كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

فوق فيهما فمن قرأ بالياء المنقطة من تحت فالمعنى بلغهم أنهم سيغلبون ويدل على صحة الياء قوله تعالى يَتَفَكَّرُونَ قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ( الجاثية 14 ) و قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ ( النور 30 ) ولم يقل غضوا ومن قرأ بالتاء فللمخاطبة ويدل على حسن التاء قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ ( آل عمران 81 ) والفرق بين القراءتين من حيث المعنى أن القراءة بالتاء أمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم والقراءة بالياء أمر بأن يحكي لهم والله أعلم
المسألة الثانية ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً الأول لما غزا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قريشاً يوم بدر وقدم المدينة جمع يهود في سوق بني قينقاع وقال يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً فقالوا يا محمد لا تغرنك نفسك أن قتلت نفراً من قريش لا يعرفون القتال لو قاتلتنا لعرفت فأنزل الله تعالى هذه الآية
الرواية الثانية أن يهود أهل المدينة لما شاهدوا وقعة أهل بدر قالوا والله هو النبي الأمي الذي بشرنا به موسى في التوراة ونعته وأنه لا ترد له راية ثم قال بعضهم لبعض لا تعجلوا فلما كان يوم أُحد ونكب أصحابه قالوا ليس هذا هو ذاك وغلب الشقاء عليهم فلم يسلموا فأنزل الله تعالى هذه الآية
والرواية الثالثة أن هذه الآية واردة في جمع من الكفار بأعيانهم علم الله تعالى أنهم يموتون على كفرهم وليس في الآية ما يدل على أنهم من هم
المسألة الثالثة احتج من قال بتكليف ما لا يطاق بهذه الآية فقال إن الله تعالى أخبر عن تلك الفرقة من الكفار أنهم يحشرون إلى جهنم فلو آمنوا وأطاعوا لانقلب هذا الخبر كذباً وذلك محال ومستلزم المحال محال فكان الإيمان والطاعة محالاً منهم وقد أمروا به فقد أمروا بالمحال وبما لا يطاق وتمام تقريره قد تقدم في تفسير قوله تعالى سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 )
المسألة الرابعة قوله سَتُغْلَبُونَ إخبار عن أمر يحصل في المستقبل وقد وقع مخبره على موافقته فكان هذا إخباراً عن الغيب وهو معجز ونظيره قوله تعالى غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الاْرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ( الروم 2 3 ) الآية ونظيره في حق عيسى عليه السلام وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ ( آل عمران 49 )
المسأُلة الخامسة دلّت الآية على حصول البعث في القيامة وحصول الحشر والنشر وأن مرد الكافرين إلى النار
ثم قال وَبِئْسَ الْمِهَادُ وذلك لأنه تعالى لما ذكر حشرهم إلى جهنم وصفه فقال بِئْسَ الْمِهَادُ والمهاد الموضع الذي يتمهد فيه وينام عليه كالفراش قال الله تعالى وَالاْرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( الذاريات 48 ) فلما ذكر الله تعالى مصير الكافرين إلى جهنم أخبر عنها بالشر لأن بئس مأخوذ من البأساء هو الشر والشدة قال الله تعالى وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ( الأعراف 165 ) أي شديد وجهنم معروفة أعاذنا الله منها بفضله

قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَة ٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَة ٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْى َ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَة ً لاوْلِى الاٌّ بْصَارِ
إعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى لم يقل قد كانت لكم آية بل قال قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ وفيه وجهان
الأول أنه محمول على المعنى والمراد قد كان لكم إتيان هذا آية
والثاني قال الفرّاء إنما ذكر للفصل الواقع بينهما وهو قوله لَكُمْ
المسألة الثانية وجه النظم أنا ذكرنا أن الآية المتقدمة وهي قوله تعالى سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ نزلت في اليهود وأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما دعاهم إلى الإسلام أظهروا التمرد وقالوا ألسنا أمثال قريش في الضعف وقلة المعرفة بالقتال بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما يغلب كل من ينازعنا فالله تعالى قال لهم إنكم وإن كنتم أقوياء وأرباب العدة والعدة فإنكم ستغلبون ثم ذكر الله تعالى ما يجري الدلالة على صحة ذلك الحكم فقال قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَة ٌ يعني واقعة بدر كانت كالدلالة على ذلك لأن الكثرة والعدة كانت من جانب الكفار والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين ثم إن الله تعالى قهر الكفار وجعل المسلمين مظفرين منصورين وذلك يدل على أن تلك الغلبة كانت بتأييد الله ونصره ومن كان كذلك فإنه يكون غالباً لجميع الخصوم سواء كانوا أقوياء أو لم يكونوا كذلك فهذا ما يجري مجرى الدلالة على أنه عليه السلام يهزم هؤلاء اليهود ويقهرهم وإن كانوا أرباب السلاح والقوة فصارت هذه الآية كالدلالة على صحة قوله قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ الآية فهذا هو الكلام في وجه النظم
المسألة الثالثة الفئة الجماعة وأجمع المفسرون على أن المراد بالفئتين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه يوم بدر ومشركوا مكة روي أن المشركين يوم بدر كانوا تسعمائة وخمسين رجلاً وفيهم أبو سفيان وأبو جهل وقادوا مائة فرس وكانت معهم من الإبل سبعمائة بعير وأهل الخيل كلهم كانوا دارعين وهم مائة نفر وكان في الرجال دروع سوى ذلك وكان المسلمون ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً بين كل أربعة منهم بعير ومعهم من الدروع ستة ومن الخيل فرسان ولا شك أن في غلبة المسلمين للكفار على هذه الصفة آية بينة ومعجزة قاهرة
واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وجوهاً الأول أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور منها قل العدد ومنها أنهم خرجوا غير قاصدين

للحرب فلم يتأهبوا ومنها قلة السلاح والفرس ومنها أن ذلك ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني منها كثرة العدد ومنها أنهم خرجوا متأهبين للحرب ومنها كثرة سلاحهم وخيلهم ومنها أن أولئك الأقوام كانوا ممارسين للمحاربة والمقاتلة في الأزمنة الماضية وإذا كان كذلك فلم تجر العادة أن مثل هؤلاء العدد في القلة والضعف وعدم السلاح وقلة المعرفة بأمر المحاربة يغلبون مثل ذلك الجمع الكثير مع كثرة سلاحهم وتأهبهم للمحاربة ولما كان ذلك خارجاً عن العادة كان معجزاً
والوجه الثاني في كون هذه الواقعة آية أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش بقوله يَنظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ( الأنفال 7 ) يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان وكان قد أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان فلما وجد مخبر خبره في المستقبل على وفق خبره كان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً
والوجه الثالث في بيان كون هذه الواقعة آية ما ذكره تعالى بعد هذه الآية وهو قوله تعالى يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْى َ الْعَيْنِ والأصح في تفسير هذه الآية أن الرائين هم المشركون والمرئيين هم المؤمنون والمعنى أن المشركين كانوا يرون المؤمنون مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين أو مثلي عدد المسلمين وهو ستمائة وذلك معجز
فإن قيل تجويز رؤية ما ليس بموجود يفضي إلى السفسطة
قلنا نحمل الرؤية على الظن والحسبان وذلك لأن من اشتد خوفه قد يظن في الجمع القليل أنهم في غاية الكثرة وإما أن نقول إن الله تعالى أنزل الملائكة حتى صار عسكر المسلمين كثيرين والجواب الأول أقرب لأن الكلام مقتصر على الفئتين ولم يدخل فيهما قصة الملائكة
والوجه الرابع في بيان كون هذه القصة آية قال الحسن إن الله تعالى أمد رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في تلك الغزوة بخمسة آلاف من الملائكة لأنه قال فَاسْتَجَابَ لَكُمْ إِنّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ ( الأنفال 9 ) وقال بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَة ِ ءالافٍ مّنَ الْمَلَئِكَة ِ ( آل عمران 125 ) والألف مع الأربعة آلاف خمسة آلاف من الملائكة وكان سيماهم هو أنه كان على أذناب خيولهم ونواصيها صوف أبيض وهو المراد بقوله وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء والله أعلم
ثم قال الله تعالى فِئَة ٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى القراءة المشهورة فِئَة ٌ بالرفع وكذا قوله وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ وقرىء فِئَة ٌ فَقَاتِلْ وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ بالجر على البدل من فئتين وقرىء بالنصب إما على الاختصاص أو على الحال من الضمير في التقتا قال الواحدي رحمه الله والرفع هو الوجه لأن المعنى إحداهما تقاتل في سبيل الله فهو رفع على استئناف الكلام
المسألة الثانية المراد بالفئة التي تقاتل في سبيل الله هم المسلمون لأنهم قاتلوا لنصرة دين الله
وقوله وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ المراد بها كفار قريش

ثم قال تعالى يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْى َ الْعَيْنِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وأبان عن عاصم تَرَوْنَهُمْ بالتاء المنقطة من فوق والباقون بالياء فمن قرأ بالتاء فلأن ما قبله خطاب لليهود والمعنى ترون أيها اليهود المسلمين مثل ما كانوا أو مثلي الفئة الكافرة أو تكون الآية خطاباً مع مشركي قريش والمعنى ترون يا مشركي قريش المسلمون مثلي فئتكم الكافرة ومن قرأ بالياء فللمغالبة التي جاءت بعد الخطاب وهو قوله فِئَة ٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ فقوله يَرَوْنَهُمْ يعود إلى الإخبار عن إحدى الفئتين
المسألة الثانية إعلم أنه قد تقدم في هذه الآية ذكر الفئة الكافرة وذكر الفئة المسلمة فقوله يَرَوْنَهُمْ مّثْلُهُمْ يحتمل أن يكون الراؤن هم الفئة الكافرة والمرئيون هم الفئة المسلمة ويحتمل أن يكون بالعكس من ذلك فهذان احتمالان وأيضاً فقوله مّثْلَيْهِمْ يحتمل أن يكون المراد مثلي الرائين وأن يكون المراد مثلي المرئين فإذن هذه الآية تحتمل وجوهاً أربعة الأول أن يكون المراد أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين
والاحتمال الثاني أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين والحكمة في ذلك أنه تعالى كثر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا عن قتالهم
فإن قيل هذا متناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ ( الأنفال 44 )
فالجواب أنه كان التقليل والتكثير في حالين مختلفين فقللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤا عليهم فلما تلاقوا كثرهم الله في أعينهم حتى صاروا معلوبين ثم إن تقليلهم في أول الأمر وتكثيرهم في آخر الأمر أبلغ في القدرة وإظهار الآية
والاحتمال الثالث أن الرائين هم المسلمون والمرئيين هم المشركون فالمسلمون رأوا المشركين مثلى المسلمين ستمائة وأزيد والسبب فيه أن الله تعالى أمر المسلم الواحد بمقاومة الكافرين قال الله تعالى إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَة ٌ صَابِرَة ٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ ( الأنفال 66 )
فإن قيل كيف يرونهم مثليهم رأي العين وكانوا ثلاثة أمثالهم
الجواب أن الله تعالى إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي علم المسلمون أنهم يغلبونهم وذلك لأنه تعالى قال إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَة ٌ صَابِرَة ٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ فأظهر ذلك العدد من المشركين للمؤمنين تقوية لقلوبهم وإزالة للخوف عن صدورهم
والاحتمال الرابع أن الرائين هم المسلمون وأنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين فهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد لأن هذا يوجب نصرة المشركين بإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين والآية تنافي ذلك وفي الآية احتمال خامس وهو أنا أول الآية قد بينا أن الخطاب مع اليهود فيكون المراد ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة والشوكة
فإن قيل كيف رأوهم مثليهم فقد كانوا ثلاثة أمثالهم فقد سبق الجواب عنه

بقي من مباحث هذا الموضع أمران
البحث الأول أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئياً والاحتمال الثالث يقتضي أن ما وجد وحضر لم يصر مرئياً أما الأول فهو محال عقلاً لأن المعدوم لا يرى فلا جرم وجب حمل الرؤية على الظن القوي وأما الثاني فهو جائز عند أصحابنا لأن عندنا مع حصول الشرائط وصحة الحاسد يكون الإدراك جائزاً لا واجباً وكان ذلك الزمان زمان ظهور المعجزات وخوارق العادات فلم يبعد أن يقال إنه حصل ذلك المعجز وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند اجتماع الشرائط وسلامة الحاسد فلهذا المعنى اعتذر القاضي عن هذا الموضع من وجوه أحدها أن عند الاشتغال بالمحاربة والمقاتلة قد لا يتفرغ الإنسان لأن يدير حدقته حول العسكر وينظر إليهم على سبيل التأمل التام فلا جرم يرى البعض دون البعض وثانيها لعلّه يحدث عند المحاربة من الغبار ما يصير مانعاً عن إدراك البعض وثالثها يجوز أن يقال إنه تعالى خلق في الهواء ما صار مانعاً عن إدراك ثلث العسكر وكل ذلك محتمل
البحث الثاني اللفظ وإن احتمل أن يكون الراؤن هم المشركون وأن يكون هم المسلمون فأي الاحتمالين أظهر فقيل إن كون المشرك رائياً أولى ويدل عليه وجوه الأول أن تعلق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلاً وأبعدهما مفعولاً أولى من العكس وأقرب المذكورين هو قوله وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ والثاني أن مقدمة الآية وهو قوله قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ خطاب مع الكفار فقراءة نافع بالتاء يكون خطاباً مع أولئك الكفار والمعنى ترون يا مشركي قريش المسلمين مثليهم فهذه القراءة لا تساعد إلا على كون الرائي مشركاً الثالث أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية الكفار حيث قال قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فوجب أن تكون هذه الحالة مما يشاهدها الكافر حتى تكون حجة عليه أما لو كانت هذه الحالة حاصلة للمؤمن لم يصح جعلها حجة الكافر والله أعلم
واحتج من قال الراؤن هم المسلمون وذلك لأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤية ما ليس بموجود وهو محال ولو كان الراؤن هم المؤمنون لزم أن لا يرى ما هو موجود وهذا ليس بمحال وكان ذلك أولى والله أعلم
ثم قال رَأْى َ الْعَيْنِ يقال رأيته رأياً ورؤية ورأيت في المنام رؤيا حسنة فالرؤية مختص بالمنام ويقول هو مني مرأى العين حيث يقع عليه بصري فقوله رَأْى َ الْعَيْنِ يجوز أن ينتصب على المصدر ويجوز أن يكون ظرفاً للمكان كما تقول ترونهم أمامكم ومثله هو مني مناط العنق ومزجر الكلب
ثم قال وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء نصر الله المسلمين على وجهين نصر بالغلبة كنصر يوم بدر ونصر بالحجة فلهذا المعنى لو قدرنا أنه هزم قوم من المؤمنين لجاز أن يقال هم المنصورون لأنهم هم المنصورون بالحجة وبالعاقبة الحميدة والمقصود من الآية أن النصر والظفر إنما يحصلان بتأييد الله ونصره لا بكثرة العدد والشوكة والسلاح
ثم قال إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَة ً والعبرة الاعتبار وهي الآية التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم وأصله

