد الأنباء أي كيف كان عاقبة أعداء الله ورسله هل أصاب العذاب من كذب الرسل أم لا فإذا علمت الحال يا محمد فاصبر فإن عاقبة أمرك كعاقبة أولئك النذر ولم يجمع العذاب لأنه مصدر ولو جمع لكان في جمعه تقدير وفرض ولا حاجة إليه فإن قيل قوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ( القمر 23 ) أي بالإنذارات لأن الإنذارات جاءتهم وأما الرسل فقد جاءهم واحد نقول كل من تقدم من الأمم الذين أشركوا بالله كذبوا بالرسل وقالوا ما أنزل الله من شيء وكان المشركون مكذبين بالكل ما خلا إبراهيم عليه السلام فكانوا يعتقدون فيه الخير لكونه شيخ المرسلين فلا يقال كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ أي بالأنبياء بأسرهم كما أنكم أيها المشركون تكذبون بهم
ثم قال تعالى
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
وفيه وجوه الأول للحفظ فيمكن حفظه ويسهل ولم يكن شيء من كتب الله تعالى يحفظ على ظهر القلب غير القرآن
وقوله تعالى فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ أي هل من يحفظ ويتلوه الثاني سهلناه للاتعاظ حيث أتينا فيه بكل حكمة الثالث جعلناه بحيث يعلق بالقلوب ويستلذ سماعه ومن لا يفهم يتفهمه ولا يسأم من سمعه وفهمه ولا يقول

قد علمت فلا أسمعه بل كل ساعة يزداد منه لذة وعلماً الرابع وهو الأظهر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما ذكر بحال نوح عليه السلام وكان له معجزة قيل له إن معجزتك القرآن وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ تذكرة لكل أحد وتتحدى به في العالم ويبقى على مرور الدهور ولا يحتاج كل من يحضرك إلى دعاء ومسألة في إظهار معجزة وبعدك لا ينكر أحد وقوع ما وقع كما ينكر البعض انشقاق القمر وقوله تعالى فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ أي متذكر لأن الافتعال والتفعل كثيراً ما يجيء بمعنى وعلى هذا فلو قال قائل هذا يقتضي وجود أمر سابق فنسي نقول ما في الفطرة من الانقياد للحق هو كالمنسي فهل من مدكر يرجع إلى ما فطر عليه وقيل فهل من مدكر أي حافظ أو متعظ على ما فسرنا به قوله تعالى يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ وقوله فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وعلى قولنا المراد متذكر إشارة إلى ظهور الأمر فكأنه لا يحتاج إلى نكر بل هو أمر حاصل عنده لا يحتاج إلى معاودة ما عند غيره
ثم قال تعالى
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ
وفيه مسائل
الأولى قال في قوم نوح كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ( الشعراء 105 ) ولم يقل في عاد كذبت قوم هود وذلك لأن التعريف كلما أمكن أن يؤتى به على وجه أبلغ فالأولى أن يؤتى به والتعريف بالاسم العلم أولى من التعريف بالإضافة إليه فإنك إذا قلت بيت الله لا يفيد ما يفيد قولك الكعبة فكذلك إذا قلت رسول الله لا يفيد ما يفيد قولك محمد فعاد اسم علم للقوم لا يقال قوم هود أعرف لوجهين أحدهما أن الله تعالى وصف عاداً بقوم هود حيث قال أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ( هود 60 ) ولا يوصف الأظهر بالأخفى والأخص بالأعم ثانيهما أن قوم هود واحد وعاد قيل إنه لفظ يقع على أقوام ولهذا قال تعالى عَاداً الاْولَى ( النجم 50 ) لأنا نقول أما قوله تعالى لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ( هود 60 ) فليس ذلك صفة وإنما هو بدل ويجوز في البدل أن يكون دون المبدل في المعرفة ويجوز أن يبدل عن المعرفة بالنكرة وأما عاداً الأولى فقد قدمنا أن ذلك لبيان تقدمهم أي عاداً الذين تقدموا وليس ذلك للتمييز والتعريف كما تقول محمد النبي شفيعي والله الكريم ربي ورب الكعبة المشرفة لبيان الشرف لا لبيانها وتعريفها كما تقول دخلت الدار المعمورة من الدارين وخدمت الرجل الزاهد من الرجلين فتبين المقصود بالوصف
المسألة الثانية لم يقل كذبوا هوداً كما قال فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا ( القمر 9 ) وذلك لوجهين أحدهما أن تكذيب نوح كان أبلغ وأشد حيث دعاهم قريباً من ألف سنة وأصروا على التكذيب ولهذا ذكر الله تعالى تكذيب نوح في مواضع ولم يذكر تكذيب غير نوح صريحاً وإن نبه عليه ( في ) واحد منها في الأعراف قال فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ( الأعراف 64 ) وقال حكاية عن نوح قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ ( الشعراء 117 ) وقال إِنَّهُمْ عَصَوْنِى ( نوح 21 ) وفي هذه المواضع لم يصرح بتكذيب قوم غيره منهم إلا قليلاً ولذلك قال تعالى في مواضع ذكر شعيب فكذبوه وقال الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا ( الأعراف 92 ) وقال تعالى عن قومه وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( الأعراف 66 ) لأنه دعا قومه زماناً مديداً وثانيهما أن حكاية عاد مذكورة ههنا على سبيل الاختصار فلم يذكر إلا تكذيبهم وتعذيبهم فقال كَذَّبَتْ عَادٌ كما قال كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ولم يذكر

دعاءه عليهم وإجابته كما قال في نوح
المسألة الثالثة قال تعالى فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ قبل أن بين العذاب وفي حكاية نوح بين العذاب ثم قال فَكَيْفَ كَانَ فما الحكمة فيه نقول الاستفهام الذي ذكره في حكاية نوح مذكور ههنا وهو قوله تعالى فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ كما قال من قبل ومن بعد في حكاية ثمود غير أنه تعالى حكى في حكاية عاد فَكَيْفَ كَانَ مرتين المرة الأولى استفهم ليبين كما يقول المعلم لمن لا يعرف كيف المسألة الفلانية ليصير المسئول سائلاً فيقول كيف هي فيقول إنها كذا وكذا فكذلك ههنا قال كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى فقال السامع بين أنت فإني لا أعلم فقال أَنَّا أَرْسَلْنَا ( القمر 19 ) وأما المرة الثانية فاستفهم للتعظيم كما يقول القائل للعارف المشاهد كيف فعلت وصنعت فيقول نعم ما فعلت ويقول أتيت بعجيبة فيحقق عظمة الفعل بالاستفهام وإنما ذكر ههنا المرة الأولى ولم يذكر في موضع آخر لأن الحكاية ذكرها مختصرة فكان يفوت الاعتبار بسبب الاختصار فقال كَيْفَ كَانَ عَذَابِى حثاً على التدبر والتفكر وأما الاختصار في حكايتهم فلأن أكثر أمرهم الاستكبار والاعتماد على القوة وعدم الالتفات إلى قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويدل على قوله تعالى فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة ً ( فصلت 15 ) وذكر استكبارهم كثيراً وما كان قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مبالغين في الاستكبار وإنما كانت مبالغتهم في التكذيب ونسبته إلى الجنون وذكر حالة نوح على التفصيل فإن قومه جمعوا بين التكذيب والاستكبار وكذلك حال صالح عليه السلام ذكرها على التفصيل لشدة مناسبتها بحال محمد ( صلى الله عليه وسلم )
ثم قال تعالى
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال تعالى فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى بتوحيد الضمير هناك ولم يقل عذابنا وقال ههنا أَنَاْ ولم يقل إني والجواب ما ذكرناه في قوله تعالى فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء ( القمر 11 )
المسألة الثانية الصرصر فيها وجوه أحدها الريح الشديدة الصوت من الصرير والصرة شدة الصياح ثانيها دائمة الهبوب من أصر على الشيء إذا دام وثبت وفيه بحث وهو أن الأسماء المشتقة هي التي تصلح لأن يوصف بها وأما أسماء الأجناس فلا يوصف بها سواء كانت أجراماً أو معاني فلا يقال إنسان رجل جاء ولا يقال لون أبيض وإنما يقال إنسان عالم وجسم أبيض وقولنا أبيض معناه شيء له بياض ولا يكون الجسم مأخوذاً فيه ويظهر ذلك في قولنا رجل عالم فإن العالم شيء له علم حتى الحداد والخباز ولو أمكن قيام العلم بهما لكان عالماً ولا يدخل الحي في المعنى من حيث المفهوم فإنا إذا قلنا عالم يفهم أن ذلك حي لأن اللفظ ما وضع لحي يعلم بل اللفظ وضع لشيء يعلم ويزيده ظهوراً قولنا معلوم فإنه شيء يعلم أو أمر يعلم وإن لم يكن شيئاً ولو دخل الجسم في الأبيض لكان قولنا جسم أبيض كقولنا جسم له بياض فيقع الوصف بالجثة إذا علمت هذا فمن المستفاد بالجنس شيء دون شيء فإن قولنا الهندي يقع على كل منسوب إلى الهند وأما المهند فهو سيف منسوب إلى الهند فيصح أن يقال عبد هندي وتمر هندي ولا يصح أن يقال مهند وكذا الأبلق ولون آخر في فرس ولا يقال للثوب أبلق كذلك الأفطس أنف فيه تقعير إذا قال لقائل

أنف أفطس فيكون كأنه قال أنف به فطس فيكون وصفه بالجثة وكان ينبغي أن لا يقال فرس أبلق ولا أنف أفطس ولا سيف مهند وهم يقولون فما الجواب وهذا السؤال يرد على الصرصر لأنها الريح الباردة فإذا قال ريح صرصر فليس ذلك كقولنا ريح باردة فإن الصرصر هي الريح الباردة فحسب فكأنه قال ريح باردة فنقول الألفاظ التي في معانيها أمران فصاعداً كقولنا عالم فإنه يدل على شيء له علم ففيه شيء وعلم هي على ثلاثة أقسام أحدها أن يكون الحال هو المقصود والمحل تبع كما في العالم والضارب والأبيض فإن المقاصد في هذه الألفاظ العلم والضرب والبياض بخصوصها وأما المحل فمقصود من حيث إنه على عمومه حتى أن البياض لو كان يبدل بلون غيره اختل مقصوده كالأسود وأما الجسم الذي هو محل البياض إن أمكن أن يبدل وأمكن قيام البياض بجوهر غير جسم لما اختل الغرض ثانيها أن يكون المحل هو المقصود كقولنا الحيوان لأنه اسم لجنس ما له الحياة لا كالحي الذي هو اسم لشيء له الحياة فالمقصود هنا المحل وهو الجسم حتى لو وجد حي ليس بجسم لا يحصل مقصود من قال الحيوان ولو حمل اللفظ على الله الحي الذي لا يموت لحصل غرض المتكلم ولو حمل لفظ الحيوان على فرس قائم أو إنسان نائم لم تفارقه الحياة لم يبق للسامع نفع ولم يحصل للمتكلم غرض فإن القائل إذا قال لإنسان قائم وهو ميت هذا حيوان ثم بان موته لا يرجع عما قال بل يقول ما قلت إنه حي بل قلت إنه حيوان فهو حيوان فارقته الحياة ثالثها ما يكون الأمران مقصودين كقولنا رجل وامرأة وناقة وجمل فإن الرجل اسم موضوع لإنسان ذكر والمرأة لإنسان أنثى والناقة لبعير أنثى والجمل لبعير ذكر فالناقة إن أطلقت على حيوان فظهر فرساً أو ثور اختل الغرض وإن بان جملاً كذلك إذا علمت هذا ففي كل صورة كان المحل مقصوداً إما وحده وإما مع الحال فلا يوصف به فلا يقال جسم حيوان ولا يقال بعير ناقة وإنما يجعل ذلك جملة فيوصف بالجملة فيقال جسم هو حيوان وبعير هو ناقة ثم إن الأبلق والأفطس شأنه الحيوان من وجه وشأنه العالم من وجه وكذلك المهند لكن دليل ترجيح الحال فيه ظاهر لأن المهند لا يذكر إلا لمدح السيف والأفطس لا يقال إلا لوصف الأنف لا لحقيقته وكذلك الأبلق بخلاف الحيوان فإنه لا يقال لوصفه وكذلك الناقة إذا علمت هذا فالصرصر يقال لشدة الريح أو لبردها فوجب أن يعمل به ما يعمل بالبارد والشديد فجاز الوصف وهذا بحث عزيز
المسألة الثالثة قال تعالى ههنا إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً وقال في الطور وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ ( الذاريات 41 ) فعرف الريح هناك ونكرها هنا لأن العقم في الريح أظهر من البرد الذي يضر النبات أو الشدة التي تعصف الأشجار لأن الريح العقيم هي التي لا تنشىء سحاباً ولا تلقح شجراً وهي كثيرة الوقوع وأما الريح المهلكة الباردة فقلما توجد فقال الريح العقيم أي هذا الجنس المعروف ثم زاده بياناً بقوله مَا تَذَرُ مِن شَى ْء أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ( الذاريات 42 ) فتميزت عن الرياح العقم وأما الصرصر فقليلة الوقوع فلا تكون مشهورة فنكرها
المسألة الرابعة قال هنا فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ وقال في السجدة فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ( فصلت 16 ) وقال في الحاقة سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَة َ أَيَّامٍ حُسُوماً ( الحاقة 7 ) والمراد من اليوم هنا الوقت والزمان كما في قوله تعالى يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ( مريم 33 ) وقوله مُّسْتَمِرٌّ يفيد ما يفيده الأيام لأن الاستمرار ينبىء عن إمرار الزمان كما ينبىء عنه الأيام وإنما اختلف اللفظ مع اتحاد المعنى لأن الحكاية

هنا مذكورة على سبيل الاختصار فذكر الزمان ولم يذكر مقداره ولذلك لم يصفها ثم إن فيه قراءتين إحدهما يَوْمِ نَحْسٍ بإضافة يوم وتسكين نحس على وزن نفس وثانيتهما يَوْمِ نَحْسٍ بتنوين الميم وكسر الحاء على وصف اليوم بالنحس كما في قوله تعالى فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ فإن قيل أيتهما أقرب قلنا الإضافة أصح وذلك لأن من يقرأ يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ يجعل المستمر صفة ليوم ومن يقرأ يوم نحس مستمر يكون المستمر وصفاً لنحس فيحصل منه استمرار النحوسة فالأول أظهر وأليق فإن قيل من يقرأ يوم نحس بسكون الحاء فماذا يقول في النحس نقول يحتمل أن يقول هو تخفيف نحس كفخذ وفخذ في غير الصفات ونصر ونصر ورعد ورعد وعلى هذا يلزمه أن يقول تقديره يوم كائن نحس كما تقول في قوله تعالى بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ ( القصص 44 ) ويحتمل أن يقول نحس ليس بنعت بل هو اسم معنى أو مصدر فيكون كقولهم يوم برد وحر وهو أقرب وأصح
المسألة الخامسة ما معنى مُّسْتَمِرٌّ نقول فيه وجوه الأول ممتد ثابت مدة مديدة من استمر الأمر إذا دام وهذا كقوله تعالى فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ( فصلت 16 ) لأن الجمع يفيد معنى الاستمرار والامتداد وكذلك قوله حُسُوماً ( الحاقة 7 ) الثاني شديد من المرة كما قلنا من قبل في قوله سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ( القمر 2 ) وهذا كقولهم أيام الشدائد وإليه الإشارة بقوله تعالى فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْى ِ ( فصلت 16 ) فإنه يذيقهم المر المضر من العذاب
ثم قال تعالى
تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ
فيه مسائل
المسألة الأولى تَنزِعُ النَّاسَ وصف أو حال نقول يحتمل الأمرين جميعاً إذ يصح أن يقال أرسل ريحاً صرصراً نازعة للناس ويصح أن يقال أرسل الريح نازعة فإن قيل كيف يمكن جعلها حالاً وذو الحال نكرة نقول الأمر هنا أهون منه في قوله تعالى وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الاْنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ( القمر 4 ) فإنه نكرة وأجابوا عنه بأن مَا موصوفة فتخصصت فحسن جعلها ذات الحال فكذلك نقول ههنا الريح موصوفة بالصرصر والتنكير فيه للتعظيم وإلا فهي ثلاثة فلا يبعد جعلها ذات حال وفيه وجه آخر وهو أنه كلام مستأنف على فعل وفاعل كما تقول جاء زيد جذبني وتقديره جاء فجذبني كذلك ههنا قال إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً ( القمر 19 ) فأصبحت تَنزِعُ النَّاسَ ويدل عليه قوله تعالى فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى ( الحاقة 7 ) فالتاء في قوله تَنزِعُ النَّاسَ إشارة إلى ما أشار إليه بقوله صَرْعَى وقوله تعالى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فيه وجوه أحدها نزعتهم فصرعتهم كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ كما قال صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ ثانيها نزعتهم فهم بعد النزع كأنهم أعجاز نخل وهذا أقرب لأن الانقعار قبل الوقوع فكأن الريح تنزع ( الواحد ) وتقعر ( ه ) فينقعر فيقع فيكون صريعاً فيخلو الموضع عنه فيخوى وقوله في الحاقة فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة ٍ إشارة إلى حالة بعد الانقعار الذي هو بعد النزع وهذا يفيد أن الحكاية ههنا مختصرة حيث لم يشر إلى صرعهم وخلو منازلهم عنهم بالكلية فإن حال الانقعار لا يحصل الخلو التام إذ هو مثل الشروع في الخروج والأخذ فيه ثالثها تنزعهم نزعاً بعنف كأنهم أعجاز نخل تقعرهم فينقعروا إشارة

إلى قوتهم وثباتهم على الأرض وفي المعنى وجوه أحدها أنه ذكر ذلك إشارة إلى عظمة أجسادهم وطول أقدادهم ثانيها ذكره إشارة إلى ثباتهم في الأرض فكأنهم كانوا يعملون أرجلهم في الأرض ويقصدون المنع به على الريح وثالثها ذكره إشارة إلى يبسهم وجفافهم بالريح فكانت تقتلهم وتحرقهم ببردها المفرط فيقعون كأنهم أخشاب يابسة
المسألة الثانية قال ههنا مُّنقَعِرٍ فذكر النخل وقال في الحاقة كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة ٍ فأنثها قال المفسرون في تلك السورة كانت أواخر الآيات تقتضي ذلك لقوله مُّسْتَمِرٌّ ( القمر 19 11 7 ) وهو جواب حسن فإن الكلام كما يزين بحسن المعنى يزين بحسن اللفظ ويمكن أن يقال النخل لفظه لفظ الواحد كالبقل والنمل ومعناه معنى الجمع فيجوز أن يقال فيه نخل منقعر ومنقعرة ومنقعرات ونخل خاوٍ وخاوية وخاويات ونخل باسق وباسقة وباسقات فإذا قال قائل منقعر أو خاوٍ أو باسق جرد النظر إلى اللفظ ولم يراع جانب المعنى وإذا قال منقعرات أو خاويات أو باسقات جرد النظر إلى المعنى ولم يراع جانب اللفظ وإذا قال منقعرة أو خاوية أو باسقة جمع بين الاعتبارين من حيث وحدة اللفظ وربما قال منقعرة على الإفراد من حيث اللفظ وألحق به تاء التأنيث التي في الجماعة إذا عرفت هذا فنقول ذكر الله تعالى لفظ النخل في مواضع ثلاثة ووصفها على الوجوه الثلاثة فقال وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ( ق 10 ) فإنها حال منها وهي كالوصف وقال نَخْلٍ خَاوِيَة ٍ ( الحاقة 7 ) وقال نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فحيث قال مُّنقَعِرٍ كان المختار ذلك لأن المنقعر في حقيقة الأمر كالمفعول لأنه الذي ورد عليه القعر فهو مقعور والخاو والباسق فاعل ومعناه إخلاء ما هو مفعول من علامة التأنيث أولاً كما تقول امرأة كفيل وامرأة كفيلة وامرأة كبير وامرأة كبيرة وأما الباسقات فهي فاعلات حقيقة لأن البسوق أمر قام بها وأما الخاوية فهي من باب حسن الوجه لأن الخاوي موضعها فكأنه قال نخل خاوية المواضع وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ فكان الدليل يقتضي ذلك بخلاف الشاعر الذي يختار اللفظ على المذهب الضعيف لأجل الوزن والقافية
ثم قال تعالى
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
وتفسيره قد تقدم والتكرير للتقرير وفي قوله عَذَابِى وَنُذُرِ لطيفة ما ذكرناها وهي تثبت بسؤال وجواب لو قال القائل أكثر المفسرين على أن النذر في هذا الموضع جمع نذير الذي هو مصدر معناه إنذار فما الحكمة في توحيد العذاب حيث لم يقل فكيف كان أنواع عذابي ووبال إنذاري نقول فيه إشارة إلى غلبة الرحمة الغضب وذلك لأن الإنذار إشفاق ورحمة فقال الإنذارات التي هي نعم ورحمة تواترت فلما لم تنفع وقع العذاب دفعة واحدة فكانت النعم كثيرة والنقمة واحدة وسنبين هذا زيادة بيان حين نفسر قوله تعالى فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( الرحمن 13 ) حيث جمع الآلاء وكثر ذكرها وكررها ثلاثين مرة ثم بين الله تعالى حال قوم آخرين فقال

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ
وقد تقدم تفسيره غير أنه في قصة عاد قال كَذَّبَتْ ( القمر 18 ) ولم يقل بالنذر وفي قصة نوح قال كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ بِالنُّذُرِ ( الشعراء 105 ) فنقول هذا يؤيد ما ذكرنا من أن المراد بقوله كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ( القمر 9 ) أن عادتهم ومذهبهم إنكار الرسل وتكذيبهم فكذبوا نوحاً بناء على مذهبهم وإنما صرح ههنا لأن كل قوم يأتون بعد قوم وأتاهما رسولان فالمكذب المتأخر يكذب المرسلين جميعاً حقيقة والأولون يكذبون رسولاً واحداً حقيقة ويلزمهم تكذيب من بعده بناء على ذلك لأنهم لما كذبوا من تقدم في قوله الله تعالى واحد والحشر كائن ومن أرسل بعده كذلك قوله ومذهبه لزم منه أن يكذبوه ويدل على هذا أن الله تعالى قال في قوم نوح فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ ( الأعراف 64 ) وقال في عاد عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ ( هود 59 ) وأما قوله تعالى كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ( الشعراء 105 ) فإشارة إلى أنهم كذبوا وقالوا ما يفضي إلى تكذيب جميع المرسلين ولهذا ذكره بلفظ الجمع المعرف للاستغراق ثم إنه تعالى قال هناك عن نوح رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ ( الشعراء 117 ) ولم يقل كذبوا رسلك إشارة إلى ما صدر منهم حقيقة لا أن ما ألزمهم لزمه إذا عرفت هذا فلما سبق قصة ثمود ذكر رسولين ورسولهم ثالثهم قال كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ هذا كله إذا قلنا إن النذر جمع نذير بمعنى منذر أما إذا قلنا إنها الإنذارات فنقول قوم نوح وعاد لم تستمر المعجزات التي ظهرت في زمانهم وأما ثمود فأنذروا وأخرج لهم ناقة من صخرة وكانت تدور بينهم وكذبوا فكان تكذيبهم بإنذارات وآيات ظاهرة فصرح بها وقوله فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا واحِداً نَّتَّبِعُهُ ( القمر 24 ) يؤيد الوجه الأول لأن من يقول لا أتبع بشراً مثلي وجميع المرسلين من البشر يكون مكذباً للرسل والباء في قوله بِالنُّذُرِ يؤيد الوجه الثاني لأنا بينا أن الله تعالى في تكذيب الرسل عدى التكذيب بغير حرف فقال كَذَّبُوهُ ( الأعراف 64 ) وَكَذَّبُواْ رُسُلُنَا ( غافر 70 ) فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا ( القمر 9 ) وكذبوني ( المؤمنون 26 ) وقال وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا رَّبُّهُمْ ( الأنفال 54 ) وبآياتنا ( البقرة 39 ) فعدى بحرف لأن التكذيب هو النسبة إلى الكذب والقائل هو الذي يكون كاذباً حقيقة والكلام والقول يقال فيه كاذب مجازاً وتعلق التكذيب بالقائل أظهر فيستغني عن الحرف بخلاف القول وقد ذكرنا ذلك وبيناه بياناً شافياً
فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ
وفي قوله تعالى بِالنُّذُرِ فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا واحِداً نَّتَّبِعُهُ مسائل
المسألة الأولى زيداً ضربته وزيد ضربته كلاهما جائز والنصب مختار في مواضع منها هذا الموضع وهو الذي يكون ما يرد عليه النصب والرفع بعد حرف الاستفهام والسبب في اختيار النصب أمر معقول وهو أن المستفهم يطلب من المسئول أن يجعل ما ذكره بعد حرف الاستفهام مبدأ لكلامه ويخبر عنه فإذا قال أزيد عندك معناه أخبرني عن زيد واذكر لي حاله فإذا انضم إلى هذه الحالة فعل مذكور ترجح جانب النصب فيجوز أن يقال أزيداً ضربته وإن لم يجب فالأحسن ذلك فإن قيل من قرأ أَبَشَرٌ مّنَّا واحِداً نَّتَّبِعُهُ كيف ترك الأجود نقول نظراً إلى قوله تعالى فَقَالُواْ إذ ما بعد القول لا يكون إلا جملة والاسمية أولى والأولى أقوى وأظهر

المسألة الثانية إذا كان بشراً منصوباً بفعل فما الحكمة في تأخر الفعل في الظاهر نقول قد تقدم مراراً أن البليغ يقدم في الكلام ما يكون تعلق غرضه به أكثر وهم كانوا يريدون تبيين كونهم محقين في ترك الاتباع فلو قالوا أنتبع بشراً يمكن أن يقال نعم اتبعوه وماذا يمنعكم من اتباعه فإذا قدموا حاله وقالوا هو نوعنا بشر ومن صنفنا رجل ليس غريباً نعتقد فيه أنه يعلم ما لا نعلم أو يقدر مالا نقدر وهو واحد وحيد وليس له جند وحشم وخيل وخدم فكيف نتبعه فيكونون قد قدموا الموجب لجواز الامتناع من الاتباع واعلم أن في هذه الآية إشارات إلى ذلك أحدها نكروه حيث قالوا أَبَشَراً ولم يقولوا أنتبع صالحاً أو الرجل المدعي النبوة أو غير ذلك من المعرفات والتنكير تحقير ثانيها قالوا أبشراً ولم يقولوا أرجلاً ثالثها قالوا مِنَّا وهو يحمل أمرين أحدهما من صنفنا ليس غريباً وثانيهما مِنَّا أي تبعنا يقول القائل لغيره أنت منا فيتأذى السامع ويقول لا بل أنت منا ولست أنا منكم وتحقيقه أن من للتبعيض والبعض يتبع الكل لا الكل يتبع البعض رابعها واحِداً يحتمل أمرين أيضاً أحدهما وحيداً إلى ضعفه وثانيهما واحداً أي هو من الآحاد لا من الأكابر المشهورين وتحقيق القول في استعمال الآحاد في الأصاغر حيث يقال هو من آحاد الناس هو أن من لا يكون مشهوداً بحسب ولا نسب إذا حدث عنه من لا يعرفه فلا يمكن أن يقول عنه قال فلان أو ابن فلان فيقول قال واحد وفعل واحد فيكون ذلك غاية الخمول لأن الأرذل لا ينضم إليه أحد فيبقى في أكثر أوقاته واحداً فيقال للأرذال آحاد
وقوله تعالى عنهم إِنَّا إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يحتمل وجهين أحدهما أن يكونوا قد قالوا في جواب من يقول لهم إن لم تتبعوه تكونوا في ضلال فيقولون له لا بل إن تبعناه نكون في ضلال ثانيهما أن يكون ذلك ترتيباً على ما مضى أي حاله ما ذكرنا من الضعف والوحدة فإن اتبعناه نكون في ضلال وسعر أي جنون على هذا الوجه فإن قلنا إن ذلك قالوه على سبيل الجواب فيكون القائل قال لهم إن لم تتبعوه فإنا إذاً في الحال في ضلال وفي سعر في العقبى فقالوا لا بل لو اتبعناه فإنا إذاً في الحال في ضلال وفي سعر من الذل والعبودية مجازاً فإنهم ما كانوا يعترفون بالسعير
المسألة الثالثة السعير في الآخرة واحد فكيف جمع نقول الجواب عنه من وجوه أحدها في جهنم دركات يحتمل أن تكون كل واحدة سعيراً أو فيها سعير ثانيها لدوام العذاب عليهم فإنه كلما نضجت جلودهم يبدلهم جلوداً كأنهم في كل زمان في سعير آخر وعذاب آخر ثالثها لسعة السعير الواحد كأنها سعر يقال للرجل الواحد فلان ليس برجل واحد بل هو رجال
ثم قال تعالى عنهم
أَءُلْقِى َ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ
وقد تقدم أن النفي بطريق الاستفهام أبلغ لأن من قال ما أنزل عليه الذكر ربما يعلم أو يظن أو يتوهم أن السامع يكذبه فيه فإذا ذكر بطريق الاستفهام يكون معناه أن السامع يجيبني بقوله ما أنزل فيجعل الأمر حينئذ منفياً ظاهراً لا يخفى على أحد بل

