كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

والانتقال في مواضع القتال أو في العضو الذي تتم به فائدة الحصول في المعركة والوصول والأول هو الرجل والثاني هو العين لأن بالرجل يحصل الانتقال وبالعين يحصل الانتفاع في الطلب والهرب وأما الأذن والأنف واللسان وغيرها من الأعضاء فلا مدخل لها في شيء من الأمرين بقيت اليد فإن المقطوع اليدين لا يقدر على شيء وهو عذر واضح ولم يذكره نقول لأن فائدة الرجل وهي الانتقال تبطل بالخلل في إحداهما وفائدة اليد وهي الضراب والبطش لا تبطل إلا ببطلان اليدين جميعاً ومقطوع اليدين لا يوجد إلا نادراً ولعل في جماعة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن أحد مقطوع اليدين فلم يذكره أو لأن المقطوع ينتفع به في الجهاد فإنه ينظر ولولاه لاستقل به مقاتل فيمكن أن يقاتل وهو غير معذور في التخلف لأن المجاهدين ينتفعون به بخلاف الأعمى فإن قيل كما أن مقطوع اليد الواحدة لا تبطل منفعة بطشه كذلك الأعور لا تبطل منفعة رؤيته وقد ذكر الأعمى وما ذكر الأشل وأقطع اليدين قلنا لما بينا أن مقطوع اليدين نادر الوجود والآفة النازلة بإحدى اليدين لا تعمهما والآفة النازلة بالعين الواحدة تعم العينين لأن منبع النور واحد وهما متجاذبان والوجود يفرق بينهما فإن الأعمى كثير الوجود ومقطوع اليدين نادر
المسألة الثالثة قدم الآفة في الآلة على الآفة في القوة لأن الآفة في القوة تزول وتطرأ والآفة في الآلة إذ طرأت لا تزول فإن الأعمى لا يعود بصيراً فالعذر في محل الآلة أتم
المسألة الرابعة قدم الأعمى على الأعرج لأن عذر الأعمى يستمر ولو حضر القتال والأعرج إن حضر راكباً أو بطريق آخر يقدر على القتال بالرمي وغيره
لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَة َ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَة ً يَأْخُذُونَهَا وَكَان اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
اعلم أن طاعة كل واحد منهما طاعة الآخر فجمع بينهما بياناً لطاعة الله فإن الله تعالى لو قال ومن يطع الله كان لبعض الناس أن يقول نحن لا نرى الله ولا نسمع كلامه فمن أين نعلم أمره حتى نطيعه فقال طاعته في طاعة رسوله وكلامه يسمع من رسوله
ثم قال وَمَن يَتَوَلَّ أي بقلبه ثم لما بيّن حال المخلفين بعد قوله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) عاد إلى بيان حالهم وقال لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ من الصدق كما علم ما في قلوب المنافقين من المرض فَأنزَلَ السَّكِينَة َ عَلَيْهِمْ حتى بايعوا على الموت وفيه معنى لطيف وهو أن الله تعالى قال قبل هذه الآية وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ ( الفتح 17 ) فجعل طاعة الله والرسول علامة لإدخال الله الجنة في تلك الآية وفي هذه الآية بيّن أن طاعة الله والرسول وجدت من أهل بيعة الرضوان أما طاعة الله فالإشارة إليها بقوله لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وأما طاعة الرسول فبقوله إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ِ بقي الموعود به وهو إدخال الجنة أشار إليه بقوله تعالى لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ لأن الرضا يكون معه إدخال الجنة كما قال تعالى وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ ( المجادلة 22 )
ثم قال تعالى فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ والفاء للتعقيب وعلم الله قبل الرضا لأنه علم ما في قلوبهم من

الصدق فرضي عنهم فكيف يفهم التعقيب في العلم نقول قوله فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ متعلق بقوله إِذَا يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ِ كما يقول القائل فرحت أمس إذ كلمت زيداً فقام إليّ أو إذ دخلت عليه فأكرمني فيكون الفرح بعد الإكرام ترتيباً كذلك ههنا قال تعالى لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ من الصدق إشارة إلى أن الرضا لم يكن عند المبايعة فحسب بل عند المبايعة التي كان معها علم الله بصدقهم والفاء في قوله فَأنزَلَ السَّكِينَة َ عَلَيْهِمْ للتعقيب الذي ذكرته فإنه تعالى رضي عنهم فأنزل السكينة عليهم وفي علم بيان وصف المبايعة بكونها معقبة بالعلم بالصدق الذي في قلوبهم وهذا توفيق لا يتأتى إلا لمن هداه الله تعالى إلى معاني كتابه الكريم وقوله تعالى وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر وَمَغَانِمَ كَثِيرَة ً يَأْخُذُونَهَا مغانمها وقيل مغانم هجر وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً كامل القدرة غنياً عن إعانتكم إياه حَكِيماً حيث جعل هلاك أعدائه على أيديكم ليثيبكم عليه أو لأن في ذلك إعزاز قوم وإذلال آخرين فإنه يذل من يشاء بعزته ويعز من يشاء بحكمته
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَة ً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَاذِهِ وَكَفَّ أَيْدِى َ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ ءَايَة ً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
إشارة إلى أن ما أتاهم من الفتح والمغانم ليس هو كل الثواب بل الجزاء قدامهم وإنما هي لعاجلة عجل بها وفي المغانم الموعود بها أقوال أصحها أنه وعدهم مغانم كثيرة من غير تعيين وكل ما غنموه كان منها والله كان عالماً بها وهذا كما يقول الملك الجواد لمن يخدمه يكون لك مني على ما فعلته الجزاء إن شاء الله ولا يريد شيئاً بعينه ثم كل ما يأتي به ويؤتيه يكون داخلاً تحت ذلك الوعد غير أن الملك لا يعلم تفاصيل ما يصل إليه وقت الوعد ولله عالم بها وقوله تعالى وَكَفَّ أَيْدِى َ النَّاسِ عَنْكُمْ لإتمام المنة كأنه قال رزقتكم غنيمة باردة من غير مس حر القتال ولو تعبتم فيه لقلتم هذا جزاء تعبنا وقوله تعالى وَلِتَكُونَ ءايَة ً لّلْمُؤْمِنِينَ عطف على مفهوم لأنه لما قال الله تعالى فَعَجَّلَ لَكُمْ هَاذِهِ واللام ينبىء عن النفع كما أن علي ينبىء عن الضر القائل لا علي ولا ليا بمعنى لا ما أتضرر به ولا ما أنتفع به ولا أضر به ولا أنفع فكذلك قوله فَعَجَّلَ لَكُمْ هَاذِهِ لتنفعكم وَلِتَكُونَ ءايَة ً لّلْمُؤْمِنِينَ وفيه معنى لطيف وهو أن المغانم الموعود بها كل ما يأخذه المسلمون فقوله وَلِتَكُونَ ءايَة ً لّلْمُؤْمِنِينَ يعني لينفعكم بها وليجعلها لمن بعدكم آية تدلهم على أن ما وعدهم الله يصل إليهم كما وصل إليكم أو نقول معناه لتنفعكم في الظاهر وتنفعكم في الباطن حيث يزداد يقينكم إذا رأيتم صدق الرسول في إخباره عن الغيوب فتجمل أخباركم ويكمل اعتقادكم وقوله وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً وهو التوكل عليه والتفويض إليه والاعتزاز به
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيراً

قيل غنيمة هوازن وقيل غنائم فارس والروم وذكر الزمخشري في أخرى ثلاثة أوجه أن تكون منصوبة بفعل مضمرر يفسره قَدْ أَحَاطَ و لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا صفة لأخرى كأنه يقول وغنيمة أخرى غير مقدورة قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ثانيها أن تكون مرفوعة وخبرها قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وحسن جعلها مبتدأ مع كونه نكرة لكونها موصوفة بلم تقدروا وثالثها الجر بإضمار رب ويحتمل أن يقال منصوبة بالعطف على منصوب وفيه وجهان أحدهما كأنه تعالى قال فَعَجَّلَ لَكُمْ هَاذِهِ وأخرى ما قدرتم عليها وهذا ضعيف لأن أخرى لم يعجل بها وثانيهما على مغانم كثيرة تأخذونها وأخرى أي وعدكم الله أخرى وحينئذ كأنه قال وعدكم الله مغانم تأخذونها ومغانم لا تأخذونها أنتم ولا تقدرون عليها وإنما يأخذها من يجيء بعدكم من المؤمنين وعلى هذا تبين لقول الفرّاء حسن وذلك لأنه فسر قوله تعالى قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا أي حفظها للمؤمنين لا يجري عليها هلاك إلى أن يأخذها المسلمون كإحاطة الحراس بالخزائن
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الاٌّ دْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
وهو يصلح جواباً لمن يقول كف الأيدي عنهم كان أمراً اتفاقياً ولو اجتمع عليهم العرب كما عزموا لمنعوهم من فتح خيبر واغتنام غنائمها فقال ليس كذلك بل سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون والغلبة واقعة للمسلمين فليس أمرهم أمراً اتفاقياً بل هو إلاهي محكوم به محتوم
وقوله تعالى ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
قد ذكرنا مراراً أن دفع الضرر عن الشخص إما أن يكون بولي ينفع باللطف أو بنصير يدفع بالعنف وليس للذين كفروا شيء من ذلك وفي قوله تعالى ثُمَّ لطيفة وهي أن من يولي دبره يطلب الخلاص من القتل بالالتحاق بما ينجيه فقال وليس إذا ولوا الأدبار يتخلصون بل بعد التولي الهلاك لاحق بهم
سُنَّة َ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّة ِ اللَّهِ تَبْدِيلاً
جواب عن سؤال آخر يقوم مقام الجهاد وهو أن الطوالع لها تأثيرات والاتصالات لها تغيرات فقال ليس كذلك ( بل ) سنة الله نصرة رسوله وإهلاك عدوه
وقوله تعالى وَلَن تَجِدَ لِسُنَّة ِ اللَّهِ تَبْدِيلاً
بشارة ودفع وهن يقع بسبب وهم وهو أنه إذا قال الله تعالى ليس هذا بالتأثيرات فلا يجب وقوعه بل الله فاعل مختار ولو أراد أن يهلك العباد لأهلكهم بخلاف قول المنجم بأن الغلب لمن له طالع وشواهد تقتضي غلبته قطعاً فقال الله تعالى وَلَن تَجِدَ لِسُنَّة ِ اللَّهِ تَبْدِيلاً يعني أن الله فاعل مختار يفعل ما يشاء ويقدر على إهلاك أصدقائه ولكن لا يبدل سنته ولا يغير عادته

وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّة َ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً
تبييناً لما تقدم من قوله وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الاْدْبَارَ ( الفتح 22 ) أي هو بتقدير الله لأنه كف أيديهم عنكم بالفرار وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم وقوله تعالى بِبَطْنِ مَكَّة َ إشارة إلى أمر كان هناك يقتضي عدم الكف ومع ذاك وجد كف الأيدي وذلك الأمر هو دخول المسلمين ببطن مكة فإن ذلك يقتضي أن يصبر المكفوف على القتال لكون العدو دخل دارهم طالبين ثأرهم وذلك مما يوجب اجتهاد البليد في الذب عن الحريم ويقتضي أن يبالغ المسلمون في الاجتهاد في الجهاد لكونهم لو قصروا لكسروا وأسروا لبعد مأمنهم فقوله بِبَطْنِ مَكَّة َ إشارة إلى بعد الكف ومع ذلك وجد بمشيئة الله تعالى وقوله تعالى مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ صالح لأمرين أحدهما أن يكون منة على المؤمنين بأن الظفر كان لكم مع أن الظاهر كان يستدعي كون الظفر لهم لكون البلاد لهم ولكثرة عددهم الثاني أن يكون ذكر أمرين مانعين من الأمرين الأولين مع أن الله حققهما مع المنافقين أما كف أيدي الكفار فكان بعيداً لكونهم في بلادهم ذابين عن أهليهم وأولادهم وإليه أشار بقوله بِبَطْنِ مَكَّة َ وأما كف أيدي المسلمين فلأنه كان بعد أن ظفروا بهم ومتى ظفر الإنسان بعدوه الذي لو ظفر هو به لاستأصله يبعد انكفافه عنه مع أن الله كف اليدين
وقوله تعالى وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً
يعني كان الله يرى فيه من المصلحة وإن كنتم لا ترون ذلك وبينه بقوله تعالى هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْى َ مَعْكُوفاً إلى أن قال وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ ( الفتح 25 ) يعني كان الكف محافظة على ما في مكة من المسلمين ليخرجوا منها ويدخلوها على وجه لا يكون فيه إيذاء من فيها من المؤمنين والمؤمنات واختلف المفسرون في ذلك الكف منهم من قال المراد ما كان عام الفتح ومنهم من قال ما كان عام الحديبية فإن المسلمين هزموا جيش الكفار حتى أدخلوهم بيوتهم وقيل إن الحرب كان بالحجارة
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْى َ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّة ٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
وقوله تعالى هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْى َ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ

إشارة إلى أن الكف لم يكن لأمر فيهم لأنهم كفروا وصدوا وأحصروا وكل ذلك يقتضي قتالهم فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا ولم يبق بينهما خلاف واصطلحوا ولم يبق بينهما نزاع بل الاختلاف باق والنزاع مستمر لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوا فازدادوا كفراً وعداوة وإنما ذلك للرجال المؤمنين والنساء المؤمنات وقوله وَالْهَدْى َ منصوب على العطف على كم في صَدُّوكُمْ ويجوز الجر عطفاً على المسجد أي وعن الهدي و مَعْكُوفاً حال و أَن يَبْلُغَ تقديره على أن يبلغ ويحتمل أن يقال أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ رفع تقديره معكوفاً بلوغه محله كما يقال رأيت زيداً شديداً بأسه ومعكوفاً أي ممنوعاً ولا يحتاج إلى تقدير عن على هذا الوجه
وقوله تعالى وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ مَّعَرَّة ٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وصف الرجال والنساء يعني لولا رجال ونساء يؤمنون غير معلومين وقوله تعالى أَن تَطَئُوهُمْ بدل اشتمال كأنه قال رجال غير معلومي الوطء فتصيبكم منهم معرة عيب أو إثم وذلك لأنكم ربما تقتلونهم فتلزمكم الكفارة وهي دليل الإثم أو يعيبكم الكفار بأنهم فعلوا بإخوانهم ما فعلوا بأعدائهم وقوله تعالى بِغَيْرِ عِلْمٍ قال الزمخشري هو متعلق بقوله أَن تَطَئُوهُمْ يعني تطئوهم بغير علم وجاز أن يكون بدلاً عن الضمير المنصوب في قوله لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ ولقائل أن يقول يكون هذا تكراراً لأن على قولنا هو بدل من الضمير يكون التقدير لم تعلموا أن تطئوهم بغير علم فيلزم تكرار بغير علم الحصول بقوله لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ فالأولى أن يقال بِغَيْرِ عِلْمٍ هو في موضعه تقديره لم تعلموا أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم من يعركم ويعيب عليكم يعني إن وطأتموهم غير عالمين يصبكم مسبة الكفار بِغَيْرِ عِلْمٍ أي بجهل لا يعلمون أنكم معذورون فيه أو نقول تقديره لم تعلموا أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم أي فتقتلوهم بغير علم أو تؤذوهم بغير علم فيكون الوطء سبب القتل والوطء غير معلوم لكم والقتل الذي هو بسبب المعرة وهو الوطء الذي يحصل بغير علم أو نقول المعرة قسمان أحدهما ما يحصل من القتل العمد ممن هو غير العالم بحال المحل والثاني ما يحصل من القتل خطأ وهو غير عدم العلم فقال تصيبكم منهم معرة غير معلومة لا التي تكون عن العلم وجواب لولا محذوف تقديره لولا ذلك لما كف أيديكم عنهم هذا ما قاله الزمخشري وهو حسن ويحتمل أن يقال جوابه ما يدل عليه قوله تعالى هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يعني قد استحقوا لأن لا يهملوا ولولا رجال مؤمنون لوقع ما استحقوه كما يقول القائل هو سارق ولولا فلان لقطعت يده وذلك لأن لولا لا تستعمل إلا لامتناع الشيء لوجود غيره وامتناع الشيء لا يكون إلا إذا وجد المقتضي له فمنعه الغير فذكر الله تعالى أولاً المقتضي التام البالغ وهو الكفر والصد والمنع وذكر ما امتنع لأجله مقتضاه وهو وجود الرجال المؤمنين
وقوله تعالى لّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فيه أبحاث
الأول في الفعل الذي يستدعي اللام الذي بسببه يكون الإدخال وفيه وجوه أحدها أن يقال هو قوله كَفَّ أَيْدِيكُم عَنْهُمْ ليدخل لا يقال بأنك ذكرت أن المانع وجود رجال مؤمنين فيكون كأنه قال كف

أيديكم لئلا تطئوا فكيف يكون لشيء آخر نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن نقول كف أيديكم لئلا تطئوا لتدخلوا كما يقال أطعمته ليشبع ليغفر الله لي أي الإطعام للشابع كان ليغفر الثاني هو أنا بينا أن لولا جوابه ما دل عليه قوله هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فيكون كأنه قال هم الذين كفروا واستحقوا التعجل في إهلاكهم ولولا رجال لعجل بهم ولكن كف أيديكم ليدخل ثانيها أن يقال فعل ما فعل ليدخل لأن هناك أفعالاً من الألطاف والهداية وغيرهما وقوله لّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء ليؤمن منهم من علم الله تعالى أنه يؤمن في تلك السنة أو ليخرج من مكة ويهاجر فيدخلهم في رحمته وقوله تعالى لَوْ تَزَيَّلُواْ أي لو تميزوا والضمير يحتمل أن يقال هو ضمير الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات فإن قيل كيف يصح هذا وقد قلتم بأن جواب لولا محذوف وهو قوله لما كف أو لعجل ولو كان لَوْ تَزَيَّلُواْ راجعاً إلى الرجال لكان لعذبنا جواب لولا نقول وقد قال به الزمخشري فقال لَوْ تَزَيَّلُواْ يتضمن ذكر لولا فيحتمل أن يكون لعذبنا جواب لولا ويحتمل أن يقال هو ضمير من يشاء كأنه قال ليدخل من يشاء في رحمته لو تزيلوا هم وتميزوا وآمنوا لعذبنا الذين كتب الله عليهم أنهم لا يؤمنون وفيه أبحاث
البحث الأول وهو على تقدير نفرضه فالكلام يفيد أن العذاب الأليم اندفع عنهم إما بسبب عدم التزييل أو بسبب وجود الرجال وعلم تقدير وجود الرجال والعذاب الأليم لا يندفع عن الكافر نقول المراد عذاباً عاجلاً بأيديكم يبتدىء بالجنس إذ كانوا غير مقرنين ولا منقلبين إليهم فيظهرون ويقتدرون يكون أليماً
البحث الثاني ما الحكمة في ذكر المؤمنين والمؤمنات مع أن المؤنث يدخل في ذكر المذكر عند الاجتماع قلنا الجواب عنه من وجهين أحدهما ما تقدم يعني أن الموضع موضع وهم اختصاص الرجال بالحكم لأن قوله تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ معناه تهلكوهم والمراد لا تقاتل ولا تقتل فكان المانع وهو وجود الرجال المؤمنين فقال والنساء المؤمنات أيضاً لأن تخريب بيوتهن ويتم أولادهن بسبب رجالهن وطأة شديدة وثانيهما أن في محل الشفقة تعد المواضع لترقيق القلب يقال لمن يعذب شخصاً لا تعذبه وارحم ذله وفقره وضعفه ويقال أولاده وصغاره وأهله الضعفاء العاجزين فكذلك ههنا قال لَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لترقيق قلوب المؤمنات ورضاهم بما جرى من الكف بعد الظفر
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّة َ حَمِيَّة َ الْجَاهِلِيَّة ِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيماً
إِذْ يحتمل أن يكون ظرفاً فلا بد من فعل يقع فيه ويكون عاملاً له ويحتمل أن يكون مفعولاً به فإن قلنا إنه ظرف فالفعل الواقع فيه يحتمل أن يقال هو مذكور ويحتمل أن يقال هو مفهوم غير مذكور فإن قلنا هو مذكور ففيه وجهان أحدهما هو قوله تعالى وَصَدُّوكُمْ ( الفتح 25 ) أي وصدوكم حين جعلوا في قلوبهم الحمية

وثانيها قوله تعالى لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ ( الفتح 25 ) أي لعذبناهم حين جعلوا في قلوبهم الحمية والثاني أقرب لقربه لفظاً وشدة مناسبته معنى لأنهم إذا جعلوا في قلوبهم الحمية لا يرجعون إلى الاستسلام والانقياد والمؤمنون لما أنزل الله عليهم السكينة لا يتركون الاجتهاد في الجهاد والله مع المؤمنين فيعذبونهم عذاباً أليماً أو غير المؤمنين وأما إن قلنا إن ذلك مفهوم غير مذكور ففيه وجهان أحدهما حفظ الله المؤمنين عن أن يطئوهم وهم الذين كفروا الذين جعل في قلوبهم الحمية وثانيها أحسن الله إليكم إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية وعلى هذا فقوله تعالى فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ تفسير لذلك الإحسان وأما إن قلنا إنه مفعول به فالعامل مقدر تقديره أذكر أي أذكر ذلك الوقت كما تقول أتذكر إذ قام زيد أي أتذكر وقت قيامه كما تقول أتذكر زيداً وعلى هذا يكون الظرف للفعل المضاف إليه عاملاً فيه وفي لطائف معنوية ولفظية الأولى هو أن الله تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن فأشار إلى ثلاثة أشياء أحدها جعل ما للكافرين بجعلهم فقال إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وجعل ما للمؤمنين بجعل الله فقال فَأَنزَلَ اللَّهُ وبين الفاعلين ما لا يخفى ثانيها جعل للكافرين الحمية وللمؤمنين السكينة وبين المفعولين تفاوت على ما سنذكره ثالثها أضاف الحمية إلى الجاهلية وأضاف السكينة إلى نفسه حيث قال حمية الجاهلية وقال سكينته وبين الإضافتين ما لا يذكر الثانية زاد المؤمنين خيراً بعد حصول مقابلة شيء بشيء فعلهم بفعل الله والحمية بالسكينة والإضافة إلى الجاهلية بالإضافة إلى الله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى وسنذكر معناه وأما اللفظية فثلاث لطائف الأولى قال في حق الكافر ( جعل ) وقال في حق المؤمن ( أنزل ) ولم يقل خلق ولا جعل سكينته إشارة إلى أن الحمية كانت مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى وأما السكينة فكانت كالمحفوظة في خزانة الرحمة معدة لعباده فأنزلها الثانية قال الحمية ثم أضافها بقوله حَمِيَّة َ الْجَاهِلِيَّة ِ لأن الحمية في نفسها صفة مذمومة وبالإضافة إلى الجاهلية تزداد قبحاً وللحمية في القبح درجة لا يعتبر معها قبح القبائح كالمضاف إلى الجاهلية وأما السكينة في نفسها وإن كانت حسنة لكن الإضافة إلى الله فيها من الحسن ما لا يبقى معه لحسن اعتبار فقال سَكِينَتَهُ اكتفاه بحسن الإضافة الثالثة قوله فَأنزَلَ بالفاء لا بالواو إشارة إلى أن ذلك كالمقابلة تقول أكرمني فأكرمته للمجازاة والمقابلة ولو قلت أكرمني وأكرمكته لا ينبىء عن ذلك وحينئذ يكون فيه لطيفة وهي أن عند اشتداد غضب أحد العدوين فالعدو الآخر إما أن يكون ضعيفاً أو قوياً فإن كان ضعيفاً ينهزم وينقهر وإن كان قوياً فيورث غضبه فيه غضباً وهذا سبب قيام الفتن والقتال فقال في نفس الحركة عند حركتهم ما أقدمنا وما انهزمنا وقوله تعالى فَأَنزَلَ اللَّهُ بالفاء يدل تعلق الإنزال بالفاء على ترتيبه على شيء نقول فيه وجهان أحدهما ما ذكرنا من أن إذ ظرف كأنه قال أحسن الله إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وقوله فَأنزَلَ تفسير لذلك الإحسان كما يقال أكرمني فأعطاني لتفسير الإكرام وثانيهما أن تكون الفاء للدلالة على أن تعلق إنزال السكينة بجعلهم الحمية في قلوبهم على معنى المقابلة تقول أكرمني فأثنيت عليه ويجوز أن يكونا فعلين واقعين من غير مقابلة كما تقول جاءني زيد وخرج عمرو وهو هنا كذلك لأنهم لما جعلوا في قلوبهم الحمية فالمسلمون على مجرى العادة لو نظرت إليهم لزم أن يوجد منهم أحد الأمرين إما إقدام وإما

انهزام لأن أحد العدوين إذا اشتد غضبه فالعدو الآخر إن كان مثله في القوة يغضب أيضاً وهذا يثير الفتن وإن كان أضعف منه ينهزم أو ينقاد له فالله تعالى أنزل في مقابلة حمية الكافرين على المؤمنين سكينته حتى لم يغضبوا ولم ينهزموا بل يصبروا وهو بعيد في العادة فهو من فضل الله تعالى قوله تعالى عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فإنه هو الذي أجاب الكافرين إلى الصلح وكان في نفس المؤمنين أن لا يرجعوا إلا بأحد الثلاثة بالنحر في المنحر وأبوا أن لا يكتبوا محمداً رسول الله وبسم الله فلما سكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سكن المؤمنون وقوله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى فيه وجوه أظهرها أنه قول لا إلاه إلا الله فإن بها يقع الاتقاء عن الشرك وقيل هو بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله فإن الكافرين أبوا ذلك والمؤمنون التزموه وقيل هي الوفاء بالعهد إلى غير ذلك ونحن نوضح فيه ما يترجح بالدليل فنقول وَأَلْزَمَهُمْ يحتمل أن يكون عائداً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين جميعاً يعني ألزم النبي والمؤمنين كلمة التقوى ويحتمل أن يكون عائداً إلى المؤمنين فحسب فإن قلنا إنه عائد إليهما جميعاً نقول هو الأمر بالتقوى فإن الله تعالى قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ ( الأحزاب 1 ) وقال للمؤمنين مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ( آل عمران 102 ) والأمر بتقوى الله حتى تذهله تقواه عن الالتفات إلى ما سوى الله كما قال في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وقال تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ( الأحزاب 77 ) ثم بيّن له حال من صدقه بقوله الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ ( الأحزاب 39 ) أما في حق المؤمنين فقال مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وقال فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى ( البقرة 150 ) وإن قلنا بأنه راجع إلى المؤمنين فهو قوله تعالى وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ( الحشر 7 ) ألا ترى إلى قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( الحجرات 1 ) وهو قوله تعالى عَظِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وفي معنى قوله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى على هذا معنى لطيف وهو أنه تعالى إذا قال ( اتقوا ) يكون الأمر وارداً ثم إن من الناس من يقبله بتوفيق الله ويلتزمه ومنهم من لا يلتزمه ومن التزمه فقد التزمه بإلزام الله إياه فكأنه قال تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى وفي هذا المعنى رجحان من حيث إن التقوى وإن كان كاملاً ولكنه أقرب إلى الكلمة وعلى هذا فقوله وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا معناه أنهم كانوا عند الله أكرم الناس فألزموا تقواه وذلك لأن قوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات 13 ) يحتمل وجهين أحدهما أن يكون معناه أن من يكون تقواه أكثر يكرمه الله أكثر والثاني أن يكون معناه أن من سيكون أكرم عند الله وأقرب إليه كان أتقى كما في قوله ( والمخلصون على خطر عظيم ) وقوله تعالى هُم مّنْ خَشْية ِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ ( المؤمنون 57 ) وعلى الوجه الثاني يكون معنى قوله وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا لأنهم كانوا أعلم بالله لقوله تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) وقوله وَأَهْلُهَا يحتمل وجهين أحدهما أنه يفهم من معنى الأحق أنه يثبت رجحاناً على الكافرين إن لم يثبت الأهلية كما لو اختار الملك اثنين لشغل وكل واحد منهما غير صالح له ولكن أحدهما أبعد عن الاستحقاق فقال في الأقرب إلى الاستحقاق إذا كان ولا بد فهذا أحق كما يقال الحبس أهون من القتل مع أنه لاهين هناك فقال وَأَهْلُهَا دفعاً لذلك الثاني وهو أقوى وهو أن يقال قوله تعالى وَأَهْلُهَا فيه وجوه نبينها بعد ما نبين معنى الأحق فنقول هو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الأحق بمعنى الحق لا للتفضيل كما في قوله تعالى خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً

( مريم 73 ) إذ لا خير في غيره والثاني أن يكون للتفضيل وهو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون بالنسبة إلى غيرهم أي المؤمنون أحق من الكافرين والثاني أن يكون بالنسبة إلى كلمة التقوى من كلمة أخرى غير تقوى تقول زيد أحق بالإكرام منه بالإهانة كما إذا سأل شخص عن زيد إنه بالطب أعلم أو بالفقه نقول هو بالفقه أعلم أي من الطب
لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً
بيان لفساد ما قاله المنافقون بعد إنزال الله السكينة على رسوله وعلى المؤمنين ووقوفهم عند ما أمروا به من عدم الإقبال على القتال وذلك قولهم ما دخلنا المسجد الحرام ولا حلقنا ولا قصرنا حيث كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى في منامه أن المؤمنين يدخلون مكة ويتمون الحج ولم يعين له وقتاً فقص رؤياه على المؤمنين فقطعوا بأن الأمر كما رأى لنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في منامه وظنوا أن الدخول يكون عام الحديبية والله أعلم أنه لا يكون إلا عام الفتح فلما صالحوا ورجعوا قال المنافقون استهزاء ما دخلنا ولا حلقنا فقال تعالى لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقّ وتعدية صدق إلى مفعولين يحتمل أن يكون بنفسه وكونه من الأفعال التي تتعدى إلى المفعولين ككلمة جعل وخلق ويحتمل أن يقال عدى إلى الرؤيا بحرف تقديره صدق الله رسوله في الرؤيا وعلى الأول معناه جعلها واقعة بين صدق وعده إذ وقع الموعود به وأتى به وعلى الثاني معناه ما أراه الله لم يكذب فيه وعلى هذا فيحتمل أن يكون رأى في منامه أن الله تعالى يقول ستدخلون المسجد الحرام فيكون قوله صَدَقَ ظاهراً لأن استعمال الصدق في الكلام ظاهر ويحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام رأى أنه يدخل المسجد فيكون قوله صَدَقَ اللَّهُ معناه أنه أتى بما يحقق المنام ويدل على كونه صادقاً يقال صدقني سن بكره مثلاً وفيما إذا حقق الأمر الذي يريه من نفسه مأخوذ من الإبل إذا قيل له هدع سكن فحقق كونه من صغار الإبل فإن هدع كلمة يسكن بها صغار الإبل وقوله تعالى بِالْحَقّ قال الزمخشري هو حال أو قسم أو صفة صدق وعلى كونه حال تقديره صدقه الرؤيا ملتبسة بالحق وعلى تقدير كونه صفة تقديره صدقه صدقاً ملتبساً بالحق وعلى تقدير كونه قسماً إما أن يكون قسماً بالله فإن الحق من أسمائه وإما أن يكون قسماً بالحق الذي هو نقيض الباطل هذا ما قاله ويحتمل أن يقال ( إن ) فيه وجهين آخرين أحدهما أن يقال فيه تقديم تأخير تقديره صدق الله رسوله بالحق الرؤيا أي الرسول الذي هو رسول بالحق وفيه إشارة إلى امتناع الكذب في الرؤيا لأنه لما كان رسولاً بالحق فلا يرى في منامه الباطل والثاني أن يقال بأن قوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إن قلنا بأن الحق قسم فأمر اللام ظاهر وإن لم يقل به فتقديره لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق والله لتدخلن وقوله والله لتدخلن جاز أن يكون تفسيراً للرؤيا يعني الرؤيا هي

والله لتدخلن وعلى هذا تبين أن قوله صَدَقَ اللَّهُ كان في الكلام لأن الرؤيا كانت كلاماً ويحتمل أن يكون تحقيقاً لقوله تعالى صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ يعني والله ليقعن الدخول وليظهرن الصدق فلتدخلن ابتداء كلام وقوله تعالى إِن شَاء اللَّهُ فيه وجوه أحدها أنه ذكره تعليماً للعباد الأدب وتأكيداً لقوله تعالى وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الكهف 23 24 ) الثاني هو أن الدخول لما لم يقع عام الحديبية وكان المؤمنون يريدون الدخول ويأبون الصلح قال لَتَدْخُلُنَّ ولكن لا بجلادتكم ولا بإرادتكم إنما تدخلون بمشيئة الله تعالى الثالث هو أن الله تعالى لما قال في الوحي المنزل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لَتَدْخُلُنَّ ذكر أنه بمشيئة الله تعالى لأن ذلك من الله وعد ليس عليه دين ولا حق واجب ومن وعد بشيء لا يحققه إلا بمشيئة الله تعالى وإلا فلا يلزمه به أحد وإذا كان هذا حال الموعود به في الوحي المنزّل صريحاً في اليقظة فما ظنكم بالوحي بالمنام وهو يحتمل التأويل أكثر مما يحتمله الكلام فإذا تأخر الدخول لم يستهزئون الرابع هو أن ذلك تحقيقاً للدخول وذلك لأن أهل مكة قالوا لا تدخلوها إلا بإرادتنا ولا نريد دخولكم في هذه السنة ونختار دخولكم في السنة القابلة والمؤمنون أرادوا الدخول في عامهم ولم يقع فكان لقائل أن يقول بقي الأمر موقوفاً على مشيئة أهل مكة إن أرادوا في السنة الآتية يتركوننا ندخلها وإن كرهوا لا ندخلها فقال لا تشترط إرادتهم ومشيئتهم بل تمام الشرط بمشيئة الله وقوله مُحَلّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ لاَ تَخَافُونَ إشارة إلى أنكم تتمون الحج من أوله إلى آخره فقوله لَتَدْخُلُنَّ إشارة إلى الأول وقوله مُحَلّقِينَ إشارة إلى الآخر وفيه مسألتان
المسألة الأولى مُحَلّقِينَ حال الداخلين والداخل لا يكون الآن محرماً والمحرم لا يكون محلقاً فقوله ءامِنِينَ ينبىء عن الدوام فيه إلى الحلق فكأنه قال تدخلونها آمنين متمكنين من أن تتموا الحج محلقين
المسألة الثانية قوله تعالى لاَ تَخَافُونَ أيضاً حال معناه غير خائفين وذلك حصل بقوله تعالى ءامِنِينَ فما الفائدة في إعادتها نقول فيه بيان كمال الأمن وذلك لأن بعد الحلق يخرج الإنسان عن الإحرام فلا يحرم عليه القتال وكان عند أهل مكة يحرم قتال من أحرم ومن دخل الحرم فقال تدخلون آمنين وتحلقون ويبقى أمنكم بعد خروجكم عن الإحرام وقوله تعالى فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ أي من المصلحة وكون دخولكم في سنتكم سبباً لوطء المؤمنين والمؤمنات أو فَعَلِمَ للتعقيب فَعَلِمَ وقع عقيب ماذا نقول إن قلنا المراد من فَعَلِمَ وقت الدخول فهو عقيب صدق وإن قلنا المراد فَعَلِمَ المصلحة فالمعنى علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب والتقدير يعني حصلت المصلحة في العام القابل فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ من المصلحة المتجددة فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً إما صلح الحديبية وإما فتح خيبر وقد ذكرناه وقوله تعالى وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء عَلِيماً يدفع وهم حدوث علمه من قوله فَعَلِمَ وذلك لأن قوله وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء عَلِيماً يفيد سبق علمه العام لكل علم محدث
هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَة ً وَأَجْراً عَظِيماً

ثم قال تعالى هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً
تأكيداً لبيان صدق الله في رسوله الرؤيا وذلك لأنه لما كان مرسلاً لرسوله ليهدي لا يريد ما لا يكون مهدياً للناس فيظهر خلافه فيقع ذلك سبباً للضلال ويحتمل وجوهاً أقوى من ذلك وهو أن الرؤيا بحيث توافق الواقع تقع لغير الرسل لكن رؤية الأشياء قبل وقوعها في اليقظة لا تقع لكل أحد فقال تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وحكى له ما سيكون في اليقظة ولا يبعد من أن يريه في المنام ما يقع فلا استبعاد في صدق رؤياه وفيها أيضاً بيان وقوع الفتح ودخول مكة بقوله تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ أي من يقويه على الأديان لا يستبعد منه فتح مكة له و ( الهدى ) يحتمل أن يكون هو القرآن كما قال تعالى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ ( البقرة 185 ) وعلى هذا دِينَ الْحَقِّ هو ما فيه من الأصول والفروع ويحتمل أن يكون الهدى هو المعجزة أي أرسله بالحق أي مع الحق إشارة إلى ما شرع ويحتمل أن يكون الهدى هو الأصول و دِينَ الْحَقِّ هو الأحكام وذلك لأن من الرسل من لم يكن له أحكام بل بين الأصول فحسب والألف واللام في الهدى يحتمل أن تكون للاستغراق أي كل ما هو هدى ويحتمل أن تكون للعهد وهو قوله تعالى ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء ( الزمر 23 ) وهو إما القرآن لقوله تعالى كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ إلى أن قال ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء ( الزمر 23 ) وإما ما اتفق عليه الرسل لقوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) والكل من باب واحد لأن ما في القرآن موافق لما اتفق عليه الأنبياء وقوله تعالى وَدِينِ الْحَقّ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون الحق اسم الله تعالى فيكون كأنه قال بالهدى ودين الله وثانيها أن يكون الحق نقيض الباطل فيكون كأنه قال ودين الأمر الحق وثالثها أن يكون المراد به الانقياد إلى الحق والتزامه لِيُظْهِرَهُ أي أرسله بالهدى وهو المعجز على أحد الوجوه لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ أي جنس الدين فينسخ الأديان دون دينه وأكثر المفسرين على أن الهاء في قوله لِيُظْهِرَهُ راجعة إلى الرسول والأظهر أنه راجع إلى دين الحق أي أرسل الرسول بالدين الحق ليظهره أي ليظهر الدين الحق على الأديان وعلى هذا فيحتمل أن يكون الفاعل للاظهار هو الله ويحتمل أن يكون هو النبي أي ليظهر النبي دين الحق وقوله تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً أي في أنه رسول الله وهذا مما يسلي قلب المؤمنين فإنهم تأذوا من رد الكفار عليهم العهد المكتوب وقالوا لا نعلم أنه رسول الله فلا تكتبوا محمد رسول الله بل اكتبوا محمد بن عبد الله فقال تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً في أنه رسول الله وفيه معنى لطيف وهو أن قول الله مع أنه كاف في كل شيء لكنه في الرسالة أظهر كفاية لأن

الرسول لا يكون إلا بقول المرسل فإذا قال ملك هذا رسولي لو أنكر كل من في الدنيا أنه رسول فلا يفيد إنكارهم فقال تعالى أي خلل في رسالته بإنكارهم مع تصديقي إياه بأنه رسولي وقوله مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ فيه وجوه أحدها خبر مبتدأ محذوف تقديره هو محمد الذي سبق ذكره بقوله أَرْسَلَ رَسُولَهُ ورسول الله عطف بيان وثانيها أن محمداً مبتدأ خبره رسول الله وهذا تأكيد لما تقدم لأنه لما قال هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ولا تتوقف رسالته إلا على شهادته وقد شهد له بها محمد رسول اللهمن غير نكير وثالثها وهو مستنبط وهو أن يقال مُحَمَّدٌ مبتدأ و رَسُولِ اللَّهِ عطف بيان سيق للمدح لا للتمييز وَالَّذِينَ مَعَهُ عطف على محمد وقوله أَشِدَّاء خبره كأنه تعالى قال وَالَّذِينَ مَعَهُ جميعهم أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ لأن وصف الشدة والرحمة وجد في جميعهم أما في المؤمنين فكما في قوله تعالى أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( المائدة 54 ) وأما في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكما في قوله وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ( التوبة 73 ) وقال في حقه بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ ( التوبة 128 ) وعلى هذا قوله تَرَاهُمْ لا يكون خطاباً مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بل يكون عاماً أخرج مخرج الخطاب تقديره أيها السامع كائناً من كان كما قلنا إن الواعظ يقول انتبه قبل أن يقع الانتباه ولا يريد به واحداً بعينه وقوله تعالى يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً لتمييز ركوعهم وسجودهم عن ركوع الكفار وسجودهم وركوع المرائي وسجوده فإنه لا يبتغي به ذلك وفيه إشارة إلى معنى لطيف وهو أن الله تعالى قال الراكعون والساجدون لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ ( فاطر 30 ) وقال الراكع يبتغي الفضل ولم يذكر الأجر لأن الله تعالى إذا قال لكم أجر كان ذلك منه تفضلاً وإشارة إلى أن عملكم جاء على ما طلب الله منكم لأن الأجرة لا تستحق إلا على العمل الموافق للطلب من المالك والمؤمن إذا قال أنا أبتغي فضلك يكون منه اعترافاً بالتقصير فقال يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ ولم يقل أجراً
وقوله تعالى سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ فيه وجهان أحدهما أن ذلك يوم القيامة كما قال تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ( آل عمران 106 ) وقال تعالى نُورُهُمْ يَسْعَى ( التحريم 8 ) وعلى هذا فنقول نورهم في وجوههم بسبب توجههم نحو الحق كما قال إبراهيم عليه السلام إِنّى وَجَّهْتُ الْعَالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 79 ) ومن يحاذي الشمس يقع شعاعها على وجهه فيتبين على وجهه النور منبسطاً مع أن الشمس لها نور عارضي يقبل الزوال والله نور السماوات والأرض فمن يتوجه إلى وجهه يظهر في وجهه نور يبهر الأنوار وثانيهما أن ذلك في الدنيا وفيه وجهان أحدهما أن المراد ما يظهر في الجباه بسبب كثرة السجود والثاني ما يظهره الله تعالى في وجوه الساجدين ليلاً من الحسن نهاراً وهذا محقق لمن يعقل فإن رجلين يسهران بالليل أحدهما قد اشتغل بالشراب واللعب والآخر قد اشتغل بالصلاة والقراءة واستفادة العلم فكل أحد في اليوم الثاني يفرق بين الساهر في الشرب واللعب وبين الساهر في الذكر والشكر
وقوله تعالى ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ فيه ثلاثة أوجه مذكورة أحدها أن يكون ذالِكَ مبتدأ و مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ خبراً له وقوله تعالى كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ خبراً مبتدأ محذوف تقديره ومثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع وثانيها أن يكون خبر ذلك هو قوله مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وقوله وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ مبتدأ وخبره كزرع وثالثها أن يكون ذلك إشارة غير معينة أوضحت

