كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

المال كالدفع عن النفس والثاني لا يجوز لأن حرمة الزوج أعظم أما القتال المحظور فإنه لا تجوز فيه صلاة الخوف لأن هذا رخصة والرخصة إعانة والعاصي لا يستحق الإعانة أما الخوف الحاصل لا في القتال كالهارب من الحرق والغرق والسبع وكذا المطالب بالدين إذا كان معسراً خائفاً من الحبس عاجزاً عن بينة الإعسار فلهم أن يصلوا هذه الصلاة لأن قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ مطلق يتناول الكل
فإن قيل قوله فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا يدل على أن المراد منه الخوف من العدو حال المقاتلة
قلنا هب أنه كذلك إلا أنه لما ثبت هناك دفعاً للضرر وهذا المعنى قائم ههنا فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعاً والله أعلم
المسألة الرابعة روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال فرض الله على لسان نبيكم الصلاة في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة والجمهور على أن الواجب في الحضر أربع وفي السفر ركعتان سواء كان في الخوف أو لم يكن وأن قول ابن عباس متروك
أما قوله تعالى فَإِذَا أَمِنتُمْ فالمعنى بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم وفيه قولان الأول فاذكروا بمعنى فافعلوا الصلاة كما علمكم بقوله حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَواة ِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( البقرة 238 ) وكما بينه بشروطه وأركانه لأن سبب الرخصة إذا زال عاد الوجوب فيه كما كان من قبل والصلاة قد تسمى ذكراً لقوله تعالى فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( الجمعة 9 )
والقول الثاني فَاذْكُرُواْ اللَّهَ أي فاشكروه لأجل إنعامه عليكم بالأمن طعن القاضي في هذا القول وقال إن هذا الذكر لما كان معلقاً بشرط مخصوص وهو حصول الأمن بعد الخوف لم يكن حمله على ذكر يلزم مع الخوف والأمن جميعاً على حد واحد ومعلوم أن مع الخوف يلزم الشكر كما يلزم مع الأمن لأن في كلا الحالين نعمة الله تعالى متصلة والخوف ههنا من جهة الكفار لا من جهته تعالى فالواجب حمل قوله تعالى فَاذْكُرُواْ اللَّهَ على ذكر يختص بهذه الحالة
والقول الثالث أنه دخل تحت قوله فَاذْكُرُواْ اللَّهَ الصلاة والشكر جميعاً لأن الأمن بسبب الشكر محدد يلزم فعله مع فعل الصلاة في أوقاتها
أما قوله تعالى كَمَا عَلَّمَكُم فبيان إنعامه علينا بالتعليم والتعريف وأن ذلك من نعمه تعالى ولولا هدايته لم نصل إلى ذلك ثم إن إصحابنا فسروا هذا التعليم بخلق العلم والمعتزلة فسروه بوضع الدلائل وفعل الألطاف وقوله تعالى مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ إشارة إلى ما قبل بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من زمان الجهالة والضلالة
الحكم السابع عشر
الوفاة

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّة ً لازْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِى مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وَصِيَّة ٍ بالرفع والباقون بالنصب أما الرفع ففيه أقوال الأول أن قوله وَصِيَّة ٍ مبتدأ وقوله لاّزْوَاجِهِم خبر وحسن الابتداء بالنكرة لأنها متخصصة بسبب تخصيص الموضع كما حسن قوله سلام عليكم وخبر بين يدي والثاني أن يكون قوله وَصِيَّة ً لاّزْوَاجِهِم مبتدأ ويضمر له خبر والتقدير فعليهم وصية لأزواجهم ونظيره قوله فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( البقرة 237 ) فَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ ( النساء 92 ) فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ ( المائدة 89 ) والثالث تقدير الآية الأمر وصية أو المفروض أو الحكم وصية وعلى هذا الوجه أضمرنا المبتدأ والرابع تقدير الآية كتب عليكم وصية والخامس تقديره ليكون منكم وصية والسادس تقدير الآية ووصية الذين يتوفون منكم وصية إلى الحول وكل هذه الوجوه جائزة حسنة وأما قراءة النصب ففيها وجوه الأول تقدير الآية فليوصوا وصية والثاني تقديرها توصون وصية كقولك إنما أنت سير البريد أي تسير سير البريد الثالث تقديرها ألزم الذين يتوفون وصية
أما قوله تعالى مَّتَاعًا ففيه وجوه الأول أن يكون على معنى متعوهن متاعاً فيكون التقدير فليوصوا لهن وصية وليمتعوهن متاعاً الثاني أن يكون التقدير جعل الله لهن ذلك متاعاً لأن ما قبل الكلام يدل على هذا الثالث أنه نصب على الحال
أما قوله غَيْرَ إِخْرَاجٍ ففيه قولان الأول أنه نصب بوقوعه موقع الحال كأنه قال متعوهن مقيمات غير مخرجات والثاني انتصب بنزع الخافض أراد من غير إخراج
المسألة الثانية في هذه الآية ثلاثة أقوال الأول وهو اختيار جمهور المفسرين أنها منسوخة قالوا كان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل لم يكن لامرأته من ميراثه شيء إلا النفقة والسكنى سنة وكان الحول عزيمة عليها في الصبر عن التزوج ولكنها كانت مخيرة في أن تعتد إن شاءت في بيت الزوج وإن شاءت خرجت قبل الحول لكنها متى خرجت سقطت نفقتها هذا جملة ما في هذه الآية لأنا إن قرأنا وَصِيَّة ٍ بالرفع كان المعنى فعليهم وصية وإن قرأناها بالنصب كان المعنى فليوصوا وصية وعلى القراءتين هذه الوصية واجبة ثم إن هذه الوصية صارت مفسرة بأمرين أحدهما المتاع والنفقة إلى الحول والثاني السكنى إلى الحول ثم أنزل تعالى أنهن إن خرجن فلا جناح عليكم في ذلك فثبت أن هذه الآية توجب أمرين أحدهما وجوب النفقة والسكنى من مال الزوج سنة والثاني وجوب الاعتداد سنة لأن وجوب السكنى والنفقة من مال الميت سنة توجب المنع من التزوج بزوج آخر في هذه السنة ثم إن الله تعالى نسخ هذين الحكمين أما الوصية بالنفقة والسكنى فلأن القرآن دل على ثبوت الميراث لها والسنة دلت على أنه لا وصية لوارث فصار مجموع القرآن والسنة ناسخاً للوصية للزوجة بالنفقة والسكنى في الحول وأما وجوب العدة في الحول فهو منسوخ بقوله يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( البقرة 234 ) فهذا القول هو الذي اتفق عليه أكثر المتقدمين والمتأخرين من المفسرين

القول الثاني وهو قول مجاهد أن الله تعالى أنزل في عدة المتوفى عنها زوجها آيتين أحدهما ما تقدم وهو قوله يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا والأخرى هذه الآية فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين فنقول إنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها كانت عدتها أربعة أشهر وعشراً على ما في تلك الآية المتقدمة وأما إن اختارت السكنى في دار زوجها والأخذ من ماله وتركته فعدتها هي الحول وتنزيل الآيتين على هذين التقديرين أولى حتى يكون كل واحد منهما معمولاً به
القول الثالث وهو قول أبي مسلم الأصفهاني أن معنى الآية من يتوفى منكم ويذرون أزواجاً وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهن فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة قال والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولاً كاملاً وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول فبين الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب وعلى هذا التقدير فالنسخ زائل واحتج على قوله بوجوه أحدها أن النسخ خلاف الأصل فوجب المصير إلى عدمه بقدر الإمكان الثاني أن يكون الناسخ متأخراً عن المنسوخ في النزول وإذا كان متأخراً عنه في النزول كان الأحسن أن يكون متأخراً عنه في التلاوة أيضاً لأن هذا الترتيب أحسن فأما تقدم الناسخ على المنسوخ في التلاوة فهو وإن كان جائزاً في الجملة إلا أنه يعد من سوء الترتيب وتنزيه كلام الله تعالى عنه واجب بقدر الإمكان ولما كانت هذه الآية متأخرة عن تلك التلاوة كان الأولى أن لا يحكم بكونها منسوخة بتلك
الوجه الثالث وهو أنه ثبت في علم أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين النسخ وبين التخصيص كان التخصيص أولى وههنا إن خصصنا هاتين الآيتين بالحالتين على ما هو قول مجاهد اندفع النسخ فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل وأما على قول أبي مسلم فالكلام أظهر لأنكم تقولون تقدير الآية فعليهم وصية لأزواجهم أو تقديرها فليوصوا وصية فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى وأبو مسلم يقول بل تقدير الآية والذين يتوفون منكم ولهم وصية لأزواجهم أو تقديرها وقد أوصوا وصية لأزواجهم فهو يضيف هذا الكلام إلى الزوج وإذا كان لا بد من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضماره ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكرتم يلزم تطرق النسخ إلى الآية وعند هذا يشهد كل عقل سليم بأن إضمار أبي مسلم أولى من إضماركم وأن التزام هذا النسخ التزام له من غير دليل مع ما في القول بهذا النسخ من سوء الترتيب الذي يجب تنزيه كلام الله تعالى عنه وهذا كلام واضح
وإذا عرفت هذا فنقول هذه الآية من أولها إلى آخرها تكون جملة واحدة شرطية فالشرط هو قوله وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا وَصِيَّة ً لاّزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فهذا كله شرط والجزاء هو قوله فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ فهذا تقرير قول أبي مسلم وهو في غاية الصحة
المسألة الثالثة المعتدة عن فرقة الوفاة لا نفقة لها ولا كسوة حاملاً كانت أو حائلاً وروي عن علي عليه السلام وابن عمر رضي الله عنهما أن لها النفقة إذا كانت حاملاً وعن جابر وابن عباس رضي الله عنهم

أنهما قالا لا نفقة لها حسبها الميراث وهل تستحق السكنى فيه قولان أحدهما لا تستحق السكنى وهو قول علي عليه السلام وابن عباس وعائشة ومذهب أبي حنيفة واختيار المزني والثاني تستحق وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود وأم سلمة رضي الله عنهم وبه قال مالك والثوري وأحمد وبناء القولين على خبر فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري قتل زوجها قالت فسألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إني أرجع إلى أهلي فإن زوجي ما تركني في منزل يملكه فقال عليه السلام نعم فانصرفت حين إذا كنت في المسجد أو في الحجرة دعاني فقال امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله واختلفوا في تنزيل هذا الحديث قيل لم يوجب في الابتداء ثم أوجب فصار الأول منسوخاً وقيل أمرها بالمكث في بيتها أمراً على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب واحتج المزني رحمه الله على أنه لا سكنى لها فقال أجمعنا على أنه لا نفقة لها لأن الملك انقطع بالموت فكذلك السكنى بدليل أنهم أجمعوا على أن من وجب له نفقة وسكنى من والد وولد على رجل فمات انقطعت نفقتهم وسكناهم لأن ماله صار ميراثاً للورثة فكذا ههنا
أجاب الأصحاب فقالوا لا يمكن قياس السكنى على النفقة لأن المطلقة الثلاث تستحق السكنى بكل حال ولا تستحق النفقة لنفسها عند المزني ولأن النفقة وجبت في مقابلة التمكين من الاستمتاع ولا يمكن ههنا وأما السكنى فوجبت لتحصين النساء وهو موجود ههنا فافترقا
إذا عرفت هذا فنقول القائلون بأن هذه الآية منسوخة لا بد وأن يختلف قولهم بسبب هذه المسألة وذلك لأن هذه الآية توجب النفقة والسكنى أما وجوب النفقة فقد صار منسوخاً وأما وجوب السكنى فهل صار منسوخاً أم لا والكلام فيه ما ذكرناه
المسألة الرابعة القائلون بأن هذه الوصية كانت واجبة أوردوا على أنفسهم سؤالاً فقالوا الله تعالى ذكر الوفاة ثم أمر بالوصية فكيف يوصي المتوفي وأجابوا عنه بأن المعنى والذين يقاربون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا فالوفاة عبارة عن الإشراف عليها وجواب آخر وهو أن هذه الوصية يجوز أن تكون مضافة إلى الله تعالى بمعنى أمره وتكليفه كأنه قيل وصية من الله لأزواجهم كقوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ ( النساء 11 ) وإنما يحسن هذا المعنى على قراءة من قرأ بالرفع
أما قوله تعالى فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فالمعنى لا جناح عليكم يا أولياء الميت فيما فعلن في أنفسهن من التزين ومن الإقدام على النكاح وفي رفع الجناح وجهان أحدهما لا جناح في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول والثاني لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج لأن مقامها حولاً في بيت زوجها ليس بواجب عليها
الحكم الثامن عشر
في المطلقات

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
يروى أن هذه الآية إنما نزلت لأن الله تعالى لما أنزل قوله تعالى وَمَتّعُوهُنَّ إلى قوله حَقّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ( البقرة 236 ) قال رجل من المسلمين إن أردت فعلت وإن لم أرد لم أفعل فقال تعالى وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ يعني على كل من كان متقياً عن الكفر واعلم أن المراد من المتاع ههنا فيه قولان أحدهما أنه هو المتعة فظاهر هذه الآية يقتضي وجوب هذه المتعة لكل المطلقات فمن الناس من تمسك بظاهر هذه الآية وأوجب المتعة لجميع المطلقات وهو قول سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري قال الشافعي رحمه الله تعالى لكل مطلقة إلا المطلقة التي فرض لها مهر ولم يوجد في حقها المسيس وهذه المسألة قد ذكرناها في تفسير قوله تعالى وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ ( البقرة 236 )
فإن قيل لم أعيد ههنا ذكر المتعة مع أن ذكرها قد تقدم في قوله وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ
قلنا هناك ذكر حكماً خاصاً وههنا ذكر حكماً عاماً
والقول الثاني أن المراد بهذه المتعة النفقة والنفقة قد تسمى متاعاً وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى وههنا آخر الآيات الدالة على الأحكام والله أعلم
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
اعلم أن عادته تعالى في القرآن أن يذكر بعد بيان الأحكام القصص ليفيد الاعتبار السامع ويحمله ذلك الاعتبار على ترك التمرد والعناد ومزيد الخضوع والانقياد فقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ أما قوله أَلَمْ تَرَ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الرؤية قد تجىء بمعنى رؤية البصيرة والقلب وذلك راجع إلى العلم كقوله وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ( البقرة 128 ) معناه علمنا وقال لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ( النساء 105 ) أي علمك ثم إن هذا اللفظ قد يستعمل فيما تقدم للمخاطب العلم به وفيما لا يكون كذلك فقد يقول الرجل لغيره يريد تعريفه ابتداء ألم تر إلى ما جرى على فلان فيكون هذا ابتداء تعريف فعلى هذا يجوز أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يعرف هذه القصة إلا بهذه الآية ويجوز أن نقول كان العلم بها سابقاً على نزول هذه

الآية ثم إن الله تعالى أنزل هذه الآية على وفق ذلك العلم
المسألة الثانية هذا الكلام ظاهره خطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أنه لا يبعد أن يكون المراد هو وأمته إلا أنه وقع الابتداء بالخطاب معه كقوله تعالى الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( الطلاق 1 )
المسألة الثالثة دخول لفظة إِلَى في قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يحتمل أن يكون لأجل أن إِلَى عندهم حرف للانتهاء كقولك من فلان إلى فلان فمن علم بتعليم معلم فكأن ذلك المعلم أوصل ذلك المتعلم إلى ذلك المعلوم وأنهاه إليه فحسن من هذا الوجه دخول حرف إِلَى فيه ونظيره قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ ( الفرقان 45 )
أما قوله إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ ففيه روايات أحدها قال السدي كانت قرية وقع فيها الطاعون وهرب عامة أهلها والذين بقوا مات أكثرهم وبقي قوم منهم في المرض والبلاء ثم بعد ارتفاع المرض والطاعون رجع الذين هربوا سالمين فقال من بقي من المرضى هؤلاء أحرص منا لو صنعنا ما صنعوا لنجونا من الأمراض والآفات ولئن وقع الطاعون ثانياً خرجنا فوقع وهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفاً فلما خرجوا من ذلك الوادي ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه أن موتوا فهلكوا وبليت أجسامهم فمر بهم نبي يقال له حزقيل فلما رآهما وقف عليهم وتفكر فيهم فأوحى الله تعالى إليه أتريد أن أريك كيف أحييهم فقال نعم فقيل له ناد أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى تمت العظام ثم أوحى الله إليه ناد يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً ودماً فصارت لحماً ودماً ثم قيل ناد إن الله يأمرك أن تقومي فقامت فلما صاروا أحياء قاموا وكانوا يقولون ( سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت ) ثم رجعوا إلى قريتهم بعد حياتهم وكانت أمارات أنهم ماتوا ظاهرة في وجوههم ثم بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم
الرواية الثانية قال ابن عباس رضي الله عنهما إن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال فخافوا القتال وقالوا لملكهم إن الأرض التي نذهب إليها فيها الوباء فنحن لا نذهب إليها حتى يزول ذلك الوباء فأماتهم الله تعالى بأسرهم وبقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا وبلغ بني إسرائيل موتهم فخرجوا لدفنهم فعجزوا من كثرتهم فحظروا عليهم حظائر فأحياهم الله بعد الثمانية وبقي فيهم شيء من ذلك النتن وبقي ذلك في أولادهم إلى هذا اليوم واحتج القائلون بهذا القول بقوله تعالى عقيب هذه الآية وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( البقرة 190 )
والرواية الثالثة أن حزقيل النبي عليه السلام ندب قومه إلى الجهاد فكرهوا وجبنوا فأرسل الله عليهم الموت فلما كثر فيهم خرجوا من ديارهم فراراً من الموت فلما رأى حزقيل ذلك قال اللهم إله يعقوب وإله موسى ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم تدلهم على نفاذ قدرتك وأنهم لا يحرجون عن قبضتك فأرسل الله عليهم الموت ثم إنه عليه السلام ضاق صدره بسبب موتهم فدعا مرة أخرى فأحياهم الله تعالى
أما قوله تعالى وَهُمْ أُلُوفٌ ففيه قولان الأول أن المراد منه بيان العدد واختلفوا في مبلغ

عددهم قال الواحدي رحمه الله ولم يكونوا دون ثلاثة آلاف ولا فوق سبعين ألفاً والوجه من حيث اللفظ أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف لأن الألوف جمع الكثرة ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف
والقول الثاني أن الألوف جمع آلاف كقعود وقاعد وجلوس وجالس والمعنى أنهم كانوا مؤتلفي القلوب قال القاضي الوجه الأول أولى لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة يفيد مزيد اعتبار بحالهم لأن موت جمع عظيم دفعة واحدة لا يتفق وقوعه يفيد اعتباراً عظيماً فأما ورود الموت على قوم بينهم ائتلاف ومحبة كوروده وبينهم اختلاف في أن وجه الاعتبار لا يتغير ولا يختلف
ويمكن أن يجاب عن هذا السؤال بأن المراد كون كل واحد منهم آلفاً لحياته محباً لهذه الدنيا فيرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ ( البقرة 96 ) ثم إنهم مع غاية حبهم للحياة والفهم بها أماتهم الله تعالى وأهلكهم ليعلم أن حرص الإنسان على الحياة لا يعصمه من الموت فهذا القول على هذا الوجه ليس في غاية البعد
أما قوله حَذَرَ الْمَوْتِ فهو منصوب لأنه مفعول له أي لحذر الموت ومعلوم أن كل أحد يحذر الموت فلما خص هذا الموضع بالذكر علم أن سبب الموت كان في تلك الواقعة أكثر إما لأجل غلبة الطاعون أو لأجل الأمر بالمقاتلة
أما قوله تعالى فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ففي تفسير قَالَ اللَّهُ وجهان الأول أنه جار مجرى قوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) وقد تقدم أنه ليس المراد منه إثبات قول بل المراد أنه تعالى متى أراد ذلك وقع من غير منع وتأخير ومثل هذا عرف مشهور في اللغة ويدل عليه قوله ثُمَّ أَحْيَاهُمْ فإذا صح الإحياء بالقول فكذا القول في الإماتة
والقول الثاني أنه تعالى أمر الرسول أن يقول لهم موتوا وأن يقول عند الإحياء ما رويناه عن السدي ويحتمل أيضاً ما رويناه من أن الملك قال ذلك والقول الأول أقرب إلى التحقيق
أما قوله تعالى ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى الآية دالة على أنه تعالى أحياهم بعد أن ماتوا فوجب القطع به وذلك لأنه في نفسه جائر والصادق أخبر عن وقوعه فوجب القطع بوقوعه أما الإمكان فلأن تركب الأجزاء على الشكل المخصوص ممكن وإلا لما وجد أولاً واحتمال تلك الأجزاء للحياة ممكن وإلا لما وجد أولاً ومتى ثبت هذا فقد ثبت الإمكان وأما إن الصادق قد أخبر عنه ففي هذه الآية ومتى أخبر الصادق عن وقوع ما ثبت في العقل إمكان وقوعه وجب القطع به
المسألة الثانية قالت المعتزلة إحياء الميت فعل خارق للعادة ومثل هذا لا يجوز من الله تعالى إظهاره إلا عندما يكون معجزة لنبي إذ لو جاز ظهوره لا لأجل أن يكون معجزة لنبي لبطلت دلالته على النبوة وأما عند أصحابنا فإنه يجوز إظهار خوارق العادات لكرامة الولي ولسائر الأغراض فكأن هذا الحصر باطلاً ثم قالت المعتزلة وقد روي أن هذا الإحياء إنما وقع في زمان حزقيل النبي عليه السلام ببركة دعائه وهذا يحقق ما ذكرناه من أن مثل هذا لا يوجد إلا ليكون معجزة للأنبياء عليهم السلام وقيل حزقيل

هو ذو الكفل وإنما سمي بذلك لأنه تكفل بشأن سبعين نبياً وأنجاهم من القتل وقيل إنه عليه السلام مر بهم وهم موتى فجعل يفكر فيهم متعجباً فأوحى الله تعالى إليه إن أردت أحييتهم وجعلت ذلك الإحياء آية لك فقال نعم فأحياهم الله تعالى بدعائه
المسألة الثالثة أنه قد ثبت بالدلائل أن معارف المكلفين تصير ضرورية عند القرب من الموت وعند معاينة الأهوال والشدائد فهؤلاء الذين أماتهم الله ثم أحياهم لا يخلو إما أن يقال إنهم عاينوا الأهوال والأحوال التي معها صارت معارفهم ضرورية وإما ما شاهدوا شيئاً من تلك الأهوال بل الله تعالى أماتهم بغتة كالنوم الحادث من غير مشاهدة الأهوال البتة فإن كان الحق هو الأول فعندما أحياهم يمتنع أن يقال إنهم نسوا تلك الأهوال ونسوا ما عرفوا به ربهم بضرورة العقل لأن الأحوال العظيمة لا يجوز نسيانها مع كمال العقل فكان يجب أن تبقى تلك المعارف الضرورية معهم بعد الإحياء وبقاء تلك المعارف الضرورية يمنع من صحة التكليف كما أنه لا يبقى التكليف في الآخرة وإما أن يقال إنهم بقوا بعد الإحياء غير مكلفين وليس في الآية ما يمنع منه أو يقال إن الله تعالى حين أماتهم ما أراهم شيئاً من الآيات العظيمة التي تصير معارفهم عندها ضرورية وما كان ذلك الموت كموت سائر المكلفين الذين يعاينون الأهوال عند القرب من الموت والله أعلم بحقائق الأمور
المسألة الرابعة قال قتادة إنما أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم وهذا القول فيه كلام كثير وبحث طويل
أما قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ففيه وجوه أحدها أنه تفضل على أولئك الأقوام الذين أماتهم بسبب أنه أحياهم وذلك لأنهم خرجوا من الدنيا على المعصية فهو تعالى أعادهم إلى الدنيا ومكنهم من التوبة والتلافي وثانيها أن العرب الذين كانوا ينكرون المعاد كانوا متمسكين بقول اليهود في كثير من الأمور فلما نبه الله تعالى اليهود على هذه الواقعة التي كانت معلومة لهم وهم يذكرونها للعرب المنكرين للمعاد فالظاهر أن أولئك المنكرين يرجعون من الدين الباطل الذي هو الإنكار إلى الدين الحق الذي هو الإقرار بالبعث والنشور فيخلصون من العقاب ويستحقون الثواب فكان ذكر هذه القصة فضلاً من الله تعالى وإحساناً في حق هؤلاء المنكرين وثالثها أن هذه القصة تدل على أن الحذر من الموت لا يفيد فهذه القصة تشجع الإنسان على الإقدام على طاعة الله تعالى كيف كان وتزيل عن قلبه الخوف من الموت فكان ذكر هذه القصة سبباً لبعد العبد عن المعصية وقربه من الطاعة التي بها يفوز بالثواب العظيم فكان ذكر هذه القصة فضلاً وإحساناً من الله تعالى على عبده ثم قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ وهو كقوله فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ( الفرقان 50 )
وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
فيه قولان الأول أن هذا خطاب للذين أحيوا قال الضحاك أحياهم ثم أمرهم بأن يذهبوا إلى الجهاد لأنه تعالى إنما أماتهم بسبب أن كرهوا الجهاد

واعلم أن القول لا يتم إلا بإضمار محذوف تقديره وقيل لهم قاتلوا
والقول الثاني وهو اختيار جمهور المحققين أن هذا استئناف خطاب للحاضرين يتضمن الأمر بالجهاد إلا أنه سبحانه بلطفه ورحمته قدم على الأمر بالقتال ذكر الذين خرجوا من ديارهم لئلا ينكص عن أمر الله بحب الحياة بسبب خوف الموت وليعلم كل أحد أنه يترك القتال لا يثق بالسلامة من الموت كما قال في قوله قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( الأحزاب 16 ) فشجعهم على القتال الذي به وعد إحدى الحسنيين إما في العاجل الظهور على العدو أو في الآجل الفوز بالخلود في النعيم والوصول إلى ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين
أما قوله تعالى فِى سَبِيلِ اللَّهِ فالسبيل هو الطريق وسميت العبادات سبيلاً إلى الله تعالى من حيث أن الإنسان يسلكها ويتوصل إلى الله تعالى بها ومعلوم أن الجهاد تقوية للدين فكان طاعة فلا جرم كان المجاهد مقاتلاً في سبيل الله ثم قال وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي هو يسمع كلامكم في ترغيب الغير في الجهاد وفي تنفير الغير عنه وعليم بما في صدوركم من البواعث والأغراض وأن ذلك الجهاد لغرض الدين أو لعاجل الدنيا
مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة ً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله ثم أردفه بقوله مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا اختلف المفسرون فيه على قولين الاْوَّلِ أن هذه الآية متعلقة بما قبلها والمراد منها القرض في الجهاد خاصة فندب العاجز عن الجهاد أن ينفق على الفقير القادر على الجهاد وأمر القادر على الجهاد أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد ثم أكد تعالى ذلك بقوله وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وذلك لأن من علم ذلك كان اعتماده على فضل الله تعالى أكثر من اعتماده على ماله وذلك يدعوه إلى إنفاق المال في سبيل الله والاحتراز عن البخل بذلك الإنفاق
والقول الثاني أن هذا الكلام مبتدأ لا تعلق له بما قبله ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فمنهم من قال المراد من هذا القرض إنفاق المال ومنهم من قال إنه غيره والقائلون بأنه إنفاق المال لهم ثلاثة أقوال الأول أن المراد من الآية ما ليس بواجب من الصدقة وهو قول الأصم واحتج عليه بوجهين الأول أنه تعالى سماه بالقرض والقرض لا يكون إلا تبرعاً
الحجة الثانية سبب نزول الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت الآية في أبي الدحداح قال يا رسول الله إن لي حديقتين فإن تصدقت بإحداهما فهل لي مثلاها في الجنة قال نعم قال وأم الدحداح معي قال نعم قال والصبية معي قال نعم فتصدق بأفضل حديقته وكانت تسمى الحنينة قال

فرجع أبو الدحداح إلى أهله وكانوا في الحديقة التي تصدق بها فقام على باب الحديقة وذكر ذلك لامرأته فقالت أم الدحداح بارك الله لك فيما اشتريت فخرجوا منها وسلموها فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول كم من نخلة رداح تدلي عروقها في الجنة لأبي الدحداح
إذا عرفت سبب نزول هذه الآية ظهر أن المراد بهذا القرض ما كان تبرعاً لا واجباً
والقول الثاني أن المراد من هذا القرض الإنفاق الواجب في سبيل الله واحتج هذا القائل على قوله بأنه تعالى ذكر في آخر الآية وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وذلك كالزجر وهو إنما يليق بالواجب
والقول الثالث وهو الأقرب أنه يدخل فيه كلا القسمين كما أنه داخل تحت قوله مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ ( البقرة 261 ) من قال المراد من هذا القرض شيء سوى إنفاق المال قالوا روي عن بعض أصحاب ابن مسعود أنه قول الرجل ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ) قال القاضي وهذا بعيد لأن لفظ الإقراض لا يقع عليه في عرف اللغة ثم قال ولا يمكن حمل هذا القول على الصحة إلا أن نقول الفقير الذي لا يملك شيئاً إذا كان في قلبه أنه لو كان قادراً لأنفق وأعطى فحينئذٍ تكون تلك النية قائمة مقام الإنفاق وقد روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود فإنه له صدقة )
المسألة الثانية اختلفوا في أن إطلاق لفظ القرض على هذا الإنفاق حقيقة أو مجاز قال الزجاج إنه حقيقة وذلك لأن القرض هو كل ما يفعل ليجازى عليه تقول العرب لك عندي قرض حسن وسيء والمراد منه الفعل الذي يجازى عليه قال أمية بن أبي الصلت كل امرىء سوف يجزى قرضه حسنا
أو سيئاً أو مديناً كالذي دانا
ومما يدل على أن القرض ما ذكرناه أن القرض أصله في اللغة القطع ومنه القراض وانقرض القوم إذا هلكوا وذلك لانقطاع أثرهم فإذا أقرض فالمراد قطع له من ماله أو عمله قطعة يجازى عليها
والقول الثاني أن لفظ القرض ههنا مجاز وذلك لأن القرض هو أن يعطي الإنسان شيئاً ليرجع إليه مثله وههنا المنفق في سبيل الله إنما ينفق ليرجع إليه بدله إلا أنه جعل الاختلاف بين هذا الإنفاق وبين القرض من وجوه أحدها أن القرض إنما يأخذه من يحتاج إليه لفقره وذلك في حق الله تعالى محال وثانيها أن البدل في القرض المعتاد لا يكون إلا المثل وفي هذا الإنفاق هو الضعف وثالثها أن المال الذي يأخذه المستقرض لا يكون ملكاً له وههنا هذا المال المأخوذ ملك لله ثم مع حصول هذه الفروق سماه الله قرضاً والحكمة فيه التنبيه على أن ذلك لا يضيع عند الله فكما أن القرض يجب أداؤه لا يجوز الإخلال به فكذا الثواب الواجب على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة ويروى أنه لما نزلت هذه الآية قالت اليهود إن الله فقير ونحن أغنياء فهو يطلب منا القرض وهذا الكلام لائق بجهلهم وحمقهم لأن الغالب عليهم التشبيه ويقولون إن معبودهم شيخ قال القاضي من يقول في معبوده مثل هذا القول لا يستبعد منه أن يصفه بالفقر
فإن قيل فما معنى قوله تعالى مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ولأي فائدة جرى الكلام على طريق الاستفهام

قلنا إن ذلك في الترغيب في الدعاء إلى الفعل أقرب من ظاهر الأمر
أما قوله تعالى قَرْضًا حَسَنًا ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال الواحدي القرض في هذه الآية اسم لا مصدر ولو كان مصدراً لكان ذلك إقراضاً
المسألة الثانية كون القرض حسناً يحتمل وجوهاً أحدها أراد به حلالاً خالصاً لا يختلط به الحرام لأن مع الشبهة يقع الاختلاط ومع الاختلاط ربما قبح الفعل وثانيها أن لا يتبع ذلك الإنفاق مناً ولا أذى وثالثها أن يفعله على نية التقرب إلى الله تعالى لأن ما يفعل رياء وسمعة لا يستحق به الثواب
أما قوله تعالى فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله فَيُضَاعِفَهُ أربع قراءات أحدها قرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي فَيُضَاعِفَهُ بالألف والرفع والثاني قرأ عاصم فَيُضَاعِفَهُ بألف والنصب والثالث قرأ ابن كثير فيضعفه بالتشديد والرفع بلا ألف والرابع قرأ ابن عامر فيضعفه بالتشديد والنصب
فنقول أما التشديد والتخفيف فهما لغتان ووجه الرفع العطف على يقرض ووجه النصب أن يحمل الكلام على المعنى لا على اللفظ لأن المعنى يكون قرضاً فيضاعفه والاختيار الرفع لأن فيه معنى الجزاء وجواب الجزاء بالفاء لا يكون إلا رفعاً
المسألة الثانية التضعيف والإضعاف والمضاعفة واحد وهو الزيادة على أصل الشيء حتى يبلغ مثلين أو أكثر وفي الآية حذف والتقدير فيضاعف ثوابه
أما قوله تعالى لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة ً فمنهم من ذكر فيه قدراً معيناً وأجود ما يقال فيه إنه القدر المذكور في قوله تعالى مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ( البقرة 261 ) فيقال يحمل المجمل على المفسر لأن كلتا الآيتين وردتا في الإنفاق ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لم يقتصر في هذه الآية على التحديد بل قال بعده وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء ( البقرة 261 )
والقول الثاني وهو الأصح واختيار السدي أن هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو وكم هو وإنما أبهم تعالى ذلك لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود
أما قوله تعالى وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ففي بيان أن هذا كيف يناسب ما تقدم وجوه أحدها أن المعنى أنه تعالى لما كان هو القابض الباسط فإن كان تقدير هذا الذي أمر بإنفاق المال الفقر فلينفق المال في سبيل الله فإنه سواء أنفق أو لم ينفق فليس له إلا الفقر وإن كان تقديره الغنى فلينفق فإنه سواء أنفق أو لم ينفق فليس له إلا الغنى والسعة وبسط اليد فعلى كلا التقديرين يكون إنفاق المال في سبيل الله أولى وثانيها أن الإنسان إذا علم أن القبض والبسط بالله انقطع نظره عن مال الدنيا وبقي اعتماده على الله فحينئذٍ يسهل عليه إنفاق المال في سبيل مرضاة الله تعالى وثالثها أنه تعالى يوسع عن عباده ويقتر فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لئلا يبدل السعة الحاصلة لكم بالضيق ورابعها أنه تعالى لما أمرهم بالصدقة وحثهم عليها أخبر أنه لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه وإعانته فقال وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ يعني يقبض القلوب حتى لا

تقدم على هذه الطاعة ويبسط بعضها حتى يقدم على هذه الطاعة ثم قال وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ والمراد به إلى حيث لا حاكم ولا مدبر سواه والله أعلم
القصة الثانية
قصة طالوت
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِى إِسْرءِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِى ٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
الملأ الأشراف من الناس وهو اسم الجماعة كالقوم والرهط والجيش وجمعه أملاء قال الشاعر وقال لها الأملاء من كل معشر
وخير أقاويل الرجال سديدها
وأصلها من الملء وهم الذين يملأون العيون هيبة ورواء وقيل هم الذين يملأون المكان إذا حضروا وقال الزجاج الملأ الرؤساء سموا بذلك لأنهم يملأون القلوب بما يحتاج إليه من قولهم ملأ الرجل يملأ ملأة فهو ملى ء
قوله تعالى إِذَا قَالُواْ لِنَبِى ّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا في الآية مسائل
المسألة الأولى تعلق هذه الآية بما قبلها من حيث إنه تعالى لما فرض القتال بقوله وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( البقرة 190 ) ثم أمرنا بالإنفاق فيه لما له من التأثير في كمال المراد بالقتال ذكر قصة بني إسرائيل وهي أنهم لما أمروا بالقتال نكثوا وخالفوا فذمهم الله تعالى عليه ونسبهم إلى الظلم والمقصود منه أن لا يقدم المأمورون بالقتال من هذه الأمة على المخالفة وأن يكونوا مستمرين في القتال مع أعداء الله تعالى
المسألة الثانية لا شك أن المقصود الذي ذكرناه حاصل سواء علمنا أن النبي من كان من أولئك وأن أولئك الملأ من كانوا أو لم نعلم شيئاً من ذلك لأن المقصود هو الترغيب في باب الجهاد وذلك لا يختلف وإنما يعلم من ذلك النبي ومن ذلك الملأ بالخبر المتواتر وهو مفقود وأما خبر الواحد فإنه لا يفيد إلا الظن ومنهم من قال إنه يوشع بن نون بن افرايم بن يوسف والدليل عليه قوله تعالى مِن بَعْدِ مُوسَى وهذا ضعيف لأن قوله مِن بَعْدِ مُوسَى كما يحتمل الاتصال يحتمل الحصول من بعد زمان ومنهم من قال كان اسم ذلك النبي أشمويل من بني هرون واسمه بالعربية إسماعيل وهو قول الأكثرين وقال

السدي هو شمعون سمته أمه بذلك لأنها دعت الله تعالى أن يرزقها ولداً فاستجاب الله تعالى دعاءها فسمته شمعون يعني سمع دعاءها فيه والسين تصير شيناً بالعبرانية وهو من ولد لاوى بن يعقوب عليه السلام
المسألة الثالثة قال وهب والكلبي إن المعاصي كثرت في بني إسرائيل والخطايا عظمت فيهم ثم غلب عليهم عدو لهم فسبى كثيراً من ذراريهم فسألوا نبيهم ملكاً تنتظم به كلمتهم ويجتمع به أمرهم ويستقيم حالهم في جهاد عدوهم وقيل تغلب جالوت على بني إسرائيل وكان قوام بني إسرائيل بملك يجتمعون عليه يجاهد الأعداء ويجري الأحكام ونبي يطيعه الملك ويقيم أمر دينهم ويأتيهم بالخبر من عند ربهم
أما قوله نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فاعلم أنه قرىء نُّقَاتِلْ بالنون والجزم على الجواب وبالنون والرفع على أنه حال أي ابعثه لنا مقدرين القتال أو استئناف كأنه قيل ما تصنعون بالملك قالوا نقاتل وقرىء بالياء والجزم على الجواب وبالرفع على أنه صفة لقوله مَلَكًا أما قوله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَن لا تُقَاتِلُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحده عَسَيْتُمْ بكسر السين ههنا وفي سورة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) واللغة المشهورة فتحها ووجه قراءة نافع ما حكاه ابن الأعرابي أنهم يقولون هو عسى بكذا وهذا يقوي عَسَيْتُمْ بكسر السين ألا ترى أن عسى بكذا مثل حري وشحيح وطعن أبو عبيدة في هذه القراءة فقال لو جاز ذلك لجاز عَسَى رَبُّكُمْ أجاب أصحاب نافع عنه من وجهين الأول أن الياء إذا سكنت وانفتح ما قبلها حصل في التلفظ بها نوع كلفة ومشقة وليست الياء من عَسَى كذلك لأنها وإن كانت في الكتابة ياء إلا أنها في اللفظ مدة وهي خفيفة فلا تحتاج إلى خفة أخرى
والجواب الثاني هب أن القياس يقتضي جواز عَسَى رَبُّكُمْ إلا أنا ذكرنا أنهما لغتان فله أن يأخذ باللغتين فيستعمل إحداهما في موضع والأخرى في موضع آخر
المسألة الثانية خبر هَلْ عَسَيْتُمْ وهو قوله أَن لا تُقَاتِلُواْ والشرط فاصل بينهما والمعنى هل قاربتم أن تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال فأدخل هَلُ مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون وأراد بالاستفهام التقرير وثبت أن المتوقع كائن له وأنه صائب في توقعه كقوله تعالى هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ معناه التقرير ثم إنه تعالى ذكر أن القوم قالوا وَمَا لَنَا أَن لا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وهذا يدل على ضمان قوي خصوصاً واتبعوا ذلك بعلة قوية توجب التشدد في ذلك وهو قولهم وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا لأن من بلغ منه العدو هذا المبلغ فالظاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوه ومقاتلته
فإن قيل المشهور إنه يقال مالك تفعل كذا ولا يقال مالك أن تفعل كذا قال تعالى مَالَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( نوح 13 ) وقال وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( الحديد 8 )
والجواب من وجهين الأول وهو قول المبرد أن مَا في هذه الآية جحد لا استفهام كأنه قال ما لنا نترك القتال وعلى هذا الطريق يزول السؤال