من العبور وهو النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر ومنه العبارة وهي كلام الذي يعبر بالمعنى إلى المخاطب وعبارة الرؤيا من ذلك لأنها تعبير لها وقوله لاِوْلِى الاْبْصَارِ أي لأولي العقول كما يقال لفلان بصر بهذا الأمر أي علم ومعرفة والله أعلم
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَة ِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّة ِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم قولان الأول ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله إلا أنه لا يقر بذلك خوفاً من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه وأيضاً روينا أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا زائلة باطلة وأن الآخرة خير وأبقى
القول الثاني وهو على التأويل العام أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَة ً لاِوْلِى الاْبْصَارِ ذكر بعد هذه الآية ما هو كالشرح والبيان لتلك العبرة وذلك هو أنه تعالى بيّن أنه زين للناس حب الشهوات الجسمانية واللذات الدنيوية ثم أنها فانية منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها ثم إنه تعالى حث على الرغبة في الآخرة بقوله قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ ( آل عمران 15 ) ثم بيّن طيبات الآخرة معدة لمن واظب على العبودية من الصابرين والصادقين إلى آخر الآية
المسألة الثانية اختلفوا في أن قوله زُيّنَ لِلنَّاسِ من الذي زين ذلك أما أصحابنا فقولهم فيه ظاهر وذلك لأن عندهم خالق جميع الأفعال هو الله تعالى وأيضاً قالوا لو كان المزين الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان فإن كان ذلك شيطاناً آخر لزم التسلسل وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن كذلك الإنسان وإن كان من الله تعالى وهو الحق فليكن في حق الإنسان كذلك وفي القرآن إشارة إلى هذه النكتة في سورة القصص في قوله رَبَّنَا هَؤُلاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ( القصص 63 ) يعني إن اعتقد أحد أنا أغويناهم فمن الذي أغوانا وهذا الكلام ظاهر جداً
أما المعتزلة فالقاضي نقل عنهم ثلاثة أقوال
القول الأول حكي عن الحسن أنه قال الشيطان زين لهم وكان يحلف على ذلك بالله واحتج القاضي لهم بوجوه أحدها أنه تعالى أطلق حب الشهوات فيدخل فيه الشهوات المحرمة ومزين الشهوات المحرمة هو الشيطان وثانيها أنه تعالى ذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وحب هذا المال الكثير

إلى هذا الحد لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ومنتهى مقصوده لأن أهل الآخرة يكتفون بالغلبة وثالثها قوله تعالى ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ولا شك أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للدنيا والذم للشيء يمتنع أن يكون مزيناً له ورابعها قوله بعد هذه الآية قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ ( آل عمران 15 ) والمقصود من هذا الكلام صرف العبد عن الدنيا وتقبيحها في عينه وذلك لا يليق بمن يزين الدنيا في عينه
والقول الثاني قول قوم آخرين من المعتزلة وهو أن المزين لهذه الأشياء هو الله واحتجوا عليه بوجوه أحدها أنه تعالى كما رغب في منافع الآخر فقد خلق ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده وإباحتها للعبيد تزيين لها فإنه تعالى إذا خلق الشهوة والمشتهى وخلق للمشتهي علماً بما في تناول المشتهى من اللذة ثم أباح له ذلك التناول كان تعالى مزيناً لها وثانيها أن الانتفاع بهذه المشتهيات وسائل إلى منافع الآخرة والله تعالى قد ندب إليها فكان مزيناً لها وإنما قلنا إن الانتفاع بها وسائل إلى ثواب الآخرة لوجوه الأول أن يتصدق بها والثاني أن يتقوى بها على طاعة الله تعالى والثالث أنه إذا انتفع بها وعلم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله تعالى وإعانته صار ذلك سبباً لاشتغال العبد بالشكر العظيم ولذلك كان الصاحب ابن عباد يقول شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد من أقصى القلب وذكر شعراً هذا معناه والرابع أن القادر على التمتع بهذه اللذات والطيبات إذا تركها واشتغل بالعبودية وتحمل ما فيها من المشقة كان أكثر ثواباً فثبت بهذه الوجوه أن الانتفاع بهذه الطيبات وسائل إلى ثواب الآخر والخامس قوله تعالى هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) وقال قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ ( الأعراف 32 ) وقال إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَة ً لَّهَا ( الكهف 7 ) وقال خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ ( الأعراف 31 ) وقال في سورة البقرة وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ( البقرة 22 ) وقال كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ حَلَالاً طَيّباً ( البقرة 168 ) وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى ومما يؤكد ذلك قراءة مجاهد زُيّنَ لِلنَّاسِ على تسمية الفاعل
والقول الثالث وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي وهو التفصيل وذلك أن كل ما كان من هذا الباب واجباً أو مندوباً كان التزيين فيه من الله تعالى وكل ما كان حراماً كان التزيين فيه من الشيطان هذا ما ذكره القاضي وبقي قسم ثالث وهو المباح الذي لا يكون في فعله ولا في تركه ثواب ولا عقاب والقاضي ما ذكر هذا القسم وكان من حقه أن يذكره ويبيّن أن التزيين فيه من الله تعالى أو من الشيطان
المسألة الثالثة قوله حُبُّ الشَّهَواتِ فيه أبحاث ثلاثة
البحث الأول أن الشهوات ههنا هي الأشياء المشتهيات سميت بذلك على الاستعارة للتعلق والاتصال كما يقال للمقدور قدرة وللمرجو رجاء وللمعلوم علم وهذه استعارة مشهورة في اللغة يقال هذه شهوة فلان أي مشتهاه قال صاحب ( الكشاف ) وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان إحداهما أنه جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها والثانية أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء مذمومة من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير عنها

البحث الثاني قال المتكلمون دلّت هذه الآية على أن الحب غير الشهوة لأنه أضاف الحب إلى الشهوة والمضاف غير المضاف إليه والشهوة من فعل الله تعالى والمحبة من أفعال العباد وهي عبارة عن أن يجعل الإنسان كل غرضه وعيشه في طلب اللذات والطيبات
البحث الثالث قال الحكماء الإنسان قد يحب شيئاً ولكنه يحب أن لا يحبه مثل المسلم فإنه قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات لكنه يحب أن لا يحب وأما من أحب شيئاً وأحب إن يحبه فذاك هو كمال المحبة فإن كان ذلك في جانب الخير فهو كمال السعادة كما في قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ( ص 32 ) ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محباً للخير وإن كان ذلك في جانب الشر فهو كما قال في هذه الآية فإن قوله زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ يدل على أمور ثلاثة مرتبة أولها أنه يشتهي أنواع المشتهيات وثانيها أنه يحب شهوته لها وثالثها أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة وفضيلة ولما اجتمعت في هذه القضية الدرجات الثلاثة بلغت الغاية القصوى في الشدة والقوة ولا يكاد ينحل إلا بتوفيق عظيم من الله تعالى ثم إنه تعالى أضاف ذلك إلى الناس وهو لفظ عام دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس والعقل أيضاً يدل عليه وهو أن كل ما كان لذيذاً ونافعاً فهو محبوب ومطلوب لذاته واللذيذ النافع قسمان جسماني وروحاني والقسم الجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر وأما القسم الروحاني فلا يكون إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة ثم ذلك الإنسان إنما يحصل له تلك اللذة الروحانية بعد استئناس النفس باللذات الجسمانية فيكون انجذاب النفس إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة المتأكدة وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب فلا جرم كان الغالب على الخلق إنما هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية وأما الميل إلى طلب اللذات الروحانية فذاك لا يحصل إلا للشخص النادر ثم حصوله لذلك النادر لا يتفق إلا في أوقات نادرة فلهذا السبب عم الله هذا الحكم فقال زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ
وأما قوله تعالى مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ ففيه بحثان
البحث الأول مِنْ في قوله مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ كما في قوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) فكما أن المعنى فاجتنبوا الأوثان التي هي رجس فكذا أيضاً معنى هذه الآية زين للناس حب النساء وكذا وكذا التي هي مشتهاة
البحث الثاني إعلم أنه تعالى عدد ههنا من المشتهيات أموراً سبعة أولها النساء وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم ولذلك قال تعالى خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّة ً وَرَحْمَة ً ( الروم 21 ) ومما يؤكد ذلك أن العشق الشديد المفلق المهلك لا يتفق إلا في هذا النوع من الشهوة
المرتبة الثانية حب الولد ولما كان حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى لا جرم خصه الله تعالى بالذكر ووجه التمتع بهم ظاهر من حيث السرور والتكثر بهم إلى غير ذلك

واعلم أن الله تعالى في إيجاد حب الزوجة والولد في قلب الإنسان حكمة بالغة فإنه لولا هذا الحب لما حصل التوالد والتناسل ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل وهذه المحبة كأنها حالة غريزية ولذلك فإنها حاصلة لجميع الحيوانات والحكمة فيه ما ذكرنا من بقاء النسل
المرتبة الثالثة والرابعة وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَة ِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّة ِ وفيه أبحاث
البحث الأول قال الزجاج القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه والقنطرة مأخوذة من ذلك لتوثقها بعقد الطاق فالقنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب وحكى أبو عبيد عن العرب أنهم يقولون إنه وزن لا يحد واعلم أن هذا هو الصحيح ومن الناس من حاول تحديده وفيه روايات فروى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( القنطار إثنا عشر ألف أوقية ) وروى أنس عنه أيضاً أن القنطار ألف دينار وروى أُبي بن كعب أنه عليه السلام قال القنطار ألف ومائتا أوقية وقال ابن عباس القنطار ألف دينار أو إثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية وبه قاس الحسن وقال الكلبي القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة وفيه أقوال سوى ما ذكرنا لكنا تركناها لأنها غير مقصودة بحجة ألبتة
البحث الثاني الْمُقَنطَرَة ِ منفعلة من القنطار وهو للتأكيد كقولهم ألف مؤلفة وبدرة مبدرة وإبل مؤبلة ودراهم مدرهمة وقال الكلبي القناطير ثلاثة والمقنطرة المضاعفة فكان المجموع ستة
البحث الثالث الذهب والفضة إنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء وصفة المالكية هي القدرة والقدرة صفة كمال والكمال محبوب لذاته فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب لا جرم كانا محبوبين
المسألة الخامسة الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ قال الواحدي الخيل جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والنساء والرهط وسميت الأفراس خيلاً لخيلائها في مشيها وسميت حركة الإنسان على سبيل الجولان اختيالا وسمي الخيال خيالا والتخيل تخيلا لجولان هذه القوة في استحضار تلك الصورة والأخيل الشقراق لأنه يتخيل تارة أخضر وتارة أحمر واختلفوا في معنى الْمُسَوَّمَة ِ على ثلاثة أقوال الأول أنها الراعية يقال أسمت الدابة وسومتها إذا أرسلتها في مروجها للرعي كما يقال أقمت الشيء وقومته وأجدته وجودته وأنمته ونومته والمقصود أنها إذا رعت ازدادت حسناً ومنه قوله تعالى فِيهِ تُسِيمُونَ ( النحل 10 )
والقول الثاني المسومة المعلمة قال أبو مسلم الأصفهاني وهو مأخوذ من السيما بالقصر والسيماء بالمد ومعناه واحد وهو الهيئة الحسنة قال الله تعالى سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ( الفتح 29 ) ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في تلك العلامة فقال أبو مسلم المراد من هذه العلامات الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل وهي أن تكون الأفراس غراً محجلة وقال الأصم إنما هي البلق وقال قتادة الشية وقال المؤرج الكي وقول أبي مسلم أحسن لأن الإشارة في هذه الآية إلى شرائف الأموال وذلك هو أن يكون الفرس أغر محجلا وأما سائر الوجوه التي ذكروها فإنها لا تفيد شرفاً في الفرس

القول الثالث وهو قول مجاهد وعكرمة أنها الخيل المطهمة الحسان قال القفال المطهمة المرأة الجميلة
المرتبة السادسة الاْنْعَامِ وهيي جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها
المرتبة السابعة الْحَرْثِ وقد ذكرنا اشتقاقه في قوله وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ( البقرة 205 )
ثم إنه تعالى لما عدد هذه السبعة قال ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا قال القاضي ومعلوم أن متاعها إنما خلق ليستمتع به فكيف يقال إنه لا يجوز إضافة التزيين إلى الله تعالى ثم قال للاستمتاع بمتاع الدنيا وجوه منها أن ينفرد به من خصه الله تعالى بهذه النعم فيكون مذموماً ومنها أن يترك الانتفاع به مع الحاجة إليه فيكون أيضاً مذموماً ومنها أن ينتفع به في وجه مباح من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالح الآخرة وذلك لا ممدوح ولا مذموم ومنها أن ينتفع به على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة وذلك هو الممدوح
ثم قال تعالى وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ اعلم أن المآب في اللغة المرجع يقال آب الرجل إياباً وأوبة وأبية ومآبا قال الله تعالى إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ والمقصود من هذا الكلام بيان أن من آتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها إلى ما يكون فيه عمارة لمعاده ويتوصل بها إلى سعادة آخرته ثم لما كان الغرض الترغيب في المآب وصف المآب بالحسن
فإن قيل المآب قسما الجنة وهي في غاية الحسن والنار وهي خالية عن الحسن فكيف وصف المآب المطلق بالحسن
قلنا المآب المقصود بالذات هو الجنة فأما النار فهي المقصود بالغرض لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب كما قال سبقت رحمتي غضبي وهذا سر يطلع منه على أسرار غامضة
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَاالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَة ٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي أَؤُنَبّئُكُمْ بهمزتين واختلفت الرواية عن نافع وأبي عمرو
المسألة الثانية ذكروا في متعلق الاستفهام ثلاثة أوجه الأول أن يكون المعنى هل أؤنبئكم بخير

