كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

المقطع وذكاء الرائحة وأرجها مع طيب الطعم والختام آخر كل شيء ومنه يقال ختمت القرآن والأعمال بخواتيمها ويؤكده قراءة علي عليه السلام واختيار الكسائي فإنه يقرأ ( خاتمه مسك ) أي آخره كما يقال خاتم النبيين قال الفراء وهما متقاربان في المعنى إلا أن الخاتم اسم والختام مصدر كقولهم هو كريم الطباع والطابع الثالث معناه خلطه مسك وذكروا أن فيه تطيباً لطعمه وقيل بل لريحه وأقول لعل المراد أن الخمر الممزوج بهذه الأفاويه الحارة مما يعين على الهضم وتقوية الشهوة فلعل المراد منه الإشارة إلى قوة شهوتهم وصحة أبدانهم وهذا القول رواه سعيد بن جبير عن الأسود عن عائشة تقول المرأة لقد أخذت ختم طيني أي لقد أخذت أخلاط طيني قال أبو الدرداء هو شراب أبيض مثل الفضة يحتمون به آخر شربهم لو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد طيب ريحه
الصفة الثانية قوله تعالى وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ قال الواحدي يقال نفست عليه الشيء أنفسه نفاسة إذا ضننت به ولم تحب أن يصير إليه والتنافس تفاعل منه كأن كل واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به والمعنى وفي ذلك فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله
واعم أن مبالغة الله تعالى في الترغيب فيه تدل على علو شأنه وفيه إشارة إلى أن التنافس يجب أن يكون في مثل ذلك النعيم العظيم الدائم لا في النعيم الذي هو مكدر سريع الفناء
الصفة الرابعة قوله تعالى وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى تسنيم علم لعين بعينها في الجنة سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه إما لأنها أرفع شراب في الجنة وإما لأنها تأتيهم من فوق على ما روي أنها تجري في الهواء مسنمة فتنصب في أوانيهم وإما لأنها لأجل كثرة ملئها وسرعته تعلو على كل شيء تمر به وهو تسنيمه أو لأنه عند الجري يرى فيه ارتفاع وانخفاض فهو التسنيم أيضاً وذلك لأن أصل هذه الكلمة للعلو والارتفاع ومنه سنام البعير وتسنمت الحائط إذا علوته وأما قول المفسرين فروى ميمون بن مهران أن ابن عباس سأل عن تسنيم فقال هذا مما يقول الله فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى َ لَهُم مّن قُرَّة ِ أَعْيُنٍ ( السجدة 17 ) ويقرب منه ما قال الحسن وهو أنه أمر أخفاه الله تعالى لأهل الجنة قال الواحدي وعلى هذا لا يعرف له اشتقاق وهو اسم معرفة وعن عكرمة مِن تَسْنِيمٍ من تشريف
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر أن تسنيم عين يشرب بها المقربون قال ابن عباس أشرف شراب أهل الجنة هو تسنيم لأنه يشربه المقربون صرفاً ويمزج لأصحاب اليمين
واعلم أن الله تعالى لما قسم المكلفين في سورة الواقعة إلى ثلاثة أقسام المقربون وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم إنه تعالى لما ذكر كرامة المذكورين في هذه السورة بأنه يمزج شرابهم من عين يشرب بها المقربون علمنا أن المذكورين في هذا الموضع هم أصحاب اليمين وأقول هذا يدل على أن الأنهار متفاوتة في الفضيلة فتسنيم أفضل أنها الجنة والمقربون أفضل أهل الجنة والتسنيم في الجنة الروحانية هو معرفة الله ولذة النظر إلى وجه الله الكريم والرحيق هو الابتهاج بمطالعة عالم الموجودات فالمقربون لا يشربون إلا من التسنيم أي لا يشتغلون إلا بمطالعة وجهه الكريم وأصحاب اليمين يكون شرابهم ممزوجاً فتارة يكون نظرهم إليه وتارة إلى مخلوقاته

المسألة الثانية عينا نصب على المدح وقال الزجاج نصب على الحال وقوله يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ كقوله يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( الإنسان 6 ) وقد مر
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَاؤُلاَءِ لَضَآلُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الاٌّ رَآئِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
اعلم أنه سبحانه لما وصف كرامة الأبرار في الآخرة ذكر بعد ذلك قبح معاملة الكفار معهم في الدنيا في استهزائهم وضحكهم ثم بين أن ذلك سينقلب على الكفار في الآخرة والمقصود منه تسلية المؤمنين وتقوية قلوبهم وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب النزول وجهين الأول أن المراد من قوله إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ أكابر المشركين كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصى بن وائل السهمي كانوا يضحكون من عمار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين ويستهزئون بهم الثاني جاء علي عليه السلام في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه فنزلت هذه الآية قبل أن يصل علي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الثانية أنه تعالى حكى عنهم أربعة أشياء من المعاملات القبيحة فأولها قوله إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون أي يستهزئون بهم وبدينهم وثانيها قوله وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ أي يتفاعلون من الغمز وهو الإشارة بالجفن والحاجب ويكون الغمز أيضاً بمعنى العيب وغمزه إذا عابه وما في فلان غميزة أي ما يعاب به والمعنى أنهم يشيرون إليهم بالأعين استهزاء ويعيبونهم ويقولون انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم ويحرمونها لذاتها ويخاطرون بأنفسهم في طلب ثواب لا يتيقنونه وثالثها قوله تعالى وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَاكِهِينَ معجبين بما هم فيه من الشرك والمعصية والتنعم بالدنيا أو يتفكهون بذكر المسلمين بالسوء قرأ عاصم في رواية حفص عنه فَكِهِينَ بغير ألف في هذا الموضع وحده وفي سائر القرآن فَاكِهِينَ بالألف وقرأ الباقون فاكهين بالألف فقيل هما لغتان وقيل فاكهين أي متنعمين مشغولين بما هم فيه من الكفر والتنعم بالدنيا وفكهين معجبين ورابعها قوله تعالى وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ أي هم على ضلال في تركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يدري هل له وجود أم لا وهذا آخر ما حكاه تعالى عن الكفار

ثم قال تعالى وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ يعني أن الله تعالى لم يبعث هؤلاء الكفار رقباء على المؤمنين يحفظون عليهم أحوالهم ويتفقدون ما يصنعونه من حق أو باطل فيعبون عليهم ما يعتقدونه ضلالاً بل إنما أمروا بإصلاح أنفسهم
أما قوله تعالى فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى المعنى أن في هذا اليوم الذي هو يوم تصقع الأعمال والمحاسبة يضحك المؤمن من الكافر وفي سبب هذا الضحك وجوه أحدها أن الكفار كانوا يضحكون على المؤمنين في الدنيا بسبب ما هم فيه من الضر والبؤس وفي الآخرة يضحك المؤمنون على الكافرين بسبب ما هم فيه من أنواع العذاب والبلاء ولأنهم علموا أنهم كانوا في الدنيا على غير شيء وأنهم قد باعوا باقياً بفان ويرون أنفسهم قد فازوا بالنعيم المقيم ونالوا بالتعب اليسير راحة الأبد ودخلوا الجنة فأجلسوا على الأرائك ينظرون إليهم كيف يعذبون في النار وكيف يصطرخون فيها ويدعون بالويل والثبور ويلعن بعضهم بعضاً الثاني قال أبو صالح يقال لأهل النار وهم فيها اخرجوا وتفتح لهم أبوابها فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم فذاك هو سبب الضحك
المسألة الثانية قوله عَلَى الاْرَائِكِ يَنظُرُونَ حال من يضحكون أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر
ثم قال تعالى هَلْ ثُوّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ثوب بمعنى أثيب أي الله المثيب قال أوس سأجزيك أو يجزيك عني مثوب
وحسبك أن يثني عليك وتحمدي
قال المبرد وهو فعل من الثواب وهو ما يثوب أي يرجع إلى فاعله جزاء ما عمله من خير أو شر والثواب يستعمل في المكافأة بالشر ونشد أبو عبيدة ألا أبلغ أبا حسن رسولا
فما لك لا تجيء إلى الثواب
والأولى أن يحمل ذلك على سبيل التهكم كقوله ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) والمعنى كأنه تعالى يقول للمؤمنين هل جازينا الكفار على عملهم الذي كان من جملته ضحكهم بكم واستهزاؤهم بطريقتكم كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة فيكون هذا القول زائداً في سرورهم لأنه يقتضي زيادة في تعظيمهم والاستخفاف بأعدائهم والمقصود منها أحوال القيامة والله أعلم

سورة الانشقاق
وهي عشرون وخمس آيات مكية
إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الأرض مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ
أما انشقاق السماء فقد مر شرحه في مواضع من القرآن وعن علي عليه السلام أنها تنشق من المجرة أما قوله وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا ومعنى أذن له استمع ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ( ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن ) وأنشد أبو عبيدة والمبرد والزجاج قول قعنب صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به
وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
والمعنى أنه لم يوجد في جرم السماء ما يمنع من تأثير قدرة الله تعالى في شقها وتفريق أجزائها فكانت في قبول ذلك التأثير كالعبد الطائع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المالك أنصت له وأذعن ولم يمتنع فقوله قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) يدل على نفاذ القدرة في الإيجاد والإبداع من غير ممانعة أصلاً وقوله ههنا وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا يدل على نفوذ القدرة في التفريق والإعدام والإفناء من غير ممانعة أصلاً وأما قوله وَحُقَّتْ فهو من قولك هو محقوق بكذا وحقيق به يعني وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع وذلك لأنه جسم وكل جسم فهو ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فإن الوجود والعدم بالنسبة إليه على السوية وكل ما كان كذلك كان ترجيح وجوده على عدمه أو ترجيح عدمه على وجوده لا بد وأن يكون بتأثير واجب الوجود وترجيحه فيكون تأثير قدرته في إيجاده وإعدامه نافذاً سارياً من غير ممانعة أصلاً وأما الممكن فليس له إلا القبول والاستعداد ومثل هذا الشيء حقيق به أن يكون قابلاً للوجود تارة وللعدم

أخرى من واجب الوجود أما قوله وَإِذَا الاْرْضُ مُدَّتْ ففيه وجهان الأول أنه مأخوذ من مد الشيء فامتد وهو أن تزال حبالها بالنسف كما قال وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً طه 105 ) يسوي ظهرها كما قال قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً ( طه 105 106 ) وعن ابن عباس مدت مد الأديم الكاظمي لأن الأديم إذا مد زال كل انثناء فيه واستوى والثاني أنه مأخوذ من مده بمعنى أمده أي يزاد في سعتها يوم القيامة لوقوف الخلائق عليها للحساب واعلم أنه لا بد من الزيادة في وجه الأرض سواء كان ذلك بتمديدها أو بإمدادها لأن خلق الأولين والآخرين لما كانوا واقفين يوم القيامة على ظهرها فلا بد من الزيادة في طولها وعرضها أما قوله وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا فالمعنى أنها لما مدت رمت بما في جوفها من الموتى والكنوز وهو كقوله وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا ( الزلزلة 2 ) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ( الإنفطار 4 ) بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ ( العاديات 9 ) وكقوله أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاء وَأَمْواتاً ( المرسلات 26 25 ) وأما قوله وَتَخَلَّتْ فالمعنى وخلت غاية الخلو حتى لم يبق في باطنها شيء كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو كما يقال تكرم الكريم وترحم الرحيم إذا بلغا جهدهما في الكرم الرحمة وتكلفاً فوق ما في طبعهما واعلم أن التحقيق أن الله تعالى هو الذي أخرج تلك الأشياء من بطن الأرض إلى ظهرها لكن الأرض وصفت بذلك على سبيل التوسع وأما قوله وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ فقد تقدم تفسيره إلا أن الأول في السماء وهذا في الأرض وإذا اختلف وجه الكلام لم يكن تكراراً
ياأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ
اعلم أن قوله تعالى إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ إلى قوله الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ ( الإنشقاق 6 1 ) شرط ولا بد له من جزاء واختلفوا فيه على وجوه أحدها قال صاحب الكشاف حذف جواب إذاً ليذهب الوهم إلى كل شيء فيكون أدخل في التهويل وثانيها قال الفراء إنما ترك الجواب لأن هذا المعنى معروف قد تردد في القرآن معناه فعرف ونظيره قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) ترك ذكر القرآن لأن التصريح به قد تقدم في سائر المواضع وثالثها قال بعض المحققين الجواب هو قوله فَمُلَاقِيهِ وقوله وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحاً ( الإنشقاق 6 ) معترض وهو كقول القائل إذا كان كذا وكذا يا أيها الإنسان ترى عند ذلك ما عملت من خير أو شر فكذا ههنا والتقدير إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله ورابعها أن المعنى محمول على التقديم والتأخير فكأنه قيل وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ( الإنشقاق 1 ( وقامت القيامة وخامسها قال الكسائي إن الجواب في قوله فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ ( الإنشقاق 7 ) واعترض في الكلام قوله وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ والمعنى إذا السماء انشقت وكان كذا وكذا فَمَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ( الإسراء 71 ) فهو كذا ومن أوتي كتابه وراء ظهره فهو كذا ونظيره قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ( البقرة 38 ) وسادسها قال القاضي إن الجواب ما دل عليه قوله إِنَّكَ كَادِحٌ كأنه تعالى قال يا أيها الإنسان ترى ما عملت فاكدح لذلك اليوم أيها الإنسان لتفوز بالنعيم أما قوله الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ ففيه قولان الأول أن المراد جنس الناس كما يقال أيها الرجل

وكلكم ذلك الرجل فكذا ههنا وكأنه خطاب خص به كل واحد من الناس قال القفال وهو أبلغ من العموم لأنه قائم مقام التخصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين بخلاف اللفظ العام فإنه لا يكون كذلك والثاني أن المراد منه رجل بعينه وههنا فيه قولان الأول أن المراد به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى أنك تكدح في إبلاغ رسالات الله وإرشاد عباده وتحمل الضرر من الكفار فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل وهو غير ضائع عنده الثاني قال ابن عباس هو أُبيّ بن خلف وكدحه جده واجتهاده في طلب الدنيا وإيذاء الرسول عليه السلام والإصرار على الكفر والأقرب أنه محمول على الجنس لأنه أكثر فائدة ولأن قوله فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ( الإنشقاق 7 ) وَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ ( الإنشقاق 10 ) كالنوعين له وذلك لا يتم إلا إذا كان جنساً أما قوله إِنَّكَ كَادِحٌ فاعلم أن الكدح جهد الناس في العمل والكدح فيه حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه أما قوله إِلَى رَبّكَ ففيه ثلاثة أوجه أحدها إنك كادح إلى لقاء ربك وهو الموت أي هذا الكدح يستمر ويبقى إلى هذا الزمان وأقول في هذا التفسير نكتة لطيفة وذلك لأنها تقتضي أن الإنسان لا ينفك في هذه الحياة الدنيوية من أولها إلى آخرها عن الكدح والمشقة والتعب ولما كانت كلمة إلى لانتهاء الغاية فهي تدل على وجوب انتهاء الكدح والمشقة بانتهاء هذه الحياة وأن يكون الحاصل بعد هذه الدنيا محض السعادة والرحمة وذلك معقول فإن نسبة الآخرة إلى الدنيا كنسبة الدنيا إلى رحم الأم فكما صح أن يقال يا أيها الجنين إنك كادح إلى أن تنفصل من الرحم فكان ما بعد الانفصال عن الرحم بالنسبة إلى ما قبله خالصاً عن الكدح والظلمة فنرجوا من فضل الله أن يكون الحال فيما بعد الموت كذلك وثانيهما قال القفال التقدير إنك كادح في دنياك كدحاً تصير به إلى ربك فبهذا التأويل حسن استعمال حرف إلى ههنا وثالثها يحتمل أن يكون دخول إلى على معنى أن الكدح هو السعي فكأنه قال ساع بعملك إِلَى رَبّكَ أما قوله تعالى فَمُلَاقِيهِ ففيه قولان الأول قال الزجاج فملاق ربك أي ملاق حكمه لا مفر لك منه وقال آخرون الضمير عائد إلى الكدح إلا أن الكدح عمل وهو عرض لا يبقى فملاقاته ممتنعة فوجب أن يكون المراد ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال ويتأكد هذا التأويل بقوله بعد هذه الآية فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ
فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً
أما قوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً
فالمعنى فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وسوف من الله واجب وهو كقول القائل اتبعني فسوف نجد خيراً فإنه لا يريد به الشك وإنما يريد ترقيق الكلام والحساب اليسير هو أن تعرض عليه أعماله ويعرف أن الطاعة منها هذه والمعصية هذه ثم يثاب على الطاعة ويتجاوز عن المعصية فهذا هو الحساب اليسير لأنه لا شدة على صاحبه ولا مناقشة ولا يقال له لم فعلت هذا ولا يطالب بالعذر فيه ولا بالحجة عليه فإنه متى طولب بذلك لم يجد عذراً ولا حجة فيفتضح ثم إنه عند هذا الحساب اليسير يرجع إلى أهله مسروراً فائزاً بالثواب آمناً من العذاب والمراد من أهله أهل الجنة من الحور العين أو من زوجاته وذرياته إذا كانوا مؤمنين فدلت هذه الآية على أنه سبحانه أعد له ولأهله في الجنة

ما يليق به من الثواب عن عائشة رضي الله عنها قالت ( سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول اللهم حاسبني حساباً يسيراً قلت وما الحساب اليسير قال ينظر في كتابه ويتجاوز عن سيئاته فأما من نوقش في الحساب فقد هلك ) وعن عائشة قالت ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من نوقش الحساب فقد هلك ) فقلت يا رسول الله إن الله يقول فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً قال ( ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب عذب ) وفي قوله يحاسب إشكال لأن المحاسبة تكون بين اثنين وليس في القيامة لأحد قبل ربه مطالبة فيحاسبه وجوابه أن العبد يقول إلهي فعلت المعصية الفلانية فكأن ذلك بين الرب والعبد محاسبة والدليل على أنه تعالى خص الكفار بأنه لا يكلمهم فدل ذلك على أنه يكلم المطيعين والعبد يكلمه فكانت المكالمة محاسبة
وَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ
أما قوله وَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فللمفسرين فيه وجوه أحدها قال الكلبي السبب فيه لأن يمينه مغلولة إلى عنقه ويده اليسرى خلف ظهره وثانيها قال مجاهد تخلع يده اليسرى فتجعل من وراء ظهره وثالثها قال قوم يتحول وجهه في قفاه فيقرأ كتابه كذلك ورابعها أنه يؤتي كتابه بشماله من وراء ظهره لأنه إذا حاول أخذه بيمينه كالمؤمنين يمنع من ذلك وأوتي من وراء ظهره بشماله فإن قيل أليس أنه قال في سورة الحاقة وَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ( الحاقة 25 ) ولم يذكر الظهر والجواب من وجهين أحدهما يحتمل أن يؤتى بشماله وراء ظهره على ما حكيناه عن الكلبي وثانيها أن يكون بعضهم يعطى بشماله وبعضهم من وراء ظهره
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً
أما قوله فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً فاعلم أن الثبور هو الهلاك والمعنى أنه لما أوتي كتابه من غير يمينه علم أنه من أهل النار فيقول واثبوراه قال الفراء العرب تقول فلان يدعوا لهفه إذا قال والهفاه وفيه وجه آخر ذكره القفال فقال الثبور مشتق من المثابرة على شيء وهي المواظبة عليه فسمي هلاك الآخرة ثبور لأنه لازم لا يزول كما قال إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ( الفرقان 65 ) وأصل الغرام اللزوم والولوع
وَيَصْلَى سَعِيراً
أما قوله تعالى وَيَصْلَى سَعِيراً ففيه مسألتان
المسألة الأولى يقال صلى الكافر النار قال الله تعالى وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ( النساء 10 ) وقال وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ( آل عمران 115 ) وقال إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( الصافات 1 ) وقال لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الاْشْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( الليل 16 15 ) والمعنى أنه إذا أعطى كتابه بشماله من وراء ظهره فإنه يدعو الثبور ثم يدخل النار وهو في النار أيضاً يدعو ثبوراً كما قال دَّعَوَا هُنَالِكَ ثُبُوراً ( الفرقان 13 ) وأحدهما لا ينفي الآخر وإنما هو على اجتماعهما قبل دخول النار وبعد دخولها نعوذ بالله منها ومما قرب إليها من قول أو عمل

المسألة الثانية قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو ويصلى بضم الياء والتخفيف كقوله لِخَزَنَة ِ جَهَنَّمَ وهذه القراءة مطابقة للقراءة المشهورة لأنه يصلى فيصلى أي يدخل النار وقرأ ابن عامر ونافع والكسائي بضم الياء مثقلة كقوله ( وتصلية جحيم ) وقوله ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ( الحاقة 31 )
إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً
أما قوله تعالى إنه كان في أهله مسروراً فقد ذكر القفال فيه وجهين أحدهما أنه كان في أهله مسروراً أي منعماً مستريحاً من التعب بأداء العبادات واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والصوم والجهاد مقدماً على المعاصي آمناً من الحساب والثواب والعقاب لا يخاف الله ولا يرجوه فأبدله الله بذلك السرور الفاني غماً باقياً لا ينقطع وكان المؤمن الذي أوتي كتابه بيمينه متقياً من المعاصي غير آمن من العذاب ولم يكن في دنياه مسروراً في أهله فجعله الله في الآخرة مسروراً فأبدله الله تعالى بالغم الفاني سروراً دائماً لا ينفذ الثاني أن قوله إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً كقوله وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ ( المطففين 31 ) أي متنعمين في الدنيا معجبين بما هو عليه من الكفر فكذلك ههنا يحتمل أن يكون المعنى أنه كان في أهله مسروراً بما هم عليه من الكفر بالله والتكذيب بالبعث يضحك ممن آمن به وصدق بالحساب وقد روى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )
إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ
أما قوله إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ فاعلم أن الحور هو الرجوع والمحار المرجع والمصير وعن ابن عباس ما كنت أدرى ما معنى يحور حتى سمعت إعرابية تقول لابنتها حوري أي ارجعي ونقل القفال عن بعضهم أن الحور هو الرجوع إلى خلاف ما كان عليه المرء كما قالوا ( نعوذ بالله من الحور بعد الكور ) فعلى الوجه الأول معنى الآية أنه ظن أن لن يرجع إلى الآخرة أي لن يبعث وقال مقاتل وابن عباس حسب أن لا يرجع إلى الله تعالى وعلى الوجه الثاني أنه ظن أن لن يرجع إلى خلاف ما هو عليه في الدنيا من السرور والتنعم
بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً
ثم قال تعالى بَلَى أي ليبعثن وعلى الوجه الثاني يكون المعنى أن الله تعالى يبدل سروره بغم لا ينقطع وتنعمه ببلاء لا ينتهي ولا يزول
أما قوله إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بَصِيراً فقال الكلبي كان بصيراً به من يوم خلقه إلى أن بعثه وقال عطاء بصيراً بما سبق عليه في أم الكتاب من الشقاء وقال مقاتل بصيراً متى بعثه وقال الزجاج كان عالماً بأن مرجعه إليه ولا فائدة في هذه الأقوال إنما الفائدة في وجهين ذكرهما القفال الأول أن ربه كان عالماً بأنه سيجزيه والثاني أن ربه كان عالماً بما يعمله من الكفر والمعاصي فلم يكن يجوز في حكمته أن يهمله فلا يعاقبه على سوء أعماله وهذا زجر لكل المكلفين عن جميع المعاصي

فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن قوله تعالى فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ فيه مسائل
المسألة الأولى أن هذا قسم وأما حرف لا فقد تكلمنا فيه في قوله تعالى لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ( القيامة 1 ) ومن جملة الوجوه المذكورة هناك أن لا نفي ورد لكلام قبل القسم وتوجيه هذا الوجه ههنا ظاهر لأنه تعالى حكى ههنا عن المشرك أنه ظن أن لن يحور فقوله لا رد لذلك القول وإبطال لذلك الظن ثم قال بعده أقسم بالشفق
المسألة الثانية قد عرفت اختلاف العلماء في أن القسم واقع بهذه الأشياء أو يخالفها وعرفت أن المتكلمين زعموا أن القسم واقع برب الشفق وإن كان محذوفاً لأن ذلك معلوم من حيث ورد الحظر بأن يقسم الإنسان بغير الله تعالى
المسألة الثالثة تركيب لفظ الشفق في أصل اللغة لرقة الشيء ومنه يقال ثوب شفق كأنه لا تماسك لرقته ويقال للرديء من الأشياء شفق وأشفق عليه إذا رق قلبه عليه والشفقة رقة القلب ثم اتفق العلماء على أنه اسم للأثر الباقي من الشمس في الأفق بعد غروبها إلا ما يحكى عن مجاهد أنه قال الشفق هو النهار ولعله إنما ذهب إلى هذا لأنه تعالى عطف عليه الليل فيجب أن يكون المذكور أولاً هو النهار فالقسم على هذا الوجه واقع بالليل والنهار اللذين أحدهما معاش والثاني سكن وبهما قوام أمور العالم ثم اختلفوا بعد ذلك فذهب عامة العلماء إلى أنه هو الحمرة وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل ومن أهل اللغة قول الليث والفراء والزجاج قال صاحب ( الكشاف ) وهو قول عامة العلماء إلا ما يروى عن أبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه أنه البياض وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه واحتجوا عليه بوجوه أحدها قال الفراء سمعت بعض العرب يقول عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق وكان أحمر قال فدل ذلك على أن الشفق هو الحمرة وثانيها أنه جعل الشفق وقتاً للعشاء الأخيرة فوجب أن يكون المعتبر هو الحمرة لا البياض لأن البياض يمتد وقته ويطول لبثه والحمرة لما كانت بقية ضوء الشمس ثم بعدت الشمس عن الأفق ذهبت الحمرة وثالثها أن اشتقاق الشفق لما كان من الرقة ولا شك أن الضوء يأخذ في الرقة والضعف من عند غيبة الشمس فتكون الحمرة شفقاً أما قوله وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ فقال أهل اللغة وسق أي جمع ومنه الوسق وهو الطعام المجتمع الذي يكال ويوزن ثم صار اسماً للحمل واستوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت والراعي يسقها أي يجمعها قال صاحب ( الكشاف ) يقال وسقه فاتسق واستوسق ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين اتسع واستوسع وأما المعنى فقال القفال مجموع أقاويل المفسرين يدل على أنهم فسروا قوله تعالى وَمَا وَسَقَ على جميع ما يجمعه الليل من النجوم ورجوع الحيوان عن الانتشار وتحرك ما يتحرك فيه الهوام ثم هذا يحتمل أن يكون إشارة إلى الأشياء كلها لاشتمال الليل عليها فكأنه تعالى أقسم بجميع المخلوقات كما قال فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ ( الحاقة 38 ) وقال سعيد بن جبير ما عمل فيه قال القفال يحتمل أن يكون ذلك هو تهجد العباد فقد مدح الله تعالى بها المستغفرين بالأسحار فيجوز أن يحلف بهم وإنما قلنا إن الليل جمع هذه الأشياء كلها لأن ظلمته كأنها تجلل

الجبال والبحار والشجر والحيوانات فلا جرم صح أن يقال وسق جميع هذه الأشياء أما قوله وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ فاعلم أن أصل الكلمة من الاجتماع يقال وسقته فاتسق كما يقال وصلته فاتصل أي جمعته فاجتمع ويقال أمور فلان متسقة أي مجتمعة على الصلاح كما يقال منتظمة وأما أهل المعاني فقال ابن عباس إذا اتسق أي استوى واجتمع وتكامل وتم واستدار وذلك ليلة ثلاثة عشر إلى ستة عشر ثم إنه سبحانه وتعالى بعد أن ذكر ما به أقسم أتبعه بذكر ما عليه أقسم فقال لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً مِنْ طَبقٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء لَتَرْكَبُنَّ على خطاب الإنسان في يا أيها الإنسان ولتركبن بالضم على خطاب الجنس لأن النداء في قوله وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ ( الإنشقاق 6 ) للجنس ولتركبن بالكسر على خطاب النفس وليركبن بالياء على المغايبة أي ليركبن الإنسان
المسألة الثانية الطبق ما طابق غيره يقال ما هذا يطبق كذا أي لا يطابقه ومنه قيل للغطاء الطبق وطباق الثرى ما يطابق منه قيل للحال المطابقة لغيرها طبق ومنه قوله تعالى لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ أي حالاً بعد حال كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة من قولهم هو على طبقات والمعنى لتركبن أحوالاً بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من أهوال القيامة ولنذكر الآن وجوه المفسرين فنقول أما القراءة برفع الياء وهو خطاب الجمع فتحتمل وجوهاً أحدها أن يكون المعنى لتركبن أيها الإنسان أموراً وأحوالاً أمراً بعد أمر وحالاً بعد حال ومنزلاً بعد منزل إلى أن يستقر الأمر على ما يقضي به على الإنسان أول من جنة أو نار فحينئذ يحصل الدوام والخلود إما في دار الثواب أو في دار العقاب ويدخل في هذه الجملة أحوال الإنسان من يكون نطفة إلى أن يصير شخصاً ثم يموت فيكون في البرزخ ثم يحشر ثم ينقل إما إلى جنة وإما إلى نار وثانيها أن معنى الآية أن الناس يلقون يوم القيامة أحوالاً وشدائد حالاً بعد حال وشدة بعد شدة كأنهم لما أنكروا البعث أقسم الله أن البعث كائن وأن الناس يلقون فيها الشدائد والأهوال إلى أن يفرغ من حسابهم فيصير كل أحد إلى أعدله من جنة أو نار وهو نحو قوله بَلِ وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ( التغابن 7 ) وقوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ( القلم 42 ) وقوله يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ( المزمل 17 ) وثالثها أن يكون المعنى أن الناس تنتقل أحوالهم يوم القيامة عما كانوا عليه في الدنيا فمن وضيع في الدنيا يصير رفيعاً في الآخرة ومن رفيع يتضع ومن متنعم يشقى ومن شقى يتنعم وهو كقوله خَافِضَة ٌ رَّافِعَة ٌ ( الواقعة 3 ) وهذا التأويل مناسب لما قبل هذه الآية لأنه تعالى لما ذكر حال من يؤتي كتابه وراء ظهره أنه كان في أهله مسروراً وكان يظن أن لن يحور أخبر الله أنه يحور ثم أقسم على الناس أنهم يركبون في الآخرة طبقاً عن طبق أي حالاً بعد حالهم في الدنيا ورابعها أن يكون المعنى لتركبن سنة الأولين ممن كان قبلكم في التكذيب بالنبوة والقيامة وأما القراءة بنصب الياء ففيها قولان
الأول قول من قال إنه خطاب مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا التقدير ذكروا وجهين أحدهما أن يكون ذلك بشارة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالظفر والغلبة على المشركين المكذبين بالبعث كأنه يقول أقسم يا محمد لنركبن حالاً بعد حال حتى يختم لك بجميل العافية فلا يحزنك تكذيبهم وتماديهم في كفرهم وفي هذا الوجه احتمال آخر يقرب مما ذكرنا وهو أن يكون المعنى أنه يركب حال ظفر وغلبة بعد حال خوف وشدة

واحتمال ثالث وهو يكون المعنى أن الله تعالى يبدله بالمشركين أنصاراً من المسلمين ويكون مجاز ذلك من قولهم طبقات الناس وقد يصلح هذا التأويل على قراءة من قرأ بضم الباء كأنه خطاب للمسلمين بتعريف تنقل الأحوال بهم وتصييرهم إلى الظفر بعدوهم بعد الشدة التي يلقونها منهم كما قال لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ( آل عمران 186 ) الآية وثانيها أن يكون ذلك بشارة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بصعوده إلى السماء لمشاهدة ملكوتها وإجلال الملائكة إياه فيها والمعنى لتركبن يا محمد السموات طبقاً عن طبق وقد قال تعالى سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً ( الملك 3 ) وقد فعل الله ذلك ليلة الإسراء وهذا الوجه مروي عن ابن عباس وابن مسعود وثالثها لتركبن يا محمد درجة ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى
القول الثاني في هذه القراءة أن هذه الآية في السماء وتغيرها من حال إلى حال والمعنى لتركبن السماء يوم القيامة حالة بعد حالة وذلك لأنها أولاً تنشق كما قال إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ( الإنشقاق 1 ) ثم تنفطر كما قال إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ( الإنفطار 1 ) ثم تصير وَرْدَة ً كَالدّهَانِ ( الرحمن 37 ) وتارة كَالْمُهْلِ ( المعارج 8 ) على ما ذكر الله تعالى هذه الأشياء في آيات من القرآن فكأنه تعالى لما ذكر في أول السورة أنها تنشق أقسم في آخر السورة أنها تنتقل من أحوال إلى أحوال وهذا الوجه مروي عن ابن مسعود
المسألة الثالثة قوله تعالى عَن طَبقٍ أي بعد طبق كقول الشاعر ما زلت أقطع منهلا عن منهل
حتى أنخت بباب عبدالواحد
ووجه هذا أن الإنسان إذا صار من شيء إلى شيء آخر فقد صار إلى الثاني بعد الأول فصلحت بعد وعن معاقبة وأيضاً فلفظة عن تفيد البعد والمجاوزة فكانت مشابهة للفظة بعد
أما قوله تعالى فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى الأقرب أن المراد فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بصحة البعث والقيامة لأنه تعالى حكى عن الكافر إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ( الإنشقاق 14 ) ثم أفتى سبحانه بأنه يحور فلما قال بعد ذلك فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ دل على أن المراد فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بالبعث والقيامة ثم اعلم أن قوله فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ استفهام بمعنى الإنكار وهذا إنما يحسن عند ظهور الحجة وزوال الشبهات الأمر ههنا كذلك وذلك لأنه سبحانه أقسم بتغييرات واقعة في الأفلاك والعناصر فإن الشفق حالة مخالفة لما قبلها وهو ضوء النهار ولما بعدها وهو ظلمة الليل وكذا قوله وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ فإنه يدل على حدوث ظلمة بعد نور وعلى تغير أحوال الحيوانات من اليقظة إلى النوم وكذا قوله وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ فأنه يدل على حصول كمال القمر بعد أن كان ناقصاً إنه تعالى أقسم بهذه الأحوال المتغيرة على تغير أحوال الخلق وهذا يدل قطعاً على صحة القول بالبعث لأن القادر على تغيير الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال وصفة إلى صفة بحسب المصالح لا بد وأن يكون في نفسه قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات ومن كان كذلك كان لا محالة قادراً على البعث والقيامة فلما كان ما قبل هذه الآية كالدلالة العقلية القاطعة على صحة البعث والقيامة لا جرم قال على سبيل الاستبعاد فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
المسألة الثانية قال القاضي لا يجوز أن يقول الحكيم فيمن كان عاجزاً عن الإيمان فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ فلما قال ذلك دل على كونهم قادرين وهذا يقتضي أن تكون الاستطاعة قبل الفعل وأن يكونوا

موجدين لأفعالهم وأن لا يكون تعالى خالقاً للكفر فيهم فهذه الآية من المحكمات التي لا احتمال فيها البتة وجوابه قد مر غير مرة
وَإِذَا قُرِى ءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لاَ يَسْجُدُونَ
أما قوله تعالى وَإِذَا قُرِىء عَلَيْهِمُ الْقُرْءانُ لاَ يَسْجُدُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنهم أرباب الفصاحة والبلاغة فعند سماعهم القرآن لا بد وأن يعلموا كونه معجزاً وإذا علموا صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ووجوب طاعته في الأوامر والنواهي فلا جرم استبعد الله منهم عند سماع القرآن ترك السجود والطاعة
المسألة الثانية قال ابن عباس والحسن وعطاء والكلبي ومقاتل المراد من السجود الصلاة وقال أبو مسلم الخضوع والاستكانة وقال آخرون بل المراد نفس السجود عند آيات مخصوصة وهذه الآية منها
المسألة الثالثة روي أنه عليه السلام ( قرأ ذات يوم وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ( العلق 19 ) فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر ) فنزلت هذه الآية واحتج أبو حنيفة على وجوب السجدة بهذا من وجهين الأول أن فعله ( صلى الله عليه وسلم ) يقتضي الوجوب لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ والثاني أن الله تعالى ذم من يسمعه فلا يسجد وحصول الذم عند الترك يدل على الوجوب
المسألة الرابعة مذهب ابن عباس أنه ليس في المفصل سجدة وعن أبي هريرة أنه سجد ههنا وقال والله ما سجدت فيها إلا بعد أن رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يسجد فيها وعن أنس صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان فسجدوا وعن الحسن هي غير واجبة
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ
أما قوله بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فالمعنى أن الدلائل الموجبة للإيمان وإن كانت جلية ظاهرة لكن الكفار يكذبون بها إما لتقليد الأسلاف وإما للحسد وإما للخوف من أنهم لو أظهروا الإيمان لفاتتهم مناصب الدنيا ومنافعها
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ
أما قوله تعالى يُكَذّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ فأصل الكلمة من الوعاء فيقال أوعيت الشيء أي جعلته في وعاء كما قال وَجَمَعَ فَأَوْعَى ( المعارج 18 ) والله أعلم بما يجمعون في صدورهم من الشرك والتكذيب فهو مجازيهم عليه في الدنيا والآخرة
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
ثم قال تعالى فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ استحقوه على تكذيبهم وكفرهم
إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
أما قوله إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ففيه قولان قال صاحب ( الكشاف ) الاستثناء منقطع وقال الأكثرون معناه إلا من تاب منهم فإنهم وإن كانوا في الحال كفاراً إلا أنهم

متى تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر وهو الثواب العظيم
وفي معنى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وجوه أحدها أن ذلك الثواب يصل إليهم بلا من ولا أذى وثانيها من غير انقطاع وثالثها من غير تنغيص ورابعها من غير نقصان والأولى أن يحمل اللفظ على الكل لأن من شرط الثواب حصول الكل فكأنه تعالى وعدهم بأجر خالص من الشوائب دائم لا انقطاع فيه ولا نقص ولا بخس وهذا نهاية الوعد فصار ذلك ترغيباً في العبادات كما أن الذي تقدم هو زجر عن المعاصي والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين

سورة البروج
عشرون وآيتان مكية
اعلم أن المقصود من هذه السورة تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه عن إيذاء الكفار وكيفية تلك التسلية هي أنه تعالى بين أن سائر الأمم السالفة كانوا كذلك مثل أصحاب الأخدود ومثل فرعون ومثل ثمود وختم ذلك بأن بين أن كل الكفار كانوا في التكذيب ثم عقب هذا الوجه بوجه آخر وهو قوله وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ ( البروج 20 ) ذكر وجهاً ثالثاً وهو أن هذا شيء مثبت في اللوح المحفوظ ممتنع التغيير وهو قوله بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ ( لبروج 21 ) فهذا ترتيب السورة
وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ
اعلم أن في البروج ثلاثة أقوال أحدها أنها هي البروج الإثنا عشر وهي مشهورة وإنما حسن القسم بها لما فيها من عجيب الحكمة وذلك لأن سير الشمس فيها ولا شك أن مصالح العالم السفلي مرتبطة بسير الشمس فيدل ذلك على أن لها صانعاً حكيماً قال الجبائي وهذه اليمين واقعة على السماء الدنيا لأن البروج فيها واعلم أن هذا خطأ وتحقيقه ذكرناه في قوله تعالى إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَة ٍ الْكَواكِبِ ( الصافات 6 ) وثانيها أن البروج هي منازل القمر وإنما حسن القسم بها لما في سير القمر وحركته من الآثار العجيبة وثالثها أن البروج هي عظام الكواكب سميت بروجاً لظهورها وأما اليوم الموعود فهو يوم القيامة رواه أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال القفال يحتمل أن يكون المراد وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ لانشقاق السماء وفنائها وبطلان بروجها وأما الشاهد والمشهود فقد أضطرب أقاويل المفسرين فيه والقفال أحسن الناس كلاماً فيه قال إن الشاهد يقع على شيئين أحدهما الشاهد الذي تثبت به الدعاوى والحقوق والثاني الشاهد الذي هو بمعنى الحاضر كقوله عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ ( الأنعام 73 ) ويقال فلان شاهد وفلان غائب وحمل الآية على هذا الاحتمال الثاني أولى إذ لو كان المراد هو الأول لما خلا لفظ المشهود عن حرف الصلة فيقال مشهود عليه أو مشهود له هذا هو الظاهر وقد يجوز أن يكون المشهود معناه المشهود عليه فحذفت الصلة كما في قوله إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَّسْئُولاً ( الإسراء 34 ) أي مسئولاً عنه إذا عرفت هذه المقدمة فنقول إن حملنا الشهود على الحضور احتملت الآية وجوهاً من التأويل أحدها أن المشهود هو يوم القيامة والشاهد هو الجمع الذي يحضرون فيه وهو مروي عن ابن عباس

