كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

المسألة الرابعة أنهم لما بالغوا في توبيخها سكتت وأشارت إليه أي إلى عيسى عليه السلام أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه وعن السدي لما أشارت إليه غضبوا غضباً شديداً وقالوا لسخريتها بنا أشد من زناها روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته وقيل كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان وقيل إن زكرياء عليه السلام أتاها عند مناظرة اليهود إياها فقال لعيسى عليه السلام انطق بحجتك إن كنت أمرت بها فقال عيسى عليه السلام عند ذلك
المسألة الرابعة أنهم لما بالغوا في توبيخها سكتت وأشارت إليه أي إلى عيسى عليه السلام أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه وعن السدي لما أشارت إليه غضبوا غضباً شديداً وقالوا لسخريتها بنا أشد من زناها روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته وقيل كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان وقيل إن زكرياء عليه السلام أتاها عند مناظرة اليهود إياها فقال لعيسى عليه السلام انطق بحجتك إن كنت أمرت بها فقال عيسى عليه السلام عند ذلك إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ( مريم 30 ) فإن قيل كيف عرفت مريم من حال عيسى عليه السلام أنه يتكلم قلنا إن جبريل عليه السلام أو عيسى عليه السلام ناداها من تحتها أن لا تحزني وأمرها عند رؤية الناس بالسكوت فصار ذلك كالتنبيه لها على أن المجيب هو عيسى عليه السلام أو لعلها عرفت ذلك بالوحي إلى زكرياء أو لعلها عرفت بالوحي إليها على سبيل الكرامة بقي ههنا بحثان
البحث الأول قوله كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً أي حصل في الْمَهْدِ فكان ههنا بمعنى حصل ووجد وهذا هو الأقرب في تأويل هذا اللفظ وإن كان الناس قد ذكروا وجوهاً أخر
البحث الثاني اختلفوا في المهد فقيل هو حجرها لما روى أنها أخذته في خرقة فأتت به قومها فلما رأوها قالوا لها ما قالوا فأشارت إليه وهو في حجرها ولم يكن لها منزل معد حتى يعد لها المهد أو المعنى كيف نكلم صبياً سبيله أن ينام في المهد
قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِى َ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِالصَّلَواة ِ وَالزَّكَواة ِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلَامُ عَلَى َّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً
اعلم أنه وصف نفسه بصفات تسع الصفة الأولى قوله إِنّى عَبْدُ اللَّهِ وفيه فوائد الفائدة الأولى أن الكلام منه في ذلك الوقت كان سبباً للوهم الذي ذهبت إليه النصارى فلا جرم أول ما تكلم إنما تكلم بما يرفع ذلك الوهم فقال إِنّى عَبْدُ اللَّهِ وكان ذلك الكلام وإن كان موهماً من حيث إنه صدر عنه في تلك الحالة ولكن ذلك الوهم يزول ولا يبقى من حيث إنه تنصيص على العبودية الفائدة الثانية أنه لما أقر بالعبودية فإن كان صادقاً في مقاله فقد حصل الغرض وإن كان كاذباً لم تكن القوة قوة إلهية بل قوة شيطانية فعلى التقديرين يبطل كونه إلهاً الفائدة الثالثة أن الذي اشتدت الحاجة إليه في ذلك الوقت إنما هو نفي تهمة الزنا عن مريم عليها السلام ثم إن عيسى عليه السلام لم ينص على ذلك وإنما نص على إثبات عبودية نفسه كأنه جعل إزالة

التهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التهمة عن الأم فلهذا أول ما تكلم إنما تكلم بها الفائدة الرابعة وهي أن التكلم بإزالة هذه التهمة عن الله تعالى يفيد إزالة التهمة عن الأم لأن الله سبحانه لا يخص الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية والمرتبة العظيمة وأما التكلم بإزالة التهمة عن الأم لا يفيد إزالة التهمة عن الله تعالى فكان الاشتغال بذلك أولى فهذا مجموع ما في هذا اللفظ من الفوائد واعلم أن مذهب النصارى متخبط جداً وقد اتفقوا على أنه سبحانه ليس بجسم ولا متحيز ومع ذلك فإنا نذكر تقسيماً حاصراً يبطل مذهبهم على جميع الوجوه فنقول إما أن يعتقدوا كونه متحيزاً أو لا فإن اعتقدوا كونه متحيزاً أبطلنا قولهم بإقامة الدلالة على حدوث الأجسام وحينئذ يبطل كل ما فرعوا عليه وإن اعتقدوا أنه ليس بمتحيز يبطل ما يقوله بعضهم من أن الكلمة اختلطت بالناسوت اختلاط الماء بالخمر وامتزاج النار بالفحم لأن ذلك لا يعقل إلا في الأجسام فإذا لم يكن جسماً استحال ذلك ثم نقول للناس قولان في الإنسان منهم من قال إنه هو هذه البنية أو جسم موجود في داخلها ومنهم من يقول إنه جوهر مجرد عن الجسمية والحلول في الأجسام فنقول هؤلاء النصارى إما أن يعتقدوا أن الله أو صفة من صفاته اتحد ببدن المسيح أو بنفسه أو يعتقدوا أن الله أو صفة من صفاته حل في بدن المسيح أو في نفسه أو يقولوا لا نقول بالاتحاد ولا بالحلول ولكن نقول إنه تعالى أعطاه القدرة على خلق الأجسام والحياة والقدرة وكان لهذا السبب إلهاً أو لا يقولوا بشيء من ذلك ولكن قالوا إنه على سبيل التشريف اتخذه ابناً كما اتخذ إبراهيم على سبيل التشريف خليلاً فهذه هي الوجوه المعقولة في هذا الباب والكل باطل أما القول الأول بالاتحاد فهو باطل قطعاً لأن الشيئين إذا اتحدا فهما حال الاتحاد إما أن يكونا موجودين أو معدومين أو يكون أحدهما موجوداً والآخر معدوماً فإن كانا موجودين فهما اثنان لا واحد فالاتحاد باطل وإن عدما وحصل ثالث فهو أيضاً لا يكون اتحاداً بل يكون قولاً بعدم ذينك الشيئين وحصول شيء ثالث وإن بقي أحدهما وعدم الآخر فالمعدوم يستحيل أن يتحد بالوجود لأنه يستحيل أن يقال المعدوم بعينه هو الموجود فظهر من هذا البرهان الباهر أن الاتحاد محال وأما الحلول فلنا فيه مقامان الأول أن التصديق مسبوق بالتصور فلا بد من البحث عن ماهية الحلول حتى يمكننا أن نعلم أنه هل يصح على الله تعالى أو لا يصح وذكروا للحلول تفسيرات ثلاثة أحدها كون الشيء في غيره ككون ماء الورد في الورد والدهن في السمسم والنار في الفحم واعلم أن هذا باطل لأن هذا إنما يصح لو كان الله تعالى جسماً وهم وافقونا على أنه ليس بجسم وثانيها حصوله في الشيء على مثال حصول اللون في الجسم فنقول المعقول من هذه التبعية حصول اللون في ذلك الحيز تبعاً لحصول محله فيه وهذا أيضاً إنما يعقل في حق الأجسام لا في حق الله تعالى وثالثها حصوله في الشيء على مثال حصول الصفات الإضافية للذوات فنقول هذا أيضاً باطل لأن المعقول من هذه التبعية الاحتياج فلو كان الله تعالى في شيء بهذا المعنى لكان محتاجاً فكان ممكناً فكان مفتقراً إلى المؤثر وذلك محال وإذا ثبت أنه لا يمكن تفسير هذا الحلول بمعنى ملخص يمكن إثباته في حق الله تعالى امتنع إثباته المقام الثاني احتج الأصحاب على نفي الحلول مطلقاً بأن قالوا لو حل لحل إما مع وجوب أن يحل أو مع جواز أن يحل والقسمان باطلان فالقول بالحلول باطل وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يحل مع وجوب أن

يحل لأن ذلك يقتضي إما حدوث الله تعالى أو قدم المحل وكلاهما باطلان لأنا دللنا على أن الله قديم وعلى أن الجسم محدث ولأنه لو حل مع وجوب أن يحل لكان محتاجاً إلى المحل والمحتاج إلى الغير ممكن لذاته لا يكون واجباً لذاته وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يحل مع جواز أن يحل لأنه لما كانت ذاته واجبة الوجود لذاته وحلوله في المحل أمر جائز والموصوف بالوجوب غير ما هو موصوف بالجواز فيلزم أن يكون حلوله في المحل أمراً زائداً على ذاته وذلك محال لوجهين أحدهما أن حلوله في المحل لو كان زائداً على ذاته لكان حلول ذلك الزائد في محله زائداً على ذاته أو لزم التسلسل وهو محال والثاني أن حلوله في ذلك لما كان زائداً على ذاته فإذا حل في محل وجب أن يحل فيه صفة محدثة وذلك محال لأنه لو كان قابلاً للحوادث لكانت تلك القابلية من لوازم ذاته وكانت حاصلة أزلاً وذلك محال لأن وجود الحوادث في الأزل محال فحصول قابليتها وجب أن يكون ممتنع الحصول فإن قيل لم لا يجوز أن يحل مع وجوب أن يحل لأنه يلزم إما حدوث الحال أو قدم المحل قلنا لا نسلم وجوب أحد الأمرين ولم لا يجوز أن يقال إن ذاته تقتضي الحلول بشرط وجود المحل ففي الأزل ما وجد المحل فلم يوجد شرط هذا الوجوب فلا جرم لم يجب الحلول وفيما لا يزال حصل هذا الشرط فلا جرم وجب سلمنا أنه يلزم إما حدوث الحال أو قدم المحل فلم لا يجوز قوله إنا دللنا على حدوث الأجسام قلنا لم لا يجوز أن يكون محله ليس بجسم ولكنه يكون عقلاً أو نفساً أو هيولى على ما يثبته بعضهم ودليلكم على حدوث الأجسام لا يقبل حدوث هذه الأشياء قوله ثانياً لو حل مع وجوب أن يحل لكان محتاجاً إلى المحل قلنا لا نسلم وجوب أحد الأمرين بل ههنا احتمالان آخران أحدهما أن العلة وإن امتنع انفكاكها عن المعلول لكنها لا تكون محتاجة إلى المعلول فلم لا يجوز أن يقال إن ذاته غنية عن ذلك المحل ولكن ذاته توجب حلول نفسها في ذلك المعلول فيكون وجوب حلولها في ذلك المحل من معلولات ذاته وقد ثبت أن العلة وإن استحال انفكاكها عن المعلول لكن ذلك لا يقتضي احتياجها إلى المعلول الثاني أن يقال إنه في ذاته يكون غنياً عن المحل وعن الحلول إلا أن المحل يوجب لذاته صفة الحلول فالمفتقر إلى المحل صفة من صفاته وهي حلوله في ذلك المحل فأما ذاته فلا ولا يلزم من افتقار صفة من صفاته الإضافية إلى الغير افتقار ذاته إلى الغير وذلك لأن جميع الصفات الإضافية الحاصلة له مثل كونه أولاً وآخراً ومقارناً ومؤثراً ومعلوماً ومذكوراً مما لا يتحقق إلا عند حصول التحيز وكيف لا والإضافات لا بد في تحققها من أمرين سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يحل مع جواز أن يحل قوله يلزم أن يكون حلوله فيه زائداً عليه ويلزم التسلسل قلنا حلوله في المحل لما كان جائزاً كان حلوله في المحل زائداً عليه أما كون ذلك الحلول حالاً في المحل أمر واجب فلا يلزم أن يكون حلول الحلول زائداً عليه فلا يلزم التسلسل قوله ثانياً يلزم أن يصير محل الحوادث قلنا لم لا يجوز ذلك قوله يلزم أن يكون قابلاً للحوادث في الأزل قلنا لا شك أن تمكنه من الإيجاد ثابت له إما لذاته أو لأمر ينتهي إلى ذاته وكيف كان فيلزم صحة كونه مؤثراً في الأزل فكل ما ذكرتموه في المؤثرية فنحن نذكره في القابلية والجواب أنا نقرر هذه الدلالة على وجه آخر

بحيث تسقط عنها هذه الأسئلة فنقول ذاته إما أن تكون كافية اقتضاء هذا الحلول أو لا تكون كافية في ذلك فإن كان الأول استحال توقف ذلك الاقتضاء على حصول شرط فيعود ما قلنا إنه يلزم إما قدم المحل أو حدوث الحال وإن كان الثاني كان كونه مقتضياً لذلك الحلول أمراً زائداً على ذاته حادثاً فيه فعلى التقديرات كلها يلزم من حدوث حلوله في محل حدوث شيء فيه لكن يستحيل أن يكون قابلاً للحوادث وإلا لزم أن يكون في الأزل قابلاً لها وهو محال على ما بيناه وأما المعارضة بالقدرة فغير واردة لأنه تعالى لذاته قادر على الإيجاد في الأزل فهو قادر على الإيجاد فيما لا يزال فههنا أيضاً لو كانت ذاته قابلة للحوادث لكانت في الأزل قابلة لها فحينئذ يلزم المحال المذكور هذا تمام القول في هذه الأدلة ولنا في إبطال قول النصارى وجوه أخر أحدها أنهم وافقونا على أن ذاته سبحانه وتعالى لم تحل في ناسوت عيسى عليه السلام بل قالوا الكلمة حلت فيه والمراد من الكلمة العلم فنقول العلم لما حل في عيسى ففي تلك الحالة إما أن يقال إنه بقي في ذات الله تعالى أو ما بقي فيها فإن كان الأول لزم حصول الصفة الواحدة في محلين وذلك غير معقول ولأنه لو جاز أن يقال العلم الحاصل في ذات عيسى عليه السلام هو العلم الحاصل في ذات الله تعالى بعينه فلم لا يجوز في حق كل واحد ذلك حتى يكون العلم الحاصل لكل واحد هو العلم الحاصل لذات الله تعالى وإن كان الثاني لزم أن يقال إن الله تعالى لم يبق عالماً بعد حلول علمه في عيسى عليه السلام وذلك مما لا يقوله عاقل وثانيها مناظرة جرت بيني وبين بعض النصارى فقلت له هل تسلم أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول أم لا فإن أنكرت لزمك أن لا يكون الله تعالى قديماً لأن دليل وجوده هو العالم فإذا لزم من عدم الدليل عدم المدلول لزم من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فنقول إذا جوزت اتحاد كلمة الله تعالى بعيسى أو حلولها فيه فكيف عرفت أن كلمة الله تعالى ما دخلت في زيد وعمرو بل كيف أنها ما حلت في هذه الهرة وفي هذا الكلب فقال لي إن هذا السؤال لا يليق بك لأنا إنما أثبتنا ذلك الاتحاد أو الحلول بناء على ما ظهر على يد عيسى عليه السلام من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص فإذا لم نجد شيئاً من ذلك ظهر على يد غيره فكيف نثبت الاتحاد أو الحلول فقلت له إني عرفت من هذا الكلام أنك ما عرفت أول الكلام لأنك سلمت لي أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول فإذا كان هذا الحلول غير ممتنع في الجملة فأكثر ما في الباب أنه وجد ما يدل على حصوله في حق عيسى عليه السلام ولم يوجد ذلك الدليل في حق زيد وعمرو ولكن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول فلا يلزم من عدم ظهور هذه الخوارق على يد زيد وعمرو وعلى السنور والكلب عدم ذلك الحلول فثبت أنك مهما جوزت القول بالاتحاد والحلول لزمك تجويز حصول ذلك الاتحاد وذلك الحلول في حق كل واحد بل في حق كل حيوان ونبات ولا شك أن المذهب الذي يسوق قائله إلى مثل هذا القول الركيك يكون باطلاً قطعاً ثم قلت له وكيف دل إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص على ما قلت أليس أن انقلاب العصا ثعباناً أبعد من انقلاب الميت حياً فإذا ظهر ذلك على يد موسى عليه السلام ولم يدل على إهليته فبأن لا يدل هذا على آلهية عيسى أولى

وثالثها أنا نقول دلالة أحوال عيسى على العبودية أقوى من دلالتها على الربوبية لأنه كان مجتهداً في العبادة والعبادة لا تليق إلا بالعبيد فإنه كان في نهاية البعد عن الدنيا والاحتراز عن أهلها حتى قالت النصارى إن اليهود قتلوه ومن كان في الضعف هكذا فكيف تليق به الربوبية ورابعها المسيح إما أن يكون قديماً أو محدثاً والقول بقدمه باطل لأنا نعلم بالضرورة أنه ولد وكان طفلاً ثم صار شاباً وكان يأكل ويشرب ويعرض له ما يعرض لسائر البشر وإن كان محدثاً كان مخلوقاً ولا معنى للعبودية إلا ذلك فإن قيل المعنى بإلهيته أنه حلت صفة الآلهية فيه قلنا هب أنه كان كذلك لكن الحال هو صفة الإله والمسيح هو المحل والمحل محدث مخلوق فما هو المسيح ( إلا ) عبد محدث فكيف يمكن وصفه بالإلهية وخامسها أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد فإن كان لله ولد فلا بد وأن يكون من جنسه فإذن قد اشتركا من بعض الوجوه فإن لم يتميز أحدهما عن الآخر بأمر ما فكل واحد منهما هو الآخر وإن حصل الإمتياز فما به الإمتياز غير ما به الاشتراك فيلزم وقوع التركيب في ذات الله وكل مركب ممكن فالواجب ممكن هذا خلف محال هذا كله على الإتحاد والحلول أما الاحتمال الثالث وهو أن يقال معنى كونه إلهاً أنه سبحانه خص نفسه أو بدنه بالقدرة على خلق الأجسام والتصرف في هذا العالم فهذا أيضاً باطل لأن النصارى حكوا عنه الضعف والعجز وأن اليهود قتلوه ولو كان قادراً على خلق الأجسام لما قدروا على قتله بل كان هو يقتلهم ويخلق لنفسه عسكراً يذبون عنه وأما الاحتمال الرابع وهو أنه اتخذه ابناً لنفسه على سبيل التشريف فهذا قد قال به قوم من النصارى يقال لهم الأرميوسية وليس فيه كثير خطأ إلا في اللفظ فهذا جملة الكلام على النصارى وبه ثبت صدق ما حكاه الله تعالى عنه أنه قال إني عبد الله الصفة الثانية قوله تعالى الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلف الناس فيه فالجمهور على أنه قال هذا الكلام حال صغره وقال أبو القاسم البلخي إنه إنما قال ذلك حين كان كالمراهق الذي يفهم وإن لم يبلغ حد التكليف أما الأولون فلهم قولان أحدهما أنه كان في ذلك الصغر نبياً الثاني روى عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال المراد بأن حكم وقضى بأنه سيبعثني من بعد ولما تكلم بذلك سكت وعاد إلى حال الصغر ولما بلغ ثلاثين سنة بعثه الله نبياً واحتج من نص على فساد القول الأول بأمور أحدها أن النبي لا يكون إلا كاملاً والصغير ناقص الخلقة بحيث يعد هذا التحدي من الصغير منفراً بل هو في التنفير أعظم من أن يكون امراأة وثانيها أنه لو كان نبياً في هذا الصغر لكان كمال عقله مقدماً على ادعائه للنبوة إذ النبي لا بد وأن يكون كامل العقل لكن كمال عقله في ذلك الوقت خارق للعادة فيكون المعجز متقدماً على التحدي وإنه غير جائز وثالثها أنه لو كان نبياً في ذلك الوقت لوجب أن يشتغل ببيان الأحكام وتعريف الشرائع ولو وقع ذلك لاشتهر ولنقل فحيث لم يحصل ذلك علمنا أنه ما كان نبياً في ذلك الوقت أجاب الأولون عن الكلام الأول بأن كون الصبي ناقصاً ليس لذاته بل الأمر يرجع إلى صغر جسمه ونقصان فهمه فإذا أزال الله تعالى هذه الأشياء لم تحصل النفرة بل تكون الرغبة إلى استماع قوله وهو على هذه الصفة أتم وأكمل وعن الكلام الثاني لم لا يجوز أن يقال إكمال عقله وإن حصل مقدماً على دعواه إلا أنه معجزة لزكريا عليه السلام أو يقال إنه إرهاص لنبوته أو كرامة لمريم عليها السلام وعندنا الإرهاص والكرامات جائزة وعن الكلام الثالث لم لا يجوز أن يقال مجرد بعثته إليهم من غير بيان شيء من الشرائع والأحكام جائز ثم بعد البلوغ أخذ في شرح تلك الأحكام فثبت

بهذا أنه لا امتناع في كونه نبياً في ذلك الوقت وقوله الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى يدل على كونه نبياً في ذلك الوقت فوجب إجراؤه على ظاهره بخلاف ما قاله عكرمة أما قول أبي القاسم البلخي فبعيد وذلك لأن الحاجة إلى كلام عيسى عليه السلام إنما كانت عند وقوع التهمة على مريم عليها السلام
المسألة الثانية اختلفوا في ذلك الكتاب فقال بعضهم هو التوراة لأن الألف واللام في الكتاب تنصرف للمعهود والكتاب المعهود لهم هو التوراة وقال أبو مسلم المراد هو الإنجيل لأن الألف واللام ههنا للجنس أي آتاني من هذا الجنس وقال قوم المراد هو التوراة والإنجيل لأن الألف واللام تفيد الاستغراق
المسألة الثالثة اختلفوا في أنه متى آتاه الكتاب ومتى جعله نبياً لأن قوله الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً وَجَعَلَنِى يدل على أن ذلك كان قد حصل من قبل إما ملاصقاً لذلك الكلام أو متقدماً عليه بأزمان والظاهر أنه من قبل أن كلمهم آتاه الله الكتاب وجعله نبياً وأمره بالصلاة والزكاة وأن يدعو إلى الله تعالى وإلى دينه وإلى ما خص به من الشريعة فقيل هذا الوحي نزل عليه وهو في بطن أمه وقيل لما انفصل من الأم آتاه الله الكتاب والنبوة وأنه تكلم مع أمه وأخبرها بحاله وأخبرها بأنه يكلمهم بما يدل على براءة حالها فلهذا أشارت إليه بالكلام الصفة الثالثة قوله وَجَعَلَنِى نَبِيّاً قال بعضهم أخبر أنه نبي ولكنه ما كان رسولاً لأنه في ذلك الوقت ما جاء بالشريعة ومعنى كونه نبياً أنه رفيع القدر على الدرجة وهذا ضعيف لأن النبي في عرف الشرع هو الذي خصه الله بالنبوة وبالرسالة خصوصاً إذا قرن إليه ذكر الشرع وهو قوله وأوصاني بالصلاة والزكاة الصفة الرابعة قوله وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنتُ فلقائل أن يقول كيف جعله مباركاً والناس كانوا قبله على الملة الصحيحة فلما جاء صار بعضهم يهوداً وبعضهم نصارى قائلين بالتثليث ولم يبق على الحق إلا القليل والجواب ذكروا في ( تفسير المبارك ) وجوهاً أحدها أن البركة في اللغة هي الثبات وأصله من بروك البعير فمعناه جعلني ثابتاً على دين الله مستقراً عليه وثانيها أنه إنما كان مباركاً لأنه كان يعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى طريق الحق فإن ضلوا فمن قبل أنفسهم لا من قبله وروى الحسن عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال أسلمت أم عيسى عليها السلام عيسى إلى الكتاب فقالت للمعلم أدفعه إليك على أن لا تضربه فقال له المعلم اكتب فقال أي شيء أكتب فقال اكتب أبجد فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال هل تدري ما أبجد فعلاه بالدرة ليضربه فقال يا مؤدب لا تضربني إن كنت لا تدري فاسألني فأنا أعلمك الألف من آلاء الله والباء من بهاء الله والجيم من جمال الله والدال من أداء الحق إلى الله وثالثها البركة الزيادة والعلو فكأنه قال جعلني في جميع الأحوال غالباً مفلحاً منجحاً لأني ما دمت أبقى في الدنيا أكون على الغير مستعلياً بالحجة فإذا جاء الوقت المعلوم يكرمني الله تعالى بالرفع إلى السماء ورابعها مبارك على الناس بحيث يحصل بسبب دعائي إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص عن قتادة أنه رأته امرأة وهو يحيي الموتى ويبرىء الأكمة والأبرص فقالت طوبى لبطن حملك وثدي أرضعت به فقال عيسى عليه السلام مجيباً لها طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يكن جباراً شقياً أما قوله أَيْنَ مَا كُنتُ فهو يدل على أن حاله لم يتغير كما قيل إنه عاد إلى حال الصغر وزوال التكليف الصفة الخامسة قوله وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى فإن قيل كيف أمر بالصلاة والزكاة مع أنه كان طفلاً صغيراً والقلم مرفوع عنه على ما قاله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ ) الحديث وجوابه

من وجهين الأول أن قوله وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل بعد البلوغ فلعل المراد أنه تعالى أوصاه بهما وبأدائهما في الوقت المعين له وهو وقت البلوغ الثاني لعل الله تعالى لما انفصل عيسى عن أمه صيره بالغاً عاقلاً تام الأعضاء والخلقة وتحقيقه قوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ ( آل عمران 59 ) فكما أنه تعالى خلق آدم تاماً كاملاً دفعة فكذا القول في عيسى عليه السلام وهذا القول الثاني أقرب إلى الظاهر لقوله مَا دُمْتُ حَيّاً فإنه يفيد أن هذا التكليف متوجه عليه في جميع زمان حيائه ولكن لقائل أن يقول لو كان الأمر كذلك لكان القوم حين رأوه فقد رأوه شخصاً كامل الأعضاء تام الخلقة وصدور الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكون عجباً فكان ينبغي أن لا يعجبوا فلعل الأول أن يقال إنه تعالى جعله مع صغر جثته قوي التركيب كامل العقل بحيث كان يمكنه أداء الصلاة والزكاة والآية دالة على أن تكليفه لم يتغير حين كان في الأرض وحين رفع إلى السماء وحين ينزل مرة أخرى الصفة السادسة قوله تعالى وَبَرّاً بِوَالِدَتِى أي جعلني براً بوالدتي وهذا يدل على قولنا إن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن الآية تدل على أن كونه براً إنما حصل بجعل الله وخلقه وحمله على الألطاف عدول عن الظاهر ثم قوله وَبَرّاً بِوَالِدَتِى إشارة إلى تنزيه أمه عن الزنا إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعصوم مأموراً بتعظيمها قال صاحب ( الكشاف ) جعل ذاته براً لفرط بره ونصبه بفعل في معنى أوصاني وهو كلفني لأن أوصاني بالصلاة وكلفني بها واحد الصفة السابعة قوله وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً وهذا أيضاً يدل على قولنا لأنه لما بين أنه جعله براً وما جعله جباراً فهذا إنما يحسن لو أن الله تعالى جعل غير جباراً وغيره بار بأمه فإن الله تعالى لو فعل ذلك بكل أحد لم يكن لعيسى عليه السلام مزيد تخصيص بذلك ومعلوم أنه عليه السلام إنما ذكر ذلك في معرض التخصيص وقوله وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً أي ما جعلني متكبراً بل أنا خاضع لأني متواضع لها ولو كنت جباراً لكنت عاصياً شقياً وروي أن عيسى عليه السلام قال قلبي لين وأنا صغير في نفسي وعن بعض العلماء لا تجد العاق إلا جباراً شقياً وتلا وَبَرّاً بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً ولا تجد سيىء الملكة إلا مختالاً فخوراً وقرأ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً الصفة الثامنة هي قوله وَالسَّلَامُ عَلَى َّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم لام التعريف في السلام منصرف إلى ما تقدم في قصتي يحيى عليه السلام من قوله وَسَلَامٌ عَلَيْهِ ( مريم 15 ) أي السلام الموجه إليه في المواطن الثلاثة موجه إلي أيضاً وقال صاحب ( الكشاف ) الصحيح أن يكون هذا التعريف تعويضاً باللعن على من اتهم مريم بالزنا وتحقيقه أن اللام للاستغراق فإذا قال وَالسَّلَامُ عَلَى َّ فكأنه قال وكل السلام علي وعلى أتباعي فلم يبق للأعداء إلا اللعن ونظيره قول موسى عليه السلام وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) بمعنى أن العذاب على من كذب وتولى وكان المقام مقام اللجاج والعناد ويليق به مثل هذا التعريض
المسألة الثانية روى بعضهم عن عيسى عليه السلام أنه قال ليحيى أنت خير مني سلم الله عليك وسلمت على نفسي وأجاب الحسن فقال إن تسليمه على نفسه بتسليم الله عليه

المسألة الثالثة قال القاضي السلام عبارة عما يحصل به الأمان ومنه السلامة في النعم وزوال الآفات فكأنه سأل ربه وطلب منه ما أخبر الله تعالى أنه فعله بيحيى ولا بد في الأنبياء من أن يكونوا مستجابي الدعوة وأعظم أحوال الإنسان احتياجاً إلى السلامة هي هذه الأحوال الثلاثة وهي يوم الولادة ويوم الموت ويوم البعث فجميع الأحوال التي يحتاج فيها إلى السلامة واجتماع السعادة من قبله تعالى طلبها ليكون مصوناً عن الآفات والمخافات في كل الأحوال واعلم أن اليهود والنصارى ينكرون أن عيسى عليه السلام تكلم في زمان الطفولية واحتجوا عليه بأن هذا من الوقائع العجيبة التي تتوافر الدواعي على نقلها فلو وجدت لنقلت بالتواتر ولو كان ذلك لعرفه النصارى لا سيما وهم من أشد الناس بحثاً عن أحواله وأشد الناس غلواً فيه حتى زعموا كونه إلهاً ولا شك أن الكلام في الطفولية من المناقب العظيمة والفضائل التامة فلما لم تعرفه النصارى مع شدة الحب وكمال البحث عن أحواله علمنا أنه لم يوجد ولأن اليهود أظهروا عداوته حال ما أظهر ادعاء النبوة فلو أنه عليه السلام تكلم في زمان الطفولية وادعى الرسالة لكانت عداوتهم معه أشد ولكان قصدهم قتله أعظم فحيث لم يحصل شيء من ذلك علمنا أنه ما تكلم أما المسلمون فقد احتجوا من جهة العقل على أنه تكلم فإنه لولا كلامه الذي دلهم على براءة أمه من الزنا لما تركوا إقامة الحد على الزنا عليها ففي تركهم لذلك دلالة على أنه عليه السلام تكلم في المهد وأجابوا عن الشبهة الأولى بأنه ربما كان الحاضرون عند كلامه قليلين فلذلك لم يشتهر وعن الثاني لعل اليهود ما حضروا هناك وما سمعوا كلامه فلذلك لم يشتغلوا بقصد قتله
ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِى فِيهِ يَمْتُرُونَ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وابن عامر قَوْلَ الْحَقّ بالنصب وعن ابن مسعود قَالَ الْحَقّ و قَالَ اللَّهُ وعن الحسن قَوْلَ الْحَقّ بضم القاف وكذلك في الأنعام قوله الْحَقّ والقول والقال القول في معنى واحد كالرهب والرهب والرهب أما ارتفاعه فعلى أنه خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف وأما انتصابه فعلى المدح إن فسر بكلمة الله أو على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقولك هو عند الله الحق لا الباطل والله أعلم
المسألة الثانية لا شبهة أن المراد بقوله ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الإشارة إلى ما تقدم وهو قوله قَالَ إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءاتَانِى َ ( مريم 30 ) أي ذلك الموصوف بهذه الصفات هو عيسى ابن مريم وفي قوله عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إشارة إلى أنه ولد هذه المرأة وابنها لا أنه ابن الله فأما قوله الْحَقّ ففيه وجوه أحدها وهو أن نفس عيسى عليه السلام هو قول الحق وذلك لأن الحق هو اسم الله فلا فرق بين أن نقول عيسى كلمة الله وبين أن نقول عيسى قول الحق وثانيها أن يكون المراد ( ذلك عيسى ابن مريم القول الحق ) إلا أنك أضفت الموصوف إلى الصفة فهو كقوله إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ( الواقعة 95 ) وفائدة قولك القول الحق تأكيد

ما ذكرت أولاً من كون عيسى عليه السلام ابناً لمريم وثالثها أن يكون قَوْلَ الْحَقّ خبراً لمبتدأ محذوف كأنه قيل ذلك عيسى ابن مريم ووصفنا له هو قول الحق فكأنه تعالى وصفه أولاً ثم ذكر أن هذا الموصوف هو عيسى ابن مريم ثم ذكر أن هذا الوصف أجمع هو قول الحق على معنى أنه ثابت لا يجوز أن يبطل كما بطل ما يقع منهم من المرية ويكون في معنى إن هذا لهو الحق اليقين فأما امتراؤهم في عيسى عليه السلام فالمذاهب التي حكيناها من قول اليهود والنصارى وقد تقدم ذكر ذلك في سورة آل عمران روي أن عيسى عليه السلام لما رفع حضر أربعة من أكابرهم وعلمائهم فقيل للأول ما تقول في عيسى فقال هو إله والله إله وأمه إله فتابعه على ذلك ناس وهم الإسرائيلية وقيل للرابع ما تقول فقال هو عبد الله ورسوله وهو المؤمن المسلم وقال أما تعلمون أن عيسى كان يطعم وينام وأن الله تعالى لا يجوز عليه ذلك فخصمهم أما قوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ فهو يحتمل أمرين أحدهما أن ثبوت الولد له محال فقولنا مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ كقوله ما كان لله أن يقول لأحد إنه ولدي لأن هذا الخبر كذب والكذب لا يليق بحكمة الله تعالى وكماله فقوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ كقولنا ما كان لله أن يظلم أي لا يليق ذلك بحكمته وكمال إلهيته واحتج الجبائي بالآية بناء على هذا التفسير أنه ليس لله أن يفعل كل شيء لأنه تعالى صرح بأنه ليس له هذا الإيجاد أي ليس له هذا الاختيار وأجاب أصحابنا عنه بأنه الكذب محال على الله تعالى فلا جرم قال مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ أما قوله سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما قال سُبْحَانَهُ ثم قال عقيبه إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ كان كالحجة على تنزيهه عن الولد وبيان ذلك أن الذي يجعل ولداً لله إما أن يكون قديماً أزلياً أو يكون محدثاً فإن كان أزلياً فهو محال لأنه لو كان واجباً لذاته لكان واجب الوجود أكثر من واحد هذا خلف وإن كان ممكناً لذاته كان مفتقراً في وجوده إلى الواجب لذاته غنياً لذاته فيكون الممكن محتاجاً لذاته فيكون عبداً له لأنه لا معنى للعبودية إلا ذلك وأما إن كان الذي يجعل ولداً يكون محدثاً فيكون وجوده بعد عدمه بخلق ذلك القديم وإيجاده وهو المراد من قوله إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ فيكون عبداً له لا ولداً له فثبت أنه يستحيل أن يكون لله ولد
المسألة الثانية احتج الأصحاب بقوله إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ على قدم كلام الله تعالى قالوا لأن الآية تدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فيكون فلو كان قوله كن محدثاً لافتقر حدوثه إلى قول آخر ولزم التسلسل وهو محال فثبت أن قول الله قديم لا محدث واحتج المعتزلة بالآية على حدوث كلام الله تعالى من وجوه أحدها أنه تعالى أدخل عليه كلمة إذا وهذه الكلمة دالة على الاستقبال فوجب أن لا يحصل القول إلا في الاستقبال وثانيها أن حرف الفاء للتعقيب والفاء في قوله فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ يدل على تأخر ذلك القول عن ذلك القضاء والمتأخر عن غيره محدث وثالثها الفاء في قوله فَيَكُونُ يدل على حصول ذلك الشيء عقيب ذلك القول من غير فصل فيكون قول الله متقدماً على حدوث الحادث تقدماً بلا فصل والمتقدم على المحدث تقدماً بلا فصل يكون محدثاً فقول الله محدث واعلم أن استدلال الفريقين ضعيف أما استدلال الأصحاب فلأنه يقتضي أن يكون قوله كُنَّ قديماً وذلك باطل بالاتفاق وأما استدلال المعتزلة فلأنه يقتضي أن يكون قول الله تعالى هو المركب من الحروف

والأصوات وهو محدث وذلك لا نزاع فيه إنما المدعي قدم شيء آخر
المسألة الثالثة من الناس من أجرى الآية على ظاهرها فزعم أنه تعالى إذا أحدث شيئاً قال له كن وهذا ضعيف لأنه إما أن يقول له كن قبل حدوثه أو حال حدوثه فإن كان الأول كان ذلك خطاباً مع المعدوم وهو عبث وإن كان الثاني فهو حال حدوثه قد وجد بالقدرة والإرادة فأي تأثير لقوله كن فيه ومن الناس من زعم أن المراد من قوله كُنَّ هو الخليق والتكوين وذلك لأن القدرة على الشيء غير وتكوين الشيء غير فإن الله سبحانه قادر في الأزل وغير مكون في الأزل ولأنه الآن قادر على عوالم سوى هذا العالم وغير مكون لها والقادرية غير المكونية والتكوين ليس هو نفس المكون لأنا نقول المكون إنما حدث لأن الله تعالى كونه فأوجده فلو كان التكوين نفس المكون لكان قولنا المكون إنما وجد بتكوين الله تعالى نازلاً منزلة قولنا المكون إنما وجد بنفسه وذلك محال فثبت أن التكوين غير المكون فقوله كُنَّ إشارة إلى الصفة المسماة بالتكوين وقال آخرون قوله كُنَّ عبارة عن نفاذ قدرة الله تعالى ومشيئته في الممكنات فإن وقوعها بتلك القدرة والإرادة من غير امتناع واندفاع يجري مجرى العبد المطيع المسخر المنقاد لأوامر مولاه فعبر الله تعالى عن ذلك المعنى بهذه العبارة على سبيل الاستعارة
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الاٌّ حْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَة ِ إِذْ قُضِى َ الاٌّ مْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَة ٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
اعلم أن قوله وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ المدنيون وأبو عمرو بفتح أن ومعناه ولأنه ربي وربكم فاعبدوه وقرأ الكوفيون وأبو عبيدة بالكسر على الابتداء وفي حرف أبي إِنَّ اللَّهَ بالكسر من غير واو أي بسبب ذلك فاعبدوه
المسألة الثانية أنه لا يصح أن يقول الله وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فلا بد وأن يكون قائل هذا غير الله تعالى وفيه قولان الأول التقدير فقل يا محمد إن الله ربي وربكم بعد إظهار البراهين الباهرة في أن عيسى هو عبد الله الثاني قال أبو مسلم الأصفهاني الواو في وإن الله عطف على قول عيسى عليه السلام قَالَ إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءاتَانِى َ ( مريم 30 ) كأنه قال إني عبد الله وإنه ربي وربكم فاعبدوه وقال وهب بن منبه عهد إليهم حين أخبرهم عن بعثه ومولده ونعته أن الله ربي وربكم أي كلنا عبيد الله تعالى