كل أحد يقول ما أنزل والذكر الرسالة أو الكتاب إن كان ويحتمل أن يراد به ما يذكره من الله تعالى كما يقال الحق ويراد به ما يحل من الله وفيه مسائل
المسألة الأولى قولهم أألقي بدل أأنزل وفيه إشارة إلى ما كانوا ينكرونه من طريق المبالغة وذلك لأن الإلقاء إنزال بسرعة والنبي كان يقول ( جاءني الوحي مع الملك في لحظة يسيرة ) فكأنهم قالوا الملك جسم والسماء بعيدة فكيف ينزل في لحظة فقالوا أألقي وما قالوا أأنزل وقولهم عليه إنكار آخر كأنهم قالوا ما ألقى ذكر أصلاً قالوا إن ألقى فلا يكون عليه من بيننا وفينا من هو فوقه في الشرف والذكاء وقولهم أألقى بدل عن قولهم أألقي الله للإشارة إلى أن الإلقاء من السماء غير ممكن فضلاً عن أن يكون من الله تعالى
المسألة الثانية عرفوا الذكر ولم يقولوا أألقى عليه ذكر وذلك لأن الله تعالى حكى إنكارهم لما لا ينبغي أن ينكر فقال أنكروا الذكر الظاهر المبين الذي لا ينبغي أن ينكر فهو كقول القائل أنكروا المعلوم
المسألة الثالثة بَلِ يستدعي أمراً مضروباً عنه سابقاً فما ذاك نقول قولهم أألقى للإنكار فهم قالوا ما ألقى ثم إن قولهم أألقى عليه الذكر لا يقتضي إلا أنه ليس بنبي ثم قالوا بل هو ليس بصادق
المسألة الرابعة الْكَذَّابُ فعال من فاعل للمبالغة أو يقال بل من فاعل كخياط وتمار نقول الأول هو الصحيح الأظهر على أن الثاني من باب الأولى لأن المنسوب إلى الشيء لا بد له من أن يكثر من مزاولة الشيء فإن من خاط يوماً ثوبه مرة لا يقال له خياط إذا عرفت هذا فنقول المبالغة إما في الكثرة وإما في الشدة فالكذاب إما شديد الكذب يقول مالا يقبله العقل أو كثير الكذب ويحتمل أن يكونوا وصفوه به لاعتقادهم الأمرين فيه وقولهم أَشِرٌ إشارة إلى أنه كذب لا لضرورة وحاجة إلى خلاص كما يكذب الضعيف وإنما هو استغنى وبطر وطلب الرياسة عليكم وأراد اتباعكم له فكان كل وصف مانعاً من الاتباع لأن الكاذب لا يلتفت إليه ولا سيما إذا كان كذبه لا لضرورة وقرىء أَشِرٌ فقال المفسرون هذا على الأصل المرفوض في الأشر والأخير على وزن أفعل التفضيل وإنما رفض الأصل فيه لأن أفعل إذا فسر قد يفسر بأفعل أيضاً والثاني بأفعل ثالث مثاله إذا قال ما معنى الأعلم يقال هو الأكثر علماً فإذا قيل الأكثر ماذا فيقال الأزيد عدداً أو شيء مثله فلا بد من أمر يفسر به الأفعل لا بمن بابه فقالوا أفعل التفضيل والفضيلة أصلها الخير والخير أصل في باب أفعل فلا يقال فيه أخير ثم إن الشر في مقابلة الخير يفعل به ما يفعل بالخير فيقال هو شر من كذا وخير من كذا والأشر في مقابلة الأخير ثم إن خيراً يستعمل في موضعين أحدهما مبالغة الخير بفعل أو أفعل على اختلاف يقال هذا خير وهذا أخير ويستعمل في مبالغة خير على المشابهة لا على الأصل فمن يقول أشر يكون قد ترك الأصل المستعمل لأنه أخذ في الأصل المرفوض بمعنى هو شر من غيره وكذا معنى الأعلم أن علمه خير من علم غيره أو هو خير من غرة الجهل كذلك القول في الأضعف وغيره

ثم قال تعالى
سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاٌّ شِرُ
فإن قال قائل سيعلم للاستقبال ووقت أنزال القرآن على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا قد علموا لأن بعد الموت تتبين الأمور وقد عاينوا ما عاينوا فكيف القول فيه نقول فيه وجهان أحدهما أن يكون هذا القول مفروض الوقوع في وقت قولهم بل هو كذاب أشر فكأنه تعالى قال يوم قالوا بل هو كذاب أشر سيعلمون غداً وثانيهما أن هذا التهديد بالتعذيب لا بحصول العلم بالعذاب الأليم وهو عذاب جهنم لا عذاب القبر فهم سيعذبون يوم القيامة وهو مستقبل وقوله تعالى غَداً لقرب الزمان في الإمكان والأذهان ثم إن قلنا إن ذلك للتهديد بالتعذيب لا للتكذيب فلا حاجة إلى تفسيره بل يكون ذلك إعادة لقولهم من غير قصد إلى معناه وإن قلنا هو للرد والوعد ببيان انكشاف الأمر فقوله تعالى سَيَعْلَمُونَ غَداً معناه سيعلمون غداً أنهم الكاذبون الذين كذبوا لا لحاجة وضرورة بل بطروا وأشروا لما استغنوا وقوله تعالى غَداً يحتمل أن يكون المراد يوم القيامة ويحتمل أن يكون المراد يوم العذاب وهذا على الوجه الأول
ثم قال تعالى
إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَة ِ فِتْنَة ً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَة ِ بمعنى الماضي أو بمعنى المستقبل إن كان بمعنى الماضي فكيف يقول فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وإن كان بمعنى المستقبل فما الفرق بين حكاية عاد وحكاية ثمود حيث قال هناك أَنَّا أَرْسَلْنَا ( القمر 19 ) وقال ههنا إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَة ِ بمعنى إنا نرسل نقول هو بمعنى المستقبل وما قبله وهو قوله سَيَعْلَمُونَ غَداً يدل عليه فإن قوله إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَة ِ كالبيان له كأنه قال سيعلمون حيث نرسل الناقة وما بعده من قوله فَارْتَقِبْهُمْ وَنَبّئْهُمْ ( القمر 28 ) أيضاً يقتضي ذلك فإن قيل قوله تعالى فَنَادَوْاْ ( القمر 29 ) دليل على أن المراد الماضي قلنا سنجيب عنه في موضعه وأما الفارق فنقول حكاية ثمود مستقصاة في هذا الموضع حيث ذكر تكذيب القوم بالنذر وقولهم لرسولهم وتصديق الرسل بقوله يَعْلَمُونَ وذكر المعجزة وهي الناقة وما فعلوه بها والعذاب والهلاك يذكر حكاية على وجه الماضي والمستقبل ليكون وصفه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه حاضرها فيقتدي بصالح في الصبر والدعاء إلى الحق ويثق بربه في النصر على الأعداء بالحق فقال إني مؤيدك بالمعجزة القاطعة واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة خمس قصص وجعل القصة المتوسطة مذكورة على أتم وجه لأن حال صالح كان أكثر مشابهة بحال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أتى بأمر عجيب أرضى كان أعجب مما جاء به الأنبياء لأن عيسى عليه السلام أحيا الميت لكن الميت كان محلاً للحياة فأثبت بإذن الله الحياة في محل كان قابلاً لها وموسى عليه السلام انقلبت عصاه ثعباناً فأثبت الله له في الخشبة الحياة لكن الخشبة نبات كان له قوة في النماء يشبه الحيوان في النمو فهو أعجب وصالح عليه السلام كان الظاهر في يده خروج الناقة من الحجر والحجر جماد لا محل للحياة ولا محل للنمو ( فيه ) والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتى بأعجب من الكل وهو التصرف في جرم السماء الذي يقول المشرك لا وصول

لأحد إلى السماء ولا إمكان لشقه وخرقه وأما الأرضيات فقالوا إنها أجسام مشتركة المواد يقبل كل واحد منها صورة الأخرى والسموات لا تقبل ذلك فلما أتى بما عرفوا فيه أنه لا يقدر على مثله آدمي كان أتم وأبلغ من معجزة صالح عليه السلام التي هي أتم معجزة من معجزات من كان من الأنبياء غير محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( وفيه لطيفة ) وهو أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي وذكر معه مفعوله فالواجب الإضافة تقول وحشي قاتل عم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإن قلنا قاتل عم النبي بالإعمال فلا بد من تقدير الحكاية في الحال كما في قوله تعالى وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ( الكهف 18 ) على أنه يحكي القصة في حال وقوعها تقول خرجت أمس فإذا زيد ضارب عمراً كما تقول يضرب عمراً وإن كان الضرب قد مضى وإذا كان بمعنى المستقبل فالأحسن الإعمال تقول إني ضارب عمراً غداً فإن قلت إني ضارب عمرو غداً حيث كان الأمر وقع وكان جاز لكنه غير الأحسن والتحقيق فيه أن قولنا ضارب وسارق وقاتل أسماء في الحقيقة غير أن لها دلالة على الفعل فإذا كان الفعل تحقق في الماضي فهو قد عدم حقيقة فلا وجود للفعل في الحقيقة ولا في التوقع فيجب الحمل على ما للاسم من الإضافة وترك ما للفعل من الأعمال لغلبة الإسمية وفقدان الفعل بالماضي وإذا كان الفعل حاضراً أو متوقعاً في الاستقبال فله وجود حقيقة أو في التوقع فتجوز الإضافة لصورة الاسم والإعمال لتوقع الفعل أو لوجوده ولكن الإعمال أولى لأن في الاستقبال لن يضرب يفيد لا يكون ضارباً فلا ينبغي أن يضاف أما الإعمال فهو ينبىء عن توقع الفعل أو وجوده لأنه إذا قال زيد ضارب عمراً فالسامع إذا سمع بضرب عمرو علم أنه يفعل فإذا لم يره في الحال يتوقعه في الاستقبال غير أن الإضافة تفيد تخفيفاً حيث سقط بها التنوين والنون فتختار لفظاً لا معنى إذا عرفت هذا فنقول مُرْسِلُواْ النَّاقَة ِ مع ما فيه من التخفيف فيه تحقيق الأمر وتقديره كأنه وقع وكان بخلاف ما لو قيل إنا نرسل الناقة
المسألة الثانية فِتْنَة ً مفعول له فتكون الفتنة هي المقصودة من الإرسال لكن المقصود منه تصديق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو صالح عليه السلام لأنه معجزة فما التحقيق في تفسيره نقول فيه وجهان أحدهما أن المعجزة فتنة لأن بها يتميز حال من يثاب ممن يعذب لأن الله تعالى بالمعجزة لا يعذب الكفار إلا إذا كان ينبئهم بصدقه من حيث نبوته فالمعجزة ابتلاء لأنها تصديق وبعد التصديق يتميز المصدق عن المكذب وثانيهما وهو أدق أن إخراج الناقة من الصخرة كان معجزة وإرسالها إليهم ودورانها فيما بينهم وقسمة الماء كان فتنة ولهذا قال إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَة ِ فِتْنَة ً ولم يقل إنا مخرجوا الناقة فتنة والتحقيق في الفتنة والابتلاء والامتحان قد تقدم مراراً وإليه إشارة خفية وهي أن الله تعالى يهدي من يشاء وللهداية طرق منها ما يكون على وجه يكون للإنسان مدخل فيه بالكسب مثاله يخلق شيئاً دالاً ويقع تفكر الإنسان فيه ونظره إليه على وجه يترجح عنده الحق فيتبعه وتارة يلجئه إليه ابتداء ويصونه عن الخطأ من صغره فإظهار المعجز على يد الرسول أمر يهدي به من يشاء اهتداء مع الكسب وهداية الأنبياء من غير كسب منهم بل يخلق فيهم علوماً غير كسبية فقوله إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَة ِ فِتْنَة ً إشارة إليهم ولهذا قال لهم ومعناه على وجه يصلح لأن يكون فتنة وعلى هذا كل من كانت معجزته أظهر يكون ثواب قومه أقل وقوله تعالى فَارْتَقِبْهُمْ أي فارتقبهم بالعذاب ولم يقل فارتقب العذاب إشارة إلى حسن الأدب والاجتناب عن طلب الشر وقوله تعالى وَاصْطَبِرْ يؤيد ذلك بمعنى إن كانوا يؤذونك فلا تستعجل لهم العذاب ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى قرب الوقت إلى أمرهما والأمر بحيث يعجز عن الصبر

ثم قال تعالى
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَة ٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ
أي مقسوم وصف بالمصدر مراداً به المشتق منه كقوله ماء ملح وقوله زور وفيه ضرب من المبالغة يقال للكريم كرم كأنه هو عين الكرم ويقال فلان لطف محض ويحتمل أن تكون القسمة وقعت بينهما لأن الناقة كانت عظيمة وكانت حيوانات القوم تنفر منها ولا ترد الماء وهي على الماء فصعب عليهم ذلك فجعل الماء بينهما يوماً للناقة ويوماً للقوم ويحتمل أن تكون لقلة الماء فشربه يوماً للناقة ويوماً للحيوانات ويحتمل أن يكون الماء كان بينهم قسمة يوم لقوم ويوم لقوم ولما خلق الله الناقة كانت ترد الماء يوم فكان الذين لهم الماء في غير يوم ورودها يقولون الماء كله لنا في هذا اليوم ويومكم كان أمس والناقة ما أخرت شيئاً فلا نمكنكم من الورود أيضاً في هذا اليوم فيكون النقصان وارداً على الكل وكانت الناقة تشرب الماء بأسره وهذا أيضاً ظاهر ومنقول والمشهور هنا الوجه الأوسط ونقول إن قوماً كانوا يكتفون بلبنها يوم ورودها الماء والكل ممكن ولم يرد في شيء خبر متواتر والثالث قطع وهو من القسمة لأنها مثبتة بكتاب الله تعالى أما كيفية القسمة والسبب فلا وقوله تعالى كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ مما يؤيد الوجه الثالث أي كل شرب محتضر للقوم بأسرهم لأنه لو كان ذلك لبيان كون الشرب محتضراً للقوم أو الناقة فهو معلوم لأن الماء ما كان يترك من غير حضور وإن كان لبيان أنه تحضره الناقة يوماً والقوم يوماً فلا دلالة في اللفظ عليه وأما إذا كانت العادة قبل الناقة على أن يرد الماء قوم في يوم وآخرون في يوم آخر ثم لما خلقت الناقة كانت تنقص شرب البعض وتترك شرب الباقين من غير نقصان فقال كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ كم أيها القوم فردوا كل يوم الماء وكل شرب ناقص تقاسموه وكل شرب كامل تقاسموه
فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ
ثم قال تعالى فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ نداء المستغيث كأنهم قالوا يالقدار للقوم كما يقول القائل بالله للمسلمين وصاحبهم قدار وكان أشجع وأهجم على الأمور ويحتمل أن يكون رئيسهم
وقوله تعالى فَتَعَاطَى فَعَقَرَ يحتمل وجوهاً الأول تعاطى آلة العقر فعقر الثاني تعاطى الناقة فعقرها وهو أضعف الثالث التعاطي يطلق ويراد به الإقدام على الفعل العظيم والتحقيق هو أن الفعل العظيم يقدم كل أحد فيه صاحبه ويبرىء نفسه منه فمن يقبله ويقدم عليه يقال تعاطاه كأنه كان فيه تدافع فأخذه هو بعد التدافع الرابع أن القوم جعلوا له على عمله جعلاً فتعاطاه وعقر الناقة
ثم قال تعالى
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ
وقد تقدم بيانه وتفسيره غير أن هذه الآية ذكرها في ثلاثة مواضع ذكرها في حكاية نوح بعد بيان العذاب وذكرها ههنا قبل بيان العذاب وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه وبعد بيانه فحيث ذكر قبل بيان العذاب ذكرها للبيان كما تقول ضربت فلاناً أي ضرب وأيما ضرب وتقول ضربته وكيف ضربته أي قوياً وفي حكاية عاد ذكرها مرتين للبيان والاستفهام وقد ذكرنا السبب فيه ففي حكاية نوح ذكر الذي للتعظيم وفي حكاية ثمود ذكر الذي للبيان لأن عذاب قوم نوح كان بأمر عظيم عام وهو الطوفان الذي عم العالم ولا كذلك عذاب قوم هود فإنه كان مختصاً بهم

ثم قال تعالى
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَة ً وَاحِدَة ً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ
سمعوا صيحة فماتوا وفيه مسائل
المسألة الأولى كان في قوله فَكَانُواْ من أي الأقسام نقول قال النحاة تجيء تارة بمعنى صار وتمسكوا بقول القائل بتيماء قفر والمطي كأنها
قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها
بمعنى صارت فقال بعض المفسرين في هذا موضع إنها بمعنى صار والتحقيق أن كان لا تخالف غيرها من الأفعال الماضية اللازمة التي لا تتعدى والذي يقال إن كان تامة وناقصة وزائدة وبمعنى صار فليس ذلك يوجب اختلاف أحوالها اختلافاً يفارق غيرها من الأفعال وذلك لأن كان بمعنى وجد أو حصل أو تحقق غير أن الذي وجد تارة يكون حقيقة الشيء وأخرى صفة من صفاته فإذا قلت كانت الكائنة وكن فيكون جعلت الوجود والحصول للشيء في نفسه فكأنك قلت وجدت الحقيقة الكائنة وكن أي احصل فيوجد في نفسه وإذا قلت كان زيد عالماً أي وجد علم زيد غير أنا نقول في وجد زيد عالماً إن عالماً حال وفي كان زيد عالماً نقول إنه خبر كقولنا حصل زيد عالماً غير أن قولنا وجد زيد عالماً ربما يفهم منه أن الوجود والحصول لزيد في تلك الحال كما تقول قام زيد منتحياً حيث يكون القيامة لزيد في تلك الحال وقولنا كان زيد عالماً ليس معناه كان زيد وفي تلك الحال هو عالم لكن هذا لا يوجب أن كان على خلاف غيره من الأفعال اللازمة التي لها بالحال تعلق شديد لأن من يفهم من قولنا حصل زيد اليوم على أحسن حال ما نفهمه من قولنا خرج زيد اليوم في أحسن زي لا يمنعه مانع من أن يفهم من قولنا كان زيد على أحسن حال مثل ما فهم هناك إذا عرفت هذا فنقول الفعل الماضي يطلق تارة على ما يوجد في الزمان المتصل بالحاضر كقولنا قام زيد في صباه ويطلق تارة على ما يوجد في الزمان الحاضر كقولنا قام زيد فقم وقم فان زيداً قام وكذلك القول في كان ربما يقال كان زيد قائماً عام كذا وربما يقال كان زيد قائماً الآن كما في قام زيد فقوله تعالى فَكَانُواْ فيه استعمال الماضي فيما اتصل بالحال فهو كقولك أرسل عليهم صيحة فماتوا أي متصلاً بتلك الحال نعم لو استعمل في هذا الموضع صار يجوز لكن كان وصار كل واحد بمعنى في نفسه وليس وإنما يلزم حمل كان على صار إذا لم يمكن أن يقال هو كذا كما في البيت حيث لا يمكن أن يقال البيوض فراخ وأما هنا يمكن أن يقال هم كهشيم ولولا الكاف لأمكن أن يقال يجب حمل كان على صار إذا كان المراد أنهم انقلبوا هشيماً كما يقلب الممسوخ وليس المراد ذلك
المسألة الثانية ما الهشيم نقول هو المهشوم أي المكسور وسمي هاشم هاشماً لهشمه الثريد في الجفان غير أن الهشيم استعمل كثيراً في الحطب المتكسر اليابس فقال المفسرون كانوا كالحشيش الذي يخرج من الحظائر بعد البلا بتفتت واستدلوا عليه بقوله تعالى هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرّياحُ ( الكهف 54 ) وهو من باب إقامة الصفة مقام الموصوف كما يقال رأيت جريحاً ومثله السعير
المسألة الثالثة لماذا شبههم به قلنا يحتمل أن يكون التشبيه بكونهم يابسين كالحشيش بين الموتى الذين ماتوا من زمان وكأنه يقول سمعوا الصيحة فكانوا كأنهم ماتوا من أيام ويحتمل أن يكون لأنهم انضموا بعضهم إلى بعض كما ينضم الرفقاء عند الخوف داخلين بعضهم في بعض فاجتمعوا بعضهم فوق بعض

كحطب الحاطب الذي يصفه شيئاً فوق شيء منتظراً حضور من يشتري منه شيئاً فإن الحطاب الذي عنده الحطب الكثير يجعل منه كالحظيرة ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم في الجحيم أي كانوا كالحطب اليابس الذي للوقيد فهو محقق لقوله تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 98 ) وقوله تعالى فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ( الجن 15 ) وقوله أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) كذلك ماتوا فصاروا كالحطب الذي لا يكون إلا للإحراق لأن الهشيم لا يصلح للبناء
ثم قال تعالى
وَلَقَد يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
والتكرار للتذكار ثم بين حال قوم آخرون وهم قوم لوط فقال
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ
ثم بين عذابهم وإهلاكهم فقال
وفيه مسائل
الأولى الحاصب فاعل من حصب إذا رمى الحصباء وهي اسم الحجارة والمرسل عليهم هو نفس الحجارة قال الله تعالى وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَة ً مّن سِجّيلٍ ( الحجر 74 ) وقال تعالى عن الملائكة لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَة ً مِن طِينٍ ( الذاريات 33 ) فالمرسل عليهم ليس بحاصب فكيف الجواب عنه نقول الجواب من وجوه الأول أرسلنا عليهم ريحاً حاصباً بالحجارة التي هي الحصباء وكثر استعمال الحاصب في الريح الشديدة فأقام الصفة مقام الموصوف فإن قيل هذا ضعيف من حيث اللفظ والمعنى أما اللفظ فلأن الريح مؤنثة قال تعالى بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَة ٍ ( الحاقة 6 ) بِرِيحٍ طَيّبَة ٍ ( يونس 22 ) وقال تعالى فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ ( ص 36 ) وقال تعالى غُدُوُّهَا شَهْرٌ ( سبأ 12 ) وقال تعالى في وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ ( الحجر 22 ) وما قال لقاحاً ولا لقحة وأما المعنى فلأن الله تعالى بين أنه أرسل عليهم حجارة من سجيل مسومة عليها علامة كل واحد وهي لا تسمى حصباء وكان ذلك بأيدي الملائكة لا بالريح نقول تأنيث الريح ليس حقيقة ولها أصناف الغالب فيها التذكير كالإعصار قال تعالى فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ ( البقرة 266 ) فلما كان حاصب حجارة كان كالذي فيه نار وأما قوله كان الرمي بالسجيل لا بالحصباء وبأيدي الملائكة لا بالريح فنقول كل ريح يرمي بحجارة يسمى حاصباً وكيف لا والسحاب الذي يأتي بالبرد يسمى حاصباً تشبيهاً للبرد بالحصباء فكيف لا يقال في السجيل وأما الملائكة فإنهم حركوا الريح وهي حصبت الحجارة عليهم الجواب الثاني المراد عذاب حاصب وهذا أقرب لتناوله الملك والحساب والريح وكل ما يفرض الجواب الثالث قوله حَاصِباً هو أقرب من الكل لأن قوله أَنَّا أَرْسَلْنَا يدل على مرسل هو مرسل الحجارة وحاصبها فإن قيل كان ينبغي أن يقول حاصبين نقول لما لم يذكر الموصوف رجح جانب اللفظ كأنه قال شيئاً حاصباً إذ المقصود بيان جنس العذاب لا بيان من على يده العذاب وهذا وارد على من قال الريح مؤنث لأن ترك التأنيث هناك كترك علامة الجمع هنا
المسألة الثانية ما رتب الإرسال على التكذيب بالفاء فلم يقل ( كذبت قوم لوط بالنذر ) فأرسلنا كما

قال فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء ( القمر 11 ) لأن الحكاية مسوقة على مساق ما تقدم من الحكايات فكأنه قال فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ( القمر 30 ) كما قال من قبل ثم قيل لا علم لنا به وإنماأنت العليم فأخبرنا فقال أَنَّا أَرْسَلْنَا
المسألة الثالثة ما الحكمة في ترك العذاب حيث لم يقل فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى كما قال في الحكايات الثلاث نقول لأن التكرار ثلاث مرات بالغ ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا هل بلغت ثلاثاً ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( فنكاحها باطل باطل باطل ) والإذكار تكرر ثلاث مرات فبثلاث مرار حصل التأكيد وقد بينا أنه تعالى ذكر فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى في حكاية نوح للتعظيم وفي حكاية ثمود للبيان وفي حكاية عاد أعادها مرتين للتعظيم والبيان جميعاً واعلم أنه تعالى ذكر فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى في ثلاث حكايات أربع مرات فالمرة الواحدة للإنذار والمرات الثلاث للإذكار لأن المقصود حصل بالمرة الواحدة وقوله تعالى فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( الرحمن 13 ) ذكره مرة للبيان وأعادها ثلاثين مرة غير المرة الأولى كما أعاد فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ثلاث مرات غير المرة الأولى فكان ذكر الآلاء عشرة أمثال ذكر العذاب إشارة إلى الرحمة التي قال في بيانها مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يَجْزِى إِلاَّ مِثْلَهَا ( الأنعام 160 ) وسنبين ذلك في سورة الرحمن
المسألة الرابعة إِلا ءالَ لُوطٍ استثناء مماذا إن كان من الذين قال فيهم إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً ذَلِكَ لايَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ثم قال إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ لكن لم يستثن عند قوله كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ وآله من قومه فيكون آله قد كذبوا ولم يكن كذلك الجواب عنه من وجهين أحدهما أن الاستثناء ممن عاد إليهم الضمير في عليهم وهم القوم بأسرهم غير أن قوله كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ لا يوجب كون آله مكذبين لأن قول القائل عصى أهل بلدة كذا يصح وإن كان فيها شرذمة قليلة يطيعون فكيف إذا كان فيهم واحد أو اثنان من المطيعين لا غير فإن قيل ماله حاجة إلى الاستثناء لأن قوله إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ يصح وإن نجا منهم طائفة يسيرة نقول الفائدة لما كانت لا تحصل إلا ببيان إهلاك من كذب وإنجاء من آمن فكان ذكر الإنجاء مقصوداً وحيث يكون القليل من الجمع الكثير مقصوداً لا يجوز التعميم والإطلاق من غير بيان حال ذلك المقصود بالاستثناء أو بكلام منفصل مثاله فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ ( الحجر 30 31 ) استثنى الواحد لأنه كان مقصوداً وقال تعالى وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 ) ولم يستثن إذ المقصود بيان أنها أوتيت لا بيان أنها ما أوتيت وفي حكاية إبليس كلاهما مراد ليعلم أن من تكبر على آدم عوقب ومن تواضع أثيب كذلك القول ههنا وأما عند التكذيب فكأن المقصود ذكر المكذبين فلم يستثن الجواب الثاني أن الاستثناء من كلام مدلول عليه كأنه قال ( إنا أرسلنا عليهم حاصباً فما أنجينا من الحاصب إلا آل لوط ) وجاز أن يكون الإرسال عليهم والإهلاك يكون عاماً كما في قوله تعالى وَاتَّقُواْ فِتْنَة ً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّة ً ( الأنفال 25 ) فكان الحاصب أهلك من كان الإرسال عليه مقصوداً ومن لم يكن كذلك كأطفالهم ودوابهم ومساكنهم فما نجا منهم أحد إلا آل لوط فإن قيل إذا لم يكن الاستثناء من قوم لوط بل كان من أمر عام فيجب أن يكون لوط أيضاً مستثنى نقول هو مستثنى عقلاً لأن من المعلوم أنه لا يجوز تركه وإنجاء أتباعه والذي يدل عليه أنه مستثنى قوله تعالى عن الملائكة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ ( العنكبوت 32 ) في جوابهم لإبراهيم عليه السلام حيث قال

إِنَّ فِيهَا لُوطاً ( العنكبوت 32 ) فإن قيل قوله في سورة الحجر إِلا ءالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ ( الحجر 59 ) استثناء من المجرمين وآل لوط لم يكونوا مجرمين فكيف استثنى منهم والجواب مثل ما ذكرنا فأحد الجوابين إنا أرسلنا إلى قوم يصدق عليهم إنهم مجرمون وإن كان فيهم من لم يجرم ثانيهما إلى قوم مجرمين بإهلاك يعم الكل إلا آل لوط وقوله تعالى نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ كلام مستأنف لبيان وقت الإنجاء أو لبيان كيفية الاستثناء لأن آل لوط كان يمكن أن يكونوا فيهم ولا يصيبهم الحاصب كما في عاد كانت الريح تقلع الكافر ولا يصيب المؤمن منها مكروه أو يجعل لهم مدفعاً كما في قوم نوح فقال نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ أي أمرناهم بالخروج من القرية في آخر الليل والسحر قبيل الصبح وقيل هو السدس الأخير من الليل
ثم قال تعالى
نِّعْمَة ً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ
أي ذلك الإنجاء كان فضلاً منا كما أن ذلك الإهلاك كان عدلاً ولو أهلكوا لكان ذلك عدلاً قال تعالى وَاتَّقُواْ فِتْنَة ً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّة ً ( الأنفال 25 ) قال الحكماء العضو الفاسد يقطع ولا بد أن يقطع معه جزء من الصحيح ليحصل استئصال الفساد غير أن الله تعالى قادر على التمييز التام فهو مختار إن شاء أهلك من آمن وكذب ثم يثبت الذين أهلكهم من المصدقين في دار الجزاء وإن شاء أهلك من كذب فقال نعمة من عندنا إشارة إلى ذلك وفي نصبها وجهان أحدهما أنه مفعول له كأنه قال نجيناهم نعمة منا ثانيهما على أنه مصدر لأن الإنجاء منه إنعام فكأنه تعالى قال أنعمنا عليهم بالإنجاء إنعاماً وقوله تعالى كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ فيه وجهان أحدهما ظاهر وعليه أكثر المفسرين وهو أنه من آمن كذلك ننجيه من عذاب الدنيا ولا نهلكه وعداً لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه يصونهم عن الإهلاكات العامة والسيئات المطبقة الشاملة وثانيهما وهو الأصح أن ذلك وعد لهم وجزاؤهم بالثواب في دار الآخرة كأنه قال كما نجيناهم في الدنيا أي كما أنعمنا عليهم ننعم عليهم يوم الحساب والذي يؤيد هذا أن النجاة من الإهلاكات في الدنيا ليس بلازم ومن عذاب الله في الآخرة لازم بحكم الوعيد وكذلك ينجي الله الشاكرين من عذاب النار ويذر الظالمين فيه ويدل عليه قوله تعالى مَّن يُرَدُّ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاْخِرَة ِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ ( آل عمران 145 ) وقوله تعالى فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ( المائدة 85 ) والشاكر محسن فعلم أن المراد جزاؤهم في الآخرة
ثم قال تعالى
وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ
وفيه تبرئة لوط عليه السلام وبيان أنه أتى بما عليه فإنه تعالى لما رتب التعذيب على التكذيب وكان من الرحمة أن يؤخره ويقدم عليه الإنذارات البالغة بين ذلك فقال أهلكناهم وكان قد أنذرهم من قبل وفي قوله بَطْشَتَنَا وجهان أحدهما المراد البطشة التي وقعت وكان يخوفهم بها ويدل عليه قوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً ( القمر 34 ) فكأنه قال إنا أرسلنا عليهم ما سبق ذكرها للإندار بها والتخويف وثانيهما المراد بها ما في الآخرة كما في قوله تعالى يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَة َ الْكُبْرَى ( الدخان 16 ) وذلك لأن الرسل كلهم كانوا ينذرون قومهم بعذاب الآخرة كما قال تعالى فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى ( الليل 14 ) وقال وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الاْزِفَة ِ ( غافر 18 ) وقال تعالى إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً ( النبأ 40 ) إلى غير