بقوله تعالى كَزَرْعٍ كقوله ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( الحجر 66 ) وفيه وجه رابع وهو أن يكون ذلك خبراً له مبتدأ محذوف تقديره هذا الظاهر في وجوههم ذلك يقال ظهر في وجهه أثر الضرب فنقول أي والله ذلك أي هذا ذلك الظاهر أو الظاهر الذي تقوله ذلك
وقوله تعالى وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَازَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
أي وصفوا في الكتابين به ومثلوا بذلك وإنما جعلوا كالزرع لأنه أول ما يخرج يكون ضعيفاً وله نمو إلى حد الكمال فكذلك المؤمنون والشطء الفرخ و فَازَرَهُ يحتمل أن يكون المراد أخرج الشطء وآزر الشطء وهو أقوى وأظهر والكلام يتم عند قوله يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
وقوله تعالى لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ أي تنمية الله ذلك ليغيظ أو يكون الفعل المعلل هو
وقوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أي وعد ليغيظ بهم الكفار يقال رغماً لأنفك أنعم عليه
وقوله تعالى مِنْهُم مَّغْفِرَة ً وَأَجْراً عَظِيماً لبيان الجنس لا للتبعيض ويحتمل أن يقال هو للتبعيض ومعناه ليغيظ الكفار والذين آمنوا من الكفار لهم الأجر العظيم والعظيم والمغفرة قد تقدم مراراً والله تعالى أعلم وههنا لطيفة وهو أنه تعالى قال في حق الراكعين والساجدين إنهم يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وقال لهم أجر ولم يقل لهم ما يطلبونه من ذلك الفضل وذلك لأن المؤمن عند العمل لم يلتفت إلى عمله ولم يجعل له أجراً يعتد به فقال لا أبتغي إلا فضلك فإن عملي نزر لا يكون له أجر والله تعالى آتاه ما آتاه من الفضل وسماه أجراً إشارة إلى قبول عمله ووقوعه الموقع وعدم كونه عند الله نزراً لا يستحق عليه المؤمن أجراً وقد علم بما ذكرنا مراراً أن قوله وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لبيان ترتب المغفرة على الإيمان فإن كل مؤمن يغفر له كما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) والأجر العظيم على العمل الصالح والله أعلم

سورة الحجرات
ثماني عشرة آية مدنية
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
في بيان حسن الترتيب وجوه أحدها أن في السورة المتقدمة لما جرى منهم ميل إلى الامتناع مما أجاز النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الصلح وترك آية التسمية والرسالة وألزمهم كلمة التقوى كأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لهم على سبيل العموم لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ولا تتجاوزوا ما يأمر الله تعالى ورسوله الثاني هو أن الله تعالى لما بيّن محل النبي عليه الصلاة والسلام وعلو درجته بكونه رسوله الذي يظهر دينه وذكره بأنه رحيم بالمؤمنين بقوله رَّحِيمٌ ( التوبة 128 ) قال لا تتركوا من احترامه شيئاً لا بالفعل ولا بالقول ولا تغتروا برأفته وانظروا إلى رفعة درجته الثالث هو أن الله تعالى وصف المؤمنين بكونهم أشداء ورحماء فيما بينهم راكعين ساجدين نظراً إلى جانب الله تعالى وذكر أن لهم من الحرمة عند الله ما أورثهم حسن الثناء في الكتب المتقدمة بقوله ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ ( الفتح 29 ) فإن الملك العظيم لا يذكر أحداً في غيبته إلا إذا كان عنده محترماً ووعدهم بالأجر العظيم فقال في هذه السورة لا تفعلوا ما يوجب انحطاط درجتكم وإحباط حسناتكم ولا تقدموا فقال وقيل في سبب نزول الآية وجوه قيل نزلت في صوم يوم الشك وقيل نزلت في التضحية قبل صلاة العيد وقيل نزلت في ثلاثة قتلوا اثنين من سليم ظنوهما من بني عامر وقيل نزلت في جماعة أكثروا من السؤال وكان قد قدم على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفود والأصح أنه إرشاد عام يشمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل إثبات وتقدم واستبداد بالأمر وإقدام على فعل غير ضروري من غير مشاورة وفي التفسير مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى لاَ تُقَدّمُواْ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون من التقديم الذي هو

متعد وعلى هذا ففيه وجهان أحدهما ترك مفعوله برأسه كما في قوله تعالى لاَ إله وقول القائل فلان يعطي ويمنع ولا يريد بهما إعطاء شيء معين ولا منع شيء معين وإنما يريد بهما أن له منعاً وإعطاء كذلك ههنا كأنه تعالى يقول لا ينبغي أن يصدر منكم تقديم أصلاً والثاني أن يكون المفعول الفعل أو الأمر كأنه يقول لاَ تُقَدّمُواْ يعني فعلاً بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أو لا تقدموا أمراً الثاني أن يكون المراد لاَ تُقَدّمُواْ بمعنى لا تتقدموا وعلى هذا فهو مجاز ليس المراد هو نفس التقديم بل المراد لا تجعلوا لأنفسكم تقدماً عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقال فلان تقدم من بين الناس إذا ارتفع أمره وعلا شأنه والسبب فيه أن من ارتفع يكون متقدماً في الدخول في الأمور العظام وفي الذكر عند ذكر الكرام وعلى هذا نقول سواء جعلناه متعدياً أو لازماً لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيداً فالمعنى واحد لأن قوله لاَ تُقَدّمُواْ إذا جعلناه متعدياً أو لازماً لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيداً فتقديره لا تقدموا أنفسكم في حضرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي لا تجعلوا لأنفسكم تقدماً ورأياً عنده ولا نقول بأن المراد لا تقدموا أمراً وفعلاً وحينئذ تتحد القراءتان في المعنى وهما قراءة من قرأ بفتح التاء والدال وقراءة من قرأ بضم التاء وكسر الدال وقوله تعالى بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي بحضرتهما لأن ما بحضرة الإنسان فهو بين يديه وهو ناظر إليه وهو نصب عينيه وفي قوله بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فوائد أحدها أن قول القائل فلان بين يدي فلان إشارة إلى كون كل واحد منهما حاضراً عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغلمان لأن من يجلس بجنب الإنسان يكلفه تقليب الحدقة إليه وتحريك الرأس إليه عند الكلام والأمر ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك ولأن اليدين تنبىء عن القدرة يقول القائل هو بين يدي فلان أي يقلبه كيف شاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعاً بين يديه وذلك مما يفيد وجوب الاحتراز من التقدم وتقديم النفس لأن من يكون كمتاع يقلبه الإنسان بيديه كيف يكون له عنده التقدم وثانيها ذكر الله إشارة إلى وجوب احترام الرسول عليه الصلاة والسلام والانقياد لأوامره وذلك لأن احترام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قد يترك على بعد المرسل وعدم اطلاعه على ما يفعل برسوله فقال بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ أي أنتم بحضرة من الله تعالى وهو ناظر إليكم وفي مثل هذه الحالة يجب احترام رسوله وثالثها هو أن هذه العبارة كما تقرر النهي المتقدم تقرر معنى الأمر المتأخر وهو قوله وَاتَّقَوْاْ لأن من يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يفعل به ما يشاء يكون جديراً بأن يتقيه وقوله تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ يحتمل أن يكون ذلك عطفاً يوجب مغايرة مثل المغايرة التي في قول القائل لا تتم واشتغل أي فائدة ذلك النهي هو ما في هذا الأمر وليس المطلوب به ترك النوم كيف كان بل المطلوب بذلك الاشتغال فكذلك لا تقدموا أنفسكم ولا تتقدموا على وجه التقوى ويحتمل أن يكون بينهما مغايرة أتم من ذلك وهي التي في قول القائل احترم زيداً واخدمه أي ائت بأتم الاحترام فكذلك ههنا معناه لا تتقدموا عنده وإذا تركتم التقدم فلا تتكلوا على ذلك فلا تنتفعوا بل مع أنكم قائمون بذلك محترمون له اتقوا الله واخشوه وإلا لم تكونوا أتيتم بواجب الاحترام وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يؤكد ما تقدم لأنهم قالوا آمنا لأن الخطاب يفهم بقوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فقد يسمع قولهم ويعلم فعلهم وما في قلوبهم من التقوى والخيانة فلا ينبغي أن يختلف قولكم وفعلكم وضمير قلبكم بل ينبغي أن يتم مما في سمعه من قولكم آمنا وسمعنا وأطعنا وما في علمه من فعلكم الظاهر وهو عدم التقدم وما في قلوبكم من الضمائر وهو التقوى
( 2 )

ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِى ِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ
لاَ تُقَدّمُواْ ( الحجرات 1 ) نهي عن فعل ينبىء عن كونهم جاعلين لأنفسهم عند الله ورسوله بالنسبة إليهما وزناً ومقداراً ومدخلاً في أمر من أوامرهما ونواهيهما وقوله لاَ تَرْفَعُواْ نهي عن قول ينبىء عن ذلك الأمر لأن من يرفع صوته عند غيره يجعل لنفسه اعتباراً وعظمة وفيه مباحث
البحث الأول ما الفائدة في إعادة النداء وما هذا النمط من الكلامين على قول القائل عَظِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ ( الحجرات 1 ) و لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ نقول في إعادة النداء فوائد خمسة منها أن يكون في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كما في قول لقمان لابنه يَعِظُهُ يابُنَى َّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ ( لقمان 13 ) تَعْمَلُونَ يابُنَى َّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ ( لقمان 16 ) لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً أَقِمِ الصَّلَواة َ ( لقمان 17 ) لأن النداء لتنبيه المنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل باله منه فإعادته تفيد ذلك ومنها أن لا يتوهم متوهم أن المخاطب ثانياً غير المخاطب أولاً فإن من الجائز أن يقول القائل يا زيد افعل كذا وقل كذا يا عمرو فإذا أعاده مرة أخرى وقال يا زيد قل كذا يعلم من أول الكلام أنه هو المخاطب ثانياً أيضاً ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود وليس الثاني تأكيداً للأول كما تقول يا زيد لا تنطق ولا تتكلم إلا بالحق فإنه لا يحسن أن يقال يا زيد لا تنطق يا زيد لا تتكلم كما يحسن عند اختلاف المطلوبين وقوله تعالى لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون المراد حقيقته وذلك لأن رفع الصوت دليل قلة الاحتشام وترك الاحترام وهذا من مسألة حكمية وهي أن الصوت بالمخارج ومن خشي قلبه ارتجف وتضعف حركته الدافعة فلا يخرج منه الصوت بقوة ومن لم يخف ثبت قلبه وقوي فرفع الهواء دليل عدم الخشية ثانيها أن يكون المراد المنع من كثر الكلام لأن من يكثر الكلام يكون متكلماً عن سكوت الغير فيكون في وقت سكوت الغير لصوته ارتفاع وإن كان خائفاً إذا نظرت إلى حال غيره فلا ينبغي أن يكون لأحد عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلام كثير بالنسبة إلى كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن النبي عليه الصلاة والسلام مبلغ فالمتكلم عنده إن أراد الإخبار لا يجوز وإن استخبر النبي عليه السلام عما وجب عليه البيان فهو لا يسكت عما يسأل وإن لم يسأل وربما يكون في السؤال حقيدة برد جواب لا يسهل على المكلف الإتيان به فيبقى في ورطة العقاب ثالثها أن يكون المراد رفع الكلام بالتعظيم أي لا تجعلوا لكلامكم ارتفاعاً على كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الخطاب كما يقول القائل لغيره أمرتك مراراً بكذا عندما يقول له صاحبه مرني بأمر مثله فيكون أحد الكلامين أعلى وأرفع من الآخر والأول أصح والكل يدخل في حكم المراد لأن المنع من رفع الصوت لا يكون إلا للاحترام وإظهار الاحتشام ومن بلغ احترامه إلى حيث تنخفض الأصوات عنده من هيبته وعلو مرتبته لا يكثر عنده الكلام ولا يرجع المتكلم مع في الخطاب وقوله تعالى وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ فيه فوائد

إحداها أن بالأول حصل المنع من أن يجعل الإنسان كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصوته ولقائل أن يقول فما منعت من المساواة فقال تعالى ولا تجهروا له كما تجهرون لأقرانكم ونظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا
والثانية أن هذا أفاد أنه لا ينبغي أن يتكلم المؤمن عند النبي عليه السلام كما يتكلم العبد عند سيده لأن العبد داخل تحت قوله كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ لأنه للعموم فلا ينبغي أن يجهر المؤمن للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما يجهر العبد للسيد وإلا لكان قد جهر له كما يجهر بعضكم لبعض لا يقال المفهوم من هذا النمط أن لا تجعلوه كما يتفق بينكم بل تميزوه بأن لا تجهروا عنده أبداً وفيما بينكم لا تحافظون على الاحترام لأنا نقول ما ذكرنا أقرب إلى الحقيقة وفيه ما ذكرتم من المعنى وزيادة ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى النَّبِى ُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ( الأحزاب 6 ) والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه حتى لو كانا في مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده ويجب البذل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده لا يلزمه أن يلقى نفسه في التهلكة لإنجاء سيده ويجب لإنجاء النبي عليه الصلاة والسلام وقد ذكرنا حقيقته عند تفسير الآية وأن الحكمة تقتضي ذلك كما أن العضو الرئيس أولى بالرعاية من غيره لأن عند خلل القلب مثلاً لا يبقى لليدين والرجلين استقامة فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي عليه الصلاة والسلام لهلك هو أيضاً بخلاف العبد والسيد
الفائدة الثانية أن قوله تعالى لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ لما كان من جنس لا تَجْهَرُواْ لم يستأنف النداء ولما كان هو يخالف التقدم لكون أحدهما فعلاً والآخر قولاً استأنف كما في قول لقمان يَعِظُهُ يابُنَى َّ لاَ تُشْرِكْ ( لقمان 13 ) وقوله لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً أَقِمِ الصَّلَواة َ ( لقمان 17 ) لكون الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح وقوله لَطِيفٌ خَبِيرٌ يابُنَى َّ أَقِمِ الصَّلَواة َ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ من غير استئناف النداء لأن الكل من عمل الجوارح
واعلم أنا إن قلنا المراد من قوله لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ أي لا تكثروا الكلام فقوله وَلاَ تَجْهَرُواْ يكون مجازاً عن الإتيان بالكلام عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقدر ما يؤتى به عند غيره أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل وكذلك إن قلنا المراد بالرفع الخطاب فالمراد بقوله لا تَجْهَرُواْ أي لا تخاطبوه كما تخاطبون غيره وقوله تعالى أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ فيه وجهان مشهوران أحدهما لئلا تحبط والثاني كراهة أن تحبط وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) وأمثاله ويحتمل ههنا وجهاً آخر وهو أن يقال معناه واتقوا الله واجتنبوا أن تحبط أعمالكم والدليل على هذا أن الإضمار لما لم يكن منه بد فما دل عليه الكلام الذي هو فيه أولى أن يضمر والأمر بالتقوى قد سبق في قوله تعالى وَاتَّقَوْاْ ( الحجرات 1 ) وأما المعنى فنقول قوله أَن تَحْبَطَ إشارة إلى أنكم إن رفعتم أصوتكم وتقدمتكم تتمكن منكم هذه الرذائل وتؤدي إلى الاستحقار وإنه يفضي إلى الانفراد والارتداد المحبط وقوله تعالى وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إشارة إلى أن الردة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان فإن من ارتكب ذنباً لم يرتكبه في عمره تراه نادماً غاية الندامة خائفاً غاية الخوف فإذا ارتكبه مراراً يقل الخوف والندامة ويصير عادة من حيث لا يعلم أنه لا يتمكن وهذا كان للتمكن في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها وهذا كما أن من بلغه خبر فإنه لا يقطع بقول المخبر

في المرة الأولى فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ حد التواتر يحصل له اليقين ويتمكن الاعتقاد ولا يدري متى كان ذلك وعند أي خبر حصل هذا اليقين فقوله وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تعفي ولا توجب رده لأن الأمر غير معلوم فاحسموا الباب وفيه بيان آخر وهو أن المكلف إذا لم يحترم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويجعل نفسه مثله فيما يأتي به بناء على أمره يكون كما يأتي به بناء على أمر نفسه لكن ما تأمر به النفس لا يوجب الثواب وهو محبط حابط كذلك ما يأتي به بغير أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حينئذ حابط محبط والله أعلم
واعلم أن الله تعالى لما أمر المؤمنين باحترام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإكرامه وتقديمه على أنفسهم وعلى كل من خلقه الله تعالى أمر نبيه عليه السلام بالرأفة والرحمة وأن يكون أرأف بهم من الوالد كما قال وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ( الحجر 88 ) وقال تعالى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ( الكهف 28 ) وقال وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ( القلم 48 ) إلى غير ذلك لئلا تكون خدمته خدمة الجبارين الذين يستعبدون الأحرار بالقهر فيكون انقيادهم لوجه الله
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
وفيه الحث على ما أرشدهم إليه من وجهين أحدهما ظاهر لكل أحد وذلك في قوله تعالى امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى وبيانه هو أن من يقدم نفسه ويرفع صوته يريد إكرام نفسه واحترام شخصه فقال تعالى ترك هذا الاحترام يحصل به حقيقة الاحترام وبالإعراض عن هذا الإكرام يكمل الإكرام لأن به تتبين تقواكم و إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات 13 ) ومن القبيح أن يدخل الإنسان حماماً فيتخير لنفسه فيه منصباً ويفوت بسببه منصبه عند السلطان ويعظم نفسه في الخلاء والمستراح وبسببه يهون في الجمع العظيم وقوله تعالى امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى فيه وجوه أحدها امتحنها ليعلم منه التقوى فإن من يعظم واحداً من أبناء جنسه لكونه رسول مرسل يكون تعظيمه للمرسل أعظم وخوفه منه أقوى وهذا كما في قوله تعالى وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ( الحج 32 ) أي تعظيم أوامر الله من تقوى الله فكذلك تعظيم رسول الله من تقواه الثاني امتحن أي علم وعرف لأن الامتحان تعرف الشيء فيجوز استعماله في معناه وعلى هذا فاللام تتعلق بمحذوف تقديره عرف الله قلوبهم صالحة أي كائنة للتقوى كما يقول القائل أنت لكذا أي صالح أو كائن الثالث امتحن أي أخلص يقال للذهب ممتحن أي مخلص في النار وهذه الوجوه كلها مذكورة ويحتمل أن يقال معناه امتحنها للتقوى اللام للتعليل وهو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون تعليلاً يجري مجرى بيان السبب المتقدم كما يقول القائل جئتك لإكرامك لي أمس أي صار ذلك الإكرام السابق سبب المجيء وثانيها أن يكون تعليلاً يجري مجرى بيان غاية المقصود المتوقع الذي يكون لاحقاً لا سابقاً كما يقول القائل جئتك لأداء الواجب فإن قلنا بالأول فتحقيقه هو أن الله علم ما في قلوبهم من تقواه وامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها ولولا أن قلوبهم كانت

مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه على أنفسهم بل كان يقول لهم آمنوا برسولي ولا تؤذوه ولا تكذبوه فإن الكافر أول ما يؤمن يؤمن بالاعتراف بكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً وبين من قيل له لا تستهزىء برسول الله ولا تكذبه ولا تؤذه وبين من قيل له لا ترفع صوتك عنده ولا تجعل لنفسك وزناً بين يديه ولا تجهر بكلامك الصادق بين يديه بون عظيم
واعلم أن بقدر تقديمك للنبي عليه الصلاة والسلام على نفسك في الدنيا يكون تقديم النبي عليه الصلاة والسلام إياك في العقبى فإنه لن يدخل أحد الجنة ما لم يدخل الله أمته المتقين الجنة فإن قلنا بالثاني فتحقيقه هو أن الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته ومعرفة رسوله بالتقوى أي ليرزقهم الله التقوى التي هي حق التقاة وهي التي لا تخشى مع خشية الله أحداً فتراه آمناً من كل مخيف لا يخاف في الدنيا بخساً ولا يخاف في الآخرة نحساً والناظر العاقل إذا علم أن بالخوف من السلطان يأمن جور الغلمان وبتجنب الأراذل ينجو من بأس السلطان فيجعل خوف السلطان جنة فكذلك العالم لو أمعن النظر لعلم أن بخشية الله النجاة في الدارين وبالخوف من غيره الهلاك فيهما فيجعل خشية الله جنته التي يحس بها نفسه في الدنيا والآخرة
ثم قال تعالى لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
وقد ذكرنا أن المغفرة إزالة السيئات التي هي في الدنيا لازمة للنفس والأجر العظيم إشارة إلى الحياة التي هي بعد مفارقة الدنيا عن النفس فيزيل الله عنه القبائح البهيمية ويلبسه المحاسن الملكية
إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
بياناً لحال من كان في مقابلة من تقدم فإن الأول غض صوته والآخر رفعه وفيه إشارة إلى أنه ترك لأدب الحضور بين يديه وعرض الحاجة عليه وأما قول القائل للملك يا فلان من سوء الأدب فإن قلت كل أحد يقول يا الله مع أن الله أكبر نقول النداء على قسمين أحدهما لتنبيه المنادى وثانيهما لإظهار حاجة المنادي مثال الأول قول القائل لرفيقه أو غلامه يا فلان ومثال الثاني قول القائل في الندبة يا أمير المؤمنين أو يا زيداه ولقائل أن يقول إن كان زيد بالمشرق لا تنبيه فإنه محال فكيف يناديه وهو ميت فنقول قولنا يا الله لإظهار حاجة الأنفس لا لتنبيه المنادى وإنما كان في النداء الأمران جميعاً لأن المنادي لا ينادي إلا لحاجة في نفسه يعرضها ولا ينادي في الأكثر إلا معرضاً أو غافلاً فحصل في النداء الأمران ونداؤهم كان للتنبيه وهو سوء أدب وأما قول أحدنا للكبير يا سيدي ويا مولاي فهو جار مجرى الوصف والإخبار الثاني النداء من وراء الحجرات فإن من ينادي غيره ولا حائل بينهما لا يكلفه المشي والمجيء بل يجيبه من مكانه ويكلمه ولا يطلب المنادي إلا لالتفات المنادى إليه ومن ينادي غيره من وراء الحائل فكأنه يريد منه حضوره كمن ينادي صاحب البستان من خارج البستان الثالث قوله الْحُجُراتِ إشارة إلى قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في خلوته التي لا يحسن في الأدب إتيان المحتاج إليه في حاجته في ذلك الوقت بل الأحسن التأخير وإن كان في ورطة الحاجة وقوله تعالى أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ فيه بيان المعايب بقدر ما في سوء أدبهم من القبائح وذلك لأن الكلام من خواص الإنسان وهو أعلى مرتبة من غيره وليس لمن دونه كلام لكن النداء في المعنى كالتنبيه وقد يحصل بصوت يضرب شيء على شي وفي الحيوانات العجم ما يظهر

لكل أحد كالنداء فإن الشاة تصيح وتطلب ولدها وكذلك غيرها من الحيوانات والسخلة كذلك فكأن النداء حصل في المعنى لغير الآدمي فقال الله تعالى في حقهم أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ يعني النداء الصادر منهم لما لم يكن مقروناً بحسن الأدب كانوا فيه خارجين عن درجة من يعقل وكان نداؤهم كصياح صدر من بعض الحيوان وقوله تعالى أَكْثَرُهُمْ فيه وجهان أحدهما أن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل وإنما تأتي بالأكثر احترازاً عن الكذب واحتياطاً في الكلام لأن الكذب مما يحبط به عمل الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل ثم إن الله تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم وفيه إشارة إلى لطيفة وهي أن الله تعالى يقول أنا مع إحاطة علمي بكل شيء جريت على عادتكم استحساناً لتلك العادة وهي الاحتراز عن الكذب فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلاً قاطعاً على رضائي بذلك وثانيهما أن يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون وتحقيق هذا هو أن الإنسان إذا اعتبر مع وصف ثم اعتبر مع وصف آخر يكون المجموع الأول غير المجموع الثاني مثاله الإنسان يكون جاهلاً وفقيراً فيصير عالماً وغنياً فيقال في العرف زيد ليس هو الذي رأيته من قبل بل الآن على أحسن حال فيجعله كأنه ليس ذلك إشارة إلى ما ذكرنا إذا علم هذا فهم في بعض الأحوال إذا اعتبرتهم مع تلك الحالة مغايرون لأنفسهم إذا اعتبرتهم مع غيرها فقال تعالى أَكْثَرُهُمْ إشارة إلى ما ذكرناه وفيه وجه ثالث وهو أن يقال لعل منهم من رجع عن تلك الأهواء ومنهم من استمر على تلك العادة الرديئة فقال أكثرهم إخراجاً لمن ندم منهم عنهم
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
ثم قال تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ إشارة إلى حسن الأدب الذي على خلاف ما أتوا به من سوء الأدب فإنهم لو صبروا لما احتاجوا إلى النداء وإذا كنت تخرج إليهم فلا يصح إتيانهم في وقت اختلائك بنفسك أو بأهلك أو بربك فإن للنفس حقاً وللأهل حقاً وقوله تعالى لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد أن ذلك هو الحسن والخير كقوله تعالى خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( الفرقان 24 ) وثانيهما أن يكون المراد هو أن بالنداء وعدم الصبر يستفيدون تنجيز الشغل ودفع الحاجة في الحال وهو مطلوب ولكن المحافظة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتعظيمه خير من ذلك لأنها تدفع الحاجة الأصلية التي في الآخرة وحاجات الدنيا فضلية والمرفوع الذي يقتضيه كلمة كان إما الصبر وتقديره لو أنهم صبروا لكان الصبر خيراً أو الخروج من غير نداء وتقديره لو صبروا حتى تخرج إليهم لكان خروجك من غير نداء خيراً لهم وذلك مناسب للحكاية لأنهم طلبوا خروجه عليه الصلاة والسلام ليأخذوا ذراريهم فخرج وأعتق نصفهم وأخذوا نصفهم ولو صبروا لكان يعتق كلهم والأول أصح
ثم قال تعالى وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ تحقيقاً لأمرين أحدهما لسوء صنيعهم في التعجل فإن الإنسان إذا أتى بقبيح ولا يعاقبه الملك أو السيد يقال ما أحلم سيده لا لبيان حلمه بل لبيان عظيم جناية العبد وثانيهما لحسن الصبر يعني بسبب إتيانهم بما هو خير يغفر الله لهم سيئاتهم ويجعل هذه الحسنة كفارة

لكثير من السيئات كما يقال للآبق إذا رجع إلى باب سيده أحسنت في رجوعك وسيدك رحيم أي لا يعاقبك على ما تقدم من ذنبك بسبب ما أتيت به من الحسنة ويمكن أن يقال بأن ذلك حث للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الصفح وقوله تعالى أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ كالعذر لهم وقد ذكرنا أن الله تعالى ذكر في بعض المواضع الغفران قبل الرحمة كما في هذه السورة وذكر الرحمة قبل المغفرة في سورة سبأ في قوله وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ( سبأ 2 ) فحيث قال غفور رحيم أي يغفر سيئاته ثم ينظر إليه فيراه عارياً محتاجاً فيرحمه ويلبسه لباس الكرامة وقد يراه مغموراً في السيئات فيغفر سيئاته ثم يرحمه بعد المغفرة فتارة تقع الإشارة إلى الرحمة التي بعد المغفرة فيقدم المغفرة وتارة تقع الرحمة قبل المغفرة فيؤخرها ولما كانت الرحمة واسعة توجد قبل المغفرة وبعدها ذكرها قبلها وبعدها
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَة ٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وهي إما مع الله تعالى أو مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو مع غيرهم من أبناء الجنس وهم على صنفين لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة أو خارجاً عنها وهو الفاسق والداخل في طائفتهم السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضراً عندهم أو غائباً عنهم فهذه خمسة أقسام أحدها يتعلق بجانب الله وثانيها بجانب الرسول وثالثها بجانب الفساق ورابعها بالمؤمن الحاضر وخامسها بالمؤمن الغائب فذكرهم الله تعالى في هذه السورة خمس مرات ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وأرشدهم في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة فقال أولاً عَظِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( الحجرات 1 ) وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله لأنها لا تعلم إلا بقول رسول الله وقال ثانياً عَلِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِى ّ ( الحجرات 2 ) لبيان وجوب احترم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ثالثاً رَّحِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم وبين ذلك عند تفسير قوله وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( الحجرات 9 ) وقال رابعاً تُرْحَمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ ( الحجرات 11 ) وقال وَلاَ تَنَابَزُواْ ( الحجرات 11 ) لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم والازدراء بحالهم ومنصبهم وقال خامساً الظَّالِمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ ( الحجرات 12 ) وقال وَلاَ تَجَسَّسُواْ ( الحجرات 12 ) وقال وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته وذكر ما لو كان حاضراً لتأذى وهو في غاية الحسن من الترتيب فإن قيل لم لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة الابتداء بالله ورسوله ثم بالمؤمن الحاضر ثم بالمؤمن الغائب ثم بالفاسق نقول قدم الله ما هو الأهم على ما دونه فذكر جانب الله ثم ذكر جانب الرسول ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق والاعتماد عليه فإنه يذكر كل ما كان أشد نفاراً للصدور وأما المؤمن الحاضر أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حد يفضي إلى القتل ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق آية الاقتتال فقال وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ وفي التفسير مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية هو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث الوليد بن عقبة وهو أخو عثمان لأمه

إلى بني المصطلق ولياً ومصدقاً فالتقوه فظنهم مقاتلين فرجع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إنهم امتنعوا ومنعوا فهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالإيقاع بهم فنزلت هذه الآية وأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأنهم لم يفعلوا من ذلك شيئاً وهذا جيد إن قالوا بأن الآية نزلت في ذلك الوقت وأما إن قالوا بأنها نزلت لذلك مقتصراً عليه ومتعدياً إلى غيره فلا بل نقول هو نزل عاماً لبيان التثبت وترك الاعتماد على قول الفاسق ويدل على ضعف قول من يقول إنها نزلت لكذا أن الله تعالى لم يقل إني أنزلتها لكذا والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم ينقل عنه أنه بين أن الآية وردت لبيان ذلك فحسب غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل التاريخ لنزول الآية ونحن نصدق ذلك ويتأكد ما ذكرنا أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد سيء بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ والمخطىء لا يسمى فاسقاً وكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن ربقة الإيمان لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( المنافقون 6 ) وقوله تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ ( الكهف 50 ) وقوله تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا ( السجدة 20 ) إلى غير ذلك
المسألة الثانية قوله تعالى إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ إشارة إلى لطيفة وهي أن المؤمن كان موصوفاً بأنه شديد على الكافر غليظ عليه فلا يتمكن الفاسق من أن يخبره بنبأ فإن تمكن منه يكون نادراً فقال أَن جَاءكُمْ بحرف الشرط الذي لا يذكر إلا مع التوقع إذ لا يحسن أن يقال إن احمر البسر وإن طلعت الشمس
المسألة الثالثة النكرة في معرض الشرط تعم إذا كانت في جانب الثبوت كما أنها تعم في الإخبار إذا كانت في جانب النفي وتخص في معرض الشرط إذ كانت في جانب النفي كما تخص في الإخبار إذا كانت في جانب الثبوت فلنذكر بيانه بالمثال ودليله أما بيانه بالمثال فنقول إذا قال قائل لعبده إن كلمت رجلاً فأنت حر فيكون كأنه قال لا أكلم رجلاً حتى يعتق بتكلم كل رجل وإذا قال إن لم أكلم اليوم رجلاً فأنت حر يكون كأنه قال لا أكلم اليوم رجلاً حتى لا يعتق العبد بترك كلام كل رجل كما لا يظهر الحلف في كلامه بكلام كل رجل إذا ترك الكلام مع رجل واحد وأما الدليل فلأن النظر أولاً إلى جانب الإثبات ألا ترى أنه من غير حرف لما أن الوضع للاثبات والنفي بحرف فقول القائل زيد قائم وضع أولاً ولم يحتج إلى أن يقال مع ذلك حرف يدل على ثبوت القيام لزيد وفي جانب النفي احتجنا إلى أن نقول زيد ليس بقائم ولو كان الوضع والتركيب أولاً للنفي لما احتجنا إلى الحرف الزائد اقتصاراً أو اختصاراً وإذا كان كذلك فقول القائل رأيت رجلاً يكفي فيه ما يصحح القول وهو رؤية واحد فإذا قلت ما رأيت رجلاً وهو وضع لمقابلة قوله رأيت رجلاً وركب لتلك المقابلة والمتقابلان ينبغي أن لا يصدقا فقول القائل ما رأيت رجلاً لو كفى فيه انتفاء الرؤية عن غير واحد لصح قولنا رأيت رجلاً وما رأيت رجلاً فلا يكونان متقابلين فيلزمنا من الاصطلاح الأول الاصطلاح الثاني ولزم منه العموم في جانب النفي إذا علم هذا فنقول الشرطية وضعت أولاً ثم ركبت بعد الجزمية بدليل زيادة الحرف وهو في مقابلة الجزمية وكان قول القائل إذا لم تكن أنت حراً ما كلمت رجلاً يرجع إلى معنى النفي وكما علم عموم القول في الفاسق علم عمومه في النبأ فمعناه أي فاسق جاءكم بأي نبأ فالتثبت فيه واجب
المسألة الرابعة متمسك أصحابنا في أن خبر الواحد حجة وشهادة الفاسق لا تقبل أما في المسألة

الأولى فقالوا علل الأمر بالتوقف بكونه فاسقاً ولو كان خبر الوحد العدل لا يقبل لما كان للترتيب على الفاسق فائدة وهو من باب التمسك بالمفهوم وأما في الثانية فلوجهين أحدهما أمر بالتبين فلو قبل قوله لما كان الحاكم مأموراً بالتبين فلم يكن قول الفاسق مقبولاً ثم إن الله تعالى أمر بالتبين في الخبر والنبأ وباب الشهادة أضيف من باب الخبر والثاني هو أنه تعالى قال ءانٍ تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَة ٍ والجهل فوق الخطأ لأن المجتهد إذ أخطأ لا يسمى جاهلاً والذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصب جهل فلا يكون البناء على قوله جائزاً
المسألة الخامسة ءانٍ ذكرنا فيها وجهين أحدهما مذهب الكوفيين وهو أن المراد لئلا تصيبوا وثانيها مذهب البصريين وهو أن المراد كراهة أن تصيبوا ويحتمل أن يقال المراد فتبينوا واتقوا وقوله تعالى ءانٍ بَعْدَهَا قَوْماً يبين ما ذكرنا أن يقول الفاسق تظهر الفتن بين أقوام ولا كذلك بالألفاظ المؤذية في الوجه والغيبة الصادرة من المؤمنين لأن المؤمن يمنعه دينه من الإفحاش والمبالغة في الإيحاش وقوله بِجَهَالَة ٍ في تقدير حال أي أن تصيبوهم جاهلين وفيه لطيفة وهي أن الإصابة تستعمل في السيئة والحسنة كما في قوله تعالى مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ ( النساء 79 ) لكن الأكثر أنها تستعمل فيما يسوء لكن الظن السوء يذكر معه كما في قوله تعالى وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ ( النساء 78 ) ثم حقق ذلك بقوله فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ بياناً لأن الجاهل لا بد من أن يكون على فعله نادماً وقوله فَتُصْبِحُواْ معناه تصيروا قال النحاة أصبح يستعمل على ثلاثة أوجه أحدها بمعنى دخول الرجل في الصباح كما يقول القائل أصبحنا نقضي عليه وثانيها بمعنى كان الأمر وقت الصباح كذا وكذا كما يقول أصبح اليوم مريضنا خيراً مما كان غير أنه تغير ضحوة النهار ويريد كونه في الصبح على حاله كأنه يقول كان المريض وقت الصبح خيراً وتغير ضحوة النهار وثالثها بمعنى صار يقول القائل أصبح زيد غنياً ويريد به صار من غير إرادة وقت دون وقت والمراد ههنا هو المعنى الثالث وكذلك أمسى وأضحى ولكن لهذا تحقيق وهو أن نقول لا بد في اختلاف الألفاظ من اختلاف المعاني واختلاف الفوائد فنقول الصيرورة قد تكون من ابتداء أمر وتدوم وقد تكون في آخر بمعنى آل الأمر إليه وقد تكون متوسطة
مثال الأول قول القائل صار الطفل فاهماً أي أخذ فيه وهو في الزيادة
مثال الثاني قول القائل صار الحق بيناً واجباً أي انتهى حده وأخذ حقه
مثال الثالث قول القائل صار زيد عالماً وقوياً إذا لم يرد أخذه فيه ولا بلوغه نهايته بل كونه متلبساً به متصفاً به إذا علمت هذا فأصل استعمال أصبح فيما يصير الشيء آخذاً في وصف ومبتدئاً في أمر وأصل أمسى فيما يصير الشيء بالغاً في الوصف نهايته وأصل أضحى التوسط لا يقال أهل الاستعمال لا يفرقون بين الأمور ويستعملون الألفاظ الثلاثة بمعنى واحد نقول إذا تقاربت المعاني جاز الاستعمال وجواز الاستعمال لا ينافي الأصل وكثير من الألفاظ أصله مضى واستعمل استعمالاً شائعاً فيما لا يشاركه إذا علم هذا فنقول قوله تعالى فَتُصْبِحُواْ أي فتصيروا آخذين في الندم متلبسين به ثم تستديمونه وكذلك في قوله تعالى فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً أي أخذتم في الأخوة وأنتم فيها زائدون ومستمرون وفي الجملة اختار في القرآن هذه اللفظة لأن الأمر المقرون به هذه اللفظة إما في الثواب أو في العقاب وكلاهما

في الزيادة ولا نهاية للأمور الإلاهية وقوله تعالى نَادِمِينَ الندم هم دائم والنون والدال والميم في تقاليبها لا تنفك عن معنى الدوام كما في قول القائل أدمن في الشرب ومدمن أي أقام ومنه المدينة وقوله تعالى فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ فيه فائدتان
إحداهما تقرير التحذير وتأكيده ووجهه هو أنه تعالى لما قال ءانٍ تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَة ٍ قال بعده وليس ذلك مما لا يلتفت إليه ولا يجوز للعاقل أن يقول هب أني أصبت قوماً فماذا علي بل عليكم منه الهم الدائم والحزن المقيم ومثل هذا الشيء واجب الاحتراز منه
والثانية مدح المؤمنين أي لستم ممن إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها بل تصبحون نادمين عليها
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الاٌّ مْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الا يمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَائِكَ هُمُ الرَاشِدُونَ
ولنذكر في تفسير هذه الآية ما قيل وما يجوز أن يقال أما ما قيل فلنختر أحسنه وهو ما اختاره الزمخشري فإنه بحث في تفسير هذه الآية بحثاً طويلاً فقال قوله تعالى لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ الاْمْرِ لَعَنِتُّمْ ليس كلاماً مستأنفاً لأدائه إلى تنافر النظم إذ لا تبقى مناسبة بين قوله وَاعْلَمُواْ وبين قوله لَوْ يُطِيعُكُمْ ثم وجه التعلق هو أن قوله لَوْ يُطِيعُكُمْ في تقدير حال من الضمير المرفوع في قوله فيكُمْ كان التقدير كائن فيكم أو موجود فيكم على حال تريدون أن يطيعكم أو يفعل باستصوابكم ولا ينبغي أن يكون في تلك الحال لأنه لو فعل ذلك لَعَنِتُّمْ أو لوقعتم في شدة أو أولمتم به
ثم قال تعالى وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ خطاباً مع بعض من المؤمنين غير المخاطبين بقوله لَوْ يُطِيعُكُمْ قال الزمخشري اكتفى بالتغاير في الصفة واختصر ولم يقل حبب إلى بعضكم الإيمان وقال أيضاً بأن قوله تعالى لَوْ يُطِيعُكُمْ دون أطاعكم يدل على أنهم كانوا يريدون استمرار تلك الحالة ودوام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على العمل باستصوابهم ولكن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها وههنا كذلك وإن لم يكن تحصل المخالفة بتصريح اللفظ لأن اختلاف المخاطبين في الوصف يدلنا على ذلك لأن المخاطبين أولاً بقوله لَوْ يُطِيعُكُمْ هم الذين أرادوا أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعمل بمرادهم والمخاطبين بقوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ هم الذين أرادوا عملهم بمراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا ما قاله الزمخشري واختاره وهو حسن والذي يجوز أن يقال وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى لما قال إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ ( الحجرات 6 ) أي فتثبتوا واكشفوا قال بعده وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أي الكشف سهل عليكم بالرجوع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه فيكم مبين مرشد وهذا كما يقول القائل عند اختلاف تلاميذ شيخ في مسألة هذا الشيخ قاعد لا يريد بيان قعوده وإنما يريد أمرهم بالمراجعة إليه وذلك لأن المراد منه أنه لا يطيعكم في كثير من الأمر وذلك لأن الشيخ فيما ذكرنا من المثال

لو كان يعتمد على قول التلاميذ لا تطمئن قلوبهم بالرجوع إليه أما إذا كان لا يذكر إلا من النقل الصحيح ويقرره بالدليل القوي يراجعه كل أحد فكذلك ههنا قال استرشدوه فإنه يعلم ولا يطيع أحداً فلا يوجد فيه حيف ولا يروج عليه زيف والذي يدل على أن المراد من قوله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ الاْمْرِ لَعَنِتُّمْ بيان أنه لا يطيعكم هو أن الجملة الشرطية في كثير من المواضع ترد لبيان امتناع لشرط لامتناع الجزاء كما في قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) وقوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) فإنه لبيان أنه ليس فيهما آلهة وأنه ليس من عند غير الله
ثم قال تعالى وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ إشارة إلى جواب سؤال يرد على قوله فَتَبَيَّنُواْ وهو أن يقع لواحد أن يقول إنه لا حاجة إلى المراجعة وعقولنا كافية بها أدركنا الإيمان وتركنا العصيان فكذلك نجتهد في أمورنا فقال ليس إدراك الإيمان بالاجتهاد بل الله بين البرهان وزين الإيمان حتى حصل اليقين وبعد حصول اليقين لا يجوز التوقف والله إنما أمركم بالتوقف عند تقليد قول الفاسق وما أمركم بالعناد بعد ظهور البرهان فكأنه تعالى قال توقفوا فيما يكون مشكوكاً فيه لكن الإيمان حببه إليكم بالبرهان فلا تتوقفوا في قبوله وعلى قولنا المخاطب بقوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ هو المخاطب بقوله لَوْ يُطِيعُكُمْ إذا علمت معنى الآية جملة فاسمعه مفصلاً ولنفصله في مسائل
المسألة الأولى لو قال قائل إذا كان المراد بقوله وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ الرجوع إليه والاعتماد على قوله فلم لم يقل بصريح اللفظ فتبينوا وراجعوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وما الفائدة في العدول إلى هذا المجاز نقول الفائدة زيادة التأكيد وذلك لأن قول القائل فيما ذكرنا من المثال هذا الشيخ قاعد آكد في وجوب المراجعة إليه من قوله راجعوا شيخكم وذلك لأن القائل يجعل وجوب المراجعة إليه متفقاً عليه ويجعل سبب عدم الرجوع عدم علمهم بقعوده فكأنه يقول إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ وأن الواجب مراجعته فإن كنتم لا تعلمون قعدوه فهو قاعد فيجعل حسن المراجعة أظهر من أمر القعود كأنه يقول خفي عليكم قعوده فتركتم مراجعته ولا يخفى عليكم حسن مراجعته فيجعل حسن مراجعته أظهر من الأمر الحسي بخلاف ما لو قال راجعوه لأنه حينئذ يكون قائلاً بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق وبين الكلامين بون بعيد فكذلك قوله تعالى وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ يعني لا يخفى عليكم وجوب مراجعته فإن كان خفي عليكم كونه فيكم فاعلموا أنه فيكم فيجعل حسن المراجعة أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصريح
المسألة الثانية إذا كان المراد من قوله لَوْ يُطِيعُكُمْ بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو متبع للوحي فلم لم يصرح به نقول بيان نفي الشيء مع بيان دليل النفي أتم من بيانه من غير دليل والجملة الشرطية بيان النفي مع بيان دليله فإن قوله ( ليس فيهما آلهة ) لو قال قائل لم قلت إنه ليس فيهما آلهة يجب أن يذكر الدليل فقال لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) فكذلك ههنا لو قال لا يطيعكم وقال قائل لم لا يطيع لوجب أن يقال لو أطاعكم لأطاعكم لأجل مصلحتكم لكن لا مصلحة لكم فيه لأنكم تعنتون وتأثمون وهو يشق عليه عنتكم كما قال تعالى عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ( التوبة 128 ) فإن طاعتكم لا تفيده شيئاً فلا