المسألة الثالثة قوله وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ يدل على أن مدبر الناس ومصلح أمورهم هو الله تعالى على خلاف قول المنجمين إن مدبر الناس ومصلح أمورهم في السعادة والشقاوة هي الكواكب ويدل أيضاً على أن الإله واحد لأن لفظ الله اسم علم له سبحانه فلما قال إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ أي لا رب للمخلوقات سوى الله تعالى وذلك يدل على التوحيد أما قوله فَاعْبُدُوهُ فقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية فههنا الأمر بالعبادة وقع مرتباً على ذكر وصف الربوبية فدل على أنه إنما تلزمنا عبادته سبحانه لكونه رباً لنا وذلك يدل على أنه تعالى إنما تجب عبادته لكونه منعماً على الخلائق بأصول النعم وفروعها ولذلك فإن إبراهيم عليه السلام لما منع أباه من عبادة الأوثان قال لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً يعني أنها لما لم تكن منعمة على العباد لم تجز عبادتها وبهذه الآية ثبت أن الله تعالى لما كان رباً ومربياً لعباده وجب عبادته فقد ثبت طرداً وعكساً تعلق العبادة بكون المعبود منعماً أما قوله هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ يعني القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة صراط مستقيم وأنه سمي هذا القول بالصراط المستقيم تشبيهاً بالطريق لأنه المؤدي إلى الجنة أما قوله تعالى فَاخْتَلَفَ الاْحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ففي الأحزاب أقوال الأول المراد فرق النصارى على ما بينا أقسامهم الثاني المراد النصارى واليهود فجعله بعضهم ولداً وبعضهم كذاباً الثالث المراد الكفار الداخل فيهم اليهود والنصارى والكفار الذين كانوا في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإذا قلنا المراد بقوله وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أي قل يا محمد إن الله ربي وربكم فهذا القول أظهر لأنه لا تخصيص فيه وكذا قوله فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مؤكد لهذا الاحتمال وأما قوله مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ فالمشهد إما أن يكون هو الشهود وما يتعلق به أو الشهادة وما يتعلق بها أما الأول فيحتمل أن يكون المراد من المشهد نفس شهودهم هول الحساب والجزاء في القيامة أو مكان الشهود فيه وهو الموقف أو وقت الشهود وأما الشهادة فيحتمل أن يكون المراد شهادة الملائكة والأنبياء وشهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال وأن يكون مكان الشهادة أو وقتها وقيل هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه وإنما وصف ذلك المشهد بأنه عظيم لأنه لا شيء أعظم مما يشاهد في ذلك اليوم من محاسبة ومساءلة ولا شيء من المنافع أعظم مما هنالك من الثواب ولا بد من المضار أعظم مما هنالك من العقاب أما قوله تعالى أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى قالوا التعجب هو استعظام الشيء مع الجهل بسبب عظمه ثم يجوز استعمال لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير أن يكون للعظم سبب حصول قال الفراء قال سفيان قرأت عند شريح بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ ( الصافات 12 ) فقال إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال إن شريحاً شاعر يعجبه علمه وعبد الله أعلم بذلك منه قرأها بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ ومعناه أنه صدر من الله تعالى فعل لو صدر مثله عن الخلق لدل على حصول التعجب في قلوبهم وبهذا التأويل يضاف المكر والاستهزاء إلى الله تعالى وإذا عرفت هذا فنقول للتعجب صفتان إحداهما ما أفعله والثانية أفعل به كقوله تعالى أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ والنحويون ذكروا له تأويلات الأول قالوا أكرم بزيد أصله أكرم زيد أي صار ذا كرم كأغد البعير أي صار ذا غدة إلا أنه خرج على لفظ الأمر ومعناه الخبر كما خرج على لفظ الخبر ما معناه الأمر كقوله تعالى وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ

( البقرة 228 ) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ( البقرة 233 ) قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَالَة ِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً ( مريم 75 ) أي يمد له الرحمن مداً وكذا قولهم رحمه الله خبر وإن كان معناه الدعاء والباء زائدة الثاني أن يقال إنه أمر لكل أحد بأن يجعل زيداً كريماً أي بأن يصفه بالكرم والباء زائدة مثل قوله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ ( البقرة 195 ) ولقد سمعت لبعض الأدباء فيه تأويلاً ثالثاً وهو أن قولك أكرم بزيد يفيد أن زيداً بلغ في الكرم إلى حيث كأنه في ذاته صار كرماً حتى لو أردت جعل غيره كريماً فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصل لك غرضك كما أن من قال أكتب بالقلم فمعناه أن القلم هو الذي يلصقك بمقصودك ويحصل لك غرضك
المسألة الثانية قوله أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا فيه ثلاثة أوجه أحدها وهو المشهور الأقوى أن معناه ما أسمعهم وما أبصرهم والتعجب على الله تعالى محال كما تقدم وإنما المراد أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما بعدما كانوا صماً وعمياً في الدنيا وقيل معناه التهديد مما سيسمعون وسيبصرون مما يسوء بصرهم ويصدع قلوبهم وثانيها قال القاضي ويحتمل أن يكون المراد أسمع هؤلاء وأبصرهم أي عرفهم حال القوم الذين يأتوننا ليعتبروا وينزجروا وثالثها قال الجبائي ويجوز أسمع الناس بهؤلاء وأبصرهم بهم ليعرفوا أمرهم وسوء عاقبتهم فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم أما قوله لَاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ففيه قولان الأول لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وفي الآخرة يعرفون الحق والثاني لَاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وهم في الآخرة في ضلال عن الجنة بخلاف المؤمنين وأما قوله تعالى وَأَنذِرْهُمْ فلا شبهة في أنه أمر لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأن ينذر من في زمانه فيصلح بأن يجعل هذا كالدلالة على أن قوله فاختلف الأحزاب أراد به اختلاف جميعهم في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأما الإنذار فهو التخويف من العذاب لكي يحذروا من ترك عبادة الله تعالى وأما يوم الحسرة فلا شبهة في أنه يوم القيامة من حيث يكثر التحسر من أهل النار وقيل يتحسر أيضاً في الجنة إذا لم يكن من السابقين الواصلين إلى الدرجات العالية والأول هو الصحيح لأن الحسرة غم وذلك لا يليق بأهل الثواب أما قوله تعالى إِذْ قُضِى َ الاْمْرُ ففيه وجوه أحدها إذ قضى الأمر ببيان الدلائل وشرح أمرالثواب والعقاب وثانيها إذ قضى الأمر يوم الحسرة بفناء الدنيا وزوال التكليف والأول أقرب لقوله وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ فكأنه تعالى بين أنه ظهرت الحجج والبينات وهم في غفلة وهم لا يؤمنون وثالثها روي أنه سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله قضى الأمر ( فقال حين يجاء بالموت في صورة كبش أملح فيذبح والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحاً على فرح وأهل النار غماً على غم ) واعلم أن الموت عرض فلا يجوز أن يصير جسماً حيوانياً بل المراد أنه لا موت البتة بعد ذلك وأما قوله وَهُمْ فِى غَفْلَة ٍ أي عن ذلك اليوم وعن كيفية حسرته وهم لا يؤمنون أي بذلك اليوم ثم قال بعده إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الاْرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا أي هذه الأمور تؤول إلى أن لا يملك الضر والنفع إلا الله تعالى وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ أي إلى محل حكمنا وقضائنا لأنه تعالى منزه عن المكان حتى يكون الرجوع إليه وهذا تخويف عظيم وزجر بليغ للعصاة

القصة الثالثة قصة إبراهيم عليه السلام
وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ياأَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً ياأَبَتِ إِنِّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً
اعلم أن الغرض من هذه السورة بيان التوحيد والنبوة والحشر والمنكرون للتوحيد هم الذين أثبتوا معبوداً سوى الله تعالى وهؤلاء فريقان منهم من أثبت معبوداً غير الله حياً عاقلاً فاهماً وهم النصارى ومنهم من أثبت معبوداً غير الله جماداً ليس بحي ولا عاقل ولا فاهم وهم عبدة الأوثان والفريقان وإن اشتركا في الضلال إلا أن ضلال الفريق الثاني أعظم فلما بين تعالى ضلال الفريق الأول تكلم في ضلال الفريق الثاني وهم عبدة الأوثان فقال وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ والواو في قوله واذكر عطف على قوله ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا كأنه لما انتهت قصة عيسى وزكريا عليهما السلام قال قد ذكرت حال زكريا فاذكر حال إبراهيم وإنما أمر بذكره لأنه عليه السلام ما كان هو ولا قومه ولا أهل بلدته مشتغلين بالعلم ومطالعة الكتب فإذا أخبر عن هذه القصة كما كانت من غير زيادة ولا نقصان كان ذلك إخباراً عن الغيب الغيب ومعجزاً قاهراً دالاً على نبوته وإنما شرع في قصة إبراهيم عليه السلام لوجوه أحدها أن إبراهيم عليه السلام كان أب العرب وكانوا مقرين بعلو شأنه وطهارة دينه على ما قال تعالى مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ( الحج 78 ) وقال تعالى وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) فكأنه تعالى قال للعرب إن كنتم مقلدين لآبائكم على ما هو قولكم وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّذِيرٍ ( الزخرف 23 )

ومعلوم أن أشرف آبائكم وأجلهم قدراً هو إبراهيم عليه السلام فقلدوه في ترك عبادة الأوثان وإن كنتم من المستدلين فانظروا في هذه الدلائل التي ذكرها إبراهيم عليه السلام لتعرفوا فساد عبادة الأوثان وبالجملة فاتبعوا إبراهيم إما تقليداً وإما استدلالاً وثانيها أن كثيراً من الكفار في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يقولون كيف نترك دين آبائنا وأجدادنا فذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام وبين أنه ترك دين أبيه وأبطل قوله بالدليل ورجح متابعة الدليل على متابعة أبيه ليعرف الكفار أن ترجيح جانب الأب على جانب الدليل رد على الأب الأشرف الأكبر الذي هو إبراهيم عليه السلام وثالثها أن كثيراً من الكفار كانوا يتمسكون بالتقليد وينكرون الاستدلال على ما قال الله تعالى قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّة ٍ ( الزخرف 22 ) و قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ ( الأنبياء 53 ) فحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام التمسك بطريقة الاستدلال تنبيهاً لهؤلاء على سقوط هذه الطريقة ثم قال تعالى في وصف إبراهيم عليه السلام إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً وفي الصديق قولان أحدهما أنه مبالغة في كونه صادقاً وهو الذي يكون عادته الصدق لأن هذا البناء ينبىء عن ذلك يقال رجل خمير وسكير للمولع بهذه الأفعال والثاني أنه الذي يكون كثير التصديق بالحق حتى يصير مشهوراً به والأول أولى وذلك لأن المصدق بالشيء لا يوصف بكونه صديقاً إلا إذا كان صادقاً في ذلك التصديق فيعود الأمر إلى الأول فإن قيل أليس قد قال تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشُّهَدَاء ( الحديد 19 ) قلنا المؤمنون بالله ورسله صادقون في ذلك التصديق واعلم أن النبي يجب أن يكون صادقاً في كل ما أخبر عنه لأن الله تعالى صدقه ومصدق الله صادق وإلا لزم الكذب في كلام الله تعالى فيلزم من هذا كون الرسول صادقاً في كل ما يقول ولأن الرسل شهداء الله على الناس على ما قال الله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) والشهيد إنما يقبل قوله إذا لم يكن كاذباً فإن قيل فما قولكم في إبراهيم عليه السلام في قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ( الأنبياء 63 ) و إِنّى سَقِيمٌ قلنا قد شرحنا في تأويل هذه الآيات بالدلائل الظاهرة أن شيئاً من ذلك ليس بكذب فلما ثبت أن كل نبي يجب أن يكون صديقاً ولا يجب في كل صديق أن يكون نبياً ظهر بهذا قرب مرتبة الصديق من مرتبة النبي فلهذا انتقل من ذكر كونه صديقاً إلى ذكر كونه نبياً وأما النبي فمعناه كونه رفيع القدر عند الله وعند الناس وأي رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه وبين عباده وقوله كَانَ صِدّيقاً قيل إنه صار وقيل إن معناه وجد صديقاً نبياً أي كان من أول وجوده إلى انتهائه موصوفاً بالصدق والصيانة قال صاحب ( الكشاف ) هذه الجملة وقعت اعتراضاً بين المبدل منه وبدله أعني إبراهيم وإذ قال ونظيره قولك رأيت زيداً ونعم الرجل أخاك ويجوز أن يتعلق إذ بكان أو بصديقاً نبياً أي كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه بتلك المخاطبات أما قوله يا أبت فالتاء عوض عن ياء الإضافة ولا يقال يا أبتي لئلا يجمع بين العوض والمعوض عنه وقد يقال يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء واعلم أنه تعالى حكى أن إبراهيم عليه السلام تكلم مع أبيه بأربعة أنواع من الكلام النوع الأول قوله لاِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ووصف الأوثان بصفات ثلاثة كل واحدة منها قادحة في الإلهية وبيان ذلك من وجوه أحدها أن العبادة غاية التعظيم فلا يستحقها إلا من له غاية الانعام وهو الإله الذي منه أصول النعم وفروعها على ما قررناه في تفسير قوله و إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ( آل عمران 51 ) وقال كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) الآية وكما يعلم بالضرورة أنه لا يجوز الاشتغال بشكرها ما لم تكن منعمة وجب أن لايجوز الاشتغال بعبادتها وثانيها أنها إذا لم تسمع ولم تبصر ولم تميز من يطيعها عمن يعصيها فأي فائدة في عبادتها وهذا ينبهك على أن الإله يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات حتى يكون العبد آمناً من وقوع الغلط للمعبود وثالثها أن الدعاء مخ العبادة فالوثن إذا لم يسمع دعاء الداعي فأي منفعة في عبادته وإذا كانت لا تبصر بتقرب من يقترب إليها فأي منفعة في ذلك التقرب ورابعها أن السامع المبصر الضار النافع أفضل ممن كان عارياً عن كل ذلك والإنسان موصوف بهذه الصفات فيكون أفضل وأكمل من الوثن فكيف يليق بالأفضل عبادة الأخس

وخامسها إذا كانت لا تنفع ولا تضر فلا يرجى منها منفعة ولا يخاف من ضررها فأي فائدة في عبادتها وسادسها إذا كانت لا تحفظ أنفسها عن الكسر والإفساد على ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه كسرها وجعلها جذاذاً فأي رجاء للغير فيها واعلم أنه عاب الوثن من ثلاثة أوجه أحدها لا يسمع وثانيها لا يبصر وثالثها لا يغني عنك شيئاً كأنه قال له بل الإلهية ليست إلا لربي فإنه يسمع ويجيب دعوة الداعي ويبصر كما قال إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ( طه 46 ) ويقضي الحوائج أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ( النمل 62 ) واعلم أن قوله ههنا لِمَ تَعْبُدُ محمول على نفس العبادة وأما قوله في المقام الثالث لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ لا يقال ذلك بل المراد الطاعة لأنهم ما كانوا يعبدون الشيطان فوجب حمله على الطاعة ولأنا نقول ليس إذا تركنا الظاهر ههنا لدليل وجب ترك الظاهر في المقام الأول بغير دليل فإن قيل إما أن يقال إن أبا إبراهيم كان يعتقد في تلك الأوثان أنها آلهة بمعنى أنها قادرة مختارة موجدة للناس والحيوانات أو يقال إنه ما كان يعتقد ذلك بل كان يعتقد أنها تماثيل الكواكب والكواكب هي الآلهة المدبرة لهذا العالم فتعظيم تماثيل الكواكب بموجب تعظيم الكواكب أو كان يعتقد أن هذه الأوثان تماثيل أشخاص معظمة عند الله تعالى من البشر فتعظيمها يقتضي كون أولئك الأشخاص شفعاء لهم عند الله تعالى أو كان يعتقد أن تلك الأوثان طلسمات ركبت بحسب اتصالات مخصوصة للكواكب قلما يتفق مثلها وأنها مشفع بها أو غير ذلك من الأعذار المنقولة عن عبدة الأوثان فإن كان أبو إبراهيم من القسم الأول كان في نهاية الجنون لأن العلم بأن هذا الخشب المنحوت في هذه الساعة ليس خالقاً للسموات والأرض من أجلى العلوم الضرورية فالشاك فيه يكون فاقداً لأجلى العلوم الضرورية فكان مجنوناً والمجنون لا يجوز إيراد الحجة عليه والمناظرة معه وإن كان من القسم الثاني فهذه الدلائل لا تقدح في شيء من ذلك لأن ذلك المذهب إنما يبطل بإقامة الدلالة على أن الكواكب ليست أحياء ولا قادرة على خلق الأجسام وخلق الحياة ومعلوم أن الدليل المذكور ههنا لا يفيد ذلك المطلوب فعلمنا أن هذه الدلالة عديمة الفائدة على كل التقديرات قلنا لا نزاع أنه لا يخفى على العاقل أن الخشبة المنحوتة لا تصلح لخلق العالم وإنما مذهبهم هذا على الوجه الثاني وإنما أورد إبراهيم عليه السلام هذه الدلالة عليهم لأنهم كانوا يعتقدون أن عبادتها تفيد نفعاً إما على سبيل الخاصية الحاصلة من الطلسمات أو على سبيل أن الكواكب تنفع وتضر فبين إبراهيم عليه السلام أنه لا منفعة في طاعتها ولا مضرة في الإعراض عنها فوجب أن لا تحسن عبادتها النوع الثاني قوله شَيْئاً ياأَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ومعناه ظاهر وطمع في التمسك به أهل التعليم وأهل التقليد أما أهل التعليم فقالوا إنه أمره بالإتباع في الدين وما أمره بالتمسك بدليل لا يستفاد إلا من الإتباع وأما أهل التقليد فقد تمسكوا به أيضاً من هذا الوجه ومن الناس من طعن أنه أمره بالإتباع لتحصل الهداية فإذن لا تحصل الهداية إلا باتباعه ولا تبعية إلا إذا اهتدى لقولنا إنه لا بد من اتباعه فيقع الدور وإنه باطل ( والجواب ) عن الأول أن المراد بالهداية بيان الدليل وشرحه وإيضاحه فعند هذا عاد السائل فقال أنا لا أنكر أنه لا بد من الدلالة ولكني أقول الوقوف على تلك الدلالة لا يستفاد إلا ممن له نفس كاملة بعيدة عن النقص والخطأ وهي نفس النبي المعصوم أو الإمام المعصوم فإذا سلمت أنه لا بد من النبي في هذا المقصود فقد سلمت حصول الغرض أجاب المجيب وقال أنا ما سلمت أنه لا بد في الوقوف على الدلائل من هداية النبي ولكني أقول هذا الطريق أسهل وإن إبراهيم عليه السلام

دعاه إلى الأسهل والجواب عن سؤال الدور أن قوله فَاتَّبِعْنِى ليس أمر إيجاب بل أمر إرشاد والنوع الثالث قوله سَوِيّاً ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً أي لا تطعه لأنه عاص لله فنفره بهذه الصفة عن القبول منه لأنه أعظم الخصال المنفرة واعلم أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص لم يذكر من جنايات الشيطان إلا كونه عاصياً لله ولم يذكر معاداته لآدم عليه السلام كأن النظر في عظم ما ارتكبه من ذلك العصيان غمى فكره وأطبق على ذهنه وأيضاً فإن معصية الله تعالى لا تصدر إلا عن ضعيف الرأي ومن كان كذلك كان حقيقاً أن لا يلتفت إلى رأيه ولا يجعل لقوله وزن فإن قيل إن هذا القول يتوقف على إثبات أمور أحدها إثبات الصانع وثانيها إثبات الشيطان وثالثها إثبات أن الشيطان عاص لله ورابعها أنه لما كان عاصياً لم تجز طاعته في شيء من الأشياء وخامسها أن الاعتقاد الذي كان عليه ذلك الإنسان كان مستفاداً من طاعة الشيطان ومن شأن الدلالة التي تورد على الخصم أن تكون مركبة من مقدمات معلومات مسلمة ولعل أبا إبراهيم كان منازعاً في كل هذه المقدمات وكيف والمحكى عنه أنه ما كان يثبت إلهاً سوى نمروذ فكيف يسلم وجود الإله الرحمن وإذا لم يسلم وجوده فكيف يمكنه تسليم أن الشيطان كان عاصياً للرحمن ثم إن على تسليم ذلك فكيف يسلم الخصم بمجرد هذا الكلام أن مذهبه مقتبس من الشيطان بل لعله يقلب ذلك على خصمه قلنا الحجة المعول عليها في إبطال مذهب آزر هو الذي ذكره أولاً من قوله لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً فأما هذا الكلام فيجري مجرى التخويف والتحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدلالة وعلى هذا التقدير يسقط السؤال النوع الرابع قوله عَصِيّاً ياأَبَتِ إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قال الفراء معنى أخاف أعلم والأكثرون على أنه محمول على ظاهره والقول الأول إنما يصح لو كان إبراهيم عليه السلام عالماً بأن أباه سيموت على ذلك الكفر وذلك لم يثبت فوجب إجراؤه على ظاهره فإنه كان يجوز أن يؤمن فيصير من أهل الثواب ويجوز أن يصر فيموت على الكفر فيكون من أهل العقاب ومن كان كذلك كان خائفاً لا قاطعاً واعلم أن من يظن وصول الضرر إلى غيره فإنه لا يسمى خائفاً إلا إذا كان بحيث يلزم من وصول ذلك الضرر إليه تألم قلبه كما يقال أنا خائف على ولدي أما قوله فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً فذكروا في الولي وجوهاً أحدها أنه إذا استوجب عذاب الله كان مع الشيطان في النار والولاية سبب للمعية وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز وإن لم يجز حمله الى الولاية الحقيقية لقوله تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) وقال ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ( العنكبوت 25 ) وحكى عن الشيطان أنه يقول لهم إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ( إبراهيم 22 ) واعلم أن هذا الإشكال إنما يتوجه إذا كان المراد من العذاب عذاب الآخرة أما إذا كان المراد منه عذاب الدنيا فالإشكال ساقط وثانيها أن يحمل العذاب على الخذلان أي إني أخاف أن يمسك خذلان الله فتصير موالياً للشيطان ويبرأ الله منك على ما قال تعالى وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً ( النساء 119 ) وثالثها ولياً أي تالياً للشيطان تليه كما يسمى المطر الذي يأتي تالياً ولياً فإن قيل قوله أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً يقتضي أن تكون ولاية الشيطان أسوأ حالاً من العذاب نفسه وأعظم فما السبب لذلك ( والجواب ) أن رضوان الله تعالى أعظم من الثواب على ما قال

وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( التوبة 72 ) فوجب أن تكون ولاية الشيطان التي هي في مقابلة رضوان الله أكبر من العذاب نفسه وأعظم واعلم أن إبراهيم عليه السلام رتب هذا الكلام في غاية الحسن لأنه نبه أولاً على ما يدل على المنع من عبادة الأوثان ثم أمره باتباعه في النظر والاستدلال وترك التقليد ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي ثم إنه عليه السلام أورد هذا الكلام الحسن مقروناً باللطف والرفق فإن قوله في مقدمة كل كلام يا أبت دليل على شدة الحب والرغبة في صونه عن العقاب وإرشاده إلى الصواب وختم الكلام بقوله إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ وذلك يدل على شدة تعلق قلبه بمصالحه وإنما فعل ذلك لوجوه أحدها قضاء لحق الأبوة على ما قال تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) والإرشاد إلى الدين من أعظم أنواع الإحسان فإذا انضاف إليه رعاية الأدب والرفق كان ذلك نوراً على نور وثانيها أن الهادي إلى الحق لا بد وأن يكون رفيقاً لطيفاً يورد الكلام لا على سبيل العنف لأن إيراده على سبيل العنف يصير كالسبب في إعراض المستمع فيكون ذلك في الحقيقة سعياً في الإغواء وثالثها ما روى أبو هريرة أنه قال عليه السلام ( أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام أنك خليلي فحسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأن أسكنه حظيرة قدسي وأدنيه من جواري ) والله أعلم
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى ياإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّى شَقِيًّا
اعلم أن إبراهيم عليه السلام لما دعا أباه إلى التوحيد وذكر الدلالة على فساد عبادة الأوثان وأردف تلك الدلالة بالوعظ البليغ وأورد كل ذلك مقروناً باللطف والرفق قابله أبوه بجواب يضاد ذلك فقابل حجته بالتقليد فإنه لم يذكر في مقابلة حجته إلا قوله أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ياإِبْراهِيمُ إِبْرَاهِيمَ فأصر على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً وقابل وعظه بالسفاهة حيث هدده بالضرب والشتم وقابل رفقه في قوله يا أبت ( مريم 44 ) بالعنف حيث لم يقل له يا بني بل قال ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ وإنما حكى الله تعالى ذلك لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليخفف على قلبه ما كان يصل إليه من أذى المشركين فيعلم أن الجهال منذ كانوا على هذه السيرة المذمومة أما قوله أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ياإِبْراهِيمُ إِبْرَاهِيمَ فإن كان ذلك على وجه الاستفهام فهو خذلان لأنه قد عرف منه ما تكرر منه من وعظه وتنبيهه على الدلالة وهو يفيد أنه راغب عن ذلك أشد رغبة فما فائدة هذا القول وإن كان ذلك على سبيل التعجب فأي تعجب في الإعراض عن حجة لا فائدة فيها وإنما التعجب كله من الإقدام على عبادتها فإن الدليل الذي ذكره إبراهيم عليه السلام كما أنه يبطل جواز عبادتها فهو يفيد التعجب من أن العاقل كيف يرضى

بعبادتها فكأن أباه قابل ذلك التعجب الظاهر المبني على الدليل بتعجب فاسد غير مبني على دليل وشبهة ولا شك أن هذا التعجب جدير بأن يتعجب منه أما قوله لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً ففيه مسائل
المسألة الأولى في الرجم ههنا قولان الأول أنه الرجم باللسان وهو الشتم والذم ومنه قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ( النور 4 ) أي بالشتم ومنه الرجم أي المرمي باللعن قال مجاهد الرجم في القرآن كله بمعنى الشتم والثاني أنه الرجم باليد وعلى هذا التقدير ذكروا وجوهاً أحدها لأرجمنك بإظهار أمرك للناس ليرجموك ويقتلوك وثانيها لأرجمنك بالحجارة لتتباعد عني وثالثها عن المؤرج لأقتلنك بلغة قريش ورابعها قال أبو مسلم لأرجمنك المراد منه الرجم بالحجارة إلا أنه قد يقال ذلك في معنى الطرد والإبعاد اتساعاً ويدل على أنه أراد الطرد قوله تعالى وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً واعلم أن أصل الرجم هو الرمي بالرجام فحمله عليه أولى فإن قيل أفما يدل قوله تعالى وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً على أن المراد به الرجم بالشتم قلنا لا وذلك لأنه هدده بالرجم إن بقي على قربه منه وأمره أن يبعد هرباً من ذلك فهو في معنى قوله وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً
المسألة الثانية في قوله تعالى وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً قولان أحدهما المراد واهجرني بالقول والثاني بالمفارقة في الدار والبلد وهي هجرة الرسول والمؤمنين أي تباعد عني لكي لا أراك وهذا الثاني أقرب إلى الظاهر
المسألة الثالثة في قوله مَلِيّاً قولان الأول ملياً أي مدة بعيدة مأخوذ من قولهم أتى على فلان ملاوة من الدهر أي زمان بعيد والثاني ملياً بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح يقال فلان ملي بكذا إذا كان مطيقاً له مضطلعاً به
المسألة الرابعة عطف اهجرني على معطوف عليه محذوف يدل عليه لأرجمنك أي فاحذرني واهجرني لئلا أرجمنك ثم إن إبراهيم عليه السلام لما سمع من أبيه ذلك أجاب عن أمرين أحدهما أنه وعده التباعد منه وذلك لأن أباه لما أمره بالتباعد أظهر الإنقياد لذلك الأمر وقوله سَلَامٌ عَلَيْكَ توادع ومتاركة كقوله تعالى لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ( القصص 55 ) وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ( الفرقان 63 ) وهذا دليل على جواز متاركة المنصوح إذا ظهر منه اللجاج وعلى أنه تحسن مقابلة الإساءة بالإحسان ويجوز أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له ألا ترى أنه وعده بالاستغفار ثم إنه لما ودع أباه بقوله سَلَامٌ عَلَيْكَ ضم إلى ذلك ما دل به على أنه وإن بعد عنه فاشفاقه باق عليه كما كان وهو قوله سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي واحتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء وتقريره أن إبراهيم عليه السلام فعل ما لا يجوز لأنه استغفر لأبيه وهو كافر والاستغفار للكافر لا يجوز فثبت بمجموع هذه المقدمات أن إبراهيم عليه السلام فعل ما لا يجوز إنما قلنا إنه استغفر لأبيه لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي وقوله وَاغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ ( الشعراء 86 ) وأما أن أباه كان كافراً فذاك بنص القرآن وبالإجماع وأما أن الاستغفار للكافر لا يجوز فلوجهين الأول قوله تعالى مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ( التوبة 113 ) الثاني قوله في سورة الممتحنة قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ فِى إِبْراهِيمَ

إلى قوله لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وأمر الناس إلا في هذا الفعل فوجب أن يكون ذلك معصية منه ( والجواب ) لا نزاع إلا في قولكم الاستغفار للكافر لا يجوز فإن الكلام عليه من وجوه أحدها أن القطع على أن الله تعالى يعذب الكافر لا يعرف إلا بالسمع فلعل إبراهيم عليه السلام لم يجد في شرعه ما يدل على القطع بعذاب الكافر فلا جرم استغفر لأبيه وثانيها أن الاستغفار قد يكون بمعنى الاستماحة كما في قوله قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ( الجاثية 14 ) والمعنى سأسأل ربي أن لا يجزيك بكفرك ما كنت حياً بعذاب الدنيا المعجل وثالثها أنه عليه السلام إنما استغفر لأبيه لأنه كان يرجو منه الإيمان فلما أيس من ذلك ترك الاستغفار ولعل في شرعه جواز الاستغفار للكافر الذي يرجي منه الإيمان والدليل على وقوع هذا الاحتمال قوله تعالى مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( التوبة 113 ) فبين أن المنع من الاستغفار إنما يحصل بعد أن يعرفوا أنهم من أصحاب الجحيم ثم قال بعد ذلك وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة ٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ( التوبة 114 ) فدلت الآية على أنه وعده بالاستغفار لو آمن فلما لم يؤمن لم يستغفر له بل تبرأ منه فإن قيل فإذا كان الأمر كذلك فلم منعنا من التأسي به في قوله قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ فِى إِبْراهِيمَ إلى قوله إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( الممتحنة ) قلنا الآية تدل على أنه لا يجوز لنا التأسي به في ذلك لكن المنع من التأسي به في ذلك لا يدل على أن ذلك كان معصية فإن كثيراً من الأشياء هي من خواص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يجوز لنا التأسي به مع أنها كانت مباحة له عليه السلام ورابعها لعل هذا الاستغفار كان من باب ترك الأولى وحسنات الأبرار سيئآت المقربين أما قوله إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً أي لطيفاً رفيقاً يقال أحفى فلان في المسألة بفلان إذا لطف به وبالغ في الرفق ومنه قوله تعالى ؤإِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ ( محمد 37 ) أي وإن لطفت المسألة والمراد أنه سبحانه للطفه بي وإنعامه على عودني الإجابة فإذا أنا استغفرت لك حصل المراد فكأنه جعله بذلك على يقين إن هو تاب أن يحصل له الغفران ( الجواب الثاني ) من الجوابين قوله وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ الاعتزال للشيء هو التباعد عنه والمراد أني أفارقكم في المكان وأفارقكم في طريقتكم أيضاً وأبعد عنكم وأتشاغل بعبادة ربي الذي ينفع ويضر والذي خلقني وأنعم علي فإنكم بعبادة الأصنام سالكون طريقة الهلاك فواجب على مجانبتكم ومعنى قوله عَسَى أَن لا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا أرجو أن لا أكون كذلك وإنما ذكر ذلك على سبيل التواضع كقوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 ) وأما قوله شَقِيّاً مع ما فيه من التواضع لله ففيه تعريض بشقاوتهم في دعاء آلهتهم على ما قرره أولاً في قوله لَمْ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً

اعلم أنه ما خسر على الله أحد فإن إبراهيم عليه السلام لما اعتزلهم في دينهم وفي بلدهم واختار الهجرة إلى ربه إلى حيث أمره لم يضره ذلك ديناً ودنيا بل نفعه فعوضه أولاداً أنبياء ولا حالة في الدين والدنيا للبشر أرفع من أن يجعل الله له رسولاً إلى خلقه ويلزم الخلق طاعته والإنقياد له مع ما يحصل فيه من عظيم المنزلة في الآخرة فصار جعله تعالى إياهم أنبياء من أعظم النعم في الدنيا والآخرة ثم بين تعالى أنه مع ذلك وهب لهم من رحمته أي وهب لهم من النبوة ما وهب ويدخل فيه المال والجاه والأتباع والنسل الطاهر والذرية الطيبة ثم قال وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ولسان الصدق الثناء الحسن وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يعطي باليد وهو العطية واستجاب الله دعوته في قوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم وقال عز وجل مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ( الحج 78 ) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( النحل 123 ) قال بعضهم إن الخليل اعتزل عن الخلق على ما قال وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( مريم 48 ) فلا جرم بارك الله في أولاده فقال وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وثانيها أنه تبرأ من أبيه في الله تعالى على ما قال فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ ( التوبة 114 ) لا جرم أن الله سماه أباً للمسلمين فقال مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ وثالثها تل ولده للجبين ليذبحه على ما قال فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ( الصافات 103 ) لا جرم فداه الله تعالى على ما قال وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( الصافات 107 ) ورابعها أسلم نفسه فقال أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 ) فجعل الله تعالى النار عليه برداً وسلاماً فقال قُلْنَا ياذَا نَّارٍ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ ( الأنبياء 69 ) وخامسها أشفق على هذه الأمة فقال رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ ( البقرة 129 ) لا جرم أشركه الله تعالى في الصلوات الخمس كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وسادسها في حق سارة في قوله وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى ( النجم 37 ) لا جرم جعل موطىء قدميه مباركاً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ( البقرة 125 ) وسابعها عادى كل الخلق في الله فقال فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 77 ) لا جرم اتخذه الله خليلاً على ما قال وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ( النساء 125 ) ليعلم صحة قولنا أنه ما خسر على الله أحد
( القصة الرابعة قصة موسى عليه السلام )
وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاٌّ يْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً
اعلم أنه تعالى وصف موسى عليه السلام بأمور أحدها أنه كان مخلصاً فإذا قرىء بفتح اللام فهو من الإصطفاء والإختباء كأن الله تعالى اصطفاه واستخلصه وإذا قرىء بالكسر فمعناه أخلص لله في التوحيد في العبادة والإخلاص هو القصد في العبادة إلى أن يعبد المعبود بها وحده ومتى ورد القرآن بقراءتين فكل واحدة منهما ثابت مقطوع به فجعل الله تعالى من صفة موسى عليه السلام كلا الأمرين وثانيها كونه

رسولاً نبياً ولا شك أنهما وصفان مختلفان لكن المعتزلة زعموا كونهما متلازمين فكل رسول نبي وكل نبي رسول ومن الناس من أنكر ذلك وقد بينا الكلام فيه في سورة الحج في قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ ( الحج 52 ) وثالثها قوله تعالى وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاْيْمَنِ من اليمين أي من ناحية اليمين والأيمن صفة الطور أو الجانب ورابعها قوله وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ولما ذكر كونه رسولاً قال وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً وفي قوله قربناه قولان أحدهما المراد قرب المكان عن أبي العالية قربه حتى سمع صرير القلم حيث كتبت التوراة في الألواح والثاني قرب المنزلة أي رفعنا قدره وشرفناه بالمناجاة قال القاضي وهذا أقرب لأن استعمال القرب في الله قد صار بالتعارف لا يراد به إلا المنزلة وعلى هذا الوجه يقال في العبادة تقرب ويقال في الملائكة عليهم السلام إنهم مقربون وأما وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً فقيل فيه أنجيناه من أعدائه وقيل هو من المناجاة في المخاطبة وهو أولى وخامسها قوله وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً قال ابن عباس رضي الله عنهما كان هرون عليه السلام أكبر من موسى عليهما السلام وإنما وهب الله له نبوته لا شخصه وأخوته وذلك إجابة لدعائه في قوله وَاجْعَل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى هَارُونَ أَخِى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى ( طه 29 30 31 ) فأجابه الله تعالى إليه بقوله قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 36 ) وقوله سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ
( القصة الخامسة قصة إسمعيل عليه السلام )
وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَواة ِ وَالزَّكَواة ِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً
اعلم أن إسمعيل هذا هو إسمعيل بن إبراهيم عليهما السلام واعلم أن الله تعالى وصف إسماعيل عليه السلام بأشياء أولها قوله إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وهذا الوعد يمكن أن يكون المراد فيما بينه وبين الله تعالى ويمكن أن يكون المراد فيما بينه وبين الناس أما الأول فهو أن يكون المراد أنه كان لا يخالف شيئاً مما يؤمر به من طاعة ربه وذلك لأن الله تعالى إذا أرسل الملك إلى الأنبياء وأمرهم بتأدية الشرع فلا بد من ظهور وعد منهم يقتضي القيام بذلك ويدل على القيام بسائر ما يخصه من العبادة وأما الثاني فهو أنه عليه السلام كان إذا وعد الناس بشيء أنجز وعده فالله تعالى وصفه بهذا الخلق الشريف وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه وعد صاحباً له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة وأيضاً وعد من نفسه الصبر على الذبح فوفى به حيث قال سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ( الصافات 102 ) ويروى أن عيسى عليه السلام قال له رجل انتظرني حتى آتيك فقال عيسى عليه السلام نعم وانطلق الرجل ونسي الميعاد فجاء لحاجة إلى ذلك المكان وعيسى عليه السلام هنالك للميعاد وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه واعد رجلاً ونسي ذلك الرجل فانتظره من الضحى إلى قريب من غروب الشمس ) وسئل الشعبي عن الرجل يعد ميعاداً إلى أي وقت ينتظره فقال إن

واعده نهاراً فكل النهار وإن واعده ليلاً فكل الليل وسئل إبراهيم بن زيد عن ذلك فقال إذا واعدته في وقت الصلاة فانتظره إلى وقت صلاة أخرى وثانيها قوله وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وقد مر تفسيره وثالثها قوله وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَواة ِ وَالزَّكَواة ِ والأقرب في الأهل أن المراد به من يلزمه أن يؤدي إليه الشرع فيدخل فيه كل أمته من حيث لزمه في جميعهم ما يلزم المرء في أهله خاصة هذا إذا حمل الأمر على المفروض من الصلاة والزكاة فإن حمل على الندب فيهما كان المراد أنه كما كان يتهجد بالليل يأمر أهله أي من كان في داره في ذلك الوقت بذلك وكان نظره لهم في الدين يغلب على شفقته عليهم في الدنيا بخلاف ما عليه أكثر الناس وقيل كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن سواهم كما قال تعالى وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( الشعراء 214 ) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ( طه 132 ) قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ( التحريم 6 ) وأيضاً فهم أحق أن يتصدق عليهم فوجب أن يكونوا بالإحسان الديني أولى فأما الزكاة فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها طاعة الله تعالى والاخلاص فكأنه تأوله على ما يزكو به الفاعل عند ربه والظاهر أنه إذا قرنت الزكاة إلى الصلاة أن يراد بها الصدقات الواجبة وكان يعرف من خاصة أهله أن يلزمهم الزكاة فيأمرهم بذلك أو يأمرهم أن يتبرعوا بالصدقات على الفقراء ورابعها قوله وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً وهو في نهاية المدح لأن المرضى عند الله هو الفائز في كل طاعاته بأعلى الدرجات
( القصة السادسة قصة إدريس عليه السلام )
وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً
اعلم أن إدريس عليه السلام هو جد أبي نوح عليه السلام وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ قيل سمي إدريس لكثرة دراسته واسمه أخنوخ ووصفه الله تعالى بأمور أحدها أنه كان صديقاً وثانيها أنه كان نبياً وقد تقدم القول فيهما وثالثها قوله وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً وفيه قولان أحدهما أنه من رفعة المنزلة كقوله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ( الشرح 4 ) فإن الله تعالى شرفه بالنبوة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب وأول من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود الثاني أن المراد به الرفعة في المكان إلى موضع عال وهذا أولى لأن الرفعة المقرونة بالمكان تكون رفعة في المكان لا في الدرجة ثم اختلفوا فقال بعضهم إن الله رفعه إلى السماء وإلى الجنة وهو حي لم يمت وقال آخرون بل رفع إلى السماء وقبض روحه سأل ابن عباس رضي الله عنهما كعباً عن قوله وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً قال جاءه خليل له من الملائكة فسأله حتى يكلم ملك الموت حتى يؤخر قبض روحه فحمله ذلك الملك بين جناحيه فصعد به إلى السماء فلما كان في السماء الرابعة فإذا ملك الموت يقول بعثت وقيل لي اقبض روح إدريس في السماء الرابعة وأنا أقول كيف ذلك وهو في الأرض فالتفت إدريس فرآه ملك الموت فقبض روحه هناك واعلم أن الله تعالى إنما مدحه بأن رفعه إلى السماء لأنه جرت العادة أن لا يرفع إليها إلا من كان عظيم القدر والمنزلة ولذلك قال في حق الملائكة وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) وههنا آخر القصص

أُولَائِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّة ِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّة ِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَاءِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً
اعلم أنه تعالى أثنى على كل واحد ممن تقدم ذكره من الأنبياء بما يخصه من الثناء ثم جمعهم آخراً فقال أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم أي بالنبوة وغيرها مما تقدم وصفه وأولئك إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس ثم جمعهم في كونهم من ذرية آدم ثم خص بعضهم بأنه من ذرية من حمل مع نوح والذي يختص بأنه من ذرية آدم دون من حمل مع نوح هو إدريس عليه السلام فقد كان سابقاً على نوح على ما ثبت في الأخبار والذين هم من ذرية من حمل مع نوح هو إبراهيم عليه السلام لأنه من ولد سام بن نوح وإسمعيل وإسحق ويعقوب من ذرية إبراهيم ثم خص بعضهم بأنهم من ولد إسرائيل أي يعقوب وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى من قبل الأم فرتب الله سبحانه وتعالى أحوال الأنبياء عليهم السلام الذين ذكرهم على هذا الترتيب منبهاً بذلك على أنهم كما فضلوا بأعمالهم فلهم مزيد في الفضل بولادتهم من هؤلاء الأنبياء ثم بين أنهم ممن هدينا واجتبينا منبهاً بذلك على أنهم اختصوا بهذه المنازل لهداية الله تعالى لهم ولأنه اختارهم للرسالة ثم قال أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّيْنَ مِن تتلى عليهم أي على هؤلاء الأنبياء فبين تعالى أنهم مع نعم الله عليهم قد بلغوا الحد الذي عند تلاوة آيات الله يخرون سجداً وبكياً خضوعاً وخشوعاً وحذراً وخوفاً والمراد بآيات الله ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة عليهم وقال أبو مسلم المراد بالآيات التي فيها ذكر العذاب المنزل بالكفار وهو بعيد لأن سائر الأيات التي فيها ذكر الجنة والنار إلى غير ذلك أولى أن يسجدوا عنده ويبكوا فيجب حمله على كل آية تتلى مما يتضمن الوعد والوعيد والترغيب والترهيب لأن كل ذلك إذا فكر فيه المتفكر صح أن يسجد عنده وأن يبكي واختلفوا فقال بعضهم في السجود إنه الصلاة وقال بعضهم المراد سجود التلاوة على حسب ما تعبدنا به وقيل المراد الخضوع والخشوع والظاهر يقتضي سجوداً مخصوصاً عند التلاوة ثم يحتمل أن يكون المراد سجود التلاوة للقرآن ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا قد تعبدوا بالسجود فيفعلون ذلك لا لأجل ذكر السجود في الآية قال الزجاج في بكياً جمع باك مثل شاهد وشهود وقاعد وقعود ثم قال الإنسان في حال خروره لا يكون ساجداً فالمراد خروا مقدرين للسجود ومن قال في بكياً إنه مصدر فقد أخطأ لأن سجداً جمع ساجد وبكياً معطوف عليه وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اتلو القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ) وعن صالح المري قال قرأت القرآن عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المنام فقال لي يا صالح هذه القراءة فأين البكاء وعن ابن عباس رضي الله عنهما إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( القرآن نزل بحزن فاقرأوه بحزن ) وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما اغرورقت عين به بماء إلا حرم الله على النار جسدها ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه ( لا يلج النار من بكى من خشية الله ) وقال العلماء يدعو في سجود التلاوة بما يليق بها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين

بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك وإن قرأ سجدة سبحان قال اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك وإن قرأ هذه السجدة قال اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آيات كتابك
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَواة َ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً
اعلم أنه تعالى لما وصف هؤلاء الأنبياء بصفات المدح ترغيباً لنا في التأسي بطريقتهم ذكر بعدهم من هو بالضد منهم فقال فخلف من بعدهم خلف وظاهر الكلام أن المراد من بعد هؤلاء الأنبياء خلف من أولادهم يقال خلفه إذا أعقبه ثم قيل في عقب الخبر خلف بفتح اللام وفي عقب الشر خلف بالسكون كما قالوا وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر وفي الحديث ( في الله خلف من كل هالك ) وفي الشعر للبيد ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ثم وصفهم بإضاعة الصلاة واتباع الشهوات فإضاعة الصلاة في مقابلة قوله خَرُّواْ سُجَّداً ( السجدة 15 ) واتباع الشهوات في مقابلة قوله وَبُكِيّاً لأن بكاءهم يدل على خوفهم واتباع هؤلاء لشهواتهم يدل على عدم الخوف لهم وظاهر قوله فَخَلَفَ مِن تركوها لكن تركها قد يكون بأن لا تفعل أصلاً وقد يكون بأن لا تفعل في وقتها وإن كان الأظهر هو الأول وأما اتباع الشهوات فقال ابن عباس رضي الله عنهما هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الأخت من الأب واحتج بعضهم بقوله إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ على أن تارك الصلاة كافر واحتج أصحابنا بها في أن الإيمان غير العمل لأنه تعالى قال وَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً فعطف العمل على الإيمان والمعطوف غير المعطوف عليه أجاب الكعبي عنه بأنه تعالى فرق بين التوبة والإيمان والتوبة من الإيمان فكذلك العمل الصالح يكون من الإيمان وإن فرق بينهما وهذا الجواب ضعيف لأن عطف الإيمان على التوبة يقتضي وقوع المغايرة بينهما لأن التوبة عزم على الترك والإيمان إقرار بالله تعالى وهما متغايران فكذا في هذه الصورة ثم بين تعالى أن من هذه صفته يَلْقُونَ غَيّاً وذكروا في الغي وجوهاً أحدها أن كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد قال الشاعر فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره
ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وثانيها قال الزجاج يَلْقُونَ غَيّاً أي يلقون جزاء الغي كقوله تعالى يَلْقَ أَثَاماً ( الفرقان 68 ) أي مجازاة الآثام وثالثها غياً عن طريق الجنة ورابعها الغي واد في جهنم يستعيذ منه أوديتها والوجهان الأولان أقرب فإن كان في جهنم موضع يسمى بذلك جاز ولا يخرج من أن يكون المراد ما قدمنا لأنه المعقول في اللغة ثم بين سبحانه أن هذا الوعيد فيمن لم يتب وأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فلهم الجنة لا

يلحقهم ظلم وههنا سؤالان الأول الاستثناء دل على أنه لا بد من التوبة والإيمان والعمل الصالح وليس الأمر كذلك لأن من تاب عن كفره ولم يدخل وقت الصلاة أو كانت المرأة حائضاً فإنه لا يجب عليها الصلاة والزكاة أيضاً غير واجبة وكذا الصوم فههنا لو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر عنه عمل فلم يجز توقف الأجر على العمل الصالح و ( الجواب ) أن هذه الصورة نادرة والمراد منه الغالب السؤال الثاني قوله وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً هذا إنما يصح لو كان الثواب مستحقاً على العمل لأنه لو كان الكل بالتفضل لاستحال حصول الظلم لكن من مذهبكم أنه لا استحقاق للعبد بعمله إلا بالوعد ( الجواب ) أنه لما أشبهه أجرى على حكمه
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَة ً وَعَشِيّاً تِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً
اعلم أنه تعالى لما ذكر في التائب أنه يدخل الجنة وصف الجنة بأمور أحدها قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ والعدن الإقامة وصفها بالدوام على خلاف حال الجنان في الدنيا التي لا تدوم ولذلك فإن حالها لا يتغير في مناظرها فليست كجنان الدنيا التي حالها يختلف في خضرة الورق وظهور النور والثمر وبين تعالى أنها وعد الرحمن لعباده وأما قوله بِالْغَيْبِ ففيه وجهان أحدهما أنه تعالى وعد ( هم إيا ) ها وهي غائبة عنهم غير حاضرة أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها والثاني أن المراد وعد الرحمن للذين يكونون عباداً بالغيب أي الذين يعبدونه في السر بخلاف المنافقين فإنهم يعبدونه في الظاهر ولا يعبدونه في السر وهو قول أبي مسلم والوجه الأول أقوى لأنه تعالى بين أن الوعد منه تعالى وإن كان بأمر غائب فهو كأنه مشاهد حاصل لذلك قال بعده إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً أما قوله مَأْتِيّاً فقيل إنه مفعول بمعنى فاعل والوجه أن الوعد هو الجنة وهم يأتونها قال الزجاج كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه وما أتاك فقد أتيته والمقصود من قوله إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً بيان أن الوعد منه تعالى وإن كان بأمر غائب فهو كأنه مشاهد وحاصل والمراد تقرير ذلك في القلوب وثانيها قوله لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَاماً ( مريم 62 ) واللغو من الكلام ما سبيله أن يلغي ويطرح وهو المنكر من القول ونظيره قوله لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة ً ( الغاشية 11 ) وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو حيث نزه الله تعالى عنه الدار التي لا تكليف فيها وما أحسن قوله وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ( القصص 55 ) أما قوله إِلاَّ سَلَاماً ففيه بحثان
البحث الأول أن فيه إشكالاً وهو أن السلام ليس من جنس اللغو فكيف استثنى السلام من اللغو والجواب عنه من وجوه أحدها أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة وأهل الجنة لا حاجة بهم إلى هذا الدعاء فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام وثانيها أن يحمل ذلك على الاستثناء المنقطع وثالثها أن يكون هذا من جنس قول الشاعر

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
البحث الثاني أن ذلك السلام يحتمل أن يكون من سلام بعضهم على بعض أو من تسليم الملائكة أو من تسليم الله تعالى على ما قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 23 24 ) وقوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) ورابعها قوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَة ً وَعَشِيّاً وفيه سؤالان السؤال الأول أن المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بأحوال مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرة وعشياً ليس من الأمور المستعظمة ( والجواب ) من وجهين الأول قال الحسن أراد الله تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا ولذلك ذكر أساور من الذهب والفضة ولبس الحرير التي كانت عادة العجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة وكانت من عادة أشراف العرب في اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك الثاني أن المراد دوام الرزق كما تقول أنا عند فلان صباحاً ومساء وبكرة وعشياً تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين السؤال الثاني قال تعالى لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ( الإنسان 13 ) وقال عليه السلام ( لا صباح عند ربك ولا مساء ) والبكرة والعشي لا يوجدان إلا عند وجود الصباح والمساء ( والجواب ) المراد أنهم يأكلون عند مقدار الغداة والعشي إلا أنه ليس في الجنة غدوة وعشي إذ لا ليل فيها ويحتمل ما قيل إنه تعالى جعل لقدر اليوم علامة يعرفون بها مقادير الغداة والعشي ويحتمل أن يكون المراد لهم رزقهم متى شاءوا كما جرت العادة في الغداة والعشي وخامسها قوله تِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً وفيه أبحاث الأول قوله تِلْكَ الْجَنَّة ُ هذه الإشارة إنما صحت لأن الجنة غائبة وثانيها ذكروا في نورث وجوهاً الأول نورث استعارة أي نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال المورث الثاني أن المراد أنا ننقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم فجعل هذا النقل إرثاً قاله الحسن الثالث أن الإتقياء يلقون ربهم يوم القيامة وقد انقضت أعمالهم وثمراتها باقية وهي الجنة فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يرث الوارث المال من المتوفى ورابعها معنى من كان تقياً من تمسك باتقاء معاصيه وجعله عادته واتقى ترك الواجبات قال القاضي فيه دلالة على أن الجنة يختص بدخولها من كان متقياً والفاسق المرتكب للكبائر لا يوصف بذلك ( والجواب ) الآية تدل على أن المتقي يدخلها وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها وأيضاً فصاحب الكبيرة متق عن الكفر ومن صدق عليه أنه متق عن الكفر فقد صدق عليه أنه متق لأن المتقي جزء من مفهوم قولنا المتقي عن الكفر وإذا كان صاحب الكبيرة يصدق عليه أنه متق وجب أن يدخل تحته فالآية بأن تدل على أن صاحب الكبيرة يدخل الجنة أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذالِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً رَّبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً

اعلم أن في الآية إشكالاً وهو أو قوله تِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ( مريم 63 ) كلام الله وقوله وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ كلام غير الله فكيف جاز عطف هذا على ما قبله من غير فصل ( والجواب ) أنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كما أن قوله سبحانه إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( البقرة 117 ) هو كلام الله وقوله وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ ( آل عمران 51 ) كلام غير الله وأحدهما معطوف على الآخر واعلم أن ظاهر قوله تعالى وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ خطاب جماعة لواحد وذلك لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول ويحتمل في سببه ما روي أن قريشاً بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهل يجدونه في كتابهم فسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه قوالت اليهود نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمن اليمامة عن خصال ثلاث فلم يعرف فاسألوه عنهن فإن أخبركم بخصلتين منهما فاتبعوه فاسألوه عن فتية أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح قال فجاءوا فسألوه عن ذلك لم يدر كيف يجيب فوعدهم أن يجيبهم بعد ذلك ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً وقيل خمسة عشر يوماً فشق عليه ذلك مشقة شديدة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه فنزل جبريل عليه السلام فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أبطأت عني حتى ساء ظني واشتقت إليك قال إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل قوله وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الكهف 23 ) وسورة الضحى ثم أكدوا ذلك بقولهم لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا أي هو المدبر لنا في كل الأوقات الماضي والمستقبل وما بينهما أو الدنيا والآخرة وما بينهما فإنه يعلم إصلاح التدبير مستقبلاً وماضياً وما بينهما والغرض أن أمرنا موكول إلى الله تعالى يتصرف فينا بحسب مشيئته وإرادته وحكمته لا اعتراض لأحد عليه فيه وقال أبو مسلم قوله وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ يجوز أن يكون قول أهل الجنة والمراد وما نتنزل الجنة إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا أي في الجنة مستقبلاً وما خلفنا مما كان في الدنيا وما بين ذلك أي ما بين الوقتين وما كان ربك نسياً لشيء مما خلق فيترك إعادته لأنه عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة وقوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ابتداء كلام منه تعالى في مخاطبة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويتصل به رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي بل هو رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ قال القاضي وهذا مخالف للظاهر من وجوه أحدها أن ظاهر التنزل نزول الملائكة إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لقوله بأمر ربك وظاهر والأمر بحال التكليف أليق وثانيها أنه خطاب من جماعة لواحد وذلك لا يليق بمخاطبة بعضهم لبعض في الجنة وثالثها أن ما في سياقه من قوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لا يليق إلا بحال التكليف ولا يوصف به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فكأنهم قالوا للرسول وما كان ربك يا محمد نسياً يجوز عليه السهو حتى يضرك إبطاؤنا بالتنزل عليك إلى مثل ذلك ثم ههنا أبحاث
البحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) التنزل على معنيين أحدهما النزول على مهل والثاني بمعنى النزول على الإطلاق والدليل عليه أنه مطاوع نزل ونزل يكون بمعنى أنزل وبمعنى التدريج واللائق بمثل هذا الموضع هو النزول على مهل والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتاً بعد وقت ليس إلا بأمر الله تعالى
البحث الثاني ذكروا في قوله مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذالِكَ وجوهاً أحدها له ما قدامنا وما خلفنا من الجهات وما نحن فيه فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومن مكان إلى مكان إلا بأمره ومشيئته فليس لنا أن ننقلب من السماء إلى الأرض إلا بأمره وثانيها له ما بين أيدينا ما سلف من أمر الدنيا

وما خلفنا ما يستقبل من أمر الآخرة وما بين ذلك وما بين النفختين وهو أربعون سنة وثالثها ما مضى من أعمارنا وما غبر من ذلك والحال التي نحن فيها ورابعها ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا وخامسها الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض وعلى كل التقديرات فالمقصود أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة فكيف نقدم على فعل إلا بأمره وحكمه
البحث الثالث قوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً أي تاركاً لك كقوله مَا وَعْدَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ( الضحى 3 ) أي ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به ولم يكن ذلك عن ترك الله لك وتوديعه إياك أما قوله رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فالمراد أن من يكون رباً لها أجمع لا يجوز عليه النسيان إذ لا بد من أن يمسكها حالاً بعد حال وإلا بطل الأمر فيهما وفيمن يتصرف فيهما واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى لأن فعل العبد حاصل بين السماء والأرض والآية دالة على أنه رب لكل شيء حصل بينهما قال صاحب ( الكشاف ) رب السموات والأرض بدل من ربك ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات والأرض فاعبده واصطبر لعبادته فهو أمر للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالعبادة والمصابرة على مشاق التكاليف في الأداء والإبلاغ وفيما يخصه من العبادة فإن قيل لم لم يقل واصطبر على عبادته بل قال واصطبر لعبادته قلنا لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته ( والمعنى ) أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق فاثبت لها ولا تهن ولا يضق صدرك من إلقاء أهل الكتاب إليك الأغاليط عن احتباس الوحي عنك مدة وشماتة المشركين بك أما قوله تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً فالظاهر يدل على أنه تعالى جعل علة الأمر بالعبادة والأمر بالمصابرة عليها أنه لا سمي له والأقرب هو كونه منعماً بأصول النعم وفروعها وهي خلق الأجسام والحياة والعقل وغيرها فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه سبحانه فإذا كان هو قد أنعم عليك بغاية الإنعام وجب أن تعظمه بغاية التعظيم وهي العبادة ومن الناس من قال المراد أنه سبحانه ليس له شريك في اسمه وبينوا ذلك من وجهين الأول أنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله على شيء سواه وعن ابن عباس رضي الله عنهما لا يسمى بالرحمن غيره الثاني هل تعلم من سمى باسمه على الحق دون الباطل لأن التسمية على الباطل في كونها غير معتد بها كلا تسمية والقول الأول هو الصواب والله أعلم
وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَة ٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً

اعلم أنه تعالى لما أمر بالعبادة والمصابرة عليها فكأن سائلاً سأل وقال هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا وأما في الآخرة فقد أنكرها قوم فلا بد من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى يظهر أن الاشتغال بالعبادة مفيد فلهذا حكى الله تعالى قول منكري الحشر فقال وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً وإما قالوا ذلك على وجه الإنكار والاستبعاد وذكروا في الإنسان وجهين أحدهما أن يكون المراد الجنس بأسره فإن قيل كلهم غير قائلين بذلك فكيف يصح هذا القول قلنا الجواب من وجهين الأول أن هذه المقالة لما كانت موجودة فيما هو من جنسهم صح إسنادها إلى جميعهم كما يقال بنو فلان قتلوا فلاناً وإنما القاتل رجل منهم والثاني أن هذا الاستبعاد موجود ابتداء في طبع كل أحد إلا أن بعضهم ترك ذلك الاستبعاد المبني على محض الطبع بالدلالة القاطعة التي قامت على صحة القول به الثاني أن المراد بالإنسان شخص معين فقيل هو أبو جهل وقيل هو أبي بن خلف وقيل المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث ثم إن الله تعالى أقام الدلالة على صحة البعث بقوله أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً والقراء كلهم على يُذْكَرِ بالتشديد إلا نافعاً وابن عامر وعاصماً فقد خففوا أي أو لا يتذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل وإذا قرىء أو لا يذكر فهو أقرب إلى المراد إذ الغرض التفكر والنظر في أنه إذا خلق من قبل لا من شيء فجائز أن يعاد ثانياً قال بعض العلماء لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها إذ لا شك أن الإعادة ثانياً أهون من الإيجاد أولاً ونظيره قوله قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( يس 79 ) وقوله وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 ) واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن المعدوم ليس بشيء وهو ضعيف لأن الإنسان عبارة عن مجموع جواهر متألفة قامت بها أعراض وهذا المجموع ما كان شيئاً ولكن لم قلت إن كل واحد من تلك الأجزاء ما كان شيئاً قبل كونه موجوداً فإن قيل كيف أمر تعالى الإنسان بالذكر مع أن الذكر هو العلم بما قد علمه من قبل ثم تخللهما سهو قلنا المراد أو لا يتفكر فيعلم خصوصاً إذا قرىء أو لا يذكر الإنسان بالتشديد أما إذا قرىء أو لا يذكر بالتخفيف فالمراد أو لا يعلم ذلك من حال نفسه لأن كل أحد يعلم أنه لم يكن حياً في الدنيا ثم صار حياً ثم إنه سبحانه لما قرر المطلوب بالدليل أردفه بالتهديد من وجوه أحدها قوله فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ وفائدة القسم أمران أحدهما أن العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين والثاني أن في إقسام الله تعالى باسمه مضافاً إلى اسم رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) تفخيم لشأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ورفع منه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله فَوَرَبّ السَّمَاء وَالاْرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ( الذاريات 23 ) والواو في الشَّياطِينِ ويجوز أن تكون للعطف وأن تكون بمعنى مع وهي بمعنى مع أوقع والمعنى أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة وثانيها قوله ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً وهذا الإحضار يكون قبل إدخالهم جهنم ثم إنه تعالى يحضرهم على أذل صورة لقوله تعالى جِثِيّاً لأن البارك على ركبتيه صورته صورة الذليل أو صورته صورة العاجز فإن قيل هذا المعنى حاصل للكل بدليل قوله تعالى وَتَرَى كُلَّ أُمَّة ٍ جَاثِيَة ً ( الجاثية 28 ) والسبب فيه جريان العادة أن الناس في مواقف المطالبات من الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من الاستنظار والقلق أو لما يدهمهم من شدة الأمر الذي لا يطيقون معه القيام على أرجلهم وإذا كان هذا عاماً للكل فكيف يدل على مزيد ذل الكفار قلنا لعل المراد أنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور في الموقف على هذه الحالة وذلك

يوجب مزيد الذل في حقهم وثالثها قوله ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَة ٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً والمراد بالشيعة وهي فعلة كفرقة وفئة الطائفة التي شاعت أي تبعت غاوياً من الغواة قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا ( الأنعام 159 ) والمراد أنه تعالى يحضرهم أولا حول جهنم جثياً ثم يميز البعض من البعض فمن كان أشدهم تمرداً في كفره خص بعذاب أعظم لأن عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً لغيره وليس عذاب من يتمرد ويتجبر كعذاب المقلد وليس عذاب من يورد الشبه في الباطل كعذاب من يقتدي به مع الغفلة قال تعالى الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ( النحل 88 ) وقال وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ( العنكبوت 13 ) فبين تعالى أنه ينزع من كل فرقة من كان أشد عتواً وأشد تمرداً ليعلم أن عذابه أشد ففائدة هذه التمييز التخصيص بشدة العذاب لا التخصيص بأصل العذاب فلذلك قال في جميعهم ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ولا يقال أولى إلا مع اشتراك القوم في العذاب واختلفوا في إعراب أيهم فعن الخليل أنه مرتفع على الحكاية تقديره لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد وسيبويه على أنه مبني على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلة حتى لو جيء به لأعرب وقيل أيهم هو أشد
وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً
واعلم أنه تعالى لما قال من قبل فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثم قال ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ ( مريم 68 ) أردفه بقوله وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا يعني جهنم واختلفوا فقال بعضهم المراد من تقدم ذكره من الكفار فكنى عنهم أولاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة قالوا إنه لا يجوز للمؤمنين أن يردوا النار ويدل عليه أمور أحدها قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( الأنبياء 101 ) والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها والثاني قوله لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا ( الأنبياء 102 ) ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها وثالثها قوله وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ ( النحل 89 ) وقال الأكثرون إنه عام في كل مؤمن وكافر لقوله تعالى وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا فلم يخص وهذا الخطاب مبتدأ مخالف للخطاب الأول ويدل عليه قوله ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ أي من الواردين من اتقى ولا يجوز أن يقال ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً إلا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول ثم هؤلاء اختلفوا في تفسير الورود فقال بعضهم الورود الدنو من جهنم وأن يصيروا حولها وهو موضع المحاسبة واحتجوا على أن الورود قد يراد به القرب بقوله تعالى فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ ( يوسف 19 ) ومعلوم أن ذلك الوارد ما دخل الماء وقال تعالى وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّة ً مّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ( القصص 23 ) وأراد به القرب ويقال وردت القافلة البلدة وإن لم تدخلها فعلى هذا معنى الآية أن الجن والإنس يحضرون حول

جهنم كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ( مريم 71 ) أي واجباً مفروغاً منه بحكم الوعيد ثم ننجي أي نبعد الذين اتقوا عن جهنم وهو المراد من قوله تعالى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( الأنبياء 101 ) ومما يؤكد هذا القول ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية فقالت حفصة أليس الله يقول وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا فقال عليه السلام فمه ثم ننجي الذين اتقوا ) ولو كان الورود عبارة عن الدخول لكان سؤال حفصة لازماً القول الثاني أن الورود هو الدخول ويدل عليه الآية والخبر أما الآية فقوله تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ( الأنبياء 98 ) وقال فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ ( هود 98 ) ويدل عليه قوله تعالى الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ والمبعد هو الذي لولا التبعيد لكان قريباً فهذا إنما يحصل لو كانوا في النار ثم إنه تعالى يبعدهم عنها ويدل عليه قوله تعالى وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً وهذا يدل على أنهم يبقون في ذلك الموضع الذي وردوه وهم إنما يبقون في النار فلا بد وأن يكونوا قد دخلوا النار وأما الخبر فهو أن عبد الله بن رواحة قال ( أخبر الله عن الورود ولم يخبر بالصدور فقال عليه السلام يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها ثم ننجي الذين اتقوا ) وذلك يدل على أن ابن رواحة فهم من الورود الدخول والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما أنكر عليه في ذلك وعن جابر ( أنه سئل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً حتى أن للناس ضجيجاً من بردها ) والقائلون بهذا القول يقولون المؤمنون يدخلون النار من غير خوف وضرر ألبتة بل مع الغبطة والسرور وذلك لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 ) ولأن الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف وإيصال الغم والحزن إنما يجوز في دار التكليف ولأنه صحت الرواية عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الملائكة تبشر في القبر من كان من أهل الثواب بالجنة حتى يرى مكانه في الجنة ويعلمه ) وكذلك القول في حال المعاينة فكيف يجوز أن يردوا القيامة وهم شاكون في أمرهم وإنما تؤثر هذه الأحوال في أهل النار لأنهم لا يعلمون كونهم من أهل النار والعقاب ثم اختلفوا في أنه كيف يندفع عنهم ضرر النار فقال بعضهم البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه ويكون من المواضع التي يسلك فيها إلى دركات جهنم وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يدخل الكل في جهنم فالمؤمنون يكونون في تلك المواضع الخالية عن النار والكفار يكونون في وسط النار وثانيها أن الله تعالى يخمد النار فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم قال ابن عباس رضي الله عنهما ( يردونها كأنها إهالة ) وعن جابر بن عبد الله ( أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس وعدنا ربنا بأن نرد النار فيقال لهم قد وردتموها وهي خامدة ) وثالثها أن حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار يجعلها الله عليهم محرقة مؤذية والأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين يجعلها الله برداً وسلاماً عليهم كما في حق إبراهيم عليه السلام وكما أن الكوز الواحد من الماء يشربه القبطي فكان يصير دماً ويشربه الإسرائيلي فكان يصير ماء عذباً واعلم أنه لا بد من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين فإن قيل إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم النار فما الفائدة في ذلك الدخول قلنا فيه وجوه

أحدها أن ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه وثانيها أن فيه مزيد غم على أهل النار حيث يرون المؤمنين الذين هم أعداؤهم يتخلصون منها وهم يبقون فيها وثالثها أن فيه مزيد غم على أهل النار من حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين بل وعند الأولياء وعند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إليه ورابعها أن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فزاد ذلك غماً للكفار وسروراً للمؤمنين وخامسها أن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ويقيمون عليهم صحة الدلائل فما كانوا يقبلون تلك الدلائل فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوا وأن المكذبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين وسادسها أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة كما قال الشاعر
وبضدها تتبين الأشياء
فأما الذين تمسكوا بقوله تعالى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( الأنبياء 101 ) فقد بينا أنه أحد ما يدل على الدخول في جهنم وأيضاً فالمراد عن عذابها وكذا قوله لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا ( الأنبياء 102 ) فإن قيل هل ثبت بالأخبار كيفية دخول النار ثم خروج المتقين منها إلى الجنة قلنا ثبت بالأخبار أن المحاسبة تكون في الأرض أو حيث كانت الأرض ويدل عليه أيضاً قوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( إبراهيم 48 ) وجهنم قريبة من الأرض والجنة في السماء ففي موضع المحاسبة يكون الاجتماع فيدخلون من ذلك الموضع إلى جهنم ثم يرفع الله أهل الجنة وينجيهم ويدفع أهل النار فيها أما قوله كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً فالحتم مصدر حتم الأمر إذا أوجبه فسمى المحتوم بالحتم كقولهم خلق الله وضرب الأسير واحتج من أوجب العقاب عقلاً فقال إن قوله كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً يدل على وجوب ما جاء من جهة الوعيد والأخبار لأن كلمة على للوجوب والذي ثبت بمجرد الأخبار لا يسمى واجباً ( والجواب ) أن وعد الله تعالى لما استحال تطرق الخلف إليه جرى مجرى الواجب أما قوله ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ قرىء ننجي وننجي وينجي على ما لم يسم فاعله قال القاضي الآية دالة على قولنا في الوعيد لأن الله تعالى بين أن الكل يردونها ثم بين صفة من ينجو وهم المتقون والفاسق لا يكون متقياً ثم بين تعالى أن من عدا المتقين يذرهم فيها جثياً فثبت أن الفاسق يبقى في النار أبداً قال ابن عباس المتقي هو الذي اتقى الشرك بقول لا إله إلا الله واعلم أن الذي قاله ابن عباس هو الحق الذي يشهد الدليل بصحته وذلك لأن من آمن بالله وبرسله صح أن يقال إنه متق عن الشرك ومن صدق عليه أنه متق عن الشرك صدق عليه أنه متق لأن المتقي جزء من المتقي عن الشرك ومن صدق عليه المركب صدق عليه المفرد فثبت أن صاحب الكبيرة متق وإذا ثبت ذلك وجب أن يخرج من النار لعموم قوله ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ فصارت هذه الآية التي توهموها دليلاً من أقوى الدلائل على فساد قولهم قال القاضي وتدل الآية أيضاً على فساد قول من يقول إن من المكلفين من لا يكون في الجنة ولا في النار قلنا هذا ضعيف لأن الآية تدل على أنه تعالى ينجي الذين اتقوا وليس فيها ما يدل على أنه ينجيهم إلى الجنة ثم هب أنها تدل على ذلك ولكن الآية تدل على أن المتقين يكونون في الجنة والظالمين يبقون في النار فيبقى ههنا قسم ثالث خارج عن القسمين وهو الذي استوت طاعته ومعصيته فتسقط كل واحدة منهما بالأخرى فيبقى لا مطيعاً ولا عاصياً فهذا القسم إن بطل فإنما يبطل بشيء سوى هذه الآية فلا تكون هذه الآية دالة على الحصر الذي ادعاه ومن المعتزلة من تمسك في الوعيد بقوله وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً

ولفظ الظالمين لفظ جمع دخل عليه حرف التعريف فيفيد العموم والكلام على التمسك بصيغ العموم قد تقدم مراراً كثيرة في هذا الكتاب أما قوله جِثِيّاً قال صاحب ( الكشاف ) قوله وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة بعد نجاتهم وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بِيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَى ُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً
اعلم أنه تعالى لما أقام الحجة على مشركي قريش المنكرين للبعث أتبعه بالوعيد على ما تقدم ذكره عنهم أنهم عارضوا حجة الله بكلام فقالوا لو كنتم أنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في العذاب والذل وأعداءه المعروضين عن خدمته في العز والراحة ولما كان الأمر بالعكس فإن الكفار كانوا في النعمة والراحة والاستعلاء والمؤمنين كانوا في ذلك الوقت في الخوف والذل دل على أن الحق ليس مع المؤمنين هذا حاصل شبهتهم في هذا الباب ونظيره قوله تعالى لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( الأحقاف 11 ) ويروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون بالزينة الفاخرة ثم يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله منهم بقي بحثان
الأول قوله بَيّنَاتٍ تَعْرِفُ يحتمل وجوهاً أحدها أنها مرتلات الألفاظ مبينات المعاني إما محكمات أو متشابهات فقد تبعها البيان بالمحكمات أو بتبيين الرسول قولاً أو فعلاً وثانيها أنها ظاهرات الإعجاز تحدى بها فما قدروا على معارضتها وثالثها المراد بكونها آيات بينات أي دلائل ظاهرة واضحة لا يتوجه عليها سؤال ولا اعتراض مثل قوله تعالى في إثبات صحة الحشر أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ( مريم 67 )
البحث الثاني قرأ ابن كثير مَقَاماً بالضم وهو موضع الإقامة والمنزل والباقون بالفتح وهو موضع القيام والمراد والندى المجلس يقال ندى وناد والجمع الأندية ومنه قوله وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ( العنكبوت 29 ) وقال فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ( العلق 17 ) ويقال ندوت القوم أندوهم إذا جمعتهم في المجلس ومنه دار الندوة بمكة وكانت مجتمع القوم ثم أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً
وتقرير هذا الجواب أن يقال إن من كان أعظم نعمة منكم في الدنيا قد أهلكهم الله تعالى وأبادهم فلو دل حصول نعم الدنيا للإنسان على كونه حبيباً لله تعالى لوجب في حبيب الله أن لا يوصل إليه غماً في الدنيا ووجب عليه أن لا يهلك أحداً من المنعمين في دار الدنيا وحيث أهلكهم دل إما على فساد المقدمة الأولى

وهي أن من وجد الدنيا كان حبيباً لله تعالى أو على فساد المقدمة الثانية وهي أن حبيب الله لا يوصل الله إليه غماً وعلى كلا التقديرين فيفسد ما ذكرتموه من الشبهة بقي البحث عن تفسير الألفاظ فنقول أهل كل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم وهم أحسن في محل النصب صفة لكم ألا ترى أنك لو تركت هم لم يكن لك بد من نصب أحسن على الوصفية والأثاث متاع البيت أما رئياً فقرىء على خمسة أوجه لأنها إما أن تقرأ بالراء التي ليس فوقها نقطة أو بالزاي التي فوقها نقطة فأما الأول فإما أن يجمع بين الهمزة والياء أو يكتفي بالياء أما إذا جمع بين الهمزة والياء ففيه وجهان أحدهما بهمزة ساكنة بعدها ياء وهو المنظر والهيئة فعل بمعنى مفعول من رأيت رئياً والثاني ريئاً على القلب كقولهم راء في رأى أما إن اكتفينا بالياء فتارة بالياء المشددة على قلب الهمزة ياء والإدغام أو من الري الذي هو النعمة والترفه من قولهم ريان من النعيم والثاني بالياء على حذف الهمزة رأساً ووجهه أن يخفف المقلوب وهو ريئاً بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الياء الساكنة قبلها وأما بالزاي المنقطة من فوق زياً فاشتقاقه من الزي وهو الجمع لأن الزي محاسن مجموعة والمعنى أحسن من هؤلاء والله أعلم
قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَالَة ِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَة َ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَِّقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً
اعلم أن هذا الجواب الثاني عن تلك الشبهة وتقريره لنفرض أن هذا الضال المتنعم في الدنيا قد مد الله في أجله وأمهله مدة مديدة حتى ينضم إلى النعمة العظيمة المدة الطويلة فلا بد وأن ينتهي إلى عذاب في الدنيا أو عذاب في الآخرة بعد ذلك سيعلمون أن نعم الدنيا ما تنقذهم من ذلك العذاب فقوله فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً مذكور في مقابلة قولهم خَيْرٌ مَّقَاماً ( مريم 73 ) وَأَضْعَفُ جُنداً في مقابلة قولهم أَحْسَنُ نَدِيّاً ( مريم 73 ) فبين تعالى أنهم وإن ظنوا في الحال أن منزلتهم أفضل من حيث فضلهم الله تعالى بالمقام والندى فسيعلمون من بعد أن الأمر بالضد من ذلك وأنهم شر مكاناً فإنه لا مكان شر من النار والمناقشة في الحساب وَأَضْعَفُ جُنداً فقد كانوا يظنون وهم في الدنيا أن اجتماعهم ينفع فإذا رأوا أن لا ناصر لهم في الآخرة عرفوا عند ذلك أنهم كانوا في الدنيا مبطلين فيما ادعوه بقي البحث عن الألفاظ وهو من وجوه أحدها مد له الرحمن أي أمهله وأملى له في العمر فأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك وأنه مفعول لا محالة كالمأمور الممتثل ليقطع معاذير الضال ويقال له يوم القيامة أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ( فاطر 37 ) وكقولهم إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً

وثانيها أن قوله إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَة َ يدل على أن المراد بالعذاب عذاب يحصل قبل يوم القيامة لأن قوله وَإِمَّا السَّاعَة َ المراد منه يوم القيامة ثم العذاب الذي يحصل قبل يوم القيامة يمكن أن يكون هو عذاب القبر ويمكن أن يكون هو العذاب الذي سيكون عند المعاينة لأنهم عند ذلك يعلمون ما يستحقون ويمكن أيضاً أن يكون المراد تغير أحوالهم في الدنيا من العز إلى الذل ومن الغنى إلى الفقر ومن الصحة إلى المرض ومن الأمن إلى الخوف ويمكن أن يكون المراد تسليط المؤمنين عليهم ويمكن أيضاً أن يكون المراد ما نالهم يوم بدر وكل هذه الوجوه مذكورة واعلم أنه تعالى بين بعد ذلك أنه كما يعامل الكفار بما ذكره فكذلك يزيد المؤمنين المهتدين هدى واعلم أنا نبين إمكان ذلك بحسب العقل فنقول إنه لا يبعد أن يكون بعض أنواع الاهتداء مشروطاً بالبعض فإن حاصل الاهتداء يرجع إلى العلم ولا امتناع في كون بعض العلم مشروطاً بالبعض فمن اهتدى بالهداية التي هي الشرط صار بحيث لا يمتنع أن يعطي الهداية التي هي المشروط فصح قوله وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى مثاله الإيمان هدى والإخلاص في الإيمان زيادة هدى ولا يمكن تحصيل الإخلاص إلا بعد تحصيل الإيمان فمن اهتدى بالإيمان زاده الله الهداية بالإخلاص هذا إذا أجرينا لفظ الهداية على ظاهره ومن الناس من حمل الزيادة في الهدى على الثواب أي ويزيد الله الذين اهتدوا ثواباً على ذلك الاهتداء ومنهم من فسر هذه الزيادة بالعبادات المترتبة على الإيمان قال صاحب ( الكشاف ) يزيد معطوف على موضع فليمدد لأنه واقع موقع الخبر وتقديره من كان في الضلالة يمد له الرحمن مداً ويزيد أي يزيد في ضلال الضلال بخذلانه بذلك المد ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه ثم إنه تعالى بين أن ما عليه المهتدون هو الذي ينفع في العاقبة فقال وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وذلك لأن ما عليه المهتدون ضرر قليل متناه يعقبه نفع عظيم غير متناه والذي عليه الضالون نفع قليل متناه يعقبه ضرر عظيم غير متناه وكل أحد يعلم بالضرورة أن الأول أولى وبهذا الطريق تسقط الشبهة التي عولوا عليها واختلفوا في المراد بالباقيات الصالحات فقال المحققون إنها الإيمان والأعمال الصالحة سماها باقية لأن نفعها يدوم ولا يبطل ومنهم من قال المراد بها بعض العبادات ولعلهم ذكروا ما هو أعظم ثواباً فبعضهم ذكر الصلوات وبعضهم ذكر التسبيح وروي عن أبي الدرداء قال ( جلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم وأخذ عوداً يابساً فأزال الورق عنه ثم قال إن قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله يحط الخطايا حطاً كما يحط ورق هذه الشجرة الريح خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن هن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة وكان أبو الدرداء يقول لأعلمن ذلك ولأكثرن منه حتى إذا رآني جاهل حسب أني مجنون ) والقول الأول أولى لأنه تعالى إنما وصفها بالباقيات الصالحات من حيث يدوم ثوابها ولا ينقطع فبعض العبادات وإن كان أنقص ثواباً من البعض فهي مشتركة في الدوام فهي بأسرها باقية صالحة نظراً إلى آثارها التي هي الثواب ثم إنه تعالى أخبر أنها خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً ولا يجوز أن يقال هذا خير إلا والمراد أنه خير من غيره فالمراد إذن أنها خير مما ظنه الكفار بقولهم خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ( مريم 73 )
أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِأايَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً

اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل أولاً على صحة البعث ثم أورد شبهة المنكرين وأجاب عنها أورد عنهم الآن ما ذكروه على سبيل الاستهزاء طعناً في القول بالحشر فقال أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً قرأ حمزة والكسائي ولداً وهو جمع ولد كأسد في أسد أو بمعنى الولد كالعرب في العرب وعن يحيى بن يعمر ولداً بالكسر وعن الحسن نزلت الآية في الوليد بن المغيرة والمشهورة أنها في العاص بن وائل قال خباب بن الأرت كان لي عليه دين فاقتضيته فقال لا والله حتى تكفر بمحمد قلت لا والله لا أكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا حياً ولا ميتاً ولا حين تبعث فقال فإني إذا مت بعثت قلت نعم قال إني بعثت وجئتني فسيكون لي ثم مال وولد فأعطيك وقيل صاغ خباب له حلياً فاقتضاه فطلب الأجرة فقال إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً فأنا أقضيك ثم فإني أوتي مالاً وولداً حينئذ ثم أجاب الله تعالى عن كلامه بقوله أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً قال صاحب ( الكشاف ) أطلع الغيب من قولهم أطلع الجبل أي ارتقى إلى أعلاه ويقال مر مطلعاً لذلك الأمر أي غالباً له مالكاً له والاختيار في هذه الكلمة أن تقول أو قد بلغ من عظم شأنه أنه ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار والمعنى أن الذي ادعى أن يكون حاصلاً له لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الأمرين إما علم الغيب وإما عهد من عالم الغيب فبأيهما توصل إليه وقيل في العهد كلمة الشهادة عن قتادة هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول ثم إنه سبحان بين من حاله ضد ما ادعاه فقال كَلاَّ وهي كلمة ردع وتنبيه على الخطأ أي هو مخطىء فيما يقوله ويتمناه فإن قيل لم قال سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ بسين التسويف وهو كما قاله كتب من غير تأخير قال تعالى مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ق 18 ) قلنا فيه وجهان أحدهما سيظهر له ويعلم أنا كتبنا الثاني أن المتوعد يقول للجاني سوف أنتقم منك وإن كان في الحال في الانتقام ويكون غرضه من هذا الكلام محض التهديد فكذا ههنا أما قوله تعالى وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً أي نطول له من العذاب ما يستأهله ونزيده من العذاب ونضاعف له من المدد ويقال مده وأمده بمعنى ويدل عليه قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام ويمد له بالضم أما قوله ونرثه ما يقول أي يزول عنه ما وعده من مال وولد فلا يعود كما لا يعود الإرث إلى من خلفه وإذا سلب ذلك في الآخرة يبقى فرداً فلذلك قال وَيَأْتِينَا فَرْداً فلا يصح أن ينفرد في الآخرة بمال وولد وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( الأنعام 94 ) والله أعلم
وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَة ً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَة َ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً

اعلم أنه تعالى لما تكلم في مسألة الحشر والنشر تكلم الآن في الرد على عباد الأصنام فحكى عنهم أنهم إنما اتخذوا آلهة لأنفسهم ليكونوا لهم عزاً حيث يكونون لهم عند الله شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من الهلاك ثم أجاب الله تعالى بقوله كَلاَّ وهو ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة وقرأ ابن نهيك كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ أي كلهم سيكفرون بعبادة هذه الأوثان وفي ( محتسب ) ابن جني كلا بفتح الكاف والتنوين وزعم أن معناه كل هذا الاعتقاد والرأي كلا قال صاحب ( الكشاف ) إن صحت هذه الرواية فهي كلا التي هي للردع قلب الواقف عليها ألفها نوناً كما في قواريرا واختلفوا في أن الضمير في قوله سَيَكْفُرُونَ يعود إلى المعبود أو إلى العابد فمنهم من قال إنه يعود إلى المعبود ثم قال بعضهم أراد بذلك الملائكة لأنهم في الآخرة يكفرون بعبادتهم ويتبرءون منهم ويخاصمونهم وهو المراد من قوله أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( سبأ 40 ) وقال آخرون إن الله تعالى يحيي الأصنام يوم القيامة حتى يوبخوا عبادهم ويتبرؤا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم ومن الناس من قال الضمير يرجع إلى العباد أي أن هؤلاء المشركين يوم القيامة ينكرون أنهم عبدوا الأصنام ثم قال تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) أما قوله وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً فذكر ذلك في مقابلة قوله لَهُمْ عِزّاً ( مريم 81 ) والمراد ضد العز وهو الذل والهوان أن يكونون عليهم ضداً لما قصدوه وأرادوه كأنه قيل ويكونون عليهم ذلالهم لا عزاً أو يكونون عليهم عوناً والضد العون يقال من أضدادكم أي من أعوانكم وكأن العون يسمى ضداً لأنه يضاد عدوك وينافيه باعانته لك عليه فإن قيل ولم وحد قلنا وحد توحيد قوله عليه السلام ( وهم يد على من سواهم ) لاتفاق كلمتهم فإنهم كشيء واحد لفرط انتظامهم وتوافقهم ومعنى كون الآلهة عوناً عليهم أنهم وقود النار وحصب جهنم ولأنهم عذبوا بسبب عبادتها واعلم أنه تعالى لما ذكر حال هؤلاء الكفار مع الأصنام في الآخرة ذكر بعده حالهم مع الشياطين في الدنيا فإنهم يسألونهم وينقادون لهم فقال أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الله تعالى مريد لجميع الكائنات فقالوا قول القائل أرسلت فلاناً على فلان موضوع في اللغة لإفادة أنه سلطه عليه لإرادة أن يستولي عليه قال عليه السلام سم الله وأرسل كلبك عليه إذا ثبت هذا فقوله أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ يفيد أنه تعالى سلطهم عليهم لإرادة أن يستولوا عليهم وذلك يفيد المقصود ثم يتأكد هذا بقوله تَؤُزُّهُمْ أَزّاً فإن معناه إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين لتؤزهم أزاً ويتأكد بقوله وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ ( الإسراء 64 ) قال القاضي حقيقة اللفظ توجب أنه تعالى أرسل الشياطين إلى الكفار كما أرسل الأنبياء بأن حملهم رسالة يؤدونها إليهم

فلا يجوز في تلك الرسالة إلا ما أرسل عليه الشياطين من الإغواء فكان يجب في الكفار أن يكونوا بقبولهم من الشياطين مطيعين وذلك كفر من قائله ولأن من العجب تعلق المجبرة بذلك لأن عندهم أن ضلال الكفار من قبله تعالى بأن خلق فيهم الكفر وقدر الكفر فلا تأثير لما يكون من الشيطان وإذا بطل حمل اللفظ في ظاهره فلا بد من التأويل فنحمله على أنه تعالى خلى بين الشياطين وبين الكفار وما منعهم من إغوائهم وهذه التخلية تسمى إرسالاً في سعة اللغة كما إذا لم يمنع الرجل كلبه من دخول بيت جيرانه يقال أرسل كلبه عليه وإن لم يرد أذى الناس وهذه التخلية وإن كان فيها تشديد للمحنة عليهم فهم متمكنون من أن لا يقبلوا منهم ويكون ثوابهم على ترك القبول أعظم والدليل عليه قوله تعالى وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ ( إبراهيم 22 ) هذا تمام كلامه ونقول لا نسلم أنه لا يمكن حمله على ظاهره فإن قوله أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ لو أرسلهم الله إلى الكفار لكان الكفار مطيعين له بقبول قول الشياطين قلنا الله تعالى ما أرسل الشياطين إلى الكفار بل أرسلها عليهم والإرسال عليهم هو التسليط لإرادة أن يصير مستولياً عليه فأين هذا من الإرسال إليهم قوله ضلال الكافر من قبل الله تعالى فأي تأثير للشيطان فيه قلنا لم لا يجوز أن يقال إن إسماع الشيطان إياه تلك الوسوسة يوجب في قلبه ذلك الضلال بشرط سلامة فهم السامع لأن كلام الشيطان من خلق الله تعالى فيكون ذلك الضلال الحاصل في قلب الكافر منتسباً إلى الشيطان وإلى الله تعالى من هذين الوجهين قوله لم لا يجوز أن يكون المراد بالإرسال التخلية قلنا كما خلى بين الشيطان والكفرة فقد خلى بينهم وبين الأنبياء ثم إنه تعالى خص الكافر بأنه أرسل الشيطان عليه فلا بد من فائدة زائدة ههنا ولأن قوله تَؤُزُّهُمْ أَزّاً أي تحركهم تحريكاً شديداً كالغرض من ذلك الإرسال فوجب أن يكون الأز مراداً لله تعالى ويحصل المقصود منه فهذا ما في هذا الموضع والله أعلم
المسألة الثانية قال ابن عباس تَؤُزُّهُمْ أَزّاً أي تزعجهم في المعاصي إزعاجاً نزلت في المستهزئين بالقرآن وهم خمسة رهط قال صاحب ( الكشاف ) الأز والهز والاستفزاز أخوات في معنى التهييج وشدة الإزعاج أي تغريهم على المعاصي وتحثهم وتهيجهم لها بالوساس والتسويلات أما قوله تعالى فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً يقال عجلت عليه بكذا إذا استعجلته به أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا أو يبيدوا حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَة ً مّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ ( الأحقاف 35 ) عن ابن عباس أنه كان إذا قرأها بكى وقال آخر العدد خروج نفسك آخر العدد دخول قبرك آخر العدد فراق أهلك وعن ابن السماك رحمه الله أنه كان عند المأمون فقرأها فقال إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد وذكروا في قوله نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً وجهين آخرين الأول نعد أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها والثاني نعد الأوقات إلى وقت الأجل المعين لكل أحد الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان ثم بين سبحانه ما سيظهر في ذلك اليوم من الفصل بين المتقين وبين المجرمين في كيفية الحشر فقال يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً قال صاحب ( الكشاف ) نصب يوم بمضمر أي يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف أو اذكر يوم نحشر ويجوز أن ينتصب بلا يملكون عن علي عليه السلام قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفسي بيده إن المتقين إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة عليها رحال الذهب ) ثم تلا هذه الآية وفيها مسائل

المسألة الأولى قال القاضي هذه الآية أحد ما يدل على أن أهوال يوم القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون على هذا النوع من الكرامة فهم آمنون من الخوف فكيف يجوز أن تنالهم الأهوال
المسألة الثانية المشبهة احتجوا بالآية وقالوا قوله إِلَى الرَّحْمَنِ يفيد أن انتهاء حركتهم يكون عند الرحمن وأهل التوحيد يقولون المعنى يوم نحشر المتقين إلى محل كرامة الرحمن
المسألة الثالثة طعن الملحد فيه فقال قوله يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً هذا إنما يستقيم أن لو كان الحاشر غير الرحمن أما إذا كان الحاشر هو الرحمن فهذا الكلام لا ينتظم أجاب المسلمون بأن التقدير يوم نحشر المتقين إلى كرامة الرحمن أما قوله وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ ورداً فقوله نَسُوقُ يدل على أنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء والورد اسم للعطاش لأن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش وحقيقة الورود السير إلى الماء فسمي به الواردون أما قوله لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَة َ أي فليس لهم والظاهر أن المراد شفاعتهم لغيرهم أو شفاعة غيرهم لهم فلذلك اختلفوا وقال بعضهم لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون وقال بعضهم بل المراد لا يملك غيرهم أن يشفعوا لهم وهذا الثاني أولى لأن حمل الآية على الأول يجري مجرى إيضاع الواضحات وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة لأهل الكبائر لأنه قال عقيبه إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً والتقدير أن هؤلاء لا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم إلا إذا كانوا قد اتخذوا عند الرحمن عهداً التوحيد والنبوة فوجب أن يكون داخلاً تحته ومما يؤكد قولنا ما روى ابن مسعود أنه عليه السلام قال لأصحابه ذات يوم ( أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهداً قالوا وكيف ذلك قال يقول كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتبعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عهداً توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة ) فظهر بهذا الحديث أن المراد من العهد كلمة الشهادة وظهر وجه دلالة الآية على أن الشفاعة لأهل الكبائر وقال القاضي الآية دالة على مذهبه وقد ظهر أن الآية قوية في الدلالة على قولنا والله أعلم
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأرض إِلاَّ آتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَرْداً

اعلم أنه تعالى لما رد على عبده الأوثان عاد إلى الرد على من أثبت له ولداً وَقَالَتِ الْيَهُودُ عَزِيزٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ( التوبة 30 ) وقالت العرب الملائكة بنات الله والكل داخلون في هذه الآية ومنهم من خصها بالعرب الذي أثبتوا أن الملائكة بنات الله قالوا لأن الرد على النصارى تقدم في أول السورة أما الآن فإنه لما رد على العرب الذين قالوا بعبادة الأوثان تكلم في إفساد قول الذين قالوا بعبادة الملائكة لكونهم بنات الله أما قوله لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً فقرىء إداً بالكسر والفتح قال ابن خالويه الإد والأد العجب وقيل المنكر العظيم والأدة الشدة وأدنى الأمر وآدنى أثقلي قرىء يتفطرن بالتاء بعد الياء أعني المعجمة من تحتها واختلفوا في يكاد فقرأ بعضهم بالياء المعجمة من تحتها وبعضهم بالتاء من فوق والانفطار من فطرة إذا شقه والتفطر من فطره إذا شققه وكرر الفعل فيه وقرأ ابن مسعود يتصدعن وقوله وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أي تهد هداً أو مهدودة أو مفعول له أي لأنها تهد والمعنى أنها تتساقط أشد ما يكون تساقط البعض على البعض فإن قيل من أين يؤثر القول بإثبات الولد لله تعالى في انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال قلنا فيه وجوه أحدها أن الله سبحانه وتعالى يقول أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضباً مني على من تفوه بها لولا حلمي وأني لا أعجل بالعقوبة كما قال إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ( فاطر 41 ) وثانيها أن يكون استعظاماً للكلمة وتهويلاً من فظاعتها وتصويراً لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده وثالثها أن السموات والأرض والجبال تكاد أن تفعل ذلك لو كانت تعقل من غلظ هذا القول وهذا تأويل أبي مسلم ورابعها أن السموات والأرض والجبال كانت سليمة من كل العيوب فلما تكلم بنو آدم بهذا القول ظهرت العيوب فيها أما قوله أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً ففيه مسائل
المسألة الأولى في إعرابه ثلاثة أوجه أحدها أن يكون مجروراً بدلاً من الهاء في منه أو منصوباً بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل أي هذا لأن دعوا أو مرفوعاً بأنه فاعل هَدّاً أي هدها دعاء الولد للرحمن والحاصل أنه تعالى بين أن سبب تلك الأمور العظيمة هذا القول
المسألة الثانية إنما كرر لفظ الرحمن مرات تنبيهاً على أنه سبحانه وتعالى هو الرحمن وحده من قبل أن أصول النعم وفروعها ليست إلا منه
المسألة الثالثة قوله دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ هو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين فاقتصر على أحدهما الذي هو الثاني طلباً للعموم والإحاطة بكل من ادعى له ولداً أو من دعا بمعنى نسب الذي هو مطاوعة ما في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من ادعى إلى غير مواليه ) قال الشاعر
إنا بني نهشل لا ندعى لأب
أي لا ننتسب إليه ثم قال تعالى وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً أي هو محال أما الولادة المعروفة فلا مقال في امتناعها وأما التبني فلأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد ولا مشبه لله تعالى ولأن اتخاذ الولد إنما يكون لأغراض لا تصح في الله من سروره به واستعانته به وذكر جميل وكل ذلك لا يليق به ثم قال إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً والمراد أنه ما من معبود لهم في السموات

والأرض من الملائكة والناس إلا وهو يأتي الرحمن أي يأوي إليه ويلتجىء إلى ربوبيته عبداً منقاداً مطيعاً خاشعاً راجياً كما يفعل العبيد ومنهم من حمله على يوم القيامة خاصة والأول أولى لأنه لا تخصيص فيه وقوله لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً أي كلهم تحت أمره وتدبيره وقهره وقدرته فهو سبحانه ميحط بهم ويعلم مجمل أمورهم وتفاصيلها لا يفوته شيء من أحوالهم وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفرداً ليس معه من هؤلاء المشركين أحد وهم براء منهم
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً
اعلم أنه تعالى لما رد على أصناف الكفرة وبالغ في شرح أحوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين فقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً وللمفسرين في قوله وُدّاً قولان الأول وهو قول الجمهور أنه تعالى سيحدث لهم في القلوب مودة ويزرعها لهم فيها من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي يكتسب الناس بها مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك وإنما هو اختراع منه تعالى وابتداء تخصيصاً لأوليائه بهذه الكرامة كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاماً لهم وإجلالاً لمكانهم والسين في سيجعل إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا جاء الإسلام وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية ( إذا أحب الله عبداً نادى جبريل قد أحببت فلاناً فأحبوه فينادي جبريل عليه السلام بذلك في السماء والأرض وإذا أبغض عبداً فمثل ذلك ) وعن كعب قال مكتوب في التوراة والإنجيل لا محبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله تعالى ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض وتصديق ذلك في القرآن قوله سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً القول الثاني وهو اختيار أبي مسلم معنى سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً أي يهب لهم ما يحبون والود والمحبة سواء يقال آتيت فلاناً محبته وجعل لهم ما يحبون وجعلت له وده ومن كلامهم يود لو كان كذا ووددت أن لو كان كذا أي أحببت ومعناه سيعطيهم الرحمن ودهم أي محبوبهم في الجنة والقول الأول أولى لأن حمل المحبة على المحبوب مجاز ولأنا ذكرنا أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية وفسرها بذلك فكان ذلك أولى وقال أبو مسلم بل القول الثاني أولى لوجوه

أحدها كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم المتقي يبغضه الكفار وقد يبغضه كثير من المسلمين وثانيها أن مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر فكيف يمكن جعله إنعاماً في حق المؤمنين وثالثها أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا أن الله تعالى فعله فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى ( والجواب ) عن الأول أن المراد يجعل لهم الرحمن محبة عند الملائكة والأنبياء وروى عنه عليه السلام أنه حكى عن ربه عز وجل أنه قال ( إذا ذكرني عبدي المؤمن في نفسه ذكرته في نفسي وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ أطيب منهم وأفضل ) وهذا هو ( الجواب ) عن الكلام الثاني لأن الكافر والفاسق ليس كذلك ( والجواب ) عن الثالث أنه محمول على فعل الألطاف وخلق داعية إكرامه في قلوبهم أما قوله تعالى فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ فهو كلام مستأنف بين به عظيم موقع هذه السورة لما فيها من التوحيد والنبوة والحشر والنشر والرد على فرق المضلين المبطلين فبين تعالى أنه يسر ذلك بلسانه ليبشر به وينذر ولولا أنه تعالى نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسر ذلك على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فأما أن القرآن يتضمن تبشير المتقين وإنذار من خرج منهم فبين لكنه تعالى لما ذكر أنه يبشر به المتقين ذكر في مقابلته من هو في مخالفة التقوى أبلغ وأبلغهم الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه ويتشدد وهو معنى لداً ثم إنه تعالى ختم السورة بموعظة بليغة فقال وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا والانتهاء إلى الموت خافوا ذلك وخافوا أيضاً سوء العاقبة في الآخرة فكانوا فيها إلى الحذر من المعاصي أقرب ثم أكد تعالى في ذلك فقال هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ لأن الرسول عليه السلام إذا لم يحس منهم برؤية أو إدراك أو وجدان وَلاَ يَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً وهو الصوت الخفي ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون دل ذلك على انقراضهم وفنائهم بالكلية والأقرب في قوله أَهْلَكْنَا أن المراد به الانقراض بالموت وإن كان من المفسرين من حمله على العذاب المعجل في الدنيا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم

بداية الجزء الثانى والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

سورة طه
وهي مائة وثلاثون وخمس آيات
طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَة ً لِّمَن يَخْشَى تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق الأرض وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الاٌّ سْمَآءُ الْحُسْنَى
سورة طهاعلم أن قوله طه فيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو بفتح الطاء وكسر الهاء وقرأ أهل المدينة بين الفتح والكسر وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الطاء وقرأ حمزة والكسائي بكسر الطاء والهاء قال الزجاج وقرىء طه بفتح الطاء وسكون الهاء وكلها لغات قال الزجاج من فتح الطاء والهاء فلأن ما قبل الألف مفتوح ومن كسر الطاء والهاء فأمال الكسرة لأن الحرف مقصور والمقصور يغلب عليه الإمالة إلى الكسرة
المسألة الثانية للمفسرين فيه قولان أحدهما أنه من حروف التهجي والآخر أنه كلمة مفيدة أما على القول الأول فقد تقدم الكلام فيه في أول سورة البقرة والذي زادوه ههنا أمور أحدها قال الثعلبي طا شجرة طوبى والهاء الهاوية فكأنه أقسم بالجنة والنار وثانيها يحكى عن جعفر الصادق عليه السلام الطاء طهارة أهل البيت والهاء هدايتهم وثالثها يا مطمع الشفاعة للأمة ويا هادي الخلق إلى الملة ورابعها قال سعيد بن جبير

هو افتتاح اسمه الطيب الطاهر الهادي وخامسها الطاء من الطهارة والهاء من الهداية كأنه قيل يا طاهراً من الذنوب ويا هادياً إلى علام الغيوب وسادسها الطاء طول القراء والهاء هيبتهم في قلوب الكفار قال الله تعالى سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ ( آل عمران 151 ) وسابعها الطاء تسعة في الحساب والهاء خمسة تكون أربعة عشر ومعناه يا أيها البدر وقد عرفت فيما تقدم أن أمثال هذه الأقوال لا يجب أن يعتمد عليها القول الثاني قول من قال إنها كلمة مفيدة وعلى هذا القول ذكروا وجهين أحدهما معناه يا رجل وهو مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة والكلبي رضي الله عنهم ثم قال سعيد بن جبير بلسان النبطية وقال قتادة بلسان السريانية وقال عكرمة بلسان الحبشة وقال الكلبي بلغة عك وأنشد الكلبي لشاعرهم إن السفاهة طه في خلائقكم
لا قدس الله أرواح الملاعين
وقد تكلم الناس على هذا القول من وجهين الأول أنه بمعنى يا رجل في اللغة حمل عليه لكنه لا يجوز إن ثبت على هذا المعنى إلا في لغة العرب إذ القرآن بهذه اللغة نزل فيحتمل أن تكون لغة العرب في هذه اللفظة موافقة لسائر اللغات التي حكيناها فأما على غير هذا الوجه فلا يحتمل ولا يصح الثاني قال صاحب ( الكشاف ) إن كان طه في لغة عك بمعنى يا رجل فلعلهم تصرفوا في يا هذا فقلبوا الياء طاء فقالوا طا واختصروا في هذا واقتصروا على ها فقوله طه بمعنى يا هذا واعترض بعضهم عليه وقالوا لو كان كذلك لوجب أن يكتب أربعة أحرف طا ها وثانيهما أنه عليه السلام كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معاً وكان الأصل طأ فقلبت همزته هاء كما قالوا هياك في إياك وهرقت في أرقت ويجوز أن يكون الأصل من وطىء على ترك الهمزة فيكون أصله طأ يا رجل ثم أثبت الهاء فيها للوقف والوجهان ذكرهما الزجاج أما قوله تعالى مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابِ لِتَشْقَى ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) إن جعلت طه تعديداً لأسماء الحروف فهذا ابتداء كلام وإن جعلتها اسماً للسورة احتمل أن يكون قوله مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى خبراً عنها وهي في موضع المبتدأ والقرآن ظاهر أوقع موقع المضمر لأنها قرآن وأن يكون جواباً لها وهي قسم
المسألة الثانية قرىء مَّا نَزَّلَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى
المسألة الثالثة ذكروا في سبب نزول الآية وجوهاً أحدها قال مقاتل إن أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدي والنضر بن الحارث قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك فقال عليه السلام ( بل بعثت رحمة للعالمين ) قالوا بل أنت تشقى فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليهم وتعريفاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأن دين الإسلام هو السلام وهذا القرآن هو السلام إلى نيل كل فوز والسبب في إدراك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها وثانيها أنه عليه السلام صلى بالليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل عليه السلام ( أبق على نفسك فإن لها عليك حقاً ) أي ما أنزلناه لتهلك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة العظيمة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة وروى أيضاً أنه عليه السلام ( كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام ) وقال بعضهم كان يقوم على رجل واحدة وقال بعضهم كان يسهر طول الليل فأراد بقوله لِتَشْقَى ذلك قال القاضي هذا بعيد لأنه عليه السلام إن فعل شيئاً من ذلك فلا بد وأن يكون قد فعله بأمر الله تعالى وإذا فعله بأمره فهو من باب السعادة فلا يجوز أن يقال له ما أمرناك بذلك وثالثها قال بعضهم يحتمل أن يكون المراد لا تشق على نفسك ولا تعذبها

بالأسف على كفر هؤلاء فإنا إنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر به فمن آمن وأصلح فلنفسه ومن كفر فلا يحزنك كفره فما عليك إلا البلاغ وهو كقوله تعالى لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ( الكهف 6 ) الآية وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ( يونس ) 65 ) ورابعها أنك لا تلام على كفر قومك كقوله تعالى لَّسْتَ عَلَيْهِم ( الغاشية 22 ) حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ( الأنعام 107 ) أي ليس عليك كفرهم إذا بلغت ولا تؤاخذ بذنبهم وخامسها أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة وفي ذلك الوقت كان عليه السلام مقهوراً تحت ذل أعدائه فكأنه سبحانه قال له لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة أبداً بل يعلو أمرك ويظهر قدرك فإنا ما أنزلنا عليك مثل هذا القرآن لتبقى شقياً فيما بينهم بل تصير معظماً مكرماً وأما قوله تعالى إِلاَّ تَذْكِرَة ً لّمَن يَخْشَى ففيه مسائل
المسألة الأولى في كلمة إلا ههنا قولان أحدهما أنه استثناء منقطع بمعنى لكن والثاني التقدير ما أنزلنا عليك القرآن لتحمل متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة كما يقال ما شافهناك بهذا الكلام لتتأذى إلا ليعتبر بك غيرك
المسألة الثانية إنما خص من يخشى بالتذكرة لأنهم المنتفعون بها وإن كان ذلك عاماً في الجميع وهو كقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) وقال سبحانه وتعالى تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ( الفرقان 1 ) وقال لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ( يس 6 ) وقال وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ( مريم 97 ) وقال وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
المسألة الثالثة وجه كون القرآن تذكرة أنه عليه السلام كان يعظمهم به وببيانه فيدخل تحت قوله لمن يخشى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه في الخشية والتذكرة بالقرآن كان فوق الكل وأما قوله تعالى تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق الاْرْضَ وَالسَّمَاواتِ الْعُلَى ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في نصب تنزيلا وجوهاً أحدها تقديره نزل تنزيلاً ممن خلق الأرض فنصب تنزيلاً بمضمر وثانيها أن ينصب بأنزلنا لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة أنزلناه تذكرة وثالثها أن ينصب على المدح والاختصاص ورابعها أن ينصب بيخشى مفعولاً به أي أنزله الله تعالى تَذْكِرَة ً لّمَن يَخْشَى تنزيل الله وهو معنى حسن وإعراب بين وقرىء تنزيل بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف
المسألة الثانية فائدة الانتقال من لفظ التكلم إلى لفظ الغيبة أمور أحدها أن هذه الصفات لا يمكن ذكرها إلا مع الغيبة وثانيها أنه قال أولا أنزلنا ففخم بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع ثم ثنى بالنسبة إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد فتضاعفت الفخامة من طريقين وثالثها يجوز أن يكون أنزلنا حكاية لكلام جبريل عليه السلام والملائكة النازلين معه
المسألة الثالثة أنه تعالى عظم حال القرآن بأن نسبه إلى أنه تنزيل ممن خلق الأرض وخلق السموات على علوها وإنما قال ذلك لأن تعظيم الله تعالى يظهر بتعظيم خلقه ونعمه وإنما عظم القرآن ترغيباً في تدبره والتأمل في معانيه وحقائقه وذلك معتاد في الشاهد فإنه تعظم الرسالة بتعظيم حال المرسل ليكون المرسل إليه أقرب إلى الامتثال
المسألة الرابعة يقال سماء عليا وسموات علا وفائدة وصف السموات بالعلا الدلالة على عظم قدرة من

يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها أما قوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء الرحمن مجروراً صفة لمن خلق والرفع أحسن لأنه إما أن يكون رفعاً على المدح والتقدير هو الرحمن وإما أن يكون مبتدأ مشاراً بلامه إلى من خلق فإن قيل الجملة التي هي على العرش استوى ما محلها إذا جررت الرحمن أو رفعته على المدح قلنا إذا جررت فهو خبر مبتدأ محذوف لا غير وإن رفعت جاز أن يكون كذلك وأن يكون مع الرحمن خبرين للمبتدأ
المسألة الثانية المشبهة تعلقت بهذه الآية في أن معبودهم جالس على العرش وهذا باطل بالعقل والنقل من وجوه أحدها أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولا مكان ولما خلق الخلق لم يحتج إلى مكان بل كان غنياً عنه فهو بالصفة التي لم يزل عليها إلا أن يزعم زاعم أنه لم يزل مع الله عرش وثانيها أن الجالس على العرش لا بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الحاصل في يسار العرش فيكون في نفسه مؤلفاً مركباً وكل ما كان كذلك احتاج إلى المؤلف والمركب وذلك محال وثالثها أن الجالس على العرش إما أن يكون متمكناً من الإنتقال والحركة أو لا يمكنه ذلك فإن كان الأول فقد صار محل الحركة والسكون فيكون محدثاً لا محالة وإن كان الثاني كان كالمربوط بل كان كالزمن بل أسوأ منه فإن الزمن إذا شاء الحركة في رأسه وحدقته أمكنه ذلك وهو غير ممكن على معبودهم ورابعها هو أن معبودهم إما أن يحصل في كل مكان أو في مكان دون مكان فإن حصل في كل مكان لزمهم أن يحصل في مكان النجاسات والقاذورات وذلك لا يقوله عاقل وإن حصل في مكان دون مكان افتقر إلى مخصص يخصصه بذلك المكان فيكون محتاجاً وهو على الله محال وخامسها أن قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) يتناول نفي المساواة من جميع الوجوه بدليل صحة الاستثناء فإنه يحسن أن يقال ليس كمثله شيء إلا في الجلوس وإلا في المقدار وإلا في اللون وصحة الاستثناء تقتضي دخول جميع هذه الأمور تحته فلو كان جالساً لحصل من يماثله في الجلوس فحينئذ يبطل معنى الآية وسادسها قوله تعالى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) فإذا كانوا حاملين للعرش والعرش مكان معبودهم فيلزم أن تكون الملائكة حاملين لخالقهم ومعبودهم وذلك غير معقول لأن الخلق هو الذي يحفظ المخلوق أما المخلوق فلا يحفظ الخالق ولا يحمله وسابعها أنه لو جاز أن يكون المستقر في المكان إلهاً فكيف يعلم أن الشمس والقمر ليس بإله لأن طريقنا إلى نفس إلهية الشمس والقمر أنهما موصوفان بالحركة والسكون وما كان كذلك كان محدثاً ولم يكن إلهاً فإذا أبطلتم هذا الطريق انسد عليكم باب القدح في إلهية الشمس والقمر وثامنها أن العالم كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلينا هي تحت بالنسبة إلى ساكني ذلك الجانب الآخر من الأرض وبالعكس فلو كان المعبود مختصاً بجهة فتلك الجهة وإن كانت فوقاً لبعض الناس لكنها تحت لبعض آخرين وباتفاق العقلاء لا يجوز أن يقال المبعود تحت جميع الأشياء وتاسعها أجمعت الأمة على أن قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) من المحكمات لا من المتشابهات فلو كان مختصاً بالمكان لكان الجانب الذي منه يلي ما على يمينه غير الجانب الذي منه يلي ما على يساره فيكون مركباً منقسماً فلا يكون أحداً في الحقيقة فيبطل قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وعاشرها أن الخليل عليه السلام قال لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) ولو كان المعبود جسماً لكان آفلاً أبداً غائباً أبداً فكان يندرج تحت قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ فثبت بهذه الدلائل أن الإستقرار على الله تعالى محال وعند هذا للناس فيه

قولان الأول أنا لا نشتغل بالتأويل بل نقطع بأن الله تعالى منزه عن المكان والجهة ونترك تأويل الآية وروي الشيخ الغزالي عن بعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل أنه أول ثلاثة من الأخبار قوله عليه السلام ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض ) وقوله عليه السلام ( قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ) وقوله عليه السلام ( إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن ) واعلم أن هذا القول ضعيف لوجهين الأول أنه إن قطع بأن الله تعالى منزه عن المكان والجهة فقد قطع بأن ليس مراد الله تعالى من الإستواء الجلوس وهذا هو التأويل وإن لم يقطع بتنزيه الله تعالى عن المكان والجهة بل بقي شاكاً فيه فهو جاهل بالله تعالى اللهم إلا أن يقول أنا قاطع بأنه ليس مراد الله تعالى ما يشعر به ظاهره بل مراده به شيء آخر ولكني لا أعين ذلك المراد خوفاً من الخطأ فهذا يكون قريباً وهو أيضاً ضعيف لأنه تعالى لما خاطبنا بلسان العرب وجب أن لا يريد باللفظ إلا موضوعه في لسان العرب وإذا كان لا معنى للاستواء في اللغة إلا الاستقرار والإستيلاء وقد تعذر حمله على الإستقرار فوجب حمله على الإستيلاء وإلا لزم تعطيل اللفظ وإنه غير جائز والثاني وهو دلالة قاطعة على أنه لا بد من المصير إلى التأويل وهو أن الدلالة العقلية لما قامت على امتناع الاستقرار ودل ظاهر لفظ الاستواء على معنى الاستقرار فإما أن نعمل بكل واحد من الدليلين وإما أن نتركهما معاً وإما أن نرجح النقل على العقل وإما أن نرجح العقل ونؤول النقل والأول باطل وإلا لزم أن يكون الشيء الواحد منزهاً عن المكان وحاصلاً في المكان وهو محال والثاني أيضاً محال لأنه يلزم رفع النقيضين معاً وهو باطل والثالث باطل لأن العقل أصل النقل فإنه ما لم يثبت بالدلائل العقلية وجود الصانع وعلمه وقدرته وبعثته للرسل لم يثبت النقل فالقدح في العقل يقتضي القدح في العقل والنقل معاً فلم يبق إلا أن نقطع بصحة العقل ونشتغل بتأويل النقل وهذا برهان قاطع في المقصود إذا ثبت هذا فنقول قال بعض العلماء المراد من الإستواء الإستيلاء قال الشاعر قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
فإن قيل هذا التأويل غير جائز لوجوه أحدها أن الإستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز وذلك في حق الله تعالى محال وثانيها أنه إنما يقال فلان استولى على كذا إذا كان له منازع ينازعه وكان المستولى عليه موجوداً قبل ذلك وهذا في حق الله تعالى محال لأن العرش إنما حدث بتخليقه وتكوينه وثالثها الاستيلاء حاصل بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة والجواب أنا إذا فسرنا الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية قال صاحب الكشاف لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلامع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا استوى فلان على البلد يريدون ملك وإن لم يقعد على السرير البتة وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال فلان ملك ونحوه قولك يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة بمعنى أنه جواد وبخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم تبسط يده قط بالنوال أو لم يكن له يد رأساً قيل فيه يده مبسوطة لأنه لا فرق عندهم بينه وبين قوله جواد ومنه قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ( المائدة 64 ) أي هو بخيل بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ( المائدة 64 ) أي هو جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط والتفسير بالنعمة والتمحل بالتسمية من ضيق العطن وأقول إنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية فإنهم أيضاً يقولون المراد من قوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ( طه 12 ) الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور فعل وقوله قُلْنَا يانَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ

( ابراهيم 69 ) المراد منه تخليص إبراهيم عليه السلام من يد ذلك الظالم من غير أن يكون هناك نار وخطاب البتة وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله تعالى بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه وليت من لم يعرف شيئاً لم يخض فيه فهذا تمام الكلام في هذه الآية ومن أراد الاستقصاء في الآيات والأخبار المتشابهات فعليه بكتاب تأسيس التقديس وبالله التوفيق أما قوله تعالى لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى فاعلم أنه سبحانه لم شرح ملكه بقوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى والملك لا ينتظم إلا بالقدرة والعلم لا جرم عقبه بالقدرة ثم بالعلم أما القدرة فهي هذه الآية والمراد أنه سبحانه مالك لهذه الأقسام الأربعة فهو مالك لما في السموات من ملك ونجم وغيرهما ومالك لما في الأرض من المعادن والفلزات ومالك لما بينهما من الهواء ومالك لما تحت الثرى فإن قيل الثرى هو السطح الأخير من العالم فلا يكون تحته شيء فكيف يكون الله مالكاً له قلنا الثرى في اللغة التراب الندي فيحتمل أن يكون تحته شيء وهو إما الثور أو الحوت أو الصخرة أو البحر أو الهواء على اختلاف الروايات أما العلم فقوله تعالى وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى وفيه قولان أحدهما أن قوله وَأَخْفَى بناء المبالغة وعلى هذا القول نقول إنه تعالى قسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام الجهر والسر والأخفى فيحتمل أن يكون المراد من الجهر القول الذي يجهر به وقد يسر في النفس وإن ظهر البعض وقد يسر ولا يظهر على ما قال بعضهم ويحتمل أن يكون المراد بالسر وبالأخفى ما ليس بقول وهذا أظهر فكأنه تعالى بين أنه يعلم السر الذي لا يسمع وما هو أخفى منه فكيف لا يعلم الجهر والمقصود منه زجر المكلف عن القبائح ظاهرة كانت أو باطنة والترغيب في الطاعات ظاهرة كانت أو باطنة فعلى هذا الوجه ينبغي أن يحمل السر والأخفى على ما فيه ثواب أو عقاب والسر هو الذي يسره المرء في نفسه من الأمور التي عزم عليها والأخفى هو الذي لم يبلغ حد العزيمة ويحتمل أن يفسر الأخفى بما عزم عليه وما وقع في وهمه الذي لم يعزم عليه ويتحمل ما لم يقع في سره بعد فيكون أخفى من السر ويحتمل أيضاً ما سيكون من قبل الله تعالى من الأمور التي لم تظهر وإن كان الأقرب ما قدمناه مما يدخل تحت الزجر والترغيب القول الثاني أن أخفى فعل يعني أنه يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلمه وهو كقوله يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ ( البقرة 255 ) فإن قيل كيف يطابق الجزاء الشرط قلنا معناه إن تجهر بذكر الله تعالى من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك وإما أن يكون نهياً عن الجهر كقوله وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَة ً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ( الأعراف 205 ) وإما تعليماً للعباد أن الجهر ليس لاستماع الله تعالى وإنما هو لغرض آخر واعلم أن الله تعالى لذاته عالم وأنه عالم بكل المعلومات في كل الأوقات بعلم واحد وذلك العلم غير متغير وذلك العلم من لوازم ذاته من غير أن يكون موصوفاً بالحدوث أو الإمكان والعبد لا يشارك الرب إلا في السدس الأول وهو أصل العلم ثم هذا السدس بينه وبين عباده أيضاً نصفان فخمسة دوانيق ونصف جزء من العلم مسلم له والنصف الواحد لجملة عباده ثم هذا الجزء الواحد مشترك بين الخلائق كلهم من الملائكة الكروبية

والملائكة الروحانية وحملة العرش وسكان السموات وملائكة الرحمة وملائكة العذاب وكذا جميع الأنبياء الذين أولهم آدم وآخرهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعليهم أجمعين وكذا جميع الخلائق كلهم في علومهم الضرورية والكسبية والحرف والصناعات وجميع الحيوانات في إدراكاتها وشعوراتها والاهتداء إلى مصالحها في أغذيتها ومضارها ومنافعها والحاصل لك من ذلك الجزء أقل من الذرة المؤلفة ثم إنك بتلك الذرة عرفت أسرار إلهيته وصفاته الواجبة والجائزة والمستحيلة فإذا كنت بهذه الذرة عرفت هذه الأسرار فكيف يكون علمه بخمس دوانيق ونصف أفلا يعلم بذلك العلم أسرار عبوديتك فهذا تحقيق قوله وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى بل الحق أن الدينار بتمامه له لأن الذي علمته فإنما علمته بتعليمه على ما قال أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ( النساء 166 ) وقال أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ( الملك 14 ) ولهذا مثال وهو الشمس فإن ضوءها يجعل العالم مضيئاً ولا ينتقص ألبتة من ضوئها شيء فكذا ههنا فكيف لا يكون عالماً بالسر والأخفى فإن من تدبيراته في خلق الأشجار وأنواع النبات أنها ليس لها فم ولا سائر آلات الغذاء فلا جرم أصولها مركوزة في الأرض تمتص بها الغذاء فيتأدى ذلك الغذاء إلى الأغصان ومنها إلى العروق ومنها إلى الأوراق ثم إنه تعالى جعل عروقها كالأطناب التي بها يمكن ضرب الخيام وكما أنه لا بد من مد الطنب من كل جانب لتبقى الخيمة واقفة كذلك العروق تذهب من كل جانب لتبقى الشجرة واقفة ثم لو نظرت إلى كل ورقة وما فيها من العروق الدقيقة المبثوثة فيها ليصل الغذاء منها إلى كل جانب من الورقة ليكون ذلك تقوية لجرم الورقة فلا يتمزق سريعاً وهي شبه العروق المخلوقة في بدن الحيوان لتكون مسالك للدم والروح فتكون مقوية للبدن ثم انظر إلى الأشجار فإن أحسنها في المنظر الدلب والخلاف ولا حاصل لهما وأقبحها شجرة التين والعنب و ( لكن ) انظر إلى منفعتهما فهذه الأشياء وأشباهها تظهر أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض
أما قوله تعالى اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى فالكلام فيه على قسمين الأول في التوحيد اعلم أن دلائل التوحيد ستأتي إن شاء الله في تفسير قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) وإنما ذكره ههنا ليبين أن الموصوف بالقدرة وبالعلم على الوجه الذي تقدم واحد لا شريك له وهو الذي يستحق العبادة دون غيره ولنذكر ههنا نكتاً متعلقة بهذا الباب وهي أبحاث
البحث الأول اعلم أن مراتب التوحيد أربع أحدها الإقرار باللسان والثاني الاعتقاد بالقلب والثالث تأكيد ذلك الاعتقاد بالحجة والرابع أن يصير العبد مغموراً في بحر التوحيد بحيث لا يدور في خاطره شيء غير عرفان الأحد الصمد أما الإقرار باللسان فإن وجد خالياً عن الاعتقاد بالقلب فذلك هو المنافق وأما الاعتقاد بالقلب إذا وجد خالياً عن الإقرار باللسان ففيه صور الصورة الأولى أن من نظر وعرف الله تعالى وكما عرفه مات قبل أن يمضي عليه من الوقت ما يمكنه التلفظ بكلمة الشهادة فقال قوم إنه لا يتم إيمانه والحق أنه يتم لأنه أدى ما كلف به وعجز عن التلفظ به فلا يبقى مخاطباً ورأيت في ( بعض ) الكتب أن ملك الموت مكتوب على جبهته لا إله إلا الله لكي إذا رآه المؤمن تذكر كلمة الشهادة فيكفيه ذلك التذكر عن الذكر الصورة الثانية أن من عرف الله ومضى عليه من الوقت ما يمكنه التلفظ بالكلمة ولكنه قصر فيه قال الشيخ الغزالي يحتمل أن يقال اللسان ترجمان القلب فإذا حصل المقصود في القلب كان امتناعه من التلفظ جارياً مجرى امتناعه من الصلاة والزكاة وكيف يكون من أهل النار وقد قال عليه السلام ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ) وقلب هذا الرجل مملوء من

الإيمان وقال آخرون الإيمان والكفر أمور شرعية نحن نعلم أن الممتنع من هذه الكلمة كافر الصورة الثالثة من أقر باللسان واعتقد بالقلب من غير دليل فهو مقلد والاختلاف في صحة إيمانه مشهور أما المقام الثالث وهو إثبات التوحيد بالدليل والبرهان فقد بينا في تفسير قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) أنه يمكن إثبات هذا المطلوب بالدلائل العقلية والسمعية واستقصينا القول فيها هناك أما المقام الرابع وهو الفناء في بحر التوحيد فقال المحققون العرفان مبتدأ من تفريق ونقض وترك ورفض ممكن في جميع صفات هي من صفات الحق للذات المريدة بالصدق منتبه إلى الواحد القهار ثم وقوف هذه الكلمات محيطة بأقصى نهايات درجات السائرين إلى الله تعالى
البحث الثاني في الأخبار الواردة في التهليل أولها عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء أستغفر الله ثم تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) وثانيها قال عليه السلام ( إن الله تعالى خلق ملكاً من الملائكة قبل أن خلق السموات والأرض وهو يقول أشهد أن لا إله إلا الله ماداً بها صوته لا يقطعها ولا يتنفس فيها ولا يتمها فإذا أتمها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور وقامت القيامة تعظيماً لله عز وجل ) وثالثها عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال عليه السلام ( ما زلت أشفع إلى ربي ويشفعني وأشفع إليه ويشفعني حتى قلت يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله قال يا محمد هذه ليست لك ولا لأحد وعزتي وجلالي لا أدع أحداً في النار قال لا إله إلا الله ) وثانيها قال سفيان الثوري سألت جعفر بن محمد عن حم عسق قال الحاء حكمه والميم ملكه والعين عظمته والسين سناؤه والقاف قدرته يقول الله جل ذكره بحكمي وملكي وعظمتي وسنائي وقدرتي لا أعذب بالنار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وخامسها أن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قام في السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب له الله ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له بيتاً في الجنة )
البحث الثالث في النكت أحدها ينبغي لأهل لا إله إلا الله أن يحصلوا أربعة أشياء حتى يكونوا من أهل لا إله إلا الله التصديق والتعظيم والحلاوة والحرية فمن ليس له التصديق فهو منافق ومن ليس له التعظيم فهو مبتدع ومن ليس له الحلاوة فهو مراء ومن ليس له الحرية فهو فاجر وثانيها قال بعضهم قوله أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَة ً طَيّبَة ً كَشَجَرة ٍ طَيّبَة ٍ ( إبراهيم 24 ) إنه لا إله إلا الله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر 10 ) لا إله إلا الله وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ ( العصر 3 ) لا إله إلا الله قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِواحِدَة ٍ ( سبأ 46 ) لا إله إلا الله وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ ( الصافات 24 ) عن قول لا إله إلا الله مَّجْنُونٍ بَلْ جَاء بِالْحَقّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ( الصافات 37 ) هو لا إله إلا الله يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ ( إبراهيم 27 ) هو لا إله إلا الله وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ( إبراهيم 27 ) عن قول لا إله إلا الله وثالثها أن موسى بن عمران عليه السلام قال ( يا رب علمني شيئاً أذكرك به قال قل لا إله إلا الله قال كل عبادك يقولون لا إله إلا الله فقال قل لا إله إلا الله قال إنما أردت شيئاً تحصني بها قال يا موسى لو أن السموات السبع ومن فيهن في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله )
البحث الرابع في إعرابه قالوا كلمة لا ههنا دخلت على الماهية فانتفت الماهية وإذا انتفت الماهية انتفت كل أفراد الماهية وأما الله فإنه اسم علم للذات المعينة إذ لو كان اسم معنى لكان كلها محتملاً للكثرة فلم

تكن هذه الكلمة مفيدة للتوحيد فقالوا لا استحقت عمل أن لمشابهتها لها من وجهين أحدهما ملازمة الأسماء والآخر تناقضهما فإن أحدهما لتأكيد الثبوت والآخر لتأكيد النفي ومن عادتهم تشبيه أحد الضدين بالآخر في الحكم إذا ثبت هذا فنقول لما قالوا إن زيداً ذاهب كان يجب أن يقولوا لا رجلاً ذاهب إلا أنهم بنوا لا مع ما دخل عليه من الاسم المفرد على الفتح أما البناء فلشدة اتصال حرف النفي بما دخل عليه كأنهما صارا اسماً واحداً وأما الفتح فلأنهم قصدوا البناء على الحركة المستحقة توفيقاً بين الدليل الموجب للإعراب والدليل الموجب للبناء الثاني خبره محذوف والأصل لا إله في الوجود ولا حول ولا قوة لنا وهذا يدل على أن الوجود زائد على الماهية
البحث الخامس قال بعضهم تصور الثبوت مقدم على تصور السلب فإن السلب ما لم يضف إلى الثبوت لا يمكن تصوره فكيف قدم ههنا السلب على الثبوت وجوابه أنه لما كان هذا السلب من مؤكدات الثبوت لا جرم قدم عليه القسم الثاني من الكلام في الآية البحث عن أسماء الله تعالى وفيه أبحاث
البحث الأول قال عليه السلام ( إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أيها الناس أنا جعلت لكم نسباً وأنتم جعلتم لأنفسكم نسباً أنا جعلت أكرمكم عندي أتقاكم وأنتم جعلتم أكرمكم أغناكم فالآن أرفع نسبي وأضع نسبكم أين المتقون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنونا ) واعلم أن الأشياء في قسمة العقول على ثلاثة أقاسم كامل لا يحتمل النقصان وناقص لا يحتمل الكمال وثالث يقبل الأمرين أما الكامل الذي لا يحتمل النقصان فهو الله تعالى وذلك في حقه بالوجوب الذاتي وبعده الملائكة فإن من كمالهم أنهم لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ( التحريم 6 ) ومن صفاتهم أنهم عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( الأنبياء 26 ) ومن صفاتهم أنهم يستغفرون للذين آمنوا وأما الناقص الذي لا يحتمل الكمال فهو الجمادات والنبات والبهائم وأما الذي يقبل الأمرين جميعاً فهو الإنسان تارة يكون في الترقي بحيث يخبر عنه بأنه فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) وتارة في التسفل بحيث يقال ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ( التين 5 ) وإذا كان كذلك استحال أن يكون الإنسان كاملاً لذاته وما لا يكون كاملاً لذاته استحال أن يصير موصوفاً بالكمال إلى أن يصير منتسباً إلى الكامل لذاته لكن الانتساب قسمان قسم يعرض للزوال وقسم لا يكون يعرض للزوال أما الذي يكون يعرض للزوال فلا فائدة فيه ومثاله الصحة والمال والجمال وأما الذي لا يكون يعرض للزوال فعبوديتك لله تعالى فإنه كما يمتنع زوال صفة الإلهية عنه يمتنع زوال صفة العبودية عنك فهذه النسبة لا تقبل الزوال والمنتسب إليه وهو الحق سبحانه لا يقبل الخروج عن صفة الكمال ثم إذا كنت من بلد أو منتسباً إلى قبيلة فإنك لا تزال تبالغ في مدح تلك البلدة والقبيلة بسبب ذلك الانتساب العرضي فلأن تشتغل بذكر الله تعالى ونعوت كبريائه بسبب الانتساب الذاتي كان أولى فلهذا قال وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( الأعراف 180 ) وقال اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى
البحث الثاني في تقسيم أسماء الله تعالى اعلم أن اسم كل شيء إما أن يكون واقعاً عليه بحسب ذاته أو بحسب أجزاء ذاته أو بحسب الأمور الخارجة عن ذاته أما القسم الأول فقد اختلفوا في أنه هل لله تعالى اسم على هذا الوجه وهذه المسألة مبنية على أن حقيقة الله تعالى هل هي معلومة للبشر أم لا فمن قال إنها غير معلومة للبشر قال ليس لذاته المخصوصة اسم لأن المقصود من الاسم أن يشار به إلى المسمى وإذا كانت الذات المخصوصة غير معلومة امتنعت الإشارة العقلية إليها فامتنع وضع الاسم لها وقد تكلمنا في تحقيق

ذلك في تفسير اسم الله وأما الاسم الواقع عليه بحسب أجزاء ذاته فذلك محال لأنه ليس لذاته شيء من الأجزاء لأن كل مركب ممكن وواجب الوجود لا يكون ممكناً فلا يكون مركباً وأما الاسم الواقع بحسب الصفات الخارجة عن ذاته فالصفات إما أن تكون ثبوتية حقيقية أو ثبوتية إضافية أو سلبية أو ثبوتية مع إضافية أو ثبوتية مع سلبية أو إضافية مع سلبية أو ثبوتية وإضافية وسلبية ولما كانت الإضافات الممكنة غير متناهية وكذا السلوب غير متناهية أمكن أن يكون للباري تعالى أسماء متباينة لا مترادفة غير متناهية فهذا هو التنبيه على المأخذ
البحث الثالث يقال إن لله تعالى أربعة آلاف اسم ألف لا يعلمها إلا الله تعالى وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة والأنبياء وأما الألف الرابع فإن المؤمنين يعلمونها فلثمائة منها في التوراة وثلثمائة في الإنجيل وثلثمائة في الزبور ومائة في الفرقان تسع وتسعون منها ظاهرة وواحد مكتوم فمن أحصاها دخل الجنة
البحث الرابع الأسماء الواردة في القرآن منها ما ليس بانفراده ثناء ومدحاً كقوله جاعل وفالق وخالق فإذا قيل فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً ( الأنعام 96 ) صار مدحاً وأما الاسم الذي يكون مدحاً فمنه ما إذا قرن بغيره صار أبلغ نحو قولنا حي فإذا قيل الحي القيوم أو الحي الذي لا يموت كان أبلغ وأيضاً قولنا بديع فإنك إذا قلت بديع السموات والأرض ازداد المدح ومن هذا الباب ما كان اسم مدح ولكن لا يجوز إفراده كقولك دليل وكاشف فإذا قيل يا دليل المتحيرين ويا كاشف الضر والبلوى جاز ومنه ما يكون اسم مدح مفرداً أو مقروناً كقولنا الرحمن الرحيم
البحث الخامس من الأسماء ما يكون مقارنتها أحسن كقولك الأول الآخر المبدىء المعيد الظاهر الباطن ومثاله قوله تعالى في حكاية قول المسيح إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( المائدة 118 ) وبقية الأبحاث قد تقدمت في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم
البحث السادس في النكت ( أولها ) رأى بشر الحافي كاغداً مكتوباً فيه بسم الله الرحمن الرحيم فرفعه وطيبه بالمسك وبلعه فرأى في النوم قائلاً يقول يا بشر طيبت اسمنا فنحن نطيب اسمك في الدنيا والآخرة وثانيها قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى ( الأعراف 180 ) وليس حسن الأسماء لذواتها لأنها ألفاظ وأصوات بل حسنها لحسن معانيها ثم ليس حسن أسماء الله حسناً يتعلق بالصورة والخلقة فإن ذلك محال على من ليس بجسم بل حسن يرجع إلى معنى الإحسان مثلاً اسم الستار والغفار والرحيم إنا كانت حسناء لأنها دالة على معنى الإحسان وروى أن حكيماً ذهب إليه قبيح وحسن والتمسا الوصية فقال للحسن أنت حسن والحسن لا يليق به الفعل القبيح وقال للآخر أنت قبيح والقبيح إذا فعل الفعل القبيح عظم قبحه فنقول إلهنا أسماؤك حسنة وصفاتك حسنة فلا تظهر لنا من تلك الأسماء الحسنة والصفات الحسنة إلا الإحسان إلهنا يكفينا قبح أفعالنا وسيرتنا فلا نضم إليه قبح العقاب ووحشة العذاب وثالثها قوله عليه السلام ( اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه ) إلهنا حسن الوجه عرضى أما حسن الصفات والأسماء فذاتي فلا تردنا عن إحسانك خائبين خاسرين رابعها ذكر أن صياداً كان يصيد السمك فصاد سمكة وكان له ابنة فأخذتها ابنته فطرحتها الماء وقالت إنها ما وقعت في الشبكة إلا لغفلتها إلهنا تلك الصبية رحمت غفلة هاتيك السمكة وكانت تلقيها مرة أخرى في البحر ونحن قد اصطادتنا وسوسة إبليس وأخرجتنا من بحر رحمتك فارحمنا بفضلك وخلصنا منها وألقنا في بحار رحمتك مرة

أخرى وخامسها ذكرت من الأسماء خمسة في الفاتحة وهي الله والرب والرحمن والرحيم والملك فذكرت الإلهية وهي إشارة إلى القهارية والعظمة فعلم أن الأرواح لا تطيق ذلك القهر والعلو فذكر بعده أربعة أسماء تدل على اللطف الرب وهو يدل على التربية والمعتاد أن من ربى أحداً فإنه لا يهمل أمره ثم ذكر الرحمن الرحيم وذلك هو النهاية في اللطف والرأفة ثم ختم الأمر بالملك والملك العظيم لا ينتقم من الضعيف العاجز ولأن عائشة قالت لعلي عليه السلام ( ملكت فأشجع فأنت أولى بأن تعفو عن هؤلاء الضعفاء ) وسادسها عن محمد بن كعب القرظي قال موسى عليه السلام ( إلهي أي خلقك أكرم عليك قال الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكري قال فأي خلقك أعلم قال الذي يلتمس إلى علمه علم غيره قال فأي خلقك أعدل قال الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس قال فأي خلقك أعظم جرماً قال الذي يتهمني وهو الذي يسألني ثم لا يرضى بما قضيته له ) إلهنا إنا لا نتهمك فإنا نعلم أن كل ما أحسنت به فهو فضل وكل ما تفعله فهو عدل فلا تؤاخذنا بسوء أعمالنا وسابعها قال الحسن إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ سيعلم الجمع من أولى بالكرم أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون فيتخطون رقاب الناس ثم يقال أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ثم ينادي منادٍ أين الحامدون لله على كل حال ثم تكون التبعة والحساب على من بقي إلهنا فنحن حمدناك وأثنينا عليك بمقدار قدرتنا ومنتهى طاقتنا فاعف عنا بفضلك ورحمتك ومن أراد الاستقصاء في الأسماء والصفات فعليه بكتاب لوامع البينات في الأسماء والصفات وبالله التوفيق
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لاًّهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّى آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِى َ يامُوسَى إِنِّى أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى
اعلم أنه تعالى لما عظم حال القرآن وحال الرسول فيما كلفه اتبع ذلك بما يقوي قلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من ذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام تقوية لقلبه في الإبلاغ كقوله وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ( هود 120 ) وبدأ بموسى عليه السلام لأن المحنة والفتنة الحاصلة له كانت أعظم ليسلي قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك ويصبره على تحمل المكاره فقال وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى وههنا مسائل
المسألة الأولى قوله وَهَلْ أَتَاكَ يحتمل أن يكون هذا أول ما أخبر به من أمر موسى عليه السلام فقال وَهَلْ أَتَاكَ أي لم يأتك إلى الآن وقد أتاك الآن فتنبه له وهذا قول الكلبي ويحتمل أن يكون قد أتاه ذلك في الزمان المتقدم فكأنه قال أليس قد أتاك وهذا قول مقاتل والضحاك عن ابن عباس
المسألة الثانية قوله وَهَلْ أَتَاكَ وإن كان على لفظ الاستفهام الذي لا يجوز على الله تعالى لكن المقصود منه تقرير الجواب في قلبه وهذه الصيغة أبلغ في ذلك كما يقول المرء لصاحبه هل بلغك خبر كذا فيتطلع السامع إلى معرفة ما يرمى إليه ولو كان المقصود هو الاستفهام لكان الجواب يصدر من قبل النبي عليه

السلام لا من قبل الله تعالى
المسألة الثالثة قوله تعالى إِذْ رَأَى نَاراً أي هل أتاك حديثه حين رأى ناراً قال المفسرون استأذن موسى عليه السلام شعيباً في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد حاد عن الطريق فقدح موسى عليه السلام النار فلم تور المقدحة شيئاً فبينا هو مزاولة ذلك إذ نظر ناراً من بعيد عن يسار الطريق قال السدي ظن أنها نار من نيران الرعاة وقال آخرون إنه عليه السلام رآها في شجرة وليس في لفظ القرآن ما يدل على ذلك واختلفوا فقال بعضهم الذي رآه لم يكن ناراً بل تخيله ناراً والصحيح أنه رأى ناراً ليكون صادقاً في خبره إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء قيل النارس أربعة أقسام نار تأكل ولا تشرب وهي نار الدنيا ونار تشرب ولا تأكل وهي نار الشجر لقوله تعالى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشَّجَرِ الاْخْضَرِ نَاراً ( يس 80 ) ونار تأكل وتشرب وهي نار المعدة ونار لا تأكل ولا تشرب وهي نار موسى عليه السلام وقيل أيضاً النار على أربعة أقسام أحدها نار لها نور بلا حرقة وهي نار موسى عليه السلام وثانيها حرقة بلا نور وهي نار جهنم وثالثها الحرقة والنور وهي نار الدنيا ورابعها لا حرقة ولا نور وهي نار الأشجار فلما أبصر النار توجه نحوها ( فقال لأهله امثكثوا فيجوز أن يكون الخطاب للمرأة وولدها والخادم الذي معها ويجوز أن يكون للمرأة وحدها ولكن خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيماً أي أقيموا في مكانكم فيجوز أن يكون الخطاب للمرأة وولدها والخادم الذي معها ويجوز أن يكون للمرأة وحدها ولكن خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيماً أي أقيموا في مكانكم إِنّى آنَسْتُ نَاراً أي أبصرت والإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين فإنه يبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم وقيل هو أيضاً ما يؤنس به ولما وجد منه الإيناس وكان منتفياً حقيقة لهم أتى بكلمة إني لتوطين أنفسهم ولما كان الإيناس بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بني الأمر فيهما على الرجاء والطمع فقال فَلَمَّا قَضَى ولم يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به والنكتة فيه أن قوماً قالوا كذب إبراهيم للمصلحة وهو محال لأن موسى عليه السلام قبل نبوته احترز عن الكذب فلم يقل آتيكم ولكن قال لعلي آتيكم ولم يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به والقبس النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى والهدى ما يهتدى به وهو اسم مصدر فكأنه قال أجد على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة ومعنى الاستعلاء على النار أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها ولأن المصطلين بها إذا أحاطوا بها كانوا مشرفين عليها فَلَمَّا أَتَاهَا أي أتى النار قال ابن عباس رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء فوقف متعجباً من شدة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة فلا النار تغير خضرتها ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوء النار فسمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً قال وهب فظن موسى عليه السلام أنها نار أوقدت فأخذ من دقاق الحطب ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده فتأخر عنها وهابها ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها ثم لم يكن أسرع من خمودها فكأنها لم تكن ثم رمى موسى بنظره إلى فرعها فإذا خضرته ساطعة في السماء وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار فلما رأى موسى ذلك وضع يده على عينيه فنودي يا موسى قال القاضي الذي يروى من أن الزند ما كان يورى فهذا جائز وأما الذين يروى من أن النار كانت تتأخر عنه فإن كانت النبوة قد تقدمت له جاز ذلك وإلا فهو ممتنع إلا أن يكون معجزة لغيره من الأنبياء عليهم السلام وفي قوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ( طه 13 ) دلالة على أن هذه الحالة

أوحى الله إليه وجعله نبياً وعلى هذا الوجه يبعد ما ذكروه من تأخر النار عنه وبين فساد ذلك قوله تعالى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِى َ يامُوسَى مُوسَى وإن كانت تتأخر عنه حالاً بعد حال لما صح ذلك ولما بقي لفاء التعقيب فائدة قلنا القاضي إنما بنى هذا الاعتراض على مذهبه في أن الإرهاص غير جائز وذلك عندنا باطل فبطل قوله وأما التمسك بفاء التعقيب فقريب لأن تخلل الزمان القليل فيما بين المجيء والنداء لا يقدح في فاء التعقيب
المسألة الرابعة قرأ أبو عمرو وابن كثير ( أنى ) بالفتح أي نودي بأني أنا ربك والباقون بالكسر أي نودي فقيل يا موسى أو لأن النداء ضرب من القول فعومل معاملته
المسألة الخامسة قال الأشعري إن الله تعالى أسمعه الكلام القديم الذي ليس بحرف ولا صوت وأما المعتزلة فإنهم أنكروا وجود ذلك الكلام فقالوا إنه سبحانه خلق ذلك النداء في جسم من الأجسام كالشجرة أو غيرها لأن النداء كلام الله تعالى والله قادر عليه ومتى شاء فعله وأما أهل السنة من أهل ما وراء النهر فقد أثبتوا الكلام القديم إلا أنهم زعموا أن الذي سمعه موسى عليه السلام صوت خلقه الله تعالى في الشجرة واحتجوا بالآية على أن المسموع هو الصوت المحدث قالوا إنه تعالى رتب النداء على أنه أتى النار والمرتب على المحدث محدث فالنداء محدث
المسألة السادسة اختلفوا في أن موسى عليه السلام كيف عرف أن المنادي هو الله تعالى فقال أصحابنا يجوز أن يخلق الله تعالى له علماً ضرورياً بذلك ويجوز أن يعرفه بالمعجزة قالت المعتزلة أما العلم الضروري فغير جائز لأنه لو حصل العلم الضروري بكون هذا النداء كلام الله تعالى لحصل العلم الضروري بوجود الصانع العالم القادر لاستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات تكون معلومة بالاستدلال ولو كان وجود الصانع تعالى معلوماً له بالضرورة لخرج موسى عن كونه مكلفاً لأن حصول العلم الضروري ينافي التكليف وبالإتفاق لم يخرج موسى عن التكليف فعلمنا أن الله تعالى عرفه ذلك بالمعجز ثم اختلفوا في ذلك المعجز على وجوه أولها منهم من قال نعلم قطعاً أن الله تعالى عرفه ذلك بواسطة المعجز ولا حاجة بنا إلى أن نعرف ذلك المعجز ما هو وثانيها يروى أن موسى عليه السلام لما شاهد النور الساطع من الشجرة إلى السماء وسمع تسبيح الملائكة وضع يديه على عينيه فنودي يا موسى فقال لبيك إني أسمع صوتك ولا أراك فأين أنت قال أنا معك وأمامك وخلفك ومحيط بك وأقرب إليك منك ثم إن إبليس أخطر بباله هذا الشك وقال ما يدريك أنك تسمع كلام الله فقال لأني أسمعه من فوقي ومن تحتي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي كما أسمعه من قدامي فعلمت أنه ليس بكلام المخلوقين ومعنى إطلاقه هذه الجهات أنى أسمعه بجميع أجزائي وأبعاضي حتى كأن كل جارحة مني صارت أذناً وثالثها لعله سمع النداء من جماد كالحصى وغيرها فيكون ذلك معجزاً ورابعها أنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث أن تلك الخضرة ما كانت تطفىء تلك النار وتلك النار ما كانت تضر تلك الخضرة وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه
المسألة السابعة قالوا إن تكرير الضمير في إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ كان لتوليد الدلالة وإزالة الشبهة
المسألة الثامنة ذكروا في قوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وجوهاً أحدها كانتا من جلد حمار ميت فلذلك أمر بخلعهما صيانة للوادي المقدس ولذلك قال عقيبه إِنَّكَ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ وهذا قول علي عليه السلام

وقول مقاتل والكلبي والضحاك وقتادة والسدي والثاني إنما أمر بخلعهما لينال قدميه بركة الوادي وهذا قول الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وثالثها أن يحمل ذلك على تعظيم البقعة من أن يطأها إلا حافياً ليكون معظماً لها وخاضعاً عند سماع كلام ربه والدليل عليه أنه تعالى قال عقيبه إِنَّكَ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ وهذا يفيد التعليل فكأنه قال تعالى اخلع نعليك لأنك بالوادي المقدس طوى وأما أهل الإشارة فقد ذكروا فيها وجوهاً أحدها أن النعل في النوم يفسر بالزوجة والولد فقوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إشارة إلى أن لا يلفت خاطره إلى الزوجة والولد وأن لا يبقى مشغول القلب بأمرهما وثانيها المراد بخلع النعلين ترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة كأنه أمره بأن يصير مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى ولا يلتفت بخاطره إلى ما سوى الله تعالى والمراد من الوادي المقدس قدس جلال الله تعالى وطهارة عزته يعني أنك لما وصلت إلى بحر المعرفة فلا تلتفت إلى المخلوقات وثالثها أن الإنسان حال الاستدلال على الصانع لا يمكنه أن يتوصل إليه إلا بمقدمتين مثل أن يقول العالم المحسوس محدث أو ممكن وكل ما كان كذلك فله مدبر ومؤثر وصانع وهاتان المقدمتان تشبهان النعلين لأن بهما يتوصل العقل إلى المقصود ويتنقل من النظر في الخلق إلى معرفة الخالق ثم بعد الوصول إلى معرفة الخالق وجب أن لا يبقى ملتفتاً إلى تينك المقدمتين لأن بقدر الاشتغال بالغير يبقى محروماً عن الاستغراق فيه فكأنه قيل له لا تكن مشتغل القلب والخاطر بتينك المقدمتين فإنك وصلت إلى الوادي المقدس الذي هو بحر معرفة الله تعالى ولجة ألوهيته
المسألة التاسعة استدلت المعتزلة بقوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ على أن كلام الله تعالى ليس بقديم إذ لو كان قديماً لكان الله قائلاً قبل وجود موسى اخلع نعليك يا موسى ومعلوم أن ذلك سفه فإن الرجل في الدار الخالية إذا قال يا زيد افعل ويا عمرو لا تفعل مع أن زيداً وعمراً لا يكونان حاضرين بعد ذلك جنوناً وسفهاً فكيف يليق ذلك بالإله سبحانه وتعالى وأجاب أصحابنا عنه من وجهين الأول أن كلامه تعالى وإن كان قديماً إلا أنه في الأزل لم يكن أمراً ولا نهياً والثاني أنه كان أمراً بمعنى أنه وجد في الأزل شيء لما استمر إلى ما لا يزال صار الشخص به مأموراً من غير وقوع التغير في ذلك الشيء كما أن القدرة تقتضي صحة الفعل ثم إنها كانت موجودة في الأزل من غير هذه الصحة فلما استمرت إلى ما لا يزال حصلت الصحة كذا ههنا وهذا الكلام فيه غموض وبحث دقيق
المسألة العاشرة ليس في الآية دلالة على كراهة الصلاة والطواف في النعل والصحيح عدم الكراهة وذلك لأنا إن عللنا الأمر بخلع النعلين بتعظيم الوادي وتعظيم كلام الله كان الأمر مقصوراً على تلك الصورة وإن عللناه بأن النعلين كانا من جلد حمار ميت فجائز أن يكون قد كان محظوراً لبس جلد الحمار الميت وإن كان مدبوغاً فإن كان كذلك فهو منسوخ بقوله عليه السلام ( أيما إيهاب دبغ فقد طهر ) وقد صلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال ( ما لكم خلعتم نعالكم ) قالوا خلعت فخلعنا قال ( فإن جبريل أخبرني أن فيهما قذراً ) فلم يكره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الصلاة في النعل وأنكر على الخالعين خلعهما وأخبرهم بأنه إنما خلعهما لما فيهما من القذر
المسألة الحادية عشر قرىء طوى بالضم والكسر منصرفاً وغير منصرف فمن نونه فهو اسم الوادي ومن لم ينونه ترك صرفه لأنه معدول عن طاوي فهو مثل عمر المعدول عن عامر ويجوز أن يكون اسماً للبقعة

المسألة الثانية عشرة في طوى وجوه الأول أنه اسم للوادي وهو قول عكرمة وابن زيد والثاني معناه مرتين نحو مثنى أي قدس الوادي مرتين أو نودي موسى عليه السلام نداءين يقال ناديته طوى أي مثنى والثالث طوى أي طياً قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه مر بذلك الوادي ليلاً فطواه فكان المعنى بالوادي المقدس الذي طويته طياً أي قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه ومن ذهب إلى هذا قال طوى مصدر خرج عن لفظه كأنه قال طويته طوى كما يقال هدى يهدي هدي والله أعلم
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ لِذِكْرِى
قرأ حمزة ( وإنا اخترناك ) وقرأ أبي بن كعب ( وإني اخترتك ) ههنا مسائل
المسألة الأولى معناه اخترتك للرسالة وللكلام الذي خصصتك به وهذه الآية تدل على أن النبوة لا تحصل بالاستحقاق لأن قوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يدل على أن ذلك المنصب العلي إنما حصل لأن الله تعالى اختاره له ابتداء لا أنه استحقه على الله تعالى
المسألة الثانية قوله فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى فيه نهاية الهيبة والجلالة فكأنه قال لقد جاءك أمر عظيم هائل فتأهب له واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفاً إليه فقوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يفيد نهاية اللطف والرحمة وقوله فَاسْتَمِعْ يفيد نهاية الهيبة فيحصل له من الأول نهاية الرجاء ومن الثاني نهاية الخوف
المسألة الثالثة قوله إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى يدل على أن علم الأصول مقدم على علم الفروع لأن التوحيد في علم الأصول والعبادة من علم الفروع وأيضاً الفاء في قوله فَاعْبُدْنِى تدل على أن عبادته إنما لزمت لإلهيته وهذا هو تحقيق العلماء أن الله هو المستحق للعبادة
المسألة الرابعة أنه سبحانه بعد أن أمره بالتوحيد أولاً ثم بالعبادة ثانياً أمره بالصلاة ثالثاً احتج أصحابنا بهذه الآية على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز من وجهين الأول أنه أمره بالعبادة ولم يذكر كيفية تلك العبادة فثبت أنه يجوز ورود المجمل منفكاً عن البيان الثاني أنه قال إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ولم يبين كيفية الصلاة قال القاضي لا يمتنع أن موسى عليه السلام قد عرف الصلاة التي تعبد الله تعالى بها شعيباً عليه السلام وغيره من الأنبياء فصار الخطاب متوجهاً إلى ذلك ويحتمل أنه تعالى بين له في الحال وأن كان المنقول في القرآن لم يذكر فيه إلا هذا القدر والجواب أما العذر الأول فإنه لا يتوجه في قوله تعالى فَاعْبُدْنِى وأيضاً فحمل مثل هذا الخطاب العظيم على فائدة جديدة أولى من حمله على أمر معلوم لأن موسى عليه السلام ما كان يشك في وجوب الصلاة التي جاء بها شعيب عليه السلام فلو حملنا قوله اتْلُ مَا على ذلك لم يحصل من هذا الخطاب العظيم فائدة زائدة أما لو حملناه على صلاة أخرى لحصلت الفائدة الزائدة قوله لعل الله تعالى بينه في ذلك الموضع وإن لم يحكه في القرآن قلنا لا نشك أن البيان أكثر فائدة من المجمل فلو كان مذكوراً لكان أولى بالحكاية