ذلك وعلى ذلك ففيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ ( البروج 12 ) وقال ههنا بَطْشَتَنَا ولم يقل بطشنا وذلك لأن قوله تعالى إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ بيان لجنس بطشه فإذا كان جنسه شديداً فكيف الكبرى منه وأما لوط عليه السلام فذكر لهم البطشة الكبرى لئلا يكون مقصراً في التبليغ وقوله تعالى فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ يدل على أن النذر هي الإنذارات
ثم قال تعالى
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ
والمراودة من الرود ومنه الإرادة وهي قريبة من المطالبة غير أن المطالبة تستعمل في العين يقال طالب زيد عمراً بالدراهم والمراودة لا تستعمل إلا في العمل يقال راوده عن المساعدة ولهذا تعدى المراودة إلى مفعول ثان بعن والمطالبة بالباء وذلك لأن الشغل منوط باختيار الفاعل والعين قد توجد من غير اختيار منه وهذا فرق الحال فإذا قلت أخبرني بأمره تعين عليه الخبر العين بخلاف ما إذا قيل عن كذا ويزيد هذا ظهوراً قول القائل أخبرني زيد عن مجيء فلان وقوله أخبرني بمجيئه فإن من قال عن مجيئه ربما يكون الإخبار عن كيفية المجيء لا عن نفسه وأخبرني بمجيئه لا يكون إلا عن نفس المجيء والضيف يقع على الواحد والجماعة وقد ذكرناه في سورة الذاريات وكيفية المراودة مذكورة فيما تقدم وهي أنهم كانوا مفسدين وسمعوا يضيف دخلوا على لوط فراودوه عنهم وقوله فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ نقول إن جبريل كان فيهم فضرب ببعض جناحه على وجوههم فأعماهم وفي الآية مسائل
الأولى الضمير في راودوه إن كان عائداً إلى قوم لوط فما في قوله أَعْيُنَهُمْ أيضاً عائداً إليهم فيكون قد طمس أعين قوم ولم يطمس إلا أعين قليل منهم وهم الذين دخلوا دار لوط وإن كان عائداً إلى الذين دخلوا الدار فلا ذكر لهم فكيف القول فيه نقول المراودة حقيقة حصلت من جمع منهم لكن لما كان الأمر من القوم وكان غيرهم ذلك مذهبه أسندها إلى الكل ثم بقوله راودوه حصل قوم هم المراودون حقيقة فعاد الضمير في أعينهم إليهم مثاله قول القائل الذين آمنوا صلوا فصحت صلاتهم فيكون هم في صلاتهم عائداً إلى الذين صلوا بعدما آمنوا ولا يعود إلى مجرد الذين آمنوا لأنك لو اقتصرت على الذين آمنوا فصحت صلاتهم لم يكن كلاماً منظوماً ولو قلت الذين صلوا فصحت صلاتهم صح الكلام فعلم أن الضمير عائد إلى ما حصل بعد قوله رَاوَدُوهُ والضمير في راودوه عائد إلى المنذرين المتمارين بالنذر
المسألة الثانية قال ههنا فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ( يس 66 ) وقال في ي س وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فما الفرق نقول هذا مما يؤيد قول ابن عباس فإنه نقل عنه أنه قال المراد من الطمس الحجب عن الإدراك فما جعل على بصرهم شيء غير أنهم دخلوا ولم يروا هناك شيئاً فكانوا كالمطموسين وفي ي س أراد أنه لو شاء لجعل على بصرهم غشاوة أي ألزق أحد الجفنين بالآخر فيكون على العين جلدة فيكون قد طمس عليها وقال غيره إنهم عموا وصارت عينهم مع وجههم كالصفحة الواحدة ويؤيده قوله تعالى فَذُوقُواْ عَذَابِى لأنهم إن بقوا مصرين ولم يروا شيئاً هناك لا يكون ذلك عذاباً والطمس بالمعنى الذي قاله غير ابن عباس عذاب فنقول الأولى أن يقال إنه تعالى حكى ههنا ما وقع وهو طمس العين وإذهاب ضوئها وصورتها

بالكلية حتى صارت وجوههم كالصفحة الملساء ولم يمكنهم الإنكار لأنه أمر وقع وأما هناك فقد خوفهم بالممكن المقدور عليه فاختار ما يصدقه كل أحد ويعرف به وهو الطمس على العين لأن إطباق الجفن على العين أمر كثير الوقوع وهو بقدرة الله تعالى وإرادته فقال وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ وما شققنا جفنهم عن عينهم وهو أمر ظاهر الإمكان كثير الوقوع والطمس على ما وقع لقوم لوط نادر فقال هناك على أعينهم ليكون أقرب إلى القبول
المسألة الثالثة قوله تعالى فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ خطاب ممن وقع ومع من وقع قلنا فيه وجوه أحدها فيه إضمار تقديره فقلت على لسان الملائكة ذوقوا عذابي ثانيها هذا خطاب مع كل مكذب تقديره كنتم تكذبون فذوقوا عذابي فإنهم لما كذبوا ذاقوه ثالثها أن هذا الكلام خرج مخرج كلام الناس فإن الواحد من الملوك إذا أمر بضرب مجرم وهو شديد الغضب فإذا ضرب ضرباً مبرحاً وهو يصرح والملك يسمع صراخه يقول عند سماع صراخه ذق إنك مجرم مستأهل ويعلم الملك أن المعذب لا يسمع كلامه ويخاطب بكلامه المستغيث الصارخ وهذا كثير فكذلك لما كان كل أحد بمرأى من الله تعالى يسمع إذا عذب معانداً كان قد سخط الله عليه يقول ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) فَذُوقُواْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا ( السجدة 14 ) فَذُوقُواْ عَذَابِى ولا يكون به مخاطباً لمن يسمع ويجيب وذلك إظهار العدل أي لست بغافل عن تعذيبك فتتخلص بالصراخ والضراعة وإنما أنا بك عالم وأنت له أهل لما قد صدر منك فإن قيل هذا وقع بغير الفاء وأما بالفاء فلا تقول وبالفاء فإنه ربما يقول كنتم تكذبون فذوقوا
المسألة الرابعة النذر كيف يذاق نقول معناه ذق فعلك أي مجازاة فعلك وموجبه ويقال ذق الألم على فعلك وقوله فَذُوقُواْ عَذَابِى كقولهم ذق الألم وقوله وَنُذُرِ كقولهم ذق فعلك أي ذق ما لزم من إنذاري فإن قيل فعلى هذا لا يصح العطف لأن قوله فَذُوقُواْ عَذَابِى وما لزم من إنذاري وهو العذاب يكون كقول القائل ذوقوا عذابي وعذابي نقول قوله تعالى فَذُوقُواْ عَذَابِى أي العاجل منه وما لزم من إنذاري وهو العذاب الآجل لأن الإنذار كان به على ما تقدم بيانه فكأنه قال ذوقوا عذابي العاجل وعذابي الآجل فإن قيل هما لم يكونا في زمان واحد فكيف يقال ذوقوا نقول العذاب الآجل أوله متصل بآخر العذاب العاجل فهما كالواقع في زمان واحد وهو كقوله تعالى أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 )
ثم قال تعالى
وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَة ً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ
أي العذاب الذي عم القوم بعد الخاص الذي طمس أعين البعض وفيه مسائل
المسألة الأولى صَبَّحَهُم فيه دلالة على الصبح فما معنى بُكْرَة ً نقول فائدته تبيين انطراقه فيه فقوله بُكْرَة ً يحتمل وجهين أحدهما أنها منصوبة على أنها ظرف ومثله نقوله في قوله تعالى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ( الإسراء 1 ) وفيه بحث وهو أن الزمخشري قال ما الفائدة في قوله لَيْلاً وقال جواباً في التنكير دلالة على أنه كان في بعض الليل وتمسك بقراءة من قرأ مِّنَ الَّيْلِ وهو غير ظاهر والأظهر فيه أن يقال بأن الوقت المبهم يذكر لبيان أن تعيين الوقت ليس بمقصود المتكلم وأنه لا يريد بيانه كما يقول

خرجنا في بعض الأوقات مع أن الخروج لا بد من أن يكون في بعض الأوقات فإنه لا يريد بيان الوقت المعين ولو قال خرجنا فربما يقول السامع متى خرجتم فإذا قال في بعض الأوقات أشار إلى أن غرضه بيان الخروج لا تعيين وقته فكذلك قوله تعالى صَبَّحَهُم بُكْرَة ً أي بكرة من البكر و أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً أي ليلاً من الليالي فلا أبينه فإن المقصود نفس الإسراء ولو قال أسرى بعبده من المسجد الحرام لكان للسامع أن يقول أيما ليلة فإذا قال ليلة من الليالي قطع سؤاله وصار كأنه قال لا أبينه وإن كان القائل ممن يجوز عليه الجهل فإنه يقول لا أعلم الوقت فهذا أقرب فإذا علمت هذا في أسرى ليلاً فاعلم مثله في صَبَّحَهُم بُكْرَة ً ويحتمل أن يقال على هذا الوجه صَبَّحَهُم بمعنى قال لهم عموا صباحاً استهزاء بهم كما قال فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) فكأنه قال جاءهم العذاب بكرة كالمصبح والأول أصح ويحتمل في قوله تعالى صَبَّحَهُم بُكْرَة ً على قولنا إنها منصوبة على الظرف مالا يحتمله قوله تعالى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً وهو أن صَبَّحَهُم معناه أتاهم وقت الصبح لكن التصبيح يطلق على الإتيان في أزمنة كثيرة من أول الصبح إلى ما بعد الإسفار فإذا قال بُكْرَة ً أفاد أنه كان أول جزء منه وما أخر إلى الإسفار وهذا أوجه وأليق لأن الله تعالى أوعدهم به وقت الصبح بقوله إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ( هود 81 ) وكان من الواجب بحكم الإخبار تحققه بمجيء العذاب في أول الصبح ومجرد قراءة صَبَّحَهُم ما كان يفيد ذلك وهذا أقوى لأنك تقول صبيحة أمس بكرة واليوم بكرة فيأتي فيه ما ذكرنا من أن المراد بكرة من البكر الوجه الثاني أنها منصوبة على المصدر من باب ضربته سوطاً ضرباً فإن المنصوب في ضربته ضرباً على المصدر وقد يكون غير المصدر كما في ضربته سوطاً ضرباً لا يقال ضرباً سوطاً بين أحد أنواع الضرب لأن الضرب قد يكون بسوط وقد يكون بغيره وأما بُكْرَة ً فلا يبين ذلك لأنا نقول قد بينا أن بكرة بين ذلك لأن الصبح قد يكون بالإتيان وقت الإسفار وقد يكون بالإتيان بالأبكار فإن قيل مثله يمكن أن يقال في أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً قلنا نعم فإن قيل ليس هناك بيان نوع من أنواع الإسراء نقول هو كقول القائل ضربته شيئاً فإن شيئاً لا بد منه في كل ضرب ويصح ذلك على أنه نصب على المصدر وفائدته ما ذكرنا من بيان عدم تعلق الغرض بأنواعه وكأن القائل يقول إني لا أبين ما ضربته به ولا أحتاج إلى بيانه لعدم تعلق المقصود به ليقطع سؤال السائل بماذا ضربه بسوط أو بعصا فكذلك القول في أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً يقطع سؤال السائل عن الإسراء لأن الإسراء هو السير أول الليل والسرى هو السير آخر الليل أو غير ذلك
المسألة الثانية مُّسْتَقِرٌّ يحتمل وجوهاً أحدها عذاب لا مدفع له أي يستقر عليهم ويثبت ولا يقدر أحد على إزالته ورفعه أو إحالته ودفعه ثانيها دائم فإنهم لما أهلكوا نقلوا إلى الجحيم فكأن ما أتاهم عذاب لا يندفع بموتهم فإن الموت يخلص من الألم الذي يجده المضروب من الضرب والمحبوس من الحبس وموتهم ما خلصهم ثالثها عذاب مستقر عليهم لا يتعدى غيرهم أي هو أمر قد قدره الله عليهم وقرره فاستقر وليس كما يقال إنه أمر أصابهم اتفاقاً كالبرد الذي يضر زرع قوم دون قوم ويظن به أنه أمر اتفاقي وليس لو خرجوا من أماكنهم لنجوا كما نجا آل لوط بل كان ذلك يتبعهم لأنه كان أمراً قد استقر
المسألة الثالثة الضمير في صَبَّحَهُم عائد إلى الذين عاد إليهم الضمير في أعينهم فيعود لفظاً إليهم للقرب ومعنى إلى الذين تماروا بالنذر أو الذين عاد إليهم الضمير في قوله وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا ( القمر 36 )

ثم قال تعالى
فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ
مرة أخرى لأن العذاب كان مرتين أحدهما خاص بالمراودين والآخر عام
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ
قد فسرناه مراراً وبينا ما لأجله تكراراً
ثم قال تعالى
وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في لفظ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ بدل قوم فرعون نقول القوم أعم من الآل فالقوم كل من يقوم الرئيس بأمرهم أو يقومون بأمره والآل كل من يؤول إلى الرئيس خيرهم وشرهم أو يؤول إليهم خيره وشره فالبعيد الذي لا يعرفه الرئيس ولا يعرف هو عين الرئيس وإنما يسمع اسمه فليس هو بآله إذا عرفت الفرق نقول قوم الأنبياء الذين هم غير موسى عليهم السلام لم يكن فيهم قاهر يقهر الكل ويجمعهم على كلمة واحدة وإنما كانوا هم رؤساء وأتباعاً والرؤساء إذا كثروا لا يبقى لأحد منهم حكم نافذ على أحد أما على من هو مثله فظاهر وأما على الأراذل فلأنهم يلجئون إلى واحد منهم ويدفعون به الآخر فيصير كل واحد برأسه فكأن الإرسال إليهم جميعاً وأما فرعون فكان قاهراً يقهر الكل وجعلهم بحيث لا يخالفونه في قليل ولا كثير فأرسل الله إليه الرسول وحده غير أنه كان عنده جماعة من التابعين المقربين مثل قارون تقدم عنده لماله العظيم وهامان لدهائه فاعتبرهم الله في الإرسال حيث قال في مواضع وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ ( الزخرف 46 ) وقال تعالى ثُمَّ بَعَثْنَا مِن وَهَامَانَ وَقَشرُونَ ( غافر 23 24 ) وقال في العنكبوت وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ مُّوسَى ( العنكبوت 39 ) لأنهم إن آمنوا آمن الكل بخلاف الأقوام الذين كانوا قبلهم وبعدهم فقال وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ وقال كثيراً مثل هذا كما في قوله النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ( غافر 46 ) وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ( غافر 28 ) وقال بلفظ الملأ أيضاً كثيراً
المسألة الثانية قال وَلَقَدْ جَاء ولم يقل في غيرهم جاء لأن موسى عليه السلام ما جاءهم كما جاء المرسلون أقوامهم بل جاءهم حقيقة حيث كان غائباً عن القوم فقدم عليهم ولهذا قال تعالى فَلَمَّا جَآء ءالَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ وقوله تعالى لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ( التوبة 128 ) حقيقة أيضاً لأنه جاءهم من الله من السموات بعد المعراج كما جاء موسى قومه من الطور حقيقة
المسألة الثالثة النذر إن كان المراد منها الإنذارات وهو الظاهر فالكلام الذي جاءهم على لسان موسى ويده تلك وإن كان المراد الرسل فهو لأن موسى وهرون عليهما السلام جاءه وكل مرسل تقدمهما جاء لأنهم كلهم قالوا ما قالا من التوحيد وعبادة الله وقوله بعد ذلك كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا من غير فاء تقتضي ترتب التكذيب على المجيء فيه وجهان أحدهما أن الكلام تم عند قوله وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ وقوله كَذَّبُواْ كلام مستأنف والضمير عائد إلى كل من تقدم ذكرهم من قوم نوح إلى آل فرعون ثانيهما أن الحكاية مسوقة

على سياق ما تقدم فكأنه قال ( فكيف كان عذابي ونذر وقد كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم ) وعلى الوجه الأول آياتنا كلها ظاهرة وعلى الوجه الثاني المراد آياته التي كانت مع موسى عليه السلام وهي التسع في قول أكثر المفسرين ويحتمل أن يقال المراد أنهم كذبوا بآيات الله كلها السمعية والعقلية فإن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد وقوله تعالى فَأَخَذْنَاهُمْ إشارة إلى أنهم كانوا كالآبقين أو إلى أنهم عاصون يقال أخذ الأمير فلاناً إذا حبسه وفي قوله عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ لطيفة وهي أن العزيز المراد منه الغالب لكن العزيز قد يكون ( الذي ) يغلب على العدو ويظفر به وفي الأول يكون غير متمكن من أخذه لبعده إن كان هارباً ولمنعته إن كان محارباً فقال أحد غالب لم يكن عاجزاً وإنما كان ممهلاً
ثم قال تعالى
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَة ٌ فِى الزُّبُرِ
تنبيهاً لهم لئلا يأمنوا العذاب فإنهم ليسوا بخير من أولئك الذين أهلكوا وفيه مسائل
المسألة الأولى الخطاب مع أهل مكة فينبغي أن يكون كفارهم بعضهم وإلا لقال أنتم خير من أولئكم وإذا كان كفارهم بعضهم فكيف قال أَمْ لَكُم بَرَاءة ٌ ولم يقل أم لهم كما يقول القائل جاءنا الكرماء فأكرمناهم ولا يقول فأكرمناكم نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن المراد منه أكفاركم المستمرون على الكفر الذين لا يرجعون وذلك لأن جمعاً عظيماً ممن كان كافراً من أهل مكة يوم الخطاب أيقنوا بوقوع ذلك والعذاب لا يقع إلا بعد العلم بأنه لم يبق من القوم من يؤمن فقال الذين يصرون منكم على الكفر يا أهل مكة خير أم الذين أصروا من قبل فيصح كون التهديد مع بعضهم وأما قوله تعالى أَمْ لَكُم بَرَاءة ٌ ففيه وجهان أحدهما أم لكم لعمومكم براءة فلا يخاف المصر منكم لكونه في قوم لهم براءة وثانيهما أم لكم براءة إن أصررتم فيكون الخطاب عاماً والتهديد كذلك فالشرط غير مذكور وهو الإصرار
المسألة الثانية ما المراد بقوله خَيْرٌ وقول القائل خير يقتضي اشتراك أمرين في صفة محمودة مع رجحان أحدهما على الآخر ولم يكن فيهم خير ولا صفة محمودة نقول الجواب عنه من وجوه أحدها منع اقتضاء الاشتراك يدل عليه قول حسان أنتهجوه ولست له بكفء
فشركما لخيركما الفداء
مع اختصاص الخير بالنبي عليه السلام والشر بمن هجاه وعدم اشتراكهما في شيء منهما ثانيها أن ذلك عائد إلى ما في زعمهم أي أيزعم كفاركم أنهم خير من الكفار المتقدمين الذين أهلكوا وهم كانوا يزعمون في أنفسهم الخير وكذا فيمن تقدمهم من عبدة الأوثان ومكذبي الرسل وكانوا يقولون إن الهلاك كان بأسباب سماوية من اجتماع الكواكب على هيئة مذمومة ثالثها المراد أكفاركم أشد قوة فكأنه قال أكفاركم خير في القوة والقوة محمودة في العرف رابعها أن كل موجود ممكن ففيه صفات محمودة وأخرى غير محمودة فإذا نظرت إلى المحمودة في الموضعين وقابلت إحداهما بالأخرى تستعمل فيها لفظ الخير وكذلك في الصفات المذمومة تستعمل فيها لفظ الشر فإذا نظرت إلى كافرين وقلت أحدهما خير من الآخر فلك حينئذ أن تريد أحدهما خير من الآخر في الحسن والجمال وإذا نظرت إلى مؤمنين يؤذيانك قلت

أحدهما شر من الآخر أي في الأذية لا الإيمان فكذلك ههنا أكفاركم خير لأن النظر وقع على ما يصلح مخلصاً لهم من العذاب فهو كما يقال أكفاركم فيهم شيء مما يخلصهم لم يكن في غيرهم فهم خير أم لا شيء فيهم يخلصهم لكن الله بفضله أمنهم لا بخصال فيهم
المسألة الثالثة أَمْ لَكُم بَرَاءة ٌ إشارة إلى سبب آخر من أسباب الخلاص وذلك لأن الخلاص إما أن يكون بسبب أمر فيهم أو لا يكون كذلك فإن كان بسبب أمر فيهم وذلك السبب لم يكن في غيرهم من الذين تقدموهم فيكونون خيراً منهم وإن كان لا بسبب أمر فيهم فيكون بفضل الله ومسامحته إياهم وإيمانه إياهم من العذاب فقال لهم أنتم خير منهم فلا تهلكون أم لستم بخير منهم لكن الله آمنكم وأهلكهم وكل واحد منهما منتف فلا تأمنوا وقوله تعالى أَمْ لَكُم بَرَاءة ٌ فِى الزُّبُرِ إشارة إلى لطيفة وهي أن العاقل لا يأمن إلا إذا حصل له الجزم بالأمن أو صار له آيات تقرب الأمر من القطع فقال لكم براءة يوثق بها وتكون متكررة في الكتب فإن الحاصل في بعض الكتب ربما يحتمل التأويل أو يكون قد تطرق إليه التحريف والتبديل كما في التوراة والإنجيل فقال هل حصل لكم براءة متكررة في كتب تأمنون بسببها العذاب فإن لم يكن كذلك لا يجوز الأمن لكن البراءة لم تحصل في كتب ولا كتاب واحد ولا شبه كتاب فيكون أمنهم من غاية الغفلة وعند هذا تبين فضل المؤمن فإنه مع ما في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه من الوعد لا يأمن وإن بلغ درجة الأولياء والأنبياء لما في آيات الوعيد من احتمال التخصيص وكون كل واحد ممن يستثنى من الأمة ويخرج عنها فالمؤمن خائف والكافر آمن في الدنيا وفي الآخرة الأمر على العكس
ثم قال تعالى
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ
تتميماً لبيان أقسام الخلاص وحصره فيها وذلك لأن الخلاص إما أن يكون لاستحقاق من يخلص عن العذاب كما أن الملك إذا عذب جماعة ورأى فيهم من أحسن إليه فلا يعذبه وإما أن يكون لأمر في المخلص كما إذا رأى فيهم من له ولد صغير أو أم ضعيفة فيرحمه وإن لم يستحق ويكتب له الخلاص وإما أن لا يكون فيه ما يستحق الخلاص بسببه ولا في نفس المعذب مما يوجب الرحمة لكنه لا يقدر عليه بسبب كثرة أعوانه وتعصب إخوانه كما إذا هرب واحد من الملك والتجأ إلى عسكر يمنعون الملك عنه فكما نفى القسمين الأولين كذلك نفى القسم الثالث وهو التمتع بالأعوان وتحزب الإخوان وفيه مسائل
المسألة الأولى في حسن الترتيب وذلك لأن المستحق لذاته أقرب إلى الخلاص من المرحوم فإن المستحق لم يوجد فيه سبب العذاب والمرحوم وجد فيه ذلك ووجد المانع من العذاب وما لا سبب له لا يتحقق أصلاً وماله مانع ربما لا يقوى المانع على دفع السبب وما في نفس المعذب من المانع أقوى من الذي بسبب الغير لأن الذي من عنده يمنع الداعية ولا يتحقق الفعل عند عدم الداعية والذي من الغير بسبب التمتع لا يقطع قصده بل يجتهد وربما يغلب فيكون تعذيبه أضعاف ما كان من قبل بخلاف من يرق له قلبه وتمنعه الرحمة فإنها وإن لم تمنعه لكن لا يزيد في حمله وحبسه وزيادته في التعذيب عند القدرة فهذا ترتيب في غاية الحسن

المسألة الثانية جَمِيعٌ فيه فائدتان إحداهما الكثرة والأخرى الاتفاق كأنه قال نحن كثير متفقون فلنا الانتصار ولا يقوم غير هذه اللفظة مقامها من الألفاظ المفردة إنما قلنا إن فيه فائدتين لأن الجمع يدل على الجماعة بحروفه الأصلية من ج م ع وبوزنه وهو فعيل بمعنى مفعول على أنهم جمعوا جمعيتهم العصبية ويحتمل أن يقال معناه نحن الكل لا خارج عنا إشارة إلى أن من اتبع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا اعتداد به قال تعالى في نوح أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ ( الشعراء 111 ) إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ الرَّأْى ( هود 27 ) وعلى هذا جَمِيعٌ يكون التنوين فيه لقطع الإضافة كأنهم قالوا نحن جمع الناس
المسألة الثالثة ما وجه إفراد المنتصر مع أن نحن ضمير الجمع نقول على الوجه الأول ظاهر لأنه وصف الجزء الآخر الواقع خبراً فهو كقول القائل أنتم جنس منتصر وهم عسكر غالب والجميع كالجنس لفظه لفظ واحد ومعناه جمع فيه الكثرة وأما على الوجه الثاني فالجواب عنه من وجهين أحدهما أن المعنى وإن كان جميع الناس لا خارج عنهم إلا من لا يعتد به لكن لما قطع ونون صار كالمنكر في الأصل فجاز وصفه بالمنكر نظراً إلى اللفظ فعاد إلى الوجه الأول وثانيهما أنه خبر بعد خبر ويجوز أن يكون أحد الخبرين معرفة والآخرين نكرة قال تعالى وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ ( البروج 14 16 ) وعلى هذا فقوله نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ أفرده لمجاورته جَمِيعٌ ويحتمل أن يقال معنى نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ أن جميعاً بمعنى كل واحد كأنه قال نحن كل واحد منا منتصر كما تقول هم جميعهم أقوياء بمعنى أن كل واحد منهم قوي وهم كلهم علماء أي كل واحد عالم فترك الجمع واختار الإفراد لعود الخبر إلى كل واحد فإنهم كانوا يقولون كل واحد منا يغلب محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كما قال أبي بن خلف الجمحي وهذا فيه معنى لطيف وهو أنهم ادعوا أن كل واحد غالب والله رد عليهم بأجمعهم بقوله
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ
وهو أنهم ادعوا القوة العامة بحيث يغلب كل واحد منهم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) والله تعالى بين ضعفهم الظاهر الذي يعمهم جميعهم بقوله وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ وحينئذ يظهر سؤال وهو أنه قال يُوَلُّونَ الدُّبُرَ ولم يقل يولون الأدبار وقال في موضع آخر يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ( آل عمران 111 ) وقال وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاْدْبَارَ ( الأحزاب 15 ) وقال في موضع آخر فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ فكيف تصحيح الإفراد وما الفرق بين المواضع نقول أما التصحيح فظاهر لأن قول القائل فعلوا كقوله فعل هذا وفعل ذاك وفعل الآخر قالوا وفي الجمع تنوب مناب الواوات التي في العطف وقوله يُوَلُّونَ بمثابة يول هذا الدبر ويول ذاك ويول الآخر أي كل واحد يولي دبره وأما الفرق فنقول اقتضاء أواخر الآيات حسن الإفراد فقوله يُوَلُّونَ الدُّبُرَ إفراده إشارة إلى أنهم في التولية كنفس واحدة فلا يتخلف أحد عن الجمع ولا يثبت أحد للزحف فهم كانوا في التولية كدبر واحد وأما في قوله فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ أي كل واحد يوجد به ينبغي أن يثبت ولا يولي دبره فليس المنهي هناك توليتهم بأجمعهم بل المنهي أن يولي واحد منهم دبره فكل أحد منهي عن تولية دبره فجعل كل واحد برأسه في الخطاب ثم جمع الفعل بقوله فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ولا يتم إلا بقوله الادْبَارَ وكذلك في قوله وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ ( لأحزاب 15 ) أي كل واحد قال أنا أثبت ولا أولي دبري وأما في قوله لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ( الحشر 12 )