من ذلاكم ثم يبتدأ فيقال للذين اتقوا عند ربهم كذا وكذا والثاني هل أؤنبئكم بخير من ذلاكم للذين اتقوا ثم يبتدأ فيقال عند ربهم جنّات تجري والثالث هل أنبئكم بخير من ذلاكم للذين اتقوا عند ربهم ثم يبتدى فيقال جنّات تجري
المسألة الثالثة في وجه النظم وجوه الأول أنه تعالى لما قال وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ ( آل عمران 14 ) بيّن في هذه الآية أن ذلك المآب كما أنه حسن في نفسه فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا فقال قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ الثاني أنه تعالى لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها كما قال في آية أخرى وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( الأعلى 7 ) الثالث كأنه تعالى نبّه على أن أمرك في الدنيا وإن كان حسناً منتظماً إلا أن أمرك في الآخرة خير وأفضل والمقصود منه أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأوسع وأفسح من بطن الأم فكذلك الآخرة أطيب وأوسع وأفسح من الدنيا
المسألة الرابعة إنما قلنا إن نعم الآخرة خير من نعم الدنيا لأن نعم الدنيا مشوبة بالمضرة ونعم الآخرة خالية عن شوب المضار بالكلية وأيضاً فنعم الدنيا منقطعة لا محالة ونعم الآخرة باقية لا محالة
أما قوله تعالى لّلَّذِينَ اتَّقَواْ فقد بينا في تفسير قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) أن التقوى ما هي وبالجملة فإن الإنسان لا يكون متقياً إلا إذا كان آتياً بالواجبات متحرزاً عن المحظورات وقال بعض أصحابنا التقوى عبارة عن اتقاء الشرك وذلك لأن التقوى صارت في عرف القرآن مختصة بالإيمان قال تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى ( الفتح 26 ) وظاهر اللفظ أيضاً مطابق له لأن الاتقاء عن الشرك أعم من الاتقاء عن جميع المحظورات ومن الاتقاء عن بعض المحظورات لأن ماهية الاشتراك لا تدل على ماهية الامتياز فحقيقة التقوى وماهيتها حاصلة عند حصول الاتقاء عن الشرك وعرف القرآن مطابق لذلك فوجب حمله عليه فكان قوله لّلَّذِينَ اتَّقَواْ محمولاً على كل من اتقى الكفر بالله
أما قوله تعالى لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبّهِمْ ففيه احتمالان الأول أن يكون ذلك صفة للخير والتقدير هل أنبئكم بخير من ذلاكم عند ربهم للذين اتقوا والثاني أن يكون ذلك صفة للذين اتقوا والتقدير للذين اتقوا عند ربهم خير من منافع الدنيا ويكون ذلك إشارة إلى أن هذا الثواب العظيم لا يحصل إلا لمن كان متقياً عند الله تعالى فيخرج عنه المنافق ويدخل فيه من كان مؤمناً في علم الله
وأما قوله جَنَّاتُ فالتقدير هو جنّات وقرأ بعضهم جَنَّاتُ بالجر على البدل من خير واعلم أن قوله جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وصف لطيب الجنّة ودخل تحته جميع النعم الموجودة فيها من المطعم والمشرب والملبس والمفرش والمنظر وبالجملة فالجنة مشتملة على جميع المطالب كما قال تعالى فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( الزخرف 71 )
ثم قال خَالِدِينَ فِيهَا والمراد كون تلك النعم دائمة
ثم قال وَأَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ وقد ذكرنا لطائفها عند قوله تعالى في سورة البقرة وَلَهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ ( البقرة 25 ) وتحقيق القول فيه أن النعمة وإن عظمت فلن تتكامل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنس إلا بهن ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل مطلوب فقال مُّطَهَّرَة ٍ ويدخل في

ذلك الطهارة من الحيض والنفاس وسائر الأحوال التي تظهر عن النساء في الدنيا مما ينفر عنه الطبع ويدخل فيه كونهن مطهرات من الأخلاق الذميمة ومن القبح وتشويه الخلقة ويدخل فيه كونهن مطهرات من سوء العشرة
ثم قال تعالى وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ عاصم وَرِضْوَانٍ بضم الراء والباقون بكسرها أما الضم فهو لغة قيس وتميم وقال الفرّاء يقال رضيت رضا ورضوانا ومثل الراضون بالكسر الحرمان والقربان وبالضم الطغيان والرجحان والكفران والشكران
المسألة الثانية قال المتكلمون الثواب له ركنان أحدهما المنفعة وهي التي ذكرناها والثاني التعظيم وهو المراد بالرضوان وذلك لأن معرفة أهل الجنة مع هذا النعيم المقيم بأنه تعالى راض عنهم حامد لهم مثن عليهم أزيد في إيجاب السرور من تلك المنافع وأما الحكماء فإنهم قالوا الجنّات بما فيها إشارة إلى الجنة الجسمانية والرضوان فهو إشارة إلى الجنة الروحانية وأعلى المقامات إنما هو الجنة الروحانية وهو عبارة عن تجلي نور جلال الله تعالى في روح العبد واستغراق العبد في معرفته ثم يصير في أول هذه المقامات راضياً عن الله تعالى وفي آخرها مرضياً عند الله تعالى والله الإشارة بقوله رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً ( الفجر 28 ) ونظير هذه الآية قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ ( التوبة 72 )
ثم قال وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ أي عالم بمصالحهم فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختاره لهم من نعيم الآخرة وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في إعراب موضع الَّذِينَ يَقُولُونَ وجوه الأول أنه خفض صفة للذين اتقوا وتقدير الآية للذين اتقوا الذين يقولون ويجوز أن يكون صفة للعباد والتقدير والله بصير بالعباد وأولئك هم المتقون الذين لهم عند ربهم جنّات هم الذين يقولون كذا وكذا والثاني أن يكون نصباً على المدح والثالث أن يكون رفعاً على التخصيص والتقدير هم الذين يقول كذا وكذا
المسألة الثانية إعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا ثم إنهم قالوا بعد ذلك فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وذلك يدل على أنهم توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة والله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم فدل هذا على أن العبد بمجرد الإيمان يستوجب الرحمة والمغفرة من الله

تعالى فإن قالوا الإيمان عبارة عن جميع الطاعات أبطلنا ذلك عليهم بالدلائل المذكورة في تفسير قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وأيضاً فمن أطاع الله تعالى في جميع الأمور وتاب عن جميع الذنوب كان إدخاله النار قبيحاً من الله عندهم والقبيح هو الذي يلزم من فعله إما الجهل وإما الحاجة فهما محالان ومستلزم المحال محال فإدخال الله تعالى إياهم النار محال وما كان محال الوقوع عقلاً كان الدعاء والتضرع في أن لا يفعله الله عبثاً وقبيحاً ونظير هذه الآية قوله تعالى في آخر هذه السورة رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ( آل عمران 193 )
فإن قيل أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة حيث اتبع هذه الآية بقوله الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ ( آل عمران 17 )
قلنا تأويل هذه الآية ما ذكرناه وذلك لأنه تعالى جعل مجرّد الإيمان وسيلة إلى طلب المغفرة ثم ذكر بعدها صفات المطيعين وهي كونهم صابرين صادقين ولو كانت هذه الصفات شرائط لحصول هذه المغفرة لكان ذكرها قبل طلب المغفرة أولى فلما رتب طلب المغفرة على مجرد الإيمان ثم ذكر بعد ذلك هذه الصفات علمنا أن هذه الصفات غير معتبرة في حصول أصل المغفرة وإنما هي معتبرة في حصول كمال الدرجات
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاٌّ سْحَارِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى الصَّابِرِينَ قيل نصب على المدح بتقدير أعني الصابرين وقيل الصابرين في موضع جر على البدل من الذين
المسألة الثانية إعلم أنه تعالى ذكر ههنا صفات خمسة
الصفة الأولى كونهم صابرين والمراد كونهم صابرين في أداء الواجبات والمندوبات وفي ترك المحظورات وكونهم صابرين في كل ما ينزل بهم من المحن والشدائد وذلك بأن لا يجزعوا بل يكونوا راضين في قلوبهم عن الله تعالى كما قال الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَة ٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ ( البقرة 156 ) قال سفيان بن عيينة في قوله وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ ( السجدة 24 ) إن هذه الآية تدل على أنهم إنما استحقوا تلك الدرجات العالية من الله تعالى بسبب الصبر ويروى أنه وقف رجل على الشلبي فقال أي صبر أشد على الصابرين فقال الصبر في الله تعالى فقال لا فقال الصبر لله تعالى فقال لا فقال الصبر مع الله تعالى قال لا قال فايش قال الصبر عن الله تعالى فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف

وقد كثر مدح الله تعالى للصابرين فقال وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ ( البقرة 177 )
الصفة الثانية كونهم صادقين إعلم أن لفظ الصدق قد يجري على القول والفعل والنيّة فالصدق في القول مشهور وهو مجانبة الكذب والصدق في الفعل الإتيان به وترك الانصراف عنه قبل تمامه يقال صدق فلان في القتال وصدق في الحملة ويقال في ضده كذب في القتال وكذب في الحملة والصدق في النيّة إمضاء العزم والإقامة عليه حتى يبلغ الفعل
الصفة الثالثة كونهم قانتين وقد فسرناه في قوله تعالى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( البقرة 238 ) وبالجملة فهو عبارة عن الدوام على العبادة والمواظبة عليها
الصفة الرابعة كونهم منفقين ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه وأهله وأقاربه وصلة رحمه وفي الزكاة والجهاد وسائر وجوه البر
الصفة الخامسة كونهم مستغفرين بالأسحار والسحر الوقت الذي قبل طلوع الفجر وتسحر إذا أكل في ذلك الوقت واعلم أن المراد منه من يصلي بالليل ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء لأن الإنسان لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلّى قبل ذلك فقوله وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ يدل على أنهم كانوا قد صلوا بالليل واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان وفي كمال العبودية من وجوه الأول أن في وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل وبسبب طلوع نور الصبح كأن الأموات يصيرون أحياء فهناك وقت الجود العام والفيض التام فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير يطلع صبح العالم الصغير وهو ظهور نور جلال الله تعالى في القلب والثاني أن وقت السحر أطيب أوقات النوم فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة وأقبل على العبودية كانت الطاعة أكمل والثالث نقل عن ابن عباس وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ يريد المصلين صلاة الصبح
المسألة الثالثة قوله وَالصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ أكمل من قوله الذين يصبرون ويصدقون لأن قوله الصَّابِرِينَ يدل على أن هذا المعنى عادتهم وخلقهم وأنهم لا ينفكون عنها
المسألة الرابعة اعلم أن لله تعالى على عباده أنواعاً من التكليف والصابر هو من يصبر على أداء جميع أنواعها ثم إن العبد قد يلتزم من عند نفسه أنواعاً أُخر من الطاعات وإما بسبب الشروع فيه وكمال هذه المرتبة أنه إذا التزم طاعة أن يصدق نفسه في التزامه وذلك بأن يأتي بذلك للملتزم من غير خلل ألبتة ولما كانت هذه المرتبة متأخرة عن الأولى لا جرم ذكر سبحانه الصابرين أولاً ثم قال الصَّادِقِينَ ثانياً ثم إنه تعالى ندب إلى المواظبة على هذين النوعين من الطاعة فقال وَالْقَانِتِينَ فهذه الألفاظ الثلاثة للترغيب في المواظبة على جميع أنواع الطاعات ثم بعد ذلك ذكر الطاعات المعينة وكان أعظم الطاعات قدراً أمران أحدهما الخدمة بالمال وإليه الإشارة بقوله عليه السلام ( والشفقة على خلق الله ) فذكر هنا بقوله وَالْمُنَافِقِينَ والثانية الخدمة بالنفس وإليه الإشارة بقوله ( التعظيم لأمر الله ) فذكره هنا بقوله وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ

فإن قيل فلم قدم ههنا ذكر المنفقين على ذكر المستغفرين وأخر في قوله ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله )
قلنا لأن هذه الآية في شرح عروج العبد من الأدنى إلى الأشرف فلا جرم وقع الختم بذكر المستغفرين بالأسحار وقوله ( التعظيم لأمر الله ) في شرح نزول العبد من الأشرف إلى الأدنى فلا جرم كان الترتيب بالعكس
المسألة الرابعة هذه الخمسة إشارة إلى تعديد الصفات لموصوف واحد فكان الواجب حذف واو العطف عنها كما في قوله هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىء الْمُصَوّرُ ( الحشر 24 ) إلا أنه ذكر ههنا واو العطف وأظن والعلم عند الله أن كل من كان معه واحدة من هذه الخصال دخل تحت المدح العظيم واستوجب هذا الثواب الجزيل والله أعلم
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
إعلم أنه تعالى لما مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا ( آل عمران 16 ) أردفه بأن بيّن أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية فقال شَهِدَ اللَّهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى إعلم أن كل ما يتوقف العلم بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على العلم به فإنه لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية أما ما يكون كذلك فإنه يجوز إثباته بالدلائل السمعية وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم لكن العلم بصحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا يتوقف على العلم بكون الله تعالى واحداً فلا جرم يجوز إثبات كون الله تعالى واحداً بمجرد الدلائل السمعية القرآنية
إذا عرفت هذا فنقول ذكروا في قوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قولين أحدهما أن الشهادة من الله تعالى ومن الملائكة ومن أولي العلم بمعنى واحد الثاني أنه ليس كذلك أما القول الأول فيمكن تقريره من وجهين
الوجه الأول أن تجعل الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم أما من الله تعالى فقد أخبر في القرآن عن كونه واحداً لا إلاه معه وقد بينا أن التمسك بالدلالة السمعية في هذه المسألة جائز وأما من الملائكة وأولي العلم فكلهم أخبروا أيضاً أن الله تعالى واحد لا شريك له فثبت على هذا التقرير أن المفهوم من الشهادة معنى واحد في حق الله وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم

الوجه الثاني أن نجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان ثم نقول إنه تعالى أظهر ذلك وبينه بأن خلق ما يدل على ذلك أما الملائكة وأولوا العلم فقد أظهروا ذلك وبيّنوه بتقرير الدلائل والبراهين أما الملائكة فقد بيّنوا ذلك للرسل عليهم الصلاة والسلام والرسل للعلماء والعلماء لعامة الخلق فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان فالمفهوم الإظهار والبيان فهو مفهوم واحد في حق الله سبحانه وتعالى وفي حق أولي العلم فظهر أن المفهوم من الشهادة واحد على هذين الوجهين والمقصود من ذلك كأنه يقول للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله تعالى وشهادة جميع المعتبرين من خلقه ومثل هذا الدين المتين والمنهج القويم لا يضعف بخلاف بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان فاثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام
القول الثاني قول من يقول شهادة الله تعالى على توحيده عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك ولما كان كل واحد من هذين الأمرين يسمى شهادة لم يبعد أن يجمع بين الكل في اللفظ ونظيره قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً ( الأحزاب 56 ) ومعلوم أن الصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة ومن الملائكة غير الصلاة من الناس مع أنه قد جمعهم في اللفظ
فإن قيل المدعي للوحدانية هو الله فكيف يكون المدعي شاهداً
الجواب من وجوه الأول وهو أن الشاهد الحقيقي ليس إلا الله وذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده ولولا تلك الدلائل لما صحت الشهادة ثم بعد ذلك نصب تلك الدلائل هو الذي وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل ولولا تلك الدلائل التي نصبها الله تعالى وهدى إليها لعجزوا عن التوصل بها إلى معرفة التوحيد وإذا كان الأمر كذلك كان الشاهد على الوحدانية ليس إلا الله وحده ولهذا قال قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ ( الأنعام 19 )
الوجه الثاني في الجواب أنه هو الموجود أزلاً وأبداً وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدماً صرفاً ونفياً محضاً والعدم يشبه الغائب والموجود يشبه الحاضر فكل ما سواه فقد كان غائباً وبشهادة الحق صار شاهداً فكان الحق شاهداً عل الكل فلهذا قال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ
الوجه الثالث أن هذا وإن كان في صورة الشهادة إلا أنه في معنى الإقرار لأنه لما أخبر أنه لا إلاه سواه كان الكل عبيداً له والمولى الكريم لا يليق به أن لا يخل بمصالح العبيد فكان هذا الكلام جارياً مجرى الإقرار بأنه يجب وجوب الكريم عليه أن يصلح جهات جميع الخلق
الوجه الرابع في الجواب قرأ ابن عباس شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ بكسر أَنَّهُ ثم قرأ إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ( آل عمران 19 ) بفتح ءانٍ فعلى هذا يكون المعنى شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ويكون قوله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ اعتراضاً في الكلام واعلم أن الجواب لا يعتمد عليه لأن هذه القراءة غير مقبولة عند العلماء وبتقدير ءانٍ تكون مقبولة لكن القراءة الأولى متفق عليها فالإشكال الوارد عليها لا يندفع بسبب القراءة الأخرى

المسألة الثانية المراد من أُوْلِى الْعِلْمِ في هذه الآية الذين عرفوا وحدانيته بالدلائل القاطعة لأن الشهادة إنما تكون مقبولة إذا كان الإخبار مقروناً بالعلم ولذلك قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا علمت مثل الشمس فاشهد ) وهذا يدل على أن هذه الدرجة العالية والمرتبة الشريفة ليست إلا لعلماء الأصول
أما قوله تعالى قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قَائِمَاً بِالْقِسْطِ منتصب وفيه وجوه
الوجه الأول نصب على الحال ثم فيه وجوه أحدها التقدير شهد الله قائماً بالقسط وثانيها يجوز أن يكون حالا من هو تقديره لا إلاه إلا هو قائماً بالقسط ويسمى هذا حالاً مؤكدة كقولك أتانا عبد الله شجاعاً وكقولك لا رجل إلا عبد الله شجاعاً
الوجه الثاني أن يكون صفة المنفي كأنه قيل لا إلاه قائماً بالقسط إلا هو وهذا غير بعيد لأنهم يفصلون بين الصفة والموصوف
والوجه الثالث أن يكون نصباً على المدح
فإن قيل أليس من حق المدح أن يكون معرفة كقولك الحمد لله الحميد
قلنا وقد جاء نكرة أيضاً وأنشد سيبويه ويأوي إلى نسوة عطل
وشعثاً مراضع مثل السعالي
المسألة الثانية قوله قَائِمَاً بِالْقِسْطِ فيه وجهان الأول أنه حال من المؤمنين والتقدير وأولوا العلم حال كون كل واحد منهم قائماً بالقسط في أداء هذه الشهادة والثاني وهو قول جمهور المفسرين أنه حال من شَهِدَ اللَّهُ
المسألة الثالثة معنى كونه قَائِمَاً بِالْقِسْطِ قائماً بالعدل كما يقال فلان قائم بالتدبير أي يجريه على الاستقامة
واعلم أن هذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا ومنه ما هو متصل بباب الدين أما المتصل بالدين فانظر أولاً في كيفية خلقة أعضاء الإنسان حتى تعرف عدل الله تعالى فيها ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح والغنى والفقر والصحة والسقم وطول العمر وقصره واللذة والآلام واقطع بأن كل ذلك عدل من الله وحكمة وصواب ثم انظر في كيفية خلقة العناصر وأجرام الأفلاك وتقدير كل واحد منها بقدر معين وخاصية معينة واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب أما ما يتصل بأمر الدين فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل والفطانة والبلادة والهداية والغواية واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط ولقد خاض صاحب ( الكشاف ) ههنا في التعصب للاعتزال وزعم أن الآية دالة على أن الإسلام هو العدل والتوحيد وكان ذلك المسكين بعيداً عن معرفة هذه الأشياء إلا أنه فضولي كثير الخوض فيما لا يعرف وزعم أن الآية دلّت على أن من أجاز الرؤية أو ذهب إلى الجبر لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام والعجب أن أكابر المعتزلة وعظماءهم أفنوا أعمارهم في طلب الدليل على أنه لو كان مرئياً لكان جسماً وما وجدوا فيه سوى الرجوع إلى الشاهد من غير جامع عقلي قاطع فهذا المسكين الذي ما شم رائحة العلم من أين وجد ذلك

وأما حديث الجبر فالخوض فيه من ذلك المسكين خوض فيما لا يعنيه لأنه لما اعترف بأن الله تعالى عالم بجميع الجزئيات واعترف بأن العبد لا يمكنه أن يقلب علم الله جهلاً فقد اعترف بهذا الجبر فمن أين هو والخوض في أمثال هذه المباحث
ثم قال الله تعالى لاَ إله إِلاَّ هُوَ والفائدة في إعادته وجوه الأول أن تقدير الآية شهد الله أنه لا إلاه إلا هو وإذا شهد بذلك فقد صح أنه لا إلاه إلا هو ونظيره قول من يقول الدليل دلّ على وحدانية الله تعالى ومتى كان كذلك صح القول بوحدانية الله تعالى الثاني أنه تعالى لما أخبر أن الله شهد أنه لا إلاه إلا هو وشهدت الملائكة وأولوا العلم بذلك صار التقدير كأنه قال يا أمة محمد فقولوا أنتم على وفق شهادة الله وشهادة الملائكة وأولي العلم لاَ إله إِلاَّ هُوَ فكان الغرض من الإعادة الأمر بذكر هذه الكلمة على وفق تلك الشهادات الثالث فائدة هذا التكرير الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون أبداً في تكرير هذه الكلمة فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان هي هذه الكلمة فإذا كان في أكثر الأوقات مشتغلاً بذكرها وبتكريرها كان مشتغلاً بأعظم أنواع العبادات فكان الغرض من التكرير في هذه الآية حث العباد على تكريرها الرابع ذكر قوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ أولاً ليعلم أنه لا تحق العبادة إلا لله تعالى وذكرها ثانيا ليعلم أنه القائم بالقسط لا يجور ولا يظلم
أما قوله العَزِيزُ الحَكِيمُ فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والحكيم إشارة إلى كمال العلم وهما الصفتان اللتان يمتنع حصول الإلاهية إلا معهما لأن كونه قائماً بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالماً بمقادير الحاجات وكان قادراً على تحصيل المهمات وقدم العزيز على الحكيم في الذكر لأن العلم بكونه تعالى قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الإستدلالية فلما كان مقدماً في المعرفة الإستدلالية وكان هذا الخطاب مع المستدلين لا جرم قدم تعالى ذكر العزيز على الحكيم
إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اتفق القرّاء على كسر ءانٍ إلا الكسائي فإنه فتح ءانٍ وقراءة الجمهور ظاهرة لأن الكلام الذي قبله قد تم وأما قراءة الكسائي فالنحويون ذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول أن التقدير شهد الله أنه لا إلاه إلا هو أن الدين عند الله الإسلام وذلك لأن كونه تعالى واحداً موجب أن يكون الدين الحق هو الإسلام لأن دين الإسلام هو المشتمل على هذه الوحدانية والثاني أن التقدير شهد الله أنه لا إلاه إلا هو وأن الدين عند الله الإسلام الثالث وهو قول البصريين أن يجعل الثاني بدلاً من الأول ثم إن قلنا بأن دين الإسلام مشتمل على التوحيد نفسه كان هذا من باب قولك ضربت زيداً نفسه وإن قلنا دين الإسلام مشتمل على التوحيد كان هذا من باب بدل الاشتمال كقولك ضربت زيداً رأسه
فإن قيل فعلى هذا الوجه وجب أن لا يحسب إعادة اسم الله تعالى كما يقال ضربت زيداً رأس زيد
قلنا قد يظهرون الاسم في موضع الكناية قال الشاعر

لا أرى الموت يسبق الموت شي
وأمثاله كثيرة
المسألة الثانية في كيفية النظم من قرأ إِنَّ الدّينَ بفتح ءانٍ كان التقدير شهد الله لأجل أنه لا إلاه إلا هو أن الدين عند الله الإسلام فإن الإسلام إذا كان هو الدين المشتمل على التوحيد والله تعالى شهد بهذه الوحدانية كان اللازم من ذلك أن يكون الدين عند الله الإسلام ومن قرأ إِنَّ الدّينَ بكسر الهمزة فوجه الاتصال هو أنه تعالى بيّن أن التوحيد أمر شهد الله بصحته وشهد به الملائكة وأولوا العلم ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يقال إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ
المسألة الثالثة أصل الدين في اللغة الجزاء ثم الطاعة تسمى ديناً لأنها سبب الجزاء وأما الإسلام ففي معناه في أصل اللغة أوجه الأول أنه عبارة عن الدخول في الإسلام أي في الانقياد والمتابعة قال تعالى وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ ( النساء 94 ) أي لمن صار منقاداً لكم ومتابعاً لكم والثاني من أسلم أي دخل في السلم كقولهم أسنى وأقحط وأصل السلم السلامة الثالث قال ابن الأنباري المسلم معناه المخلص لله عبادته من قولهم سلم الشيء لفلان أي خلص له فالإسلام معناه إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى هذا ما يتعلق بتفسير لفظ الإسلام في أصل اللغة أما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان والدليل عليه وجهان الأول هذه الآية فإن قوله إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ يقتضي أن يكون الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام فلو كان الإيمان غير الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله ولا شك في أنه باطل الثاني قوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ( آل عمران 85 ) فلو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله تعالى
فإن قيل قوله تعالى قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ( الحجرات 14 ) هذا صريح في أن الإسلام مغاير للإيمان
قلنا الإسلام عبارة عن الانقياد في أصل اللغة على ما بينا والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف فلا جرم كان الإسلام حاصلاً في حكم الظاهر والإيمان كان أيضاً حاصلاً في حكم الظاهر لأنه تعالى قال وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) والإيمان الذي يمكن إدارة الحكم عليه هو الإقرار الظاهر فعلى هذا الإسلام والإيمان تارة يعتبران في الظاهر وتارة في الحقيقة والمنافق حصل له الإسلام الظاهر ولم يحصل له الإسلام الباطن لأن باطنه غير منقاد لدين الله فكان تقدير الآية لم تسلموا في القلب والباطن ولكن قولوا أسلمنا في الظاهر والله أعلم
أما قوله تعالى وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ فيه مسائل