الوجه الثاني أن نسلم أن مَا ههنا بمعنى الاستفهام ثم على هذا القول وجوه الأول قال الأخفش أن ههنا زائدة والمعنى ما لنا لا نقاتل وهذا ضعيف لأن القول بثبوت الزيادة في كلام الله خلاف الأصل الثاني قال الفراء الكلام ههنا محمول على المعنى لأن قولك مالك لا تقاتل معناه ما يمنعك أن تقاتل فلما ذهب إلى معنى المنع حسن إدخال أن فيه قال تعالى مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ ( ص 75 ) وقال مَالِكَ أَن لا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ( الحجر 32 ) الثالث قال الكسائي معنى وَمَا لَنَا أَن لا نُّقَاتِلْ أي شيء لنا في ترك القتال ثم سقطت كلمة فِى ورجح أبو علي الفارسي قول الكسائي على قول الفراء قال وذلك لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر والتقدير ما يمنعنا من أن نقاتل إذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين ثم على قول الكسائي يبقى اللفظ مع هذا الإضمار على ظاهره وعلى قول الفراء لا يبقى فكان قول الكسائي لا محالة أولى وأقوى
أما قوله فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ فاعلم أن في الكلام محذوفاً تقديره فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فتولوا
أما قوله إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ فهم الذين عبروا منهم النهر وسيأتي ذكرهم وقيل كان عدد هذا القليل ثلثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ أي هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف ربه ولم يف بما قيل من ربه وهذا هو الذي يدل على تعلق هذه الآية بقوله قبل ذلك وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فكأنه تعالى أكد وجوب ذلك بأن ذكر قصة بني إسرائيل في الجهاد وعقب ذلك بأن من تقدم على مثله فهو ظالم والله أعلم بما يستحقه الظالم وهذا بين في كونه زجراً عن مثل ذلك في المستقبل وفي كونه بعثاً على الجهاد وأن يستمر كل مسلم على القيام بذلك والله أعلم
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَة ً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَة ً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
اعلم أنه لما بين في الآية الأولى أنه أجابهم إلى ما سألوا ثم إنهم تولوا فبين أن أول ما تولوا إنكارهم إمرة طالوت وذلك لأنهم طلبوا من نبيهم أن يطلب من الله أن يعين لهم ملكاً فأجابهم بأن الله قد بعث لهم طالوت ملكاً قال صاحب ( الكشاف ) طالوت اسم أعجمي كجالوت وداود وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته وزعموا أنه من الطول لما وصف به من البسطة في الجسم ووزنه إن كان من الطول فعلوت وأصله طولوت إلا أن امتناع صرفه يدفع أن يكون منه إلا أن يقال هو اسم عبراني وافق عربياً كما وافق

حطة حنطة وعلى هذا التقدير يكون أحد سببية العجمة لكونه عبرانياً ثم إن الله تعالى لما عينه لأن يكون ملكاً لهم أظهروا التولي عن طاعته والإعراض عن حكمه وقالوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا واستبعدوا جداً أن يكون هو ملكاً عليهم قال المفسرون وسبب هذا الاستبعاد أن النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من أسباط بني إسرائيل وهو سبط لاوى بن يعقوب ومنه موسى وهرون وسبط المملكة سبط يهوذا ومنه داود وسليمان وأن طالوت ما كان من أحد هذين السبطين بل كان من ولد بنيامين فلهذا السبب أنكروا كونه ملكاً لهم وزعموا أنهم أحق بالملك منه ثم أنهم أكدوا هذه الشبهة بشبهة أخرى وهي قولهم ولم يؤت سعة من المال وذلك إشارة إلى أنه فقير واختلفوا فقال وهب كان دباغاً وقال السدي كان مكارياً وقال آخرون كان سقاء
فإن قيل ما الفرق بين الواوين في قوله وَنَحْنُ أَحَقُّ وفي قوله وَلَمْ يُؤْتَ
قلنا الأولى للحال والثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالاً والمعنى كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك وأنه فقير ولا بد للملك من مال يعتضد به ثم إنه تعالى أجاب عن شبههم بوجوه الأول قوله إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى معنى الآية أنه تعالى خصه بالملك والإمرة
واعلم أن القوم لما كانوا مقرين بنبوة ذلك النبي كان إخباره عن الله تعالى أنه جعل طالوت ملكاً عليهم حجة قاطعة في ثبوت الملك له لأن تجويز الكذب على الأنبياء عليهم السلام يقتضي رفع الوثوق بقولهم وذلك يقدح في ثبوت نبوتهم ورسالتهم وإذا ثبت صدق المخبر ثبت أن الله تعالى خصه بالملك وإذا ثبت ذلك كان ملكاً واجب الطاعة وكانت الاعتراضات ساقطة
المسألة الثانية قوله اصْطَفَاهُ أي أخذ الملك من غيره صافياً له واصطفاه واستصفاه بمعنى الاستخلاص وهو أن يأخذ الشيء خالصاً لنفسه وقال الزجاج إنه مأخوذ من الصفوة والأصل فيه اصتفى بالتاء فأبدلت التاء طاء ليسهل النطق بها بعد الصاد وكيفما كان الاشتقاق فالمراد ما ذكرناه أنه تعالى خصه بالملك والإمرة وعلى هذا الوجه وصف تعالى نفسه بأنه اصطفى الرسل ووصفهم بأنهم المصطفون الأخيار ووصف الرسول بأنه المصطفى
المسألة الثالثة هذه الآية تدل على بطلان قول من يقول إن الإمامة موروثة وذلك لأن بني إسرائيل أنكروا أن يكون ملكهم من لا يكون من بيت المملكة فأعلمهم الله تعالى أن هذا ساقط والمستحق لذلك من خصه الله تعالى بذلك وهو نظير قوله تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء ( آل عمران 26 )
الوجه الثاني في الجواب عن هذه الشبهة قوله تعالى وَزَادَهُ بَسْطَة ً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وتقرير هذا الجواب أنهم طعنوا في استحقاقه للملك بأمرين أحدهما أنه ليس من أهل بيت الملك الثاني أنه فقير والله تعالى بين أنه أهل للملك وقرر ذلك بأنه حصل له وصفان أحدهما العلم والثاني القدرة وهذان الوصفان أشد مناسبة لاستحقاقه الملك من الوصفين الأولين وبيانه من وجوه أحدها أن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية والمال والجاه ليسا كذلك والثاني أن العلم والقدرة من الكمالات الحاصلة لجوهر نفس الإنسان والمال والجاه أمران منفصلان عن ذات الإنسان الثالث أن العلم والقدرة لا يمكن سلبهما عن الإنسان والمال والجاه يمكن سلبهما عن الإنسان والرابع أن العلم بأمر الحروب والقوي

الشديد على المحاربة يكون الانتفاع به في حفظ مصلحة البلد وفي دفع شر الأعداء أتم من الانتفاع بالرجل النسيب الغني إذا لم يكن له علم بضبط المصالح وقدرة على دفع الأعداء فثبت بما ذكرنا أن إسناد الملك إلى العالم القادر أولى من إسناده إلى النسيب الغني ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله وَزَادَهُ بَسْطَة ً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وهذا يدل على أن العلوم الحاصلة للخلق إنما حصلت بتخليق الله تعالى وإيجاده وقالت المعتزلة هذه الإضافة إنما كانت لأنه تعالى هو الذي يعطي العقل ونصب الدلائل وأجاب الأصحاب بأن الأصل في الإضافة المباشرة دون التسبب
المسألة الثانية قال بعضهم المراد بالبسطة في الجسم طول القامة وكان يفوق الناس برأسه ومنكبه وإنما سمي طالوت لطوله وقيل المراد من البسطة في الجسم الجمال وكان أجمل بني إسرائيل وقيل المراد القوة وهذا القول عندي أصح لأن المنتفع به في دفع الأعداء هو القوة والشدة لا الطول والجمال
المسألة الثالثة أنه تعالى قدم البسطة في العلم على البسطة في الجسم وهذا منه تعالى تنبيه على أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف وأكمل من الفضائل الجسمانية
الوجه الثالث في الجواب عن الشبهة قوله تعالى وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء وتقريره أن الملك لله والعبيد لله فهو سبحانه يؤتي ملكه من يشاء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله لأن المالك إذا تصرف في ملكه فلا اعتراض لأحد عليه في فعله
الوجه الرابع في الجواب قوله تعالى وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وفيه ثلاثة أقوال أحدها أنه تعالى واسع الفضل والرزق والرحمة وسعت رحمته كل شيء والتقدير أنتم طعنتم في طالوت بكونه فقيراً والله تعالى واسع الفضل والرحمة فإذا فوض الملك إليه فإن علم أن الملك لا يتمشى إلا بالمال فالله تعالى يفتح عليه باب الرزق والسعة في المال
والقول الثاني أنه واسع بمعنى موسع أي يوسع على من يشاء من نعمه وتعلقه بما قبله على ما ذكرناه والثالث أنه واسع بمعنى ذو سعة ويجيء فاعل ومعناه ذو كذا كقوله عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) أي ذات رضا وهم ناصب ذو نصب ثم بين بقوله عَلِيمٌ أنه تعالى مع قدرته على إغناء الفقير عالم بمقادير ما يحتاج إليه في تدبير الملك وعالم بحال ذلك الملك في الحاضر والمستقبل فيختار لعلمه بجميع العواقب ما هو مصلحته في قيامه بأمر الملك

وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَة َ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَة ٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّة ٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَئِكَة ُ إِنَّ فِي ذَالِكَ لأَيَة ً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَة ً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَة َ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَة ٍ قَلِيلَة ٍ غَلَبَتْ فِئَة ٍ كَثِيرَة ً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
اعلم أن ظاهر الآية المتقدمة يدل على أن أولئك الأقوام كانوا مقرين بنبوة النبي الذي كان فيهم لأن قوله تعالى حكاية عنهم إِذْ قَالُواْ لِنَبِى ّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا كالظاهر في أنهم كانوا معترفين بنبوة ذلك النبي ومقرين بأنه مبعوث من عند الله تعالى ثم إن ذلك النبي لما قال إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا كان هذا دليلاً قاطعاً في كون طالوت ملكاً ثم إنه تعالى لكمال رحمته بالخلق ضم إلى ذلك الدليل دليلاً آخر يدل على كون ذلك النبي صادقاً في ذلك الكلام ويدل أيضاً على أن طالوت نصبه الله تعالى للملك وإكثار الدلائل من الله تعالى جائز ولذلك أنه كثرت معجزات موسى عليه السلام ومحمد عليه الصلاة والسلام فلهذا قال تعالى وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَة َ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن مجيء ذلك التابوت لا بد وأن يقع على وجه يكون خارقاً للعادة حتى يصح أن يكون آية من عند الله دالة على صدق تلك الدعوى ثم قال أصحاب الأخبار إن الله تعالى أنزل على آدم عليه السلام تابوتاً فيه صور الأنبياء من أولاده فتوارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى يعقوب ثم بقي في أيدي بني إسرائيل فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا بالنصرة فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال ذلك النبي إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره ثم إن الكفار الذين سلبوا ذلك التابوت كانوا قد جعلوه في موضع البول والغائط فدعا النبي عليهم في ذلك الوقت فسلط الله على أولئك الكفار البلاء حتى إن كلّ من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله تعالى بالبواسير فعلم الكفار أن ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت فأخرجوه ووضعوه على ثورين فأقبل الثوران يسيران ووكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت ثم إن قوم ذلك النبي رأوا التابوت عند طالوت

فعلموا أن ذلك دليل على كونه ملكاً لهم فذلك هو قوله تعالى وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَة َ مُلْكِهِ والإتيان على هذا مجاز لأنه أتى به ولم يأت هو فنسب إليه توسعاً كما يقال ربحت الدراهم وخسرت التجارة
والرواية الثانية أن التابوت صندوق كان موسى عليه السلام يضع التوراة فيه وكان من خشب وكانوا يعرفونه ثم إن الله تعالى رفعه بعد ما قبض موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل ثم قال نبي ذلك القوم إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء ثم إن التابوت لم تحمله الملائكة ولا الثوران بل نزل من السماء إلى الأرض والملائكة كانوا يحفظونه والقوم كانوا ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وعلى هذا الإتيان حقيقة في التابوت وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين جميعاً لأن من حفظ شيئاً في الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء وإن لم يحمله كما يقول القائل حملت الأمتعة إلى زيد إذا حفظها في الطريق وإن كان الحامل غيره
واعلم أنه تعالى جعل إتيان التابوت معجزة ثم فيه احتمالان أحدهما أن يكون مجىء التابوت معجزاً وذلك هو الذي قررناه والثاني أن لا يكون التابوت معجزاً بل يكون ما فيه هو المعجز وذلك بأن يشاهدوا التابوت خالياً ثم إن ذلك النبي يضعه بمحضر من القوم في بيت ويغلقوا البيت ثم إن النبي يدعي أن الله تعالى خلق فيه ما يدل على واقعتنا فإذا فتحوا باب البيت ونظروا في التابوت رأوا فيه كتاباً يدل على أن ملكهم هو طالوت وعلى أن الله سينصرهم على أعدائهم فهذا يكون معجزاً قاطعاً دالاً على أنه من عند الله تعالى ولفظ القرآن يحتمل هذا لأن قوله يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَة ٌ مّن رَّبّكُمْ يحتمل أن يكون المراد منه أنهم يجدون في التابوت هذا المعجز الذي هو سبب لاستقرار قلبهم واطمئنان أنفسهم فهذا محتمل
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) وزن التابوت إما أن يكون فعلوتاً أو فاعولاً والثاني مرجوح لأنه يقل في كلام العرب لفظ يكون فاؤه ولامه من جنس واحد نحو سلس وقلق فلا يقال تابوت من تبت قياساً على ما نقل وإذا فسد هذا القسم تعين الأول وهو أنه فعلوت من التوب وهو الرجوع لأنه ظرف يوضع فيه الأشياء ويودع فيه فلا يزول يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته
المسألة الثالثة قرأ الكل التابوت بالتاء وقرأ أبي وزيد بن ثابت التابوه بالهاء وهي لغة الأنصار
المسألة الرابعة من الناس من قال إن طالوت كان نبياً لأنه تعالى أظهر المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبياً ولا يقال إن هذا كان من كرامات الأولياء لأن الفرق بين الكرامة والمعجزة أن الكرامة لا تكون على سبيل التحدي وهذا كان على سبيل التحدي فوجب أن لا يكون من جنس الكرامات
والجواب لا يبعد أن يكون ذلك معجزة لنبي ذلك الزمان ومع كونه معجزة له فإنه كان آية قاطعة في ثبوت ملكه
أما قوله تعالى التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَة ٌ مّن رَّبّكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى السَّكِينَة َ فعيلة من السكون وهو ضد الحركة وهي مصدر وقع موقع الاسم نحو القضية والبقية والعزيمة

المسألة الثانية اختلفوا في السكينة وضبط الأقوال فيها أن نقول المراد بالسكينة إما أن يقال إنه كان شيئاً حاصلاً في التابوت أو ما كان كذلك
والقسم الثاني هو قول أبي بكر الأصم فإنه قال مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَة ٌ مّن رَّبّكُمْ وَبَقِيَّة ٌ أي تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك وتزول نفرتكم عنه لأنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة فلا بد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم بالكلية
وأما القسم الأول وهو أن المراد من السكينة شيء كان موضوعاً في التابوت وعلى هذا ففيه أقوال الأول وهو قول أبي مسلم أنه كان في التابوت بشارات من كتب الله تعالى المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام بأن الله ينصر طالوت وجنوده ويزيل خوف العدو عنهم الثاني وهو قول علي عليه السلام كان لها وجه كوجه الإنسان وكان لها ريح هفافة والثالث قول ابن عباس رضي الله عنهما هي صورة من زبرجد أو ياقوت لها رأس كرأس الهر وذنب كذنبه فإذا صاحت كصياح الهر ذهب التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا وقف وقفوا ونزل النصر
القول الرابع وهو قول عمرو بن عبيد إن السكينة التي كانت في التابوت شيء لا يعلم
واعلم أن السكينة عبارة عن الثبات والأمن وهو كقوله في قصة الغار فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( الفتح 26 ) فكذا قوله تعالى فِيهِ سَكِينَة ٌ مّن رَّبّكُمْ معناه الأمن والسكون
واحتج القائلون بأنه حصل في التابوت شيء بوجهين الأول أن قوله فِيهِ سَكِينَة ٌ يدل على كون التابوت ظرفاً للسكينة والثاني وهو أنه عطف عليه قوله وَبَقِيَّة ٌ مّمَّا تَرَكَ ءالُ مُوسَى فكما أن التابوت كان ظرفاً للبقية وجب أن يكون ظرفاً للسكينة
والجواب عن الأول أن كلمة فِى كما تكون للظرفية فقد تكون للسببية قال عليه الصلاة والسلام ( في النفس المؤمنة مائة من الإبل ) وقال ( في خمس من الإبل شاة ) أي بسببه فقوله في هذه الآية فِيهِ سَكِينَة ٌ أي بسببه تحصل السكينة
والجواب عن الثاني لا يبعد أن يكون المراد بقية مما ترك آل موسى وآل هارون من الدين والشريعة والمعنى أن بسبب هذا التابوت ينتظم أمر ما بقي من دينهما وشريعتهما
وأما القائلون بأن المراد بالبقية شيء كان موضوعاً في التابوت فقالوا البقية هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وقفير من المن الذي كان ينزل عليهم
أما قوله وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ففيه قولان الأول قال بعض المفسرين يحتمل أن يكون المراد من آل موسى وآل هارون هو موسى وهارون أنفسهما والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام لأبي موسى الأشعري ( لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود ) وأراد به داود نفسه لأنه لم يكن لأحد من آل داود من الصوت الحسن مثل ما كان لداود عليه السلام
والقول الثاني قال القفال رحمه الله إنما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون لأن ذلك التابوت

قد تداولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت وما في التابوت أشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون فيكون الآل هم الأتباع قال تعالى النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ( غافر 46 )
وأما قوله تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَة ُ فقد تقدم القول فيه
وأما قوله إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَة ً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فالمعنى أن هذه الآية معجزة باهرة إن كنتم ممن يؤمن بدلالة المعجزة على صدق المدعي
قوله تعالى فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن وجه اتصال هذه الآية بما قبلها يظهر بتقدير محذوف يدل عليه باقي الكلام والتقدير أنه لما أتاهم بآية التابوت أذعنوا له وأجابوا إلى المسير تحت رايته فلما فصل بهم أي فارق بهم حد بلده وانقطع عنه ومعنى الفصل القطع يقال قول فصل إذا كان يقطع بين الحق والباطل وفصلت اللحم عن العظم فصلاً وفاصل الرجل شريكه وامرأته فصالاً ويقال للفطام فصال لأنه يقطع عن الرضاع وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه ومنه قوله وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ ( يوسف 94 ) قال صاحب ( الكشاف ) قوله فصل عن موضع كذا أصله فصل نفسه ثم لأجل الكثرة في الاستعمال حذفوا المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كما يقال انفصل والجنود جمع جند وكل صنف من الخلق جند على حدة يقال للجراد الكثيرة إنها جنود الله ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ( الأرواح جنود مجندة )
المسألة الثانية روي أن طالوت قال لقومه لا ينبغي أن يخرج معي رجل يبني بناءً لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا أبغي إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختار ثمانون ألفاً
أما قوله تعالى قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن هذا القائل من كان فقال الأكثرون أنه هو طالوت وهذا هو الأظهر لأن قوله لا بد وأن يكون مسنداً إلى مذكور سابق والمذكور السابق هو طالوت ثم على هذا يحتمل أن يكون القول من طالوت لكنه تحمله من نبي الوقت وعلى هذا التقدير لا يلزم أن يكون طالوت نبياً ويحتمل أن يكون من قبل نفسه فلا بد من وحي أتاه عن ربه وذلك يقتضي أنه مع الملك كان نبياً
والقول الثاني أن قائل هذا القول هو النبي المذكور في أول الآية والتقدير فلما فصل طالوت بالجنود قال لهم نبيهم إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ونبي ذلك الوقت هو اشمويل عليه السلام
المسألة الثانية في حكمة هذا الابتلاء وجهان الأول قال القاضي كان مشهوراً من بني إسرائيل أنهم يخالفون الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات الباهرة فأراد الله تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدو يتميز بها من يصبر على الحرب ممن لا يصبر لأن الرجوع قبل لقاء العدو لا يؤثر كتأثيره حال لقاء العدو فلما كان هذا هو الصلاح قبل مقاتلة العدو لا جرم قال فَإِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ الثاني أنه تعالى ابتلاهم ليتعودوا الصبر على الشدائد
المسألة الثالثة في النهر أقوال أحدها وهو قول قتادة والربيع أنه نهر بين الأردن وفلسطين

والثاني وهو قول ابن عباس والسدي أنه نهر فلسطين قال القاضي والتوفيق بين القولين أن النهر الممتد من بلد قد يضاف إلى أحد البلدين
القول الثالث وهو الذي رواه صاحب ( الكشاف ) أن الوقت كان قيظاً فسلكوا مفازة فسألوا الله أن يجري لهم نهراً فقال إن الله مبتليكم بما اقترحتموه من النهر
المسألة الرابعة قوله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ أي ممتحنكم امتحان العبد كما قال إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ ( الإنسان 2 ) ولما كان الابتلاء بين الناس إنما يكون لظهور الشيء وثبت أن الله تعالى لا يثبت ولا يعاقب على علمه إنما يفعل ذلك بظهور الأفعال بين الناس وذلك لا يحصل إلا بالتكليف لا جرم سمي التكليف ابتلاء وفيه لغتان بلا يبلو وابتلى يبتلي قال الشاعر ولقد بلوتك وابتليت خليفتي
ولقد كفاك مودتي بتأدب
فجاء باللغتين
المسألة الخامسة نهر ونهر بتسكين الهاء وتحريكها لغتان وكل ثلاثي حشوه حرف من حروف الحلق فإنه يجىء على هذين كقولك صخر وصخر وشعر وشعر وقالوا بحر وبحر وقال الشاعر كأنما خلقت كفاء من حجر
فليس بين يديه والندى عمل
يرى التيمم في بر وفي بحر
مخافة أن يرى في كفه بلل
أما قوله تعالى فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَلَيْسَ مِنّي كالزجر يعني ليس من أهل ديني وطاعتي ونظيره قوله تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ثم قال قبل هذا الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وأيضاً نظيره قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا ) أي ليس على ديننا ومذهبنا والله أعلم
المسألة الثانية قال أهل اللغة لَّمْ يَطْعَمْهُ أي لم يذقه وهو من الطعم وهو يقع على الطعام والشراب هذا ما قاله أهل اللغة وعندي إنما اختير هذا اللفظ لوجهين من الفائدة أحدهما أن الإنسان إذا عطش جداً ثم شرب الماء وأراد وصف ذلك الماء بالطيب واللذة قال إن هذا الماء كأنه الجلاب وكأنه عسل فيصفه بالطعوم اللذيذة فقوله وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ معناه أنه وإن بلغ به العطش إلى حيث يكون ذلك الماء في فمه كالموصوف بهذه الطعوم الطيبة فإنه يجب عليه الاحتراز عنه وأن لا يشربه والثاني أن من جعل الماء في فمه وتمضمض به ثم أخرجه من الفم فإنه يصدق عليه أنه ذاقه وطعمه ولا يصدق عليه أنه شربه فلو قال ومن لم يشربه فإنه مني كان المنع مقصوراً على الشرب أما لما قال وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ كان المنع حاصلاً في الشرب وفي المضمضة ومعلوم أن هذا التكليف أشق وأن الممنوع من شرب الماء إذا تمضمض به وجد نوع خفة وراحة
المسألة الثالثة أنه تعالى قال في أول الآية فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي ثم قال بعده وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ وكان ينبغي أن يقال ومن لم يطعم منه ليكون آخر الآية مطابقاً أولها إلا أنه ترك ذلك اللفظ

واختير هذا لفائدة وهي أن الفقهاء اختلفوا في أن من حلف لا يشرب من هذا النهر كيف يحنث قال أبو حنيفة لا يحنث إلا إذا كرع من النهر حتى لو اغترف بالكوز ماء من ذلك النهر وشربه لا يحنث لأن الشرب من الشيء هو أن يكون ابتداء شربه متصلاً بذلك الشيء وهذا لا يحصل إلا بأن يشرب من النهر وقال الباقون إذا اغترف الماء بالكوز من ذلك النهر وشربه يحنث لأن ذلك وإن كان مجازاً إلا أنه مجاز معروف مشهور
إذا عرفت هذا فنقول إن قوله فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي ظاهره أن يكون النهي مقصوراً على الشرب من النهر حتى لو أخذه بالكوز وشربه لا يكون داخلاً تحت النهي فلما كان هذا الاحتمال قائماً في اللفظ الأول ذكر في اللفظ الثاني ما يزيل هذا الإبهام فقال وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى أضاف الطعم والشرب إلى الماء لا إلى النهر إزالة لذلك الإبهام
أما قوله إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَة ً بِيَدِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو غُرْفَة ً بفتح الغين وكذلك يعقوب وخلف وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالضم قال أهل اللغة الغرفة بالضم الشيء القليل الذي يحصل في الكف والغرفة بالفتح الفعل وهو الاغتراف مرة واحدة ومثله الأكلة والأكلة يقال فلان يأكل في النهار أكله واحدة وما أكلت عندهم إلا أكلة بالضم أي شيئاً قليلاً كاللقمة ويقال الحزة من اللحم بالضم للقطعة اليسيرة منه وحززت اللحم حزة أي قطعته مرة واحدة ونحوه الخطوة والخطوة بالضم مقدار ما بين القدمين والخطوة أن يخطو مرة واحدة وقال المبرد غرفة بالفتح مصدر يقع على قليل ما في يده وكثيره والغرفة بالضم اسم ملء الكف أو ما اغترف به
المسألة الثانية قوله إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ استثناء من قوله فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وهذه الجملة في حكم المتصلة بالاستثناء إلا أنها قدمت في الذكر للعناية
المسألة الثالثة قال ابن عباس رضي الله عنهما كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها
وأقول هذا الكلام يحتمل وجهين أحدهما أنه كان مأذوناً أن يأخذ من الماء ما شاءه مرة واحدة بغرفة واحدة بحيث كان المأخوذ في المرة الواحدة يكفيه ولدوابه وخدمه ولأن يحمله مع نفسه والثاني أنه كان يأخذ القليل إلا أن الله تعالى يجعل البركة فيه حتى يكفي لكل هؤلاء وهذا كان معجزة لنبي ذلك الزمان كما أنه تعالى كان يروي الخلق العظيم من الماء القليل في زمان محمد عليه الصلاة والسلام
أما قوله تعالى فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبي والأعمش إِلاَّ قَلِيلٌ قال صاحب ( الكشاف ) وهذا بسبب ميلهم إلى المعنى وإعراضهم عن اللفظ لأن قوله فَشَرِبُواْ مِنْهُ في معنى فلم يطيعوه لا جرم حمل عليه كأنه قيل فلم يطيعوه إلا قليل منهم
المسألة الثانية قد ذكرنا أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز الصديق عن الزنديق والموافق عن المخالف فلما ذكر الله تعالى أن الذين يكونون أهلاً لهذا القتال هم الذين لا يشربون من هذا النهر وأن كل

من شرب منه فإنه لا يكون مأذوناً في هذا القتال وكان في قلبهم نفرة شديدة عن ذلك القتال لا جرم أقدموا على الشرب فتميز الموافق عن المخالف والصديق عن العدو ويروى أن أصحاب طالوت لما هجموا على النهر بعد عطش شديد وقع أكثرهم في النهر وأكثروا الشرب وأطاع قوم قليل منهم أمر الله تعالى فلم يزيدوا على الاغتراف وأما الذين شربوا وخالفوا أمر الله فاسودت شفاههم وغلبهم العطش ولم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا على لقاء العدو وأما الذين أطاعوا أمر الله تعالى فقوي قلبهم وصح إيمانهم وعبروا النهر سالمين
المسألة الثالثة القليل الذي لم يشرب قيل إنه أربعة آلاف والمشهور وهو قول الحسن أنهم كانوا على عدد أهل بدر ثلثمائة وبضعة عشر وهم المؤمنون والدليل عليه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأصحابه يوم بدر أنتم اليوم على عدة أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاز معه إلا مؤمن قال البراء بن عازب وكنا يومئذٍ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً
أما قوله فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى لا خلاف بين المفسرين أن الذين عصوا الله وشربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم ولم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاع الله تعالى في باب الشرب من النهر وإنما اختلفوا في أن رجوعهم إلى بلدهم كان قبل عبور النهر أو بعده وفيه قولان الأول أنه ما عبر معه إلا المطيع واحتج هذا القائل بأمور الأول أن الله تعالى قال فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ فالمراد بقوله الَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ الذين وافقوه في تلك الطاعة فلما ذكر الله تعالى كل العسكر ثم خص المطيعين بأنهم عبروا النهر علمنا أنه ما عبر النهر أحد إلا المطيعين
الحجة الثانية الآية المتقدمة وهي قوله تعالى حكاية عن طالوت فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي أي ليس من أصحابي في سفري كالرجل الذي يقول لغيره لست أنت منا في هذا الأمر قال ومعنى فَشَرِبُواْ مِنْهُ أي ليتسببوا به إلى الرجوع وذلك لفساد دينهم وقلبهم
الحجة الثالثة أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي والمتمرد حتى يصرفهم عن نفسه ويردهم قبل أن يرتدوا عند حضور العدو وإذا كان المقصود من هذا الابتلاء ليس إلا هذا المعنى كان الظاهر أنه صرفهم عن نفسه في ذلك الوقت وما أذن لهم في عبور النهر
القول الثاني أنه استصحب كل جنوده وكلهم عبروا النهر واعتمدوا في إثبات هذا القول على قوله تعالى حكاية عن قوم طالوت قَالُواْ لاَ طَاقَة َ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالمؤمن المنقاد لأمر ربه بل لا يصدر إلا عن المنافق أو الفاسق وهذه الحجة ضعيفة وبيان ضعفها من وجوه أحدها يحتمل أن يقال إن طالوت لما عزم على مجاوزة النهر وتخلف الأكثرون ذكر المتخلفون أن عذرنا في هذا التخلف أنه لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده فنحن معذورون في هذا التخلف أقصى ما في الباب أن يقال إن الفاء في قوله فَلَمَّا جَاوَزَهُ تقتضي أن يكون قولهم لاَ طَاقَة َ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ إنما وقع بعد المجاوزة إلا أنا نقول يحتمل أن يقال إن طالوت والمؤمنين لما جاوزوا النهر ورأوا القوم تخلفوا وما جاوزوه سألهم عن سبب التخلف فذكروا ذلك وما كان النهر في العظم بحيث يمنع من المكالمة

ويحتمل أن يكون المراد بالمجاوزة قرب حصول المجاوزة وعلى هذا التقدير فالإشكال أيضاً زائل
والجواب الثاني أنه يحتمل أن يقال المؤمنون الذين عبروا النهر كانوا فريقين بعضهم ممن يحب الحياة ويكره الموت وكان الخوف والجزع غالباً على طبعه ومنهم من كان شجاعاً قوي القلب لا يبالي بالموت في طاعة الله تعالى
فالقسم الأول هم الذين قالوا لاَ طَاقَة َ لَنَا الْيَوْمَ
والقسم الثاني هم الذين أجابوا بقولهم كَم مّن فِئَة ٍ قَلِيلَة ٍ غَلَبَتْ فِئَة ٍ كَثِيرَة ً
والجواب الثالث يحتمل أن يقال القسم الأول من المؤمنين لما شاهدوا قلة عسكرهم قالوا لاَ طَاقَة َ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ فلا بد أن نوطن أنفسنا على القتل لأنه لا سبيل إلى الفرار من أمر الله والقسم الثاني قالوا لا نوطن أنفسنا بل نرجو من الله الفتح والظفر فكان غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة وغرض الفريق الثاني الترغيب في طلب الفتح والنصرة وعلى هذا التقدير لا يكون في واحد من القولين ما ينقض الآخر
المسألة الثانية الطاقة مصدر بمنزلة الإطاقة يقال أطقت الشيء إطاقة وطاقة ومثلها أطاع إطاعة والاسم الطاعة وأغار يغير إغارة والاسم الغارة وأجاب يجيب إجابة والاسم الجابة وفي المثل أساء سمعاً فأساء جابة أي جواباً
أما قوله تعالى قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ ففيه سؤال وهو أنه تعالى لم جعلهم ظانين ولم يجعلهم حازمين
وجوابه أن السبب فيه أمور الأول وهو قول قتادة أن المراد من لقاء الله الموت قال عليه الصلاة والسلام ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ) وهؤلاء المؤمنون لما وطنوا أنفسهم على القتل وغلب على ظنونهم أنهم لا يتخلصون من الموت لا جرم قيل في صفتهم إنهم يظنون أنهم ملاقوا الله الثاني الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ أي ملاقوا ثواب الله بسبب هذه الطاعة وذلك لأن أحداً لا يعلم عاقبة أمره فلا بد أن يكون ظاناً راجياً وإن بلغ في الطاعة أبلغ الأمر إلا من أخبر الله بعاقبة أمره وهذا قول أبي مسلم وهو حسن
الوجه الثالث أن يكون المعنى قال الذين يظنون أنهم ملاقوا طاعة الله وذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن يكون قاطعاً بأن هذا العمل الذي عمله طاعة لأنه ربما أتى فيه بشيء من الرياء والسمعة ولا يكون بنية خالصة فحيئذٍ لا يكون الفعل طاعة إنما الممكن فيه أن يظن أنه أتى به على نعت الطاعة والإخلاص
الوجه الرابع أنا ذكرنا في تفسير قوله تعالى أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَة ٌ مّن رَّبّكُمْ أن المراد بالسكينة على قول بعض المفسرين أنه كان في التابوت كتب إلهية نازلة على الأنبياء المتقدمين دالة على حصول النصر والظفر لطالوت وجنوده ولكنه ما كان في تلك الكتب أن النصر والظفر يحصل في المرة الأولى أو بعدها فقوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ يعني الذين يظنون أنهم ملاقوا وعد الله بالظفر وإنما جعله ظناً لا يقيناً لأن حصوله في الجملة وإن كان قطعاً إلا أن حصوله في المرة الأولى ما كان إلا على

سبيل حسن الظن
الوجه الخامس قال كثير من المفسرين المراد بقوله يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ أنهم يعلمون ويوقنون إلا أنه أطلق لفظ الظن على اليقين على سبيل المجاز لما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكد الاعتقاد
أما قوله كَم مّن فِئَة ٍ قَلِيلَة ٍ غَلَبَتْ فِئَة ٍ كَثِيرَة ً بِإِذْنِ اللَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى المراد منه تقوية قلوب الذين قالوا لاَ طَاقَة َ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ والمعنى أنه لا عبرة بكثرة العدد إنما العبرة بالتأييد الإلهي والنصر السماوي فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة
المسألة الثانية الفئة الجماعة لأن بعضهم قد فاء إلى بعض فصاروا جماعة وقال الزجاج أصل الفئة من قولهم فأوت رأسه بالسيف وفأيت إذا قطعت فالفئة الفرقة من الناس كأنها قطعة منهم
المسألة الثالثة قال الفراء لو ألغيت من ههنا جاز في فئة الرفع والنصب والخفض أما النصب فلأن كَمْ بمنزلة عدد فنصب ما بعده نحو عشرين رجلاً وأما الخفض فبتقدير دخول حرف مِنْ عليه وأما الرفع فعلى نية تقديم الفعل كأنه قيل كم غلبت فئة
وأما قوله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فلا شبهة أن المراد المعونة والنصرة ثم يحتمل أن يكون هذا قولاً للذين قالوا كَم مّن فِئَة ٍ قَلِيلَة ٍ ويحتمل أن يكون قولاً من الله تعالى وإن كان الأول أظهر
وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى المبارزة في الحروب هي أن يبرز كل واحد منهم لصاحبه وقت القتال والأصل فيها أن الأرض الفضاء التي لا حجاب فيها يقال لها البراز فكان البروز عبارة عن حصول كل واحد منهما في الأرض المسماة بالبراز وهو أن يكون كل واحد منهما بحيث يرى صاحبه
المسألة الثانية أن العلماء والأقوياء من عسكر طالوت لما قرروا مع العوام والضعفاء أنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله وأوضحوا أن الفتح والنصرة لا يحصلان إلا بإعانة الله لا جرم لما برز عسكر طالوت إلى عسكر جالوت ورأوا القلة في جانبهم والكثرة في جانب عدوهم لا جرم اشتغلوا بالدعاء والتضرع فقالوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ونظيره ما حكى الله عن قوم آخرين أنهم قالوا حين الالتقاء مع المشركين وَكَأَيّن مّن نَّبِى ّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ ( آل عمران 146 ) إلى قوله وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( آل عمران 147 ) وهكذا كان

يفعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في كل المواطن وروي عنه في قصة بدر أنه عليه السلام لم يزل يصلي ويستنجز من الله وعده وكان متى لقي عدواً قال ( اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم ) وكان يقول ( اللهم بك أصول وبك أجول )
المسألة الثالثة الإفراغ الصب يقال أفرغت الإناء إذا صببت ما فيه وأصله من الفراغ يقال فلان فارغ معناه أنه خال مما يشغله والإفراغ إخلاء الإناء مما فيه وإنما يخلو بصب كل ما فيه
إذا عرفت هذا فنقول قوله أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا يدل على المبالغة في طلب الصبر من وجهين أحدهما أنه إذا صب الشيء في الشيء فقد أثبت فيه بحيث لا يزول عنه وهذا يدل على التأكيد والثاني أن إفراغ الإناء هو إخلاؤه وذلك يكون بصب كل ما فيه فمعنى أفرغ علينا صبراً أي أصبب علينا أتم صب وأبلغه
المسألة الرابعة اعلم أن الأمور المطلوبة عند المحاربة مجموع أمور ثلاثة فأولها أن يكون الإنسان صبوراً على مشاهدة المخاوف والأمور الهائلة وهذا هو الركن الأعلى للمحارب فإنه إذا كان جباناً لا يحصل منه مقصود أصلاً وثانيها أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات والاتفاقات الحسنة مما يمكنه أن يقف ويثبت ولا يصير ملجأ إلى الفرار وثالثها أن تزداد قوته على قوة عدوه حتى يمكنه أن يقهر العدو
إذا عرفت هذا فنقول المرتبة الأولى هي المراد من قوله أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا والثانية هي المراد بقوله وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا والثالثة هي المراد بقوله وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
المسألة الخامسة احتج الأصحاب على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى بقوله رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وذلك لأنه لا معنى للصبر إلا القصد على الثبات ولا معنى للثبات إلا السكون والاستقرار وهذه الآية دالة على أن ذلك القصد المسمى بالصبر من الله تعالى وهو قوله أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وعلى أن الثبات والسكون الحاصل عند ذلك القصد أيضاً بفعل الله تعالى وهو قوله وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وهذا صريح في أن الإرادة من فعل العبد وبخلق الله تعالى أجاب القاضي عنه بأن المراد من الصبر وتثبيت القدم تحصيل أسباب الصبر وأسباب ثبات القدم وتلك الأسباب أمور أحدها أن يجعل في قلوب أعدائهم الرعب والجبن منهم فيقع بسبب ذلك منهم الاضطراب فيصير ذلك سبباً لجراءة المسلمين عليهم ويصير داعياً لهم إلى الصبر على القتال وترك الانهزام وثانيها أن يلطف ببعض أعدائهم في معرفة بطلان ما هم عليه فيقع بينهم الاختلاف والتفرق ويصير ذلك سبباً لجراءة المؤمنين عليهم وثالثها أن يحدث تعالى فيهم وفي ديارهم وأهاليهم من البلاء مثل الموت والوباء وما يكون سبباً لاشتغالهم بأنفسهم ولا يتفرغون حينئذٍ للمحاربة فيصير ذلك سبباً لجراءة المسلمين عليهم ورابعها أن يبتليهم بمرض وضعف يعمهم أو يعم أكثرهم أو يموت رئيسهم ومن يدبر أمرهم فيعرف المؤمنون ذلك فيصير ذلك سبباً لقوة قلوبهم وموجباً لأن يحصل لهم الصبر والثبات هذا كلام القاضي
والجواب عنه من وجهين الأول أنا بينا أن الصبر عبارة عن القصد إلى السكوت والثبات عبارة عن السكون فدلت هذه الآية على أن إرادة العبد ومراده من الله تعالى وذلك يبطل قولكم وأنتم تصرفون الكلام عن ظاهره وتحملونه على أسباب الصبر وثبات الأقدام ومعلوم أن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز

الوجه الثاني في الجواب أن هذه الأسباب التي سلمتم أنها بفعل الله تعالى إذا حصلت ووجدت فهل لها أثر في الترجيح الداعي أوليس لها أثر فيه وإن لم يكن لها أثر فيه لم يكن لطلبها من الله قائدة وإن كان لها أثر في الترجيح فعند صدور هذه الأسباب المرجحة من الله يحصل الرجحان وعند حصول الرجحان يمتنع الطرف المرجوح فيجب حصول الطرف الراجح لأنه لا خروج عن طرفي النقيض وهو المطلوب والله أعلم
فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَة َ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ
المعنى أن الله تعالى استجاب دعاءهم وأفرغ الصبر عليهم وثبت أقدامهم ونصرهم على القوم الكافرين جالوت وجنوده وحقق بفضله ورحمته ظن من قال كَم مّن فِئَة ٍ قَلِيلَة ٍ غَلَبَتْ فِئَة ٍ كَثِيرَة ً بِإِذْنِ اللَّهِ بِالْخَيْراتِ بِإِذُنِ اللَّهِ وأصل الهزم في اللغة الكسر يقال سقاء منهزم إذا تشقق مع جفاف وهزمت العظم أو القصبة هزماً والهزمة نقرة في الجبل أو في الصخرة قال سفيان بن عيينة في زمزم هي هزمة جبريل يريد هزمها برجله فخرج الماء ويقال سمعت هزمة الرعد كأنه صوت فيه تشقق ويقال للسحاب هزيم لأنه يتشقق بالمطر وهزم الضرع وهزمه ما يكسر منه ثم أخبر تعالى أن تلك الهزيمة كانت بإذن الله وبإعانته وتوفيقه وتيسيره وأنه لولا إعانته وتيسيره لما حصل ألبتة ثم قال وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ قال ابن عباس رضي الله عنهما إن داود عليه السلام كان راعياً وله سبعة أخوة مع طالوت فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم إيشاً أرسل ابنه داود إليهم ليأتيه بخبرهم فأتاهم وهم في المصاف وبدر جالوت الجبار وكان من قوم عاد إلى البراز فلم يخرج إليه أحد فقال يا بني إسرائيل لو كنتم على حق لبارزني بعضكم فقال داود لإخوته أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف فسكتوا فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت وهو يحرض الناس فقال له داود ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف فقال طالوت أنكحه ابنتي وأعطيه نصف ملكي فقال داود فأنا خارج إليه وكان عادته أن يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في الرعي وكان طالوت عارفاً بجلادته فلما هم داود بأن يخرج رماه فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه وقتل بعده ناساً كثيراً فهزم الله جنود جالوت وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ فحسده طالوت وأخرجه من مملكته ولم يف له بوعده ثم ندم فذهب يطلبه إلى أن قتل وملك داود وحصلت له النبوة ولم يجتمع في بني إسرائيل الملك والنبوة إلا له
اعلم أن قوله فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ يدل على أن هزيمة عسكر جالوت كانت من طالوت وإن كان قتل جالوت ما كان إلا من داود ولا دلالة في الظاهر على أن انهزام العسكر كان قبل قتل جالوت أو بعده لأن الواو لا تفيد الترتيب

أما قوله تعالى وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَة َ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم آتاه الله الملك والنبوة جزاء على ما فعل من الطاعة العظيمة وبذل النفس في سبيل الله مع أنه تعالى كان عالماً بأنه صالح لتحمل أمر النبوة والنبوة لا يمتنع جعلها جزاء على الطاعات كما قال تعالى وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ وَءاتَيْنَاهُم مِنَ الاْيَاتِ مَا فِيهِ بَلَؤٌ اْ مُّبِينٌ ( الدخان 32 33 ) وقال اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) وظاهر هذه الآية يدل أيضاً على ذلك لأنه تعالى لما حكى عن داود أنه قتل جالوت قال بعده وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَة َ والسلطان إذا أنعم على بعض عبيده الذين قاموا بخدمة شاقة يغلب على الظن أن ذلك الإنعام لأجل تلك الخدمة وقال الأكثرون إن النبوة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال بل ذلك محض التفضل والإنعام قال تعالى اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ( الحج 75 )
المسألة الثانية قال بعضهم ظاهر الآية يدل على أن داود حين قتل جالوت آتاه الله الملك والنبوة وذلك لأنه تعالى ذكر إيتاء الملك والنبوة عقيب ذكره لقتل داود جالوت وترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم وبيان المناسبة أنه عليه السلام لما قتل مثل ذلك الخصم العظيم بالمقلاع والحجر كان ذلك معجزاً لا سيما وقد تعلقت الأحجار معه وقالت خذنا فإنك تقتل جالوت بنا فظهور المعجز يدل على النبوة وأما الملك فلأن القوم لما شاهدوا منه قهر ذلك العدو العظيم المهيب بذلك العمل القليل فلا شك أن النفوس تميل إليه وذلك يقتضي حصول الملك له ظاهراً وقال الأكثرون إن حصول الملك والنبوة له تأخر عن ذلك الوقت بسبع سنين على ما قاله الضحاك قالوا والروايات وردت بذلك قالوا لأن الله تعالى كان قد عين طالوت للملك فيبعد أن يعزله عن الملك حال حياته والمشهور في أحوال بني إسرائيل كان نبي ذلك الزمان أشمويل وملك ذلك الزمان طالوت فلما توفي أشمويل أعطى الله تعالى النبوة لداود ولما مات طالوت أعطى الله تعالى الملك لداود فاجتمع الملك والنبوة فيه
المسألة الثالثة الْحِكْمَة َ هي وضع الأمور مواضعها على الصواب والصلاح وكمال هذا المعنى إنما يحصل بالنبوة فلا يبعد أن يكون المراد بالحكمة ههنا النبوة قال تعالى مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ ( النساء 54 ) وقال فيما بعث به نبيه عليه السلام وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ ( آل عمران 146 )
فإن قيل فإذا كان المراد من الحكمة النبوة فلم قدم الملك على الحكمة مع أن الملك أدون حالاً من النبوة
قلنا لأن الله تعالى بين في هذه الآية كيفية ترقي داود عليه السلام إلى المراتب العالية وإذا تكلم المتكلم في كيفية الترقي فكل ما كان أكثر تأخراً في الذكر كان أعلى حالاً وأعظم رتبة
أما قوله تعالى وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ففيه وجوه أحدها أن المراد به ما ذكره في قوله وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة َ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ ( الأنبياء 80 ) وقال وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدّرْ فِى السَّرْدِ ( سبأ 10 11 ) وثانيها أن المراد كلام الطير والنمل قال تعالى حكاية عنه عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ( النمل 16 )

وثالثها أن المراد به ما يتعلق بمصالح الدنيا وضبط الملك فإنه ما ورث الملك من آبائه لأنهم ما كانوا ملوكاً بل كانوا رعاة ورابعها علم الدين قال تعالى وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ( النساء 163 ) وذلك لأنه كان حاكماً بين الناس فلا بد وأن يعلمه الله تعالى كيفية الحكم والقضاء وخامسها الألحان الطيبة ولا يبعد حمل اللفظ على الكل
فإن قيل إنه تعالى لما ذكر إنه آتاه الحكمة وكان المراد بالحكمة النبوة فقد دخل العلم في ذلك فلم ذكر بعده عِلْمِهِ مِمَّا يَشَاء
قلنا المقصود منه التنبيه على أن العبد قط لا ينتهي إلى حالة يستغني عن التعلم سواء كان نبياً أو لم يكن ولهذا السبب قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) ثم قال تعالى وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ
اعلم أنه تعالى لما بين أن الفساد الواقع بجالوت وجنوده زال بما كان من طالوت وجنوده وبما كان من داود من قتل جالوت بين عقيب ذلك جملة تشتمل كل تفصيل في هذا الباب وهو أنه تعالى يدفع الناس بعضهم ببعض لكي لا تفسد الأرض فقال وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ وههنا مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ ( البقرة 25 ) بغير ألف وكذلك في سورة الحج وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ وقرآ جميعاً إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( الحج 38 ) بغير ألف ووافقهما عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر اليحصبي على دفع الله بغير ألف إلا أنهم قرؤا إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ بالألف وقرأ نافع وَلَوْلاَ عَبْدُ اللَّهِ و إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ بالألف
إذا عرفت هذه الروايات فنقول أما من قرأ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ فوجهه ظاهر وأما من قرأ وَلَوْلاَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ فوجه الإشكال فيه أن المدافعة مفاعلة وهي عبارة عن كون كل واحد من المدافعين دافعاً لصاحبه ومانعاً له من فعله وذلك من العبد في حق الله تعالى محال وجوابه أن لأهل اللغة في لفظ دفاع قولين أحدهما أنه مصدر لدفع تقول دفعته دفعاً ودفاعاً كما تقول كتبته كتباً وكتاباً قالوا وفعال كثيراً يجيء مصدراً للثلاثي من فعل وفعل تقول جمح جماحاً وطمح طماحاً وتقول لقيته لقاء وقمت قياماً وعلى هذا التأويل كان قوله وَلَوْلاَ عَبْدُ اللَّهِ معناه ولولا دفع الله
والقول الثاني قول من جعل دفاع من دافع فالمعنى أنه سبحانه إنما يكف الظلمة والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه ورسله وأئمة دينه وكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة كما قال يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) وَشَاقُّواْ اللَّهِ ( الأنفال 13 ) وكما قال قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ( التوبة 30 ) ونظائره والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع والمدفوع به فقوله وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم إشارة إلى المدفوع وقوله بِبَعْضِ إشارة إلى المدفوع به فأما المدفوع عنه فغير مذكور في الآية فيحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين ويحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدنيا ويحتمل أن يكون مجموعهما

أما القسم الأول وهو أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين فتلك الشرور إما أن يكون المرجع بها إلى الكفر أو إلى الفسق أو إليهما فلنذكر هذه الاحتمالات
الاحتمال الأول أن يكون المعنى ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض وعلى هذا التقدير فالدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى فإنهم الذين يمنعون الناس عن الوقوع في الكفر بإظهار الدلائل والبراهين والبينات قال تعالى كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 )
والاحتمال الثاني أن يكون المراد ولولا دفع الله بعض الناس عن المعاصي والمنكرات بسبب البعض وعلى هذا التقدير فالدافعون هم القائمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما قال تعالى كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( آل عمران 110 ) ويدخل في هذا الباب الأئمة المنصوبون من قبل الله تعالى لأجل إقامة الحدود وإظهار شعائر الإسلام ونظيره قوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ السَّيّئَة َ ( المؤمنون 96 ) وفي موضع آخر وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيّئَة َ ( الرعد 22 )
الاحتمال الثالث ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج والمرج وإثارة الفتن في الدنيا بسبب البعض واعلم أن الدافعين على هذا التقدير هم الأنبياء عليهم السلام ثم الأئمة والملوك الذابون عن شرائعهم وتقريره أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده لأنه ما لم يخبز هذا لذاك ولا يطحن ذاك لهذا ولا يبني هذا لذاك ولا ينسج ذاك لهذا لا تتم مصلحة الإنسان الواحد ولا تتم إلا عند اجتماع جمع في موضع واحد فلهذا قيل الإنسان مدني بالطبع ثم إن الاجتماع بسبب المنازعة المفضية إلى المخاصمة أولاً والمقاتلة ثانياً فلا بد في الحكمة الإلهية من وضع شريعة بين الخلق لتكون الشريعة قاطعة للخصومات والمنازعات فالأنبياء عليهم السلام الذين أوتوا من عند الله بهذه الشرائع هم الذين دفع الله بسببهم وبسبب شريعتهم الآفات عن الخلق فإن الخلق ما داموا يبقون متمسكين بالشرائع لا يقع بينهم خصام ولا نزاع فالملوك والأئمة متى كانوا يتمسكون بهذه الشرائع كانت الفتن زائلة والمصالح حاصلة فظهر أن الله تعالى يدفع عن المؤمنين أنواع شرور الدنيا بسبب بعثة الأنبياء عليهم السلام واعلم أنه كما لا بد في قطع الخصومات والمنازعات من الشريعة فكذا لا بد في تنفيذ الشريعة من الملك ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( الإسلام والسلطان أخوان توأمان ) وقال أيضاً ( الإسلام أمير والسلطان حارس فما لا أمير له فهو منهزم وما لا حارس له فهو ضائع ) ولهذا يدفع الله تعالى عن المسلمين أنواع شرور الدنيا بسبب وضع الشرائع وبسبب نصب الملوك وتقويتهم ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله لَفَسَدَتِ الارْضُ أي لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي وذلك يسمى فساداً قال الله تعالى وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ( البقرة 205 ) وقال أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاْمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاْرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ ( القصص 19 ) وقال إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الاْرْضِ الْفَسَادَ ( غافر 26 ) وقال أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( الأعراف 127 ) وقال ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ ( الروم 41 ) وهذا التأويل يشهد له قوله في سورة الحج وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَسَاجِدُ ( الحج 40 )
الاحتمال الرابع ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لفسدت الأرض ولهلكت بمن

فيها وتصديق هذا ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يدفع بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين ) ثم تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية على صحة هذا القول من القرآن قوله تعالى وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَة ِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ( الكهف 82 ) وقال تعالى وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ ( الفتح 25 ) إلى قوله وَلَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ( الفتح 25 ) وقال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( الأنفال 33 ) ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله لَفَسَدَتِ الارْضُ أي لأهلك الله أهلها لكثرة الكفار والعصاة
والاحتمال الخامس أن يكون اللفظ محمولاً على الكل لأن بين هذه الأقسام قدراً مشتركاً وهو دفع المفسدة فإذا حملنا اللفظ عليه دخلت الأقسام بأسرها فيه
المسألة الثالثة قال القاضي هذه الآية من أقوى ما يدل على بطلان الجبر لأنه إذا كان الفساد من خلقه فكيف يصلح أن يقول تعالى وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ ويجب أن لا يكون على قولهم لدفاع الناس بعضهم ببعض تأثير في زوال الفساد وذلك لأن على قولهم الفساد إنما لا يقع بسبب أن لا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى الناس
والجواب أن الله تعالى لما كان عالماً بوقوع الفساد فإذا صح مع ذلك العلم أن لا يفعل الفساد كان المعنى أنه يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد فيلزم أن يكون قادراً على الجمع بين النفي والإثبات وهو محال
أما قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ فالمقصود منه أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكل بقضاء الله تعالى فقالوا لو لم يكن فعل العبد خلقاً لله تعالى لم يكن دفع المحققين شر المبطلين فضلاً من الله تعالى على أهل الدنيا لأن المتولي لذلك الدفع إذا كان هو العبد من قبل نفسه وباختياره ولم يكن لله تعالى وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ عقيب قوله وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ يدل على أنه تعالى ذو فضل على العالمين بسبب ذلك الدفع فدل هذا على أن ذلك الدفع الذي هو فعلهم هو من خلق الله تعالى ومن تقديره
فإن قالوا يحمل هذا على البيان والإرشاد والأمر
قلنا كل ذلك قائم في حق الكفار والفجار ولم يحصل منه الدفع فعلمنا أن فضل الله ونعمته علينا إنما كان بسبب نفس ذلك الدفع وذلك يوجب قولنا والله أعلم
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
اعلم أن قوله تِلْكَ إشارة إلى القصص التي ذكرها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهار الآية التي هي نزول التابوت من السماء وغلب الجبابرة على يد داود وهو صبي فقير ولا شك

أن هذه الأحوال آيات باهرة دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته
فإن قيل لم قال تِلْكَ ولم يقل ( هذه ) مع أن تلك يشار بها إلى غائب لا إلى حاضر
قلنا قد بينا في تفسير قوله ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ( البقرة 2 ) أن تلك وذلك يرجع إلى معنى هذه وهذا وأيضاً فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشيء الذي انقضى ومضى فكانت في حكم الغائب فلهذا التأويل قال تِلْكَ
أما قوله تعالى نَتْلُوهَا يعني يتلوها جبريل عليه السلام عليك لكنه تعالى جعل تلاوة جبريل عليه السلام تلاوة لنفسه وهذا تشريف عظيم لجبريل عليه السلام وهو كقوله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 )
أما قوله بِالْحَقّ ففيه وجوه أحدها أن المراد من ذكر هذه القصص أن يعتبر بها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتعتبر بها أمته في احتمال الشدائد في الجهاد كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة وثانيها بِالْحَقّ أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت أصلاً وثالثها إنا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالة في نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة ورابعها تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ أي يجب أن يعلم أن نزول هذه الآيات عليك من قبل الله تعالى وليس بسبب إلقاء الشياطين ولا بسبب تحريف الكهنة والسحرة
ثم قال وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وإنما ذكر هذا عقيب ما تقدم لوجوه أحدها أنك أخبرت عن هذه الأقاصيص من غير تعلم ولا دراسة وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام إنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى وثانيها أنك قد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخوف عليهم والرد لقولهم فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك وخلاف من خالف عليك لأنك مثلهم وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والتطوع لا على سبيل الإكراه فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك يرجع عليهم فيكون تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يظهر من الكفار والمنافقين ويكون قوله وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ كالتنبيه على ذلك
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَاكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
في الآية مسائل

المسألة الأولى تِلْكَ ابتداء وإنما قال تِلْكَ ولم يقل أولئك الرسل لأنه ذهب إلى الجماعة كأنه قيل تلك الجماعة الرسل بالرفع لأنه صفة لتلك وخبر الابتداء فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
المسألة الثانية في قوله تِلْكَ الرُّسُلُ أقوال أحدها أن المراد منه من تقدم ذكرهم من الأنبياء عليهم السلام في القرآن كإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب وموسى وغيرهم صلوات الله عليهم والثاني أن المراد منه من تقدم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل وداود وطالوت على قول من يجعله نبياً والثالث وهو قول الأصم تلك الرسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد الذين إليهم الإشارة بقوله تعالى وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ ( البقرة 251 )
المسألة الثالثة وجه تعليق هذه الآية بما قبلها ما ذكره أبو مسلم وهو أنه تعالى أنبأ محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) من أخبار المتقدمين مع قومهم كسؤال قوم موسى أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً ( النساء 153 ) وقولهم اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ( الأعراف 138 ) وكقوم عيسى بعد أن شاهدوا منه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله فكذبوه وراموا قتله ثم أقام فريق على الكفر به وهم اليهود وفريق زعموا أنهم أولياؤه وادعت على اليهود من قتله وصلبه ما كذبهم الله تعالى فيه كالملأ من بني إسرائيل حسدوا طالوت ودفعوا ملكه بعد المسألة وكذلك ما جرى من أمر النهر فعزى الله رسوله عما رأى من قومه من التكذيب والحسد فقال هؤلاء الرسل الذين كلم الله تعالى بعضهم ورفع الباقين درجات وأيد عيسى بروح القدس قد نالهم من قومهم ما ذكرناه بعد مشاهدة المعجزات وأنت رسول مثلهم فلا تحزن على ما ترى من قومك فلو شاء الله لم تختلفوا أنتم وأولئك ولكن ما قضى الله فهو كائن وما قدره فهو واقع وبالجملة فالمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على إيذاء قومه له
المسألة الرابعة أجمعت الأمة على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض وعلى أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من الكل ويدل عليه وجوه أحدها قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) فلما كان رحمة لكل العالمين لزم أن يكون أفضل من كل العالمين
الحجة الثانية قوله تعالى وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فقيل فيه لأنه قرن ذكر محمد بذكره في كلمة الشهادة وفي الأذان وفي التشهد ولم يكن ذكر سائر الأنبياء كذلك
الحجة الثالثة أنه تعالى قرن طاعته بطاعته فقال مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ( النساء 80 ) وبيعته ببيعته فقال إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَكَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) وعزته بعزته فقال وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ ( المنافقون 8 ) ورضاه برضاه فقال وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ( التوبة 62 ) وإجابته بإجابته فقال مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ( الأنفال 24 )
الحجة الرابعة أن الله تعالى أمر محمداً بأن يتحدى بكل سورة من القرآن فقال فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ( البقرة 23 ) وأقصر السور سورة الكوثر وهي ثلاث آيات وكان الله تحداهم بكل ثلاث آيات من القرآن ولما كان كل القرآن ستة آلاف آية وكذا آية لزم أن لا يكون معجز القرآن معجزاً واحداً بل يكون ألفي معجزة وأزيد

وإذا ثبت هذا فنقول إن الله سبحانه ذكر تشريف موسى بتسع آيات بينات فلأن يحصل التشريف لمحمد بهذه الآيات الكثيرة كان أولى
الحجة الخامسة أن معجزة رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من معجزات سائر الأنبياء فوجب أن يكون رسولنا أفضل من سائر الأنبياء
بيان الأول قوله عليه السلام ( القرآن في الكلام كآدم في الموجودات )
بيان الثاني أن الخلعة كلما كانت أشرف كان صاحبها أكرم عند الملك
الحجة السادسة أن معجزته عليه السلام هي القرآن وهي من جنس الحروف والأصوات وهي أعراض غير باقية وسائر معجزات سائر الأنبياء من جنس الأمور الباقية ثم إنه سبحانه جعل معجزة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) باقية إلى آخر الدهر ومعجزات سائر الأنبياء فانية منقضية
الحجة السابعة أنه تعالى بعد ما حكى أحوال الأنبياء عليهم السلام قال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) فأمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بالاقتداء بمن قبله فإما أن يقال إنه كان مأموراً بالاقتداء بهم في أصول الدين وهو غير جائز لأنه تقليد أو في فروع الدين وهو غير جائز لأن شرعه نسخ سائر الشرائع فلم يبق إلا أن يكون المراد محاسن الأخلاق فكأنه سبحانه قال إنا أطلعناك على أحوالهم وسيرهم فاختر أنت منها أجودها وأحسنها وكن مقتدياً بهم في كلها وهذا يقتضي أنه اجتمع فيه من الخصال المرضية ما كان متفرقاً فيهم فوجب أن يكون أفضل منهم
الحجة الثامنة أنه عليه السلام بعث إلى كل الخلق وذلك يقتضي أن تكون مشقته أكثر فوجب أن يكون أفضل أما إنه بعث إلى كل الخلق فلقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّة ً لّلنَّاسِ ( سبأ 28 ) وأما أن ذلك يقتضي أن تكون مشتقه أكثر فلأنه كان إنساناً فرداً من غير مال ولا أعوان وأنصار فإذا قال لجميع العالمين يا أيها الكافرون صار الكل أعداء له وحينئذٍ يصير خائفاً من الكل فكانت المشقة عظيمة وكذلك فإن موسى عليه السلام لما بعث إلى بني إسرائيل فهو ما كان يخاف أحداً إلا من فرعون وقومه وأما محمد عليه السلام فالكل كانوا أعداء له يبين ذلك أن إنساناً لو قيل له هذا البلد الخالي عن الصديق والرفيق فيه رجل واحد ذو قوة وسلاح فاذهب إليه اليوم وحيداً وبلغ إليه خبراً يوحشه ويؤذيه فإنه قلما سمحت نفسه بذلك مع أنه إنسان واحد ولو قيل له اذهب إلى بادية بعيدة ليس فيها أنس ولا صديق وبلغ إلى صاحب البادية كذا وكذا من الأخبار الموحشة لشق ذلك على الإنسان أما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه كان مأموراً بأن يذهب طول ليله ونهاره في كل عمره إلى الجن والإنس الذين لا عهد له بهم بل المعتاد منهم أنهم يعادونه ويؤذونه ويستخفونه ثم إنه عليه السلام لم يمل من هذه الحالة ولم يتلكأ بل سارع إليها سامعاً مطيعاً فهذا يقتضي أنه تحمل في إظهار دين الله أعظم المشاق ولهذا قال تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ( الحديد 10 ) ومعلوم أن ذلك البلاء كان على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا عظم فضل الصحابة بسبب تلك الشدة فما ظنك بالرسول وإذا ثبت أن مشقته أعظم من مشقة غيره وجب أن يكون فضله أكثر من فضل غيره لقوله عليه السلام ( أفضل العبادات أحمزها )

الحجة التاسعة أن دين محمد عليه السلام أفضل الأديان فيلزم أن يكون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل الأنبياء بيان الأول أنه تعالى جعل الإسلام ناسخاً لسائر الأديان والناسخ يجب أن يكون أفضل لقوله عليه السلام ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) فلما كان هذا الدين أفضل وأكثر ثواباً كان واضعه أكثر ثواباً من واضعي سائر الأديان فيلزم أن يكون محمد عليه السلام أفضل من سائر الأنبياء
الحجة العاشرة أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل الأمم فوجب أن يكون محمد أفضل الأنبياء بيان الأول قوله تعالى كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ( آل عمران 110 ) بيان الثاني أن هذه الأمة إنما نالت هذه الفضيلة لمتابعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال تعالى قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ( آل عمران 31 ) وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع وأيضاً أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أكثر ثواباً لأنه مبعوث إلى الجن والإنس فوجب أن يكون ثوابه أكثر لأن لكثرة المستجيبين أثراً في علو شأن المتبوع
الحجة الحادية عشر أنه عليه السلام خاتم الرسل فوجب أن يكون أفضل لأن نسخ الفاضل بالمفضول قبيح في المعقول
الحجة الثانية عشرة أن تفضيل بعض الأنبياء على بعض يكون لأمور منها كثرة المعجزات التي هي دالة على صدقهم وموجبة لتشريفهم وقد حصل في حق نبينا عليه السلام ما يفضل على ثلاثة آلاف وهي بالجملة على أقسام منها ما يتعلق بالقدرة كإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل وإروائهم من الماء القليل ومنها ما يتعلق لعلوم كالإخبار عن الغيوب وفصاحة القرآن ومنها اختصاصه في ذاته بالفضائل نحو كونه أشرف نسباً من أشراف العرب وأيضاً كان في غاية الشجاعة كما روي أنه قال بعد محاربة علي رضي الله عنه لعمرو بن ود كيف وجدت نفسك يا علي قال وجدتها لو كان كل أهل المدينة في جانب وأنا في جانب لقدرت عليهم فقال تأهب فإنه يخرج من هذا الوادي فتى يقاتلك الحديث إلى آخره وهو مشهور ومنها في خلقه وحلمه ووفائه وفصاحته وسخائه وكتب الحديث ناطقة بتفصيل هذه الأبواب
الحجة الثالثة عشرة قوله عليه السلام ( آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيام ) وذلك يدل على أنه أفضل من آدم ومن كل أولاده وقال عليه السلام ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) وقال عليه السلام ( لا يدخل الجنة أحد من النبيين حتى أدخلها أنا ولا يدخلها أحد من الأمم حتى تدخلها أمتي ) وروى أنس قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا أيسوا لواء الحمد بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر ) وعن ابن عباس قال جلس ناس من الصحابة يتذاكرون فسمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حديثهم فقال بعضهم عجباً إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً وقال آخر ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً وقال آخر فعيسى كلمة الله وروحه وقال آخر آدم اصطفاه الله فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال قد سمعت كلامكم وحجتكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك وموسى نجى الله وهو كذلك وعيسى روح الله وهو كذلك وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وأنا أول شافع وأنا أول مشفع يوم القيامة ولا فخر وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر

الحجة الرابعة عشرة روى البيهقي في ( فضائل الصحابة ) أنه ظهر علي بن أبي طالب من بعيد فقال عليه السلام هذا سيد العرب فقالت عائشة ألست أنت سيد العرب فقال أنا أسيد العالمين وهو سيد العرب وهذا يدل على أنه أفضل الأنبياء عليهم السلام
الحجة الخامسة عشرة روى مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي ولا فخر بعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبي قبلي يبعث إلى قومه وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ونصرت بالرعب أمامي مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تكن لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة فادخرتها لأمتي فهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئاً ) وجه الاستدلال أنه صريح في أن الله فضله بهذه الفضائل على غيره
الحجة السادسة عشرة قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي في تقرير هذا المعنى إن كل أمير فإنه تكون مؤنته على قدر رعيته فالأمير الذي تكون أمارته على قرية تكون مؤنته بقدر تلك القرية ومن ملك الشرق والغرب احتاج إلى أموال وذخائر أكثر من أموال أمير تلك القرية فكذلك كل رسول بعث إلى قومه فأعطي من كنوز التوحيد وجواهر المعرفة على قدر ما حمل من الرسالة فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوص من الأرض إنما يعطي من هذه الكنوز الروحانية بقدر ذلك الموضع والمرسل إلى كل أهل الشرق والغرب إنسهم وجنهم لا بد وأن يعطي من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بسعيه بأمور أهل الشرق والغرب وإذا كان كذلك كانت نسبة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى نبوة سائر الأنبياء كنسبة كل المشارق والمغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة ولما كان كذلك لا جرم أعطي من كنوز الحكمة والعلم ما لم يعط أحد قبله فلا جرم بلغ في العلم إلى الحد الذي لم يبلغه أحد من البشر قال تعالى في حقه فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( النجم 10 ) وفي الفصاحة إلى أن قال ( أوتيت جوامع الكلم ) وصار كتابه مهيمناً على الكتب وصارت أمته خير الأمم
الحجة السابعة عشرة روى محمد بن الحكيم الترمذي رحمه الله في كتاب ( النوادر ) عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً وموسى نجياً واتخذني حبيباً ثم قال وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي )
الحجة الثامنة عشرة في ( الصحيحين ) عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون به ويعجبهم البنيان فيقولون ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بناؤك فقال محمد كنت أنا تلك اللبنة )
الحجة التاسعة عشرة أن الله تعالى كلما نادى نبياً في القرآن ناداه باسمه أَجْمَعِينَ وَيَئَادَمُ اسْكُنْ ( البقرة 35 ) وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْراهِيمُ إِبْرَاهِيمَ ( الصافات 104 ) حَدِيثُ مُوسَى إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ ( طه 10 11 ) وأما النبي عليه السلام فإنه ناداه بقوله مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وذلك يفيد الفضل
واحتج المخالف بوجوه الأول أن معجزات الأنبياء كانت أعظم من معجزاته فإن آدم عليه السلام كان مسجوداً للملائكة وما كان محمد عليه السلام كذلك وإن إبراهيم عليه السلام ألقى في النيران العظيمة فانقلبت روحاً وريحاناً عليه وأن موسى عليه السلام أوتي تلك المعجزات العظيمة ومحمد ما كان

له مثلها وداود لأن له الحديد في يده وسليمان كان الجن والإنس والطير والوحش والرياح مسخرين له وما كان ذلك حاصلاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعيسى أنطقه الله في الطفولية وأقدره على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وما كان ذلك حاصلاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
الحجة الثانية أنه تعالى سمى إبراهيم في كتابه خليلاً فقال وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ( النساء 125 ) وقال في موسى عليه السلام وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( النساء 164 ) وقال في عيسى عليه السلام فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ( التحريم 12 ) وشيء من ذلك لم يقله في حق محمد عليه السلام
الحجة الثالثة قوله عليه السلام ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تخيروا بين الأنبياء )
الحجة الرابعة روي عن ابن عباس قال كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء فذكرنا نوحاً بطول عبادته وإبراهيم بخلته وموسى بتكليم الله تعالى إياه وعيسى برفعه إلى السماء وقلنا رسول الله أفضل منهم بعث إلى الناس كافة وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو خاتم الأنبياء فدخل رسول الله فقال فيم أنتم فذكرنا له فقال ( لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا ) وذلك أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها
والجواب أن كون آدم عليه السلام مسجوداً للملائكة لا يوجب أن يكون أفضل من محمد عليه السلام بدليل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ) وقال ( كنت نبياً وآدم بين الماء والطين ) ونقل أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج وهذا أعظم من السجود وأيضاً أنه تعالى صلى بنفسه على محمد وأمر الملائكة والمؤمنين بالصلاة عليه وذلك أفضل من سجود الملائكة ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى أمر الملائكة بسجود آدم تأديباً وأمرهم بالصلاة على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) تقريباً والثاني أن الصلاة على محمد عليه السلام دائمة إلى يوم القيامة وأما سجود الملائكة لآدم عليه السلام ما كان إلا مرة واحدة الثالث أن السجود لآدم إنما تولاه الملائكة وأما الصلاة على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنما تولاها رب العالمين ثم أمر بها الملائكة والمؤمنين والرابع أن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لأجل أن نور محمد عليه السلام في جبهة آدم
فإن قيل إنه تعالى خص آدم بالعلم فقال وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) وأما محمد عليه السلام فقال في حقه مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وقال وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ( الضحى 7 ) وأيضاً فمعلم آدم هو الله تعالى قال وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء ومعلم محمد عليه السلام جبريل عليه السلام لقوله عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( النجم 5 )
والجواب أنه تعالى قال في علم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 ) وقال عليه السلام ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) وقال تعالى الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 2 ) وكان عليه السلام يقول ( أرنا الأشياء كما هي ) وقال تعالى لمحمد عليه السلام وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) وأما الجمع بينه وبين قوله تعالى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى فذاك بحسب التلقين وأما التعليم فمن الله تعالى كما أنه تعالى قال قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( السجدة 11 ) ثم قال تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( الزمر 42 )

فإن قيل قال نوح عليه السلام وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ( الشعراء 114 ) وقال الله تعالى لمحمد عليه السلام وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ( الأنعام 52 ) وهذا يدل على أن خلق نوح أحسن
قلنا إنه تعالى قال إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( نوح 1 ) فكان أول أمره العذاب وأما محمد عليه السلام فقيل فيه وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) لقد جاءكم رسول من أنفسكم ( التوبة 128 ) إلى قوله ( التوبة 128 ) إلى قوله رَءوفٌ رَّحِيمٌ فكان عاقبة نوح أن قال رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) وعاقبة محمد عليه السلام الشفاعة عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا ( الإسراء 79 ) وأما سائر المعجزات فقد ذكر في ( كتب دلائل النبوة ) في مقابلة كل واحد منها معجزة أفضل منها لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا الكتاب لا يحتمل أكثر مما ذكرناه والله أعلم
وأما قوله تعالى مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى المراد منه من كلمه الله تعالى والهاء تحذف كثيراً كقوله تعالى وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( الزخرف 71 )
المسألة الثانية قرىء كَلَامَ اللَّهِ بالنصب والقراءة الأولى أدل على الفضل لأن كل مؤمن فإنه يكلم الله على ما قال عليه السلام ( المصلي مناج ربه ) إنما الشرف في أن يكلمه الله تعالى وقرأ اليماني عَبْدُ اللَّهِ من المكالمة ويدل عليه قولهم كليم الله بمعنى مكالمه
المسألة الثالثة اختلفوا في أن من كلمه الله فالمسموع هو الكلام القديم الأزلي الذي ليس بحرف ولا صوت أم غيره فقال الأشعري وأتباعه المسموع هو ذلك فإنه لما لم يمتنع رؤية ما ليس بمكيف فكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف وقال الماتريدي سماع ذلك الكلام محال وإنما المسموع هو الحرف والصوت
المسألة الرابعة اتفقوا على أن موسى عليه السلام مراد بقوله تعالى مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ قالوا وقد سمع من قوم موسى السبعون المختارون وهم الذين أرادهم الله بقوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً ( الأعراف 155 ) وهل سمعه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج اختلفوا فيه منهم من قال نعم بدليل قوله فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( النجم 10 )
فإن قيل إن قوله تعالى مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ المقصود منه بيان غاية منقبة أولئك الأنبياء الذين كلم الله تعالى ولهذا السبب لما بالغ في تعظيم موسى عليه السلام قال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ثم جاء في القرآن مكالمة بين الله وبين إبليس حيث قال أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ لِلَّهِ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( ص 79 81 ) إلى آخر هذه الآيات وظاهر هذه الآيات يدل على مكالمة كثيرة بين الله وبين إبليس فإن كان ذلك يوجب غاية الشرف فكيف حصل لإبليس الذم وإن لم يوجب شرفاً فكيف ذكره في معرض التشريف لموسى عليه السلام حيث قال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً
والجواب أن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى قال تلك الجوابات معه من غير واسطة فلعل