يطيعكم فهذا نفي الطاعة بالدليل وبين نفي الشيء بدليل ونفيه بغير دليل فرق عظيم
المسألة الثالثة قال فِى كَثِيرٍ مّنَ الاْمْرِ ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقاً لفائدة قوله تعالى وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ
المسألة الرابعة إذا كان المراد بقوله تعالى حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ فلا تتوقفوا فلم لم يصرح به قلنا لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه إذ ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ تلك المرتبة لأن من بلغ إلى درجة الظن فإنه يتوقف إلى أن يبلغ درجة اليقين فلما كان عدم التوقف في اليقين معلوماً متفقاً عليه لم يقل فلا تتوقفوا بل قال حبب إليكم الإيمان أي بينه وزينه بالبرهان اليقيني
المسألة الخامسة ما المعنى في قوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ نقول قوله تعالى حَبَّبَ إِلَيْكُمُ أي قربه وأدخله في قلوبكم ثم زينه فيها بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم وهذا لأن من يحب أشياء فقد يمل شيئاً منها إذا حصل عنده وطال لبثه والإيمان كل يوم يزداد حسناً ولكن من كانت عبادته أكثر وتحمله لمشاق التكليف أتم تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل ولهذا قال في الأول حَبَّبَ إِلَيْكُمُ وقال ثانياً وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ كأنه قربه إليهم ثم أقامه في قلوبهم
المسألة السادسة ما الفرق بين الأمور الثلاثة وهي الكفر والفسوق والعصيان فنقول هذه أمور ثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل لأن الإيمان الكامل المزين هو أن يجمع التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان أحدها قوله تعالى وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وهو التكذيب في مقابلة التصديق بالجنان والفسوق هو الكذب وثانيها هو ما قبل هذه الآية وهو قوله تعالى إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ ( الحجرات 6 ) سمي من كذب فاسقاً فيكون الكذب فسوقاً ثالثها ما ذكره بعد هذه الآية وهو قوله تعالى بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْيمَانِ ( الحجرات 11 ) فإنه يدل على أن الفسوق أمر قولي لاقترانه بالاسم وسنبين تفسيره إن شاء الله تعالى ورابعها وجه معقول وهو أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة على ما علم في قول القائل فسقت الرطبة إذا خرجت وغير ذلك لأن الفسوق هو الخروج زيد في الاستعمال كونه الخروج عن الطاعة لكن الخروج لا يكون له ظهور بالأمر القلبي إذ لا اطلاع على ما في القلوب لأحد إلا لله تعالى ولا يظهر بالأفعال لأن الأمر قد يترك إما لنسيان أو سهو فلا يعلم حال التارك والمرتكب أنه مخطىء أو متعمد وأما الكلام فإنه حصول العلم بما عليه حال المتكلم فالدخول في الإيمان والخروج منه يظهر بالكلام فتخصيص الفسوق بالأمر القولي أقرب وأما العصيان فترك الأمر وهو بالفعل أليق فإذا علم هذا ففيه ترتيب في غاية الحسن وهو أنه تعالى كره إليكم الكفر وهو الأمر الأعظم كما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 )
ثم قال تعالى وَالْفُسُوقَ يعني ما يظهر لسانكم أيضاً ثم قال وَالْعِصْيَانَ وهو دون الكل ولم يترك عليكم الأمر الأدنى وهو العصيان وقال بعض الناس الكفر ظاهر والفسوق هو الكبيرة والعصيان هو الصغيرة وما ذكرناه أقوى
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ هُمُ الرشِدُونَ

خطاباً مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه معنى لطيف وهو أن الله تعالى في أول الأمر قال وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أي هو مرشد لكم فخطاب المؤمنين للتنبيه على شفقته بالمؤمنين فقال في الأول كفى النبي مرشداً لكم ما تسترشدونه فأشفق عليهم وأرشدهم وعلى هذا قوله الرشِدُونَ أي الموافقون للرشد يأخذون ما يأتيهم وينتهون عما ينهاهم
فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَة ً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى نصب فضلاً لأجل أمور إما لكونه مفعولاً له وفيه وجهان أحدهما أن العامل فيه هو الفعل الذي في قوله الرشِدُونَ فإن قيل كيف يجوز أن يكون فضل الله الذي هو فعل الله مفعولاً له بالنسبة إلى الرشد الذي هو فعل العبد نقول لما كان الرشد توفيقاً من الله كان كأنه فعل الله فكأنه تعالى أرشدهم فضلاً أي يكون متفضلاً عليهم منعماً في حقهم والوجه الثاني هو أن العامل فيه هو قوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ( الحجرات 7 ) فضلاً وقوله أُوْلَئِكَ هُمُ الرشِدُونَ ( الحجرات 7 ) جملة اعترضت بين الكلامين أو يكون العامل فعلاً مقدراً فكأنه قال تعالى جرى ذلك فضلاً من الله وإما لكونه مصدراً وفيه وجهان أحدهما أن يكون مصدراً من غير اللفظ ولأن الرشد فضل فكأنه قال أولئك هم الراشدون رشداً وثانيهما هو أن يكون مصدراً لفعل مضمر كأنه قال حبب إليكم الإيمان وكره إليكم الكفر فأفضل فضلاً وأنعم نعمة والقول بكونه منصوباً على أنه مفعول مطلق وهو المصدر أو مفعول له قول الزمخشري وإما أن يكون فضلاً مفعولاً به والفعل مضمراً دل عليه قوله تعالى أُوْلَئِكَ هُمُ الرشِدُونَ أي يبتغون فضلاً من الله ونعمة
المسألة الثانية ما الفرق بين الفضل والنعمة في الآية نقول فضل الله إشارة إلى ما عنده من الخير وهو مستغن عنه والنعمة إشارة إلى ما يصل إلى العبد وهو محتاج إليه لأن الفضل في الأصل ينبىء عن الزيادة وعنده خزائن من الرحمة لا لحاجة إليها ويرسل منها على عباده ما لا يبقون معه في ورطة الحاجة بوجه من الوجوه والنعمة تنبىء عن الرأفة والرحمة وهو من جانب العبد وفيه معنى لطيف وهو تأكيد الإعطاء وذلك لأن المحتاج يقول للغني أعطني ما فضل عنك وعندك وذلك غير ملتفت إليه وأنابه قيامي وبقائي فإذن قوله فَضْلاً مّنَ اللَّهِ إشارة إلى ما هو من جانب الله الغني والنعمة إشارة إلى ما هو من جانب العبد من اندفاع الحاجة وهذا مما يؤكد قولنا فضلاً منصوب بفعل مضمر وهو الابتغاء والطلب
المسألة الثالثة ختم الآية بقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فيه مناسبات عدة منها أنه تعالى لما ذكر نبأ الفاسق قال إن يشتبه على المؤمن كذب الفاسق فلا تعتمدوا على ترويجه عليكم الزور فإن الله عليم ولا تقولوا كما كان عادة المنافق لولا يعذبنا الله بما نقول فإن الله حكيم لا يفعل إلا على وفق حكمته وثانيها لما قال الله تعالى وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ ( الحجرات 7 ) بمعنى لا يطيعكم بل يتبع الوحي قال فإن الله من كونه عليماً يعلمه ومن كونه حكيماً يأمره بما تقتضيه الحكمة فاتبعوه ثالثها المناسبة التي بين قوله تعالى عَلِيمٌ حَكِيمٌ وبين قوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ أي حبب بعلمه الإيمان لأهل الإيمان واختار له من يشاء بحكمته رابعها وهو الأقرب وهو أنه سبحانه وتعالى قال فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَنِعْمَة ً ولما كان الفضل هو ما عند الله من الخير المستغني عنه قال تعالى هو عليم بما في خزائن رحمته من الخير وكانت النعمة

هو ما يدفع به حاجة العبد قال هو حكيم ينزل الخير بقدر ما يشاء على وفق الحكمة
وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِى ءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
لما حذر الله المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق أشار إلى ما يلزم منه استدراكاً لما يفوت فقال فإن اتفق أنكم تبنون على قول من يوقع بينكم وآل الأمر إلى اقتتال طائفتين من المؤمنين فأزيلوا ما أثبته ذلك الفاسق وأصلحوا بينهما فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى أي الظالم يجب عليكم دفعه عنه ثم إن الظالم إن كان هو الرعية فالواجب على الأمير دفعهم وإن كان هو الأمير فالواجب على المسلمين منعه بالنصيحة فما فوقها وشرطه أن لا يثير فتنة مثل التي في اقتتال الطائفتين أو أشد منهما وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى وَأَنْ إشارة إلى ندرة وقوع القتال بين طوائف المسلمين فإن قيل فنحن نرى أكثر الاقتتال بين طوائفهم نقول قوله تعالى وَأَنْ إشارة إلى أنه ينبغي أن لا يقع إلا نادراً غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي وكذلك إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ ( الحجرات 6 ) إشارة إلى أن مجيء الفاسق بالنبأ ينبغي أن يقع قليلاً مع أن مجيء الفاسق بالنبأ كثير وقول الفاسق صار عند أولي الأمر أشد قبولاً من قول الصادق الصالح
المسألة الثانية قال تعالى وَإِن طَائِفَتَانِ ولم يقل وإن فرقتان تحقيقاً للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل لأن الطائفة دون الفرقة ولهذا قال تعالى فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ مّنْهُمْ طَائِفَة ٌ ( التوبة 122 )
المسألة الثالثة قال تعالى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل منكم مع أن الخطاب مع المؤمنين لسبق قوله تعالى رَّحِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ ( الحجرات 6 ) تنبيهاً على قبح ذلك وتبعيداً لهم عنهم كما يقول السيد لعبده إن رأيت أحداً من غلماني يفعل كذا فامنعه فيصير بذلك مانعاً للمخاطب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن كأنه يقول أنت حاشاك أن تفعل ذلك فإن فعل غيرك فامنعه كذلك ههنا قال وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل منكم لما ذكرنا من التنبيه مع أن المعنى واحد
المسألة الرابعة قال تعالى وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ولم يقل وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين مع أن كلمة ءانٍ اتصالها بالفعل أولى وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال فيتأكد معنى النكرة المدلول عليها بكلمة ءانٍ وذلك لأن كونهما طائفتين مؤمنتين يقتضي أن لا يقع القتال منهما فإن قيل فلم لم يقل يا أيها الذين آمنوا إن فاسق جاءكم أو إن أحد من الفساق جاءكم ليكون الابتداء بما يمنعهم

من الإصغاء إلى كلامه وهو كونه فاسقاً نقول المجيء بالنبأ الكاذب يورث كون الإنسان فاسقاً أو يزداد بسببه فسقه فالمجيء به سبب الفسق فقدمه وأما الاقتتال فلا يقع سبباً للإيمان أو الزيادة فقال إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ أي سواء كان فاسقاً أو لا أو جاءكم بالنبأ فصار فاسقاً به ولو قال وإن أحد من الفساق جاءكم كان لا يتناول إلا مشهور الفسق قبل المجيء إذا جاءهم بالنبأ
المسألة الخامسة قال تعالى اقْتَتَلُواْ ولم يقل يقتتلوا لأن صيغة الاستقبال تنبىء عن الدوام والاستمرار فيفهم منه أن طائفتين من المؤمنين إن تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا وهذا لأن صيغة المستقبل تنبىء عن ذلك يقال فلان يتهجد ويصوم
المسألة السادسة قال اقْتَتَلُواْ ولم يقل اقتتلا وقال فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ولم يقل بينهم ذلك لأن عند الاقتتال تكون الفتنة قائمة وكل أحد برأسه يكون فاعلاً فعلاً فقال اقْتَتَلُواْ وعند العود إلى الصلح تتفق كلمة كل طائفة وإلا لم يكن يتحقق الصلح فقال بَيْنَهُمَا لكون الطائفتين حينئذ كنفسين
ثم قال تعالى فَإِن بَغَتْ أَحَدُهُمَا إشارة إلى نادرة أخرى وهي البغي لأنه غير متوقع فإن قيل كيف يصح في هذا الموضع كلمة ءانٍ مع أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه وبغي أحدهما عند الاقتتال لا بد منه إذ كل واحد منهما لا يكون محسناً فقوله ءانٍ تكون من قبيل قول القائل إن طلعت الشمس نقول فيه معنى لطيف وهو أن الله تعالى يقول الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع وهو كما تظن كل طائفة أن الأخرى فيها الكفر والفساد فالقتال واجب كما سبق في الليالي المظلمة أو يقع لكل واحد أن القتال جائز بالاجتهاد وهو خطأ فقال تعالى الاقتتال لا يقع إلا كذا فإن بان لهما أو لأحدهما الخطأ واستمر عليه فهو نادر وعند ذلك يكون قد بغى فقال فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى يعني بعد استبانة الأمر وحينئذ فقوله فَإِن بَغَتْ في غاية الحسن لأنه يفيد الندرة وقلة الوقوع وفيه أيضاً مباحث الأول قال فَإِن بَغَتْ ولم يقل فإن تبغ لما ذكرنا في قوله تعالى اقْتَتَلُواْ ولم يقل يقتتلوا الثاني قال حَتَّى تَفِىء إشارة إلى أن القتال ليس جزاء للباغي كحد الشرب الذي يقام وإن ترك الشرب بل القتال إلى حد الفيئة فإن فاءت الفئة الباغية حرم قتالهم الثالث هذا القتال لدفع الصائل فيندرج فيه وذلك لأنه لما كانت الفيئة من إحداهما فإن حصلت من الأخرى لا يوجد البغي الذي لأجله حلَّ القتال الرابع هذا دليل على أن المؤمن بالكبيرة لا يخرج عن كونه مؤمناً لأن الباغي جعله من إحدى الطائفتين وسماهما مؤمنين الخامس قوله تعالى إِلَى أَمْرِ اللَّهِ يحتمل وجوهاً أحدها إلى طاعة الرسول وأولي الأمر لقوله تعالى أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ ( النساء 59 ) وثانيها إلى أمر الله أي إلى الصلح فإنه مأمور به يدل عليه قوله تعالى وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ثالثها إلى أمر الله بالتقوى فإن من خاف الله حق الخوف لا يبقى له عداوة إلا مع الشيطان كما قال تعالى إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ( فاطر 6 ) السادس لو قال قائل قد ذكرتم ما يدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع وقلتم بأن القتال والبغي من المؤمن نادر فإذن تكون الفئة متوقعة فكيف قال فَإِن فَاءتْ نقول قول القائل لعبده إن مت فأنت حر مع أن الموت لا بد من وقوعه لكن لما كان وقوعه بحيث يكون العبد محلاً للعتق بأن يكون باقياً في ملكه حياً يعيش بعد وفاته غير معلوم فكذلك ههنا لما كان الواقع فيئتهم من تلقاء أنفسهم

فلما لم يقع دل على تأكيد الأخذ بينهم فقال تعالى فَإِن فَاءتْ بقتالكم إياهم بعد اشتداد الأمر والتحام الحرب فأصلحوا وفيه معنى لطيف وهو أنه تعالى أشار إلى أن من لم يخف الله وبغى لا يكون رجوعه بقتالكم إلا جبراً السابع قال ههنا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ ولم يذكر العدل في قوله وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ نقول لأن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه وذلك يكون بالنصيحة أو التهديد والزجر والتعذيب والإصلاح ههنا بإزالة آثار القتل بعد اندفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم فقال بِالْعَدْلِ فكأنه قال واحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأصلحوا بالعدل مما يكون بينهما لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة بينهما مرة أخرى الثامن إذا قال فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ فأية فائدة في قوله وَأَقْسِطُواْ نقول قوله فأصلحوا بينهما بالعدل كان فيه تخصيص بحال دون حال فعمم الأمر بقوله وَأَقْسِطُواْ أي في كل أمر مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة الله والإقساط إزالة القسط وهو الجور والقاسط هو الجائر والتركيب دال على كون الأمر غير مرضي من القسط والقاسط في القلب وهو أيضاً غير مرضي ولا معتد به فكذلك القسط
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
ثم قال تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ تتميماً للإرشاد وذلك لأنه لما قال وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( الحجرات 9 ) كان لظان أن يظن أو لمتوهم أن يتوهم أن ذلك عند اختلاف قوم فأما إذا كان الاقتتال بين اثنين فلا تعم المفسدة فلا يؤمر بالإصلاح وكذلك الأمر بالإصلاح هناك عند الاقتتال وأما إذا كان دون الاقتتال كالتشاتم والتسافه فلا يجب الإصلاح فقال بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وإن لم تكن الفتنة عامة وإن لم يكن الأمر عظيماً كالقتال بل لو كان بين رجلين من المسلمين أدنى اختلاف فاسعوا في الإصلاح
وقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ قال بعض أهل اللغة الأخوة جمع الأخ من النسب والإخوان جمع الأخ من الصداقة فالله تعالى قال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ تأكيداً للأمر وإشارة إلى أن ما بينهم ما بين الأخوة من النسب والإسلام كالأب قال قائلهم أبي الإسلام لا أب ( لي ) سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميم
المسألة الثانية عند إصلاح الفريقين والطائفتين لم يقل اتقوا وقال ههنا اتقوا مع أن ذلك أهم نقول الفائدة هو أن الاقتتال بين طائفتين يفضي إلى أن تعم المفسدة ويلحق كل مؤمن منها شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى وأما عند تخاصم رجلين لا يخاف الناس ذلك وربما يزيد بعضهم تأكد الخصام بين الخصوم لغرض فاسد فقال فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ أو نقول قوله فَأَصْلِحُواْ إشارة إلى الصلح وقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ إشارة إلى ما يصونهم عن التشاجر لأن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره ولهذا قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( المسلم من سلم الناس من لسانه و ( يده ) ) لأن المسلم يكون منقاداً لأمر الله مقبلاً على عباد الله فيشغله عيبه عن عيوب الناس ويمنعه أن يرهب الأخ المؤمن وإليه أشار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( المؤمن من يأمن جاره بوائقه ) يعني اتق الله فلا تتفرغ لغيره
المسألة الثالثة إِنَّمَا للحصر أي لا أخوة إلا بين المؤمنين وأما بين المؤمن والكافر فلا لأن الإسلام هو الجامع ولهذا إذا مات المسلم وله أخ كافر يكون ماله للمسلمين ولا يكون لأخيه الكافر وأما الكافر

فكذلك لأن في النسب المعتبر الأب الذي هو أب شرعاً حتى أن ولدي الزنا من رجل واحد لا يرث أحدهما الآخر فكذلك الكفر كالجامع الفاسد فهو كالجامع العاجز لا يفيد الأخوة ولهذا من مات من الكفر وله أخ مسلم ولا وارث له من النسب لا يجعل ماله للكفار ولو كان الدين يجمعهم لكان مال الكافر للكفار كما أن مال المسلم للمسلمين عند عدم الوارث فإن قيل قد ثبت أن الأخوة للإسلام أقوى من الأخوة النسبية بدليل أن المسلم يرثه المسلمون ولا يرثه الأخ الكافر من النسب فلم لم يقدموا الأخوة الإسلامية على الأخوة النسبية مطلقاً حتى يكون مال المسلم للمسلمين لا لأخوته من النسب نقول هذا سؤال فاسد وذلك لأن الأخ المسلم إذا كان أخاً من النسب فقد اجتمع فيه أخوتان فصار أقوى والعصوبة لمن له القوة ألا ترى أن الأخ من الأبوين يرث ولا يرث الأخ من الأب معه فكذلك الأخ المسلم من النسب له أخوتان فيقدم على سائر المسلمين والله أعلم
المسألة الرابعة قال النحاة ( ما ) في هذا الموضع كافة تكف إن عن العمل ولولا ذلك لقيل إنما المؤمنين إخوة وفي قوله تعالى فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ ( آل عمران 159 ) وقوله عَمَّا قَلِيلٍ ( المؤمنون 4 ) ليست كافة والسؤال الأقوى هو أن رب من حروف الجر والباء وعن كذلك وما في رب كافة وفي عما وبما ليست كافة والتحقيق فيه هو أن الكلام بعد ربما وإنما يكون تاماً ويمكن جعله مستقلاً ولو حذف ربما وإنما لم ضر فنقول ربما قام الأمير وربما زيد في الدار ولو حذفت ربما وقلت زيد في الدار وقام الأمير لصح وكذلك في إنما ولكيما وأما عما وبما فليست كذلك لأن قوله تعالى فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ لو أذهبت بما وقلت رحمة من الله لنت لهم لما كان كلاماً فالباء يعد تعلقها بما يحتاج إليها فهي باقية حقيقة ولكنما وإنما وربما لما استغنى عنها فكأنها لم يبق حكمها ولا عمل للمعدوم فإن قيل إن إذا لم تكف بما فما بعده كلام تام فوجب أن لا يكون له عمل تقول إن زيداً قائم ولو قلت زيد قائم لكفى وتم نقول ليس كذلك لأن ما بعد إن جاز أن يكون نكرة تقول إن رجلاً جاءني وأخبرني بكذا وأخبرني بعكسه وتقول جاءني رجل وأخبرني ولا يحسن إنما رجل جاءني كما لو لم تكن هناك إنما وكذلك القول في بينما وأينما فإنك لو حذفتهما واقتصرت على ما يكون بعدهما لا يكون تاماً فلم يكف والكلام في لعل قد تقدم مراراً
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالاٌّ لْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الا يمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
وقد بينا أن السورة للإرشاد بعد إرشاد فبعد الإرشاد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع الله تعالى ومع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق بين ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن

وقد ذكرنا أن المؤمن إما أن يكون حاضراً وإما أن يكون غائباً فإن كان حاضراً فلا ينبغي أن يسخر منه ولا يلتفت إليه بما ينافي التعظيم وفي الآية إشارة إلى أمور ثلاثة مرتبة بعضها دون بعض وهي السخرية واللمز والنبز فالسخرية هي أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال ولا يلتفت إليه ويسقطه عن درجته وحينئذ لا يذكر ما فيه من المعايب وهذا كما قال بعض الناس تراهم إذا ذكر عندهم عدوهم يقولون هو دون أن يذكر وأقل من أن يلتفت إليه فقال لا تحقروا إخوانكم ولا تستصغروهم الثاني هو اللمز وهو ذكر ما في الرجل من العيب في غيبته وهذا دون الأول لأن في الأول لم يلتفت إليه ولم يرض بأن يذكره أحد وإنما جعله مثل المسخرة الذي لا يغضب له ولا عليه الثالث هو النبز وهو دون الثاني لأن في هذه المرتبة يضيف إليه وصفاً ثابتاً فيه يوجب بغضه وحط منزلته وأما النبز فهو مجرد التسمية وإن لم يكن فيه وذلك لأن اللقب الحسن والاسم المستحسن إذا وضع لواحد وعلق عليه لا يكون معناه موجوداً فإن من يسمى سعداً وسعيداً قد لا يكون كذلك وكذا من لقب إمام الدين وحسام الدين لا يفهم منه أنه كذلك وإنما هو علامة وزينة وكذلك النبز بالمروان ومروان الحمار لم يكن كذلك وإنما كان ذلك سمة ونسبة ولا يكون اللفظ مراداً إذا لم يرد به الوصف كما أن الأعلام كذلك فإنك إذا قلت لمن سمي بعبد الله أنت عبد الله فلا تعبد غيره وتريد به وصفه لا تكون قد أتيت باسم علمه إشارة فقال لا تتكبروا فتستحقروا إخوانكم وتستصغروهم بحيث لا تلتفتوا إليهم أصلاً وإذا نزلتم عن هذا من النعم إليهم فلا تعيبو ( هم ) طالبين حط درجتهم والغض عن منزلتهم وإذا تركتم النظر في معايبهم ووصفهم بما يعيبهم فلا تسموهم بما يكرهونه ولا تهولوا هذا ليس بعيب يذكر فيه إنما هو اسم يتلفظ به من غير قصد إلى بيان صفة وذكر في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ القوم اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم كصوم جمع صائم والقائم بالأمور هم الرجال فعلى هذا الأقوام الرجال لا النساء فائدة وهي أن عدم الالتفات والاستحقار إنما يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسة إلى الرجال لأن المرأة في نفسها ضعيفة فإذا لم يلتفت الرجال إليها لا يكون لها أمر قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( النساء لحم على وضم إلا ما رددت عنه ) وأما المرأة فلا يوجد منها استحقار الرجل وعدم التفاتها إليه لاضطرارها في دفع حوائجها ( إليه ) وأما الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فيوجد فيهم هذا النوع من القبح وهذا أشهر
المسألة الثانية قال في الدرجة العالية التي هي نهاية المنكر عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ كسراً له وبغضاً لنكره وقال في المرتبة الثانية لا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ جعلهم كأنفسهم لما نزلوا درجة رفعهم الله درجة وفي الأول جعل المسخور منه خيراً وفي الثاني جعل المسخور منه مثلاً وفي قوله عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ حكمة وهي أنه وجد منهم النكر الذي هو مفض إلى الإهمال وجعل نفسه خيراً منهم كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم وقال أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ ( الأعراف 12 ) فصار هو خيراً ويمكن أن يقال المراد من قوله أَن يَكُونُواْ يصيروا فإن من استحقر إنساناً لفقره أو وحدته أو ضعفه لا يأمن أن يفتقر هو ويستغني الفقير ويضعف هو ويقوى الضعيف
المسألة الثالثة قال تعالى قَوْمٌ مّن قَوْمٍ ولم يقل نفس من نفس وذلك لأن هذا فيه إشارة إلى منع التكبر والمتكبر في أكثر الأمر يرى جبروته على رؤوس الأشهاد وإذا اجتمع في الخلوات مع من لا يلتفت

إليه في الجامع يجعل نفسه متواضعاً فذكرهم بلفظ القوم منعاً لهم عما يفعلونه
المسألة الرابعة قوله تعالى وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ فيه وجهان أحدهما أن عيب الأخ عائد إلى الأخ فإذا عاب عائب نفساً فكأنما عاب نفسه وثانيهما هو أنه إذا عابه وهو لا يخلو من عيب يحاربه المعيب فيعيبه فيكون هو بعيبه حاملاً للغير على عيبه وكأنه هو العائب نفسه وعلى هذا يحمل قوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( النساء 29 ) أي إنكم إذا قتلتم نفساً قتلتم فتكونوا كأنكم قتلتم أنفسكم ويحتمل وجهاً آخر ثالثاً وهو أن تقول لا تعيبوا أنفسكم أي كل واحد منكم فإنكم إن فعلتم فقد عبتم أنفسكم أي كل واحد عاب كل واحد فصرتم عائبين من وجه معيبين من وجه وهذا الوجه ههنا ظاهر ولا كذلك في قوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ
المسألة الخامسة إن قيل قد ذكرتم أن هذا إرشاد للمؤمنين إلى ما يجب أن يفعله المؤمن عند حضوره بعد الإشارة إلى ما يفعله في غيبته لكن قوله تعالى وَلاَ تَلْمِزُواْ قيل فيه بأنه العيب خلف الإنسان والهمز هو العيب في وجه الإنسان نقول ليس كذلك بل العكس أولى وذلك لأنا إذا نظرنا إلى قلب الحروف دللن على العكس لأن لمز قلبه لزم وهمز قلبه هزم والأول يدل على القرب والثاني على البعد فإن قيل اللمز هو الطعن والعيب في الوجه كان أولى مع أن كل واحد قيل بمعنى واحد
المسألة السادسة قال تعالى وَلاَ تَنَابَزُواْ ولم يقل لا تنبزوا وذلك لأن اللماز إذا لمز فالملموز قد لا يجد فيه في الحال عيباً يلمزه به وإنما يبحث ويتبعه ليطلع منه على عيب فيوجد اللمز من جانب وأما النبز فلا يعجز كل واحد عن الإتيان به فإن من نبز غيره بالحمار وهو ينبزه بالثور وغيره فالظاهر أن النبز يفضي في الحال إلى التنابز ولا كذلك اللمز
وقوله تعالى بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْيمَانِ
قيل فيه إن المراد بِئْسَ أن يقول للمسلم يا يهودي بعد الإيمان أي بعد ما آمن فبئس تسميته بالكافر ويحتمل وجهاً أحسن من هذا وهو أن يقال هذا تمام للزجر كأنه تعالى قال يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ولا تلمزوا ولا تنابزوا فإنه إن فعل يفسق بعد ما آمن والمؤمن يقبح منه أن يأتي بعد إيمانه بفسوق فيكون قوله تعالى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ( الأنعام 82 ) ويصير التقدير بئس الفسوق بعد الإيمان وبئس أن تسموا بالفاسق بسبب هذه الأفعال بعد ما سميتموهم مؤمنين
قال تعالى وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن يقال هذه الأشياء من الصغائر فمن يصر عليه يصير ظالماً فاسقاً وبالمرة الواحدة لا يتصف بالظلم والفسق فقال ومن لم يترك ذلك ويجعله عادة فهو ظالم وثانيهما أن يقال قوله تعالى لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ وَلاَ تَلْمِزُواْ وَلاَ تَنَابَزُواْ منع لهم عن ذلك في المستقبل وقوله تعالى وَمَن لَّمْ يَتُبْ أمرهم بالتوبة عما مضى وإظهار الندم عليها مبالغة في التحذير وتشديداً في الزجر والأصل في قوله تعالى وَلاَ تَنَابَزُواْ لا تتنابزوا أسقطت إحدى التاءين كما أسقط في الاستفهام إحدى الهمزتين فقال سَوَاء عَلَيْهِمْ ( البقرة 6 ) والحذف ههنا أولى لأن تاء الخطاب وتاء الفاعل حرفان من جنس واحد في كلمة وهمزة الاستفهام كلمة برأسها وهمزة أنذرتهم أخرى واحتمال حرفين في كلمتين أسهل من احتماله في كلمة ولهذا وجب الإدغام في قولنا مد

ولم يجب في قولنا امدد و ( في ) قولنا مر ( دون ) قوله أمر ربنا
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ
لأن الظن هو السبب فيما تقدم وعليه تبنى القبائح ومنه يظهر العدو المكاشح والقائل إذا أوقف أموره على اليقين فقلما يتيقن في أحد عيباً فيلمزه به فإن الفعل في الصورة قد يكون قبيحاً وفي نفس الأمر لا يكون كذلك لجواز أن يكون فاعله ساهياً أو يكون الرائي مخطئاً وقوله خَيْراً كَثِيراً إخراج للظنون التي عليها تبنى الخيرات قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ظنوا بالمؤمن خيراً ) وبالجملة كل أمر لا يكون بناؤه على اليقين فالظن فيه غير مجتنب مثاله حكم الحاكم على قول الشهود وبراءة الذمة عند عدم الشهود إلى غير ذلك فقوله اجْتَنِبُواْ كَثِيراً وقوله تعالى إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ إشارة إلى الأخذ بالأحوط كما أن الطريق المخوفة لا يتفق كل مرة فيه قاطع طريق لكنك لا تسلك لاتفاق ذلك فيه مرة ومرتين إلا إذا تعين فتسلكه مع رفقة كذلك الظن ينبغي بعد اجتهاد تام ووثوق بالغ
ثم قال تعالى وَلاَ تَجَسَّسُواْ إتماماً لما سبق لأنه تعالى لما قال اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ فهم منه أن المعتبر اليقين فيقول القائل أنا أكشف فلاناً يعني أعلمه يقيناً وأطلع على عيبه مشاهدة فأعيب فأكون قد اجتنبت الظن فقال تعالى ولا تتبعوا الظن ولا تجتهدوا في طلب اليقين في معايب الناس
ثم قال تعالى وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن في غيبته وفيه معان أحدها في قوله تعالى بَّعْضُكُم بَعْضاً فإنه للعموم في الحقيقة كقوله لا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ( الحجرات 11 ) وأما من اغتاب فالمغتاب أولاً يعلم عيبه فلا يحمل فعله على أن يغتابه فلم يقل ولا تغتابوا أنفسكم لما أن الغيبة ليست حاملة للعائب على عيبه من اغتابه والعيب حامل على العيب ثانيها لو قال قائل هذا المعنى كان حاصلاً بقوله تعالى لا تغتابوا مع الاقتصار عليه نقول لا وذلك لأن الممنوع اغتياب المؤمن فقال بَّعْضُكُم بَعْضاً وأما الكافر فيعلن ويذكر بما فيه وكيف لا والفاسق يجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة ثالثها قوله تعالى أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً دليل على أن الاغتياب الممنوع اغتياب المؤمن لا ذكر الكافر وذلك لأنه شبهه بأكل لحم الأخ وقال من قبل إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ ( الحجرات 10 ) فلا أخوة إلا بين المؤمنين ولا منع إلا من شيء يشبه أكل لحم الأخ ففي هذه الآية نهى عن اغتياب المؤمن دون الكافر رابعها ما الحكمة في هذا التشبيه نقول هو إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه وهذا من باب القياس الظاهر وذلك لأن عرض المرء أشرف من لحمه فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى لأن ذلك آلم وقوله لَحْمَ أَخِيهِ آكد في المنع لأن العدو يحمله الغضب على مضغ لحم العدو فقال أصدق الأصدقاء من ولدته أمك فأكل لحمه أقبح ما يكون وقوله تعالى مَيْتًا إشارة إلى دفع

وهم وهو أن يقال القول في الوجه يؤلم فيحرم وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم فقال أكل لحم الأخ وهو ميت أيضاً لا يؤلم ومع هذا هو في غاية القبح لما أنه لو اطلع عليه لتألم كما أن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه وفيه معنى وهو أن الاغتياب كأكل لحم الآدمي ميتاً ولا يحل أكله إلا للمضطر بقدر الحاجة والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي الميت فلا يأكل لحم الآدمي فكذلك المغتاب أن وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب وقوله تعالى مَيْتًا حال عن اللحم أو عن الأخ فإن قيل اللحم لا يكون ميتاً قلنا بلى قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أبين من حي فهو ميت ) فسمى الغلفة ميتاً فإن قيل إذا جعلناه حال عن الأخ لا يكون هو الفاعل ولا المفعول فلا يجوز جعله حال كما يقول القائل مررت بأخي زيد قائماً ويريد كون زيداً قائماً قلنا يجوز أن يقال من أكل لحمة فقد أكل فصار الأخ مأكولاً مفعولاً بخلاف المرور بأخي زيد فيجوز أن تقول ضربت وجهه آثماً أي وهو آثم أي صاحب الوجه كما أنك إذا ضربت وجهه فقد ضربته ولا يجوز أن تقول مزقت ثوبه آثماً فتجعل الآثم حالاً من غيرك وقوله تعالى فَكَرِهْتُمُوهُ فيه مسألتان
المسألة الأولى العائد إليه الضمير يحتمل وجوهاً الأول وهو الظاهر أن يكون هو الأكل لأن قوله تعالى أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ معناه أيحب أحدكم الأكل لأن أن مع الفعل تكون للمصدر يعني فكرهتم الأكل الثاني أن يكون هو اللحم أي فكرهتم اللحم الثالث أن يكون هو الميت في قوله مَيْتًا وتقديره أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه فكأنه صفة لقوله مَيْتًا ويكون فيه زيادة مبالغة في التحذير يعني الميتة إن أكلت في الندرة لسبب كان نادراً ولكن إذا أنتن وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة
المسألة الثانية الفاء في قوله تعالى فَكَرِهْتُمُوهُ تقتضي وجود تعلق فما ذلك نقول فيه وجوه أحدها أن يكون ذلك تقدير جواب كلام كأنه تعالى لما قال أَيُحِبُّ قيل في جوابه ذلك وثانيها أن يكون الاستفهام في قوله أَيُحِبُّ للانكار كأنه قال لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه إذاً ولا يحتاج إلى إضمار وثالثها أن يكون ذلك التعلق هو تعلق المسبب بالسبب وترتبه عليه كما تقول جاء فلان ماشياً فتعب لأن المشي يورث التعب فكذا قوله مَيْتًا لأن الموت يورث النفرة إلى حد لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربه بحيث يأكل منه ففيه إذاً كراهة شديدة فكذلك ينبغي أن يكون حال الغيبة
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ عطف على ما تقدم من الأوامر والنواهي أي اجتنبوا واتقوا وفي الآية لطائف منها أن الله تعالى ذكر في هذه الآية أمور ثلاثة مرتبة بيانها هو أنه تعالى قال اجْتَنِبُواْ كَثِيراً أي لا تقولوا في حق المؤمنين ما لم تعلموه فيهم بناء على الظن ثم إذا سئلتم على المظنونات فلا تقولوا نحن نكشف أمورهم لنستيقنها قبل ذكرها ثم إن علمتم منها شيئاً من غير تجسس فلا تقولوه ولا تفشوه عنهم ولا تعيبوا ففي الأول نهى عما لم أن يعلم ثم نهى عن طلب ذلك العلم ثم نهى عن ذكر ما علم ومنها أن الله تعالى لم يقل اجتنبوا تقولوا أمراً على خلاف ما تعلمونه ولا قال اجتنبوا الشك بل أول ما نهى عنه هو القول بالظن وذلك لأن القول على خلاف العلم كذب وافتراء والقول

بالشك والرجم بالغيب سفه وهزء وهما في غاية القبح فلم ينه عنه اكتفاء بقوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لأن وصفهم بالإيمان يمنعهم من الافتراء والارتياب الذي هو دأب الكافر وإنما منعهم عما يكثر وجوده في المسلمين وذلك قال في الآية لاَ يَسْخَرْ ومنها أنه ختم الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولى وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( الحجرات 11 ) وقال في الأخرى إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ ( الحجرات 12 ) لكن في الآية الأولى لما كان الابتداء بالنهي في قوله لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الآية الثانية لما كان الابتداء بالأمر في قوله اجْتَنَبُواْ ذكر الارتياب الذي هو قريب من الأمر ثم قال تعالى
ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
تبييناً لما تقدم وتقريراً له وذلك لأن السخرية من الغير والعيب إن كان بسبب التفاوت في الدين والإيمان فهو جائز لما بينا أن قوله لا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً ( الحجرات 12 ) وقوله وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ( الحجرات 11 ) منع من عيب المؤمن وغيبته وإن لم يكن لذلك السبب فلا يجوز لأن الناس بعمومهم كفاراً كانوا أو مؤمنين يشتركون فيما يفتخر به المفتخر غير الإيمان والكفر والافتخار إن كان بسبب الغنى فالكافر قد يكون غنياً والمؤمن فقيراً وبالعكس وإن كان بسبب النسب فالكافر قد يكون نسيباً والمؤمن قد يكون عبداً أسود وبالعكس فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون متقاربون وشيء من ذلك لا يؤثر مع عدم التقوى فإن كل من يتدين بدين يعرف أن من يوافقه في دينه أشرف ممن يخالفه فيه وإن كان أرفع نسباً أو أكثر نشباً فكيف من له الدين الحق وهو فيه راسخ وكيف يرجح عليه من دونه فيه بسبب غيره وقوله تعالى رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى فيه وجهان أحدهما من آدم وحواء ثانيهما كل واحد منكم أيها الموجودون وقت النداء خلقناه من أب وأم فإن قلنا إن المراد هو الأول فذلك إشارة إلى أن لا يتفاخر البعض على البعض لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة وإن قلنا إن المراد هو الثاني فذلك إشارة إلى أن الجنس واحد فإن كل واحد خلق كما خلق الآخر من أب وأم والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين فإن من سنن التفاوت أن لا يكون تقدير التفاوت بين الذباب والذئاب لكن التفاوت الذي بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين لأن الكافر جماد إذ هو كالأنعام بل أضل والمؤمن إنسان في المعنى الذي ينبغي أن يكون فيه والتفاوت في الإنسان تفاوت في الحس لا في الجنس إذ كلهم من ذكر وأنثى فلا يبقى لذلك عند هذ اعتبار وفيه مباحث
البحث الأول فإن قيل هذا مبني على عدم اعتبار النسب وليس كذلك فإن للنسب اعتباراً عرفاً وشرعاً حتى لا يجوز تزويج الشريفة بالنبطي فنقول إذا جاء الأمر العظيم لا يبقى الأمر الحقير معتبراً وذلك في الحس والشرع والعرف أما الحس فلأن الكواكب لا ترى عند طلوع الشمس ولجناح الذباب دوي ولا يسمع عندما يكون رعد قوي وأما في العرف فلأن من جاء مع الملك لا يبقى له اعتبار ولا إليه

التفات إذا علمت هذا فيهما ففي الشرع كذلك إذا جاء الشرف الديني الإلاهي لا يبقى الأمر هناك اعتبار لا لنسب ولا لنشب ألا ترى أن الكافر وإن كان من أعلى الناس نسباً والمؤمن وإن كان من أدونهم نسباً لا يقاس أحدهما بالآخر وكذلك ما هو من الدين مع غيره ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان ديناً عالماً صالحاً ولا يصلح لشيء منها فاسق وإن كان قرشي النسب وقاروني النشب ولكن إذا اجتمع في اثنين الدين المتين وأحدهما نسيب ترجح بالنسب عند الناس لا عند الله لأن الله تعالى يقول وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( النجم 39 ) وشرف النسب ليس مكتسباً ولا يحصل بسعي
البحث الثاني ما الحكمة في اختيار النسب من جملة أسباب التفاخر ولم يذكر المال نقول الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة لكن النسب أعلاها لأن المال قد يحصل للفقير فيبطل افتخار المفتخر به والحسن والسن وغير ذلك غير ثابت دائم والنسب ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له فاختاره الله للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بالطريق الأولى
البحث الثالث إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فهل لقوله تعالى إِنَّا خَلَقْنَاكُم فائدة نقول نعم وذلك لأن كل شيء يترجح على غيره فإما أن يترجح بأمر فيه يلحقه ويترتب عليه بعد وجوده وإما أن يترجح عليه بأمر هو قبله والذي بعده كالحسن والقوة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء والذي قبله فإما راجع إلى الأصل الذي منه وجد أو إلى الفاعل الذي هو له أوجد كم يقال في إناءين هذا من النحاس وهذا من الفضة ويقال هذا عمل فلان وهذا عمل فلان فقال تعالى لا ترجيح فيما خلقتم منه لأنكم كلكم من ذكر وأنثى ولا بالنظر إلى جاعلين لأنكم كلكم خلقكم الله فإن كان بينكم تفاوت يكون بأمور تلحقكم وتحصل بعد وجودكم وأشرفها التقوى والقرب من الله تعالى
ثم قال تعالى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ وفيه وجهان أحدهما جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً متفرقة لا يدري من يجمعكم كالعجم وقبائل يجمعكم واحد معلوم كالعرب وبني إسرائيل وثانيهما جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً داخلين في قبائل فإن القبيلة تحتها الشعوب وتحت الشعوب البطون وتحت البطون الأفخاذ وتحت الأفخاذ الفصائل وتحت الفضائل الأقارب وذكر الأعم لأنه أذهب للافتخار لأن لأمر الأعم منها يدخله فقراء وأغنياء كثيرة غير محصورة وضعفاء وأقوياء كثيرة غير معدودة ثم بيّن فائدة ذلك وهي التعارف وفيه وجهان أحدهما أن فائدة ذلك التناصر لا التفاخر وثانيهما أن فائدته التعارف لا التناكر واللمز والسخرية والغيبة تفضي إلى التناكر لا إلى التعارف وفيه معان لطيفة الأولى قال تعالى إِنَّا خَلَقْنَاكُم وقال وَجَعَلْنَاكُمْ لأن الخلق أصل تفرع عليه الجعل شُعُوباً فإن الأول هو الخلق والإيجاد ثم الاتصاف بما اتصفوا به لكن الجعل شعوباً للتعارف والخلق للعبادة كما قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) واعتبار الأصل متقدم على اعتبار الفرع فاعلم أن النسب يعتبر بعد اعتبار العبادة كما أن الجعل شعوباً يتحقق بعد ما يتحقق الخلق فإن كان فيكم عبادة تعتبر فيكم أنسابكم وإلا فلا الثانية قوله تعالى خَلَقْنَاكُمْ وَجَعَلْنَاكُمْ إشارة إلى عدم جواز الافتخاز لأن ذلك ليس لسعيكم ولا قدرة لكم على شيء من ذلك فكيف تفتخرون بما لا مدخل لكم فيه فإن قيل الهداية والضلال كذلك لقوله تعالى إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ( الإنسان 3 ) نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء ( الشورى 52 ) فنقول أثبت الله لنا فيه كسباً