فإن المراد المنافقون الذين وعدوا اليهود وهم متفرقون بدليل قوله تعالى تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ( الحشر 14 ) وأما في هذا الموضع فهم كانوا يداً واحدة على من سواهم
ثم قال تعالى
بَلِ السَّاعَة ُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَة ُ أَدْهَى وَأَمَرُّ
إشارة إلى أن الأمر غير مقتصر على انهزامهم وإدبارهم بل الأمر أعظم منه فإن الساعة موعدهم فإنه ذكر ما يصيبهم في الدنيا من الدبر ثم بين ما هو منه على طريقة الإصرار هذا قول أكثر المفسرين والظاهر أن الإنذار بالساعة عام لكل من تقدم كأنه قال أهلكنا الذين كفروا من قبلك وأصروا وقوم محمد عليه السلام ليسوا بخير منهم فيصيبهم ما أصابهم إن أصروا ثم إن عذاب الدنيا ليس لإتمام المجازاة فإتمام المجازاة بالأليم الدائم وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الحكمة في كون اختصاص الساعة موعدهم مع أنها موعد كل أحد نقول الموعد الزمان الذي فيه الوعد والوعيد والمؤمن موعود بالخير ومأمور بالصبر فلا يقول هو متى يكون بل يفوض الأمر إلى الله وأما الكافر فغير مصدق فيقول متى يكون العذاب فيقال له اصبر فإنه آت يوم القيامة ولهذا كانوا يقولون عَجّل لَّنَا قِطَّنَا ( ص 16 ) وقال وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ( الحج 47 )
المسألة الثانية أدهى من أي شيء نقول يحتمل وجهين أحدهما ما مضى من أنواع عذاب الدنيا ثانيهما أدهى الدواهي فلا داهية مثلها
المسألة الثالثة ما المراد من قوله وَأَمَرُّ قلنا فيه وجهان أحدهما هو مبالغة من المر وهو مناسب لقوله تعالى فَذُوقُواْ عَذَابِى ( القمر 37 ) وقوله ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ( القمر 48 ) وعلى هذا فأدهى أي أشد وأمر أي آلم والفرق بين الشديد والأليم أن الشديد يكون إشارة إلى أنه لا يطيقه أحد لقوته ولا يدفعه أحد بقوته مثاله ضعيف ألقى في ماء يغلبه أو نار لا يقدر على الخلاص منها وقوي ألقي في بحر أو نار عظيمة يستويان في الألم ويتساويان في الإيلام لكن يفترقان في الشدة فإن نجاة الضعيف من الماء الضعيف بإعانة معين ممكن ونجاة القوي من البحر العظيم غير ممكن ثانيهما أمر مبالغة في المار إذ هي أكثر مروراً بهم إشارة إلى الدوام فكأنه يقول أشد وأدوم وهذا مختص بعذاب الآخرة فإن عذاب الدنيا إن اشتد قتل المعذب وزال فلا يدوم وإن دام بحيث لا يقتل فلا يكون شديداً ثالثها أنه المرير وهو من المرة التي هي الشدة وعلى هذا فإما أن يكون الكلام كما يقول القائل فلان نحيف نحيل وقوي شديد فيأتي بلفظين مترادفين إشارة إلى التأكيد وهو ضعيف وإما أن يكون أدهى مبالغة من الداهية التي هي اسم الفاعل من دهاه أمر كذا إذا أصابه وهو أمر صعب لأن الداهية صارت كالاسم الموضوع للشديد على وزن الباطية والسائبة التي لا تكون من أسماء الفاعلين وإن كانت الداهية أصلها ذلك غير أنها استعملت استعمال الأسماء وكتبت في أبوابها وعلى هذا يكون معناه ألزم وأضيق أي هي بحيث لا تدفع
ثم قال تعالى
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ
وفي الآية مسائل

الأولى فيمن نزلت الآية في حقهم أكثر المفسرين اتفقوا على أنها نازلة في القدرية روى الواحدي في تفسيره قال سمعت الشيخ رضي الدين المؤيد الطوسي بنيسابور قال سمعت عبد الجبار قال أخبرنا الواحدي قال أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد السراج قال أخبرنا أبو محمد عبد الله الكعبي قال حدثنا حمدان بن صالح الأشج حدثنا عبد الله بن عبد العزيز بن أبي داود حدثنا سفيان الثوري عن زياد بن إسماعيل المخزومي عن محمد بن عباد بن جعفر عن أبي هريرة قال جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في القدر فأنزل الله تعالى إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ إلى قوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) وكذلك نقل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن هذه الآية نزلت في القدرية وروي عن عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( مجوس هذه الأمة القدرية ) وهم المجرمون الذين سماهم الله تعالى في قوله إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ وكثرت الأحاديث في القدرية وفيها مباحث الأول في معنى القدرية الذين قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نزلت الآية فيهم فنقول كل فريق في خلق الأعمال يذهب إلى أن القدري خصمه فالجبري يقول القدري من يقول الطاعة والمعصية ليستا بخلق الله وقضائه وقدره فهم قدرية لأنهم ينكرون القدر والمعتزلي يقول القدري هو الجبري الذي يقول حين يزني ويسرق الله قدرني فهو قدري لإثباته القدر وهما جميعاً يقولان لأهل السنة الذي يعترف بخلق الله وليس من العبد إنه قدري والحق أن القدري الذي نزلت فيه الآية هو الذي ينكر القدر ويقول بأن الحوادث كلها حادثة بالكواكب واتصالاتها ويدل عليه قوله جاء مشركو قريش يحاجون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في القدر فإن مذهبهم ذلك وما كانوا يقولون مثل ما يقول المعتزلة إن الله خلق لي سلامة الأعضاء وقوة الإدراك ومكنني من الطاعة والمعصية والله قادر على أن يخلق في الطاعة إلجاء والمعصية إلجاء وقادر على أن يطعم الفقير الذي أطعمه أنا بفضل الله والمشركون كانوا يقولون أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ ( يس 47 ) منكرين لقدرة الله تعالى على الإطعام وأما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مجوس هذه الأمة هم القدرية ) فنقول المراد من هذه الأمة إما الأمة التي كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مرسلاً إليهم سواء آمنوا به أو لم يؤمنوا كلفظ القوم وإما أمته الذين آمنوا به فإن كان المراد الأول فالقدرية في زمانه هم المشركون الذين أنكروا قدرة الله على الحوادث فلا يدخل فيهم المعتزلة وإن كان المراد هو الثاني فقوله ( مجوس هذه الأمة ) يكون معناه الذين نسبتهم إلى هذه الأمة كنسبة المجوس إلى الأمة المتقدمة لكن الأمة المتقدمة أكثرهم كفرة والمجوس نوع منهم أضعف شبهة وأشد مخالفة للعقل فكذلك القدرية في هذه الأمة تكون نوعاً منهم أضعف دليلاً ولا يقتضي ذلك الجزم بكونهم في النار فالحق أن القدري هو الذي ينكر قدرة الله تعالى إن قلنا إن النسبة للنفي أو الذي يثبت قدرة غير الله تعالى على الحوادث إن قلنا إن النسبة للإثبات وحينئذ يقطع بكونه فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ وإنه ذائق مس سقر
البحث الثاني في بيان من يدخل في القدرية التي في النص ممن هو منتسب إلى أنه من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إن قلنا القدرية سموا بهذا الاسم لنفيهم قدرة الله تعالى فالذي يقول لا قدرة لله على تحريك العبد بحركة هي الصلاة وحركة هي الزنا مع أن ذلك أمر ممكن لا يبعد دخوله فيهم وأما الذي يقول بأن الله قادر غير أنه لم يجبره وتركه مع داعية العبد كالوالد الذي يجرب الصبي في حمل شيء تركه معه لا لعجز الوالد بل للابتلاء والامتحان لا كالمفلوج الذي لا قوة له إذا قال لغيره احمل هذا فلا يدخل فيهم ظاهراً وإن كان مخطئاً وإن قلنا إن القدرية سموا بهذا الاسم لإثباتهم القدرة على الحوادث لغير الله من الكواكب

والجبري الذي قال هو الحائط الساقط الذي لا يجوز تكليفه بشيء لصدور الفعل من غيره وهم أهل الإباحة فلا شك في دخوله في القدرية فإنه يكفر بنفيه التكليف وأما الذي يقول خلق الله تعالى فينا الأفعال وقدرها وكلفنا ولا يسأل عما يفعل فما هو منهم
البحث الثالث اختلف القائلون في التعصب أن الاسم بالمعتزلة أحق أم بالأشاعرة فقالت المعتزلة الاسم بكم أحق لأن النسبة تكون للإثبات لا للنفي يقال للدهري دهري لقوله بالدهر وإثباته وللمباحي إباحي لإثباته الإباحة وللتنوية تنوية لإثباتهم الإثنين وهما النور والظلمة وكذلك أمثله وأنتم تثبتون القدر وقالت الأشاعرة النصوص تدل على أن القدري من ينفي قدرة الله تعالى ومشركو قريش ما كانوا قدرية إلا لإثباتهم قدرة لغير الله قالت المعتزلة إنما سمي المشركون قدرية لأنهم قالوا إن كان قادراً على الحوادث كما تقول يا محمد فلو شاء الله لهدانا ولو شاء لأطعم الفقير فاعتقدوا أن من لوازم قدرة الله تعالى على الحوادث خلقه الهداية فيهم إن شاء وهذا مذهبكم أيها الأشاعرة والحق الصراح أن كل واحد من المسلمين الذين ذهبوا إلى المذهبين خارج عن القدرية ولا يصير واحد منهم قدرياً إلا إذا صار النافي نافياً للقدرة والمثبت منكراً للتكليف
المسألة الثانية المجرمون هم المشركون ههنا كما في قوله تعالى وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ ( السجدة 12 ) وقوله يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي ( المعارج 11 ) وفي قوله يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ( الرحمن 41 ) فالآية عامة وإن نزلت في قوم خاص وجرمهم تكذيب الرسل والنذر بالإشراك وإنكار الحشر وإنكار قدرة الله تعالى على الإحياء بعد الإماتة وعلى غيره من الحوادث
المسألة الثالثة فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يحتمل وجوهاً ثلاثة أحدها الجمع بين الأمرين في الدنيا أي هم في الدنيا في ضلال وجنون لا يعقلون ولا يهتدون وعلى هذا فقوله يُسْحَبُونَ بيان حالهم في تلك الصورة وهو أقرب ثانيها الجمع في الآخرة أي هم في ضلال الآخرة وسعر أيضاً أما السعر فكونهم فيها ظاهر وأما الضلال فلا يجدون إلى مقصدهم أو إلى ما يصلح مقصداً وهم متحيرون سبيلاً فإن قيل الصحيح هو الوجه الأخير لا غير لأن قوله تعالى يَوْمَ يُسْحَبُونَ ظرف القول أي يوم يسحبون يقال لهم ذوقوا وسنبين ذلك فنقول يَوْمَ يُسْحَبُونَ يحتمل أن يكون منصوباً بعامل مذكور أو مفهوم غير مذكور والاحتمال الأول له وجهان أحدهما العامل سابق وهو معنى كائن ومستقر غير أن ذلك صار نسياً منسياً ثانيهما العامل متأخر وهو قوله ذُوقُواْ تقديره ذوقوا مس سقر يوم يسحب المجرمون والخطاب حينئذ مع من خوطب بقوله أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءة ٌ ( القمر 43 ) والاحتمال الثالث أن المفهوم هو أن يقال لهم يوم يسحبون ذوقوا وهذا هو المشهور وقوله تعالى ذُوقُواْ استعارة وفيه حكمة وهو أن الذوق من جملة الإدراكات فإن المذوق إذا لاقى اللسان يدرك أيضاً حرارته وبرودته وخشونته وملاسته كما يدرك سائر أعضائه الحسية ويدرك أيضاً طعمه ولا يدركه غير اللسان فإدراك اللسان أتم فإذا تأذى من نار تأذى بحرارته ومرارته إن كان الحار أو غيره لا يتأذى إلا بحرارته فإذن الذوق إدراك لمسي أتم من

غيره في الملموسات فقال ذُوقُواْ إشارة إلى أن إدراكهم بالذوق أتم الإدراكات فيجتمع في العذاب شدته وإيلامه بطول مدته ودوامه ويكون المدرك له لا عذر له يشغله وإنما هو على أتم ما يكون من الإدراك فيحصل الألم العظيم وقد ذكرنا أن على قول الأكثرين يقال لهم أو نقول مضمر وقد ذكرنا أنه لا حاجة إلى الإضمار إذا كان الخطاب مع غير من قيل في حقهم إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ فإنه يصير كأنه قال ذوقوا أيها المكذبون بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) مس سقر يوم يسحب المجرمون المتقدمون في النار
ثم قال تعالى
إِنَّا كُلَّ شَى ْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
وفيه مسائل
الأولى المشهور أن قوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء متعلق بما قبله كأنه قال ذوقوا فإنا كل شيء خلقناه بقدر أي هو جزاء لمن أنكر ذلك وهو كقوله تعالى ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) والظاهر أنه ابتداء كلام وتم الكلام عند قوله ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ( القمر 48 ) ثم ذكر بيان العذاب لأن عطف وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ ( القمر 50 ) يدل على أن قوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ليس آخر الكلام ويدل عليه قوله تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ( الأعراف 54 ) وقد ذكر في الآية الأولى الخلق بقوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ فيكون من اللائق أن يذكر الأمر فقال وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ وأما ما ذكر من الجدل فنقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تمسك عليهم بقوله إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ إلى قوله ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ( القمر 47 48 ) وتلا آية أخرى على قصد التلاوة ولم يقرأ الآية الأخيرة اكتفاء بعلم من علم الآية كما تقول في الاستدلالات لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ ( النساء 29 ) الآية وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ( الأنعام 121 ) الآية وَإِذَا تَدَايَنتُم ( البقرة 283 ) الآية إلى غير ذلك
المسألة الثانية كُلٌّ قرىء بالنصب وهو الأصح المشهور وبالرفع فمن قرأ بالنصب فنصبه بفعل مضمر يفسره الظاهر كقوله وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ ( يس 39 ) وقوله وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ ( الإنسان 31 ) وذلك الفعل هو خلقناه وقد فسره قوله خَلَقْنَاهُ كأنه قال إنا خلقنا كل شيء بقدر وخلقناه على هذا لا يكون صفة لشيء كما في قوله تعالى وَمِن كُلّ شَى ْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( الذاريات 49 ) غير أن هناك يمنع من أن يكون صفة كونه خالياً عن ضمير عائد إلى الموصوف وههنا لم يوجد ذلك المانع وعلى هذا فالآية حجة على المعتزلة لأن أفعالنا شيء فتكون داخلة في كل شيء فتكون مخلوقة لله تعالى ومن قرأ بالرفع لم يمكنه أن يقول كما يقول في قوله وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ( فصلت 17 ) حيث قرىء بالرفع لأن كل شيء نكرة فلا يصح مبتدأ فيلزمه أن يقول كل شيء خلقناه فهو بقدر كقوله تعالى وَكُلُّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ( الرعد 8 ) في المعنى وهذان الوجهان ذكرهما ابن عطية في تفسيره وذكر أن المعتزلي يتمسك بقراءة الرفع ويحتمل أن يقال القراءة الأولى وهو النصب له وجه آخر وهو أن يقال نصبه بفعل معلوم لا بمضمر مفسر وهو قدرنا أو خلقنا كأنه قال إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر أو قدرنا كل شيء خلقناه بقدر وإنما قلنا إنه معلوم لأن قوله ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( غافر 62 ) دل عليه وقوله وَكُلَّ شى ْء بِمِقْدَارٍ دل على أنه قدر وحينئذ لا يكون في الآية دلالة على بطلان قول المعتزلي وإنما يدل على بطلان قوله اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الزمر 62 ) وأما على القراءة الثانية وهي الرفع فنقول جاز أن يكون كل شيء مبتدأ وخلقناه بقدر خبره وحينئذ تكون الحجة قائمة عليهم بأبلغ

وجه وقوله كُلّ شَى ْء نكرة فلا يصلح مبتدأ ضعيف لأن قوله كُلّ شَى ْء عم الأشياء كلها بأسرها فليس فيه المحذور الذي في قولنا رجل قائم لأنه لا يفيد فائدة ظاهرة وقوله كُلّ شَى ْء يفيد ما يفيد زيد خلقناه وعمرو خلقناه مع زيادة فائدة ولهذا جوزوا ما أحد خير منك لأنه أفاد العموم ولم يحسن قول القائل أحد خير منك حيث لم يفد العموم
المسألة الثالثة ما معنى القدر قلنا فيه وجوه أحدها المقدار كما قال تعالى وَكُلُّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ( العرد 8 ) وعلى هذا فكل شيء مقدر في ذاته وفي صفاته أما المقدر في الذات فالجسم وذلك ظاهر فيه وكذلك القائم بالجسم من المحسوسات كالبياض والسواد وأما الجوهر الفرد مالا مقدار له والقائم بالجوهر مالا مقدار له بمعنى الامتداد كالعلم والجهل وغيرهما فنقول ههنا مقادير لا بمعنى الامتداد أما الجواهر الفرد فإن الإثنين منه أصغر من الثلاثة ولولا أن حجماً يزداد به الامتداد وإلا لما حصل دون الامتداد فيه وأما القائم بالجوهر فله نهاية وبداية فمقدار العلوم الحادثة والقدر المخلوقة متناهية وأما الصفة فلأن لكل شيء ابتدىء زماناً فله مقدار في البقاء لكون كل شيء حادثاً فإن قيل الله تعالى وصف به ولا مقدار له ولا ابتداء لوجوده نقول المتكلم إذا كان موصوفاً بصفة أو مسمى باسم ثم ذكر الأشياء المسماة بذلك الاسم أو الأشياء الموصوفة بتلك الصفة وأسند فعلاً من أفعاله إليه يخرج هو عنه كما يقول القائل رأيت جميع من في هذا البيت فرأيتهم كلهم أكرمني ويقول ما في البيت أحد إلا وضربني أو ضربته يخرج هو عنه لا لعدم كونه مقتضى الاسم بل بما في التركيب من الدليل على خروجه عن الإرادة فكذلك قوله خَلَقْنَاهُ و خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الزمر 62 ) يخرج عنه لا بطريق التخصيص بل بطريق الحقيقة إذا قلنا إن التركيب وضعي فإن هذا التركيب لم يوضع حينئذ إلا لغير المتكلم ثانيها القدر التقدير قال الله تعالى فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ( المرسلات 23 ) وقال الشاعر وقد قدر الرحمن ما هو قادر
أي قدر ما هو مقدر وعلى هذا فالمعنى أن الله تعالى لم يخلق شيئاً من غير تقدير كما يرمي الرامي السهم فيقع في موضع لم يكن قد قدره بل خلق الله كما قدر بخلاف قول الفلاسفة إنه فاعل لذاته والاختلاف للقوابل فالذي جاء قصيراً أو صغيراً فلاستعداد مادته والذي جاء طويلاً أو كبيراً فلاستعداد آخر فقال تعالى كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ منا فالصغير جاز أن يكون كبيراً والكبير جاز خلقه صغيراً ثالثها بِقَدَرٍ هو ما يقال مع القضاء يقال بقضاء الله وقدره وقالت الفلاسفة في القدر الذي مع القضاء إن ما يقصد إليه فقضاء وما يلزمه فقدر فيقولون خلق النار حارة بقضاء وهو مقضي به لأنها ينبغي أن تكون كذلك لكن من لوازمها أنها إذا تعلقت بقطن عجوز أو وقعت في قصب صعلوك تخرقه فهو بقدر لا بقضاء وهو كلام فاسد بل القضاء ما في العلم والقدر ما في الإرادة فقوله كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ أي بقدره مع إرادته لا على ما يقولون إنه موجب رداً على المشركين
ثم قال تعالى
وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَة ٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ

أي إلا كلمة واحدة وهو قوله له ( كن ) هذا هو المشهور الظاهر وعلى هذا فالله إذا أراد شيئاً قال له ( كن ) فهناك شيئان الإرادة والقول فالإرادة والقول فالإرادة قدر والقول قضاء وقوله واحِدَة ٌ يحتمل أمرين أحدهما بيان أنه لا حاجة إلى تكرير القول إشارة إلى نفاذ الأمر ثانيهما بيان عدم اختلاف الحال فأمره عند خلق العرش العظيم كأمره عند خلق النمل الصغير فأمره عند الكل واحد وقوله كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ تشبيه الكون لا تشبيه الأمر فكأنه قال أمرنا واحدة فإذن المأمور كائن كلمح بالبصر لأنه لو كان راجعاً إلى الأمر لا يكون ذلك صفة مدح يليق به فإن كلمة ( كن ) شيء أيضاً يوجد كلمح بالبصر هذا هو التفسير الظاهر المشهور وفيه وجه ظاهر ذهب إليه الحكماء وهي أن مقدورات الله تعالى هي الممكنات يوجدها بقدرته وفي عدمها خلاف لا يليق بيانه بهذا الموضع لطوله لا لسبب غيره ثم إن الممكنات التي يوجدها الله تعالى قسمان أحدهما أمور لها أجزاء ملتئمة عند التئامها يتم وجودها كالإنسان والحيوان والأجسام النباتية والمعدنية وكذلك الأركان الأربعة والسموات وسائر الأجسام وسائر ما يقوم بالأجسام من الأعراض فهي كلها مقدرة له وحوادث فإن أجزاءها توجد أولاً ثم يوجد فيها التركيب والالتئام بعينها ففيها تقديرات نظراً إلى الأجزاء والتركيب والأعراض وثانيهما أمور ليس لها أجزاء ومفاصل ومقادير امتدادية وهي الأرواح الشريفة المنورة للأجسام وقد أثبتها جميع الفلاسفة إلا قليلاً منهم ووافقهم جمع من المتكلمين وقطع بها كثير ممن له قلب من أصحاب الرياضات وأرباب المجاهدات فتلك الأمور وجودها واحد ليس يوجد أولاً أجزاء وثانياً تتحقق تلك الأجزاء بخلاف الأجسام والأعراض القائمة بها إذا عرفت هذا قالوا الأجسام خلقية قدرية والأرواح إبداعية أمرية وقالوا إليه الإشارة بقوله تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ( الأعراف 54 ) فالخلق في الأجسام والأمر في الأرواح ثم قالوا لا ينبغي أن يظن بهذا الكلام أنه على خلاف الأخبار فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أول ما خلق الله العقل ) وروى عنه عليه السلام أنه قال ( خلق الله الأرواح قبل الأجسام بألفي عام ) وقال تعالى اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الزمر 62 ) فالخلق أطلق على إيجاد الأرواح والعقل لأن إطلاق الخلق على ما يطلق عليه الأمر جائز وإن العالم بالكلية حادث وإطلاق الخلق بمعنى الإحداث جائز وإن كان في حقيقة الخلق تقدير في أصل اللغة ولا كذلك في الأحداث ولولا الفرق بين العبارتين وإلا لاستقبح الفلسفي من أن يقول المخلوق قديم كما يستقبح من أن المحدث قديم فإذن قوله ( صلى الله عليه وسلم ) خلق الله الأرواح بمعنى أحدثها بأمره وفي هذا الإطلاق فائدة عظيمة وهي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لو غير العبارة وقال في الأرواح أنها موجودة بالأمر والأجسام بالخلق لظن الذي لم يرزقه الله العلم الكثير أن الروح ليست بمخلوقة بمعنى ليست بمحدثة فكان يضل والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث رحمة وقالوا إذا نظرت إلى قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( الإسراء 85 ) وإلى قوله تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ ( الحديد 4 ) وإلى قوله تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَة َ مُضْغَة ً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَة َ عِظَاماً ( المؤمنون 14 ) تجد التفاوت بين الأمر والخلق والأرواح والأشباح حيث جعل لخلق بعض الأجسام زماناً ممتداً هو ستة أيام وجعل لبعضها تراخياً وترتيباً بقوله ثُمَّ خَلَقْنَا وبقوله فَخَلَقْنَا ولم يجعل للروح ذلك ثم قالوا ينبغي أن لا يظن بقولنا هذا إن الأجسام لا بد لها من زمان ممتد وأيام حتى يوجدها الله تعالى فيه بل الله مختار إن أراد خلق السموات والأرض والإنسان والدواب والشجر والنبات في أسرع من لمح البصر لخلقها كذلك ولكن مع هذا لا تخرج عن كونها موجودات حصلت لها أجزاء ووجود أجزائها قبل

وجود التركيب فيها ووجودها بعد وجود الأجزاء والتركيب فيها فهي ستة ثلاثة في ثلاثة كما يخلق الله الكسر والإنكسار في زمان واحد ولهما ترتيب عقلي فالجسم إذن كيفما فرضت خلقه ففيه تقدير وجودات كلها بإيجاد الله على الترتيب والروح لها وجود واحد بإيجاد الله تعالى هذا قولهم ولنذكر ما في الخلق والأمر من الوجود المنقولة والمعقولة أحدها ما ذكرنا أن الأمر هو كلمة كُنَّ والخلق هو ما بالقدرة والإرادة ثانيها ما ذكروا في الأجسام أن منها الأرواح ثالثها هو أن الله له قدرة بها الإيجاد وإرادة بها التخصيص وذلك لأن المحدث له وجود مختص بزمان وله مقدار معين فوجوده بالقدرة واختصاصه بالزمان بالإرادة فالذي بقدرته خلق والذي بالإرادة أمر حيث يخصصه بأمره بزمان ويدل عليه المنقول والمعقول أما المنقول فقوله تعالى إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( يس 82 ) جعل كُنَّ لتعلق الإرادة واعلم أن المراد من كُنَّ ليس هو الحرف والكلمة التي من الكاف والنون لأن الحصول أسرع من كلمة كن إذا حملتها على حقيقة اللفظ فإن الكاف والنون لا يوجد من متكلم واحد إلا الترتيب ففي كن لفظ زمان والكون بعد بدليل قوله تعالى فَيَكُونُ بالفاء فإذن لو كان المراد يكن حقيقة الحرف والصوت لكان الحصول بعده بزمان وليس كذلك فإن قال قائل يمكن أن يوجد الحرفان معاً وليس كلام الله تعالى ككلامنا يحتاج إلى الزمان قلنا قد جعل له معنى غير ما نفهمه من اللفظ وأما المعقول فلأن الاختصاص بالزمان ليس لمعنى وعلة وإن كان بعض الناس ذهب إلى أن الخلق والإيجاد لحكمة وقال بأن الله خلق الأرض لتكون مقر الناس أو مثل هذا من الحكم ولم يمكنه أن يقول خلق الأرض في الزمان المخصوص لتكون مقراً لهم لأنه لو خلقها في غير ذلك لكانت أيضاً مقراً لهم فإذن التخصيص ليس لمعنى فهو لمحض الحكمة فهو يشبه أمر الملك الجبار الذي يأمر ولا يقال له لم أمرت ولم فعلت ولا يعلم مقصود الآمر إلا منه رابعها هو أن الأشياء المخلوقة لا تنفك عن أوصاف ثلاثة أو عن وصفين متقابلين مثاله الجسم لا بد له بعد خلقه أن يكون متحيزاً ولا بد له من أن يكون ساكناً أو متحركاً فإيجاده أولاً يخلقه وما هو عليه بأمره يدل عليه قوله تعالى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ إلى أن قال مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ( الأعراف 54 ) فجعل مالها بعد خلقها من الحركة والسكون وغيرهما بأمره ويدل عليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أول ما خلق الله تعالى العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر ) جعل الخلق في الحقيقة والأمر في الوصف وكذلك قوله تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثم قال يُدَبّرُ الاْمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الاْرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ( السجدة 4 5 ) وقد ذكرنا تفسيره خامسها مخلوقات الله تعالى على قسمين أحدهما خلقه الله تعالى في أسرع ما يكون كالعقل وغيره وثانيهما خلقه بمهلة كالسموات والإنسان والحيوان والنبات فالمخلوق سريعاً أطلق عليه الأمر والمخلوق بمهلة أطلق عليه الخلق وهذا مثل الوجه الثاني سادسها ما قاله فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعالى فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ( فصلت 11 ) وهو أن الخلق هو التقدير والإيجاد بعده بعدية ترتيبية لا زمانية ففي علم الله تعالى أن السموات تكون سبع سموات في يومين تقديرية فهو قدر خلقه كما علم وهو إيجاد فالأول خلق والثاني وهو الإيجاد أمر وأخذ هذا من المفهوم اللغوي قال الشاعر وبعض الناس يخلق ثم لا يفري
أي يقدر ولا يقطع ولا يفصل كالخياط الذي يقدر أولاً ويقطع ثانياً وهو قريب إلى اللغة لكنه بعيد

الاستعمال في القرآن لأن الله تعالى حيث ذكر الخلق أراد الإيجاد منه قوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ( العنكبوت 61 ) ومنه قوله تعالى أَوَ لَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَة ٍ ( يس 77 ) وليس المراد أنا قدرنا أنه سيوجد منها إلى غير ذلك سابعها الخلق هو الإيجاد ابتداء والأمر هو ما به الإعادة فإن الله خلق الخلق أولاً بمهلة ثم يوم القيامة ببعثهم في أسرع من لحظة فيكون قوله وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ كقوله تعالى فَإِنَّمَا هِى َ زَجْرَة ٌ واحِدَة ٌ ( الصافات 19 ج وقوله صَيْحَة ً واحِدَة ً ( يس 29 ) نَفْخَة ٌ واحِدَة ٌ ( الحاقة 13 ) وعلى هذا فقوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) إشارة إلى الوحدانية وقوله تعالى وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ إلى الحشر فكأنه بين الأصل الأول والأصل الآخر بالآيات ثامنها الإيجاد خلق والإعدام أمر يعني يقول للملائكة الغلاظ الشداد أهلكوا وافعلوا فلا يعصون الله ما أمرهم ولا يقفون الامتثال على إعادة الأمر مرة أخرى فأمره مرة واحدة يعقبه العدم والهلاك
وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى جعل الإيجاد الذي هو من الرحمة بيده والإهلاك يسلط عليه رسله وملائكته وجعل الموت بيد ملك الموت ولم يجعل الحياة بيد ملك وهذا مناسب لهذا الموضع لأنه بين النعمة بقوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) وبين قدرته على النقمة فقال وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ( المؤمنون 18 ) وهو كقوله فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ( المؤمنون 27 ) عند العذاب وقوله تعالى فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً ( هود 66 ) وقوله تعالى فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ( هود 82 ) وكما ذكر في هذه الحكايات العذاب بلفظ الأمر وبين الإهلاك به كذلك ههنا ولا سيما إذا نظرت إلى ما تقدم من الحكايات ووجدتها عين تلك الحكايات يقوي هذا القول وكذلك قوله تعالى وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( القمر 51 ) يدل على صحة هذا القول تاسعها في معنى اللمح بالبصر وجهان أحدهما النظر بالعين يقال لمحته ببصري كما يقال نظرت إليه بعيني والباء حينئذ كما يذكر في الآيات فيقال كتبت بالقلم واختار هذا المثال لأن النظر بالعين أسرع حركة توجد في الإنسان لأن العين وجد فيها أمور تعين على سرعة الحركة أحدها قرب المحرك منها فإن المحرك العصبية ومنبتها الدماغ والعين في غاية القرب منه ثانيها صغر حجمها فإنها لا تعصى على المحرك ولا تثقل عليه بخلاف العظام ثالثها استدارة شكلها فإن دحرجة الكرة أسهل من دحرجة المربع والمثلث رابعها كونها في رطوبة مخلوقة في العضو الذي هو موضعها وهذه الحكمة في أن المرئيات في غاية الكثرة بخلاف المأكولات والمسموعات والمقاصد التي تقصد بالأرجل والمذوقات فلولا سرعة حركة الآلة التي بها إدراك المبصرات لما وصل إلى الكل إلا بعد طول زمان وثانيهما اللمح بالبصر معناه البرق يخطف بالبصر ويمر به سريعاً والباء حينئذ للإلصاق لا للاستعانة كقوله مررت به وذلك في غاية السرعة وقوله بِالْبَصَرِ فيه فائدة وهي غاية السرعة فإنه لو قال كلمح البرق حين برق ويبتدىء حركته من مكان وينتهي إلى مكان آخر في أقل زمان يفرض لصح لكن مع هذا فالقدر الذي مروره يكون بالبصر أقل من الذي يكون من مبتداه إلى منتهاه فقال كَلَمْحِ لا كما قيل من المبدأ إلى المنتهى بل القدر الذي يمر بالبصر وهو غاية القلة ونهاية السرعة