الواسطة كانت موجودة
أما قوله تعالى وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ففيه قولان الأول أن المراد منه بيان أن مراتب الرسل متفاوتة وذلك لأنه تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً ولم يؤت أحداً مثله هذه الفضيلة وجمع لداود الملك والنبوة ولم يحصل هذا لغيره وسخر لسليمان الإنس والجن والطير والريح ولم يكن هذا حاصلاً لأبيه داود عليه السلام ومحمد عليه السلام مخصوص بأنه مبعوث إلى الجن والإنس وبأن شرعه ناسخ لكل الشرائع وهذا إن حملنا الدرجات على المناصب والمراتب أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضاً وجه لأن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزة لائقاً بزمانه فمعجزات موسى عليه السلام وهي قلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر كان كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه وهو السحر ومعجزات عيسى عليه السلام وهي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى كانت كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه وهو الطب ومعجزة محمد عليه السلام وهي القرآن كانت من جنس البلاغة والفصاحة والخطب والأشعار وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة وبالبقاء وعدم البقاء وبالقوة وعدم القوة وفيه وجه ثالث وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات ما يتعلق بالدنيا وهو كثرة الأمة والصحابة وقوة الدولة فإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان مستجمعاً للكل فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى وأقوى وقومه أكثر ودولته أعظم وأوفر
القول الثاني أن المراد بهذه الآية محمد عليه السلام لأنه هو المفضل على الكل وإنما قال وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل فعلاً عظيماً فيقال له من فعل هذا فيقول أحدكم أو بعضكم ويريد به نفسه ويكون ذلك أفخم من التصريح به وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيراً والنابغة ثم قال ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه ولو قال ولو شئت لذكرت نفسي لم يبق فيه فخامة
فإن قيل المفهوم من قوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ هو المفهوم من قوله تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فما الفائدة في التكرير وأيضاً قوله تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ كلام كلي وقوله بعد ذلك مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ شروع في تفصيل تلك الجملة وقوله بعد ذلك وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ إعادة لذلك الكلي ومعلوم أن إعادة الكلام بعد الشروع في تفصيل جزئياته يكون مستدركاً
والجواب أن قوله تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض فأما أن يدل على أن ذلك التفضيل حصل بدرجات كثيرة أو بدرجات قليلة فليس فيه دلالة عليه فكان قوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ فيه فائدة زائدة فلم يكن تكريراً
أما قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا ففيه سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى قال في أول الآية فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ثم عدل عن هذا النوع من الكلام إلى المغايبة فقال مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ثم عدل من المغايبة إلى النوع الأول فقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ فما الفائدة في العدول عن المخاطبة إلى المغايبة ثم عنها إلى المخاطبة مرة أخرى

والجواب أن قوله مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ أهيب وأكثر وقعاً من أن يقال منهم من كلمنا ولذلك قال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً فلهذا المقصود اختار لفظة الغيبة
وأما قوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا فإنما اختار لفظ المخاطبة لأن الضمير في قوله وَءاتَيْنَا ضمير التعظيم وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء
السؤال الثاني لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر وهل يدل ذلك على أنهما أفضل من غيرهما
والجواب سبب التخصيص أن معجزاتهما أبر وأقوى من معجزات غيرهما وأيضاً فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزمان وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطعن في أمتهما كأنه قيل هذان الرسولان مع علو درجتهما وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما بل نازعوا وخالفوا وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا
السؤال الثالث تخصيص عيسى بن مريم بإيتاء البينات يدل أو يوهم أن إيتاء البينات ما حصل في غيره ومعلوم أن ذلك غير جائز فإن قلت إنما خصهما بالذكر لأن تلك البينات أقوى فنقول إن بينات موسى عليه السلام كانت أقوى من بينات عيسى عليه السلام فإن لم تكن أقوى فلا أقل من المساواة
الجواب المقصود منه التنبيه على قبح أفعال اليهود حيث أنكروا نبوة عيسى عليه السلام مع ما ظهر على يديه من البينات اللائحة
السؤال الرابع البينات جمع قلة وذلك لا يليق بهذا المقام
قلنا لا نسلم أنه جمع قلة والله أعلم
أما قوله تعالى وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى القدس تثقله أهل الحجاز وتخففه تميم
المسألة الثانية في تفسيره أقوال الأول قال الحسن القدس هو الله تعالى وروحه جبريل عليه السلام والإضافة للتشريف والمعنى أعناه بجبريل عليه السلام في أول أمره وفي وسطه وفي آخره أما في أول الأمر فلقوله فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ( التحريم 12 ) وأما في وسطه فلأن جبريل عليه السلام علمه العلوم وحفظه من الأعداء وأما في آخر الأمر فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل عليه السلام ورفعه إلى السماء والذي يدل على أن روح القدس جبريل عليه السلام قوله تعالى قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ( النحل 102 )
والقول الثاني وهو المنقول عن ابن عباس أن روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى عليه السلام الموتى
والقول الثالث وهو قول أبي مسلم أن روح القدس الذي أيد به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وأبانه بها عن غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى
ثم قال تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وفيه مسائل

المسألة الأولى تعلق هذه بما قبلها هو أن الرسل بعدما جاءتهم البينات ووضحت لهم الدلائل والبراهين اختلفت أقوامهم فمنهم من آمن ومنهم من كفر وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا
المسألة الثانية احتج القائلون بأن كل الحوادث بقضاء الله وقدره بهذه الآية وقالوا تقدير الآية ولو شاء الله أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا والمعنى أن عدم الاقتتال لازم لمشيئة عدم الاقتتال وعدم اللازم يدل على عدم اللزوم فحيث وجد الاقتتال علمنا أن مشيئه عدم الاقتتال مفقودة بل كان الحاصل هو مشيئة الاقتتال ولا شك أن ذلك الاقتتال معصية فدل ذلك على أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان بقضاء الله وقدره ومشيئته وعلى أن قتل الكفار وقتالهم للمؤمنين بإرادة الله تعالى
وأما المعتزلة فقد أجابوا عن الاستدلال وقالوا المقصود من الآية بيان أن الكفار إذا قتلوا فليس ذلك بغلبة منهم لله تعالى وهذا المقصود يحصل بأن يقال إنه تعالى لو شاء لأهلكهم وأبادهم أو يقال لو شاء لسلب القوى والقدر منهم أو يقال لو شاء لمنعهم من القتال جبراً وقسراً وإذا كان كذلك فقوله وَلَوْ شَاء اللَّهُ المراد منه هذه الأنواع من المشيئة وهذا كما يقال لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته ولم تشرب النصارى الخمر والمراد منه المشيئة التي ذكرناها وكذا ههنا ثم أكد القاضي هذه الأجوبة وقال إذا كانت المشيئة تقع على وجوه وتنتفي على وجوه لم يكن في الظاهر دلالة على الوجه المخصوص لا سيما وهذه الأنواع من المشيئة متباينة متنافية
والجواب أن أنواع المشيئة وإن اختلفت وتباينت إلا أنها مشتركة في عموم كونها مشيئة والمذكور في الآية في معرض الشرط هو المشيئة من حيث إنها مشيئة لا من حيث إنها مشيئة خاصة فوجب أن يكون هذا المسمى حاصلاً وتخصيص المشيئة بمشيئة خاصة وهي إما مشيئة الهلاك أو مشيئة سلب القوى والقدر أو مشيئة القهر والإجبار تقييد للمطلق وهو غير جائز وكما أن هذا التخصيص على خلاف ظاهر اللفظ فهو على خلاف الدليل القاطع وذلك لأن الله تعالى إذا كان عالماً بوقوع الاقتتال والعلم بوقوع الاقتتال حال عدم وقوع الاقتتال جمع بين النفي والإثبات وبين السلب والإيجاب فحال حصول العلم بوجود الاقتتال لو أراد عدم الاقتتال لكان قد أراد الجمع بين النفي والإثبات وذلك محال فثبت أن ظاهر الآية على ضد قولهم والبرهان القاطع على ضد قولهم وبالله التوفيق
ثم قال وَلَاكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ فقد ذكرنا في أول الآية أن المعنى ولو شاء لم يختلفوا وإذا لم يختلفوا لم يقتتلوا وإذا اختلفوا فلا جرم اقتتلوا وهذه الآية دالة على أن الفعل لا يقع إلا بعد حصول الداعي لأنه بين أن الاختلاف يستلزم التقاتل والمعنى أن اختلافهم في الدين يدعوهم إلى المقاتلة وذلك يدل على أن المقاتلة لا تقع إلا لهذا الداعي وعلى أنه متى حصل هذا الداعي وقعت المقاتلة فمن هذا الوجه يدل على أن الفعل ممتنع الوقوع عند عدم الداعي وواجب عند حصول الداعي ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكل بقضاء الله وقدره لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله في العبد دفعاً للتسلسل فكانت الآية دالة أيضاً من هذا الوجه على صحة مذهبنا
ثم قال وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ فإن قيل فما الفائدة في التكرير
قلنا قال الواحدي رحمه الله تعالى إنما كرره تأكيداً للكلام وتكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند

أنفسهم ولم يجر به قضاء ولا قدر من الله تعالى
ثم قال وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ فيوفق من يشاء ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله واحتج الأصحاب بهذه الآية على أنه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين وقالوا لأن الخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى وأيضاً لما دل على أنه يفعل كل ما يريد فلو كان يريد الإيمان من الكفار لفعل فيهم الإيمان ولكانوا مؤمنين ولما لم يكن كذلك دل على أنه تعالى لا يريد الإيمان منهم فكانت هذه الآية دالة على مسألة خلق الأعمال وعلى مسألة إرادة الكائنات والمعتزلة يقيدون المطلق ويقولون المراد يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه وهذا ضعيف لوجوه أحدها أنه تقييد للمطلق والثاني أنه على هذا التقييد تصير الآية بياناً للواضحات فإنه يصير معنى الآية أنه يفعل ما يفعله الثالث أن كل أحد كذلك فلا يكون في وصف الله تعالى بذلك دليلاً على كمال قدرته وعلو مرتبته والله أعلم
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ
اعلم أن أصعب الأشياء على الإنسان بذل النفس في القتال وبذل المال في الإنفاق فلما قدم الأمر بالقتال أعقبه بالأمر بالإنفاق وأيضاً فيه وجه آخر وهو أنه تعالى أمر بالقتال فيما سبق بقوله وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثم أعقبه بقوله مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ( البقرة 245 ) والمقصود منه إنفاق المال في الجهاد ثم إنه مرة ثانية أكد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد وهو قوله يُرِيدُ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ
إذا عرفت وجه النظم فنقول في الآية مسائل
المسألة الأولى المعتزلة احتجوا على أن الرزق لا يكون إلا حلالاً بقوله أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم فنقول الله تعالى أمر بالإنفاق من كل ما كان رزقاً بالإجماع أما ما كان حراماً فإنه لا يجوز إنفاقه وهذا يفيد القطع بأن الرزق لا يكون حراماً والأصحاب قالوا ظاهر الآية وإن كان يدل على الأمر بإنفاق كل ما كان رزقاً إلا أنا نخصص هذا الأمر بإنفاق كل ما كان رزقاً حلالاً
المسألة الثانية اختلفوا في أن قوله أَنفَقُواْ مختص بالإنفاق الواجب كالزكاة أم هو عام في كل الإنفاقات سواء كانت واجبة أو مندوبة فقال الحسن هذا الأمر مختص بالزكاة قال لأن قوله مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ كالوعد والوعيد لا يتوجه إلا على الواجب وقال الأكثرون هذا الأمر يتناول الواجب والمندوب وليس في الآية وعيد فكأنه قيل حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدنيا فإنكم

إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة والقول الثالث أن المراد منه الإنفاق في الجهاد والدليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد فكان المراد منه الإنفاق في الجهاد وهذا قول الأصم
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير وأبو عمرو لاَّ بَيْعٌ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ بالنصب وفي سورة إبراهيم عليه السلام لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَالٌ ( إبراهيم 31 ) وفي الطور لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ( الطور 23 ) والباقون جميعاً بالرفع والفرق بين النصب والرفع قد ذكرناه في قوله فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ ( البقرة 197 )
المسألة الرابعة المقصود من الآية أن الإنسان يجىء وحده ولا يكون معه شيء مما حصله في الدنيا قال تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ( الأنعام 94 ) وقال وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ( مريم 80 )
أما قوله لاَّ بَيْعٌ فِيهِ ففيه وجهان الأول أن البيع ههنا بمعنى الفدية كما قال فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَة ٌ ( الحديد 15 ) وقال وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ ( البقرة 123 ) وقال وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ( الأنعام 7 ) فكأنه قال من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فتكتسب ما تفتدي به من العذاب والثاني أن يكون المعنى قدموا لأنفسكم من المال الذي هو في ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة حتى يكتسب شيء من المال
أما قوله وَلاَ خُلَّة ٌ فالمراد المودة ونظيره من الآيات قوله تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) وقال وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاْسْبَابُ ( البقرة 166 ) وقال وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُونَ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ( العنكبوت 25 ) وقال حكاية عن الكفار فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ( الشعراء 100 ) وقال وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( البقرة 270 ) وأما قوله وَلاَ شَفَاعَة ٌ يقتضي نفي كل الشفاعات
واعلم أن قوله وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ عام في الكل إلا أن سائر الدلائل دلت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين وعلى ثبوت الشفاعة للمؤمنين وقد بيناه في تفسير قوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ( البقرة 281 ) لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ ( البقرة 48 )
واعلم أن السبب في عدم الخلة والشفاعة يوم القيامة أمور أحدها أن كل أحد يكون مشغولاً بنفسه على ما قال تعالى لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ ( عبس 37 ) والثاني أن الخوف الشديد غالب على كل أحد على ما قال عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ( الحج 2 ) والثالث أنه إذا نزل العذاب بسبب الكفر والفسق صار مبغضاً لهذين الأمرين وإذا صار مبغضاً لهما صار مبغضاً لمن كان موصوفاً بهما
أما قوله تعالى وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ فنقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول الحمد لله الذي قال وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ولم يقل الظالمون هم الكافرون ثم ذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً أحدها أنه تعالى لما قال وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ أوهم ذلك نفي الخلة والشفاعة مطلقاً فذكر تعالى عقيبه وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ليدل على أن ذلك النفي مختص بالكافرين وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة

على إثبات الشفاعة في حق الفساق قال القاضي هذا التأويل غير صحيح لأن قوله وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ كلام مبتدأ فلم يجب تعليقه بما تقدم
والجواب أنا لو جعلنا هذا الكلام مبتدأ تطرق الخلف إلى كلام الله تعالى لأن غير الكافرين قد يكون ظالماً أما إذا علقناه بما تقدم زال الإشكال فوجب المصير إلى تعليقه بما قبله
التأويل الثاني أن الكافرين إذا دخلوا النار عجزوا عن التخلص عن ذلك العذاب فالله تعالى لم يظلمهم بذلك العذاب بل هم الذين ظلموا أنفسهم حيث اختاروا الكفر والفسق حتى صاروا مستحقين لهذا العذاب ونظيره قوله تعالى وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( الكهف 49 )
والتأويل الثالث أن الكافرين هم الظالمون حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم وحاجتهم وأنتم أيها الحاضرون لا تقتدوا بهم في هذا الاختيار الردىء ولكن قدموا لأنفسكم ما تجعلونه يوم القيامة فدية لأنفسكم من عذاب الله
والتأويل الرابع الكافرون هم الظالمون لأنفسهم بوضع الأمور في غير مواضعها لتوقعهم الشفاعة ممن لا يشفع لهم عند الله فإنهم كانوا يقولون في الأوثان هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 18 ) وقالوا أيضاً مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) فمن عبد جماداً وتوقع أن يكون شفيعاً له عند الله فقد ظلم نفسه حيث توقع الخير ممن لا يجوز التوقع منه
والتأويل الخامس المراد من الظلم ترك الإنفاق قال تعالى اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا ( الكهف 3 ) أي أعطت ولم تمنع فيكون معنى الآية والكافرون التاركون للإنفاق في سبيل الله وأما المسلم فلا بد وأن ينفق منه شيئاً قل أو كثر
والتأويل السادس وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي هم الكاملون في الظلم البالغون المبلغ العظيم فيه كما يقال العلماء هم المتكلمون أي هم الكاملون في العلم فكذا ههنا وأكثر هذه الوجوه قد ذكرها القفال رحمه الله والله أعلم

بداية الجزء السابع من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْعَظِيمُ
اعلم أن من عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط هذه الأنواع الثلاثة بعضها بالبعض أعني علم التوحيد وعلم الأحكام وعلم القصص والمقصود من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف وهذا الطريق هو الطريق الأحسن لا إبقاء الإنسان في النوع الواحد لأنه يوجب الملال فأما إذا انتقل من نوع من العلوم إلى نوع آخر فكأنه يشرح به الصدر ويفرح به القلب فكأنه سافر من بلد إلى بلد آخر وانتقل من بستان إلى بستان آخر وانتقل من تناول طعام لذيذ إلى تناول نوع آخر ولا شك أنه يكون ألذ وأشهى ولما ذكر فيما تقدم من علم الأحكام ومن علم القصص ما رآه مصلحة ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد فقال اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في فضائل هذه الآية روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما قرئت هذه الآية في دار إلا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة ) وعن علي أنه قال سمعت نبيّكم على أعواد المنبر وهو يقول ( من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات التي حوله ) وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم علي أين أنتم من آية الكرسي ثم قال قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا علي سيد البشر آدم وسيد العرب محمد ولا فخر وسيد الكلام القرآن وسيد

القرآن البقرة وسيد البقرة آية الكرسي ) وعن علي أنه قال لما كان يوم بدر قاتلت ثم جئت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنظر ماذا يصنع قال فجئت وهو ساجد يقول يا حي يا قيوم لا يزيد على ذلك ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو يقول ذلك فلا أزال أذهب وأرجع وأنظر إليه وكان لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له
واعلم أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم فكلما كان المذكور والمعلوم أشرف كان الذكر والعلم أشرف وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله سبحانه بل هو متعال عن أن يقال إنه أشرف من غيره لأن ذلك يقتضي نوع مجانسة ومشاكلة وهو مقدس عن مجانسة ما سواه فلهذا السبب كل كلام اشتمل على نعوت جلاله وصفات كبريائه كان ذلك الكلام في نهاية الجلال والشرف ولما كانت هذه الآية كذلك لا جرم كانت هذه الآية بالغة في الشرف إلى أقصى الغايات وأبلغ النهايات
المسألة الثانية اعلم أن تفسير لفظة اللَّهِ قد تقدم في أول الكتاب وتفسير قوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ قد تقدم في قوله وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ ( البقرة 163 ) بقي هاهنا أن نتكلم في تفسير قوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول أعظم أسماء الله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ وما روينا أنه صلوات الله وسلامه عليه ما كان يزيد على ذكره في السجود يوم بدر يدل على عظمة هذا الاسم والبراهين العقلية دالة على صحته وتقريره ومن الله التوفيق أنه لا شك في وجود الموجودات فهي إما أن تكون بأسراها ممكنة وإما أن تكون بأسراها واجبة وإما أن تكون بعضها ممكنة وبعضها واجبة لا جائز أن تكون بأسراها ممكنة لأن كل مجموع فهو مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزاء هذا المجموع ممكن والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان فهذا المجموع ممكن بذاته وكل واحد من أجزائه ممكن فإنه لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح مغاير له فهذا المجموع مفتقر بحسب كونه مجموعاً وبحسب كل واحد من أجزائه إلى مرجح مغاير له وكل ما كان مغايراً لكل الممكنات لم يكن ممكناً فقد وجد موجود ليس بممكن فبطل القول بأن كل موجود ممكن وأما القسم الثاني وهو أن يقال الموجودات بأسرها واجبة فهذا أيضاً باطل لأنه لو حصل وجودان كل واحد منهما واجب لذاته لكانا مشتركين في الوجوب بالذات ومتغايرين بالنفي وما به المشاركة مغاير لما به الممايزة فيكون كل واحد منهما مركباً في الوجوب الذي به المشاركة ومن الغير الذي به الممايزة وكل مركب فهو مفتقر إلى كل واحد من جزئه وجزء غيره وكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته فلو كان واجب الوجود أكثر من واحد لما كان شيء منها واجب الوجود وذلك محال ولما بطلل هذان القسمان ثبت أنه حصل في مجموع الموجودات موجود واحد واجب الوجود لذاته وإن كل ما عداه فهو ممكن لذاته موجود بإيجاد ذلك الموجود الذي هو واجب الوجود لذاته ولما بطل هذان فالواجب لذاته موجود لذاته وبذاته ومستغن في وجوده عن كل ما سواه وأما كل ما سواه فمفتقر في وجوده وماهيته إلى إيجاد الواجب لذاته فالواجب لذاته قائم بذاته وسبب لتقوم كل ما سواه في ماهيته وفي وجوده فهو القيوم الحي بالنسبة إلى كل الموجودات فالقيوم هو المتقوم بذاته المقوم لكل ما عداه في ماهيته ووجوده ولما كان واجب الوجود لذاته كان هو القيوم الحق بالنسبة إلى الكل ثم إنه لما كان المؤثر في الغير إما أن يكون مؤثراً على سبيل العلية والإيجاب وإما أن يكون مؤثراً على سبيل الفعل والاختيار لا جرم أزال وهم كونه مؤثراً بالعلية والإيجاب بقوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ فإن الْحَى ّ هو الدرك

الفعال فبقوله الْحَى ّ دل على كونه عالماً قادراً وبقوله الْقَيُّومُ دل على كونه قائماً بذاته ومقوماً لكل ما عداه ومن هذين الأصلين تتشعب جميع المسائل المعتبرة في علم التوحيد
فأولها أن واجب الوجود واحد بمعنى أن ماهيته غير مركبة من الأجزاء وبرهانه أن كل مركب فإنه مفتقر في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه وجزؤه غيره وكل مركب فهو متقوم بغيره والمتقوم بغيره لا يكون متقوماً بذاته فلا يكون قيوماً وقد بينا بالبرهان أنه قيوم وإذا ثبت أنه تعالى في ذاته واحد فهذا الأصل له لازمان أحدها أن واجب الوجود واحد بمعنى أنه ليس في الوجود شيئان كل واحد منهما واجب لذاته إذ لو فرض ذلك لاشتركا في الوجوب وتباينا في التعين وما به المشاركة غير ما به المباينة فيلزم كون كل واحد منهما في ذاته مركباً من جزأين وقد بينا بيان أنه محال
اللازم الثاني أنه لما امتنع في حقيقته أن تكون مركبة من جزأين امتنع كونه متحيزاً لأن كل متحيز فهو منقسم وقد ثبت أن التركيب عليه ممتنع وإذا ثبت أنه ليس بمتحيزاً امتنع كونه في الجهة لأنه لا معنى للمتحيز إلا ما يمكن أن يشار إليه إشارة حسيّة وإذا ثبت أنه ليس بمتحيز وليس في الجهة امتنع أن يكون له أعضاء وحركة وسكون
وثانيها أنه لما كان قيوماً كان قائماً بذاته وكونه قائماً بذاته يستلزم أمور
اللازم الأول أن لا يكون عرضاً في موضوع ولا صورة في مادة ولا حالا في محل أصلاً لأن الحال مفتقر إلى المحل والمفتقر إلى الغير لا يكون قيوماً بذاته
واللازم الثاني قال بعض العلماء لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم فإذا كان قيوماً بمعنى كونه قائماً بنفسه لا بغيره كانت حقيقته حاضررة عند ذاته وإذا كان لا معنى للعلم إلا هذا الحضور وجب أن تكون حقيقته معلومة لذاته فإذن ذاته معلومة لذاته وكل ما عداه فإنه إنما يحصل بتأثيره ولأنا بينا أنه قيوم بمعنى كونه مقوماً لغيره وذلك التأثير إن كان بالاختيار فالفاعل المختار لا بدّ وأن يكون له شعور بفعله وإن كان بالإيجاب لزم أيضاً كونه عالماً بكل ما سواه لأن ذاته موجبة لكل ما سواه وقد دللنا على أنه يلزم من كونه قائماً بالنفس لذاته كونه عالماً بذاته والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول فعلى التقديرات كلها يلزم من كونه قيوماً كونه عالماً بجميع المعلومات
وثالثها لما كان قيوماً لكل ما سواه كان كل ما سواه محدثاً لأن تأثيره في تقويم ذلك الغير يمتنع أن يكون حال بقاء ذلك الغير لأن تحصيل الحاصل محال فهو إما حال عدمه وإما حال حدوثه وعلى التقديرين وجب أن يكون الكل محدثاً
ورابعها أنه لما كان قيوماً لكل الممكنات استندت كل الممكنات إليه إما بواسطة أو بغير واسطة وعلى التقديرين كان القول بالقضاء والقدر حقاً وهذا مما قد فصلناه وأوضحناه في هذا الكتاب في آيات كثيرة فأنت إن ساعدك التوفيق وتأملت في هذه المعاقد التي ذكرناها علمت أنه لا سبيل إلى الإحاطة بشيء من المسائل المتعلقة بالعلم الإلاهي إلا بواسطة كونه تعالى حياً قيوماً فلا جرم لا يبعد أن يكون الاسم الأعظم هو هذا وأما سائر الآيات الإلاهية كقوله وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ ( البقرة 163 ) وقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ

لا إله إِلاَّ هُوَ ( آل عمران 18 ) ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند وأما قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الصمد 1 ) ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند وبمعنى أن حقيقته غير مركبة من الأجزاء وأما قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأعراف 54 ) ففيه بيان صفة الربوبية وليس فيه بيان وحدة الحقيقة أما قوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ فإنه يدل على الكل لأن كونه قيوماً يقتضي أن يكون قائماً بذاته وأن يكون مقوماً لغيره وكونه قائماً بذاته يقتضي الوحدة بمعنى نفي الكثرة في حقيقته وذلك يقتضي الوحدة بمعنى نفي الضد والند ويقتضي نفي التحيز وبواسطته يقتضي نفي الجهة وأيضاً كونه قيوماً بمعنى كونه مقوماً لغيره يقتضي حدوث كل ما سواه جسماً كان أو روحاً عقلاً كان أو نفساً ويقتضي استناد الكل إليه وانتهاء جملة الأسباب والمسببات إليه وذلك يوجب القول بالقضاء والقدر فظهر أن هذين اللفظين كالمحيطين بجميع مباحث العلم الإلاهي فلا جرم بلغت هذه الآية في الشرف إلى المقصد الأقصى واستوجب أن يكون هو الاسم الأعظم من أسماء الله تعالى
ثم إنه تعالى لما بين أنه حي قيوم أكد ذلك بقوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ والمعنى أنه لا يغفل عن تدبير الخلق لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة لاختل أمر الطفل فهو سبحانه قيم جميع المحدثات وقيوم الممكنات فلا يمكن أن يغفل عن تدبيرهم فقوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ كالتأكيد لبيان كونه تعالى قائماً وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل إنك لو سنان نائم ثم إنه تعالى لما بيّن كونه قيوماً بمعنى كونه قائماً بذاته مقوماً لغيره رتب عليه حكماً وهو قوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ لأنه لما كان كل ما سواه إنما تقومت ماهيته وإنما يحصل وجوده بتقويمه وتكوينه وتخليقه لزم أن يكون كل ما سواه ملكاً له وملكاً له وهو المراد من قوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ثم لما ثبت أنه هو الملك والمالك لكل ما سواه ثبت أن حكمه في الكل جار ليس لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره وهو المراد بقوله مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ثم لما بيّن أنه يلزم من كونه مالكاً للكل أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه بيّن أيضاً أنه يلزم من كونه عالماً بالكل وكون غيره غير عالم بالكل أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه إلا بإذنه وهو قوله يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وهو إشارة إلى كونه سبحانه عالماً بالكل ثم قال وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ وهو إشارة إلى كون غيره غير عالم بجميع المعلومات ثم إنه لما بيّن كمال ملكه وحكمه في السماوات وفي الأرض بيّن أن ملكه فيما وراء السماوات والأرض أعظم وأجل وأن ذلك مما لا تصل إليه أوهام المتوهمين وينقطع دون الارتقاء إلى أدنى درجة من درجاتها المتخيلين فقال وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثم بيّن أن نفاذ حكمه وملكه في الكل على نعت واحد وصورة واحدة فقال وَلاَ يُؤَدّهِ حِفْظُهُمَا ثم لما بين كونه قيوماً بمعنى كونه مقوماً للمحدثات والممكنات والمخلوقات بيّن كونه قيوماً بمعنى قائماً بنفسه وذاته منزّهاً عن الاحتياج إلى غيره في أمر من الأمور فتعالى عن أن يكون متحيزاً حتى يحتاج إلى مكان أو متغيراً حتى يحتاج إلى زمان فقال وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْعَظِيمُ فالمراد منه العلو والعظمة بمعنى أنه لا يحتاج إلى غيره في أمر من الأمور ولا ينسب غيره في صفة من الصفات ولا في نعت من النعوت فقال وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْعَظِيمُ إشارة إلى ما بدأ به في الآية من كونه قيوماً بمعنى كونه قائماً بذاته مقوماً لغيره ومن أحاط عقله بما ذكرنا علم أنه ليس عند العقول البشرية من الأمور الإلاهية كلام أكمل ولا برهان أوضح مما اشتملت عليه هذه الآيات

وإذا عرفت هذه الأسرار فلنرجع إلى ظاهر التفسير
أما قوله اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى اللَّهِ رفع بالابتداء وما بعده خبره
المسألة الثانية قال بعضهم الإله هو المعبود وهو خطأ لوجهين الأول أنه تعالى كان إلاهاً في الأزل وما كان معبوداً والثاني أنه تعالى أثبت معبوداً سواه في القرآن بقوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( الأنبياء 98 ) بل الإله هو القادر على ما إذا فعله كان مسحتقاً للعبادة
أما قوله الْحَى ّ ففيه مسائل
المسألة الأولى الحي أصله حيي كقوله حذر وطمع فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما وقال ابن الأنباري أصله الحيو فلما اجتمعت الياء والواو ثم كان السابق ساكناً فجعلنا ياء مشددة
المسألة الثانية قال المتكلمون الحي كل ذات يصح أن يعلم ويقدر واختلفوا في أن هذا المفهوم صفة موجودة أم لا فقال بعضهم إنه عبارة عن كون الشيء بحيث لا يمتنع أنه يعلم ويقدر وعدم الامتناع لا يكون صفة موجودة وقال المحققون ولما كانت الحياة عبارة عن عدم الامتناع وقد ثبت أن الامتناع أمر عدمي إذ لو كان وصفاً موجوداً لكان الموصوف به موجوداً فيكون ممتنع الوجود موجوداً وهو محال وثبت أن الامتناع عدم وثبت أن الحياة عدم هذا الامتناع وثبت أن عدم العدم وجود لزم أي يكون المفهوم من الحياة صفة موجودة وهو المطلوب
المسألة الثالثة لقائل أن يقول لما كان معنى الحي هو أنه الذي يصح أن يعلم ويقدر وهذا القدر حاصل لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات
والذي عندي في هذا الباب أن الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن هذه الصحة بل كل شيء كان كاملاً في جنسه فإنه يسمى حياً ألا ترى أن عمارة الأرض الخربة تسمى إحياء الموات وقال تعالى فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمَة ِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْى ِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( الروم 50 ) وقال إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الاْرْضَ ( فاطر 9 ) والصفة المسماة في عرف المتكلمين إنما سميت بالحياة لأن كمال حال الجسم أن يكون موصوفاً بتلك الصفة فلا جرم سميت تلك الصفة حياة وكمال حال الأشجار أن لا تكون مورقة خضرة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة وكمال الأرض أن تكون معمورة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة فثبت أن المفهوم الأصلي من لفظ الحي كونه واقعاً على أكمل أحواله وصفاته وإذا كان كذلك فقد زال الإشكال لأن المفهوم من الحي هو الكامل ولما لم يكن ذلك مقيداً بأنه كامل في هذا دون ذاك دل على أنه كامل على الإطلاق فقوله الحي يفيد كونه كاملاً على الإطلاق والكامل هو أن لا يكون قابلاً للعدم لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقة ولا في صفاته النسبية والإضافية ثم عند هذا إن خصصنا القيوم بكونه سبباً لتقويم غيره فقد زال الإشكال لأن كونه سبباً لتقويم غيره يدل على كونه متقوماً بذاته وكونه قيوماً يدل على كونه مقوماً لغيره وإن جعلنا القيوم اسماً يدل على كونه يتناول المتقوم بذاته والمقوم لغيره كان لفظ القيوم مفيداً فائدة لفظ الحي مع زيادة فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم

أما قوله تعالى الْقَيُّومُ ففيه مسائل
المسألة الأولى القيوم في اللغة مبالغة في القائم فلما اجتمعت الياء والواو ثم كان السابق ساكناً جعلتا ياء مشددة ولا يجوز أن يكون على فعول لأنه لو كان كذا لكان قووما وفيه ثلاث لغات قيوم وقيام وقيم ويروى عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ الحي القيام ومن الناس من قال هذه اللفظة عبرية لا عربية لأنهم يقولون حياً قيوماً وليس الأمر كذلك لأنا بينا أن له وجهاً صحيحاً في اللغة ومثله ما في الدار ديار وديور ودير وهو من الدوران أي ما بها خلق يدور يعني يجيء ويذهب وقال أُمية بن أبي الصلت قدرها المهيمن القيوم
المسألة الثانية اختلفت عبارات المفسرين في هذا الباب فقال مجاهد القيوم القائم على كل شيء وتأويله أنه قائم بتدبير أمر الخلق في إيجادهم وفي أرزاقهم ونظيره من الآيات قوله تعالى أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( الرعد 33 ) وقال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ ( آل عمران 18 ) إلى قوله قَائِمَاً بِالْقِسْطِ وقال إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ ( فاطر 41 ) وهذا القول يرجع حاصله إلى كونه مقوماً لغيره وقال الضحاك القيوم الدائم الوجود الذي يمتنع عليه التغير وأقول هذا القول يرجع معناه إلى كونه قائماً بنفسه في ذاته وفي وجوده وقال بعضهم القيوم الذي لا ينام بالسريانية وهذا القول بعيد لأنه يصير قوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ
أما قوله تعالى لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى السنة ما يتقدم من الفتور الذي يسمى النعاس
فإن قيل إذ كانت السنة عبارة عن مقدمة النوم فإذا قال الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ فقد دل ذلك على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى وكان ذكر النوم تكريراً
قلنا تقدير الآية لا تأخذه سنة فضلاً عن أن يأخذه النوم
المسألة الثانية الدليل العقلي دل على أن النوم والسهو والغفلة محالات على الله تعالى لأن هذه الأشياء إما أن تكون عبارات عن عدم العلم أو عن أضداد العلم وعلى التقديرين فجواز طريانها يقتضي جواز زوال علم الله تعالى فلو كان كذلك لكانت ذاته تعالى بحيث يصح أن يكون عالماً ويصح أن لا يكون عالماً فحينئذ يفتقر حصول صفة العلم له إلى الفاعل والكلام فيه كما في الأول والتسلسل محال فلا بد وأن ينتهي إلى من يكون علمه صفة واجبة الثبوت ممتنعة الزوال وإذا كان كذلك كان النوم والغفلة والسهو عليه محالا
المسألة الثالثة يروى عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه حكي عن موسى عليه السلام أنه وقع في نفسه هل ينام الله تعالى أم لا فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كل يد واحدة وأمره بالاحتفاظ بهما وكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان فضرب الله تعالى ذلك مثلاً له في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السماوات والأرض

واعلم أن مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى عليه السلام فإن من جوز النوم على الله أو كان شاكاً في جوازه كان كافراً فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى بل إن صحت الرواية فالواجب نسبة هذا السؤال إلى جهال قومه
أما قوله تعالى لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ فالمراد من هذه الإضافة إضافة الخلق والملك وتقديره ما ذكرنا من أنه لما كان واجب الوجود واحداً كان ما عداه ممكن الوجود لذاته وكل ممكن فله مؤثر وكل ما له مؤثر فهو محدث فإذن كل ما سواه فهو محدث بإحداثه مبدع بإبداعه فكانت هذه الإضافة إضافة الملك والإيجاد
فإن قيل لم قال لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ولم يقل له من في السماوات
قلنا لما كان المراد إضافة ما سواه إليه بالمخلوقية وكان الغالب عليه ما لا يعقل أجرى الغالب مجرى الكل فعبر عنه بلفظ مَا وأيضاً فهذه الأشياء إنما أسندت إليه من حيث إنها مخلوقة وهي من حيث إنها مخلوقة غير عاقلة فعبّر عنها بلفظ مَا للتنبيه على أن المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة
واعلم أن الأصحاب قد احتجوا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى قالوا لأن قوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يتناول كل ما في السماوات والأرض وأفعال العباد من جملة ما في السماوات والأرض فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق وكما أن اللفظ يدل على هذا المعنى فالعقل يؤكده وذلك لأن كل ما سواه فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يترجح إلا بتأثير واجب الوجود لذاته وإلا لزم ترجح الممكن من غير مرجح وهو محال
أما قوله تعالى مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قوله مَن ذَا الَّذِى استفهام معناه الإنكار والنفي أي لا يشفع عنده أحد إلا بأمره وذلك أن المشركين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يقولون مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) وقولهم هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 18 ) ثم بيّن تعالى أنهم لا يجدون هذا المطلوب فقال وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ( يونس 18 ) فأخبر الله تعالى أنه لا شفاعة عنده لأحد إلا من استثناه الله تعالى بقوله إِلاَّ بِإِذْنِهِ ونظيره قوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ( النبأ 38 )
المسألة الثانية قال القفال إنه تعالى لا يأذن في الشفاعة لغير المطيعين إذ كان لا يجوز في حكمته التسوية بين أهل الطاعة وأهل المعصية وطول في تقريره
وأقول إن هذا القفال عظيم الرغبة في الاعتزال حسن الاعتقاد في كلماتهم ومع ذلك فقد كان قليل الإحاطة بأصولهم وذلك لأن من مذهب البصريين منهم أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في العقول إلا أن السمع دل على أن ذلك لا يقع وإذا كان كذلك كان الاستدلال العقلي على المنع من الشفاعة في حق العصاة خطأ على قولهم بل على مذهب الكعبي أن العفو عن المعاصي قبيح عقلاً فإن كان القفال على