مبنياً على فعل كم قال الله تعالى فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً
ثم قال تعالى وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وأما في النسب فلا الثالثة قوله تعالى لِتَعَارَفُواْ إشارة إلى قياس خفي وبيانه هو أنه تعالى قال إنكم جعلتم قبائل لتعارفوا وأنتم إذا كنتم أقرب إلى شريف تفتخرون به فخلقكم لتعرفوا ربكم فإذا كنتم أقرب منه وهو أشرف الموجودات كان الأحق بالافتخار هناك من الكل الافتخار بذلك الرابعة فيه إرشاد إلى برهان يدل على أن الافتخار ليس بالأنساب وذلك لأن القبائل للتعارف بسبب الانتساب إلى شخص فإن كان ذلك الشخص شريفاً صح الافتخار في ظنكم وإن لم يكن شريفاً لم يصح فشرف ذلك الرجل الذي تفتخرون به هو بانتسابه إلى فصيلة أو باكتساب فضيلة فإن كان بالانتساب لزم الانتهاء وإن كان بالاكتساب فالدين الفقيه الكريم المحسن صار مثل من يفتخر به المفتخر فكيف يفتخر بالأب وأب الأب على من حصل له من الحظ والخير ما فضل به نفسه عن ذلك الأب والجد اللّهم إلا أن يجوز شرف الانتساب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإن أحداً لا يقرب من الرسول في الفضيلة حتى يقول أنا مثل أبيك ولكن في هذا النسب أثبت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الشرف لمن انتسب إليه بالاكتساب ونفاه لمن أراد الشرف بالانتساب فقال ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ) وقال ( العلماء ورثة الأنبياء ) أي لا نورث بالانتساب وإنما نورث بالاكتساب سمعت أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان في النسب أقرب الناس إلى علي عليه السلام غير أنه كان فاسقاً وكان هناك مولى أسود تقدم بالعلم والعمل ومال الناس إلى التبرك به فاتفق أنه خرج يوماً من بيته يقصد المسجد فأتبعه خلق فلقيه الشريف سكران وكان الناس يطردون الشريف ويبعدونه عن طريقه فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال له يا أسود الحوافر والشوافر يا كافر ابن كافر أنا ابن رسول الله أذل وتجلا وأذم وتكرما وأهان وتعانا فهم الناس بضربه فقال الشيخ لا هذا محتمل منه لجده وضربه معدود لحده ولكن يا أيها الشريف بيضت باطني وسودت باطنك فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي فعملوا معك ما يعمل مع أبي وعملوا معي ما يعمل مع أبيكا
ثم قال تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ وفيه وجهان أحدهما أن المراد من يكون أتقى يكون عند الله أكرم أي التقوى تفيد الإكرام ثانيهما أن المراد أن من يكون أكرم عند الله يكون أتقى أي الإكرام يورث التقوى كما يقال المخلصون على خطر عظيم والأول أشهر والثاني أظهر لأن المذكور ثانياً ينبغي أن يكون محمولاً على المذكور أولاً في الظاهر فيقال الإكرام للتقي لكن ذوا العموم في المشهور هو الأول يقال ألذ الأطعمة أحلاها أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة وهي إثبات لكون التقوى متقدمة على كل فضيلة فإن قيل التقوى من الأعمال والعلم أشرف قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ) نقول التقوى ثمرة العلم قال الله تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) فلا تقوى إلا للعالم فالمتقي العالم أتم علمه والعالم الذي لا يتقي كشجرة لا ثمرة لها لكن الشجرة المثمرة أشرف من الشجرة التي لا تثمر بل هو حطب وكذلك العالم الذي لا يتقي حصب جهنم وأما العابد الذي يفضل الله عليه الفقيه فهو الذي لا علم له وحينئذ لا يكون عنده من خشية الله نصاب كامل ولعله يعبده مخافة

الإلقاء في النار فهو كالمكره أو لدخول الجنة فهو يعمل كالفاعل له أجرة ويرجع إلى بيته والمتقي هو العالم بالله المواظب لبابه أي المقرب إلى جنابه عنده يبيت وفيه مباحث
البحث الأول الخطاب مع الناس والأكرم يقتضي اشتراك الكل في الكرامة ولا كرامة للكافر فإنه أضل من الأنعام وأذل من الهوام نقول ذلك غير لازم مع أنه حاصل بدليل قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ( الإسراء 70 ) لأن كل من خلق فقد اعترف بربه كأنه تعالى قال من استمر عليه لو زاد زيد في كرامته ومن رجع عنه أزيل عنه أثر الكرامة الثاني ما حد التقوى ومن الأتقى تقول أدنى مراتب التقوى أن يجتنب العبد المناهي ويأتي بالأوامر ولا يقر ولا يأمن إلا عندهما فإن اتفق أن ارتكب منهياً لا يأمن ولا يتكل له بل يتبعه بحسنة ويظهر عليه ندامة وتوبة ومتى ارتكب منهياً وما تاب في الحال واتكل على المهلة في الأجل ومنعه عن التذاكر طول الأمل فليس بمتق أما الأتقى فهو الذي يأتي بما أمر به ويترك ما نهى عنه وهو مع ذلك خاش ربه لا يشتغل بغير الله فينور الله قلبه فإن التفت لحظة إلى نفسه أو ولده جعل ذلك ذنبه وللأولين النجاة لقوله تعالى ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ ( مريم 72 ) وللآخرين السوق إلى الجنة لقوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ فبين من أعطاه السلطان بستاناً وأسكنه فيه وبين من استخلصه لنفسه يستفيد كل يوم بسبب القرب من بساتين وضياعاً بون عظيم
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ أي عليم بظواهركم يعلم أنسابكم خبير ببواطنكم لا تخفى عليه أسراركم فاجعلوا التقوى عملكم وزيدوا في التقوى كما زادكم
قَالَتِ الاٌّ عْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الا يمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
لما قال تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات 13 ) والأتقى لا يكون إلا بعد حصول التقوى وأصل الإيمان هو الاتقاء من الشرك قالت الأعراب لنا النسب الشريف وإنما يكون لنا الشرف قال الله تعالى ليس الإيمان بالقول إنما هو بالقلب فما آمنتم لأنه خبير يعلم ما في الصدور وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا أي انقدنا واستسلمنا قيل إن الآية نزلت في بني أسد أظهروا الإسلام في سنة مجدبة طالبين الصدقة ولم يكن قلبهم مطمئناً بالإيمان وقد بينا أن ذلك كالتاريخ للنزول لا للاختصاص بهم لأن كل من أظهر فعل المتقين وأراد أن يصير له ما للأتقياء من الإكرام لا يحصل له ذلك لأن التقوى من عمل القلب وقوله تعالى قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ في تفسيره مسائل
المسألة الأولى قال تعالى وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( النساء 94 ) وقال ههنا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ مع أنهم ألقوا إليهم السلام نقول إشارة إلى أن عمل القلب غير معلوم واجتناب الظن واجب وإنما يحكم بالظاهر فلا يقال لمن يفعل فعلاً هو مرائي ولا لمن أسلم هو منافق ولكن الله خبير بما في الصدور

إذا قال فلان ليس بمؤمن حصل الجزم وقوله تعالى قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ فهو الذي جوز لنا ذلك القول وكان معجزة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث أطلعه الله على الغيب وضمير قلوبهم فقال لنا أنتم لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً لعدم علمكم بما في قلبه
المسألة الثانية لم ولما حرفا نفي وما وإن ولا كذلك من حروف النفي ولم ولما يجزمان وغيرهما من حروف النفي لا يجزم فما الفرق بينهما نقول لم ولما يفعلان بالفعل ما لا يفعل به غيرهما فإنهما يغيران معناه من الاستقبال إلى المضي تقول لم يؤمن أمس وآمن اليوم ولا تقول لا يؤمن أمس فلما فعلا بالفعل ما لم يفعل به غيرهما جزم بهما فإن قيل مع هذا لم جزم بهما غاية ما في الباب أن الفرق حصل ولكن ما الدليل على وجوب الجزم بهما نقول لأن الجزم والقطع يحصل في الأفعال الماضية فإن من قال قام حصل القطع بقيامه ولا يجوز أن يكون ما قام والأفعال المستقبلة إما متوقعة الحصول وإما ممكنة غير متوقعة ولا يحصل القطع والجزم فيه فإذا كان لم ولما يقلبان اللفظ من الاستقبال إلى المضي كانا يفيدان الجزم والقطع في المعنى فجعل لهما تناسباً بالمعنى وهو الجزم لفظاً وعلى هذا نقول السبب في الجزم ما ذكرنا وهذا في الأمر يجزم كأنه جزم على المأمور أنه يفعله ولا يتركه فأي فائدة في أن اللفظ يجزم مع أن الفعل فيه لا بد من وقوعه وأن في الشرط تغير وذلك لأن إن تغير معنى الفعل من المضي إلى الاستقبال إن لم تغيره من الاستقبال إلى المضي تقول إن جئتني جئتك وإن أكرمتني أكرمتك فلما كان إن مثل لم في كونه حرفاً وفي لزوم الدخول على الأفعال وتغييره معنى الفعل صار جازماً لشبه لفظي أما الجزاء فجزم لما ذكرنا من المعنى فإن الجزاء يجزم بوقوعه عند وجود الشرط فالجزم إذاً إما لمعنى أو لشبه لفظي كما أن الجزاء كذلك في الإضافة وفي الجر بحرف
المسألة الثالثة قوله تعالى وَلَاكِن قُولُواْ يقتضي قولاً سابقاً مخالفاً لما بعده كقولنا لا تقدموا آمنا ولكن قولوا أسلمنا وفي ترك التصريح به إرشاد وتأديب كأنه تعالى لم يجز النهي عن قولهم مِنَ فلم يقل لا تقولوا آمنا وأرشدهم إلى الامتناع عن الكذب فقال لَّمْ تُؤْمِنُواْ فإن كنتم تقولون شيئاً فقولوا أمراً عاماً لا يلزم منه كذبكم وهو كقولهم أَسْلَمْنَا فإن الإسلام بمعنى الانقياد حصل
المسألة الرابعة المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة فكيف يفهم ذلك مع هذا نقول بين العام والخاص فرق فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب وقد يحصل باللسان والإسلام أعم لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمراً آخر غيره مثاله الحيوان أعم من الإنسان لكن الحيوان في صورة الإنسان ليس أمراً ينفك عن الإنسان ولا يجوز أن يكون ذلك الحيوان حيواناً ولا يكون إنساناً فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود فكذلك المؤمن والمسلم وسنبين ذلك في تفسير قوله تعالى فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ ( الذاريات 363 ) إن شاء الله تعالى
المسألة الخامسة قوله تعالى وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ هل فيه معنى قوله تعالى قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ نقول نعم وبيانه من وجوه الأول هو أنهم لما قالوا آمنا وقيل لهم لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا قالوا إذا أسلمنا فقد آمنا قيل لا فإن الإيمان من عمل القلب لا غير والإسلام قد يكون عمل اللسان وإذا كان ذلك

عمل القلب ولم يدخل في قلوبكم الإيمان لم تؤمنوا الثاني لما قالوا آمنا وقيل لهم لم تؤمنوا قالوا جدلاً قد آمنا عن صدق نية مؤكدين لما أخبروا فقال وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ لأن لما يفعل يقال في مقابلة قد فعل ويحتمل أن يقال بأن الآية فيها إشارة إلى حال المؤلفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم بعده ضعيفاً قال لهم لَّمْ تُؤْمِنُواْ لأن الإيمان إيقان وذلك بعد لم يدخل في قلوبكم وسيدخل باطلاعكم على محاسن الإسلام وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يكمل لكم الأجر والذي يدل على هذا هو أن لما فيها معنى التوقع والانتظار والإيمان إما أن يكون بفعل المؤمن واكتسابه ونظره في الدلائل وإما أن يكون إلهاماً يقع في قلب المؤمن فقوله قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ أي ما فعلتم ذلك وقوله تعالى وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ أي ولا دخل الإيمان في قلبكم إلهاماً من غير فعلكم فلا إيمان لكم حينئذ ثم إنه تعالى عند فعلهم قال لَّمْ تُؤْمِنُواْ بحرف ليس فيه معنى الانتظار لقصور نظرهم وفتور فكرهم وعند فعل الإيمان قال لما يدخل بحرف فيه معنى التوقع لظهور قوة الإيمان كأنه يكاد يغشي القلوب بأسرها
ثم إنه تعالى قال وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ أي لا ينقصكم والمراد أنكم إذا أتيتم بما يليق بضعفكم من الحسنة فهو يؤتيكم ما يليق به من الجزاء وهذا لأن من حمل إلى ملك فاكهة طيبة يكون ثمنها في السوق درهماً وأعطاه الملك درهماً أو ديناراً ينسب الملك إلى قلة العطاء بل البخل فليس معناه أنه يعطي مثل ذلك من غير نقص بل المعنى يعطي ما تتوقعون بأعمالكم من غير نقص وفيه تحريض على الإيمان الصادق لأن من أتى بفعل من غير صدق نية يضيع عمله ولا يعطي عليه أجراً فقال وإن تطيعوا وتصدقوا لا ينقص عليكم فلا تضيعوا أعمالكم بعدم الإخلاص وفيه أيضاً تسلية لقلوب من تأخر إيمانه كأنه يقول غيري سبقني وآمن حين كان النبي وحيداً وآواه حين كان ضعيفاً ونحن آمنا عندما عجزنا عن مقاومته وغلبنا بقوته فلا يكون لإيماننا وقع ولا لنا عليه أجر فقال تعالى إن أجركم لا ينقص وما تتوقعون تعطون غاية ما في الباب أن التقدم يزيد في أجورهم وماذا عليكم إذا أرضاكم الله أن يعطي غيركم من خزائن رحمته رحمة واسعة وما حالكم في ذلك إلا حال ملك أعطى واحداً شيئاً وقال لغيره ماذا تتمنى فتمنى عليه بلدة واسعة وأموالاً فأعطاه ووفاه ثم زاد ذلك الأول أشياء أخرى من خزائنه فإن تأذى من ذلك يكون بخلاً وحسداً وذلك في الآخرة لا يكون وفي الدنيا هو من صفة الأرازل وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أي يغفر لكم ما قد سلف ويرحمكم بما أتيتم به ثم قال تعالى
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ

إرشاداً للأعراب الذين قالوا آمنا إلى حقيقة الإيمان فقال إن كنتم تريدون الإيمان فالمؤمنون من آمن بالله ورسوله ثم لم يرتابوا يعني أيقنوا بأن الإيمان إيقان وثم للتراخي في الحكاية كأنه يقول آمنوا ثم أقول شيئاً آخر لم يرتابوا ويحتمل أن يقال هو للتراخي في الفعل تقديره آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا فيما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الحشر والنشر وقوله تعالى وَجَاهَدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ يحقق ذلك أي أيقنوا أن بعد هذه الدار داراً فجاهدوا طالبين العقبى وقوله أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إيمانهم لا الأعراب الذين قالوا قولاً ولم يخلصوا عملاً
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَاللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
فإنه عالم به لا يخفى عليه شيء وفيه إشارة إلى أن الدين ينبغي أن يكون لله وأنتم أظهرتموه لنا لا لله فلا يقبل منكم ذلك
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَى َّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلا يمَانِ إِنُ كُنتُمْ صَادِقِينَ
يقرر ذلك ويبين أن إسلامهم لمن يكن لله وفيه لطائف الأولى في قوله تعالى يَمُنُّونَ عَلَيْكَ زيادة بيان لقبيح فعلهم وذلك لأن الإيمان له شرفان أحدهما بالنسبة إلى الله تعالى وهو تنزيه الله عن الشرك وتوحيده في العظمة وثانيهما بالنسبة إلى المؤمن فإنه ينزه النفس عن الجهل ويزينها بالحق والصدق فهم لا يطلبون بإسلامهم جانب الله ولا يطلبون شرف أنفسهم بل منوا ولو علموا أن فيه شرفهم لما منوا به بل شكروا
اللطيفة الثانية قال قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَى َّ إِسْلَامَكُمْ أي الذي عندكم إسلام ولهذا قال تعالى وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ولم يقل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم لئلا يكون تصديقاً لهم في الإسلام أيضاً كما لم يصدقوا في الإيمان فإن قيل لم لم يجز أن يصدقوا في إسلامهم والإسلام هو الانقياد وقد وجد منهم قولاً وفعلاً وإن لم يوجد اعتقاداً وعلماً وذلك القدر كاف في صدقهم نقول التكذيب يقع على وجهين أحدهما أن لا يوجد نفس المخبر عنه وثانيهما أن لا يوجد كما أخبر في نفسه فقد يقول ما جئتنا بل جاءت بك الحاجة فالله تعالى كذبهم في قولهم آمنا على الوجه الأول أي ما آمنتم أصلاً ولم يصدقوا في الإسلام على الوجه الثاني فإنهم انقادوا للحاجة وأخذ الصدقة
اللطيفة الثالثة قال بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ يعني لا منة لكم ومع ذلك لا تسلمون رأساً برأس بحيث لا يكون لكم علينا ولا لنا عليكم منة بل المنة عليكم وقوله تعالى بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ حسن أدب حيث لم يقل لا تمنوا علي بل لي المنة عليكم حيث بينت لكم الطريق المستقيم ثم في مقابلة هذا الأدب قال الله تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( الشورى 52 )
اللطيفة الرابعة لم يقل يمن عليكم أن أسلمتم بل قال أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَانِ لأن إسلامهم كان ضلالاً حيث كان نفاقاً فما منّ به عليهم فإن قيل كيف من عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه بيّن أنهم لم يؤمنوا نقول

الجواب عنه من ثلاثة أوجه أحدها أنه تعالى لم يقل بل الله يمن عليكم أن رزقكم الإيمان بل قال أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَانِ وإرسال الرسل بالآيات البينات هداية ثانيها هو أنه تعالى يمن عليهم بما زعموا فكأنه قال أنتم قلتم آمنا فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار فقال هداكم في زعمكم ثالثها وهو الأصح هو أن الله تعالى بيّن بعد ذلك شرطاً فقال إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
إشارة إلى أنه لا يخفى عليه أسراركم وأعمال قلوبكم الخفية وقال بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ يبصر أعمال جوارحكم الظاهرة وآخر السورة مع التئامه بما قبله فيه تقرير ما في أول السورة وهو قوله تعالى لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( الحجرات 1 ) فإنه لا يخفى عليه سر فلا تتركوا خوفه في السر ولا يخفى عليه علن فلا تأمنوه في العلانية والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

سورة ق
أربعون وخمس آيات مكية
ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ
ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ وقبل التفسير نقول ما يتعلق بالسورة وهي أمور
الأول أن هذه السورة تقرأ في صلاة العيد لقوله تعالى فيها ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ( ق 42 ) وقوله تعالى كَذالِكَ الْخُرُوجُ ( ق 11 ) وقوله تعالى ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( ق 44 ) فإن العيد يوم الزينة فينبغي أن لا ينسى الإنسان خروجه إلى عرصات الحساب ولا يكون في ذلك اليوم فرحاً فخوراً ولا يرتكب فسقاً ولا فجوراً ولما أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالتذكير بقوله في آخر السورة فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ق 45 ) ذكرهم بما يناسب حالهم في يومهم بقوله ق وَالْقُرْءانِ
الثاني هذه السورة وسورة ص تشتركان في افتتاح أولهما بالحروف المعجم والقسم بالقرآن وقوله بَلِ والتعجب ويشتركان في شيء آخر وهو أن أول السورتين وآخرهما متناسبان وذلك لأن في ص قال في أولها ص وَالْقُرْءانِ ذِى ( ص 1 ) وقال في آخرها إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ( ص 87 ) وفي ق قال في أولها ق وَالْقُرْءانِ وقال في آخرها فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ق 45 ) فافتتح بما اختتم به
والثالث وهو أن في تلك السورة صرف العناية إلى تقرير الأصل الأول وهو التوحيد بقوله تعالى أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً ( ص 5 ) وقوله تعالى وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ ( ص 6 ) وفي هذه السورة إلى تقرير الأصل الآخر وهو الحشر بقوله تعالى أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ق 3 ) ولما كان افتتاح السورة في ص في تقرير المبدأ قال في آخرها إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِ إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ

( ص 71 ) وختمه بحكاية بدء ( خلق ) آدم لأنه دليل الوحدانية ولما كان افتتاح هذه لبيان الحشر قال في آخرها يَوْمَ تَشَقَّقُ الاْرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( ق 44 ) وأما التفسير ففيه مسائل
المسألة الأولى قيل ق اسم جبل محيط بالعالم وقيل معناه حكمة هي قولنا قضى الأمر وفي ص صدق الله وقد ذكرنا أن الحروف تنبيهات قدمت على القرآن ليبقى السامع مقبلاً على استماع ما يرد عليه فلا يفوته شيء من الكلام الرائق والمعنى الفائق
وذكرنا أيضاً أن العبادة منها قلبية ومنها لسانية ومنها جارجية ظاهرة ووجد في الجارحية ما عقل معناه ووجد منها ما لم يعقل معناه كأعمال الحج من الرمي والسعي وغيرهما ووجد في القلبية ما عقل بدليل كعلم التوحيد وإمكان الحشر وصفات الله تعالى وصدق الرسل ووجد فيها ما يبعدها عن كونها معقولة المعنى أمور لا يمكن التصديق والجزم بما لولا السمع كالصراط الممدود الأحد من السيف الأرق من الشعر والميزان الذي يوزن به الأعمال فكذلك كان ينبغي أن تكون الأذكار التي هي العبادة اللسانية منها ما يعقل معناه كجميع القرآن إلا قليلاً منه ومنها ما لا يعقل ولا يفهم كحرف التهجي لكون التلفظ به محض الانقياد للأمر لا لما يكون في الكلام من طيب الحكاية والقصد إلى غرض كقولنا ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا بل يكون النطق به تعبداً محضاً ويؤيد هذا وجه آخر وهو أن هذه الحروف مقسم بها وذلك لأن الله تعالى لما أقسم بالتين والزيتون كان تشريفاً لهما فإذا أقسم بالحروف التي هي أصل الكلام الشريف الذي هو دليل المعرفة وآلة التعريف كان أولى وإذا عرفت هذا فنقول على هذا فيه مباحث
الأول القسم من الله وقع بأمر واحد كما في قوله تعالى وَالْعَصْرِ وقوله تعالى وَالنَّجْمِ وبحرف واحد كما في قوله تعالى ص و ن ووقع بأمرين كما في قوله تعالى وَالضُّحَى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى وفي قوله تعالى وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ وبحرفين كما في قوله تعالى طه و طس و يس و حم وبثلاثة أمور كما في قوله تعالى وَالصَّافَّاتِ فَالزجِراتِ فَالتَّالِيَاتِ وبثلاثة أحرف كما في الم وفي طسم وبأربعة أمور كما في وَعِيدِ وَالذرِيَاتِ وفي وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وفي وَالتّينِ وبأربعة أحرف كما في المص وبخمسة أمور كما في يُوعَدُونَ وَالطُّورِ وفي وَالْمُرْسَلَاتِ وفي وَالنَّازِعَاتِ وفي وَالْفَجْرِ وبخمسة أحرف كما في كهيعص ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي مُّؤْصَدَة ُ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ولم يقسم بأكثر من خمسة أصول لأنه يجمع كلمة الاستثقال ولما استثقل حين ركب لمعنى كان استثقالها حين ركب من غير إحاطة العلم بالمعنى أو لا لمعنى كان أشد
البحث الثاني عند القسم بالأشياء المعهودة ذكر حرف القسم وهي الواو فقال وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وَالشَّمْسُ وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم فلم يقل و ق لأن القسم لما كان بنفس الحروف كان الحرف مقسماً به فلم يورده في موضع كونه آلة القسم تسوية بين الحروف

البحث الثالث أقسم الله بالأشياء كالتين والطور ولم يقسم بأصولها وهي الجواهر الفردة والماء والتراب وأقسم بالحروف من غير تركيب لأن الأشياء عنده يركبها على أحسن حالها وأما الحروف إن ركبت بمعنى يقع الحلف بمعناه لا باللفظ كقولنا ( والسماء والأرض ) وإن ركبت لا بمعنى كان المفرد أشرف فأقسم بمفردات الحروف
البحث الرابع أقسم بالحروف في أول ثمانية وعشرين سورة وبالأشياء التي عددها عدد الحروف وهي غير مُّظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ في أربع عشرة سورة لأن القسم بالأمور غير الحروف وقع في أوائل السور وفي أثنائها كقوله تعالى كَلاَّ وَالْقَمَرِ وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ( المدثر 32 33 ) وقوله تعالى وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ( الانشقاق 17 ) وقوله وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ( التكوير 17 ) والقسم بالحروف لم يوجد ولم يحسن إلا في أوائل السور لأن ذكر ما لا يفهم معناه في أثناء الكلام المنظوم المفهوم يخل بالفهم ولما كان القسم بالأشياء له موضعان والقسم بالحروف له موضع واحد جعل القسم بالأشياء في أوائل السور على نصف القسم بالحروف في أوائلها
البحث الخامس القسم بالحروف وقع في النصفين جميعاً بل في كل سبع وبالأشياء المعدودة لم يوجد إلا في النصف الأخير بل لم يوجد إلا في السبع الأخير غير والصافات وذلك لأنا بينا أن القسم بالحروف لم ينفك عن ذكر القرآن أو الكتاب أو التنزيل بعده إلا نادراً فقال تعالى يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ الم ذالِكَ الْكِتَابُ ولما كان جميع القرآن معجزة مؤداة بالحروف وجد ذلك عاماً في جميع المواضع ولا كذلك القسم بالأشياء المعدودة وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في سورة العنكبوت ولنذكر ما يختص بقاف قيل إنه اسم جبل محيط بالأرض عليه أطراف السماء وهو ضعيف لوجوه أحدها أن القراءة الكثيرة الوقف ولو كان اسم جبل لما جاز الوقف في الإدراج لأن من قال ذلك قال بأن الله تعالى أقسم به وثانيها أنه لو كان كذلك لذكر بحرف القسم كما في قوله تعالى وَالطُّورِ وذلك لأن حرف القسم يحذف حيث يكون المقسم به مستحقاً لأن يقسم به كقولنا الله لأفعلن كذا واستحقاقه لهذا غني عن الدلالة عليه باللفظ ولا يحسن أن يقال زيد لأفعلن ثالثها هو أنه لو كان كما ذكر لكان يكتب قاف مع الألف والفاء كما يكتب عَيْنٌ جَارِيَة ٌ ( الغاشية 12 ) ويكتب أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ( الزمر 36 ) وفي جميع المصاحف يكتب حرف ق رابعها هو أن الظاهر أن الأمر فيه ك الأمر في ص ن حم وهي حروف لا كلمات وكذلك في ق فإن قيل هو منقول عن ابن عباس نقول المنقول عنه أن قاف اسم جبل وأما أن المراد في هذا الموضع به ذلك فلا وقيل إن معناه قضى الأمر وفي ص صدق الله وقيل هو اسم الفاعل من قفا يقفو و ص من صاد من المصاداة وهي المعارضة معناه هذا قاف جميع الأشياء بالكشف ومعناه حينئذ هو قوله تعالى وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 59 ) إذا قلنا إن الكتاب هناك القرآن هذا ما قيل في ق وأما القراءة فيه فكثيرة وحصرها بيان معناها فنقول إن قلنا هي مبنية على ما بينا فحقها الوقف إذ لا عامل فيها فيشبه بناء الأصوات ويجوز الكسر حذراً من التقاء الساكنين ويجوز الفتح اختياراً للأخف فإن قيل كيف جاز اختيار الفتح ههنا ولم يجز عند التقاء الساكنين إذا كان أحدهما آخر كلمة والآخر أول أخرى كما في قوله تعالى لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( البينة 1 ) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ ( الأنعام 52 ) نقول لأن هناك إنما وجب التحريك وعين الكسر في الفعل

للشبهة تحرك الإعراب لأن الفعل محل يرد عليه الرفع والنصب ولا يوجد فيه الجر فاختيرت الكسرة التي لا يخفى على أحد أنها ليست بجر لأن الفعل لا يجوز فيه الجر ولو لاشتبه بالنصب وأما في أواخر الأسماء فلا اشتباه لأن الأسماء محل ترد عليه الحركات الثلاث فلم يكن يمكن الاحتراز فاختاروا الأخف وأما إن قلنا إنها حرف مقسم به فحقها الجر ويجوز النصب بجعله مفعولاً باقسم على وجه الاتصال وتقدير الباء كأن لم يوجد وإن قلنا هي اسم السورة فإن قلنا مقسم بها مع ذلك فحقها الفتح لأنها لا تنصرف حينئذ ففتح في موضع الجر كما تقول وإبراهيم وأحمد في القسم بهما وإن قلنا إنه ليس مقسماً بها وقلنا اسم السورة فحقها الرفع إن جعلناها خبراً تقديره هذه ق وإن قلنا هو من قفا يقفو فحقه التنوين كقولنا هذا داع وراع وإن قلنا اسم جبل فالجر والتنوين وإن كان قسماً ولنعد إلى التفسير فنقول الوصف قد يكون للتمييز وهو الأكثر كقولنا الكلام القديم ليتميز عن الحادث والرجل الكريم ليمتاز عن اللئيم وقد يكون لمجرد المدح كقولنا الله الكريم إذ ليس في الوجود إلاه آخر حتى نميزه عنه بالكريم وفي هذا الموضع يحتمل الوجهين والظاهر أنه لمجرد المدح وأما التمييز فبأن نجعل القرآن اسماً للمقروء ويدل عليه قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 ) والمجيد العظيم وقيل المجيد هو كثير الكرم وعلى الوجهين القرآن مجيد أما على قولنا المجيد هو العظيم فلأن القرآن عظيم الفائدة ولأنه ذكر الله العظيم وذكر العظيم عظيم ولأنه لم يقدر عليه أحد من الخلق وهو آية العظمة يقال ملك عظيم إذا لم يكن يغلب ويدل عليه قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءانَ الْعَظِيمَ ( الحجر 87 ) أي الذي لا يقدر على مثله أحد ليكون معجزة دالة على نبوتك وقوله تعالى بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( البروج 21 22 ) أي محفوظ من أن يطلع عليه أحد إلا باطلاعه تعالى فلا يبدل ولا يغير و لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ( فصلت 42 ) فهو غير مقدور عليه فهو عظيم وأما على قولنا المجيد هو كثير الكرم فالقرآن كريم كل من طلب منه مقصوده وجده وإنه مغن كل من لاذبه وإغناء المحتاج غاية الكرم ويدل عليه هو أن المجيد مقرون بالحميد في قولنا إنك حميد مجيد فالحميد هو المشكور والشكر على الإنعام والمنعم كريم فالمجيد هو الكريم البالغ في الكرم وفيه مباحث
الأول القرآن مقسم به فالمقسم عليه ماذا نقول فيه وجوه وضبطها بأن نقول ذلك إما أن يفهم بقرينة حالية أو قرينة مقالية والمقالية إما أن تكون متقدمة على المقسم به أو متأخرة فإن قلنا بأنه مفهوم من قرينة مقالية متقدمة فلا متقدم هناك لفظاً إلا ق فيكون التقدير هذا ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ أو ق أنزلها الله تعالى وَالْقُرْءانِ كما يقول هذا حاتم والله أي هو المشهور بالسخاء ويقول الهلال رأيته والله وإن قلنا بأنه مفهوم من قرينة مقالية متأخرة فنقول ذلك أمران أحدهما المنذر والثاني الرجع فيكون التقدير والقرآن المجيد إنك المنذر أو والقرآن المجيد إن الرجع لكائن لأن الأمرين ورد القسم عليهما ظاهراً أما الأول فيدل عليه قوله تعالى يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إلى أن قال لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ ( ي س 1 6 ) وأما الثاني فدل عليه قوله تعالى وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ إلى أن قال إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ( الطور 1 7 ) وهذا الوجه يظهر عليه غاية الظهور على قول من قال ق اسم جبل فإن القسم يكون بالجبل والقرآن وهناك القسم بالطور والكتاب المسطور وهو الجبل والقرآن فإن قيل أي الوجهين منهما أظهر عندك قلت الأول لأن المنذر أقرب من الرجع ولأن الحروف رأيناها مع القرآن والمقسم كونه

مرسلاً ومنذراً وما رأينا الحروف ذكرت ويعدها الحشر واعتبر ذلك في سورة منها قوله تعالى الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ لِتُنذِرَ ( السجدة 1 3 ) ولأن القرآن معجزة دالة على كون محمد رسول الله فالقسم به عليه يكون إشارة إلى الدليل على طريقة القسم وليس هو بنفسه دليلاً على الحشر بل فيه أمارات مفيدة للجزم بالحشر بعد معرفة صدق الرسول وأما إن قلنا هو مفهوم بقرينة حالية فهو كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على الحق ولكلامه صفة الصدق فإن الكفار كانوا ينكرون ذلك والمختار ما ذكرناه والثاني بَلْ عَجِبُواْ ( ق 2 ) يقتضي أن يكون هناك أمر مضرب عنه فما ذلك نقول قال الواحدي ووافقه الزمخشري إنه تقدير قوله ما الأمر كما يقولون ونزيده وضوحاً فنقول على ما اخترناه فإن التقدير والله أعلم ق والقرآن والقرآن المجيد إنك لتنذر فكأنه قال بعده وإنهم شكوا فيه فأضرب عنه
بَلْ عَجِبُوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَى ْءٌ عَجِيبٌ
وقال بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ
يعني لم يقتنعوا بالشك في صدق الأمر وطرحه بالترك وبعد الإمكان بل جزموا بخلافه حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة فإن قيل فما الحكمة في هذا الاختصار العظيم في موضع واحد حذف المقسم عليه والمضرب عنه وأتى بأمر لا يفهم إلا بعد الفكر العظيم ولا يفهم مع الفكر إلا بالتوفيق العزيز فنقول إنما حذف المقسم عليه لأن الترك في بعض المواضع يفهم منه ظهور لا يفهم من الذكر وذلك لأن من ذكر الملك العظيم في مجلس وأثنى عليه يكون قد عظمه فإذا قال له غيره هو لا يذكر في هذا المجلس يكون بالإرشاد إلى ترك الذكر دالاً على عظمته فوق ما يستفيد صاحبه بذكره فالله تعالى يقول لبيان رسالتك أظهر من أن يذكر وأما حذف المضرب عنه فلأن المضرب عنه إذا ذكر وأضرب عنه بأمر آخر إنما يحسن إذا كان بين المذكورين تفاوت ما فإذا عظم التفاوت لا يحسن ذكرهما مع الإضراب مثاله يحسن أن يقال الوزير يعظم فلاناً بل الملك يعظمه ولا يحسن أن يقال البواب يعظم فلاناً بل الملك يعظمه لكون البون بينهما بعيداً إذ الإضراب للتدرج فإذا ترك المتكلم المضرب عنه صريحاً وأتى بحرف الإضراب استفيد منه أمران أحدهما أنه يشير إلى أمر آخر قبله وثانيهما أنه يجعل الثاني تفاوتاً عظيماً مثل ما يكون ومما لا يذكر وههنا كذلك لأن الشك بعد قيام البرهان بعيد لكن القطع بخلافه في غاية ما يكون من البعد
المبحث الثالث أن مع الفعل يكون بمثابة ذكر المصدر تقول أمرت بأن أقوم وأمرت بالقيام وتقول ما كان جوابه إلا أن قال وما كان جوابه إلا قوله كذا وكذا وإذا كان كذلك فلم ينزل عن الإتيان بالمصدر حيث جاز أن يقال أمرت أن أقوم من غير حرف الإلصاق ولا يجوز أن يقال أمرت القيام بل لا بد من الباء ولذلك قالوا أي عجبوا من مجيئه نقول أَن جَاءهُمْ وإن كان في المعنى قائماً مقام المصدر لكنه في الصورة فعل وحرف وحروف التعدية كلها حروف جارة والجار لا يدخل على الفعل فكان الواجب أن لا يدخل فلا أقل من أن يجوز عدم الدخول فجاز أن يقال عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ ولا يجوز عجبوا مجيئهم لعدم المانع من إدخال الحروف عليه

وقوله تعالى مِنْهُمْ يصلح أن يكون مذكوراً كالمقرر لتعجبهم ويصلح أن يكون مذكوراً لإبطال تعجبهم أما التقرير فلأنهم كانوا يقولون أَبَشَراً مّنَّا واحِداً نَّتَّبِعُهُ ( القمر 24 ) و قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا ( ي س 15 ) إشارة إلى أنه كيف يجوز اختصاصكم بهذه المنزلة الرفيعة مع اشتراكنا في الحقيقة واللوازم وأما الإبطال فلأنه إذا كان واحداً منهم ويرى بين أظهرهم وظهر عليه ما عجز عنه كلهم ومن بعدهم كان يجب عليهم أن يقولوا هذا ليس من عنده ولا من عند أحد من جنسنا فهو من عند الله بخلاف ما لو جاءهم واحد من خلاف جنسهم وأتى بما يعجزون عنه فإنهم كانوا يقولون نحن لا نقدر لأن لكل نوع خاصية فإن خاصية النعامة بلع النار والطيور الطير في الهواء وابن آدم لا يقدر عليه فإن قيل الإبطال جائز لأن قولهم كان باطلاً ولكن تقرير الباطل كيف يجوز نقول المبين لبطلان الكلام يجب أن يورده على أبلغ ما يمكن ويذكر فيه كل ما يتوهم أنه دليل عليه ثم يبطله فلذلك قال عجبتم بسبب أنه منكم وهو في الحقيقة سبب لهذا التعجب فإن قيل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان بشيراً ونذيراً والله تعالى في جميع المواضع قدم كونه بشيراً على كونه نذيراً فلم لم يذكر عجبوا أن جاءهم بشير منهم نقول هو لما لم يتعين للبشارة موضعاً كان في حقهم منذراً لا غير
ثم قال تعالى فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ
قال الزمخشري هذا تعجب آخر من أمر آخر وهو الحشر الذي أشار إليه بقوله أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ق 3 ) فعجبوا من كونه منذراً من وقوع الحشر ويدل عليه النظر في أول سورة ص حيث قال فيه وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّ نذِرٌ ( ص 4 ) وقال أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ ( ص 5 ) ذكر تعجبهم من أمرين والظاهر أن قولهم هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ إشارة إلى مجيء المنذر لا إلى الحشر ويدل عليه وجوه الأول هو أن هناك ذكر إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ بعد الاستفهام الإنكاري فقال أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ وقال ههنا هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ ولم يكن ما يقع الإشارة إليه إلا مجيء المنذر ثم قالوا أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ الثاني ههنا وجد بعد الاستبعاد بالاستفهام أمر يؤدي معنى التعجب وهو قولهم ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ فإنه استبعاد وهو كالتعجب فلو كان التعجب أيضاً عائداً إليه لكان كالتكرار فإن قيل التكرار الصريح يلزم من جعل قولك هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ عائداً إلى مجيء المنذر فإن تعجبهم منه علم من قوله عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ فقوله هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ يكون تكراراً نقول ذلك ليس بتكرار بل هو تقرير وذلك لأنه لما قال بَلْ عَجِبُواْ بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجيباً كما قال تعالى أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( هود 73 ) ويقال في العرف لا وجه لتعجبك مما ليس بعجب فكأنهم لما عجبوا قيل لهم لا معنى لفعلكم وعجبكم فقالوا هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ فكيف لا نعجب منه ويدل عليه أنه تعالى قال ههنا فَقَالَ الْكَافِرُونَ بحرف الفاء وقال في ص وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( ص 4 ) لأن قولهم سَاحِرٌ كَذَّابٌ كان تعنتاً غير مرتب على ما تقدم و هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ أمر مرتب على ما تقدم أي عجبوا وأنكروا عليه ذلك فقالوا هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ فكيف لا نعجب منه ويدل

عليه أيضاً قوله تعالى ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ق 3 ) بلفظ الإشارة إلى البعد وقوله هذا إشارة إلى الحاضر القريب فينبغي أن يكون المشار إليه بذلك غير المشار إليه بهذا وذلك لا يصح إلا على قولنا
أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ
فإنهم لما أظهروا العجب من رسالته أظهروا استبعاد كلامه وهذا كما قال تعالى عنهم قَالُواْ مَا هَاذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُكُمْ ( سبأ 43 ) وَقَالُواْ مَا هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى ( سبأ 43 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى فقوله أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً إنكار منهم بقول أو بمفهوم دل عليه قوله تعالى جَاءهُمْ مُّنذِرٌ ( ق 2 ) لأن الإنذار لما لم يكن إلا بالعذاب المقيم والعقاب الأليم كان فيه الإشارة للحشر فقالوا أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً
المسألة الثانية ذلك إشارة إلى ما قاله وهو الإنذار وقوله هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ ( ق 2 ) إشارة إلى المجيء على ما قلنا فلما اختلفت الصفتان نقول المجيء والجائي كل واحد حاضر وأما الإنذار وإن كان حاضراً لكن لكون المنذر به لما كان غير حاضر قالوا فيه ذلك الرجع مصدر رجع يرجع إذا كان متعدياً والرجوع مصدره إذا كان لازماً وكذلك الرجعي مصدر عند لزومه والرجع أيضاً يصح مصدراً للازم فيحتمل أن يكون المراد بقوله ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ أي رجوع بعيد ويحتمل أن يكون المراد الرجع المتعدي ويدل على الأول قوله تعالى إِنَّ إِلَى رَبّكَ الرُّجْعَى ( العلق 8 ) وعلى الثاني قوله تعالى أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ ( النازعات 10 ) أي مرجعون فإنه من الرجع المتعدي فإن قلنا هو من المتعدي فقد أنكروا كونه مقدوراً في نفسه
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ
إشارة إلى دليل جواز البعث وقدرته تعالى عليه وذلك لأن الله تعالى بجميع أجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر وقادر على الجمع والتأليف فليس الرجوع منه ببعد وهذا كقوله تعالى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ( ي س 11 ) حيث جعل للعلم مدخلاً في الإعادة وقوله قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاْرْضَ يعني لا تخفى علينا أجزاؤهم بسبب تشتتها في تخوم الأرضين وهذا جواب لما كانوا يقولون أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الاْرْضِ ( السجدة 10 ) يعني أن ذلك إشارة إلى أنه تعالى كما يعلم أجزاؤهم يعلم أعمالهم من ظلمهم وتعديهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون ويحتمل أن يقال معنى قوله تعالى وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ هو أنه عالم بتفاصيل الأشياء وذلك لأن العلم إجمالي وتفصيلي فالإجمالي كما يكون عند