والضحاك ويدل على صحة هذا الاحتمال وجوه الأول أنه لا حضور أعظم من ذلك الحضور فإن الله تعالى يجمع فيه خلق الأولين والآخرين من الملائكة والأنبياء والجن والإنس وصرف اللفظ إلى المسمى الأكمل أولى والثاني أنه تعالى ذكر اليوم الموعود وهو يوم القيامة ثم ذكر عقيبة وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ وهذا يناسب أن يكون المراد بالشاهد من يحضر في ذلك اليوم من الخلائق وبالمشهود ما في ذلك اليوم من العجائب الثالث أن الله تعالى وصف يوم القيامة بكونه مشهوداً في قوله فَوْيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( مريم 37 ) وقال ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ( هود 103 ) وقال يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ( الإسراء 52 ) وقال إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَة ً واحِدَة ً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( يس 53 ) وطريق تنكيرهما إما ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ( التكوير 14 ) كأنه قيل وما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود وأما الإبهام في الوصف كأنه قيل وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما وإنما حسن القسم بيوم القيامة للتنبيه على القدرة إذ كان هو يوم الفصل والجزاء ويوم تفرد الله تعالى فيه بالملك والحكم وهذا الوجه اختيار ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن بن علي وابن المسيب والضحاك والنخعي والثوري وثانيها أن يفسر المشهود بيوم الجمعة وهو قول ابن عمر وابن الزبير وذلك لأنه يوم يشهده المسلمون للصلاة ولذكر الله ومما يدل على كون هذا اليوم مسمى بالمشهود خبران الأول ما روى أبو الدرداء قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة ) والثاني ما روى أبو هريرة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( تحضر الملائكة أبواب المسجد فيكتبون الناس فإذا خرج الإمام طويت الصحف ) وهذه الخاصية غير موجودة إلا في هذا اليوم فيجوز أن يسمى مشهوداً لهذا المعنى قال الله تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ ( الإسراء 78 ) وروى ( أن ملائكة الليل والنهار يحضرون وقت صلاة الفجر فسميت هذه الصلاة مشهودة لشهادة الملائكة ) فكذا يوم الجمعة وثالثها أن يفسر المشهود بيوم عرفة والشاهد من يحضره من الحاج وحسن القسم به تعظيماً لأمر الحج روي أن الله تعالى يقول للملائكة يوم عرفة ( أنظروا إلى عبادي شعثاً غبراً أتوني من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم وأن إبليس يصرخ ويضع التراب على رأسه لما يرى من ذلك ) والدليل على أن يوم عرفة مسمى بأنه مشهود قوله تعالى وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ ( الحج 28 27 ) ورابعها أن يكون المشهود يوم النحر وذلك لأنه أعظم المشاهد في الدنيا فإنه يجتمع أهل الشرق والغرب في ذلك اليوم بمنى والمزدلفة وهو عيد المسلمين ويكون الغرض من القسم به تعظيم أمر الحج وخامسها حمل الآية على يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم النحر جميعاً لأنها أيام عظام فأقسم الله بها كما أقسم بالليالي العشر والشفع والوتر ولعل الآية عامة لكل يوم عظيم من أيام الدنيا ولكل مقام جليل من مقاماتها وليوم القيامة أيضاً لأنه يوم عظيم كما قال لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( المطففين 6 5 ) وقال فَوْيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( مريم 37 ) ويدل على صحة هذا التأويل خروج اللفظ في الشاهد والمشهود على النكرة فيحتمل أن يكون ذلك على معنى أن القصد لم يقع فيه إلى يوم بعينه فيكون معرفاً أما الوجه الأول وهو أن يحمل الشاهد على من تثبت الدعوى بقوله فقد ذكروا على هذا التقدير وجوهاً كثيرة أحدها أن الشاهد هو الله تعالى لقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ ( آل عمران 18 ) وقوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ ( الأنعام 19 ) وقوله أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ

( فصلت 53 ) والمشهود هو التوحيد لقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ أو النبوة قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وثانيها أن الشاهد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمشهود عليه سائر الأنبياء لقوله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) ولقوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ( الفتح 8 ) وثالثها أن يكون الشاهد هو الأنبياء والمشهود عليه هو الأمم لقوله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ ورابعها أن يكون الشاهد هو جميع الممكنات والمحدثات والمشهود عليه واجب الوجود وهذا احتمال ذكرته أنا وأخذته من قول الأصوليين هذا الاستدلال بالشاهد على الغائب وعلى هذا التقدير يكون القسم واقعاً بالخلق والخالق والصنع والصانع وخامسها أن يكون الشاهد هو الملك لقوله تعالى وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ والمشهود عليه هم المكلفون وسادسها أن يكون الشاهد هو الملك والمشهود عليه هو الإنسان الذي تشهد عليه جوارحه يوم القيامة قال يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ( النور 24 ) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا ( فصلت 21 ) وهذا قول عطاء الخراساني وأما الوجه الثالث وهو أقوال مبنية على الروايات لا على الاشتقاق فأحدها أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة روى أبو موسى الأشعري أنه عليه الصلاة والسلام قال ( اليوم الموعود يوم القيامة والشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة ويوم الجمعة ذخيرة الله لنا ) وعن أبي هريرة مرفوعاً قال ( المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة ما طلعت الشمس ولا غربت على أفضل منه فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب له ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه منه ) وعن سعيد بن المسيب مرسلاً عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( سيد الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد والمشهود يوم عرفة ) وهذا قول كثير من أهل العلم كعلي بن أبي طالب عليه السلام وأبي هريرة وابن المسيب والحسن البصري والربيع بن أنس قال قتادة شاهد ومشهود يومان عظمهما الله من أيام الدنيا كما يحدث أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وثانيها أن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر وذلك لأنهما يومان عظمهما الله وجعلهما من أيام أركان أيام الحج فهذان اليومان يشهدان لمن يحضر فيهما بالإيمان واستحقاق الرحمة وروى أنه عليه السلام ذبح كبشين وقال في أحدهما ( هذا عمن يشهد لي بالبلاغ ) فيحتمل لهذا المعنى أن يكون يوم النحر شاهداً لمن حضره بمثل ذلك لهذا الخبر وثالثها أن الشاهد هو عيسى لقوله تعالى حكاية عنه ( فصلت 21 ) وهذا قول عطاء الخراساني وأما الوجه الثالث وهو أقوال مبنية على الروايات لا على الاشتقاق فأحدها أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة روى أبو موسى الأشعري أنه عليه الصلاة والسلام قال ( اليوم الموعود يوم القيامة والشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة ويوم الجمعة ذخيرة الله لنا ) وعن أبي هريرة مرفوعاً قال ( المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة ما طلعت الشمس ولا غربت على أفضل منه فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب له ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه منه ) وعن سعيد بن المسيب مرسلاً عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( سيد الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد والمشهود يوم عرفة ) وهذا قول كثير من أهل العلم كعلي بن أبي طالب عليه السلام وأبي هريرة وابن المسيب والحسن البصري والربيع بن أنس قال قتادة شاهد ومشهود يومان عظمهما الله من أيام الدنيا كما يحدث أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وثانيها أن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر وذلك لأنهما يومان عظمهما الله وجعلهما من أيام أركان أيام الحج فهذان اليومان يشهدان لمن يحضر فيهما بالإيمان واستحقاق الرحمة وروى أنه عليه السلام ذبح كبشين وقال في أحدهما ( هذا عمن يشهد لي بالبلاغ ) فيحتمل لهذا المعنى أن يكون يوم النحر شاهداً لمن حضره بمثل ذلك لهذا الخبر وثالثها أن الشاهد هو عيسى لقوله تعالى حكاية عنه وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ( المائدة 117 ) ورابعها الشاهد هو الله والمشهود هو يوم القيامة قال تعالى قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ( يس 52 ) وقوله ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ ( المجادلة 7 ) وخامسها أن الشاهد هو الإنسان والمشهود هو التوحيد لقوله تعالى وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) وسادسها أن الشاهد الإنسان والمشهود هو يوم القيامة أما كون الإنسان شاهداً فلقوله تعالى قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ( الأعراف 172 ) وأما كون يوم القيامة مشهوداً فلقوله أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ ( الأعراف 172 ) فهذه هي الوجوه الملخصة والله أعلم بحقائق القرآن

قُتِلَ أَصْحَابُ الاٍّ خْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ
اعلم أنه لا بد للقسم من جواب واختلفوا فيه على وجوه أحدها ما ذكره الأخفش وهو أن جواب القسم قوله قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ واللام مضمرة فيه كما قال وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( الشمس 1 ) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ( الشمس 9 ) يريد لقد أفلح قال وإن شئت على التقديم كأنه قيل قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج وثانيها ما ذكره الزجاج وهو أن جواب القسم إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ ( البروج 12 ) وهو قول ابن مسعود وقتادة وثالثها أن جواب القسم قوله إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ ( البروج 10 ) الآية كما تقول والله إن زيداً لقائم إلا أنه اعترض بين القسم وجوابه قوله قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ إلى قوله إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ ( البروج 10 4 ) ورابعها ما ذكره جماعة من المتقدمين أن جواب القسم محذوف وهذا اختيار صاحب ( الكشاف ) إلا أن المتقدمين قالوا ذلك المحذوف هو أن الأمر حق في الجزاء على الأعمال وقال صاحب ( الكشاف ) جواب القسم هو الذي يدل عليه قوله قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ كأنه قيل أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود وذلك لأن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان حتى يقتدوا بهم ويصبروا على أذى قومهم ويعلموا أن كفار مكة عند الله بمنزلة أولئك الذين كانوا في الأمم السالفة يحرقون أهل الإيمان بالنار وأحقاء بأن يقال فيهم قتلت قريش كما قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ أما قوله تعالى قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا قصة أصحاب الأخدود على طرق متباينة ونحن نذكر منها ثلاثة
أحدها أنه كان لبعض الملوك ساحر فلما كبر ضم إليه غلام ليعلمه السحر وكان في طريق الغلام راهب فمال قلب الغلام إلى ذلك الراهب ثم رأى الغلام في طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجراً وقال اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فقوني على قتلها بواسطة رمي الحجر إليها ثم رمى فقتلها فصار ذلك سبباً لإعراض الغلام عن السحر واشتغاله بطريقة الراهب ثم صار إلى حيث يبرىء الأكمه والأبرص ويشفي من الأدواء فاتفق أن عمي جليس للملك فأبرأه فلما رآه الملك قال من رد عليك نظرك فقال ربي فغضب فعذبه فدل على الغلام فعذبه فدل على الراهب فأحضر الراهب وزجره عن دينه فلم يقبل الراهب قوله فقد بالمنشار ثم أتوا بالغلام إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا الله فرجف بالقوم فهلكوا ونجا فذهبوا به إلى سفينة لججوا بها ليغرقوه فدعا الله فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا فقال للملك لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول بسم الله رب الغلام ثم ترميني به فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات فقال الناس آمنا برب الغلام فقيل للملك نزل بك ما كنت تحذر فأمر بأخاديد في أفواه السكك وأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي يا أماه اصبري فإنك على الحق فصبرت على ذلك
الرواية الثانية روي عن علي عليه السلام أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال هم أهل الكتاب

وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمر قد أحلت لهم فتناولها بعض ملوكها فسكر فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج فقالت له المخرج أن تخطب الناس فتقول إن الله تعالى قد أحل نكاح الأخوات ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول بعد ذلك حرمه فخطب فلم يقبلوا منه ذلك فقالت له أبسط فيهم السوط فلم يقبلوا فقالت أبسط فيهم السيف فلم يقبلوا فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أتى فيها الذين أرادهم الله بقوله قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ
الرواية الثالثة أنه وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى فدعاهم فأجابوه فصار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم إثني عشر ألفاً في الأخاديد وقيل سبعين ألفاً وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعاً وعرضه إثنا عشر ذراعاً وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه كان إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد البلاء ) فإن قيل تعارض هذه الروايات يدل على كذبها قلنا لا تعارض فقيل إن هذا كان في ثلاث طوائف ثلاث مرات مرة باليمن ومرة بالعراق ومرة بالشام ولفظ الأخدود وإن كان واحداً إلا أن المراد هو الجمع وهو كثير من القرآن وقال القفال ذكروا في قصة أصحاب الأخدود روايات مختلفة وليس في شيء منها ما يصح إلا أنها متفقة في أنهم قوم من المؤمنين خالفوا قومهم أو ملكاً كافراً كان حاكماً عليهم فألقاهم في أخدود وحفر لهم ثم قال وأظن أن تلك الواقعة كانت مشهورة عند قريش فذكر الله تعالى ذلك لأصحاب رسوله تنبيهاً لهم على ما يلزمهم من الصبر على دينهم واحتمال المكاره فيه فقد كان مشركوا قريش يؤذون المؤمنون على حسب ما اشتهرت به الأخبار من مبالغتهم في إذاء عمار وبلال
المسألة الثانية الأخدود الشق في الأرض يحفر مستطيلاً وجمعه الأخاديد ومصدره الخد وهو الشق يقال خد في الأرض خداً وتخدد لحمه إذا صار طرائق كالشقوق
المسألة الثالثة يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود القاتلين ويمكن أن يكون المراد بهم المقتولين والرواية المشهورة أن المقتولين هم المؤمنون وروي أيضاً أن المقتولين هم الجبابرة لأنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفرة فأحرقتهم ونجى الله المؤمنين منها سالمين وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنس والواقدي وتأولوا قوله فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ( البروج 10 ) أي لهم عذاب جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا إذا عرفت هذه المقدمة فنقول ذكروا في تفسير قوله تعالى قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ وجوهاً ثلاثة وذلك لأنا إما أن نفسر أصحاب الأخدود بالقاتلين أو بالمقتولين أما على الوجه الأول ففيه تفسيران أحدهما أن يكون هذا دعاء عليهم أي لعن أصحاب الأخدود ونظيره قوله تعالى قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ( عبس 17 ) قُتِلَ الْخَرصُونَ ( الذاريات 10 ) والثاني أن يكون المراد أن أولئك القاتلين قتلوا بالنار على ما ذكرنا أن الجبابرة لما أرادوا قتل المؤمنين بالنار عادت النار عليهم فقتلتهم وأما إذا فسرنا أصحاب الأخدود بالمقتولين كان المعنى أن أولئك المؤمنين قتلوا بالإحراق بالنار فيكون ذلك خبراً لادعاء
المسألة الرابعة قرىء قتل بالتشديد أما قوله تعالى النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ففيه مسائل
المسألة الأولى النار إنما تكون عظيمة إذا كان هناك شيء يحترق بها إما حطب أو غيره فالوقود اسم

لذلك الشيء لقوله تعالى وَقُودُهَا النَّارِ وَالْحِجَارَة ُ ( البقرة 24 ) وفي ذَاتِ الْوَقُودِ تعظيم أمر ما كان في ذلك الأخدود من الحطب الكثير
المسألة الثانية قال أبو علي هذا بدل الاشتمال كقولك سلب زيد ثوبه فإن الأخدود مشتمل على النار
المسألة الثالثة قرىء الوقود بالضم أما قوله تعالى إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ففيه مسألتان
المسألة الأولى العامل في إذ قتل والمعنى لعنوا في ذلك الوقت الذي هم فيه قعود عند الأخدود يعذبون المؤمنين
المسألة الثانية في الآية إشكال وهو أن قوله هُمْ ضمير عائد إلى أصحاب الأخدود لأن ذلك أقرب المذكورات والضمير في قوله عَلَيْهَا عائد إلى النار فهذا يقتضي أن أصحاب الأخدود كانوا قاعدين على النار ومعلوم أنه لم يكن الأمر كذلك والجواب من وجوه أحدها أن الضمير في هم عائد إلى أصحاب الأخدود لكن المراد ههنا من أصحاب الأخدود المقتولون لا القاتلون فيكون المعنى إذ المؤمنين قعود على النار يحترقون مطرحون على النار وثانيها أن يجعل الضمير في عَلَيْهَا عائد إلى طرف النار وشفيرها والمواضع التي يمكن الجلوس فيها ولفظ على مشعر بذلك تقول مررت عليها تريد مستعلياً بمكان يقرب منه فالقائلون كانوا جالسين فيها وكانوا يعرضون المؤمنين على النار فمن كان يترك دينه تركوه ومن كان يصبر على دينه ألقوه في النار وثالثها هب أنا سلمنا أن الضمير في هم عائد إلى أصحاب الأخدود بمعنى القاتلين والضمير في عليها عائد إلى النار فلم لا يجوز أن يقال إن أولئك القاتلين كانوا قاعدين على النار فإنا بينا أنهم لما ألقوا المؤمنين في النار ارتفعت النار إليهم فهلكوا بنفس ما فعلوه بأيديهم لأجل إهلاك غيرهم فكانت الآية دالة على أنهم في تلك الحالة كانوا ملعونين أيضاً ويكون المعنى أنهم خسروا الدنيا والآخرة ورابعها أن تكون على بمعنى عند كما قيل في قوله وَلَهُمْ عَلَى َّ ذَنبٌ ( الشعراء 14 ) أي عندي
أما قوله تعالى وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ فاعلم أن قوله شُهُودٌ يحتمل أن يكون المراد منه حضور ويحتمل أن يكون المراد منه الشهود الذين تثبت الدعوى بشهادتهم أما على الوجه الأول فالمعنى إن أولئك الجبابرة القاتلين كانوا حاضرين عند ذلك العمل يشاهدون ذلك فيكون الغرض من ذكر ذلك أحد أمور ثلاثة إما وصفهم بقسوة القلب إذ كانوا عند التعذيب بالنار حاضرين مشاهدين له وأما وصفهم بالجد في تقرير كفرهم وباطلهم حيث حضروا في تلك المواطن المنفرة والأفعال الموحشة وأما وصف أولئك المؤمنين المقتولين بالجد دينهم والإصرار على حقهم فإن الكفار إنما حضروا في ذلك الموضع طمعاً في أن هؤلاء المؤمنين إذا نظروا إليهم هابوا حضورهم واحتشموا من مخالفتهم ثم إن أولئك المؤمنين لم يلتفتوا إليهم وبقوا مصرين على دينهم الحق فإن قلت المراد من الشهود إن كان هذا المعنى فكان يجب أن يقال وهم لما يفعلون شهود ولا يقال وهم على ما يفعلون شهود قلنا إنما ذكر لفظة على بمعنى أنهم على قبح فعلهم بهؤلاء المؤمنين وهو إحراقهم بالنار كانوا حاضرين مشاهدين لتلك الأفعال القبيحة
أما الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد من الشهود الشهادة التي تثبت الدعوى بها ففيه وجوه

أحدها أنهم جعلوا شهوداً يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحداً منهم لم يفرط فيما أمر به وفوض إليه من التعذيب وثانيها أنهم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين يؤدون شهادتهم يوم القيامة يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( النور 24 ) وثالثها أن هؤلاء الكفار مشاهدون لما يفعلون بالمؤمنين من الإحراق بالنار حتى لو كان ذلك من غيرهم لكانوا شهوداً عليه ثم مع هذا لم تأخذهم بهم رأفة ولا حصل في قلوبهم ميل ولا شفقة
وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ شَهِيدٌ
المعنى وما عابوا منهم وما أنكروا الإيمان كقوله ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
ونظيره قوله تعالى هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بِاللَّهِ ( المائدة 59 ) وإنما قال إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ لأن التعذيب إنما كان واقعاً على الإيمان في المستقبل ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى فكأنه قيل إلا أن يدوموا على إيمانهم وقرأ أبو حيوة نَقَمُواْ بالكسر والفصيح هو الفتح ثم إنه ذكر الأوصاف التي بها يستحق الإله أن يؤمن به ويعبد فأولها العزيز وهو القادر الذي لا يغلب والقاهر الذي لا يدفع وبالجملة فهو إشارة إلى القدرة التامة وثانيها الحميد وهو الذي يستحق الحمد والثناء على ألسنة عباده المؤمنين وإن كان بعض الأشياء لا يحمده بلسانه فنفسه شاهدة على أن المحمود في الحقيقة هو هو كما قال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وذلك إشارة إلى العلم لأن من لا يكون عالماً بعواقب الأشياء لا يمكنه أن يفعل الأفعال الحميدة فالحميد يدل على العلم التام من هذا الوجه وثالثها الذي له ملك السموات والأرض وهو مالكها والقيم بهما ولو شاء لأفناهما وهو إشارة إلى الملك التام وإنما أخر هذه الصفة عن الأولين لأن الملك التام لا يحصل إلا عند حصول الكمال في القدرة والعلم فثبت أن من كان موصوفاً بهذه الصفات كان هو المستحق للإيمان به وغيره لا يستحق ذلك ألبتة فكيف حكم أولئك الكفار الجهال يكون مثل هذا الإيمان ذنباً
واعلم أنه تعالى أشار بقوله الْعَزِيزُ إلى أنه لو شاء لمنع أولئك الجبابرة من تعذيب أولئك المؤمنين ولأطفأ نيرانهم ولأماتهم وأشار بقوله الْحَمِيدِ إلى أن المعتبر عنده سبحانه من الأفعال عواقبها فهو وإن كان قد أمهل لكنه ما أهمل فإنه تعالى يوصل ثواب أولئك المؤمنين إليهم وعقاب أولئك الكفرة إليهم ولكنه تعالى لم يعالجهم بذلك لأنه لم يفعل إلا على حسب المشيئة أو المصلحة على سبيل التفضل فلهذا السبب قال وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ فهو وعد عظيم للمطيعين ووعيد شديد للمجرمين

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ
اعلم أنه سبحانه لما ذكر قصة أصحاب الأخدود أتبعها بما يتفرع عليها من أحكام الثواب والعقاب فقال إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وههنا مسائل
المسألة الأولى يحتمل أن يكون المراد منه أصحاب الأخدود فقط ويحتمل أن يكون المراد كل من فعل ذلك وهذا أولى لأن اللفظ عام والحكم عام فالتخصيص ترك للظاهر من غير دليل
المسألة الثانية أصل الفتنة الابتلاء والامتحان وذلك لأن أولئك الكفار امتحنوا أولئك المؤمنين وعرضوهم على النار وأحرقوهم وقال بعض المفسرين الفتنة هي الإحراق بالنار وقال ابن عباس ومقاتل فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ حرقوهم بالنار قال الزجاج يقال فتنت الشيء أحرقته والفتن أحجار سود كأنها محترقة ومنه قوله تعالى يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( الذاريات 13 )
المسألة الثالثة قوله تعالى ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ يدل على أنهم لو تابوا لخرجوا عن هذا الوعيد وذلك يدل على القطع بأن الله تعالى يقبل التوبة ويدل على أن توبة القاتل عمداً مقبولة خلاف ما يروى عن ابن عباس
المسألة الرابعة في قوله فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ قولان
الأول أن كلا العذابين يحصلان في الآخرة إلا أن عذاب جهنم وهو العذاب الحاصل بسبب كفرهم وعذاب الحريق هو العذاب الزائد على عذاب الكفر بسبب أنهم أحرقوا المؤمنين فيحتمل أن يكون العذاب الأول عذاب برد والثاني عذاب إحراق وأن يكون الأول عذاب إحراق والزائد على الإحراق أيضاً إحراق إلا أن العذاب الأول كأنه خرج عن أن يسمى إحراقاً بالنسبة إلى الثاني لأن الثاني قد اجتمع فيه نوعا الإحراق فتكامل جداً فكان الأول ضعيفاً فلا جرم لم يسم إحراقاً
القول الثاني أن قوله فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ إشارة إلى عذاب الآخرة وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إشارة إلى ما ذكرنا أن أولئك الكفار ارتفعت عليهم نار الأخدود فاحترقوا بها
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد المجرمين ذكر وعد المؤمنين وهو ظاهر وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما قال ذالِكَ الْفَوْزُ ولم يقل تلك الدقيقة لطيفة وهي أن قوله ذالِكَ إشارة إلى إخبار الله تعالى بحصول هذه الجنات وقوله تِلْكَ إشارة إلى الجنات وإخبار الله تعالى عن ذلك يدل على كونه راضياً والفوز الكبير هو رضا الله لا حصول الجنة

المسألة الثانية قصة أصحاب الأخدود ولا سيما هذه الآية تدل على أن المكره على الكفر بالإهلاك العظيم الأولى له أن يصبر على ما خوف منه وأن إظهار كلمة الكفر كالرخصة في ذلك روى الحسن أن مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لأحدهما تشهد أني رسول الله فقال نعم فتركه وقال للآخر مثله فقال لا بل أنت كذاب فقتله فقال عليه السلام ( أما الذي ترك فأخذ بالرخصة فلا تبعة عليه وأما الذي قتل فأخذ بالفضل فهنيئاً له )
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِى ءُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أولاً وذكر وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثانياً أردف ذلك الوعد والوعيد بالتأكيد فقال لتأكيد الوعيد إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ثم إن هذا القادر لا يكون إمهاله لأجل الإهمال لكن لأجل أنه حكيم إما بحكم المشيئة أو بحكم المصلحة وتأخير هذا الأمر إلى يوم القيامة فلهذا قال إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ أي إنه يخلق خلقه ثم يفنيهم ثم يعيدهم أحياء ليجازيهم في القيامة فدل الإمهال لهذا السبب لا لأجل الإهمال قال ابن عباس إن أهل جهنم تأكلهم النار حتى يصيروا فحماً ثم يعيدهم خلقاً جديداً فذاك هو المراد من قوله إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ
ثم قال لتأكيد الوعد وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ فذكر من صفات جلاله وكبريائه خمسة
أولها الغفور قالت المعتزلة هو الغفور لمن تاب وقال أصحابنا إنه غفور مطلقاً لمن تاب ولمن لم يتب لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) ولأن غفران التائب واجب وأداء الواجب لا يوجب التمدح والآية مذكورة في معرض التمدح وثانيها الودود وفيه أقوال أحدها المحب هذا قول أكثر المفسرين وهو مطابق للدلائل العقلية فإن الخير مقتضى بالذات والشر بالعرض ولا بد أن يكون الشر أقل من الخير فالغالب لا بد وأن يكون خيراً فيكون محبوباً بالذات وثانيها قال الكلبي الودود هو المتودد إلى أوليائه بالمغفرة والجزاء والقول هو الأول وثالثها قال الأزهري قال بعض أهل اللغة يجوز أن يكون ودود فعولاً بمعنى مفعول كركوب وحلوب ومعناه أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه لما عرفوا من كماله في ذاته وصفاته وأفعاله قال وكلتا الصفتين مدح لأنه جل ذكره إذا أحب عباده المطيعين فهو فضل منه وإن أحبه عباده العارفون فلما تقرر عندهم من كريم إحسانه ورابعها قال القفال قيل الودود قد يكون بمعنى الحليم من قولهم دابة ودود وهي المطيعة القياد التي كيف عطفتها انعطفت وأنشد قطرب وأعددت للحرب خيفانة
ذلول القياد وقاحا ودودا

وثالثها ذو العرش قال القفال ذو العرش أي ذو الملك والسلطان كما يقال فلان على سرير ملكه وإن لم يكن على السرير وكما يقال ثل عرش فلان إذا ذهب سلطانه وهذا معنى متفق على صحته وقد يجوز أن يكون المراد بالعرش السرير ويكون جل جلاله خلق سريراً في سمائه في غاية العظمة والجلالة بحيث لا يعلم عظمته إلا هو ومن يطلعه عليه ورابعها المجيد وفيه قراءتان إحداهما الرفع فيكون ذلك صفة لله سبحانه وهو اختيار أكثر القراء والمفسرين لأن المجد من صفات التعالي والجلال وذلك لا يليق إلا بالله سبحانه والفصل والاعتراض بين الصفة والموصوف في هذا النحو غير ممتنع والقراءة الثانية بالخفض وهي قراءة حمزة والكسائي فيكون ذلك صفة العرش وهؤلاء قالوا القرآن دل على أنه يجوز وصف غير الله بالمجيد حيث قال بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ ورأينا أن الله تعالى وصف العرش بأنه كريم فلا يبعد أيضاً أن يصفه بأنه مجيد ثم قالوا إن مجد الله عظمته بحسب الوجوب الذاتي وكمال القدرة والحكمة والعلم وعظمة العرش علوه في الجهة وعظمة مقداره وحسن صورته وتركيبه فإنه قيل العرش أحسن الأجسام تركيباً وصورة وخامسها أنه فعال لما يريد وفيه مسائل
المسألة الأولى فعال خبر مبتدأ محذوف
المسألة الثانية من النحويين من قال وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ خبران لمبتدأ واحد وهذا ضعيف لأن المقصود بالإسناد إلى المبتدأ إما أن يكون مجموعها أو كل واحد واحد منهما فإن كان الأول كان الخبر واحد الآخرين وإن كان الثاني كانت القضية لا واحد قبل قضيتين
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة خلق الأفعال فقالوا لا شك أنه تعالى يريد الإيمان فوجب أن يكون فاعلاً للإيمان بمقتضى هذه الآية وإذا كان فاعلاً للإيمان وجب أن يكون فاعلاً للكفر ضرورة أنه لا قائل بالفرق قال القاضي ولا يمكن أن يستدل بذلك على أن ما يريده الله تعالى من طاعة الخلق لا بد من أن يقع لأن قوله تعالى فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ لا يتناول إلا ما إذا وقع كان فعله دون ما إذا وقع لم يكن فعلاً له هذه ألفاظ القاضي ولا يخفي ضعفها
المسألة الرابعة احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى لا يجب لأحد من المكلفين عليه شيء ألبتة وهو ضعيف لأن الآية دالة على أنه يفعل ما يريد فلم قلتم إنه يريد أن لا يعطي الثواب
المسألة الخامسة قال القفال فعال لما يريد على ما يراه لا يعترض عليه معترض ولا يغلبه غالب فهو يدخل أولياءه الجنة لا يمنعه منه مانع ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر ويمهل العصاء على ما يشاء إلى أن يجازيهم ويعاجل بعضهم العقوبة إذا شاء ويعذب من شاء منهم في الدنيا وفي الآخرة يفعل من هذه الأشياء ومن غيرهما ما يريد

هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ
اعلم أنه تعالى لما بين حال أصحاب الأخدود في تأذي المؤمنين بالكفار بين أن الذين كانوا قبلهم كانوا أيضاً كذلك واعلم أن فرعون وثمود بدل من الجنود وأراد بفرعون إياه وقومه كما في قوله من فرعون وملئهم وثمود كانوا في بلاد العرب وقصتهم عندهم مشهورة فذكر تعالى من المتأخرين فرعون ومن المتقدمين ثمود والمقصود بيان أن حال المؤمنين مع الكفار في جميع الأزمنة مستمرة على هذا النهج وهذا هو المراد من قوله بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ ولما طيب قلب الرسول عليه السلام بحكاية أحوال الأولين في هذا الباب سلاه بعد ذلك من وجه آخر وهو قوله وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ وفيه وجوه أحدها أن المراد وصف اقتداره عليهم وأنهم في قبضته وحوزته كالمحاط إذا أحيط به من ورائه فسد عليه مسلكه فلا يجد مهرباً يقول تعالى فهو كذا في قبضتي وأنا قادر على إهلاكهم ومعاجلتهم بالعذاب على تكذيبهم إياك فلا تجزع من تكذيبهم إياك فليسوا يفوتونني إذا أردت الانتقام منهم وثانيها أن يكون المراد من هذه الإحاطة قرب هلاكهم كقول تعالى وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ( الفتح 21 ) وقوله وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ( الإسراء 60 ) وقوله وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ( يونس 22 ) فهذا كله عبارة عن مشارفة الهلاك يقول فهؤلاء في تكذيبك قد شارفوا الهلاك وثالثها أن يكون المراد والله محيط بأعمالهم أي عالم بها فهو مرصد بعقابهم عليها ثم إنه تعالى سلى رسوله بعد ذلك بوجه ثالث وهو قوله بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى تعلق هذا بما قبله هو أن هذا القرآن مجيد مصون عن التغير والتبدل فلما حكم فيه بسعادة قوم وشقاوة قوم وبتأذي قوم من قوم امتنع تغيره وتبدله فوجب الرضا به ولا شك أن هذا من أعظم موجبات التسلية
المسألة الثانية قرىء بَلْ هُوَ بالإضافة أي قرآن رب مجيد وقرأ يحيى بن يعمر في لوح واللوح الهواء يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح المحفوظ وقرىء محفوظ بالرفع صفة للقرآن كما قلنا إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 )
المسألة الثالثة أنه تعالى قال ههنا فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ وقال في آية أخرى إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ( الواقعة 78 77 ) فيحتمل أن يكون الكتاب المكنون واللوح المحفوظ واحداً ثم كونه محفوظاً يحتمل أن يكون المراد كونه محفوظاً عن أن يمسه إلا المطهرون كما قال تعالى لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ويحتمل أن يكون المراد كونه محفوظاً من اطلاع الخلق عليه سوى الملائكة المقربين ويحتمل أن يكون المراد أن لا يجري عليه تغيير وتبديل
المسألة الرابعة قال بعض المتكلمين إن اللوح شيء يلوح للملائكة فيقرؤنه ولما كانت الأخبار والآثار واردة بذلك وجب التصديق والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة الطارق
سبع عشرة آية مكية
وهي مشتملة على الترغيب في معرفة المبدأ والمعاد
وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ
اعلم أنه تعالى أكثر في كتابه ذكر السماء والشمس والقمر لأن أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها عجيبة وأما الطارق فهو كل ما أتاك ليلاً سواء كان كوكباً أو غيره فلا يكون الطارق نهاراً والدليل عليه قول المسلمين في دعائهم نعوذ بالله من طوارق الليل وروي أنه عليه السلام ( نهى عن أن يأتي الرجل أهله طروقاً ) والعرب تستعمل الطروق في صفة الخيال لأن تلك الحالة إنما تحصل في الأكثر في الليل ثم إنه تعالى لما قال وَالطَّارِقِ كان هذا مما لايستغنى سامعه عن معرفة المراد منه فقال وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ قال سفيان بن عيينة كل شيء في القرآن ما أدراك فقد أخبر الرسول به وكل شيء فيه ما يدريك لم يخبر به كقوله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة َ قَرِيبٌ ( الشورى 17 ) ثم قال النَّجْمُ الثَّاقِبُ أي هو طارق عظيم الشأن رفيع القدر وهو النجم الذي يهتدى به في ظلمات البر والبحر ويوقف به على أوقات الأمطار وههنا مسائل
المسألة الأولى إنما وصف النجم بكونه ثاقباً لوجوه أحدها أنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه كما قيل درىء لأنه يدرؤه أي يدفعه وثانيها أنه يطلع من المشرق نافذاً في الهواء كالشيء الذي يثقب الشيء وثالثها أنه الذي يرى به الشيطان فيثقبه أي ينفذ فيه ويحرقه ورابعها قال الفراء النَّجْمُ الثَّاقِبُ هو النجم المرتفع على النجوم والعرب تقول للطائر إذا لحق ببطن السماء ارتفاعاً قد ثقب
المسألة الثانية إنما وصف النجم بكونه طارقاً لأنه يبدو بالليل وقد عرفت أن ذلك يسمى طارقاً أو لأنه يطرق الجني أي صكه
المسألة الثالثة اختلفوا في قوله النَّجْمُ الثَّاقِبُ قال بعضهم أشير به إلى جماعة النحو فقيل

الطارق كما قيل إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر 2 ) وقال آخرون أنه نجم بعينه ثم قال ابن زيد إنه الثريا وقال الفراء أنه زحل لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات وقال آخرون أنه الشهب التي يرجم بها الشياطين لقوله تعالى فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ( الصافات 10 )
المسألة الرابعة روى أن أبا طالب أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأتحفه بخبز ولبن فبينما هو جالس يأكل إذ انحط نجم فامتلأ ماء ثم ناراً ففزع أبو طالب وقال أي شيء هذا فقال هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله فعجب أبو طالب ونزلت السورة
واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله لَّمّاً قراءتان إحداهما قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع والكسائي وهي بتخفيف الميم والثانية قراءة عاصم وحمزة والنخعي بتشديد الميم قال أبو علي الفاسي من خفف كانت ءانٍ عنده المخففة من الثقيلة واللام في لَّمّاً هي التي تدخل مع هذه المخففة لتخلصها من إن النافية وما صلة كالتي في قوله فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ ( آل عمران 159 ) إِلاَّ قَلِيلٌ وتكون ءانٍ متلقية للقسم كما تتلقاه مثقلة وأما من ثقل فتكون ءانٍ عنده النافية كالتي في قوله مَا إِنَّ مَكَّنَّاكُمْ و لَّمّاً في معنى ألا قال وتستعمل لَّمّاً بمعنى ألا في موضعين أحدهما هذا والآخر في باب القسم تقول سألتك بالله لما فعلت بمعنى ألا فعلت وروى عن الأخفش والكسائي وأبي عبيدة أنهم قالوا لم توجد لما بمعنى ألا في كلام العرب قال ابن عون قرأت عند ابن سيرين لما بالتشديد فأنكره وقال سبحان الله سبحان الله وزعم العتبي أن لَّمّاً بمعنى ألا مع أن الخفيفة التي تكون بمعنى ما موجودة في لغة هذيل
المسألة الثانية ليس في الآية بيان أن هذا الحافظ من هو وليس فيها أيضاً بيان أن الحافظ يحفظ النفس عماذا أما الأول ففيه قولان الأول قول بعض المفسرين أن ذلك الحافظ هو الله تعالى أما في التحقيق فلأن كل وجود سوى الله ممكن وكل ممكن فإنه لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح وينتهي ذلك إلى الواجب لذاته فهو سبحانه القيوم الذي بحفظه وإبقائه تبقى الموجودات ثم إنه تعالى بين هذا المعنى في السموات والأرض على العموم في قوله إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ وبينه في هذه الآية في حق الإنسان على الخصوص وحقيقة الكلام ترجع إلى أنه تعالى أقسم أن كل ما سواه فإنه ممكن الوجود محدث محتاج مخلوق مربوب هذا إذا حملنا النفس على مطلق الذات أما إذا حملناها على النفس المتنفسة وهي النفس الحيوانية أمكن أن يكون المراد من كونه تعالى حافظاً لها كونه تعالى عالماً بأحوالها وموصلاً إليها جميع منافعها ودافعاً عنها جميع مضارها
والقول الثاني أن ذلك الحافظ هم الملائكة كما قال وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً وقال عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ق 18 17 ) وقال وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ ( الإنفطار 11 1 ) وقال لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( الرعد 11 )

وأما البحث الثاني وهو أنه ما الذي يحفظه هذا الحافظ ففيه وجوه أحدها أن هؤلاء الحفظة يكتبون عليه أعماله دقيقها وجليلها حتى تخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً وثانيها إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ يحفظ عملها ورزقها وأجلها فإذا استوفى الإنسان أجله ورزقه قبضه إلى ربه وحاصله يرجع إلى وعيد الكفار وتسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كقوله فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا ثم ينصرفون عن قريب إلى الآخرة فيجازون بما يستحقونه وثالثها إن كل نفس لما عليها حافظ يحفظها من المعاطب والمهالك فلا يصيبها إلا ما قدر الله عليها ورابعها قال الفراء إن كل نفس لما عليها حافظ يحفظها حتى يسلمها إلى المقابر وهذا قول الكلبي
واعلم أنه تعالى لما أقسم على أن لكل نفس حافظاً يراقبها ويعد عليها أعمالها فحينئذ يحق لكل أحد أن يجتهد ويسعى في تحصيل أهم المهمات وقد تطابقت الشرائع والعقول على أن أهم المهمات معرفة المبدأ ومعرفة المعاد واتفقوا على أن معرفة المبدأ مقدمة على معرفة المعاد فلهذا السبب بدأ الله تعالى بعد ذلك بما يدل على المبدأ
فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى الدفق صب الماء يقال دفقت الماء أي صببته وهو مدفوق أي مصبوب ومندفق أي منصب ولما كان هذا الماء مدفوقاً اختلفوا في أنه لم وصف بأنه دافق على وجوه الأول قال الزجاج معناه ذو اندفاق كما يقال دراع وفارس ونابل ولابن وتامر أي درع وفرس ونبل ولبن وتمر وذكر الزجاج أن هذا مذهب سيبويه الثاني أنهم يسمون المفعول باسم الفاعل قال الفراء وأهل الحجاز أفعل لهذا من غيرهم يجعلون المفعول فاعلاً إذا كان في مذهب النعت كقوله سر كاتم وهم ناصب وليل نائم وكقوله تعالى حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ أي مرضية الثالث ذكر الخليل في الكتاب المنسوب إليه دفق الماء دفقاً ودفوقاً إذا انصب بمرة واندفق الكوز إذا انصب بمرة ويقال في الطيرة عند انصباب الكوز ونحوه دافق خير وفي كتاب قطرب دفق الماء يدفق إذا انصب الرابع صاحب الماء لما كان دافقاً أطلق ذلك على الماء على سبيل المجاز
المسألة الثانية قرىء الصلب بفتحتين والصلب بضمتين وفيه أربع لغات صلب وصلب وصلب وصالب
المسألة الثالثة ترائب المرأة عظام صدرها حيث تكون القلادة وكل عظم من ذلك تريبة وهذا قول جميع أهل اللغة قال امرؤ القيس
ترائبها مصقولة كالسجنجل
المسألة الرابعة في هذه الآية قولان أحدهما أن الولد مخلوق من الماء الذي يخرج من صلب