ثم قال تعالى
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
والأشياع الأشكال وقد ذكرنا أن هذا يدل على أن قوله وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ ( القمر 50 ) تهديد بالإهلاك والثاني ظاهر
بم وقوله تعالى
وَكُلُّ شَى ْءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ
إشارة إلى أن الأمر غير مقتصر على إهلاكهم بل الإهلاك هو العاجل والعذاب الآجل الذي هو معد لهم على ما فعلوه مكتوب عليهم والزبر هي كتب الكتبة الذين قال تعالى فيهم كَلاَّ بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ ( الانفطار 9 11 ) و فَعَلُوهُ صفة شيء والنكرة توصف بالجمل
بم وقوله تعالى
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ
تعميم للحكم أي ليست الكتابة مقتصرة على ما فعلوه بل ما فعله غيرهم أيضاً مسطور فلا يخرج عن الكتب صغيرة ولا كبيرة وقد ذكرنا في قوله تعالى لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَابٍ ( سبأ 3 ) أن في قوله أَكْبَرَ فائدة عظيمة وهي أن من يكتب حساب إنسان فإنما يكتبه في غالب الأمر لئلا ينسى فإذا جاء بالجملة العظيمة التي يأمن نسيانها ربما يترك كتابتها ويشتغل بكتابة ما يخاف نسيانه فلما قال وَلا أَكْبَرَ أشار إلى الأمور العظام التي يؤمن من نسيانها أنها مكتوبة أي ليست كتابتنا مثل كتابتكم التي يكون المقصود منها الأمن من النسيان فكذلك نقول ههنا وفي قوله مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 ) وفي جميع هذه المواضع قدم الصغيرة لأنها أليق بالتثبت عند الكتابة فيبتدىء بها حفظاً عن النسيان في عادة الخلق فأجرى الله الذكر على عادتهم وهذا يؤيد ما ذكرنا من قبل أن كلا وإن كان نكرة يحسن الابتداء به للعموم وعدم الإبهام
ثم قال تعالى
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ
قد ذكرنا تفسير المتقين والجنات في سور منها الطُّورِ وأما النهر ففيه قراءات فتح النون والهاء كحجر وهو اسم جنس ويقوم مقام الأنهار وهذا هو الظاهر الأصح وفيه مسائل
المسألة الأولى لا شك أن كمال اللذة بالبستان أن يكون الإنسان فيه وليس من اللذة بالنهر أن يكون الإنسان فيه بل لذته أن يكون في الجنة عند النهر فما فمعنى قوله تعالى وَنَهَرٍ نقول قد أجبنا عن هذا في تفسير قوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( الذاريات 15 ) في سورة الذاريات وقلنا المراد في خلال العيون وفيما بينها من المكان وكذلك في جنات لأن الجنة هي الأشجار التي تستر شعاع الشمس ولهذا قال تعالى فِى ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ( المرسلات 41 ) وإذا كانت الجنة هي الأشجار الساترة فالإنسان لا يكون في الأشجار وإنما يكون بينها أو خلالها فكذلك النهر ونزيد ههنا وجهاً آخر وهو أن المراد في جنات وعند نهر لكون المجاورة تحسن إطلاق اللفظ الذي لا يحسن إطلاقه عند عدم المجاورة كما قال علفتها تبناً وماء بارداً
وقالوا تقلدت سيفاً ورمحاً والماء لا يعلف والرمح لا يتقلد ولكن لمجاورة التبن والسيف حسن الإطلاق فكذلك هنا لم يأت في الثاني بما أتى به في الأول من كلمة في

المسألة الثانية وحد النهر مع جمع الجنات وجمع الأنهار وفي كثير من المواضع كما في قوله تعالى تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ( البقرة 25 ) إلى غيره من المواضع فما الحكمة فيه نقول أما على الجواب الأول فنقول لما بين أن معنى في نهر في خلال فلم يكن للسامع حاجة إلى سماع الأنهار لعلمه بأن النهر الواحد لا يكون له خلال وأما في قوله تعالى تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ فلو لم يجمع الأنهار لجاز أن يفهم أن في الجنات كلها نهراً واحداً كما في الدنيا فقد يكون نهر واحد ممتد جار في جنات كثيرة وأما على الثاني فنقول الإنسان يكون في جنات لأنا بينا أن الجمع في جنات إشارة إلى سعتها وكثرة أشجارها وتنوعها والتوحيد عندما قال مَّثَلُ الْجَنَّة ِ ( محمد 15 ) وقال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ ( التوبة 111 ) لاتصال أشجارها ولعدم وقوع القيعان الخربة بينها وإذا علمت هذا فالإنسان في الدنيا إذا كان في بيت في دار وتلك الدار في محلة وتلك المحلة في مدينة يقال إنه في بلدة كذا وأما القرب فإذا كان الإنسان في الدنيا بين نهرين بحيث يكون قربه منهما على السواء يقال إنه جالس عند نهرين فإذا قرب من أحدهما يقال من عند أحد نهرين دون الآخر لكن في دار الدنيا لا يمكن أن يكون عند ثلاثة أنهار وإنما يمكن أن يكون عند نهرين والثالث منه أبعد من النهرين فهو في الحقيقة ليس يكون في زمان واحد عند أنهار والله تعالى يذكر أمر الآخرة على ما نفهمه في الدنيا فقال عند نهر لما بينا أن قوله وَنَهَرٍ وإن كان يقتضي في نهر لكن ذلك للمجاورة كما في تقلدت سيفاً ورمحاً وأما قوله تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ فحقيقته مفهومة عندنا لأن الجنة الواحدة قد يجري فيها أنهار كثيرة أكثر من ثلاثة وأربعة فهذا ما فيه مع أن أواخر الآيات يحسن فيها التوحيد دون الجمع ويحتمل أن يقال و نهر التنكير للتعظيم وفي الجنة نهر وهو أعظم الأنهر وأحسنها وهو الذي من الكوثر ومن عين الرضوان وكان الحصول عنده شرفاً وغبطه وكل أحد يكون له مقعد عنده وسائر الأنهار تجري في الجنة ويراها أهلها ولا يرون القاعد عندها فقال الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ أي ذلك النهر الذي عنده مقاعد المؤمنين وفي قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ( البقرة 249 ) لكونه غير معلوم لهم وفي هذا وجه حسن أيضاً ولا يحتاج على الوجهين أن نقول نهر في معنى الجمع لكونه اسم جنس
المسألة الثالثة قال ههنا فِى وقال في الذاريات جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( الذاريات 15 ) فما الفرق بينهما نقول إنا إن قلنا في نهر معناه في خلال فالإنسان يمكن أن يكون في الدنيا في خلال عيون كثيرة تحيط به إذا كان على موضع مرتفع من الأرض والعيون تنفجر منه وتجري فتصير أنهاراً عند الامتداد ولا يمكن أن يكون وفي خلال أنهار وإنما هي نهران فحسب وأما إن قلنا إن المراد عند نهر فكذلك وإن قلنا أي عظيم عليه مقاعد فنقول يكون ذلك النهر ممتداً وأصلاً إلى كل واحد وله عنده مقعد عيون كثيرة تابعة فالنهر للتشريف والعيون للتفرج والتنزه مع أن النهر العظيم يجتمع مع العيون الكثيرة فكان النهر مع وحدته يقوم مقام العيون مع كثرتها وهذا كله مع النظر إلى أواخر الآيات ههنا وهناك يحسن ذكر لفظ الواحد ههنا والجمع هناك
المسألة الرابعة قرىء فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ على أنها جمع نهار إذ لا ليل هناك وعلى هذا فكلمة في حقيقة فيه فقوله فِي جَنَّاتِ ظرف مكان وقوله وَنَهَرٍ أي وفي نهر إشارة إلى ظرف زمان وقرىء نهر بسكون الهاء وضم النون على أنه جمع نهر كأسد في جمع أسد نقله الزمخشري ويحتمل أن يقال نهر بضم الهاء جمع نهر كثمر في جمع ثمر

ثم قال تعالى
فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ
فيه مسائل
المسألة الأولى وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ كيف مخرجه نقول يحتمل وجهين أحدهما أن يكون على صورة بدل كما يقول القائل فلان في بلدة كذا في دار كذا وعلى هذا يكون مقعد من جملة الجنات موضعاً مختاراً له مزية على مافي الجنات من المواضع وعلى هذا قوله عِندَ مَلِيكٍ لأنا بينا في أحد الوجوه أن المراد من قوله فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ( القمر 54 ) في جنات عند نهر فقال فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ويحتمل أن يقال عِندَ مَلِيكٍ صفة مقعد صدق تقول درهم في ذمة ملىء خير من دينار في ذمة معسر وقليل عند أمين أفضل من كثير عند خائن فيكون صفة وإلا لما حسن جعله مبتدأ ثانيهما أن يكون فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ كالصفة لجنات ونهر أي في جنات ونهر موصوفين بأنهما في مقعد صدق تقول وقفة في سبيل الله أفضل من كذا و عِندَ مَلِيكٍ صفة بعد صفة
المسألة الثانية قوله فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ يدل على لبث لا يدل عليه المجلس وذلك لأن قعد وجلس ليسا على ما يظن أنهما بمعنى واحد لا فرق بينهما بل بينهما فرق ولكن لا يظهر إلا للبارع والفرق هو أن القعود جلوس فيه مكث حقيقة واقتضاء ويدل عليه وجوه الأول هو أن الزمن يسمى مقعداً ولا يسمى مجلساً لطول المكث حقيقة ومنه سمي قواعد البيت والقواعد من النساء قواعد ولا يقال لهن جوالس لعدم دلالة الجلوس على المكث الطويل فذكر القواعد في الموضعين لكونه مستقراً بين الدوام والثبات على حالة واحدة ويقال للمركوب من الإبل قعود لدوام اقتعاده اقتضاء وإن لم يكن حقيقة فهو لصونه عن الحمل واتخاذه للركوب كأنه وجد فيه نوع قعود دائم اقتضى ذلك ولم يرد للإجلاس الثاني النظر إلى تقاليب الحروف فإنك إذا نظرت إلى ق ع د وقلبتها تجد معنى المكث في الكل فإذا قدمت القاف رأيت قعد وقدع بمعنى ومنه تقادع الفراش بمعنى تهافت وإذا قدمت العين رأيت عقد وعدق بمعنى المكث في غاية الظهور وفي عدق لخفاء يقال أعدق بيدك الدلو في البئر إذا أمره بطلبه بعد وقوعه فيها والعودقة خشبة عليها كلاب يخرج معه الدلو الواقع في البئر وإذا قدمت الدال رأيت دقع ودعق والمكث في الدقع ظاهر والدقعاء هي التراب الملتصق بالأرض والفقر المدقع هو الذي يلصق صاحبه بالتراب وفي دعق أيضاً إذ الدعق مكان تطؤه الدواب بحوافرها فيكون صلباً أجزاؤه متداخل بعضها ببعض لا يتحرك شيء منها عن موضعه الوجه الثالث الاستعمالات في القعود إذا اعتبرت ظهر ما ذكرنا قال تعالى لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ ( النساء 95 ) والمراد الذي لا يكون بعده اتباع وقال تعالى مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ( آل عمران 121 ) مع أنه تعالى قال إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ( الصف 4 ) فأشار إلى الثبات العظيم وقال تعالى إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة ً فَاثْبُتُواْ ( الأنفال 45 ) فالمقاعد إذن هي المواضع التي يكون فيها المقاتل بئبات ومكث وإطلاق مقعدة على العضو الذي عليه القعود أيضاً يدل عليه إذا عرفت هذا الفرق بين الجلوس والقعود حصل لك فوائد منها ههنا فإنه يدل على دوام المكث وطول اللبث ومنها في قوله تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ ( ق 17 ) فإن القعيد بمعنى الجليس والنديم ثم إذا عرف هذا وقيل

للمفسرين الظاهرين فما الفائدة في اختيار لفظ القعيد يدل لفظ الجليس مع أن الجليس أشهر يكون جوابهم أن آخر الآيات من قوله حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 ) والِدَى َّ عَتِيدٌ ( ق 23 ) وقوله بِجَبَّارٍ عَنِيدٍ ( هود 59 ) يناسب القعيد ولا الجليس وإعجاز القرآن ليس في السجع وإذا نظرت إلى ما ذكر تبين لك فائدة جليلة معنوية حكمية في وضع اللفظ المناسب لأن القعيد دل على أنهما لا يفارقانه ويداومان الجلوس معه وهذا هو المعجز وذلك لأن الشاعر يختار اللفظ الفاسد لضرورة الشعر والسجع ويجعل المعنى تبعاً للفظ والله تعالى بين الحكمة على ما ينبغي وجاء باللفظ على أحسن ما ينبغي وفائدة أخرى في قوله تعالى الْمُؤْمِنُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ ( المجادلة 11 ) فإن قوله فَافْسَحُواْ إشارة إلى الحركة وقوله فَانشُزُواْ إشارة إلى ترك الجلوس فذكر المجلس إشارة إلى أن ذلك موضع جلوس فلا يجب ملازمته وليس بمقعد حتى لا يفارقونه
المسألة الثالثة فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ وجهان أحدهما مقعد صدق أي صالح يقال رجل صدق للصالح ورجل سوء للفاسد وقد ذكرناه في سورة إِنَّا فَتَحْنَا في قوله تعالى وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْء ( الفتح 12 ) وثانيهما الصدق المراد منه ضد الكذب وعلى هذا ففيه وجهان الأول مقعد صدق من أخبر عنه وهو الله ورسوله الثاني مقعد ناله من صدق فقال بأن الله واحد وأن محمداً رسوله وحتمل أن يقال المراد أنه مقعد لا يوجد فيه كذب لأن الله تعالى صادق ويستحيل عليه الكذب ومن وصل إليه امتنع عليه الكذب لأن مظنة الكذب الجهل والواصل إليه يعلم الأشياء كما هي ويستغني بفضل الله عن أن يكذب ليستفيد بكذبه شيئاً فهو مقعد صدق وكلمة عِندَ قد عرفت معناها والمراد منه قرب المنزلة والشأن لا قرب المعنى والمكان وقوله تعالى مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ لأن القربة من الملوك لذيذة كلما كان الملك أشد اقتداراً كان المتقرب منه أشد التذاذاً وفيه إشارة إلى مخالفة معنى القرب منه من معنى القرب من الملوك فإن الملوك يقربون من يكون ممن يحبونه وممن يرهبونه مخافة أن يعصوا عليه وينحازوا إلى عدوه فيغلبونه والله تعالى قال مُّقْتَدِرٍ لا يقرب أحداً إلا بفضله
والحمد لله وصلاته على سيدنا محمد خير خلقه وآله وصحبه وسلامه

سورة الرحمن
خمسون وخمس آيات مكية
الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ
اعلم أولاً أن مناسبة هذه السورة لما قبلها بوجهين أحدهما أن الله تعالى افتتح السورة المتقدمة بذكر معجزة تدل على العزة والجبروت والهيبة وهو انشقاق القمر فإن من يقدر على شق القمر يقدر على هد الجبال وقد الرجال وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدل على الرحمة والرحموت وهو القرآن الكريم فإن شفاء القلوب بالصفاء عن الذنوب ثانيهما أنه تعالى ذكر في السورة المتقدمة فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ( القمر 16 ) غير مرة وذكر في السورة فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( الرحمن 13 ) مرة بعد مرة لما بينا أن تلك السورة سورة إظهار الهيبة وهذه السورة سورة إظهار الرحمة ثم إن أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها حيث قال في آخر تلك السورة عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) والاقتدار إشارة إلى الهيبة والعظمة وقال ههنا الرَّحْمَنُ أي عزيز شديد منتقم مقتدر بالنسبة إلى الكفار والفجار رحمن منعم غافر للأبرار ثم في التفسير مسائل
المسألة الأولى في لفظ الرَّحْمَنُ أبحاث ولا يتبين بعضها إلا بعد البحث في كلمة الله فنقول
المبحث الأول من الناس من يقول إن الله مع الألف واللام اسم علم لموجد الممكنات وعلى هذا فمنهم من قال الرَّحْمَنُ أيضاً اسم علم له وتمسك بقوله تعالى قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَاء الْحُسْنَى ( الإسراء 11 ) أي أياً ما منهما وجوز بعضهم قول القائل يا الرحمن كما يجوز يا الله وتمسك بالآية وكل هذا ضعيف وبعضها أضعف من بعض أما قوله الله مع الألف واللام اسم علم ففيه بعض الضعف وذلك لأنه لو كان كذلك لكانت الهمزة فيه أصلية فلا يجوز أن تجعل وصلية وكان يجب أن يقال خلق الله كما يقال علم أحمد وفهم إسماعيل بل الحق فيه أحد القولين إما أن نقول إله أو لاه اسم لموجد الممكنات اسم علم ثم استعمل مع الألف واللام كما في الفضل والعباس والحسن والخليل وعلى هذا

فمن سمى غيره إلهاً فهو كمن يستعمل في مولود له فيقول لابنه محمد وأحمد وإن كان علمين لغيره قبله في أنه جائز لأن من سمى ابنه أحمد لم يكن له من الأمر المطاع ما يمنع الغير عن التسمية به ولم يكن له الاحتجار وأخذ الاسم لنفسه أو لولده بخلاف الملك المطاع إذا استأثر لنفسه اسماً لا يستجرىء أحد ممن تحت ولايته ما دام له الملك أن يسمى ولده أو نفسه بذلك الاسم خصوصاً من يكون مملوكاً لا يمكنه أن يسمي نفسه باسم الملك ولا أن يسمي ولده به والله تعالى ملك مطاع وكل من عداه تحت أمره فإذا استأثر لنفسه اسماً لا يجوز للعبيد أن يتسموا بذلك الاسم فمن يسمى فقد تعدى فالمشركون في التسمية متعدون وفي المعنى ضالون وإما أن نقول إله أو لاه اسم لمن يعبد والألف واللام للتعريف ولما امتنع المعنى عن غير الله امتنع الاسم فإن قيل فلو سمى أحد ابنه به كان ينبغي أن يجوز قلنا لا يجوز لأنه يوهم أنه اسم موضوع لذلك الابن لمعنى لا لكونه علماً فإن قيل تسمية الواحد بالكريم والودود جائزة قلنا كل ما يكون حمله على العلم وعلى اسم لمعنى ملحوظ في اللفظ الذكرى لا يفضي إلى خلل يجوز ذلك فيه فيجوز تسمية الواحد بالكريم والودود ولا يجوز تسميته بالخالق والقديم لأن على تقدير حمله على أنه علم غير ملحوظ فيه المعنى يجوز وعلى تقدير حمله على أنه اسم لمعنى هو قائم به كالقدرة التي بها بقاء الخلق أو العدم فلا يجوز لكن اسم المعبود من هذا القبيل فلا يجوز التسمية به فأحد هذين القولين حق وقولهم مع الألف واللام علم ليس بحق إذا عرفت البحث في الله فما يترتب عليه وهو أن الرحمن اسم على أضعف منه وتجويز يا الرحمن أضعف من الكل
البحث الثاني الله والرحمن في حق الله تعالى كالاسم الأول والوصف الغالب الذي يصير كالاسم بعد الاسم الأول كما في قولنا عمر الفاروق وعلى المرتضى وموسى الرضا وغير ذلك مما نجده في أسماء الخلفاء وأوصافهم المعرفة لهم التي كانت لهم وصفاً وخرجت بكثرة الاستعمال عن الوصفية حتى إن الشخص وإن لم يتصف به أو فارقه الوصف يقال له ذلك كالعلم فإذن للرحمن اختصاص بالله تعالى كما أن لتلك الأوصاف اختصاصاً بأولئك غير أن في تلك الأسماء والأوصاف جاز الوضع لما بينا حيث استوى الناس في الاقتدار والعظمة ولا يجوز في حق الله تعالى فإن قيل إن من الناس من أطلق لفظ الرحمن على اليمامي نقول هو كما أن من الناس من أطلق لفظ الإله على غير الله تعدياً وكفراً نظراً إلى جوازه لغة وهو اعتقاد باطل
البحث الثالث لله تعالى رحمتان سابقة ولاحقة فالسابقة هي التي بها خلق الخلق واللاحقة هي التي أعطى بها الخلق بعد إيجاده إياهم من الرزق والفطنة وغير ذلك فهو تعالى بالنظر إلى الرحمة السابقة رحمن وبالنظر إلى اللاحقة رحيم ولهذا يقال يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة فهو رحمن لأنه خلق الخلق أولاً برحمته فلما لم يوجد في غيره هذه الرحمة ولم يخلق أحد حداً لم يجز أن يقال لغيره رحمن ولما تخلق الصالحون من عباده ببعض أخلاقه على قدر الطاقة البشرية وأطعم الجائع وكسا العاري وجد شيء من الرحمة اللاحقة التي بها الرزق والإعانة فجاز أن يقال له رحيم وقد ذكرنا هذا كله في تفسير سورة الفاتحة غير أنا أردنا أن يصير ما ذكرنا مضموماً إلى ما ذكرناه هناك فأعدناه ههنا لأن هذا كله كالتفصيل لما ذكرناه في الفاتحة

المسألة الثانية الرَّحْمَنُ مبتدأ خبره الجملة الفعلية التي هي قوله عَلَّمَ الْقُرْءانَ وقيل الرَّحْمَنُ ( خبر ) مبتدأ تقديره هو الرحمن ثم أتى بجملة بعد جملة فقال عَلَّمَ الْقُرْءانَ والأول أصح وعلى القول الضعيف الرحمن آية
المسألة الثالثة قوله تعالى عَلَّمَ الْقُرْءانَ لا بد له من مفعول ثان فما ذلك نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما قيل علم بمعنى جعله علامة أي هو علامة النبوة ومعجزة وهذا يناسب قوله تعالى وَانشَقَّ الْقَمَرُ ( القمر 1 ) على ما بينا أنه ذكر في أول تلك السورة معجزة من باب الهيئة وهو أنه شق مالا يشقه أحد غيره وذكر في هذه السورة معجزة من باب الرحمة وهو أنه نشر من العلوم مالا ينشره غيره وهو ما في القرآن وعلى هذا الوجه من الجواب ففيه احتمال آخر وهو أنه جعله بحيث يعلم فهو كقوله وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ ( القمر 17 ) والتعليم على هذا الوجه مجاز يقال إن أنفق على متعلم وأعطى أجرة على تعليمة علمه وثانيهما أن المفعول الثاني لا بد منه وهو جبريل وغيره من الملائكة علمهم القرآن ثم أنزله على عبده كما قال تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) ويحتمل أن يقال المفعول الثاني هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه إشارة إلى أن القرآن كلام الله تعالى لا كلام محمد وفيه وجه ثالث وهو أنه تعالى علم القرآن الإنسان وهذا أقرب ليكون الإنعام أتم والسورة مفتتحة لبيان الأعم من النعم الشاملة
المسألة الرابعة لم ترك المفعول الثاني نقول إشارة إلى أن النعمة في تعميم التعليم لا في تعليم شخص دون شخص يقال فلان يطعم الطعام إشارة إلى كرمه ولا يبين من يطعمه
المسألة الخامسة ما معنى التعليم نقوله على قولنا له مفعول ثان إفادة العلم به فإن قيل كيف يفهم قوله تعالى عَلَّمَ الْقُرْءانَ مع قوله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ( آل عمران 7 ) نقول من لا يقف عند قوله إِلاَّ اللَّهُ ويعطف الرَّاسِخُونَ على الله عطف المفرد على المفرد لا يرد عليه هذا ومن يقف ويعطف قوله تعالى وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ على قوله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ عطف جملة على جملة يقول إنه تعالى علم القرآن لأن من علم كتاباً عظيماً ووقع على ما فيه وفيه مواضع مشكلة فعلم ما في تلك المواضع بقدر الإمكان يقال فلان يعلم الكتاب الفلاني ويتقنه بقدر وسعه وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين وكذلك القول في تعليم القرآن أو تقول لا يعلم تأويله إلا الله وأما غيره فلا يعلم من تلقاء نفسه مالم يعلم فيكون إشارة إلى أن كتاب الله تعالى ليس كعيره من الكتب التي يستخرج ما فيها بقوة الذكاء والعلوم
ثم قال تعالى خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في وجه الترتيب وهو على وجهين أحدهما ما ذكرنا أن المراد من علم علم الملائكة وتعليمه الملائكة قبل خلق الإنسان فعلم تعالى ملائكته المقربين القرآن حقيقة يدل عليه قوله تعالى إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ثم قال تعالى تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ ( الواقعة 77 80 ) إشارة إلى تنزيله بعد تعليمه وعلى هذا ففي النظم حسن زائد وذلك من حيث إنه تعالى ذكر أموراً علوية وأموراً سفلية وكل علوي قابله بسفلي وقدم العلويات على السفليات إلى آخر الآيات فقال عَلَّمَ الْقُرْءانَ إشارة إلى تعليم العلويين وقال عَلَّمَهُ البَيَانَ إشارة إلى تعليم

السفليين وقال الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( القيامة 9 ) في العلويات وقال في مقابلتهما من السفليات وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( الرحمن 6 )
ثم قال تعالى وَالسَّمَاء رَفَعَهَا ( الرحمن 7 ) وفي مقابلتها وَالاْرْضَ وَضَعَهَا ( الرحمن 10 ) وثانيهما أن تقديم تعليم القرآن إشارة إلى كونه أتم نعمة وأعظم إنعاماً ثم بين كيفية تعليم القرآن فقال خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ وهو كقول القائل علمت فلاناً الأدب حملته عليه وأنفقت عليه مالي فقوله حملته وأنفقت بيان لما تقدم وإنما قدم ذلك لأنه الإنعام العظيم
المسألة الثانية ما الفرق بين هذه السورة وسورة العلق حيث قال هناك اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ ( العلق 1 ) ثم قال وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ ( العلق 3 4 ) فقدم الخلق على التعليم نقول في تلك السورة لم يصرح بتعليم القرآن فهو كالتعليم الذي ذكره في هذه السورة بقوله عَلَّمَهُ البَيَانَ بعد قوله خَلَقَ الإِنسَانَ
المسألة الثالثة ما المراد من الإنسان نقول هو الجنس وقيل المراد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل المراد آدم والأول أصح نظراً إلى اللفظ في خُلِقَ ويدخل فيه محمد وآدم وغيرهما من الأنبياء
المسألة الرابعة ما البيان وكيف تعليمه نقول من المفسرين من قال البيان المنطق فعلمه ما ينطق به ويفهم غيره ما عنده فإن به يمتاز الإنسان عن غيره عن الحيوانات وقوله خَلَقَ الإِنسَانَ إشارة إلى تقدير خلق جسمه الخاص و عَلَّمَهُ البَيَانَ إشارة إلى تميزه بالعلم عن غيره وقد خرج ما ذكرنا أولاً أن البيان هو القرآن وأعاده ليفصل ماذكره إجمالاً بقوله تعالى عَلَّمَ الْقُرْءانَ كما قلنا في المثال حيث يقول القائل علمت فلاناً الأدب حملته عليه وعلى هذا فالبيان مصدر أريد به ما فيه المصدر وإطلاق البيان بمعنى القرآن على القرآن في القرآن كثير قال تعالى هَاذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ ( آل عمران 138 ) وقد سمى الله تعالى القرآن فرقاناً وبياناً والبيان فرقان بين الحق والباطل فصح إطلاق البيان وإرادة القرآن
المسألة الخامسة كيف صرح بذكر المفعولين في علمه البيان ولم يصرح بهما في علم القرآن نقول أما إن قلنا إن المراد من قوله علم القرآن هو أنه علم الإنسان القرآن فنقول حذفه لعظم نعمة التعليم وقدم ذكره على من علمه وعلى بيان خلقه ثم فصل بيان كيفية تعليم القرآن فقال خَلَقَ الإِنسَانَ عِلْمِهِ وقد بين ذلك وأما إن قلنا المراد عَلَّمَ الْقُرْءانَ الملائكة فلأن المقصود تعديد النعم على الإنسان ومطالبته بالشكر ومنعه من التكذيب به وتعليمه للملائكة لا يظهر للإنسان أنه فائدة راجعة إلى الإنسان وأما تعليم الإنسان فهي نعمة ظاهرة فقال عَلَّمَهُ البَيَانَ أي علم الإنسان تعديداً للنعم عليه ومثل هذا قال في اقْرَأْ قال مرة عَلَّمَ بِالْقَلَمِ من غير بيان المعلم ثم قال مرة أخرى عَلَّمَ الإِنسَانَ لَمْ يَعْلَمْ وهو البيان ويحتمل أن يتمسك بهذه الآية على أن اللغات توقيفية حصل العلم بها بتعليم الله