المسألة الأولى الغرض من الآية بيان إن الله تعالى أوضح الدلائل وأزال الشبهات والقوم ما كفروا إلا لأجل التقصير فقوله وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ فيه وجوه الأول المراد بهم اليهود واختلافهم أن موسى عليه السلام لما قربت وفاته سلم التوراة إلى سبعين حبراً وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع فلما مضى قرن بعد قرن اختلف أبناء السبعين من بعد ما جاءهم العلم في التوراة بغياً بينهم وتحاسدوا في طلب الدنيا والثاني المراد النصارى واختلافهم في أمر عيسى عليه السلام بعد ما جاءهم العلم بأنه عبد الله ورسوله والثالث المراد اليهود والنصارى واختلافهم هو أنه قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وأنكروا نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا نحن أحق بالنبوّة من قريش لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب
المسألة الثانية قوله إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ المراد منه إلا من بعد ما جاءتهم الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم لأنا لو حملناه على العلم لصاروا معاندين والعناد على الجمع العظيم لا يصح وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب وهم جمع عظيم
المسألة الثالثة في انتصاب قوله بَغِيّاً وجهان الأول قول الأخفش إنه انتصب على أنه مفعول له أي للبغي كقولك جئتك طلب الخير ومنع الشر والثاني قول الزجاج إنه انتصب على المصدر من طريق المعنى فإن قوله وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ قائم مقام قوله وما بغى الذين أوتوا الكتاب فجعل بَغِيّاً مصدراً والفرق بين المفعول له وبين المصدر أن المفعول له غرض للفعل وأما المصدر فهو المفعول المطلق الذي أحدثه الفاعل
المسألة الرابعة قال الأخفش قوله بَغْياً بَيْنَهُمْ من صلة قوله اخْتَلَفَ والمعنى وما اختلفوا بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم وقال غيره المعنى وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم إلا للبغي بينهم فيكون هذا إخباراً عن أنهم إنما اختلفوا للبغي وقال القفال وهذا أجود من الأول لأن الأول يوهم أنهم اختلفوا بسبب ما جاءهم من العلم والثاني يفيد أنهم إنما اختلفوا لأجل الحسد والبغي
ثم قال تعالى وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ وهذا تهديد وفيه وجهان الأول المعنى فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعاً فيحاسبه أي يجزيه على كفره والثاني أن الله تعالى سيعلمه بأعماله ومعاصيه وأنواع كفره بإحصاء سريع مع كثرة الأعمال
فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالاٍّ مِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ

إعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل أن أهل الكتاب اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم وأنهم أصروا على الكفر مع ذلك بيّن الله تعالى للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ما يقوله في محاجتهم فقال فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وفي كيفية إيراد هذا الكلام طريقان
الطريق الأول أن هذا إعراض عن المحاجة وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مراراً وأطواراً فإن هذه السورة مدنيّة وكان قد أظهر لهم المعجزات بالقرآن ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها وأيضاً قد ذكر قبل هذه الآية آيات دالة على صحة دينه فأولها أنه تعالى ذكر الحجة بقوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ على فساد قول النصارى في إلاهية عيسى عليه السلام وبقوله نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ ( آل عمران 3 ) على صحة النبوّة وذكر شبه القوم وأجاب عنها بأسرها على ما قررناه فيما تقدم ثم ذكر لهم معجزة أخرى وهي المعجزات التي شاهدوها يوم بدر على ما بيناه في تفسير قوله تعالى قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ( آل عمران 13 ) ثم بيّن صحة القول بالتوحيد ونفى الضد والند والصاحبة والولد بقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ ( آل عمران 18 ) ثم بيّن تعالى أن ذهاب هؤلاء اليهود والنصارى عن الحق واختلافهم في الدين إنما كان لأجل البغي والحسد وذلك ما يحملهم على الانقياد للحق والتأمل في الدلائل لو كانوا مخلصين فظهر أنه لم يبق من أسباب إقامة الحجة على فرق الكفار شيء إلا وقد حصل فبعد هذا قال فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل وإيضاح البينات فإن تركتم الأنف والحسد وتمسكتم بها كنتم أنتم المهتدين وإن أعرضتم فإن الله تعالى من وراء مجازاتكم وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام فإن المحق إذا ابتلى بالمبطل اللجوج وأورد عليه الحجة حالاً بعد حال فقد يقول في آخر الأمر أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق مستسلمون له مقبلون على عبودية الله تعالى فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد فهذا الطريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه
الطريق الثاني وهو أن نقول إن قوله أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ محاجة وإظهار للدليل وبيانه من وجوه
الوجه الأول أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقاً للعبادة فكأنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم هذا متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه وداع للخلق إليه وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك وأنتم المدعون فعليكم الاثبات فإن اليهود يدعون التشبيه والجسمية والنصارى يدعون إلاهية عيسى والمشركين يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها وأما أنا فلا أدعي إلا وجوب طااعة الله تعالى وعبوديته وهذا القدر متفق عليه ونظيره هذه الآية قوله تعالى بِالْمُفْسِدِينَ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَة ٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ( آل عمران 64 )
والوجه الثاني في كيفية الاستدلال ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه والإقرار بأنه كان محقاً في قوله صادقاً في دينه إلا في زيادات من الشرائع والأحكام فأمر الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يتبع ملته فقال ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ

اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( النحل 123 ) ثم إنه تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قال إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 79 ) فقول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ كقول إبراهيم عليه السلام وَجَّهْتُ وَجْهِى َ أي اعترضت عن كل معبود سوى الله تعالى وقصدته بالعبادة وأخلصت له فتقدير الآية كأنه تعالى قال فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل أنا مستمسك بطريقة إبراهيم وأنتم معترفون بأن طريقته حقة بعيدة عن كل شبهة وتهمة فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات وداخلاً تحت قوله وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 )
والوجه الثالث في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي عند كتبة هذا الموضع وهو أنه ادعى قبل هذه الآية أن الدين عند الله الإسلام لا غير ثم قال فَإنْ حَاجُّوكَ يعني فإن نازعوك في قولك إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ( آل عمران 19 ) فقل الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله وذلك لأن المقصود من الدين إنما هو الوفاء بلوازم الربوبية فإذا أسلمت وجهي لله فلا أعبد غيره ولا أتوقع الخير إلا منه ولا أخاف إلا من قهره وسطوته ولا أشرك به غيره كان هذا هو تمام الوفاء بلوازم الربوبية والعبودية فصح أن الدين الكامل هو الإسلام وهذا الوجه يناسب الآية
الوجه الرابع في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي أن هذه الآية مناسبة لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) يعني لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعاً ضاراً ويكون أمري في يديه وحكمي في قبضة قدرته فإن كان كل واحد يعلم أن عيسى ما كان قادراً على هذه الأشياء امتنع في العقل أن أسلم له وأن انقاد له وإنما أسلم وجهي للذي منه الخير والشر والنفع والضر والتدبير والتقدير
الوجه الخامس يحتمل أيضاً أن يكون هذا الكلام إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 ) وهذا مروي عن ابن عباس
أما قوله أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ ففيه وجوه الأول قال الفرّاء أسلمت وجهي لله أي أخلصت عملي لله يقال أسلمت الشيء لفلان أي أخلصته له ولم يشاركه غيره قال ويعني بالوجه ههنا العمل كقوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ( الكهف 28 ) أي عبادته ويقال هذا وجه الأمر أي خالص الأمر وإذا قصد الرجل غيره لحاجة يقول وجهت وجهي إليك ويقال للمنهمك في الشيء الذي لا يرجع عنه مرّ على وجهه الثاني أسلمت وجهي لله أي أسلمت وجه عملي لله والمعنى أن كل ما يصدر مني من الأعمال فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله تعالى والانقياد لإلاهيته وحكمه الثالث أسلمت وجهي لله أي أسلمت نفسي لله وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس لله فيصير كأنه موقوف على عبادته عادل عن كل ما سواه
وأما قوله وَمَنِ اتَّبَعَنِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى حذف عاصم وحمزة والكسائي الياء من اتبعن اجتزاء بالكسر واتباعاً للمصحف وأثبته الآخرون على الأصل

المسألة الثانية مِنْ في محل الرفع عطفاً على التاء في قوله أَسْلَمْتُ أي ومعنى اتبعني أسلم أيضاً
فإن قيل لم قال أسلمت ومن اتبعن ولم يقل أسلمت أنا ومن اتبعن
قلنا إن الكلام طال بقوله وَجْهِى َ للَّهِ فصار عوضاً من تأكيد الضمير المتصل ولو قيل أسلمت وزيد لم يحسن حتى يقال أسلمت أنا وزيد ولو قال أسلمت اليوم بانشراح صدر ومن جاء معي جاز وحسن
ثم قال تعالى وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالاْمّيّينَ ءأَسْلَمْتُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه الآية متناولة لجميع المخالفين لدين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأن منهم من كان من أهل الكتاب سواء كان محقاً في تلك الدعوى كاليهود والنصارى أو كان كاذباً فيه كالمجوس ومنهم من لم يكن من أهل الكتاب وهم عبدة الأوثان
المسألة الثانية إنما وصف مشركي العرب بأنهم أميون لوجهين الأول أنهم لما لم يدعوا الكتاب الإلاهي وصفوا بأنهم أُميون تشبيهاً بمن لا يقرأ ولا يكتب والثاني أن يكون المراد أنهم ليسوا من أهل القراءة والكتابة فهذه كانت صفة عامتهم وإن كان فيهم من يكتب فنادر من بينهم والله أعلم
المسألة الثالثة دلّت هذه الآية على أن المراد بقوله فَانٍ عام في كل الكفار لأنه دخل كل من يدعي الكتاب تحت قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ودخل من لا كتاب له تحت قوله الامّيّينَ
ثم قال الله تعالى ءأَسْلَمْتُمْ فهو استفهام في معرض التقرير والمقصود منه الأمر قال النحويون إنما جاء بالأمر في صورة الاستفهام لأنه بمنزلته في طلب الفعل والاستدعاء إليه إلا أن في التعبير عن معنى الأمر بلفظ الاستفهام فائدة زائدة وهي التعبير بكون المخاطب معانداً بعيداً عن الانصاف لأن المنصف إذا ظهرت له الحجة لم يتوقف بل في الحال يقبل ونظيره قولك لمن لخصت له المسألة في غاية التلخيص والكشف والبيان هل فهمتها فإن فيه الإشارة إلى كون المخاطب بليداً قليل الفهم وقال الله تعالى في آية الخمر فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ( المائدة 91 ) وفيه إشارة إلى التقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهى عنه
ثم قال الله تعالى فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وذلك لأن هذا الإسلام تمسك بما هدي إليه والمتمسك بهداية الله تعالى يكون مهتدياً ويحتمل أن يريد فقد اهتدوا للفوز والنجاة في الآخرة إن ثبتوا عليه ثم قال وَإِن تَوَلَّوْاْ عن الإسلام واتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ والغرض منه تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتعريفه أن الذي عليه ليس إلا إبلاغ الأدلة وإظهار الحجة فإذا بلغ ما جاء به فقد أدى ما عليه وليس عليه قبولهم ثم قال وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ وذلك يفيد الوعد والوعيد وهو ظاهر

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَائِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ
إعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل حال من يعرض ويتولى بقوله أَن تُوَلُّواْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ أردفه بصفة هذا المتولي فذكر ثلاثة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
فإن قيل ظاهر الآية يقتضي كونهم كافرين بجميع آيات الله واليهود والنصارى ما كانوا كذلك لأنهم كانوا مقرين بالصانع وعلمه وقدرته والمعاد
قلنا الجواب من وجهين الأول أن نصرف آيات الله إلى المعهود السابق وهو القرآن ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني أن نحمله على العموم ونقول إن من كذب بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يلزمه أن يكذب بجميع آيات الله تعالى لأن من تناقض لا يكون مؤمناً بشيء من الآيات إذ لو كان مؤمناً بشيء منها لآمن بالجميع
الصفة الثانية قوله تعالى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الحسن وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وهو للمبالغة
المسألة الثانية روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة قال رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقرأ هذه الآية ثم قال يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّاً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل وإثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله تعالى وأيضاً القوم قتلوا يحيى بن ذكريا وزعموا أنهم قتلوا عيسى بن مريم فعلى قولهم ثبت أنهم كانوا يقتلون الأنبياء
وفي الآية سؤالات
السؤال الأول إذا كان قوله إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ في حكم المستقبل لأنه وعيد لمن كان في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط فكيف يصح ذلك
والجواب من وجهين الأول أن هذه الطريقة لما كانت طريقة أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم إذ كانوا مصوبين وبطريقتهم راضين فإن صنع الأب قد يضاف إلى الابن إذا كان راضياً به وجارياً على طريقته الثاني إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقتل والمؤمنين إلا أنه تعالى عصمه منهم فلما كانوا في

غاية الرغبة في ذلك صح إطلاق هذا الاسم عليهم على سبيل المجاز كما يقال النار محرقة والسم قاتل أي ذلك من شأنهما إذا وجد القابل فكذا ههنا لا يصح أن يكون إلا كذلك
السؤال الثاني ما الفائدة في قوله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وقتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك
والجواب ذكرنا وجوه ذلك في سورة البقرة والمراد منه شرح عظم ذنبهم وأيضاً يجوز أن يكون المراد أنهم قصدوا بطريقة الظلم في قتلهم طريقة العدل
السؤال الثالث قوله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ ظاهره مشعر بأنهم قتلوا الكل ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل ولا الأكثر ولا النصف
والجواب الألف واللام محمولان على المعهود لا على الاستغراق
الصفة الثالثة قوله وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة وحده ويقاتلون بالألف والباقون اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ وهما سواء لأنهم قد يقاتلون فيقتلون بالقتال وقد يقتلون ابتداء من غير قتال وقرأ أُبي وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ
المسألة الثانية قال الحسن هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوف تلي منزلته في العظم منزلة الأنبياء وروي أن رجلاً قام إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أي الجهاد أفضل فقال عليه الصلاة والسلام ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر )
واعلم أنه تعالى كما وصفهم بهذه الصفات الثلاثة فقد ذكر وعيدهم من ثلاثة أوجه الأول قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما دخلت الفاء في قوله فَبَشّرْهُم مع أنه خبران لأنه في معنى الجزاء والتقدير من يكفر فبشرهم
المسألة الثانية هذا محمول على الاستعارة وهو أن إنذار هؤلاء بالعذاب قائم مقام بشرى المحسنين بالنعيم والكلام في حقيقة البشارة تقدم في قوله تعالى وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( البقرة 25 )
النوع الثاني من الوعيد قوله أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ
إعلم أنه تعالى بيّن بهذا أن محاسن أعمال الكفار محبطة في الدنيا والآخرة أما الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي وأخذ الأموال منهم غنيمة والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم وأما حبوطها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب
النوع الثالث من وعيدهم قوله تعالى وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ
إعلم أنه تعالى بيّن بالنوع الأول من الوعيد اجتماع أسباب الآلام والمكروهات في حقهم وبيّن بالنوع الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وبيّن بهذا الوجه الثالث لزوم ذلك في حقهم على وجه لا يكون لهم ناصر ولا دافع والله أعلم
( 23 )