الرجل وترائب المرأة وقال آخرون إنه مخلوق من الماء الذي يخرج من صلب الرجل وترائبه واحتج صاحب القول الثاني على مذهبه بوجهين الأول أن ماء الرجل خارج من الصلب فقط وماء المرأة خارج من الترائب فقط وعلى هذا التقدير لا يحصل هناك ماء خارج من بين الصلب والترائب وذلك على خلاف الآية الثاني أنه تعالى بين أن الإنسان مخلوق مِن مَّاء دَافِقٍ والذي يوصف بذلك هو ماء الرجل ثم عطف عليه بأن وصفه بأنه يخرج يعني هذا الدافق من بين الصلب والترائب وذلك يدل على أن الولد مخلوق من ماء الرجل فقط أجاب القائلون بالقول الأول عن الحجة الأولى أنه يجوز أن يقال للشيئين المتباينين أنه يخرج من بين هذين خير كثير ولأن الرجل والمرأة عند اجتماعهما يصيران كالشيء الواحد فحسن هذا اللفظ هناك وأجابوا عن الحجة الثانية بأن هذا من باب إطلاق اسم البعض على الكل فلما كان أحد قسمي المني دافقاً أطلق هذا الاسم على المجموع ثم قالوا والذي يدل على أن الولد مخلوق من مجموع الماءين أن مني الرجل وحده صغير فلا يكفي ولأنه روي أنه عليه السلام قال ( إذا غلب ماء الرجل يكون الولد ذكراً ويعود شبه إليه وإلى أقاربه وإذا غلب ماء المرأة فإليها وإلى أقاربها يعود الشبه ) وذلك يقتضي صحة القول الأول
واعلم أن الملحدين طعنوا في هذه الآية فقالوا إن كان المراد من قوله يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ أن المني إنما ينفصل من تلك المواضع فليس الأمر كذلك لأنه إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع وينفصل عن جميع أجزاء البدن حتى يأخذ من كل عضو طبيعته وخاصيته فيصير مستعداً لأن يتولد منه مثل تلك الأعضاء ولذلك فإن المفرط في الجماع يستولي الضعف على جميع أعضائه وإن كان المراد أن معظم أجزاء المني يتولد هناك فهو ضعيف بل معظم أجزائه إنما يتربى في الدماغ والدليل عليه أن صورته يشبه الدماغ ولأن المكثر منه يظهر الضعف أولاً في عينيه وإن كان المراد أن مستقر المني هناك فهو ضعيف لأن مستقر المني هو أوعية المني وهي عروق ملتف بعضها بالبعض عند البيضتين وإن كان المراد أن مخرج المني هناك فهو ضعيف لأن الحس يدل على أنه ليس كذلك الجواب لا شك أن أعظم الأعضاء معونة في توليد المني هو الدماغ والدماغ خليفة وهي النخاع وهو في الصلب وله شعب كثيرة نازلة إلى مقدم البدن وهو التريبة فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بالذكر على أن كلامكم في كيفية تولد المني وكيفية تولد الأعضاء من المني محض الوهم والظن الضعيف وكلام الله تعالى أولى بالقبول
المسألة الخامسة قد بينا في مواضع من هذا الكتاب أن دلالة تولد الإنسان عن النطفة على وجود الصانع المختار من أظهر الدلائل لوجوه أحدها أن التركيبات العجيبة في بدن الإنسان أكثر فيكون تولده عن المادة البسيطة أدل على القادر المختار وثانيها أن اطلاع الإنسان على أحوال نفسه أكثر من اطلاعه على أحوال غيره فلا جرم كانت هذه الدلالة أتم وثالثها أن مشاهدة الإنسان لهذه الأحوال في أولاده وأولاد سائر الحيوانات دائمة فكان الاستدلال به على الصانع المختار أقوى ورابعها وهو أن الاستدلال بهذا الباب كما أنه يدل قطعاً على وجود الصانع المختار الحكيم فكذلك يدل قطعاً على صحة البعث والحشر والنشر وذلك لأن حدوث الإنسان إنما كان بسبب اجتماع أجزاء كانت متفرقة في بدن الوالدين بل

في جميع العالم فلما قدر الصانع على جمع تلك الأجزاء المتفرقة حتى خلق منها إنساناً سوياً وجب أن يقال إنه بعد موته وتفرق أجزائه لا بد وأن يقدر الصانع على جمع تلك الأجزاء وجعلها خلقاً سوياً كما كان أولاً ولهذا السر لما بين تعالى دلالته على المبدأ فرع عليه أيضاً دلالته على صحة المعاد فقال
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى الضمير في أنه للخالق مع أنه لم يتقدم ذكره والسبب فيه وجهان الأول دلالة خلق عليه والمعنى أن ذلك الذي خلق قادر على رجعه الثاني أنه وإن لم يتقدم ذكره لفظاً ولكن تقدم ذكر ما يدل عليه سبحانه وقد تقرر في بدائة العقول أن القادر على هذه التصرفات هو الله سبحانه وتعالى فلما كان ذلك في غاية الظهور كان كالمذكور
المسألة الثانية الرجع مصدر رجعت الشيء إذا رددته والكناية في قوله على رجعه إلى أي شيء ترجع فيه وجهان أولهما وهو الأقرب أنه راجع إلى الإنسان والمعنى أن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء وجب أن يقدر بعد موته على رده حياً وهو كقوله تعالى قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( يس 79 ) وقوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 ) وثانيهما أن الضمير غير عائد إلى الإنسان ثم قال مجاهد قادر على أن يرد الماء في الإحليل وقال عكرمة والضحاك على أن يرد الماء في الصلب وروي أيضاً عن الضحاك أنه قادر على رد الإنسان ماء كما كان قبل وقال مقاتل بن حيان إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الصبا ومن الصبا إلى النطفة واعلم أن القول الأول أصح ويشهد له قوله يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ أي أنه قادر على بعثه يوم القيامة ثم إنه سبحانه لما أقام الدليل على صحة القول بالبعث والقيامة وصف حاله في ذلك اليوم فقال
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّة ٍ وَلاَ نَاصِرٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى يَوْمٍ منصوب برجعه ومن جعل الضمير في رجعه للماء وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب أو إلى الحالة الأولى نصب الظرف بقوله فَمَا لَهُ مِن قُوَّة ٍ أي ماله من قوة ذلك اليوم
المسألة الثانية تُبْلَى أي تختبر والسرائر ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وما أخفى من الأعمال وفي كيفية الابتلاء والاختبار ههنا أقوال
الأول ما ذكره القفال معنى الاختبار ههنا أن أعمال الإنسان يوم القيامة تعرض عليه وينظر أيضاً في الصحيفة التي كتبت الملائكة فيها تفاصيل أعمالهم ليعلم أن المذكور هل هو مطابق للمكتوب ولما كانت المحاسبة يوم القيامة واقعة على هذا الوجه جاز أن يسمى هذا المعنى ابتلاء وهذه التسمية غير بعيدة لعباده لأنها ابتلاء وامتحان وإن كان عالماً بتفاصيل ما عملوه وما لم يعملوه
والوجه الثاني أن الأفعال إنما يستحق عليها الثواب والعقاب لوجوهها فرب فعل يكون ظاهره حسناً

وباطنه قبيحاً وربما كان بالعكس فاختبارها ما يعتبر بين تلك الوجوه المتعارضة من المعارضة والترجيح حتى يظهر أن الوجه الراجح ما هو والمرجوح ما هو
الثالث قال أبو مسلم بلوت يقع على إظهار الشيء ويقع على امتحانه كقوله وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ وقوله وَلَنَبْلُوَنَّكُم ثم قال المفسرون السَّرَائِرُ التي تكون بين الله وبين العبد تختبر يوم القيامة حتى يظهر خبرها من سرها ومؤديها من مضيعها وهذا معنى قول ابن عمر رضي الله عنهما يبدي الله يوم القيامة كل سر منها فيكون ذيناً في الوجوه وشيناً في الوجوه يعني من أداها كان وجهه مشرقاً ومن ضيعها كان وجهه أغبر
المسألة الثالثة دلت الآية على أنه لا قوة للعبد ذلك اليوم لأن قوة الإنسان إما أن تكون له لذاته أو مستفادة من غيره فالأول منفي بقوله تعالى فَمَا لَهُ مِن قُوَّة ٍ والثاني منفي بقوله وَلاَ نَاصِرٍ والمعنى ماله من قوة يدفع بها عن نفسه ما حل من العذاب وَلاَ نَاصِرٍ ينصره في دفعه ولا شك أنه زجر وتحذير ومعنى دخول من في قوله مِن قُوَّة ٍ على وجه النفي لقليل ذلك وكثيره كأنه قيل ماله من شيء من القوة ولا أحد من الأنصار
المسألة الرابعة يمكن أن يتمسك بهذه الآية في نفي الشفاعة كقوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ( البقرة 48 ) إلى قوله وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ الجواب ما تقدم
وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالاّرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما فرغ من دليل التوحيد والمعاد أقسم قسماً آخر أما قوله وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ فنقول قال الزجاج الرجع المطر لأنه يجيء ويتكرر واعلم أن كلام الزجاج وسائر أئمة اللغة صريح في أن الرجع ليس اسماً موضوعاً للمطر بل سمي رجعاً على سبيل المجاز ولحسن هذا المجاز وجوه أحدها قال القفال كأنه من ترجيع الصوت وهو إعادته ووصل الحروف به فكذا المطر لكونه عائداً مرة بعد أخرى سمي رجعاً وثانيها أن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض وثالثها أنهم أرادوا التفاؤل فسموه رجعاً ليرجع ورابعها أن المطر يرجع في كل عام إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين أقوال أحدها قال ابن عباس وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ أي ذات المطر يرجع لمطر بعد مطر وثانيها رجع السماء إعطاء الخير الذي يكون من جهتها حالاً بعد حال على مرور الأزمان ترجعه رجعاً أي تعطيه مرة بعد مرة وثالثها قال ابن زيد هو أنها ترد وترجع شمسها وقمرها بعد مغيبهما والقول هو الأول أما قوله تعالى وَالاَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ فاعلم أن الصدع هو الشق ومنه قوله تعالى يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( الروم 43 ) أي يتفرقون وللمفسرين أقوال قال ابن عباس تنشق عن النبات والأشجار

وقال مجاهد هو الجبلان بينهما شق وطريق نافذ كما قال تعالى وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً ( الأنبياء 31 ) وقال الليث الصدع نبات الأرض لأنه يصدع الأرض فتنصدع به وعلى هذا سمي النبات صدعاً لأنه صادع للأرض واعلم أنه سبحانه كما جعل كيفية خلقة الحيوان دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد ذكر في هذا القسم كيفية خلقة النبات فالسماء ذات الرجع كالأب والأرض ذات الصدع كالأم وكلاهما من النعم العظام لأن نعم الدنيا موقوفة على ما ينزل من السماء من المطر متكرراً وعلى ما ينبت من الأرض كذلك ثم إنه تعالى أردف هذا القسم بالمقسم عليه فقال إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذا الضمير قولان
الأول ما قال القفال وهو أن المعنى أن ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم في اليوم الذي تبلى فيه سرائركم قول فصل وحق
والثاني أنه عائد إلى القرآن أي القرآن فاصل بين الحق والباطل كما قيل له فرقان والأول أولى لأن عود الضمير إلى المذكور السالف أولى
المسألة الثانية قَوْلَ فَصْلٌ أي حكم ينفصل به الحق عن الباطل ومنه فصل الخصومات وهو قطعها بالحكم ويقال هذا فصل أي قاطع للمراء والنزاع وقال بعض المفسرين معناه أنه جد حق لقوله وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ أي باللعب والمعنى أن القرآن أنزل بالجد ولم ينزل باللعب ثم قال وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ والمعنى أن البيان الفصل قد يذكر على سبيل الجد والاهتمام بشأنه وقد يكون على غير سبيل الجد وهذا الموضع من ذلك ثم قال إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وذلك الكيد على وجوه منها بإلقاء الشبهات كقولهم إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( الأنعام 29 ) مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ ( ي س 78 ) أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً ( ص 5 ) لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً ومنها بالطعن فيه بكونه ساحراً وشاعراً ومجنوناً ومنها بقصد قتله على ما قاله وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ ( الأنفال 30 ) ثم قال وَأَكِيدُ كَيْداً
واعلم أن الكيد في حق الله تعالى محمول على وجوه أحدها دفعه تعالى كيد الكفرة عن محمد عليه الصلاة والسلام ويقابل ذلك الكيد بنصرته وإعلاء دينه تسمية لأحد المتقابلين باسم كقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا وقال الشاعر ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وكقوله تعالى نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ( الحشر 19 ) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النساء 142 ) وثانيها أن كيده تعالى بهم هو إمهاله إياهم على كفرهم حتى يأخذهم على غرة ثم قال فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أي لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل ثم إنه تعالى لما أمره بإمهالهم بين أن ذلك الإمهال المأمور به قليل فقال أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً فكرر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين من الرسول عليه الصلاة والسلام والتصبر وههنا مسائل

المسألة الأولى قال أبو عبيدة إن تكبير رويد رود وأنشد يمشي ولا تكلم البطحاء مشيته
كأنه ثمل يمشي على ورد
أي على مهلة ورفق وتؤدة وذكر أبو علي في باب أسماء الأفعال رويداً زيداً يريد أرود زيداً ومعناه أمهله وارفق به قال النحويون رويد في كلام العرب على ثلاثة أوجه أحدها أن يكون اسماً للأمر كقولك رويد زيداً تريد أرود زيد أي خله ودعه وأرفق به ولا تنصرف رويد في هذا الوجه لأنها غير متمكنة والثاني أن يكون بمنزلة سائر المصادر فيضاف إلى ما بعده كما تضاف المصادر تقول رويد زيد كما تقول ضرب زيد قال تعالى فَضَرْبَ الرّقَابِ ( محمد 4 ) والثالث أن يكون نعتاً منصوباً كقولك ساروا سيراً رويداً ويقولون أيضاً ساروا رويداً يحذفون المنعوت ويقيمون رويداً مقامه كما يفعلون بسائر النعوت المتمكنة ومن ذلك قول العرب ضعه رويداً أي وضعاً رويداً وتقول للرجل يعالج الشيء الشيء رويداً أي علاجاً رويداً ويجوز في هذا الوجه أمران أحدهما أن يكون رويداً حالاً والثاني أن يكون نعتاً فإن أظهرت المنعوت لم يجز أن يكون للحال والذي في الآية هو ما ذكرنا في الوجه الثالث لأنه يجوز أن يكون نعتاً للمصدر كأنه قيل إمهالاً رويداً ويجوز أن يكون للحال أي أمهلهم غير مستعجل
المسألة الثانية منهم من قال أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً إلى يوم القيامة وإنما صغر ذلك من حيث علم أن كل ما هو آت قريب ومنهم من قال أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً إلى يوم بدر والأول أولى لأن الذي جرى يوم بدر وفي سائر الغزوات لا يعم الكل وإذا حمل على أمر الآخرة عم الكل ولا يمتنع مع ذلك أن يدخل في جملته أمر الدنيا مما نالهم يوم بدر وغيره وكل ذلك زجر وتحذير للقوم وكما أنه تحذير لهم فهو ترغيب في خلاف طريقهم في الطاعات والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة الأعلى
تسع عشر آية مكية
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاّعْلَى الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى
اعلم أن قوله تعالى سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى فيه مسائل
المسألة الأولى في قوله اسْمَ رَبّكَ قولان أحدهما أن المراد الأمر بتنزيه اسم الله وتقديسه والثاني أن الاسم صلة والمراد الأمر بتنزيه الله تعالى أما على الوجه الأول ففي اللفظ احتمالات أحدها أن المراد نزه اسم ربك عن أن تسمي به غيره فيكون ذلك نهياً على أن يدعى غيره باسمه كما كان المشركون يسمون الصنم باللات ومسيلمة برحمان اليمامة وثانيها أن لا يفسر أسماءه بما لا يصح ثبوته في حقه سبحانه نحو أن يفسر الأعلى بالعلو في المكان والاستواء بالاستقرار بل يفسر العلو بالقهر والاقتداء والاستواء بالاستيلاء وثالثها أن يصان عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم ويدخل فيه أن يذكر تلك الأسماء عند الغفلة وعدم الوقوف على معانيها وحقائقها ورابعها أن يكون المراد بسبح باسم ربك أي مجده بأسمائه التي أنزلتها عليك وعرفتك أنها أسماؤه كقوله قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ ( الإسراء 110 ) ونظير هذا التأويل قوله تعالى فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ( الواقعة 74 ) ومقصود الكلام من هذا التأويل أمران أحدهما سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى أي صل باسم ربك لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية والثاني أن لا يذكر العبد ربه إلا بأسماء التي ورد التوقيف بها قال الفراء لا فرق بين سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ وبين فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ قال الواحدي وبينهما فرق لأن معنى فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ نزه الله تعالى بذكر اسمه المنبىء عن تنزيهه وعلوه عما يقول المبطلون و سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ أي نزه الاسم

من السوء وخامسها قال أبو مسلم المراد من الاسم ههنا الصفة وكذا في قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( الأعراف 180 ) أما على الوجه الثاني وهو أن يكون الاسم صلة ويكون المعنى سبح ربك وهو اختيار جمع من المحققين قالوا لأن الاسم في الحقيقة لفظة مؤلفة من حروف ولا يجب تنزيهها كما يجب في الله تعالى ولكن المذكور إذا كان في غاية العظمة لا يذكر هو بل يذكر اسمه فيقال سبح اسمه ومجد ذكره كما يقال سلام على المجلس العالي وقال لبيد
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
أي السلام وهذه طريقة مشهورة في اللغة ونقول على هذا الوجه تسبيح الله يحتمل وجهين الأول أن لا يعامل الكفار معاملة يقدمون بسببها على ذكر الله بما لا ينبغي على ما قال وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ الثاني أنه عبارة عن تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله وفي أسمائه وفي أحكامه أما في ذاته فأن يعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض وأما في صفاته فأن يعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهية ولا ناقصة وأما في أفعاله فأن يعتقد أنه مالك مطلق فلا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور وقالت المعتزلة هو أن يعتقد أن كل ما فعله فهو صواب حسن وأنه لا يفعل القبيح ولا يرضى به وأما في أسمائه فأن لا يذكر سبحانه إلا بالأسماء التي ورد التوقيف بها هذا عندنا وأما عند المعتزلة فهو أن لا يذكر إلا بالأسماء التي لا توهم نقصاً بوجه من الوجوه سواء ورد الإذن بها أو لم يرد وأما في أحكامه فهو أن يعلم أنه ما كلفنا لنفع يعود إليه بل إما لمحض المالكية على ما هو قولنا أو لرعاية مصالح العباد على ما ( هو ) قول المعتزلة
المسألة الثانية من الناس من تمسك بهذه الآية في أن الإسم نفس المسمى فأقول إن الخوض في الاستدلال لا يمكن إلا بعد تلخيص محل النزاع فلا بد ههنا من بيان أن الإسم ما هو والمسمى ما هو حتى يمكننا أن نخوض في الاسم هل هو نفس المسمى أم لا فنقول وإن كان المراد من الاسم هو هذا اللفظ وبالمسمى تلك الذات فالعاقل لا يمكنه أن يقول الاسم هو المسمى وإن كان المراد من الاسم هو تلك الذات وبالمسمى أيضاً تلك الذات كان قولنا الاسم نفس المسمى هو أن تلك الذات نفس تلك الذات وهذا لا يمكن أن ينازع فيه عاقل فعلمنا أن هذه المسألة في وصفها ركيكة وإن كان كذلك كان الخوض في ذكر الاستدلال عليه أرك وأبعد بل ههنا دقيقة وهي أن قولنا اسم لفظة جعلناها اسماً لكل ما دل على معنى غير مقترن بزمان والاسم كذلك فيلزم أن يكون الاسم إسماً لنفسه فههنا الاسم نفس المسمى فلعل العلماء الأولين ذكروا ذلك فاشتبه الأمر على المتأخرين وظنوا أن الاسم في جميع المواضع نفس المسمى هذا حاصل التحقيق في هذه المسألة ولنرجع إلى الكلام المألوف قالوا الذي يدل على أن الاسم نفس المسمى أن أحداً لا يقول سبحان اسم الله وسبحان اسم ربنا فمعنى سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ سبح ربك والرب أيضاً اسم فلو كان غير المسمى لم يجز أن يقع التسبيح عليه واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لما بينا في المسألة الأولى أنه يمكن أن يكون الأمر وارداً بتسبيح الاسم ويمكن أن يكون المراد تسبيح المسمى وذكر الاسم صلة فيه ويمكن أن يكون المراد سبح باسم ربك كما يقال فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ( الواقعة 74 ) ويكون المعنى سبح ربك بذكر أسمائه

المسألة الثالثة روى عن عقبة بن عامر أنه لما نزل قوله تعالى فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ قال لنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اجعلوها في ركوعكم ) ولما نزل قوله سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى قال ( اجعلوها في سجودكم ) ثم روي في الأخبار أنه عليه السلام كان يقول في ركوعه ( سبحان ربي العظيم ) وفي سجوده ( سبحان ربي الأعلى ) ثم من العلماء من قال إن هذه الأحاديث تدل على أن المراد من قوله سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ أي صل باسم ربك ويتأكد هذا الاحتمال بإطباق المفسرين على أن قوله تعالى فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) ورد في بيان أوقات الصلاة
المسألة الرابعة قرأ علي عليه السلام وابن عمر سبحان ربي الأعلى الذي خلق فسوى ولعل الوجه فيه أن قوله سَبِّحِ أمر بالتسبيح فلا بد وأن يذكر ذلك التسبيح وما هو إلا قوله سُبْحَانَ رَبّى الاْعْلَى
المسألة الخامسة تمسكت المجسمة في إثبات العلو بالمكان بقوله رَبّكَ الاَعْلَى والحق أن العلو بالجهة على الله تعالى محال لأنه تعالى إما أن يكون متناهياً أو غير متناه فإن كان متناهياً كان طرفه الفوقاني متناهياً فكان فوقه جهة فلا يكون هو سبحانه أعلى من جميع الأشياء وأما إن كان غير متناه فالقول بوجود أبعاد غير متناهية محال وأيضاً فلأنه إن كان غير متناه من جميع الجهات يلزم أن تكون ذاته تعالى مختلطة بالقاذورات تعالى الله عنه وإن كان غير متناه من بعض الجهات ومتناهياً من بعض الجهات كان الجانب المتناهي مغايراً للجانب غير المتناهي فيكون مركباً من جزأين وكل مركب ممكن فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود هذا محال فثبت أن العلو ههنا ليس بمعنى العلو في الجهة مما يؤكد ذلك أن ما قبل هذه الآية وما بعدها ينافي أن يكون المراد هو العلو بالجهة أما قبل الآية فلأن العلو عبارة عن كونه في غاية البعد عن العالم وهذا لا يناسب استحقاق التسبيح والثناء والتعظيم أما العلو بمعنى كمال القدرة والتفرد بالتخليق والإبداع فيناسب ذلك والسورة ههنا مذكورة لبيان وصفه تعالى بما لأجله يستحق الحمد والثناء والتعظيم وأما ما بعد هذه الآية فلأنه أردف قوله الاْعْلَى بقوله الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى والخالقية تناسب العلو بحسب القدرة لا العلو بحسب الجهة
المسألة السادسة من الملحدين من قال بأن القرآن مشعر بأن للعالم ربين أحدهما عظيم والآخر أعلى منه أما العظيم فقوله فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ وأما الأعلى منه فقوله سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى فهذا يقتضي وجود رب آخر يكون هذا أعلى بالنسبة إليه
واعلم أنه لما دلت الدلائل على أن الصانع تعالى واحد سقط هذا السؤال ثم نقول ليس في هذه الآية أنه سبحانه وتعالى أعلى من رب آخر بل ليس فيه إلا أنه أعلى ثم لنا فيه تأويلات
الأول أنه تعالى أعلى وأجل وأعظم من كل ما يصفه به الواصفون ومن كل ذكر يذكره به الذاكرون فجلال كبريائه أعلى من معارفنا وإدراكاتنا وأصناف آلائه ونعمائه أعلى من حمدنا وشكرنا وأنواع حقوقه أعلى من طاعاتنا وأعمالنا
الثاني أن قوله الاْعْلَى تنبيه على استحقاق الله التنزيه من كل نقص فكأنه قال سبحانه فإنه الاْعْلَى أي فإنه العالي على كل شيء بملكه وسلطانه وقدرته وهو كما تقول اجتنبت الخمر المزيلة للعقل أي اجتنبتها بسبب كونها مزيلة للعقل

والثالث أن يكون المراد بالأعلى العالي كما أن المراد بالأكبر الكبير
المسألة السابعة روي أنه عليه السلام كان يحب هذه السورة ويقول ( لو علم الناس علم سبح اسم ربك الأعلى لرددها أحدهم ست عشرة مرة ) وروى ( أن عائشة مرت بأعرابي يصلي بأصحابه فقرأ ( سبح اسم ربك الأعلى الذي يسر على الحبلى فأخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشاً أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ألا بلى ألا بلى ) فقالت عائشة لا آب غائبكم ولا زالت نساؤكم في لزبة ) والله أعلم
أما قوله تعالى الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى فاعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمر بالتسبيح فكأن سائلاً قال الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة فما الدليل على وجود الرب فقال الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى واعلم أن الاستدلال بالخلق والهداية هي الطريقة المعتمدة عند أكابر الأنبياء عليهم والدليل عليه ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الشعراء 78 ) وحكى عن فرعون أنه لما قال لموسى وهرون عليهما السلام فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى ( طه 49 ) قال موسى عليه السلام رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ( طه 50 ) وأما محمد عليه السلام فإنه تعالى أول ما أنزل عليه هو قوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ( العلق 2 1 ) هذا إشارة إلى الخلق ثم قال اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ ( العلق 4 3 ) وهذا إشارة إلى الهداية ثم إنه تعالى أعاد ذكر تلك الحجة في هذه السورة فقال الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى وإنما وقع الاستدلال بهذه الطريقة كثيراً لما ذكرنا أن العجائب والغرائب في هذه الطريقة أكثر ومشاهدة الإنسان لها واطلاعه عليها أتم فلا جرم كانت أقوى في الدلالة ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى قوله خَلَقَ فَسَوَّى يحتمل أن يريد به الناس خاصة ويحتمل أن يريد الحيوان ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوهاً أحدها أنه جعل قامته مستوية معتدلة وخلقته حسنة على ما قال لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( التين 4 ) وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه فقال فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وثانيها أن كل حيوان فإنه مستعد لنوع واحد من الأعمال فقط وغير مستعد لسائر الأعمال أما الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع أفعال الحيوانات بواسطة آلات مختلفة فالتسوية إشارة إلى هذا وثالثها أنه هيأ للتكليف والقيام بأداء العبادات وأما من حمله على جميع الحيوانات قال المراد أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من أعضاء وآلات وحواس وقد استقصينا القول في هذا الباب في مواضع كثيرة من هذا الكتاب وأما من حمله على جميع المخلوقات قال المراد من التسوية هو أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات خلق ما أراد على وفق ما أراد موصوفاً بوصف الأحكام والإتقان مبرأ عن الفسخ والاضطراب
المسألة الثانية قرأ الجمهور قُدِرَ مشددة وقرأ الكسائي على التخفيف أما قراءة التشديد فالمعنى أنه قدر كل شيء بمقدار معلوم وأما التخفيف فقال القفال معناه ملك فهدى وتأويله أنه خلق فسوى وملك ما خلق أي تصرف فيه كيف شاء وأراد وهذا هو الملك فهداه لمنافعه ومصالحه ومنهم من قال هما لغتان بمعنى واحد وعليه قوله تعالى فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ بالتشديد والتخفيف

المسألة الثالثة أن قوله قُدِرَ يتناول المخلوقات في ذواتها وصفاتها كل واحد على حسبه فقدر السموات والكواكب والعناصر والمعادن والنبات والحيوان والإنسان بمقدار مخصوص من الجثة والعظم وقدر لكل واحد منها من البقاء مدة معلومة ومن الصفات والألوان والطعوم والروائح والأيون والأوضاع والحسن والقبح والسعادة والشقاوة والهداية والضلالة مقداراً معلوماً على ما قال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( الحجر 21 ) وتفصيل هذه الجملة مما لا يفي بشرحه المجلدات بل العالم كله من أعلى اعليين إلى أسفل السافلين تفسير هذه الآية وتفصيل هذه الجملة
أما قوله فَهَدَى فالمراد أن كل مزاج فإنه مستعد لقوة خاصة وكل قوة فإنها لا تصلح إلا لفعل معين فالتسوية والتقدير عبارة عن التصرف في الأجزاء الجسمانية وتركيبها على وجه خاص لأجله تستعد لقبول تلك القوى وقوله فَهَدَى عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء بحيث تكون كل قوة مصدراً لفعل معين ويحصل من مجموعها تمام المصلحة وللمفسرين فيه وجوه قال مقاتل هدى الذكر للأنثى كيف يأتيها وقال آخرون هداه للمعيشة ورعاه وقال آخرون هدى الإنسان لسبل الخير والشر والسعادة والشقاوة وذلك لأنه جعله حساساً دراكاً متمكناً من الإقدام على ما يسره والإحجام عما يسوءه كما قال إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ( الإنسان 3 ) وقال وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( الشمس 8 7 ) وقال السدي قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج وقال الفراء قدر فهدى وأضل فاكتفى بذكر إحداهما كقوله سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( النحل 81 ) وقال آخرون الهداية بمعنى الدعاء إلى الإيمان كقوله وَإِنَّكَ لَتَهْدِى ( الشورى 52 ) أي تدعو وقد دعى الكل إلى الإيمان وقال آخرون هدى أي دلهم بأفعاله على توحيده وجلال كبريائه ونعوت صمديته وفردانيته وذلك لأن العاقل يرى في العالم أفعال محكمة متقنة منتسقة منتظمة فهي لا محالة تدل على الصانع القديم وقال قتادة في قوله فَهَدَى إن الله تعالى ما أكره عبداً على معصية ولا على ضلالة ولا رضيها له ولا أمره بها ولكن رضي لكم الطاعة وأمركم بها ونهاكم عن المعصية واعلم أن هذه الأقوال على كثرتها لا تخرج عن قسمين فمنهم من حمل قوله فَهَدَى على ما يتعلق بالدين كقوله وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ومنهم من حمله على ما يرجع إلى مصالح الدنيا والأول أقوى لأن قوله خَلَقَ فَسَوَّى وَقَدَّرَ يرجع إلى أحوال الدنيا ويدخل فيه إكمال العقل والقوى ثم أتبعه بقوله فَهَدَى أي كلفه ودله على الدين أما قوله تعالى وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى فاعلم أنه سبحانه لما بين ما يختص به الناس أتبعه بذكر ما يختص به غير الناس من النعم فقال وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى أي هو القادر على إنبات العشب لا الأصنام التي عبدتها الكفرة والمرعى ما تخرجه الأرض من النبات ومن الثمار والزروع والحشيش قال ابن عباس المرعى الكلأ الأخضر ثم قال فجعله غثاء أحوى وفيه مسألتان
المسألة الأولى الغثاء ما يبس من النبت فحملته الأودية والمياه وألوت به الرياح وقال قطرب واحد الغثاء غثاءة
المسألة الثانية الحوة السواد وقال بعضهم الأحوى هو الذي يضرب إلى السواد إذا أصابته رطوبة وفي أحوى قولان أحدهما أنه نعت الغثاء أي صار بعد الخضرة يابساً فتغير إلى السواد وسبب ذلك

السواد أمور أحدها أن العشب إنما يجف عند استيلاء البرد على الهواء ومن شأن البرودة أنها تبيض الرطب وتسود اليابس وثانيها أن يحملها السيل فيلصق بها أجزاء كدرة فتسود وثالثها أن يحملها الريح فتلصق بها الغبار الكثير فتسود القول الثاني وهو اختيار الفراء وأبي عبيدة وهو أن يكون الأحوى هو الأسود لشدة خضرته كما قيل مُدْهَامَّتَانِ أي سوداوان لشدة خضرتهما والتقدير الذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء كقوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً أي أنزل قيماً ولم يجعل له عوجاً
سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً بالتسبيح فقال سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( الأعلى 1 ) وعلم محمداً عليه السلام أن ذلك التسبيح لا يتم ولا يكمل إلا بقراءة ما أنزله الله تعالى عليه من القرآن لما بينا أن التسبيح الذي يليق به هو الذي يرتضيه لنفسه فلا جرم كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى فأزال الله تعالى ذلك الخوف عن قلبه بقوله سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي سَنُقْرِئُكَ أي سنجعلك قارئاً بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه والمعنى نجعلك قارئاً للقرآن تقرؤه فلا تنساه قال مجاهد ومقاتل والكلبي كان عليه السلام إذا نزل عليه القرآن أكثر تحريك لسانه مخافة أن ينسى وكان جبريل لا يفرغ من آخر الوحي حتى يتكلم هو بأوله مخافة النسيان فقال تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى أي سنعلمك هذا القرآن حتى تحفظه ونظيره قوله وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يَقْضِى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ( طه 114 ) وقوله لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ثم ذكروا في كيفية ذلك الاستقراء والتعليم وجوهاً أحدها أن جبريل عليه السلام سيقرأ عليك القرآن مرات حتى تحفظه حفظاً لا تنساه وثانيها أنا نشرح صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظ بالمرة الواحدة حفظاً لا تنساه وثالثها أنه تعالى لما أمره في أول السورة بالتسبيح فكأنه تعالى قال واظب على ذلك ودم عليه فإنا سنقرئك القرآن الجامع لعلوم الأولين والآخرين ويكون فيه ذكرك وذكر قومك ونجمعه في قلبك ونيسرك لليسرى وهو العمل به
المسألة الثانية هذه الآية تدل على المعجزة من وجهين الأول أنه كان رجلاً أمياً فحفظه لهذا الكتاب المطول من غير دراسة ولا تكرار ولا كتبة خارق للعادة فيكون معجزاً الثاني أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة سيقع في المستقبل وقد وقع فكان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً أما قوله فَلاَ تَنسَى فقال بعضهم فَلاَ تَنسَى معناه النهي والألف مزيدة للفاصلة كقوله السَّبِيلاْ ( الأحزاب 67 ) يعني فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه والقول المشهور أن هذا خبر والمعنى سنقرئك إلى أن تصير بحيث لا تنسى وتأمن النسيان كقولك سأكسوك فلا تعرى أي فتأمن العرى واحتج أصحاب هذا القول على ضعف القول الأول بأن ذلك القول لا يتم إلا عند التزام مجازات في هذه الآية منها أن النسيان لا يقدر عليه إلا الله تعالى فلا يصح ورود الأمر والنهي به فلا بد وأن يحمل ذلك على المواظبة على الأشياء التي تنافي النسيان مثل الدراسة وكثرة

التذكر وكل ذلك عدول عن ظاهر اللفظ ومنها أن تجعل الألف مزيدة للفاصلة وهو أيضاً خلاف الأصل ومنها أنا إذا جعلناه خبراً كان معنى الآية بشارة الله إياه بأني أجعلك بحيث لا تنساه وإذا جعلناه نهياً كان معناه أن الله أمره بأن يواظب على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة وهذا ليس في البشارة وتعظيم حاله مثل الأول ولأنه على خلاف قوله لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( القيامة 16 )
أما قوله إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ ففيه احتمالان أحدهما أن يقال هذا الاستثناء غير حاصل في الحقيقة وأنه عليه السلام لم ينس بعد ذلك شيئاً قال الكلبي إنه عليه السلام لم ينس بعد نزول هذه الآية شيئاً وعلى هذا التقدير يكون الغرض من قوله إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ أحد أمور أحدها التبرك بذكر هذه الكلمة على ما قال تعالى وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الكهف 24 23 ) وكأنه تعالى يقول أنا مع أني عالم بجميع المعلومات وعالم بعواقب الأمور على التفصيل لا أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة فأنت وأمتك يا محمد أولى بها وثانيها قال الفراء إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمد عليه السلام شيئاً إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسياً لذلك لقدر عليه كما قال وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( الإسراء 86 ) ثم إنا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك وقال لمحمد عليه السلام لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ مع أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك ألبتة وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرفه قدرة ربه حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله وإحسانه لا من قوته وثالثها أنه تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوز رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في كل ما ينزل عليه من الوحي قليلاً كان أو كثيراً أن يكون ذلك هو المستثنى فلا جرم كان يبالغ في التثبت والتحفظ والتيقظ في جميع المواضع فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه عليه السلام على التيقظ في جميع الأحوال ورابعها أن يكون الغرض من قوله إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ نفي النسيان رأساً كما يقول الرجل لصاحبه أنت سهيمي فيما أملك إلا فيما شاء ( الله ) ولا يقصد استثناء شيء القول الثاني أن قوله إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ استثناء في الحقيقة وعلى هذا التقدير تحتمل الآية وجوهاً أحدها قال الزجاج إلا ما شاء الله أن ينسى فإنه ينسى ثم يتذكر بعد ذلك فإذاً قد ينسى ولكنه يتذكر فلا ينسى نسياناً كلياً دائماً روى أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة فحسب أبي أنها نسخت فسأله فقال نسيتها وثانيها قال مقاتل إلا ما شاء الله أن ينسيه ويكون المراد من الإنساء ههنا نسخة كما قال مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا فيكون المعنى إلا ما شاء الله أن تنساه على الأوقات كلها فيأمرك أن لا تقرأه ولا تصلي به فيصير ذلك سبباً لنسيانه وزواله عن الصدور وثالثها أن يكون معنى قوله إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ القلة والندرة ويشترط أن لا يكون ذلك القليل من واجبات الشرع بل من الآداب والسنن فإنه لو نسي شيئاً من الواجبات ولم يتذكره أدى ذلك إلى الخلل في الشرع وإنه غير جائز
أما قوله تعالى إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ففيه وجهان أحدهما أن المعنى أنه سبحانه عالم بجهرك في القراءة مع قراءة جبريل عليه السلام وعالم بالسر الذي في قلبك وهو أنك تخاف النسيان فلا تخف فأنا أكفيك ما تخافه والثاني أن يكون المعنى فلا تنسى إلا ما شاء الله أن ينسخ فإنه أعلم بمصالح العبيد فينسخ حيث يعلم أن المصلحة في النسخ

وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى
ففيه مسائل
المسألة الأولى اليسرى هي أعمال الخير التي تؤدي إلى اليسر إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين فيه وجوه أحدها أن قوله وَنُيَسّرُكَ معطوف على سنقرؤك وقوله اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى اعتراض والتقدير سنقرؤك فلا تنسى ونوفقك للطريقة التي هي أسهل وأيسر يعني في حفظ القرآن وثانيها قال ابن مسعود اليسرى الجنة والمعنى نيسرك للعمل المؤدى إليها وثالثها نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعلمه وتعمل به ورابعها نوفقك للشريعة وهي الحنيفية السهلة السمحة والوجه الأول أقرب
المسألة الثانية لسائل أن يسأل فيقول العبارة المعتادة أن يقال جعل الفعل الفلاني ميسراً لفلان ولا يقال جعل فلان ميسراً للفعل الفلاني فما الفائدة فيه ههنا الجواب أن هذه العبارة كما أنها اختيار القرآن في هذا الموضع وفي سورة الليل أيضاً فكذا هي اختيار الرسول في قوله عليه السلام ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) وفيه لطيفة علمية وذلك لأن ذلك الفعل في نفسه ماهية ممكنة قابلة للوجود والعدم على السوية فما دام القادر يبقى بالنسبة إلى فعلها وتركها على السوية امتنع صدور الفعل عنه فإذا نرجح جانب الفاعلية على جانب التاركية فحينئذ يحصل الفعل فثبت أن الفعل ما لم يجب لم يوجد وذلك الرجحان هو المسمى بالتيسير فثبت أن الأمر بالتحقيق هو أن الفاعل يصير ميسراً للفعل لا أن الفعل يصير ميسراً للفاعل فسبحان من له تحت كل كلمة حكمة خفية وسر عجيب يبهر العقول
المسألة الثالثة إنما قال وَنُيَسّرُكَ لِلْيُسْرَى بنون التعظيم لتكون عظمة المعطى دالة على عظمة العطاء نظيره قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ( يوسف 2 ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) ( إنا أعطيناك الكوثر ( الكوثر 1 ) دلت هذه الآية على أنه سبحانه فتح عليه من أبواب التيسير والستهيل ما لم يفتحه على أحد غيره وكيف لا وقد كان صبياً لا أب له ولا أم له نشأ في قوم جهال ثم إنه تعالى جعله في أفعاله وأقواله قدوة للعالمين وهدياً للخلق أجمعين
( الكوثر 1 ) دلت هذه الآية على أنه سبحانه فتح عليه من أبواب التيسير والستهيل ما لم يفتحه على أحد غيره وكيف لا وقد كان صبياً لا أب له ولا أم له نشأ في قوم جهال ثم إنه تعالى جعله في أفعاله وأقواله قدوة للعالمين وهدياً للخلق أجمعين
فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى
فاعلم أنه تعالى لما تكمل بتيسير جميع مصالح الدنيا والآخرة أمر بدعوة الخلق إلى الحق لأن كمال حال الإنسان في أن يتخلق بأخلاق الله سبحانه تاماً وفوق التمام فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام تاماً بمقتضى قوله وَنُيَسّرُكَ لِلْيُسْرَى ( الأعلى 8 ) أمر بأن يجعل نفسه فوق التمام بمقتضى قوله فَذَكّرْ لأن التذكير يقتضي تكميل الناقصين وهداية الجاهلين ومن كان كذلك كان فياضاً للكمال فكان تاماً وفوق التمام وههنا سؤالات