مذهب الكعبي فحينئذ يستقيم هذا الاستدلال إلا أن الجواب عنه يرد ذلك من وجوه الأول أن العقاب حق الله تعالى وللمستحق أن يسقط حق نفسه بخلاف الثواب فإنه حق العبد فلا يكون لله تعالى أن يسقطه وهذا الفرق ذكره البصريون في الجواب عن شبهة الكعبي والثاني أن قوله لا يجوز التسوية بين المطيع والعاصي إن أراد به أنه لا يجوز التسوية بينهما في أمر من الأمور فهو جهل لأنه تعالى قد سوى بينهما في الخلق والحياة والرزق وإطعام الطيبات والتمكين من المرادات وإن كان المراد أنه لا يجوز التسوية بينهما في كل الأمور فنحن نقول بموجبه فكيف لا يقول ذلك والمطيع لا يكون له جزع ولا يكون خائفاً من العقاب والمذنب يكون في غاية الخوف وربما يدخل النار ويتألم مدة ثم يخلصه الله تعالى عن ذلك العذاب بشفاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
واعلم أن القفال رحمه الله كان حسن الكلام في التفسير دقيق النظر في تأويلات الألفاظ إلا أنه كان عظيم المبالغة في تقرير مذهب المعتزلة مع أنه كان قليل الحظ من علم الكلام قليل النصيب من معرفة كلام المعتزلة
أما قوله تعالى يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الضمير لما في السماوات والأرض لأن فيهم العقلاء أو لما دل عليه مَن ذَا من الملائكة والأنبياء
المسألة الثانية في الآية وجوه أحدها قال مجاهد وعطاء والسدي مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ما كان قبلهم من أمور الدنيا وَمَا خَلْفَهُمْ ما يكون بعدهم من أمر الآخرة والثاني قال الضحاك والكلبي يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها وَمَا خَلْفَهُمْ الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم والثالث قال عطاء عن ابن عباس يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من السماء إلى الأرض وَمَا خَلْفَهُمْ يُرِيدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ بعد انقضاء آجالهم وَمَا خَلْفَهُمْ أي ما كان من قبل أن يخلقهم والخامس ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد ذلك
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق العقاب والثواب لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الله تعالى ولا يعلمون أن الله تعالى هل أذن لهم في تلك الشفاعة وأنهم يستحقون المقت والزجر على ذلك وهذا يدل على أنه ليس لأحد من الخلائق أن يقدم على الشفاعة إلا بإذن الله تعالى
المسألة الثالثة هؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكون هم الملائكة وسائر من يشفع يوم القيامة من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين
أما قوله وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى المراد بالعلم هاهنا كما يقال اللّهم اغفر لنا علمك فينا أي معلومك وإذا ظهرت آية عظيمة قيل هذه قدرة الله أي مقدوره والمعنى أن أحداً لا يحيط بمعلومات الله تعالى

المسألة الثانية احتج بعض الأصحاب بهذه الآية في إثبات صفة العلم لله تعالى وهو ضعيف لوجوه أحدها أن كلمة مِنْ للتبعيض وهي داخلة هاهنا على العلم فلو كان المراد من العلم نفس الصفة لزم دخول التبعيض في صفة الله تعالى وهو محال والثاني أن قوله بِمَا شَاء لا يأتي في العلم إنما يأتي في المعلوم والثالث أن الكلام إنما وقع هاهنا في المعلومات والمراد أنه تعالى عالم بكل المعلومات والخلق لا يعلمون كل المعلومات بل لا يعلمون منها إلا القليل
المسألة الثالثة قال الليث يقال لكل من أحرز شيئاً أو بلغ علمه أقصاه قد أحاط به وذلك لأنه علم بأول الشيء وآخره بتمامه صار العلم كالمحيط به
أما قوله إِلاَّ بِمَا شَاء ففيه قولان أحدها أنهم لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا ما شاء هو أن يعلمهم كما حكي عنهم أنهم قالوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا والثاني أنهم لا يعلمون الغيب إلا عند إطلاع الله بعض أنبيائه على بعض الغيب كما قال عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ
أما قوله تعالى وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فاعلم أنه يقال وسع فلانا الشيء يسعه سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به ولا يسعك هذا أي لا تطبقه ولا تحتمله ومنه قوله عليه السلام ( لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أتباعي ) أي لا يحتمل غير ذلك وأما الكرسي فأصله في اللغة من تركب الشيء بعضه على بعض والكرسي أبوال الدواب وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض وأكرست الدار إذا كثرت فيها الأبعار والأبوال وتلبد بعضها على بعض وتكارس الشيء إذا تركب ومنه الكراسة لتركب بعض أوراقها على بعض والكرسي هو هذا الشيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعض
واختلف المفسرون على أربعة أقوال الأول أنه جسم عظيم يسع السماوات والأرض ثم اختلفوا فيه فقال الحسن الكرسي هو نفس العرش لأن السرير قد يوصف بأنه عرش وبأنه كرسي لكون كل واحد منهما بحيث يصح التمكن عليه وقال بعضهم بل الكرسي غير العرش ثم اختلفوا فمنهم من قال إنه دون العرش وفوق السماء السابعة وقال آخرون إنه تحت الأرض وهو منقول عن السدي
واعلم أن لفظ الكرسي ورد في الآية وجاء في الأخبار الصحيحة أنه جسم عظيم تحت العرش وفوق السماء السابعة ولا امتناع في القول به فوجب القول باتباعه وأما ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال موضع القدمين ومن البعيد أن يقول ابن عباس هو موضع قدمي الله تعالى وتقدس عن الجوارح والأعضاء وقد ذكرنا الدلائل الكثيرة على نفي الجسمية في مواضع كثيرة من هذا الكتاب فوجب رد هذه الرواية أو حملها على أن المراد أن الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى
القول الثاني أن المراد من الكرسي السلطان والقدرة والملك ثم تارة يقال الإلاهية لا تحصل إلا بالقدرة والخلق والإيجاد والعرب يسمون أصل كل شيء الكرسي وتارة يسمى الملك بالكرسي لأن الملك يجلس على الكرسي فيسمى الملك باسم مكان الملك

القول الثالث أن الكرسي هو العلم لأن العلم موضع العالم وهو الكرسي فسميت صفة الشيء باسم مكان ذلك الشيء على سبيل المجاز لأن العلم هو الأمر المعتمد عليه والكرسي هو الشيء الذي يعتمد عليه ومنه يقال للعلماء كراسي لأنهم الذين يعتمد عليهم كما يقال لهم أوتاد الأرض
والقول الرابع ما اختاره القفال وهو أن المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه وتقريره أنه تعالى خاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم من ذلك أنه جعل الكعبة بيتاً له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ثم جعله موضعاً للتقبيل كما يقبل الناس أيدي ملوكهم وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيّين والشهداء ووضع الموازين فعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشاً فقال الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه 5 ) ثم وصف عرشه فقال وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ( هود 7 ) ثم قال وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِهِ رَّبُّهُمْ ( الزمر 75 ) وقال وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ وقال الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ( غافر 7 ) ثم أثبت لنفسه كرسياً فقال وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
إذا عرفت هذا فنقول كل ما جاء من الألفاظ الموهمة للتشبيه في العرش والكرسي فقد ورد مثلها بل أقوى منها في الكعبة والطواف وتقبيل الحجر ولما توافقنا هاهنا على أن المقصود تعريف عظمة الله وكبريائه مع القطع بأنه منزّه عن الكعبة فكذا الكلام في العرش والكرسي وهذا جواب مبين إلا أن المعتمد هو الأول لأن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز والله أعلم
أما قوله تعالى وَلاَ يُؤَدّهِ حِفْظُهُمَا فاعلم أنه يقال آده يؤده إذا أثقله وأجهده وأدت العود أوداً وذلك إذا اعتمدت عليه بالثقل حتى أملته والمعنى لا يثقله ولا يشق عليه حفظهما أي حفظ السماوات والأرض
ثم قال وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْعَظِيمُ واعلم أنه لا يجوز أن يكون المراد منه العلو بالجهة وقد دللنا على ذلك بوجوه كثيرة ونزيد هاهنا وجهين آخرين الأول أنه لو كان علوه بسبب المكان لكان لا يخلو إما أن يكون متناهياً في جهة فوق أو غير متناه في تلك الجهة والأول باطل لأنه إذا كان متناهياً في جهة فوق كان الجزء المفروض فوقه أعلى منه فلا يكون هو أعلى من كل ما عداه بل يكون غيره أعلى منه وإن كان غير متناه فهذا محال لأن القول بإثبات بعد لا نهاية له باطل بالبراهين اليقينية وأيضاً فإنا إذا قدرنا بعداً لا نهاية له لافترض في ذلك البعد نقط غير متناهية فلا يخلو إما أن يحصل في تلك النقط نقطة واحدة لا يفترض فوقها نقطة أخرى وإما أن لا يحصل فإن كان الأول كانت النقطة طرفاً لذلك البعد فيكون ذلك البعد متناهياً وقد فرضناه غير متناه هذا خلف وإن لم يوجد فيها نقطة إلا وفوقها نقطة أخرى كان كل واحدة من تلك النقط المفترضة في ذلك البعد سفلاً ولا يكون فيها ما يكون فوقاً على الاطلاق فحينئذ لا يكون لشيء من النفقات المفترضة في ذلك البعد علو مطلق ألبتة وذلك ينفي صفة العلوية

الحجة الثانية أن العالم كرة ومتى كان الأمر كذلك فكل جانب يفرض علواً بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض يكون سفلاً بالنسبة إلى الوجه الثاني فينقلب غاية العلو غاية السفل
الحجة الثالثة أن كل وصف يكون ثبوته لأحد الأمرين بذاته وللآخر بتبعية الأول كان ذلك الحكم في الذاتي أتم وأكمل وفي العرضي أقل وأضعف فلو كان علو الله تعالى بسبب المكان لكان علو المكان الذي بسببه حصل هذا العلو لله تعالى صفة ذاتية ولكان حصول هذا العلو لله تعالى حصولاً بتبعية حصوله في المكان فكان علو المكان أتم وأكمل من علو ذات الله تعالى فيكون علو الله ناقصاً وعلو غيره كاملاً وذلك محال فهذه الوجوه قاطعة في أن علو الله تعالى يمتنع أن يكون بالجهة وما أحسن ما قال أبو مسلم بن بحر الأصفهاني في تفسير قوله قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ( الأنعام 12 ) قال وهذا يدل على أن المكان والمكانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته ثم قال وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( الأنعام 13 ) وهذا يدل على أن الزمان والزمانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته فتعالى وتقدس عن أن يكون علوه بسبب المكان وأما عظمته فهي أيضاً بالمهابة والقهر والكبرياء ويمتنع أن تكون بسبب المقدار والحجم لأنه إن كان غير متناه في كل الجهات أو في بعض الجهات فهو محال لما ثبت بالبراهين القاطعة عدم إثبات أبعاد غير متناهية وإن كان متناهياً من كل الجهات كانت الأحياز المحيطة بذلك المتناهي أعظم منه فلا يكون مثل هذا الشيء عظيماً على الاطلاق فالحق أنه سبحانه وتعالى أعلى وأعظم من أن يكون من جنس الجواهر والأجسام تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً
لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
فيه مسألتان
المسألة الأولى اللام في الدّينِ فيه قولان أحدهما أنه لام العهد والثاني أنه بدل من الإضافة كقوله فَإِنَّ الْجَنَّة َ هِى َ الْمَأْوَى ( النازعات 41 ) أي مأواه والمراد في دين الله
المسألة الثانية في تأويل الآية وجوه أحدها وهو قول أبي مسلم والقفال وهو الأليق بأصول المعتزلة معناه أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر وإنما بناه على التمكن والاختيار ثم احتج القفال على أن هذا هو المراد بأنه تعالى لما بيّن دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للعذر قال بعد ذلك إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان ونظير هذا قوله تعالى فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( الكهف 29 ) وقال في سورة أخرى وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( الشعراء 3 4 ) وقال في سورة الشعراء لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السَّمَاء ءايَة ً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ

لَهَا خَاضِعِينَ ومما يؤكد هذا القول أنه تعالى قال بعد هذه الآية قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ يعني ظهرت الدلائل ووضحت البينات ولم يبق بعدها إلا طريق القسر والإلجاء والإكراه وذلك غير جائز لأنه ينافي التكليف فهذا تقرير هذا التأويل
القول الثاني في التأويل هو أن الإكراه أن يقول المسلم للكافر إن آمنت وإلا قتلتك فقال تعالى لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ أما في حق أهل الكتاب وفي حق المجوس فلأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم وأما سائر الكفار فإذا تهودوا أو تنصروا فقد اختلف الفقهاء فيهم فقال بعضهم إنه يقر عليه وعلى هذا التقدير يسقط عنه القتل إذا قبل الجزية وعلى مذهب هؤلاء كان قوله لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ عاماً في كل الكفار أما من يقول من الفقهاء بأن سائر الكفار إذا تهودوا أو تنصروا فإنهم لا يقرون عليه فعلى قوله يصح الإكراه في حقهم وكان قوله لا إِكْرَاهَ مخصوصاً بأهل الكتاب
والقول الثالث لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب إنه دخل مكرهاً لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره ومعناه لا تنسبوهم إلى الإكراه ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( النساء 94 )
أما قوله تعالى قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ففيه مسألتان
المسألة الأولى يقال بان الشيء واستبان وتبين إذا ظهر ووضح ومنه المثل قد تبين الصبح لذي عينين وعندي أن الإيضاح والتعريف إنما سمي بياناً لأنه يوقع الفصل والبينونة بين المقصود وغيره والرشد في اللغة معناه إصابة الخير وفيه لغتان رشد ورشد والرشاد مصدر أيضاً كالرشد والغي نقيض الرشد يقال غوي يغوي غياً وغواية إذا سلك غير طريق الرشد
المسألة الثانية تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ أي تميز الحق من الباطل والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الحجج والآيات الدالة قال القاضي ومعنى قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ أي أنه قد اتضح وانجلى بالأدلة لا أن كل مكلف تنبه لأن المعلوم ذلك وأقول قد ذكرنا أن معنى تَّبَيَّنَ انفصل وامتاز فكان المراد أنه حصلت البينونة بين الرشد والغي بسبب قوة الدلائل وتأكيد البراهين وعلى هذا كان اللفظ مجري على ظاهره
أما قوله تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ فقد قال النحويون الطاغوت وزنه فعلوت نحو جبروت والتاء زائدة وهي مشتقة من طغا وتقديره طغووت إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين كعادتهم في القلب نحو الصاقعة والصاعقة ثم قلبت الواو ألفاً لوقوعها في موضع حركة وانفتاح ما قبلها قال المبرد في الطاغوت الأصوب عندي أنه جمع قال أبو علي الفارسي وليس الأمر عندنا كذلك وذلك لأن الطاغوت مصدر كالرغبوت والرهبوت والملكوت فكما أن هذه الأسماء آحاد كذلك هذا الاسم مفرد وليس بجمع ومما يدل على أنه مصدر مفرد قوله أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ فأفرد في موضع الجمع كما يقال هم رضاهم عدل قالوا وهذا اللفظ يقع على الواحد وعلى الجمع أما في الواحد فكما في قوله تعالى يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ( النساء 60 ) وأما في الجمع فكما في

قوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ( البقرة 257 ) وقالوا الأصل فيه التذكير فأما قوله وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا ( الزمر 17 ) فإنما أنثت إرادة الآلهة
إذا عرفت هذا فنقول ذكر المفسرون فيه خمسة أقوال الأول قال عمر ومجاهد وقتادة هو الشيطان الثاني قال سعيد بن جبير الكاهن الثالث قال أبو العالية هو الساحر الرابع قال بعضهم الأصنام الخامس أنه مردة الجن والإنس وكل ما يطغى والتحقيق أنه لما حصل الطغيان عند الاتصال بهذه الأشياء جعلت هذه الأشياء أسباباً للطغيان كما في قوله رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 )
أما قوله وَيُؤْمِن بِاللَّهِ ففيه إشارة إلى أنه لا بد للكافر من أن يتوب أولاً عن الكفر ثم يؤمن بعد ذلك
أما قوله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى فاعلم أنه يقال استمسك بالشيء إذا تمسك به والعروة جمعها عرا نحو عروة الدلو والكوز وإنما سميت بذلك لأن العروة عبارة عن الشيء الذي يتعلق به والوثقى تأنيث الأوثق وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول لأن من أراد إمساك شيء يتعلق بعروته فكذا هاهنا من أراد إمساك هذا الدين تعلق بالدلائل الدالة عليه ولما كانت دلائل الإسلام أقوى الدلائل وأوضحها لا جرم وصفها بأنها العروة الوثقى
أما قوله لاَ انفِصَامَ لَهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى الفصم كسر الشيء من غير إبانة والانفصام مطاوع الفصم فصمته فانفصم والمقصود من هذا اللفظ المبالغة لأنه إذا لم يكن لها انفصام فإن لا يكون لها انقطاع أولى
المسألة الثانية قال النحويون نظم الآية بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والعرب تضمر الَّتِى و الَّذِى و مِنْ وتكتفي بصلاتها منها قال سلامة بن جندل والعاديات أسامي للدماء بها
كأن أعناقها أنصاب ترحيب
يريد العاديات التي قال الله وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 ) أي من له
ثم قال وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وفيه قولان
القول الأول أنه تعالى يسمع قول من يتكلم بالشهادتين وقول من يتكلم بالكفر ويعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطاهر وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث
والقول الثاني روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة وكان يسأل الله تعالى ذلك سراً وعلانية فمعنى قوله وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يريد لدعائك يا محمد بحرصك عليه واجتهادك

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
فيه مسألتان
المسألة الأولى الْوَلِى ُّ فعيل بمعنى فاعل من قولهم ولى فلان الشيء يليه ولاية فهو وال وولى وأصله من الولي الذي هو القرب قال الهذلي
وعدت عواد دون وليك تشغب
ومنه يقال داري تلى دارها أي تقرب منها ومنه يقال للمحب المعاون ولي لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ولا يفارقك ومنه الوالي لأنه يلي القوم بالتدبير والأمر والنهي ومنه المولى ومن ثم قالوا في خلاف الولاية العداوة من عدا الشيء إذا جاوزه فلأجل هذا كانت الولاية خلاف العداوة
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ألطاف الله تعالى في حق المؤمن فيما يتعلق بالدين أكثر من ألطافه في حق الكافر بأن قالوا الآية دلت على أنه تعالى ولي الذين آمنوا على التعيين ومعلوم أن الولي للشيء هو المتولي لما يكون سبباً لصلاح الإنسان واستقامة أمره في الغرض المطلوب ولأجله قال تعالى يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاءهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ( الأنفال 34 ) فجعل القيم بعمارة المسجد ولياً له ونفى في الكفار أن يكونوا أولياءه فلما كان معنى الولي المتكفل بالمصالح ثم إنه تعالى جعل نفسه ولياً للمؤمنين على التخصيص علمنا أنه تعالى تكفل بمصالحهم فوق ما تكفل بمصالح الكفار وعند المعتزلة أنه تعالى سوى بين الكفار والمؤمنين في الهداية والتوفيق والألطاف فكانت هذه الآية مبطلة لقولهم قالت المعتزلة هذا التخصيص محمول على أحد وجوه الأول أن هذا محمول على زيادة الألطاف كما ذكره في قوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) وتقريره من حيث العقل أن الخير والطاعة يدعو بعضه إلى بعض وذلك لأن المؤمن إذا حضر مجلساً يجري فيه الوعظ فإنه يلحق قلبه خشوع وخضوع وانكسار ويكون حاله مفارقاً لحال من قسا قلبه بالكفر والمعاصي وذلك يدل على أنه يصح في المؤمن من الألطاف ما لا يصح في غيره فكان تخصيص المؤمنين بأنه تعالى وليهم محمولاً على ذلك
والوجه الثاني أنه تعالى يثيبهم في الآخرة ويخصهم بالنعيم المقيم والإكرام العظيم فكان التخصيص محمولاً عليه
والوجه الثالث وهو أنه تعالى وإن كان ولياً للكل بمعنى كونه متكفلاً بمصالح الكل على السوية إلا أن المنتفع بتلك الولاية هو المؤمن فصح تخصيصه بهذه الآية كما في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 )

الوجه الرابع أنه تعالى ولي المؤمنين بمعنى أنه يحبهم والمراد أنه يحب تعظيمهم
أجاب الأصحاب عن الأول بأن زيادة الألطاف متى أمكنت وجبت عندكم ولا يكون لله تعالى في حق المؤمن إلا أداء الواجب وهذا المعنى بتمامه حاصل في حق الكافر بل المؤمن فعل مالأجله استوجب من الله ذلك المزيد من اللطف
أما السؤال الثاني وهو أنه تعالى يثيبه في الآخرة فهو أيضاً بعيد لأن ذلك الثواب واجب على الله تعالى فولي المؤمن هو الذي جعله مستحقاً على الله ذلك الثواب فيكون وليه هو نفسه ولا يكون الله هو ولياً له
وأما السؤال الثالث وهو أن المنتفع بولاية الله هو المؤمن فنقول هذا الأمر الذي امتاز به المؤمن عن الكافر في باب الولاية صدر من العبد لا من الله تعالى فكان ولي العبد على هذا القول هو العبد نفسه لا غير
وأما السؤال الرابع وهو أن الولاية هاهنا معناها المحبة والجواب أن المحبة معناها إعطاء الثواب وذلك هو السؤال الثاني وقد أجبنا عنه
أما قوله تعالى يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى أجمع المفسرون على أن المراد هاهنا من الظلمات والنور الكفر والإيمان فتكون الآية صريحة في أن الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من الكفر وأدخله في الإيمان فيلزم أن يكون الإيمان بخلق الله لأنه لو حصل بخلق العبد لكان هو الذي أخرج نفسه من الكفر إلى الإيمان وذلك يناقض صريح الآية
أجابت المعتزلة عنه من وجهين الأول أن الإخراج من الظلمات إلى النور محمول على نصب الدلائل وإرسال الأنبياء وإنزال الكتب والترغيب في الإيمان بأبلغ الوجوه والتحذير عن الكفر بأقصى الوجوه وقال القاضي قد نسب الله تعالى الإضلال إلى الصنم في قوله رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) لأجل أن الأصنام سبب بوجه ما لضالهم فإن يضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الله تعالى مع قوة الأسباب التي فعلها بمن يؤمن كان أولى
والوجه الثاني أن يحمل الإخراج من الظلمات إلى النور على أنه تعالى يعدل بهم من النار إلى الجنة قال القاضي هذا أدخل في الحقيقة لأن ما يقع من ذلك في الآخرة يكون من فعله تعالى فكأنه فعله
والجواب عن الأول من وجهين أحدهما أن هذه الإضافة حقيقة في الفعل مجاز في الحث والترغيب والأصل حمل اللفظ على الحقيقة والثاني أن هذه الترغيبات إن كانت مؤثرة في ترجيح الداعية صار الراجح واجباً والمرجوح ممتنعاً وحينئذ يبطل قول المعتزلة وإن لم يكن لها أثر في الترجيح لم يصح تسميتها بالإخراج
وأما السؤال الثاني وهو حمل اللفظ على العدول بهم من النار إلى الجنة فهو أيضاً مدفوع من وجهين الأول قال الواقدي كل ما كان في القرآن مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فإنه أراد به الكفر والإيمان

غير قوله تعالى في سورة الأنعام وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) فإنه يعني به الليل والنهار وقال وجعل الكفر ظلمة لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك وجعل الإيمان نوراً لأنه كالسبب في حصول الإدراك
والجواب الثاني أن العدول بالمؤمن من النار إلى الجنة أمر واجب على الله تعالى عند المعتزلة فلا يجوز حمل اللفظ عليه
المسألة الثانية قوله يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ظاهره يقتضي أنهم كانوا في الكفر ثم أخرجهم الله تعالى من ذلك الكفر إلى الإيمان ثم هاهنا قولان
القول الأول أن يجري اللفظ على ظاهره وهو أن هذه الآية مختصة بمن كان كافراً ثم أسلم والقائلون بهذا القول ذكروا في سبب النزول روايات أحدهما قال مجاهد هذه الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى عليه السلام وقوم كفروا به فلما بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) آمن به من كفر بعيسى وكفر به من آمن بعيسى عليه السلام وثانيتها أن الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى عليه السلام على طريقة النصارى ثم آمنوا بعده بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقد كان إيمانهم بعيسى حين آمنوا به ظلمة ً وكفراً لأن القول بالاتحاد كفر والله تعالى أخرجهم من تلك الظلمات إلى نور الإسلام وثالثتها أن الآية نزلت في كل كافر أسلم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
والقول الثاني أن يحمل اللفظ على كل من آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) سواء كان ذلك الإيمان بعد الكفر أو لم يكن كذلك وتقريره أنه لا يبعد أن يقال يخرجهم من النور إلى الظلمات وإن لم يكونوا في الظلمات ألبتة ويدل على جوازه القرآن والخبر والعرف أما القرآن فقوله تعالى وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة ٍ مّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا ( آل عمران 103 ) ومعلوم أنهم ما كانوا قط في النار وقال لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْى ِ ( يونس 98 ) ولم يكن نزل بهم عذاب ألبتة وقال في قصة يوسف عليه السلام تَرَكْتُ مِلَّة َ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( يوسف 37 ) ولم يكن فيها قط وقال وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ( النحل 70 ) وما كانوا فيه قط وأما الخبر فروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) سمع إنساناً قال أشهد أن لا إلاه إلا الله فقال على الفطرة فلما قال أشهد أن محمداً رسول الله فقال خرج من النار ومعلوم أنه ما كان فيها وروي أيضاً أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أقبل على أصحابه فقال تتهافتون في النار تهافت الجراد وها أنا آخذ بحجزكم ومعلوم أنهم ما كانوا متهافتين في النار وأما العرف فهو أن الأب إذا أنفق كل ماله فالابن قد يقول له أخرجتني من مالك أي لم تجعل لي فيه شيئاً لا أنه كان فيه ثم أخرج منه وتحقيقه أن العبد لو خلا عن توفيق الله تعالى لوقع في الظلمات فصار توفيقه تعالى سبباً لدفع تلك الظلمات عنه وبين الدفع والرفع مشابهة فهذا الطريق يجوز استعمال الإخراج والإبعاد في معنى الدفع والرفع والله أعلم
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ فاعلم أنه قرأ الحسن أَوْلِيَاؤُهُمُ واحتج بقوله تعالى بعده الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم إلا أنه شاذ مخالف للمصحف وأيضاً قد بينا في اشتقاق هذا اللفظ أنه مفرد لا جمع
أما قوله تعالى يُخْرِجُونَهُم مّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ فقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الكفر ليس من الله تعالى قالوا لأنه تعالى أضافه إلى الطاغوت مجازاً باتفاق لأن المراد من الطاغوت على أظهر

الأقوال هو الصنم ويتأكد هذا بقوله تعالى رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) فأضاف الإضلال إلى الصنم وإذا كانت هذه الإضافة بالاتفاق بيننا وبينكم مجازاً خرجت عن أن تكون حجة لكم
ثم قال تعالى أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يحتمل أن يرجع ذلك إلى الكفار فقط ويحتمل أن يرجع إلى الكفار والطواغيت معاً فيكون زجراً للكل ووعيداً لأن لفظ أُوْلَائِكَ إذا كان جمعاً وصح رجوعه إلى كلا المذكورين وجب رجوعه إليهما معاً والله تعالى أعلم بالصواب
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْى ِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْى ِ هَاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَة َ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَة ً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
إعلم أنه تعالى ذكر هاهنا قصصاً ثلاثة الأولى منها في بيان إثبات العلم بالصانع والثانية في إثبات الحشر والنشر والبعث والقصة الأولى مناظرة إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) مع ملك زمانه وهي هذه الآية التي نحن في تفسيرها فنقول
أما قوله تعالى أَلَمْ تَرَ فهي كلمة يوقف بها المخاطب على تعجب منها ولفظها لفظ الاستفهام

وهي كما يقال ألم تر إلى فلان كيف يصنع معناه هل رأيت كفلان في صنعه كذا
أما قوله إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى رِبّهِ فقال مجاهد هو نمروذ بن كنعان وهو أول من تجبر وادعى الربوبية واختلفوا في وقت هذه المحاجة قيل إنه عند كسر الأصنام قبل الإلقاء في النار عن مقاتل وقيل بعد إلقائه في النار والمحاجة المغالبة يقال حاججته فحججته أي غالبته فغلبته والضمير في قوله فِى رِبّهِ يحتمل أن يعود إلى إبراهيم ويحتمل أن يرجع إلى الطاعن والأول أظهر كما قال وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى اللَّهِ ( الأنعام 80 ) والمعنى وحاجه قومه في ربه
أما قوله أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فاعلم أن في الآية قولين الأول أن الهاء في آتاه عائد إلى إبراهيم يعني أن الله تعالى آتى إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) الملك واحتجوا على هذا القول بوجوه الأول قوله تعالى فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ( النساء 54 ) أي سلطاناً بالنبوّة والقيام بدين الله تعالى والثاني أنه تعالى لا يجوز أن يؤتي الملك الكفار ويدعي الربوبية لنفسه والثالث أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب وإبراهيم أقرب المذكورين إلى هذا الضمير فوجب أن يكون هذا الضمير عائداً إليه والقول الثاني وهو قول جمهور المفسرين أن الضمير عائد إلى ذلك الإنسان الذي حاج إبراهيم
وأجابو عن الحجة الأولى بأن هذه الآية دالة على حصول الملك لآل إبراهيم وليس فيها دلالة على حصول الملك لإبراهيم عليه السلام
وعن الحجة الثانية بأن المراد من الملك هاهنا التمكن والقدرة والبسطة في الدنيا والحس يدل على أنه تعالى قد يعطي الكافر هذا المعنى وأيضاً فلم لا يجوز أن يقال إنه تعالى أعطاه الملك حال ما كان مؤمناً ثم أنه بعد ذلك كفر بالله تعالى
وعن الحجة الثالثة بأن إبراهيم عليه السلام وإن كان أقرب المذكورين إلا أن الروايات الكثيرة واردة بأن الذي حاج إبراهيم كان هو الملك فعود الضمير إليه أولى من هذه الجهة ثم احتج القائلون بهذا القول على مذهبهم من وجوه الأول أن قوله تعالى أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ يحتمل تأويلات ثلاثة وكل واحد منها إنما يصح إذا قلنا الضمير عائد إلى الملك لا إلى إبراهيم وأحد تلك التأويلات أن يكون المعنى حاج إبراهيم في ربه لأجل أن آتاه الله الملك على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو فحاج لذلك ومعلوم أن هذا إنما يليق بالملك العاتي والتأويل الثاني أن يكون المعنى أنه جعل محاجته في ربه شكراً على أن آتاه ربه الملك كما يقال عاداني فلان لأني أحسنت إليه يريد أنه عكس ما يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان ونظيره قوله تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ ( الواقعة 82 ) وهذا التأويل أيضاً لا يليق بالنبي فإنه يجب عليه إظهار المحاجة قبل حصول الملك وبعده أما الملك العاتي فإنه لا يليق به إظهار هذا العتو الشديد إلا بعد أن يحصل الملك العظيم له فثبت أنه لا يستقيم لقوله أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ معنى وتأويل إلا إذا حملناه على الملك العاتي
الحجة الثانية أن المقصود من هذه الآية بيان كمال حال إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) في إظهار الدعوة إلى الدين الحق ومتى كان الكافر سلطاناً مهيباً وإبراهيم ما كان ملكاً كان هذا المعنى أتم مما إذا كان إبراهيم ملكاً ولما كان الكافر ملكاً فوجب المصير إلى ما ذكرنا

الحجة الثانية ما ذكره أبو بكر الأصم وهو أن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) لو كان هو الملك لما قدر الكافر أن يقتل أحد الرجلين ويستبقي الآخر بل كان إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) يمنعه منه أشد منع بل كان يجب أن يكون كالملجأ إلى أن لا يفعل ذلك قال القاضي هذا الاستدلال ضعيف لأنه من المحتمل أن يقال إن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) كان ملكاً وسلطاناً في الدين والتمكن من إظهار المعجزات وذلك الكافر كان ملكاً مسلطاً قادراً على الظلم فلهذا السبب أمكنه قتل أحد الرجلين وأيضاً فيجوز أن يقال إنما قتل أحد الرجلين قوماً وكان الاختيار إليه واستبقى الآخر إما لأنه لا قتل عليه أو بذل الدية واستبقاه
وأيضاً قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى خبر ووعد ولا دليل في القرآن على أنه فعله فهذا ما يتعلق بهذه المسألة
أما قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى ففيه مسائل
المسألة الأولى الظاهر أن هذا جواب سؤال سابق غير مذكور وذلك لأن من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا للدعوة والظاهر أنه متى ادعى الرسالة فإن المنكر يطالبه بإثبات أن للعالم إلاهاً ألا ترى أن موسى عليه السلام لما قال إِنّى رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الزخرف 46 ) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 23 ) فاحتج موسى عليه السلام على إثبات الإلاهية بقوله رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فكذا هاهنا الظاهر أن إبراهيم ادعى الرسالة فقال نمروذ من ربك فقال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت إلا أن تلك المقدمة حذفت لأن الواقعة تدل عليها
المسألة الثانية دليل إبراهيم عليه السلام كان في غاية الصحة وذلك لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بواسطة أفعاله التي لا يشاركه فيها أحد من القادرين والأحياء والاماتة كذلك لأن الخلق عاجزون عنهما والعلم بعد الاختيار ضروري فلا بد من مؤثر آخر غير هؤلاء القادرين الذين تراهم وذلك المؤثر إما أن يكون موجباً أو مختاراً والأول باطل لأنه يلزم من دوامه دوام الأثر فكان يجب أن لا يتبدل الأحياء بالاماتة وأن لا تتبدل الاماتة بالأحياء والثاني وهو أنا نرى في الحيوان أعضاء مختلفة في الشكل والصفة والطبيعة والخاصية وتأثير المؤثر الموجب بالذات لا يكون كذلك فعلمنا أنه لا بد في الأحياء والاماتة من وجود آخر يؤثر على سبيل القدرة والاختيار في إحياء هذه الحيوانات وفي إماتتها وذلك هو الله سبحانه وتعالى وهو دليل متين قوي ذكره الله سبحانه وتعالى في مواضع في كتابه كقوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنون 12 ) إلى آخره وقوله لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ( التين 4 5 ) وقال تعالى الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ
المسألة الثانية لقائل أن يقول إنه تعالى قدم الموت على الحياة في آيات منها قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) وقال الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) وحكي عن إبراهيم أنه قال في ثنائه على الله تعالى وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ ( الشعراء 81 ) فلأي سبب قدم في هذه الآية ذكر الحياة على الموت حيث قال رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ
والجواب لأن المقصود من ذكر الدليل إذا كان هو الدعوة إلى الله تعالى وجب أن يكون الدليل في

غاية الوضوح ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر واطلاع الإنسان عليها أتم فلا جرم وجب تقديم الحياة هاهنا في الذكر
أما قوله تعالى قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّيَ الَّذِى ففيه مسائل
المسألة الأولى يروى أن إبراهيم عليه السلام لما احتج بتلك الحجة دعا ذلك الملك الكافر شخصين وقتل أحدهما واستبقى الآخر وقال أنا أيضاً أحيي وأميت هذا هو المنقول في التفسير وعندي أنه بعيد وذلك لأن الظاهر من حال إبراهيم أنه شرح حقيقة الأحياء وحقيقة الإماتة على الوجه الذي لخصناه في الاستدلال ومتى شرحه على ذلك الوجه امتنع أن يشتبه على العاقل الإماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة والإحياء بمعنى القتل وتركه ويبعد في الجمع العظيم أن يكونوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق والمراد من الآية والله أعلم شيء آخر وهو أن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) لما احتج بالإحياء والإماتة من الله قال المنكر تدعى الإحياء والإماتة من الله ابتداء من غير واسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية أو تدعى صدور الأحياء والاماتة من الله تعالى بواسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية أما الأول فلا سبيل إليه وأما الثاني فلا يدل على المقصود لأن الواحد منا يقدر على الاحياء والاماتة بواسطة سائر الأسباب فإن الجماع قد يفضي إلى الولد الحي بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية وتناول السم قد يفضي إلى الموت فلما ذكر نمروذ هذا السؤال على هذا الوجه أجاب إبراهيم عليه السلام بأن قال هب أن الإحياء والإماتة حصلا من الله تعالى بواسطة الاتصالات الفلكية إلا أنه لا بد لتلك الاتصالات والحركات الفلكية من فاعل مدبر فإذا كان المدبر لتلك الحركات الفلكية هو الله تعالى كان الإحياء والإماتة الحاصلان بواسطة تلك الحركات الفلكية أيضاً من الله تعالى وأما الإحياء والإماتة الصادران على البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية فليست كذلك لأنه لا قدرة للبشر على الاتصالات الفلكية فظهر الفرق
وإذا عرفت هذا فقوله إِنَّ اللَّهَ يَأْتِ بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ ليس دليلاً آخر بل تمام الدليل الأول ومعناه أنه وإن كان الإحياء والإماتة من الله بواسطة حركات الأفلاك إلا أن حركات الأفلاك من الله فكان الإحياء والإماتة أيضاً من الله تعالى وأما البشر فإنه وإن صدر منه الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأسباب السماوية والأرضية إلا أن الأسباب ليست واقعة بقدرته فثبت أن الإحياء والإماتة الصادرين عن البشر ليست على ذلك الوجه وأنه لا يصلح نقضاً عليه فهذا هو الذي أعتقده في كيفية جريان هذه المناظرة لا ما هو المشهور عند الكل والله أعلم بحقيقة الحال
المسألة الثانية أجمع القرّاء على إسقاط ألف أَنَاْ في الوصل في جميع القرآن إلا ما روي عن نافع من إثباته عند استقبال الهمزة والصحيح ما عليه الجمهور لأن ضمير المتكلم هو ءانٍ وهو الهمزة والنون فأما الألف فإنما تلحقها في الوقف كما تلحق الهاء في سكوته للوقف وكما إن هذه الهاء تسقط عند الوصل فكذا هذه الألف تسقط عند الوصل لأن ما يتصل به يقوم مقامه ألا ترى أن همزة الوصل إذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت ولم تثبت لأن ما يتصل به يتوصل به إلى النطق بما بعد الهمزة فلا تثبت الهمزة فكذا الألف في أَنَاْ والهاء التي في الوقف يجب سقوطها عند الوصل كما يجب سقوط الهمزة عند الوصل