الإنسان الذي يحفظ كتاباً ويفهمه ويعلم أنه إذا سئل عن أية مسألة تكون في الكتاب يحضر عنده الجواب ولكن ذلك لا يكون نصب عينيه حرفاً بحرف ولا يخطر بباله في حالة باباً باباً أو فصلاً فصلاً ولكن عند العرض على الذهن لا يحتاج إلى تجديد فكر وتحديد نظر والتفصيلي مثل الذي يعبر عن الأشياء والكتاب الذي كتب فيه تلك المسائل وهذا لا يوجد عند الإنسان إلا في مسألة أو مسألتين أما بالنسبة إلى كتاب فلا يقال وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ يعني العلم عندي كما يكون في الكتاب أعلم جزءاً جزءاً وشيئاً شيئاً والحفيظ يحتمل أن يكون بمعنى المحفوظ أي محفوظ من التغيير والتبديل ويحتمل أن يكون بمعنى الحافظ أي حافظ أجزاءهم وأعمالهم بحيث لا ينسى شيئاً منها والثاني هو الأصح لوجهين أحدهما أن الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن قال تعالى وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ( الأنعام 104 ) وقال تعالى وَاللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ولأن الكتاب على ما ذكرنا للتمثيل فهو يحفظ الأشياء وهو مستغن عن أن يحفظ
بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ
وقوله تعالى بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ
رد عليهم فإن قيل ما المضروب عنه نقول فيه وجهان أحدهما تقديره لم يكذب المنذر بل كذبوا هم وتقديره هو أنه تعالى لما قال عنهم إنهم قالوا هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ ( ق 2 ) كان في معنى قولهم إن المنذر كاذب فقال تعالى لم يكذب المنذر بل هم كذبوا فإن قيل ما الحق نقول يحتمل وجوهاً الأول البرهان القائم على صدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني الفرقان المنزل وهو قريب من الأول لأنه برهان الثالث النبوة الثابتة بالمعجزة القاهرة فإنها حق الرابع الحشر الذي لا بد من وقوعه فهو حق فإن قيل بين لنا معنى الباء في قوله تعالى بِالْحَقّ وأية حاجة إليها يعني أن التكذيب متعد بنفسه فهل هي للتعدية إلى مفعول ثان أو هي زائدة كما في قوله تعالى فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ ( القلم 5 6 ) نقول فيه بحث وتحقيق وهي في هذا الموضع لإظهار معنى التعدية وذلك لأن التكذيب هو النسبة إلى الكذب لكن النسبة تارة توجد في القائل وأخرى في القول تقول كذبني فلان وكنت صادقاً وتقول كذب فلان قول فلان ويقال كذبه أي جعله كاذباً وتقول قلت لفلان زيد يجيء غداً فتأخر عمداً حتى كذبني وكذب قولي والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها قال تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ( الشعراء 141 ) وقال تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ( القمر 23 ) وفي القول كذلك غير أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر قال تعالى فَكَذَّبُوهُ ( الأعراف 64 ) وقال وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ ( فاطر 4 ) إلى غير ذلك وفي القول الاستعمال بالباء أكثر قال الله تعالى كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلَّهَا ( القمر 42 ) وقال بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ وقال تعالى وَكَذَّبَ بِالصّدْقِ إِذْ جَاءهُ ( الزمر 32 ) والتحقيق فيه هو أن المفعول المطلق هو المصدر لأنه هو الذي يصدر من الفاعل فإن من ضرب لم يصدر منه غير الضرب غير أن له محلاً يقع فيه فيسمى مضروباً ثم إذا كان ظاهراً لكونه محلاً للفعل يستغني بظهوره عن الحرف فيعدى من غير حرف يقال ضربت عمراً وشربت خمراً للعلم بأن الضرب لا بد له من محل يقوم به والشرب لا يستغني عن مشروب يتحقق فيه وإذا قلت مررت يحتاج إلى الحرف ليظهر معنى التعدية لعدم ظهوره في نفسه لأن من قال مر السحاب يفهم منه مرور ولا يفهم منه من مر به ثم إن الفعل قد يكون في الظهور دون

الضرب والشرب وفي الخفاء دون المرور فيجوز الإتيان فيه بدون الحرف لظهوره الذي فوق ظهور المرور ومع الحرف لكون الظهور دون ظهور الضرب ولهذا لا يجوز أن تقول ضربت بعمرو إلا إذا جعلته آلة الضرب أما إذا ضربته بسوط أو غيره فلا يجوز فيه زيادة الباء ولا يجوز مروا به إلا مع الاشتراك وتقول مسحته ومسحت به وشكرته وشكرت له لأن المسح إمرار اليد بالشيء فصار كالمرور والشكر فعل جميل غير أنه يقع بمحسن فالأصل في الشكر الفعل الجميل وكونه واقعاً بغيره كالبيع بخلاف الضرب فإنه إمساس جسم بجسم بعنف فالمضروب داخل في مفهوم الضرب أولاً والمشكور داخل في مفهوم الشكر ثانياً إذا عرفت هذا فالتكذيب في القائل ظاهر لأنه هو الذي يصدق أو يكذب وفي القول غير ظاهر فكان الاستعمال فيه بالباء أكثر والباء فيه لظهور معنى التعدية
وقوله لَمَّا جَاءهُمْ في الجائي وجهان أحدهما أنه هو المكذب تقديره كذبوا بالحق لما جاءهم الحق أي لم يؤخروه إلى الفكر والتدبر ثانيهما الجائي ههنا هو الجائي في قوله تعالى بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ ( ق 2 ) تقديره كذبوا بالحق لما جاءهم المنذر والأول لا يصح على قولنا الحق وهو الرجع لأنهم لا يكذبون به وقت المجيء بل يقولون هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ ( ي س 52 )
وقوله فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ أي مختلف مختلط قال الزجاج وغيره لأنهم تارة يقولون ساحر وأخرى شاعر وطوراً ينسبونه إلى الكهانة وأخرى إلى الجنون والأصح أن يقال هذا بيان الاختلاف المذكور في الآيات وذلك لأن قوله تعالى بَلْ عَجِبُواْ يدل على أمر سابق أضرب عنه وقد ذكرنا أنه الشك وتقديره والقرآن المجيد إنك لمنذر وإنهم شكوا فيك بل عجبوا بل كذبوا وهذه مراتب ثلاث الأولى الشك وفوقها التعجب لأن الشاك يكون الأمران عنده سيين والمتعجب يترجح عنده اعتقاد عدم وقوع العجيب لكنه لا يقطع به والمكذب الذي يجزم بخلاف ذلك فكأنهم كانوا شاكين وصاروا ظانين وصاروا جازمين فقال فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ ويدل عليه الفاء في قوله فَهُمُ لأنه حينئذ يصير كونهم فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ مرتباً على ما تقدم وفيما ذكروه لا يكون مرتباً فإن قيل المريج المختلط وهذه أمور مرتبة متميزة على مقتضى العقل لأن الشاك ينتهي إلى درجة الظن والظان ينتهي إلى درجة القطع وعند القطع لا يبقى الظن وعند لظن لا يبقى الشك وأما ما ذكروه ففيه يحصل الاختلاط لأنهم لم يكن لهم في ذلك ترتيب بل تارة كانوا يقولون كاهن وأخرى مجنون ثم كانوا يعودون إلى نسبته إلى الكهانة بعد نسبته إلى الجنون وكذا إلى الشعر بعد السحر وإلى السحر بعد الشعر فهذا هو المريج نقول كان الواجب أن ينتقلوا من الشك إلى الظن بصدقه لعلمهم بأمانته واجتنابه الكذب طول عمره بين أظهرهم ومن الظن إلى القطع بصدقه لظهور المعجزات القاهرة على يديه ولسانه فلما غيروا الترتيب حصل عليه المرج ووقع الدرك مع المرج وأما ما ذكروه فاللائق به تفسير قوله تعالى إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( الذاريات 8 ) لأن ما كان يصدر منهم في حقه كان قولاً مختلفاً وأما الشك والظن والجزم فأمور مختلفة وفيه لطيفة وهي أن إطلاق لفظ المريج على ظنهم وقطعهم ينبىء عن عدم كون ذلك الجزم صحيحاً لأن الجزم الصحيح لا يتغير وكان ذلك منهم واجب التغير فكان أمرهم مضطرباً بخلاف المؤمن الموفق فإنه لا يقع في اعتقاده تردد ولا يوجد معتقده تعدد
أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ
إشارة إلى الدليل الذي يدفع قولهم ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ق 3 ) وهذا كما في قوله تعالى أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم

( ي س 80 ) وقوله تعالى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( غافر 57 ) وقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلَمْ يَعْى َ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْى ِ الْمَوْتَى بَلَى ( الأحقاف 33 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى همزة الاستفهام تارة تدخل على الكلام ولا واو فيه وتارة تدخل عليه وبعدها واو فهل بين الحالتين فرق نقول فرق أدق مما على الفرق وهو أن يقول القائل أزيد في الدار بعد وقد طلعت الشمس يذكره للإنكار فإذا قال أو زيداً في الدار بعد وقد طلعت الشمس يشير بالواو إشارة خفية إلى أن قبح فعله صار بمنزلة فعلين قبيحين كأنه يقول بعد ما سمع ممن صدر عن زيد هو في الدار أغفل وهو في الدار بعد لأن الواو تنبىء عن ضيف أمر مغاير لما بعدها وإن لم يكن هناك سابق لكنه يومىء بالواو إليه زيادة في الإنكار فإن قيل قال في موضع أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ ( الأعراف 185 ) وقال ههنا أَفَلَمْ يَنظُرُواْ بالفاء فما الفرق نقول ههنا سبق منهم إنكار الرجع فقال بحرف التعقيب بمخالفه فإن قيل ففي ي س سبق ذلك بقوله قال مَن يُحى ِ الْعِظَامَ ( ي س 78 ) نقول هناك الاستدلال بالسماوات لما لم يعقب الإنكار على عقيب الإنكار استدل بدليل آخر وهو قوله تعالى قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( ي س 79 ) ثم ذكر الدليل الآخر وههنا الدليل كان عقيب الإنكار فذكر بالفاء وأما قوله ههنا بلفظ النظر وفي الأحقاف بلفظ الرؤية ففيه لطيفة وهي أنهم ههنا لما استبعدوا أمر الرجع بقولهم ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ استبعد استبعادهم وقال أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء لأن النظر دون الرؤية فكأن النظر كان في حصول العلم بإنكار الرجع ولا حاجة إلى الرؤية ليقع الاستبعاد في مقابلة الاستعباد وهناك لم يوجد منهم بإنكار مذكور فأرشدهم إليه بالرؤية التي هي أتم من النظر ثم إنه تعالى كمل ذلك وجمله بقوله إِلَى السَّمَاء ولم يقل في السماء لأن النظر في الشيء ينبىء عن التأمل والمبالغة والنظر إلى الشيء ينبىء عنه لأن إلى للغاية فينتهي النظر عنده في الدخول في معنى الظرف فإذا انتهى النظر إليه ينبغي أن ينفذ فيه حتى يصح معنى الظرفية وقوله تعالى فَوْقَهُمُ تأكيد آخر أي وهو ظاهر فوق رؤوسهم غير غائب عنهم وقوله تعالى كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ إشارة إلى وجه الدلالة وأولوية الوقوع وهي للرجع أما وجه الدلالة فإن الإنسان له أساس هي العظام التي هي كالدعامة وقوى وأنوار كالسمع والبصر فبناء السماء أرفع من أساس البدن وزينة السماء أكمل من زينة الإنسان بلحم وشحم وأما الأولوية فإن السماء ما لها من فروج فتأليفها أشد وللإنسان فروج ومسام ولا شك أن التأليف الأشد كالنسج الأصفق والتأليف الأضعف كالنسج الأسخف والأول أصعب عند الناس وأعجب فكيف يستبعدون الأدون مع علمهم بوجود الأعلى من الله تعالى قالت الفلاسفة الآية دالة على أن السماء لا تقبل الخرق وكذلك قالوا في قوله هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ وقوله سَبْعاً ( النبأ 12 ) وتعسفوا فيه لأن قوله تعالى مَّا لَهَا مِن فُرُوجٍ صريح في عدم ذلك والإخبار عن عدم الشيء لا يكون إخباراً عن عدم إمكانه فإن من قال ما لفلان قال لا يدل على نفي إمكانه ثم إنه تعالى بيّنن خلاف قولهم بقوله وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ ( المرسلات 9 ) وقال إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ( الانفطار 1 ) وقال فَهِى َ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَة ٌ ( الحاقة 16 ) في مقابلة قوله سَبْعاً شِدَاداً وقال فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَة ً كَالدّهَانِ ( الرحمن 37 ) إلى غير ذلك والكل في الرد عليهم صريح وما ذكروه في الدلالة ليس بظاهر بل وليس له دلالة خفية أيضاً وأما دليلهم المعقول فأضعف وأسخف من

تمسكهم بالمنقول
وَالاٌّرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِى َ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
إشارة إلى دليل آخر ووجه دلالة الأرض هو أنهم قالوا الإنسان إذا مات وفارقته القوة الغاذية والنامية لا تعود إليه تلك القوة فنقول الأرض أشد جموداً وأكثر خموداً والله تعالى ينبت فيها أنواع النبات وينمو ويزيد فكذلك الإنسان تعود إليه الحياة وذكر في الأرض ثلاثة أمور كما ذكر في السماء ثلاثة أمور في الأرض المد وإلقاء الرواسي والإنبات فيها وفي السماء البناء والتزيين وسد الفروج وكل واحد في مقابلة واحد فالمد في مقابلة البناء لأن المد وضع والبناء رفع والرواسي في الأرض ثابتة والكواكب في السماء مركوزة مزينة لها والإنبات في الأرض شقها كما قال تعالى أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الاْرْضَ شَقّاً ( عبس 25 26 ) وهو على خلاف سد الفروج وإعدامها وإذا علمت هذا ففي الإنسان أشياء موضوعة وأشياء مرفوعة وأشياء ثابتة كالأنف والأذن وأشياء متحركة كالمقلة واللسان وأشياء مسدودة الفروج كدور الرأس والأغشية المنسوجة نسجاً ضعيفاً كالصفاق وأشياء لها فروج وشقوق كالمناخر والصماخ والفم وغيرها فالقادر على الأضداد في هذا المهاد في السبع الشداد غير عاجز عن خلق نظيرها في هذه الأجساد ( و ) تفسير الرواسي قد ذكرناه في سورة لقمان والبهيج الحسن
تَبْصِرَة ً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ
يحتمل أن يكون الأمران عائدين إلى الأمرين المذكورين وهما السماء والأرض على أن خلق السماء تبصرة وخلق الأرض ذكرى ويدل عليه أن السماء زينتها مستمرة غير مستجدة في كل عام فهي كالشيء المرئي على مرور الزمان وأما الأرض فهي كل سنة تأخذ زخرفها فذكر السماء تبصرة والأرض تذكرة ويحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين موجوداً في كل واحد من الأمرين فالسماء تبصرة والأرض كذلك والفرق بين التبصرة والتذكرة هو أن فيها آيات مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر وآيات متجددة مذكرة عند التناسي وقوله لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ أي راجع إلى التفكر والتذكر والنظر في الدلائل
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ
إشارة إلى دليل آخر وهو ما بين السماء والأرض فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما وذلك إنزال ( الماء من ) السماء من فوق وإخراج النبات من تحت وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا الاستدلال قد تقدم بقوله تعالى وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( ق 7 ) فما الفائدة في إعادته بقوله فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ نقول قوله فَأَنبَتْنَا استدلال بنفس النبات أي الأشجار تنمو وتزيد فكذلك بدن الإنسان بعد الموت ينمو ويزيد بأن يرجع الله تعالى إليه قوة النشوء والنماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء وَحَبَّ الْحَصِيدِ فيه حذف تقديره وحب الزرع الحصيد وهو المحصود أي

أنشأنا جنات يقطف ثمارها وأصولها باقية وزرعاً يحصد كل سنة ويزرع في كل عام أو عامين ويحتمل أن يقال التقدير وننبت الحب الحصيد والأول هو المختار وقوله تعالى وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ إشارة إلى المختلط من جنسين لأن الجنات تقطف ثمارها وتثمر من غير زراعة كل سنة لكن النخل يؤبر ولولا التأبير لم يثمر فهو جنس مختلط من الزرع والشجر فكأنه تعالى خلق ما يقطف كل سنة ويزرع وخلق ما لا يزرع كل سنة ويقطف مع بقاء أصلها وخلق المركب من جنسين في الأثمار لأن بعض الثمار فاكهة ولا قوت فيه وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت والباسقات الطوال من النخيل
وقوله تعالى بَاسِقَاتٍ يؤكد كمال القدرة والاختيار وذلك من حيث إن الزرع إن قيل فيه إنه يمكن أن يقطف من ثمرته لضعفه وضعف حجمه فكذلك يحتاج إلى إعادته كل سنة والجنات لكبرها وقوتها تبقى وتثمر سنة بعد سنة فيقال أليس النخل الباسقات أكثر وأقوى من الكرم الضعيف والنخل محتاجة كل سنة إلى عمل عامل والكرم غير محتاج فالله تعالى هو الذي قدر ذلك لذلك لا للكبر والصغر والطول والقصر
قوله تعالى لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ أي منضود بعضها فوق بعض في أكمامها كما في سنبله الزرع وهو عجيب فإن الأشجار الطوال أثمارها بارزها متميز بعضها من بعض لكل واحد منها أصل يخرج منه كالجوز واللوز وغيرهما والطلع كالسنبلة الواحدة يكون على أصل واحد
رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً كَذَالِكَ الْخُرُوجُ
ثم قال تعالى رّزْقاً لّلْعِبَادِ وفيه وجهان أحدهما نصب على المصدر لأن الإنبات رزق فكأنه تعالى قال أنبتناها إنباتاً للعباد والثاني نصب على كونه مفعولاً له كأنه قال أنبتناها لرزق العباد وههنا مسائل
المسألة الأولى قال في خلق السماء والأرض تَبْصِرَة ً وَذِكْرَى ( ق 8 ) وفي الثمار قال رِزْقاً والثمار أيضاً فيها تبصرة وفي السماء والأرض أيضاً منفعة غير التبصرة والتذكرة فما الحكمة في اختيار الأمرين نقول فيه وجوه أحدها أن نقول الاستدلال وقع لوجود أمرين أحدهما الإعادة والثاني البقاء بعد الإعادة فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعد الثواب الدائم والعقاب الدائم وأنكروا ذلك فأما الأول فالله القادر على خلق السماوات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء وأما الثاني فلأن البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النجم والشجر قادر على أن يرزق العبد في الجنة ويبقى فكأن الأول تبصرة وتذكرة بالخلق والثاني تذكرة بالبقاء بالرزق ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله تَبْصِرَة ً وَذِكْرَى حيث ذكر ذلك بعد الآيتين ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإنباته النبات ثانيها أن منفعة الثمار الظاهرة هي الرزق فذكرها ومنفعة السماء الظاهرة ليست أمراً عائداً إلى انتفاع العباد لبعدها عن ذهنهم حتى أنهم لو توهموا عدم الزرع والثمر لظنوا أن يهلكوا ولو توهموا عدم السماء فوقهم لقالوا لا يضرنا ذلك مع أن الأمر بالعكس أولى لأن السماء سبب الأرزاق بتقدير الله وفيها غير ذلك من المنافع والثمار وإن لم تكن ( ما ) كان العيش كما أنزل الله على قوم المن والسلوى وعلى قوم المائدة من السماء فذكر الأظهر للناس في هذا الموضع ثالثها قوله رِزْقاً إشارة إلى كونه منعماً لكون تكذيبهم في غاية القبح فإنه يكون إشارة ( للتكذيب ) بالمنعم وهو أقبح ما يكون
المسألة الثانية قال تَبْصِرَة ً وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ( ق 8 ) فقيد العبد بكونه منيباً وجعل خلقها تبصرة لعباده المخلصين وقال رّزْقاً لّلْعِبَادِ مطلقاً لأن الرزق حصل لكل أحد غير أن المنيب يأكل ذاكراً شاكراً للإنعام وغيره يأكل كما تأكل الأنعام فلم يخصص الرزق بقيد

المسألة الثالثة ذكر في هذه الآية أمور ثلاثة أيضاً وهي إنبات الجنات والحب والنخل كما ذكر في السماء والأرض في كل واحدة أموراً ثلاثة وقد ثبت أن الأمور الثلاثة في الآيتين المتقدمين متناسبة فهل هي كذلك في هذه الآية نقول قد بينا أن الأمور الثلاثة إشارة إلى الأجناس الثلاثة وهي التي يبقى أصلها سنين ولا تحتاج إلى عمل عامل والتي لا يبقى أصلها وتحتاج كل سنة إلى عمل عامل والتي يجتمع فيها الأمران وليس شيء من الثمار والزروع خارجاً عنه أصلاً كما أن أمور الأرض منحصرة في ثلاثة ابتداء وهو المد ووسط وهو النبات بالجبال الراسية وثالثها هو غاية الكمال وهو الإنبات والتزيين بالزخارف
ثم قال تعالى وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً عطفاً على أَنبَتْنَا بِهِ ( ق 9 ) وفيه بحثان
الأول إن قلنا إن الاستدلال بإنبات الزرع وإنزال الماء كان لإمكان البقاء بالرزق فقوله وَأَحْيَيْنَا بِهِ إشارة إلى أنه دليل على الإعادة كما أنه دليل على البقاء ويدل عليه قوله تعالى كَذالِكَ الْخُرُوجُ فإن قيل كيف يصح قولك استدلالاً وإنزال الماء كان لبيان البقاء مع أنه تعالى قال بعد ذلك وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً
وقال كَذالِكَ الْخُرُوجُ فيكون الاستدلال على البقاء قبل الاستدلال على الإحياء والإحياء سابق على الإبقاء فينبغي أن يبين أولاً أنه يحيي الموتى ثم يبين أنه يبقيهم نقول لما كان الاستدلال بالسماوات والأرض على الإعادة كافياً بعد ذكر دليل الإحياء ذكر دليل الإبقاء ثم عاد واستدرك فقال هذا الدليل الدال على الإبقاء دال على الإحياء وهو غير محتاج إليه لسبق دليلين قاطعين فبدأ ببيان البقاء وقال وَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ ثم ثنى بإعادة ذكر الإحياء فقال وَأَحْيَيْنَا بِهِ وإن قلنا إن الاستدلال بإنزال الماء وإنبات الزرع لا لبيان إمكان الحشر فقوله وَأَحْيَيْنَا بِهِ ينبغي أن يكون مغايراً لقوله فَأَنبَتْنَا بِهِ بخلاف ما لو قلنا بالقول الأول لأن الإحياء وإن كان غير الإنبات لكن الاستدلال لما كان به على أمرين متغايرين جاز العطف تقول خرج للتجارة وخرج للزيارة ولا يجوز أن يقال خرج للتجارة وذهب للتجارة إلا إذا كان الذهاب غير الخروج فنقول الإحياء غير إنبات الرزق لأن بإنزال الماء من السماء يخضر وجه الأرض ويخرج منها أنواع من الأزهار ولا يتغذى به ولا يقتات وإنما يكون به زينة وجه الأرض وهو أعم من الزرع والشجر لأنه يوجد في كل مكان والزرع والثمر لا يوجدان في كل مكان فكذلك هذا الإحياء فإن قيل فكان ينبغي أن يقدم في الذكر لأن اخضرار وجه الأرض يكون قبل حصول الزرع والثمر ولأنه يوجد في كل مكان بخلاف الزرع والثمر نقول لما كان إنبات الزرع والثمر أكمل نعمة قدمه في الذكر
الثاني في قوله بَلْدَة ً مَّيْتاً نقول جاز إثبات التاء في الميت وحذفها عند وصف المؤنث بها لأن الميت تخفيف للميت والميت فيعل بمعنى فاعل فيجوز فيه إثبات التاء لأن التسوية في الفعيل بمعنى المفعول كقوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ( الأعراف 56 ) فإن قيل لم سوى بين المذكر والمؤنث في الفعيل بمعنى المفعول قلنا لأن الحاجة إلى التمييز بين الفاعل والمفعول أشد من الحاجة إلى التمييز المفعول المذكر والمفعول المؤنث نظراً إلى المعنى ونظراً إلى اللفظ فأما المعنى فظاهر وأما اللفظ فلأن المخالفة بين الفاعل والمفعول في الوزن والحرف أشد من المخالفة بين المفعول والمفعول له إذا علم هذا فنقول في الفعيل لم يتميز الفاعل بحرف فإن فعيلاً جاء بمعنى الفاعل كالنصير والبصير وبمعنى المفعول كالكسير والأسير ولا يتميز بحرف عند المخالفة إلا الأقوى فلا يتميز عند المخالفة الأدنى والتحقيق فيه أن فعيلاً وضع لمعنى لفظي والمفعول وضع لمعنى حقيقي

فكأن القائل قال استعملوا لفظ المفعول للمعنى الفلاني واستعملوا لفظ الفعيل مكان لفظ المفعول فصار فعيل كالموضوع للمفعول والمفعول كالموضوع للمعنى ولما كان تغير اللفظ تابعاً لتغير المعنى تغير المفعول لكونه بإزاء المعنى ولم يتغير الفعيل لكونه بإزاء اللفظ في أول الأمر فإن قيل فما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله وَءايَة ٌ لَّهُمُ الاْرْضُ الْمَيْتَة ُ أَحْيَيْنَاهَا ( ي س 33 ) حيث أثبت التاء هناك نقول الأرض أراد بها الوصف فقال الاْرْضُ الْمَيْتَة ُ لأن معنى الفاعلية ظاهر هناك والبلدة الأصل فيها الحياة لأن الأرض إذا صارت حية صارت آهلة وأقام بها الناس وعمروها فصارت بلدة فأسقط التاء لأن معنى الفاعلية ثبت فيها والذي بمعنى الفاعل لا يثبت فيه التاء وتحقيق هذا قوله بَلْدَة ٌ طَيّبَة ٌ ( سبأ 15 ) حيث أثبت التاء حيث ظهر بمعنى الفاعل ولم يثبت حيث لم يظهر وهذا بحث عزيز
قوله تعالى كَذالِكَ الْخُرُوجُ أي كالإحياء الْخُرُوجُ فإن قيل الإحياء يشبه به الإخراج لا الخروج فنقول تقديره وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً فتشققت وخرج منها النبات كذلك تشقق ويخرج منها الأموات وهذا يؤكد قولنا الرجع بمعنى الرجوع في قوله ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ق 3 ) لأنه تعالى بيّن لهم ما استبعدوه فلو استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي لناسب أن يقول كذلك الإخراج ولما قال كَذالِكَ الْخُرُوجُ فهم أنهم أنكروا الرجوع فقال كَذالِكَ الْخُرُوجُ نقول فيه معنى لطيف على القول الآخر وذلك لأنهم استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي بمعنى الإخراج والله تعالى أثبت الخروج وفيهما مبالغة تنبيهاً على بلاغة القرآن مع أنها مستغنية عن البيان ووجهها هو أن الرجع والإخراج كالسبب للرجوع والخروج والسبب إذا انتفى ينتفي المسبب جزماً وإذا وجد قد يتخلف عنه المسبب لمانع تقول كسرته فلم ينكسر وإن كان مجازاً والمسبب إذا وجد فقد وجد سببه وإذا انتفى لا ينتفي السبب لما تقدم إذا علم هذا فهم أنكروا وجود السبب ونفوه وينتفي المسبب عند انتفائه جزماً فبالغوا وأنكروا الأمر جميعاً لأن نفي السبب نفي المسبب فأثبت الله الأمرين بالخروج كما نفوا الأمرين جميعاً بنفي الإخراج
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الاٌّ يْكَة ِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
ذكر المكذبين تذكيراً لهم بحالهم ووبالهم وأنذرهم بإهلاكهم واستئصالهم وتفسيره ظاهر وفيه تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتنبيه بأن حاله كحال من تقدمه من الرسل كذبوا وصبروا فأهلك الله مكذبيهم ونصرهم وَأَصْحَابُ الرَّسّ فيهم وجوه من المفسرين من قال هم قوم شعيب ومنهم من قال هم الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى وهم قوم عيسى عليه السلام ومنهم من قال هم أصحاب الأخدود والرس موضع نسبوا إليه أو فعل وهو حفر البئر يقال رس إذا حفر بئراً وقد تقدم في سورة الفرقان ذلك وقال ههنا إِخْوانَ لُوطٍ وقال قَوْمُ نُوحٍ لأن لوطاً كان مرسلاً إلى طائفة من قوم إبراهيم عليه السلام معارف لوط

ونوح كان مرسلاً إلى خلق عظيم وقال فِرْعَوْنُ ولم يقل قوم فرعون وقال وَقَوْمُ تُّبَّعٍ لأن فرعون كان هو المغتر المستخف بقومه المستبد بأمره وتبع كان معتمداً بقومه فجعل الاعتبار لفرعون ولم يقل إلى قوم فرعون
وقوله تعالى كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
يحتمل وجهين أحدهما أن كل واحد كذب رسوله فهم كذبوا الرسل واللام حينئذ لتعريف العهد وثانيهما وهو الأصح هو أن كل واحد كذب جميع الرسل واللام حينئذ لتعريف الجنس وهو على وجهين أحدهما أن المكذب للرسول مكذب لكل رسول وثانيهما وهو الأصح أن المذكورين كانوا منكرين للرسالة والحشر بالكلية وقوله فَحَقَّ وَعِيدِ أي ما وعد الله من نصرة الرسل عليهم وإهلاكهم
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاٌّ وَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ
وفيه وجهان أحدهما أنه استدلال بدلائل الأنفس لأنا ذكرنا مراراً أن الدلائل آفاقية ونفسية كما قال تعالى سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت 53 ) ولما قرن الله تعالى دلائل الآفاق عطف بعضها على بعض بحرف الواو فقال وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا ( الحجر 19 ) وفي غير ذلك ذكر الدليل النفسي وعلى هذا فيه لطائف لفظية ومعنوية
أما اللفظية فهي أنه تعالى في الدلائل الآفاقية عطف بعضها على بعض بحرف الواو فقال وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا وقال وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكاً ( ق 9 ) ثم في الدليل النفسي ذكر حرف الاستفهام والفاء بعدها إشارة إلى أن تلك الدلائل من جنس وهذا من جنس فلم يجعل هذا تبعاً لذلك ومثل هذا مراعى في أواخر ي س حيث قال تعالى أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ ( ي س 77 ) ثم لم يعطف الدليل الآفاقي ههنا نقول والله أعلم ههنا وجد منهم الاستبعاد بقول ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ق 3 ) فاستدل بالأكبر وهو خلق السماوات ثم نزل كأنه قال لا حاجة إلى ذلك الاستدلال بل في أنفسهم دليل جواز ذلك وفي سورة ي س لم يذكر استبعادهم فبدأ بالأدنى وارتقى إلى الأعلى
والوجه الثاني يحتمل أن يكون المراد بالخلق الأول هو خلق السماوات لأنه هو الخلق الأول وكأنه تعالى قال أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء ( ق 6 ) ثم قال أَفَعَيِينَا بهذا الخلق ويدل على هذا قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلَمْ يَعْى َ بِخَلْقِهِنَّ ( الأحقاف 33 ) ويؤيد هذا الوجه هو أن الله تعالى قال بعد هذه الآية وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ( ق 16 ) فهو كالاستدلال بخلق الإنسان وهو معطوف بحرف الواو على ما تقدم من الخلق وهو بناء السماء ومد الأرض وتنزيل الماء وإنبات الجنّات وفي تعريف الخلق الأول وتنكير خلق جديد وجهان أحدهما ما عليه الأمران لأن الأول عرفه كل واحد وعلم لنفسه والخلق الجديد لم يعلم لنفسه ولم يعرفه كل أحد ولأن الكلام عنهم وهم لم يكونوا عالمين بالخلق الجديد والوجه الثاني أن ذلك لبيان إنكارهم للخلق الثاني من كل وجه كأنهم قالوا أيكون لنا خلق ما على وجه الإنكار له بالكلية وقوله تعالى بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ تقديره ما عيينا بل هم في شك من خلق جديد يعني لا مانع من جهة الفاعل فيكون من جانب المفعول وهو الخلق الجديد لأنهم كانوا يقولون ذلك محال وامتناع وقوع المحال بالفاعل لا يوجب عجزاً فيه ويقال للمشكوك فيه ملتبس كما يقل لليقين إنه ظاهر

وواضح ثم إن اللبس يسند إلى الأمر كم قلنا إنه يقال إن هذا أمر ظهر وهذا أمر ملتبس وههنا أسند الأمر إليهم حيث قال هُمْ فِى لَبْسٍ وذلك لأن الشيء يكون وراء حجاب والناظر إليه بصير فيختفي الأمر من جانب الرائي فقال ههنا بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ ومن في قوله مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ يفيد فائدة وهي ابتداء الغاية كأن اللبس كان حاصلاً لهم من ذلك
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ
وقوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فيه وجهان
أحدهما أن يكون ابتداء استدلال بخلق الإنسان وهذا على قولنا أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ ( ق 15 ) معناه خلق السماوات وثانيهما أن يكون تتميم بيان خلق الإنسان وعلى هذا قولنا الخلق الأول هو خلق الإنسان أول مرة ويحتمل أن يقال هو تنبيه على أمر يوجب عودهم عن مقالهم وبيانه أنه تعالى لما قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ كان ذلك إشارة إلى أنه لا يخفى عليه خافية ويعلم ذوات صدورهم
وقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ
بيان لكمال علمه والوريد العرق الذي هو مجرى الدم يجري فيه ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن والله أقرب من ذلك بعلمه لأن العرق تحجبه أجزاء اللحم ويخفى عنه وعلم الله تعالى لا يحجب عنه شيء ويحتمل أن يقال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ بتفرد قدرتنا فيه يجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
إِذْ ظرف والعامل فيه ما في قوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وفيه إشارة إلى أن المكلف غير متروك سدى وذلك لأن الملك إذا أقام كتاباً على أمر اتكل عليهم فإن كان له غفلة عنه فيكون في ذلك الوقت يتكل عليهم وإذا كان عند إقامة الكتاب لا يبعد عن ذلك الأمر ولا يغفل عنه فهو عند عدم ذلك أقرب إليه وأشد إقبالاً عليه فنقول الله في وقت أخذ الملكين منه فعله وقوله أقرب إليه من عرقه المخالط له فعندما يخفى عليهما شيء يكون حفظنا بحاله أكمل وأتم ويحتمل أن يقال التلقي من الاستقبال يقال فلان يتلقى الركب وعلى هذا الوجه فيكون معناه وقت ما يتلقاه المتلقيان يكون عن يمينه وعن شماله قعيد فالمتلقيان على هذا الوجه هما الملكان اللذان يأخذان روحه من ملك الموت أحدهما يأخذ أرواح الصالحين وينقلها إلى السرور والحبور إلى يوم النشور والآخر يأخذ أرواح الطالحين وينقلها إلى الويل والثبور إلى يوم الحشر من القبور فقال تعالى وقت تلقيهما وسؤالهما إنه من أي القبيلين يكون عند الرجل قعيد عن اليمين

وقعيد عن الشمال يعني الملكان ينزلان وعنده ملكان آخران كاتبان لأعماله يسألانهما من أي القيلين كان فإن كان من الصالحين يأخذ روحه ملك السرور ويرجع إلى الملك الآخر مسروراً حيث لم يكن مسروراً ممن يأخذها هو وإن كان من الطالحين يأخذها ملك العذاب ويرجع إلى الآخر محزوناً حيث لم يكن ممن يأخذها هو ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( ق 21 ) فالشهيد هو القعيد والسائق هو المتلقي يتلقى أخذ روحه من ملك الموت فيسوقه إلى منزله وقت الإعادة وهذا أعرف الوجهين وأقربهما إلى الفهم وقول القائل جلست عن يمين فلان فيه إنباء عن تنح ما عنه احتراماً له واجتناباً منه وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 ) المخالط لأجزائه المداخل في أعضائه والملك متنح عنه فيكون علناً به أكمل من علم الكاتب لكن من أجلس عنده أحداً ليكتب أفعاله وأقواله ويكون الكاتب ناهضاً خبيراً والملك الذي أجلس الرقيب يكون جباراً عظيماً فنفسه أقرب إليه من الكاتب بكثير والقعيد هو الجليس كما أن قعد بمعنى جلس
وَجَاءَتْ سَكْرَة ُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ
أي شدته التي تذهب العقول وتذهل الفطن وقوله بِالْحَقّ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون المراد منه الموت فإنه حق كأن شدة الموت تحضر الموت والباء حينئذ للتعدية يقال جاء فلان بكذا أي أحضره وثانيهما أن يكون المراد من الحق ما أتى به من الدين لأنه حق وهو يظهر عند شدة الموت وما من أحد إلا وهو في تلك الحالة يظهر الإيمان لكنه لا يقبل إلا ممن سبق منه ذلك وآمن بالغيب ومعنى المجيء به هو أنه يظهره كما يقال الدين الذي جاء به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي أظهره ولما كانت شدة الموت مظهرة له قيل فيه جاء به والباء حينئذ يحتمل أن يكون المراد منها ملبسة يقال جئتك بأمل فسيح وقلب خاشع وقوله ذالِكَ يحتمل أن يكون إشارة إلى الموت ويحتمل أن يكون إشارة إلى الحق وحاد عن الطريق أي مال عنه والخطاب قيل مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو منكر وقيل مع الكافرين وهو أقرب والأقوى أن يقال هو خطاب عام مع السامع كأنه يقول ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ أيها السامع
وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ
عطف على قوله وَجَاءتْ سَكْرَة ُ الْمَوْتِ ( ق 19 ) والمراد منه إما النفخة الأولى فيكون بياناً لما يكون عند مجيء سكرة الموت أو النفخة الثانية وهو أظهر لأن قوله تعالى ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ بالنفخة الثانية أليق ويكون قوله وَجَاءتْ سَكْرَة ُ الْمَوْتِ إشارة إلى الإماتة وقوله وَنُفِخَ فِى الصُّورِ إشارة إلى الإعادة والإحياء وقوله تعالى ذالِكَ ذكر الزمخشري أنه إشارة إلى المصدر الذي من قوله وَنُفِخَ أي وقت ذلك النفخ يوم الوعيد وهو ضعيف لأن يوم لو كان منصوباً لكان ما ذكرنا ظاهراً وأما رفع يوم فيفيد أن ذلك نفس اليوم والمصدر لا يكون نفس الزمان وإنما يكون في الزمان فالأولى أن يقال ذلك إشارة إلى الزمان المفهوم من قوله

وَنُفِخَ لأن الفعل كما يدل على المصدر يدل على الزمان فكأنه تعالى قال ذلك الزمان يوم الوعيد والوعيد هو الذي أوعد به من الحشر والإيتاء والمجازاة
وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ
قد بينا من قبل أن السائق هو الذي يسوقه إلى الموقف ومنه إلى مقعده والشهيد هو الكاتب والسائق لازم للبر والفاجر أما البر فيساق إلى الجنة وأما الفاجر فإلى النار وقال تعالى وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الزمر 71 ) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ ( الزمر 73 )
لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَة ٍ مِّنْ هَاذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ
وقوله تعالى لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَة ٍ مّنْ هَاذَا إما على تقدير يقال له أو قيل له لَّقَدْ كُنتَ كما قال تعالى وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ( الزمر 73 ) وقال تعالى قِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوابَ جَهَنَّمَ ( الزمر 72 ) والخطاب عام أما الكافر فمعلوم الدخول في هذا الحكم وأما المؤمن فإنه يزداد علماً ويظهر له ما كان مخفياً عنه ويرى علمه يقيناً رأى المعتبر يقيناً فيكون بالنسبة إلى تلك الأحوال وشدة الأهوال كالغافل وفيه الوجهان اللذان ذكرناهما في قوله تعالى مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( ق 19 ) والغفلة شيء من الغطاء كاللبس وأكثر منه لأن الشاك يلتبس الأمر عليه والغافل يكون الأمر بالكلية محجوباً قلبه عنه وهو الغلف
وقوله تعالى فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ أي أزلنا عنك غفلتك فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وكان من قبل كليلا وقرينك حديداً وكان في الدنيا خليلاً وإليه الإشارة بقوله تعالى
وَقَالَ قَرِينُهُ هَاذَا مَا لَدَى َّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ
وفي القرين وجهان أحدهما الشيطان الذي زين الكفر له والعصيان وهو الذي قال تعالى فيه وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء ( فصلت 25 ) وقال تعالى نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( الزخرف 36 ) وقال تعالى فَبِئْسَ الْقَرِينُ ( الزخرف 38 ) فالإشارة بهذا المسوق إلى المرتكب الفجور والفسوق والعتيد معناه المعد للنار وجملة الآية معناها أن الشيطان يقول هذا العاصي شيء هو عندي معد لجهنم أعددته بالإغواء والإضلال والوجه الثاني وَقَالَ قَرِينُهُ أي القعيد الشهيد الذي سبق ذكره وهو الملك وهذا إشارة إلى كتاب أعماله وذلك لأن الشيطان في ذلك الوقت لا يكون له من المكانة أن يقول ذلك القول ولأن قوله هَاذَا مَا لَدَى َّ عَتِيدٌ فيكون عتيد صفته وثانيهما أن تكون موصولة فيكون عتيد محتملاً الثلاثة أوجه أحدها أن يكون خبراً بعد خبر والخبر الأول مَا لَدَى َّ معناه هذا الذي هو لدي وهو عتيد وثانيها أن يكون عتيد هو الخبر لا غير و مَا لَدَى َّ يقع كالوصف المميز للعتيد عن غيره كما تقول هذا الذي عند زيد وهذا الذي يجيئني عمرو فيكون الذي عندي والذي يجيئني لتمييز المشار إليه عن غيره