السؤال الأول أنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى الكل فيجب عليه أن يذكرهم سواء نفعتهم الذكرى أو لم تنفعهم فما المراد من تعليقه على الشرط في قوله إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى الجواب أن المعلق بأن على الشيء لا يلزم أن يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء ويدل عليه آيات منها هذه الآية ومنها قوله وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ( النور 33 ) ومنها قوله وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( البقرة 172 ) ومنها قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ ( النساء 101 ) فإن القصر جائز وإن لم يوجد الخوف ومنها قوله وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ ( البقرة 283 ) والرهن جائز مع الكتابة ومنها قوله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ والمراجعة جائزة بدون هذا الظن إذا عرفت هذا فنقول ذكروا لذكر هذا الشرط فوائد إحداها أن من باشر فعلاً لغرض فلا شك أن الصورة التي علم فيها إفضاء تلك الوسيلة إلى ذلك الغرض كان إلى ذلك الفعل أوجب من الصورة التي علم فيها عدم ذلك الأفضاء فلذلك قال إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى وثانيها أنه تعالى ذكر أشرف الحالتين ونبه على الأخرى كقوله سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( النحل 81 ) والتقدير فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى أو لم تنفع وثالثها أن المراد منه البعث على الانتفاع بالذكرى كما يقول المرء لغيره إذا بين له الحق قد أوضحت لك إن كنت تعقل فيكون مراده البعث على القبول والانتفاع به ورابعها أن هذا يجري مجرى تنبيه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لا تنفعهم الذكرى كما يقال للرجل ادع فلاناً إن أجابك والمعنى وما أراه يجيبك وخامسها أنه عليه السلام دعاهم إلى الله كثيراً وكلما كانت دعوته أكثر كان عتوهم أكثر وكان عليه السلام يحترق حسرة على ذلك فقيل له وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ق 45 ) إذ التذكير العام واجب في أول الأمر فأما التكرير فلعله إنما يجب عند رجاء حصول المقصود فلهذا المعنى قيده بهذا الشرط
السؤال الثاني التعليق بالشرط إنما يحسن في حق من يكون جاهلاً بالعواقب أما علام الغيوم فكيف يليق به ذلك الجواب روي في الكتب أنه تعالى كان يقول لموسى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وأنا أشهد أنه لا يتذكر ولا يخشى فأمر الدعوة والبعثة شيء وعلمه تعالى بالمغيبات وعواقب الأمور غير ولا يمكن بناء أحدهما على الآخر
السؤال الثالث التذكير المأمور به هل مضبوط مثل أن يذكرهم عشرات مرات أو غير مضبوط وحينئذ كيف يكون الخروج عن عهدة التكليف والجواب أن الضابط فيه هو العرف والله أعلم
سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى
ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الناس في أمر المعاد على ثلاثة أقسام منهم من قطع بصحته ومنهم من جوز وجوده ولكنه غير قاطع فيه لا بالنفي ولا بالإثبات ومنهم من أصر على إنكاره وقطع بأنه لا يكون فالقسمان الأولان تكون الخشية حاصلة لهما وأما القسم الثالث فلا خشية له ولا خوف إذا عرفت ذلك ظهر أن

الآية تحتمل تفسيرين أحدهما أن يقال الذي يخشى هو الذي يكون عارفاً بالله وعارفاً بكمال قدرته وعلمه وحكمته وذلك يقتضي كونه قاطعاً بصحة المعاد ولذلك قال تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) فكأنه تعالى لما قال فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى بين في هذه الآية أن الذي تنفعه الذكرى من هو ولما كان الانتفاع بالذكرى مبنياً على حصول الخشية في القلب وصفات القلوب مما لا اطلاع لأحد عليها إلا الله سبحانه وجب على الرسول تعميم الدعوة تحصيلاً للمقصود فإن المقصود تذكير من ينتفع بالتذكير ولا سبيل إليه إلا بتعميم التذكير الثاني أن يقال إن الخشية حاصلة للعاملين وللمتوقفين غير المعاندين وأكثر الخلق متوقفون غير معاندين والمعاند فيهم قليل فإذا ضم إلى المتوقفين الذين لهم الغلبة العارفون كانت الغلبة العظيمة لغير المعاندين ثم إن كثيراً من المعاندين إنما يعاندون باللسان فأما المعاند في قلبه بينه وبين نفسه فذلك مما لا يكون أو إن كان فهو في غاية الندرة والقلة ثم إن الإنسان إذا سمع التخويف بأنه يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ( الأعلى 12 ) وأنه لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يُحْى ِ ( الأعلى 13 ) انكسر قلبه فلا بد وأن يستمع وينتفع أغلب الخلق في أغلب الأحوال وأما ذلك المعرض فنادر وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فمن هذا الوجه كان قوله فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى يوجب تعميم التذكير
المسألة الثالثة السين في قوله سَيَذَّكَّرُ يحتمل أن تكون بمعنى سوف يذكر وسوف من الله واجب كقوله سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( الأعلى 6 ) ويحتمل أن يكون المعنى أن من خشي الله فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التدبر والنظر فهو بعد طول المدة يذكر والله أعلم
المسألة الرابعة العلم إنما يسمى تذكراً إذا كان قد حصل العلم أولاً ثم نسيه وهذه الحالة غير حاصلة للكفار فكيف سمى الله تعالى ذلك بالتذكر وجوابه أن لقوة الدلائل وظهورها كأن ذلك العلم كان حاصلاً ثم إنه زال بسبب التقليد والعناد فلهذا أسماه الله تعالى بالتذكر
المسألة الخامسة قيل نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان وقيل نزلت في ابن أم مكتوم أما قوله تعالى
وَيَتَجَنَّبُهَا الاٌّ شْقَى الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى
فاعلم أنا بينا أن أقسام الخلق ثلاثة العارفون والمتوقفون والمعاندون وبينا أن القسمين الأولين لا بد وأن يكون لهما خوف وخشية وصاحب الخشية لا بد وأن يستمع إلى الدعوة وينتفع بها فيكون الأشقى هو المعاند الذي لا يستمع إلى الدعوة ولا ينتفع بها فلهذا قال تعالى وَيَتَجَنَّبُهَا الاْشْقَى الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في تفسير النار الْكُبْرَى وجوهاً أحدها قال الحسن الكبرى نار جهنم والصغرى نار الدنيا وثانيها أن في الآخرة نيراناً ودركات متفاضلة كماأن في الدنيا ذنوباً ومعاصي متفاضلة وكما أن الكافر أشقى العصاة كذلك يصلى أعظم النيران وثالثها أن النار الكبرى هي النار السفلى وهي تصيب الكفار على ما قال تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( النساء 145 )

المسألة الثانية قالوا نزلت هذه الآية في الوليد وعتبة وأبي وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لا سيما وقد بينا صحة هذا الترتيب بالبرهان العقلي
المسألة الثالثة لقائل أن يقول إن الله تعالى ذكر ههنا قسمين أحدهما الذي يذكر ويخشى والثاني الأشقى الذي يصلى النار الكبرى لكن وجود الأشقى يستدعي وجود الشقي فكيف حال هذا القسم وجوابه أن لفظة الأشقى لا تقتضي وجود الشقي إذ قد يجري مثل هذا اللفظ من غير مشاركة كقوله تعالى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ( الفرقان 24 ) وقيل المعنى ويتجنبها الشقي الذي يصلى كما في قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 ) أي هين عليه ومثل قول القائل إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتاً دعائمه أعز وأطول
هذا ما قيل لكن التحقيق ما ذكرنا أن الفرق الثلاثة العارف والمتوقف والمعاند فالسعيد هو العارف والمتوقف له بعض الشقاء والأشقى هو المعاند الذي بينا أنه هو الذي لا يلتفت إلى الدعوة ولا يصغى إليها ويتجنبها أما قوله تعالى
ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا
ففيه مسألتان
المسألة الأولى للمفسرين فيه وجهان أحدهما لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه كما قال لا يَقْضِى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا ( فاطر 36 ) وهذا على مذهب العرب تقول للمبتلي بالبلاء الشديد لا هو حي ولا هو ميت وثانيهما معناه أن نفس أحدهم في النار تصير في حلقه فلا تخرج فيموت ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا
المسألة الثانية إنما قيل ثُمَّ لأن هذه الحالة أفظع وأعظم من الصلى فهو متراخ عنه في مراتب الشدة أما قوله تعالى
قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى
ففيه وجهان أحدهما أنه تعالى لما ذكر وعيد من أعرض عن النظر والتأمل في دلائل الله تعالى أتبعه بالوعد لمن تزكى ويطهر من دنس الشرك وثانيهما وهو قول الزجاج تكثر من التقوى لأن معنى الزاكي النامي الكثير وهذا الوجه معتضد بقوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ( المؤمنون 2 1 ) أثبت الفلاح للمستجمعين لتلك الخصال وكذلك قوله تعالى في أول البقرة وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( البقرة 5 ) وأما الوجه الأول فإنه معتضد بوجهين الأول أنه تعالى لما لم يذكر في الآية ما يجب التزكي عنه علمنا أن المراد هو التزكي عما مر ذكره قبل الآية وذلك هو الكفر فعلمنا أن المراد ههنا قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى عن الكفر الذي مر ذكره قبل هذه الآية والثاني أن الاسم المطلق ينصرف إلى المسمى الكامل وأكمل أنواع التزكية هو تزكية القلب عن ظلمة الكفر فوجب صرف هذا المطلق إليه ويتأكد هذا التأويل بما روي عن ابن عباس أنه قال معنى تَزَكَّى قول لا إله إلا الله

أما قوله تعالى
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى
ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكر المفسرون فيه وجوهاً أحدها قال ابن عباس ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له وأقول هذا التفسير متعين وذلك لأن مراتب أعمال المكلف ثلاثة أولها إزالة العقائد الفاسدة عن القلب وثانيها استحضار معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأسمائه وثالثها الاشتغال بخدمته
فالمرتبة الأولى هي المراد بالتزكية في قوله قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ( الأعلى 14 )
وثانيها هي المراد بقوله وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فإن الذكر بالقلب ليس إلا المعرفة
وثالثها الخدمة وهي المراد بقوله فَصَلَّى فإن الصلاة عبارة عن التواضع والخشوع فمن استنار قلبه بمعرفة جلال الله تعالى وكبريائه لا بد وأن يظهر في جوارحه وأعضائه أثر الخضوع والخشوع
وثانيها قال قوم من المفسرين قوله قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى يعني من تصدق قبل مروره إلى العيد وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى يعني ثم صلى صلاة العيد بعد ذلك مع الإمام وهذا قول عكرمة وأبي العالية وابن سيرين وابن عمر وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا التفسير فيه إشكال من وجهين الأول أن عادة الله تعالى في القرآن تقديم ذكر الصلاة على ذكر الزكاة لا تقديم الزكاة على الصلاة والثاني قال الثعلبي هذه السورة مكية بالإجماع ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر أجاب الواحدي عنه بأنه لا يمتنع أن يقال لما كان في معلوم الله تعالى أن ذلك سيكون أثنى على من فعل ذلك وثالثها قال مقاتل قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ( الأعلى 14 ) أي تصدق من ماله وذكر ربه بالتوحيد في الصلاة فصلى له والفرق بين هذا الوجه وما قبله أن هذا يتناول الزكاة والصلاة المفروضتين والوجه الأول ليس كذلك ورابعها قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ليس المراد منه زكاة المال بل زكاة الأعمال أي من تطهر في أعماله من الرياء والتقصير لأن اللفظ المعتاد أن يقال في المال زكى ولا يقال تزكى قال تعالى وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ( فاطر 18 ) وخامسها قال ابن عباس وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ أي كبر في خروجه إلى العيد وصلى صلاة العيد وسادسها المعنى وذكر اسم ربه في صلاته ولا تكون صلاته كصلاة المنافقين حيث يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً
المسألة الثانية الفقهاء احتجوا بهذه الآية على وجوب تكبيرة الافتتاح واحتج أبو حنيفة رحمه الله بها على أن تكبيرة الافتتاح ليست من الصلاة قال لأن الصلاة معطوفة عليها والعطف يستدعي المغايرة واحتج أيضاً بهذه الآية على أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه وأجاب أصحابنا بأن تقدير الآية وصلى فذكر اسم ربه ولا فرق بين أن تقول أكرمتني فزرتني وبين أن تقول زرتني فأكرمتني ولأبي حنيفة أن يقول ترك العمل بفاء التعقيب لا يجوز من غير دليل والأولى في الجواب أن يقال الآية تدل على مدح كل من ذكر اسم الله فصلى عقيبه وليس في الآية بيان أن ذلك الذكر هو تكبيرة الافتتاح فلعل المراد به أن من ذكر الله بقلبه وذكر ثوابه وعقابه دعاه ذلك إلى فعل الصلاة فحينئذ يأتي بالصلاة التي أحد أجزائها التكبير وحينئذ يندفع الاستدلال

ثم قال تعالى
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا
وفيه قراءتان قراءة العامة بالتاء ويؤكده حرف أبي أي بل أنتم تؤثرون عمل الدنيا على عمل الآخرة قال ابن مسعود إن الدنيا أحضرت وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها وإن الآخرة لغيب لنا وزويت عنا فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل وقرأ أبو عمرو يؤثرون بالياء يعني الأشقى ثم قال تعالى
وَالاٌّ خِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
وتمامه أن كل ما كان خيراً وأبقى فهو آثر فيلزم أن تكون الآخرة آثر من الدنيا وهم كانوا يؤثرون الدنيا وإنما قلنا إن الآخرة خير لوجوه أحدها أن الآخرة مشتملة على السعادة الجسمانية والروحانية والدنيا ليست كذلك فالآخرة خير من الدنيا وثانيها أن الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام والآخرة ليست كذلك وثالثها أن الدنيا فانية والآخرة باقية والباقي خير من الفاني ثم قال
إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاٍّ ولَى
واختلفوا في المشار إليه بلفظ هذا منهم من قال جميع السورة وذلك لأن السورة مشتملة على التوحيد والنبوة والوعيد على الكفر بالله والوعد على طاعة الله تعالى
ومنهم من قال بل المشار إليه بهذه الإشارة هو من قوله قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ( الأعلى 14 ) إشارة إلى تطهير النفس عن كل ما لا ينبغي أما القوة النظرية فعن جميع العقائد الفاسدة وأما في القوة العملية فعن جميع الأخلاق الذمية
وأما قوله وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ ( الأعلى 15 ) فهو إشارة إلى تكميل الروح بمعرفة الله تعالى وأما قوله فَصَلَّى ( الأعلى 15 ) فهو إشارة إلى تكميل الجوارح وتزيينها بطاعة الله تعالى
وأما قوله بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا ( الأعلى 15 ) فهو إشارة إلى الزجر عن الالتفات إلى الدنيا
وأما قوله وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( الأعلى 15 ) فهو إشارة إلى الترغيب في الآخرة وفي ثواب الله تعالى وهذه أمور لا يجوز أن تختلف باختلاف الشرائع فلهذا السبب قال إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى وهذا الوجه كما تأكد بالعقل فالخبر يدل عليه روى عن أبي ذر أنه قال قلت هل في الدنيا مما في صحف إبراهيم وموسى فقال اقرأ يا أبا ذر قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ( الأعلى 14 ) وقال آخرون إن قوله هذا إشارة إلى قوله وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى وذلك لأن الإشارة راجعة إلى أقرب المذكورات وذلك هو هذه الآية وأما قوله لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى فهو نظير لقوله وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ وقوله شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ( الشورى 13 )
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
فيه قولان أحدهما أنه بيان لقوله فِى الصُّحُفِ الاْولَى ( الأعلى 18 ) والثاني أن المراد أنه مذكور في صحف جميع الأنبياء التي منها صحف إبراهيم وموسى

روي عن أبي ذر أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كم أنزل الله من كتاب فقال مائة وأربعة كتب على آدم عشر صحف وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وقيل إن في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة الغاشية
وهي عشرون وست آيات مكية
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة ِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَة ٌ عَامِلَة ٌ نَّاصِبَة ٌ
اعلم أن في قوله هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة ِ مسألتين
المسألة الأولى ذكروا في الغاشية وجوهاً أحدها أنها القيامة من قوله يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ ( العنكبوت 55 ) إنما سميت القيامة بهذا الاسم لأن ما أحاط بالشيء من جميع جهاته فهو غاش له والقيامة كذلك من وجوه الأول أنها ترد على الخلق بغتة وهو كقوله تعالى أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَة ٌ مّنْ عَذَابِ اللَّهِ ( يوسف 107 ) والثاني أنها تغشى الناس جميعاً من الأولين والآخرين والثالث أنها تغشى الناس بالأهوال والشدائد القول الثاني الغاشية هي النار أي تغشى وجوه الكفرة وأهل النار قال تعالى وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ( إبراهيم 50 ) ومن فوقهم غواش ( الأعراف 41 ) وهو قول سعيد بن جبير ومقاتل القول الثالث الغاشية أهل النار يغشونها ويقعون فيها والأول أقرب لأن على هذا التقدير يصير المعنى أن يوم القيامة يكون بعض الناس في الشقاوة وبعضهم في السعادة
المسألة الثانية إنما قال ( الأعراف 41 ) وهو قول سعيد بن جبير ومقاتل القول الثالث الغاشية أهل النار يغشونها ويقعون فيها والأول أقرب لأن على هذا التقدير يصير المعنى أن يوم القيامة يكون بعض الناس في الشقاوة وبعضهم في السعادة
المسألة الثانية إنما قال هَلُ أَتَاكَ وذلك لأنه تعالى عرف رسول الله من حالها وحال الناس فيها ما لم يكن هو ولا قومه عارفاً به على التفصيل لأن العقل إن دل فإنه لا يدل إلا على أن حال العصاة مخالفة لحال المطيعين فأما كيفية تلك التفاصيل فلا سبيل للعقل إليها فلما عرفه الله تفصيل تلك الأحوال لا جرم قال هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة ِ
أما قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَة ٌ عَامِلَة ٌ نَّاصِبَة ٌ فاعلم أنه وصف لأهل الشقاوة وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد بالوجوه أصحاب الوجوه وهم الكفار بدليل أنه تعالى وصف الوجوه بأنها

خاشعة عاملة ناصبة وذلك من صفات المكلف لكن الخشوع يظهر في الوجه فعلقه بالوجه لذلك وهو كقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ ( القيامة 22 ) وقوله خَاشِعَة ٌ أي ذليلة قد عراهم الخزي والهوان كما قال وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ ( السجدة 12 ) وقال وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِى ّ ( الشورى 41 ) وإنما يظهر الذل في الوجه لأنه ضد الكبر الذي محله الرأس والدماغ وأما العاملة فهي التي تعمل الأعمال ومعنى النصب الدؤوب في العمل مع التعب
المسألة الثانية الوجوه الممكنة في هذه الصفات الثلاثة لا تزيد على ثلاثة لأنه إما أن يقال هذه الصفات بأسرها حاصلة في الآخرة أو هي بأسرها حاصلة في الدنيا أو بعضها في الآخرة وبعضها في الدنيا أما الوجه الأول وهو أنها بأسرها حاصلة في الآخرة فهو أن الكفار يكونون يوم القيامة خاشعين أي ذليلين وذلك لأنها في الدنيا تكبرت عن عبادة الله وعاملين لأنها تعمل في النار عملاً تتعب فيه وهو جرها السلاسل والأغلال الثقيلة على ما قال فِى سِلْسِلَة ٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً ( الحاقة 32 ) وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل بحيث ترتقي عنه تارة وتغوص فيه أخرى والتقحم في حر جهنم والوقوف عراة حفاة جياعاً عطاشاً في العرصات قبل دخول النار في يوم كان مقداره ألف سنة وناصبين لأنهم دائماً يكونون في ذلك العمل قال الحسن هذه الصفات كان يجب أن تكون حاصلة في الدنيا لأجل الله تعالى فلما لم تكن كذلك سلطها الله عليهم يوم القيامة على سبيل العقاب وأما الوجه الثاني وهو أنها بأسرها حاصلة في الدنيا فقيل هم أصحاب الصوامع من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والمجوس والمعنى أنها خشعت لله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب والتهجد الواصب وذلك لأنهم لما اعتقدوا في الله ما لا يليق به فكأنهم أطاعوا ذاتاً موصوفة بالصفات التي تخيلوها فهم في الحقيقة ما عبدوا الله وإنما عبدوا ذلك المتخيل الذي لا وجود له فلا جرم لا تنفعهم تلك العبادة أصلاً وأما الوجه الثالث وهو أن بعض تلك الصفات حاصل في الآخرة وبعضها في الدنيا ففيه وجوه أحدها أنها خاشعة في الآخرة مع أنها كانت في الدنيا عاملة ناصبة والمعنى أنها لم تنتفع بعملها ونصبها في الدنيا ولا يمتنع وصفهم ببعض أوصاف الآخرة ثم يذكر بعض أوصاف الدنيا ثم يعاد ذكر الآخرة إذا كان المعنى في ذلك مفهوماً فكأنه تعالى قال وجوه يوم القيامة خاشعة لأنها كانت في الدنيا عاملة ناصبة في غير طاعة الله فهي إذن تصلى ناراً حامية في الآخرة ثانيها أنها خاشعة عاملة في الدنيا ولكنها ناصبة في الآخرة فخشوعها في الدنيا خوفها الداعي لها إلى الإعراض عن لذائذ الدنيا وطيباتها وعملها هو صلاتها وصومها ونصبها في الآخرة هو مقاساة العذاب على ما قال تعالى وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ( الزمر 47 ) وقرىء عاملة ناصبة على الشتم واعلم أنه تعالى بعد أن وصفهم بهذه الصفات الثلاثة شرح بعد ذلك كيفية مكانهم ومشربهم ومطعمهم نعوذ بالله منها
تَصْلَى نَاراً حَامِيَة ً
أما مكانهم فقوله تعالى تَصْلَى نَاراً حَامِيَة ً يقال صلى بالنار يصلى أي لزمها واحترق بها وقرىء بنصب التاء وحجته قوله إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( الصافات 163 ) وقرأ أبو عمرو وعاصم برفع التاء

من أصيلته النار لقوله ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ( الحاقة 31 ) وقوله لِخَزَنَة ِ جَهَنَّمَ وصلوه مثل أصلوه وقرأ قوم تصلى بالتشديد وقيل المصلى عند العرب أن يحفروا حفيراً فيجمعوا فيه جمراً كثيراً ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه فأما ما يشوى فوق الجمر أو على المقلاة أو في التنور فلا يسمى مصلى وقوله حَامِيَة ً أي قد أوقدت وأحميت المدة الطويلة فلا حر يعدل حرها قال ابن عباس قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله
تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَة ٍ
وأما مشروبهم فقوله تعالى تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءانِيَة ٍ الآني الذي قد انتهى حره من الإيناء بمعنى التأخير وفي الحديث ( أن رجلاً آخر حضور الجمعة ثم تخطى رقاب الناس فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) آنيت وآذيت ) ونظير هذه الآية قوله يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ ( الرحمن 44 ) قال المفسرون إن حرها بلغ إلى حيث لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت
لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ
وأما مطعومهم فقوله تعالى لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ واختلفوا في أن الضريع ما هو على وجوه أحدها قال الحسن لا أدري ما الضريع ولم أسمع فيه من الصحابة شيئاً وثانيها روى عن الحسن أيضاً أنه قال الضريع بمعنى المضرع كالأليم والسميع والبديع بمعنى المؤلم والمسمع والمبدع ومعناه إلا من طعام يحملهم على أن يضرعوا ويذلوا عند تناوله لما فيه من الخشونة والمرارة والحرار وثالثها أن الضريع ما يبس من الشبرق وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطباً فإذا يبس تحامته وهو سم قاتل قال أبو ذويب رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى
وعاد ضريعاً عاد عنه النحائص
جمع نحوص وهي الحائل من الإبل وهذا قول أكثر المفسرين وأكثر أهل اللغة ورابعها قال الخليل في كتابه ويقال للجلدة التي على العظم تحت اللحم هي الضريع فكأنه تعالى وصفه بالقلة فلا جرم لا يسمن ولا يغني من جوع وخامسها قال أبو الجوزاء الضريع السلا ويقرب منه ما روي عن سعيد بن جبير أنه شجرة ذات شوك ثم قال أبو الجوزاء وكيف يسمن من كان يأكل الشوكا وفي الخبر الضريع شيء يكون في النار شبيه الشوك أمر من الصبر وأنتن من الجيفة وأشد حراً من النار قال القفال والمقصد من ذكر هذا الشراب وهذا الطعام بيان نهاية ذلهم وذلك لأن القوم لما أقاموا في تلك السلاسل والأغلال تلك المدة الطويلة عطاشاً جياعاً ثم ألقوا في النار فرأوا فيها ماء وشيئاً من النبات فأحب أولئك القوم تسكين ما بهم من العطش والجوع فوجدوا الماء حميماً لا يروي بل يشوي ووجدوا النبات مما لا يشبع ولا يغني من جوع فأيسوا وانقطعت أطماعهم في إزالة ما بهم من الجوع والعطش كما قال وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ ( الكهف 29 ) وبين أن هذه الحالة لا تزول ولا تنقطع نعوذ بالله منها وههنا سؤالات
السؤال الأول قال تعالى في سورة الحاقة فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ( الحاقة 36 35 ) وقال ههنا لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ والضريع غير الغسلين والجواب من وجهين الأول أن النار دركات فمن أهل النار من طعامه الزقوم ومنهم من طعامه الغسلين

ومنهم من طعامه الضريع ومنهم من شرابه الحميم ومنهم من شرابه الصديد لكل باب منهم جزء مقسوم الثاني يحتمل أن يكون الغسلين من الضريع ويكون ذلك كقوله مالي طعام إلا من الشاه ثم يقول مالي طعام إلا من اللبن ولا تناقض لأن اللبن من الشاة
السؤال الثاني كيف يوجد النبت في النار الجواب من وجهين الأول ليس المراد أن الضريع نبت في النار يأكلونه ولكنه ضرب مثله أي إنهم يقتاتون بما لا يشبعهم أو يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع الثاني لم لا يجوز أن يقال إن النبت يوجد في النار فإنه لما لم يستبعد بقاء بدن الإنسان مع كونه لحماً ودماً في النار أبد الآباد فكذا ههنا وكذا القول في سلاسل النار وأغلالها وعقاربها وحياتها أما قوله تعالى
لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ
فهو مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع وأما المعنى ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن طعامهم ليس من جنس مطاعم الإنس وذلك لأن هذا نوع من أنواع الشوك والشوك مما يرعاه الإبل وهذا النوع مما ينفر عنه الإبل فإذن منفعتا الغذاء منتفيتان عنه وهما إماطة الجوع وإفادة القوة والسمن في البدن وثانيها أن يكون المعنى لا طعام لهم أصلاً لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس لأن الطعام ما أشبع وأسمن وهو منهما بمعزل كما تقول ليس لفلان ظل إلا الشمس تريد نفي الظل على التوكيد وثالثها روي أن كفار قريش قالت إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ فلا يخلو إما أن يتعنتوا بذلك الكلام كذباً فيرد قولهم بنفي السمن والشبع وإما أن يصدقوا فيكون المعنى أن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع قال القاضي يجب في كل طعامهم أن لا يغني من جوع لأن ذلك نفع ورأفة وذلك غير جائز في العقاب
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَة ٌ
اعلم أنه سبحانه لما ذكر وعيد الكفار أتبعه بشرح أحوال المؤمنين فذكر وصف أهل الثواب أولاً ثم وصف دار الثواب ثانياً أما وصف أهل الثواب فبأمرين أحدهما في ظاهرهم وهو قوله نَّاعِمَة ٌ أي ذات بهجة وحسن كقوله تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَة َ النَّعِيمِ ( المطففين 24 ) أو متنعمة
لِّسَعْيِهَا رَاضِيَة ٌ
والثاني في باطنهم وهو قوله تعالى لِّسَعْيِهَا رَاضِيَة ٌ وفيه تأويلان أحدهما أنهم حمدوا سعيهم واجتهادهم في العمل لله لما فازوا بسببه من العاقبة الحميدة كالرجل يعمل العمل فيجزى عليه بالجميل ويظهر له منه عاقبة محمودة فيقول ما أحسن ما عملت ولقد وفقت للصواب فيما صنعت فيثنى على عمل نفسه ويرضاه والثاني المراد لثواب سعيها في الدنيا راضية إذا شاهدوا ذلك الثواب وهذا أولى إذ المراد أن الذي يشاهدونه من الثواب العظيم يبلغ حد الرضا حتى لا يريدوا أكثر منه وأما وصف دار الثواب فاعلم أن الله تعالى وصفها بأمور سبعة

فِي جَنَّة ٍ عَالِيَة ٍ
أحدها قوله فِى جَنَّة ٍ عَالِيَة ٍ ويحتمل أن يكون المراد هو العلو في المكان ويحتمل أن يكون المراد هو العلو في الدرجة والشرف والمنقبة أما العلو في المكان فذاك لأن الجنة درجات بعضها أعلى من بعض قال عطاء الدرجة مثل ما بين السماء والأرض
لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة ً
وثانيها قوله لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة ً وفيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله لا تسمع ثلاث قراآت أحدها قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب لاغية بالنصب والمخاطب بهذا الخطاب يحتمل أن يكون هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأن يكون لا تسمع يا مخاطب فيها لاغية وهذا يفيد السماع في الخطاب كقوله وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ ( الإنسان 20 ) وقوله إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ ( الإنسان 19 ) ويحتمل أن تكون هذه التاء عائدة إلى وجوه والمعنى لا تسمع الوجوه فيها لاغية وثانيها قرأ نافع بالتاء المنقوطة من فوق مرفوعة على التأنيث لاغية بالرفع وثالثها قرأ ابن كثير وأبو عمرو لا يسمع بالياء المنقوطة من تحت مضمومة على التذكير لاغية بالرفع وذلك جائز لوجهين الأول أن هذا الضرب من المؤنث إذا تقدم فعله وكان بين الفعل والاسم حائل حسن التذكير قال الشاعر إن امرءاً غره منكن واحدة
بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
والثاني أن المراد باللاغية اللغو فالتأنيث على اللفظ والتذكير على المعنى
المسألة الثانية لأهل اللغة في قوله لَاغِيَة ً ثلاثة أوجه أحدها أنه يقال لغا يلغو لغواً ولاغية فاللاغية واللغو شيء واحد ويتأكد هذا الوجه بقوله سبحانه لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً ( مريم 62 ) وثانيها أن يكون صفة والمعنى لا يسمع كلمة لاغية وثالثها قال الأخفش لاغية أي كلمة ذات لغو كما تقول فارس ودارس لصاحب الفرس والدرع وأما أهل التفسير فلهم وجوه أحدها أن الجنة منزهة عن اللغو لأنها منزل جيران الله تعالى وإنما نالوها بالجد والحق لا باللغو والباطل وهكذا كل مجلس في الدنيا شريف مكرم فإنه يكون مبرأ عن اللغو وكل ما كان أبلغ في هذا كان أكثر جلالة هذا ما قرره القفال والثاني قال الزجاج لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة والثناء على الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم والثالث عن ابن عباس يريد لا تسمع فيها كذباً ولا بهتاناً ولا كفراً بالله ولا شتماً والرابع قال مقاتل لا يسمع بعضهم من بعض الحلف عند شراب كما يحلف أهل الدنيا إذا شربوا الخمر وأحسن الوجوه ما قرره القفال الخامس قال القاضي اللغو ما لا فائدة فيه فالله تعالى نفى عنهم ذلك ويندرج فيه ما يؤذي سامعه على طريق الأولى
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَة ٌ
الصفة الثالثة للجنة قوله تعالى فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَة ٌ قال صاحب الكشاف يريد عيوناً في غاية الكثرة كقوله عَلِمَتْ نَفْسٌ ( التكوير 14 ) قال القفال فيها عين شراب جارية على وجه الأرض في غير أخدود وتجري لهم كما أرادوا قال الكلبي لا أدري بماء أو غيره

فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَة ٌ
الصفة الرابعة قوله تعالى فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَة ٌ أي عالية في الهواء وذلك لأجل أن يرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما أعطاه ربه في الجنة من النعيم والملك وقال خارجة بن مصعب بلغنا أنها بعضها فوق بعض فيرتفع ما شاء الله فإذا جاء ولي الله ليجلس عليها تطامنت له فإذا استوى عليها ارتفعت إلى حيث شاء الله والأول أولى وإن كان الثاني أيضاً غير ممتنع لأن ذلك بما كان أعظم في سرور المكلف قال ابن عباس هي سرر ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة في السماء
وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَة ٌ
الصفة الخامسة قوله تعالى وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَة ٌ الأكواب الكيزان التي لا عرى لها قال قتادة فهي دون الأباريق وفي قوله مَّوْضُوعَة ٌ وجوه أحدها أنها معدة لأهلها كالرجل يلتمس من الرجل شيئاً فيقول هو ههنا موضوع بمعنى معد وثانيها موضوعة على حافاة العيون الجارية كلما أرادوا الشرب وجدوها مملوءة من الشرب وثالثها موضوعة بين أيديهم لاستحسانهم إياها بسبب كونها من ذهب أو فضة أو من جوهر وتلذذهم بالشراب منها ورابعها أن يكون المراد موضوعة عن حد الكبر أي هي أوساط بين الصغر والكبر كقوله قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَة ٌ
الصفة السادسة قوله تعالى وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَة ٌ النمارق هي الوسائد في قول الجميع واحدها نمرقة بضم النون وزاد الفراء سماعاً عن العرب نمرقة بكسر النون قال الكلبي وسائد مصفوفة بعضها إلى جانب بعض أينما أراد أن يجلس جلس على واحدة واستند إلى أخرى
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَة ٌ
الصفة السابعة قوله تعالى وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَة ٌ يعني البسط والطنافس واحدها زربية وزربي بكسر الزاي في قول جميع أهل اللغة وتفسير مبثوثة مبسوطة منشورة أو مفرقة في المجالس
أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ
اعلم أنه تعالى لما حكم بمجيء يوم القيامة وقسم أهل القيامة إلى قسمين الأشقياء والسعداء ووصف أحوال الفريقين وعلم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلا بواسطة إثبات الصانع الحكيم لا جرم أتبع ذلك بذكر هذه الدلالة فقال أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ وجه الاستدلال بذلك على صحة المعاد أنها تدل على وجود الصانع الحكيم ومتى ثبت ذلك فقد ثبت القول بصحة المعاد أما الأول فلأن الأجسام متساوية في الجسمية فاختصاص كل واحد منها بالوصف الذي لأجله امتاز على الآخر لا بد وأن يكون لتخصيص مخصص وإيجاد قادر ولما رأينا هذه الأجسام مخلوقة على وجه الإتقان والإحكام علمنا أن ذلك الصانع عالم ولما علمنا أن ذلك الصانع لا بد وأن يكون مخالفاً لخلقه في نعت الحاجة والحدوث والإمكان علمنا أنه غني فهذا يدل على أن للعالم صانعاً قادراً عالماً غنياً فوجب أن يكون في غاية الحكمة ثم إنا نرى الناس بعضهم محتاجاً إلى البعض فإن الإنسان الواحد لا يمكنه القيام بمهمات نفسه بل لا بد من بلدة يكون كل واحد من أهلها مشغولاً بمهم آخر حتى يتنظم من مجموعهم مصلحة كل واحد منهم وذلك

الانتظام لا يحسن إلا مع التكليف المشتمل على الوعد والوعيد ذلك لا يحصل إلا بالبعث والقيامة وخلق الجنة والنار فثبت أن إقامة الدلالة على الصانع الحكيم توجب القول بصحة البعث والقيامة فلهذا السبب ذكر الله دلالة التوحيد في آخر هذه السورة فإن قيل فأي مجانسة بين الإبل والسماء والجبال والأرض ثم لم بدأ بذكر الإبل قلنا فيه وجهان الأول أن جميع المخلوقات متساوية في هذه الدلالة وذكر جميعها غير ممكن لكثرتها وأي واحد منها ذكر دون غيره كان هذا السؤال عائداً فوجب الحكم بسقوط هذا السؤال على جميع التقادير وأيضاً فلعل الحكمة في ذكر هذه الأشياء التي هي غير متناسبة التنبيه على أن هذا الوجه من الاستدلال غير مختص بنوع دون نوع بل هو عام في الكل على ما قال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) ولو ذكر غيرها لم يكن الأمر كذلك لا جرم ذكر الله تعالى أموراً غير متناسبة بل متباعدة جداً تنبيهاً على أن جميع الأجسام العلوية والسفلية صغيرها وكبيرها حسنها وقبيحها متساوية في الدلالة على الصانع الحكيم فهذا وجه حسن معقول وعليه الاعتماد الوجه الثاني وهو أن نبين ما في كل واحد من هذه الأشياء من المنافع والخواص الدالة على الحاجة إلى الصانع المدبر ثم نبين إنه كيف يجانس بعضها بعضاً
أما المقام الأول فنقول الإبل له خواص منها أنه تعالى جعل الحيوان الذي يقتني أصنافاً شتى فتارة يقتني ليؤكل لحمه وتارة ليشرب لبنه وتارة ليحمل الإنسان في الأسفار وتارة لينقل أمتعة الإنسان من بلد إلى بلد وتارة ليكون له به زينة وجمال وهذه المنافع بأسرها حاصلة في الإبل وقد أبان الله عز وجل عن ذلك بقوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ( يس 72 71 ) قال وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ الانفُسِ ( النحل 7 5 ) وإن شيئاً من سائر الحيوانات لا يجتمع فيه هذه الخصال فكان اجتماع هذه الخصال فيه من العجائب وثانيها أنه في كل واحد من هذه الخصال أفضل من الحيوان الذي لا يوجد فيه إلا تلك الخصلة لأنها إن جعلت حلوبة سقت فأروت الكثير وإن جعلت أكولة أطعمت وأشبعت الكثير وإن جعلت ركوبة أمكن أن يقطع بها من المسافات المديدة ما لا يمكن قطعه بحيوان آخر وذلك لما ركب فيها من قوة احتمال المداومة على السير والصبر على العطش والاجتزاء من العلوفات بما لا يجتزىء حيوان آخر وإن جعلت حملة استغلت بحمل الأحمال الثقيلة التي لا يستقل بها سواها ومنها أن هذا الحيوان كان أعظم الحيوانات وقعاً في قلب العرب ولذلك فإنهم جعلوا دية قتل الإنسان إبلاً وكان الواحد من ملوكهم إذا أراد المبالغة في إعطاء الشاعر الذي جاءه من المكان البعيد أعطاه مائة بعير لأن امتلاء العين منه أشد من امتلاء العين من غيره ولهذا قال تعالى وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ( النحل 6 ) ومنها أنى كنت مع جماعة في مفازة فضللنا الطريق فقدموا جملاً وتبعوه فكان ذلك الجمل ينعطف من تل إلى تل ومن جانب إلى جانب والجميع كانوا يتبعونه حتى وصل إلى الطريق بعد زمان طويل فتعجبنا من قوة تخيل ذلك بالحيوان أنه بالمرة الواحدة كيف انحفظت في خياله صورة تلك المعاطف حتى أن الذين عجز جمع من العقلاء إلى الاهتداء إليه فإن ذلك الحيوان اهتدى إليه ومنها أنها مع كونها في غاية القوة على العمل مباينة لغيرها في الانقياد والطاعة لأضعف الحيوانات كالصبي الصغير ومبانية لغيرها أيضاً في أنها يحمل عليها وهي باركة ثم تقوم فهذه الصفات

الكثيرة الموجودة فيها توجب على العاقل أن ينظر في خلقتها وتركيبها ويستدل بذلك على وجود الصانع الحكيم سبحانه ثم إن العرب من أعرف الناس بأحوال الإبل في صحتها وسقمها ومنافعها ومضارها فلهذه الأسباب حسن من الحكيم تعالى أن يأمر بالتأمل في خلقتها ثم قال تعالى
وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ
أي رفعاً بعيد المدى بلا إمساك وبغير عمد
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ
نصباً ثابتاً فهي راسخة لا تميل ولا تزول
وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ
سطحاً بتمهيد وتوطئة فهي مهاد للمتقلب عليها ومن الناس من استدل بهذا على أن الأرض ليست بكرة وهو ضعيف لأن الكرة إذا كانت في غاية العظمة يكون كل قطعة منها كالسطح وقرأ علي عليه السلام كيف خلقت ورفعت ونصبت وسطحت على البناء للفاعل وتاء الضمير والتقدير فعلتها فحذف المفعول
المقام الثاني في بيان ما بين هذه الأشياء من المناسبة اعلم أن من الناس من فسر الإبل بالسحاب قال صاحب ( الكشاف ) ولعله لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين وغير ذلك وإنما رأى السحاب مشبهاً بالإبل في كثير من أشعارهم فجوز أن يراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز وعلى هذا التقدير فالمناسبة ظاهرة أما إذا حملنا الإبل على مفهومه المشهور فوجه المناسبة بينها وبين السماء والجبال والأرض من وجهين الأول أن القرآن نزل على لغة العرب وكانوا يسافرون كثيراً لأن بلدتهم بلدة خالية من الزرع وكانت أسفارهم في أكثر الأمر على الإبل فكانوا كثيراً ما يسيرون عليها في المهامة والقفار مستوحشين منفردين عن الناس ومن شأن الإنسان إذا انفرد أن يقبل على التفكر في الأشياء لأنه ليس معه من يحادثه وليس هناك شيء يشغل به سمعه وبصره وإذا كان كذلك لم يكن له بد من أن يشغل باله بالفكرة فإذا فكر في ذلك الحال وقع بصره أول الأمر على الجمل الذي ركبه فيرى منظراً عجيباً وإذا نظر إلى فوق لم ير غير السماء وإذا نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال وإذا نظر إلى ما تحت لم ير غير الأرض فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد عن الغير حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر ثم إنه في وقت الخلوة في المفازة البعيدة لا يرى شيئاً سوى هذه الأشياء فلا جرم جمع الله بينها في هذه الآية الوجه الثاني أن جميع المخلوقات دالة على الصانع إلا أنها على قسمين منها ما يكون للحكمة وللشهوة فيها نصيب معاً ومنها ما يكون للحكمة فيها نصيب وليس للشهوة فيها نصيب
والقسم الأول كالإنسان الحسن الوجه والبساتين النزهة والذهب والفضة وغيرها فهذه الأشياء يمكن الاستدلال بها على الصانع الحكيم إلا أنها متعلق الشهوة ومطلوبة للنفس فلم يأمر تعالى بالنظر فيها لأنه لم يؤمن عند النظر إليها وفيها أن تصير داعية الشهوة غالبة على داعية الحكمة فيصير ذلك مانعاً عن إتمام النظر والفكر وسبباً لاستغراق النفس في محبته