ثم قال تعالى
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ
وفي الترتيب وجوه أحدها هو أن الله تعالى لما ثبت كونه رحمن وأشار إلى ما هو شفاء ورحمة وهو القرآن ذكر نعمه وبدأ بخلق الإنسان فإنه نعمة جميع النعم به تتم ولولا وجوده لما انتفع بشيء ثم بين نعمة الإدراك بقوله عَلَّمَهُ البَيَانَ ( الرحمن 4 ) وهو كالوجود إذ لولاه لما حصل النفع والانتفاع ثم ذكر من المعلومات نعمتين ظاهرتين هما أظهر أنواع النعم السماوية وهما الشمس والقمر ولولا الشمس لما زالت الظلمة ولولا القمر لفات كثير من النعم الظاهرة بخلاف غيرهما من الكواكب فإن نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ما تظهر نعمتهما ثم بين كمال نفعهما في حركتهما بحساب لا يتغير ولو كانت الشمس ثابتة في موضع لما انتفع بها أحد ولو كان سيرها غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزراعات في أوقاتها وبناء الأمر على الفصول ثم بين في مقابلتهما نعمتين ظاهرتين من الأرض وهما النبات الذي لا ساق له والذي له ساق فإن الرزق أصله منه ولولا النبات لما كان للآدمي رزق إلا ما شاء الله وأصل النعم على الرزق الدار وإنما قلنا النبات هو أصل الرزق لأن الرزق إما نباتي وإما حيواني كاللحم واللبن وغيرهما من أجزاء الحيوان ولولا النبات لما عاش الحيوان والنبات وهو الأصل وهو قسمان قائم على ساق كالحنطة والشعير والأشجار الكبار وأصول الثمار وغير قائم كالبقول المنبسطة على الأرض والحشيش والعشب الذي هو غذاء الحيوان ثانيها هو أنه تعالى لما ذكر القرآن وكان هو كافياً لا يحتاج معه إلى دليل آخر قال بعده الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ وغيرها من الآيات إشارة إلى أن بعض الناس إن تكن له النفس الزكية التي يغنيها الله بالدلائل التي في القرآن فله في الآفاق آيات منها الشمس والقمر وإنما اختارهما للذكر لأن حركتهما بحسبان تدل على فاعل مختار سخرهما على وجه مخصوص ولو اجتمع من في العالم من الطبيعيين والفلاسفة وغيرهم وتواطئوا أن يثبتوا حركتهما على الممر المعين على الصواب المعين والمقدار المعلوم في البطء والسرعة لما بلغ أحد مراده إلى أن يرجع إلى الحق ويقول حركهما الله تعالى كما أراد وذكر الأرض والسماء وغيرهما إشارة إلى ما ذكرنا من الدلائل العقلية المؤكدة لما في القرآن من الدلائل السمعية ثالثها هو أنا ذكرنا أن هذه السورة مفتتحة بمعجزة دالة عليها من باب الهيئة فذكر معجزة القرآن بما يكون جواباً لمنكري النبوة على الوجه الذي نبهنا عليه وذلك هو أنه تعالى أنزل على نبيه الكتاب وأرسله إلى الناس بأشرف خطاب فقال بعض المنكرين كيف يمكن نزول الجرم من السماء إلى الأرض وكيف يصعد ما حصل في الأرض إلى السماء فقال تعالى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ إشارة إلى ( أن ) حركتهما بمحرك مختار ليس بطبيعي وهم وافقونا فيه وقالوا إن الحركة الدورية لا يمكن أن تكون طبيعية اختيارية فنقول من حرك الشمس والقمر على الإستدارة أنزل الملائكة على الاستقامة ثم النجم والشجر يتحركان إلى فوق على الاستقامة مع أن الثقيل على مذهبكم لا يصعد إلى جهة فوق فذلك بقدرة الله تعالى وإرادته فكذلك حركة الملك جائزة مثل الفلك وأما قوله بِحُسْبَانٍ ففيه إشارة إلى الجواب عن قولهم عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل ( ص 8 ) وذلك لأنه تعالى كما اختار لحركتهما ممراً معيناً وصوباً معلوماً ومقداراً مخصوصاً كذلك اختار للملك وقتاً معلوماً وممراً معيناً بفضله وفي التفسير مباحث

الأول ما الحكمة في تعريفه عما يرجع إلى الله تعالى حيث قال هما بِحُسْبَانٍ ولم يقل حركهما الله بحسبان أو سخرهما أو أجراهما كما قال خَلَقَ الإِنسَانَ وقال عَلَّمَهُ البَيَانَ ( الرحمن 3 4 ) نقول فيه حكم منها أن يكون إشارة إلى أن خلق الإنسان وتعليمه البيان أتم وأعظم من خلق المنافع له من الرزق وغيره حيث صرح هناك بأنه فاعله وصانعه ولم يصرح هنا ومنها أن قوله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ههنا بمثل هذا في العظم يقول القائل إني أعطيتك الألوف والمئات مراراً وحصل لك الآحاد والعشرات كثيراً وما شكرت ويكون معناه حصل لك مني ومن عطائي لكنه يخصص التصريح بالعطاء عند الكثير ومنها أنه لما بينا أن قوله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إشارة إلى دليل عقلي مؤكد السمعي ولم يقل فعلت صريحاً إشارة إلى أنه معقول إذا نظرت إليه عرفت أنه مني واعترفت به وأما السمعي فصرح بما يرجع إليه من الفعل الثاني على أي وجه تعلق الباء من بِحُسْبَانٍ نقول هو بين من تفسيره والتفسير أيضاً مر بيانه وخرج من وجه آخر فنقول في الحسبان وجهان الأول المشهور أن المراد الحساب يقال حسب حساباً وحسباناً وعلى هذا فالباء للمصالحة تقول قدمت بخير أي مع خير ومقروناً بخير فكذلك الشمس والقمر يجريان ومعهما حسابهما ومثله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( الرعد 8 ) وَكُلُّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ( الرعد 8 ) ويحتمل أن تكون للاستعانة كما في قولك بعون الله غلبت وبتوفيق الله حجت فكذلك يجريان بحسبان من الله والوجه الثاني أن الحسبان هو الفلك تشبيهاً له بحسبان الرحا وهو ما يدور فيدير الحجر وعلى هذا فهو للاستعانة كما يقال في الآلات كتبت بالقلم فهما يدوران بالفلك وهو كقوله تعالى وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( ي س 40 ) الثالث على الوجه المشهور هل كل واحد يجري بحسبان أو كلاهما بحسبان واحد ما المراد نقول كلاهما محتمل فإن نظرنا إليهما فلكل واحد منهما حساب على حدة فهو كقوله تعالى كُلٌّ فِى فَلَكٍ ( الأنبياء 33 ) لا بمعنى أن الكل مجموع في فلك واحد وكقوله وَكُلُّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ( الرعد 8 ) وإن نظرنا إلى الله تعالى فللكل حساب واحد قدر الكل بتقدير حسبانهما بحساب مثاله من يقسم ميراث نفسه لكل واحد من الورثة نصيباً معلوماً بحساب واحد ثم يختلف الأمر عندهم فيأخذ البعض السدس والبعض كذا والبعض كذا فكذلك الحساب الواحد وأما قوله وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ففيه أيضاً مباحث
الأول ما الحكمة في ذكر الجمل السابقة من غير واو عاطفة ومن هنا ذكرها بالواو العاطفة نقول ليتنوع الكلام نوعين وذلك لأن من بعد النعم على غيره تارة يذكر نسقاً من غير حرف فيقول فلان أنعم عليك كثيراً أغناك بعد فقر أعزك بعد ذل قواك بعد ضعف وأخرى يذكرها بحرف عاطف وذلك العاطف قد يكون واواً وقد يكون فاء وقد يكون ثم فيقول فلان أكرمك وأنعم عليك وأحسن إليك ويقول رباك فعلمك فأغناك ويقول أعطاك ثم أغناك ثم أحوج الناس إليك فكذلك هنا ذكر التعديد بالنوعين جميعاً فإن قيل زده بياناً وبين الفرق بين النوعين في المعنى قلنا الذي يقول بغير حرف كأنه يقصد به بيان النعم الكثيرة فيترك الحرف ليستوعب الكل من غير تطويل كلام ولهذا يكون ذلك النوع في أغلب الأمر عند مجاوزة النعم ثلاثاً أو عندما تكون أكثر من نعمتين فإن ذكر ذلك عند نعمتين فيقول فلان أعطاك المال وزوجك البنت فيكون في كلامه إشارة إلى نعم كثيرة وإنما اقتصر على النعمتين للأنموذج والذي يقول بحرف فكأنه يريد التنبيه على استقلال كل نعمة بنفسها وإذهاب توهم البدل والتفسير فإن قول القائل أنعم عليك أعطاك المال هو تفسير للأول فليس في كلامه ذكر نعمتين معاً بخلاف ما إذا ذكر بحرف فإن قيل إن

كان الأمر على ما ذكرت فلو ذكر النعم الأول بالواو ثم عند تطويل الكلام في الآخر سردها سرداً هل كان أقرب إلى البلاغة وورود كلامه تعالى عليه كفاه دليلاً على أن ما ذكره الله تعالى أبلغ وله دليل تفصيلي ظاهر يبين ببحث وهو أن الكلام قد يشرع فيه المتكلم أولاً على قصد الاختصار فيقتضي الحال التطويل إما لسائل يكثر السؤال وإما لطالب يطلب الزيادة للطف كلام المتكلم وإما لغيرهما من الأسباب وقد يشرع على قصد الإطناب والتفصيل فيعرض ما يقتضي الاقتصار على المقصود من شغل السامع أو المتكلم وغير ذلك مما جاء في كلام الآدميين نقول كلام الله تعالى فوائده لعباده لا له ففي هذه السورة ابتدأ الأمر بالإشارة إلى بيان أتم النعم إذ هو المقصود فأتى بما يختص بالكثرة ثم إن الإنسان ليس بكامل العلم يعلم مراد المتكلم إذا كان الكلام من أبناء جنسه فكيف إذا كان الكلام كلام الله تعالى فبدأ الله به على الفائدة الأخرى وإذهاب توهم البدل والتفسير والنعي على أن كل واحد منها نعمة كاملة فإن قيل إذا كان كذلك فما الحكمة في تخصيص العطف بهذا الكلام والابتداء به لا بما قبله ولا بما بعده قلنا ليكون النوعان على السواء فذكر الثمانية من النعم كتعليم القرآن وخلق الإنسان وغير ذلك أربعاً منها بغير واو وأربعاً بواو وأما قوله تعالى فِيهَا فَاكِهَة ٌ وَالنَّخْلُ ( الرحمن 11 ) وقوله وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ ( الرحمن 12 ) فلبيان نعمة الأرض على التفصيل ثم في اختيار الثمانية لطيفة وهي أن السبعة عدد كامل والثمانية هي السبعة مع الزيادة فيكون فيه إشارة إلى أن نعم الله خارجة عن حد التعديد لما أن الزائد على الكمال لا يكون معيناً مبيناً فذكر الثمانية منها إشارة إلى بيان الزيادة على حد العدد لا لبيان الانحصار فيه
المسألة الثانية النجم ماذا نقول فيه وجهان أحدهما النبات الذي لا ساق له والثاني نجم السماء والأول أظهر لأنه ذكره مع الشجر في مقابلة الشمس والقمر ذكر أرضين في مقابلة سماوين ولأن قوله يَسْجُدَانِ يدل على أن المراد ليس نجم السماء لأن من فسر به قال يسجد بالغروب وعلى هذا فالشمس والقمر أيضاً كذلك يغربان فلا يبقى للاختصاص فائدة وأما إذا قلنا هما أرضان فنقول يَسْجُدَانِ بمعنى ظلالهما تسجد فيختص السجود بهما دون الشمس والقمر وفي سجودهما وجوه أحدها ما ذكرنا من سجود الظلال ثانيها خضوعهما لله تعالى وخروجهما من الأرض ودوامهما وثباتهما عليها بإذن الله تعالى فسخر الشمس والقمر بحركة مستديرة والنجم بحركة مستقيمة إلى فوق فشبه النبات في مكانها بالسجود لأن الساجد يثبت ثالثها حقيقة السجود توجد منهما وإن لم تكن مرئية كما يسمح كل منهما وإن لم يفقه كما قال تعالى وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ( الإسراء 44 ) رابعها السجود وضع الجبهة أو مقاديم الرأس على الأرض والنجم والشجر في الحقيقة رؤوسهما على الأرض وأرجلهما في الهواء لأن الرأس من الحيوان ما به شربه واغذاؤه وللنجم والشجر اغتذاؤهما وشربهما بأجذالهما ولأن الرأس لا تبقى بدونه الحياة والشجر والنجم لا يبقى شيء منهما ثابتاً غضاً عند وقوع الخلل في أصولهما ويبقى عند قطع فروعهما وأعاليهما وإنما يقال للفروع رؤوس الأشجار لأن الرأس في الإنسان هو ما يلي جهة فوق فقيل لأعالي الشجر رؤوس إذا علمت هذا فالنجم والشجر رؤوسهما على الأرض دائماً فهو سجودهما بالشبه لا بطريق الحقيقة
المسألة الثالثة في تقديم النجم على الشجر موازنة لفظية للشمس والقمر وأمر معنوي وهو أن النجم في معنى السجود أدخل لما أنه ينبسط على الأرض كالساجد حقيقة كما أن الشمس في الحسبان أدخل لأن حساب سيرها أيسر عند المقومين من حساب سير القمر إذ ليس عند المقومين أصعب من تقويم القمر في حساب الزيج

ثم قال تعالى
وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ
ورفع السماء معلوم معنى ونصبها معلوم لفظاً فإنها منصوبة بفعل يفسره قوله رَفَعَهَا كأنه تعالى قال رفع السماء وقرىء وَالسَّمَاء بالرفع على الابتداء والعطف على الجملة الابتدائية التي هي قوله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( الرحمن 5 ) وأما وضع الميزان فإشارة إلى العدل وفيه لطيفة وهي أنه تعالى بدأ أولاً بالعلم ثم ذكر ما فيه أشرف أنواع العلوم وهو القرآن ثم ذكر العدل وذكر أخص الأمور له وهو الميزان وهو كقوله تعالى وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ( الحديد 25 ) ليعمل الناس بالكتاب ويفعلوا بالميزان ما يأمرهم به الكتاب فقوله عَلَّمَ الْقُرْءانَ وَوَضَعَ الْمِيزَانَ مثل وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ فإن قيل العلم لا شك في كونه نعمة عظيمة وأما الميزان فما الذي فيه من النعم العظيمة التي بسببها يعد في الآلاء نقول النفوس تأبى الغبن ولا يرضى أحد بأن يغلبه الآخر ولو في الشيء اليسير ويرى أن ذلك استهانة به فلا يتركه لخصمه لغلبة فلا أحد يذهب إلى أن خصمه يغلبه فلولا التبيين ثم التساوي لأوقع الشيطان بين الناس البغضاء كما وقع عند الجهل وزوال العقل والسكر فكما أن العقل والعلم صارا سبباً لبقاء عمارة العالم فكذلك العدل في الحكمة سبب وأخص الأسباب الميزان فهو نعمة كاملة ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته لكثرته وسهولة الوصول إليه كالهواء والماء اللذين لا يتبين فضلهما إلا عند فقدهما
ثم قال تعالى
أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ
وعلى هذا قيل المراد من الميزان الأول العدل ووضعه شرعه كأنه قال شرع الله العدل لئلا تطغوا في الميزان الذي هو آلة العدل هذا هو المنقول والأولى أن يعكس الأمر ويقال الميزان الأول هو الآلة والثاني هو بمعنى المصدر ومعناه وضع الميزان لئلا تطغوا في الوزن أو بمعنى العدل وهو إعطاء كل مستحق حقه فكأنه قال وضع الآلة لئلا تطغوا في إعطاء المستحقين حقوقهم ويجوز إرادة المصدر من الميزان كإرادة الوثوق من الميثاق والوعد من الميعاد فإذن المراد من الميزان آلة الوزن والوجه الثاني ( أنّ ) ( أن ) مفسرة والتقدير شرع العدل أي لا تطغوا فيكون وضع الميزان بمعنى شرع العدل وإطلاق الوضع للشرع والميزان للعدل جائز ويحتمل أن يقال وضع الميزان أي الوزن
وقوله أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ على هذا الوجه المراد منه الوزن فكأنه نهى عن الطغيان في الوزن والاتزان وإعادة الميزان بلفظه يدل على أن المراد منهما واحد فكأنه قال ألا تطغوا فيه فإن قيل لو كان المراد الوزن لقال ألا تطغوا في الوزن نقول لو قال في الوزن لظن أن النهي مختص بالوزن للغير لا بالاتزان للنفس فذكر بلفظ الآلة التي تشتمل على الأخذ والإعطاء وذلك لأن المعطي لو وزن ورجح رجحاناً ظاهراً يكون قد أربى ولا سيما في الصرف وبيع المثل
وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ
وقوله تعالى وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ يدل على أن المراد من قوله أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ هو بمعنى لا تطغوا في الوزن لأن قوله وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ كالبيان لقوله أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ وهو الخروج

عن إقامته بالعدل وقوله وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ يحتمل وجهين أحدهما أقيموا بمعنى قوموا به كما في قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا ( البقرة 43 ) أي قوموا بها دواماً لأن الفعل تارة يعدى بحرف الجر وتارة بزيادة الهمزة تقول أذهبه وذهب به ثانيها أن يكون أقيموا بمعنى قوموا يقال في العود أقمته وقومته والقسط العدل فإن قيل كيف جاء قسط بمعنى جار لا بمعنى عدل نقول القسط اسم ليس بمصدر والأسماء التي لا تكون مصادر إذا أتى بها آت أو وجدها موجد يقال فيها أفعل بمعنى أثبت كما قال فلان أطرف وأتحف وأعرف بمعنى جاء بطرفة وتحفة وعرف وتقول أقبض السيف بمعنى أثبت له قبضة وأعلم الثوب بمعنى جعل له علماً وأعلم بمعنى أثبت العلامة وكذا ألجم الفرس وأسرج فإذا أمر بالقسط أو أثبته فقد أقسط وهو بمعنى عدل وأما قسط فهو فعل من اسم ليس بمصدر والاسم إذا لم يكن مصدراً في الأصل ويورد عليه فعل فربما يغيره عما هو عليه في أصله مثاله الكتف إذا قلت كتفته كتافاً فكأنك قلت أخرجته عما كان عليه من الانتفاع وغيرته فإن معنى كتفته شددت كتفيه بعضهما إلى بعض فهو مكتوف فالكتف كالقسط صارا مصدرين عن اسم وصار الفعل معناه تغير عن الوجه الذي ينبغي أن يكون وعلى هذا لا يحتاج إلى أن يقال القاسط والمقسط ليس أصلهما واحداً وكيف كان يمكن أن يقال أقسط بمعنى أزال القسط كما يقال أشكى بمعنى أزال الشكوى أو أعجم بمعنى أزال العجمة وهذا البحث فيه فائدة فإن قول القائل فلان أقسط من فلان وقال الله تعالى ذالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ( البقرة 282 ) والأصل في أفعل التفضيل أن يكون من الثلاثي المجرد تقول أظلم وأعدل من ظالم وعادل فكذلك أقسط كان ينبغي أن يكون من قاسط ولم يكن كذلك لأنه على ما بينا الأصل القسط وقسط فعل فيه لا على الوجه والإقساط إزالة ذلك ورد القسط إلى أصله فصار أقسط موافقاً للأصل وأفعل التفضيل يؤخذ مما هو أصل لا من الذي فرع عليه فيقال أظلم من ظالم لا من متظلم وأعلم من عالم لا من معلم والحاصل أن الأقسط وإن كان نظراً إلى اللفظ كان ينبغي أن يكون من القاسط لكنه نظراً إلى المعنى يجب أن يكون من المقسط لأن المقسط أقرب من الأصل المشتق وهو القسط ولا كذلك الظالم والمظلم فإن الأظلم صار مشتقاً من الظالم لأنه أقرب إلى الأصل لفظاً ومعنى وكذلك العالم والمعلم والخبر والمخبر
ثم قال وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ أي لا تنقصوا الموزون والميزان ذكره الله تعالى ثلاث مرات كل مرة بمعنى آخر فالأول هو الآلة وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( الرحمن 7 ) والثاني بمعنى المصدر أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ ( الرحمن 8 ) أي الوزن والثالث للمفعول وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ أي الموزون وذكر الكل بلفظ الميزان لما بينا أن الميزان أشمل للفائدة وهو كالقرآن ذكره الله تعالى بمعنى المصدر في قوله تعالى فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ ( القيامة 18 ) وبمعنى المقروء في قوله إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ ( القيامة 17 ) وبمعنى الكتاب الذي فيه المقروء في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 ) فكأنه آلة ومحل له وفي قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءانَ ( الحجر 87 ) وفي كثير من المواضع ذكر القرآن لهذا الكتاب الكريم وبين القرآن والميزان مناسبة فإن القرآن فيه من العلم مالا يوجد في غيره من الكتب والميزان فيه من العدل مالا يوجد في غيره

من الآلات فإن قيل ما الفائدة في تقديم السماء على الفعل حيث قال وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وتقديم الفعل على الميزان حيث قال وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( الرحمن 7 ) نقول قد ذكرنا مراراً أن في كل كلمة من كلمات الله فوائد لا يحيط بها علم البشر إلا ما ظهر والظاهر ههنا أنه تعالى لما عد النعم الثمانية كما بينا وكان بعضها أشد اختصاصاً بالإنسان من بعض فما كان شديد الاختصاص بالإنسان قدم فيه الفعل كما بينا أن الإنسان يقول أعطيتك الألوف وحصلت لك العشرات فلا يصرح في القليل بإسناد الفعل إلى نفسه وكذلك يقول في النعم المختصة أعطيتك كذا وفي التشريك وصل إليك مما اقتسمتم بينكم كذا فيصرح بالإعطاء عند الاختصاص ولا يسند الفعل إلى نفسه عند التشريك فكذلك ههنا ذكر أموراً أربعة بتقديم الفعل قال تعالى عَلَّمَ الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( الرحمن 7 ) وأموراً أربعة بتقديم الاسم قال تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَالاْرْضَ وَضَعَهَا ( الرحمن 5 10 ) لما أن تعليم القرآن نفعه إلى الإنسان أعود وخلق الإنسان مختص به وتعليمه البيان كذلك ووضع الميزان كذلك لأنهم هم المنتفعون به الملائكة ولا غير الإنسان من الحيوانات وأما الشمس والقمر والنجم والشجر والسماء والأرض فينتفع به كل حيوان على وجه الأرض وتحت السماء
ثم قال تعالى
وَالاٌّرْضَ وَضَعَهَا لِلاٌّ نَامِ
في مباحث
الأول هو أنه قد مر أن تقديم الاسم على الفعل كان في مواضع عدم الاختصاص وقوله تعالى لِلاْنَامِ يدل على الاختصاص فإن اللام لعود النفع نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما ما قيل إن الأنام يجمع الإنسان وغيره من الحيوان فقوله لِلاْنَامِ لا يوجب الاختصاص بالإنسان ثانيهما أن الأرض موضوعة لكل ما عليها وإنما خص الإنسان بالذكر لأن انتفاعه بها أكثر فإنه ينتفع بها وبما فيها وبما عليها فقال لِلاْنَامِ لكثرة انتفاع الأنام بها إذا قلنا إن الأنام هو الإنسان وإن قلنا إنه الخلق فالخلق يذكر ويراد به الإنسان في كثير من المواضع
فِيهَا فَاكِهَة ٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاٌّ كْمَامِ
وقوله تعالى فِيهَا فَاكِهَة ٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاْكْمَامِ إشارة إلى الأشجار وقوله وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ ( الرحمن 12 ) إشارة إلى النبات الذي ليس بشجر والفاكهة ما تطيب به النفس وهي فاعلة إما على طريقة عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) أي ذات رضى يرضى بها كل أحد وإما على تسمية الآلة بالفاعل يقال راوية للقربة التي يروى بها العطشان وفيه معنى المبالغة كالراحلة لما يرحل عليه ثم صار اسماً لبعض الثمار وضعت أولاً من غير اشتقاق والتنكير للتكثير أي كثيرة كما يقال لفلان مال أي عظيم وقد ذكرنا وجه دلالة التنكير على التعظيم وهو أن القائل كأنه يشير إلى أنه عظيم لا يحيط به معرفة كل أحد فتنكيره إشارة إلى أنه خارج عن أن يعرف كنهه
وقوله تعالى وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاْكْمَامِ إشارة إلى النوع الآخر من الأشجار لأن الأشجار المثمرة أفضل الأشجار وهي منقسمة إلى أشجار ثمار هي فواكه لا يقتات بها وإلى أشجار ثمار هي قوت وقد يتفكه بها كما أن الفاكهة قد يقتات بها فإن الجائع إذا لم يجد غير الفواكه يتقوت بها ويأكل غير متفكه بها وفيه مباحث

الأول ما الحكمة في تقديم الفاكهة على القوت نقول هو باب الابتداء بالأدنى والارتقاء إلى الأعلى والفاكهة في النفع دون النخل الذي منه القوت والتفكه وهو دون الحب الذي عليه المدار في سائر المواضع وبه يتغذى الأنام في جميع البلاد فبدأ بالفاكهة ثم ذكر النخل ثم ذكر الحب الذي هو أتم نعمة لموافقته مزاج الإنسان ولهذا خلقه الله في سائر البلاد وخصص النخل بالبلاد الحارة
البحث الثاني ما الحكمة في تنكير الفاكهة وتعريف النخل وجوابه من وجوه أحدها أن القوت محتاج إليه في كل زمان متداول في كل حين وأوان فهو أعرف والفاكهة تكون في بعض الأزمان وعند بعض الأشخاص وثانيها هو أن الفاكهة على ما بينا ما يتفكه به وتطيب به النفس وذلك عند كل أحد بحسب كل وقت شيء فمن غلب عليه حرارة وعطش يريد التفكه بالحامض وأمثاله ومن الناس من يريد التفكه بالحلو وأمثاله فالفاكهة غير متعينة فنكرها والنخل والحب معتادان معلومان فعرفهما وثالثها النخل وحدها نعمة عظيمة تعلقت بها منافع كثيرة وأما الفاكهة فنوع منها كالخوخ والإجاص مثلاً ليس فيه عظيم النعمة كما في النخل فقال فَاكِهَة ٍ بالتنكير ليدل على الكثرة وقد صرح بالكثرة في مواضع أخر فقال يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَة ٍ كَثِيرَة ٍ ( ص 51 ) وقال وَفَاكِهَة ٍ كَثِيرَة ٍ لاَّ مَقْطُوعَة ٍ وَلاَ مَمْنُوعَة ٍ ( الواقعة 32 33 ) فالفاكهة ذكرها الله تعالى ووصفها بالكثرة صريحاً وذكرها منكرة لتحمل على أنها موصوفة بالكثرة اللائقة بالنعمة في النوع الواحد منها بخلاف النخل
البحث الثالث ما الحكمة في ذكر الفاكهة باسمها لا باسم أشجارها وذكر النخل باسمها لا باسم ثمرها نقول قد تقدم بيانه في سورة ي س حيث قال تعالى مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ( ي س 34 ) وهو أن شجرة العنب وهي الكرم بالنسبة إلى ثمرتها وهي العنب حقيرة وشجرة النخل بالنسبة إلى ثمرتها عظيمة وفيها من الفوائد الكثيرة على ماعرف من اتخاذ الظروف منها والانتفاع بجمارها وبالطلع والبسر والرطب وغير ذلك فثمرتها في أوقات مختلفة كأنها ثمرات مختلفة فهي أتم نعمة بالنسبة إلى الغير من الأشجار فذكر النخل باسمه وذكر الفاكهة دون أشجارها فإن فوائد أشجارها في عين ثمارها
البحث الرابع ما معنى ذَاتُ الاْكْمَامِ نقول فيه وجهان أحدهما الأكمام كل ما يغطي جمع كم بضم الكاف ويدخل فيه لحاؤها وليفها ونواها والكل منتفع به كما أن النخل منتفع بها وأغصانها وقلبها الذي هو الجمار ثانيهما الأكمام جمع كم بكسر الكاف وهو وعاء الطلع فإنه يكون أولاً في وعاء فينشق ويخرج منه الطلع فإن قيل على الوجه الأول ذَاتُ الاْكْمَامِ في ذكرها فائدة لأنها إشارة إلى أنواع النعم وأما على الوجه الثاني فما فائدة ذكرها نقول الإشارة إلى سهولة جمعها والانتفاع بها فإن النخلة شجرة عظيمة لا يمكن هزها لتسقط منها الثمرة فلا بد من قطف الشجرة فلو كان مثل الجميز الذي يقال إنه يخرج من الشجرة متفرقاً واحدة واحدة لصعب قطافها فقال ذَاتُ الاْكْمَامِ أي يكون في كم شيء كثير إذا أخذ عنقود واحد منه كفى رجلا واثنين كعناقيد العنب فانظر إليها فلو كان العنب حباتها في الأشجار متفرقة كالجميز والزعرور لم يمكن جمعه بالهز متى أريد جمعه فخلقه الله تعالى عناقيد مجتمعة كذلك الرطب فكونها ذَاتُ الاْكْمَامِ من جملة إتمام الإنعام