ثم يخبر عنه بما بعده ثم يقال للسائق أو الشهيد أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ فيكون هو أمراً لواحد وفيه وجهان أحدهما أنه ثنى تكرار الأمر كما ألق ألق وثانيهما عادة العرب ذلك
وقوله كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ الكفار يحتمل أن يكون من الكفران فيكون بمعنى كثير الكفران ويحتمل أن يكون من الكفر فيكون بمعنى شديد الكفر والتشديد في لفظة فعال يدل على شدة في المعنى والعنيد فعيل بمعنى فاعل من عند عنوداً ومنه العناد فإن كان الكفار من الكفران فهو أنكر نعم الله مع كثرتها
مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ
وقوله تعالى مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ
فيه وجهان أحدهما كثير المنع للمال الواجب وإن كان من الكفر فهو أنكر دلائل وحدانية الله مع قوتها وظهورها فكان شديد الكفر عنيداً حيث أنكر الأمر اللائح والحق الواضح وكان كثير الكفران لوجود الكفران منه عند كل نعمة عنيد ينكرها مع كثرتها عن المستحق الطالب والخير هو المال فيكون كقوله تعالى وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواة َ ( فصلت 6 7 ) حيث بدأ ببيان الشرك وثنى بالامتناع من إيتاء الزكاة وعلى هذا ففيه مناسبة شديدة إذا جعلنا الكفار من الكفران كأنه يقول كفر أنعم الله تعالى ولم يؤد منها شيئاً لشكر أنعمه وثانيهما شديد المنع من الإيمان فهو مناع للخير وهو الإيمان الذي هو خير محض من أن يدخل في قلوب العباد وعلى هذا ففيه مناسبة شديدة إذا جعلنا الكفار من الكفر كأنه يقول كفر بالله ولم يقتنع بكفره حتى منع الخير من الغير
وقوله تعالى مُعْتَدٍ
فيه وجهان أحدهما أن يكون قوله مُعْتَدٍ مرتباً على مَّنَّاعٍ بمعنى مناع الزكاة فيكون معناه لم يؤد الواجب وتعدى ذلك حتى أخذ الحرام أيضاً بالربا والسرقة كما كان عادة المشركين وثانيهما أن يكون قوله مُعْتَدٍ مرتباً على مَّنَّاعٍ بمعنى منع الإيمان كأنه يقول منع الإيمان ولم يقنع به حتى تعداه وأهان من آمن وآذاه وأعان من كفر وآواه
وقوله تعالى مُرِيبٍ
فيه وجهان أحدهما ذو ريب وهذا على قولنا الكفار كثير الكفران والمناع مانع الزكاة كأنه يقول لا يعطي الزكاة لأنه في ريب من الآخرة والثواب فيقول لا أقرب مالاً من غير عوض وثانيهما مُرِيبٍ يوقع الغير في الريب بإلقاء الشبهة والإرابة جاءت بالمعنيين جميعاً وفي الآية ترتيب آخر غير ما ذكرناه وهو أن يقال هذا بيان أحوال الكفر بالنسبة إلى الله وإلى رسول الله وإلى اليوم الآخر فقوله كَفَّارٍ عَنِيدٍ إشارة إلى حاله مع الله يكفر بعد ويعاند آياته وقوله مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ إشارة إلى حاله مع رسول الله فيمنع الناس من اتباعه ومن الإنفاق على من عنده ويتعدى بالإيذاء وكثرة الهذاء وقوله مُرِيبٍ إشارة إلى حاله بالنسبة إلى اليوم الآخر يريب فيه ويرتاب ولا يظن أن الساعة قائمة فإن قيل قوله

تعالى أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ إلى غير ذلك يوجب أن يكون الإلقاء خاصاً بمن اجتمع فيه هذه الصفات بأسرها والكفر كاف في إيراث الإلقاء في جهنم والأمر به فنقول قوله تعالى كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ليس المراد منه الوصف المميز كما يقال أعط العالم الزاهد بل المراد الوصف المبين بكون الموصوف موصوفاً به إما على سبيل المدح أو على سبيل الذم كما يقال هذا حاتم السخي فقوله كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ يفيد أن الكفار عنيد ومناع فالكفار كافر لأن آيات الوحدانية ظاهرة ونعم الله تعالى على عبده وافرة وعنيد ومناع للخير لأنه يمدح دينه ويذم دين الحق فهو يمنع ومريب لأنه شاك في الحشر فكل كافر فهو موصوف بهذه الصفات
الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ
فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه بدل من قوله كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ( ق 24 ) ثانيها أنه عطف على كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ثالثها أن يكون عطفاً على قوله أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كأنه قال أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ أي والذي جعل مع الله إلاهاً آخر فألقياه بعد ما ألقيتموه في جهنم في عذاب شديد من عذاب جهنم ثم قال تعالى
قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَلٍ بَعِيدٍ
وهو جواب لكلام مقدر كأن الكافر حينما يلقى في النار يقول ربنا أطغاني شيطاني فيقول الشيطان ربنا ما أطغيته يدل عليه قوله تعالى بعد هذا قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَى َّ ( ق 28 ) لأن الاختصام يستدعي كلاماً من الجانبين وحينئذ هذا كما قال الله تعالى في هذه السورة وفي ص قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ ( ص 60 ) وقوله تعالى قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَاذَا فَزِدْهُ إلى أن قال إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ( ص 61 64 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزمخشري المراد بالقرين في الآية المتقدمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيد واستدل عليه بهذا وقال غيره المراد الملك لا الشيطان وهذا يصلح دليلاً لمن قال ذلك وبيانه هو أنه في الأول لو كان المراد الشيطان فيكون قوله هَاذَا مَا لَدَى َّ عَتِيدٌ ( ق 23 ) معناه هذا الشخص عندي عتيد متعد للنار اعتدته بإغوائي فإن الزمخشري صرّح في تفسير تلك بهذه وعلى هذا فيكون قوله رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ مناقضاً لقوله اعتدته وللزمخشري أن يقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن يقول إن الشيطان يقول اعتدته بمعنى زينت له الأمر وما ألجأته فيصح القولان من الشيطان وثانيهما أن تكون الإشارة إلى حالين ففي الحالة الأولى إنما فعلت به ذلك إظهاراً للانتقام من بني آدم وتصحيحاً لما قال فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( ص 82 ) ثم إذا رأى العذاب وأنه معه مشترك وله على الإغواء عذاب كما قال تعالى فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ ( ص 84 85 ) فيقول رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ فيرجع عن مقالته عند ظهور العذاب

المسألة الثانية قال ههنا قَالَ قرِينُهُ من غير واو وقال في الآية الأولى وَقَالَ قَرِينُهُ ( ق 23 ) بالواو العاطفة وذلك لأن في الأول الإشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين وأن كل نفس في ذلك الوقت تجيء ومعها سائق ويقول الشهيد ذلك القول وفي الثاني لم يوجد هناك معنيان مجتمعان حتى يذكر بالواو والفاء في قوله فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ ( ق 26 ) لا يناسب قوله تعالى قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ مناسبة مقتضية للعطف بالواو
المسألة الثالثة القائل ههنا واحد وقال رَبَّنَا ولم يقل رب وفي كثير من المواضع مع كون القائل واحداً قال رب كما في قوله قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ( الأعراف 143 ) وقول نوح رَبّ اغْفِرْ لِى ( نوح 28 ) وقوله تعالى قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَى َّ ( يوسف 33 ) وقوله قَالَتْ رَبّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّة ِ ( التحريم 11 ) إلى غير ذلك وقوله تعالى قَالَ رَبّ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( ص 79 ) نقول في جميع تلك المواضع القائل طالب ولا يحسن أن يقول الطالب يا رب عمرني واخصصني وأعطني كذا وإنما يقول أعطنا لأن كونه رباً لا يناسب تخصيص الطالب وأما هذا الموضع فموضع الهيبة والعظمة وعرض الحال دون الطلب فقال رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ
وقوله تعالى وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ
يعني أن ذلك لم يكن بإطغائه وإنما كان ضالاً متغلغلاً في الضلال فطغى وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الوجه في اتصاف الضلال بالبعيد نقول الضال يكون أكثر ضلالاً عن الطريق فإذا تمادى في الضلال وبقي فيه مدة يبعد عن المقصد كثيراً وإذا علم الضلال قصر في الطريق من قريب فلا يبعد عن المقصد كثيراً فقوله ضَلَالٍ بَعِيدٍ وصف المصدر بما يوصف به الفاعل كما يقال كلام صادق وعيشة راضية أي ضلال ذو بعد والضلال إذا بعد مداه وامتد الضال فيه يصير بيناً ويظهر الضلال لأن من حاد عن الطريق وأبعد عنه تتغير عليه السمات والجهات ولا يرى عين المقصد ويتبين له أنه ضل عن الطريق وربما يقع في أودية ومفاوز ويظهر له أمارات الضلال بخلاف من حاد قليلاً فالضلال وصفه الله تعالى بالوصفين في كثير من المواضع فقال تارة في ضلال مبين وأخرى قال فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ
المسألة الثانية قوله تعالى وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ إشارة إلى قوله إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( الحجر 40 ) وقوله تعالى إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر 42 ) أي لم يكونوا من العباد فجعلهم أهل العناد ولو كان لهم في سبيلك قدم صدق لما كان لي عليهم من يد والله أعلم
المسألة الثالثة كيف قال ما أطغيته مع أنه قال لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 39 ) قلنا الجواب عنه من ثلاثة أوجه وجهان قد تقدما في الاعتذار عما قاله الزمخشري والثالث هو أن يكون المراد من قوله لاَغْوِيَنَّهُمْ أي لأديمنهم على الغواية كما أن الضال إذا قال له شخص أنت على الجادة فلا تتركها يقال أنه يضله كذلك ههنا وقوله مَا أَطْغَيْتُهُ أي ما كان ابتداء الإطغاء مني
قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَى َّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ
ثم قال تعالى قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَى َّ

قد ذكرنا أن هذا دليل على أن هناك كلاماً قبل قوله قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ( ق 27 ) وهو قول الملقى في النار ربنا أطغاني وقوله لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَى َّ يفيد مفهومه أن الاختصام كان ينبغي أن يكون قبل الحضور والوقوف بين يدي
وقوله تعالى وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ
تقرير للمنع من الاختصام وبيان لعدم فائدته كأنه يقول قد قلت إنكم إذا اتبعتم الشيطان تدخلون النار وقد اتبعتموه فإن قيل ما حكم الباء في قوله تعالى بِالْوَعِيدِ قلنا فيها وجوه أحدها أنها مزيدة كما في قوله تعالى تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ( المؤمنون 20 ) على قول من قال إنها هناك زائدة وقوله وَكَفَى بِاللَّهِ ( النساء 6 ) وثانيها معدية فقدمت بمعنى تقدمت كما في قوله تعالى عَظِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ ( الحجرات 1 ) ثالثها في الكلام إضمار تقديره وقد قدمت إليكم مقترناً بالوعيد مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ ( ق 29 ) فيكون المقدم هو قوله ما يبدل القول لدي رابعها هي المصاحبة يقول القائل اشتريت الفرس بلجامه وسرجه أي معه فيكون كأنه تعالى قال قدمت إليكم ما يجب مع الوعيد على تركه بالإنذار
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ
وقوله تعالى مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ يحتمل وجهين
أحدهما أن يكون قوله لَدَى َّ متعلقاً بالقول أي مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ وثانيهما أن يكون ذلك متعلقاً بقوله مَا يُبَدَّلُ أي لا يقع التبديل عندي وعلى الوجه الأول في القول الذي لديه وجوه أحدها هو أنهم لما قالوا حتى يبدل ما قيل في حقهم أَلْقِيَا ( ق 24 ) بقول الله بعد اعتذارهم لا تلقياه فقال تعالى ما يبدل هذا القول لدي وكذلك قوله وَقِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوابَ جَهَنَّمَ ( الزمر 72 ) لا تبديل له ثانيها هو قوله وَلَاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ ( السجدة 13 ) أي لا تبديل لهذا القول ثالثها لا خلف في إيعاد الله تعالى كما لا إخلاف في ميعاد الله وهذا يرد على المرجئة حيث قالو ما ورد في القرآن من الوعيد فهو تخويف لا يحقق الله شيئاً منه وقالوا الكريم إذا وعد أنجز ووفى وإذا أوعد أخلف وعفا رابعها لا يبدل القول السابق أن هذا شقي وهذا سعيد حين خلقت العباد قلت هذا شقي ويعمل عمل الأشقياء وهذا تقي ويعمل عمل الأتقياء وذلك القول عندي لا تبديل له بسعي ساع ولا سعادة إلا بتوفيق الله تعالى وأما على الوجه الثاني ففي مَا يُبَدَّلُ وجوه أيضاً أحدها لا يكذب لدي ولا يفتري بين يدي فإني عالم علمت من طغى ومن أطغى ومن كان طاغياً ومن كان أطغى فلا يفيدكم قولكم أطغاني شيطاني ولا قول الشيطان رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ( ق 27 ) ثانيها إشارة إلى معنى قوله تعالى ارْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً ( الحديد 13 ) كأنه تعالى قال لو أردتم أن لا أقول فألقياه في العذاب الشديد كنتم بدلتم هذا من قبل بتبديل الكفر بالإيمان قبل أن تقفوا بين يدي وأما الآن فما يبدل القول لدي كما قلنا في قوله تعالى قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَى َّ ( ق 28 ) المراد أن اختصامكم كان يجب أن يكون قبل هذا حيث قلت إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ( فاطر 6 ) ثالثها معناه لا يبدل الكفر بالإيمان لدي فإن الإيمان عند اليأس غير مقبول فقولكم ربنا وإلاهنا لا يفيدكم فمن تكلم بكلمة الكفر لا يفيده قوله ربنا ما أشركنا وقوله ربنا آمنا وقوله تعالى مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ إشارة إلى نفي الحال كأنه تعالى يقول ما يبدل اليوم لدي القول لأن ما ينفي بها الحال إذا دخلت على الفعل المضارع يقول القائل ماذا تفعل غداً

يقال ما أفعل شيئاً أي في الحال وإذا قال القائل ماذا يفعل غداً يقال لا يفعل شيئاً أو لن يفعل شيئاً إذا أُريد زيادة بيان النفي فإن قيل هل فيه بيان معنوي يفيد افتراق ما ولا في المعنى نقول نعم وذلك لأن كلمة لا أدل على النفي لكونها موضوعة للنفي وما في معناه كالنهي خاصة لا يفيد الإثبات إلا بطريق الحذف أو الإضمار وبالجملة فبطريق المجاز كما في قوله لاَ أُقْسِمُ ( البلد 1 ) وأما ما فغير متمحضة للنفي لأنها واردة لغيره من المعاني حيث تكون اسماً والنفي في الحال لا يفيد النفي المطلق لجواز أن يكون مع النفي في الحال الإثبات في الاستقبال كما يقال ما يفعل الآن شيئاً وسيفعل إن شاء الله فاختص بما لم يتمحض نفياً حيث لم تكن متمحضة للنفي لا يقال إن لا للنفي في الاستقبال والإثبات في الحال فاكتفى في استقبال بما لم يتمحض نفياً لأنا نقول ليس كذلك إذ لا يجوز أن يقال لا يفعل زيد ويفعل الآن نعم يجوز أن يقال لا يفعل غداً ويفعل الآن لكون قولك غداً يجعل الزمان مميزاً فلم يكن قولك لا يفعل للنفي في الاستقبال بل كان للنفي في بعض أزمنة الاستقبال وفي مثالنا قلنا ما يفعل وسيفعل وما قلنا سيفعل غداً وبعد غد بل ههنا نفينا في الحال وأثبتنا في الاستقبال من غير تمييز زمان من أزمة الاستقبال عن زمان ومثاله في العكس أن يقال لا يفعل زيد وهو يفعل من غير تعيين وتمييز ومعلوم أن ذلك غير جائز
وقوله تعالى وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ مناسب لما تقدم على الوجهين جميعاً أما إذا قلنا بأن المراد من قوله لَدَى َّ أن قوله فَأَلْقِيَاهُ ( ق 26 ) وقول القائل في قوله قِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوابَ جَهَنَّمَ ( الزمر 72 ) لا تبديل له فظاهر لأن الله تعالى بيّن أن قوله أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ ( ق 24 ) لا يكون إلا للكافر العنيد فلا يكون هو ظلاماً للعبيد وأما إذا قلنا بأن المراد مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ بل كان الواجب التبديل قبل الوقوف بين يدي فكذلك لأنه أنذر من قبل وما عذب إلا بعد أن أرسل وبيّن السبل وفيه مباحث لفظية ومعنوية
أما اللفظية فهي من الباء من قوله ليس بِظَلَّامٍ وفي اللام من قوله لّلْعَبِيدِ أما الباء فنقول الباء تدخل في المفعول به حيث لا يكون تعلق الفعل به ظاهراً ولا يجوز إدخالها فيه حيث يكون في غاية الظهور ويجوز الإدخال والترك حيث لا يكون في غاية الظهور ولا في غاية الخفاء فلا يقال ضربت بزيد لظهور تعلق الفعل يزيد ولا يقال خرجت وذهبت زيداً بدل قولنا خرجت وذهبت بزيد لخفاه تعلق الفعل بزيد فيهما ويقال شكرته وشكرت له للتوسط فكذلك خبر ما لما كان مشبهاً بالمفعول وليس في كونه فعلاً غير ظاهر غاية الظهور لأن إلحاق الضمائر التي تلحق بالأفعال الماضية كالتاء والنون في قولك لست ولستم ولستن ولسنا يصحح كونها فعلاً كما في قولك كنت وكنا لكن في الاستقبال يبين الفرق حيث نقول يكون وتكون وكن ولا نقول ذلك في ليس وما يشبه بها فصارتا كالفعل الذي لا يظهر تعلقه بالمفعول غاية الظهور فجاز أن يقال ليس زيد جاهلاً وليس زيد بجاهل كما يقال مسحته ومسحت به وغير ذلك مما يعدى بنفسه وبالباء ولم يجز أن يقال كان زيد بخارج وصار عمرو بدارج لأن صار وكان فعل ظاهر غاية الظهور بخلاف ليس وما النافية وهذا يؤيد قول من قال ( ما هذا بشر ) وهذا ظاهر
البحث الثاني لو قال قائل كان ينبغي أن لا يجوز إخلاء خبر ما عن الباء كما لا يجوز إدخال الباء في خبر كان وخبر ليس يجوز فيه الأمران وتقرير هذا السؤال هو أن كان لما كان فعلاً ظاهراً جعلناه بمنزلة ضرب حيث منعنا دخول الباء في خبره كما منعناه في مفعوله وليس لما كان فعلاً من وجه نظراً إلى قولنا لست ولسنا

ولستم ولم يكن فعلاً ظاهراً نظراً إلى صيغ الاستقبال والأمر جعلناه متوسطاً وجوزنا إدخال الباء في خبره وتركه كما قلنا في مفعول شكرته وشكرت له وما لما لم يكن فعلاً بوجه كان ينبغي أن يكون بمنزلة الفعل الذي لا يتعدى إلى المفعول إلا بالحرف وكان ينبغي أن لا يجيء خبره إلا مع الباء كما لا يجيء مفعول ذهب إلا مع الباء ويؤيد هذا أنا فرقنا بين ما وليس وكان وجعلنا لكل واحدة مرتبة ليست للأخرى فجوزنا تأخير كان في اللفظ حيث جوزنا أن يقول القائل زيد خارجاً كان وما جوزنا زيد خارجاً ليس لأن كان فعل ظاهر وليس دونه في الظهور وما جوزنا تأخير ما عن أحد شطري الكلام أيضاً بخلاف ليس حيث لا يجوز أن يقول القائل زيد ما بظلام إلا أن يعيد ما يرجع إليه فيقول زيد ما هو بظلام فصار بينهما ترتيب ما يوجه وليس يؤخر عن أحد الشطرين ولا يؤخر في الكلام بالكلية وكان يؤخر بالكلية لما ذكرنا من الظهور والخفاء فكذلك القول في إلحاق الباء كان ينبغي أن لا يصح إخلاء خبر ما عن الباء وفي ليس يجوز الأمران وفي كان لا يجوز الإدخال وهذا هو المعتمد عليه في لغة بني تميم حيث قالوا إن ما بعد ما إذا جعل خبراً يجب إدخال الباء عليه فإن لم تدخل عليه يكون ذلك معرباً على الابتداء أو على وجه آخر ولا يكون خبراً والجواب عن السؤال هو أن نقول الأكثر إدخال الباء في خبر ما ولا سيما في القرآن قال الله تعالى وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى ِ عَن ضَلَالَتِهِمْ ( الروم 53 ) وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ ( فاطر 22 ) وَمَا هُم بِخَارِجِينَ ( البقرة 167 ) وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ وأما الوجوب فلا لأن ما أشبه ليس في المعنى في الحقيقة وخالفها في العوارض وهو لحوق التاء والنون وأما في المعنى فهما لنفي الحال فالشبه مقتض لجواز الإخلاء والمخالفة مقتضية لوجوب الإدخال لكن ذلك المقتضي أقوى لأنه راجع إلى الأمر الحقيقي وهذا راجع إلى الأمر العارضي وما بالنفس أقوى مما بالعارض وأما التقديم والتأخير فلا يلزم منه وجوب إدخال الباء وأما الكلام في اللام فنقول اللام لتحقيق معنى الإضافة يقال غلام زيد وغلام لزيد وهذا في الإضافات الحقيقية بإثبات التنوين فيه وأما في الإضافات اللفظية كقولنا ضارب زيد وقاتل عمرو فإن الإضافة فيه غير معنوية فإذا خرج الضارب عن كونه مضافاً بإثبات التنوين فقد كان يجب أن يعاد الأصل وينصب ما كان مضافاً إليه الفاعل بالمفعول به ولا يؤتى باللام لأنه حينئذ لم تبق الإضافة في اللفظ ولم تكن الإضافة في المعنى غير أن اسم الفاعل منحط الدرجة عن الفعل فصار تعلقه بالمفعول أضعف من تعلق الفعل بالمفعول وصار من باب الأفعال الضعيفة التعلق حيث بينا جواز تعديتها إلى المفعول بحرف وغير حرف فلذلك جاز أن يقال ضارب زيد أو ضارب لزيد كما جاز مسحته ومسحت به وشكرته وشكرت له وذلك إذا تقدم المفعول كما في قوله تعالى إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ( يوسف 43 ) للضعف وأما المعنوية فمباحث
الأول الظلام مبالغة في الظالم ويلزم من إثباته إثبات أصل الظلم إذا قال القائل هو كذاب يلزم أن يكون كاذباً كثر كذبه ولا يلزم من نفيه نفي أصل الكذب لجواز أن يقال فلان ليس بكذاب كثير الكذب لكنه يكذب أحياناً ففي قوله تعالى وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لا يفهم منه نفي أصل الظلم والله ليس بظالم فما الوجه فيه نقول الجواب عنه من ثلاثة أوجه أحدها أن الظلام بمعنى الظالم كالتمار بمعنى التامر وحينئذ يكون اللام في قوله لّلْعَبِيدِ لتحقيق النسبة لأن الفعال حينئذ بمعنى ذي ظلم وهذا وجه جيد مستفاد من الإمام زين الدين أدام الله فوائده والثاني ما ذكره الزمخشري وهو أن ذلك أمر تقديري كأنه تعالى يقول لو ظلمت عبدي

الضعيف الذي هو محل الرحمة لكان ذلك غاية الظلم وأما أنا بذلك فيلزم من نفي كونه ظلاماً نفي كونه ظالماً ويحقق هذا الوجه إظهار لفظ العبيد حيث يقول مَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ أي في ذلك اليوم الذي امتلأت جهنم مع سعتها حتى تصيح وتقول لم يبق لي طاقة بهم ولم يبق في موضع لهم فهل من مزيد استفهام استكثار فذلك اليوم مع أني ألقي فيها عدداً لا حصر له لا أكون بسبب كثرة التعذيب كثير الظلم وهذا مناسب وذلك لأنه تعالى خصص النفي بالزمان حيث قال ما أنا بظلام يوم نقول أي وما أنا بظلام في جميع الأزمان أيضاً وخصص بالعبيد حيث قال وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ولم يطلق فكذلك خصص النفي بنوع من أنواع الظلم ولم يطلق فلم يلزم منه أن يكون ظالماً في غير ذلك الوقت وفي حق غير العبيد وإن خصص والفائدة في التخصيص أنه أقرب إلى التصديق من التعميم والثالث هذا يدل على أن التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه لأنه نفى كونه ظلاماً ولم يلزم منه نفي كونه ظالماً ونفي كونه ظلاماً للعبيد ولم يلزم منه نفي كونه ظلاماً لغيرهم كما قال في حق الآدمي فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ ( فاطر 32 )
البحث الثاني قال ههنا وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ من غير إضافة وقال مَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى ِ ( النمل 81 ) وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ ( فاطر 22 ) على وجه الإضافة فما الفرق بينهما نقول الكلام قد يخرج أولاً مخرج العموم ثم يخصص لأمر ما لا لغرض التخصيص يقول القائل فلان يعطي ويمنع ويكون غرضه التعميم فإن سأل سائل يعطي من ويمنع من يقول زيداً وعمراً ويأتي بالمخصص لا لغرض التخصيص وقد يخرج أولاً مخرج الخصوص فيقول فلان يعطي زيداً ماله إذا علمت هذا فقوله وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ كلام لو اقتصر عليه لكان للعموم فأتى بلفظ العبيد لا لكون عدم الظلم مختصاً بهم بل لكونهم أقرب إلى كونهم محل الظلم من نفسه تعالى وأما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكان في نفسه هادياً وإنما أراد نفي ذلك الخاص فقال وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى ِ وما قال ما أنت بهاد وكذلك قوله تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ( الزمر 36 )
البحث الثالث العبيد يحتمل أن يكون المراد منه الكفار كما في قوله تعالى خَامِدُونَ ياحَسْرَة ً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ ( ي س 30 ) يعني أعذبهم وما أنا بظلام لهم ويحتمل أن يكون المراد منه المؤمنين ووجهه هو أن الله تعالى يقول لو أبدلت القول ورحمت الكافر لكنت في تكليف العباد ظالماً لعبادي المؤمنين لأني منعتهم من الشهوات لأجل هذا اليوم فإن كان ينال من لم يأت بما أتى المؤمن ما يناله المؤمن لكان إتيانه بما أتى به من الإيمان والعبادة غير مفيد فائدة وهذا معنى قوله تعالى لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمُ الْفَائِزُونَ ( الحشر 20 ) ومعنى قوله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( الزمر 9 ) وقوله تعالى لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ ( النساء 95 ) ويحتمل أن يكون المراد التعميم ثم قال تعالى
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاّتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ
العامل في يَوْمٍ ماذا فيه وجوه الأول ما أنا بظلام مطلقاً والثاني الوقت حيث قال ما أنا يوم

كذا ولم يقل ما أن بظلام في سائر الأزمان وقد تقدم بيانه فإن قيل فما فائدة التخصيص نقول النفي الخاص أقرب إلى التصديق من النفي العام لأن المتوهم ذلك فإن قاصر النظر يقول يوم يدخل الله عبده الضعيف جهنم يكون ظالماً له ولا يقول بأنه يوم خلقه يرزقه ويربيه يكون ظالماً ويتوهم أنه يظلم عبده بإدخاله النار ولا يتوهم أنه يظلم نفسه أو غير عبيده المذكورين ويتوهم أنه من يدخل خلقاً كثيراً لا يجوزه حد ولا يدركه عد النار ويتركهم فيه زماناً لا نهاية له كثير الظلم فنفى ما يتوهم دون ما لا يتوهم وقوله هَلِ امْتَلاَتِ بيان لتصديق قوله تعالى لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ وقوله هَلْ مِن مَّزِيدٍ فيه وجهان أحدهما أنه لبيان استكثارها الداخلين كما أن من يضرب غيره ضرباً مبرحاً أو يشتمه شتماً قبيحاً فاحشاً ويقول المضروب هل بقي شيء آخرا ويدل عليه قوله تعالى لاَمْلاَنَّ لأن الامتلاء لا بد من أن يحصل فلا يبقى في جهنم موضع خال حتى تطلب المزيد والثاني هو أنها تطلب الزيادة وحينئذ لو قال قائل فكيف يفهم مع هذا معنى قوله تعالى لاَمْلاَنَّ نقول الجواب عنه من وجوه أحدها أن هذا الكلام ربما يقع قبل إدخال الكل وفيه لطيفة وهي أن جهنم تتغيظ على الكفار فتطلبهم ثم يبقى فيها موضع لعصاة المؤمنين فتطلب جهنم امتلاءها لظنها بقاء أحد من الكفار خارجاً فيدخل العاصي من المؤمنين فيبرد إيمانه حرارتها ويسكن إيقانه غيظها فتسكن وعلى هذا يحمل ما ورد في بعض الأخبار أن جهنم تطلب الزيادة حتى يضع الجبار قدمه والمؤمن جبار متكبر على ما سوى الله تعالى ذليل متواضع لله الثاني أن تكون جهنم تطلب أولاً سعة في نفسها ثم مزيداً في الداخلين لظنها بقاء أحد من الكفار الثالث أن الملء له درجات فإن الكيل إذا ملىء من غير كبس صح أن يقال ملىء وامتلأ فإذا كبس يسع غيره ولا ينافي كونه ملآن أو لا فكذلك في جهنم ملأها الله ثم تطلب زيادة تضييقاً للمكان عليهم وزيادة في التعذيب والمزيد جار أن يكون بمعنى المفعول أي هل بقي أحد تزيد به ثم قال تعالى
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ
بمعنى قريباً أو بمعنى قريب والأول أظهر وفيه مسائل
المسألة الأولى ما وجه التقريب مع أن الجنة مكان والأمكنة يقرب منها وهي لا تقرب نقول الجواب عنه من وجوه الأول أن الجنة لا تزال ولا تنقل ولا المؤمن يؤمر في ذلك اليوم بالانتقال إليها مع بعدها لكن الله تعالى يطوي المسافة التي بين المؤمن والجنة فهو التقريب فإن قيل فعلى هذا ليس إزلاف الجنة من المؤمن بأولى من إزلاف المؤمن من الجنة فما الفائدة في قوله أزلفت الجنة نقول إكراماً للمؤمن كأنه تعالى أراد بيان شرف المؤمن المتقي أنه ممن يمشي إليه ويدني منه الثاني قربت من الحصول في الدخول لا بمعنى القرب المكاني يقال يطلب من الملك أمراً خطيراً والملك بعيد عن ذلك ثم إذا رأى منه مخايل إنجاز حاجته يقال قرب الملك وما زلت أنهي إليه حالك حتى قربته فكذلك الجنة كانت بعيدة الحصول لأنها بما فيها لا قيمة لها ولا قدرة للمكلف على تحصيلها لولا فضل الله تعالى كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من أحد يدخل الجنة إلا بفضل الله تعالى فقيل ولا أنت يا رسول الله فقال ولا أنا )

وعلى هذا فقوله غير نصب على الحال تقديره قربت من الحصول ولم تكن بعيدة في المسافة حتى يقال كيف قربت الثالث هو أن الله تعالى قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض فيقربها للمؤمن وأما إن قلنا إنها قربت فمعناه جمعت محاسنها كما قال تعالى وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ ( الزخرف 71 )
المسألة الثانية على هذا الوجه وعلى قولنا قربت تقريب حصول ودخول فهو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون قوله تعالى وَأُزْلِفَتِ أي في ذلك اليوم ولم يكن قبل ذلك وأما في جمع المحاسن قربما يزيد الله فيها زينة وقت الدخول وأما في الحصول فلأن الدخول قبل ذلك كان مستبعداً إذا لم يقدر الله دخول المؤمنين الجنة في الدنيا ووعد به في الآخرة فقربت في ذلك اليوم وثانيهما أن يكون معنى قوله تعالى وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ أي أزلفت في الدنيا إما بمعنى جمع المحاسن فلأنها مخلوقة وخلق فيها كل شيء وإما بمعنى تقريب الحصول فلأنها تحصل بكلمة حسنة وإما على تفسير الإزلاف بالتقريب المكاني فلا يكون ذلك محمولاً إلا على ذلك الوقت أي أزلفت في ذلك اليوم للمتقين
المسألة الثانية إن حمل على القرب المكاني فما الفائدة في الاختصاص بالمتقين مع أن المؤمن والكافر في عرصة واحدة فنقول قد يكون شخصان في مكان واحد وهناك مكان آخر هو إلى أحدهما في غاية القرب وعن الآخر في غاية البعد مثاله مقطوع الرجلين والسليم الشديد العدو إذا اجتمعا في موضع وبحضرتهما شيء لا تصل إليه اليد بالمد فذلك بعيد عن المقطوع وهو في غاية القرب من العادي أو نقول إذا اجتمع شخصان في مكان وأحدهما أحيط به سد من حديد ووضع بقربه شيء لا تناله يده بالمد والآخر لم يحط به ذلك السد يصح أن يقال هو بعيد عن المسدود وقريب من المحظوظ والمجدود وقوله تعالى غَيْرَ بَعِيدٍ يحتمل أن يكون نصباً على الظرف يقال اجلس غير بعيد مني أي مكاناً غير بعيد وعلى هذا فقوله غير بعيد يفيد التأكيد وذلك لأن القريب قد يكون بعيداً بالنسبة إلى شيء فإن المكان الذي هو على مسيرة يوم قريب بالنسبة إلى البلاد النائية وبعيد بالنسبة إلى متنزهات المدينة فإذا قال قائل أيما أقرب المسجد الأقصى أو البلد الذي هو بأقصى المغرب أو المشرق يقال له المسجد الأقصى قريب وإن قال أيهما أقرب هو أو البلد يقل له هو بعيد فقوله تعالى وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ غَيْرَ بَعِيدٍ أي قربت قرباً حقيقياً لا نسبياً حيث لا يقال فيها إنها بعيدة عنه مقايسة أو مناسبة ويحتمل أن يكون نصباً على الحال تقديره قربت حال كون ذلك غاية التقريب أو نقول على هذا الوجه يكون معنى أزلفت قربت وهي غير بعيد فيحصل المعنيان جميعاً الإقراب والاقتراب أو يكون المراد القرب والحصول لا للمكان فيحصل معنيان القرب المكاني بقوله غير بعيد والحصول بقوله أُزْلِفَتْ وقوله غَيْرَ بَعِيدٍ مع قوله أُزْلِفَتْ على التأنيث يحتمل وجوهاً الأول إذا قلنا إن غَيْرِ نصب على المصدر تقديره مكاناً غير الثاني التذكير فيه كما في قوله تعالى وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( الأعراف 56 ) إجراء لفعيل بمعنى فاعل مجرى فعيل بمعنى مفعول الثالث أن يقال غَيْرِ منصوب نصباً على المصدر على أنه صفة مصدر محذوف تقديره أزلفت الجنة إزلافاً غير بعيد أي عن قدرتنا فإنا قد ذكرنا أن الجنة مكان والمكان لا يقرب وإنما يقرب منه فقال الإزلاف غير بعيد عن قدرتنا فإنا نطوي المسافة بينهما
هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ

ثم قال تعالى هَاذَا مَا تُوعَدُونَ قال الزمخشري هي جملة معترضة بين كلامين وذلك لأن قوله تعالى لِكُلّ أَوَّابٍ بدل عن المتقين كأنه تعالى قال ( أزلفت الجنة للمتقين لكل أواب ) كما في قوله تعالى لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ ( الزخرف 33 ) غير أن ذلك بدل الاشتمال وهذا بدل الكل وقال هَاذَا إشارة إلى الثواب أي هذا الثواب ما توعدون أو إلى الإزلاف المدلول عليه بقوله أُزْلِفَتْ ( ق 31 ) أي هذا الإزلاف ما وعدتم به ويحتمل أن يقال هو كلام مستقل ووجهه أن ذلك محمول على المعنى لا ما يوعد به يقال للموعود هذا لك وكأنه تعالى قال هذا ما قلت إنه لكم
ثم قال تعالى لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ بدلاً عن الضمير في تُوعَدُونَ وكذلك إن قرىء بالياء يكون تقديره هذا لكل أواب بدلاً عن الضمير والأواب الرجاع قيل هو الذي يرجع من الذنوب ويستغفر والحفيظ الحافظ للذي يحفظ توبته من النقض ويحتمل أن يقال الأواب هو الرجاع إلى الله بفكره والحفيظ الذي يحفظ الله في ذكره أي رجع إليه بالفكر فيرى كل شيء واقعاً به وموجداً منه ثم إذا انتهى إليه حفظه بحيث لا ينساه عند الرخاء والنعماء والأواب الحفيظ كلاهما من باب المبالغة أي يكون كثير الأوب شديد الحفظ وفيه وجوه أخر أدق وهو أن الأواب هو الذي رجع عن متابعة هواه في الإقبال على ما سواه والحفيظ هو الذي إذا أدركه بأشرف قواه لا يتركه فيكمل بها تقواه ويكون هذا تفسيراً للمتقي لأن المتقي هو الذي أتقى الشرك والتعطيل ولم ينكره ولم يعترف بغيره والأواب هو الذي لا يعترف بغيره ويرجع عن كل شيء غير الله تعالى والحفيظ هو الذي لم يرجع عنه إلى شيء مما عداه ثم قال تعالى
مَّنْ خَشِى الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ
وفي مِنْ وجوه أحدها وهو أغربها أنه منادى كأنه تعالى قال يا من خشيء الرحمن أدخلوها بسلام وحذف حرف النداء شائع وثانيها مِنْ بدل عن كل في قوله تعالى لِكُلّ أَوَّابٍ ( ق 32 ) من غير إعادة حرف الجر تقديره أزلفت الجنة لمن خشي الرحمن بالغيب ثالثها في قوله تعالى أَوَّابٍ حَفِيظٍ ( ق 32 ) موصوف معلوم غير مذكور كأنه يقول لكل شخص أواب أو عبد أو غير ذلك فقوله تعالى مَّنْ خَشِى َ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ بدل عن ذلك الموصوف هذه وجوه ثلاثة ذكرها الزمخشري وقال لا يجوز أن يكون بدلاً عن أواب أو حفيظ لأن أواب وحفيظ قد وصف به موصوف معلوم غير مذكور كما بيناه والبدل في حكم المبدل منه فتكون مِنْ موصوفاً بها ومن لا يوصف بها لا يقال الرجل من جاءني جالسني كم يقال الرجل الذي جاءني جالسني هذا تمام كلام الزمخشري فإن قال قائل إذا كان مِنْ والذي يشتركان في كونهما من الموصولات فلماذا لا يشتركان في جواز الوصف بهما نقول الأمر معقول نبينه في ما ومنه يتبين الأمر فيه فنقول ما اسم مبهم يقع على كل شيء فمفهومه هو شيء لكن الشيء هو أعم الأشياء فإن الجوهر شيء والعرض شيء والواجب شيء والممكن شيء والأعم قبل الأخص في الفهم لأنك إذا رأيت من البعد شبحاً تقول أولاً إنه شيء ثم إذا ظهر لك منه ما يختص بالناس تقول إنسان فإذا بان ذلك أنه ذكر قلت هو رجل فإذا وجدته ذا قوة تقول شجاع إلى غير ذلك فالأعم أعرف وهو قبل الأخص في الفهم فمفهوم ما قبل كل شيء فلا يجوز أن يكون صفة لأن الصفة بعد الموصوف هذا من حيث

المعقول وأما من حيث النحو فلأن الحقائق لا يوصف بها فلا يقال جسم رجل جاءني كما يقال جسم ناطق جاءني كما يقال جسم ناطق جاءني لأن الوصف يقوم بالموصوف والحقيقة تقوم بنفسها لا بغيرها وكل ما يقع وصفاً للغير يكون معناه شيء له كذا فقولنا عالم معناه شيء له علم أو عالمية فيدخل في مفهوم الوصف شيء مع أمر آخر وهو له كذا لكن ما لمجرد شيء فلا يوجد فيه ما يتم به الوصف وهو الأمر الآخر الذي معناه ذو كذا فلم يجز أن يكون صفة وإذا بان القول فمن في العقلاء كما في غيرهم وفيهم فمن معناه إنسان أو ملك أو غيرهما من الحقائق العاقلة والحقائق لا تقع صفات وأما الذي يقع على الحقائق والأوصاف ويدخل في مفهومه تعريف أكثر مما يدخل في مجاز الوصف بما دون من
وفي الآية لطائف معنوية الأول الخشية والخوف معناهما واحد عند أهل اللغة لكن بينهما فرق وهو أن الخشية من عظمة المخشي وذلك لأن تركيب حرف خ ش ي في تقاليبها يلزمه معنى الهيبة يقال شيخ للسيد والرجل الكبير السن وهم جميعاً مهيبان والخوف خشية من ضعف الخاشي وذلك لأن تركيب خ و ف في تقاليبها يدل على الضعف تدل عليه الخيفة والخفية ولولا قرب معناهما لما ورد في القرآن تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأنعام 63 ) و تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف 205 ) والمخفي فيه ضعف كالخائف إذا علمت هذا تبين لك اللطيفة وهي أن الله تعالى في كثير من المواضع ذكر لفظ الخشية حيث كان الخوف من عظمة المخشي قال تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) وقال لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ ( الحشر 21 ) فإن الجبل ليس فيه ضعف يكون الخوف من ضعفه وإنما الله عظيم يخشاه كل قوي هُم مّنْ خَشْية ِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ ( المؤمنون 57 ) مع أن الملائكة أقوياء وقال تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ( الأحزاب 33 ) أي تخافهم إعظاماً لهم إذ لا ضعف فيك بالنسبة إليهم وقال تعالى لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ ( العنكبوت 33 ) أي لا تخف ضعفاً فإنهم لا عظمة لهم وقال يَخَافُونَ يَوْماً ( الإنسان 7 ) حيث كان عظمة اليوم بالنسبة إلى عظمة الله ضعيفة وقال أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ ( فصلت 30 ) أي بسبب مروه يلحقكم من الآخرة فإن المكروهات كلها مدفوعة عنكم وقال تعالى خَائِفاً يَتَرَقَّبُ ( القصص 21 ) وقال إِنّى أَخَافُ إِنْ يَقْتُلُونَ ( القصص 33 ) لوحدته وضعفه وقال هارون إِنّى خَشِيتُ ( طه 94 ) لعظمة موسى في عين هارون لا لضعف فيه وقال فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ( الكهف 80 ) حيث لم يكن لضعف فيه وحاصل الكلام أنك إذا تأملت استعمال الخشية وجدتها مستعملة لخوف بسبب عظمة المخشي وإذا نظرت إلى استعمال الخوف وجدته مستعملاً لخشية من ضعف الخائف وهذا في الأكثر وربما يتخلف المدعى عنه لكن الكثرة كافية الثانية قال الله تعالى ههنا خَشِى َ الرَّحْمَنَ مَّعَ ءانٍ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمُ الْفَائِزُونَ لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ ( الحشر 21 ) إشارة إلى ذم الكافر حيث لم تحمله الألوهية التي تنبىء عنها لفظة الله وفيها العظمة على خوفه وقال إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) لأن إِنَّمَا للحصر فكان فيه إشارة إلى أن الجاهل لا يخشاه فذكر الله ليبين أن عدم خشيته مع قيام المقتضى وعدم المانع وهو الرحمة وقد ذكرنا ذلك في سورة يس ونزيد ههنا شيئاً آخر وهو أن نقول لفظة الرَّحْمَنُ إشارة إلى مقتضى لا إلى المانع وذلك لأن الرحمن معناه واهب الوجود بالخلق والرحيم واهب البقاء بالرزق وهو في الدنيا رحمان حيث أوجدنا بالرحمة ورحيم حيث أبقى بالرزق ولا يقال لغيره رحيم لأن