أما قوله تعالى قَالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فاعلم أن للناس في هذا المقام طريقين الأول وهو طريقة أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه السلام لما رأى من نمروذ أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر أوضح منه فقال إِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فزعم أن الانتقال من دليل إلى دليل آخر أوضح منه جائز للمستدل
فإن قيل هلا قال نمروذ فليأت ربك بها من المغرب
قلنا الجواب من وجهين أحدهما أن هذه المحاجة كانت مع إبراهيم بعد إلقائه في النار وخروجه منها سالماً فعلم أن من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق يقدر على أن يأتي بالشمس من المغرب والثاني أن الله خذله وأنساه إيراد هذه الشبهة نصرة لنبيه عليه السلام
والطريق الثاني وهو الذي قال به المحققون إن هذا ما كان انتقالاً من دليل إلى دليل آخر بل الدليل واحد في الموضعين وهو أنا نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها فلا بد من قادر آخر يتولى إحداثها وهو الله سبحانه وتعالى ثم إن قولنا نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها له أمثلة منها الإحياء والإماتة ومنها السحاب والرعد والبرق ومنها حركات الأفلاك والكواكب والمستدل لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليل آخر لكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالاً فله أن ينتقل من ذلك المثال إلى مثال آخر فكان ما فعله إبراهيم من باب ما يكون الدليل واحد إلا أنه يقع الانتقال عند إيضاحه من مثال إلى مثال آخر وليس من باب ما يقع الانتقال من دليل إلى دليل آخر وهذا الوجه أحسن من الأول وأليق بكلام أهل التحقيق منه والإشكال عليهما من وجوه
الإشكال الأول أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ووقعت تلك الشبهة في الأسماع وجب على المحق القادر على الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك التلبيس والجهل عن العقول فلما طعن الملك الكافر في الدليل الأول أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة تلك الشبهة واجباً مضيقاً فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب
والإشكال الثاني أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال فإذا ترك المحق الكلام الأول وانتقل إلى كلام آخر أوهم أن كلامه الأول كان ضعيفاً ساقطاً وأنه ما كان عالماً بضعفه وأن ذلك المبطل علم وجه ضعفه وكونه ساقطاً وأنه كأنه عالماً بضعفه فنبه عليه وهذا ربما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وأنه غير جائز
والإشكال الثالث وهو أنه وإن كان يحسن الانتقال من دليل إلى دليل أو من مثال إلى مثال لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب وهاهنا ليس الأمر كذلك لأن جنس الإحياء لا قدرة للخلق عليه وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه ولا يبعد في العقل وجود ملك عظيم في الجثة أعظم من السماوات وأنه هو الذي يكون محركاً للسماوات وعلى هذا التقدير الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس على وجود الصانع فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفي الذي لا يكون في نفس الأمر قوياً

والإشكال الرابع أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصانع أقوى من دلالة طلوع الشمس عليه وذلك لأنا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبديلات واختلافات والتبدل قوى الدلالة على الحاجة إلى المؤثر القادر أما الشمس فلا نرى في ذاتها تبدلاً ولا في صفاتها تبدلاً ولا في منهج حركاتها تبدلاً ألبتة فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالاً من الأقوى الأجلى إلى الأخفى الأضعف وأنه لا يجوز
الإشكال الخامس أن نمروذ لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تعالى بالقتل والتخلية فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول طلوع الشمس من المشرق مني فإن كان لك إلاه فقل له حتى يطلعها من المغرب وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك فقالوا إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن تطلع الشمس من المغرب ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام إطلاع الشمس من المغرب فبتقدير أن يحصل طلوع الشمس من المغرب إلا أنه يكون الدليل على وجود الصانع هو طلوع الشمس من المغرب ولا يكون طلوع الشمس من المشرق دليلاً على وجود الصانع وحينئذ يصير دليله الثاني ضائعاً كما صار دليله الأول ضائعاً وأيضاً فما الدليل الذي جمل إبراهيم عليه السلام على أن ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك والتزم الانقطاع واعترف بالحاجة إلى الانتقال إلى تمسك بدليل لا يمكنه تمشيته إلا بالتزام طلوع الشمس من المغرب وبتقدير أن يأتي باطلاع الشمس من المغرب فإنه يضيع دليله الثاني كما ضاع الأول ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا يليق بأقل الناس علماً فضلاً عن أفضل العقلاء وأعلم العلماء فظهر بهذا أن هذا التفسير الذي أجمع المفسرون عليه ضعيف وأما الوجه الذي ذكرناه فلا يتوجه عليه شيء من هذه الإشكالات لأنا نقول لما احتج إبراهيم عليه السلام بالإحياء والإماتة أورد الخصم عليه سؤالاً لا يليق بالعقلاء وهو أنك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا بواسطة فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلاً وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر فأجاب إبراهيم عليه السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى بخلاف الخلق فإنه لا قدرة لهم على تحريكات الأفلاك فلا جرم لا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم ومتى حملنا الكلام على هذا الوجه لم يكن شيء من المحذورات المذكورة لازماً عليه والله أعلم بحقيقة كلامه
أما قوله تعالى فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ فالمعنى فبقي مغلوباً لا يجد مقالاً ولا للمسألة جوابه وهو كقوله بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَة ً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا ( الأنبياء 40 ) قال الواحدي وفيه ثلاث لغات بهت الرجل فهو مبهوت وبهت وبهت قال عروة العذري فما هو إلا أن أراها فجاءة
فأبهت حتى ما أكاد أجيب
أي أتجير وأسكت
ثم قال وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وتأويله على قولنا ظاهر أما المعتزلة فقال القاضي يحتمل

وجوهاً منها أنه لا يهديهم لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق كما يهدي المؤمن فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع
وأقول هذا ضعيف لأن قوله لا يهديهم للحجاج إنما يصح حيث يكون الحجاج موجوداً ولا حجاج على الكفر فكيف يصح أن يقال إن الله تعالى لا يهديه إليه قال القاضي ومنها أن يريد أنه لا يهديهم لزيادات الألطاف من حيث أنهم بالكفر والظلم سدوا على أنفسهم طريق الانتفاع به
وأقول هذا أيضاً ضعيف لأن تلك الزيادات إذا كانت في حقهم ممتنعة عقلاً لم يصح أن يقال إنه تعالى لا يهديهم كما لا يقال إنه تعالى يجمع بين الضدين فلا يجمع بين الوجود والعدم قال القاضي ومنها أنه تعالى لا يهديهم إلى الثواب في الآخرة ولا يهديهم إلى الجنة
وأقول هذا أيضاً ضعيف لأن المذكور هاهنا أمر الاستدلال وتحصيل المعرفة ولم يجر للجنة ذكر فيبعد صرف اللفظ إلى الجنة بل أقول اللائق بسياق الآية أن يقال إنه تعالى لما بيّن أن الدليل كان قد بلغ في الظهور والحجة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عند سماعه إلا أن الله تعالى لما لم يقدر له الاهتداء لم ينفعه ذلك الدليل الظاهر ونظير هذا التفسير قوله وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة َ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَى ْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ الأنعام 111 )
القصة الثانية
والمقصود منها إثبات المعاد قوله تعالى أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلف النحويون في إدخال الكاف في قوله أَوْ كَالَّذِى وذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول أن يكون قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ ( البقرة 258 ) في معنى أَلَمْ تَرَ كَالَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ وتكون هذه الآية معطوفة عليه والتقدير أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مرّ على قرية فيكون هذا عطفاً على المعنى وهو قول الكسائي والفرّاء وأبي علي الفارسي وأكثر النحويين قالوا ونظيره من القرآن قوله تعالى قُل لّمَنِ الاْرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ( المؤمنون 84 85 ) ثم قال مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ( المؤمنون 85 86 ) فهذا عطف على المعنى لأن معناه لمن السماوات فقيل لله قال الشاعر معاوي إننا بشر فأسجح
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فحمل على المعنى وترك اللفظ
والقول الثاني وهو اختيار الأخفش أن الكاف زائدة والتقدير ألم تر إلى الذي حاج والذي مرّ على قرية
والقول الثالث وهو اختيار المبرد أنا نضمر في الآية زيادة والتقدير ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم وألم تر إلى من كان كالذي مرّ على قرية

المسألة الثانية اختلفوا في الذي مرّ بالقرية فقال قوم كان رجلاً كافراً شاكاً في البعث وهو قول مجاهد وأكثر المفسرين من المعتزلة وقال الباقون إنه كان مسلماً ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي هو عزير وقال عطاء عن ابن عباس هو أرمياء ثم من هؤلاء من قال إن أرمياء هو الخضر عليه السلام وهو رجل من سبط هارون بن عمران عليهما السلام وهو قول محمد بن إسحاق وقال وهب بن منبه إن أرمياء هو النبي الذي بعثه الله عندما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة حجة من قال إن هذا المار كان كافراً وجوه الأول أن الله حكى عنه أنه قال أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ وهذا كلام من يستبعد من الله الإحياء بعد الإماتة وذلك كفر
فإن قيل يجوز أن ذلك وقع منه قبل البلوغ
قلنا لو كان كذلك لم يجز من الله تعالى أن يعجب رسوله منه إذ الصبي لا يتعجب من شكه في مثل ذلك وهذه الحجة ضعيفة لاحتمال أن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشك في قدرة الله تعالى على ذلك بل كان بسبب إطراد العادات في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معموراً وهذا كما أن الواحد منا يشير إلى جبل فيقول متى يقلبه الله ذهباً أو ياقوتاً لا أن مراده منه الشك في قدرة الله تعالى بل على أن مراده منه أن ذلك لا يقع ولا يحصل في مطرد العادات فكذا هاهنا
الوجه الثاني قالوا إنه تعالى قال في حقه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وهذا يدل على أنه قبل ذلك لم يكن ذلك التبين حاصلاً له وهذا أيضاً ضعيف لأن تبين الإحياء على سبيل المشاهدة ما كان حاصلاً له قبل ذلك فأما أن تبين ذلك على سبيل الاستدلال ما كان حاصلاً فهو ممنوع
الوجه الثالث أنه قال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ وهذا يدل على أن هذا العالم إنما حصل له في ذلك الوقت وأنه كان خالياً عن مثل ذلك العلم قبل ذلك الوقت وهذا أيضاً ضعيف لأن تلك المشاهدة لا شك أنها أفادت نوع توكيد وطمأنينة ووثوق وذلك القدر من التأكيد إنما حصل في ذلك الوقت وهذا لا يدل على أن أصل العلم ما كان حاصلاً قبل ذلك
الوجه الرابع لهم أن هذا المار كان كافراً لانتظامه مع نمروذ في سلك واحد وهو ضعيف أيضاً لأن قبله وإن كان قصة نمروذ ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم فوجب أن يكون نبياً من جنس إبراهيم
وحجة من قال إنه كان مؤمناً وكان نبياً وجوه الأول أن قوله أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ يدل على أنه كان عالماً بالله وعلى أنه كان عالماً بأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء إنما يصح أن لو حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة فأما من يعتقد أن القدرة على الإحياء ممتنعة لم يبق لهذا التخصيص فائدة
الحجة الثانية أن قوله كَمْ لَبِثْتَ لا بد له من قائل والمذكور السابق هو الله تعالى فصار التقدير قال الله تعالى كَمْ لَبِثْتَ فقال ذلك الإنسان لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فقال الله تعالى بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ ومما يؤكد أن قائل هذا القول هو الله تعالى قوله وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً لِلنَّاسِ ومن المعلوم أن القادر على جعله آية للناس هو الله تعالى ثم قال وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ولا شك أن قائل هذا

القول هو الله تعالى فثبت أن هذه الآية دالة من هذه الوجوه الكثيرة على أنه تكلم معه ومعلوم أن هذا لا يليق بحال هذا الكافر
فإن قيل لعله تعالى بعث إليه رسولاً أو ملكاً حتى قال له هذا القول عن الله تعالى
قلنا ظاهر هذا الكلام يدل على أن قائل هذه الأقوال معه هو الله تعالى فصرف اللفظ عن هذا الظاهر إلى المجاز من غير دليل يوجبه غير جائز
والحجة الثالثة أن إعادته حياً وإبقاء الطعام والشراب على حالهما وإعادة الحمار حياً بعد ما صار رميماً مع كونه مشاهداً لإعادة أجزاء الحمار إلى التركيب وإلى الحياة إكرام عظيم وتشريف كريم وذلك لا يليق بحال الكافر له
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إن كل هذه الأشياء إنما أدخلها الله تعالى في الوجود إكراماً لإنسان آخر كان نبياً في ذلك الزمان
قلنا لم يجر في هذه الآية ذكر هذا النبي وليس في هذه القصة حالة مشعرة بوجود النبي أصلاً فلو كان المقصود من إظهار هذه الأشياء إكرام ذلك النبي وتأييد رسالته بالمعجزة لكان ترك ذكر ذلك الرسول إهمالاً لما هو الغرض الأصلي من الكلام وأنه لا يجوز
فإن قيل لو كان ذلك الشخص لكان إما أن يقال إنه ادعى النبوّة من قبل الإماتة والإحياء أو بعدهما والأول باطل لأن أرسال النبي من قبل الله يكون لمصلحة تعود على الأمة وذلك لا يتم بعد الإماتة وإن ادعى النبوّة بعد الإحياء فالمعجز قد تقدم على الدعوى وذلك غير جائز
قلنا إظهار خوارق العادات على يد من يعلم الله أنه سيصير رسولاً جائز عندنا وعلى هذا الطريق زال السؤال
الحجة الرابعة أنه تعالى قال في حق هذا الشخص وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً لِلنَّاسِ وهذا اللفظ إنما يستعمل في حق الأنبياء والرسل قال تعالى وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 91 ) فكان هذا وعداً من الله تعالى بأنه يجعله نبياً وأيضاً فهذا الكلام لم يدل على النبوّة بصريحه فلا شك أنه يفيد التشريف العظيم وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر وعلى الشك في قدرة الله تعالى
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من جعله آية أن من عرفه من الناس شاباً كاملاً إذا شاهدوه بعد مائة سنة على شبابه وقد شاخوا أو هرموا أو سمعوا بالخبر أنه كان مات منذ زمان وقد عاد شاباً صح أن يقال لأجل ذلك إنه آية للناس لأنهم يعتبرون بذلك ويعرفون به قدرة الله تعالى ونبوّة نبي ذلك الزمان
والجواب من وجهين الأول أن قوله وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً إخبار عن أنه تعالى يجعله آية وهذا الاخبار إنما وقع بعد أن أحياه الله وتكلم معه والمجعول لا يجعل ثانياً فوجب حمل قوله وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً لِلنَّاسِ على أمر زائد عن هذا الإحياء وأنتم تحملونه على نفس هذا الإحياء فكان باطلاً والثاني أنه وجه التمسك أن قوله وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً لِلنَّاسِ يدل على التشريف العظيم وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى

الحجة الخامسة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول الآية قال إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثيرون ومنهم عزير وكان من علمائهم فجاء بهم إلى بابل فدخل عزير يوماً تلك القرية ونزل تحت شجرة وهو على حمار فربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً فعجب من ذلك وقال أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ لا على سبيل الشك في القدرة بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة وكانت الأشجار مثمرة فتناول من الفاكهة التين والعنب وشرب من عصير العنب ونام فأماته الله تعالى في منامه مائة عام وهو شاب ثم أعمى عن موته أيضاً الإنس والسباع والطير ثم أحياه الله تعالى بعد المائة ونودي من السماء يا عزير كَمْ لَبِثْتَ بعد الموت فقال يَوْماً فأبصر من الشمس بقية فقال أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فقال الله تعالى بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ من التين والعنب وشرابك من العصير لم يتغير طعمهما فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما ثم قال وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ فنظر فإذا هو عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله وسمع صوتاً أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحاً فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض ثم التصق كل عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه ثم جاء الرأس إلى مكانه ثم العصب والعروق ثم أنبت طراء اللحم عليه ثم انبسط الجلد عليه ثم خرجت الشعور عن الجلد ثم نفخ فيه الروح فإذا هو قائم ينهق فخر عزير ساجداً وقال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرخياء مات ببابل وقد كان بختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً ممن قرأ التوراة وكان فيهم عزير والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفاً وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورض بما أملاه فما اختلفا في حرف فعند ذلك قالوا عزير بن الله وهذه الرواية مشهورة فيما بين الناس وذلك يدل على أن ذلك المار كان نبياً
المسألة الثالثة اختلفوا في تلك القرية فقال وهب وقتادة وعكرمة والربيع إيلياء وهي بيت المقدس وقال ابن زيد هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت
أما قوله تعالى وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا قال الأصمعي خوى البيت فهو يخوى خواء ممدود إذا ما خلا من أهله والخوا خلو البطن من الطعام وفي الحديث ( كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا سجد خوى ) أي خلى ما بين عضديه وجنبيه وبطنه وفخذيه وخوى الفرس ما بين قوائمه ثم يقال للبيت إذا انهدم خوى لأنه بتهدمه يخلو من أهله وكذلك خوت النجوم وأخوت إذا سقطت ولم تمطر لأنها خلت عن المطر والعرش سقف البيت والعروش الأبنية والسقوف من الخشب يقال عرش الرجل يعرش ويعرش إذا بني وسقف بخشب فقوله وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا أي منهدمة ساقطة خراب قاله ابن عباس رضي الله عنهما وفيه وجوه أحدها أن حيطانها كانت قائمة وقد تهدمت سقوفها ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المنهدمة ومعنى الخاوية المنقلعة وهي المنقلعة من أصولها يدل عليه قوله تعالى أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة ٍ ( الحاقة 7 ) وموضع آخر أَعْجَازُ نَخْلٍ ( القمر 20 ) وهذه الصفة في خراب المنازل من أحسن ما يوصف به والثاني قوله تعالى وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا أي خاوية عن عروشها جعل عَلَى بمعنى عَنْ كقوله إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ ( المطففين 2 ) أي عنهم والثالث أن المراد أن القرية خاوية

مع كون أشجارها معروشة فكان التعجب من ذلك أكثر لأن الغالب من القرية الخالية الخاوية أن يبطل ما فيها من عروش الفاكهة فلما خربت القرية مع بقاء عروشها كان التعجب أكثر
أما قوله تعالى قَالَ أَنَّى يُحْى ِ هَاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فقد ذكرنا أن من قال المار كان كافراً حمله على الشك في قدرة الله تعالى ومن قال كان نبياً حمله على الاستبعاد بحسب مجاري العرف والعادة أو كان المقصود منه طلب زيادة الدلائل لأجل التأكيد كما قال إبراهيم عليه السلام ( أرني كيف تحيي الموتى ) وقوله إِنّى أي من أين كقوله أَنَّى لَكِ هَاذَا والمراد بإحياء هذه القرية عمارتها أي متى يفعل الله تعالى ذلك على معنى أنه لا يفعله فأحب الله أن يريه في نفسه وفي إحياء القرية آية فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَة َ عَامٍ وقد ذكرنا القصة
فإن قيل ما الفائدة في إماتة الله له مائة عام مع أن الاستدلال بالإحياء يوم أو بعد بعض يوم حاصل
قلنا لأن الإحياء بعد تراخي المدة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدة وأيضاً فلأن بعد تراخي المدة ما يشاهد منه ويشاهد هو من غيره أعجب
أما قوله تعالى ثُمَّ بَعَثَهُ فالمعنى ثم أحياه ويوم القيامة يسمى يوم البعث لأنهم يبعثون من قبورهم وأصله من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها وإنما قال ثُمَّ بَعَثَهُ ولم يقل ثم أحياه لأن قوله ثُمَّ بَعَثَهُ يدل على أنه عاد كما كان أولاً حياً عاقلاً فهما مستعدا للنظر والاستدلال في المعارف الإلاهية ولو قال ثم أحياه لم تحصل هذه الفوائد
أما قوله تعالى قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ففيه مسائل
المسألة الأولى فيه وجهان من القراءة قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإدغام والباقون بالإظهار فمن أدغم فلقرب المخرجين ومن أظهر فلتباين المخرجين وإن كانا قريبين
المسألة الثانية أجمعوا على أن قائل هذا القول هو الله تعالى وإنما عرف أن هذا الخطاب من الله تعالى لأن ذلك الخطاب كان مقروناً بالمعجز ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره وظهور البلى في عظامه ما عرف به أن تلك الخوارق لم تصدر إلا من الله تعالى
المسألة الثالثة في الآية إشكال وهو أن الله تعالى كان عالماً بأنه كان ميتاً وكان عالماً بأن الميت لا يمكنه بعد أن صار حياً أن يعلم أن مدة موته كانت طويلة أم قصيرة فمع ذلك لأي حكمة سأله عن مقدار تلك المدة
والجواب عنه أن المقصود من هذا السؤال التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق
أما قوله تعالى لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ففيه سؤالات
السؤال الأول لم ذكر هذا الترديد
الجواب أن الميت طالت مدة موته أو قصرت فالحال واحدة بالنسبة إليه فأجاب بأقل ما يمكن أن يكون ميتاً لأنه اليقين وفي التفسير أن إماتته كانت في أول النهار فقال يَوْماً ثم لما نظر إلى ضوء

الشمس باقياً على رؤوس الجدران فقال أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
السؤال الثاني أنه لما كان اللبث مائة عام ثم قال لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أليس هذا يكون كذباً
والجواب أنه قال ذلك على حسب الظن ولا يكون مؤاخذاً بهذا الكذب ونظيره أنه تعالى حكى عن أصحاب الكهف أنهم قالوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ على ما توهموه ووقع عندهم وأيضاً قال أخوة يوسف عليه السلام فَقُولُواْ يأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ( يوسف 81 ) وإنما قالوا ذلك بناء على الأمارة من إخراج الصواع من رحله
السؤال الثالث هل علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت أو لم يعلم ذلك بل كان يعتقد أن ذلك اللبث بسبب الموت
الجواب الأظهر أنه علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت وذلك لأن الغرض الأصلي في إماتته ثم إحيائه بعد مائة عام أن يشاهد الإحياء بعد الإماتة وذلك لا يحصل إلا إذا عرف أن ذلك اللبث كان بسبب الموت وهو أيضاً قد شاهد إما في نفسه أو في حماره أحوالاً دالة على أن ذلك اللبث كان بسبب الموت
أما قوله تعالى قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ فالمعنى ظاهر وقيل العام أصله من العوم الذي هو السباحة لأن فيه سبحاً طويلاً لا يمكن من التصرف فيه
أما قوله تعالى فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ففيه مسائل
المسألة الأولى اختلف القراء في إثبات الهاء في الوصل من قوله لَمْ يَتَسَنَّهْ و اقْتَدِهْ و مَالِيَهْ و سُلْطَانِيَهْ و ماهيه بعد أن اتفقوا على إثباتها في الوقف فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل وكان حمزة يحذفهن في الوصل وكان الكسائي يحذف الهاء في الوصل من قوله وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ و اقْتَدِهْ ويثبتها في الوصل في الباقي ولم يختلفوا في قوله لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ( الحاقة 25 26 ) أنها بالهاء في الوصل والوقف
إذا عرفت هذا فنقول أما الحذف ففيه وجوه أحدهما أن اشتقاق قوله يَتَسَنَّهْ من السنة وزعم كثير من الناس أن أصل السنة سنوة قالوا والدليل عليه أنهم يقولون في الاشتقاق منها أسنت القوم إذا أصابتهم السنة وقال الشاعر ورجال مكة مسنتون عجاف
ويقولون في جمعها سنوات وفي الفعل منها سانيت الرجل مساناة إذا عامله سنة سنة وفي التصغير سنية إذا ثبت هذا كان الهاء في قوله لَمْ يَتَسَنَّهْ للسكت لا للأصل وثانيها نقل الواحدي عن الفرّاء أنه قال يجوز أن تكون أصل سنة سننة لأنهم قالوا في تصغيرها سنينة وإن كان ذلك قليلاً فعلى هذا يجوز أن يكون لَمْ يَتَسَنَّهْ أصله لم يتسنن ثم أسقطت النون الأخيرة ثم أدخل عليها هاء السكت عن الوقف عليه كما أن أصل لم يتقض البازي لم يتقضض البازي ثم أسقطت الضاد الأخيرة ثم أدخل عليه هاء

السكت عند الوقف فيقال لم يتقضه وثالثها أن يكون لَمْ يَتَسَنَّهْ مأخوذاً من قوله تعالى مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ( الحجر 26 ) والسن في اللغة هو الصب هكذا قال أبو علي الفارسي فقوله لم يتسنن أي الشراب بقي بحاله لم ينضب وقد أتى عليه مائة عام ثم أنه حذفت النون الأخيرة وأبدلت بها السكت عند الوقف على ما قررناه في الوجه الثاني فهذه الوجوه الثلاثة لبيان الحذف وأما بيان الإثبات فهو أن لَمْ يَتَسَنَّهْ مأخوذ من السنة والسنة أصلها سنهه بدليل أنه يقال في تصغيرها سنيهة ويقال سانهت النخلة بمعنى عاومت وآجرت الدار مسانهة وإذا كان كذلك فالهاء في لَمْ يَتَسَنَّهْ لام الفعل فلا جرم لم يحذف ألبتة لا عند الوصل ولا عند الوقف
المسألة الثانية قوله تعالى لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يتغير وأصل معنى لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يأت عليه السنون لأن مر السنين إذا لم يتغير فكأنها لم تأت عليه ونقلنا عن أبي علي الفارسي لم يتسنن أي لم ينضب الشراب بقي في الآية سؤالان
السؤال الأول أنه تعالى لما قال بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ لا يدل على أنه لبث مائة عام بل يدل ظاهراً على ما قاله من أنه لبث يوماً أو بعض يوم
والجواب أنه كلما كانت الشبهة أقوى مع علم الإنسان في الجملة أنها شبهة كان سماع الدليل المزيل لتلك الشبهة آكد ووقوعه في العمل أكمل فكأنه تعالى لما قال بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ قال فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ فإن هذا مما يؤكد قولك لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فحينئذ يعظم اشتياقك إلى الدليل الذي يكشف عن هذه الشبهة ثم قال بعده وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ فرأى الحمار صار رميماً وعظاماً نخرة فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى فإن الطعام والشراب يسرع التغير فيهما والحمار ربما بقي دهراً طويلاً وزماناً عظيماً فرأى ما لا يبقى باقياً وهو الطعام والشراب وما يبقى غير باق وهو العظام فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى وتمكن وقوع هذه الحجة في عقله وفي قلبه
السؤال الثاني أنه تعالى ذكر الطعام والشراب وقوله لَمْ يَتَسَنَّهْ راجع إلى الشراب لا إلى الطعام
والجواب كما يوصف الشراب بأنه لم يتغير كذلك يوصف الطعام بأنه لم يتغير لا سيما إذا كان الطعام لطيفاً يتسارع الفساد إليه والمروى أن طعامه كان التين والعنب وشرابه كان عصير العنب واللبن وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَهَاذَا
أما قوله تعالى وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ فالمعنى أنه عرفه طول مدة موته بأن شاهد عظام حماره نخرة رميمة وهذا في الحقيقة لا يدل بذاته لأنه لما شاهد انقلاب العظام النخرة حياً في الحال علم أن القادر على ذلك قادر على أن يميت الحمار في الحال ويجعل عظامه رميمة نخرة في الحال وحينئذ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طول مدة الموت بل انقلاب عظام الحمار إلى الحياة معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ قال الضحاك معنى قوله أنه لما أحيى بعد الموت كان دليلاً على صحة البعث وقال غيره كان آية لأن الله تعالى أحياه شاباً أسود الرأس وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والرؤوس

أما قوله تعالى وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً لِلنَّاسِ فقد بينا أن المراد منه التشريف والتعظيم والوعد بالدرجة العالية في الدين والدنيا وذلك لا يليق بمن مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى
فإن قيل ما فائدة الواو في قوله وَلِنَجْعَلَكَ قلنا قال الفرّاء دخلت الواو لأنه فعل بعدها مضمر لأنه لو قال وانظر إلى حمارك لنجعلك آية كان النظر إلى الحمار شرطاً وجعله آية جزاء وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام أما لما قال وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً كان المعنى ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء ومثله قوله تعالى وَكَذالِكَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ ( الأنعام 105 ) والمعنى وليقولوا درست صرفنا الآيات وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( الأنعام 75 ) أي ونريه الملكوت
أما قوله تعالى وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ فأكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره فإن اللام فيه بدل الكناية وقال آخرون أرادوا به عظام هذا الرجل نفسه قالوا إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه وكانت بقية بدنه عظاماً نخرة فكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض وكان يرى حماره واقفاً كما ربطه حين كان حياً لم يأكل ولم يشرب مائة عام وتقدير الكلام على هذا الوجه وانظر إلى عظامك وهذا قول قتادة والربيع وابن زيد وهو عندي ضعيف لوجوه أحدها أن قوله لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ إنما يليق بمن لا يرى أثر التغير في نفسه فيظن أنه كان نائماً في بعض يوم أما من شاهد أجزاء بدنة متفرقة وعظام بدنة رميمة نخرة فلا يليق به ذلك القول وثانيها أنه تعالى حكي عنه أن خاطبه وأجاب فيجب أن يكون المجيب هو الذي أماته الله فإذا كانت الإماتة راجعة إلي كله فالمجيب أيضاً الذي بعثه الله يجب أن يكون جملة الشخص وثالثها أن قوله فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَة َ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ يدل على أن تلك الجملة أحياها وبعثها
أما قوله كَيْفَ فالمراد يحييها يقال أنشر الله الميت ونشره قال تعالى فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله تعالى قَالَ مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا ( ي س 78 79 ) وقرىء ننشرها بفتح النون وضم الشين قال الفرّاء كأنه ذهب إلى النشر بعد الطي وذلك أن بالحياة يكون الانبساط في التصرف فهو كأنه مطوي ما دام ميتاً فإذا عاد صار كأنه نشر بعد الطي وقرأ حمزة والكسائي كَيْفَ نُنشِزُهَا بالزاي المنقوطة من فوق والمعنى نرفع بعضها إلى بعض وانشاز الشيء رفعه يقال أنشزته فنشز أي رفعته فارتفع ويقال لما ارتفع من الأرض نشز ومنه نشوز المرأة وهو أن ترتفع عن حد رضا الزوج ومعنى الآية على هذه القراءة كيف نرفعها من الأرض فتردها إلى أماكنها من الجسد ونركب بعضها على البعض وروي عن النخعي أنه كان يقرأ نُنشِزُهَا بفتح النون وضم الشين والزاي ووجهه ما قال الأخفش أنه يقال نشزته وأنشزته أي رفعته والمعنى من جميع القراءات أنه تعالى ركب العظام بعضها على بعض حتى اتصلت على نظام ثم بسط اللحم عليها ونشر العروق والأعصاب واللحوم والجلود عليها ورفع بعضه إلى جنب البعض فيكون كل القراءات داخلاً في ذلك
ثم قال تعالى فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وهذا راجع إلى ما تقدم ذكره من قوله أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ

والمعنى فلما تبين له وقوع ما كان يستبعد وقوعه وقال صاحب ( الكشاف ) فاعل تَبَيَّنَ لَهُ مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ فحذف الأول لدلالة الثاني عليه وهذا عندي فيه تعسف بل الصحيح أنه لما تبين له أمر الإماتة والإحياء على سبيل المشاهدة قال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ وتأويله أني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك الاستدلال وقرأ حمزة والكسائي قَالَ أَعْلَمُ على لفظ الأمر وفيه وجهان أحدهما أنه عند التبين أمر نفسه بذلك قال الأعشى ودع أمامة إن الركب قد رحلوا
والثاني أن الله تعالى قال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عبد الله والأعمش قيل أعلم أن الله على كل شيء قدير ويؤكده قوله في قصة إبراهيم رَبّى وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ ( البقرة 260 ) ثم قال في آخرها وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( البقرة 260 ) قال القاضي والقراءة الأولى وذلك لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به وهاهنا العلم حاصل بدليل قوله فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ فكان الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك غير جائز أما الاخبار عن أنه حصل كان جائزاً
القصة الثالثة
وهي أيضاً دالة على صحة البعث
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَاكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَة ً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في عامل إِذْ قولان قال الزجاج التقدير اذكر إذ قال إبراهيم وقال غيره إنه معطوف على قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ ألم تر إذ حاج إبراهيم في ربه وألم تر إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى
المسألة الثانية أنه تعالى لم يسم عزيراً حين قال أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ ( البقرة 259 ) وسمى هاهنا إبراهيم مع أن المقصود من البحث في كلتا القصتين شيء واحد والسبب أن عزيراً لم يحفظ الأدب بل قال أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ وإبراهيم حفظ الأدب فإنه أثنى على الله أولاً بقوله رَبّ ثم دعا حيث قال أَرِنِى وأيضاً أن إبراهيم لما راعى الأدب جعل الإحياء والإماتة في الطيور وعزيراً لما لم يراع الأدب جعل الإحياء والإماتة في نفسه

المسألة الثالثة ذكروا في سبب سؤال إبراهيم وجوهاً الأول قال الحسن والضحاك وقتادة وعطاء وابن جريج أنه رأى جيفة مطروحة في شط البحر فإذا مد البحر أكل منها دواب البحر وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت وإذا ذهبت السباع جاءت الطيور فأكلت وطارت فقال إبراهيم رب أرني كيف تجمع أجزاء الحيوان من بطون السباع والطيور ودواب البحر فقيل أو لم تؤمن قال بلى ولكن المطلوب من السؤال أن يصير العلم بالاستدلال ضرورياً
الوجه الثاني قال محمد بن إسحاق والقاضي سبب السؤال أنه مع مناظرته مع نمروذ لما قال رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْى ِ وَأُمِيتُ فأطلق محبوساً وقتل رجلاً قال إبراهيم ليس هذا بإحياء وإماتة وعند ذلك قال رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى لتنكشف هذه المسألة عند نمروذ وأتباعه وروي عن نمرود أنه قال قل لربك حتى يحيي وإلا قتلتك فسأل الله تعالى ذلك وقوله لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى بنجاتي من القتل أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي وبرهاني وإن عدولي منها إلى غيرها ما كان بسبب ضعف تلك الحجة بل كان بسبب جهل المستمع
والوجه الثالث قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي رضي الله عنهم أن الله تعالى أوحى إليه إني متخذ بشراً خليلاً فاستعظم ذلك إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إلاهي ما علامات ذلك فقال علامته أنه يحيي الميت بدعائه فلما عظم مقام إبراهيم عليه السلام في درجات العبودية وأداء الرسالة خطر بباله إني لعلي أن أكون ذلك الخليل فسأل إحياء الميت فقال الله أَوَلَمْ نُؤْمِنُ قَالَ بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى على أنني خليل لك
الوجه الرابع أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما سأل ذلك لقومه وذلك أتباع الأنبياء كانوا يطالبونهم بأشياء تارة باطلة وتارة حقة كقولهم لموسى عليه السلام ( اجعل لنا إلاهاً كما لهم آلهة ) فسأل إبراهيم ذلك والمقصود أن يشاهده فيزول الإنكار عن قلوبهم
الوجه الخامس ما خطر ببالي فقلت لا شك أن الأمة كما يحتاجون في العلم بأن الرسول صادق في ادعاء الرسالة إلى معجز يظهر على يده فكذلك الرسول عند وصول الملك إليه وإخباره إياه بأن الله بعثه رسولاً يحتاج إلى معجز يظهر على يد ذلك الملك ليعلم الرسول أن ذلك الواصل ملك كريم لا شيطان رجيم وكذا إذا سمع الملك كلام الله احتاج إلى معجز يدل على أن ذلك الكلام كلام الله تعالى لا كلام غيره وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال إنه لما جاء الملك إلى إبراهيم وأخبره بأن الله تعالى بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجز فقال رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم
الوجه السادس وهو على لسان أهل التصوف أن المراد من الموتى القلوب المحجوبة عن أنوار المكاشفات والتجلي والإحياء عبارة عن حصول ذلك التجلي والأنوار الإلاهية فقوله وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ طلب لذلك التجلي والمكاشفات فقال أولم تؤمن قال بلى أو من به إيمان الغيب ولكن أطلب حصولها ليطمئن قلبي بسبب حصول ذلك التجلي وعلى قول المتكلمين العلم الاستدلالي مما يتطرق إليه

الشبهات والشكوك فطلب علماً ضرورياً يستقر القلب معه استقرار لا يتخالجه شيء من الشكوك والشبهات
الوجه السابع لعله طالع في الصحف التي أنزلها الله تعالى عليه أنه يشرف ولده عيسى بأنه يحيي الموتى بدعائه فطلب ذلك فقيل له أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى على أني لست أقل منزلة في حضرتك من ولدي عيسى
الوجه الثامن أن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بذبح الولد فسارع إليه ثم قال أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح ففعلت وأنا أسألك أن تجعل غير ذي روح روحانياً فقال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي على أنك اتخذتني خليلاً
الوجه التاسع نظر إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) في قلبه فرآه ميتاً بحب ولده فاستحيي من الله وقال أرني كيف تحيي الموتى أي القلب إذا مات بسبب الغفلة كيف يكون إحياؤه بذكر الله تعالى
الوجه العاشر تقدير الآية أن جميع الخلق يشاهدون الحشر يوم القيامة فأرني ذلك في الدنيا فقال أولم نؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي على أن خصصتني في الدنيا بمزيد هذا التشريف
الوجه الحادي عشر لم يكن قصد إبراهيم إحياء الموتى بل كان قصده سماع الكلام بلا واسطة
الثاني عشر ما قاله قوم من الجهال وهو أن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) كان شاكاً في معرفة المبدأ وفي معرفة المعاد أما شكه في معرفة المبدأ فقوله هَاذَا رَبّى وقوله لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لاَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالّينَ ( الأنعام 77 ) وأما شكه في المعاد فهو في هذه الآية وهذا القول سخيف بل كفر وذلك لأن الجاهل بقدرة الله تعالى على إحياء الموتى كافر فمن نسب النبي المعصوم إلى ذلك فقد كفر النبي المعصوم فكان هذا بالكفر أولى ومما يدل على فساد ذلك وجوه أحدها قوله تعالى أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ولو كان شاكاً لم يصح ذلك وثانيها قوله وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى وذلك كلام عارف طالب لمزيد اليقين ومنها أن الشك في قدرة الله تعالى يوجب الشك في النبوّة فكيف يعرف نبوّة نفسه
أما قوله تعالى أَوَلَمْ تُؤْمِن ففيه وجهان أحدهما أنه استفهام بمعنى التقرير قال الشاعر ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
والثاني المقصود من هذا السؤال أن يجيب بما أجاب به ليعلم السامعون أنه عليه السلام كان مؤمناً بذلك عارفاً به وأن المقصود من هذا السؤال شيء آخر
أما قوله تعالى قَالَ بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى فاعلم أن اللام في لّيَطْمَئِنَّ متعلق بمحذوف والتقدير سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب قالوا والمراد منه أن يزول عنه الخواطر التي تعرض للمستدل وإلا فاليقين حاصل على كلتا الحالتين
وهاهنا بحث عقلي وهو أن التفسير مفرع على أن العلوم يجوز أن يكون بعضها أقوى من بعض وفيه سؤال صعب وهو أن الإنسان حال حصول العلم له إما أن يكون مجوزاً لنقيضه وإما أن لا يكون فإن