أما القسم الثاني فهو كالحيوانات التي لا يكون في صورتها حسن ولكن يكون داعية تركيبها حكم باللغة وهي مثل الإبل وغيرها إلا أن ذكر الإبل ههنا أولى لأن إلف العرب بها أكثر وكذا السماء والجبال والأرض فإن دلائل الحدوث والحاجة فيها ظاهرة وليس فيها ما يكون نصيباً للشهوة فلما كان هذا القسم بحيث يكمل نصيب الحكمة فيه مع الأمن من زحمة الشهوة لا جرم أمر الله بالتدبر فيها فهذا ما يحضرنا في هذا الموضع وبالله التوفيق
فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ
اعلم أنه تعالى لما بين الدلائل على صحة التوحيد والمعاد قال لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ وتذكير الرسول إنما يكون بذكر هذه الأدلة وأمثالها والبعث على النظر فيها والتحذير من ترك تلك وذلك بعث منه تعالى للرسول على التذكير والصبر على كل عارض معه وبيان أنه إنما بعث لذلك دون غيره فلهذا قال إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ
لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ
قال صاحب ( الكشاف ) بمصيطر بمسلط كقوله يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ( ق 45 ) وقوله أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( يونس 99 ) وقيل هو في لغة تميم مفتوح الطاء على أن سيطر متعد عندهم والمعنى أنك ما أمرت إلا بالتذكير فأما أن تكون مسلطاً عليهم حتى تقتلهم أو تكرههم على الإيمان فلا قالوا ثم نسختها آية القتال هذا قول جميع المفسرين والكلام في تفسير هذا الحرف قد تقدم عند قوله أَمْ هُمُ ( الطور 37 ) أما قوله تعالى
إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيْعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الاٌّ كْبَرَ
ففيه مسائل
المسألة الأولى في الآية قولان أحدهما أنه استثناء حقيقي وعلى هذا التقدير هذا الاستثناء استثناء عماذا فيه احتمالان الأول أن يقال التقدير فذكر إلا من تولى وكفر والثاني أنه استثناء عن الضمير في سَوَاء عَلَيْهِمْ ( الغاشية 22 ) والتقدير لست عليهم بمسيطر إلا من تولى واعترض عليه بأنه عليه السلام ما كان حينئذ مأموراً بالقتال وجوابه لعل المراد أنك لا تصبر مسلطاً إلا على من تولى القول الثاني أنه استثناء منقطع عما قبله كما تقول في الكلام قعدنا نتذكر العلم إلا أن كثيراً من الناس لا يرغب فكذا ههنا التقدير لست بمسئول عليهم لكن من تولى منهم فإن الله يعذبه العذاب الأكبر الذي هو عذاب جهنم قالوا وعلامة كون الاستثناء منقطعاً حسن دخول أن في المستثني وإذا كان الاستثناء متصلاً لم يحسن ذلك ألا ترى أنك تقول عندي مائتان إلا درهماً فلا تدخل عليه أن وههنا يحسن أن فإنك تقول إلا أن من تولى وكفر فيعذبه الله
المسألة الثانية قرىء ( ألا من تولى ) على التنبيه وفي قراءة ابن مسعود ( فإنه يعذبه )
المسألة الثالثة إنما سماه العذاب الأكبر لوجوه أحدها أنه قد بلغ حد عذاب الكفر وهو الأكبر لأن

ما عداه من عذاب الفسق دونه ولهذا قال تعالى وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ الْعَذَابِ الاْدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاْكْبَرِ ( السجدة 21 ) وثانيها هو العذاب في الدرك الأسفل في النار وثالثها أنه قد يكون العذاب الأكبر حاصلاً في الدنيا وذلك بالقتل وسبي الذرية وغنيمة الأموال القول الأول أولى وأقرب ثم قال تعالى
إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ
وهذا كأنه من صلة قوله فَيْعَذّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الاْكْبَرَ ( الغاشية 24 ) وإنما ذكر تعالى ذلك ليزيل به عن قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حزنه على كفرهم فقال طب نفساً عليهم وإن عاندوا وكذبوا وجحدوا فإن مرجعهم إلى الموعد الذي وعدنا فإن علينا حسابهم وفيه سؤال وهو أن محاسبة الكفار إنما تكون لإيصال العقاب إليهم وذلك حق الله تعالى ولا يجب على المالك أن يستوفي حق نفسه والجواب أن ذلك واجب عليه إما بحكم الوعد الذي يمتنع وقوع الخلف فيه وإما في الحكمة فإنه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لكان ذلك شبيهاً بكونه تعالى راضياً بذلك الظلم وتعالى الله عنه فلهذا السبب كانت المحاسبة واجبة وههنا مسألتان
المسألة الأولى قرأ أبو جعفر المدني إِيَابَهُمْ بالتشديد قال صاحب ( الكشاف ) وجهه أن يكون فيعالا مصدره أيب فيعل من الإياب أو يكون أصله أواباً فعالاً من أوب ثم قيل إيواباً كديوان في دون ثم فعل به ما فعل بأصل سيد
المسألة الثانية فائدة تقديم الظرف التشديد بالوعيد فإن إِيَابَهُمْ ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة الفجر
ثلاثون آية مكية
وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ
اعلم أن هذه الأشياء التي أقسم الله تعالى بها لا بد وأن يكون فيها إما فائدة دينية مثل كونها دلائل باهرة على التوحيد أو فائدة دنيوية توجب بعثاً على الشكر أو مجموعهما ولأجل ما ذكرناه اختلفوا في تفسير هذه الأشياء اختلافاً شديداً فكل أحد فسره بما رآه أعظم درجة في الدين وأكثر منفعة في الدنيا
أما قوله وَالْفَجْرِ فذكروا فيه وجوهاً أحدها ما روي عن ابن عباس أن الفجر هو الصبح المعروف فهو انفجار الصبح الصادق والكاذب أقسم الله تعالى به لما يحصل به من انقضاء الليل وظهور الضوء وانتشار الناس وسائر الحيوانات من الطير والوحوش في طلب الأرزاق وذلك مشاكل لنشور الموتى من قبورهم وفيه عبرة لمن تأمل وهذا كقوله وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ( المدثر 34 ) وقال في موضع آخر وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ( التكوير 18 ) وتمدح في آية أخرى بكونه خالفاً له فقال فَالِقُ الإِصْبَاحِ ( الإنعام 96 ) ومنهم من قال المراد به جميع النهار إلا أنه دل بالابتداء على الجميع نظيره وَالضُّحَى ( الضحى 1 ) وقوله وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ( الليل 2 ) وثانيها أن المراد نفسه صلاة الفجر وإنما أقسم بصلاة الفجر لأنها صلاة في مفتتح النهار وتجتمع لها ملائكة النهار وملائكة الليل كما قال تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى ( الإسراء 78 ) أي تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار القراءة في صلاة الصبح وثالثها أنه فجر يوم معين وعلى هذا القول ذكروا وجوهاً الأول أنه فجر يوم النحر وذلك لأن أمر المناسك من خصائص ملة إبراهيم وكانت العرب لا تدع الحج وهو يوم عظيم يأتي الإنسان فيه بالقربان كأن الحاج يريد أن يتقرب بذبح نفسه فلما عجز عن ذلك فدى نفسه بذلك القربان كما قال تعالى وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( الصافات 107 ) الثاني أراد فجر ذي الحجة لأنه قرن به قوله وَلَيالٍ عَشْرٍ ولأنه أول شهر هذه

العبادة المعظمة الثالث المراد فجر المحرم أقسم به لأنه أول يوم من كل سنة وعند ذلك يحدث أموراً كثيرة مما يتكرر بالسنين كالحج والصوم والزكاة واستئناف الحساب بشهور الأهلة وفي الخبر أن أعظم الشهور عند الله المحرم وعن ابن عباس أنه قال فجر السنة هو المحرم فجعل جملة المحرم فجراً ورابعها أنه عنى بالفجر العيون التي تنفجر منها المياه وفيها حياة الخلق أما قوله وَلَيالٍ عَشْرٍ ففيه مسألتان
المسألة الأولى إنما جاءت منكرة من بين ما أقسم الله به لأنها ليال مخصوصة بفضائل لا تحصل في غيرها والتنكير دال على الفضيلة العظيمة
المسألة الثانية ذكروا فيه وجوهاً أحدها أنها عشر ذي الحجة لأنها أيام الاشتغال بهذا النسك في الجملة وفي الخبر ما من أيام العمل الصالح فيه أفضل من أيام العشر وثانيها أنها عشر المحرم من أوله إلى آخره وهو تنبيه على شرف تلك الأيام وفيها يوم عاشوراء ولصومه من الفضل ما ورد به الأخبار وثالثها أنها العشر الأواخر من شهر رمضان أقسم الله تعالى بها لشرفها وفيها ليلة القدر إذ في الخبر اطلبوها في العشر الأخير من رمضان وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد المئزر وأيقظ أهله أي كف عن الجماع وأمر أهله بالتهجد وأما قوله وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى الشفع والوتر هو الذي تسميه العرب الخسا والزكا والعامة الزوج والفرد قال يونس أهل العالية يقولون الوتر بالفتح في العدد والوتر بالكسر في الذحل وتميم تقول وتر بالكسر فيهما معاً وتقول أوترته أوتره إيتاراً أي جعلته وتراً ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ( من استجمر فليوتر ) والكسر قراءة الحسن والأعمش وابن عباس والفتح قراءة أهل المدينة وهي لغة حجازية
المسألة الثانية اضطرب المفسرون في تفسير الشفع والوتر وأكثروا فيه ونحن نرى ما هو الأقرب أحدها أن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة وإنما أقسم الله بهما لشرفهما أما يوم عرفة فهو الذي عليه يدور أمر الحج كما في الحديث الحج عرفة وأما يوم النحر فيقع فيه القربان وأكثر أمور الحج من الطواف المفروض والحلق والرمي ويروى يوم النحر هو يوم الحج الأكبر فلما اختص هذان اليومان بهذه الفضائل لا جرم أقسم الله بهما وثانيها أن أيام التشريق أيام بقية أعمال الحج فهي أيام شريفة قال الله تعالى وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ( البقرة 203 ) والشفع هو يومان بعد يوم النحر الوتر هو اليوم الثالث ومن ذهب إلى هذا القول قال حمل الشفع والوتر على هذا أولى من حملهما على العيد وعرفة من وجهين الأول أن العيد وعرفة دخلا في العشر فوجب أن يكون المراد بالشفع والوتر غيرهما الثاني أن بعض أعمال الحج إنما يحصل في هذه الأيام فحمل اللفظ على هذا يفيد القسم بجميع أيام أعمال المناسك وثالثها الوتر آدم شفع بزوجته وفي رواية أخرى الشفع آدم وحواء والوتر هو الله تعالى ورابعها الوتر ما كان وتراً من الصلوات كالمغرب والشفع ما كان شفعاً منها روى عمران بن الحصين عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( هي الصلوات منها شفع ومنها وتر ) وإنما أقسم الله بها لأن الصلاة تالية للإيمان ولا يخفى قدرها ومحلها من العبادات وخامسها الشفع هو الخلق كله لقوله تعالى وَمِن كُلّ شَى ْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( الذاريات 49 ) وقوله وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْواجاً ( النبأ 8 ) والوتر هو الله تعالى وقال بعض المتكلمين لا يصح أن يقال الوتر هو الله لوجوه الأول أنا بينا أن قوله وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ تقديره

ورب الشفع والوتر فيجب أن يراد بالوتر المربوب فبطل ما قالوه الثاني أن الله تعالى لا يذكر مع غيره على هذا الوجه بل يعظم ذكره حتى يتميز من غيره وروي أن عليه الصلاة والسلام سمع من يقول الله ورسوله فنهاه وقال ( قل الله ثم رسوله ) قالوا وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إن الله وتر يحب الوتر ) ليس بمقطوع به وسادسها أن شيئاً من المخلوقات لا ينفك عن كونه شفعاً ووتراً فكأنه يقال أقسم برب الفرد والزوج من خلق فدخل كل الخلق تحته ونظيره قوله فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ ( الحاقة 39 38 ) وسابعها الشفع درجات الجنة وهي ثمانية والوتر دركات النار وهي سبعة وثامنها الشفع صفات الخلق كالعلم والجهل والقدرة والعجز والإرادة والكراهية والحياة والموت أما الوتر فهو صفة الحق وجود بلا عدم حياة بلا موت علم بلا جهل قدرة بلا عجز عز بلا ذل وتاسعها المراد بالشفع والوتر نفس العدد فكأنه أقسم بالحساب الذي لا بد للخلق منه وهو بمنزلة الكتاب والبيان الذي من الله به على العباد إذ قال عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ لَمْ يَعْلَمْ ( العلق 5 4 ) وقال عَلَّمَهُ البَيَانَ ( الرحمن 4 ) وكذلك بالحساب يعرف مواقيت العبادات والأيام والشهور قال تعالى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( الرحمن 5 ) وقال لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ ( يونس 5 ) وعاشرها قال مقاتل الشفع هو الأيام والليالي والوتر هو اليوم الذي لا ليل بعده وهو يوم القيامة الحادي عشر الشفع كل نبي له اسمان مثل محمد وأحمد والمسيح وعيسى ويونس وذي النون والوتر كل نبي له اسم واحد مثل آدم ونوح وإبراهيم الثاني عشر الشفع آدم وحواء والوتر مريم الثالث عشر الشفع العيون الإثنتا عشرة التي فجرها الله تعالى لموسى عليه السلام والوتر الآيات التسع التي أوتى موسى في قوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ ( الإسراء 101 ) الرابع عشر الشفع أيام عاد والوتر لياليهم لقوله تعالى سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَة َ أَيَّامٍ حُسُوماً ( الحاقة 7 ) الخامس عشر الشفع البروج الإثنا عشر لقوله تعالى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً ( الفرقان 61 ) والوتر الكواكب السبعة السادس عشر الشفع الشهر الذي يتم ثلاثين يوماً والوتر الشهر الذي يتم تسعة وعشرين يوماً السابع عشر الشفع الأعضاء والوتر القلب قال تعالى مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ ( الأحزاب 4 ) الثامن عشر الشفع الشفتان والوتر اللسان قال تعالى وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ ( البلد 9 ) التاسع عشر الشفع السجدتان والوتر الركوع العشرون الشفع أبواب الجنة لأنها ثمانية والوتر أبواب النار لأنها سبعة واعلم أن الذي يدل عليه الظاهر أن الشفع والوتر أمران شريفان أقسم الله تعالى بهما وكل هذه الوجوه التي ذكرناها محتمل والظاهر لا إشعار له بشيء من هذه الأشياء على التعيين فإن ثبت في شيء منها خبر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو إجماع من أهل التأويل حكم بأنه هو المراد وإن لم يثبت فيجب أن يكون الكلام على طريقة الجواز لا على وجه القطع ولقائل أن يقول أيضاً إني أحمل الكلام على الكل لأن الألف واللام في الشفع والوتر تفيد العموم أما قوله تعالى وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى إِذَا يَسْرِ إذا يمضي كما قال وَالَّيْلِ إِذَا أَدْبَرَ ( المدثر 33 ) وقوله وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ( التكوير 27 ) وسراها ومضيها وانقضاؤها أو يقال سراها هو السير فيها وقال قتادة إِذَا يَسْرِ أي إذا جاء وأقبل
المسألة الثانية أكثر المفسرين على أنه ليس المراد منه ليلة مخصوصة بل العموم بدليل قوله وَالَّيْلِ إِذَا أَدْبَرَ وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ولأن نعمة الله بتعاقب الليل والنهار واختلاف مقاديرهما على

الخلق عظيمة فصح أن يقسم به لأن فيه تنبيهاً على أن تعاقبهما بتدبيره مدبر حكيم عالم بجميع المعلومات وقال مقاتل هلي ليلة المزدلفة فقوله إِذَا يَسْرِ أي إذا يسار فيه كما يقال ليل نائم لوقوع النوم فيه وليل ساهر لوقوع السهر فيه وهي ليلة يقع السري في أولها عند الدفع من عرفات إلى المزدلفة وفي آخرها كما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقدم ضعفة أهله في هذه الليل وإنما يجوز ذلك عند الشافعي رحمه الله بعد نصف الليل
المسألة الثالثة قال الزجاج قرىء إِذَا يَسْرِ بإثبات الياء ثم قال وحذفها أحب إلي لأنها فاصلة والفواصل تحذف منها الياءات ويدل عليها الكسرات قال الفراء والعرب قد تحذف الياء وتكتفي بكسرة ما قبلها وأنشد كفاك كف ما يبقى درهما
جوداً وأخرى تعط بالسيف الدما
فإذا جاز هذا في غير الفاضلة فهو في الفاصلة أولى فإن قيل لم كان الاختيار أن تحذف الياء إذا كان في فاصلة أو قافية والحرف من نفس الكلمة فوجب أن يثبت كما أثبت سائر الحروف ولم يحذف أجاب أبو علي فقال القول في ذلك أن الفواصل والقوافي موضع وقف والوقف موضع تغيير فلما كان الوقف تغير فيه الحروف الصحيحة بالتضعيف والإسكان وروم الحركة فيها غيرت هذه الحروف المشابهة للزيادة بالحذف وأما من أثبت الياء في يسري في الوصل والوقف فإنه يقول الفعل لا يحذف منه في الوقف كما يحذف في الأسماء نحو قاض وغاز تقول هو يقضي وأنا أقضي فتثبت الياء ولا تحذف
وقوله تعالى هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ فيه مسألتان
المسألة الأولى الحجر العقل سمي به لأنه يمنع عن الوقوع فيما لا ينبغي كما سمي عقلاً ونهية لأنه يعقل ويمنع وحصاة من الإحصاء وهو الضبط قال الفراء والعرب تقول إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها كأنه أخذ من قولهم حجرت على الرجل وعلى هذا سمي العقل حجراً لأنه يمنع من القبيح من الحجر وهو المنع من الشيء بالتضييق فيه
المسألة الثانية قوله هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ استفهام والمراد منه التأكيد كمن ذكر حجة باهرة ثم قال هل فيما ذكرته حجة والمعنى أن من كان ذا لب علم أن ما أقسم الله تعالى به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه قال القاضي وهذه الآية تدل على ما قلنا أن القسم واقع برب هذه الأمور لأن هذه الآية دالة على أن هذا مبالغة في القسم ومعلوم أن المبالغة في القسم لا تحصل إلا في القسم بالله ولأن النهي قد ورد بأن يحلف العاقل بهذه الأمور

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى الاٌّ وْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلَادِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ
واعلم أن في جواب القسم وجهين الأول أن جواب القسم هو قوله إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ وما بين الموضعين معترض بينهما الثاني قال صاحب ( الكشاف ) المقسم عليه محذوف وهو لنعذبن الكافرين يدل عليه قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إلى قوله فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ وهذا أولى من الوجه الأول لأنه لما لم يتعين المقسم عليه ذهب الوهم إلى كل مذهب فكان أدخل في التخويف فلما جاء بعده بيان عذاب الكافرين دل على أن المقسم عليه أولاً هو ذلك
أما قوله تعالى أَلَمْ تَرَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى ألم تر ألم تعلم لأن ذلك مما لا يصح أن يراه الرسول وإنما أطلق لفظ الرؤية ههنا على العلم وذلك لأن أخبار عاد وثمود وفرعون كانت منقولة بالتواترا أما عاد وثمود فقد كانا في بلاد العرب وأما فرعون فقد كانوا يسمعونه من أهل الكتاب وبلاد فرعون أيضاً متصلة بأرض العرب وخبر التواتر يفيد العلم الضروري والعلم الضروري جار مجرى الرؤية في القوة والجلاء والبعد عن الشبهة فلذلك قال أَلَمْ تَرَ بمعنى ألم تعلم
المسألة الثانية قوله أَلَمْ تَرَ وإن كان في الظاهر خطاباً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لكنه عام لكل من علم ذلك والمقصود من ذكر الله تعالى حكايتهم أن يكون زجراً للكفار عن الإقامة على مثل ما أدى إلى هلاك عاد وثمود وفرعون وقومه وليكون بعثاً للمؤمنين على الثبات على الإيمان
أما قوله تعالى بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى ذكر ههنا قصة ثلاث فرق من الكفار المتقدمين وهي عاد وثمود وقوم فرعون على سبيل الإجمال حيث قال فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ولم يبين كيفية ذلك العذاب وذكر في سورة الحاقة بيان ما أبهم في هذه السورة فقال فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَة ِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ إلى قوله وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَة ِ ( الحاقة 9 ) الآية
المسألة الثانية عاد هو عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح ثم إنهم جعلوا لفظة عاد اسماً للقبيلة كما يقال لبني هاشم هاشم ولبني تميم تميم ثم قالوا للمتقدمين من هذه القبيلة عاد الأولى قال تعالى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاْولَى ( النجم 50 ) وللمتأخرين عاد الأخيرة وأما إرم فهو اسم لجد عاد وفي المراد منه في هذه الآية أقوال أحدها أن المتقدمين من قبيلة عاد كانوا يسمون بعاد الأولى فلذلك يسمون بإرم تسمية لهم باسم جدهم والثاني أن إرم اسم لبلدتهم التي كانوا فيها ثم قبل تلك المدينة هي الإسكندرية وقيل دمشق والثالث أن إرم أعلام قوم عاد كانوا يبنونها على هيئة المنارة وعلى هيئة القبور قال أبو الدقيش الأروم قبور عاد وأنشد
بها أروم كهوادي البخث

ومن الناس من طعن في قول من قال إن إرم هي الإسكندرية أو دمشق قال لأن منازل عاد كانت بين عمان إلى حضرموت وهي بلاد الرمال والأحقاف كما قال وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالاْحْقَافِ ( الأحقاق 21 ) وأما الإسكندرية ودمشق فليستا من بلاد الرمال
المسألة الثالثة إرم لا تنصرف قبيلة كانت أو أرضاً للتعريف والتأنيث
المسألة الرابعة في قوله إِرَمَ وجهان وذلك لأنا إن جعلناه اسم القبيلة كان قوله إِرَمَ عطف بيان لعاد وإيذاناً بأنهم عاد الأولى القديمة وإن جعلناه اسم البلدة أو الأعلام كان التقدير بعاد أهل إرم ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامع كما في قوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) ويدل عليه قراءة ابن الزبير بعاد إرم على الإضافة
المسألة الخامسة قرأ الحسن بِعَادٍ إِرَمَ مفتوحين وقرىء بِعَادٍ إِرَمَ بسكون الراء على التخفيف كما قرىء بِوَرِقِكُمْ ( الكهف 19 ) وقرىء بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ بإضافة إِرَمَ إلى ذَاتِ الْعِمَادِ وقرىء بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ بدلاً من فعل ربك والتقدير ألم تر كيف فعل ربك بعاد جعل ذات العماد رميماً أما قوله ذَاتِ الْعِمَادِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في إعرابه وجهان وذلك لأنا إن جعلنا إِرَمَ اسم القبيلة فالمعنى أنهم كانوا بدويين يسكنون الأخبية والخيام والخبار لا بد فيها من العماد والعماد بمعنى العمود وقد يكون جمع العمد أو يكون المراد بذات العماد أنهم طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة وقيل ذات البناء الرفيع وإن جعلناه اسم البلد فالمعنى أنها ذات أساطين أي ذات أبنية مرفوعة على العمد وكانوا يعالجون الأعمدة فينصبونها ويبنون فوقها القصور قال تعالى في وصفهم أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَة ً تَعْبَثُونَ ( الشعراء 128 ) أي علامة وبناء رفيعاً
المسألة الثانية روي أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال ابني مثلها فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار فلما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوصل إلى جنة شداد فحمل ما قدر عليه مما كان هناك وبلغ خبره معاوية فاستحضره وقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر ابن ( أبي ) قلابة فقال هذا والله هو ذلك الرجل
أما قوله الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ فالضمير في مثلها إلى ماذا يعود فيه وجوه الأول لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا أي مثل عاد في البلاد في عظم الجثة وشدة القوة كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع وكان يحمل الصخرة العظيمة فيلقيها على الجمع فيهلكوا الثاني لم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا وقرأ ابن الزبير لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا أي لم يخلق الله مثلها الثالث أن الكناية عائدة إلى العماد أي لم

يخلق مثل تلك الأساطين في البلاد وعلى هذا فالعماد جمع عمد والمقصود من هذه الحكاية زجر الكفار فإنه تعالى بين أنه أهلكهم بما كفروا وكذبوا الرسل مع الذي اختصوا به من هذه الوجوه فلأن تكونوا خائفين من مثل ذلك أيها الكفار إذا أقمتم على كفركم مع ضعفكم كان أولى أما قوله تعالى وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ فقال الليث الجواب قطعك الشيء كما يجاب الجيب يقال جاب يجوب جوباً وزاد الفراء يجيب جيباً ويقال جبت البلاد جوباً أي جلت فيها وقطعتها قال ابن عباس يجوبون البلاد فيجعلون منها بيوتاً وأحواضاً وما أرادوا من الأبنية كما قال وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً ( الأعراف 74 ) قيل أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة وقوله بِالْوَادِ قال مقاتل بوادي القرى
وأما قوله تعالى وَفِرْعَوْنَ ذِى الاْوْتَادِ فالاستقصاء فيه مذكور في سورة ص ونقول الآن فيه وجوه أحدها أنه سمي ذا الأوتاد لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا وثانيها أنه كان يعذب الناس ويشدهم بها إلى أن يموتوا روى عن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وجعل على صدرها رحا واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء وقالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ففرج الله عن بيتها في الجنة فرأته وثالثها ذي الأوتاد أي ذي الملك والرجال كما قال الشاعر
في ظل ملك راسخ الأوتاد
ورابعها روى قتادة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن تلك الأوتاد كانت ملاعب يلعبون تحتها لأجله واعلم أن الكلام محتمل لكل ذلك فبين الله تعالى لرسوله أن كل ذلك مما تعظم به الشدة والقول والكثرة لم يمنع من ورود هلاك عظيم بهم ولذلك قال تعالى الَّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلَادِ وفيه مسائل
المسألة الأولى يحتمل أنه يرجع الضمير إلى فرعون خاصة لأنه يليه ويحتمل أن يرجع إلى جميع من تقدم ذكرهم وهذا هو الأقرب
المسألة الثانية أحسن الوجوه في إعرابه أن يكون في محل النصب على الذم ويجوز أن يكون مرفوعاً على ( الإخبار أي ) هم الذين طغوا أو مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون
المسألة الثالثة طَغَوْاْ فِى الْبِلَادِ أي عملوا المعاصي وتجبروا على أنبياء الله والمؤمنين ثم فسر طغيانهم بقوله تعالى فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ ضد الصلاح فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم فمن عمل بغير أمر الله وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد ثم قال تعالى فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ واعلم أنه يقال صب عليه السوط وغشاه وقنعه وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به قال القاضي وشبهه بصب السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال إن عند الله أسواطاً كثيرة فأخذهم بسوط منها فإن قيل أليس أن قوله تعالى وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا دَابَّة ٍ ( النحل 61 ) يقتضي تأخير العذاب إلى الآخرة فكيف الجمع بين هاتين الآيتين قلنا هذه الآية تقتضي تأخير تمام الجزاء إلى الآخرة والواقع في الدنيا شيء من ذلك ومقدمة من مقدماته ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ تقدم عند قوله كَانَتْ مِرْصَاداً ( النبأ 21 )

ونقول المرصاد المكان الذي يترقب فيه الراصد مفعال من رصده كالميقات من وقته وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه وعن بعض العرب أنه قيل له أين ربك فقال بالمرصاد وللمفسرين فيه وجوه أحدها قال الحسن يرصد أعمال بني آدم وثانيها قال الفراء إليه المصير وهذان الوجهان عامان للمؤمنين والكافرين ومن المفسرين من يخص هذه الآية إما بوعيد الكفار أو بوعيد العصاة أما الأول فقال الزجاج يرصد من كفر به وعدل عن طاعته بالعذاب وأما الثاني فقال الضحاك يرصد لأهل الظلم والمعصية وهذه الوجوه متقاربة
فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ
اعلم أن قوله فَأَمَّا الإِنسَانُ متعلق بقوله إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( الفجر 14 ) كأنه قيل إنه تعالى لبالمرصاد في الآخرة فلا يريد إلا السعي للآخرة فأما الإنسان فإنه لا يهمه إلا الدنيا ولذاته وشهواتها فإن وجد الراحة في الدنيا يقول ربي أكرمني وإن لم يجد هذه الراحة يقول ربي أهانني ونظيره قوله تعالى في صفة الكفار يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاْخِرَة ِ هُمْ غَافِلُونَ ( الروم 7 ) وقال وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَة ٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ( الحج 11 ) وهذا خطأ من وجوه أحدها أن سعادة الدنيا وشقاوتها في مقابلة ما في الآخرة من السعادة والشقاوة كالقطرة في البحر فالمتنعم في الدنيا لو كان شقياً في الآخرة فذاك التنعم ليس بسعادة والمتألم المحتاج في الدنيا لو كان سعيداً في الآخرة فذاك ليس بإهانة ولا شقاوة إذ المتنعم في الدنيا لا يجوز له أن يحكم على نفسه بالسعادة والكرامة والمتألم في الدنيا لا يجوز له أن يحكم على نفسه بالشقاوة والهوان وثانيها أن حصول النعمة في الدنيا وحصول الآلام في الدنيا لا يدل على الاستحقاق فإنه تعالى كثيراً ما يوسع على العصاة والكفرة إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وإما يحكم المصلحة وإما على سبيل الاستدراج والمكر وقد يضيق على الصديقين لأضداد ما ذكرنا فلا ينبغي للعبد أن يظن أن ذلك لمجازاة وثالثها أن المتنعم لا ينبغي أن يغفل عن العاقبة فالأمور بخواتيمها والفقير والمحتاج لا ينبغي أن يغفل عما لله عليه من النعم التي لا حد لها من سلامة البدن والعقل والدين ودفع الآفات والآلام التي لا حد لها ولا حصر فلا ينبغي أن يقضي على نفسه بالإهانة مطلقاً ورابعها أن النفس قد ألفت هذه المحسوسات فمتى حصلت هذه المشتهيات واللذات صعب عليها الانقطاع عنها وعدم الاستغراق فيها أما إذا لم يحصل للإنسان شيء من هذه المحسوسات رجعت شاءت أم أبت إلى الله واشتغلت بعبودية الله فكان وجدان الدنيا سبباً للحرمان من الله فكيف يجوز القضاء بالشقاوة والإهانة عند عدم الدنيا مع أن ذلك أعظم الوسائل إلى أعظم السعادات وخامسها أن كثرة الممارسة سبب لتأكد المحبة وتأكد المحبة سبب لتأكد الألم عند الفراق فكل من كان

وجدانه للدنيا أكثر وأدوم كانت محبته لها أشد فكان تألمه بمفارقتها عند الموت أشد والذي بالضد فبالضد فإذن حصول لذات الدنيا سبب للألم الشديد بعد الموت وعدم حصولها سبب للسعادة الشديدة بعد الموت فكيف يقال إن وجدان الدنيا سعادة وفقدانها شقاوة
واعلم أن هذه الوجوه إنما تصح مع القول بإثبات البعث روحانياً كان أو جسمانياً فأما من ينكر البعث من جميع الوجوه فلا يستقيم على قوله شيء من هذه الوجوه بل يلزمه القطع بأن وجدان الدنيا هو السعادة وفقدانها هو الشقاوة ولكن فيه دقيقة أخرى وهي أنه ربما كان وجدان الدنيا الكثيرة سبباً للقتل والنهب والوقوع في أنواع العذاب فربما كان الحرمان سبباً لبقاء السلامة فعلى هذا التقدير لا يجوز أيضاً لمنكر البعث من جميع الوجوه أن يقضي على صاحب الدنيا بالسعادة وعلى فاقدها بالهوان فربما ينكشف له أن الحال بعد ذلك بالضد وفي الآية سؤالات
السؤال الأول قوله فَأَمَّا الإِنسَانُ المراد منه شخصين معين أو الجنس الجواب فيه قولان الأول أن المراد منه شخصين معين فروي عن ابن عباس أنه عتبة بن ربيعة وأبو حذيفة بن المغيرة وقال الكلبي هو أبي بن خلف وقال مقاتل نزلت في أمية بن خلف والقول الثاني أن المراد من كان موصوفاً بهذا الوصف وهو الكافر الجاحد ليوم الجزاء
السؤال الثاني كيف سمي بسط الرزق وتقديره ابتلاء الجواب لأن كل واحد منهما اختبار للعبد فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع فالحكمة فيهما واحدة ونحوه قوله تعالى وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة ً ( الأنبياء 35 )
السؤال الثالث لما قال فَأَكْرَمَهُ فقد صحح أنه أكرمه وأثبت ذلك ثم إنه لما حكى عنه أنه قال رَبّى أَكْرَمَنِ ذمه عليه فكيف الجمع بينهما والجواب لأن كلمة الإنكار هي قوله كَلاَّ فلم لا يجوز أن يقال إنها مختصة بقوله رَبّى أَهَانَنِ سلمنا أن الإنكار عائد إليهما معاً ولكن فيه وجوه ثلاثة أحدها أنه اعتقد حصول الاستحقاق في ذلك الإكرام الثاني أن نعم الله تعالى كانت حاصلة قبل وجدان المال وهي نعمة سلامة البدن والعقل والدين فلما لم يعترف بالنعمة إلا عند وجدان المال علمنا أنه ليس غرضه من ذلك شكر نعمة الله بل التصلف بالدنيا والتكثر بالأموال والأولاد الثالث أن تصلفه بنعمة الدنيا وإعراضه عن ذكر نعمة الآخرة يدل على كونه منكراً للبعث فلا جرم استحق الذم على ما حكى الله تعالى ذلك فقال وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً إلى قوله أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ( الكهف 37 35 )
السؤال الرابع لم قال في القسم الأول إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وفي القسم الثاني وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فذكر الأول بالفاء والثاني بالواو والجواب لأن رحمة الله سابقة على غضبه وابتلاءه بالنعم سابق على ابتلائه بإنزال الآلام فالفاء تدل على كثرة ذلك القسم وقبله الثاني على ما قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( النحل 18 )
السؤال الخامس لما قال في القسم الأول فَأَكْرَمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ يجب أن يقول في القسم الثاني فأهانه فيقول رَبّى أَهَانَنِ لكنه لم يقل ذلك والجواب لأنه في قوله أَكْرَمَنِ

صادق وفي قوله أَهَانَنِ غير صادق فهو ظن قلة الدنيا وتقتيرها إهانة وهذا جهل واعتقاد فاسد فكيف يحكي الله سبحانه ذلك عنه
السؤال السادس ما معنى قوله فقدر عليه رزقه الجواب ضيق عليه بأن جعله على مقدار البلغة وقرىء فقدر على التخفيف وبالتشديد أي قتر وأكرمن وأهانن بسكون النون في الوقف فيمن ترك الياء في الدرج مكتفياً منها بالكسرة
كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم تلك الشبهة قال كَلاَّ وهو ردع للإنسان عن تلك المقالة قال ابن عباس المعنى لم ابتله بالغنى لكرامته علي ولم أبتله بالفقر لهوانه علي بل ذلك إما على مذهب أهل السنة فمن محض القضاء أو القدر والمشيئة والحكم الذي تنزه عن التعليل بالعلل وإما على مذهب المعتزلة فبسبب مصالح خفية لا يطلع عليها إلا هو فقد يوسع على الكافر لا لكرامته ويقتر على المؤمن لا لهوانه ثم إنه تعالى لما حكى من أقوالهم تلك الشبهة فكأنه قال بل لهم فعل هو شر من هذا القول وهو أن الله تعالى يكرمهم بكثرة المال فلا يؤدون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم فقال بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو يكرمون وما بعده بالياء المنقوطة من تحت وذلك أنه لما تقدم ذكر الإنسان وكان يراد به الجنس والكثرة وهو على لفظة الغيبة حمل يكرمون ويحبون عليه ومن قرأ بالتاء فالتقدير قل لهم يا محمد ذلك
المسألة الثانية قال مقاتل كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف فكان يدفعه عن حقه
واعلم أن ترك إكرام اليتيم على وجوه أحدها ترك بره وإليه الإشارة بقوله الْيَتِيمَ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ والثاني دفعه عن حقه الثابت له في الميراث وأكل ماله وإليه الإشارة بقوله تعالى وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً والثالث أخذ ماله منه وإليه الإشارة بقوله وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً أي تأخذون أموال اليتامى وتضمونها إلى أموالكم أما قوله وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ قال مقاتل ولا تطعمون مسكيناً والمعنى لا تأمرون بإطعامه كقوله تعالى إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( الحاقة 34 33 ) ومن قرأ ولا تحاضون أراد تتحاضون فحذف تاء تتفاعلون والمعنى يَحُضُّ بَّعْضُكُم بَعْضاً وَفِى لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلاَ تَحَاضُّونَ بضم التاء من المحاضة
أما قوله وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً ففيه مسائل

المسألة الأولى قالوا أصل التراث وراث والتاء تبدل من الواو المضمومة نحو تجاه ووجاه من واجهت
المسألة الثانية قال الليث اللم الجمع الشديد ومنه كتيبة ملمومة وحجر ملموم والآكل يلم الثريد فيجعله لقماً ثم يأكله ويقال لممت ما على الخوان ألمه أي أكلته أجمع فمعنى اللم في اللغة الجمع وأما التفسير ففيه وجوه أحدها قال الواحدي والمفسرون يقولون في قوله أَكْلاً لَّمّاً أي شديداً وهو حل معنى وليس بتفسير وتفسيره أن اللم مصدر جعل نعتاً للأكل والمراد به الفاعل أي آكلاً لامّاً أي جائعاً كأنهم يستوعبونه بالأكل قال الزجاج كانوا يأكلون أموال اليتامى إسرافاً وبداراً فقال الله وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً أي تراث اليتامى لماً أي تلمون جميعه وقال الحسن أي يأكلون نصيبهم ونصيب صاحبهم فيجمعون نصيب غيرهم إلى نصيبهم وثانيها أن المال الذي يبقى من الميت بعضه حلال وبعضه شبهة وبعضه حرام فالوارث يلم الكل أي يضم البعض إلى البعض ويأخذ الكل ويأكله وثالثها قال صاحب ( الكشاف ) ويجوز أن يكون الذم متوجهاً إلى الوارث الذي ظفر بالمال سهلاً مهلاً من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلاً لماً واسعاً جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه كما يفعله الوراث البطالون
أما قوله تعالى وَّيُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً فاعلم أن الجم هو الكثرة يقال جم الشيء يجم جموماً يقال ذلك في المال وغيره فهو شيء جم وجام وقال أبو عمرو جم يجم أي يكثر والمعنى ويحبون المال حباً كثيراً شديداً فبين أن حرصهم على الدنيا فقط وأنهم عادلون عن أمر الآخرة
كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِى ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى
اعلم أن قوله كَلاَّ ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا في الحرص على الدنيا وقصر الهمة والجهاد على تحصيلها والاتكال عليها وترك المواساة منها وجمعها من حيث تتهيأ من حل أو حرام وتوهم أن لا حساب ولا جزاء فإن من كان هذا حاله يندم حين لا تنفعه الندامة ويتمنى أن لو كان أفنى عمره في التقرب بالأعمال الصالحة والمواساة من المال إلى الله تعالى ثم بين أنه إذا جاء يوم موصوف بصفات ثلاثة فإنه يحصل ذلك التمني وتلك الندامة
الصفة الأولى من صفات ذلك اليوم قوله إِذَا دُكَّتِ الاْرْضُ دَكّاً دَكّاً قال الخليل الدك كسر الحائط والجبل والدكداك رمل متلبد ورجل مدك شديد الوطء على الأرض وقال المبرد الدك حط المرتفع بالبسط واندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره وناقة دكاء إذا كانت كذلك ومنه الدكان لاستوائه في الانفراش فمعنى الدك على قول الخليل كسر كل شيء على وجه الأرض من جبل أو شجر حين زلزلت فلم