المسألة الخامسة في قوله لِذِكْرِى وجوه أحدها لذكري يعني لتذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلي لي وثانيها لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار عن مجاهد وثالثها لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ورابعها لأن أذكرك بالمدح والثناء واجعل لك لسان صدق وخامسها لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري وسادسها لإخلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضاً آخر وسابعها لتكون لي ذاكراً غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم كما قال تعالى لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَة ٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ( النور 37 ) وثامنها لأوقات ذكرى وهي مواقيت الصلاة لقوله تعالى فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً ( النساء 103 ) وتاسعها أَقِمِ الصَّلَواة َ حين تذكرها أي أنك إذا نسيت صلاة فاقضها إذا ذكرتها روى قتادة عن أنس رضي الله عنهما قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ) ثم قرأ إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ قال الخطابي يحتمل هذا الحديث وجهين أحدهما أنه لا يكفرها غير قضائها والآخر أنه لا يلزم في نسيانها غرامة ولا كفارة كما تلزم الكفارة في ترك صوم رمضان من غير عذر وكما يلزم المحرم إذا ترك شيئاً من نسكه فدية من إطعام أو دم وإنما يصلي ما ترك فقط فإن قيل حق العبارة أن يقول أقم الصلاة لذكرها كما قال عليه السلام ( فليصلها إذا ذكرها ) قلنا قوله لِذِكْرِى معناه للذكر الحاصل بخلقي أو بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي
المسألة السادسة لو فاتته صلوات يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء فلو ترك الترتيب في قضائها جاز عند الشافعي رحمه الله ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة نظر إن كان في الوقت سعة استحب أن يبدأ بالفائتة ولو بدأ بصلاة الوقت جاز وإن ضاق الوقت بحيث لو بدأ بالفائتة فات الوقت يجب أن يبدأ بصلاة الوقت حتى لا تفوت ولو تذكر الفائتة بعدما شرع في صلاة الوقت أتمها ثم قضى الفائتة ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها ولا يجب وقال أبو حنيفة رحمه الله يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم تزد على صلاة يوم وليلة حتى قال لو تذكر في خلال صلاة الوقت فائتة تركها اليوم يبطل فرض الوقت فيقضي الفائتة ثم يعيد صلاة الوقت إلا أن يكون الوقت ضيقاً فلا تبطل حجة أبي حنيفة رحمه الله الآية والخبر والأثر والقياس أما الآية فقوله تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِذِكْرِى أي لتذكرها واللام بمعنى عند كقوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( الإسراء 78 ) أي عند دلوكها فمعنى الآية أقم الصلاة المتذكرة عند تذكرها وذلك يقتضي رعاية الترتيب وأما الخبر فقوله عليه السلام ( من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ) والفاء للتعقيب وأيضاً روى جابر بن عبد الله قال ( جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله ما صليت صلاة العصر حتى كادت تغيب الشمس قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا والله ما صليتها بعد قال فنزل إلى البطحاء وصلى العصر بعد ما غابت الشمس ثم صلى المغرب بعدها وهذا الحديث مذكور في ( الصحيحين ) قالت الحنفية والاستدلال به من وجهين أحدهما أنه عليه الصلاة والسلام قال ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) فلما صلى الفوائت على الولاء وجب علينا ذلك والثاني إن فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا خرج مخرج البيان للمجمل كان حجة وهذا الفعل خرج بياناً لمجمل قوله تعالى وَأَنْ أَقِيمُواْ ( النور 56 ) ولهذا قلنا إن الفوائت إذا كانت في حد القلة يجب مراعاة الترتيب فيها وإذا دخلت في حد الكثرة يسقط الترتيب وأما الأثر فما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال ( من فاتته صلاة فلم يذكرها إلا في صلاة الإمام فليمض في صلاته فإذا قضى صلاته مع الإمام يصلي ما فاته ثم ليعد التي صلاها مع الإمام ) وقد يروى هذا مرفوعاً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأما القياس فهو أنهما

صلاتان فريضتان جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة فأشبهتا صلاتي عرفة والمزدلفة فلما لم يجب إسقاط الترتيب فيهما وجب أن يكون حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة كذلك حجة الشافعي رحمه الله أنه روى في حديث أبي قتادة ( أنهم لما ناموا عن صلاة الفجر ثم انتبهوا بعد طلوع الشمس أمرهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقودوا رواحلهم ثم صلاها ) ولو كان وقت التذكر معيناً للصلاة لما جاز ذلك فعلمنا أن ذلك الوقت وقت لتقرر الوجوب عليه لكن لا على سبيل التضييق بل على سبيل التوسع إذا ثبت هذا فنقول إيجاب قضاء الفوائت وإيجاب أداء فرض الوقت الحاضر يجري مجرى التخيير بين الواجبين فوجب أن يكون المكلف مخيراً في تقديم أيهما شاء ولأنه لو كان الترتيب في الفوائت شرطاً لما سقط بالنسيان ألا ترى أنه إذا صلى الظهر والعصر بعرفة في يوم غيم ثم تبين أنه صلى الظهر قبل الزوال والعصر بعد الزوال فإنه يعيدهما جميعاً ولم يسقط الترتيب بالنسيان لما كان شرطاً فيهما فههنا أيضاً لو كان شرطاً فيهما لما كان يسقط بالنسيان
إِنَّ السَّاعَة َ ءَاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى
اعلم أنه تعالى لما خاطب موسى عليه السلام بقوله إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا ( طه 14 ) أتبعه بقوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا وما أليق هذا بتأويل من تأول قوله لِذِكْرِى أي لأذكرك بالأمانة والكرامة فقال عقيب ذلك إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ لأنها وقت الإثابة ووقت المجازاة ثم قال أَكَادُ أُخْفِيهَا وفيه سؤالان
السؤال الأول هو أن كاد نفيه إثبات وإثباته نفي بدليل قوله وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ( البقرة 71 ) أي وفعلوا ذلك فقوله أَكَادُ أُخْفِيهَا يقتضي أنه ما أخفاها وذلك باطل لوجهين أحدهما قوله إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) والثاني أن قوله لِتَجْرِى َ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار والجواب من وجوه أحدها أن كاد موضوع للمقاربة فقط من غير بيان النفي والإثبات فقوله أَكَادُ أُخْفِيهَا معناه قرب الأمر فيه من الإخفاء وأما أنه هل حصل ذلك الإخفاء أو ما حصل فذلك غير مستفاد من اللفظ بل من قرينة قوله لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فإن ذلك إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار وثانيها أن كاد من الله واجب فمعنى قوله أَكَادُ أُخْفِيهَا أي أنا أخفيها عن الخلق كقوله عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا ( الإسراء 51 ) أي هو قريب قاله الحسن وثالثها قال أبو مسلم أَكَادُ بمعنى أريد وهو كقوله كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ( يوسف 76 ) ومن أمثالهم المتداولة لا أفعل ذلك ولا أكاد أي ولا أريد أن أفعله ورابعها معناه أَكَادُ أُخْفِيهَا من نفسي وقيل إنها كذلك في مصحف أبي وفي حرف ابن مسعود أَكَادُ أُخْفِيهَا من نفسي فكيف أعلنها لكم قال القاضي هذا بعيد لأن الإخفاء إنما يصح فيمن يصلح له الإظهار وذلك مستحيل على الله تعالى لأن كل معلوم معلوم له فالإظهار والإسرار منه مستحيل ويمكن أن يجاب عنه بأن ذلك واقع على التقدير يعني لو صح مني إخفاؤه على نفسي لأخفيته عني والإخفاء وإن كان محالاً في نفسه إلا أنه لا يمتنع أن يذكر ذلك على هذا التقدير مبالغة في عدم

إطلاع الغير عليه قال قطرب هذا على عادة العرب في مخاطبة بعضهم بعضاً يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء كتمته حتى من نفسي فالله تعالى بالغ في إخفاء الساعة فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب في مثله وخامسها أَكَادُ صلة في الكلام والمعنى إن الساعة آتية أخفيها قال زيد الخيل سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه
فما إن يكاد قرنه يتنفس
والمعنى فما يتنفس قرنه وسادسها قال أبو الفتح الموصلي أَكَادُ أُخْفِيهَا تأويله أكاد أظهرها وتلخيص هذا اللفظ أكاد أزيل عنها إخفاءها لأن أفعل قد يأتي بمعنى السلب والنفي كقولك أعجمت الكتاب وأشكلته أي أزلت عجمته وإشكاله وأشكيته أي أزلت شكواه وسابعها قرىء أخفيها بفتح الألف أي أكاد أظهرها من خفاه إذا أظهره أي قرب إظهاره كقوله ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَة ُ ( القمر 1 ) قال امرؤ القيس فإن تدفنوا الداء لا نخفه
وإن تمنعوا الحرب لا نقعد
معنى هذاأي لا نظهره قال الزجاج وهذه القراءة أبين لأن معنى أكاد أظهرها يفيد أنه قد أخفاها وثامنها أراد أن الساعة آتية أكاد وانقطع الكلام ثم قال أخفيها ثم رجع الكلام الأول إلى أن الأولى الإخفاء لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى وهذا الوجه بعيد والله أعلم السؤال الثاني ما الحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت الجواب لأن الله تعالى وعد قبول التوبة فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى قريب من ذلك الوقت ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل المعصية وإنه لا يجوز أما قوله لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما حكم بمجيء يوم القيامة ذكر الدليل عليه وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء وذلك غير جائز وهو الذي عناه الله تعالى بقوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 )
المسألة الثانية احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الثواب مستحق على العمل لأن الباء للالصاق فقوله بِمَا تَسْعَى يدل على أن المؤثر في ذلك الجزاء هو ذلك السعي
المسألة الثالثة احتجوا بها على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى وذلك لأن الآية صريحة في إثبات سعي العبد ولو كان الكل مخلوقاً لله تعالى لم يكن للعبد سعي ألبتة أما قوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا فالصد المنع وههنا مسائل
المسألة الأولى في هذين الضميرين وجهان أحدهما قال أبو مسلم لا يصدنك عنها أي عن الصلاة التي أمرتك بها من لا يؤمن بها أي بالساعة فالضمير الأول عائد إلى الصلاة والثاني إلى الساعة ومثل هذا جائز في اللغة فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليرد السامع إلى كل خبر حقه وثانيهما قال ابن عباس فلا يصدنك عن الساعة أي عن الإيمان بمجيئها من لا يؤمن بها فالضميران عائدان إلى يوم القيامة قال القاضي وهذا أولى لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورين وههنا الأقرب هو الساعة وما قاله أبو مسلم فإنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ههنا
المسألة الثانية الخطاب في قوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ يحتمل أن يكون مع موسى عليه السلام وأن يكون مع

محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والأقرب أنه مع موسى لأن الكلام أجمع خطاب له وعلى كلا الوجهين فلا معنى لقول الزجاج إنه ليس بمراد وإنما أريد به غيره وذلك لأنه ظن أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما لم يجز عليه مع النبوة أن يصده أحد عن الإيمان بالساعة لم يجز أن يكون مخاطباً بذلك وليس الأمر كما ظن لأنه إذا كان مكلفاً بأن لا يقبل الكفر بالساعة من أحد وكان قادراً على ذلك جاز أن يخاطب به ويكون المراد هو وغيره ويحتمل أيضاً أن يكون المراد بقوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا النهي له عن الميل إليهم ومقاربتهم
المسألة الثالثة المقصود نهي موسى عليه السلام عن التكذيب بالبعث ولكن ظاهر اللفظ يقتضي نهي من لم يؤمن عن صد موسى عليه السلام وفيه وجهان أحدهما أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب والثاني أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين فذكر المسبب ليدل حمله على السبب كقوله لا أرينك ههنا المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته فكذا ههنا كأنه قيل لا تكن رخواً بل كن في الدين شديداً صلباً
المسألة الرابعة الآية تدل على أن تعلم علم الأصول واجب لأن قوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ يرجع معناه إلى صلابته في الدين وتلك الصلابة إن كان المراد بها التقليد لم يتميز المبطل فيه من المحق فلا بد وأن يكون المراد بهذه الصلابة كونه قوياً في تقرير الدلائل وإزالة الشبهات حتى لا يتمكن الخصم من إزالته عن الدين بل هو يكون متمكناً من إزالة المبطل عن بطلانه
المسألة الخامسة قال القاضي قوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ يدل على أن العباد هم الذين يصدون ولو كان تعالى هو الخالق لأفعالهم لكان هو الصاد دونهم فدل ذلك على بطلان القول بالجبر والجواب المعارضة بمسألة العلم والداعي والله أعلم أما قوله تعالى وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فالمعنى أن منكر البعث إنما أنكره اتباعاً للهوى لا لدليل وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد لأن المقلد متبع للهوى لا الحجة أما قوله فَتَرْدَى فهو بمعنى ولا يصدنك فتردى وإن صدوك وقبلت فليس إلا الهلاك بالنار واعلم أن المتوغلين في أسرار المعرفة قالوا المقام مقامان أحدهما مقام المحو والفناء عما سوى الله تعالى والثاني مقام البقاء بالله والأول مقدم على الثاني لأن من أراد أن يكتب شيئاً في لوح مشغول بكتابة أخرى فلا سبيل له إليه إلا بإزالة الكتابة الأولى ثم بعد ذلك يمكن إثبات الكتابة الثانية والحق سبحانه راعى هذا الترتيب الحسن في هذا الباب لأنه قال لموسى عليه السلام اولا فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وهو إشارة إلى تطهير السر عما سوى الله تعالى ثم بعد ذلك أمره بتحصيل ما يجب تحصيله وأصول هذا الباب ترجع إلى ثلاثة علم المبدأ وعلم الوسط وعلم المعاد فعلم المبدأ هو معرفة الحق سبحانه وتعالى وهو المراد بقوله إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ ( طه 14 ) وأما علم الوسط فهو علم العبودية ومعناها الأمر الذي يجب أن يشتغل الإنسان به في هذه الحياة الجسمانية وهو المراد بقوله إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا ( طه 14 ) ثم في هذا أيضاً تعثر لأن قوله فَاعْبُدْنِى إشارة إلى الأعمال الجسمانية وقوله لِذِكْرِى إشارة إلى الأعمال الروحانية والعبودية أولها الأعمال الجسمانية وآخرها الأعمال الروحانية وأما علم المعاد فهو قوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ثم إنه تعالى افتتح هذه التكاليف بمحض اللطف وهو قوله إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ ( طه 12 ) واختتمها بمحض القهر وهو قوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى تنبيهاً على أن رحمته سبقت غضبه وإشارة إلى أن العبد لا بد له في العبودية من الرغبة والرهبة والرجاء والخوف وعند الوقوف على هذه الجملة تعرف أن هذا الترتيب هو النهاية في الحسن والجودة وأن ذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى قَالَ هِى َ عَصَاى َ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يامُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِى َ حَيَّة ٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاٍّ ولَى
اعلم أن قوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ لفظتان فقوله وَمَا تِلْكَ إشارة إلى العصا وقوله بِيَمِينِكَ إشارة إلى اليد وفي هذا نكت إحداها أنه سبحانه لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزاً قاهراً وبرهاناً باهراً ونقله من حد الجمادية إلى مقام الكرامة فإذا صار الجماد بالنظر الواحد حيواناً وصار الجسم الكثيف نورانياً لطيفاً ثم إنه تعالى ينظر كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فأي عجب لو انقلب قلبه من موت العصيان إلى سعادة الطاعة ونور المعرفة وثانيها أن بالنظر الواحد صار الجماد ثعباناً يبتلع سحر السحرة فأي عجب لو صار القلب بمدد النظر الإلهي بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء وثالثها كانت العصا في يمين موسى عليه السلام فبسبب بركة يمينه انقلبت ثعباناً وبرهاناً وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن فإذا حصلت ليمين موسى عليه السلام هذه الكرامة والبركة فأي عجب لو انقلب قلب المؤمن بسبب إصبعي الرحمن من ظلمة المعصية إلى نور العبودية ثم ههنا سؤالات الأول قوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى سؤال والسؤال إنما يكون لطلب العلم وهو على الله تعالى محال فما الفائدة فيه والجواب فيه فوائد إحداها أن من أراد أن يظهر من الشيء الحقير شيئاً شريفاً فإنه يأخذه ويعرضه على الحاضرين ويقول لهم هذا ما هو فيقولون هذا هو الشيء الفلاني ثم إنه بعد إظهار صفته الفائقة فيه يقول لهم خذا منه كذا وكذا فالله تعالى لما أراد أن يظهر من العصا تلك الآيات الشريفة كانقلابها حية وكضربه البحر حتى انفلق وفي الحجر حتى انفجر منه الماء عرضه أولاً على موسى فكأنه قال له يا موسى هل تعرف حقيقة هذا الذي بيدك وأنه خشبة لا تضر ولا تنفع ثم إنه قلبه ثعباناً عظيماً فيكون بهذا الطريق قد نبه العقول على كمال قدرته ونهاية عظمته من حيث إنه أظهر هذه الآيات العظيمة من أهون الأشياء عنده فهذا هو الفائدة من قوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى وثانيها أنه سبحانه لما أطلعه على تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء وأسمعه تسبيح الملائكة ثم أسمعه كلام نفسه ثم إنه مزج اللطف بالقهر فلاطفه أولاً بقوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ثم قهره بإيراد التكاليف الشاقة عليه وإلزامه علم المبدأ والوسط والمعاد ثم ختم كل ذلك بالتهديد العظيم تحير موسى ودهش وكاد لا يعرف اليمين من الشمال فقيل له وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى ليعرف موسى عليه السلام أن يمينه هي التي فيها العصا أو لأنه لما تكلم معه أولاً بكلام الإلهية وتحير موسى من الدهشة تكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة والنكتة فيه أنه لما غلبت الدهشة على موسى في الحضرة أراد رب العزة إزالتها فسأله عن العصا وهو لا يقع الغلط فيه كذلك المؤمن إذا مات ووصل إلى حضرة ذي الجلال فالدهشة تغلبه والحياء يمنعه عن الكلام فيسألونه عن الأمر الذي لم يغلط فيه في الدنيا وهو التوحيد فإذا ذكره زالت الدهشة والوحشة عنه وثالثها أنه تعالى لما عرف موسى كمال الإلهية

أراد أن يعرفه نقصان البشرية فسأله عن منافع العصا فذكر بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها منافع أعظم مما ذكر تنبيهاً على أن العقول قاصرة عن معرفة صفات النبي الحاضر فلولا التوفيق والعصمة كيف يمكنهم الوصول إلى معرفة أجل الأشياء وأعظمها ورابعها فائدة هذا السؤال أن يقرر عنده أنه خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافها السؤال الثاني قوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى خطاب من الله تعالى مع موسى عليه السلام بلا واسطة ولم يحصل ذلك لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيلزم أن يكون موسى أفضل من محمد الجواب من وجهين الأول أنه تعالى كما خاطب موسى فقد خاطب محمداً عليه السلام في قوله فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( النجم 10 ) إلا أن الفرق بينهما أن الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه الله إلى الخلق والذي ذكره مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان سراً لم يستأهل له أحد من الخلق والثاني إن كان موسى تكلم معه وهو ( تكلم ) مع موسى فأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يخاطبون الله في كل يوم مرات على ما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( المصلي يناجي ربه ) والرب يتكلم مع آحاد أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يوم القيامة بالتسليم والتكريم والتكليم في قوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) السؤال الثالث ما إعراب قوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى الجواب قال صاحب ( الكشاف ) ( تلك بيمينك ) كقوله وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا ( هود 72 ) في انتصاب الحال بمعنى الإشارة ويجوز أن يكون تلك اسماً موصولاً وصلته بِيَمِينِكَ قال الزجاج معناه وما التي بيمينك قال الفراء معناه ما هذه التي في يمينك واعلم أنه سبحانه لما سأل موسى عليه السلام عن ذلك أجاب موسى عليه السلام بأربعة أشياء ثلاثة على التفصيل وواحد على الإجمال الأول قوله هِى َ عَصَاى َ قرأ ابن أبي إسحق ( هي عصي ) ومثلها ( يا بشرى ) قرأ الحسن ( هي عصاي ) بسكون الياء والنكث ههنا ثلاثة إحداها أنه قال هِى َ عَصَاى َ فذكر العصا ومن كان قلبه مشغولاً بالعصا ومنافعها كيف يكون مستغرقاً في بحر معرفة الحق ولكن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) عرض عليه الجنة والنار فلم يلتفت إلى شيء مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( النجم 17 ) ولما قيل له امدحنا قال ( لا أحصي ثناء عليك ) ثم نسي نفسه ونسي ثناءه فقال ( أنت كما أثنيت على نفسك ) وثانيها لما قال عَصَاى َ قال الله سبحانه وتعالى أَلْقَاهَا فلما ألقاها فَإِذَا هِى َ حَيَّة ٌ تَسْعَى ليعرف أن كل ما سوى الله فالالتفات إليه شاغل وهو كالحية المهلكة لك ولهذا قال الخليل عليه السلام فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ وفي الحديث ( يجاء يوم القيامة بصاحب المال الذي لم يؤد زكاته ويؤتي بذلك المال على صورة شجاع أقرع ) الحديث بتمامه وثالثها أنه قال هي عصاي فقد تم الجواب إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الأخر لأنه كان يحب المكالمة مع ربه فجعل ذلك كالوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض الثاني قوله قَالَ هِى َ والتوكي والإتكاء واحد كالتوقي والإتقاء معناه اعتمد عليها إذا عييت أو وقفت على رأس القطيع أو عند الطفرة فجعل موسى عليه السلام نفسه متوكئاً على العصا وقال الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( اتكىء على رحمتي ) بقوله تعالى حَكِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الأنفال 64 ) وقال وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) فإن قيل أليس قوله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يقتضي كون محمد يتوكأ على المؤمنين قلنا قوله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ معطوف على الكاف في قوله حَسْبَكَ اللَّهُ والمعنى الله حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين الثالث قوله وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى أي أخبط بها فأضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها على غنمي فتأكله وقال أهل اللغة هش على غنمه يهش بضم الهاء في المستقبل وهششت الرجل أهش بفتح الهاء في المستقبل وهش الرغيف يهش بكسر الهاء قاله ثعلب وقرأ

عكرمة ( وأهس ) بالسين غير المنقوطة والهش زجر الغنم واعلم أن غنمه رعيته فبدأ بمصالح نفسه في قوله قَالَ هِى َ ثم بمصالح رعيته في قوله وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى فكذلك في القيامة يبدأ بنفسه فيقول نفسي نفسي ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر الأمة وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( الأنفال 33 ) ( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) فلا جرم يوم القيامة يبدأ أيضاً بأمته فيقول ( أمتي أمتي ) والرابع قوله وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى أي حوائج ومنافع واحدتها مأربة بفتح الراء وضمها وحكى ابن الأعرابي وقطرب بكسر الراء أيضاً والأرب بفتح الراء والإربة بكسر الألف وسكون الراء الحاجة وإنما قال أخرى لأن المآرب في معنى جماعة فكأنه قال جماعة من الحاجات أخرى ولو جاءت أخر لكان صواباً كما قال فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( البقرة 184 ) ثم ههنا نكت إحداها أنه لما سمع قول الله تعالى وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ عرف أن لله فيه أسراراً عظيمة فذكر ما عرف وعبر عن البواقي التي ما عرفها إجمالاً لا تفصيلاً بقوله وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى وثانيها أن موسى عليه السلام أحس بأنه تعالى إنما سأله عن أمر العصا لمنافع عظيمة فقال موسى إلهي ما هذه العصا إلا كغيرها لكنك لما سألت عنها عرفت أن لي فيها مآرب أخرى ومن جملتها أنك كلمتني بسببها فوجدت هذا الأمر العظيم الشريف بسببها وثالثها أن موسى عليه السلام أجمل رجاء أن يسأل ربه عن تلك المآرب فيسمع كلام الله مرة أخرى ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك ورابعها أنه بسبب اللطف انطلق لسانه ثم غلبته الدهشة فانقطع لسانه وتشوش فكره فأجمل مرة أخرى ثم قال وهب كانت ذات شعبتين كالمحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا حاول كسره لواه بالشعبتين ( و ) إذا سار وضعها على عاتقه يعلق فيها أدواته من القوس والكنانة والثياب وإذا كان في البرية ركزها وألقى كساء عليها فكانت ظلاً وقيل كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً ويصيران شمعتين في الليالي وإذا ظهر عدو حاربت عنه وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت وكان يحمل عليها زاده وماءه وكانت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نصب وكانت تقيه الهوام واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر هذه الجوابات أمره الله تعالى بإلقاء العصا فقال أَلْقِهَا يامُوسَى مُوسَى وفيه نكت إحداها أنه عليه السلام لما قال وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى أراد الله أن يعرفه أن فيها مأربة أخرى لا يفطن لها ولا يعرفها وأنها أعظم من سائر مآربه فقال أَلْقِهَا يامُوسَى يامُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِى َ حَيَّة ٌ تَسْعَى وثانيتها كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب فقال أولاً فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ( طه 12 ) إشارة إلى ترك الهرب ثم قال ألقها يا موسى وهو إشارة إلى ترك الطلب كأنه سبحانه قال إنك ما دمت في مقام الهرب والطلب كنت مشتغلاً بنفسك وطالباً لحظك فلا تكون خالصاً لمعرفتي فكن تاركاً للهرب والطلب لتكون خالصاً لي وثالثتها أن موسى عليه السلام مع علو درجته وكمال منقبته لما وصل إلى الحضرة ولم يكن معه إلا النعلان والعصا أمره بالقائهما حتى أمكنه الوصول إلى الحضرة فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابة ورابعتها أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان مجرداً عن الكل ما زاغ البصر فلا جرم وجد الكل لعمرك أما موسى لما بقي معه تلك العصا لا جرم أمره بإلقاء العصا واعلم أن الكعبي تمسك به في أن الاستطاعة قبل الفعل فقال القدرة على إلقاء العصا إما أن توجد والعصا في يده أو خارجة من يده فإن أتته القدرة وهي في يده فذاك قولنا وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( آل عمران 182 ) وإذا أتته وليست في يده وإنما استطاع أن يلقي من يده ما ليس في يده فذلك محال أما قوله فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِى َ حَيَّة ٌ تَسْعَى ففيه أسئلة

السؤال الأول ما الحكمة في قلب العصا حية في ذلك الوقت الجواب فيه وجوه أحدها أنه تعالى قلبها حية لتكون معجزة لموسى عليه السلام يعرف بها نبوة نفسه وذلك لأنه عليه السلام إلى هذا الوقت ما سمع إلا النداء والنداء وإن كان مخالفاً للعادات إلا أنه لم يكن معجزاً لاحتمال أن يكون ذلك من عادات الملائكة أو الجن فلا جرم قلب الله العصا حية ليصير ذلك دليلاً قاهراً والعجب أن موسى عليه السلام قال أتوكأ عليها فصدقه الله تعالى فيه وجعلها متكأ له بأن جعلها معجزة له وثانيها أن النداء كان إكراماً له فقلب العصا حية مزيداً في الكرامة ليكون توالي الخلع والكرامات سبباً لزوال الوحشة عن قلبه وثالثها أنه عرض عليه ليشاهده أولاً فإذا شاهده عند فرعون لا يخافه ورابعها أنه كان راعياً فقيراً ثم إنه نصب للمنصب العظيم فلعله بقي في قلبه تعجب من ذلك فقلب العصا حية تنبيهاً على أني لما قدرت على ذلك فكيف يستبعد مني نصرة مثلك في إظهار الدين وخامسها أنه لما قال قَالَ هِى َ عَصَاى َ أَتَوَكَّؤُا إلى قوله وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى فقيل له أَلْقَاهَا فلما ألقاها وصارت حية فر موسى عليه السلام منها فكأنه قيل له ادعيت أنها عصاك وأن لك فيها مآرب أخرى فلم تفر منها تنبيهاً على سر قوله فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ ( الذاريات 50 ) وقوله قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ ( الأنعام 91 ) السؤال الثاني قال ههنا حية وفي موضع آخر ثعبان وجان أما الحية فاسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير وأما الثعبان والجان فبينهما تناف لأن الثعبان العظيم من الحيات والجان الدقيق وفيه وجهان أحدهما أنها كانت وقت انقلابها حية صغيرة دقيقة ثم تورمت وتزايد جرمها حتى صارت ثعباناً فأريد بالجان أول حالها وبالثعبان مآلها والثاني أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجان والدليل عليه قوله تعالى فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ السؤال الثالث كيف كانت صفة الحية الجواب كان لها عرف كعرف الفرس وكان بين لحييها أربعون ذراعاً وابتلعت كل ما مرت به من الصخور والأشجار حتى سمع موسى صرير الحجر في فمها وجوفها أما قوله تعالى قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاْولَى ففيه سؤالات السؤال الأول لما نودي موسى وخص بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه معبوث من عند الله تعالى إلى الخلق فلم خاف والجواب من وجوه أحدها أن ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه عليه السلام ما شاهد مثل ذلك قط وأيضاً فهذه الأشياء معلومة بدلائل العقول وعند الفزع الشديد قد يذهل الإنسان عنه قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري رحمه الله تعالى وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه ألبتة وثانيها قال بعضهم خافها لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم منها وثالثها أن مجرد قوله لاَ تَخَفْ لا يدل على حصول الخوف كقوله تعالى وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ ( الأحزاب 1 ) لا يدل على وجود تلك الطاعة لكن قوله فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً ( النمل 10 ) يدل عليه ولكن ذلك الخوف إنما ظهر ليظهر الفرق بينه وبين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه عليه السلام أظهر تعلق القلب بالعصا والنفرة عن الثعبان وأما محمد عليه السلام فما أظهر الرغبة في الجنة ولا النفرة عن النار السؤال الثاني متى أخذها بعد انقلابها عصا أو قبل ذلك والجواب روي أنه أدخل يده بين أسنانها فانقلبت خشبة والقرآن يدل عليه أيضاً بقوله سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاْولَى وذلك يقع في الاستقبال وأيضاً فهذا أقرب للكرامة لأنه كما أن انقلاب العصا حية معجزة فكذلك إدخال يده في فمها من غير ضرر معجزة وانقلابها

خشباً معجز آخر فيكون فيه توالي المعجزات فيكون أقوى في الدلالة السؤال الثالث كيف أخذه أمع الخوف أو بدونه والجواب روي مع الخوف ولكنه بعيد لأن بعد توالي الدلائل يبعد ذلك وإذا علم موسى عليه السلام أنه تعالى عند الأخذ سيعيدها سيرتها الأولى فكيف يستمر خوفه وقد علم صدق هذا القول وقال بعضهم لما قال له ربه لاَ تَخَفْ بلغ من ذلك ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه إلى أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها السؤال الرابع ما معنى سيرتها الأولى والجواب قال صاحب ( الكشاف ) السيرة من السير كالركبة من الركوب يقال سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة السؤال الخامس علام انتصب سيرتها الجواب فيه وجهان أحدهما بنزع الخافض يعني إلى سيرتها وثانيهما أن يكون سنعيدها مستقلاً بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها كانت أولاً عصا فصارت حية فسنجعلها عصا كما كانت فنصب سيرتها بفعل مضمر أي تسير سيرتها الأولى يعني سنيعدها سائرة بسيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُو ءٍ ءَايَة ً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى
اعلم أن هذا هو المعجزة الثانية وفيه مسائل
المسألة الأولى يقال لك ناحيتين جناحان كجناحي العسكر لطرفيه وجناحا الإنسان جنباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر لأنه يجنحهما عند الطيران وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما إلى جناحك إلى صدرك والأول أولى لأن يدي الإنسان يشبهان جناحي الطائر لأنه قال تَخْرُجْ بَيْضَاء ولو كان المراد بالجناح الصدر لم يكن لقوله تُخْرِجُ معنى واعلم أن معنى ضم اليد إلى الجناح ما قال في آية أخرى وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ ( النمل 12 ) لأنه إذا أدخل يده في جيبه كان قد ضم يده إلى جناحه والله أعلم
المسألة الثانية السوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة والبرص أبغض شيء إلى العرب فكان جديراً بأن يكنى عنه يروى أنه عليه السلام كان شديد الأدمة فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه وأدخلها تحت إبطه الأيسر وأخرجها كانت تبرق مثل البرق وقيل مثل الشمس من غير برص ثم إذا ردها عادت إلى لونها الأول بلا نور
المسألة الثالثة بيضاء وآية حالان معاً ومن غير سوء من صلة البيضاء كما تقول ابيضت من غير سوء وفي نصب آية وجه آخر وهو أن يكون بإضمار نحو خذ ودونك وما أشبه ذلك حذف لدلالة الكلام وقد تعلق بهذا المحذوف لنريك أي خذ هذه الآية أيضاً بعد قلب العصا لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى أو لنريك بهما

الكبرى من آياتنا أو لنريك من آياتنا الكبرى فعلنا ذلك فإن قيل الكبرى من نعت الآيات فلم لم يقل الكبر قلنا بل هي نعت الآية والمعنى لنريك الآية الكبرى ولئن سلمنا ذلك فهو كما قدمنا في قوله مَأَرِبُ أُخْرَى ( طه 18 ) و الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( طه 8 )
المسألة الرابعة قال الحسن اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه تعالى ذكر لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى عقيب ذكر اليد وهذا ضعيف لأنه ليس في اليد إلا تغير اللون وأما العصا ففيه تغير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الحجر والشجر ثم عاد عصا بعد ذلك فقد وقع التغير مرة أخرى في كل هذه الأمور فكانت العصا أعظم وأما قوله لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى فقد بينا أنه عائد إلى الكل وأنه غير مختص باليد
المسألة الخامسة أنه سبحانه وتعالى لما أظهر له هذه الآية عقبها بأن أمره بالذهاب إلى فرعون وبين العلة في ذلك وهي أنه طغى وإنما خص فرعون بالذكر مع أن موسى عليه السلام كان مبعوثاً إلى الكل لأنه ادعى الإلهية وتكبر وكان متبوعاً فكان ذكره أولى قال وهب قال الله تعالى لموسى عليه السلام ( اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وإني أقسم بعزتي لولا الحجة والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ولكن هان علي وسقط من عيني فبلغه عني رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقل له قولاً ليناً لا يغترن بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل قال فسكت موسى سبعة أيام لا يتكلم ثم جاءه ملك فقال أجب ربك فيما أمرك بعبده )
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى وَاحْلُلْ عُقْدَة ً مِّن لِّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي وَاجْعَل لِّى وَزِيراً مِّنْ أَهْلِى هَارُونَ أَخِى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى كَى ْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً
اعلم أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون وكان ذلك تكليفاً شاقاً فلا جرم سأل ربه أموراً ثمانية ثم ختمها بما يجري مجرى العلة لسؤال تلك الأشياء
المطلوب الأول قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى واعلم أنه يقال شرحت الكلام أي بينته وشرحت صدره أي وسعته والأول يقرب منه لأن شرح الكلام لا يحصل إلا ببسطة والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر وهو قوله وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى ( الشعراء 13 ) فسأل الله تعالى أن يبدل ذلك الضيق بالسعة وقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى فأفهم عنك ما أنزلت علي من الوحي وقيل

شجعني لأجترىء به على مخاطبة فرعون ثم الكلام فيه يتعلق بأمور أحدها فائدة الدعاء وشرائطه وثانيها ما السبب في أن الإنسان لا يذكر وقت الدعاء من أسماء الله تعالى إلا الرب وثالثها ما معنى شرح الصدر ورابعها بماذا يكون شرح الصدر وخامسها كيف كان شرح الصدر في حق موسى عليه السلام ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وسادسها صفة صدر موسى عليه السلام هل كان منشرحاً أو لم يكن منشرحاً فإن كان منشرحاً كان طلب شرح الصدر تحصيلاً للحاصل وهو محال وإن لم يكن منشرحاً فهو باطل من وجهين الأول أنه سبحانه بين له فيما تقدم كل ما يتعلق بالأديان من معرفة الربوبية والعبودية وأحوال المعاد وكل ما يتعلق بشرح الصدر في باب الدين فقد حصل ثم إنه سبحانه تلطف له بقوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ( طه 13 ) ثم كلمه على سبيل الملاطفة بقوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 17 ) ثم أظهر له المعجزات العظيمة والكرامات الجسيمة ثم أعطاه منصب الرسالة بعد أن كان فقيراً وكل ما يتعلق به الإعزاز والإكرام فقد حصل ولو أن ذرة من هذه المناصب حصلت لأدون الناس لصار منشرح الصدر فبعد حصولها لكليم الله تعالى يستحيل أن لا يصير منشرح الصدر والثاني أنه لما لم يصر منشرح الصدر بعد هذه الأشياء لم يجز من الله تعالى تفويض النبوة إليه فإن من كان ضيق القلب مشوش الخاطر لا يصلح للقضاء على ما قال عليه السلام ( لا يقضي القاضي وهو غضبان ) فكيف يصلح للنبوة التي أقل مراتبها القضاء فهذا مجموع الأمور التي لا بد من البحث عنها في هذه الآية
أما البحث الأول وهو فائدة الدعاء وشرائطه فقد تقدم في تفسير قوله رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ( البقرة 286 ) إلا أنه نذكر منها ههنا بعض الفوائد المتعلقة بهذا الموضع فنقول اعلم أن للكمال مراتب ودرجات وأعلاها أن يكون كاملاً في ذاته مكملاً لغيره أما كونه كاملاً في ذاته فكل ما كان كذلك كان كماله من لوازم ذاته وكل ما كان كذلك كان كاملاً في الأزل ولكنه يستحيل أن يكون مكملاً في الأزل لأن التكميل عبارة عن جعل الشيء كاملاً وذلك لا يتحقق إلا عند عدم الكمال فإنه لو كان حاصلاً في الأزل لاستحال التأثير فيه فإن تحصيل الحاصل محال وتكوين الكائن ممتنع فلا جرم أنه سبحانه وإن كان كاملاً في الأزل إلا أنه يصير مكملاً فيما لا يزال فإن قيل إذا كان التكميل من صفات الكمال فحيث لم يكن مكملاً في الأزل فقد كان عارياً عن صفات الكمال فيكون ناقصاً وهو محال قلنا النقصان إنما يلزم لو كان ذلك ممكناً في الأزل لكنا بينا أن الفعل الأزلي محال فالتكميل الأزلي محال فعدمه لا يكون نقصاناً كما أن قولنا إنه لا يقدر على تكوين مثل نفسه لا يكون نقصاناً لأنه غير ممكن الوجود في نفسه وكقولنا إنه لا يعلم عدداً مفصلاً كحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه وحركات أهل الجنة غير متناهية فلا يكون له عدد مفصل فامتنع ذلك لا لقصور في العلم بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول إذا ثبت هذا فنقول إنه سبحانه وتعالى لما قصد إلى التكوين وكان الغرض منه تكميل الناقصين لأن الممكنات قابلة للوجود وصفة الوجود صفة كمال فاقتضت قدرة الله تعالى على التكميل وضع مائدة الكمال للممكنات فأجلس على المائدة بعض المعدومات دون البعض لأسباب أحدها أن المعدومات غير متناهية فلو أجلس الكل على مائدة الوجود لدخل ما لا نهاية له