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
إعلم أنه تعالى لما نبّه على عناد القوم بقوله فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ ( آل عمران 20 ) بيّن في هذه الآية غاية عنادهم وهو أنهم يدعون إلى الكتاب الذي يزعمون أنهم يؤمنون به وهو التوراة ثم إنهم يتمردون ويتولون وذلك يدل على غاية عنادهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ظاهر قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ يتناول كلهم ولا شك أن هذا مذكور في معرض الذم إلا أنه قد دلّ دليل آخر على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك لأنه تعالى يقول مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ( آل عمران 113 )
المسألة الثانية قوله تعالى أوتوا نصيباً من الكتاب المراد به غير القرآن لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار وهم اليهود والنصارى وإذا كان كذلك وجب حمله على الكتاب الذي كانوا مقرين بأنه حق ومن عند الله
المسألة الثالثة ذكروا في سبب النزول وجوهاً أحدها روي عن ابن عباس أن رجلاً وامرأة من اليهود زنيا وكانا ذوي شرف وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فرجعوا في أمرهما إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم فحكم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالرجم فأنكروا ذلك فقال عليه الصلاة والسلام بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم فمن أعلمكم قالوا عبد الله بن صوريا الفدكي فأتوا به وأحضروا التوراة فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها فقال ابن سلام قد جاوز موضعها يا رسول الله فرفع كفه عنها فوجدوا آية الرجم فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بهما فرجما فغضبت اليهود لعنهم الله لذلك غضباً شديداً فأنزل الله تعالى هذه الآية
والرواية الثانية أنه ( صلى الله عليه وسلم ) دخل مدرسة اليهود وكان فيها جماعة منهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا على أي دين أنت فقال على ملة إبراهيم فقالوا إن إبراهيم كان يهودياً فقال ( صلى الله عليه وسلم ) هلموا إلى التوراة فأبوا ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية
والرواية الثالثة أن علامات بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مذكورة في التوراة والدلائل الدالة على صحة نبوّته

موجودة فيها فدعاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى التوراة وإلى تلك الآيات الدالة على نبوّته فأبوا فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى أنهم إذا أبوا أن يجيبوا إلى التحاكم إلى كتابهم فلا تعجب من مخالفتهم كتابك فلذلك قال الله تعالى قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ( آل عمران 93 ) وهذه الآية على هذه الرواية دلّت على أنه وجد في التوراة دلائل صحة نبوّته إذ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوّته لسارعوا إلى بيان ما فيها ولكنهم أسروا ذلك
والرواية الرابعة أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى وذلك لأن دلائل نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانت موجودة في التوراة والإنجيل وكانوا يدعون إلى حكم التوراة والإنجيل وكانوا يأبون
أما قوله نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ فالمراد منه نصيباً من علم الكتاب لأنا لو أجريناه على ظاهره فهم أنهم قد أوتوا كل الكتاب والمراد بذلك العلماء منهم وهم الذين يدعون إلى الكتاب لأن من لا علم له بذلك لا يدعي إليه
أما قوله تعالى يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ففيه قولان
القول الأول وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما والحسن أنه القرآن
فإن قيل كيف دعوا إلى حكم كتاب لا يؤمنون به
قلنا إنهم إنما دعوا إليه بعد قيام الحجج الدالة على أنه كتاب من عند الله
والقول الثاني وهو قول أكثر المفسرين إنه التوراة واحتج القائلون به بوجوه الأول أن الروايات المذكورة في سبب النزول دالة على أن القوم كانوا يدعون إلى التوراة فكانوا يأبون والثاني أنه تعالى عجب رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) من تمردهم وإعراضهم والتعجب إنما يحصل إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون في صحته ويقرون بحقيته الثالث أن هذا هو المناسب لما قبل الآية وذلك لأنه تعالى لما بيّن أنه ليس عليه إلا البلاغ وصبره على ما قالوه في تكذيبه مع ظهور الحجة بيّن أنهم إنما استعملوا طريق المكابرة في نفس كتابهم الذي أقروا بصحته فستروا ما فيه من الدلائل الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا يدل على أنهم في غاية التعصب والبعد عن قبول الحق
وأما قوله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فالمعنى ليحكم الكتاب بينهم وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور وقرىء لِيَحْكُمَ على البناء للمفعول قال صاحب ( الكشاف ) وقوله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ يقتضي أن يكون الاختلاف واقعاً فيما بينهم لا فيما بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم بيّن الله أنهم عند الدعاء يتولى فريق منهم وهم الرؤساء الذين يزعمون أنهم هم العلماء
ثم قال وَهُم مُّعْرِضُونَ وفيه وجهان
الأول المتولون هم الرؤساء والعلماء والمعرضون الباقون منهم كأنه قيل ثم يتولى العلماء والأتباع معرضون عن القبول من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأجل تولي علمائهم
والثاني أن المتولي والمعرض هو ذلك الفريق والمعنى أنه متولي عن استماع الحجة في ذلك المقام ومعرض عن استماع سائر الحجج في سائر المسائل والمطالب كأنه قيل لا تظن أنه تولى عن هذه

المسأُلة بل هو معرض عن الكل
وأما قوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( آل عمران 24 ) فالكلام في تفسيره قد تقدم في سورة البقرة ووجه النظم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ قال في هذه الآية ذلك التولي والإعراض إنما حصل بسبب أنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات قال الجبائي وفيها دلالة على بطلان قول من يقول إن أهل النار يخرجون من النار قال لأنه لو صحّ ذلك في هذه الأمة لصح في سائر الأمم ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المخبر بذلك كاذباً ولما استحق الذم فلما ذكر الله تعالى ذلك في معرض الذم علمنا أن القول بخروج أهل النار قول باطل
وأقول كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام وذلك لأن مذهبه أن العفو حسن جائز من الله تعالى وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفو في هذه الأمة حصوله في سائر الأمم
سلمنا أنه يلزم ذلك لكن لم قلتم إن القوم إنما استحقوا الذم على مجرد الإخبار بأن الفاسق يخرج من النار بل ههنا وجوه أُخر الأول لعلمهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسق قصيرة قليلة فإنه روي أنهم كانوا يقولون مدة عذابنا سبعة أيام ومنهم من قال بل أربعون ليلة على قدر مدة عبادة العجل والثاني أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين ويقولون بتقدير وقوع الخطأ منا فإن عذابنا قليل وهذا خطأ لأن عندنا المخطىء في التوحيد والنبوّة والمعاد عذابه دائم لأنه كافر والكافر عذابه دائم والثالث أنهم لما قالوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ فقد استحقروا تكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) واعتقدوا أنه لا تأثير له في تغليظ العقاب فكان ذلك تصريحاً بتكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك كفر والكافر المصر على كفره لا شك أن عذابه مخلد وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ثبت أن احتجاج الجبائي بهذه الآية ضعيف وتمام الكلام على سبيل الاستقصاء مذكور في سورة البقرة
أما قوله تعالى وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فاعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فقيل هو قولهم نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) وقيل هو قولهم لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ وقيل غرهم قولهم نحن على الحق وأنت على الباطل
أما قوله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ رَيْبَ فِيهِ فالمعنى أنه تعالى لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بيّن أنه سيجيء يوم يزول فيه ذلك الجهل ويكشف فيه ذلك الغرور فقال فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وفي الكلام حذف والتقدير فكيف صورتهم وحالهم ويحذف الحال كثيراً مع كيف لدلالته عليها تقول كنت أكرمه وهو لم يزرني فكيف لو زارني أي كيف حاله إذا زارني واعلم أن هذا الحذف يوجب مزيد البلاغة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة في قول القائل لو زارني وكل نوع من أنواع العذاب في هذه الآية
أما قوله تعالى إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ ولم يقل في يوم لأن المراد لجزاء يوم أو لحساب يوم فحذف المضاف ودلّت اللام عليه قال الفرّاء اللام لفعل مضمر إذا قلت جمعوا ليوم الخميس كان المعنى جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس وإذا قلت جمعوا في يوم الخميس لم تضمر فعلاً وأيضاً فمن المعلوم

أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة وإظهار الفرق بين المثاب والمعاقب وقوله لاَ رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه
ثم قال وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ فإن حملت ما كسبت على عمل العبد جعل في الكلام حذف والتقدير ووفيت كل نفس جزاء ما كسبت من ثواب أو عقاب وإن حملت ما كسبت على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار
ثم قال وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ فلا ينقص من ثواب الطاعات ولا يزاد على عقاب السيئات
واعلم أن قوله وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ يستدل به القائلون بالوعيد ويستدل به أصحابنا القائلون بأن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة لا يخلد في النار أما الأولون قالوا لأن صاحب الكبيرة لا شك أنه مستحق العقاب بتلك الكبيرة والآية دلّت على أن كل نفس توفي عملها وما كسبت وذلك يقتضي وصول العقاب إلى صاحب الكبيرة
وجوابنا أن هذا من العمومات وقد تكلمنا في تمسك المعتزلة بالعمومات
وأما أصحابنا فإنهم يقولون إن المؤمن استحق ثواب الإيمان فلا بد وأن يوفي عليه ذلك الثواب لقوله وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ فإما أن يثاب في الجنة ثم ينقل إلى دار العقاب وذلك باطل بالإجماع وإما أن يقال يعاقب بالنار ثم ينقل إلى دار الثواب أبداً مخلداً وهو المطلوب
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إن ثواب إيمانهم يحبط بعقاب معصيتهم
قلنا هذا باطل لأنا بينا أن القول بالمحابطة محال في سورة البقرة وأيضاً فإنا نعلم بالضرورة أن ثواب توحيد سبعين سنة أزيد من عقاب شرب جرعة من الخمر والمنازع فيه مكابر فبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط كل ثواب الإيمان بعقاب شرب جرعة من الخمر وكان يحيى بن معاذ رحمة الله عليه يقول ثواب إيمان لحظة يسقط كفر سبعين سنة فثواب إيمان سبعين سنة كيف يعقل أن يحبط بعقاب ذنب لحظة ولا شك أنه كلام ظاهر

بداية الجزء الثامن من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ الَّيْلَ فِى الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَى ِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
إعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوّة وصحة دين الإسلام ثم قال لرسوله فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ثم ذكر من صفات المخالفين كفرهم بالله وقتلهم الأنبياء والصالحين بغير حق وذكر شدة عنادهم وتمردهم في قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ ( آل عمران 23 ) ثم ذكر شدة غرورهم بقوله لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( آل عمران 24 ) ثم ذكر وعيدهم بقوله فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ( آل عمران 25 ) أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بدعاء وتمجيد يدل على مباينة طريقه وطريق أتباعه لطريقة هؤلاء الكافرين المعاندين المعرضين فقال معلماً نبيّه كيف يمجد ويعظم ويدعو ويطلب قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلف النحويون في قوله اللَّهُمَّ فقال الخليل وسيبويه اللَّهُمَّ معناه يا الله والميم المشددة عوض من يا وقال الفرّاء كان أصلها يا الله أم بخير فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء وحذفوا الهمزة من أم فصار اللَّهُمَّ ونظيره قول العرب هلم والأصل هل فضم أم إليها حجة الأولين على فساد قول الفرّاء وجوه الأول لو كان الأمر على ما قاله الفراء لما صحّ أن يقال اللّهم افعل كذا إلا بحرف العطف لأن التقدير يا الله أمنا واغفر لنا ولم نجد أحداً يذكر هذا الحرف العاطف والثاني وهو حجة الزجاج أنه لو كان الأمر كما قال لجاز أن يتكلم به على أصله فيقال اللَّهِ إِمَّا كما يقال ويلم ثم يتكلم به على الأصل فيقال وَيْلٌ أُمُّهُ الثالث لو كان الأمر على ما قاله الفراء لكان حرف النداء محذوفاً فكان يجوز أن يقال يا اللّهم فلما لم يكن هذا جائزاً علمنا فساد قول الفراء بل نقول كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً كما يقال يا الله اغفر لي وأجاب الفراء عن هذه الوجوه فقال أما الأول فضعيف لأن قوله لاْمْرِ اللَّهِ إِمَّا معناه يا الله اقصد فلو قال واغفر لكان المعطوف مغايراً للمعطوف عليه فحينئذ يصير السؤال سؤالين أحدهما قوله مِنَ والثاني قوله وَاغْفِرْ لَنَا أما إذا حذفنا العطف صار