يبق على ظهرها شيء وعلى قول المبرد معناه أنها استوت في الانفراش فذهبت دورها وقصورها وسائر أبنيتها حتى تصير كالصحرة الملساء وهذا معنى قول ابن عباس تمد الأرض يوم القيامة
واعلم أن التكرار في قوله دَكّاً دَكّاً معناه دكاً بعد دك كقولك حسبته باباً باباً وعلمته حرفاً حرفاً أي كرر عليها الدك حتى صارت هباءً منثوراً واعلم أن هذا التدكدك لا بد وأن يكون متأخراً عن الزلزلة فإذا زلزلت الأرض زلزلة بعد زلزلة وحركت تحريكاً بعد تحريك انكسرت الجبال التي عليها وانهدمت التلال وامتلأت الأغوار وصارت ملساء وذلك عند انقضاض الدنيا وقد قال تعالى يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَة ُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَة ُ ( النازعات 7 6 ) وقال وَحُمِلَتِ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّة ً واحِدَة ً ( الحاقة 14 ) وقال إِذَا رُجَّتِ الاْرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً
الصفة الثانية من صفات ذلك اليوم قوله وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً
واعلم أنه ثبت بالدليل العقلي أن الحركة على الله تعالى محال لأن كل ما كان كذلك كان جسماً والجسم يستحيل أن يكون أزلياً فلا بد فيه من التأويل وهو أن هذا من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ثم ذلك المضاف ما هو فيه وجوه أحدها وجاء أمر ربك بالمحاسبة والمجازاة وثانيها وجاء قهر ربك كما يقال جاءتنا بنو أمية أي قهرهم وثالثها وجاء جلائل آيات ربك لأن هذا يكون يوم القيامة وفي ذلك اليوم تظهر العظائم وجلائل الآيات فجعل مجيئها مجيئاً له تفخيماً لشأن تلك الآيات ورابعها وجاء ظهور ربك وذلك لأن معرفة الله تصير في ذلك اليوم ضرورية فصار ذلك كظهوره وتجليه للخلق فقيل وَجَاء رَبُّكَ أي زالت الشبهة وارتفعت الشكوك خامسها أن هذا تمثيل لظهور آيات الله وتبيين آثار قهره وسلطانه مثلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه فإنه يظهر بمجرد حضوره من آثار الهيبة والسياسة مالا يظهر بحضور عساكره كلها وسادسها أن الرب هو المربى ولعل ملكاً هو أعظم الملائكة هو مربي للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) جاء فكان هو المراد من قوله وَجَاء رَبُّكَ
أما قوله وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً فالمعنى أنه تنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس
الصفة الثالثة من صفات ذلك اليوم قوله تعالى وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ونظيره قوله تعالى وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ( الشعراء 91 ) قال جماعة من المفسرين جيء بها يوم القيامة مزمومة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع قال الأصوليون ومعلوم أنها لا تنفك عن مكانها فالمراد وَبُرّزَتِ أي ظهرت حتى رآها الخلق وعلم الكافر أن مصيره إليها ثم قال يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ واعلم أن تقدير الكلام إذا دكت الأرض وحصل كذا وكذا فيومئذ يتذكر الإنسان وفي تذكره وجوه الأول أنه يتذكر ما فرط فيه لأنه حين كان في الدنيا كانت همته تحصيل الدنيا ثم إنه في الآخرة يتذكر أن ذلك كان ضلالاً وكان الواجب عليه أن تكون همته تحصيل الآخرة الثاني يتذكر أي يتعظ والمعنى أنه ما كان يتعظ في الدنيا فيصير في الآخرة متعظاً فيقول فَقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا ( الأنعام 27 ) الثالث يتذكر يتوب وهو مروي عن الحسن ثم قال تعالى وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ( الدخان 13 )

واعلم أن بين قوله يَتَذَكَّرُ وبين قوله وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى تناقضاً فلا بد من إضمار المضاف والمعنى ومن أين له منفعة الذكرى
ويتفرع على هذه الآية مسألة أصوليه وهي أن قبول التوبة عندنا غير واجب على الله عقلاً وقالت المعتزلة هو واجب فنقول الدليل على قولنا أن الآية دلت ههنا على أن الإنسان يعلم في الآخرة أن الذي يعمله في الدنيا لم يكن أصلح له وإن الذي تركه كان أصلح له ومهما عرف ذلك لا بد وأن يندم عليه وإذا حصل الندم فقد حصلت التوبة ثم إنه تعالى نفى كون تلك التوبة نافعة بقوله وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى فعلمنا أن التوبة لا يجب عقلاً قبولها فإن قيل القوم إنما ندموا على أفعالهم لا لوجه قبحها بل لترتب العقاب عليها فلا جرم ما كانت التوبة صحيحة قلنا القوم لما علموا أن الندم على القبيح لا بد وأن يكون لوجه قبحه حتى يكون نافعاً وجب أن يكون ندمهم واقعاً على هذا الوجه فحينئذ يكونون آتين بالتوبة الصحيحة مع عدم القبول فصح قولنا
يَقُولُ يالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى
ثم شرح تعالى ما يقوله هذا الإنسان فقال تعالى يَقُولُ يالَيْتَنِى لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى وفيه مسألتان
المسألة الأولى للآية تأويلات
أحدهما لَدَى َّ وَقَدْ قَدَّمْتُ في الدنيا التي كانت حياتي فيها منقطعة لحياتي هذه التي هي دائمة غير منقطعة وإنما قال لِحَيَاتِى ولم يقل لهذه الحياة على معنى أن الحياة كأنها ليست إلا الحياة في الدار الآخرة قال تعالى وَإِنَّ الدَّارَ الاْخِرَة َ لَهِى َ الْحَيَوَانُ ( العنكبوت 64 ) أي لهي الحياة
وثانيها أنه تعالى قال في حق الكافر وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ ( إبراهيم 17 ) وقال فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى ( طه 74 ) وقال وَيَتَجَنَّبُهَا الاْشْقَى الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى ( الأعلى 13 11 ) فهذه الآية دلت على أن أهل النار في الآخرة كأنه لا حياة لهم والمعنى فياليتني قدمت عملاً يوجب نجاتي من النار حتى أكون من الأحياء
وثالثها أن يكون المعنى فياليتني قدمت وقت حياتي في الدنيا كقولك جئته لعشر ليال خلون من رجب
المسألة الثانية استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقاً بقصدهم وإرادتهم وأنهم ما كانوا محجوبين عن الطاعات مجترئين على المعاصي وجوابه أن فعلهم كان معلقاً بقصدهم فقصدهم إن كان معلقاً بقصد آخر لزم التسلسل وإن كان معلقاً بقصد الله فقد بطل الاعتزال ثم قال تعالى
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
وفيه مسألتان

المسألة الأولى قراءة العامة يعذب ويوثق بكسر العين فيهما قال مقاتل معناه فيومئذ لا يعذب عذاب الله أحد من الخلق ولا يوثق وثاق الله أحد من الخلق والمعنى لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب والوثاق قال أبو عبيدة هذا التفسير ضعيف لأنه ليس يوم القيامة معذب سوى الله فكيف يقال لا يعذب أحد في مثل عذابه وأجيب عن هذا الاعتراض من وجوه الأول أن التقدير لا يعذب أحد في الدنيا عذاب الله الكافر يومئذ ولا يوثق أحد في الدنيا وثاق الله الكافر يومئذ والمعنى مثل عذابه ووثاقه في الشدة والمبالغة الثاني أن المعنى لا يتولى يوم القيامة عذاب الله أحد أي الأمر يومئذ أمره ولا أمر لغيره الثالث وهو قول أبي علي الفارسي أن يكون التقدير لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه فالضمير في عذابه عائد إلى الإنسان وقرأ الكسائي لا يعذب ولا يوثق بفتح العين فيها واختاره أبو عبيدة وعن أبي عمرو أنه رجع إليها في آخر عمره لما روى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأهما بالفتح والضمير للإنسان الموصوف وقيل هو أبي بن خلف ولهذه القراءة تفسيران أحدهما لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه لتناهيه في كفره وفساده والثاني أنه لا يعذب أحد من الناس عذاب الكافر كقوله وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( فاطر 18 ) قال الواحدي وهذه أولى الأقوال
المسألة الثانية العذاب في القراءتين بمعنى التعذيب والوثاق بمعنى الإيثاق كالعطاء بمعنى الإعطاء في قوله أكفراً بعد رد الموت عن
وبعد عدائك المائة الرتاعا
ياأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ
اعلم أنه تعالى لما وصف حال من اطمأن إلى الدنيا وصف حال من أطمأن إلى معرفته وعبوديته فقال وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ وفيه مسائل
المسألة الأولى تقدير هذا الكلام يقول الله للمؤمن وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ فإما أن يكلمه إكراماً له كما كلم موسى عليه السلام أو على لسان ملك وقال القفال هذا وإن كان أمراً في الظاهر لكنه خبر في المعنى والتقدير أن النفس إذا كانت مطمئنة رجعت إلى الله وقال الله لها فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى ( الفجر 30 29 ) قال ومجيء الأمر بمعنى الخبر كثير في كلامهم كقولهم إذا لم تستح فاصنع ما شئت
المسألة الثانية الاطمئنان هو الاستقرار والثبات وفي كيفية هذا الاستقرار وجوه أحدها أن تكون متيقنة بالحق فلا يخالجها شك وهو المراد من قوله وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 260 ) وثانيها النفس الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن ويشهد لهذا التفسير قراءة أبي بن كعب يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة وهذه الخاصة قد تحصل عند الموت عند سماع قوله أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّة ِ ( فصلت 30 ) وتحصل عند البعث وعند دخول الجنة لا محالة وثالثها وهو تأويل مطابق للحقائق

العقلية فنقول القرآن والبرهان تطابقا على أن هذا الاطمئنان لا يحصل إلا بذكر الله أما القرآن فقوله أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) وأما البرهان فمن وجهين الأول أن القوة العاقلة إذا أخذت تترقى في سلسلة الأسباب والمسببات فكلما وصل إلى سبب يكون هو ممكناً لذاته طلب العقل له سبباً آخر فلم يقف العقل عنده بل لا يزال ينتقل من كل شيء إلى ما هو أعلى منه حتى ينتهي في ذلك الترقي إلى واجب الوجود لذاته مقطع الحاجات ومنتهى الضرورات فلما وقفت الحاجة دونه وقف العقل عنده واطمأن إليه ولم ينتقل عنه إلى غيره فإذاً كلما كانت القوة العاقلة ناظرة إلى شيء من الممكنات ملتفة إليه استحال أن تستقر عنده وإذا نظرت إلى جلال واجب الوجود وعرفت أن الكل منه استحال أن تنتقل عنه فثبت أن الاطمئنان لا يحصل إلا بذكر واجب الوجود الثاني أن حاجات العبد غير متناهية وكل ما سوى الله تعالى فهو متناهي البقاء والقوة إلا بامداد الله وغير المتناهي لا يصير مجبوراً بالمتناهي فلا بد في مقابلة حاجة العبد التي لا نهاية لها من كمال الله الذي لا نهاية له حتى يحصل الاستقرار فثبت أن كل من آثر معرفة الله لا لشيء غير الله فهو غير مطمئن وليست نفسه نفساً مطمئنة أما من آثر معرفة الله لشيء سواه فنفسه هي النفس المطمئنة وكل من كان كذلك كان أنسه بالله وشوقه إلى الله وبقاؤه بالله وكلامه مع الله فلا جرم يخاطب عند مفارقته الدنيا بقوله ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً وهذا كلام لا ينتفع الإنسان به إلا إذا كان كاملاً في القوة الفكرية الإلهية أو في التجريد والتفريد
المسألة الثالثة اعلم أن الله تعالى ذكر مطلق النفس في القرآن فقال وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( الشمس 7 ) وقال تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( المائدة 116 ) وقال فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى َ لَهُم مّن قُوَّة َ أَعْيُنِ ( السجدة 17 ) وتارة وصفها بكونها أمارة بالسوء فقال إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَة ٌ بِالسُّوء ( يوسف 53 ) وتارة بكونها لوامة فقال بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة ِ ( القيامة 2 ) وتارة بكونها مطمئنة كما في هذه الآية واعلم أن نفس ذاتك وحقيقتك وهي التي تشير إليها بقولك ( أنا ) حين تخبر عن نفسك بقولك فعلت ورأيت وسمعت وغضبت واشتهيت وتخيلت وتذكرت إلا أن المشار إليه بهذه الإشارة ليس هو هذه البنية لوجهين الأول أن المشار إليه بقولك ( أنا ) قد يكون معلوماً حال ما تكون هذه البنية المخصوصة غير معلومة والمعلوم غير ما هو غير معلوم والثاني أن هذه البنية متبدلة الأجزاء والمشار إليه بقولك ( أنا ) غير متبدل فإني أعلم بالضرورة أني أنا الذي كنت موجوداً قبل هذا اليوم بعشرين سنة والمتبدل غير ما هو غير متبدل فإذاً ليست النفس عبارة عن هذه البنية وتقول قال قوم إن النفس ليست بجسم لأنا قد نعقل المشار إليه بقوله ( أنا ) حال ما أكون غافلاً عن الجسم الذي حقيقته المختص بالحيز الذاهب في الطول والعرض والعمق والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم وجواب المعارضة بالنفس مذكور في كتابنا المسمى بلباب الإشارات وقال آخرون بل هو جوهر جسماني لطيف صاف بعيد عن مشابهة الأجرام العنصرية نوراني سماوي مخالف بالماهية لهذه الأجسام السفلية فإذا صارت مشابكة لهذا البدن الكثيف صار البدن حياً وإن فارقته صار البدن ميتاً وعلى التقدير الأول يكون وصفها بالمجيء والرجوع بمعنى التدبير وتركه وعلى التقدير الثاني يكون ذلك الوصف حقيقاً
المسألة الرابعة من القدماء من زعم أن النفوس أزلية واحتجوا بهذه الآية وهي قوله ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ فإن هذا إنما يقال لما كان موجوداً قبل هذا البدن

واعلم أن هذا الكلام يتفرع على أن هذا الخطاب متى يوجد وفيه وجهان الأول أنه إنما يوجد عند الموت وههنا تقوى حجة القائلين بتقدم الأرواح على الأجساد إلا أنه لا يلزم من تقدمها عليها قدمها الثاني أنه إنما يوجد عند البعث والقيامة والمعنى ارجعي إلى ثواب ربك فادخلي في عبادي أي ادخلي في الجسد الذي خرجت منه
المسألة الخامسة المجسمة تمسكوا بقوله إِلَى رَبّكَ وكلمة إلى لانتهاء الغاية وجوابه إلى حكم ربك أو إلى ثواب ربك أو إلى إحسان ربك والجواب الحقيقي المفرع على القاعدة العقلية التي قررناها أن القوة العقلية بسيرها العقلي تترقى من موجود إلى موجود آخر ومن سبب إلى سبب حتى تنتهي إلى حضرة واجب الوجود فهناك انتهاء الغايات وانقطاع الحركات أما قوله تعالى رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً فالمعنى راضية بالثواب مرضية عنك في الأعمال التي عملتها في الدنيا ويدل على صحة هذا التفسير ما روى أن رجلاً قرأ عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآيات فقال أبو بكر ما أحسن هذاا فقال عليه الصلاة والسلام ( أما إن الملك سيقولها لك ) ثم قوله تعالى
ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قيل نزلت في حمزة بن عبد المطلب وقيل في خبيت بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو بلدتك فحول الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله وأنت قد عرفت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
المسألة الثانية قوله ادْخُلِى فِى عِبَادِى أي انضمي إلى عبادي المقربين وهذه حالة شريفة وذلك لأن الأرواح الشريفة القدسية تكون كالمرايا المصقولة فإذا انضم بعضها إلى البعض حصلت فيما بينها حالة شبيهة بالحالة الحاصلة عند تقابل المرايا المصقولة من انعكاس الأشعة من بعضها على بعض فيظهر في كل واحد منها كل ما ظهر في كلها وبالجملة فيكون ذلك الانضمام سبباً لتكامل تلك السعادات وتعاظم تلك الدرجات الروحانية وهذا هو المراد من قوله تعالى وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( الواقعة 91 90 وذلك هو السعادة الروحانية ثم قال وذلك هو السعادة الروحانية ثم قال وَادْخُلِى جَنَّتِى وهذا إشارة إلى السعادة الجسمانية ولما كانت الجنة الروحانية غير متراخية عن الموت في حق السعداء لا جرم قال فَادْخُلِى فِى عِبَادِى فذكر بفاه التعقيب ولما كانت الجنة الجسمانية لا يحصل الفوز بها إلا بعد قيام القيامة الكبرى لا جرم قال وَادْخُلِى جَنَّتِى فذكره بالواو لا بالفاء والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة البلد
عشرون آية مكية
لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ
أجمع المفسرون على أن ذلك البلد هي مكة واعلم أن فضل مكة معروف فإن الله تعالى جعلها حرماً آمناً فقال في المسجد الذي فيها وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً وجعل ذلك المسجد قبلة لأهل المشرق والمغرب فقال وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ( البقرة 644 ) وشرف مقام إبراهيم بقوله وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ( البقرة 125 ) وأمر الناس بحج ذلك البيت فقال وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( آل عمران 97 ) وقال في البيت وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ وَأَمْناً ( البقرة 125 ) وقال وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً ( الحج 26 ) وقال وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ وحرم فيه الصيد وجعل البيت المعمور بإزائه ودحيت الدنيا من تحته فهذه الفضائل وأكثر منها لما اجتمعت في مكة لا جرم أقسم الله تعالى بها فأما قوله وَأَنتَ حِلٌّ فالمراد منه أمور أحدها وأنت مقيم بهذا البلد نازل فيه حال به كأنه تعالى عظم مكة من جهة أنه عليه الصلاة والسلام مقيم بها وثانيها الحل بمعنى الحلال أي أن الكفار يحترمون هذا البلد ولا ينتهكون فيه المحرمات ثم إنهم مع ذلك ومع إكرام الله تعالى إياك بالنبوة يستحلون إيذاءك ولو تمكنوا منك لقتلوك فأنت حل لهم في اعتقادهم لا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك عن شرحبيل يحرمون أن يقتلوا بها صيداً أو يعضوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك وفيه تثبيت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة وتعجيب له من حالهم في عدوانهم له وثالثها قال قتادة الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ أي لست بآثم وحلال لك أن تقتل بمكة من شئت وذلك أن الله تعالى فتح عليه مكة وأحلها له وما فتحت على أحد قبله فأحل ما شاء وحرم ما شاء وفعل ما شاء فقتل عبد الله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ومقيس بن صبابة

وغيرهما وحرم دار أبي سفيان ثم قال ( إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ولم تحل إلا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها ولا يختلي خلالها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد فقال العباس إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لبيوتنا وقبورنا فقال إلا الإذخر )
فإن قيل هذه السورة مكية وقوله وَأَنتَ حِلٌّ إخبار عن الحال والواقعة التي ذكرتم إنما حدثت في آخر مدة هجرته إلى المدينة فكيف الجمع بين الأمرين قلنا قد يكون اللفظ للحال والمعنى مستقبلاً كقوله تعالى إِنَّكَ مَيّتٌ ( الزمر 30 ) وكما إذا قلت لمن تعده الإكرام والحباء أنت مكرم محبو وهذا من الله أحسن لأن المستقبل عنده كالحاضر بسبب أنه لا يمنعه عن وعده مانع ورابعها وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ أي وأنت غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه تعظيماً منك لهذا البيت لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر بالله وتكذيب الرسل وخامسها أنه تعالى لما أقسم بهذا البلد دل ذلك على غاية فضل هذا البلد ثم قال وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ أي وأنت من حل هذه البلدة المعظمة المكرمة وأهل هذا البلد يعرفون أصلك ونسبك وطهارتك وبراءتك طول عمرك من الأفعال القبيحة وهذا هو المراد بقوله تعالى هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ ( الجمعة 2 ) وقال لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ( التوبة 128 ) وقوله فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ ( يونس 16 ) فيكون الغرض شرح منصب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكونه من هذا البلد أما قوله وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ فاعلم أن هذا معطوف على قوله لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ وقوله وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ معترض بين المعطوف والمعطوف عليه وللمفسرين فيه وجوه أحدها الولد آدم وما ولد ذريته أقسم بهم إذ هم من أعجب خلق الله على وجه الأرض لما فيهم من البيان والنطق والتدبير واستخراج العلوم وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه وكل ما في الأرض مخلوق لهم وأمر الملائكة بالسجود لآدم وعلمه الأسماء كلها وقد قال الله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ( الإسراء 70 ) فيكون القسم بجميع الآدميين صالحهم وطالحهم لما ذكرنا من ظهور العجائب في هذه البنية والتركيب وقيل هو قسم بآدم والصالحين من أولاده بناء على أن الطالحين كأنهم ليسوا من أولاده وكأنهم بهائم كما قال إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ وثانيها أن الولد إبراهيم وإسماعيل وما ولد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأنه أقسم بمكة وإبراهيم بانيها وإسماعيل ومحمد عليهما السلام سكانها وفائدة التنكير الإبهام المستقل بالمدح والتعجب وإنما قال وَمَا وَلَدَ ولم يقل ومن ولد للفائدة الموجودة في قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ( آل عمران 36 ) أي بأي شيء وضعت يعني موضوعاً عجيب الشأن وثالثها الولد إبراهيم وما ولد جميع ولد إبراهيم بحيث يحتمل العرب والعجم فإن جملة ولد إبراهيم هم سكان البقاع الفاضلة من أرض الشام ومصر وبيت المقدس وأرض العرب ومنهم الروم لأنهم ولد عيصو بن إسحق ومنهم من خص ذلك بولد إبراهيم من العرب ومنهم من خص ذلك بالعرب المسلمين وإنما قلنا إن هذا القسم واقع بولد إبراهيم المؤمنين لأنه قد شرع في التشهد أن يقال ( كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ) وهم المؤمنين ورابعها روي عن ابن عباس أنه قال الولد الذي يلد وما ولد الذي لا يلد فما ههنا يكون للنفي وعلى هذا لا بد عن إضمار الموصول أي ووالد والذي ما ولد وذلك لا يجوز عند البصريين وخامسها يعني كل والد

ومولود وهذا مناسب لأن حرمة الخلق كلهم داخل في هذا الكلام
وأما قوله تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى في الكبد وجوه أحدها قال صاحب ( الكشاف ) إن الكبد أصله من قولك كبد الرجل كبداً فهو كبد إذا وجعت كبده وانتفخت فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة ومنه اشتقت المكابدة وأصله كبده إذا أصاب كبده وقال آخرون الكبد شدة الأمر ومنه تكبد اللبن إذا غلظ واشتد ومنه الكبد لأنه دم يغلظ ويشتد والفرق بين القولين أن الأول جعل اسم الكبد موضوعاً للكبد ثم اشتقت منه الشدة وفي الثاني جعل اللفظ موضوعاً للشدة والغلظ ثم اشتق منه اسم العضو الوجه الثاني أن الكبد هو الاستواء والاستقامة الوجه الثالث أن الكبد شدة الخلق والقوة إذا عرفت هذا فنقول أما على الوجه الأول فيحتمل أن يكون المراد شدائد الدنيا فقط وأن يكون المراد شدائد التكاليف فقط وأن يكون المراد شدائد الآخرة فقط وأن يكون المراد كل ذلك
أما الأول فقوله لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ أي خلقناه أطواراً كلها شدة ومشقة تارة في بطن الأم ثم زمان الإرضاع ثم إذا بلغ ففي الكد في تحصيل المعاش ثم بعد ذلك الموت
وأما الثاني وهو الكبد في الدين فقال الحسن يكابد الشكر على السراء والصبر على الضراء ويكابد المحن في أداء العبادات
وأما الثالث وهو الآخرة فالموت ومساءلة الملك وظلمة القبر ثم البعث والعرض على الله إلى أن يستقر به القرار إما في الجنة وإما في النار
وأما الرابع وهو يكون اللفظ محمولاً على الكل فهو الحق وعندي فيه وجه آخر وهو أنه ليس في هذه الدنيا لذة البتة بل ذاك يظن أنه لذة فهو خلاص عن الألم فإن ما يتخيل من اللذة عند الأكل فهو خلاص عند ألم الجوع وما يتخيل من اللذات عند اللبس فهو خلاص عن ألم الحر والبرد فليس للإنسان إلا ألم أو خلاص عن ألم وانتقال إلى آخر فهذا معنى قوله لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ ويظهر منه أنه لا بد للإنسان من البعث والقيامة لأن الحكيم الذي دبر خلقة الإنسان إن كان مطلوبه منه أن يتألم فهذا لا يليق بالرحمة وإن كان مطلوبه أن لا يتألم ولا يلتذ ففي تركه على العدم كفاية في هذا المطلوب وإن كان مطلوبه أن يلتذ فقد بينا أنه ليس في هذه الحياة لذة وأنه خلق الإنسان في هذه الدنيا في كبد ومشقة ومحنة فإذا لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى لتكون تلك الدار دار السعادات واللذات والكرمات
وأما على الوجه الثاني وهو أن يفسر الكبد بالاستواء فقال ابن عباس في كبد أي قائماً منتصباً والحيوانات الأخر تمشي منكسة فهذا امتنان عليه بهذه الخلقة
وأما على الوجه الثالث وهو أن يفسر الكبد بشدة الخلقة فقد قال الكلبي نزلت هذه الآية في رجل من بني جمح يكنى أبا الأشد وكان يجعل تحت قدميه الأديم العكاظي فيجتذبونه من تحت قدميه فيتمزق الأديم ولم تزل قدماه واعلم أن اللائق بالآية هو الوجه الأول

المسألة الثانية حرف في واللام متقاربان تقول إنما أنت للعناء والنصب وإنما أنت في العناء والنصب وفيه وجه آخر وهو أن قوله فِى كَبَدٍ يدل على أن الكبد قد أحاط به إحاطة الظرف بالمظروف وفيه إشارة إلى ما ذكرنا أنه ليس في الدنيا إلا الكد والمحنة
المسألة الثالثة منهم من قال المراد بالإنسان إنسان معين وهو الذي وصفناه بالقوة والأكثرون على أنه عام يدخل فيه كل أحد وإن كنا لا نمنع من أن يكون ورد عند فعل فعله ذلك الرجل
أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
اعلم أنا إن فسرنا الكبد بالشدة في القوة فالمعنى أيحسب ذلك الإنسان الشديد أنه لشدته لا يقدر عليه أحد وإن فسرنا المحنة والبلاء كان المعنى تسهيل ذلك على القلب كأنه يقول وهب أن الإنسان كان في النعمة والقدرة أفيظن أنه في تلك الحالة لا يقدر عليه أحد ثم اختلفوا فقال بعضهم لن يقدر على بعثه ومجازاته فكأنه خطاب مع من أنكر البعث وقال آخرون المراد لن يقدر على تغيير أحواله ظناً منه أنه قوي على الأمور لا يدافع عن مراده وقوله أَيَحْسَبُ استفهام على سبيل الإنكار
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً
قال أبو عبيدة لبد فعل من التلبيد وهو المال الكثير بعضه على بعض قال الزجاج فعل للكثرة يقال رجل حطم إذا كان كثير الحطم قال الفراء واحدته لبدة ولبد جمع وجعله بعضهم واحداً ونظيره قسم وحطم وهو في الوجهين جميعاً الكثير قال الليث مال لبد لا يخاف فناؤه من كثرته وقد ذكرنا تفسير هذا الحرف عند قوله يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( الجن 19 ) والمعنى أن هذا الكافر يقول أهلكت في عداوة محمد مالاً كثيراً والمراد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونه مكارم ويدعونه معالي ومفاخر
أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ
فيه وجهان الأول قال قتادة أيظن أن الله لم يره ولم يسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه الثاني قال الكلبي كان كاذباً لم ينفق شيئاً فقال الله تعالى أيظن أن الله تعالى ما رآى ذلك منه فعل أو لم يفعل أنفق أو لم ينفق بل رآه وعلم منه خلاف ما قال
أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ
واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الكافر قوله أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( البلد 5 ) أقام الدلالة على كمال قدرته فقال تعالى أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ وعجائب هذه الأعضاء مذكورة في كتب التشريح قال أهل العربية النجد الطريق في ارتفاع فكأنه لما وضحت الدلائل جعلت كالطريق المرتفعة العالية بسبب أنها واضحة للعقول كوضوح الطريق العالي للأبصار وإلى هذا التأويل ذهب عامة المفسرين في النجدين وهو أنهما سبيلا الخير والشر وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال إنما هما النجدان نجد الخير ونجد الشر ولا يكون نجد الشر أحب إلى أحدكم من نجد الخير ) وهذه الآية كالآية في هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ إلى قوله فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً

( الإنسان 3 1 ) وقال الحسن قال أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً فمن الذي يحاسبني عليه فقيل الذي قدر على أن يخلق لك هذه الأعضاء قادر على محاسبتك وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب أنهما الثديان ومن قال ذلك ذهب إلى أنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه والله تعالى هدى الطفل الصغير حتى ارتضعها قال القفال والتأويل هو الأول ثم قرر وجه الاستدلال به فقال إن من قدر على أن يخلق من الماء المهين قلباً عقولاً ولساناً قولاً فهو على إهلاك ما خلق قادر وبما يخفيه المخلوق عالم فما العذر في الذهاب عن هذا مع وضوحه وما الحجة في الكفر بالله من تظاهر نعمه وما العلة في التعزيز على الله وعلى أنصار دينه بالمال وهو المعطي له وهو الممكن من الانتفاع به
فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ
ثم إنه سبحانه وتعالى دل عباده على الوجوه الفاضلة التي تنفق فيها الأموال وعرف هذا الكافر أن إنفاقه كان فاسداً وغير مفيد فقال تعالى فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ وفيه مسائل
المسألة الأولى الاقتحام الدخول في الأمر الشديد يقال قحم يقحم قحوماً واقتحم اقتحاماً وتقحم تقحماً إذا ركب القحم وهي المهالك والأمور العظام والعقبة طريق في الجبل وَعْرٌ الجمع العقب والعقاب ثم ذكر المفسرون في العقبة ههنا وجهين الأول أنها في الآخرة وقال عطاء يريد عقبة جهنم وقال الكلبي هي عقبة بين الجنة والنار وقال ابن عمرهي جبل زلال في جهنم وقال مجاهد والضحاك هي الصراط يضرب على جهنم وهو معنى قول الكلبي إنها عقبة الجنة والنار قال الواحدي وهذا تفسير فيه نظر لأن من المعلوم أن ( بني ) هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا عقبة جهنم ولا جاوزوها فحمل الآية عليه يكون إيضاحاً للواضحات ويدل عليه أنه لما قال وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة ُ ( البلد 12 ) فسره بفك الرقبة وبالإطعام الوجه الثاني في تفسير العقبة هو أن ذكر العقبة ههنا مثل ضربه الله لمجاهدة النفس والشيطان في أعمال البر وهو قول الحسن ومقاتل قال الحسن عقبة الله شديدة وهي مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه من شياطين الإنس والجن وأقول هذا التفسير هو الحق لأن الإنسان يريد أن يترقى من عالم الحس والخيال إلى يفاع عالم الأنوار الإلهية ولا شك أن بينه وبينها عقبات سامية دونها صواعق حامية ومجاوزتها صعبة والترقي إليها شديد
المسألة الثانية أن في الآية إشكالاً وهو أنه قلما توجد لا الداخلة على المضي إلا مكررة تقول لا جنبني ولا بعدني قال تعالى فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى ( القيامة 31 ) وفي هذه الآية ما جاء التكرير فما السبب فيه أجيب عنه من وجوه الأول قال الزجاج إنها متكررة في المعنى لأن معنى فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك وقوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 17 ) يدل أيضاً على معنى فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ ولا آمن الثاني قال أبو علي الفارسي معنى فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ لم يقتحمها وإذا كانت لا بمعنى لم كان التكرير غير واجب كما لا يجب التكرير مع لم فإن تكررت في موضع نحو فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى فهو كتكرر ولم نحو لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ( الفرقان 67 )
المسألة الثالثة قال القفال قوله فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ أي هلا أنفق ماله فيما فيه اقتحام العقبة وأما الباقون فإنهم أجروا اللفظ على ظاهره وهو الإخبار بأنه ما اقتحم العقبة

ثم قال تعالى
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة ُ
فلا بد من تقدير محذوف لأن العقبة لا تكون فك رقبة فالمراد وما أدراك ما اقتحام العقبة وهذا تعظيم لأمر التزام الدين ثم قال تعالى
فَكُّ رَقَبَة ٍ
والمعنى أن اقتحام العقبة هو الفك أو الإطعام وفيه مسائل
المسألة الأولى الفك فرق يزيل المنع كفك القيد والغل وفك الرقبة فرق بينها وبين صفة الرق بإيجاب الحرية وإبطال العبودية ومنه فك الرهن وهو إزالة غلق الرهن وكل شيء أطلقته فقد فككته ومنه فك الكتاب قال الفراء في المصادر فكها يفكها فكاكاً بفتح الفاء في المصدر ولا تقل بكسرها ويقال كانت عادة العرب في الأسارى شد رقابهم وأيديهم فجرى ذلك فيهم وإن لم يشدد ثم سمي إطلاق الأسير فكاكاً قال الأخطل أبنى كليب إن عمى اللذا
قتلا الملوك وفككا الأغلال
المسألة الثانية فك الرقبة قد يكون بأن يعتق الرجل رقبة قد يكون بأن يعتق الرجل رقبة من الرق وقد يكون بأن يعطي مكاتباً ما يصرفه إلى جهة فكاك نفسه روى البراء بن عازب قال ( جاء أعرابي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال عتق النسمة وفك الرقبة قال يا رسول الله أوليسا واحداً قال لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ) وفيه وجه آخر وهو أن يكون المراد أن يفك المرء رقبة نفسه بما يتكلفه من العبادة التي يصير بها إلى الجنة فهي الحرية الكبرى ويتخلص بها من النار
المسألة الثالثة قرىء ( فك رقبة ) أو إطعام والتقدير هي فك رقبة أو إطعام وقرىء ( فك رقبة أو أطعم ) على الإبدال من اقتحم العقبة وقوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة ُ اعتراض قال الفراء وهو أشبه الوجهين بصحيح العربية لقوله ثُمَّ كَانَ ( البلد 16 ) لأن فك وأطعم فعل وقوله كان فعل وينبغي أن يكون الذي يعطف عليه الفعل فعلاً أما لو قيل ثم إن كان كان ذلك مناسباً لقوله فَكُّ رَقَبَة ٍ بالرفع لأنه يكون عطفاً للاسم على الاسم
المسألة الرابعة عند أبي حنيفة العتق أفضل أنواع الصدقات وعند صاحبية الصدقة أفضل والآية أدل على قول أبي حنيفة لتقدم العتق على الصدقة فيها
أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ
فيه مسائل
المسألة الأولى يقال سغب سغباً إذا جاع فهو ساغب وسغبان قال صاحب ( الكشاف ) المسغبة

والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب يقال فلان ذو قرابتي وذو مقربتي وترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب وأما أترب فاستغنى أي صار ذا مال كالتراب في الكثرة قال الواحدي المتربة مصدر من قولهم ترب يترب ترباً ومتربة مثل مسغبة إذا افتقر حتى لصق بالتراب
المسألة الثانية حاصل القول في تفسير يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ ما قاله الحسن وهو نائم يوم محروص فيه على الطعام قال أبو علي ومعناه ما يقول النحويون في قولهم ليل نائم ونهار صائم أي ذو نوم وصوم
واعلم أن إخراج المال في وقت القحط والضرورة أثقل على النفس وأوجب للأجر وهو كقوله لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ ( البقرة 177 ) وقال وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً ( الإنسان 8 ) وقرأ الحسن ( ذا مسغبة ) نصبه بإطعام ومعناه أو إطعام في يوم من الأيام ذا مسغبة أما قوله تعالى
يَتِيماً ذَا مَقْرَبَة ٍ
قال الزجاج ذا قرابة تقول زيد ذو قرابتي وذو مقربتي وزيد قرابتي قبيح لأن القرابة مصدر قال مقاتل يعني يتيماً بينه وبينه قرابة فقد اجتمع فيه حقان يتم وقرابة فاطعامه أفضل وقيل يدخل فيه القرب بالجوار كما يدخل فيه القرب بالنسب أما قوله تعالى
أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ
أي مسكيناً قد لصق بالتراب من فقره وضره فليس فوقه ما يستره ولا تحته ما يوطئه روى أن ابن عباس مر بمسكين لاصق بالتراب فقال هذا الذي قال الله تعالى ( فيه ) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ واحتج الشافعي بهذه الآية على أن المسكين قد يكون بحيث يملك شيئاً لأنه لو كان لفظ المسكين دليلاً على أنه لا يملك شيئاً ألبتة لكان تقييده بقوله ذَا مَتْرَبَة ٍ تكريراً وهو غير جائز
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَة ِ
أما قوله تعالى ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ أي كان مقتحم العقبة من الذين آمنوا فإنه إن لم يكن منهم لم ينتفع بشيء من هذه الطاعات ولا مقتحماً للعقبة فإن قيل لما كان الإيمان شرطاً للانتفاع بهذه الطاعات وجب كونه مقدماً عليها فما السبب في أن الله تعالى أخره عنها بقوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ والجواب من وجوه أحدها أن هذا التراخي في الذكر لا في الوجود كقوله إن من ساد ثم ساد أبوه
ثم قد ساد قبل ذلك جده
لم يرد بقوله ثم ساد أبوه التأخر في الوجود وإنما المعنى ثم اذكر أنه ساد أبوه كذلك في الآية وثانيها أن يكون المراد ثم كان في عاقبة أمره من الذين آمنوا وهو أن يموت على الإيمان فإن الموافاة شرط الانتفاع بالطاعات وثالثها أن من أتى بهذه القرب تقربا إلى الله تعالى قبل إيمانه بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم آمن بعد ذلك بمحمد عليه الصلاة والسلام فعند بعضهم أنه يثاب على تلك الطاعات قالوا ويدل عليه ما روي ( أن حكيم بن حزام بعدما أسلم قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنا كنا نأتي بأعمال الخير في الجاهلية فهل لنا منها شيء فقال عليه السلام أسلمت على ما قدمت من الخير ) ورابعها أن المراد من قوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ تراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العنق والصدقة لأن درجة ثواب الإيمان أعظم بكثير من درجة ثواب سائر الأعمال

أما قوله تعالى وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَة ِ فالمعنى أنه كان يوصي بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والثبات عليه أو الصبر على المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلي بها المؤمن ثم ضم إليه التواصي بالمرحمة وهو أن يحث بعضهم بعضاً على أن يرحم المظلوم أو الفقير أو يرحم المقدم على منكر فيمنعه منه لأن كل ذلك داخل في الرحمة وهذا يدل على أنه يجب على المرء أن يدل غيره على طريق الحق ويمنعه من سلوك طريق الشر والباطل ما أمكنه واعلم أن قوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَة ِ يعني يكون مقتحم العقبة من هذه الزمرة والطائفة وهذه الطائفة هم أكابر الصحابة كالخلفاء الأربعة وغيرهم فإنهم كانوا مبالغين في الصبر على شدائد الدين والرحمة على الخلق وبالجملة فقوله وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَة ِ إشارة إلى الشفقة على خلق الله ومدار أمر الطاعات ليس إلا على هذين الأصلين وهو الذي قاله بعض المحققين إن الأصل في التوصف أمران صدق مع الحق وخلق مع الخلق
ثم إنه سبحانه لما وصف هؤلاء المؤمنين بين أنهم من هم في القيامة فقال
أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ
وإنما ذكر ذلك لأنه تعالى بين حالهم في سورة الواقعة وأنهم فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ( الواقعة 29 28 ) قال صاحب ( الكشاف ) الميمنة والمشأمة اليمين والشمال أو اليمين والشؤم أي الميامين على أنفسهم والمشائيم عليها ثم قال تعالى
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأمَة ِ
فقيل المراد من يؤتي كتابه بشماله أو وراء ظهره وقد تقدم وصف الله لهم بأنهم فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ ( الواقعة 42 ) إلى غير ذلك ثم قال تعالى
عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَة ُ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الفراء والزجاج والمبرد يقال آصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته فمن قرأ مؤصدة بالهمزة أخذها من آصدت فهمز اسم المفعول ويجوز أن يكون من أوصدت ولكنه همز على لغة من يهمز الواو وإذا كان قبلها ضمة نحو مؤسي ومن لم يهمز احتمل أيضاً أمرين
أحدهما أن يكون من لغة من قال أوصدت فلم يهمز اسم المفعول كما يقال من أوعدت موعد
الآخر أن يكون من آصد مثل آمن ولكنه خفف كما في تخفيف جؤنة وبؤس جونة وبوس فيقلبها في التخفيف واواً قال الفراء ويقال من هذا الأصيد والوصيد وهو الباب المطبق إذا عرفت هذا فنقول قال مقاتل عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَة ُ يعني أبوابها مطبقة فلا يفتح لهم باب ولا يخرج منها غم ولا يدخل فيها روح أبد الآباد وقيل المراد إحاطة النيران بهم كقوله أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ( الكهف 29 )
المسألة الثانية المؤصدة هي الأبواب وقد جرت صفة للنار على تقدير عليهم نار مؤصدة الأبواب فكلما تركت الإضافة عاد التنوين لأنهما يتعاقبان والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة الشمس
( خمس عشرة آية مكية
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا
قبل الخوض في التفسير لا بد من مسائل
المسألة الأولى المقصود من هذه السورة الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي
واعلم أنه تعالى ينبه عباده دائماً بأن يذكر في القسم أنواع مخلوقاته المتضمنة للمنافع العظيمة حتى يتأمل المكلف فيها ويشكر عليها لأن الذي يقسم الله تعالى به يحصل له وقع في القلب فتكون الدواعي إلى تأمله أقوى
المسألة الثانية قد عرفت أن جماعة من أهل الأصول قالوا التقدير ورب الشمس ورب سائر ما ذكره إلى تمام القسم واحتج قوم على بطلان هذا المذاهب فقالوا إن في جملة هذا القسم قوله يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ( الشمس 5 ) وذلك هو الله تعالى فيلزم أن يكون المراد ورب السماء وربها وذلك كالمتناقض أجاب القاضي عنه بأن قوله وَمَا بَنَاهَا لا يجوز أن يكون المراد منه هو الله تعالى لأن ما لا تستعمل في خالق السماء إلا على ضرب من المجاز ولأنه لا يجوز منه تعالى أن يقدم قسمه بغيره على قسمه بنفسه ولأنه تعالى لا يكاد يذكر مع غيره على هذا الوجه فإذاً لا بد من التأويل وهو أن مَا مع ما بعده في حكم المصدر فيكون التقدير والسماء وبنائها اعترض صاحب ( الكشاف ) عليه فقال لو كان الأمر على هذا الوجه لزم من عطف قوله فَأَلْهَمَهَا ( الشمس 8 ) عليه فساد النظم
المسألة الثالثة القراء مختلفون في فواصل هذه السورة وما أشبهها نحو وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالضُّحَى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى فقرءوها تارة بالإمالة وتارة بالتفخيم وتارة بعضها بالإمالة وبعضها بالتفخيم