ثم قال تعالى
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ
اقتصر من الأشجار على النخل لأنها أعظمها ودخل في الحب القمح والشعير وكل حب يقتات به خبزاً أو يؤدم به بينا أنه أخره في الذكر على سبيل الارتقاء درجة فدرجة فالحبوب أنفع من النخل وأعم وجوداً في الأماكن وقوله تعالى ذُو الْعَصْفِ فيه وجوه أحدها التبن الذي تنتفع به دوابنا التي خلقت لنا ثانيها أوراق النبات الذي له ساق الخارجة من جوانب الساق كأوراق السنبلة من أعلاها إلى أسفلها ثالثها العصف هو ورق ما يؤكل فحسب والريحان فيه وجوه قيل ما يشم وقيل الورق وقيل هو الريحان المعروف عندنا وبزره ينفع في الأدوية والأظهر أن رأسها كالزهر وهو أصل وجود المقصود فإن ذلك الزهر يتكون بذلك الحب وينعقد إلى أن يدرك فالعصف إشارة إلى ذلك الورق والريحان إلى ذلك الزهر وإنما ذكرهما لأنهما يؤولان إلى المقصود من أحدهما علف الدواب ومن الآخر دواء الإنسان وقرىء الريحان بالجر معطوفاً على العصف وبالرفع عطفاً على الحب وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد من الريحان المشموم فيكون أمراً مغايراً للحب فيعطف عليه والثاني أن يكون التقدير ذو الريحان بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كما في وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) وهذا مناسب للمعنى الذي ذكرنا ليكون الريحان الذي ختم به أنواع النعم الأرضية أعز وأشرف ولو كان المراد من الريحان هو المعروف أو المشمومات لما حصل ذلك الترتيب وقرىء وَالرَّيْحَانُ ولا يقرأ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ ويعود الوجهان فيه
ثم قال تعالى
فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه مباحث
الأول الخطاب مع من نقول فيه وجوه الأول الإنس والجن وفيه ثلاثة أوجه أحدها يقال الأنام اسم للجن والإنس وقد سبق ذكره فعاد الضمير إلى ما في الأنام من الجنس ثانيها الأنام اسم الإنسان و الجان لما كان منوياً وظهر من بعد بقوله وَخَلَقَ الْجَانَّ ( الرحمن 15 ) جاز عود الضمير إليه وكيف لا وقد جاز عود الضمير إلى المنوي وإن لم يذكر منه شيء تقول لا أدري أيهما خير من زيد وعمرو ثالثها أن يكون المخاطب في النية لا في اللفظ كأنه قال فبأي آلاء ربكما تكذبان أيها الثقلان الثاني الذكر والأنثى فعاد الضمير إليهما والخطاب معهما الثالث فبأي آلاء ربك تكذب فبأي آلاء ربك تكذب بلفظ واحد والمراد التكرار للتأكيد الرابع المراد العموم لكن العام يدخل فيه قسمان بهما ينحصر الكل ولا يبقى شيء من العام خارجاً عنه فإنك إذا قلت إنه تعالى خلق من يعقل ومن لا يعقل أو قلت الله يعلم ما ظهر وما لم يظهر إلى غير ذلك من التقاسيم الحاصرة يلزم التعميم فكأنه قال يا أيها القسمان فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ واعلم أن التقسيم الحاصر لا يخرج عن أمرين أصلاً ولا يحصل الحصر إلا بهما فإن زاد فهناك قسمان قد طوى أحدهما في الآخر مثاله إذا قلت اللون إما سواد وإما بياض وإما حمرة وإما صفرة وإما غيرها فكأنك قلت اللون إما أسود وإما ليس بسواد أو إما بياض وإما ليس ببياض ثم الذي ليس ببياض إما حمرة وإما ليس بحمرة وكذلك إلى جملة التقسيمات فأشار إلى القسمين الحاصرين على أن ليس لأحد ولا لشيء أن ينكر نعم الله الخامس التكذيب قد يكون بالقلب دون اللسان كما في المنافقين وقد يكون باللسان دون القلب كما في المعاندين وقد يكون بهما جميعاً فالكذب لا يخرج عن أن يكون باللسان أو

بالقلب فكأنه تعالى قال يا أيها القلب واللسان فبأي آلاء ربكما تكذبان فإن النعم بلغت حداً لا يمكن المعاند أن يستمر على تكذيبها السادس المكذب مكذب بالرسول والدلائل السمعية التي بالقرآن ومكذب بالعقل والبراهين والتي في الآفاق والأنفس فكأنه تعالى قال يا أيها المكذبان بأي آلاء ربكما تكذبان وقد ظهرت آيات الرسالة فإن الرحمن علم القرآن وآيات الوحدانية فإنه تعالى خلق الإنسان وعلمه البيان ورفع السماء ووضع الأرض السابع المكذب قد يكون مكذباً بالفعل وقد يكون التكذيب منه غير واقع بعد لكنه متوقع فالله تعالى قال يا أيها المكذب تكذب وتتلبس بالكذب ويختلج في صدرك أنك تكذب فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وهذه الوجوه قريبة بعضها من بعض والظاهر منها الثقلان لذكرهما في الآيات من هذه السورة بقوله سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ ( الرحمن 31 ) وبقوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ ( الرحمن 33 ) وبقوله خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ ( الرحمن 14 ) إلى غير ذلك ( والزوجان ) لوروده في القرآن كثير والتعميم بإرادة نوعين حاصرين للجميع ويمكن أن يقال التعميم أولى لأن المراد لو كان الإنس والجن اللذان خاطبهما بقوله فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ما كان يقول بعد خلق الإنسان بل كان يخاطب ويقول خلقناك يا أيها الإنسان من صلصال وخلقناك يا أيها الجان أو يقول خلقك يا أيها الإنسان لأن الكلام صار خطاباً معهما ولما قال الإنسان دل على أن المخاطب غيره وهو العموم فيصير كأنه قال يا أيها الخلق والسامعون إنا خلقنا الإنسان من صلصال كالفخار وخلقنا الجان من مارج من نار وسيأتي باقي البيان في مواضع من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى الثاني ما الحكمة في الخطاب ولم يسبق ذكر مخاطب نقول هو من باب الالتفات إذ مبنى افتتاح السورة على الخطاب مع كل من يسمع فكأنه لما قال الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 1 2 ) قال اسمعوا أيها السامعون والخطاب للتقريع والزجر كأنه تعالى نبه الغافل المكذب على أنه يفرض نفسه كالواقف بين يدي ربه يقول له ربه أنعمت عليك بكذا وكذا ثم يقول فبأي آلائي تكذب ولا شك أنه عند هذا يستحي استحياء لا يكون عنده فرض الغيبة الثالث ما الفائدة في اختيار لفظة الرب وإذا خاطب أراد خطاب الواحد فلم قال رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وهو الحاضر المتكلم فكيف يجعل التكذيب المسند إلى المخاطب وارداً على الغائب ولو قال بأي آلائي تكذبان كان أليق في الخطاب نقول في السورة المتقدمة قال كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ( القمر 23 ) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ( القمر 33 ) وقال كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( القمر 42 ) وقال فَأَخَذْنَاهُمْ ( القمر 42 ) وقال كَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ( القمر 21 ) كلها بالاستناد إلى ضمير المتكلم حيث كان ذلك للتخويف فالله تعالى أعظم من أن يخشى فلو قال أخذهم القادر أو المهلك لما كان في التعظيم مثل قوله فَأَخَذْنَاهُمْ ولهذا قال تعالى وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ( آل عمران 28 30 ) وهذا كما أن المشهور بالقوة يقول أنا الذي تعرفني فيكون في إثبات الوعيد فوق قوله أنا المعذب فلما كان الإسناد إلى النفس مستعملاً في تلك السورة عند الإهلاك والتعذيب ذكر في هذه السورة عند بيان الرحمة لفظ يزيل الهيبة وهو لفظ الرب فكأنه تعالى قال فبأي آلاء ربكما تكذبان وهو رباكما الرابع ما الحكمة في تكرير هذه الآية وكونه إحدى وثلاثين مرة نقول الجواب عنه من وجوه الأول إن فائدة التكرير التقرير وأما هذا العدد الخاص فالأعداد توقيفية لا تطلع على تقدير المقدرات أذهان الناس والأولى أن لا يبالغ الإنسان في استخراج الأمور البعيدة في كلام الله تعالى تمسكاً بقول عمر

رضي الله تعالى عنه حيث قال مع نفسه عند قراءته سورة عبس كل هذا قد عرفناه فما الأب ثم رفع عصا كانت بيده وقال هذا لعمر الله التكليف وما عليك يا عمر أن لا تدري ما الأب ثم قال اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه وسيأتي فائدة كلامه تعالى في تفسير السورة إن شاء الله تعالى الجواب الثاني ما قلناه إنه تعالى ذكر في السورة المتقدمة فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ أربع مرات لبيان ما في ذلك من المعنى وثلاث مرات للتقرير والتكرير وللثلاث والسبع من بين الأعداد فوائد ذكرناها في قوله تعالى وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ ( لقمان 27 ) فلما ذكرنا العذاب ثلاث مرات ذكر الآلاء إحدى وثلاثين مرة لبيان ما فيه من المعنى وثلاثين مرة للتقرير الآلاء مذكورة عشر مرات أضعاف مرات ذكر العذاب إشارة إلى معنى قوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ( الأنعام 16 ) الثالث إن الثلاثين مرة تكرير بعد البيان في المرة الأولى لأن الخطاب مع الجن والإنس والنعم منحصرة في دفع المكروه وتحصيل المقصود لكن أعظم المكروهات عذاب جهنم ولها سبعة أبواب وأتم المقاصد نعيم الجنة ولها ثمانية أبواب فإغلاق الأبواب السبعة وفتح الأبواب الثمانية جميعه نعمة وإكرام فإذا اعتبرت تلك النعم بالنسبة إلى جنسي الجن والإنس تبلغ ثلاثين مرة وهي مرات التكرير للتقرير والمرة الأولى لبيان فائدة الكلام وهذا منقول وهو ضعيف لأن الله تعالى ذكر نعم الدنيا والآخرة وما ذكره اقتصار على بيان نعم الآخرة الرابع هو أن أبواب النار سبعة والله تعالى ذكر سبع آيات تتعلق بالتخويف من النار من قوله تعالى سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ إلى قوله تعالى يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ ( الرحمن 31 44 ) ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك جنتين حيث قال وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) ولكل جنة ثمانية أبواب تفتح كلها للمتقين وذكر من أول السورة إلى ما ذكرنا من آيات التخويف ثماني مرات فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ سبع مرات للتقرير بالتكرير استيفاء للعدد الكثير الذي هو سبعة وقد بينا سبب اختصاصه في قوله تعالى سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ ( لقمان 27 ) وسنعيد منه طرفاً إن شاء الله تعالى فصار المجموع ثلاثين مرة المرة الواحدة التي هي عقيب النعم الكثيرة لبيان المعنى وهو الأصل والتكثير تكرار فصار إحدى وثلاثين مرة
ثم قال تعالى
خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ
وفي الصلصال وجهان أحدهما هو بمعنى المسنون من صل اللحم إذا أنتن ويكون الصلصال حينئذ من الصلول وثانيهما من الصليل يقال صل الحديد صليلاً إذا حدث منه صوت وعلى هذا فهو الطين اليابس الذي يقع بعضه على بعض فيحدث فيما بينهما صوت إذ هو الطين اللازب الحر الذي إذا التزق بالشيء ثم انفصل عنه دفعة سمع منه عند الانفصال صوت فإن قيل الإنسان إذا خلق من صلصال كيف ورد في القرآن أنه خلق من التراب وورد أنه خلق من الطين ومن حمأ ومن ماء مهين إلى غير ذلك نقول أما قوله مّن تُرَابٍ ( الحج 5 ) تارة و مّن مَّاء مَّهِينٍ ( المرسلات 20 ) أخرى فذلك باعتبار شخصين آدم خلق من الصلصال ومن حمأ وأولاده خلقوا من ماء مهين ولولا خلق آدم لما خلق أولاده ويجوز أن يقال زيد خلق من حمأ بمعنى أن أصله الذي هو جده خلق منه وأما قوله مّن طِينٍ لاَّزِبٍ ( الصافات 11 ) مّنْ حَمَإٍ ( الحجر 26 ) وغير ذلك فهو إشارة إلى أن آدم عليه السلام خلق أولاً من التراب ثم صار طيناً ثم حمأ مسنوناً ثم

لازباً فكأنه خلق من هذا ومن ذاك ومن ذلك والفخار الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف مستعمل على أصل الاشتقاق وهو مبالغة الفاخر كالعلام في العالم وذلك أن التراب الذي من شأنه التفتت إذا صار بحيث يجعل ظرف الماء والمائعات ولا يتفتت ولا ينقع فكأنه يفخر على أفراد جنسه
ثم قال تعالى
وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفي الجان وجهان أحدهما هو أبو الجن كما أن الإنسان المذكور هنا هو أبو الإنس وهو آدم ثانيهما هو الجن بنفسه فالجان والجن وصفان من باب واحد كما يقال ملح ومالح أو نقول الجن اسم الجنس كالملح والجان مثل الصفة كالمالح
وفيه بحث وهو أن العرب تقول جن الرجل ولا يعلم له فاعل يبني الفعل معه على المذكور وأصل ذلك جنه الجان فهو مجنون فلا يذكر الفاعل لعدم العلم به ويقتصر على قولهم جن فهو مجنون وينبغي أن يعلم أن القائل الأول لا يقول الجان اسم علم لأن الجان للجن كآدم لنا وإنما يقول بأن المراد من الجان أبوهم كما أن المراد من الإنسان أبونا آدم فالأول منا خلق من صلصال ومن بعده خلق من صلبه كذلك الجن الأول خلق من نار ومن بعده من ذريته خلق من مارج والمارج المختلط ثم فيه وجهان أحدهما أن المارج هو النار المشوبة بدخان والثاني النار الصافية والثاني أصح من حيث اللفظ والمعنى أما اللفظ فلأنه تعالى قال مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ أي نار مارجة وهذا كقول القائل هو مصوغ من ذهب فإن قوله من ذهب فيه بيان تناسب الأخلاط فيكون المعنى الكل من ذهب غير أنه يكون أنواعاً مختلفة مختلطة بخلاف ما إذا قلت هذا قمح مختلط فلك أن تقول مختلط بماذا فيقول من كذا وكذا فلو اقتصر على قوله من قمح وكان منه ومن وغيره أيضاً لكان اقتصاره عليه مختلط بما طلب من البيان وأما المعنى فلأنه تعالى كما قال خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ ( الرحمن 14 ) أي من طين حر كذلك بين أن خلق الجان من نار خالصة فإن قيل فكيف يصح قوله مَّارِجٍ بمعنى مختلط مع أنه خالص نقول النار إذا قويت التهبت ودخل بعضها في بعض كالشيء الممتزج امتزاجاً جيداً لا تميز فيه بين الأجزاء المختلطة وكأنه من حقيقة واحدة كما في الطين المختمر وذلك يظهر في التنور المسجور إن قرب منه الحطب تحرقه فكذلك مارج بعضها ببعض لا يعقل بين أجزائها دخان وأجزاء أرضية وسنبين هذا في قوله تعالى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ( الرحمن 19 ) فإن قيل المقصود تعديد النعم على الإنسان فما وجه بيان خلق الجان نقول الجواب عندي من وجوه أحدها ما بينا أن قوله رَبّكُمَا خطاب مع الإنس والجن يعدد عليهما النعم بل على الإنسان وحده ثانيها أنه بيان فضل الله تعالى على الإنسان حيث بين أنه خلق من أصل كثيف كدر وخلق الجان من أصل لطيف وجعل الإنسان أفضل من الجان فإنه إذا نظر إلى أصله علم أنه ما نال الشرف إلا بفضل الله تعالى فكيف يكذب بآلاء الله ثالثها أن الآية مذكورة لبيان القدرة لا لبيان النعمة وكأنه تعالى لما بين النعم الثمانية التي ذكرها في أول السورة فكأنه ذكر الثمانية لبيان خروجها عن العدد الكثير الذي هو سبعة ودخولها في الزيادة التي يدل عليها الثمانية كما بينا وقلنا إن العرب عند الثامن تذكر الواو إشارة إلى أن الثامن من جنس آخر فبعد تمام السبعة الأول

شرع في بيان قدرته الكاملة وقال هو الذي خلق الإنسان من تراب والجان من نار ( فبأي آلاء ) الكثيرة المذكورة التي سبقت من السبعة والتي دلت عليها الثامنة ( تكذبان ) وإذا نظرت إلى ما دلت عليه الثمانية وإلى قوله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يظهر لك صحة ما ذكر أنه بين قدرته وعظمته ثم يقول فبأي تلك الآلاء التي عددتها أولاً تكذبان وسنذكر تمامه عند تلك الآيات
ثم قال تعالى
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه وجوه أولها مشرق الشمس والقمر ومغربهما والبيان حينئذ في حكم إعادة ما سبق مع زيادة لأنه تعالى لما قال الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( الرحمن 5 ) دل على أن لهما مشرقين ومغربين ولما ذكر خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ ( الرحمن 3 4 ) دل على أنه مخلوق من شيء فبين أنه الصلصال الثاني مشرق الشتاء ومشرق الصيف فإن قيل ما الحكمة في اختصاصهما مع أن كل يوم من ستة أشهر للشمس مشرق ومغرب يخالف بعضها البعض نقول غاية انحطاط الشمس في الشتاء وغاية ارتفاعها في الصيف والإشارة إلى الطرفين تتناول ما بينهما فهو كما يقول القائل في وصف ملك عظيم له المشرق والمغرب ويفهم أن له ما بينهما أيضاً الثالث التثنية إشارة إلى النوعين الحاصرين كما بينا أن كل شيء فإنه ينحصر في قسمين فكأنه قال رب مشرق الشمس ومشرق غيرها فهما مشرقان فتناول الكل أو يقال مشرق الشمس والقمر وما يغرض إليهما العاقل من مشرق غيرهما فهو تثنية في معنى الجمع
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق الآية بما قبلها فنقول لما ذكر تعالى المشرق والمغرب وهما حركتان في الفلك ناسب ذلك ذكر البحرين لأن الشمس والقمر يجريان في الفلك كما يجري الإنسان في البحر قال تعالى وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) فذكر البحرين عقيب المشرقين والمغربين ولأن المشرقين والمغربين فيهما إشارة إلى البحر لانحصار البر والبحر بين المشرق والمغرب لكن البر كان مذكوراً بقوله تعالى وَالاْرْضَ وَضَعَهَا ( الرحمن 10 ) فذكر ههنا مالم يكن مذكوراً المسألة الثانية مَرَجَ إذا كان متعدياً كان بمعنى خلط أو ما يقرب منه فكيف قال تعالى مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ ( الرحمن 15 ) ولم يقل من ممروج نقول مرج متعد ومرج بكسر الراء لازم فالمارج والمريج من مرج يمرج كفرح يفرح والأصل في فعل أن يكون غريزياً والأصل في الغريزي أن يكون لازماً ويثبت له حكم الغريزي وكذلك فعل في كثير من المواضع
المسألة الثالثة في البحرين وجوه أحدها بحر السماء وبحر الأرض ثانيها البحر الحلو والبحر المالح كما قال تعالى وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ هَاذَا عَذَابِ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ هَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ( فاطر 12 ) وهو أصح وأظهر من

الأول ثالثها ما ذكر في المشرقين وفي قوله تُكَذّبَانِ إنه إشارة إلى النوعين الحاصرين فدخل فيه بحر السماء وبحر الأرض والبحر العذب والبحر المالح رابعها أنه تعالى خلق في الأرض بحاراً تحيط بها الأرض وببعض جزائرها يحيط الماء وخلق بحراً محيطاً بالأرض وعليه الأرض وأحاط به الهواء كما قال به أصحاب علم الهيئة وورد به أخبار مشهورة وهذه البحار التي في الأرض لها اتصال بالبحر المحيط ثم إنهما لا يبغيان على الأرض ولا يغطيانها بفضل الله تعالى لتكون الأرض بارزة يتخذها الإنسان مكاناً وعند النظر إلى أمر الأرض يحار الطبيعي ويتلجلج في الكلام فإن عندهم موضع الأرض بطبعه أن يكون في المركز ويكون الماء محيطاً بجميع جوانبه فإذا قيل لهم فكيف ظهرت الأرض من الماء ولم ترسب يقولون لانجذاب البحار إلى بعض جوانبها فإن قيل لماذا انجذب فالذي يكون عنده قليل من العقل يرجع إلى الحق ويجعله بإرادة الله تعالى ومشيئته والذي يكون عديم العقل يجعل سببه من الكواكب وأوضاعها واختلاف مقابلاتها وينقطع في كل مقام مرة بعد أخرى وفي آخر الأمر إذا قيل له أوضاع الكواكب لم اختلفت على الوجه الذي أوجب البرد في بعض الأرض دون بعض آخر صار كما قال تعالى فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ ( البقرة 258 ) ويرجع إلى الحق إن هداه الله تعالى
المسألة الرابعة إذا كان المرج بمعنى الخلط فما الفائدة في قوله تعالى يَلْتَقِيَانِ نقول قوله تعالى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسل بعضهما في بعض وهما عند الإرسال بحيث يلتقيان أو من شأنهما الاختلاط والالتقاء ولكن الله تعالى منعهما عما في طبعهما وعلى هذا يلتقيان حال من البحرين ويحتمل أن يقال من محذوف تقديره تركهما فهما يلتقيان إلى الآن ولا يمتزجان وعلى الأول فالفائدة إظهار القدرة في النفع فإنه إذا أرسل الماءين بعضهما على بعض وفي طبعهما بخلق الله وعادته السيلان والالتقاء ويمنعهما البرزخ الذي هو قدرة الله أو بقدرة الله يكون أدل على القدرة مما إذا لم يكونا على حال يلتقيان وفيه إشارة إلى مسألة حكمية وهي أن الحكماء اتفقوا على أن الماء له حيز واحد بعضه ينجذب إلى بعض كأجزاء الزئبق غير أن عند الحكماء المحققين ذلك بإجراء الله تعالى ذلك عليه وعند من يدعي الحكمة ولم يوفقه الله من الطبيعيين يقول ذلك له بطبعه فقوله يَلْتَقِيَانِ أي من شأنهما أن يكون مكانهما واحداً ثم إنهما بقيا في مكان متميزين فذلك برهان القدرة والاختيار وعلى الوجه الثاني الفائدة في بيان القدرة أيضاً على المنع من الاختلاط فإن الماءين إذا تلاقيا لا يمتزجان في الحال بل يبقيان زماناً يسيراً كالماء المسخن إذا غمس إناء مملوء منه في ماء بارد إن لم يمكث فيه زماناً لا يمتزج بالبارد لكن إذا دام مجاورتهما فلا بد من الامتزاج فقال تعالى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خلاهما ذهاباً إلى أن يلتقيان ولا يمتزجان فذلك بقدرة الله تعالى
ثم قال تعالى بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ إشارة إلى ما ذكرنا من منعه إياهما من الجريان على عادتهما والبرزخ الحاجز وهو قدرة الله تعالى في البعض وبقدرة الله في الباقي فإن البحرين قد يكون بينهما حاجز أرضي محسوس وقد لا يكون وقوله لاَّ يَبْغِيَانِ فيه وجهان أحدهما من البغي أي لا يظلم أحدهما على الآخر بخلاف قول الطبيعي حيث يقول الماءآن كلاهما جزء واحد فقال هما لا يَبْغِيَانِ ذلك وثانيهما أن يقال لا يبغيان من البغي بمعنى الطلب أي لا يطلبان شيئاً وعلى هذا ففيه وجه آخر وهو أن يقال إن يبغيان لا مفعول له معين بل هو بيان أنهما لا يبغيان في ذاتهما ولا يطلبان شيئاً أصلاً بخلاف ما يقول الطبيعي أنه يطلب الحركة والسكون في موضع عن موضع

ثم قال تعالى
يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ فَبِأَى ِّ ءَالاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في القراءات التي فيها قرىء يخرج من خرج ويخرج بفتح الراء من أخرج وعلى الوجهين فاللؤلؤ والمرجان مرفوعان ويخرج بكسر الراء بمعنى يخرج الله ونخرج بالنون المضمومة والراء المكسورة وعلى القراءتين ينصب اللؤلؤ والمرجان اللؤلؤ كبار الدر والمرجان صغاره وقيل المرجان هو الحجر الأحمر
المسألة الثانية اللؤلؤ لا يخرج إلا من المالح فكيف قال مِنْهُمَا نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن ظاهر كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس الذي لا يوثق بقوله ومن علم أن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من المالح وما وجدوه إلا فيه لكن لا يلزم من هذا أن لا يوجد في الغير سلمنا لم قلتم أن الصدف يخرج بأمر الله من الماء العذب إلى الماء المالح وكيف يمكن الجزم والأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم ثانيهما أن نقول إن صح قولهم في اللؤلؤ إنه لا يخرج إلا من البحر المالح فنقول فيه وجوه أحدها أن الصدف لا يتولد فيه اللؤلؤ إلا من المطر وهو بحر السماء ثانيها أنه يتولد في ملتقاهما ثم يدخل الصدف في المالح عند انعقاد الدر فيه طالباً للملوحة كالمتوحمة التي تشتهي الملوحة أوائل الحمل فيثقل هناك فلا يمكنه الدخول في العذب ثالثها أن ما ذكرتم إنما كان يرد أن لو قال يخرج من كل واحد منهما فأما على قوله يَخْرُجُ مِنْهُمَا لا يرد إذ الخارج من أحدهما مع أن أحدهما مبهم خارج منهما كما قال تعالى وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ( نوح 16 ) يقال فلان خرج من بلاد كذا ودخل في بلاد كذا ولم يخرج إلا من موضع من بيت من محلة في بلدة رابعها أن ( من ) ليست لابتداء شيء كما يقال خرجت الكوفة بل لابتداء عقلي كما يقال خلق آدم من تراب ووجدت الروح من أمر الله فكذلك اللؤلؤ يخرج من الماء أي منه يتولد
المسألة الثالثة أي نعمة عظيمة في اللؤلؤ والمرجان حتى يذكرهما الله مع نعمة تعلم القرآن وخلق الإنسان وفي الجواب قولان الأول أن نقول النعم منها خلق الضروريات كالأرض التي هي مكاننا ولولا الأرض لما أمكن وجود التمكين وكذلك الرزق الذي به البقاء ومنها خلق المحتاج إليه وإن لم يكن ضرورياً كأنواع الحبوب وإجراء الشمس والقمر ومنها النافع وإن لم يكن محتاجاً إليه كأنواع الفواكه وخلق البحار من ذلك كما قال تعالى وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ( البقرة 164 ) ومنها الزينة وإن لم يكن نافعاً كاللؤلؤ والمرجان كما قال تعالى وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَة ً تَلْبَسُونَهَا ( فاطر 12 ) فالله تعالى ذكر أنواع النعم الأربعة التي تتعلق بالقوى الجسمانية وصدرها بالقوة العظيمة التي هي الروح وهي العلم بقوله عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 2 ) والثاني أن نقول هذه بيان عجائب الله تعالى لا بيان النعم والنعم قد تقدم ذكرها هنا وذلك لأن خلق الإنسان من صلصال وخلق الجان من نار من باب العجائب لا من باب النعم ولو خلق الله الإنسان من أي شيء خلقه لكان إنعاماً إذا عرفت هذا فنقول الأركان أربعة التراب والماء والهواء والنار فالله تعالى

بين بقوله خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ ( الرحمن 14 ) أن الإنسان خلقه من تراب وطين وبين بقوله خُلِقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ ( الرحمن 15 ) أن النار أيضاً أصل لمخلوق عجيب وبين بقوله يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ أن الماء أصل لمخلوق آخر كالحيوان عجيب بقي الهواء لكنه غير محسوس فلم يذكر أنه أصل مخلوق بل بين كونه منشأ للجواري في البحر كالأعلام فقال
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالاٌّ عْلَامِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في جعل الجواري خاصة له وله السموات وما فيها والأرض وما عليها نقول هذا الكلام مع العوام فذكر مالا يغفل عنه من له أدنى عقل فضلاً عن الفاضل الذكي فقال لا شك أن الفلك في البحر لا يملكه في الحقيقة أحد إذ لا تصرف لأحد في هذا الفلك وإنما كلهم منتظرون رحمة الله تعالى معترفون بأن أموالهم وأرواحهم في قبضة قدرة الله تعالى وهم في ذلك يقولون لك الفلك ولك الملك وينسبون البحر والفلك إليه ثم إذا خرجوا ونظروا إلى بيوتهم المبنية بالحجارة والكلس وخفي عليهم وجوه الهلاك يدعون مالك الفلك وينسبون ما كانوا ينسبون البحر والفلك إليه وإليه الإشارة بقوله فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ ( العنكبوت 65 ) الآية
المسألة الثانية ( الجواري ) جمع جارية وهي اسم للسفينة أو صفة فإن كانت اسماً لزم الاشتراك والأصل عدمه وإن كانت صفة الأصل أن تكون الصفة جارية على الموصوف ولم يذكر الموصوف هنا فنقول الظاهر أن تكون صفة للتي تجري ونقل عن الميداني أن الجارية السفينة التي تجري لما أنها موضوعة للجري وسميت المملوكة جارية لأن الحرة تراد للسكن والازدواج والمملوكة لتجري في الحوائج لكنها غلبت السفينة لأنها في أكثر أحوالها تجري ودل العقل على ما ذكرنا من أن السفينة هي التي تجري غير أنها غلبت بسبب الاشتقاق على السفينة الجارية ثم صار يطلق عليها ذلك وإن لم تجر حتى يقال للسفينة الساكنة أو المشدودة على ساحل البحر جارية لما أنها تجري وللملوكة الجالسة جارية للغلبة ترك الموصوف وأقيمت الصفة مقامه فقوله تعالى وَلَهُ الْجَوَارِ أي السفن الجاريات على أن السفينة أيضاً فعيلة من السفن وهو النحت وهي فعيلة بمعنى فاعلة عند ابن دريد أي تسفن الماء أو فعيلة بمعنى مفعولة عند غيره بمعنى منحوتة فالجارية والسفينة جاريتان على الفلك وفيه لطيفة لفظية وهي أن الله تعالى لما أمر نوحاً عليه السلام باتخاذ السفينة قال وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ( هود 37 ) ففي أول الأمر قال لها الفلك لأنها بعد لم تكن جرت ثم سماها بعدما عملها سفينة كما قال تعالى فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَة ِ ( العنكبوت 15 ) وسماها جارية كما قال تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَة ِ ( الحاقة 11 ) وقد عرفنا أمر الفلك وجريها وصارت كالمسماة بها فالفلك قبل الكل ثم السفينة ثم الجارية
المسألة الثالثة ما معنى المنشآت نقول فيه وجهان أحدهما المرفوعات من نشأت السحابة إذا ارتفعت وأنشأ الله إذا رفعه وحينئذ إما هي بأنفسها مرتفعة في البحر وإما مرفوعات الشراع وثانيهما المحدثات الموجودات من أنشأ الله المخلوق أي خلقه فإن قيل الوجه الثاني بعيد لأن قوله فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ

متعلق بالمنشآت فكأنه قال وله الجواري التي خلقت في البحر كالأعلام وهذا غير مناسب وأما على الأول فيكون كأنه قال الجواري التي رفعت في البحر كالأعلام وذلك جيد والدليل على صحة ما ذكرنا أنك تقول الرجل الجريء في الحرب كالأسد فيكون حسناً ولو قلت الرجل العالم بدل الجريء في الحرب كالأسد لا يكون كذلك نقول إذا تأملت فيما ذكرنا من كون الجارية صفة أقيمت مقام الموصوف كان الإنشاء بمعنى الخلق لا ينافي قوله فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ لأن التقدير حينئذ له السفن الجارية في البحر كالأعلام فيكون أكثر بياناً للقدرة كأنه قال له السفن التي تجري في البحر كالأعلام أي كأنها الجبال والجبال لا تجري إلا بقدرة الله تعالى فالأعلام جمع العلم الذي هو الجبل وأما الشراع المرفوع كالعلم الذي هو معروف فلا عجب فيه وليس العجب فيه كالعجب في جري الجبل في الماء وتكون المنشآت معروفة كما أنك تقول الرجل الحسن الجالس كالقمر فيكون متعلق قولك كالقمر الحسن لا الجالس فيكون منشأ للقدرة إذ السفن كالجبال والجبال لا تجري إلا بقدرة الله تعالى
المسألة الرابعة قرىء المنشآت بكسر الشين ويحتمل حينئذ أن يكون قوله الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ يقوم مقام الجملة والجواري معرفة ولا توصف المعارف بالجمل فلا نقول الرجل كالأسد جاءني ولا الرجل هو أسد جاءني وتقول رجل كالأسد جاءني ورجل هو أسد جاءني فلا تحمل قراءة الفتح إلا على أن يكون حالاً وهو على وجهين أحدهما أن تجعل الكاف اسماً فيكون كأنه قال الجواري المنشآت شبه الأعلام ثانيهما يقدر حالاً هذا شبهه كأنه يقول كالأعلام ويدل عليه قوله فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ( هود 42 )
المسألة الخامسة في جمع الجواري وتوحيد البحر وجمع الأعلام فائدة عظيمة وهي أن ذلك إشارة إلى عظمة البحر ولو قال في البحار لكانت كل جارية في بحر فيكون البحر دون بحر يكون فيه الجواري التي هي كالجبال وأما إذا كان البحر واحداً وفيه الجواري التي هي كالجبال يكون ذلك بحراً عظيماً وساحله بعيداً فيكون الإنجاء بقدرة كاملة
ثم قال تعالى
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ
وفيه وجهان أحدهما وهو الصحيح أن الضمير عائد إلى الأرض وهي معلومة وإن لم تكن مذكورة قال تعالى وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ ( فاطر 45 ) الآية وعلى هذا فله ترتيب في غاية الحسن وذلك لأنه تعالى لما قال وَلَهُ الْجَوَارِ ( الرحمن 24 ) إشارة إلى أن كل أحد يعرف ويجزم بأنه إذا كان في البحر فروحه وجسمه وماله في قبضة الله تعالى فإذا خرج إلى البر ونظر إلى الثبات الذي للأرض والتمكن الذي له فيها ينسى أمره فذكره وقال لا فرق بين الحالتين بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وكل من على وجه الأرض فإنه كمن على وجه الماء ولو أمعن العاقل النظر لكان رسوب الأرض الثقيلة في الماء الذي هي عليه أقرب إلى العقل من رسوب الفلك الخفيفة فيه الثاني أن الضمير عائد إلى الجارية إلا أنه بضرورة ما قبلها كأنه تعالى قال الجواري ولا شك في أن كل من فيها إلى الفناء أقرب فكيف يمكنه إنكار كونه في ملك الله تعالى وهو لا يملك لنفسه في تلك الحالة نفعاً ولا ضراً وقوله تعالى فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإكْرَامِ ( الرحمن 27 ) يدل على أن الصحيح الأول وفيه مسائل

المسألة الأولى مِنْ للعقلاء وكل ما على وجه الأرض مع الأرض فان فما فائدة الاختصاص بالعقلاء نقول المنتفع بالتخويف هو العاقل فخصه تعالى بالذكر
المسألة الثانية الفاني هو الذي فنى وكل من عليها سيفنى فهو باق بعد ليس بفان نقول كقوله إِنَّكَ مَيّتٌ ( الزمر 30 ) وكما يقال للقريب إنه واصل وجواب آخر وهو أن وجود الإنسان عرض وهو غير باق وما ليس بباق فهو فان فأمر الدنيا بين شيئين حدوث وعدم أما البقاء فلا بقاء له لأن البقاء استمرار ولا يقال هذا تثبيت بالمذهب الباطل الذي هو القول بأن الجسم لا يبقى زمانين كما قيل في العرض لأنا نقول قوله مِنْ بدل قوله ( ما ) ينفي ذلك التوهم لأني قلت ( من عليها فان ) لا بقاء له وما قلت ما عليها فان ومن مع كونه على الأرض يتناول جسماً قام به أعراض بعضها الحياة والأعراض غير باقية فالمجموع لم يبق كما كان وإنما الباقي أحد جزأيه وهو الجسم وليس يطلق عليه بطريق الحقيقة لفظة ( من ) فالفاني ليس ما عليها وما عليها ليس بباق
المسألة الثالثة ما الفائدة في بيان أنه تعالى قال فَانٍ نقول فيه فوائد منها الحث على العبادة وصرف الزمان اليسير إلى الطاعة ومنها المنع من الوثوق بما يكون للمرء فلا يقول إذا كان في نعمة إنها لن تذهب فيترك الرجوع إلى الله معتمداً على ماله وملكه ومنها الأمر بالصبر إن كان في ضر فلا يكفر بالله معتمداً على أن الأمر ذاهب والضر زائل ومنها ترك اتخاذ الغير معبوداً والزجر على الاغترار بالقرب من الملوك وترك التقرب إلى الله تعالى فإن أمرهم إلى الزوال قريب فيبقى القريب منهم عن قريب في ندم عظيم لأنه إن مات قبلهم يلقى الله كالعبد الآبق وإن مات الملك قبله فيبقى بين الخلق وكل أحد ينتقم منه ويتشفى فيه ويستحي ممن كان يتكبر عليه وإن ماتا جميعاً فلقاء الله عليه بعد التوفي في غاية الصعوبة ومنها حسن التوحيد وترك الشرك الظاهر والخفي جميعاً لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد
ثم قال تعالى
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى الوجه يطلق على الذات والمجسم يحمل الوجه على العضو وهو خلاف العقل والنقل أعني القرآن لأن قوله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) يدل على أن لا يبقى إلا وجه الله تعالى فعلى القول الحق لا إشكال فيه لأن المعنى لا يبقى غير حقيقة الله أو غير ذات الله شيء وهو كذلك وعلى قول المجسم يلزم أن لا تبقى يده التي أثبتها ورجله التي قال بها لا يقال فعلى قولكم أيضاً يلزم أن لا يبقى علم الله ولا قدرة الله لأن الوجه جعلتموه ذاتاً والذات غير الصفات فإذا قلت كل شيء هالك إلا حقيقة الله خرجت الصفات عنها فيكون قولكم نفياً للصفات نقول الجواب عنه بالعقل والنقل أما النقل فذلك أمر يذكر في غير هذا الموضع وأما العقل فهو أن قول القائل لم يبق لفلان إلا ثوب يتناول الثوب وما قام به من اللون والطول والعرض وإذا قال لم يبق إلا كمه لا يدل على بقاء جيبه وذيله فكذلك قولنا يبقى ذات الله تعالى يتناول صفاته وإذا قلتم لا يبقى غير وجهه بمعنى العضو يلزمه أن لا تبقى يده
المسألة الثانية فما السبب في حسن إطلاق لفظ الوجه على الذات نقول إنه مأخوذ من عرف الناس

فإن الوجه يستعمل في العرف لحقيقة الإنسان ألا ترى أن الإنسان إذا رأى وجه غيره يقول رأيته وإذا رأى غير الوجه من اليد والرجل مثلاً لا يقول رأيته وذلك لأن اطلاع الإنسان على حقائق الأشياء في أكثر الأمر يحصل بالحس فإن الإنسان إذا رأى شيئاً علم منه مالم يكن يعلم حال غيبته لأن الحس لا يتعلق بجميع المرئي وإنما يتعلق ببعضه ثم إن الحس يدرك والحدس يحكم فإذا رأى شيئاً بحسه يحكم عليه بأمر بحدسه لكن الإنسان اجتمع في وجهه أعضاء كثيرة كل واحد يدل على أمر فإذا رأى الإنسان وجه الإنسان حكم عليه بأحكام ما كان يحكم بها لولا رؤيته وجهه فكان أدل على حقيقة الإنسان وأحكامه من غيره فاستعمل الوجه في الحقيقة في الإنسان ثم نقل إلى غيره من الأجسام ثم نقل لي ما ليس بجسم يقال في الكلام هذا وجه حسن وهذا وجه ضعيف وقول من قال إن الوجه من المواجهة كما هو المسطور في البعض من الكتب الفقهية فليس بشيء إذ الأمر على العكس لأن الفعل من المصدر والمصدر من الاسم الأصلي وإن كان بالنقل فالوجه أول ما وضع للعضو ثم استعمل واشتق منه غيره ويعرف ذلك العارف بالتصريف البارع في الأدب
المسألة الثالثة لو قال ويبقى ربك أو الله أو غيره فحصلت الفائدة من غير وقوع في توهم ما هو ابتدع نقول ما كان يقوم مقام الوجه لفظ آخر ولا وجه فيه إلا ما قاله الله تعالى وذلك لأن سائر الأسماء المعروفة لله تعالى أسماء الفاعل كالرب والخالق والله عند البعض بمعنى المعبود فلو قال ويبقى ربك ربك وقولنا ربك معنيان عند الاستعمال أحدهما أن يقال شيء من كل ربك ثانيهما أن يقال يبقى ربك مع أنه حالة البقاء ربك فيكون المربوب في ذلك الوقت وكذلك لو قال يبقى الخالق والرازق وغيرهما
المسألة الرابعة ما الحكمة في لفظ الرب وإضافة الوجه إليه وقال في موضع آخر فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( البقرة 115 ) وقال يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ( الروم 38 ) نقول المراد في الموضعين المذكورين هو العبادة أما قوله فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فظاهر لأن المذكور هناك الصلاة وأما قوله يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فالمذكور هو الزكاة قال تعالى من قبل فَئَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ( الروم 38 ) ذَلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ( الروم 38 ) ولفظ الله يدل على العبادة لأن الله هو المعبود والمذكور في هذا الموضع النعم التي بها تربية الإنسان فقال وَجْهُ رَبّكَ
المسألة الخامسة الخطاب بقوله رَبَّكَ مع من نقول الظاهر أنه مع كل أحد كأنه يقول ويبقى وجه ربك أيها السامع ويحتمل أن يكون الخطاب مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن قيل فيكف قال فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ خطاباً مع الإثنين وقال وَجْهُ رَبّكَ خطاباً مع الواحد نقول عند قوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ وقعت الإشارة إلى فناء كل أحد وبقاء الله فقال وجه ربك أي يا أيها السامع فلا تلتفت إلى أحد غير الله تعالى فإن كل من عداه فان والمخاطب كثيراً ما يخرج عن الإرادة في الكلام فإنك إذا قلت لمن يشكو إليك من أهل موضع سأعاقب لأجلك كل من في ذلك الموضع يخرج المخاطب عن الوعيد وإن كان من أهل الموضع فقال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ليعلم كل أحد أن غيره فان ولو قال وجه ربكما لكان كل واحد يخرج نفسه ورفيقه المخاطب من الفناء فإن قلت لو قال ويبقى وجه الرب من غير خطاب كان أدل على فناء الكل نقول كأن الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف والإبقاء إشارة إلى القهر والموضع موضع بيان اللطف

وتعديد النعم فلو قال بلفظ الرب لم يدل عليه الخطاب وفي لفظ الرب عادة جارية وهي أنه لا يترك استعماله مع الإضافة فالعبد يقول ربنا اغفر لنا ورب اغفر لي والله تعالى يقول رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ ( الدخان 8 ) و رَبّ الْعَالَمِينَ ( الفاتحة 2 ) وحيث ترك الإضافة ذكره مع صفة أخرى من أوصاف اللفظ حيث قال تعالى بَلْدَة ٌ طَيّبَة ٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( سبأ 15 ) وقال تعالى سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( ي س 58 ) ولفظ الرب يحتمل أن يكون مصدراً بمعنى التربية يقال ربه يربه رباً مثل رباه يربيه ويحتمل أن يكون وصفاً من الرب الذي هو مصدر بمعنى الراب كالطب للطبيب والسمع للحاسة والبخل للبخيل وأمثال ذلك لكن من باب فعل وعلى هذا فيكون كأنه فعل من باب فعل يفعل أي فعل الذي للغريزي كما يقال فيما إذا قلنا فلان أعلم وأحكم فكان وصفاً له من باب فعل اللازم ليخرج عن التعدي
المسألة السادسة الْجَلْالِ إشارة إلى كل صفة من باب النفي كقولنا الله ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولهذا يقال جل أن يكون محتاجاً وجل أن يكون عاجزاً والتحقيق فيه أن الجلال هو بمعنى العظمة غير أن العظمة أصلها في القوة والجلال في الفعل فهو عظيم لا يسعه عقل ضعيف فجل أن يسعه كل فرض معقول وَالإكْرَامِ إشارة إلى كل صفة هي من باب الإثبات كقولنا حي قادر عالم وأما السميع والبصير فإنهما من باب الإثبات كذلك عند أهل السنة وعند المعتزلة من باب النفي وصفات باب النفي قبل صفات باب الإثبات عندنا لأنا أولاً نجد الدليل وهو العالم فنقول العالم محتاج إلى شيء وذلك الشيء ليس مثل العالم فليس بمحدث ولا محتاج ولا ممكن ثم نثبت له القدرة والعلم وغيرهما ومن هنا قال تعالى لعباده لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ ( الصافات 35 ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) ونفي الإلهية عن غير الله نفي صفات غير الله عن الله فإنك إذا قلت الجسم ليس بإله لزم منه قولك الله ليس بجسم و ( الجلال والإكرام ) وصفان مرتبان على أمرين سابقين فالجلال مرتب على فناء الغير والإكرام على بقائه تعالى فيبقى الفرد وقد عز أن يحد أمره بفناء من عداه وما عداه ويبقى وهو مكرم قادر عالم فيوجد بعد فنائهم من يريد وقرىء ذُو الْجَلْالِ و ذِى الْجَلَالِ وسنذكر ما يتعلق به في تفسير آخر السورة إن شاء الله تعالى
ثم قال تعالى
يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأرض كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه وجهان أحدهما أنه حال تقديره يبقى وجه ربك مسئولاً وهذا منقول معقول وفيه إشكال وهو أنه يفضي إلى التناقض لأنه لما قال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ( الرحمن 27 ) كان إشارة إلى بقائه بعد فناء من على الأرض فكيف يكون في ذلك الوقت مسئولاً لمن في الأرض فأما إذا قلنا الضمير عائد إلى ( الأمور ) الجارية ( في يومنا ) فلا إشكال في هذا الوجه وأما على الصحيح فنقول عنه أجوبة أحدها لما بينا أنه فان نظراً إليه ولا يبقى إلا بإبقاء الله فيصح أن يكون الله مسئولاً ثانيها أن يكون مسئولاً معنى لا حقيقة لأن الكل إذا فنوا ولم يكن وجود إلا بالله فكأن القوم فرضوا سائلين بلسان الحال ثالثها أن قوله وَيَبْقَى للاستمرار فيبقى ويعيد من كان في الأرض ويكون مسئولاً والثاني أنه ابتداء كلام وهو أظهر وفيه مسائل

المسألة الأولى ماذا يسأله السائلون فنقول يحتمل وجوهاً أحدها أنه سؤال استعطاء فيسأله كل أحد الرحمة وما يحتاج إليه في دينه ودنياه ثانيها أنه سؤال استعلام أي عنده علم الغيب لا يعلمه إلا هو فكل أحد يسأله عن عاقبة أمره وعما فيه صلاحه وفساده فإن قيل ليس كل أحد يعترف بجهله وعلم الله نقول هذا كلام في حقيقة الأمر من جاهل فإن كان من جاهل معاند فهو في الوجه الأول أيضاً وارد فإن من المعاندين من لا يعترف بقدرة الله فلا يسأله شيئاً بلسانه وإن كان يسأله بلسان حاله لإمكانه والوجه الأول إشارة إلى كمال القدرة أي كل أحد عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه والوجه الثاني إشارة إلى كمال العلم أي كل أحد جاهل بما عند الله من المعلومات ثالثها أن ذلك سؤال استخراج أمر وقوله مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي من الملائكة يسألونه كل يوم ويقولون إلهنا ماذا نفعل وبماذا تأمرنا وهذا يصلح جواباً آخر عن الإشكال على قول من قال يسأله حال لأنه يقول قال تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( الرحمن 26 ) ومن عليها تكون الأرض مكانه ومعتمده ولولاها لا يعيش وأما من فيها من الملائكة الأرضية فهم فيها وليسوا عليها ولا تضرهم زلزلتها فعندما يفنى من عليها ويبقى الله تعالى لا يفنى هؤلاء في تلك الحال فيسألونه ويقولون ماذا نفعل فيأمرهم بما يأمرهم ويفعلون ما يؤمرون ثم يقول لهم عندما يشاء موتوا فيموتوا هذا على قول من قال يَسْأَلُهُ حال وعلى الوجه الآخر لا إشكال
المسألة الثانية هو عائد إلى من نقول الظاهر المشهور أنه عائد إلى الله تعالى وعليه اتفاق المفسرين ويدل عليه ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سئل عن ذلك الشأن فقال ( يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع من يشاء ويضع من يشاء ) ويحتمل أن يقال هو عائد إلى يوم و كُلَّ يَوْمٍ ظرف سؤالهم أي يقع سؤالهم في كل يوم وهو في شأن يكون جملة وصف بها يوم وهو نكرة كما يقال يسألني فلان كل يوم هو يوم راحتي أي يسألني أيام الراحة وقوله هُوَ فِى شَأْنٍ يكون صفة مميزة للأيام التي فيها شأن عن اليوم الذي قال تعالى فيه لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ( غافر 16 ) فإنه تعالى في ذلك اليوم يكون هو السائل وهو المجيب ولا يسأل في ذلك اليوم لأنه ليس يوماً هو في شأن يتعلق بالسائلين من الناس والملائكة وغيرهم وإنما يسألونه في يوم هو في شأن يتعلق بهم فيطلبون ما يحتاجون إليه أو يستخرجون أمره بما يفعلون فيه فإن قيل فهذا ينافي ما ورد في الخبر نقول لا منافاة لقوله عليه السلام في جواب من قال ما هذا الشأن فقال ( يغفر ذنباً ( ويفرج كرباً ) ) أي فالله تعالى جعل بعض الأيام موسومة بوسم يتعلق بالخلق من مغفرة الذنوب والتفريج عن المكروب فقال تعالى يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ في تلك الأيام التي في ذلك الشأن وجعل بعضها موسومة بأن لا داعي فيها ولا سائل وكيف لا نقول بهذا ولو تركنا كل يوم على عمومه لكان كل يوم فيه فعل وأمر وشأن فيفضي ذلك إلى القول بالقدم والدوام اللهم إلا أن يقال عام دخله التخصيص كقوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 ) و تُدَمّرُ كُلَّ شَى ْء ( الأحقاف 25 )
المسألة الثالثة فعلى المشهور يكون الله تعالى في كل يوم ووقت في شأن وقد جف القلم بما هو كائن نقول فيه أجوبة منقولة في غاية الحسن فلا نبخل بها وأجوبة معقولة نذكرها بعدها أما المنقولة فقال بعضهم المراد سوق المقادير إلى المواقيت ومعناه أن القلم جف بما يكون في كل ( يوم و ) وقت فإذا جاء ذلك الوقت تعلقت إرادته بالفعل فيه فيوجد وهذا وجه حسن لفظاً ومعنى وقال بعضهم شؤون يبديها لا

شؤون يبتديها وهو مثل الأول معنى أي لا يتغير حكمه بأنه سيكون ولكن يأتي وقت قدر الله فيه فعله فيبدو فيه ما قدره الله وهذان القولان ينسبان إلى الحسن بن الفضل أجاب بهما عبد الله بن طاهر وقال بعضهم يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويشفي سقيماً ويمرض سليماً ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً إلى غير ذلك وهو مأخوذ من قوله عليه السلام ( يغفر ذنباً ويفرج كرباً ) وهو أحسن وأبلغ حيث بين أمرين أحدهما يتعلق بالآخرة والآخر بالدنيا وقدم الأخروي على الدنيوي وأما المعقولة فهي أن نقول هذا بالنسبة إلى الخلق ومن يسأله من أهل السموات والأرض لأنه تعالى حكم بما أراد وقضى وأبرم فيه حكمه وأمضى غير أن ما حكمه يظهر كل يوم فنقول أبرم الله اليوم رزق فلان ولم يرزقه أمس ولا يمكن أن يحيط علم خلقه بما أحاط به علمه فتسأله الملائكة كل يوم إنك يا إلهنا في هذا اليوم في أي شأن في نظرنا وعلمنا الثاني هو أن الفعل يتحقق بأمرين من جانب الفاعل بأمر خاص ومن جانب المفعول في بعض الأمور ولا يمكن غيره وعلى وجه يختاره الفاعل من وجوه متعددة مثال الأول تحريك الساكن لا يمكن إلا بإزالة السكون عنه والإتيان بالحركة عقيبه من غير فصل ومثال الثاني تسكين الساكن فإنه يمكن مع إبقاء السكون فيه ومع إزالته عقيبه من غير فصل أو مع فصل إذ يمكن أن يزيل عنه السكون ولا يحركه مع بقاء الجسم إذا عرفت هذا فالله تعالى خلق الأجسام الكثيرة في زمان واحد وخلق فيها صفات مختلفة في غير ذلك الزمان فإيجادها فيه لا في زمان آخر بعد ذلك الزمان فمن خلقه فقيراً في زمان لم يمكن خلقه غنياً في عين ذلك الزمان مع خلقه فقيراً فيه وهذا ظاهر والذي يظن أن ذلك يلزم منه العجز أو يتوهم فليس كذلك بل العجز في خلاف ذلك لأنه لو خلقه فقيراً في زمان يريد كونه غنياً لما وقع الغنى فيه مع أنه أراده فيلزم العجز من خلاف ما قلنا لا فيما قلنا فإذن كل زمان هو غير الزمان الآخر فهو معنى قوله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ وهو المراد من قول المفسرين أغنى فقيراً وأفقر غنياً وأعز ذليلاً وأذل عزيزاً إلى غير ذلك من الأضداد ثم اعلم أن الضدين ليسا منحصرين في مختلفين بل المثلان في حكمهما فإنهما لا يجتمعان فمن وجد فيه حركة إلى مكان في زمان لا يمكن أن توجد فيه في ذلك الزمان حركة أخرى أيضاً إلى ذلك المكان وليس شأن الله مقتصراً على إفقار غنى أو إغناء فقير في يومنا دون إفقاره أو إغنائه أمس ولا يمكن أن يجمع في زيد إغناء هو أمسي مع إغناء هو يومي فالغنى المستمر للغني في نظرنا في الأمر متبدل الحال فهو أيضاً من شأن الله تعالى واعلم أن الله تعالى يوصف بكونه لا يشغله شأن عن شأن ومعناه أن الشأن الواحد لا يصير مانعاً له تعالى عن شأن آخر كما أنه يكون مانعاً لنا مثاله واحد منا إذا أراد تسويد جسم بصبغة يسخنه بالنار أو تبييض جسم يبرده بالماء والماء والنار متضادان إذا طلب منه أحدهما وشرع فيه يصير ذلك مانعاً له من فعل الآخر وليس ذلك الفعل مانعاً من الفعل لأن تسويد جسم وتبييض آخر لا تنافي بينهما وكذلك تسخينه وتسويده بصبغة لا تنافي فيه فالفعل صار مانعاً للفاعل من فعله ولم يصر مانعاً من الفعل وفي حق الله مالا يمنع الفعل لا يمنع الفاعل فيوجد تعالى من الأفعال المختلفة مالا يحصر ولا يحصى في آن واحد أما ما يمنع من الفعل كالذي يسود جسماً في آن لم يمكنه أن يبيضه في ذلك الآن فهو قد يمنع الفاعل أيضاً وقد لا يمنع ولكن لا بد من منعه للفاعل فالتسويد لا يمكن معه التبييض والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن أصلاً لكن أسبابه تمنع أسباباً آخر لا تمنع الفاعل إذا علمت هذا البحث فقد أفادك

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
التحقيق في قوله تعالى سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ولنذكر أولاً ما قيل فيه تبركاً بأقوال المشايخ ثم نحققه بالبيان الشافي فنقول اختلف المفسرون فيه وأكثرهم على أن المراد سنقصدكم بالفعل وقال بعضهم خرج ذلك مخرج التهديد على ما هي عادة استعمال الناس فإن السيد يقول لعبده عند الغضب سأفرغ لك وقد يكون السيد فارغاً جالساً لا يمنعه شغل وأما التحقيق فيه فنقول عدم الفراغ عبارة عن أن يكون الفاعل في فعل لا يمكنه معه إيجاد فعل آخر فإن من يخيط يقول ما أنا بفارغ للكتابة لكن عدم الفراغ قد يكون لكون أحد الفعلين مانعاً للفاعل من الفعل الآخر يقال هو مشغول بكذا عن كذا كما في قول القائل أنا مشغول بالخياطة عن الكتابة وقد يكون عدم الفراغ لكون الفعل مانعاً من الفعل لا لكونه مانعاً من الفاعل كالذي يحرك جسماً في زمان لا يمكن تسكينه في ذلك الزمان فهو ليس بفارغ للتسكين ولكن لا يقال في مثل هذا الوقت أنا مشغول بالتحريك عن التسكين فإن في مثل هذا الموضع لو كان غير مشغول به بل كان في نفس المحل حركة لا بفعل ذلك الفاعل لا يمكنه التسكين فليس امتناعه منه إلا لاستحالته بالتحريك وفي الصورة الأولى لولا اشتغاله بالخياطة لتمكن من الكتابة إذا عرفت هذا صار عدم الفراغ قسمين أحدهما بشغل والآخر ليس بشغل فنقول إذا كان الله تعالى باختياره أوجد الإنسان وأبقاه مدة أرادها بمحض القدرة والإرادة لا يمكن مع هذا إعدامه فهو في فعل لا يمنع الفاعل لكن يمنع الفعل ومثل هذا بينا أنه ليس بفراغ وإن كان له شغل فإذا أوجد ما أراد أولاً ثم بعد ذلك أمكن الإعدام والزيادة في آنه فيتحقق الفراغ لكن لما كان للإنسان مشاهدة مقتصرة على أفعال نفسه وأفعال أبناء جنسه وعدم الفراغ منهم بسبب الشغل يظن أن الله تعالى فارغ فحمل الخلق عليه أنه ليس بفارغ فيلزم منه الفعل وهو لا يشغله شأن عن شأن يلزمه حمل اللفظ على غير معناه واعلم أن هذا ليس قولاً آخر غير قول المشايخ بل هو بيان لقولهم سنقصدكم غير أن هذا مبين والحمد لله على أن هدانا للبيان من غير خروج عن قول أرباب اللسان واعلم أن أصل الفراغ بمعنى الخلو لكن ذلك إن كان في المكان فيتسع ليتمكن آخر وإن كان في الزمان فيتسع للفعل فالأصل أن زمان الفاعل فارغ عن فعله وغير فارغ لكن المكان مرئي بالخلو فيه فيطلق الفراغ على خلو المكان في الظرف الفلاني والزمان غير مرئي فلا يرى خلوه ويقال فلان في زمان كذا فارغ لأن فلاناً هو المرئي لا الزمان والأصل أن هذا الزمان من أزمنة فلان فارغ فيمكنه وصفه للفعل فيه وقوله تعالى سَنَفْرُغُ لَكُمْ استعمال على ملاحظة الأصل لأن المكان إذا خلا يقال لكذا ولا يقال إلى كذا فكذلك الزمان لكن لما نقل إلى الفاعل وقيل الفاعل على فراغ وهو عند الفراغ يقصد إلى شيء آخر قيل في الفاعل فرغ من كذا إلى كذا وفي الظرف يقال فرغ من كذا لكذا فقال لكم على ملاحظة الأصل وهو يقوي ما ذكرنا أن المانع ليس بالنسبة إلى الفعل بل بالنسبة إلى الفعل وأما أَيُّهَ فنقول الحكمة في نداء المبهم والإتيان بالوصف بعده هي أن المنادي يريد صون كلامه عن الضياع فيقول أولاً يا أي نداء لمبهم ليقبل عليه كل من يسمع ويتنبه لكلامه من يقصده ثم عند إقبال السامعين يخصص المقصود فيقول الرجل والتزم فيه أمران أحدهما الوصف بالمعرف باللام أو باسم الإشارة فتقول يا أيها الرجل أو يا أيهذا لا الأعرف منه وهو العلم لأن بين المبهم الواقع على كل جنس والعلم المميز عن كل شخص تباعداً وثانيهما توسط ها التنبيه بينه وبين

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66