البقاء بالرزق قد يظن أن مثل ذلك يأتي ممن يطعم المضطر فيقال فلان هو الذي أبقى فلاناً وهو في الآخرة أيضاً رحمان حيث يوجدنا ورحيم حيث يرزقنا وذكرنا ذلك في تفسير الفاتحة حيث قلنا قال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إشارة إلى كونه رحماناً في الدنيا حيث خلقنا رحيماً في الدنيا حيث رزقنا رحمة ثم قال مرة أخرى بعد قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أي هو رحمان مرة أخرى في الآخرة بخلقنا ثانياً واستدللنا عليه بقوله بعد ذلك مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 4 ) أي يخلقنا ثانياً ورحيم يرزقنا ويكون هو المالك في ذلك اليوم إذا علمت هذا فمن يكون منه وجود الإنسان لا يكون خوفه خشية من غيره فإن القائل يقول لغيره أخاف منك أن تقطع رزقي أو تبدل حياتي فإذا كان الله تعالى رحماناً منه الوجود ينبغي أن يخشى فإن من بيده الوجود بيده العدم وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( خشية الله رأس كل حكمة ) وذلك لأن الحكيم إذا تفكر في غير الله وجده محل التغير يجوز عليه العدم في كل طرفة عين وربما يقدر الله عدمه قبل أن يتمكن من الإضرار لأن غير الله إن لم يقدر الله أن يضر لا يقدر على الضرر وإن قدر عليه بتقدير الله فسيزول الضرر بموت المعذب أو المعذب وأما الله تعالى فلا راد لما أراد ولا آخر لعذابه وقال تعالى بِالْغَيْبِ أي كانت خشيتهم قبل ظهور الأمور حيث ترى رأي العين وقوله تعالى وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ إشارة إلى صفة مدح أخرى وذلك لأن الخاشي قد يهرب ويترك القرب من المخشي ولا ينتفع وإذا علم المخشي أنه تحت حكمه تعالى علم أنه لا ينفعه الهرب فيأتي المخشي وهو ( غير ) خاش فقال وَجَاء ولم يذهب كما يذهب الآبق وقوله تعالى بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ الباء فيه يحتمل وجوهاً ذكرناها في قوله تعالى وَجَاءتْ سَكْرَة ُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ( ق 19 ) أحدها التعدية أي أحضر قلباً سليماً كما يقال ذهب به إذا أذهبه ثانيها المصاحبة يقال اشترى فلان الفرس بسرجه أي مع سرجه وجاء فلان بأهله أي مع أهله ثالثها وهو أعرفها الباء للسبب يقال ما أخذ فلان إلا بقول فلان وجاء بالرجاء له فكأنه تعالى قال جاء وما جاء إلا بسبب إنابة في قلبه علم أنه لا مرجع إلا إلى الله فجاء بسبب قلبه المنيب والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى إِذَا جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( الصافات 84 ) أي سليم من الشرك ومن سلم من الشرك يترك غير الله ويرجع إلى الله فكان منيباً ومن أناب إلى الله برىء من الشرك فكان سليماً
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ
ثم قال تعالى ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ
فالضمير عائد إلى الجنة التي في وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ ( ق 31 ) أي لما تكامل حسنها وقربها وقيل لهم إنها منزلكم بقوله هَاذَا مَا تُوعَدُونَ ( ق 32 ) أذن لهم في دخولها وفيه مسائل
المسألة الأولى الخطاب مع من نقول إن قرىء مَّا تُوعَدُونَ بالتاء فهو ظاهر إذ لا يخفى أن الخطاب مع الموعودين وإن قرىء بالياء فالخطاب مع المتقين أي يقال للمتقين أدخلوها
المسألة الثانية هذا يدل على أن ذلك يتوقف على الإذن وفيه من الانتظار ما لا يليق بالإكرام نقول ليس كذلك فإن من دعا مكرماً إلى بستانه يفتح له الباب ويجلس في موضعه ولا يقف على الباب من

يرحبه ويقول إذا بلغت بستاني فادخله وإن لم يكن هناك أحد يكون قد أخل بإكرامه بخلاف من يقف على باب قوم يقولون أدخل باسم الله يدل على الإكرام قوله تعالى بِسَلامٍ كما يقول المضيف أدخل مصاحباً بالسلامة والسعادة والكرامة والباء للمصاحبة في معنى الحال أي سالمين مقرونين بالسلامة أو معناه أدخلوها مسلماً عليكم ويسلم الله وملائكته عليكم ويحتمل عندي وجهاً آخر وهو أن يكون ذلك إرشاداً للمؤمنين إلى مكارم الاْخلاق في ذلك اليوم كما أرشدوا إليها في الدنيا حيث قال تعالى لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ( النور 27 ) فكأنه تعالى قال هذه داركم ومنزلكم ولكن لا تتركوا حسن عادتكم ولا تخلوا بمكارم أخلاقكم فادخلوها بسلام ويصيحون سلاماً على من فيها ويسلم ممن فيها عليهم ويقولون السلام عليكم ويدل عليه قوله تعالى إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ( الواقعة 26 ) أي يسلمون على من فيها ويسلم من فيها عليهم وهذا الوجه إن كان منقولاً فنعم وإن لم يكن منقولاً فهو مناسب معقول أيده دليل منقول
قوله تعالى ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ
حتى لا يدخل في قلبهم أن ذلك ربما ينقطع عنهم فتبقى في قلبهم حسرته فإن قيل المؤمن قد علم أنه إذا دخل الجنة خلد فيها فما الفائدة في التذكير والجواب عنه من وجهين أحدهما أن قوله ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ قول قاله الله في الدنيا إعلاماً وإخباراً وليس ذلك قولاً يقوله عند قوله ادْخُلُوهَا فكأنه تعالى أخبرنا في يومنا أن ذلك اليوم يوم الخلود ثانيهما اطمئنان القلب بالقول أكثر قال الزمخشري في قوله يَوْمُ الُخُلُودِ إضمار تقديره ذلك يوم تقدير الخلود ويحتمل أن يقال اليوم يذكر ويراد الزمان المطلق سواء كان يوماً أو ليلاً نقول يوم ولد لفلان ابن يكون السرور العظيم ولو ولد له بالليل لكان السرور حاصلاً فتريد به الزمان فكأنه تعالى قال ذلك زمان الإقامة الدائمة ثم قال تعالى
لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ
وفي الآية ترتيب في غاية الحسن وذلك لأنه تعالى بدأ ببيان إكرامهم حيث قال وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ ( الشعراء 90 ) ولم يقل قرب المتقون من الجنة بياناً للإكرام حيث جعلهم ممن تنقل إليهم الجنان بما فيها من الحسان ثم قال لهم هذا لكم بقوله هَاذَا مَا تُوعَدُونَ ( ق 32 ) ثم بيّن أنه أجر أعمالهم الصالحة بقوله لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِى َ الرَّحْمَنَ ( ق 33 ) فإن تصرف المالك الذي ملك شيئاً بعوض أتم فيه من تصرف من ملك بغير عوض لإمكان الرجوع في التمليك بغير عوض ثم زاد في الإكرام بقوله ادْخُلُوهَا ( ق 34 ) كما بينا أن ذلك إكرام لأن من فتح بابه للناس ولم يقف ببابه من يرحب الداخلين لا يكون قد أتى بالإكرام التام ثم قال ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ ( ق 34 ) أي لا تخافوا ما لحقكم من قبل حيث أخرج أبويكم منها فهذا دخول لا خروج بعده منها
ثم لما بيّن أنهم فيها خالدون قال لا تخافوا انقطاع أرزاقكم وبقاءكم في حاجة كما كنتم في الدنيا من كان يعمر ينكس ويحتاج بل لكم الخلود ولا ينفد ما تمتعون به فلكم ما تشاءون في أي وقت تشاءون وإلى الله المنتهى وعند الوصول إليه والمثول بين يديه فلا يوصف ما لديه ولا يطلع أحد عليه وعظمة من عنده تدلك على فضيلة ما عنده هذا هو الترتيب وأما التفسير ففيه مسألتان

المسألة الأولى قال تعالى ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ( ق 34 ) على سبيل المخاطبة ثم قال لَهُمْ ولم يقل لكم ما الحكمة فيه الجواب عنه من وجوه الأول هو أن قوله تعالى ادْخُلُوهَا مقدر فيه يقال لهم أي يقال لهم ادْخُلُوهَا فلا يكون على هذا التفاتاً الثاني هو أنه من باب الالتفات والحكمة الجمع بين الطرفين كأنه تعالى يقول أكرمهم به في حضورهم ففي حضورهم الحبور وفي غيبتهم الحور والقصور والثالث هو أن يقال قوله تعالى لَهُمْ جاز أن يكون كلاماً مع الملائكة يقول للملائكة توكلوا بخدمتهم واعلموا أن لهم ما يشاءون فيها فأحضروا بين أيديهم ما يشاءون وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم ولا تقدرون أنتم عليه
المسألة الثانية قد ذكرنا أن لفظ مَّزِيدٍ ( ق 30 ) يحتمل أن يكون معناه الزيادة فيكون كما في قوله تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول أي عندنا ما نزيده على ما يرجون وما يكون مما يشتهون
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ
ثم قال تعالى وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً
لما أنذرهم بما بين أيديهم من اليوم العظيم والعذاب الأليم أنذرهم بما يعجل لهم من العذاب المهلك والإهلاك المدرك وبين لهم حال من تقدمهم وقد تقدم تفسيره في مواضع والذي يختص بهذا الموضع أمور أحدها إذا كان ذلك للجمع بين الإنذار بالعذاب العاجل والعقاب الآجل فلم توسطهما قوله تعالى وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ إلى قوله وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( ق 31 35 ) نقول ليكون ذلك دعاء بالخوف والطمع فذكر حال الكفور المعاند وحال الشكور العابد في الآخرة ترهيباً وترغيباً ثم قال تعالى إن كنتم في شك من العذاب الأبدي الدائم فما أنتم في ريب من العذاب العاجل المهلك الذي أهلك أمثالكم فإن قيل فلم لم يجمع بين الترهيب والترغيب في العاجلة كما جمع بينهما في الآجلة ولم يذكر حال من أسلم من قبل وأنعم عليه كما ذكر حال من أشرك به فأهلكه نقول لأن النعمة كانت قد وصلت إليهم وكانوا متقلبين في النعم فلم يذكرهم به وإنما كانوا غافلين عن الهلاك فأنذرهم به وأما في الآخرة فكانوا غافلين عن الأمرين جميعاً فأخبرهم بهما
الثاني قوله تعالى فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ
في معناه وجوه أحدها هو ما قاله تعالى في حق ثمود الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ ( الفجر 9 ) من قوتهم خرق الطرق ونقبوها وقطعوا الصخور وثقبوها ثانيها نقبوا أي ساروا في الأسفار ولم يجدوا ملجأً ومهرباً وعلى هذا يحتمل أن يكون المراد أهل مكة أي هم ساروا في الأسفار ورأوا ما فيها من الآثار ثالثها فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ أي صاروا نقباء في الأرض أراد ما أفادهم بطشهم وقوتهم ويدل على هذا الفاء لأنها تصير حينئذ مفيدة ترتب الأمر على مقتضاه تقول كان زيد أقوى من عمرو فغلبه وكان عمرو مريضاً

فغلبه زيد كذلك ههنا قال تعالى هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فصاروا نقباء في الأرض وقرىء فَنَقَّبُواْ بالتشديد وهو أيضاً يدل على ما ذكرنا في الوجه الثالث لأن التنقيب البحث وهو من نقب بمعنى صار نقيباً
الثالث قوله تعالى هَلْ مِن مَّحِيصٍ
يحتمل وجوهاً ثلاثة الأول على قراءة من قرأ بالتشديد يحتمل أن يقال هو مفعول أي بحثوا عن المحيص هَلْ مِن مَّحِيصٍ الثاني على القراءات جميعاً استفهام بمعنى الإنكار أي لم يكن لهم محيص الثالث هو كلام مستأنف كأنه تعالى يقول لقوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هم أهلكوا مع قوة بطشهم فهل من محيص لكم تعتمدون عليه والمحيص كالمحيد غير أن المحيص معدل ومهرب عن الشدة يدلك عليه قولهم وقعوا في حيص بيص أي في شدة وضيق والمحيد معدل وإن كان لهم بالاختيار يقال حاد عن الطريق نظراً ولا يقال حاص عن الأمر نظراً
إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
ثم قال تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ
الإشارة إلى الإهلاك ويحتمل أن يقال هو إشارة إلى ما قاله من إزلاف الجنة وملء جهنم وغيرهما والذكرى اسم مصدر هو التذكر والتذكرة وهي في نفسها مصدر ذكره يذكره ذكراً وذكرى وقوله لمن كَانَ لَهُ قَلْبٌ قيل المراد قلب موصوف بالوعي أي لمن كان له قلب واع يقال لفلان مال أي كثير فالتنكير يدل على معنى في الكمال والأولى أن يقال هو لبيان وضوح الأمر بعد الذكر وأن لا خفاء فيه لمن كان له قلب ما ولو كان غير كامل كما يقال أعطه شيئاً ولو كان درهماً ونقول الجنة لمن عمل خيراً ولو حسنة فكأنه تعالى قال إن في ذلك لذكرى لمن يصح أن يقال له قلب وحينئذ فمن لا يتذكر لا قلب له أصلاً كما في قوله تعالى صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ ( البقرة 18 ) حيث لم تكن آذانهم وألسنتهم وأعينهم مفيدة لما يطلب منها كذلك من لا يتذكر كأنه لا قلب له ومنه قوله تعالى كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ( الأعراف 179 ) أي هم كالجماد وقوله تعالى كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَة ٌ ( المنافقون 4 ) أي لهم صور وليس لهم قلب للذكر ولا لسان للشكر
وقوله تعالى أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ أي استمع وإلقاء السمع كناية في الاستماع لأن من لا يسمع فكأنه حفظ سمعه وأمسكه فإذا أرسله حصل الاستماع فإن قيل على قول من قال التنكير في القلب للتكثير يظهر حسن ترتيب في قوله أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وذلك لأنه يصير كأنه تعالى يقول إن في ذلك لذكرى لمن كان ذا قلب واع ذكي يستخرج الأمور بذكائه أو ألقى السمع ويستمع من المنذر فيتذكر وأما على قولك المراد من صح أن يقال له قلب ولو كان غير واع لا يظهر هذا الحسن نقول على ما ذكرنا ربما يكون الترتيب أحسن وذلك لأن التقدير يصير كأنه تعالى قال فيه ذكرى لكل واحد كيف كان له قلب لظهور الأمر فإن كان لا يحصل لكل أحد فلمن يستمع حاصل ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ حيث لم يكل أو استمع لأن الاستماع ينبىء عن طلب زائد وأما إلقاء السمع فمعناه أن الذكرى حاصلة لمن لا يمسك سمعه بل يرسله إرسالاً وإن لم يقصد السماع كالسامع في الصوت الهائل فإنه يحصل عند مجرد فتح الأذن وإن لم يقصد السماع والصوت الخفي لا يسمع إلا باستماع وتطلب فنقول الذكرى حاصلة لمن كان

له قلب كيف كان قلبه لظهورها فإن لم تحصل فلمن له أذن غير مسدودة كيف كان حاله سواء استمع باجتهاده أو لم يجتهد في سماعه فإن قيل فقوله تعالى وَهُوَ شَهِيدٌ للحال وهو يدل على أن إلقاء السمع بمجرده غير كاف نقول هذا يصحح ما ذكرناه لأنا قلنا بأن الذكرى حاصلة لمن له قلب ما فإن لم تحصل له فتحصل له إذا ألقى السمع وهو حاضر بباله من القلب وأما على الأول فمعناه من ليسه له قلب واع يحصل له الذكر إذا ألقى السمع وهو حاضر بقلبه فيكون عند الحضور بقلبه يكون له قلب واع وقد فرض عدمه هذا إذا قلنا بأن قوله وَهُوَ شَهِيدٌ بمعنى الحال وإذا لم نقل به فلا يرد ما ذكر وهو يحتمل غير ذلك بيانه هو أن يقال ذلك إشارة إلى القرآن وتقريره هو أن الله تعالى لما قال في أول السورة ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ ( ق 1 2 ) وذكر ما يدفع تعجبهم وبين كونه منذراً صادقاً وكون الحشر أمراً واقعاً ورغب وأرهب بالثواب والعذاب آجلاً وعاجلاً وأتم الكلام قال إِنَّ فِى ذَلِكَ أي القرآن الذي سبق ذكره لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أو لمن يستمع ثم قال وَهُوَ شَهِيدٌ أي المنذر الذي تعجبتم منه شهيد كما قال تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ( الفتح 8 ) وقال تعالى لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ( الحج 78 ) ثم قال تعالى
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ
أعاد الدليل مرة أخرى وقد ذكرنا تفسير ذلك في الم السجدة وقلنا إن الأجسام ثلاثة أجناس أحدها السماوات ثم حركها وخصصها بأمور ومواضع وكذلك الأرض خلقها ثم دحاها وكذلك ما بينهما خلق أعيانها وأصنافها فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ إشارة إلى ستة أطوار والذي يدل عليه ويقرره هو أن المراد من الأيام لا يمكن أن يكون هو المفهوم في وضع اللغة لأن اليوم عبارة في اللغة عن زمان مكث الشمس فوق الأرض من الطلوع إلى الغروب وقبل السماوات لم يكن شمس ولا قمر لكن اليوم يطلق ويراد به الوقت يقال يوم يولد للملك ابن يكون سرور عظيم ويوم يموت فلان يكون حزن شديد وإن اتفقت الولادة أو الموت ليلاً ولا يتعين ذلك ويدخل في مراد العاقل لأنه أراد باليوم مجرد الحين والوقت إذا علمت الحال من إضافة اليوم إلى الأفعال فافهم ما عند إطلاق اليوم في قوله سِتَّة ِ أَيَّامٍ وقال بعض المفسرين المراد من الآية الرد على اليهود حيث قالوا بدأ الله تعالى خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه في ستة أيام آخرها يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على عرشه فقال تعالى وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ رداً عليهم والظاهر أن المراد الرد على المشرك والاستدلال بخلق السماوات والأرض ومما بينهما وقوله تعالى وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ أي ما تعبنا بالخلق الأول حتى لا نقدر على الإعادة ثانياً والخلق الجديد كما قال تعالى أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ ( ق 15 ) وأما ما قاله اليهود ونقلوه من التوراة فهو إما تحريف منهم أو لم يعلموا تأويله وذلك لأن الأحد والاثنين أزمنة متميز بعضها عن بعض فلو كان خلق السماوات ابتدىء يوم الأحد لكان الزمان متحققاً قبل الأجسام والزمان لا ينفك عن الأجسام فيكون قبل خلق الأجسام أجسام أُخر فيلزم القول بقدم العالم وهو مذهب الفلاسفة ومن العجيب أن بين الفلاسفة والمشبهة غاية الخلاف فإن الفلسفي لا يثبت لله تعالى صفة أصلاً ويقول بأن الله تعالى لا يقبل صفة بل هو واحد من جميع الوجوه فعلمه وقدرته وحياته هو حقيقته وعينه وذاته والمشبهي يثبت لله صفة الأجسام من الحركة والسكون والاستواء والجلوس والصعود والنزول فبينهما

منافاة ثم إن اليهود في هذا الكلام جمعوا بين المسألتين فأخذوا بمذهب الفلاسفة في المسألة التي هي أخص المسائل بهم وهي القدم حيث أثبتوا قبل خلق الأجسام أياماً معدودة وأزمنة محدودة وأخذوا بمذهب المشبهة في المسألة التي هي أخص المسائل بهم وهي الاستواء على العرش فأخطوا ( وضلوا ) وأضلوا في الزمان والمكان جميعاً
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ
ثم قال تعالى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ قال من تقدم ذكرهم من المفسرين إن معناه اصبر على ما يقولون من حديث التعب بالاستلقاء وعلى ما قلناه معناه اصبر على ما يقولون إن هذا لشيء عجيب وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وما ذكرناه أقرب لأنه مذكور وذكر اليهود وكلامهم لم يجر
وقوله وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون الله أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالصلاة فيكون كقوله تعالى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ ( هود 114 )
وقوله تعالى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ إشارة إلى طرفي النهار
وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ
وقوله وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ إشارة إلى زلفاً من الليل ووجه هذا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) له شغلان أحدهما عبادة الله وثانيهما هداية الخلق فإذا هداهم ولم يهتدوا قيل له أقبل على شغلك الآخر وهو عبادة الحق ثانيها سبح بحمد ربك أي نزهه عما يقولون ولا تسأم من امتناعهم بل ذكرهم بعظمة الله تعالى ونزهه عن الشرك والعجز عن الممكن الذي هو الحشر قبل الطلوع وقبل الغروب فإنهما وقت اجتماعهم وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ أي أوائل الليل فإنه أيضاً وقت اجتماع العرب ووجه هذا أنه لا ينبغي أن تسأم من تكذيبهم فإن الرسل من قبلك أوذوا وكذبوا وصبروا على ما كذبوا وأوذوا وعلى هذا فلقوله تعالى وَأَدْبَارَ السُّجُودِ فائدة جليلة وهي الإشارة إلى ما ذكرنا أن شغل الرسول أمر أن العبادة والهداية فقوله وَأَدْبَارَ السُّجُودِ أي عقب ما سجدت وعبدت نزه ربك بالبرهان عند اجتماع القوم ليحصل لك العبادة بالسجود والهداية أدبار السجود ثالثها أن يكون المراد قل سبحان الله وذلك لأن ألفاظاً معدودة جاءت بمعنى التلفظ بكلامهم فقولنا كبر يطلق ويراد به قول القائل الله أكبر وسلم يراد به قوله السلام عليكم وحمد يقال لمن قال الحمد لله ويقال هلل لمن قال لا إلاه إلا الله وسبح لمن قال سبحان الله ووجه هذا أن هذه أمور تتكرر من الإنسان في الكلام والحاجة تدعو إلى الإخبار عنها فلو قال القائل فلان قال لا إلاه إلا الله أو قال الله أكبر طول الكلام فمست الحاجة إلى استعمال لفظة واحدة مفيدة لذلك لعدم تكرر ما في الأول وأما مناسبة هذا الوجه للكلام الذي هو فيه فهي أن تكذيبهم الرسول وتعجبهم من قوله أو استهزاءهم كان يوجب في العادة أن يشتغل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بلعنهم وسبهم والدعاء عليهم فقال فاصبر على ما يقولون واجعل كلامك بدل الدعاء عليهم التسبيح لله والحمد له ولا تكن كصاحب الحوت أو كنوح عليه السلام حيث قال رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً

( نوح 26 ) بل ادع إلى ربك فإذا ضجرت عن ذلك بسبب إصرارهم فاشتغل بذكر ربك في نفسك وفيه مباحث
البحث الأول استعمل الله التسبيح تارة مع اللام في قوله تعالى يُسَبّحُ اللَّهِ ( الجمعة 1 ) و يُسَبّحُونَ لَهُ ( فصلت 38 ) وأخرى مع الباء في قوله تعالى فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ( الواقعة 74 ) و سَبِّحِ بِحَمْدِ رَبّكَ ( طه 42 ) وقوله سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( الأعلى 1 ) فما الفرق بينهما نقول أما الباء فهي الأهم وبالتقديم أولى في هذا الموضع كقوله تعالى وَسَبْعَ بِحَمْدِ رَبّكَ فنقول أما على قولنا المراد من سبح قل سبحان الله فالباء للمصاحبة أي مقترناً بحمد الله فيكون كأنه تعالى قال قل سبحان الله والحمد لله وعلى قولنا المراد التنزيه لذلك أي نزهه وأقرنه بحمده أي سبحه واشكره حيث وفقك الله لتسبيحه فإن السعادة الأبدية لمن سبحه وعلى هذا فيكون المفعول غير مذكور لحصول العلم به من غير ذكر تقديره سبح الله بحمد ربك أي ملتبساً ومقترناً بحمد ربك وعلى قولنا صل نقول يحتمل أن يكون ذلك أمراً بقراءة الفاتحة في الصلاة يقال صلّى فلان بسورة كذا أو صلّى بقل هو الله أحد فكأنه يقول صلّى بحمد الله أي مقروءاً فيها الحمد لله ربّ العالمين وهو أبعد الوجوه وأما التعدية من غير حرف فنقول هو الأصل لأن التسبيح يتعدى بنفسه لأن معناه تبعيد من السوء وأما اللام فيحتمل وجهين أحدهما أن يكون كما في قول القائل نصحته ونصحت له وشكرته وشكرت له وثانيهما أن يكون لبيان الأظهر أي يسبحون الله وقلوبهم لوجه الله خالصة
البحث الثاني قال ههنا سَبِّحِ بِحَمْدِ رَبّكَ ثم قال تعالى وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ من غير باء فما الفرق بين الموضعين نقول الأمر في الموضعين واحد على قولنا التقدير سبح الله مقترناً بحمد ربك وذلك لأن سبح الله كقول القائل فسبحه غير أن المفعول لم يدكر أولاً لدلالة قوله بحمد ربك عليه وثانياً لدلالة ما سبق عليه لم يذكر بحمد ربك الجواب الثاني على قولنا سبح بمعنى صل يكون الأول أمراً بالصلاة والثاني أمراً بالتنزيه أي وصل بحمد ربك في الوقت وبالليل نزهه عما لا يليق وحينئذ يكون هذا إشارة إلى العمل والذكر والفكر فقوله سَبِّحِ إشارة إلى خير الأعمال وهو الصلاة وقوله بِحَمْدِ رَبّكَ إشارة إلى الذكر وقوله وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ إشارة إلى خير الأعمال وهو الصلاة وقوله بِحَمْدِ رَبّكَ إشارة إلى الذكر وقوله وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ إشارة إلى الفكر حين هدوا الأصواب وصفاء الباطن أي نزهه عن كل سوء بفكرك واعلم أنه لا يتصف إلا بصفات الكمال ونعوت الجلال وقوله تعالى وَأَدْبَارَ السُّجُودِ قد تقدم بعض ما يقال في تفسيره ووجه آخر هو أنه إشارة إلى الأمر بإدامة التسبيح فقوله بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ إشارة إلى أوقات الصلاة وقوله وَأَدْبَارَ السُّجُودِ يعني بعدما فرغت من السجود وهو الصلاة فلا تترك تسبيح الله وتنزيهه بل داوم أدبار السجود ليكون جميع أوقاتك في التسبيح فيفيد فائدة قوله تعالى وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ( الكهف 24 ) وقوله فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبّكَ فَارْغَبْ ( الشرح 7 8 ) وقرىء وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
البحث الثالث الفاء في قوله تعالى فَسَبّحْهُ ما وجهها نقول هي تفيد تأكيد الأمر بالتسبيح من الليل وذلك لأنه يتضمن الشرط كأنه يقول وأما من الليل فسبحه وذلك لأن الشرط يفيد أن عند وجوده يجب وجود الجزاء وكأنه تعالى يقول النهار محل الاشتغال وكثرة الشواغل فأما الليل فمحل السكون

والانقطاع فهو وقت التسبيح أو نقول بالعكس الليل محل النوم والثبات والغفلة فقال أما الليل فلا تجعله للغفلة بل اذكر فيه ربك ونزهه
البحث الرابع مِنْ في قوله وَمِنَ الَّيْلِ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون لابتداء الغاية أي من أول الليل فسبحه وعلى هذا فلم يذكر له غاية لاختلاف ذلك بغلبة النوم وعدمها يقال أنا من الليل أنتظرك ثانيهما أن يكون للتبعيض أي اصرف من الليل طرفاً إلى التسبيح يقال من مالك منع ومن الليل انتبه أي بعضه
البحث الخامس قوله وَأَدْبَارَ السُّجُودِ عطف على ماذا نقول يحتمل أن يكون عطفاً على ما قبل الغروب كأنه تعالى قال ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب وأدبار السجود ) وذكر بينهما قوله وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وعلى هذا ففيه ما ذكرنا من الفائدة وهي الأمر بالمداومة كأنه قال سبح قبل طلوع الشمس وإذا جاء وقت الفراغ من السجود قبل الطلوع فسبح وسبح قبل الغروب وبعد الفراغ من السجود قبل الغروب سبحه فيكون ذلك إشارة إلى صرف الليل إلى التسبيح ويحتمل أن يكون عطفاً على وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وعلى هذا يكون عطفاً على الجار والمجرور جميعاً تقديره وبعض الليل ( فسبحه وأدبار السجود ) ثم قال تعالى
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ
هذا إشارة إلى بيان غاية التسبيح يعني اشتغل بتنزيه الله وانتظر المنادي كقوله تعالى وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( الحجر 99 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الذي يستمعه قلنا يحتمل وجوهاً ثلاثة أحدها أن يترك مفعوله رأساً ويكون المقصود كن مستمعاً ولا تكن مثل هؤلاء المعرضين الغافلين يقال هو رجل سميع مطيع ولا يراد مسموع بعينه كما يقال فلان وكاس وفلان يعطي ويمنع ثانيهما استمع لما يوحي إليك ثالثها استمع نداء المنادي
المسألة الثانية يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ منصوب بأي فعل نقول هو مبني على المسألة الأولى إن قلنا استمع لا مفعول له فعامله ما يدل عليه قوله تعالى يَوْمُ الْخُرُوجِ ( ق 42 ) تقديره يخرجون يوم ينادي المنادي وإن قلنا مفعوله لما يوحى فتقديره ( واستمع ) لما يوحى ( يوم ينادي ) ويحتمل ما ذكرنا وجهاً آخر وهو ما يوحي أي ما يوحى يَوْمٍ يُنَادِ الْمُنَادِ اسمعه فإن قيل استمع عطف على فاصبر وسبح وهو في الدنيا والاستماع يكون في الدنيا وما يوحى يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ لا يستمع في الدنيا نقول ليس بلازم ذلك لجواز أن يقال صل وادخل الجنة أي صل في الدنيا وادخل الجنة في العقبى فكذلك ههنا ويحتمل أن يقال بأن استمع بمعنى انتظر فيحتمل الجمع في الدنيا وإن قلنا استمع الصيحة وهو نداء المنادي يا عظام انتشري والسؤال الي ذكره علم الجواب منه وجواب آخر نقوله حينئذ وهو أن الله تعالى قال وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 ) قلنا إن

من شاء الله هم الذين علموا وقوع الصيحة واستيقظوا لها فلم تزعجهم كمن يرى برقاً أومض وعلم أن عقبيه يكون رعد قوي فينظره ويستمع له وآخر غافل فإذا رعد بقوة ربما يغشى على الغافل ولا يتأثر منه المستمع فقال استمع ذلك كي لا تكون ممن يصعق في ذلك اليوم
المسألة الثانية ما الذي ينادي المنادي فيه وجوه محتملة منقولة معقولة وحصرها بأن نقول المنادي إما أن يكون هو الله تعالى أو الملائكة أو غيرهما وهم المكلفون من الإنس والجن في الظاهر وغيرهم لا ينادي فإن قلنا هو تعالى فيه وجوه أحدها ينادي احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ ( الصافات 22 ) ثانيها ينادي أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ( ق 24 ) مع قوله أدخلوها بسلام ( ق 34 ) ومثله قوله تعالى ( ق 34 ) ومثله قوله تعالى خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ( الحاقة 30 ) يدل على هذا قوله تعالى يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ( ق 41 ) وقال وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ( سبأ 51 ) ثالثها غيرهما لقوله تعالى يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِى وغير ذلك وأما على قولنا المنادي غير الله ففيه وجوه أيضاً أحدها قول إسرافيل أيتها العظام البالية اجتمعوا للوصل واستمعوا للفصل ثانيها النداء مع النفس يقال للنفس ارجعي إلى ربك لتدخلي مكانك من الجنة أو النار ثالثها ينادي مناد هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار كما قال تعالى فَرِيقٌ فِى الْجَنَّة ِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ ( الشورى 7 ) وعلى قولنا المنادي هو المكلف فيحتمل أن يقال هو ما بين الله تعالى في قوله وَنَادَوْاْ يامَالِكُ مَالِكَ ( الزخرف 77 ) أو غير ذلك إلا أن الظاهر أن المراد أحد الوجهين الأولين لأن قوله المنادي للتعريف وكون الملك في ذلك اليوم منادياً معروف عرف حاله وإن لم يجر ذكره فيقال قال ( صلى الله عليه وسلم ) وإن لم يكن قد سبق ذكره وأما أن الله تعالى مناد فقد سبق في هذه السورة في قوله أَلْقِيَا ( ق 24 ) وهذا نداء وقوله يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ ( ق 30 ) وهو نداء وأما المكلف ليس كذلك وقوله تعالى مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ إشارة إلى أن الصوت لا يخفى على أحد بل يستوي في استماعه كل أحد وعلى هذا فلا يبعد حمل المنادي على الله تعالى إذ ليس المراد من المكان القريب نفس المكان بل ظهور النداء وهو من الله تعالى أقرب وهذا كما قال في هذه السورة وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 ) وليس ذلك بالمكان ثم قال تعالى
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَة َ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ
هذا تحقيق ما بينا من الفائدة في قوله وَاسْتَمِعْ ( ق 41 ) أي لا تكن من الغافلين حتى لا تصعق يوم الصيحة وبيانه هو أنه قال استمع أي كن قبل أن تستمع مستيقظاً لوقوعه فإن السمع لا بد منه أنت وهم فيه سواء فهم يسمعون لكن من غير استماع فيصعقون وأنت تسمع بعد الاستماع فلا يؤثر فيك إلا ما لا بد منه و يَوْمٍ يحتمل وجوهاً أحدها ما قاله الزمخشري أنه بدل من يوم في قوله وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ والعامل فيهما الفعل الذي يدل عليه قوله تعالى ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ( ق 42 ) أي يخرجون يوم يسمعون ثانيها أن يَوْمَ يَسْمَعُونَ العامل فيه مما في قوله ذلك يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ العامل فيه ما ذكرنا ثالثها أن يقال استمع عامل في يوم ينادي كما ذكرنا وينادي عامل في يسمعون وذلك لأن يوم ينادي وإن لم يجز أن يكون منصوباً بالمضاف إليه وهو ينادي لكن غيره يجوز أن يكون منصوباً به يقال اذكر حال زيد ومذلته يوم ضربه عمرو ويوم كان عمرو والياً إذا كان القائل يريد

بيان مذلة زيد عندما صار زيد يكرم بسبب من الأسباب فلا يكون يوم كان عمرو والياً منصوباً بقوله اذكر لأن غرض القائل التذكير بحال زيد ومذلته وذلك يوم الضرب لكن يوم كان عمرو منصوب بقوله ضربه عمرو يوم كان والياً فكذلك ههنا قال وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ لئلا تكون ممن يفزع ويصعق ثم بين هذا النداء بقوله يُنَادِ الْمُنَادِ يوم يسمعون أي لا يكون نداءً خفياً بحيث لا يسمعه بعض الناس بل يكون نداؤه بحيث تكون نسبته إلى من في أقصى المغرب كنسبته إلى من في المشرق وكلكم تسمعون ولا شك أن مثل هذا الصوت يجب أن يكون الإنسان متهيئاً لاستماعه وذلك يشغل النفس بعبادة الله تعالى وذكره والتفكير فيه فظهر فائدة جليلة من قوله فَاصْبِرْ وَسَبّحْ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ وَيَوْمَ يَسْمَعُونَ واللام في الصيحة للتعريف وقد عرف حالها وذكرها الله مراراً كما في قوله تعالى إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَة ً واحِدَة ً ( ي س 29 ) وقوله ( فإنما هي زجرة واحدة ( الصافات 19 ) وقوله ( فإنما هي زجرة واحدة ( الصافات 19 ) وقوله ( الصافات 19 ) وقوله نَفْخَة ٌ واحِدَة ٌ ( الحاقة 13 ) وقوله بِالْحَقّ جاز أن يكون متعلقاً بالصيحة أي الصحة بالحق يسمعونها وعلى هذا ففيه وجوه
الأول الحق الحشر أي الصيحة بالحشر وهو حق يسمعونها يقال صاح زيد بيا قوم اجتمعوا على حد استعمال تكلم بهذا الكلام وتقديره حينئذ يسمعون الصيحة بيا عظام اجتمعي وهو المراد بالحق الثاني الصيحة بالحق أي باليقين والحق هو اليقين يقل صاح فلان بيقين لا بظن وتخمين أي وجد منه الصياح يقيناً لا كالصدى وغيره وهو يجري مجرى الصفة للصيحة يقال استمع سماعاً بطلب وصاح صيحة بقوة أي قوية فكأنه قال الصيحة المحققة الثالث أن يكون معناه الصيحة المقترنة بالحق وهو الوجود يقال كن فيتحقق ويكون ويقال اذهب بالسلام وارجع بالسعادة أي مقروناً ومصحوباً فإن قيل زد بياناً فإن الباء في الحقيقة للإلصاق فكيف يفهم معنى الإلصاق في هذه المواضع نقول التعدية قد تتحقق بالباء يقال ذهب بزيد على معنى ألصق الذهاب بزيد فوجد قائماً به فصار مفعولاً فعلى قولنا المراد يسمعون صيحة من صاح بيا عظام اجتمعي هو تعدية المصدر بالباء يقال أعجبني ذهاب زيد بعمرو وكذلك قوله الصَّيْحَة َ بِالْحَقّ أي ارفع الصوت على الحق وهو الحشر وله موعد نبينه في موضع آخر إن شاء الله تعالى الوجه الثاني أن يكون الحق متعلقاً بقوله يَسْمَعُونَ أي يسمعون الصيحة بالحق وفيه وجهان الأول هو قول القائل سمعته بيقين الثاني الباء في يسمعون بالحق قسم أي يسمعون الصيحة بالله الحق وهو ضعيف وقوله تعالى ذَلِكَ يَوْمُ فيه وجهان أحدهما ذلك إشارة إلى يوم أي ذلك اليوم يوم الخروج ثانيهما ذلك إشارة إلى نداء المنادي ثم قال تعالى
إِنَّا نَحْنُ نُحْى ِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ
قد ذكرنا في سورة ي س ما يتعلق بقوله كَرِيمٍ إِنَّا نَحْنُ وأما قوله إِنَّا نَحْنُ فالمراد من الإحياء الإحياء أولاً وَنُمِيتُ إشارة إلى الموتة الأولى وقوله وَإِلَيْنَا بيان للحشر فقدم إِنَّا نَحْنُ لتعريف عظمته يقول القائل أنا أنا أي مشهور و إِنَّا نَحْنُ أمور مؤكدة معنى العظمة وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ بيان للمقصود

يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ
وقوله تعالى يَوْمَ تَشَقَّقُ الاْرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً العامل فيه هو ما في قوله يَوْمُ الْخُرُوجِ ( ق 42 ) من الفعل أي يخرجون يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً وقوله سِرَاعاً حال للخارجين لأن قوله تعالى عَنْهُمْ يفيد كونهم مفعولين بالتشقق فكان التشقق عند الخروج من القبر كما يقال كشف عنه فهو مكشوف عنه فيصير سراعاً هيئة المفعول كأنه قال مسرعين والسراع جمع سريع كالكرام جمع كريم
قوله ذَلِكَ حَشْرٌ يحتمل أن يكون إشارة إلى التشقق عنهم ويحتمل أن يكون إشارة إلى الإخراج المدلول عليه بقوله سراعاً ويحتمل أن يكون معناه ذلك الحشر حشر يسير لأن الحشر علم مما تقدم من الألفاظ
وقوله تعالى عَلَيْنَا يَسِيرٌ بتقديم الظرف يدل على الاختصاص أي هو علينا هين لا على غيرنا وهو إعادة جواب قولهم ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ق 3 ) والحشر الجمع ويوم القيامة جمع الأجزاء بعضها إلى بعض وجمع الأرواح مع الأشباح أي يجمع بين كل روح وجسدها وجمع الأمم المتفرقة والرمم المتمزقة والكل واحد في الجمع
نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ
فيه وجوه أحدها تسلية لقلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين وتحريض لهم على ما أمر به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الصبر والتسبيح أي اشتغل بما قلناه ولا يشغلك الشكوى إلينا فإنا نعلم أقوالهم ونرى أعمالهم وعلى هذا فقوله وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ مناسب له أي لا تقل بأني أرسلت إليهم لأهديهم فكيف أشتغل بما يشغلني عن الهداية وهو الصلاة والتسبيح فإنك ما بعثت مسلطاً على دواعيهم وقدرهم وإنما أمرت بالتبليغ وقد بلغت فاصبر وسبح وانتظر اليوم الذي يفصل فيه بينكم ثانيها هي كلمة تهديد وتخويف لأن قوله وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ( ق 43 ) ظاهر في التهديد بالعلم بعملكم لأن من يعلم أن مرجعه إلى الملك ولكنه يعتقد أن الملك لا يعلم ما يفعله لا يمتنع من القبائح أما إذا علم أنه يعلمه وعنده غيبه وإليه عوده يمتنع فقال تعالى وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ و نَّحْنُ أَعْلَمُ وهو ظاهر في التهديد وهذا حينئذ كقوله تعالى ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( الزمر 7 ) ثالثهاُّ تقرير الحشر وذلك لأنه لما بيّن أن الحشر عليه يسير لكمال قدرته ونفوذ إرادته ولكن تمام ذلك بالعلم الشامل حتى يميز بين جزء بدنين جزء بدن زيد وجزء بدن عمرو فقال ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ لكمال قدرتنا ولا يخفى علينا الأجزاء لمكان علمنا وعلى هذا فقوله نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ معناه نحن نعلم عين ما يقولون في قولهم أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ( المؤمنون 82 ) أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الاْرْضِ ( السجدة 10 ) فيقول نحن نعلم الأجزاء التي يقولون فيها إنها ضالة وخفية ولا يكون المراد نحن نعلم وقولهم في الأول جاز أن تكون ما مصدرية فيكون المراد من قوله بِمَا يَقُولُونَ أي قولهم وفي الوجه الآخر تكون خبرية وعلى هذا الدليل فلا يصح قوله نَّحْنُ أَعْلَمُ إذ لا عالم بتلك الأجزاء سواه حتى يقول نَّحْنُ أَعْلَمُ نقول قد علم الجواب عنه مراراً من وجوه
أحدها أن أفعل لا يقتضي الاشتراك في أصل الفعل كما في قوله تعالى وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ

( الأحزاب 37 ) وفي قوله تعالى أَحْسَنُ نَدِيّاً ( مريم 77 ) وفي قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 ) (
ثانيها معناه نحن أعلم بما يقولون من كل عالم بما يعلمه والأول أصح وأظهر وأوضح وأشهر وقوله وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فيه وجوه أحدها أن للتسلية أيضاً وذلك لأنه لما من عليه بالإقبال على الشغل الأخروي وهو العبادة أخبر بأنه لم يصرف عن الشغل الآخر وهو البعث كما أن الملك إذا أمر بعض عبيده بشغلين فظهر عجزه في أحدهما يقول له أقبل على الشغل الآخر ومنهما ونحن نبعث من يقدر على الذي عجزت عن منهما فقال اصْبِر وَسَبّحْ وَمَا أَنتَ بِجَبَّارٍ أي فما كان امتناعهم بسبب تجبر منك أو تكبر فاشمأزوا من سوء خلقك بل كنت بهم رؤوفاً وعليهم عطوفاً وبالغت وبلغت وامتنعوا فأقبل على الصبر والتسبيح غير مصروف عن الشغل الأول بسبب جبروتك وهذا في معنى قوله تعالى مَا أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ إلى أن قال وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( القلم 2 4 ) ثانيها هو بيان أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتى بما عليه من الهداية وذلك لأنه أرسله منذراً وهادياً لا ملجأ ومجبراً وهذا كما في قوله تعالى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ( الشورى 18 ) أي تحفظهم من الكفر والنار وقوله وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ في معنى قول القائل اليوم فلان علينا في جواب من يقول من عليكم اليوم أي من الوالي عليكم ثالثها هو بيان لعدم وقت نزول العذاب بعد وذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما أنذر وأعذر وأظهر لم يؤمنوا كان يقول إن هذا وقت العذاب فقال نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بمسلط فذكر بعذابي إن لم يؤمنوا من بقي منهم ممن تعلم أنه يؤمن ثم تسلط ويؤيد هذا قول المفسرين أن الآية نزلت قبل نزول آية القتال وعلى هذا فقوله فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ أي من بقي منهم ممن يخاف يوم الوعيد وفيه وجوه أُخر أحدها أنا بينا في أحد الوجوه أن قوله تعالى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ ( ق 39 ) معناه أقبل على العبادة ثم قال ولا تترك الهداية بالكلية بل وذكر المؤمنين فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( الذاريات 55 ) وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) وقوله بِالْقُرْءانِ فيه وجوه الأول فذكر بما في القرآن واتل عليهم القرآن يحصل لهم بسبب ما فيه المنفعة الثاني فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ أي بيّن به أنك رسول لكونه معجزاً وإذا ثبت كونك رسولاً لزمهم قبول قولك في جميع ما تقول به الثالث المراد فذكر بمقتضى ما في القرآن من الأوامر الواردة بالتبليغ والتذكير وحينئذ يكون ذكر القرآن لانتفاع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) به أي اجعل القرآن إمامك وذكرهم بما أخبرت فيه بأن تذكرهم وعلى الأول معناه اتل عليهم القرآن ليتذكروا بسببه وقوله تعالى مَن يَخَافُ وَعِيدِ من جملة ما يبين كون الخشية دالة على عظمة المخشي أكثر مما يدل عليه الخوف حيث قال يَخَافُ عندما جعل المخوف عذاب ووعيده وقال اخشوني ( البقرة 150 ) عندما جعل المخوف نفسه العظيم وفي هذه الآية إشارة إلى الأصول الثلاثة وقوله تَزَكَّى وَذَكَرَ إشارة إلى أنه مرسل مأمور بالتذكير منزل عليه القرآن حيث قال بِالْقُرْءانِ وقوله وَعِيدِ إشارة إلى اليوم الآخر وضمير المتكلم في قوله وَعِيدِ يدل على الوحدانية فإنه لو قال من يخاف وعيد الله كان يذهب وهم الله إلى كل صوب فلذا قال وَعِيدِ والمتكلم أعرف المعارف وأبعد عن الإشراك به وقبول الاشتراك فيه وقد بينا في أول السورة أن أول السورة وآخرها متقاربان في المعنى حيث قال في الأول ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ ( ق 1 ) وقال في آخرها فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ
وهذا آخر تفسير هذه السورة والحمد لله ربّ العالمين وصلاته على خاتم النبيّين وسيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه وأزواجه وذريته أجمعين

سورة الذاريات
ستون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالذَارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً
أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها وذلك لأنه تعالى لما بيّن الحشر بدلائله وقال ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيراً ( ق 44 ) وقال وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ( ق 45 ) أي تجبرهم وتلجئهم إلى الإيمان إشارة إلى إصرارهم على الكفر بعد إقامة البرهان وتلاوة القرآن عليهم لم يبق إلا اليمين فقال وَالذرِيَاتِ ذَرْواً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وأول هذه السورة وآخرها متناسبان حيث قال في أولها إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( الذاريات 5 ) وقال في آخرها فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ ( الذاريات 60 ) وفي تفسير الآيات مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا الحكمة وهي في القسم من المسائل الشريفة والمطالب العظيمة في سورة والصافات ونيدها ههنا وفيها وجوه الأول أن الكفار كانوا في بعض الأوقات يعترفون بكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غالباً في إقامة الدليل وكانوا ينسبونه إلى المجادلة وإلى أنه عارف في نفسه بفساد ما يقوله وإنه يغلبنا بقوة الجدل لا بصدق المقال كما أن بعض الناس إذا أقام عليه الخصم الدليل ولم يبق له حجة يقول إنه غلبني لعلمه بطريق الجدل وعجزي عن ذلك وهو في نفسه يعلم أن الحق بيدي فلا يبقى للمتكلم المبرهن طريق غير اليمين فيقول والله إن الأمر كما أقول ولا أجادلك بالباطل وذلك لأنه لو سلك طريقاً آخر من ذكر دليل آخر فإذا تم الدليل الآخر يقول الخصم فيه مثل ما قال في الأول إن ذلك تقرير بقوة علم الجدل فلا يبقى إلا السكوت أو التمسك بالإيمان وترك إقامة البرهان الثاني هو أن العرب كانت تحترز عن الأيمان

الكاذبة وتعتقد أنها تدع الديار بلافع ثم إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أكثر من الأيمان بكل شريف ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتاً وكان يحصل لهم العلم بأنه لا يحلف بها كاذباً وإلا لأصابه شؤم الإيمان ولناله المكروه في بعض الأزمان الثالث وهو أن الأيمان التي حلف الله تعالى بها كلها دلائل أخرجها في صورة الأيمان مثاله قول القائل لمنعمه وحق نعمك الكثيرة إني لا أزال أشكرك فيذكر النعم وهي سبب مفيد لدوام الشكر ويسلك مسلك القسم كذلك هذه الأشياء كلها دليل على قدرة الله تعالى على الإعادة فإن قيل فلم أخرجها مخرج الإيمان نقول لأن المتكلم إذا شرع في أول كلامه بحلف بعلم السامع أنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم فيصغي إليه أكثر من أن يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر فبدأ بالحلف وأدرج الدليل في صورة اليمين حتى أقبل القوم على سماعه فخرج لهم البرهان المبين والتبيان المتين في صورة اليمين وقد استوفينا الكلام في سورة الصافات
المسألة الثانية في جميع السور التي أقسم الله في ابتدائها بغير الحروف كان القسم لإثبات أحد الأصول الثلاثة وهي الوحدانية والرسالة والحشر وهي التي يتم بها الإيمان ثم إنه تعالى لم يقسم لإثبات الوحدانية إلا في سورة واحدة من تلك السور وهي وَالصَّافَّاتِ حيث قال فيها إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ( الصافات 4 ) وذلك لأنهم وإنن كانوا يقولون أَجَعَلَ الآلِهَة َ إِلَهاً واحِداً ( ص 50 ) على سبيل الإنكار وكانوا يبالغون في الشرك لكنهم في تضاعيف أقوالهم وتصاريف أحوالهم كانوا يصرحون بالتوحيد وكانوا يقولون ( ص 50 ) على سبيل الإنكار وكانوا يبالغون في الشرك لكنهم في تضاعيف أقوالهم وتصاريف أحوالهم كانوا يصرحون بالتوحيد وكانوا يقولون مَا نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) وقال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( الزمر 38 ) فلم يبالغوا في الحقيقة في إنكار المطلوب الأول فاكتفى بالبرهان ولم يكثر من الأيمان وفي سورتين منها أقسم لإثبات صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكونه رسولاً في إحداهما بأمر واحد وهو قوله تعالى وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ( النجم 1 2 ) وفي الثانية بأمرين وهو قوله تعالى وَالضُّحَى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ( الضحى 1 3 ) وذلك لأن القسم على إثبات رسالته قد كثر بالحروف والقرآن كما في قوله تعالى يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ي س 1 3 ) وقد ذكرنا الحكم فيه أن معجزات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) القرآن فأقسم به ليكون في القسم الإشارة واقعة إلى البرهان وفي باقي السور كان المقسم عليه الحشر والجزاء وما يتعلق به لكون إنكارهم في ذلك خارجاً عن الحد وعدم استيفاء ذلك في صورة القسم بالحروف
المسألة الثالثة أقسم الله تعالى بجموع السلامة المؤنثة في سور خمس ولم يقسم بجموع السلامة المذكورة في سورة أصلاً فلم يقل والصالحين من عبادي ولا المقربين إلى غير ذلك مع أن المذكر أشرف وذلك لأن جموع السلام بالواو والنون في الأمر الغالب لمن يعقل وقد ذكرنا أن القسم بهذه الأشياء ليس لبيان التوحيد إلا في صورة ظهور الأمر فيه وحصول الاعتراف منهم به ولا للرسالة لحصول ذلك في صور القسم بالحروف والقرآن
بقي أن يكون المقصود إثبات الحشر والجزاء لكن إثبات الحشر لثواب الصالح وعذاب الصالح ففائدة ذلك راجع إلى من يعقل فكان الأمر يقتضي أن يكون القسم بغيرهم والله أعلم
المسألة الرابعة في السورة التي أقسم لإثبات الوحدانية أقسم في أول الأمر بالساكنات حيث قال

وَالصَّافَّاتِ ( الصافات 1 ) وفي السور الأربع الباقية أقسم بالمتحركات فقال وَالذرِيَاتِ وقال وَالْمُرْسَلَاتِ ( المرسلات 1 ) وقال وَالنَّازِعَاتِ ( النازعات 1 ) ويؤيده قوله تعالى وَالسَّابِحَاتِ فَالسَّابِقَاتِ ( النازعات 3 4 ) وقال وَالْعَادِيَاتِ ( العاديات 1 ) وذلك لأن الحشر فيه جمع وتفريق وذلك بالحركة أليق أو أن نقول في جميع السور الأربع أقسم بالرياح على ما بين وهي التي تجمع وتفرق فالقادر على تأليف السحاب المتفرق بالرياح الذارية والمرسلة قادر على تأليف الأجزاء المتفرقة بطريق من الطرق التي يختارها بمشيئته تعالى
المسألة الخامسة في الذاريات أقوال الأول هي الرياح تذور التراب وغيره كما قال تعالى تَذْرُوهُ الرّياحُ ( الكهف 45 ) الثاني هي الكواكب من ذرا يذرو إذا أسرع الثالث هي الملائكة الرابع رب الذاريات والأول أصح
المسألة السادسة الأمور الأربعة جاز أن تكون أموراً متباينة وجاز أن تكون أمراً له أربع اعتبارات الأول هي ما روي عن علي عليه السلام أن الذاريات هي الرياح والحاملات هي السحاب والجاريات هي السفن والمقسمات هي الملائكة الذين يقسمون الأرزاق والثاني وهو الأقرب أن هذه صفات أربع للرياح فالذاريات هي الرياح التي تنشىء السحاب أولاً والحاملات هي الرياح التي تحمل السحب التي هي بخار المياه التي إذا سحت جرت السيول العظيمة وهي أوقار أثقال من جبال والجاريات هي الرياح التي تجري بالسحب بعد حملها والمقسمات هي الرياح التي تفرق الأمطار على الأقطار ويحتمل أن يقال هذه أمور أربعة مذكورة في مقابلة أمور أربعة بها تتم الإعادة وذلك لأن الأجزاء التي تفرقت بعضها في تخوم الأرضين وبعضها في قعور البحور وبعضها في جو الهواء وهي الأجزاء اللطيفة البخارية التي تنفصل عن الأبدان فقوله تعالى وَالذرِيَاتِ يعني الجامع للذاريات من الأرض على أن الذارية هي التي تذرو التراب عن وجه الأرض وقوله تعالى فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً هي التي تجمع الأجزاء من الجو وتحمله حملاً فإن التراب لا ترفعه الرياح حملاً بل تنقله من موضع وترميه في موضع بخلاف السحاب فإنه يحمله وينقله في الجو حملاً لا يقع منه شيء وقوله فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً إشارة إلى الجامع من الماء فإن من يجري السفن الثقيلة من تيار البحار إلى السواحل يقدر على نقل الأجزاء من البحر إلى البر فإذا تبين أن الجمع من الأرض وجو الهواء ووسط البحار ممكن وإذا اجتمع يبقى نفخ الروح لكن الروح من أمر الله كما قال تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( الإسراء 85 ) فقال فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً الملائكة التي تنفخ الروح في الجسد بأمر الله وإنما ذكرهم بالمقسمات لأن الإنسان في الأجزاء الجسمية غير مخالف تخالفاً بيناً فإن لكل أحد رأساً ورجلاً والناس متقاربة في الأعداد والأقدار لكن التفاوت الكثير في النفوس فإن الشريفة والخسيسة بينهما غاية الخلاف وتلك القسمة المتفاوتة تنقسم بمقسم مختار ومأمور مختار فقال فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً
المسألة الخامسة ما هذه المنصوبات من حيث النحو فنقول أما ذَرْواً فلا شك في كونه منصوباً على أنه مصدر وأما وِقْراً فهو مفعول به كما يقال حمل فلان عدلاً ثقيلاً ويحتمل أن يكون اسماً أقيم مقام المصدر كما يقال ضربه سوطاً يؤيده قراءة من قرأ بفتح الواو وأما يُسْراً فهو أيضاً منصوب

على أنه صفة مصدر تقديره جرياً ذا يسر وأما لَكَ أمْراً فهو إما مفعول به كما يقال فلان قسم الرزق أو المال وإما حال أتى على صورة المصدر كما يقال قتلته صبراً أي مصبوراً كذلك ههنا لَكَ أمْراً أي مأمورة فإن قيل إن كان وِقْراً مفعوله به فلم لم يجمع ومما قيل والحاملات أوقاراً نقول لأن الحاملات على ما ذكرنا صفة الرياح وهي تتوارد على وقر واحد فإن ريحاً تهب وتسوق السحابة فتسبق السحاب فتهب أخرى وتسوقها وربما تتحول عنه يمنة ويسرة بسبب اختلاف الرياح وكذلك القول في المقسمات أمراً إذا قلنا هو مفعول به لأن جماعة يكونون مأمورين تنقسم أمراً واحداً أو نقول هو في تقدير التكرير كأنه قال فالحاملات وقراً وقراً والمقسمات أمراً أمراً
المسألة الثامنة ما فائدة الفاء نقول إن قلنا إنها صفات الرياح فلبيان ترتيب الأمور في الوجود فإن الذاريات تنشىء السحاب فتقسم الأمطار على الأمطار وإن قلنا إنها أمور أربعة فالفاء للترتيب في القسم لا للترتيب في القسم لا للترتيب في المقسم به كأنه يقول أقسم بالرياح الذاريات ثم بالسحب الحاملات ثم بالسفن الجاريات ثم بالملائكة المقسمات وقوله فَالْحَامِلَاتِ وقوله فَالْجَارِيَاتِ إشارة إلى بيان ما في الرياح من الفوائد أما في البر فإنشاء السحب وأما في البحر فإجراء السفن ثم المقسمات إشارة إلى ما يترتب على حمل السحب وجري السفن من الأرزاق والأرياح التي تكون بقسمة الله تعالى فتجري سفن بعض الناس كما يشتهي ولا تربح وبعضهم تربح وهو غافل عنه كما قال تعالى نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ ( الزخرف 32 ) ثم قال تعالى
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ
( ما ) يحتمل أن يكون مصدرية معناه الإيعاد صادق و ( إن ) تكون موصولة أي الذي توعدون صادق والصادق معناه ذو صدق كعيشة راضية ووصف المصدر بما يوصف به الفاعل بالمصدر فيه إفادة مبالغة فكما أن من قال فلان لطف محض وحلم يجب أن يكون قد بالغ كذلك من قال كلام صادق وبرهان قاهر للخصم أو غير ذلك يكون قد بالغ والوجه فيه هو أنه إذا قال هو لطف بدل قوله لطيف فكأنه قال اللطيف شيء له لطف ففي اللطيف لطف وشيء آخر فأراد أن يبين كثرة اللطف فجعله كله لطفاً وفي الثاني لما كان الصدق يقوم بالمتكلم بسبب كلامه فكأنه قال هذا الكلام لا يحوج إلى شيء آخر حتى يصح إطلاق الصادق عليه بل هو كاف في إطلاق الصادق لكونه سبباً قوياً وقوله تعالى تُوعَدُونَ يحتمل أن يكون من وعد ويحتمل أن يكون من أوعد والثاني هو الحق لأن اليمين مع المنكر بوعيد لا بوعد وقوله تعالى
وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ
أي الجزاء كائن وعلى هذا فالإبعاد بالحشر في الموعد هو الحساب والجزاء هو العقاب فكأنه بيّن بقوله إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ أن الحساب يستوفي والعقاب يوفى ثم قال تعالى
وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ
وفي تفسيره مباحث

الأول وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ قيل الطرائق وعلى هذا فيحتمل أن يكون المراد طرائق الكواكب وممراتها كما يقال في المحابك ويحتمل أن يكون المراد ما في السماء من الأشكال بسبب النجوم فإن في سمت كواكبها طريق التنين والعقرب والنسر الذي يقول به أصحاب الصور ومنطقة الجوزاء وغير ذلك كالطرائق وعلى هذا فالمراد به السماء المزينة بزينة الكواكب ومثله قوله تعالى وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ( البروج 1 ) وقيل حبكها صفاقها يقال في الثوب الصفيق حسن الحبك وعلى هذا فهو كقوله تعالى وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ ( الطارق 11 ) لشدتها وقوتها وهذا ما قيل فيه
البحث الثاني في المقسم عليه وهو قوله تعالى إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ وفي تفسيره أقوال مختلفة كلها محكمة الأول إنكم لفي قول مختلف في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) تارة يقولون إنه أمين وأخرى إنه كاذب وتارة تنسبونه إلى الجنون وتارة تقولون إنه كاهن وشاعر وساحر وهذا محتمل لكنه ضعيف إذ لا حاجة إلى اليمين على هذا لأنهم كانوا يقولون ذلك من غير إنكار حتى يؤكد بيمين الثاني إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ أي غير ثابتين على أمر ومن لا يثبت على قول لا يكون متيقناً في اعتقاده فيكون كأنه قال تعالى والسماء إنكم غير جازمين في اعتقادكم وإنما تظهرون الجزم لشدة عنادكم وعلى هذا القول فيه فائدة وهي أنهم لما قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنك تعلم أنك غير صادق في قولك وإنما تجادل ونحن نعجز عن الجدل قال وَالذرِيَاتِ ذَرْواً أي أنك صادق ولست معانداً ثم قال تعالى بل أنتم والله جازمون بأني صادق فعكس الأمر عليهم الثالث إنك لفي قول مختلف أي متناقض أما في الحشر فلأنكم تقولون لا حشر ولا حياة بعد الموت ثم تقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة فإذا كان لا حياة بعد الموت ولا شعور للميت فماذا يصيب آباءكم إذا خالفتموهم وإنما يصح هذا ممن يقولون بأن بعد الموت عذاباً فلو علمنا شيئاً يكرهه الميت يبدي فلا معنى لقولكم إنا لا ننسب آباءنا بعد موتهم إلى الضلال وكيف وأنتم تربطون الركائب على قبور الأكابر وأما في التوحيد فتقولون خالق السماوات والأرض هو الله تعالى لا غيره ثم تقولون هو إلاه الآلهة وترجعون إلى الشرك وأما في قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فتقولون إنه مجنون ثم تقولون له إنك تغلبنا بقوة جدلك والمجنون كيف يقدر على الكلام المنتظم المعجز إلى غير ذلك من الأمور المتناقضة ثم قال تعالى
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ
وفيه وجوه أحدها أنه مدح للمؤمنين أي يؤفك عن القول المختلف ويصرف من صرف عن ذلك القول ويرشد إلى القول المستوي وثانيها أنه ذم معناه يؤفك عن الرسول ثالثها يؤفك عن القول بالحشر رابعها يؤفك عن القرآن وقرىء يؤفن عنه من أفن أي يحرم وقرىء يؤفك عنه من أفك أي كذب ثم قال تعالى
قُتِلَ الْخَرَاصُونَ
وهذا يدل على أن المراد من قوله لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( الذاريات 8 ) أنهم غير ثابتين على أمر وغير جازمين بل هم يظنون ويخرصون ومعناه لعن الخراصون دعاء عليهم بمكروه ثم وصفهم فقال
الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَة ٍ سَاهُونَ
وفيه مسألتان إحداهما لفظية والأخرى معنوية
أما اللفظية فقوله سَاهُونَ يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر والمبتدأ هو قوله هُمْ وتقديره هم

كائنون في غمرة ساهون كما يقال زيد جاهل جائز لا على قصد وصف الجاهل بالجائز بل الإخبار بالوصفين عن زيد ويحتمل أن يكون سَاهُونَ خبراً و فِى غَمْرَة ٍ ظرف له كما يقال زيد في بيته قاعد يكون الخبر هو القاعد لا غير وفي بيته لبيان ظرف القعود كذلك فِى غَمْرَة ٍ لبيان ظرف السهو الذي يصحح وصف المعرفة بالجملة ولولاها لما جاز وصف المعرفة بالجملة
وأما المعنوية فهي أن وصف الخراص بالسهو والانهماك في الباطل يحقق ذلك كون الخراص صفة ذم وذلك لأن ما لا سبيل إليه إلا الظن إذا خرص الخارص وأطلق عليه الخراص لا يكون ذلك مفيد نقص كما يقال في خراص الفواكه والعساكر وغير ذلك وأما الخرص في محل المعرفة واليقين فهو ذم فقال قتل الخراصون الذين هم جاهلون ساهلون لا الذين تعين طريقهم في التخمين والحزر وقوله تعالى سَاهُونَ بعد قوله فِى غَمْرَة ٍ يفيد أنهم وقعوا في جهل وباطل ونسوا أنفسهم يه فلم يرجعوا عنه ثم قال تعالى
يَسْألُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ
فإن قيل الزمان يجعل ظرف الأفعال ولا يمكن أن يكون الزمان ظرفاً لظرف آخر وههنا جعل أيان ظرف اليوم فقال أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ ويقال متى يقدم زيد فيقال يوم الجمعة ولا يقال متى يوم الجمعة فالجواب التقدير متى يكون يوم الجمعة وأيان يكون يوم الدين وأيان من المركبات ركب من أي التي يقع بها الاستفهان وآن التي هي الزمان أو من أي وأوان فكأنه قال أي أوان فلما ركب بني وهذا منهم جواب لقوله وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ فكأنهم قالوا أيان يقع استهزاء وترك المسؤول في قوله يُسْئَلُونَ حيث لم يقل يسألون من يدل على أن غرضهم ليس بالجواب وإنما يسألون استهزاء وقوله تعالى
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ
يحتمل وجهين أحدهما أن يكون جواباً عن قولهم أَيَّانَ يقع وحينئذ كما أنهم لم يسألوا سؤال مستفهم طالب لحصول العلم كذلك لم يجبهم جواب مجيب معلم مبين حيث قال يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ وجهلهم بالثاني أقوى من جهلهم بالأول ولا يجوز أن يكون الجواب بالأخفى فإذا قال قائل متى يقدم زيد فلو قال المجيب يوم يقدم رفيقه ولا يعلم يوم قدوم الرفيق لا يصح هذا الجواب إلا إذا كان الكلام في صورة جواب ولا يكون جواباً كما أن القائل إذا قال كم تعد عداتي تخلفها إلى متى هذا الإخلاف فيغضب ويقول إلى أشأم يوم عليك الكلامان في صورة سؤال وجواب ولا الأول يريد به السؤال ولا الثاني يريد به الجواب فكذلك ههنا قال يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ مقابلة استهزائهم بالإيعاد لا على وجه الإتيان والثاني أن يكون ذلك ابتداء كلام تمامه في قوله تعالى
ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
فإن قيل هذا يفضي إلى الإضمار نقول الإضمار لا بد منه لأن قوله ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ غير متصل بما قبله إلا بإضمار يقال ويفتنون قيل معناه يحرقون والأولى أن يقال معناه يعرضون على النار عرض المجرب الذهب على النار كلمة على تناسب ذلك ولو كان المراد يحرقون لكان بالنار أو في النار أليق لأن الفتنة هي التجربة وأما ما يقال من اختبره ومن أنه تجربة الحجارة فعنى بذلك المعنى مصدر الفتن وههنا يقال ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ والفتنة الامتحان فإن قيل فإذا جعلت يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ مقولاً لهم ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ فما قوله هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ

قلنا يحتمل أن يكون المراد كنتم تستعجلون بصريح القول كما في قوله تعالى حكاية عنهم رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا ( ص 16 ) وقوله فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ( الأعراف 70 ) إلى غير ذلك يدله عليه ههنا قوله تعالى يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ ( الذاريات 12 ) فإنه نوع استعجال ويحتمل أن يكون المراد الاستعجال بالفعل وهو الإصرار على العنار وإظهار الفساد فإنه يعجل العقوبة ثم قال تعالى
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
بعد بيان حال المغترين المجرمين بين حال المحق المتقي وفيه مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا أن المتقي له مقامات أدناها أن يتقي الشرك وأعلاها أن يتقي ما سوى الله وأدنى درجات المتقي الجنة فما من مكلف اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة فيرزق نعيمها
المسألة الثانية الجنة تارة وحدها كما قال تعالى مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ( الرعد 35 ) وأخرى جمعها كما في هذا المقام قال إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وتارة ثناها فقال تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) فما الحكمة فيه نقول أما الجنة عند التوحيد فلأنها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة وأما حكمة الجمع فلأنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إلى جنانها جنات لا يحصرها عدد وأما التثنية فسنذكرها في سورة الرحمن غير أنا نقول ههنا الله تعالى عند الوعد وحَّد الجنة وكذلك عند الشراء حيث قال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ ( التوبة 111 ) وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة والخلاف ما لو وعد بجنات ثم كان يقول إنه في جنة لأنه دون الموعود الثالثة قوله تعالى وَعُيُونٍ يقتضي أن يكون المتقي فيها ولا لذة في كون الإنسان في ماء أو غير ذلك من المائعات نقول معناه في خلال العيون وذلك بين الأنهار بدليل أن قوله تعالى فِي جَنَّاتِ ليس معناه إلا بين جنات وفي خلالها لأن الجنة هي الأشجار وإنما يكون بينها كذلك القول في العيون والتنكير مع أنها معرفة للتعظيم يقال فلان رجل أي عظيم في الرجولية
ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ
وقوله تعالى ءاخِذِينَ مَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ فيه مسائل ولطائف أما المسائل
فالأولى منها ما معنى آخذين نقول فيه وجهان أحدهما قابضين ما آتاهم شيئاً فشيئاً ولا يستوفونه بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له ثانيها آخذين قابلين قبول راض كما قال تعالى وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ( التوبة 104 ) أي يقبلها وهذا ذكره الزمخشري وفيه وجه ثالث وهو أن قوله فِي جَنَّاتِ يدل على السكنى فحسب وقوله ءاخِذِينَ يدل على التملك ولذا يقال أخذ بلاد كذا وقلعة كذا إذا دخلها متملكاً لها وكذلك يقال لمن اشترى داراً أو بستاناً أخذه بثمن قليل أي تملكه وإن لم يكن هناك قبض حساً ولا قبول برضا وحينئذ فائته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعير أو ضعف يسترد منه ذلك بل هو ملكه الذي اشتراه بماله ونفسه من الله تعالى وقوله ءاتَاهُمُ يكون لبيان أن أخذهم ذلك لم يكن عنوة وفتوحاً وإنما كان

بإعطاء الله تعالى وعلى هذا الوجه مَا راجعة إلى الجنّات والعيون
وقوله إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ إشارة إلى ثمنها أي أخذوها وملكوها بالإحسان كما قال تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ( يونس 26 ) بلام الملك وهي الجنة
المسألة الثانية ءاخِذِينَ حال وهو في معنى قول القائل يأخذون فكيف قال ما آتاهم ولم يقل ما يؤتيهم ليتفق اللفظان ويوافق المعنى لأن قوله ءاتَاهُمُ ينبىء عن الانقراض وقوله يُؤْتِيهِمْ تنبيه على الدوام وإيتاء الله في الجنة كل يوم متجدد ولا نهاية له ولا سيما إذا فسرنا الأخذ بالقبول كيف يصح أن يقال فلان يقبل اليوم ما آتاه زيد أمس نقول أما على ما ذكرنا من التفسير لا يرد لأن معناه يتملكون ما أعطاهم وقد يوجد الإعطاء أمس ويتملكاليوم وأما على ما ذكروه فنقول الله تعالى أعطى المؤمن الجنة وهو في الدنيا غير أنه لم يكن جنى ثمارها فهو يدخلها على هيئة الآخذ وربما يأخذ خيراً مما أتاه ولا ينافي ذلك كونه داخلاً على تلك الهيئة يقول القائل جئتك خائفاً فإذا أنا آمن وما ذكرتم إنما يلزم أن لو كان أخذهم مقتصراً على ما آتاهم من قبل وليس كذلك وإنما هم دخلوها على ذلك ولم يخطر ببالهم غيره فيؤتيهم الله ما لم يخطر ببالهم فيأخذون ما يؤتيهم الله وإن دخلوها ليأخذوا ما آتاهم وقوله تعالى إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ اليَوْمَ فِى شُغُلٍ هو أخذهم ما آتاهم وقد ذكرناه في سورة ي س ( 55 )
المسألة الثالثة ذالِكَ إشارة إلى ماذا نقول يحتمل وجهين أحدهما قبل دخولهم لأن قولهتعالى فِي جَنَّاتِ فيه معنى الدخول يعني قبل دخولهم الجنة أحسنوا ثانيهما قبل إيتاء الله ما آتاهم الحسنى وهي الجنة فأخذوها وفيه وجوه أُخر وهو أن ذلك إشارة إلى يوم الدين وقد تقدم وأما اللطائف فقد سبق بعضها ومنها أن قوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ لما كان إشارة إلى التقوى من الشرك كان كأنه قال الذين آمنا لكن الإيمان مع العمل الصالح يفيد سعادتين ولذلك دلالة أتم من قول القائل أنهم أحسنوا اللطيفة الثانية أما التقوى فلأنه لما قال لا إلاه فقد اتقى الشرك وأما الإحسان فلأنه لما قال إلا الله فقد أتى بالإحسان ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى إنها لا إلاه إلا الله وفي الإحسان قال تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ ( فصلت 33 ) وقيل في تفسير هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ ( الرحمن 60 ) إن الإحسان هو الإتيان بكلمة لا إلاه إلا الله وهما حينئذ لا يتفاصلان بل هما متلازمان وقوله تعالى
كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
كالتفسير لكونهم محسنين تقول حاتم كان سخياً كان يبذل موجوده ولا يترك مجهوده وفيه مباحث
الأول قللاً منصوب على الظرف تقديره يهجعون قليلاً تقول قام بعض الليل فتنصب بعض على الظرف وخبر كان هو قوله مَا يَهْجَعُونَ و ( ما ) زائدة هذا هو المشهور وفيه وجه آخر وهو أن يقال كانوا قليلاً معناه نفي النوم عنهم وهذا منقول عن الضحاك ومقاتل وأنكر الزمخشري كون ما نافية وقال لا يجوز أن تكون نافية لأن بعد ما لا يعمل فيما قبلها لا تقول زيداً ما ضربت ويجوز أن يعمل ما بعد لم فيما تقول زيداً لم أضرب وسبب ذلك هو أن الفعل المتعدي إنما يفعل في النفي حملاً له على الإثبات لأنك إذا قلت ضرب زيد عمراً ثبت تعلق فعله بعمرو فإذا قلت ما ضربه لم يوجد منه فعل حتى يتعلق به ويتعدى إليه لكن المنفي محمول على الإثبات فإذا ثبت هذا فالنفي بالنسبة إلى الإثبات كاسم الفاعل بالنسبة إلى الفعل فإنه يعمل عمل

الفعل لكن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل فلا تقول زيد ضارب عمراً أمس وتقول زيد ضارب عمراً غداً واليوم والآن لأن الماضي لم يبق موجوداً ولا متوقع الوجود فلا يتعلق بالمفعول حقيقة لكن الفعل لقوته يعمل واسم الفاعل لضعفه لم يعمل إذا عرفت هذا فنقول ما ضرب للنفي في المضي فاجتمع فيه النفي والمضي فضعف وأما لم أضرب وإن كان يقلب المستقبل إلى الماضي لكن الصيغة صيغة المستقبل فوجد فيه ما يوجد في قول القائل زيد ضارب عمراً غداً فاعمل هذا بيان قوله غير أن القائل بذلك القول يقول قَلِيلاً ليس منصوباً بقوله يَهْجَعُونَ وإنما ذلك خبر كانوا أي كانوا قليلين ثم قال وَمِنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ أي ما يهجعون أصلاً بل يحيون الليل جميعه ومن يكون لبيان الجنس لا للتبعيض وهذا الوجه حينئذ فيه معنى قوله تعالى قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ ( ص 24 ) وذلك لأنا ذكرنا أن قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ ( الذاريات 16 ) فيه معنى الذين آمنوا وقوله مُحْسِنِينَ فيه معئنى الذين عملوا الصالحات وقوله كَانُواْ قَلِيلاً فيه معنى قوله تعالى وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ
البحث الثاني على القول المشهور وهو أن ما زائدة يحتمل أن يكون قليلاً صفة مصدر تقديره يهجعون هجوعاً قليلاً
البحث الثالث يمكن أن يقال قَلِيلاً منصوب على أنه خبر كان و ( ما ) مصدرية تقديره كان هجوعهم من الليل قليلاً كما يقال كان زيد خلقه حسناً فلا يحتاج إلى القول بزيادة واعلم أن النحاة لا يقولون فيه إنه بدل فيفرقون بين قول القائل زيد حسن وجهه أو الوجه وبين قوله زيد وجهه حسن فيقولون في الأول صفة وفي الثاني بدل ونحن حيث قلنا إنه من باب بدل الاشتمال أردنا به معنى لا اصطلاحاً وإلا فقليلاً عند التقديم ليس في النحو مثله عند التأخير حتى قولك فلان قليل هجوعه ليس ببدل وفلان هجوعه قليل بدل وعلى هذا يمكن أن تكون ما موصولة معناه كان ما يهجعون فيه قليلاً من الليل هذا ما يتعلق باللفظ أما ما يتعلق بالمعنى فنقول تقديم قليلاً في الذكر ليس لمجرد السجع حتى يقع يهجعون ويستغفرون في أواخر الآيات بل فيه فائدتان الأولى هي أن الهجوع راحة لهم وكان المقصود بيان اجتهادهم وتحملهم السهر لله تعالى فلو قال كانوا يهجعون كان المذكور أولاً راحتهم ثم يصفه بالقلة وربما يغفل الإنسان السامع عما بعد الكلام فيقول إحسانهم وكونهم محسنين بسبب أنهم يهجعون وإذا قدم قوله قَلِيلاً يكون السابق إلى الفهم قلة الهجوع وهذه الفائدة من يراعيها يقول فلان قليل الهجوع ولا يقول هجوعه قليل لأن الغرض بيان قلة الهجوع لا بيان الهجوع بوصف القلة أو الكثرة فإن الهجوع لو لم يكن لكان نفي القلة أولى ولا كذلك قلة الهجوع لأنها لو لم تكن لكان بدلها الكثرة في الظاهر
الفائدة الثانية في قوله تعالى مِّنَ الَّيْلِ وذلك لأن النوم القليل بالنهار قد يوجد من كل أحد وأما الليل فهو زمان النوم لا يسهره في الطاعة إلا متعبد مقبل فإن قيل الهجوع لا يكون إلا بالليل والنوم نهاراً لا يقال له الهجوع قلنا ذكر الأمر العام وإرادة التخصيص حسن فنقول رأيت حيواناً ناطقاً فصيحاً وذكر الخاص وإرادة العام لا يحسن إلا في بعض المواضع فلا نقول رأيت فصيحاً ناطقاً حيواناً إذا عرفت هذا فنقول في قوله تعالى كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ ذكر أمراً هو كالعام يحتمل أن يكون بعده كانوا من الليل يسبحون ويستغفرون أو يسهرون أو غير ذلك فإذا قال يهجعون فكأنه خصص ذلك العام المحتمل له ولغيره فلا إشكال فيه

ثم قال تعالى
وَبِالاٌّ سْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه ويستغفرون من التقصير وهذا سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ويعتذر من التقصير واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمن به
وفيه وجه آخر ألطف منه وهو أنه تعالى لما بيّن أنهم يهجعون قليلاً والهجوع مقتضى الطبع قال يَسْتَغْفِرُونَ أي من ذلك القدر من النوم القليل وفيه لطيفة أخرى تنبيهاً في جواب سؤال وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحهم بكثرة السهر وما قال كانوا كثيراً من الليل ما يسهرون فما الحكمة فيه مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد لا الهجوع نقول إشارة إلى أن نومهم عبادة حيث مدحهم الله تعالى بكونهم هاجعين قليلاً وذلك الهجوع أورثهم لاشتغال بعبادة أخرى وهو الاستغفار في وجوه الأسحار ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم والاستكبار وفيه مباحث
البحث الأول في الباء فإنها استعملت للظرف ههنا وهي ليست للظرف نقول قال بعض النحاة إن حروف الجر ينوب بعضها مناب بعض يقال في الظرف خرجت لعشر بقين وبالليل وفي شهر رمضان فيستعمل اللام والباء وفي وكذلك في المكان نقول أقمت بالمدينة كذا وفيها ورأيته ببلدة كذا وفيها فإن قيل ما التحقيق فيه نقول الحروف لها معاني مختلفة كما أن الأسماء والأفعال كذلك غير أن الحروف غير مستقلة بإفادة المعنى والاسم والفعل مستقلان لكن بين بعض الحروف وبعضها تناف وتباعد كما في الأسماء والأفعال فإن البيت والمسكن مختلفان متفاوتان وكذلك سكن ومكث ولا كذلك كل اسمين يفرض أو كل فعلين يوجد إذا عرفت هذا فنقول بين الباء واللام وفي مشاركة أما الباء فإنها للإلصاق والمتمكن في مكان ملتصق به متصل وكذلك الفعل بالنسبة إلى الزمان فإذا قال سار بالنهار معناه ذهب ذهاباً متصلاً بالنهار وكذا قوله تعالى وَبِالاْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي استغفاراً متصلاً بالأسحار مقترناً بها لأن الكائن فيها مقترناً بها فإن قيل فهل يكون بينهما في المعنى تفاوت نقول نعم وذلك لأن من قال قمت بالليل واستغفر بالأسحار أخبر عن الأمرين وذلك أدل على وجود الفعل مع أول جزء من أجزاء الوقت من قوله قمت في الليل لأنه يستدعي احتواش الزمان بالفعل وكذلك قول القائل أقمت ببلد كذا لا يفيد أنه كان محاطاً بالبلد وقوله أقمت فيها يدل على إحاطتها به فإذن قول القائل أقمت بالبلدة ودعوت بالأسحار أعم من قوله قمت فيه لأن القائم فيه قائم به والقائم به ليس قائماً فيه من كل بد إذا علمت هذا فقوله تعالى وَبِالاْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ إشارة إلى أنهم لا يخلون وقتاً عن العبادة فإنهم بالليل لا يهجعون ومع أول جزء من السحر يستغفرون فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب لأنهم وقت الانتباه في الأسحار لم يخلو الوقت للذنب فإن قيل زدنا بياناً فإن من الأزمان أزماناً لا تجعل ظروفاً بالباء فلا يقال خرجت بيوم الجمعة ويقال بفي نقول إن كل فعل جار في زمان فهو متصل به فالخروج يوم الجمعة متصل مقترن بذلك الزمان ولم يستعمل خرجت بيوم الجمعة نقول الفارق بينهما الإطلاق والتقييد بدليل أنك إن قلت خرجت بنهارنا وبليلة الجمعة لم يحسن ولو قلت خرجت بيوم

سعد وخرج هو بيوم نحس حسن فالنهار والليل لما لم يكن فيهما خصوص وتقييد جاز استعمال الباء فيهما فإذا قيدتهما وخصصتهما زال ذلك الجواز ويوم الجمعة لما كان فيه خصوص لم يجز استعمال الباء وحيث زال الخصوص بالتنكير وقلت خرت بيوم كذا عاد الجواز والسر فيه أن مثل يوم الجمعة وهذه الساعة وتلك الليلة وجد فيها أمر غير الزمان وهو خصوصيات وخصوصية الشيء في الحقيقة أمور كثيرة غير محصورة عند العاقل على وجه التفصيل لكنها محصورة على الإجمال مثاله إذا قلت هذا الرجل فالعام فيه هو الرجل ثم إنك لو قلت الرجل الطويل ما كان يصير مخصصاً لكنه يقرب من الخصوص ويخرج من القصار فإن قلت العالم لم يصر مخصصاً لكنه يخرج عن الجهال فإذا قلت الزاهد فكذلك فإذا قلت ابن عمرو خرج عن أبناء زيد وبكر وخالد وغيرهم فإذا قلت هذا يتناول تلك المخصصات التي بأجمعها لا تجتمع إلا في ذلك فإذن الزمان المتعين فيه أمور غير الزمان والفعل حدث مقترن بزمان لا ناشىء عن الزمان وأما في فصحيح لأن ما حصل في العام فهو في الخاص لأن العام أمر داخل في الخاص وأما في فيدخل في الذي فيه الشيء فصح أن يقال في يوم الجمعة وفي هذه الساعة وأما بحث اللام فنؤخره إلى موضعه وقد تقدم بعضه في تفسير قوله تعالى وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ( ي س 38 ) وقوله هُمْ غير خال عن فائدة قال الزمخشري فائدته انحصار المستغفرين أي لكمالهم في الاستغفار كأن غيرهم ليس بمستغفر فهم المستغفرون لا غير يقال فلان هو العالم لكماله في العلم كأنه تفرد به وهو جيد ولكن فيه فائدة أخرى وهي أن الله تعالى لما عطف وَبِالاْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ على قوله كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ( الذاريات 17 ) فلو لم يؤكد معنى الإثبات بكلمة هُمْ لصلح أن يكون معناه وبالأسحار قليلاً ما يستغفرون تقول فلان قليلاً ما يؤذي وإلى الناس يحسن قد يفهم أنه قليل الإيذاء قليل الإحسان فإذا قلت قليلاً ما يؤذي وهو يحسن زال ذلك الفهم وظهر فيه معنى قوله قليل الإيذاء كثير الإحسان والاستغفار يحتمل وجوهاً أحدها طلب المغفرة بالذكر بقولهم ربنا اغفر لنا الثاني طلب المغفرة بالفعل أي بالأسحار يأتون بفعل آخر طلباً للغفران وهو الصلاة أو غيرها من العبادات الثالث وهو أغربها الاستغفار من باب استحصد الزرع إذا جاء أوان حصاده فكأنهم بالأسحار يستحقون المغفرة ويأتيهم أوان المغفرة فإن قيل فالله لم يؤخر مغفرتهم إلى السحر نقول وقت السحر تجتمع ملائكة الليل والنهار وهو الوقت المشهود فيقول الله على ملأ منهم إني غفرت لعبدي والأول أظهر والثاني عند المفسرين أشهر ثم قال تعالى
وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ
وقد ذكرنا مراراً أن الله تعالى بعد ذكر تعظيم نفسه يذكر الشفقة على خلقه ولا شك أن قليل الهجوع المستغفر في وجوه الأسحار وجد منه التعظيم العظيم فأشار إلى الشفقة بقوله وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ وفيه مسائل
المسألة الأولى أضاف المال إليهم وقال في مواضع أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله ( ي س 47 ) وقال وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( الشورى 38 ) نقول سببه أن في تلك المواضع كان الذكر للحث فذكر معه ما يدفع الحث ويرفع المانع فقال هو رزق الله والله يزرقكم فلا تخافوا الفقر وأعطوا وأما ههنا فمدح على ما فعلوه فلم يكن إلى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66