جوّز نقيضه بوجه من الوجوه فذاك ظن قوي لا اعتقاد جازم وإن لم يجوز نقيضه بوجه من الوجوه امتنع وقوع التفاوت في العلوم
واعلم أن هذا الإشكال إنما يتوجه إذا قلنا المطلوب هو حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء أما لو قلنا المقصود شيء آخر فالسؤال زائل
أما قوله تعالى فَخُذْ أَرْبَعَة ً مّنَ الطَّيْرِ فقال ابن عباس رضي الله عنهما أخذ طاوساً ونسراً وغراباً وديكاً وفي قول مجاهد وابن زيد رضي الله عنهما حمامة بدل النسر وهاهنا أبحاث
البحث الأول أنه لما خص الطير من جملة الحيوانات بهذه الحالة ذكروا فيه وجهين الأول أن الطيران في السماء والارتفاع في الهواء والخليل كانت همته العلو والوصول إلى الملكوت فجعلت معجزته مشاكلة لهمته
والوجه الثاني أن الخليل عليه السلام لما ذبح الطيور وجعلها قطعة قطعة ووضع على رأس كل جبل قطعاً مختلطة ثم دعاها طار كل جزء إلى مشاكله فقيل له كما طار كل جزء إلى مشاكله كذا يوم القيامة يطير كل جزء إلى مشاكله حتى تتألف الأبدان وتتصل به الأرواح ويقرره قوله تعالى يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ( القمر 7 )
البحث الثاني أن المقصود من الإحياء والإماتة كان حاصلاً بحيوان واحد فلم أمر بأخذ أربع حيوانات وفيه وجهان الأول أن المعنى فيه أنك سألت واحداً على قدر العبودية وأنا أعطي أربعاً على قدر الربوبية والثاني أن الطيور الأربعة إشارة إلى الأركان الأربعة التي منها تركيب أبدان الحيوانات والنباتات والإشارة فيه أنك ما لم تفرق بين هذه الطيور الأربعة لا يقدر طير الروح على الارتفاع إلى هواء الربوبية وصفاء عالم القدس
البحث الثالث إنما خص هذه الحيوانات لأن الطاوس إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة والجاه والترفع قال تعالى زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ( آل عمران 14 ) والنسر إشارة إلى شدة الشغف بالأكل والديك إشارة إلى شدة الشغف بقضاء الشهوة من الفرج والغراب إشارة إلى شدة الحرص على الجمع والطلب فإن من حرص الغراب أنه يطير بالليل ويخرج بالنهار في غاية البرد للطلب والإشارة فيه إلى أن الإنسان ما لم يسع في قتل شهوة النفس والفرج وفي إبطال الحرص وإبطال التزين للخلق لم يجد في قلبه روحاً وراحة من نور جلال الله
أما قوله تعالى فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ بكسر الصاد والباقون بضم الصاد أما الضم ففيه قولان الأول أن من صرت الشيء أصوره إذا أملته إليه ورجل أصور أي مائل العنق ويقال صار فلان إلى كذا إذا قال به ومال إليه وعلى هذا التفسير يحصل في الكلام محذوف كأنه قيل أملهن إليك وقطعهن ثم اجعل على كل جبل منهن جزأ فحذف الجملة التي هي قطعهن لدلالة الكلام عليه كقوله أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ

الْبَحْرَ فَانفَلَقَ على معنى فضرب فانفلق لأن قوله ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ يدل على التقطيع
فإن قيل ما الفائدة في أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها
قلنا الفائدة أن يتأمل فيها ويعرف أشكالها وهيآتها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك
والقول الثاني وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد أَنزَلْنَا إِلَيْكَ معناه قطعهن يقال صار الشيء يصوره صوراً إذ قطعه قال رؤبة يصف خصماً ألد صرناه بالحكم أي قطعناه وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار وأما قراءة حمزة بكسر الصاد فقد فسّر هذه الكلمة أيضاً تارة بالإمالة وأخرى بالتقطيع أما الإمالة فقال الفرّاء هذه لغة هذيل وسليم صاره يصيره إذا أماته وقال الأخفش وغيره صرهن بكسر الصاد قطعهن يقال صاره يصيره إذا قطعه قال الفرّاء أظن أن ذلك مقلوب من صرى يصري إذا قطع فقدمت ياؤها كما قالوا عثا وعاث قال المبرّد وهذا لا يصح لأن كل واحد من هذين اللفظين أصل في نفسه مستقل بذاته فلا يجوز جعل أحدهما فرعاً عن الآخر
المسألة الثانية أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية قطعهن وأن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها ودماءها وخلط بعضها على بعض غير أبي مسلم فإنه أنكر ذلك وقال إن إبراهيم عليه السلام لما طلب إحياء الميت من الله تعالى أراه الله تعالى مثالا قرب به الأمر عليه والمراد بصرهن إليك الإمالة والتمرين على الإجابة أي فعود الطيور الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها أجابتك وأتتك فإذا صارت كذلك فاجعل على كل جبل واحداً حال حياته ثم ادعهن يأتينك سعياً والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر القول بأن المراد منه فقطعهن واحتج عليه بوجوه الأول أن المشهور في اللغة في قوله الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ أملهن وأما التقطيع والذبح فليس في الآية ما يدل عليه فكان إدراجه في الآية إلحاقاً لزيادة بالآية لم يدل الدليل عليها وأنه لا يجوز والثاني أنه لو كان المراد بصرهن قطعهن لم يقل إليك فإن ذلك لا يتعدى بإلي وإنما يتعدى بهذا الحرف إذا كان بمعنى الإمالة
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديم وتأخير والتقدير فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن
قلنا التزام التقديم والتأخير من غير دليل ملجىء إلى التزامه خلاف الظاهر والثالث أن الضمير في قوله ثُمَّ ادْعُهُنَّ عائد إليها لا إلى أجزائها وإذا كانت الأجزاء متفرقة متفاصلة وكان الموضوع على كل جبل بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائداً إلى تلك الأجزاء لا إليها وهو خلاف الظاهر وأيضاً الضمير في قوله يَأْتِينَكَ سَعْيًا عائداً إليها لا إلى إجزائها وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض كان الضمير في يَأْتِينَكَ عائداً إلى أجزائها لا إليها واحتج القائلون بالقول المشهور بوجوه الأول أن كل المفسرين الذين كانوا قبل أبو مسلم أجمعوا على أنه حصل ذبح تلك الطيور وتقطيع أجزائها فيكون إنكار ذلك إنكاراً للإجماع والثاني أن ما ذكره غير مختص بإبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) فلا يكون له فيه مزية على العير والثالث أن إبراهيم أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى وظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ذلك وعلى قول أبي مسلم لا تحصل الإجابة في الحقيقة والرابع أن قوله ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا يدل

على أن تلك الطيور جعلت جزأ جزأ قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه أنه أضاف الجزء إلى الأربعة فيجب أن يكون المراد بالجزء هو الواحد من تلك الأربعة والجواب أن ما ذكرته وإن كان محتملاً إلا أن حمل الجزء على ما ذكرناه أظهر والتقدير فاجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزأً أو بعضاً
أما قوله تعالى ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا ففيه مسائل
المسألة الأولى ظاهر قوله عَلَى كُلّ جَبَلٍ جميع جبال الدنيا فذهب مجاهد والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان كأنه قيل فرقها على كل جبل يمكنك التفرقة عليه وقال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع أربعة جبال على حسب الطيور الأربعة وعلى حسب الجهات الأربعة أيضاً أعني المشرق والمغرب والشمال والجنوب وقال السدي وابن جريج سبعة من الجبال لأن المراد كل جبل يشاهده إبراهيم عليه السلام حتى يصح منه دعاء الطير لأن ذلك لا يتم إلا بالمشاهدة والجبال التي كان يشاهدها إبراهيم عليه السلام سبعة
المسألة الثانية روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بذبحها ونتف ريشها وتقطيعها جزءاً جزءاً وخلط دمائها ولحومها وأن يمسك رؤوسها ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال على كل جبل ربعاً من كل طائر ثم يصيح بها تعالين بإذن الله تعالى ثم أخذ كل جزء يطير إلى الآخر حتى تكاملت الجثث ثم أقبلت كل جثة إلى رأسها وانضم كل رأس إلى جثته وصار الكل أحياء بإذن الله تعالى
المسألة الثالثة قرأ عاصم في رواية أبي بكر والفضل جُزْءا مثقلاً مهموزاً حيث وقع والباقون مهمزاً مخففاً وهما لغتان بمعنى واحد
أما قوله تعالى ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا فقيل عدواً ومشياً على أرجلهن لأن ذلك أبلغ في الحجة وقيل طيراناً وليس يصح لأنه لا يقال للطير إذا طار سعى ومنهم من أجاب عنه بأن السعي هو الاشتداد في الحركة فإن كانت الحركة طيراناً فالسعي فيها هو الاشتداد في تلك الحركة
وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على أن البنية ليست شرطاً في صحة الحياة وذلك لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حياً فاهماً للنداء قادراً على السعي والعدو فدل ذلك على أن البنية ليست شرطاً في صحة الحياة قال القاضي الآية دالة على أنه لا بد من البنية من حيث أوجب التقطيع بطلان حياتها
والجواب أنه ضعيف لأن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة أما الانفكاك عنه في بعض الأحوال فإنه يدل على أن المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ولما دلّت الآية على حصول فهم النداء والقدرة على السعي لتلك الأجزاء حال تفرقها كان دليلاً قاطعاً على أن البنية ليست شرطاً للحياة
أما قوله تعالى وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فالمعنى أنه غالب على جميع الممكنات حَكِيمٌ أي عليم بعواقب الأمور وغايات الأشياء

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَة ٍ مِّاْئَة ُ حَبَّة ٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
إعلم أنه سبحانه لما ذكر من بيان أصول العلم بالمبدأ وبالمعاد ومن دلائل صحتهما ما أراد أتبع ذلك ببيان الشرائع والأحكام والتكاليف
فالحكم الأول في بيان التكاليف المعتبرة في إنفاق الأموال وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجوه الأول قال القاضي رحمه الله إنه تعالى لما أجمل في قوله مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة ً فصل بعد ذلك في هذه الآية تلك الأضعاف وإنما ذكر بين الآيتين الأدلة على قدرته بالإحياء ولإماتة من حيث لولا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب لكان الإنفاق في سائر الطاعات عبثاً فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق قد عرفت أني خلقتك وأكملت نعمتي عليك بالإحياء والأقدار وقد علمت قدرتي على المجازاة والإثابة فليكن علمك بهذه الأحوال داعياً إلى إنفاق المال فإنه يجازي القليل بالكثير ثم ضرب لذلك الكثير مثلاً وهو أن من بذر حبة أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة فصارت الواحدة سبعمائة
الوجه الثاني في بيان النظم ما ذكره الأصم وهو أنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتج على الكل بما يوجب تصديق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليرغبوا في المجاهدة بالنفس والمال في نصرته وإعلاء شريعته
والوجه الثالث لما بين تعالى أنه ولي المؤمنين وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت بين مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت
المسألة الثانية في الآية إضمار والتقدير مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم كمثل حبة وقيل مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع حبة
المسألة الثالثة معنى يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني في دينه قيل أراد النفقة في الجهاد خاصة وقيل جميع أبواب البر ويدخل فيه الواجب والنفل من الإنفاق في الهجرة مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن الإنفاق في الجهاد على نفسه وعلى الغير ومن صرف المال إلى الصدقات ومن إنفاقها في المصالح لأن كل ذلك معدود في السبيل الذي هو دين الله وطريقته لأن كل ذلك إنفاق في سبيل الله
فإن قيل فهل رأيت سنبلة فيها مائة حبة حتى يضرب المثل بها
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن المقصود من الآية أنه لو علم إنسان يطلب الزيادة والربح أنه

إذا بذر حبة واحدة أخرجت له سبعمائة حبة ما كان ينبغي له ترك ذلك ولا التقصير فيه فكذلك ينبغي لمن طلب الأجر في الآخرة عند الله أن لا يتركه إذا علم أنه يحصل له على الواحدة عشرة ومائة وسبعمائة وإذا كان هذا المعنى معقولاً سواء وجد في الدنيا سنبلة بهذه الصفة أو لم يوجد كان المعنى حاصلاً مستقيماً وهذا قول القفال رحمه الله وهو حسن جداً
والجواب الثاني أنه شوهد ذلك في سنبلة الجاورس وهذا الجواب في غاية الركاكة
المسألة الرابعة كان أبو عمرو وحمزة والكسائي يدغمون التاء في السين في قوله أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ لأنهما حرفان مهموسان والباقون بالإظهار على الأصل
ثم قال وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وليس فيه بيان كمية تلك المضاعفة ولا بيان من يشرفه الله بهذه المضاعفة بل يجب أن يجوز أنه تعالى يضاعف لكل المتقين ويجوز أن يضاعف لبعضهم من حيث يكون إنفاقه أدخل في الإخلاص أو لأنه تعالى بفضله وإحسانه يجعل طاعته مقرونة بمزيد القبول والثواب
ثم قال وَاللَّهُ سَمِيعٌ أي واسع القدرة على المجازاة على الجود والافضال عليهم بمقادير الانفاقات وكيفية ما يستحق عليها ومتى كان الأمر كذلك لم يصر عمل العامل ضائعاً عند الله تعالى
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواْ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
إعلم أنه تعالى لما اعظم أمر الانفاق في سبيل الله أتبعه ببيان الأمور التي يجب تحصيلها حتى يبقى ذلك الثواب منها ترك المن والأذى ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى نزلت الآية في عثمان وعبد الرحمن بن عوف أما عثمان فجهز جيش العسرة في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وألف دينار فرفع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يديه يقول يا رب عثمان رضيت عنه فارض عنه وأما عبد الرحمن بن عوف فإنه تصدق بنصف ماله أربعة آلاف دينار فنزلت الآية
المسألة الثانية قال بعض المفسرين إن الآية المتقدمة مختصة بمن أنفق على نفسه وهذه الآية بمن أنفق على غيره فبيّن تعالى أن الانفاق على الغير إنما يوجب الثواب العظيم المذكور في الآية إذا لم يتبعه بمن ولا أذى قال القفال رحمه الله وقد يحتمل أن يكون هذا الشرط معتبراً أيضاً فيمن أنفق على نفسه وذلك هو أن ينفق على نفسه ويحضر الجهاد مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين ابتغاء لمرضاة الله تعالى ولا يمن به على

النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين ولا يؤذي أحداً من المؤمنين مثل أن يقول لو لم أحضر لما تم هذا الأمر ويقول لغيره أنت ضعيف بطال لا منفعة منك في الجهاد
المسألة الثالثة الْمَنَّ في اللغة على وجوه أحدها بمعنى الانعام يقال قد من الله على فلان إذا أنعم أو لفلان على منّة وأنشد ابن الأنباري فمني علينا بالسلام فإنما
كلامك ياقوت ودر منظم
ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من الناس أحد أمن علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة ) يريد أكثر إنعاماً بماله وأيضاً الله تعالى يوصف بأنه منان أي منعم
والوجه الثاني في التفسير الْمَنَّ النقص من الحق والبخس له قال تعالى وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع وغير ممنوع ومنه سمي الموت منوناً لأنه ينقص الأعمار ويقطع الأعذار ومن هذا الباب المنة المذمومة لأن ينقص النعمة ويكدرها والعرب يمتدحون بترك المن بالنعمة قال قائلهم زاد معروفك عندي عظما
أنه عندي مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته
وهو في العالم مشهور كثير
إذا عرفت هذا فنقول المن هو إظهار الاصطناع إليهم والأذى شكايته منهم بسبب ما أعطاهم وإنما كان المن مذموماً لوجوه الأول أن الفقير الآخذ للصدقة منكسر القلب لأجل حاجته إلى صدقة غير معترف باليد العليا للمعطي فإذا أضاف المعطي إلى ذلك إظهار ذلك الإنعام زاد ذلك في انكسار قلبه فيكون في حكم المضرة بعد المنفعة وفي حكم المسيء إليه بعد أن أحسن إليه والثاني إظهار المن يبعد أهل الحاجة عن الرغبة في صدقته إذا اشتهر من طريقه ذلك الثالث أن المعطي يجب أن يعتقد أن هذه النعمة من الله تعالى عليه وأن يعتقد أن لله عليه نعماً عظيمة حيث وفقه لهذا العمل وأن يخاف أنه هل قرن بهذا الانعام ما يخرجه عن قبول الله إياه ومتى كان الأمر كذلك امتنع أن يجعله منة على الغير الرابع وهو السر الأصلي أنه إن علم أن ذلك الإعطاء إنما تيسر لأن الله تعالى هيأ له أسباب الاعطاء وأزال أسباب المنع ومتى كان الأمر كذلك كان المعطي هو الله في الحقيقة لا العبد فالعبد إذا كان في هذه الدرجة كان قلبه مستنيراً بنور الله تعالى وإذا لم يكن كذلك بل كان مشغولاً بالأسباب الجسمانية الظاهرة وكان محروماً عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقة فكان في درجة البهائم الذين لا يترقى نظرهم عن المحسوس إلى المعقول وعن الآثار إلى المؤثر وأما الأذى فقد اختلفوا فيه منهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين وليس ذلك بالمن بل يجب أن يكون مختصاً بما تقدم ذكره وهو مثل أن يقول للفقير أنت أبداً تجيئني بالإيلام وفرج الله عني منك وباعد ما بيني وبينك فبيّن سبحانه وتعالى أن من أنفق ماله ثم أنه لا يتبعه المن والأذى فله الأجر العظيم والثواب الجزيل
فإن قيل ظاهر اللفظ أنهما بمجموعهما يبطلان الأجر فيلزم أنه لو وجد أحدهما دون الثاني لا يبطل الأجر

قلنا بل الشرط أن لا يوجد واحد منهما لأن قوله لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا وَلا أَذًى يقتضي أن لا يقع منه لا هذا ولا ذاك
المسألة الرابعة قالت المعتزلة الآية دالة على أن الكبائر تحبط ثواب فاعلها وذلك لأنه تعالى بيّن أن هذا الثواب إنما يبقى إذا لم يوجد المن والأذى لأنه لو ثبت مع فقدهما ومع وجودهما لم يكن لهذا الاشتراط فائدة
أجاب أصحابنا بأن المراد من الآية أن حصول المن والأذى يخرجان الانفاق من أن يكون فيه أجر وثواب أصلاً من حيث يدلان على أنه إنما أنفق لكي يمن ولم ينفق لطلب رضوان الله ولا على وجه القربة والعبادة فلا جرم بطل الأجر طعن القاضي في هذا الجواب فقال إنه تعالى بيّن أن هذا الانفاق قد صح ولذلك قال ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ وكلمة ثُمَّ للتراخي وما يكون متأخراً عن الانفاق موجب للثواب لأن شرط المتأثر يجب أن يكون حاصلاً حال حصول المؤثر لا بعده
أجاب أصحابنا عنه من وجوه الأول أن ذكر المن والأذى وإن كان متأخراً عن الانفاق إلا أن هذا الذكر المتأخر يدل ظاهراً على أنه حين أنفق ما كان إنفاقه لوجه الله بل لأجل الترفع على الناس وطلب الرياء والسمعة ومتى كان الأمر كذلك كان إنفاقه غير موجب للثواب والثاني هب أن هذا الشرط متأخر ولكن لم يجوز أن يقال إن تأثير المؤثر يتوقف على أن لا يوجد بعده ما يضاده على ما هو مذهب أصحاب الموافاة وتقريره معلوم في علم الكلام
المسألة الخامسة الآية دلت أن المن والأذى من الكبائر حيث تخرج هذه الطاعة العظيمة بسبب كل واحد منهما عن أن تفيد ذلك الثواب الجزيل
أما قوله لَهُمْ أَجْرُهُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن العمل يوجب الأجر على الله تعالى وأصحابنا يقولون حصول الأجر بسبب الوعد لا بسبب نفس العمل لأن العمل واجب على العبد وأداء الواجب لا يوجب الأجر
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على نفي الإحباط وذلك لأنها تدل على أن الأجر حاصل لهم على الاطلاق فوجب أن يكون الأجر حاصلاً لهم بعد فعل الكبائر وذلك يبطل القول بالإحباط
المسألة الثالثة أجمعت الأمة على أن قوله لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ مشروط بأن لا يوجد منه الكفر وذلك يدل على أنه يجوز التكلم بالعام لإرادة الخاص ومتى جاز ذلك في الجملة لم تكن دلالة اللفظ العام على الاستغراق دلالة قطعية وذلك يوجب سقوط دلائل المعتزلة في التمسك بالعمومات على القطع بالوعيد
أما قوله وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ففيه قولان الأول أن إنفاقهم في سبيل الله لا يضيع بل ثوابه موفر عليهم يوم القيامة لا يخافون من أن لا يوجد ولا يحزنون بسبب أن لا يوجد وهو كقوله تعالى وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً ( طه 112 ) والثاني أن يكون

المراد أنهم يوم القيامة لا يخافون العذاب ألبتة كما قال وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ ( النمل 89 ) وقال لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 )
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَة ٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَة ٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِى ٌّ حَلِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاٌّ ذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَى ْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّة ٍ بِرَبْوَة ٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
أما القول المعروف فهو القول الذي تقبله القلوب ولا تنكره والمراد منه هاهنا أن يرد السائل بطريق جميل حسن وقال عطاء عدة حسنة أما المغفرة ففيه وجوه أحدها أن الفقير إذا رد بغير مقصوده شق عليه ذلك فربما حمله ذلك على بذاءة اللسان فأمر بالعفو عن بذاءة الفقير والصفح عن إساءته وثانيها أن يكون المراد ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل وثالثها أن يكون المراد من المغفرة أن يستر حاجة الفقير ولا يهتك ستره والمراد من القول المعرروف رده بأحسن الطرق وبالمغفرة أن لا يهتك ستره بأن يذكر حاله عند من يكره الفقير وقوفه على حاله ورابعها أن قوله قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ خطاب مع المسؤول بأن يرد السائل بأحسن الطرق وقوله وَمَغْفِرَة ٌ خطاب مع السائل بأن يعذر المسؤول في ذلك الرد فربما لم يقدر على ذلك الشيء في تلك الحالة ثم بيّن تعالى أن فعل الرجل لهذين الأمرين خير له من صدقة يتبعها أذى وسبب هذا الترجيح أنه إذا أعطى ثم أتبع الإعطاء بالإيذاء فهناك جمع بين الانفاع والإضرار وربما لم يف ثواب الانفاع بعقاب الإضرار وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إنه يتضمن إيصال السرور إلى قلب المسلم ولم يقترن به الإضرار فكان هذا خيراً من الأول

واعلم أن من الناس من قال إن الآية واردة في التطوع لأن الواجب لا يحل منعه ولا رد السائل منه وقد يحتمل أن يراد به الواجب وقد يعدل به عن سائل إلى سائل وعن فقير إلى فقير
ثم قال وَاللَّهُ غَنِى ٌّ عن صدقة العباد فإنما أمركم بها ليثيبكم عليها حَلِيمٌ إذا لم يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بصدقته وهذا سخط منه ووعيد له ثم إنه تعالى وصف هذين النوعين على الإنفاق أحدهما الذي يتبعه المن والأذى والثاني الذي لا يتبعه المن والأذى فشرح حال كل واحد منهما وضرب مثلاً لكل واحد منهما
فقال في القسم الأول الذي يتبعه المن والأذى حَلِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال القاضي إنه تعالى آكد النهي عن إبطال الصدقة بالمن والأذى وأزال كل شبهة للمرجئة بأن بيّن أن المراد أن المن والأذى يبطلان الصدقة ومعلوم أن الصدقة قد وقعت وتقدمت فلا يصح أن تبطل فالمراد إبطال أجرها وثوابها لأن الأجر لم يحصل بعد وهو مستقبل فيصح إبطاله بما يأتيه من المن والأذى
واعلم أنه تعالى ذكر لكيفية إبطال أجر الصدقة بالمن والأذى مثلين فمثله أولاً بمن ينفق ماله رئاء الناس وهو مع ذلك كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر لأن بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر أظهر من بطلان أجر صدقة من يتبعها المن والأذى ثم مثله ثانياً بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار ثم أصابه المطر القوي فيزيل ذلك الغبار عنه حتى يصير كأنه ما كان عليه غبار ولا تراب أصلاً فالكافر كالصفوان والتراب مثل ذلك الإنفاق والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر وكالمن والأذى اللذين يحبطان عمل هذا المنفق قال فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان فكذا المن والأذى يوجب أن يكونا مبطلين لأجر الانفاق بعد حصوله وذلك صريح في القول بالاحباط والتفكير قال الجبائي وكما دل هذا النص على صحة قولنا فالعقل دل عليه أيضاً وذلك لأن من أطاع وعصى فلو استحق ثواب طاعته وعقاب معصيته لوجب أن يستحق النقيضين لأن شرط الثواب أن يكون منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال وشرط العقاب أن يكون مضرة خالصة دائمة مقرونة بالإذلال فلو لم تقع المحابطة لحصل استحقاق النقيضين وذلك محال ولأنه حين يعاقبه فقد منعه الإثابة ومنع الإثابة ظلم وهذا العقاب عدل فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلاً من حيث إنه حقه وأن يكون ظلماً من حيث إنه منع الإثابة فيكون ظالماً بنفس الفعل الذي هو عادل فيه وذلك محال فصح بهذا قولنا في الإحباط والتفكير بهذا النص وبدلالة العقل هذا كلام المعتزلة
وأما أصحابنا فإنهم قالوا ليس المراد بقوله لاَ تُبْطِلُواْ النهي عن إزالة هذا الثواب بعد ثبوته بل المراد به أن يأتي بهذا العمل باطلاً وذلك لأنه إذا قصد به غير وجه الله تعالى فقد أتى به من الابتداء على نعت البطلان واحتج أصحابنا على بطلان قول المعتزلة بوجوه من الدلائل
أولها أن النافي والطارىء إن لم يكن بينهما منافاة لم يلزم من طريان الطارىء زوال النافي وإن

حصلت بينهما منافاة لم يكن اندفاع الطارىء أولى من زوال النافي بل ربما كان هذا أولى لأن الدفع أسهل من الرفع
ثانيها أن الطارىء لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي وهو محال لأن الماضي انقضى ولم يبق في الحال وإعدام المعدوم محال وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضاً محال لأن الموجود في الحال لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محال وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محال لأن الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال وإعدام ما لم يوجد بعد محال
وثالثها أن شرط طريان الطارىء زوال النافي فلو جعلنا زوال النافي معللاً بطريان الطارىء لزم الدور وهو محال
ورابعها أن الطارىء إذا طرأ وأعدم الثواب السابق فالثواب السابق إما أن يعدم من هذا الطارىء شيئاً أو لا يعدم منه شيئاً والأول هو الموازنة وهو قول أبي هاشم وهو باطل وذلك لأن الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر فلو حصل العدمان معاً اللذان هما معلولان لزم حصول الوجودين اللذين هما علتان فيلزم أن يكون كل واحد منهما موجوداً حال كون كل واحد منهما معدوماً وهو محال
وأما الثاني وهو قول أبي علي الجبائي فهو أيضاً باطل لأن العقاب الطارىء لما أزال الثواب السابق وذلك الثواب السابق ليس له أثر ألبتة في إزالة الشيء من هذا العقاب الطارىء فحينئذ لا يحصل له من العمل الذي أوجب الثواب السابق فائدة أصلاً لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب وذلك على مضادة النص الصريح في قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ( الزلزلة 7 ) ولأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقة الطاعة ولم يظهر له منها أثر لا في جلب المنفعة ولا في دفع المضرة
وخامسها وهو أنكم تقولون الصغيرة تحبط بعض أجزاء الثواب دون البعض وذلك محال من القول لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهية فالصغيرة الطارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكل في الماهية كان ذلك ترجيحاً للممكن من غير مرجح وهو محال فلم يبق إلا أن يقال بأن الصغيرة الطارئة تزيل كل تلك الاستحقاقات وهو باطل بالاتفاق أو لا نزيل شيئاً منها وهو المطلوب
وسادسها وهو أن عقاب الكبيرة إذا كان أكثر من ثواب العمل المتقدم فإما أن يقال بأن المؤثر في إبطال الثواب بعض أجزاء العقاب الطارىء أو كلها والأول باطل لأن اختصاص بعض تلك الأجزاء بالمؤثرية دون البعض مع استواء كلها في الماهية ترجيح للمكن من غير مرجح وهو محال والقسم الثاني باطل لأنه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثواب جزآن من العقاب مع أن كل واحد من ذينك الجزأين مستقل بإيطال ذلك الثواب فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وذلك محال لأنه يستغني بكل واحد منهما فيكون غنياً عنهما معاً حال كونه محتاجاً إليهما معاً وهو محال
وسابعها وهو أنه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين لأن السيد إذا قال لعبده احفظ المتاع لئلا يسرقه

السارق ثم في ذلك الوقت جاء العدو وقصد قتل السيد فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدو وقتله فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح والتعظيم حيث دفع القتل عن سيده ويوجب استحقاقه للذم حيث عرض ماله للسرقة وكل واحد من الاستحقاقين ثابت والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى الترجيح أو إلى المهايأة فأما أن يحكموا بانتفاء أحد الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوع في بداهة العقول
وثامنها أن الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المتقدم فهذا الطارىء إما أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق أو لا يكون والأول محال لأن ذلك الفعل إنما يكون موجوداً في الزمان الماضي فلو كان لهذا الطارىء أثر في ذلك الفعل الماضي لكان هذا إيقاعاً للتأثير في الزمان الماضي وهو محال وإن لم يكن للطارىء أثر في اقتضاء ذلك الفعل السابق لذلك الاستحقاق وجب أن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وأن لا يزول ولا يقال لم لا يجوز أن يكون هذا الطارىء مانعاً من ظهور الأثر على ذلك السابق لأنا نقول إذا كان هذا الطارىء لا يمكنه أن يعمل بجهة اقتضاء ذلك الفعل السابق أصلاً وألبتة من حيث إيقاع الأثر في الماضي محال واندفاع أثر هذا الطارىء ممكن في الجملة كان الماضي على هذا التقدير أقوى من هذا الحادث فكان الماضي بدفع هذا الحادث أولى من العكس
وتاسعها أن هؤلاء المعتزلة يقولون إن شرب جرعة من الخمر يحبط ثواب الإيمان وطاعة سبعين سنة على سبيل الإخلاص وذلك محال لأنا نعلم بالضرورة أن ثواب هذه الطاعات أكثر من عقاب هذه المعصية الواحدة والأعظم لا يحيط بالأقل قال الجبائي إنه لا يمتنع أن تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كل طاعة لأن معصية الله تعظم على قدر كثرة نعمه وإحسانه كما أن استحقاق قيام الربانية وقد رباه وملكه وبلغه إلى النهاية العظيمة أعظم من قيامه بحقه لكثرة نعمه فإذا كانت نعم الله على عباده بحيث لا تضبط عظماً وكثرة لم يمتنع أن يستحق على المعصية الواحدة العقاب العظيم الذي يوافي على ثواب جملة الطاعات واعلم أن هذا العذر ضعيف لأن الملك إذا عظمت نعمه على عبده ثم إن ذلك العبد قام بحق عبوديته خمسين سنة ثم إنه كسر رأس قلم ذلك الملك قصداً فلو أحبط الملك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكل أحد يذمه وينسبه إلى ترك الانصاف والقسوة ومعلوم أن جميع المعاصي بالنسبة إلى جلال الله تعالى أقل من كسر رأس القلم فظهر أن ما قالوه على خلاف قياس العقول
وعاشرها أن إيمان ساعة يهدم كفر سبعين سنة فالإيمان سبعين سنة كيف يهدم بفسق ساعة وهذا مما لا يقبله العقل والله أعلم فهذه جملة الدلائل العقلية على فساد القول بالمحابطة في تمسك المعتزلة بهذه الآية فنقول قوله تعالى لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى يحتمل أمرين أحدهما لا تأتوا به باطلاً وذلك أن ينوي بالصدقة الرياء والسمعة فتكون هذه الصدقة حين وجدت حصلت باطلة وهذا التأويل لا يضرنا ألبتة
الوجه الثاني أن يكون المراد بالإبطال أن يؤتي بها على وجه يوجب الثواب ثم بعد ذلك إذا اتبعت بالمن والأذى صار عقاب المن والأذى مزيلاً لثواب تلك الصدقة وعلى هذا الوجه ينفعهم التمسك بالآية فلم كان حمل اللفظ على هذا الوجه الثاني أولى من حمله على الوجه الأول واعلم أن الله تعالى ذكر لذلك مثلين أحدهما يطابق الاحتمال الأول وهو قوله كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إذ من

المعلوم أن المراد من كونه عمل هذا باطلاً أنه دخل في الوجود باطلاً لا أنه دخل صحيحاً ثم يزول لأن المانع من صحة هذا العمل هو الكفر والكفر مقارن له فيمتنع دخوله صحيحاً في الوجود فهذا المثل يشهد لما ذهبنا إليه من التأويل وأما المثل الثاني وهو الصفوان الذي وقع عليه غبار وتراب ثم أصابه وابل فهذا يشهد لتأويلهم لأنه تعالى جعل الوابل مزيلاً لذلك الغبار بعد وقوع الغبار على الصفوان فكذا هاهنا يجب أن يكون المن والأذى مزبلين للأجر والثواب بعد حصول استحقاق الأجر إلا أن لنا أن نقول لا نسلم أن المشبه بوقوع الغبار على الصفوان حصول الأجر للكافر بل المشبه بذلك صدور هذا العمل الذي لولا كونه مقروناً بالنية الفاسدة لكان موجباً لحصول الأجر والثواب فالمشبه بالتراب الواقع على الصفوان هو ذلك العمل الصادر منه وحمل الكلام على ما ذكرناه أولى لأن الغبار إذا وقع على الصفوان لم يكن ملتصقاً به ولا غائصاً فيه ألبتة بل كان ذلك الاتصال كالانفصال فهو في مرأى العين متصل وفي الحقيقة غير متصل فكذا الانفاق المقرون بالمن والأذى يرى في الظاهر أنه عمل من أعمال البر وفي الحقيقة ليس كذلك فظهر أن استدلالهم بهذه الآية ضعيف وأما الحجة العقلية التي تمسكوا بها فقد بينا أنه لا منافاة في الجمع بين الاستحقاقين وأن مقتضى ذلك الجمع إما الترجيح وإما المهايأة
المسألة الثانية قال ابن عباس رضي الله عنهما لا تبطلوا صدقاتكم بالمن على الله بسبب صدقتكم وبالأذى لذلك السائل وقال الباقون بالمن على الفقير وبالأذى للفقير وقول ابن عباس رضي الله عنهما محتمل لأن الإنسان إذا أنفق متبجحاً بفعله ولم يسلك طريقة التواضع والانقطاع إلى الله والاعتراف بأن ذلك من فضله وتوفيقه وإحسانه فكان كالمان على الله تعالى وإن كان القول الثاني أظهر له
أما قوله كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى الكاف في قوله كَالَّذِى فيه قولان الأول أنه متعلق بمحذوف والتقدير لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كإبطال الذي ينفق ماله رئاء الناس فبيّن تعالى أن المن والأذى يبطلان الصدقة كما أن النفاق والرياء يبطلانها وتحقيق القول فيه أن المنافق والمرائي يأتيان بالصدقة لا لوجه الله تعالى ومن يقرن الصدقة بالمن والأذى فقد أتى بتلك الصدقة لا لوجه الله أيضاً إذ لو كان غرضه من تلك الصدقة مرضاة الله تعالى لما من على الفقير ولا آذاه فثبت اشتراك الصورتين في كون تلك الصدقة ما أتى بها لوجه الله تعالى وهذا يحقق ما قلنا أن المقصود من الابطال الإتيان به باطلاً لا أن المقصود الإتيان به صحيحاً ثم إزالته وإحباطه بسبب المن والأذى
والقول الثاني أن يكون الكاف في محل النصب على الحال أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق ماله رئاء الناس
المسألة الثانية الرياء مصدر كالمراءاة يقال راأيته رياء ومراءاة مثل راعيته مراعاة ورعاء وهو أن ترائي بعملك غيرك وتحقيق الكلام في الرياء قد تقدم ثم إنه تعالى لما ذكر هذا المثل أتبعه بالمثل الثاني فقال فَمَثَلُهُ وفي هذا الضمير وجهان أحدهما أنه عائد إلى المنافق فيكون المعنى أن الله تعالى شبه المان والمؤذي بالمنافق ثم شبه المنافق بالحجر ثم قال كَمَثَلِ صَفْوَانٍ وهو الحجر الأملس وحكى أبو عبيد عن الأصمعي أن الصفوان والصفا والصفوا واحد وكل ذلك مقصور وقال بعضهم الصفوان جمع