قال الفراء بكسر ضحاها والآيات التي بعدها وإن كان أصل بعضها الواو نحو تلاها وصحاها ودحاها فكذلك أيضاً فإنه لماابتدئت السورة بحرف الياء أتبعها بما هو من الواو لأن الألف المنقلبة عن الواو قد توافق المنقلبة عن الياء ألا ترى أن تلوت وطحوت ونحوهما قد يجوز في أفعالها أن تنقلب إلى الياء نحو تلى ودحى فلما حصلت هذه الموافقة استجازوا إمالته كما استجازوا إمالة ما كان من الياء وأما وجه من ترك الإمالة مطلقاً فهو أن كثيراً من العرب لا يميلون هذه الألفات ولا ينحون فيها نحو الياء ويقوى ترك الإمالة للألف أن الواو في موسر منقلبة عن الياء والياء في ميقات وميزان منقلبة عن الواو ولم يلزم من ذلك أن يحصل فيه ما يدل على ذلك الانقلاب فكذا ههنا ينبغي أن تترك الألف غير ممالة ولا ينحى بها نحو الياء وأما إمالة البعض وترك إمال البعض كما فعله حمزة فحسن أيضاً وذلك لأن الألف إنما تمال نحو الياء لتدل على الياء إذا كان انقلابها عن الياء ولم يكن في تلاها وطحاها ودحاها ألف منقلبة عن الياء إنما هي منقلبة عن الواو بدلالة تلوت ودحوت
المسألة الرابعة أن الله تعالى قد أقسم بسبعة أشياء إلى قوله قَدْ أَفْلَحَ ( الشمس 9 ) وهو جواب القسم قال الزجاج المعنى لقد أفلح لكن اللام حذفت لأن الكلام طال فصار طوله عوضاً منها
قوله تعالى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ذكر المفسرون في ضحاها ثلاثة أقوال قال مجاهد والكلبي ضوؤها وقال قتادة هو النهار كله وهو اختيار الفراء وابن قتيبة وقال مقاتل هو حر الشمس وتقرير ذلك بحسب اللغة أن نقول قال الليث الضحو ارتفاع النهار والضحى فويق ذلك والضحاء ممدوداً امتد النهار وقرب أن ينتصف وقال أبو الهيثم الضح نقيض الظل وهو نور الشمس على وجه الأرض وأصله الضحى فاستثقلوا الياء مع سكون الحاء فقلبوها وقال ضح فالضحى هو ضوء الشمس ونورها ثم سمى به الوقت الذي تشرق فيه الشمس على ما في قوله تعالى إِلاَّ عَشِيَّة ً أَوْ ضُحَاهَا ( النازعات 46 ) فمن قال من المفسرين في ضحاها ضوؤها فهو على الأصل وكذا من قال هو النهار كله لأن جميع النهار هو من نور الشمس ومن قال في الضحى إنه حر الشمس فلأن حرها ونورها متلازمان فمتى اشتد حرها فقد اشتد ضؤوها وبالعكس وهذا أضعف الأقوال واعلم أنه تعالى إنما أقسم بالشمس وضحاها لكثرة ما تعلق بها من المصالح فإن أهل العالم كانوا كالأموات في الليل فلما ظهر أثر الصبح في المشرق صار ذلك كالصور الذي ينفخ قوة الحياة فصارت الأموات أحياء ولا تزال تلك الحياة في الازدياد والقوة والتكامل ويكون غاية كمالها وقت الضحوة فهذه الحالة تشبه أحوال القيامة ووقت الضحى يشبه استقرار أهل الجنة فيها وقوله وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا قال الليل تلا يتلو إذا تبع شيئاً وفي كون القمر تالياً وجوه أحدها بقاء القمر طالعاً عند غروب الشمس وذلك إنما يكون في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس فإذا القمر يتبعها في الإضاءة وهو قول عطاء عن ابن عباس وثانيها أن الشمس إذا غربت فالقمر يتبعها ليلة الهلال في الغروب وهو قول قتادة والكلبي وثالثها قال الفراء المراد من هذا التلو هو أن القمر يأخذ الضوء من الشمس يقال فلان يتبع فلاناً في كذا أي يأخذ منه ورابعها قال الزجاج تلاها حين استدار وكمل فكأنه يتلو الشمس في الضياء والنور يعني إذا كمل ضوؤه فصار كالقائم مقام الشمس في الإنارة وذلك في الليالي البيض وخامسها أنه يتلوها في كبر الجرم بحسب الحس وفي ارتباط مصالح هذا العالم بحركته ولقد ظهر في علم النجوم أن بينهما من المناسبة ما ليس بين الشمس وبين غيرها

وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا
معنى التجلية الإظهار والكشف والضمير في جلاها إلى ماذا يعود فيه وجهان أحدهما وهو قول الزجاج أنه عائد إلى الشمس وذلك لأن النهار عبارة عن نور الشمس فكلما كان النهار أجلى ظهوراً كانت الشمس أجلى ظهوراً لأن قوة الأثر وكماله تدل على قوة المؤثر فكان النهار يبرز الشمس ويظهرها كقوله تعالى لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ أي لا يخرجها الثاني وهو قول الجمهور أنه عائد إلى الظلمة أو إلى الدنيا أو إلى الأرض وإن لم يجر لها ذكر يقولون أصبحت باردة يريدون الغداة وأرسلت يريدون السماء
وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا
يعني يغشى الليل الشمس فيزيل ضوءها وهذه الآية تقوي القول الأول في الآية التي قبلها من وجهين الأول إنه لما جعل الليل يغشى الشمس ويزيل ضوءها حسن أن يقال النهار يجليها على ضد ما ذكر في الليل والثاني أن الضمير في يغشاها للشمس بلا خلاف فكذا في جلاها يجب أن يكون للشمس حتى يكون الضمير في الفواصل من أول السورة إلى ههنا للشمس قال القفال وهذه الأقسام الأربعة ليست إلا بالشمس في الحقيقة لكن بحسب أوصاف أربعة أولها الضوء الحاصل منها عند ارتفاع النهار وذلك هو الوقت الذي يكمل فيه انتشار الحيوان واضطراب الناس للمعاش ومنها تلو القمر لها وأخذه الضوء عنها ومنها تكامل طلوعها وبروزها بمجيء النهار ومنها وجود خلاف ذلك بمجيء الليل ومن تأمل قليلاً في عظمة الشمس ثم شاهد بعين عقله فيها أثر المصنوعية والمخلوقية من المقدار المتناهي والتركب من الأجزاء انتقل منه إلى عظمة خالقها فسبحانه ما أعظم شأنه
وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا
فيه سؤالات
السؤال الأول أن الذي ذكره صاحب ( الكشاف ) من أن مَا ههنا لو كانت مصدرية لكان عطف فَأَلْهَمَهَا عليه يوجب فساد النظم حق والذي ذكره القاضي من أنه لو كان هذا قسماً بخالق السماء لما كان يجوز تأخيره عن ذكر الشمس فهو إشكال جيد والذي يخطر ببالي في الجواب عنه أن أعظم المحسوسات هو الشمس فذكرها سبحانه مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمتها ثم ذكر ذاته المقدسة بعد ذلك ووصفها بصفات ثلاثة وهي تدبيره سبحانه للسماء والأرض وللمركبات ونبه على المركبات بذكر أشرفها وهي النفس والغرض من هذا الترتيب هو أن يتوافق العقل والحس على عظمة جرم الشمس ثم يحتج العقل الساذج بالشمس بل بجميع السماويات والأرضيات والمركبات على إثبات مبدىء لها فحينئذ يحظى العقل ههنا بإدراك جلال الله وعظمته على ما يليق به والحس لا ينازعه فيه فكان ذلك كالطريق إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى يفاع عالم الربوبية وبيداء كبرياء الصمدية فسبحان من عظمت حكمته وكملت كلمته
السؤال الثاني ما الفائدة في قوله وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا الجواب أنه سبحانه لما وصف الشمس بالصفات الأربعة الدالة على عظمتها أتبعه ببيان ما يدل على حدوثها وحدوث جميع الأجرام السماوية فنبه بهذه الآية على تلك الدلالة وذلك لأن الشمس والسماء متناهية وكل متناه فإنه مختص بمقدار معين مع

أنه كان يجوز في العقل وجود ما هو أعظم منه وما هو أصغر منه فاختصاص الشمس وسائر السماويات بالمقدار المعين لا بد وأن يكون لتقدير مقدر وتدبير مدبر وكما أن باني البيت يبنيه بحسب مشيئته فكذا مدبر الشمس وسائر السماويات قدرها بحسب مشيئته فقوله وَمَا بَنَاهَا كالتنبيه على هذه الدقيقة الدالة على حدوث الشمس وسائر السماويات
السؤال الثالث لم قال وَمَا بَنَاهَا ولم يقل ومن بناها الجواب من وجهين الأول أن المراد هو الإشارة إلى الوصفية كأنه قيل والسماء وذلك الشيء العظيم القادر الذي بناها ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها والثاني أن ما تستعمل في موضع من كقوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 22 ) والاعتماد على الأول
السؤال الرابع لم ذكر في تعريف ذات الله تعالى هذه الأشياء الثلاثة وهي السماء والأرض والنفس والجواب لأن الاستدلال على الغائب لا يمكن إلا بالشاهد والشاهد ليس إلا العالم الجسماني وهو قسمان بسيط ومركب والبسيط قسمان العلوية وإليه الإشارة بقوله وَالسَّمَاء والسفلية وإليه الإشارة بقوله والاْرْضِ ( الشمس 6 ) والمركب هو أقسام وأشرفها ذوات الأنفس وإليه الإشارة بقوله وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( الشمس 7 ) أما قوله تعالى
وَالاٌّرْضِ وَمَا طَحَاهَا
ففيه مسألتان
المسألة الأولى إنما أخر هذا عن قوله وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا لقوله وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ( النازعات 30 )
المسألة الثانية قال الليث الطحو كالدحوا وهو البسط وإبدال الطاء من الدال جائز والمعنى وسعها قال عطاء والكلبي بسطها على الماء
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا
أما قوله تعالى وَنَفْسٍ وَمَا إن حملنا النفس على الجسد فتسويتها تعديل أعضائها على ما يشهد به علم التشريح وإن حملناها على القوة المدبرة فتسويتها إعطاؤها القوى الكثيرة كالقوة السامعة والباصرة والمخيلة والمفكرة والمذكورة على ما يشهد به علم النفس فإن قيل لم نكرت النفس قلنا فيه وجهان أحدهما أن يريد به نفساً خاصة من بين النفوس وهي النفس القدسية النبوية وذلك لأن كل كثرة فلا بد فيها من واحد يكون هو الرئيس فالمركبات جنس تحته أنواع ورئيسها الحيوان والحيوان جنس تحته أنواع ورئيسها الإنسان والإنسان أنواع وأصناف ورائيسها النبي والأنبياء كانوا كثيرين فلا بد وأن يكون هناك واحد يكون هو الرئيس المطلق فقوله طَحَاهَا وَنَفْسٍ إشارة إلى تلك النفس التي هي رئيسة لعالم المركبات رياسة بالذات الثاني أن يريد كل نفس ويكون المراد من التنكير التكثير على الوجه المذكور في قوله عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ وذلك لأن الحيوان أنواع لا يحصى عددها إلا الله على ما قال بعد ذكر بعض الحيوانات وَيَخْلُقُ مَالاً تَعْلَمُونَ ولكل نوع نفس مخصوصة متميزة

عن سائرها بالفضل المقوم لماهيته والخواص اللازمة لذلك الفصل فمن الذي يحيط عقله بالقليل من خواص نفس البق والبعوض فضلاً عن التوغل في بحار أسرار الله سبحانه أما قوله تعالى
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا
فالمعنى المحصل فيه وجهان الأول أن إلهام الفجور والتقوى إفهامها وإعقالهما وأن أحدهما حسن والآخر قبيح وتمكينه من اختيار ما شاء منهما وهو كقوله وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( البلد 10 ) وهذا تأويل مطابق لمذاهب المعتزلة قالوا ويدل عليه قوله بعد ذلك قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ( الشمس 10 9 ) وهذا الوجه مروى عن ابن عباس وعن جمع من أكابر المفسرين والوجه الثاني أنه تعالى ألهم المؤمن المتقي تقواه وألهم الكافر فجوره قال سعيد بن جبير ألزمها فجورها وتقواها وقال ابن زيد جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها بالفجور واختار الزجاج والواحدي ذلك قال الواحدي التعليم والتعريف والتبيين غير والإلهام غير فإن الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً وإذا أوقع في قلبه شيئاً فقد ألزمه إياه وأصل معنى الإلهام من قولهم لهم الشيء والتهمه إذا ابتلعه وألهمته ذلك الشيء أي أبلغته وهذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله تعالى في قلب العبد لأنه كالإبلاغ فالتفسير الموافق لهذا الأصل قول ابن زيد وهو صريح في أن الله تعالى خلق في المؤمن تقواه وفي الكافر فجوره وأما التمسك بقوله قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا فضعيف لأن المروي عن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي أن المعنى قد أفلحت وسعدت نفس زكاها الله تعالى وأصلحها وطهرها والمعنى وفقها للطاعة هذا آخر كلام الواحدي وهو تام وأقول قد ذكرنا أن الآيات الثلاثة ذكرت للدلالة على كونه سبحانه مدبراً للأجسام العلوية والسفلية البسيطة والمركبة فههنا لم يبق شيء مما في عالم المحسوسات إلا وقد ثبت بمقتضى ذلك التنبيه أنه واقع بتخليقه وتدبيره بقي شيء واحد يختلج في القلب أنه هل هو بقضائه وقدره وهو الأفعال الحيوانية الاختيارية فنبه سبحانه بقوله فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا على أن ذلك أيضاً منه وبه وبقضائه وقدره وحينئذ ثبت أن كل ما سوى الله فهو واقع بقضائه وقدره وداخل تحت إيجاده وتصرفه ثم الذي يدل عقلاً على أن المراد من قوله فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا هو الخذلان والتوفيق ما ذكرنا مراراً أن الأفعال الاختيارية موقوفة على حصول الاختيارات فحصولها إن كان لا عن فاعل فقد استغنى المحدث عن الفاعل وفيه نفي الصانع وإن كان عن فاعل هو العبد لزم التسلسل وإن كان عن الله فهو المقصود وأيضاً فليجرب العاقل نفسه فإنه ربما كان الإنسان غافلاً عن شيء فتقع صورته في قلبه دفعة ويترتب على وقوع تلك الصورة في القلب ميل إليه ويترتب على ذلك الميل حركة الأعضاء وصدور الفعل وذلك يفيد القطع بأن المراد من قوله فَأَلْهَمَهَا ما ذكرناه لا ما ذكره المعتزلة
قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا
أما قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا فاعلم أن التزكية عبارة عن التطهير أو عن الإنماء وفي الآية قولان أحدهما أنه قد أدرك مطلوبه من زكى نفسه بأن طهرها من الذنوب بفعل الطاعة ومجانبة المعصية

والثاني قد أفلح من زكاها الله وقبل القاضي هذا التأويل وقال المراد منه أن الله حكم بتزكيتها وسماها بذلك كما يقال في العرف إن فلاناً يزكي فلاناً ثم قال والأول أقرب لأن ذكر النفس قد تقدم ظاهراً فرد الضمير عليه أولى من رده على ما هو في حكم المذكور لا أنه مذكور
واعلم أنا قد دللنا بالبرهان القاطع أن المراد بألهمها ما ذكرناه فوجب حمل اللفظ عليه وأما قوله بأن هذا محمول على الحكم والتسمية فهو ضعيف لأن بناء التفعيلات على التكوين ثم إن سلمنا ذلك لكن ما حكم الله به يمتنع تغيره لأن تغير المحكوم به يستلزم تغير الحكم من الصدق إلى الكذب وتغير العلم إلى الجهل وذلك محال والمفضي إلى المحال محال أما قوله ذكر النفس قد تقدم قلنا هذا بالعكس أولى فإن أهل اللغة اتفقوا على أن عود الضمير إلى الأقرب أولى من عوده إلى الأبعد وقوله فَأَلْهَمَهَا أقرب إلى قوله مَا منه إلى قوله وَنَفْسٍ فكان الترجيح لما ذكرناه ومما يؤكد هذا التأويل ما رواه الواحدي في البسيط عن سعيد بن أبي هلال أنه عليه السلام كان إذا قرأ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وقف وقال ( اللهم آت نفسي تقواها أنت وليها وأنت مولاها وزكها أنت خير من زكاها ) أما قوله تعالى
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا
فقالوا دَسَّاهَا أصله دسسها من التدسيس وهو إخفاء الشيء في الشيء فأبدلت إحدى السينات ياء فأصل دسى دسس كما أن أصل تقضى البازي تقضض البازي وكما قالوا الببت والأصل لببت وملبي والأصل ملبب ثم نقول أما المعتزلة فذكروا وجوهاً توافق قولهم أحدها أن أهل الصلاح يظهرون أنفسهم وأهل الفسق يخفون أنفسهم ويدسونها في المواضع الخفية كما أن أجواد العرب ينزلون الربا حتى تشتهر أماكنهم ويقصدهم المحتاجون ويوقدون النيران بالليل للطارقين وأما اللئام فإنهم يخفون أماكنهم عن الطالبين وثانيها خَابَ مَن دَسَّاهَا أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم وثالثها مَن دَسَّاهَا في المعاصي حتى انغمس فيها ورابعها مَن دَسَّاهَا من دس في نفسه الفجور وذلك بسبب مواظبته عليها ومجالسته مع أهلها وخامسها أن من أعرض عن الطاعات واشتغل بالمعاصي صار خاملاً متروكاً منسياً فصار كالشيء المدسوس في الاختفاء والخمول وأما أصحابنا فقالوا المعنى خابت وخسرت نفس أضلها الله تعالى وأغواها وأفجرها وأبطلها وأهلكها هذه ألفاظهم في تفسير دَسَّاهَا قال الواحدي رحمه الله فكأنه سبحانه أقسم بأشرف مخلوقاته على فلاح من طهره وخسار من خذله حتى لا يظن أحد أنه هو الذي يتولى تطهير نفسه أو إهلاكها بالمعصية من غير قدر متقدم وقضاء سابق أما قوله تعالى
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ
أما قوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا قال الفراء الطغيان والطغوى مصدران إلا أن الطغوى أشبه برؤوس الآيات فاختير لذلك وهو كالدعوى من الدعاء وفي التفسير وجهان أحدهما أنها فعلت التكذيب بطغيانها كما تقول ظلمني بجراءته على الله تعالى والمعنى أن طغيانهم حملهم على التكذيب به هذا هو القول المشهور والثاني أن الطغوى اسم لعذابهم الذي أهلكوا به والمعنى كذبت بعذابها أي لم يصدقوا رسولهم فيما أنذرهم به من العذاب وهذا لا يبعد لأن معنى الطغيان في اللغة مجاوزة القدر المعتاد فيجوز

أن يسمى العذاب الذي جاءهم طغوى لأنه كان صيحة مجاوزة للقدر المعتاد أو يكون التقدير كذبت بما أوعدت به من العذاب ذي الطغوى ويدل على هذا التأويل قوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَة ِ ( الحاقة 4 ) أي بالعذاب الذي حل بها ثم قال فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَة ِ ( الحاقة 5 ) فسمى ما أهلكوا به من العذاب طاغية
إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا
انبعث مطاوع بعث يقال بعثت فلاناً على الأمر فانبعث له والمعنى أنه كذبت ثمود بسبب طغيانهم حين انبعث أشقاها وهو عاقر الناقة وفيه قولان أحدهما أنه شخص معين واسمه قدار بن سالف ويضرب به المثل يقال أشأم من قدار وهو أشقى الأولين بفتوى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني يجوز أن يكونوا جماعة وإنما جاء على لفظ الوحدان لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث تقول هذان أفضل الناس وهؤلاء أفضلهم وهذا يتأكد بقوله فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ( الشمس 14 ) وكان يجوز أن يقال أشقوها كما يقال أفاضلهم أما قوله تعالى
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَة َ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا
ففيه مسائل
المسألة الأولى المراد من الرسول صالح عليه السلام نَاقَة ُ اللَّهِ أي أنه أشار إليه لما هموا بعقرها وبلغه ما عزموا عليه وقال لهم هي نَاقَة ُ اللَّهِ وآيته الدالة على توحيده وعلى نبوتي فاحذروا أن تقوموا عليها بسوء واحذروا أيضاً أن تمنعوها من سقياها وقد بينا في مواضع من هذا الكتاب أنه كان لها شرب يوم ولهم ولمواشيهم شرب يوم وكانوا يستضرون بذلك في أمر مواشيهم فهموا بعقرها وكان صالح عليه السلام يحذرهم حالاً بعد حال من عذاب ينزل بهم إن أقدموا على ذلك وكانت هذه الحالة متصورة في نفوسهم فاقتصر على أن قال لهم نَاقَة َ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا لأن هذه الإشارة كافية مع الأمور المتقدمة التي ذكرناها
المسألة الثانية نَاقَة ُ اللَّهِ نصب على التحذير كقولك الأسد الأسد والصبي الصبي بإضمار ذروا عقرها واحذروا سقياها فلا تمنعوها عنها ولا تستأثروا بها عليها
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا
ثم بين تعالى أن القوم لم يمتنعوا عن تكذيب صالح وعن عقر الناقة بسبب العذاب الذي أنذرهم الله تعالى به وهو المراد بقوله فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ثم يجوز أن يكون المباشر للعقر واحداً وهو قدار فيضاف الفعل إليه بالمباشرة كما قال فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ويضاف الفعل إلى الجماعة لرضاهم بما فعل ذلك الواحد قال قتادة ذكر لنا أنه أبى أن يعقرها حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم وهو قول أكثر المفسرين وقال الفراء قيل إنهما كانا إثنين
أما قوله تعالى فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا فاعلم أن في الدمدمة وجوهاً أحدها قال الزجاج معنى دمدم أطبق عليهم العذاب يقال دمدمت على الشيء إذا أطبقت عليه ويقال ناقة مدمومة

أي قد ألبسها الشحم فإذا كررت الإطباق قلت دمدمت عليه قال الواحدي الدم في اللغة اللطخ ويقال للشيء السمين كأنما دم بالشحم دماً فجعل الزجاج دمدم من هذا الحرف على التضعيف نحو كبكبوا وبابه فعلى هذا معنى دمدم عليهم أطبق عليهم العذاب وعمهم كالشيء الذي يلطخ به من جميع الجوانب الوجه الثاني تقول للشيء يدفن دمدمت عليه أي سويت عليه فيجوز أن يكون معنى فدمدم عليهم فسوى عليهم الأرض بأن أهلكهم فجعلهم تحت التراب الوجه الثالث قال ابن الأنباري دمدم غضب والدمدمة الكلام الذي يزعج الرجل ورابعها دمدم عليهم أرجف الأرض بهم رواه ثعلب عن ابن الأعرابي وهو قول الفراء أما قوله فَسَوَّاهَا يحتمل وجهين وذلك لأنا إن فسرنا الدمدمة بالإطباق والعموم كان معنى فَسَوَّى الدمدمة عليهم وعمهم بها وذلك أن هلاكهم كان بصيحة جبريل عليه السلام وتلك الصيحة أهلكتهم جميعاً فاستوت على صغيرهم وكبيرهم وإن فسرناها بالتسوية كان المراد فسوى عليهم الأرض
وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا
أما قوله تعالى وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا ففيه وجوه أولها أنه كناية عن الرب تعالى إذ هو أقرب المذكورات ثم اختلفوا فقال بعضهم لا يخاف تبعة في العاقبة إذ العقبى والعافية سواء كأنه بين أنه تعالى يفعل ذلك بحق وكل ما فعل ما يكون حكمة وحقاً فإنه لا يخاف عاقبة فعله وقال بعضهم ذكر ذلك لا على وجه التحقيق لكن على وجه التحقير لهذا الفعل أي هو أهون من أن تخشى فيه عاقبة والله تعالى يجل أن يوصف بذلك ومنهم من قال المراد منه التنبيه على أنه بالغ في التعذيب فإن كل ملك يخشى عاقبة فإنه يتقي بعض الاتقاء والله تعالى لما لم يخف شيئاً من العواقب لا جرم ما اتقى شيئاً وثانيها أنه كناية عن صالح الذي هو الرسول أي ولا يخاف صالح عقبى هذا العذاب الذي ينزل بهم وذلك كالوعد لنصرته ودفع المكاره عنه لو حاول محاول أن يؤذيه لأجل ذلك وثالثها المراد أن ذلك الأشقى الذي هو أحيمر ثمود فيما أقدم من عقر الناقة وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا وهذه الآية وإن كانت متأخرة لكنها على هذا التفسير في حكم المتقدم كأنه قال ( إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الاْرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الاْرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ءامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ والله أعلم روي أن صالحاً لما وعدهم العذاب بعد ثلاث قال التسعة الذين عقروا الناقة هلموا فلنقتل صالحاً فإن كان صادقاً فأعجلناه قبلنا وإن كان كاذباً ألحقناه بناقته فأتوه ليبيتوه فدمغتهم الملائكة بالحجار فلما أبطأوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا به فقامت عشيرته دونه لبسوا السلاح وقالوا لهم والله لا تقتلونه قد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث فإن كان صادقاً زدتم ربكم عليكم غضباً وإن كان كاذباً فأنتم من وراء ما تريدون فانصرفوا عنه تلك الليلة فأصبحوا وجوههم مصفرة فأيقنوا بالعذاب فطلبوا صالحاً ليقتلوه فهرب صالح والتجأ إلى سيد بعض بطون ثمود وكان مشركاً فغيبه عنهم فلم يقدروا عليه ثم شغلهم عنه ما نزل بهم من العذاب فهذا هو قوله وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة الليل
إحدى وعشرون آية مكية
( سورة الليل ) قال القفال رحمه الله نزلت هذه السورة في أبي بكر وإنفاقه على المسلمين وفي أمية بن خلف وبخله وكفره بالله إلا أنها وإن كانت كذلك لكن معانيها عامة للناس ألا ترى أن الله تعالى قال إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ( الليل 4 ) وقال فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى ( الليل 14 ) ويروى عن علي عليه السلام أنه قال ( خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جنازة فقعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقعدنا حوله فقال ما منكم نفس منفوسة إلا وقد علم الله مكانها من الجنة والنار فقلنا يا رسول الله أفلا نتكل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى ( الليل 7 5 ) فبان بهذا الحديث عموم هذه السورة
وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى
اعلم أنه تعالى أقسم بالليل الذي يأوي فيه كل حيوان إلى مأواه ويسكن الخلق عن الاضطراب ويغشاهم النوم الذي جعله الله راحة لأبدانهم وغذاء لأرواحهم ثم أقسم بالنهار إذا تجلى لأن النهار إذا جاء انكشف بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة وجاء الوقت الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم وتتحرك الطير من أوكارها والهوام من مكامنها فلو كان الدهر كله ليلاً لتعذر المعاش ولو كان كله نهاراً لبطلت الراحة لكن المصلحة كانت في تعاقبهما على ما قال سبحانه وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً ( الفرقان 62 ) وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ( إبراهيم 33 ) أما قوله وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فاعلم أنه تعالى لميذكر مفعول يغشى فهو إما الشمس من قوله وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ( الشمس 4 ) وإما النهار من قوم وَهُوَ الَّذِى وَالنَّهَارَ ( الرعد 3 ) وإما كل شيء يواريه بظلامه من قوله إِذْ وَقَبَ ) الفلق 3 ) وقوله وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى أي ظهر بزوال ظلمة الليل أو ظهر وانكشف بطلوع الشمس
وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاٍّ نثَى
وفيه مسائل

المسألة الأولى في تفسيره وجوه أحدها أي والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى من ماء واحد وقيل هما آدم وحواء وثانيها أي وخلقه الذكر والأنثى وثالثها ما بمعنى من أي ومن خلق الذكر والأنثى أي والذي خلق الذكر والأنثى
المسألة الثانية قرأ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وَالذّكْرِ وَالاْنثَى وقرأ ابن مسعود ( والذي خلق الذكر والأنثى ) وعن الكسائي وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاْنثَى بالجر ووجهه أن يكون معنى وَمَا خَلَقَ أي وما خلقه الله تعالى أي مخلوق الله ثم يجعل الذكر والأنثى بدلاً منه أي ومخلوق الله الذكر والأنثى وجاز إضهار اسم الله لأنه معلوم أنه لا خالق إلا هو
المسألة الثالثة القسم بالذكر والأنثى يتناول القسم بجميع ذوي الأرواح الذين هم أشرف المخلوقات لأن كل حيوان فهو إما ذكر أو أنثى والخنثى فهو في نفسه لا بد وأن يكون إما ذكراً أو أنثى بدليل أنه لو حلف بالطلاق أنه لم يلق في هذا اليوم لا ذكراً ولا أنثى وكان قد لقى خنثى فإنه يخنث في يمينه
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى
هذا الجواب القسم فأقسم تعالى بهذه الأشياء أن أعمال عباده لشتى أي مختلفة في الجزاء وشتى جمع شتيت مثل مرضى ومريض وإنما قيل للمختلف شتى لتباعد ما بين بعضه وبعضه والشتات هو التباعد والافتراق فكأنه قيل إن عملكم لمتباعد بعضه من بعض لأن بعضه ضلال وبعضه هدى وبعضه يوجب الجنان وبعضه يوجب النيران فشتان ما بينهما ويقرب من هذه الآية قوله لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّة ِ ( الحشر 20 ) وقوله أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ ( السجدة 18 ) وقوله سَاء مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ( الجاثية 21 ) وقال وَلاَ الظّلُّ ( فاطر 21 ) قال المفسرون نزلت هذه الآية في أبي بكر وأبي سفيان
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى
ثم إنه سبحانه بين معنى اختلاف الأعمال فيما قلناه من العاقبة المحمودة والمذمومة والثواب والعقاب فقال لَشَتَّى فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى
وفي قوله أعطى وجهان أحدهما أن يكون المراد إنفاق المال في جميع وجوه الخير من عتق الرقاب وفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوهم كما كان يفعله أبو بكر سواء كان ذلك واجباً أو نفلاً وإطلاق هذا كالإطلاق في قوله وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( الأنفال 3 ) فإن المراد منه كل ذلك إنفاقاً في سبيل الله سواء كان واجباً أو نفلاً وقد مدح الله قوماً فقال وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ( الإنسان 8 ) وقال في آخر هذه السورة وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَة ٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى

( الليل 20 17 ) وثانيهما أن قوله أَعْطَى يتناول إعطاء حقوق المال وإعطاء حقوق النفس في طاعة الله تعالى يقال فلان أعطى الطاعة وأعطى السعة وقوله وَاتَّقَى فهو إشارة إلى الاحتراز عن كل مالا ينبغي وقد ذكرنا أنه هل من شرط كونه متقياً أن يكون محترزاً عن الصغائر أم لا في تفسير قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) وقوله وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فالحسنى فيها وجوه أحدها أنها قول لا إله إلا الله والمعنى فأما من أعطى واتقى وصدق بالتوحيد والنبوة حصلت له الحسنى وذلك لأنه لا ينفع مع الكفر إعطاء مال ولا اتقاء محارم وهو كقوله أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ إلى قوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 17 14 ) وثانيها أن الحسنى عبارة عما فرضه الله تعالى من العبادات على الأبدان وفي الأموال كأنه قيل أعطى في سبيل الله واتقى المحارم وصدق بالشرائع فعلم أنه تعالى لم يشرعها إلا لما فيها من وجوه الصلاح والحسن وثالثها أن الحسنى هو الخلف الذي وعده الله في قوله وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَى ْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ ( سبأ 39 ) والمعنى أعطى من ماله في طاعة الله مصدقاً بما وعده الله من الخلف الحسن وذلك أنه قال مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( البقرة 261 ) فكان الخلف لما كان زائداً صح إطلاق لفظ الحسنى عليه وعلى هذا المعنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى أي لم يصدق بالخلف فبخل بماله لسوء ظنه بالمعبود كما قال بعضهم منع الموجود سوء ظن بالمعبود وروي عن أبي الدرداء أنه قال ( ما من يوم غربت فيه الشمس إلا وملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين اللهم أعط كل منفق خلفاً وكل ممسك تلفاً ) ورابعها أن الحسنى هو الثواب وقيل إنه الجنة والمعنى واحد قال قتادة صدق بموعود الله فعمل لذلك الموعود قال القفال وبالجملة أن الحسنى لفظة تسع كل خصلة حسنة قال الله تعالى قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ( التوبة 52 ) يعني النصر أو الشهادة وقال تعالى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَة ً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ( الشورى 23 ) فسمى مضاعفة الأجر حسنى وقال إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ( فصلت 50 )
وأما قوله فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى ففيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير هذه اللفظة وجوه أحدها أنها الجنة وثانيها أنها الخير وقالوا في العسرى أنها الشرك وثالثها المراد منه أن يسهل عليه كل ما كلف به من الأفعال والتروك والمراد من العسرى تعسير كل ذلك عليه ورابعها اليسرى هي العود إلى الطاعة التي أتى بها أولاً فكأنه قال فسنيسره لأن يعود إلى الإعطاء في سبيل الله وقالوا في العسرى ضد ذلك أي نيسره لأن يعود إلى البخل والامتناع من أداء الحقوق المالية قال القفال ولكل هذه الوجوه مجاز من اللغة وذلك لأن الأعمال بالعواقب فكل ما أدت عاقبته إلى يسر وراحة وأمور محمودة فإن ذلك من اليسرى وذلك وصف كل الطاعات وكل ما أدت عاقبته إلى عسر وتعب فهو من العسرى وذلك وصف كل المعاصي
المسألة الثانية التأنيث في لفظ اليسرى ولفظ العسرى فيه وجوه أحدها أن المراد من اليسرى والعسرى إن كان جماعة الأعمال فوجه التأنيث ظاهر وإن كان المراد عملاً واحداً رجع التأنيث إلى الخلة أو الفعلة وعلى هذا من جعل يسرى هو تيسير العود ( ة ) إلى ما فعله الإنسان من الطاعة رجع التأنيث إلى العود ( ة ) وكأنه قال فسنيسره للعود ( ة ) التي هي كذا وثانيها أن يكون مرجع التأنيث إلى الطريقة فكأنه قال

للطريقة اليسرى والعسرى وثالثها أن العبادات أمور شاقة على البدن فإذا علم المكلف أنها تفضي إلى الجنة سهلت تلك الأفعال الشاقة عليه بسبب توقعه للجنة فسمى الله تعالى الجنة يسرى ثم علل حصول اليسرى في أداء الطاعات بهذه اليسرى وقوله فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى بالضد من ذلك
المسألة الثالثة في معنى التيسير لليسرى والعسرى وجوه وذلك لأن من فسر اليسرى بالجنة فسر التيسير لليسرى بإدخال الله تعالى إياهم في الجنة بسهولة وإكرام على ما أخبر الله تعالى عنه بقوله وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 24 23 ) وقوله طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( الزمر 73 ) وقوله سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 24 ) وأما من فسر اليسرى بأعمال الخير فالتيسير لها هو تسهيلها على من أراد حتى لا يعتريه من التثاقل ما يعتري المرائين والمنافقين من الكسل قال الله تعالى وَإِنَّهَا لَكَبِيرَة ٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ( البقرة 45 ) وقال إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النسار 142 ) وقال مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ ( التوبة 38 ) فكان التيسير هو التنشيط
المسألة الرابعة استدل الأصحاب بهذه الآية على صحة قولهم في التوفيق والخذلان فقالوا إن قوله تعالى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى يدل على أنه تعالى خص المؤمن بهذا التوفيق وهو أنه جعل الطاعة بالنسبة إليه أرجح من المعصية وقوله فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى يدل على أنه خص الكافر بهذا الخذلان وهو أنه جعل المعصية بالنسبة إليه أرجح من الطاعة وإذا دلت الآية على حصول الرجحان لزم القوم بالوجوب لأنه لا واسطة بين الفعل والترك ومعلوم أن حال الاستواء يمتنع الرجحان فحال المرجوحية أولى بالامتناع وإذا امتنع أحد الطرفين وجب حصول الطرف الآخر ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض أجاب القفال رحمه الله عن وجه التمسك بالآية من وجوه أحدها أن تسمية أحد الضدين باسم الآخر مجاز مشهور قال تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) وقال فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الإنشقاق 24 ) فلما سمى الله فعل الألطاف الداعية إلى الطاعات تيسيراً لليسرى سمى ترك هذه الألطاف تيسيراً للعسرى وثانيها أن يكون ذلك على جهة إضافة الفعل إلى المسبب له دون الفاعل كما قيل في الأصنام رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) وثالثها أن يكون ذلك على سبيل الحكم به والإخبار عنه والجواب عن الكل أنه عدول عن الظاهر وذلك غير جائز لاسيما أنا بينا أن الظاهر من جانبنا متأكد بالدليل العقلي القاطع ثم إن أصحابنا أكدوا ظاهر هذه الآية بما روى عن علي عليه السلام عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما من نفس منفوسة إلا وقد علم الله مكانها من الجنة والنار قلنا أفلا نتكل قال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) أجاب القفال عنه بأن الناس كلهم خلقوا ليعبدوا الله كما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) واعلم أن هذا ضعيف لأنه عليه السلام إنما ذكر هذا جواباً عن سؤالهم يعني اعملوا فكل ميسر لما وافق معلوم الله وهذا يدل على قولنا أن ما قدره الله على العبد وعلمه منه فإنه ممتنع التغيير والله أعلم
المسألة الخامسة في دخول السين في قوله فَسَنُيَسّرُهُ وجوه أحدها أنه على سبيل الترفيق والتلطيف وهو من الله تعالى قطع ويقين كما في قوله اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