قوله اغفر لنا تفسيراً لقوله أمنا فكان المطلوب في الحالين شيئاً واحداً فكان ذلك آكد ونظائره كثيرة في القرآن وأما الثاني فضعيف أيضاً لأن أصله عندنا أن يقال يا الله أمنا ومن الذي ينكر جواز التكلم بذلك وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامة الفرع مقام الأصل ألا ترى أن مذهب الخليل وسيبويه أن قوله ما أكرمه معناه أي شيء أكرمه ثم إنه قط لا يستعمل هذا الكلام الذي زعموا أنه الأصل في معرض التعجب فكذا ههنا وأما الثالث فمن الذي سلم لكم أنه لا يجوز أن يقالّ يا اللّهم وأنشد الفرّاء وأما عليك أن تقولي كلما
سبحت أو صليت يا اللّهما
وقول البصريين إن هذا الشعر غير معروف فحاصله تكذيب النقل ولو فتحنا هذا الباب لم يبق شيء من اللغة والنحو سليماً عن الطعن وأما قوله كان يلزم أن يكون ذكر حرف النداء لازماً فجوابه أنه قد يحذف حرف النداء كقوله يُوسُفُ أَيُّهَا الصّدِيقُ أَفْتِنَا ( يوسف 46 ) فلا يبعد أن يختص هذا الاسم بإلزام هذا الحذف ثم احتج الفراء على فساد قول البصريين من وجوه الأول أنا لو جعلنا الميم قائماً مقام حرف النداء لكنا قد أخرنا النداء عن ذكر المنادى وهذا غير جائز ألبتة فإنه لا يقال ألبتة ( الله يا ) وعلى قولكم يكون الأمر كذلك الثاني لو كان هذا الحرف قائماً مقام النداء لجاز مثله في سائر الأسماء حتى يقال زيدم وبكرم كما يجوز أن يقال يا زيد ويا بكر والثالث لو كان الميم بدلاً عن حرف النداء لما اجتمعا لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه الرابع لم نجد العرب يزيدون هذه المييم في الأسماء التامة لإفادة معنى بعض الحروف المباينة للكلمة الداخلة عليها فكان المصير إليه في هذه اللفظة الواحدة حكماً على خلاف الاستقراء العام في اللغة وأنه غير جائز فهذا جملة الكلام في هذا الموضع
المسأل الثانية مَالِكَ الْمُلْكِ في نصبه وجهان الأول وهو قول سيبويه أنه منصوب على النداء وكذلك قوله قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الزمر 46 ) ولا يجوز أن يكون نعتاً لقوله اللَّهُمَّ لأن قولنا اللَّهُمَّ مجموع الاسم والحرف وهذا المجموع لا يمكن وصفه والثاني وهو قول المبرد والزجاج أن مَالِكَ وصف للمنادى المفرد لأن هذا الاسم ومعه الميم بمنزلته ومعه يا ولا يمتنع الصفة مع الميم كما لا يمتنع مع الياء
المسألة الثالثة روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقال المنافقون واليهود هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً وأخذوا يحفرون خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فخبره فأخذ المعول من سلمان فلما ضربها ضرب صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كأنه مصباح في جوف ليل مظلم فكبّر وكبر المسلمون وقال عليه الصلاة والسلام ( أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ) ثم ضرب الثانية فقال ( أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ) ثم ضرب الثالثة فقال ( أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا ) فقال المنافقون ألا تعجبون من نبيّكم يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومداين كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا فنزلت هذه الآية والله أعلم وقال الحسن إن الله تعالى أمر نبيّه

أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاء وهكذا منازل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا أمروا بدعاء استجيب دعاءهم
المسألة الرابعة وَقَالَ الْمَلِكُ هو القدرة والمالك هو القادر فقوله مَالِكَ الْمُلْكِ معناه القادر على القدرة والمعنى إن قدرة الخلق على كل ما يقدرون عليه ليست إلا بإقدار الله تعالى فهو الذي يقدر كل قادر على مقدوره ويملك كل مالك مملوكه قال صاحب ( الكشاف ) مَالِكَ الْمُلْكِ أي يملك جنس الملك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون واعلم أنه تعالى لما بيّن كونه مَالِكَ الْمُلْكِ على الإطلاق فصل بعد ذلك وذكر أنواعاً خمسة
النوع الأول قوله تعالى تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وذكروا فيه وجوهاً الأول المراد منه ملك النبوّة والرسالة كما قال تعالى فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ( النساء 54 ) والنبوّة أعظم مراتب الملك لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلق والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر فأما على البواطن فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتهم وأن يعتقد أنه هو الحق وأما على الظواهر فلأنهم لو تمردوا واستكبروا لاستوجبوا القتل ومما يؤكد هذا التأويل أن بعضهم كان يستبعد أن يجعل الله تعالى بشراً رسولاً فحكى الله عنهم قولهم أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 94 ) وقال الله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) وقوم آخرون جوزوا من الله تعالى أن يرسل رسولاً من البشر إلا أنهم كانوا يقولون إن محمداً فقير يتيم فكيف يليق به هذا المنصب العظيم على ما حكى الله عنهم أنهم قالوا لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) وأما اليهود فكانوا يقولون النبوّة كانت في آبائنا وأسلافنا وأما قريش فهم ما كانوا أهل النبوّة والكتاب فكيف يليق النبوّة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأما المنافقون فكانوا يحسدونه على النبوّة على ما حكى الله ذلك عنهم في قوله مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ ( النساء 37 )
وأيضاً فقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( آل عمران 12 ) أن اليهود تكبروا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بكثرة عددهم وسلاحهم وشدتهم ثم إنه تعالى رد على جميع هؤلاء الطوائف بأن بيّن أنه سبحانه هو مالك الملك فيؤتي ملكه من يشاء فقال تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء
فإن قيل فإذا حملتم قوله تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء على إيتاء ملك النبوّة وجب أن تحملوا قوله وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء على أنه قد يعزل عن النبوّة من جعله نبياً ومعلوم أن ذلك لا يجوز
قلنا الجواب من وجهين الأول أن الله تعالى إذا جعل النبوّة في نسل رجل فإذا أخرجها الله من نسله وشرَّف بها إنساناً آخر من غير ذلك النسل صح أن يقال إنه تعالى نزعها منهم واليهود كانوا معتقدين أن النبوّة لا بد وأن تكون في بني إسرائيل فلما شرف الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بها صح أن يقال إنه ينزع ملك النبوّة من بني إسرائيل إلى العرب
والجواب الثاني أن يكون المراد من قوله وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء أي تحرمهم ولا تعطيهم هذا

الملك لا على معنى أنه يسلبه ذلك بعد أن أعطاه ونظيره قوله تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( البقرة 257 ) مع أن هذا الكلام يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط وقال الله تعالى مخبراً عن الكفار أنهم قالوا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا ( الأعراف 88 ) وأولئك الأنبياء قالوا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ ( الأعراف 89 ) مع أنهم ما كانوا فيها قط فهذا جملة الكلام في تقرير قول من فسّر قوله تعالى تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء بملك النبوة
القول الثاني أن يكون المراد من الملك ما يسمى ملكاً في العرف وهو عبارة عن مجموع أشياء أحدها تكثير المال والجاه أما تكثير المال فيدخل فيه ملك الصامت والناطق والدور والضياع والحرث والنسل وأما تكثير الجاه فهو أن يكون مهيباً عن الناس مقبول القول مطاعاً في الخلق والثاني أن يكون بحيث يجب على غيره أن يكون في طاعته وتحت أمره ونهيه والثالث أن يكون بحيث لو نازعه في ملكه أحد قدر على قهر ذلك المنازع وعلى غلبته ومعلوم أن كل ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى أما تكثير المال فقد نرى جمعاً في غاية الكياسة لا يحصل لهم مع الكد الشديد والعناء العظيم قليل من المال ونرى الأبله الغافل قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميته وأما الجاه فالأمر أظهر فإنا رأينا كثيراً من الملوك بذلوا الأموال العظيمة لأجل الجاه وكانوا كل يوم أكثر حقارة ومهانة في أعين الرعية وقد يكون على العكس من ذلك وهو أن يكون الإنسان معظماً في العقائد مهيباً في القلوب ينقاد له الصغير والكبير ويتواضع له القاصي والداني وأما القسم الثاني وهو كونه واجب الطاعة فمعلوم أن هذا تشريف يشرف الله تعالى به بعض عباده وأما القسم الثالث وهو حصول النصرة والظفر فمعلوم أن ذلك مما لا يحصل إلا من الله تعالى فكم شاهدنا من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله وعند هذا يظهر بالبرهان العقلي صحة ما ذكره الله تعالى من قوله تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء
واعلم أن المعتزلة ههنا بحثا قال الكعبي قوله تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء ليس على سبيل المختارية ولكن بالاستحقاق فيؤتيه من يقوم به ولا ينزعه إلا ممن فسق عن أمر ربه ويدل عليه قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) وقال في حق العبد الصالح إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَة ً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ( البقرة 247 ) فجعله سبباً للملك وقال الجبائي هذا الحكم مختص بملوك العدل فأما ملوك الظلم فلا يجوز أن يكون ملكهم بإيتاء الله وكيف يصح أن يكون ذلك بإيتاء الله وقد ألزمهم أن لا يتملكوه ومنعهم من ذلك فصح بما ذكرنا أن الملوك العادلين هم المختصون بأن الله تعالى آتاهم ذلك الملك فأما الظالمون فلا قالوا ونظير هذا ما قلناه في الرزق أنه لا يدخل تحته الحرام الذي زجره الله عن الانتفاع به وأمره بأن يرده على مالكه فكذا ههنا قالوا وأما النزع فبخلاف ذلك لأنه كما ينزع الملك من الملوك العادلين لمصلحة تقتضي ذلك فقد ينزع الملك عن الملوك الظالمين ونزع الملك يكون بوجوه منها بالموت وإزالة العقل وإزالة القوى والقدر والحواس ومنها بورود الهلاك والتلف عن الأموال ومنها أن يأمر الله تعالى المحق بأن يسلب الملك الذي في يد المتغلب المبطل ويؤتيه القوة والنصرة فإذا حاربه المحق وقهره وسلب ملكه جاز أن يضاف هذا السلب والنزع إليه تعالى لأنه وقع عن أمره وعلى هذا الوجه نزع الله تعالى ملك فارس على يد الرسول هذا جملة كلام المعتزلة في هذا الباب

واعلم أن هذا الموضع مقام بحث مهم وذلك لأن حصول الملك للظالم إما أن يقال إنه وقع لا عن فاعل وإنما حصل بفعل ذلك المتغلب أو إنما حصل بالأسباب الربانية والأول نفي للصانع والثاني باطل لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه ولا يتيسر له ألبتة فلم يبق إلا أن يقال بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى وهذا الكلام ظاهر ومما يؤكد ذلك أن الرجل قد يكون بحيث تهابه النفوس وتميل إليه القلوب ويكون النصر قريناً له والظفر جليساً معه فأينما توجه حصل مقصوده وقد يكون على الضد من ذلك ومن تأمل في كيفية أحوال الملوك اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله تعالى ولذلك قال حكيم الشعراء لو كان بالحيل الغنى لوجدتني
بأجل أسباب السماء تعلقي
من رزق الحجا حرم الغنى
ضدان مفترقان أي تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
والقول الثاني أن قوله تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوّة وملك العلم وملك العقل والصحة والأخلاق الحسنة وملك النفاذ والقدرة وملك المحبة وملك الأموال وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز
وأما قوله تعالى وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء فاعلم أن العزة قد تكون في الدين وقد تكون في الدنيا أما في الدين فأشرف أنواع العزة الإيمان قال الله تعالى وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( المنافقون 8 ) إذا ثبت هذا فنقول لما كان أعز الأشياء الموجبة للعزة هو الإيمان وأذل الأشياء الموجبة للمذلة هو الكفر فلو كان حصول الإيمان والكفر بمجرد مشيئة العبد لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز الله عبده بكل ما أعزه به ومن إذلال الله عبده بكل ما أذله به ولو كان الأمر كذلك لكان حظ العبد من هذا الوصف أتم وأكمل من حظ الله تعالى منه ومعلوم أن ذلك باطل قطعاً فعلمنا أن الإعزاز بالإيمان والحق ليس إلا من الله والإذلال بالكفر والباطل ليس إلا من الله وهذا وجه قوي في المسألة قال القاضي الإعزاز المضاف إليه تعالى قد يكون في الدين وقد يكون في الدنيا أما الذي في الدين فهو أن الثواب لا بد وأن يكون مشتملاً على التعظيم والمدح والكرامة في الدنيا والآخرة وأيضاً فإنه تعالى يمدهم بمزيد الألطاف ويعليهم على الأعداء بحسب المصلحة وأما ما يتعلق بالدنيا فبإعطاء الأموال الكثيرة من الناطق والصامت وتكثير الحرث وتكثير النتاج في الدواب وإلقاء الهيبة في قلوب الخلق
واعلم أن كلامنا يأبى ذلك لأن كل ما يفعله الله تعالى من التعظيم في باب الثواب فهو حق واجب على الله تعالى ولو لم يفعله لانعزل عن الإلاهية ولخرج عن كونه إلاهاً للخلق فهو تعالى بإعطاء هذه التعظيمات يحفظ إلاهية نفسه عن الزوال فأما العبد فلما خص نفسه بالإيمان الذي يوجب هذه التعظيمات فهو الذي أعز نفسه فكان إعزازه لنفسه أعظم من إعزاز الله تعالى إياه فعلمنا أن هذا الكلام المذكور لازم على القوم
أما قوله وَتُذِلُّ مَن تَشَاء فقال الجبائي في ( تفسيره ) إنه تعالى إنما يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ولا يذل أحداً من أوليائه وإن أفقرهم وأمرضهم وأحوجهم إلى غيرهم لأنه تعالى إنما يفعل هذه الأشياء ليعزهم في الآخرة إما بالثواب وإما بالعوض فصار ذلك كالفصد والحجامة فإنهما وإن كانا يؤلمان في الحال إلا