في الوجود وثانيها أنه لو أوجد الكل لما بقي بعد ذلك قادراً على الإيجاد لأن إيجاد الموجود محال فكان ذلك وإن كان كمالاً للناقص لكنه يقتضي نقصان الكامل فإنه ينقلب القادر من القدرة إلى العجز وثالثها أنه لو دخل الكل في الوجود لما بقي فيه تمييز فلا يتميز القادر على الموجب والقدرة كمال والإيجاب بالطبع نقصان فلهذه الأسباب أخرج بعض الممكنات إلى الوجود فإن قيل عليه سؤالان أحدهما أن الموجودات متناهية والمعدومات غير متناهية ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي فتكون أيضاً الضيافة ضيافة للأقل وأما الحرمان فإنه عدد لما لا نهاية له وهذا لا يكون وجوداً الثاني أن البعض الذي خصه بهذه الضيافة إن كان لاستحقاق حصل فيه دون غيره فذلك الاستحقاق ممن حصل وإن كان لا لهذا الاستحقاق كان ذلك عبثاً وهو محال كما قيل يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرماً
وإنه لا يليق بأكرم الأكرمين والجواب عن الكل أن هذه الشبهات إنما تدور في العقول والخيالات لأن الإنسان يحاول قياس فعله على فعلنا وذلك باطل لأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون إذا عرفت هذا فهذا الوجود الفائض من نور رحمته على جميع الممكنات هو الضيافة العامة والمائدة الشاملة وهو المراد من قوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء ( الأعراف 156 ) ثم إن الموجودات انقسمت إلى الجمادات وإلى الحيوانات ولا شك أن الجماد بالنسبة إلى الحيوان كالعدم بالنسبة إلى الوجود لأن الجماد لا خبر عنده من وجوده فوجوده بالنسبة إليه كالعدم وعدمه كالوجود وأما الحيوان فهو الذي يميز بين الموجود والمعدوم ويتفاوتان بالنسبة إليه ولأن الجماد بالنسبة إلى الحيوان آلة لأن الحيوانات تستعمل الجمادات في أغراض أنفسها ومصالحها وهي كالعبد المطيع المسخر والحيوان كالمالك المستولي فكانت الحيوانية أفضل من الجمادية فكما أن إحسان الله ورحمته اقتضيا وضع مائدة الوجود لبعض المعدومات دون البعض كذلك اقتضيا وضع مائدة الحياة لبعض الموجودات دون البعض فلا جرم جعل بعض الموجودات أحياء دون البعض والحياة بالنسبة إلى الجمادية كالنور بالنسبة إلى الظلمة والبصر بالنسبة إلى العمى والوجود بالنسبة إلى العدم فعدن ذلك صار بعض الموجودات حياً مدركاً للمنافي والملائم واللذة والألم والخير والشر فمن ثم قالت الأحياء عند ذلك يا رب الأرباب إنا وإن وجدنا خلعة الوجود وخلعة الحياة وشرفتنا بذلك لكن ازدادت الحاجة لأنا حال العدم وحال الجمادية ما كنا نحتاج إلى الملائم والموافق وما كنا نخاف المنافي والمؤذي ولما حصل الوجود والحياة احتجنا إلى طلب الملائم ودفع المنافي فإن لم تكن لنا قدرة على الهرب والطلب والدفع والجذب لبقينا كالزمن المقعد على الطريق عرضة للآفات وهدفاً لسهام البليات فأعطنا من خزائن رحمتك القدرة والقوة التي بها نتمكن من الطلب تارة والهرب أخرى فاقتضت الرحمة التامة تخصيص بعض الأحياء بالقدرة كما اقتضت تخصيص بعض الموجودات بالحياة وتخصيص بعض المعدومات بالوجود فقال القادرون عند ذلك إلهنا الجواد الكريم إن الحياة والقدرة بلا عقل لا تكون إلا لأحد القسمين إما للمجانين المقيدين بالسلاسل والأغلال وإما للبهائم المستعملة في حمل الأثقال وكل ذلك من صفات النقصان وأنت قد رقيتنا من حضيض النقصان إلى أوج الكمال فأفض علينا من العقل الذي هو أشرف مخلوقاتك وأعز مبدعاتك الذي شرفته بقولك ( بك أهين وبك أثيب وبك أعاقب ) حتى تفوز من خزائن رحمتك بالخلع الكاملة والفضيلة التامة فأعطاهم العقل وبعث في أرواحهم نور البصيرة وجوهر الهداية

فعند هذه الدرجة فازوا بالخلع الأربعة الوجود والحياة والقدرة والعقل فالعقل خاتم الكل والخاتم يجب أن يكون أفضل ألا ترى أن رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان خاتم النبيين كان أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والإنسان لما كان خاتم المخلوقات الجسمانية كان أفضلها فكذلك العقل لما كان خاتم الخلع الفائضة من حضرة ذي الجلال كان أفضل الخلع وأكملها ثم نظر العقل في نفسه فرأى نفسه كالجفنة المملوءة من الجواهر النفيسة بل كأنها سماء مملوءة من الكواكب الزاهرة وهي العلوم الضرورية البديهية المركوزة في بدائه العقول وصرائح الأذهان وكما أن الكواكب المركوزة في السموات علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر فكذلك الجواهر المركوزة في سماء العقل كواكب زاهرة يهتدي بها السائرون في ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار العالم الروحانية وفسحة السموات وأضوائها فلما نظر العقل إلى تلك الكواكب الزاهرة والجواهر الباهرة رأى رقم الحدوث على تلك الجواهر وعلى جميع تلك الخلع فاستدل بتلك الأرقام على راقم وبتلك النقوش على ناقش وعند ذلك عرف أن النقاش بخلاف النقش والباني بخلاف البناء فانفتح له من أعلى سماء عالم المحدثات روازن إلى أضواء لوائح عالم القدم وطالع عالم القدم الأزلية والجلال وكان العقل إنما نظر إلى أضواء عالم الأزلية من ظلمات عالم الحدوث والإمكان فغلبته دهشة أنوار الأزلية فعميت عيناه فبقي متحيراً فالتجأ بطبعه إلى مفيض الأنوار فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى فإن البحار عميقة والظلمات متكاثفة وفي الطريق قطاع من الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الإنس والجن كثيرة فإن لم تشرح لي صدري ولم تكن لي عوناً في كل الأمور انقطعت وصارت هذه الخلع سبباً لنيل الآفات لا للفوز بالدرجات فهذا هو المراد من قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ثم قال وَيَسّرْ لِى أَمْرِى وذلك لأن كل ما يصدر من العبد من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات فما لم يصر العبد مريداً له استحال أن يصير فاعلاً له فهذه الإرادة صفة محدثة ولا بد لها من فاعل وفاعلها إن كان هو العبد افتقر في تحصيل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل بل لا بد من الانتهاء إلى إرادة يخلقها مدبر العالم فيكون في الحقيقة هو الميسر للأمور وهو المتمم لجميع الأشياء وتمام التحقيق أن حدوث الصفة لا بد له من قابل وفاعل فعبر عن استعداد القابل بقوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وعبر عن حصول الفاعل بقوله وَيَسّرْ لِى أَمْرِى وفيه التنبيه على أنه سبحانه وتعالى هو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يقولون يا مبتدئاً بالنعم قبل استحقاقها ومجموع هذين الكلامين كالبرهان القاطع على أن جميع الحوادث في هذا العالم واقعة بقضائه وقدره وحكمته وقدرته ويمكن أن يقال أيضاً كأن موسى عليه السلام قال إلهي لا أكتفي بشرح الصدر ولكن أطلب منك تنفيذ الأمر وتحصيل الغرض فلهذا قال وَيَسّرْ لِى أَمْرِى أو يقال إنه سبحانه وتعالى لما أعطاه الخلع الأربع وهي الوجود والحياة والقدرة والعقل فكأنه قال له يا موسى أعطيتك هذه الخلع الأربع فلا بد في مقابلتها من خدمات أربع لتقابل كل نعمة بخدمة فقال موسى عليه السلام ما تلك الخدمات فقال وأقم الصلاة لذكري فإن فيها أنواعاً أربعة من الخدمة القيام والقراءة والركوع والسجود فإذا أتيت بالصلاة فقد قابلت كل نعمة بخدمة ثم إنه تعالى لما أعطاه الخلعة الخامسة وهي خلعة الرسالة قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى حتى أعرف أني بأي خدمة أقابل هذه النعمة فقيل له بأن تجتهد في أداء هذه الرسالة على الوجه المطلوب فقال موسى يا رب إن هذا لا يتأتى مني مع عجزي وضعفي وقلة آلاتي وقوة خصمي فاشرح لي صدري ويسر لي أمري

الفصل الثاني في قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى اعلم أن الدعاء سبب القرب من الله تعالى وإنما اشتغل موسى بهذا الدعاء طلباً للقرب فتفتقر إلى بيان أمرين إلى بيان أن الدعاء سبب القرب ثم إلى بيان أن موسى عليه السلام طلب القرب بهذا الدعاء أما بيان أن الدعاء سبب القرب فيدل عليه وجوه الأول أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية أما الأصولية فأولها في البقرة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ ( البقرة 189 ) وثانيها في بني إسرائيل وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وثالثها وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً ( طه 105 ) ورابعها يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( النازعات 42 ) وأما الفروعية فستة منها في البقرة على التوالي أحدها يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ ( البقرة 215 ) وثانيها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ( البقرة 217 ) وثالثها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ( البقرة 219 ) ورابعها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ ( البقرة 219 ) وخامسها فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ ( البقرة 220 ) وسادسها وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ( البقرة 222 ) وسابعها يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ( الأنفال 1 ) وثامنها وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً ( الكهف 83 ) وتاسعها وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ ( يونس 53 ) وعاشرها يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ ( النساء 176 ) والحادية عشر وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) إذا عرفت هذا فنقول جاءت هذه الأسئلة والأجوبة على صور مختلفة فالأغلب فيها أنه سبحانه وتعالى لما ذكر السؤال قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قل وفي صورة أخرى جاء الجواب بصيغة فقل مع فاء التعقيب وفي صورة ثالثة ذكر السؤال ولم يذكر الجواب وهو قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( الأعراف 187 ) وفي صورة رابعة ذكر الجواب ولم يذكر فيه لفظ قل ولا لفظ فقل وهو قوله تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ولا بد لهذه الأشياء من الفائدة فنقول أما الأجوبة الواردة بلفظ قل فلا إشكال فيها لأن قوله تعالى قل كالتوقيع المحدد في ثبوت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكالتشريف المحدد في كونه مخاطباً من الله تعالى بأداء الوحي والتبليغ وأما الصورة الثانية وهي قوله فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً ( طه 105 ) فالسبب أن قولهم وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ( طه 105 ) سؤال إما عن قدمها أو عن وجوب بقائها وهذه المسألة من أمهات مسائل أصول الدين فلا جرم أمر الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجيب بلفظ الفاء المفيد للتعقيب كأنه سبحانه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تقتصر فإن الشك فيه كفر ولا تمهل هذا الأمر لئلا يقعوا في الشك والشبهة ثم كيفية الجواب أنه قال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً ولا شك أن النسف ممكن لأنه ممكن في حق كل جزء من أجزاء الجبل والحس يدل عليه فوجب أن يكون ممكناً في حق كل الجبل وذلك يدل على أنه ليس بقديم ولا واجب الوجود لأن القديم لا يجوز عليه التغير والنسف فإن قيل إنهم قالوا أخبرنا عن إلهك أهو ذهب أو فضة أو حديد فقال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) ولم يقل فقل هو الله أحد مع أن هذه المسألة من المهمات قلنا إنه تعالى لم يحك في هذا الموضع سؤالهم وحرف الفاء من الحروف العاطفة فيستدعي سبق كلام فلما لم يوجد ترك الفاء بخلاف ههنا فإنه

تعالى حكى سؤالهم فحسن عطف الجواب عليه بحرف الفاء وأما الصورة الثالثة فإنه تعالى لم يذكر الجواب في قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فالحكمة فيه أن معرفة وقت الساعة على التعيين مشتملة على المفاسد التي شرحناها فيما سبق فلهذا لم يذكر الله تعالى ذلك الجواب وذلك يدل على أن من الأسئلة ما لا يجاب عنها وأما الصورة الرابعة وهي قوله فَإِنّي قَرِيبٌ ولم يذكر في جوابه قل ففيه وجوه أحدها أن ذلك يدل على تعظيم حال الدعاء وأنه من أعظم العبادات فكأنه سبحانه قال يا عبادي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير الدعاء أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك يدل عليه أن كل قصة وقعت لم تكن معرفتها من المهمات قال لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) اذكر لهم تلك القصة كقوله تعالى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ْ ءادَمَ بِالْحَقّ ( المائدة 27 ) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءاتَيْنَاهُ ءايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ( الأعراف 175 ) وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مُوسَى ( مريم 51 ) وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ( مريم 54 ) وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ( مريم 56 ) وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ( الحجر 51 ) ثم قال في قصة يوسف نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( يوسف 3 ) وفي أصحاب الكهف نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقّ ( الكهف 13 ) وما ذاك إلالما في هاتين القصتين من العجائب والغرائب والحاصل كأنه سبحانه وتعالى قال يا محمد إذا سئلت عن غيري فكن أنت المجيب وإذا سئلت عني فاسكت أنت حتى أكون أنا القائل وثانيها أن قوله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي يدل على أن العبد له ( أن يسأل ) وقوله فَإِنّي قَرِيبٌ يدل على أن الرب قريب من العبد وثالثها لم يقل فالعبد مني قريب بل قال أنا منه قريب وهذا فيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو هو في مركز العدم وحضيض الفناء فكيف يكون قريباً بل القريب هو الحق سبحانه وتعالى فإنه بفضله وإحسانه جعله موجوداً وقربه من نفسه فالقرب منه لا من العبد فلهذا قال فَإِنّي قَرِيبٌ ورابعها أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولاً بغير الله تعالى فإنه لا يكون داعياً لله تعالى فإذا فنى عن الكل وصار مستغرقاً بمعرفة الله الأحد الحق امتنع أن يبقى في مقام الفناء عن غير الله مع الالتفات إلى غير الله تعالى فلا جرم رفعت الواسطة من البين فما قال فقل إني قريب بل قال فَإِنّي قَرِيبٌ فثبت بما تقرر فضل الدعاء وأنه من أعظم القربات ثم من شأن العبد إذا أراد أن يتحف مولاه أن لا يتحفه إلا بأحسن التحف والهدايا فلا جرم أول ما أراد موسى أن يتحف الحضرة الإلهية بتحف الطاعات والعبادات أتحفها بالدعاء فلا جرم قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والوجه الثاني في بيان فضل الدعاء قوله عليه السلام ( الدعاء مخ العبادة ) ثم إن أول شيء أمر الله تعالى به موسى عليه السلام ( العبادة ) لأن قوله إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ( طه 14 ) إخبار وليس بأمر إنما الأمر قوله فَاعْبُدْنِى ( طه 14 ) فلما كان أول ما أورد على موسى من الأوامر هو الأمر بالعبادة لا جرم أول ما أتحف به موسى عليه السلام حضرة الربوبية من تحف العبادة هو تحفة الدعاء فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والوجه الثالث وهو أن الدعاء نوع من أنواع العبادة فكما أنه سبحانه وتعالى أمر بالصلاة والصوم فكذلك أمر بالدعاء ويدل عليه قوله تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ ( البقرة 186 ) وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ( الأعراف 56 ) ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً

( الأعراف 55 ) هُوَ الْحَى ُّ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( غافر 65 ) قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ ( الإسراء 110 ) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَة ً ( الأعراف 205 ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ادعوا بياذا الجلال والإكرام ) فبهذه الآيات عرفنا أن الدعاء عبادة قال بعض الجهال الدعاء على خلاف العقل من وجوه أحدها أنه علام الغيوب يعلم ما في الأنفس وما تخفي الصدور فأي حاجة بنا إلى الدعاء وثانيها أن المطلوب إن كان معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الدعاء وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه وثالثها الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى سوء أدب ورابعها المطلوب بالدعاء إن كان من المصالح فالحكيم لا يهمله وإن لم يكن من المصالح لم يجز طلبه وخامسها فقد جاء أن أعظم مقامات الصديقين الرضا بقضاء الله تعالى وقد ندب إليه والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالالتماس والطلب وسادسها قال عليه السلام رواية عن الله تعالى ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ) فدل على أن الأولى ترك الدعاء والآيات التي ذكرتموها تقتضي وجوب الدعاء وسابعها أن إبراهيم عليه السلام لما ترك الدعاء واكتفى بقوله ( حسبي من سؤالي علمه بحالي ) استحق المدح العظيم فدل على أن الأولى ترك الدعاء والجواب عن الأول أنه ليس الغرض من الدعاء الأعلام بل هو نوع تضرع كسائر التضرعات وعن الثاني أنه يجري مجرى أن نقول للجائع والعطشان إن كان الشبع معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الأكل والشرب وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه وعن الثالث أن الصيغة وإن كانت صيغة الأمر إلا أن صورة التضرع والخشوع تصرفه عن ذلك وعن الرابع يجوز أن يصير مصلحة بشرط سبق الدعاء وعن الخامس أنه إذا دعا إظهاراً للتضرع ثم رضي بما قدره الله تعالى فذاك أعظم المقامات وهو الجواب عن البقية إذا ثبت أنه من العبادات ثم إنه تعالى أمره بالعبادة وبالصلاة أمراً ورد مجملاً لا جرم شرع في أجل العبادات وهو الدعاء الوجه الرابع في فضل الدعاء أنه سبحانه لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه يغضب إذا لم يسأل فقال فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ ( الأنعام 43 ) وقال عليه السلام ( لا يقولون أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت ) ولكن يجزم فيقول اللهم اغفر لي فلهذا السر جزم موسى عليه السلام بالدعاء وقال رب اشرح لي صدري الوجه الخامس في فضل الدعاء قوله تعالى وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) وفيه كرامة عظيمة لأمتنا لأن بني إسرائيل فضلهم الله تفضيلاً عظيماً فقال في حقهم وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 47 ) وقال أيضاً وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ ( المائدة 20 ) ثم مع هذه الدرجة العظيمة قالوا لموسى عليه السلام ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِى َ ( البقرة 68 ) وأن الحواريين مع جلالتهم في قولهم نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ( آل عمران 52 ) سألوا عيسى عليه السلام أن يسأل لهم مائدة تنزل من السماء ثم إنه سبحانه وتعالى رفع هذه الواسطة في أمتنا فقال مخاطباً لهم من غير واسطة ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ وقال وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ( النساء 32 ) فلهذا السبب لما حصلت هذه الفضيلة لهذه الأمة وكان موسى عليه السلام قد عرفها لا جرم فقال ( اللهم اجعلني من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فلا جرم رفع يديه ابتداء فقال

رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى واعلم أنه تعالى قال وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) ثم إنه تعالى جعل العباد على سبعة أقسام أحدها عبد العصمة إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر 42 ) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بمزيد العصمة وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى ( طه 41 ) فلا جرم طلب زوائد العصمة فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وثانيها عبد الصفوة وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ( النمل 59 ) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بمزيد الصفوة قَالَ يامُوسَى إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ( الأعراف 144 ) فلا جرم أراد مزيد الصفوة فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وثالثها عبد البشارة فَبَشّرْ عِبَادِى الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ( الزمر 17 18 ) وكان موسى عليه السلام مخصوصاً بذلك وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ( طه 13 ) فأراد مزيد البشارة فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ورابعها عبد الكرامة الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ( الزخرف 68 ) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بذلك لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا ( طه 46 ) فأراد الزيادة عليها فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وخامسها عبد المغفرة نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( الحجر 49 ) وكان موسى عليه السلام مخصوصاً بذلك رَبّ اغْفِرْ لِى ( ص 35 ) فغفر له فأراد الزيادة فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وسادسها عبد الخدمة اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ( البقرة 21 ) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بذلك وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى فطلب الزيادة فيها فقال اشْرَحْ لِى صَدْرِى وسابعها عبد القربة وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ( البقرة 186 ) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بالقرب وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاْيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ( مريم 52 ) فأراد كمال القرب فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى
الفصل الثالث في قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وفيه وجوه أحدها أنه تعالى لما خاطبه بالأشياء الستة ( التي ) أحدها معرفة التوحيد إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ ( طه 14 ) وثانيها أمره بالعبادة والصلاة إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا ( طه 14 ) وثالثها معرفة الآخرة إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ ( طه 15 ) ورابعها حكمة أفعاله في الدنيا وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 17 ) وخامسها عرض المعجزات الباهرة عليه لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى ( طه 23 ) وسادسها إرساله إلى أعظم الناس كفراً وعتواً فكانت هذه التكاليف الشاقة سبباً للقهر فأراد موسى عليه السلام جبر هذا القهر بالمعجز فعرفه أن كل من سأله قرب منه فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى فأراد جبر القهر الحاصل من هذه التكاليف بالقرب منه فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى أو يقال خاف شياطين الإنس والجن فدعا ليصل بسبب الدعاء إلى مقام القرب فيصير مأموناً من غوائل شياطين الجن والإنس وثانيها أن المراد أنه أراد الذهاب إلى فرعون وقومه فأراد أن يقطع طمع الخلق عن نفسه بالكلية فعرف أن من دعا ربه قربه له وقربه لديه فحينئذ تنقطع الأطماع بالكلية فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وثالثها الوجود كالنور والعدم كالظلمة وكل ما سوى الله تعالى فهو عدم محض فكل شيء هالك إلا وجهه فالكل كأنهم في ظلمات العدم وإظلال عالم الأجسام والإمكان فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى حتى يجلس قلبي في بهي ضوء المعرفة وسادة شرح الصدر والجالس في الضوء لا يرى من كان جالساً في الظلمة فحين جلس في ضوء شرح الصدر لا يرى أحداً في الوجود فلهذا عقبه بقوله وَيَسّرْ لِى أَمْرِى فإن العبد في مقام الاستغراق لا يتفرغ لشيء من المهمات ورابعها رب اشرح لي صدري فإن عين العين ضعيفة فأطلع يا إلهي شمس التوفيق حتى أرى كل شيء كما

هو وهذا في معنى قول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( أرنا الأشياء كما هي ) واعلم أن شرح الصدر مقدمة لسطوع الأنوار الإلهية في القلب والاستماع مقدمة الفهم الحاصل من سماع الكلا فالله تعالى أعطى موسى عليه السلام المقدمة الثانية وهي فاستمع لما يوحى فلا جرم نسج موسى على ذلك المنوال فطلب المقدمة الأخرى فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ولما آل الأمر إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قيل له وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) والعلم هو المقصود فلما كان موسى عليه السلام كالمقدمة لمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا جرم أعطى المقدمة ولما كان محمد كالمقصود لا جرم أعطى المقصود فسبحانه ما أدق حكمته في كل شيء وسادسها الداعي له صفتان إحداهما أن يكون عبداً للرب وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) وثانيتهما أن يكون الرب له وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) أضاف نفسه إلينا وما أضافنا إلى نفسه والمشتغل بالدعاء قد صار كاملاً من هذين الوجهين فأراد موسى عليه السلام أن يرتع في هذا البستان فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وسابعها أن موسى عليه السلام شرفه الله تعالى بقوله وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ( مريم 52 ) فكأن موسى عليه السلام قال إلهي لما قلت وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً صرت قريباً منك ولكن أريد قربك مني فقال يا موسى أما سمعت قولي وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ فأشتغل بالدعاء حتى أصير قريباً منك فعند ذلك قَالَ رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وثامنها قال موسى عليه السلام رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وقال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ( الشرح 1 ) ثم إنه تعالى ما تركه على هذه الحالة بل قال وَسِرَاجاً مُّنِيراً ( الأحزاب 46 ) فانظر إلى التفاوت فإن شرح الصدر هو أن يصير الصدر قابلاً للنور والسراج المنير هو أن يعطي النور فالتفاوت بين موسى عليه السلام ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) كالتفاوت بين الآخذ والمعطي ثم نقول إلهنا إن ديننا وهي كلمة لا إله إلا الله نور والوضوء نور والصلاة نور والقبر نور والجنة نور فبحق أنوارك التي أعطيتنا في الدنيا لا تحرمنا أنوار فضلك وإحسانك يوم القيامة الفصل الرابع في قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن شرح الصدر فقال نور يقذف في القلب فقيل وما أمارته فقال التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل النزول ويدل على أن شرح الصدر عبارة عن النور قوله تعالى أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ ( الزمر 22 ) واعلم أن الله تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور أحدها وصف ذاته بالنور اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 ) وثانيها الرسول قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( المائدة 15 ) وثالثها القرآن وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ ( الأعراف 157 ) ورابعها الإيمان يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ( التوبة 32 ) وخامسها عدل الله وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبّهَا ( الزمر 69 ) وسادسها ضياء القمر وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ( نوح 16 ) وسابعها النهار وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) وثامنها البينات إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ( المائدة 44 ) وتاسعها الأنبياء نُّورٌ عَلَى نُورٍ ( النور 35 ) وعاشرها المعرفة مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة ٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ( النور 35 ) إذا ثبت هذا فنقول كأن موسى عليه السلام قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى بمعرفة أنوار جلالك وكبريائك وثانيها رب اشرح لي صدري بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك وثالثها رب اشرح لي صدري باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك ورابعها رب اشرح لي صدري بنور الإيمان

والإيقان بإلهيتك وخامسها رب اشرح صدري بالإطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك وسادسها رب اشرح لي صدري بالإنتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلال عزتك كما فعله إبراهيم عليه السلام حيث انتقل من الكوكب والقمر والشمس إلى حضرة العزة وسابعها رب اشرح لي صدري من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل عدلك وثامنها رب اشرح لي صدري بالإطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمواتك وتاسعها رب اشرح لي صدري في أن أكون خلف صور الأنبياء المتقدمين ومتشبهاً بهم في الإنقياد لحكم رب العالمين وعاشرها رب اشرح لي صدري بأن تجعل سراج الإيمان في قلبي كالمشكاة التي فيها المصباح واعلم أن شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير القلب كالسراج وذلك النور كالنار ومعلوم أن من أراد أن يستوقد سراجاً احتاج إلى سبعة أشياء زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن فالعبد إذا طلب النور الذي هو شرح الصدر افتقر إلى هذه السبعة فأولها لا بد من زند المجاهدة وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( العنكبوت 69 ) وثانيها حجر التضرع ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف 55 ) وثالثها حراق منع الهوى وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ( النازعات 40 ) ورابعها كبريت الإنابة وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ الزمر 54 ) ملطخاً رؤوس تلك الخشبات بكبريت توبوا إلى الله وخامسها مسرجة الصبر وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ ( البقرة 45 ) وسادسها فتيلة الشكر لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ ( إبراهيم 7 ) وسابعها دهن الرضا وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ ( الطور 48 ) أي ارض بقضاء ربك فإذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن لا تطلب المقصود إلا من حضرته مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَة ٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا ( فاطر 2 ) ثم اطلبها بالخشوع والخضوع وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ( طه 108 ) فعند ذلك ترفع يد التضرع وتقول رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى فهنالك تسمع قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 36 ) ثم نقول هذا النور الروحاني المسمى بشرح الصدر أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه أحدها الشمس تحجبها غمامة وشمس المعرفة لا يحجبها السموات السبع إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) وثانيها الشمس تغيب ليلاً وتعود نهاراً قال إبراهيم عليه السلام لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) أما شمس المعرفة فلا تغيب ليلاً إِنَّ نَاشِئَة َ الَّيْلِ هِى َ أَشَدُّ ( المزمل 6 ) وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ ( آل عمران 17 ) بل أكمل الخلع الروحانية تحصل في الليل سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ( الإسراء 1 ) وثالثها الشمس تفنى إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ ( التكوير 1 ) وشمس المعرفة لا تفنى سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) ورابعها الشمس إذا قابلها القمر انكسفت أما ههنا فشمس المعرفة وهي معرفة أشهد أن لا إله إلا الله ما لم يقابلها قمر أشهد أن محمداً رسول الله لم يصل نوره إلى عالم الجوارح وخامسها الشمس تسود الوجوه والمعرفة تبيضها يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ( آل عمران 106 ) وسادسها الشمس تحرق والمعرفة تنجي من الحرق جزياً مؤمن فإن نورك قد أطفأ لهبي وسابعها الشمس تصدع والمعرفة تصعد إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) وثامنها الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في العقبى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ ( الكهف 46 ) وتاسعها الشمس في السماء زينة لأهل الأرض والمعرفة في الأرض زينة لأهل السماء وعاشرها الشمس فوقاني الصورة تحتاني المعنى

وذلك يدل على الحسد مع التكبر والمعارف الإلهية تحتانية الصورة فوقانية المعنى وذلك يدل على التواضع مع الشرف وحادي عشرها الشمس تعرف أحوال الخلق وبالمعرفة يصل القلب إلى الخالق وثاني عشرها الشمس تقع على الولي والعدو والمعرفة لا تحصل إلا للولي فلما كانت المعرفة موصوفة بهذه الصفات النفيسة لا جرم قال موسى رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وأما النكت فإحداها الشمس سراج استوقدها الله تعالى للفناء كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( الرحمن 26 ) والمعرفة استوقدها للبقاء فالذي خلقها للفناء لو قرب الشيطان منها لاحترق شِهَاباً رَّصَداً ( الجن 9 ) والمعرفة التي خلقها للبقاء كيف يقرب منها الشيطان رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وثانيتها استوقد الله الشمس في السماء وإنها تزيل الظلمة عن بيتك مع بعدها عن بيتك وأوقد شمس المعرفة في قلبك أفلا تزيل ظلمة المعصية والكفر عن قلبك مع قربها منك وثالثتها من استوقد سراجاً فإنه لا يزال يتعهده ويمده والله تعالى هو الموقد لسراج المعرفة وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ ( الحجرات 7 ) أفلا يمده وهو معنى قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ورابعتها اللص إذا رأى السراج يوقد في البيت لا يقرب منه والله قد أوقد سراج المعرفة في قلبك فكيف يقرب الشيطان منه فلهذا قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وخامستها المجوس أوقدوا ناراً فلا يريدون إطفاءها والملك القدوس أوقد سراج الإيمان في قلبك فكيف يرضى بإطفائه واعلم أنه سبحانه وتعالى أعطى قلب المؤمن تسع كرامات أحدها الحياة أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الأنعام 122 ) فلما رغب موسى عليه السلام في الحياة الروحانية قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ثم النكتة أنه عليه السلام قال من أحيا أرضاً ميتة فهي له فالعبد لما أحيا أرضاً فهي له فالرب لما خلق القلب وأحياه بنور الإيمان فكيف يجوز أن يكون لغيره فيه نصيب قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ ( الأنعام 91 ) وكما أن الإيمان حياة القلب بالكفر موته أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ ( النحل 21 ) وثانيها الشفاء وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ( التوبة 14 ) فلما رغب موسى في الشفاء رفع الأيدي قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والنكتة أنه تعالى لما جعل الشفاء في العسل بقي شفاء أبداً فههنا لما وضع الشفاء في الصدر فكيف لا يبقى شفاء أبداً وثالثها الطهارة أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( الحجرات 3 ) فلما رغب موسى عليه السلام في تحصيل طهارة التقوى قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والنكتة أن الصائغ إذا امتحن الذهب مرة فبعد ذلك لا يدخله في النار فههنا لما امتحن الله قلب المؤمن فكيف يدخله النار ثانياً ولكن الله يدخل في النار قلب الكافر لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ ( الأنفال 37 ) ورابعها الهداية ومن يؤمن بالله يهد قلبه فرغب موسى عليه السلام في طلب زوائد الهداية فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والنكتة أن الرسول يهدي نفسك والقرآن يهدي روحك والمولى يهدي قلبك فلما كانت الهداية من الكفر من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا جرم تارة تحصل وأخرى لا تحصل إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء ( القصص 56 ) وهداية الروح لما كانت من القرآن فتارة تحصل وأخرى لا تحصل يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ( البقرة 26 ) أما هداية القلب فلما كانت من الله تعالى فإنها لا تزول لأن الهادي لا يزول وَيَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( يونس 25 ) وخامسها الكتابة أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( المجادلة 22 ) فلما رغب موسى عليه السلام في تلك الكتابة قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وفيه نكت

الأولى أن الكاغدة ليس لها خطر عظيم وإذا كتب فيها القرآن لم يجز إحراقها فقلب المؤمن كتب فيه جميع أحكام ذات الله تعالى وصفاته فكيف يليق بالكريم إحراقه الثانية بشر الحافي أكرم كاغداً فيه اسم الله تعالى فنال سعادة الدارين فإكرام قلب فيه معرفة الله تعالى أولى بذلك والثالثة كاغد ليس فيه خط إذا كتب فيه اسم الله الأعظم عظم قدره حتى أنه لا يجوز للجنب والحائض أن يمسه بل قال الشافعي رحمه الله تعالى ليس له أن يمس جلد المصحف وقال الله تعالى لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ( الواقعة 79 ) فالقلب الذي فيه أكرم المخلوقات وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ( الإسراء 70 ) كيف يجوز للشيطان الخبيث أن يمسه والله أعلم وسادسها السكينة هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَة َ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ( الفتح 4 ) فلما رغب موسى عليه السلام في طلب السكينة قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والنكتة أن أبا بكر رضي الله عنه كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان خائفاً فلما نزلت السكينة عليه قال لا تحزن فلما نزلت سكينة الإيمان فرجوا أن يسمعوا خطاب أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ ( فصلت 30 ) وأيضاً لما نزلت السكينة صار من الخلفاء وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ ( النور 55 ) أي أن يصيروا خلفاء الله في أرضه وسابعها المحبة والزينة وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزِينَة ٌ فِي قُلُوبِكُمْ ( الحجرات 7 ) والنكتة أن من ألقى حبة في أرض فإنه لا يفسدها ولا يحرقها فهو سبحانه وتعالى ألقى حبة المحبة في أرض القلب فكيف يحرقها وثامنها وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبُكُمْ ( الأنفال 63 ) والنكتة أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ألف بين قلوب أصحابه ثم إنه ما تركهم ( في ) غيبة ولا حضور ( سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) فالرحيم كيف يتركهم وتاسعها الطمأنينة أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) وموسى طلب الطمأنينة فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والنكتة أن حاجة العبد لا نهاية لها فلهذا لو أعطى كل ما في العالم من الأجسام فإنه لا يكفيه لأن حاجته غير متناهية والأجسام متناهية والمتناهي لا يصير مقابلاً لغير المتناهي بل الذي يكفي في الحاجة الغير المتناهية الكمال الذي لا نهاية له وما ذاك إلا للحق سبحانه وتعالى فلهذا قال أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ولما عرفت حقيقة شرح الصدر للمؤمنين فاعرف صفات قلوب الكافرين لوجوه أحدها فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وثانيها ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم وثالثها في قلوبهم مرض ورابعها جعلنا قلوبهم قاسية وخامسها إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وسادسها ختم الله على قلوبهم وسابعها أم على قلوب أقفالها وثامنها كلا بل ران على قلوبهم وتاسعها أولئك الذين طبع الله على قلوبهم إلهنا وسيدنا بفضلك وإحسانك أغلق هذه الأبواب التسعة من خذلانك عنا واجبرنا بإحسانك وافتح لنا تلك الأبواب التسعة من إحسانك بفضلك ورحمتك إنك على ما تشاء قدير الفصل الخامس في حقيقة شرح الصدر ذكر العلماء فيه وجهين الأول أن لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا لا بالرغبة ولا بالرهبة أما الرغبة فهي أن يكون متعلق القلب بالأهل والولد وبتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم وأما الرهبة فهي أن يكون خائفاً من الأعداء والمنازعين فإذا شرح الله صدره صغر كل ما يتعلق بالدنيا في عين همته فيصير كالذباب والبق والبعوض لا تدعوه رغبة إليها ولا تمنعه رهبة عنها فيصير الكل عنده كالعدم وحينئذ يقبل القلب بالكلية نحو طلب مرضاة الله تعالى فإن القلب في المثال كينبوع من الماء والقوة البشرية لضعفها كالينبوع الصغير فإذا فرقت ماء العين

الواحدة على الجداول الكثيرة ضعفت الكل فأما إذا انصب الكل في موضع واحد قوي فسأل موسى عليه السلام ربه أن يشرح له صدره بأن يوفقه على معايب الدنيا وقبح صفاتها حتى يصير قلبه نفوراً عنها فإذا حصلت النفرة توجه إلى عالم القدس ومنازل الروحانيات بالكلية الثاني أن موسى عليه السلام لما نصب لذلك المنصب العظيم احتاج إلى تكاليف شاقة منها ضبط الوحي والمواظبة على خدمة الخالق سبحانه وتعالى ومنها إصلاح العالم الجسداني فكأنه صار مكلفاً بتدبير العالمين والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر ألا ترى أن المشتغل بالإبصار يصير ممنوعاً عن السماع والمشتغل بالسماع يصير ممنوعاً عن الإبصار والخيال فهذه القوى متجاذبة متنازعة وأن موسى عليه السلام كان محتاجاً إلى الكل ومن استأنس بجمال الحق استوحش من جمال الخلق فسأل موسى ربه أن يشرح صدره بأن يفيض عليه كمالاً من القوة لتكون قوته وافية بضبط العالمين فهذا هو المراد من شرح الصدر وذكر العلماء لهذا المعنى أمثلة المثال الأول اعلم أن البدن بالكلية كالمملكة والصدر كالقلعة والفؤاد كالقصر والقلب كالتخت والروح كالملك والعقل كالوزير والشهوة كالعامل الكبير الذي يجلب النعم إلى البلدة والغضب كالاسفهسالار الذي يشتغل بالضرب والتأديب أبداً والحواس كالجواسيس وسائر القوى كالخدم والعملة والصناع ثم إن الشيطان خصم لهذه البلدة ولهذه القلعة ولهذا الملك فالشيطان هو الملك والهوى والحرص وسائر الأخلاق الذميمة جنوده فأول ما أخرج الروح وزيره وهو العقل فكذا الشيطان أخرج في مقابلته الهوى فجعل العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى يدعو إلى الشيطان ثم إن الروح أخرج الفطنة إعانة للعقل فأخرج الشيطان في مقابلة الفطنة الشهوة فالفطنة توقفك على معايب الدنيا والشهوة تحركك إلى لذات الدنيا ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتقوي الفطنة بالفكرة فتقف على الحاضر والغائب من المعائب على ما قال عليه السلام ( تفكر ساعة خير من عبادة سنة ) فأخرج الشيطان في مقابلة الفكرة الغفلة ثم أخرج الروح الحلم والثبات فإن العجلة ترى الحسن قبيحاً والقبيح حسناً والحلم يوقف العقل على قبح الدنيا فأخرج الشيطان في مقابلته العجلة والسرعة فلهذا قال عليه السلام ( ما دخل الرفق في شيء إلا زانه ولا الخرق في شيء إلا شانه ) ولهذا خلق السموات والأرض في ستة أيام ليتعلم منه الرفق والثبات فهذه هي الخصومة الواقعة بين الصنفين وقلبك وصدرك هو القلعة ثم إن لهذا الصدر الذي هو القلعة خندقاً وهو الزهد في الدنيا وعدم الرغبة فيها وله سور وهو الرغبة الآخرة ومحبة الله تعالى فإن كان الخندق عظيماً والسور قوياً عجز عسكر الشيطان عن تخريبه فرجعوا وراءهم وتركوا القلعة كما كانت وإن كان خندق الزهد غير عميق وسور حب الآخرة غير قوي قدر الخصم على استفتاح قلعة الصدر فيدخلها ويبيت فيها جنوده من الهوى والعجب والكبر والبخل وسوء الظن بالله تعالى والنميمة والغيبة فينحصر الملك في القصر ويضيق الأمر عليه فإذا جاء مدد التوفيق وأخرج هذا العسكر من القلعة انفسح الأمر وانشرح الصدر وخرجت ظلمات الشيطان ودخلت أنوار هداية رب العالمين وذلك هو المراد بقوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى المثال الثاني اعلم أن معدن النور هو القلب واشتغال الإنسان بالزوجة والولد والرغبة في مصاحبة الناس والخوف من الأعداء هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر فإذا قوى الله

بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه ولا شك في أنهم من حيث هم عدم محض على ما قال تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) فلا يزال العبد يتأمل فيما سوى الله تعالى إلى أن يشاهد أنهم عدم محض فعند ذلك يزول الحجاب بين قلبه وبين أنوار جلال الله تعالى وإذا زال الحجاب امتلأ القلب من النور فذلك هو انشراح الصدر
الفصل السادس في الصدر علم أنه يجيء والمراد منه القلب أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الزمر 22 ) رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ ( العاديات 10 ) يَعْلَمُ خَائِنَة َ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ ( غافر 19 ) وقد يجيء والمراد الفضاء الذي فيه الصدر فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 ) واختلف الناس في أن محل العقل هل هو القلب أو الدماغ وجمهور المتكلمين على أنه القلب وقد شرحنا هذه المسألة في سورة الشعراء في تفسير قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) وقال بعضهم المواد أربعة الصدر والقلب والفؤاد واللب فالصدر مقر الإسلام أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الزمر 22 ) والقلب مقر الإيمان وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزِينَة ٌ فِي قُلُوبِكُمْ ( الحجرات 7 ) والفؤاد مقر المعرفة مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ( النجم 11 ) إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ( الإسراء 36 ) واللب مقر التوحيد إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاْلْبَابِ ( الرعد 19 ) واعلم أن القلب أول ما بعث إلى هذا العالم بعث خالياً عن النقوش كاللوح الساذج وهو في عالم البدن كاللوح المحفوظ ثم إنه تعالى يكتب فيه بقلم الرحمة والعظمة كل ما يتعلق بعالم العقل من نقوش الموجودات وصور الماهيات وذلك يكون كالسطر الواحد إلى آخر قيام القيامة لهذا العالم الأصغر وذلك هو الصورة المجردة والحالة المطهرة ثم إن العقل يركب سفينة التوفيق ويلقيها في بحار أمواج المعقولات وعوالم الروحانيات فيحصل من مهاب رياح العظمة والكبرياء رخاء السعادة تارة ودبور الإدبار أخرى فربما وصلت سفينة النظر إلى جانب مشرق الجلال فتسطع عليه أنوار الإلهية ويتخلص العقل عن ظلمات الضلالات وربما توغلت السفينة في جنوب الجهالات فتنكسر وتغرق فحيثما تكون السفينة في ملتطم أمواج العزة يحتاج حافظ السفينة إلى التماس الأنوار والهدايات فيقول هناك رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى واعلم أن العقل إذا أخذ في الترقي من سفل الإمكان إلى علو الوجوب كثر اشتغاله بمطالعة الماهيات ومقارفة المجردات والمفارقات ومعلوم أن كل ماهية فهي إما هي معه أو هي له فإن كانت هي معه امتلأت البصيرة من أنوار جلال العزة الإلهية فلا يبقى هناك مستطلعاً لمطالعة سائر الأنوار فيضمحل كل ما سواه من بصر وبصيرة وإن وقعت المطالعة لما هو له حصلت هناك حالة عجيبة وهي أنه لو وضعت كرة صافية من البلور فوقع عليها شعاع الشمس فينعكس ذلك الشعاع إلى موضع معين فذلك الموضع الذي إليه تنعكس الشعاعات يحترق فجميع الماهيات الممكنة كالبلور الصافي الموضوع في مقابلة شمس القدس ونور العظمة ومشرق الجلال فإذا وقع للقلب التفات إليها حصلت للقلب نسبة إليها بأسرها فينعكس شعاع كبرياء الإلهية عن كل واحد منها إلى القلب فيحترق القلب ومعلوم أنه كلما كان المحرق أكثر كان الإحتراق أتم فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى حتى أقوى على إدراك درجات الممكنات فأصل إلى مقام الاحتراق بأنوار الجلال وهذا هو المراد بقوله عليه السلام ( أرنا الأشياء كما هي ) فلما شاهد احتراقها بأنوار الجلال قال ( لا أحصى ثناء عليك )

الفصل السابع في بقية الأبحاث إنما قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ولم يقل رب اشرح صدري ليظهر أن منفعة ذلك الشرح عائدة إلى موسى عليه السلام لا إلى الله وأما كيفية شرح صدر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمفاضلة بينه وبين شرح صدر موسى عليه السلام فنذكره إن شاء الله في تفسير قوله أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ( الشرح 1 ) والله أعلم بالصواب
المطلوب الثاني قوله وَيَسّرْ لِى أَمْرِى والمراد منه عند أهل السنة خلقها وعند المعتزلة تحريك الدواعي والبواعث بفعل الألطاف المسهلة فإن قيل كل ما أمكن من اللطف فقد فعله الله تعالى فأي فائدة في هذا السؤال قلنا يحتمل أن يكون هناك من الألطاف ما لا يحسن فعلها إلا بعد هذا السؤال ففائدة السؤال حسن فعل تلك الألطاف
المطلوب الثالث قوله وَاحْلُلْ عُقْدَة ً مّن لّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن النطق فضيلة عظيمة ويدل عليه وجوه أحدها قوله تعالى خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ ( الرحمن 3 4 ) ولم يقل وعلمه البيان لأنه لو عطفه عليه لكان مغايراً له أما إذا ترك الحرف العاطف صار قوله عَلَّمَهُ البَيَانَ كالتفسير لقوله خَلَقَ الإِنسَانَ كأنه إنما يكون خالقاً للإنسان إذا علمه البيان وذلك يرجع إلى الكلام المشهور من أن ماهية الإنسان هي الحيوان الناطق وثانيها اتفاق العقلاء على تعظيم أمر اللسان قال زهير لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وقال علي ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة والمعنى أنا لو أزلنا الإدراك الذهني والنطق اللساني لم يبق من الإنسان إلا القدر الحاصل في البهائم وقالوا المرء بأصغريه قلبه ولسانه وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( المرء مخبوء تحت لسانه ) وثالثها أن في مناظرة آدم مع الملائكة ما ظهرت الفضيلة إلا بالنطق حيث قال قَالَ يَاءادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ ( البقرة 33 ) ورابعها أن الإنسان جوهر مركب من الروح والقالب وروحه من عالم الملائكة فهو يستفيد أبداً صور المغيبات من عالم الملائكة ثم بعد تلك الاستفادة يفيضها على عالم الأجسام وواسطته في تلك الاستفادة هي الفكر الذهني وواسطته في هذه الإفادة هي النطق اللساني فكما أن تلك الواسطة أعظم العبادات حتى قيل ( تفكر ساعة خير من عبادة سنة ) فكذلك الواسطة في الإفادة يجب أن تكون أشرف الإعضاء فقوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى إشارة إلى طلب النور الواقع في الروح وقوله وَيَسّرْ لِى أَمْرِى إشارة إلى تحصيل ذلك وتسهيل ذلك التحصيل وعند ذلك يحصل الكمال في تلك الاستفادة الروحانية فلا يبقى بعد هذا إلا المقام البياني وهو إفاضة ذلك الكمال على الغير وذلك لا يكون إلا باللسان فلهذا قال وَاحْلُلْ عُقْدَة ً مّن لّسَانِى وخامسها وهو أن العلم أفضل المخلوقات على ما ثبت والجود والإعطاء أفضل الطاعات وليس في الأعضاء أفضل من اليد فاليد لما كانت آلة في العطية الجسمانية قيل ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) فالعلم الذي هو خير من المال لما كانت آلة إعطائه اللسان وجب أن يكون أشرف الأعضاء ولا شك أن اللسان هو الآلة في إعطاء المعارف فوجب أن يكون أشرف الأعضاء ومن الناس من مدح الصمت لوجوه

أحدها قوله عليه السلام ( الصمت حكمة وقليل فاعله ) ويروى أن الإنسان تفكر أعضاؤه اللسان ويقلن اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا وثانيها أن الكلام على أربعة أقسام منه ما ضرره خالص أو راجح ومنه ما يستوي الضرر والنفع فيه ومنه ما نفعه راجح ومنه ما هو خالص النفع أما الذي ضرره خالص أو راجح فواجب الترك والذي يستوي الأمران فيه فهو عيب فبقي القسمان الأخيران وتخليصهما عن زيادة الضرر عسر فالأولى ترك الكلام وثالثها أن ما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق معلوم أو موهوم إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي فإن كل ما يتناوله الضمير يعبر عنه اللسان بحق أو باطل وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء فإن العين لا تصل إلى غير الألوان والصور والآذان لا تصل إلا إلى الأصوات والحروف واليد لا تصل إلى غير الأجسام وكذا سائر الأعضاء بخلاف اللسان فإنه رحب الميدان ليس له نهاية ولا حد فله في الخير مجال رحب وله في الشر بحر سحب وإنه خفيف المؤنة سهل التحصيل بخلاف سائر المعاصي فإنه يحتاج فيها إلى مؤن كثيرة لا يتيسر تحصيلها في الأكثر فلذلك كان الأولى ترك الكلام ورابعها قالوا ترك الكلام له أربعة أسماء الصمت والسكوت والإنصات والإصاخة فأما الصمت فهو أعمها لأنه يستعمل فيما يقوى على النطق وفيما لا يقوى عليه ولهذا يقال مال ناطق وصامت وأما السكوت فهو ترك الكلام ممن يقدر على الكلام والانصات سكوت مع استماع ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له إنصات قال تعالى فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ ( الأعراف 204 ) والإصاخة استماع إلى ما يصعب إدراكه كالسر والصوت من المكان البعيد واعلم أن الصمت عدم ولا فضيلة فيه بل النطق في نفسه فضيلة والرذيلة في محاورته ولولاه لما سأل كليم الله ذلك في قوله تعالى وَاحْلُلْ عُقْدَة ً مّن لّسَانِى
المسألة الثانية اختلفوا في تلك العقدة التي كانت في لسان موسى عليه السلام على قولين الأول كان ذلك التعقد خلقة الله تعالى فسأل الله تعالى إزالته الثاني السبب فيه أنه عليه السلام حال صباه أخذ لحية فرعون ونتفها فهم فرعون بقتله وقال هذا هو الذي يزول ملكي على يده فقالت آسية إنه صبي لا يعقل وعلامته أن تقرب منه التمرة والجمرة فقربا إليه فأخذ الجمرة فجعلها في فيه وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال لم تحترق اليد ولا اللسان لأن اليد آلة أخذ العصا وهي الحجة واللسان آلة الذكر فكيف يحترق ولأن إبراهيم عليه السلام لم يحترق بنار نمروذ وموسى عليه السلام لم يحترق حين ألقى في التنور فكيف يحترق هنا ومنهم من قال احترقت اليد دون اللسان لئلا يحصل حق المواكلة والممالحة الثالث احترق اللسان دون اليد لأن الصولة ظهرت باليد أما اللسان فقد خاطبه بقوله يا أبت والرابع احترقا معاً لئلا تحصل المواكلة والمخاطبة
المسألة الثالثة اختلفوا في أنه عليه السلام لم طلب حل تلك العقدة على وجوه أحدها لئلا يقع في أداء الرسالة خلل ألبتة وثانيها لإزالة التنفير لأن العقدة في اللسان قد تفضي إلى الإستخفاف بقائلها وعدم الالتفات إليه وثالثها إظهاراً للمعجزة فكما أن حبس لسان زكريا عليه السلام عن الكلام كان معجزاً في حقه فكذا إطلاق لسان موسى عليه السلام معجز في حقه ورابعها طلب السهولة لأن إيراد مثل هذا الكلام على مثل فرعون في جبروته وكبره عسر جداً فإذا انضم إليه تعقد اللسان بلغ العسر إلى النهاية فسأل ربه إزالة تلك العقدة تخفيفاً وتسهيلاً
المسألة الرابعة قال الحسن رحمه الله إن تلك العقدة زالت بالكلية بدليل قوله تعالى قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى

( طه 36 ) وهو ضعيف لأنه عليه السلام لم يقل واحلل العقدة من لساني بل قال وَاحْلُلْ عُقْدَة ً مّن لّسَانِى فإذا حل عقدة واحدة فقد آتاه الله سؤله والحق أنه انحل أكثر العقد وبقي منها شيء قليل لقوله حكاية عن فرعون أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ( الزخرف 52 ) أي يقارب أن لا يبين وفي ذلك دلالة على أنه كان يبين مع بقاء قدر من الانعقاد في لسانه وأجيب عنه من وجهين أحدهما المراد بقوله ولا يكاد يبين أي لا يأتي ببيان ولا حجة والثاني إن كاد بمعنى قرب ولو كان المراد هو البيان اللساني لكان معناه أنه لا يقارب البيان فكان فيه نفي البيان بالكلية وذلك باطل لأنه خاطب فرعون والجمع وكانوا يفقهون كلامه فكيف يمكن نفي البيان أصلاً بل إنما قال ذلك تمويهاً ليصرف الوجوه عنه قال أهل الإشارة إنما قال وَاحْلُلْ عُقْدَة ً مّن لّسَانِى لأن حل العقد كلها نصيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقال تعالى وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( الأنعام 152 ) فلما كان ذلك حقاً ليتيم أبي طالب لا جرم ما دار حوله والله أعلم
المطلوب الرابع قوله وَاجْعَل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى واعلم أن طلب الوزير إما أن يكون لأنه خاف من نفسه العجز عن القيام بذلك الأمر فطلب المعين أو لأنه رأى أن للتعاون على الدين والتظاهر عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة مزية عظيمة في أمر الدعاء إلى الله ولذلك قال عيسى ابن مريم مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ( آل عمران 52 ) وقال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الأنفال 64 ) وقال عليه السلام ( إن لي في السماء وزيرين وفي الأرض وزيرين فاللذان في السماء جبريل وميكائيل واللذان في الأرض أبو بكر وعمر ) وههنا مسائل
المسألة الأولى الوزير من الوزر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنه أو من الوزر وهو الجبل الذي يتحصن به لأن الملك يعتصم برأيه في رعيته ويفوض إليه أموره أو من الموازرة وهي المعاونة والموازرة مأخوذة من إزار الرجل وهو الموضع الذي يشده الرجل إذا استعد لعمل أمر صعب قاله الأصمعي وكان القياس أزيراً فقلبت الهمزة إلى الواو
المسألة الثانية قال عليه السلام ( إذا أراد الله بملك خيراً قيض له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره وإن نوى خيراً أعانه وإن أراد شراً كفه ) وكان أنوشروان يقول لا يستغني أجود السيوف عن الصقل ولا أكرم الدواب عن السوط ولا أعلم الملوك عن الوزير
المسألة الثالثة إن قيل الإستعانة بالوزير إنما يحتاج إليها الملوك أما الرسول المكلف بتبليغ الرسالة والوحي من الله تعالى إلى قوم على التعيين فمن أين ينفعه الوزير وأيضاً فإنه عليه السلام سأل ربه أن يجعله شريكاً له في النبوة فقال وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى فكيف يكون وزيراً والجواب عن الأول أن التعاون على الأمر والتظاهر عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة له مزية عظيمة في تأثير الدعاء إلى الله تعالى فكان موسى عليه السلام واثقاً بأخيه هرون فسأل ربه أن يشد به أزره حتى يتحمل عنه ما يمكن من الثقل في الإبلاغ
المطلوب الخامس أن يكون ذلك الوزير من أهله أي من أقاربه
المطلوب السادس أن يكون الوزير الذي من أهله هو أخوه هارون وإنما سأل ذلك لوجهين أحدهما أن التعاون على الدين منقبة عظيمة فأراد أن لا تحصل هذه الدرجة إلا لأهله أو لأن كل واحد منهما كان في

غاية المحبة لصاحبه والموافقة له وقوله هارون في انتصابه وجهان أحدهما أنه مفعول الجعل على تقدير اجعل هارون أخي وزيراً لي والثاني على البدل من وزيراً وأخي نعت لهرون أو بدل واعلم أن هارون عليه السلام كان مخصوصاً بأمور منها الفصاحة لقوله تعالى عن موسى وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً ( القصص 34 ) ومنها أنه كان فيه رفق قال أَمْرِى قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى ( طه 94 ) ومنها أنه كان أكبر سناً منه
المطلوب السابع قوله أشدد به أزري وفيه مسائل
المسألة الأولى القراءة العامة اشْدُدْ بِهِ وَأَشْرِكْهُ على الدعاء وقرأ ابن عامر وحده اشْدُدْ وَأَشْرِكْهُ على الجزاء والجواب حكاية عن موسى عليه السلام أي أنا أفعل ذلك ويجوز لمن قرأ على لفظ الأمر أن يجعل أَخِى مرفوعاً على الابتداء وَاشْدُدْ بِهِ خبره ويوقف على هارون
المسألة الثانية الأزر القوة وآزره قواه قال تعالى فَازَرَهُ أي أعانه قال أبو عبيدة أَزْرِى أي ظهري وفي كتاب الخليل الأزر الظهر
المسألة الثالثة أنه عليه السلام لما طلب من الله تعالى أن جعل هرون وزيراً له طلب منه أن يشد به أزره ويجعله ناصراً له لأنه لا اعتماد على القرابة
المطلوب الثامن قوله وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى والأمر ههنا النبوة وإنما قال ذلك لأنه عليه السلام علم أنه يشد به عضده وهو أكبر منه سناً وأفصح منه لساناً ثم إنه سبحانه وتعالى حكى عنه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال كَى ْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً والتسبيح يحتمل أن يكون باللسان وأن يكون بالاعتقاد وعلى كلا التقديرين فالتسبيح تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله عما لا يليق به وأما الذكر فهو عبارة عن وصف الله تعالى بصفات الجلال والكبرياء ولا شك أن النفي مقدم على الإثبات أما قوله تعالى إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً ففيه وجوه أحدها إنك عالم بأنا لا نريد بهذه الطاعات إلا وجهك ورضاك ولا نريد بها أحداً سواك وثانيها كُنتَ بِنَا بَصِيراً لأن هذه الاستعانة بهذه الأشياء لأجل حاجتي في النبوة إليها وثالثها إنك بصير بوجوه مصالحنا فأعطنا ما هو أصلح لنا وإنما قيد الدعاء بهذا إجلالاً لربه عن أن يتحكم عليه وتفويضاً للأمر بالكلية إليه
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّة ً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّة ً مِّنِّى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يامُوسَى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِأايَاتِى وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى

اعلم أن السؤال هو الطلب فعل بمعنى مفعول كقولك خبز بمعنى مخبوز وأكل بمعنى مأكول واعلم أن موسى عليه السلام لما سأل ربه تلك الأمور الثمانية وكان من المعلوم أن قيامه بما كلف به تكليف لا يتكامل إلا بإجابته إليها لا جرم أجابه الله تعالى إليها ليكون أقدر على الإبلاغ على الحد الذي كلف به فقال قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى وعد ذلك من النعم العظام عليه لما فيه من وجوه المصالح ثم قال وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّة ً أُخْرَى فنبه بذلك على أمور أحدها كأنه تعالى قال إني راعيت مصلحتك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال وثانيها إني كنت قد ربيتك فلو منعتك الآن مطلوبك لكان ذلك رداً بعد القبول وإساءة بعد الإحسان فكيف يليق بكرمي وثالثها إنا لما أعطيناك في الأزمنة السالفة كل ما احتجت إليه ورقيناك من حالة نازلة إلى درجة عالية دل هذا على أن نصبناك لمنصب عال ومهم عظيم فكيف يليق بمثل هذه الرتبة المنع من المطلوب وههنا سؤالان
السؤال الأول لم ذكر تلك النعم بلفظ المنة مع أن هذه اللفظة لفظة مؤذية والمقام مقام التلطف والجواب إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أن هذه النعم التي وصلت إليه ما كان مستحقاً لشيء منها بل إنما خصه الله تعالى بها بمحض التفضل والإحسان
السؤال الثاني لم قال مرة أخرى مع أنه تعالى ذكر منناً كثيرة والجواب لم يعن بمرة أخرى مرة واحدة من المنن لأن ذلك قد يقال في القليل والكثير واعلم أن المنن المذكورة ههنا ثمانية المنة الأولى قوله إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ أما قوله إِذْ أَوْحَيْنَا فقد اتفق الأكثرون على أن أم موسى عليه السلام ما كانت من الأنبياء والرسل فلا يجوز أن يكون المراد من هذا الوحي هو الوحي الواصل إلى الأنبياء وكيف لا نقول ذلك والمرأة لا تصلح للقضاء والإمامة بل عند الشافعي رحمه الله لا تمكن من تزويجها نفسها فكيف تصلح للنبوة ويدل عليه قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ ( الأنبياء 7 ) وهذا صريح في الباب وأيضاً فالوحي قد جاء في القرآن لا بمعنى النبوة قال تعالى وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ( النحل 68 ) وقال وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ ( المائدة 111 ) ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه أحدها المراد رؤيا رأتها أم موسى عليه السلام وكان تأويلها وضع موسى عليه السلام في التابوت وقذفه في البحر وأن الله تعالى يرده إليها وثانيها أن المراد عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة فكل من تفكر فيما وقع إليه ظهر له الرأي الذي هو أقرب إلى الخلاص ويقال لذلك الخاطر إنه وحي وثالثها المراد منه الإلهام لكنا متى بحثنا عن الإلهام كان معناه خطور رأي بالبال وغلبة على القلب فيصير هذا هوالوجه الثاني وهذه الوجوه الثلاثة يعترض عليها بأن الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك وهو مساوٍ للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعون فكيف

يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانة عن الثاني والجواب لعلها عرفت بالاستقراء صدق رؤياها فكان إفضاء الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقوع الولد في يد فرعون ورابعها لعله أوحى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشعيب عليه السلام أو غيره ثم إن ذلك النبي عرفها إما مشافهة أو مراسلة واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لما لحقها من أنواع الخوف ما لحقها والجواب أن ذلك الخوف كان من لوازم البشرية كما أن موسى عليه السلام كان يخاف فرعون مع أن الله تعالى كان يأمره بالذهاب إليه مراراً وخامسها لعل الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم السلام أخبروا بذلك وانتهى ذلك الخبر إلى تلك المرأة وسادسها لعل الله تعالى بعث إليها ملكاً لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم في قوله فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ( مريم 17 ) وأما قوله مَا يُوحَى فمعناه وأوحينا إلى أمك ما يجب أن يوحى وإنما وجب ذلك الوحي لأن الواقعة واقعة عظيمة ولا سبيل إلى معرفة المصلحة فيها إلا بالوحي فكان الوحي واجباً أما قوله تعالى أَنِ اقْذِفِيهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى أن هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول
المسألة الثانية القذف مستعمل في معنى الإلقاء والوضع ومنه قوله تعالى وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ( الأحزاب 26 )
المسألة الثالثة روى أنها اتخذت تابوتاً وجعلت فيه قطناً محلوجاً ووضعت فيه موسى عليه السلام وقيرت رأسه وشقوقه بالقار ثم ألقته في النيل وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذ بتابوت يجيء به الماء فلما رآه فرعون أمر الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبي من أصبح الناس وجهاً فلما رآه فرعون أحبه وسيأتي تمام القصة في سورة القصص قال مقاتل إن الذي صنع التابوت حزقيل مؤمن آل فرعون
المسألة الرابعة اليم هو البحر والمراد به ههنا نيل مصر في قول الجميع واليم اسم يقع على البحر وعلى النهر العظيم
المسألة الخامسة قال الكسائي الساحل فاعل بمعنى مفعول سمي بذلك لأن الماء يسحله أي يقذفه إلى أعلاه
المسألة السادسة قال صاحب ( الكشاف ) الضمائر كلها راجعة إلى موسى عليه السلام ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت يؤدي إلى تنافر النظم فإن قيل المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل قلنا لا بأس بأن يقال المقذوف والملقى هو موسى عليه السلام في جوف التابوت حتى لا تتفرق الضمائر ولا يحصل التنافر
المسألة السابعة لما كان تقدير الله تعالى أن يجري ماء اليم ويلقي بذلك التابوت إلى الساحل سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه فقيل فليلقه اليم بالساحل أما قوله يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ ففيه أبحاث
البحث الأول قوله يَأْخُذْهُ جواب الأمر أي اقذفيه يأخذه

البحث الثاني في كيفية الأخذ قولان أحدهما أن امرأة فرعون كانت بحيث تستسقي الجواري فبصرت بالتابوت فأمرت به فأخذت التابوت فيكون المراد من أخذ فرعون التابوت قبوله له واستحبابه إياه الثاني أن البحر ألقى التابوت بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون ثم أداه النهر إلى بركة فرعون فلما رآه أخذه
البحث الثالث قوله يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ فيه إشكال وهو أن موسى عليه السلام لم يكن ذلك الوقت بحيث يعادى وجوابه أما كونه عدواً لله من جهة كفره وعتوه فظاهر وأما كونه عدواً لموسى عليه السلام فيحتمل من حيث إنه لو ظهر له حالة لقتله ويحتمل أنه من حيث يؤول أمره إلى ما آل إليه من العداوة المنة الثانية قوله وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّة ً مّنّى وفيه قولان الأول وألقيت عليك محبة هي مني قال الزمخشري مِنّي لا يخلو إما أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب وإما أن يتعلق بمحذوف وهذا هو القول الثاني ويكون ذلك المحذوف صفة لمحبة أي وألقيت عليك محبة حاصلة مني واقعة بخلقي فلذلك أحبتك امرأة فرعون حتى قالت قُرَّة ُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ ( القصص 9 ) يروى أنه كانت على وجهه مسحة جمال وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه وهو كقوله تعالى سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ( مريم 96 ) قال القاضي هذا الوجه أقرب لأنه في حال صغره لا يكاد يوصف بمحبة الله تعالى التي ظاهرها من جهة الدين لأن ذلك إنما يستعمل في المكلف من حيث استحقاق الثواب والمراد أن ما ذكرنا من كيفيته في الخلقة يستحلي ويغتبط فكذلك كانت حاله مع فرعون وامرأته وسهل الله تعالى له منهما في التربية ما لا مزيد عليه ويمكن أن يقال بل الاحتمال الأول أرجح لأن الاحتمال الثاني يحوج إلى الإضمار وهو أن يقال وألقيت عليك محبة حاصلة مني وواقعة بتخليقي وعلى التقدير الأول لا حاجة إلى هذا الإضمار بقي قوله إنه حال صباه لا يحصل له محبة الله تعالى قلنا لا نسلم فإن محبة الله تعالى يرجع معناها إلى إيصال النفع إلى عباده وهذا المعنى كان حاصلاً في حقه في حال صباه وعلم الله تعالى أن ذلك يستمر إلى آخر عمره فلا جرم أطلق عليه لفظ المحبة المنة الثالثة قوله وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى قال القفال لترى على عيني أي على وفق إرادتي ومجاز هذا أن من صنع لإنسان شيئاً وهو حاضر ينظر إليه صنعه له كما يحب ولا يمكنه أن يفعل ما يخالف غرضه فكذا ههنا وفي كيفية المجاز قولان الأول المراد من العين العلم أن ترى على علم مني ولما كان العالم بالشيء يحرسه عن الآفات كما أن الناظر إليه يحرسه عن الآفات أطلق لفظ العين على العلم لاشتباههما من هذا الوجه الثاني المراد من العين الحراسة وذلك لأن الناظر إلى الشيء يحرسه عما يؤذيه فالعين كأنها سبب الحراسة فأطلق اسم السبب على المسبب مجازاً وهو كقوله تعالى إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ( طه 46 ) ويقال عين الله عليك إذا دعا لك بالحفظ والحياطة قال القاضي ظاهر القرآن يدل على أن المراد من قوله وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى الحفظ والحياطة كقوله تعالى إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ فصار ذلك كالتفسير لحياطة الله تعالى له بقي ههنا بحثان
الأول الواو في قوله وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى فيه ثلاثة أوجه أحدها كأنه قيل وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى ألقيت عليك محبة مني ثم يكون قوله إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ متعلقاً بأول الكلام وهو قوله وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّة ً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمّكَ مَا يُوحَى وإذ تمشي أختك وثانيها يجوز أن يكون قوله وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى

متعلقاً بما بعده وهو قوله إِذْ تَمْشِى وذكرنا مثل هذين الوجهين في قوله وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( الأنعام 75 ) وثالثها يجوز أن تكون الواو مقحمة أي وألقيت عليك محبة مني لتصنع وهذا ضعيف
الثاني قرىء ولتصنع بكسر اللام وسكونها والجزم على أنه أمر وقرىء ولتصنع بفتح التاء والنصب أي وليكون عملك وتصرفك على علم مني المنة الرابعة قوله إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ واعلم أن العامل في إذ تمشى ألقيت أو تصنع يروى أنه لما فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاماً في النيل وكان لا يرتضع من ثدي كل امرأة يؤتى بها لأن الله تعالى قد حرم عليه المراضع غير أمه اضطروا إلى تتبع النساء فلما رأت ذلك أخت موسى جاءت إليهم متنكرة فقالت هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ ( القصص 12 ) ثم جاءت بالأم فقبل ثديها فرجع إلى أمه بما لطف الله تعالى له من هذا التدبير أما قوله تعالى فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمّكَ أي رددناك وقال في موضع آخر فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمّهِ ( القصص 13 ) وهو كقوله قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ ( المؤمنون 99 ) أي ردوني إلى الدنيا أما قوله كَى تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ فالمراد أن المقصود من ردك إليها حصول السرور لها وزوال الحزن عنها فإن قيل لو قال كي لا تحزن وتقر عينها كان الكلام مفيداً لأنه لا يلزم من نفي الحزن حصول السرور لها وأما لما قال أولاً كي تقر عينها كان قوله بعد ذلك وَلاَ تَحْزَنْ فضلاً لأنه متى حصل السرور وجب زوال الغم لا محالة قلنا المراد أنه تقر عينها بسبب وصولك إليها فيزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك والمنة الخامسة قوله وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمّ فالمراد به وقتلت بعد كبرك نفساً وهو الرجل الذي قتله خطأ بأن وكزه حيث استغاثه الإسرائيلي عليه وكان قبطياً فحصل له الغم من وجهين أحدهما من عقاب الدنيا وهو اقتصاص فرعون منه ما حكى الله تعالى عنه فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينَة ِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ ( القصص 18 ) والآخر من عقاب الله تعالى حيث قتله لا بأمر الله فنجاه الله تعالى من الغمين أما من فرعون فحين وفق له المهاجرة إلى مدين وأما من عقاب الآخرة فلأنه سبحانه وتعالى غفر له ذلك المنة السادسة قوله وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً وفيه أبحاث
البحث الأول في قوله فُتُوناً وجهان أحدهما أنه مصدر كالعكوف والجلوس والمعنى وفتناك حقاً وذلك على مذهبهم في تأكيد الأخبار بالمصادر كقوله تعالى وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( النساء 164 ) والثاني أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي فتناك ضروباً من الفتن وههنا سؤالان السؤال الأول إن الله تعالى عدد أنواع مننه على موسى عليه السلام في هذا المقام فكيف يليق بهذا الموضع قوله وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً الجواب عنه من وجهين أحدهما أن الفتنة تشديد المحنة يقال فتن فلان عن دينه إذا اشتدت عليه المحنة حتى رجع عن دينه قال تعالى فَإِذَا أُوذِى َ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَة َ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ( العنكبوت 10 ) وقال تعالى الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( العنكبوت 1 3 ) وقال أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ ( البقرة 214 ) فالزلزلة المذكورة في الآية ومس البأساء والضراء هي الفتنة والفتون ولما كان التشديد في المحنة مما يوجب كثرة الثواب لا جرم عده الله تعالى من جملة النعم وثانيها وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً

أي خلصناك تخليصاً من قولهم فتنت الذهب من الفضة إذا أردت تخليصه وسأل سعيد بن جبير بن عباس عن الفتون فقال نستأنف له نهاراً يا ابن جبير ثم لما أصبح أخذ ابن عباس يقرأ عليه الآيات الواردة في شأن موسى عليه السلام من ابتداء أمره فذكر قصة فرعون وقتله أولاد بني إسرائيل ثم قصة إلقاء موسى عليه السلام في اليم والتقاط آل فرعون إياه وامتناعه من الإرتضاع من الأجانب ثم قصة أن موسى عليه السلام أخذ لحية فرعون ووضعه الجمرة في فيه ثم قصة قتل القبطي ثم هربه إلى مدين وصيرورته أجيراً لشعيب عليه السلام ثم عوده إلى مصر وأنه أخطأ الطريق في الليلة المظلمة واستئناسة بالنار من الشجرة وكان عند تمام كل واحدة منها يقول هذا من الفتون يا ابن جبير
السؤال الثاني هل يصح إطلاق اسم الفتان عليه سبحانه اشتقاقاً من قوله وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً والجواب لا لأنه صفة ذم في العرف وأسماء الله تعالى توقيفية لا سيما فيما يوهم ما لا ينبغي المنة السابعة قوله تعالى فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يامُوسَى مُوسَى واعلم أن التقدير وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فخرجت خائفاً إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم أما مدة اللبث فقال أبو مسلم إنها مشروحة في قوله تعالى وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ إلى قوله فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ ( القصص 29 ) وهي إما عشرة وإما ثمان لقوله تعالى عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِى َ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ ( القصص 27 ) وقال وهب لبث موسى عليه السلام عند شعيب عليه السلام ثمانياً وعشرين سنة منها عشر سنين مهر امرأته والآية تدل على أنه عليه السلام لبث عنده عشر سنين وليس فيها ما ينفي الزيادة على العشر واعلم أن قوله فَلَبِثَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ بعد قوله وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً كالدلالة على أن لبثه في مدين من الفتون وكذلك كان فإنه عليه السلام تحمل بسبب الفقر والغربة محناً كثيرة واحتاج إلى أن آجر نفسه أما قوله تعالى ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يامُوسَى مُوسَى فلا بد من حذف في الكلام لأنه على قدر أمر من الأمور وذكروا في ذلك المحذوف وجوهاً أحدها أنه سبق في قضائي وقدري أن أجعلك رسولاً لي في وقت معين عينته لذلك فما جئت إلا على ذلك القدر لا قبله ولا بعده ومنه قوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) وثانيها على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء وهو رأس أربعين سنة وثالثها أن القدر هو الموعد فإن ثبت أنه تقدم هذا الموعد صح حمله عليه ولا يمتنع ذلك لاحتمال أن شعيباً عليه السلام أو غيره من الأنبياء كانوا قد عينوا ذلك الموعد فإن قيل كيف ذكر الله تعالى مجيء موسى عليه السلام في ذلك الوقت من جملة مننه عليه قلنا لأنه لولا توفيقه له لما تهيأ شيء من ذلك المنة الثامنة قوله تعالى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى والاصطناع اتخاذ الصنعة وهي افتعال من الصنع يقال اصطنع فلان فلاناً أي اتخذه صنيعه فإن قيل إنه تعالى غني عن الكل فما معنى قوله لنفسي والجواب عنه من وجوه الأول أن هذا تمثيل لأنه تعالى لما أعطاه من منزلة التقريب والتكريم والتكليم مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك لجوامع خصال فيه أهلاً لأن يكون أقرب الناس منزلة إليه وأشدهم قرباً منه وثانيها قالت المعتزلة إنه سبحانه وتعالى إذا كلف عباده وجب عليه أن يلطف بهم ومن جملة الألطاف ما لا يعلم إلا سمعاً فلو لم يصطنعه بالرسالة لبقي في عهدة الواجب فصار موسى عليه السلام كالنائب عن ربه في أداء ما وجب على الله تعالى فصح أن يقول واصطنعتك لنفسي قال القفال واصطنعتك أصله من قولهم اصطنع فلان فلاناً إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال هذا صنيع فلان وجريح فلان وقوله

لنفسي أي لأصرفك في أوامري لئلا تشتغل بغير ما أمرتك به وهو إقامة حجتي وتبليغ رسالتي وأن تكون في حركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لغيرك واعلم أنه سبحانه وتعالى لما عدد عليه المنن الثمانية في مقابلة تلك الالتماسات الثمانية رتب على ذكر ذلك أمراً ونهياً أما الأمر فهو أنه سبحانه وتعالى أعاد الأمر بالأول فقال اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَاتِى واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قال وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى عقبه بذكر ماله اصطنعه وهو الإبلاغ والأداء ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى الباء ههنا بمعنى مع وذلك لأنهما لو ذهبا إليه بدون آية معهما لم يلزمه الإيمان وذلك من أقوى الدلائل على فساد التقليد
المسألة الثانية اختلفوا في الآيات المذكورة ههنا على ثلاثة أقوال أحدها أنها اليد والعصا لأنهما اللذان جرى ذكرهما في هذا الموضع وفي سائر المواضع التي اقتص الله تعالى فيها حديث موسى عليه السلام فإنه تعالى لم يذكر في شيء منها أنه عليه السلام قد أوتي قبل مجيئه إلى فرعون ولا بعد مجيئه حتى لقي فرعون فالتمس منه آية غير هاتين الآيتين قال تعالى عنه قَالَ فَأْتِ مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِى َ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِى َ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ ( الشعراء 31 33 ) وقال فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ( القصص 32 ) فإذا قيل لهؤلاء كيف يطلق لفظ الجمع على الاثنين أجابوا بوجوه الأول أن العصا ما كانت آية واحدة بل كانت آيات فإن انقلاب العصا حيواناً آية ثم إنها في أول الأمر كانت صغيرة لقوله تعالى تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ( النمل 10 ) ثم كانت تعظم وهذه آية أخرى ثم كانت تصير ثعباناً وهذه آية أخرى ثم إن موسى عليه السلام كان يدخل يده في فيها فما كانت تضر موسى عليه السلام فهذه آية أخرى ثم كانت تنقلب خشبة فهذه آية أخرى وكذلك اليد فإن بياضها آية وشعاعها آية أخرى ثم زوالهما بعد حصولهما آية أخرى فصح أنهما كانتا آيات كثيرة لا آيتان الثاني هب أن العصا أمر واحد لكن فيها آيات كثيرة لأن انقلابها حية يدل على وجود إله قادر على الكل عالم بالكل حكيم ويدل على نبوة موسى عليه السلام ويدل على جواز الحشر حيث انقلب الجماد حيواناً فهذه آيات كثيرة ولذلك قال إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ مُبَارَكاً إلى قوله فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْراهِيمَ ( آل عمران 96 97 ) فإذا وصف الشيء الواحد بأن فيه آيات فالشيئان أولى بذلك الثالث من الناس من قال أقل الجمع إثنان على ما عرفت في أصول الفقه القول الثاني أن قوله اذْهَبَا بِآيَاتِي معناه أني أمدكما بآياتي وأظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح به العلل من فرعون وقومه فاذهبا فإن آياتي معكما كما يقال اذهب فإن جندي معك أي أني أمدك بهم متى احتجت القول الثالث أن الله تعالى آتاه العصا واليد وحل عقدة لسانه وذلك أيضاً معجز فكانت الآيات ثلاثة هذا هو شرح الأمر أما النهي فهو قوله تعالى وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى الوني الفتور والتقصير وقرىء ولا تنيا بكسر حرف المضارعة للاتباع ثم قيل فيه أقوال أحدها المعنى لا تنيا بل اتخذا ذكرى آلة لتحصيل المقاصد واعتقدا أن أمراً من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكري والحكمة فيه أن من ذكر جلال الله استحقر غيره فلا يخاف أحداً ولأن من ذكر جلال الله تقوى روحه بذلك الذكر فلا يضعف في المقصود ولأن ذاكر الله تعالى لا بد وأن يكون ذاكراً لإحسانه وذاكر

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66