( البقرة 21 ) وثانيها أن يحمل ذلك على أن المطيع قد يصير عاصياً والعاصي قد يصير بالتوبة مطيعاً فهذا السبب كان التغيير فيه محالاً وثالثها أن الثواب لما كان أكثره واقعاً في الآخرة وكان ذلك مما لم يأت وقته ولا يقف أحد على وقته إلا الله لا جرم دخله تراخ فأدخلت السين لأنها حرف التراخي ليدل بذلك على أن الوعد آجل غير حاضر والله أعلم أما قوله تعالى
وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى
فاعلم أن ما هنا يحتمل أن يكون استفهاماً بمعنى الإنكار ويحتمل أن يكون نفياً وأما تَرَدَّى ففيه وجهان الأول أن يكون ذلك مأخوذاً من قولك تردى من الجبل قال الله تعالى وَالْمُتَرَدّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ ( المائدة 3 ) فيكون المعنى تردى في الحفرة إذا قبر أو تردى في قعر جهنم وتقدير الآية إنا إذا يسرناه للعسرى وهي النار تردى في جهنم فماذا يغني عنه ماله الذي بخل به وتركه لوارثه ولم يصحبه منه إلى آخرته التي هي موضع فقره وحاجته شيء كما قال وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ( الأنعام 94 ) وقال وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ( مريم 80 ) أخبر أن الذي ينتفع الإنسان به هو ما يقدمه الإنسان من أعمال البر وإعطاء الأموال في حقوقها دون المال الذي يخلفه على ورثته الثاني أن تردى تفعل من الردى وهو الهلاك يريد الموت أما قوله تعالى
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى
فاعلم أنه تعالى لما عرفهم أن سعيهم شتى في العواقب وبين ما للمحسن من اليسرى وللمسيء من العسرى أخبرهم أنه قد قضى ما عليه من البيان والدلالة والترغيب والترهيب والإرشاد والهداية فقال إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى أي إن الذي يجب علينا في الحكمة إذا خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم وجوه التعبد وشرح ما يكون المتعبد به مطيعاً مما يكون به عاصياً إذ كنا إنما خلقناهم لننفعهم ونرحمهم ونعرضهم للنعيم المقيم فقد فعلنا ما كان فعله واجباً علينا في الحكمة والمعتزل احتجوا بهذه الآية على صحة مذهبهم في مسائل إحداها أنه تعالى أباح الأعذار وما كلف المكلف إلا ما في وسعه وطاقته فثبت أنه تعالى لا يكلف بما لا يطاق وثانيها أن كلمة على للوجوب فتدل على أنه قد يجب للعبد على الله شيء وثالثها أنه لو لم يكن العبد مستقلاً بالإيجاد لما كان في وضع الدلائل فائدة وأجوبة أصحابنا عن مثل هذه الوجوه مشهورة وذكر الواحدي وجهاً آخر نقله عن الفراء فقال المعنى إن علينا للهدى والإضلال فترك الإضلال كما قال سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( النحل 81 ) وهي تقي الحر والبرد وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء قال يريد أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي فذكر معنى الإضلال قالت المعتزلة هذا التأويل ساقط لقوله تعالى وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ( النحل 9 ) فبين أن قصد السبيل على الله وأما جور السبيل فبين أنه ليس على الله ولا منه واعلم أن الاستقصاء قد سبق في تلك الآية

أما قوله تعالى
وَإِنَّ لَنَا لَلاٌّ خِرَة َ وَالاٍّ ولَى
ففيه وجهان الأول أن لنا كل ما في الدنيا والآخرة فليس يضرنا ترككم الاهتداء بهدانا ولا يزيد في ملكنا اهتداؤكم بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم ولو شئنا لمنعناكم من المعاصي قهراً إذ لنا الدنيا والآخرة ولكننا لا نمنعكم من هذا الوجه لأن هذا الوجه يخل بالتكليف بل نمنعكم بالبيان والتعريف والوعد والوعيد الثاني أن لنا ملك الدارين نعطي ما نشاء من نشاء فيطلب سعادة الدارين منا والأول أوفق لقول المعتزلة والثاني أوفق لقولنا أما قوله تعالى
فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لاَ يَصْلَاهَآ إِلاَّ الاٌّ شْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى
تلظى أي تتوقد وتتلهب وتتوهج يقال تلظت النار تلظياً ومنه سميت جهنم لظى ثم بين أنها لمن هي بقوله لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الاْشْقَى قال ابن عباس نزلت في أمية بن خلف وأمثاله الذين كذبوا محمداً والأنبياء قبله وقيل إن الأشقى بمعنى الشقي كما يقال لست فيها بأوحد أي بواحد فالمعنى لا يدخلها إلا الكافر الذي هو شقي لأنه كذب بآيات الله وتولى أي أعرض عن طاعة الله واعلم أن المرجئة يتمسكون بهذه الآية في أنه لا وعيد إلا على الكفار قال القاضي ولا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ويدل على ذلك ثلاثة أوجه أحدها أنه يقتضي أن لا يدخل النار إِلاَّ الاْشْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى فوجب في الكافر الذي لم يكذب ولم يتول أن لا يدخل النار وثانيها أن هذا إغراء بالمعاصي لأنه بمنزلة أن يقول الله تعالى لمن صدق بالله ورسوله ولم يكذب ولم يتول أي معصية أقدمت عليها فلن تضرك وهذا يتجاوز حد الإغراء إلى أن تصير كالإباحة وتعالى الله عن ذلك وثالثها أن قوله تعالى من بعد وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى ( الليل 17 ) يدل على ترك هذا الظاهر لأنه معلوم من حال الفاسق أنه ليس بأتقى لأن ذلك مبالغة في التقوى ومن يرتكب عظائم الكبائر لا يوصف بأنه أتقى فإن كان الأول يدل على أن الفاسق لا يدخل النار فهذا الثاني يدل على أن الفاسق لا يجنب النار وكل مكلف لا يجنب النار فلا بد وأن يكون من أهلها ولما ثبت أنه لا بد من التأويل فنقول فيه وجهان الأول أن يكون المراد بقوله نَاراً تَلَظَّى ناراً مخصوصة من النيران لأنها دركات لقوله تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( النساء 145 ) فالآية تدل على أن تلك النار المخصوصة لا يصلاها سوى هذا الأشقى ولا تدل على أن الفاسق وغير من هذا صفته من الكفار لا يدخل سائر النيران الثاني أن المراد بقوله نَاراً تَلَظَّى النيران أجمع ويكون المراد بقوله لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الاْشْقَى أي هذا الأشقى به أحق وثبوت هذه الزيادة في الاستحقاق غير حاصل إلا لهذا الأشقى واعلم أن وجوه القاضي ضعيفة
أما قوله أولاً يلزم في غير هذا الكافر أن لا يدخل النار فجوابه أن كل كافر لا بد وأن يكون مكذباً للنبي في دعواه ويكون متولياً عن النظر في دلالة صدق ذلك النبي فيصدق عليه أنه أشقى من سائر العصاة وأنه كَذَّبَ وَتَوَلَّى وإذا كان كل كافر داخلاً في الآية سقط ما قاله القاضي
وأما قوله ثانياً إن هذا إغراء بالمعصية فضعيف أيضاً لأنه يكفي في الزجر عن المعصية حصول الذم في العاجل وحصول غضب الله بمعنى أنه لا يكرمه ولا يعظمه ولا يعطيه الثواب ولعله يعذبه بطريق آخر فلم يدل دليل على انحصار طريق التعذيب في إدخال النار

وأما قوله ثالثاً وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى فهذا لا يدل على حال غير الأتقى إلا على سبيل المفهوم والتمسك بدليل الخطاب وهو ينكر ذلك فكيف تمسك به والذي يؤكد هذا أن هذا يقتضي فيمن ليس بأتقى دخول النار فيلزم في الصبيان والمجانين أن يدخلوا النار وذلك باطل
وأما قوله رابعاً المراد منه نار مخصوصة وهي النار التي تتلظى فضعيف أيضاً لأن قوله نَاراً تَلَظَّى يحتمل أن يكون ذلك صفة لكل النيران وأن يكون صفة لنار مخصوصة لكنه تعالى وصف كل نار جهنم بهذا الوصف في آية أخرى فقال كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَة ً لّلشَّوَى
وأما قوله المراد إن هذا الأشقى أحق به فضعيف لأنه ترك للظاهر من غير دليل فثبت ضعف الوجوه التي ذكرها القاضي فإن قيل فما الجواب عنه على قولكم فإنكم لا تقطعون بعدم وعيد الفساق الجواب من وجهين الأول ما ذكره الواحدي وهو أن معنى لاَ يَصْلَاهَا لا يلزمها في حقيقة اللغة يقال صلى الكافر النار إذا لزمها مقاسياً شدتها وحرها وعندنا أن هذه الملازمة لا تثبت إلا للكافر أما الفاسق فإما أن لا يدخلها أو إن دخلها تخلص منها الثاني أن يخص عموم هذا الظاهر بالآيات الدالة على وعيد الفساق والله أعلم قوله تعالى
وَسَيُجَنَّبُهَا الاٌّ تْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاًّحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَة ٍ تُجْزَى
معنى سيجنبها أي سيبعدها ويجعل منها على جانب يقال جنبته الشيء أي بعدته وجنبته عنه وفيه مسألتان
المسألة الأولى أجمع المفسرون منا على أن المراد منه أبو بكر رضي الله تعالى عنه واعلم أن الشيعة بأسرهم ينكرون هذه الرواية ويقولون إنها نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السلام والدليل عليه قوله تعالى وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( المائدة 55 ) فقوله الاْتْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى إشارة إلى ما في الآية من قوله يُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ ولما ذكر ذلك بعضهم في محضري قلت أقيم الدلالة العقلية على أن المراد من هذه الآية أبو بكر وتقريرها أن المراد من هذا الأتقى هو أفضل الخلق فإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد هو أبو بكر فهاتان المقدمتان متى صحتا صح المقصود إنما قلنا إن المراد من هذا الأتقى أفضل الخلق لقوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات 13 ) والأكرم هو الأفضل فدل على أن كل من كان أتقى وجب أن يكون أفضل فإن قيل الآية دلت على أن كل من كان أكرم كان أتقى وذلك لا يقتضي أن كل من كان أتقى كان أكرم قلنا وصف كون الإنسان أتقى معلوم مشاهد ووصف كونه أفضل غير معلوم ولا مشاهد والإخبار عن المعلوم بغير المعلوم هو الطريق الحسن أما عكسه فغير مفيد فتقدير الآية كأنه وقعت الشبهة في أن الأكرم عند الله من هو فقيل هو الأتقى وإذا كان كذلك كان التقدير أتقاكم أكرمكم عند الله فثبت أن الأتقى المذكور ههنا لا بد وأن يكون أفضل الخلق عند الله فنقول لا بد وأن يكون المراد به أبا بكر لأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله إما أبو بكر أو علي ولا يمكن حمل هذه الآية على علي بن أبي طالب فتعين حملها على أبي بكر وإنما قلنا إنه لا يمكن حملها على علي بن أبي طالب لأنه قال في صفة هذا الأتقى وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَة ٍ تُجْزَى

وهذا الوصف لا يصدق على علي بن أبي طالب لأنه كان في تربية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أخذه من أبيه وكان يطعمه ويسقيه ويكسوه ويربيه وكان الرسول منعماً عليه نعمة يجب جزاؤها أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه الصلاة والسلام عليه دنيوية بل أبو بكر كان ينفق على الرسول عليه السلام بل كان للرسول عليه السلام عليه نعمة الهداية والإرشاد إلى الدين إلا أن هذا لا يجزى لقوله تعالى مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ( الفرقان 57 ) والمذكور ههنا ليس مطلق النعمة بل نعمة تجزى فعلمنا أن هذه الآية لا تصلح لعلي بن أبي طالب وإذا ثبت أن المراد بهذه الآية من كان أفضل الخلق وثبت أن ذلك الأفضل من الأمة إما أبو بكر أو علي وثبت أن الآية غير صالحة لعلي تعين حملها على أبي بكر رضي الله عنه وثبت دلالة الآية أيضاً على أن أبا بكر أفضل الأمة وأما الرواية فهي أنه كان بلال ( عبداً ) لعبد الله بن جدعان فسلح على الأصنام فشكا إليه المشركون فعله فوهبه لهم ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء وهو يقول أحد أحد فمر به رسول الله وقال ينجيك أحد أحد ثم أخبر رسول الله أبا بكر أن بلالاً يعذب في الله فحمل أبو بكر رطلاً من ذهب فابتاعه به فقال المشركون ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده فنزل وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَة ٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى ( الليل 20 ) وقال ابن الزبير وهو على المنبر كان أبو بكر يشتري الضعفة من العبيد فيعتقهم فقال له أبوه يا بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك فقال منع ظهري أريد فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) في محل يَتَزَكَّى وجهان إن جعلت بدلاً من يؤتي فلا محل له لأنه داخل في حكم الصلة والصلات لا محل لها وإن جعلته حالاً من الضمير في يُؤْتِى فمحله النصب
إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاٌّ عْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى
فيه مسائل
المسألة الأولى ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ مستثنى من غير جنسه وهو النعمة أي مَا لاِحَدٍ عِندَهُ ( الليل 19 ) نعمة إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ كقولك ما في الدار أحداً إلا حماراً وذكر الفراء فيه وجهاً آخر وهو أن يضمر الإنفاق على تقدير ما ينفق إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى كقوله وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ ( البقرة 272 )
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى بين أن هذا الاْتْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى ( الليل 18 17 ) لا يؤتيه مكافأة على هدية أو نعمة سالفة لأن ذلك يجري مجرى أداء الدين فلا يكون له دخل في استحقاق مزيد الثواب بل إنما يستحق الثواب إذا فعله لأجل أن الله أمره به وحثه عليه
المسألة الثالثة المجسمة تمسكوا بلفظة الوجه والملحدة تمسكوا بلفظة رَبّهِ الاْعْلَى وإن ذلك يقضي وجود رب آخر وقد تقدم الكلام على كل ذلك
المسألة الرابعة ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب الإمامة فقال الآية الواردة في حق علي عليه السلام إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً

( الإنسان 10 9 ) والآية الواردة في حق أبي بكر إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى فدلت الآيتان على أن كل واحد منهما إنما فعل ما فعل لوجه الله إلا أن آية علي تدل على أنه فعل ما فعل لوجه الله وللخوف من يوم القيامة على ما قال إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً وأما آية أبي بكر فإنها دلت على أنه فعل ما فعل لمحض وجه الله من غير أن يشوبه طمع فيما يرجع إلى رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب فكان مقام أبي بكر أعلى وأجل
المسألة الخامسة من الناس من قال ابتغاء الله بمعنى ابتغاء ذاته وهي محال فلا بد وأن يكون المراد ابتغاء ثوابه وكرامته ومن الناس من قال لا حاجة إلى هذا الإضمار وحقيقة هذه المسألة راجعة إلى أنه هل يمكن أن يحب العبد ذات الله أو المراد من هذه المحبة محبة ثوابه وكرامته وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في تفسير قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( البقرة 165 )
المسألة السادسة قرأ يحيى بن وثاب إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ بالرفع على لغة من يقول ما في الدار أحد إلا حماراً وأنشد في اللغتين قوله وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس
أما قوله وَلَسَوْفَ يَرْضَى فالمعنى أنه وعد أبا بكر أن يرضيه في الآخرة بثوابه وهو كقوله لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( الضحى 5 ) وفيه عندي وجه آخر وهو أن المراد أنه ما أنفق إلا لطلب رضوان الله ولسوف يرضى الله عنه وهذا عندي أعظم من الأول لأن رضا الله عن عبده أكمل للعبد من رضاه عن ربه وبالجملة فلا بد من حصول الأمرين على ما قال رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً ( الفجر 28 ) والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة الضحى
إحدى عشرة آية مكية
وأنا على عزم أن أضم إلى تفسير هذه السورة ما فيها من اللطائف التذكارية
وَالضُّحَى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى
لأهل التفسير في قوله وَالضُّحَى وجهان أحدهما أن المراد بالضحى وقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس وتلقي شعاعها وثانيها الضحى هو النهار كله بدليل أنه جعل في مقابلة الليل كله
وأما قوله وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى فذكر أهل اللغة في سَجَى ثلاثة أوجه متقاربة سكن وأظلم وغطى أما الأول فقال أبو عبيد والمبرد والزجاج سجى أي سكن يقال ليلة ساجية أي ساكنة الريح وعين ساجية أي فائزة الطرف وسجى البحر إذا سكنت أمواجه وقال في الدعاء
يا مالك البحر إذا البحر سجى
وأما الثاني وهو تفسير سجى بأظلم فقال الفراء سجى أي أظلم وركد في طوله
وأما الثالث وهو تفسير سجى بغطى فقال الأصمعي وابن الأعرابي سجى الليل تغطيته النهار مثل ما يسجى الرجل بالثوب واعلم أن أقوال المفسرين غير خارجة عن هذه الوجوه الثلاثة فقال ابن عباس غطى الدنيا بالظلمة وقال الحسن ألبس الناس ظلامه وقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير إذا أقبل الليل غطى كل شيء وقال مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد سكن بالناس ولسكونه معنيان أحدهما سكون الناس فنسب إليه كما يقال ليل نائم ونهار صائم والثاني هو أن سكونه عبارة عن استقرار ظلامه

واستوائه فلا يزداد بعد ذلك وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الحكمة في أنه تعالى في السورة الماضية قدم ذكر الليل وفي هذه السورة أخره قلنا فيه وجوه أحدها أن بالليل والنهار ينتظم مصالح المكلفين والليل له فضيلة السبق لقوله وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) وللنهار فضيلة النور بل الليل كالدنيا والنهار كالآخرة فلما كان لكل واحد فضيلة ليست للآخر لا جرم قدم هذا على ذاك تارة وذاك على هذا أخرى ونظيره أنه تعالى قدم السجود على الركوع في قوله وَاسْجُدِى وَارْكَعِى ( آل عمران 43 ) ثم قدم الركوع على السجود في قوله ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ ( الحج 77 ) وثانيها أنه تعالى قدم الليل على النهار في سورة أبي بكر لأن أبا بكر سبقه كفر وههنا قدم الضحى لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما سبقه ذنب وثالثها سورة والليل سورة أبي بكر وسورة الضحى سورة محمد عليه الصلاة والسلام ثم ما جعل بينهما واسطة ليعلم أنه لا واسطة بين محمد وأبي بكر فإذا ذكرت الليل أولاً وهو أبو بكر ثم صعدت وجدت بعده النهار وهو محمد وإن ذكرت والضحى أولاً وهو محمد ثم نزلت وجدت بعده والليل وهو أبو بكر ليعلم أنه لا واسطة بينهما
السؤال الثاني ما الحكمة ههنا في الحلف بالضحى والليل فقط والجواب لوجوه أحدها كأنه تعالى يقول الزمان ساعة فساعة ساعة ليل وساعة نهار ثم يزداد فمرة تزداد ساعات الليل وتنقص ساعات النهار ومرة بالعكس فلا تكون الزيادة لهوى ولا النقصان لقلى بل للحكمة كذا الرسالة وإنزال الوحي بحسب المصالح فمرة إنزال ومرة حبس فلا كان الإنزال عن هوى ولا كان الحبس عن قلى وثانيها أن العالم لا يؤثر كلامه حتى يعمل به فلما أمر الله تعالى بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر لم يكن بد من أن يعمل به فالكفار لما ادعوا أن ربه ودعه وقلاه قال هاتوا الحجة فعجزوا فلزمه اليمين بأنه ما ودعه ربه وما قلاه وثانيها كأنه تعالى يقول انظروا إلى جوار الليل مع النهار لا يسلم أحدهما عن الآخر بل الليل تارة يغلب وتارة يغلب فكيف تطمع أن تسلم على الخلق
السؤال الثالث لم خص وقت الضحى بالذكر الجواب فيه وجوه أحدها أنه وقت اجتماع الناس وكمال الأنس بعد الاستيحاش في زمان الليل فبشروه أن بعد استيحاشك بسبب احتباس الوحي يظهر ضحى نزول الوحي وثانيها أنها الساعة التي كلم فيها موسى ربه وألقى فيها السحرة سجداً فاكتسى الزمان صفة الفضيلة لكونه ظرفاً فكيف فاعل الطاعة ا وأفاد أيضاً أن الذي أكرم موسى لا يدع إكرامك والذي قلب قلوب السحرة حتى سجدوا يقلب قلوب أعدائك
السؤال الرابع ما السبب في أنه ذكر الضحى وهو ساعة من النهار وذكر الليل بكليته الجواب فيه وجوه أحدها أنه إشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل كما أن محمداً إذا وزن يوازي جميع الأنبياء والثاني أن النهار وقت السرور والراحة والليل وقت الوحشة والغم فهو إشارة إلى أن هموم الدنيا أدوم من سرورها فإن الضحى ساعة والليل كذا ساعات يروى أن الله تعالى لما خلق العرش أظلت غمامة سوداء عن يسارة ونادت ماذا أمطر فأجيبت أن امطري الهموم والأحزان مائة سنة ثم انكشفت فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى تمام ثلاثمائة سنة ثم بعد ذلك أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء ونادت ماذا أمطر فأجيبت أن أمطري السرور ساعة فلهذا السبب ترى الغموم والأحزان دائمة والسرور قليلاً ونادراً

وثالثها أن وقت الضحى وقت حركة الناس وتعارفهم فصارت نظير وقت الحشر والليل إذا سكن نظير سكون الناس في ظلمة القبور فكلاهما حكمة ونعمة لكن الفضيلة للحياة على الموت ولما بعد الموت على ما قبله فلهذا السبب قدم ذكر الضحى على ذكر الليل ورابعها ذكروا الضحى حتى لا يحصل اليأس من روحه ثم عقبه بالليل حتى لا يحصل الأمن من مكره
السؤال الخامس هل أحد من المذكرين فسر الضحى بوجه محمد والليل بشعره والجواب نعم ولا استبعاد فيه ومنهم من زاد عليه فقال والضحى ذكور أهل بيته والليل إناثهم ويحتمل الضحى رسالته والليل زمان احتباس الوحي لأن في حال النزول حصل الاستئناس وفي زمن الاحتباس حصل الاستيحاش ويحتمل والضحى نور علمه الذي به يعرف المستور من الغيوب والليل عفوه الذي به يستر جميع الغيوب ويحتمل أن الضحى إقبال الإسلام بعد أن كل غريباً والليل إشارة إلى أنه سيعود غريباً ويحتمل والضحى كمال العقل والليل حال الموت ويحتمل أقسم بعلانيتك التي لا يرى عليها الخلق عيباً وبسرك الذي لا يعلم عليه عالم الغيب عيباً
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى
فيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو عبيدة والمبرد ودعك من التوديع كما يودع المفارق وقرىء بالتخفيف أي ما تركك والتوديع مبالغة في الوداع لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك والقلى البغض يقال قلاة يقليه قلى ومقلية إذا أبغضه قال الفراء يريد وما قلاك وفي حذف الكاف وجوه أحدها حذفت الكاف اكتفاء بالكاف الأولى في ودعك ولأن رؤس الآيات بالياء فأوجب اتفاق الفواصل حذف الكاف وثانيها فائدة الإطلاق أنه ما قلاك ولا ( فلا ) أحد من أصحابك ولا أحداً ممن أحبك إلى قيام القيامة تقريراً لقوله ( المرء مع من أحب )
المسألة الثانية قال المفسرون أبطأ جبريل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال المشركون قد قلاه الله وودعه فأنزل الله تعالى عليه هذه الآية وقال السدي أبطأ عليه أربعين ليلة فشكا ذلك إلى خديجة فقالت لعل رنك نسيك أو قلاك وقيل إن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك وروي عن الحسن أنه قال أبطأ على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الوحي فقال لخديجة ( إن ربي ودعني وقلاني يشكو إليها فقالت كلا والذي بعثك بالحق ما ابتدأك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد أن يتمها لك ) فنزل مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وطعن الأصوليون في هذه الرواية وقالوا إنه لا يليق بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يظن أن الله تعالى ودعه وقلاه بل يعلم أن عزل النبي عن النبوة غير جائز في حكمة الله تعالى ويعلم أن نزول الوحي يكون بحسب المصلحة وربما كان الصلاح تأخيره وربما كان خلاف ذلك فثبت أن هذا الكلام غير لائق بالرسول عليه الصلاة والسلام ثم إن صح ذلك يحمل على أنه كان مقصوده عليه الصلاة والسلام أن يجربها ليعرف قدر علمها أو ليعرف الناس قدر علمها واختلفوا في قدر مدة انقطاع الوحي فقال ابن جريج اثنا عشر يوماً وقال الكلبي خمسة عشر يوماً وقال ابن عباس خمسة وعشرون يوماً وقال السدي ومقاتل أربعون يوماً

واختلفوا في سبب احتباس جبريل عليه السلام فذكر أكثر المفسرين أن اليهود سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف فقال ( سأخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله ) فاحتبس عنه الوحي وقال ابن زيد السبب فيه كون جرو في بيته للحسن والحسين فلما نزل جبريل عليه السلام عاتبه رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال ( أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ) وقال جندب بن سفيان رمى النبي عليه الصلاة بحجر في إصبعه فقال هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
فأبطأ عنه الوحي وروي أنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار وههنا سؤالان
السؤال الأول الروايات التي ذكرتم تدل على أن احتباس الوحي كان عن قلى قُلْنَا أقصى ما في الباب أن ذلك كان تركاً للأفضل والأولى وصاحبه لا يكون ممقوتاً ولا مبغضاً وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجبريل ( ما جثتني حتى اشتقت إليك فقال جبريل كنت إليك أشوق ولكني عبداً مأموراً ) وتلا وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ ( مريم 64 )
السؤال الثاني كيف يحسن من السلطان أن يقول لأعظم الخلق قربة عنده إني لا أبغضك تشريفاً له الجواب أن ذلك لا يحسن ابتداء لكن الأعداء إذا ألقوا في الألسنة أن السلطان يبغضه ثم تأسف ذلك المقرب فلا لفظ أقرب إلى تشريفه من أن يقول له إني لا أبغضك ولا أدعك وسوف ترى منزلتك عندي
المسألة الثالثة هذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند الله إذ لو كان من عنده لما امتنع
وَلَلاٌّ خِرَة ُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاٍّ ولَى
واعلم أن في اتصاله بما تقدم وجوهاً أحدها أن يكون المعنى أن انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون لأنه عزل عن النبوة بل أقصى ما في الباب أن يكون ذلك لأنه حصل الاستغناء عن الرسالة وذلك أمارة الموت فكأنه يقال انقطاع الوحي متى حصل دل على الموت لكن الموت خير لك فإن مالك عند الله في الآخرة خير وأفضل مما لك في الدنيا وثانيها لما نزل مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ( الضحى 3 ) حصل له بهذا تشريف عظيم فكأنه استعظم هذا التشريف فقيل له وَلَلاْخِرَة ُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى أي هذا التشريف وإن كان عظيماً إلا أن مالك عند الله في الآخرة خير وأعظم وثالثها ما يخطر ببالي وهو أن يكون المعنى وللأحوال الآتية خير لك من الماضية كأنه تعالى وعده بأنه سيزيده كل يوم عزاً إلى عز ومنصباً إلى منصب فيقول لا تظن أني قليتك بل تكون كل يوم يأتي فإني أزيدك منصباً وجلالاً وههنا سؤالان
السؤال الأول بأي طريق يعرف أن الآخرة كانت له خيراً من الأولى الجواب لوجوه أحدها كأنه تعالى يقول له إنك في الدنيا على خير لأنك تفعل فيها ما تريد ولكن الآخرة خير لك لأنا نفعل فيها ما نريد وثانيها الآخرة خير لك يجتمع عندك أمتك إذ الأمة له كالأولاد قال تعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ

( الأحزاب 6 ) وهو أب لهم وأمته في الجنة فيكون كأن أولاده في الجنة ثم سمى الولد قرة أعين حيث حكى عنهم هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّة َ أَعْيُنٍ ( الفرقان 74 ) وثالثها الآخرة خير لك لأنك اشتريتها أما هذه ليست لك فعلى تقدير أن لو كانت الآخرة أقل من الدنيا لكانت الآخرة خيراً لك لأن مملوكك خير لك مما لا يكون مملوكاً لك فكيف ولا نسبة للآخرة إلى الدنيا في الفضل ورابعها الآخرة خير لك من الأولى لأن في الدنيا الكفار يطعنون فيك أما في الآخرة فأجعل أمتك شهداء على الأمم وأجعلك شهيداً على الأنبياء ثم أجعل ذاتي شهيداً لك كما قال وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ( الفتح 29 28 ) وخامسها أن خيرات الدنيا قليلة مشوبة منقطعة ولذات الآخرة كثيرة خالصة دائمة
السؤال الثاني لم قال وَلَلاْخِرَة ُ خَيْرٌ لَّكَ ولم يقل خير لكم الجواب لأنه كان في جماعته من كانت الآخرة شراً له فلو أنه سبحانه عمم لكان كذباً ولو خصص المطيعين بالذكر لافتضح المذنبون والمنافقون ولهذا السبب قال موسى عليه السلام كَلاَّ إِنَّ مَعِى َ رَبّى سَيَهْدِينِ ( الشعراء 62 ) وأما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قالذي كان معه لما كان من أهل السعادة قطعاً لا جرم قال إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ( التوبة 40 ) إذ لم يكن ثم إلا نبي وصديق وروي أن موسى عليه السلام خرج للاستسقاء ومعه الألوف ثلاثة أيام فلم يجدوا الإجابة فسأل موسى عليه السلام عن السبب الموجب لعدم الإجابة فقال لا أجيبكم ما دام معكم ساع بالنميمة فسأل موسى من هو فقال ( إني ) أبغضه فكيف أعمل عمله فما مضت مدة قليلة حتى نزل الوحي بأن ذلك النمام قد مات وهذه جنازته في مصلى كذا فذهب موسى عليه السلام إلى تلك المصلى فإذا فيها سبعون من الجنائز فهذا ستره على أعدائه فكيف على أوليائه ثم تأمل فإن فيه دقيقة لطيفة وهي أنه عليه السلام قال ( لولا شيوخ ركع ) وفيه إشارة إلى زيادة فضيلة هذه الأمة فإنه تعالى كان يرد الألوف لمذنب واحد وههنا يرحم المذنبين لمطيع واحد
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى
واعلم اتصاله بما تقدم من وجهين الأول هو أنه تعالى لما بين أن الآخرة خير له من الأولى ولكنه لم يبين أن ذلك التفاوت إلى أي حد يكون فبين بهذه الآية مقدار ذلك التفاوت وهو أنه ينتهي إلى غاية ما يتمناه الرسول ويرتضيه الوجه الثاني كأنه تعالى لما قال وَلَلاْخِرَة ُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى ( الضحى 4 ) فقيل ولم قلت إن الأمر كذلك فقال لأنه يعطيه كل ما يريده وذلك مما لا تتسع الدنيا له فثبت أن الآخرة خير له من الأولى واعلم أنه إن حملنا هذا الوعد على الآخرة فقد يمكن حمله على المنافع وقد يمكن حمله على التعظيم أما المنافع فقال ابن عباس ألف قصر في الجنة من لؤلؤ أبيض ترابه المسك وفيها ما يليق بها وأما التعظيم فالمروى عن علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس أن هذا هو الشفاعة في الأمة يروى أنه عليه السلام لما نزلت هذه الآية قال إذاً لا أرضى وواحد من أمتي في النار واعلم أن الحمل على الشفاعة متعين ويدل عليه وجوه أحدها أنه تعالى أمره في الدنيا بالاستغفار فقال أَسْتَغْفِرُ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( محمد 19 ) فأمره بالاستغفار والاستغفار عبارة عن طلب المغفرة ومن طلب شيئاً فلا شك أنه لا يريد الرد ولا يرضى به وإنما

يرضى بالإجابة وإذا ثبت أن الذي يرضاه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) هو الإجابة لا الرد ودلت هذه الآية على أنه تعالى يعطيه كل ما يرتضيه علمنا أن هذه الآية دالة على الشفاعة في حق المذنبين والثاني وهو أن مقدمة الآية مناسبة لذلك كأنه تعالى يقول لا أودعك ولا أبغضك بل لا أغضب على أحد من أصحابك وأتباعك وأشياعك طلباً لمرضاتك وتطييباً لقلبك فهذا التفسير أوفق لمقدمة الآية والثالث الأحاديث الكثيرة الواردة في الشفاعة دالة على أن رضا الرسول عليه الصلاة والسلام في العفو عن المذنبين وهذه الآية دلت على أنه تعالى يفعل كل ما يرضاه الرسول فتحصل من مجموع الآية والخبر حصول الشفاعة وعن جعفر الصادق عليه السلام أنه قال رضاء جدي أن لا يدخل النار موحد وعن الباقر أهل القرآن يقولون أرجى آية قوله قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( الزمر 53 ) وإنا أهل البيت نقول أرجى آية قوله وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى والله إنها الشفاعة ليعطاها في أهل لا إله إلا الله حتى يقول رضيت هذا كله إذا حملنا الآية على أحوال الآخرة أما لو حملنا هذا الوعد على أحوال الدنيا فهو إشارة إلى ما أعطاه الله تعالى من الظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجاً والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن و ( ما ) هدم بأيديهم من ممالك الجبابرة وأنهبهم من كنوز الأكاسرة وما قذف في أهل الشرق والغرب من الرعب وتهييب الإسلام وفشو الدعوة واعلم أن الأولى حمل الآية على خيرات الدنيا والآخرة وههنا سؤالات
السؤال الأول لم لم يقل يعطيكم مع أن هذه السعادات حصلت للمؤمنين أيضاً الجواب لوجوه أحدها أنه المقصود وهم أتباع وثانيها أني إذا أكرمت أصحابك فذاك في الحقيقة إكرام لك لأني أعلم أنك بلغت في الشفقة عليهم إلى حيث تفرح بإكرامهم فوق ما تفرح بإكرام نفسك ومن ذلك حيث تقول الأنبياء نفسي نفسي أي أبدأ بجزائي وثوابي قبل أمتي لأن طاعتي كانت قبل طاعة أمتي وأنت تقول أمتي أمتي أي أبدأ بهم فإن سروري أن أراهم فائزين بثوابهم وثالثها أنك عاملتني معاملة حسنة فإنهم حين شجوا وجهك قلت ( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) وحين شغلوك يوم الخندق عن الصلاة قلت ( اللهم املأ بطونهم ناراً ) فتحملت الشجة الحاصلة في وجه جسدك وما تحملت الشجة الحاصلة في وجه دينك فإن وجه الدين هو الصلاة فرجحت حقي على حقك لا جرم فضلتك فقلت من ترك الصلاة سنين أو حبس غيره عن الصلاة سنين لا أكفره ومن آذى شعرة من شعراتك أو جزء من نعلك أكفره
السؤال الثاني ما الفائدة في قوله وَلَسَوْفَ ولم لم يقل وسيعطيك ربك الجواب فيه فوائد إحداها أنه يدل على أنه ما قرب أجله بل يعيش بعد ذلك زماناً وثانيها أن المشركين لما قالوا ودعه ربه وقلاه فالله تعالى رد عليهم بعين تلك اللفظة فقال مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ( الضحى 3 ) ثم قال المشركون سوف يموت محمد فرد الله عليهم ذلك بهذه اللفظة فقال وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى
السؤال الثالث كيف يقول الله وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى الجواب هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام جبريل عليه السلام معه لأنه كان شديد الاشتياق إليه وإلى كلامه كما ذكرنا فأراد الله تعالى أن يكون هو المخاطب له بهذه البشارات

السؤال الرابع ما هذه اللام الداخلة على سوف الجواب قال صاحب ( الكشاف ) هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة والمبتدأ محذوف تقديره ولأنت سوف يعطيك ربك والدليل على ما قلنا أنها إما أن تكون لام القسم أو لام الابتداء ولام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد فبقي أن تكون لام ابتداء ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر فلا بد من تقدير مبتدأ وخبر وأن يكون أصله ولأنت سوف يعطيك فإن قيل ما معنى الجمع بين حرفي التوكيد والتأخير قلنا معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى
فيه مسائل
المسألة الأولى أن اتصاله بما تقدم هو أنه تعالى يقول أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فقال الرسول بلى يا رب فيقول انظر ( أ ) كانت طاعاتك في ذلك الوقت أكرم أم الساعة فلا بد من أن يقال بل الساعة فيقول الله حين كنت صبياً ضعيفاً ما تركناك بل ربيناك ورقيناك إلى حيث صرت مشرفاً على شرفات العرش وقلنا لك لولاك ما خلقنا الأفلاك أتظن أنا بعد هذه الحالة نهجرك ونتركك
المسألة الثانية أَلَمْ يَجِدْكَ من الوجود الذي بمعنى العلم والمنصوبان مفعولا وجد والوجود من الله والمعنى ألم يعلمك الله يتيماً فآوى وذكروا في تفسير اليتيم أمرين الأول أن عبد الله بن عبد المطلب فيما ذكره أهل الأخبار توفي وأم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حامل به ثم ولد رسول الله فكان مع جده عبد المطلب ومع أمه آمنة فهلكت أمه آمنة وهو ابن ست سنين فكان مع جده ثم هلك جده بعد أمه بسنتين ورسول الله ابن ثمان سنين وكان عبد المطلب يوصي أبا طالب به لأن عبد الله وأبا طالب كانا من أم واحدة فكان أبو طالب هو الذي يكفل رسول الله بعد جده إلى أن بعثه الله للنبوة فقام بنصرته مدة مديدة ثم توفي أبو طالب بعد ذلك فلم يظهر على رسول الله يتم البتة فأذكره الله تعالى هذه النعمة روى أنه قال أبو طالب يوماً لأخيه العباس ألا أخبرك عن محمد بما رأيت منه فقال بلى فقال إني ضممته إلي فكيف لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار ولا أأتمن عليه أحداً حتى أني كنت أنومه في فراشي فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت الكراهة في وجهه لكنه كره أن يخالفني وقال يا عماه اصرف بوجهك عني حتى أخلع ثيابي إذ لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه الفراش إذا بيني وبينه ثوب والله ما أدخلته فراشي فإذا هو في غاية اللين وطيب الرائحة كأنه غمس في المسك فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئاً وكثيراً ما كنت أفتقده من فراشي فإذا قمت لأطلبه ناداني ها أنا يا عم فارجع ولقد كنت كثيراً ما أسمع منه كلاماً يعجبني وذلك عند مضي الليل وكنا لا نسمي على الطعام والشراب ولا نحمده بعده وكان يقول في أول الطعام بسم الله الأحد فإذا فرغ من طعامه قال الحمدلله فتعجبت منه ثم لم أر منه كذبة ولا ضحكاً ولا جاهلية ولا وقف مع صبيان يلعبون
واعلم أن العجائب المروية في حقه من حديث بحيرى الراهب وغيره مشهورة
التفسير الثاني لليتيم أنه من قولهم درة يتيمة والمعنى ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير

فآواك أي جعل لك من تأوي إليه وهو أبو طالب وقرىء فأوى وهو على معنيين إما من أواه بمعنى آواه وإما من أوى له إذا رحمه وههنا سؤالان
السؤال الأول كيف يحسن من الجود أن يمن بنعمة فيقول أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَى والذي يؤكد هذا السؤال أن الله تعالى حكى عن فرعون أنه قال أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً ( الشعراء 18 ) في معرض الذم لفرعون فما كان مذموماً من فرعون كيف يحسن من الله الجواب أن ذلك يحسن إذا قصد بذلك أن يقوي قلبه ويعده بدوام النعمة وبهذا يظهر الفرق بين هذا الامتنان وبين امتنان فرعون لأن امتنان فرعون محبط لأن الغرض فما بالك لا تخدمني وامتنان الله بزيادة نعمه كأنه يقول مالك تقطع عني رجاءك ألست شرعت في تربيتك أتظنني تاركاً لما صنعت بل لا بد وأن أتمم عليك وعلى أمتك النعمة كما قال وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ ( البقرة 150 ) أما علمت أن الحامل التي تسقط الولد قبل التمام معيبة ترد ولو أسقطت أو الرجل أسقط عنها بعلاج تجب الغرة وتستحق الذم فكيف يحسن ذلك من الحي القيوم فما أعظم الفرق بين مان هو الله وبين مان هو فرعون ونظيره ما قاله بعضهم ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ( الكهف 22 ) في تلك الأمة وفي أمة محمد مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ( المجادلة 7 ) فشتان بين أمة رابعهم كلبهم وبين أمة رابعهم ربهم
السؤال الثاني أنه تعالى منّ عليه بثلاثة أشياء ثم أمره بأن يذكر نعمة ربه فما وجه المناسبة بين هذه الأشياء الجواب وجه المناسبة أن نقول قضاء الدين واجب ثم الدين نوعان مالي وإنعامي والثاني أقوى وجوباً لأن المالي قد يسقط بالإبراء والثاني يتأكد بالإبراء والمالي يقضي مرة فينجو الإنسان منه والثاني يجب عليك قضاؤه طول عمرك ثم إذا تعذر قضاء النعمة القليلة من منعم هو مملوك فكيف حال النعمة العظيمة من المنعم العظيم فكأن العبد يقول إلهي أخرجتني من العدم إلى الوجود بشراً سوياً طاهر الظاهر نجس الباطن بشارة منك أن تستر على ذنوبي بستر عفوك كما سترت نجاستي بالجلد الظاهر فكيف يمكنني قضاء نعمتك التي لا حد لها ولا حصر فيقول تعالى الطريق إلى ذلك أن تفعل في حق عبيدي ما فعلته في حقك كنت يتيماً فآويتك فافعل في حق الأيتام ذلك وكنت ضالاً فهديتك فافعل في حق عبيدي ذلك وكنت عائلاً فأغنيتك فافعل في حق عبيدي ذلك ثم إن فعلت كل ذلك فاعلم أنك إنما فعلتها بتوفيقي لك ولطفي وإرشادي فكن أبداً ذاكراً لهذه النعم والألطاف
وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى
أما قوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى فاعلم أن بعض الناس ذهب إلى أنه كان كافراً في أول الأمر ثم هداه الله وجعله نبياً قال الكلبي وَوَجَدَكَ ضَالاًّ يعني كافراً في قوم ضلال فهداك للتوحيد وقال السدي كان على دين قومه أربعين سنة وقال مجاهد وَوَجَدَكَ ضَالاًّ عن الهدى لدينه واحتجوا على ذلك بآيات أخر منها قوله مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وقوله وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ( يوسف 3 ) وقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) فهذا يقتضي صحة ذلك منه وإذا دلت هذه الآية على الصحة وجب حمل قوله وَوَجَدَكَ ضَالاًّ عليه وأما الجمهور من العلماء

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66