صفوانه كمرجان ومرجانة وسعدان وسعدانة ثم قال أَصَابَهُ وَابِلٌ الوابل المطر الشديد يقال وبلت السماء تبل وبلا وأرض موبولة أي أصابها وابل ثم قال فَتَرَكَهُ صَلْدًا الصلد الأمس اليابس يقال حجر صلد وجبل صلد إذا كان براقاً أملس وأرض صلدة أي لا تنبت شيئاً كالحجر الصلد وصلد الزند إذا لم يور ناراً
واعلم أن هذا مثل ضربة الله تعالى لعمل المان المؤذي ولعمل المنافق فإن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالاً كما يرى التراب على هذا الصفوان فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل لأنه تبين أن تلك الأعمال ما كانت لله تعالى كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب وأما المعتزلة فقالوا إن المعنى أن تلك الصدقة أوجبت الأجر والثواب ثم إن المن والأذى أزالا ذلك الأجر كما يزيل الوابل التراب عن وجه الصفوان واعلم أن في كيفية هذا التشبيه وجهين الأول ما ذكرنا أن العمل الظاهر كالتراب والمان والأذى والمنافق كالصفوان ويوم القيامة كالوابل هذا على قولنا وأما على قول المعتزلة فالمن والأذى كالوابل
الوجه الثاني في التشبيه قال القفال رحمه الله تعالى وفيه احتمال آخر وهو أن أعمال العباد ذخائر لهم يوم القيامة فمن عمل بإخلاص فكأنه طرح بذراً في أرض فهو يضاعف له وينمو حتى يحصده في وقته ويجده وقت حاجته والصفوان محل بذر المنافق ومعلوم أنه لا ينمو فيه شيء ولا يكون فيه قبول للبذر والمعنى أن عمل المان والمؤذي والمنافق يشبه إذا طرح بذراً في صفوان صلد عليه غبار قليل فإذا أصابه مطر جود بقي مستودعاً بذره خالياً لا شيء فيه ألا ترى أنه تعالى ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة والجنة ما يكون فيه أشجار ونخيل فمن أخلص لله تعالى كان كمن غرس بستاناً في ربوة من الأرض فهو يجني ثمر غراسه في أوجات الحاجة وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها متضاعفة زائدة وأما عمل المان والمؤذي والمنافق فهو كمن بذر في الصفوان الذي عليه تراب فعند الحاجة إلى الزرع لا يجد فيه شيئاً ومن الملحدة من طعن في التشبيه فقال إن الوابل إذا أصاب الصفوان جعله طاهراً نقياً نظيفاً عن الغبار والتراب فكيف يجوز أن يشبه الله به عمل المنافق والجواب أن وجه التشبيه ما ذكرناه فلا يعتبر باختلافها فيما وراءه قال القاضي وأيضاً فوقع التراب على الصفوان يفيد منافع من وجوه أحدها أنه أصلح في الاستقرار عليه وثانيها الانتفاع بها في التيمم وثالثها الانتفاع به فيما يتصل بالنبات وهذا الوجه الذي ذكره القاضي حسن إلا أن الاعتماد على الأول
أما قوله تعالى لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَى ْء مّمَّا كَسَبُواْ فاعلم أن الضمير في قوله لاَّ يَقْدِرُونَ إلى ماذا يرجع فيه قولان أحدهما أنه عائد إلى معلوم غير مذكور أي لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي كان على ذلك الصفوان لأنه زال ذلك التراب وذلك ما كان فيه فلم يبق لأحد قدرة على الانتفاع بذلك البذر وهذا يقوي الوجه الثاني في التشبيه الذي ذكره القفال رحمه الله تعالى وكذا المان والمؤذي والمنافق لا ينتفع أحد منهم بعمله يوم القيامة والثاني أنه عائد إلى قوله كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ وخرج على هذا المعنى لأن قوله كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ إنما أشير به إلى الجنس والجنس في حكم العام قال القفال رحمه الله وفيه وجه ثالث وهو أن يكون ذلك مردوداً على قوله لاَ

تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى فإنكم إذا فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم فرجع عن الخطاب إلى الغائب كقوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ نَخْسِفْ بِهِمُ ( يونس 22 )
ثم قال وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ومعناه على قولهم سلب الإيمان وعلى قول المعتزلة إنه تعالى يضلهم عن الثواب وطريق الجنة بسوء اختيارهم
ثم قال تعالى وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتَ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّة ٍ بِرَبْوَة ٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا
إعلم أن الله تعالى لما ذكر مثل المنفق الذي يكون ماناً ومؤذياً ذكر مثل المنفق الذي لا يكون كذلك وهو هذه الآية وبيّن تعالى أن غرض هؤلاء المنفقين من هذا الانفاق أمران أحدهما طلب مرضاة الله تعالى والابتغاء افتعال من بغيت أي طلبت وسواء قولك بغيت وابتغيت
والغرض الثاني هو تثبيت النفس وفيه وجوه أحدها أنهم يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها ومن جملة ذلك ترك اتباعها بالمن والأذى وهذا قول القاضي وثانيها وتثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه ويعضده قراءة مجاهد وَتَثْبِيتًا مّنْ بَعْضُ أَنفُسِهِمْ وثالثها أن النفس لا ثبات لها في موقف العبودية إلا إذا صارت مقهورة بالمجاهدة ومعشوقها أمران الحياة العاجلة والمال فإذا كلفت بإنفاق المال فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه وإذا كلفت يبذل الروح فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه فلا جرم حصل بعض التثبيت فلهذا دخل فيه مِنْ التي هي التبعيض والمعنى أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه معاً فهو الذي ثبتها كلها وهو المراد من قوله وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ( الصف 11 ) وهذا الوجه ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو كلام حسن وتفسير لطيف ورابعها وهو الذي خطر ببالي وقت كتابة هذا الموضع أن ثبات القلب لا يحصل إلا بذكر الله على ما قال أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) فمن أنفق ماله في سبيل الله لم يحصل له اطمئنان القلب في مقام التجلي إلا إذا كان إنفاقه لمحض غرض العبودية ولهذا السبب حكي عن علي رضي الله عنه أنه قال في إنفاقه إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً ( الإنسان 9 ) ووصف إنفاق أبي بكر فقال وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَة ٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( الليل 19 20 21 ) فإذا كان إنفاق العبد لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وطلب الحض فهناك اطمأن قلبه واستقرت نفسه ولم يحصل لنفسه منازعه مع قلبه ولهذا قال أولاً في هذا الانفاق إنه لطلب مراضاة الله ثم أتبع ذلك بقوله وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ وخامسها أنه ثبت في العلوم العقلية أن تكرير الأفعال سبب لحصول الملكات
إذا عرفت هذا فنقول إن من يواظب على الانفاق مرة بعد أخرى لابتغاء مرضاة الله حصل له من تلك المواظبة أمران أحدهما حصول هذا المعنى والثاني صيرورة هذا الابتغاء والطلب ملكة مستقرة في النفس حتى يصير القلب بحيث لو صدر عنه فعل على سبيل الغفلة والاتفاق رجع القلب في الحال إلى جناب القدس وذلك بسبب أن تلك العبادة صارت كالعادة والخلق للروح فإتيان العبد بالطاعة لله ولابتغاء مرضاة الله يفيد هذه الملكة المستقرة التي وقع التعبير عنها في القرآن بتثبيت النفس وهو المراد أيضاً بقوله

يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وعند حصول هذا التثبيت تصير الروح في هذا العالم من جوهر الملائكة الروحانية والجواهر القدسية فصار العبد كما قاله بعض المحققين غائباً حاضراً ظاعناً مقيماً وسادسها قال الزجاج المراد من التثبيت أنهم ينفقونها جازمين بأن الله تعالى لا يضيع عملهم ولا يخيب رجاءهم لأنها مقرونة بالثواب والعقاب والنشور بخلاف المنافق فإنه إذا أنفق عد ذلك الإنفاق ضائعاً لأنه لا يؤمن بالثواب فهذا الجزم هو المراد بالتثبيت وسابعها قال الحسن ومجاهد وعطاء المراد أن المنفق يتثبت في إعطاء الصدقة فيضعها في أهل الصلاح والعفاف قال الحسن كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت فإذا كان لله أعطى وإن خالطه أمسك قال الواحدي وإنما جاز أن يكون التثبيت بمعنى التثبيت لأنهم ثبتوا أنفسهم في طلب المستحق وصرف المال في وجهه ثم إنه تعالى بعد أن شرح أن غرضهم من الانفاق هذان الأمران ضرب لإنفاقهم مثلاً فقال كَمَثَلِ جَنَّة ٍ بِرَبْوَة ٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وابن عامر بِرَبْوَة ٍ بفتح الراء وفي المؤمنين إِلَى رَبْوَة ٍ وهو لغة تميم والباقون بضم الراء فيهما وهو أن أشهر اللغات ولغة قريش وفيه سبع لغات رَبْوَة ٍ بتعاقب الحركات الثلاث على الراء و رباوة بالألف بتعاقب الحركات الثلاث على الراء و ربو والربوة المكان المرتفع قال الأخفش والذي اختاره إِلَى رَبْوَة ٍ بالضم لأن جمعها الربى وأصلها من قولهم ربا الشيء يربو إذا ازداد وارتفع ومنه الرابية لأن أجزاءها ارتفعت ومنه الربو إذا أصابه نفس في جوفه زائد ومنه الربا لأنه يأخذ الزيادة
واعلم أن المفسرين قالوا البستان إذا كان في ربوة من الأرض كان أحسن وأكثر ريعاً
ولي فيه إشكال وهو أن البستان إذا كان في مرتفع من الأرض كان فوق الماء ولا ترتفع إليه أنهار وتضربه الرياح كثيراً فلا يحسن ريعه وإذا كان في وهدة من الأرض انصبت مياه الأنهار ولا يصل إليه إثارة الرياح فلا يحسن أيضاً ريعه فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوة ولا وهدة فإذن ليس المراد من هذه الربوة ما ذكروه بل المراد منه كون الأرض طيناً حراً بحيث إذا نزل المطر عليه انتفخ وربا ونما فإن الأرض متى كانت على هذه الصفة يكثر ربعها وتكمل الأشجار فيها وهذا التأويل الذي ذكرته متأكد بدليلين أحدهما قوله تعالى وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَة ً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( الحج 5 ) والمراد من ربوها ما ذكرنا فكذا هاهنا والثاني أنه تعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأول ثم كان المثل الأول هو الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر ولا يربو ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه فكان المراد بالربوة في هذا المثل كون الأرض بحيث تربو وتنمو فهذا ما خطر ببالي والله أعلم بمراده
ثم قال تعالى أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو أُكُلُهَا بالتخفيف والباقون بالتثقيل وهو الأصل والأكل بالضم الطعام لأن من شأنه أن يؤكل قال الله تعالى تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا ( إبراهيم 25 ) أي ثمرتها وما يؤكل منها فالأكل في المعنى مثل الطعمة وأنشد الأخفش فما أكلة إن نلتها بغنيمة
ولا جوعة إن جعتها بقرام

وقال أبو زيد يقال إنه لذو أكل إذا كان له حظ من الدنيا
المسألة الثانية قال الزجاج اتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ يعني مثلين لأن ضعف الشيء مثله زائداً عليه وقيل ضعف الشيء مثلاه قال عطاء حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين وقال الأصم ضعف ما يكون في غيرها وقال أبو مسلم مثلي ما كان يعهد منها
ثم قال تعالى فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ الطل مطر صغير الفطر ثم في المعنى وجوه
الأول المعنى أن هذه الجنّة إن لم يصبها وابل فيصيبها مطر دون الوابل إلا أن ثمرتها باقية بحالها على التقديرين لا ينقص بسبب انتقاص المطر وذلك بسبب كرم المنبت الثاني معنى الآية إن لم يصبها وابل حتى تضاعف ثمرتها فلا بد وأن يصيبها طل يعطي ثمراً دون ثمر الوابل فهي على جميع الأحوال لا تخلوا من أن تثمر فكذلك من أخرج صدقة لوجه الله تعالى لا يضيع كسبه قليلاً كان أو كثيراً
ثم قال وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ والمراد من البصير العليم أي هو تعالى عالم بكمية النفقات وكيفيتها والأمور الباعثة عليها وأنه تعالى مجاز بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّة ٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّة ٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
اعلم أن هذا مثل آخر ذكره الله تعالى في حق من يتبع إنفاقه بالمن والأذى والمعنى أن يكون للإنسان جنّة في غاية الحسن والنهاية كثيرة النفع وكان الإنسان في غاية العجز عن الكسب وفي غاية شدة الحاجة وكما أن الإنسان كذلك فله ذرية أيضاً في غاية الحاجة وفي غاية العجز ولا شك أن كونه محتاجاً أو عاجزاً مظنة الشدة والمحنة وتعلق جمع من المحتاجين العاجزين به زيادة محنة على محنة فإذا أصبح الإنسان وشاهد تلك الجنة محرقة بالكلية فانظر كم يكون في قلبه من الغم والحسرة والمحنة والبلية تارة بسبب أنه ضاع مثل ذلك المملوك الشريف النفيس وثانياً بسبب أنه بقي في الحاجة والشدة مع العجز عن الاكتساب واليأس عن أن يدفع إليه أحد شيئاً وثالثاً بسبب تعلق غيره به ومطالبتهم إياه بوجوه النفقة فكذلك من أنفق لأجل الله كان ذلك نظيراً للجنة المذكورة وهو يوم القيامة كذلك الشخص العاجز الذي يكون كل اعتماده

في وجوه الانتفاع على تلك الجنة وأما إذا أعقب إنفاقه بالمن أو بالأذى كان ذلك كالإعصار الذي يحرق تلك الجنّة ويعقب الحسرة والحيرة والندامة فكذا هذا المال المؤذي إذا قدم يوم القيامة وكان في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بثواب عمله لم يجد هناك شيئاً فيبقى لا محالة في أعظم غم وفي أكمل حسرة وحيرة وهذا المثل في غاية الحسن ونهاية الكمال ولنذكر ما يتعلق بألفاظ الآية
أما قوله أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ فيه مسألتان
المسألة الأولى الود هو المحبة الكاملة
المسألة الثانية الهمزة في أَيَوَدُّ استفهام لأجل الإنكار وإنما قال أَيَوَدُّ ولم يقل أيريد لأنا ذكرنا أن المودة هي المحبة التامة ومعلوم أن محبة كل أحد لعدم هذه الحالة محبة كاملة تامة فلما كان الحاصل هو مودة عدم هذه الحالة ذكر هذا اللفظ في جانب الثبوت فقال أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ حصول مثل هذه الحالة تنبيهاً على الإنكار التام والنفرة البالغة إلى الحد الذي لا مرتبة فوقه
أما قوله جَنَّة ٌ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ فاعلم أن الله تعالى وصف هذه الجنة بصفات ثلاث
الصفة الأول كونها من نخيل وأعناب واعلم أن الجنة تكون محتوية على النخيل والأعناب ولا تكون الجنة من النخيل والأعناب إلا أن بسبب كثرة النخيل والأعناب صار كأن الجنة إنما تكون من النخيل والأعناب وإنما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما أشرف الفواكه ولأنهما أحسن الفواكه مناظر حين تكون باقية على أشجارها
والصفة الثانية قوله تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ولا شك أن هذا سبب لزيادة الحسن في هذه الجنة
الصفة الثالثة قوله لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَراتِ ولا شك أن هذا يكون سبباً لكمال حال هذا البستان فهذه هي الصفات الثلاثة التي وصف الله تعالى هذه الجنة بها ولا شك أن هذه الجنة تكون في غاية الحسن لأنها مع هذه الصفات حسنة الرؤية والمنظر كثيرة النفع والريع ولا تمكن الزيادة في حسن الجنة على ذلك ثم إنه تعالى بعد ذلك شرع في بيان شدة حاجة المالك إلى هذه الجنة فقال وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وذلك لأنه إذا صار كبيراً وعجز عن الاكتساب كثرت جهات حاجاته في مطعمه وملبسه ومسكنه ومن يقوم بخدمته وتحصيل مصالحه فإذا تزايدت جهات الحاجات وتناقصت جهات الدخل والكسب إلا من تلك الجنة فحينئذ يكون في نهاية الاحتياج إلى تلك الجنة
فإن قيل كيف عطف وَأَصَابَهُ على أَيَوَدُّ وكيف يجوز عطف الماضي على المستقبل
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) الواو للحال لا للعطف ومعناه بَصِيرٌ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّة ٌ حال ما أصابه الكبر ثم إنها تحرق
والجواب الثاني قال الفرّاء وددت أن يكون كذا ووددت لو كان كذا فحمل العطف على المعنى كأنه قيل أيود أحدكم إن كان له جنّة وأصابه الكبر
ثم إنه تعالى زاد في بيان احتياج ذلك الإنسان إلى تلك الجنّة فقال وَلَهُ ذُرّيَّة ٌ ضُعَفَاء والمراد من

ضعف الذرية الضعف بسبب الصغر والطفولية فيصير المعنى أن ذلك الإنسان كان في غاية الضعف والحاجة إلى تلك الجنة بسبب الشيخوخة والكبر وله ذرية في غاية الضعف والحاجة بسبب الطفولية والصغر
ثم قال تعالى فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ والاعصار ريح ترتفع وتستدير نحو السماء كأنها عمود وهي التي يسميها الناس الزوبعة وهي ريح في غاية الشدة ومنه قول شاعر إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصارا
والمقصود من هذا المثل بيان أنه يحصل في قلب هذا الإنسان من الغم والمحنة والحسرة والحيرة ما لا يعلمه إلا الله فكذلك من أتى بالأعمال الحسنة إلا أنه لا يقصد بها وجه الله بل يقرن بها أموراً تخرجها عن كونها موجبة للثواب فحين يقدم يوم القيامة وهو حينئذ في غاية الحاجة ونهاية العجز عن الاكتساب عظمت حسرته وتناهت حيرته ونظير هذه الآية قوله تعالى وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ( الزمر 47 ) وقوله وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ( الفرقان 23 )
ثم قال كَذالِكَ يُبيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ أي كما بيّن الله لكم آياته ودلائله في هذا الباب ترغيباً وترهيباً كذلك يبين الله لكم آياته ودلائله في سائر أمور الدين لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى أن لعل للترجي وهو لا يليق بالله تعالى
المسألة الثانية أن المعتزلة تمسكوا به في أنه يدل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان وقد تقدم شرح هاتين الآيتين مراراً
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلاَ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
إعلم أنه رغب في الإنفاق ثم بيّن أن الإنفاق على قسمين منه ما يتبعه المن والأذى ومنه ما لا يتبعه ذلك
ثم إنه تعالى شرح ما يتعلق بكل واحد من هذين القسمين وضرب لكل واحد منهما مثلا يكشف عن المعنى ويوضح المقصود منه على أبلغ الوجوه

ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أن المال الذي أمر بإنفاقه في سبيل الله كيف ينبغي أن يكون فقال أَنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ واختلفوا في أن قوله أَنفَقُواْ المراد منه ماذا فقال الحسن المراد منه الزكاة المفروضة وقال قوم المراد منه التطوع وقال ثالث إنه يتناول الفرض والنفل حجة من قال المراد منه الزكاة المفروضة أن قوله أَنفَقُواْ أمر وظاهر الأمر للوجوب والإنفاق الواجب ليس إلا الزكاة وسائر النفقات الواجبة حجة من قال المراد صدقة التطوع ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والحسن ومجاهد أنهم كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورديء أموالهم فأنزل الله هذه الآية وعن ابن عباس رضي الله عنهما جاء رجل ذات يوم بعذق حشف فوضعه في الصدقة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بئس ما صنع صاحب هذا ) فأنزل الله تعالى هذه الآية حجة من قال الفرض والنفل داخلان في هذه الآية أن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على جانب الترك من غير أن يكون فيه بيان أنه يجوز الترك أو لا يجوز وهذا المفهوم قدر مشترك بين الفرض والنفل فوجب أن يكونا داخلين تحت الأمر
إذا عرفت هذا فنقول أما على القول الأول وهو أنه للوجوب فيتفرع عليه مسائل
المسألة الأولى ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان فيدخل فيه زكاة التجارة وزكاة الذهب والفضة وزكاة النعم لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسب ويدل على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض على ما هو قول أبي حنيفة رحمه الله واستدلاله بهذه الآية ظاهر جداً إلا أن مخالفيه خصصوا هذا الغموم بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس في الخضراوات صدقة ) وأيضاً مذهب أبي حنيفة أن إخراج الزكاة من كل ما أنبتته الأرض واجب قليلاً كان أو كثيراً وظاهر الآية يدل على قوله إلا أن مخالفيه خصصوا هذا العموم بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بالطيب في هذه الآية على قولين
القول الأول أنه الجيد من المال دون الرديء فأطلق لفظ الطيب على الجيد على سبيل الاستعارة وعلى هذا التفسير فالمراد من الخبيث المذكور في هذه الآية الرديء
والقول الثاني وهو قول ابن مسعود ومجاهد أن الطيب هو الحلال والخبيث هو الحرام حجة الأول وجوه
الحجة الأولى إنا ذكرنا في سبب النزول أنهم يتصدقون برديء أموالهم فنزلت الآية وذلك يدل على أن المراد من الطيب الجيد
الحجة الثانية أن المحرم لا يجوز أخذه لا بإغماض ولا بغير إغماض والآية تدل على أن الخبيث يجوز أخذه بالإغماض قال القفال رحمه الله ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد من الإغماض المسامحة وترك الاستقصاء فيكون المعنى ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال أمن حلاله أو من حرامه
الحجة الثالثة أن هذا القول متأيد بقوله تعالى لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُونَ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) وذلك يدل على أن المراد بالطيبات الأشياء النفيسة التي يستطاب ملكها لا الأشياء الخسيسة التي يجب

على كل أحد دفعها عن نفسه وإخراجها عن بيته واحتج القاضي للقول الثاني فقال أجمعنا على أن المراد من الطيب في هذه الآية إما الجيد وإما الحلال فإذا بطل الأول تعين الثاني وإنما قلنا إنه بطل الأول لأن المراد لو كان هو الجيد لكان ذلك أمراً بإنفاق مطلق الجيد سواء كان حراماً أو حلالاً وذلك غير جائز والتزام التخصيص خلاف الأصل فثبت أن المراد ليس هو الجيد بل الحلال ويمكن أن يذكر فيه قول ثالث وهو أن المراد من الطيب هاهنا ما يكون طيباً من كل الوجوه فيكون طيباً بمعنى الحلال ويكون طيباً بمعنى الجودة وليس لقائل أن يقول حمل اللفظ المشترك على مفهوميه لا يجوز لأنا نقول الحلال إنما سمي طيباً لأنه يستطيبه العقل والدين والجيد إنما يسمى طيباً لأنه يستطيبه الميل والشهوة فمعنى الاستطابة مفهوم واحد مشترك بين القسمين فكان اللفظ محمولاً عليه إذا أثبت أن المراد منه الجيد الحلال فنقول الأموال الزكية إما أن تكون كلها شريفة أو كلها خسيسة أو تكون متوسطة أو تكون مختلطة فإن كان الكل شريفاً كان المأخوذ بحساب الزكاة كذلك وإن كان الكل خسيساً كان الزكاة أيضاً من ذلك الخسيس ولا يكون خلافاً للآية لأن المأخوذ في هذه الحالة لا يكون خسيساً من ذلك المال بل إن كان في المال جيد ورديء فحينئذ يقال للإنسان لا تجعل الزكاة من رديء مالك وأما إن كان المال مختلطاً فالواجب هو الوسط قال ( صلى الله عليه وسلم ) لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن ( أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم ) هذا كله إذا قلنا المراد من قوله أَنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ الزكاة الواجبة أما على القول الثاني وهو أن يكون المراد منه صدقة التطوع أو قلنا المراد منه الإنفاق الواجب والتطوع فنقول إن الله تعالى ندبهم إلى أن يتقربوا إليه بأفضل ما يملكونه كمن تقرب إلى السلطان الكبير بتحفة وهدية فإنه لا بد وأن تكون تلك التحفة أفضل ما في ملكه وأشرفها فكذا هاهنا بقي في الآية سؤال واحد وهو أن يقال ما الفائدة في كلمة مِنْ في قوله وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الاْرْضِ
وجوابه تقدير الآية أنفقوا من طيبات ما كسبتم وأنفقوا من طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض إلا أن ذكر الطيبات لما حصل مرة واحدة حذف في المرة الثانية لدلالة المرة الأولى عليه
أما قوله تعالى وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى يقال أممته ويممته وتأممته كله بمعنى قصدته قال الأعشى
تيممت قيساً وكم دونه
من الأرض من مهمه ذي شرف
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وحده وَلاَ تَيَمَّمُواْ بتشديد التاء لأنه كان في الأصل تاءان تاء المخاطبة وتاء الفعل فأدغم إحداهما في الأخرى والباقون بفتح التاء مخففة وعلى هذا الخلاف في أخواتها وهي ثلاثة وعشرون موضعاً لا تفرقوا توفاهم تعاونوا فتفرق بكم تلقف تولوا تنازعوا تربصون فإن تولوا لا تكلم تلقونه تبرجن تبدل تناصرون تجسسوا تنابزوا لتعارفوا تميز تخيرون تلهى تلظى تنزل الملائكة وهاهنا بحثان
البحث الأول قال أبو علي هذا الإدغام غير جائز لأن المدغم يسكن وإذا سكن لزم أن تجلب همزة الوصل عند الابتداء به كما جلبت في أمثلة الماضي نحو أدارأتم وارتبتم وأطيرنا لكن أجمعوا على أن همزة الوصل لا تدخل على المضارع

البحث الثاني اختلفوا في التاء المحذوفة على قراءة العامة فقال بعضهم هي التاء الأولى وسيبويه لا يسقط إلا الثانية والفرّاء يقول أيهما أسقطت جاز لنيابة الباقية عنها
أما قوله تعالى مِنْهُ تُنفِقُونَ
فاعلم أن في كيفية نظم الآية وجهين الأول أنه تم الكلام عند قوله وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ثم ابتدأ فقال مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ فقوله مِنْهُ تُنفِقُونَ استفهام على سبيل الإنكار والمعنى أمنه تنفقون مع أنكم لستم بآخذيه إلا مع الاغماض والثاني أن الكلام إنما يتم عند قوله إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ويكون الذي مضمراً والتقدير ولا تيمموا الخبيث منه الذي تنفقونه ولستم بآخذيه إلا بالإغماض فيه ونظيره إضمار التي في قوله تعالى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا ( البقرة 256 ) والمعنى الوثقى التي لا انفصام لها
أما قوله تعالى وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى الاغماض في اللغة غض البصر وإطباق جفن على جفن وأصله من الغموض وهو الخفاء يقال هذا الكلام غامض أي خفي الإدراك والغمض المتطامن الخفي من الأرض
المسألة الثانية في معنى الإغماض في هذه الآية وجوه الأول أن المراد بالإغماض هاهنا المساهلة وذلك لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك ثم كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضاً فقوله وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ يقول لو أهدى إليكم مثل هذه الأشياء لما أخذتموها إلا على استحياء وإغماض فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم والثاني أن يحمل الإغماض على المتعدى كما تقول أغمضت بصر الميت وغمضته والمعنى ولستم بآخذيه إلا إذا أغمضتم بصر البائع يعني أمرتموه بالإغماض والحط من الثمن
ثم ختم الآية بقوله وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ والمعنى أنه غني عن صدقاتكم ومعنى حميد أي محمود على ما أنعم بالبيان وفيه وجه آخر وهو أن قوله غَنِى ٌّ كالتهديد على إعطاء الأشياء الرديئة في الصدقات و حَمِيدٌ بمعنى حامد أي أنا أحمدكم على ما تفعلونه من الخيرات وهو كقوله فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَة ً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
إعلم أنه تعالى لما رغب الإنسان في إنفاق أجود ما يملكه حذره بعد ذلك من وسوسة الشيطان فقال

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أي يقال إن أنفقت الأجود صرت فقيراً فلا تبال بقوله فإن الرحمن يَعِدُكُم مَّغْفِرَة ً مّنْهُ وَفَضْلاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في الشيطان فقيل إبليس وقيل سائر الشياطين وقيل شياطين الجن والإنس وقيل النفس الأمارة بالسوء
المسألة الثانية الوعد يستعمل في الخير والشر قال الله تعالى النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الحج 72 ) ويمكن أن يكون هذا محمولاً على التهكم كما في قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
المسألة الثالثة الفقر والفقر لغتان وهو الضعيف بسبب قلة المال وأصل الفقر في اللغة كسر الفقار يقال رجل فقر وفقير إذا كان مكسور الفقار قال طرفة
إنني لست بمرهون فقر
قال صاحب ( الكشاف ) قرىء الفقر بالضم والفقر بفتحتين
المسألة الرابعة أما الكلام في حقيقة الوسوسة فقد ذكرناه في أول الكتاب في تفسير أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ روي عن ابن مسعود رضي الله عنه إن للشيطان لمة وهي الإيعاد بالشر وللملك لمة وهي الوعد بالخير فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ومن وجد الأول فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقرأ هذه الآية وروى الحسن قال بعض المهاجرين من سره أن يعلم مكان الشيطان منه فليتأمل موضعه من المكان الذي منه يجد الرغبة في فعل المنكر
أما قوله تعالى وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء ففيه وجوه الأول أن الفحشاء هي البخل وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء أي ويغريكم على البخل إغراء الآمر للمأمور والفاحش عند العرب البخيل قال طرفة أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
ويعتام منقول من عام فلان إلى اللبن إذا اشتهاه وأراد بالفاحش البخيل قال تعالى وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( العاديات 8 ) وقد نبّه الله تعالى في هذه الآية على لطيفة وهي أن الشيطان يخوفه أولاً بالفقر ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء ويغريه بالبخل وذلك لأن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فالشيطان لا يمكنه تحسين البخل في عينه إلا بتقديم تلك المقدمة وهي التخويف من الفقر
الوجه الثاني في تفسير الفحشاء وهو أنه يقول لا تنفق الجيد من مالك في طاعة الله لئلا تصير فقيراً فإذا أطاع الرجل الشيطان في ذلك زاد الشيطان فيمنعه من الإنفاق في الكلية حتى لا يعطي لا الجيد ولا الرديء وحتى يمنع الحقوق الواجبة فلا يؤدي الزكاة ولا يصل الرحم ولا يرد الوديعة فإذا صار هكذا سقط وقع الذنوب عن قلبه ويصير غير مبال بارتكابها وهناك يتسع الخرق ويصير مقداماً على كل الذنوب وذلك هو الفحشاء وتحقيقه أن لكل خلق طرفين ووسطاً فالطرف الكامل هو أن يكون بحيث يبذل كل ما يملكه في سبيل الله الجيد والرديء والطرف الفاحش الناقص لا ينفق شيئاً في سبيل الله لا الجيد ولا الرديء والأمر المتوسط أن يبخل بالجيد وينفق الرديء فالشيطان إذا أراد نقله من الطرف الفاضل إلى الطرف الفاحش لا يمكنه إلا بأن يجره إلى الوسط فإن عصى الإنسان الشيطان في هذا المقام انقطع طمعه عنه

وإن أطاعه فيه طمع في أن يجره من الوسط إلى الطرف الفاحش فالوسط هو قوله تعالى يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ والطرف الفاحش قوله وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء ثم لما ذكر سبحانه وتعالى درجات وسوسة الشيطان أردفها بذكر إلهامات الرحمن فقال وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَة ً مّنْهُ وَفَضْلاً فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة والفضل إشارة إلى ما يحصل في الدنيا من الخلق وروي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أن الملك ينادي كل ليلة ( اللّهم أعط كل منفق خلفاً وكل ممسك تلفاً )
وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الشيطان يعدك الفقر في غد دنياك والرحمان يعدك المغفرة في غد عقباك ووعد الرحمن في غد العقبى أولى بالقبول من وجوه أحدها أن وجدان غد الدنيا مشكوك فيه ووجدان غد العقبى متيقن مقطوع به وثانيها أن بتقدير وجدان غد الدنيا فقد يبقى المال المبخول به وقد لا يبقى وعند وجدان غد العقبى لا بد من وجدان المغفرة الموعود بها من عند الله تعالى لأنه الصادق الذي يمتنع وجود الكذب في كلامه وثالثها أن بتقدير بقاء المال المبخول به في غد الدنيا فقد يتمكن الإنسان من الانتفاع به وقد لا يتمكن إما بسبب خوف أو مرض أو اشتغال بمهم آخر وعند وجدان غد العقبى الانتفاع حاصل بمغفرة الله وفضله وإحسانه ورابعها أن بتقدير حصول الانتفاع بالمال المبخول به غد الدنيا لا شك أن ذلك الانتفاع ينقطع ولا يبقى وأما الانتفاع بمغفرة الله وفضله وإحسانه فهو الباقي الذي لا ينقطع ولا يزول وخامسها أن الانتفاع بلذات الدنيا مشوب بالمضار فلا ترى شيئاً من اللذات إلا ويكون سبباً للمحنة من ألف وجه بخلاف منافع الآخرة فإنها خالصة عن الشوائب ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن الانقياد لوعد الرحمن بالفضل والمغفرة أولى من الانقياد لوعد الشيطان
إذا عرفت هذا فنقول المراد بالمغفرة تكفير الذنوب كما قال خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ( التوبة 103 ) وفي الآية لفظان يدلان على كمال هذه المغفرة أحدها التنكير في لفظة المغفرة والمعنى مغفرة أي مغفرة والثاني قوله مَّغْفِرَة ً مّنْهُ فقوله مِنْهُ يدل على كمال حال هذه المغفرة لأن كمال كرمه ونهاية جوده معلوم لجميع العقلاء وكون المغفرة منه معلوم أيضاً لكل أحد فلما خص هذه المغفرة بأنها منه علم أن المقصود تعظيم حال هذه المغفرة لأن عظم المعطي يدل على عظم العطية وكمال هذه المغفرة يحتمل أن يكون المراد منه ما قاله في آية أخرى فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( الفرقان 70 ) ويحتمل أن يكون المراد منه أن يجعله شفيعاً في غفران ذنوب سائر المذنبين ويحتمل أن يكون كمال تلك المغفرة أمراً لا يصل إليه عقلنا ما دمنا في دار الدنيا فإن تفاصيل أحوال الآخرة أكثرها محجوبة عنا ما دمنا في الدنيا وأما معنى الفضل فهو الخلف المعجل في الدنيا وهذا الفضل يحتمل عندي وجوهاً أحدها أن المراد من هذا الفضل الفضيلة الحاصلة للنفس وهي فضيلة الجود والسخاء وذلك لأن مراتب السعادة ثلاث نفسانية وبدنية وخارجية وملك المال من الفضائل الخارجية وحصول خلق الجود والسخاوة من الفضائل النفسانية وأجمعوا على أن أشرف هذه المراتب الثلاث السعادات النفسانية وأخسها السعادات الخارجية فمتى لم يحصل إنفاق المال كانت السعادة الخارجية حاصلة والنقيضة النفسانية معها حاصلها ومتى حصل الإنفاق حصل الكمال النفساني والنقصان الخارجي ولا شك أن هذه الحالة أكمل فثبت أن مجرد الإنفاق يقتضي حصول ما وعد الله به من حصول الفضل والثاني وهو أنه متى حصل ملكة الإنفاق زالت عن الروح هيئة الاشتغال بلذات الدنيا والتهالك في مطالبها ولا مانع للروح من تجلي نور جلال الله لها إلا

حب الدنيا ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( لولا أن الشياطين يوحون إلى قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات ) وإذا زال عن وجه القلب غبار حب الدنيا استنار بأنوار عالم القدس وصار كالكوكب الدري والتحق بأرواح الملائكة وهذا هو الفضل لا غير والثالث وهو أحسن الوجوه أنه مهما عرف من الإنسان كونه منفقاً لأمواله في وجوه الخيرات مالت القلوب إليه فلا يضايقونه في مطالبه فحينئذ تنفتح عليه أبواب الدنيا ولأن أولئك الذين أنفق ماله عليهم يعينونه بالدعاء والهمة فيفتح الله عليه أبواب الخير
ثم ختم الآية بقوله وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي أنه واسع المغفرة قادر على إغنائكم وإخلاف ما تنفقونه وهو عليم لا يخفى عليه ما تنفقون فهو يخلفه عليكم
يُؤْتِى الْحِكْمَة َ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
إعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل نبّه على أن الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل وحكم الحس والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول فهذا هو الإشارة إلى وجه النظم بقي في الآية مسائل
المسألة الأولى المراد من الحكمة إما العلم وإما فعل الصواب يروى عن مقاتل أنه قال تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه أحدها مواعظ القرآن قال في البقرة وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَة ِ يَعِظُكُم بِهِ يعني مواعظ القرآن وفي النساء وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَة ِ يعني المواعظ ومثلها في آل عمران وثانيها الحكمة بمعنى الفهم والعلم ومنه قوله تعالى وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ( مريم 12 ) وفي لقمان وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة َ ( لقمان 12 ) يعني الفهم والعلم وفي الأنعام أُوْلَائكَ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ ( الأنعام 89 ) وثالثها الحكمة بمعنى النبوّة في النساء فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ ( النساء 54 ) يعني النبوّة وفي ص وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءاتَيْنَاهُ الْحِكْمَة َ ( ص 20 ) يعني النبوّة وفي البقرة وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَة َ ( البقرة 251 ) ورابعها القرآن بما فيه من عجائب الأسرار في النحل ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ ( النحل 125 ) وفي هذه الآية وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 269 ) وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم ثم تأمل أيها المسكين فإنه تعالى ما أعطى إلا القليل من العلم قال تعالى وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ

إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 85 ) وسمى الدنيا بأسرها قليلا فقال قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ( النساء 77 ) وانظر كم مقدار هذا القليل حتى تعرف عظمة ذلك الكثير والبرهان العقلي أيضاً يطابقه لأن الدنيا متناهية المقدار متناهية المدة والعلوم لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها والسعادة الحاصلة منها وذلك ينبئك على فضيلة العلم والاستقصاء في هذا الباب قد مرّ في تفسير قوله تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) وأما الحكمة بمعنى فعل الصواب فقيل في حدها إنها التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية ومداد هذا المعنى على قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تخلقوا بأخلاق الله تعالى ) واعلم أن الحكمة لا يمكن خروجها عن هذين المعنيين وذلك لأن كمال الإنسان في شيئين أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به فالمرجع بالأول إلى العلم والإدراك المطابق وبالثاني إلى فعل العدل والصواب فحكي عن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) قوله رَبّ هَبْ لِى حُكْماً ( الشعراء 83 ) وهو الحكمة النظرية وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( الشعراء 83 ) الحكمة العملية ونادى موسى عليه السلام فقال إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ وهو الحكمة النظرية ثم قال فَاعْبُدْنِى وهو الحكمة العملية وقال عن عيسى عليه السلام إنه قال إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ( مريم 30 ) الآية وكل ذلك للحكمة النظرية ثم قال وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى ( مريم 31 ) وهو الحكمة العملية وقال في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد 19 ) وهو الحكمة النظرية ثم قال وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ( غافر 55 ) ( محمد 19 ) وهو الحكمة العملية وقال في جميع الأنبياء يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ ( النحل 2 ) وهو الحكمة النظرية ثم قال فَاتَّقُونِ وهو الحكمة العملية والقرآن هو من الآية الدالة على أن كمال حال الإنسان ليس إلا في هاتين القوتين قال أبو مسلم الحكمة فعلة من الحكم وهي كالنحلة من النحل ورجل حكيم إذا كان ذا حجى ولب وإصابة رأي وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل ويقال أمر حكيم أي محكم وهو فعيل بمعنى مفعول قال الله تعالى فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( الدخان 4 ) وهذا الذي قاله أبو مسلم من اشتقاق اللغة يطابق ما ذكرناه من المعنى
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَمِنْ يُؤْتِى الْحِكْمَة َ بمعنى ومن يؤته الله الحكمة وهكذا قرأ الأعمش
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى وذلك لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية لأنها حاصلة للبهائم والمجانين والأطفال وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكم فهي مفسرة بالعلوم النظرية وإن فسرناها بالأفعال الحسيّة فالأمر ظاهر وعلى التقديرين فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية والأفعال الحسيّة ثابتاً من غيرهم وبتقدير مقدر غيرهم وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق فدل على أن فعل العبد خلق لله تعالى
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوّة والقرآن أو قوة الفهم والحسيّة على ما هو قول الربيع بن أنس
قلنا الدليل الذي ذكرناه يدفع هذه الاحتمالات وذلك لأنه بالنقل المتواتر ثبت أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء فتكون الحكمة مغايرة للنبوّة والقرآن بل هي مفسرة إما بمعرفة حقائق الأشياء أو

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66