أنهما لما كانا يستعقبان نفعاً عظيماً لا جرم لا يقال فيهما إنهما تعذيب قال وإذا وصف الفقر بأنه ذل فعلى وجه المجاز كما سمى الله تعالى لين المؤمنين ذلا بقوله أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( المائدة 54 )
إذا عرفت هذا فنقول إذلال الله تعالى عبده المبطل إنما يكون بوجوه منها بالذم واللعن ومنها بأن يخذلهم بالحجة والنصرة ومنها بأن يجعلهم خولاً لأهل دينه ويجعل مالهم غنيمة لهم ومنها بالعقوبة لهم في الآخرة هذا جملة كلام المعتزلة ومذهبنا أنه تعالى يعز البعض بالإيمان والمعرفة ويذل البعض بالكفر والضلالة وأعظم أنواع الإعزاز والإذلال هو هذا والذي يدل عليه وجوه الأول وهو أن عز الإسلام وذل الكفر لا بد فيه من فاعل وذلك الفاعل إما أن يكون هو العبد أو الله تعالى والأول باطل لأن أحداً لا يختار الكفر لنفسه بل إنما يريد الإيمان والمعرفة والهداية فلما أراد العبد الإيمان ولم يحصل له بل حصل له الجهل علمنا أن حصوله من الله تعالى لا من العبد الثاني وهو أن الجهل الذي يحصل للعبد إما أن يكون بواسطة شبهة وإما أن يقال يفعله العبد ابتداء والأول باطل إذ لو كان كل جهل إنما يحصل بجهل آخر يسبقه ويتقدمه لزم التسلسل وهو محال فبقي أن يقال تلك الجهات تنتهي إلى جهل يفعله العبد ابتداء من غير سبق موجب البتة لكنا نجد من أنفسنا أن العاقل لا يرضى لنفسه أن يصير على الجهل ابتداء من غير موجب فعلمنا أن ذلك بإذلال الله عبده وبخذلانه إياه الثالث ما بينا أن الفعل لا بد فيه من الداعي والمرجح وذلك المرجح يكون من الله تعالى فإن كان في طرف الخير كان إعزازاً وإن كان في طرف الجهل والشر والضلالة كان إذلالاً فثبت أن المعز والمذل هو الله تعالى
أما قوله تعالى بِيَدِكَ الْخَيْرُ
فاعلم أن المراد من اليد هو القدرة والمعنى بقدرتك الخير والألف واللام في الخير يوجبان العموم فالمعنى بقدرتك تحصل كل البركات والخيرات وأيضاً فقوله بِيَدِكَ الْخَيْرُ يفيد الحصر كأنه قال بيدك الخير لا بيد غيرك كما أن قوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى َ دِينِ ( الكافرين 6 ) أي لكم دينكم أي لا لغيركم وذلك الحصر ينافي حصول الخير بيد غيره فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على أن جميع الخيرات منه وبتكوينه وتخليقه وإيجاده وإبداعه إذا عرفت هذا فنقول أفضل الخيرات هو الإيمان بالله تعالى ومعرفته فوجب أن يكون الخير من تخليق الله تعالى لا من تخليق العبد وهذا استدلال ظاهر ومن الأصحاب من زاد في هذا التقدير فقال كل فاعلين فعل أحدهما أشرف وأفضل من فعل الآخر كان ذلك الفاعل أشرف وأكمل من الآخر ولا شك أن الإيمان أفضل من الخير ومن كل ما سوى الإيمان فلو كان الإيمان بخلق العبد لا بخلق الله لوجب كون العبد زائداً في الخيرية على الله تعالى وفي الفضيلة والكمال وذلك كفر قبيح فدلت هذه الآية من هذين الوجهين على أن الإيمان بخلق الله تعالى
فإن قيل فهذه الآية حجة عليكم من وجه آخر لأنه تعالى لما قال بِيَدِكَ الْخَيْرُ كان معناه أنه ليس بيدك إلا الخير وهذا يقتضي أن لا يكون الكفر والمعصية واقعين بتخليق الله
والجواب أن قوله بِيَدِكَ الْخَيْرُ يفيد أن بيده الخير لا بيد غيره وهذا ينافي أن يكون بيد غيره ولكن لا ينافي أن يكون بيده الخير وبيده ما سوى الخير إلا أنه خص الخير بالذكر لأنه الأمر المنتفع به فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى قال القاضي كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه تعالى أقدرهم عليه

وهداهم إليه لما تمكنوا منه فلهذا السبب كان مضافاً إلى الله تعالى إلا أن هذا ضعيف لأن على هذا التقدير يصير بعض الخير مضافاً إلى الله تعالى ويصير أشرف الخيرات مضافاً إلى العبد وذلك على خلاف هذا النص
أما قوله إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ فهذا كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكاً لإيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال
أما قوله تعالى تُولِجُ الَّيْلَ فِى الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ فيه وجهان الأول أن يجعل الليل قصيراً ويجعل ذلك القدر الزائد داخلاً في النهار وتارة على العكس من ذلك وإنما فعل سبحانه وتعالى ذلك لأنه علق قوام العالم ونظامه بذلك والثاني أن المراد هو أنه تعالى يأتي بالليل عقيب النهار فيلبس الدنيا ظلمة بعد أن كان فيها ضوء النهار ثم يأتي بالنهار عقيب الليل فيلبس الدنيا ضوءه فكان المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ لأنه إذا كان النهار طويلاً فجعل ما نقص منه زيادة في الليل كان ما نقص منه داخلاً في الليل
وأما قوله وَتُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الْحَى ِّ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحمزة والكسائي الْمَيّتِ بالتشديد والباقون بالتخفيف وهما لغتان بمعنى واحد قال المبرد أجمع البصريون على أنهما سواء وأنشدوا
إنما الميت ميت الأحياء
وهو مثل قوله هين وهين ولين ولين وقد ذهب ذاهبون إلى أن الميت من قد مات والميت من لم يمت
المسألة الثانية ذكر المفسرون فيه وجوهاً أحدها يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح عليه السلام والثاني يخرج الطيب من الخبيث وبالعكس والثالث يخرج الحيوان من النطفة والطير من البيضة وبالعكس والرابع يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس والنخلة من النواة وبالعكس قال القفال رحمه الله والكلمة محتملة للكل أما الكفر والإيمان فقال تعالى أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الأنعام 122 ) يريد كان كافراً فهديناه فجعل الموت كفراً والحياة إيماناً وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء وجعل قبل ذلك ميتة فقال فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمَة ِ ( الروم 19 ) وقال فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( فاطر 9 ) وقال كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ( البقرة 28 )
أما قوله وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ففيه وجوه الأول أنه يعطي من يشاء ما يشاء لا يحاسبه على ذلك أحد إذ ليس فوقه ملك يحاسبه بل هو الملك يعطي من يشاء بغير حساب والثاني ترزق من تشاء غير مقدور ولا محدود بل تبسطه له وتوسعه عليه كما يقال فلان ينفق بغير حساب إذا وصف عطاؤه بالكثرة ونظيره قولهم في تكثير مال الإنسان عنده مال لا يحصى والثالث ترزق من تشاء بغير حساب يعني على سبيل التفضل من غير استحقاق لأن من أعطى على قدر الاستحقاق فقد أعطى بحساب وقال بعض من ذهب إلى هذا المعنى إنك لا ترزق عبادك على مقادير أعمالهم والله أعلم

لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَى ْءٍ إِلاَ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاة ً وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
في كيفية النظم وجهان الأول أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم الله تعالى ثم ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس لأن كمال الأمر ليس إلا في شيئين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله قال لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ الثاني لما بيّن أنه تعالى مالك الدنيا والآخرة بين أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في سبب النزول وجوه الأول جاء قوم من اليهود إلى قوم المسلمين ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبد الرحمن بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم فنزلت هذه الآية والثاني قال مقاتل نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره وكانوا يتولون اليهود والمشركين ويخبرونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية الثالث أنها نزلت في عبادة بن الصامت وكان له حلفاء من اليهود ففي يوم الأحزاب قال يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فنزلت هذه الآية
فإن قيل إنه تعالى قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَى ْء وهذه صفة الكافر
قلنا معنى الآية فليس من ولاية الله في شيء وهذا لا يوجب الكفر في تحريم موالاة الكافرين
واعلم أنه تعالى أنزل آيات كثيرة في هذا المعنى منها قوله تعالى لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً مّن دُونِكُمْ ( آل عمران 118 ) وقوله لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المجادلة 22 ) وقوله لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء وقوله الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ( الممتحنة 1 ) وقال وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 )
واعلم أن كون المؤمن موالياً للكافر يحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن يكون راضياً بكفره ويتولاه لأجله وهذا ممنوع منه لأن كل من فعل ذلك كان مصوباً له في ذلك الدين وتصويب الكفر كفر والرضا بالكفر كفر فيستحيل أن يبقى مؤمناً مع كونه بهذه الصفة
فإن قيل أليس أنه تعالى قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَى ْء وهذا لا يوجب الكفر فلا يكون داخلاً تحت هذه الآية لأنه تعالى قال ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فلا بد وأن يكون خطاباً في

شيء يبقى المؤمن معه مؤمناً وثانيها المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر وذلك غير ممنوع منه
والقسم الثالث وهو كالمتوسط بين القسمين الأولين هو أن موالاة الكفار بمعنى الركون إليهم والمعونة والمظاهرة والنصرة إما بسبب القرابة أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه وذلك يخرجه عن الإسلام فلا جرم هدد الله تعالى فيه فقال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَى ْء
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين فأما إذا تولوهم وتولوا المؤمنين معهم فذلك ليس بمنهي عنه وأيضاً فقوله لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء فيه زيادة مزية لأن الرجل قد يوالي غيره ولا يتخذه موالياً فالنهي عن اتخاذه موالياً لا يوجب النهي عن أصل مولاته
قلنا هذان الاحتمالان وإن قاما في الآية إلا أن سائر الآيات الدالة على أنه لا تجوز موالاتهم دلّت على سقوط هذين الاحتمالين
المسألة الثانية إنما كسرت الذال من يتخذ لأنها مجزوم للنهي وحركت لاجتماع الساكنين قال الزجاج ولو رفع على الخبر لجاز ويكون المعنى على الرفع أن من كان مؤمناً فلا ينبغي أن يتخذ الكافر ولياً
واعلم أن معنى النهي ومعنى الخبر يتقاربان لأنه متى كانت صفة المؤمن أن لا يوالي الكافر كان لا محالة منهياً عن موالاة الكافر ومتى كان منهياً عن ذلك كان لا محالة من شأنه وطريقته أن لا يفعل ذلك
المسألة الثالثة قوله مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي من غير المؤمنين كقوله وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ ( البقرة 23 ) أي من غير الله وذلك لأن لفظ دون مختص بالمكان تقول زيد جلس دون عمرو أي في مكان أسفل منه ثم إن من كان مبايناً لغيره في المكان فهو مغاير له فجعل لفظ دون مستعملاً في معنى غير ثم قال تعالى وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَى ْء وفيه حذف والمعنى فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ من ولاية الله تعالى رأساً وهذا أمر معقول فإن موالاة الولي وموالاة عدوه ضدان قال الشاعر تود عدوي ثم تزعم أنني
صديقك ليس النوك عنك بعازب
ويحتمل أن يكون المعنى فليس من دين الله في شيء وهذا أبلغ
ثم قال تعالى إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاة ً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الكسائي تقاة بالإمالة وقرأ نافع وحمزة بين التفخيم والإمالة والباقون بالتفخيم وقرأ يعقوب تقية وإنما جازت الإمالة لتؤذن أن الألف من الياء وتقاة وزنها فعلة نحو تؤدة وتخمة ومن فخم فلأجل الحرف المستعلي وهو القاف
المسألة الثانية قال الواحدي تقيته تقاة وتقى وتقية وتقوى فإذا قلت اتقيت كان مصدره

الاتقياء وإنما قال تتقوا ثم قال تقاة ولم يقل اتقاء اسم وضع موضع المصدر كما يقال جلس جلسة وركب ركبة وقال الله تعالى فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ( آل عمران 37 ) وقال الشاعر
وبعد عطائك المائة الرتاعا
فأجراه مجرى الإعطاء قال ويجوز أن يجعل تقاة ههنا مثل رماة فيكون حالاً مؤكدة
المسألة الثالثة قال الحسن أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لأحدهما أتشهد أن محمداً رسول الله قال نعم نعم نعم فقال أفتشهد أني رسول الله قال نعم وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش فتركه ودعا الآخر فقال أتشهد أن محمداً رسول الله قال نعم قال أفتشهد أني رسول الله فقال إني أصم ثلاثا فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئاً له وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه
واعلم أن نظير هذه الآية قوله تعالى إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ( النحل 106 )
المسألة الرابعة اعلم أن للتقية أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها
الحكم الأول أن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كل ما يقول فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب
الحكم الثاني للتقية هو أنه لو أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل ودليله ما ذكرناه في قصة مسيلمة
الحكم الثالث للتقية أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة وقد تجوز أيضاً فيما يتعلق بإظهار الدين فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز ألبتة
الحكم الرابع ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس
الحكم الخامس التقية جائزة لصون النفس وهل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حرمة مال المسلم كحرمة دمه ) ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) ولأن الحاجة إلى المال شديدة والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء وجاز الاقتصار على التيمم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال فكيف لا يجوز ههنا والله أعلم
الحكم السادس قال مجاهد هذا الحكم كان ثابتاً في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا وروى عوف عن الحسن أنه قال التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة وهذا القول أولى لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان

ثم قال تعالى وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وفيه قولان الأول أن فيه محذوفاً والتقدير ويحذركم الله عقاب نفسه وقال أبو مسلم المعنى وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أن تعصوه فتستحقوا عقابه والفائدة في ذكر النفس أنه لو قال ويحذركم الله فهذا لا يفيد أن الذي أريد التحذير منه هو عقاب يصدر من الله أو من غيره فلما ذكر النفس زال هذا الاشتباه ومعلوم أن العقاب الصادر عنه يكون أعظم أنواع العقاب لكونه قادراً على ما لا نهاية له وأنه لا قدرة لأحد على دفعه ومنعه مما أراد
والقول الثاني أن النفس ههنا تعود إلى اتخاذ الأولياء من الكفار أي ينهاهم الله عن نفس هذا الفعل
ثم قال وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ والمعنى إن الله يحذركم عقابه عند مصيركم إلى الله
قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
إعلم أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء ظاهراً وباطناً واستثنى عنه التقية في الظاهر أتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقاً للظاهر في وقت التقية وذلك لأن من أقدم عند التقية على إظهار الموالاة فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل بحسب الظاهر سبباً لحصول تلك الموالاة في الباطن فلا جرم بيّن تعالى أنه عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر فيعلم العبد أنه لا بد أن يجازيه على كل ما عزم عليه في قلبه وفي الآية سؤالات
السؤال الأول هذه الآية جملة شرطية فقوله إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ شرط وقوله يَعْلَمْهُ اللَّهُ جزاء ولا شك أن الجزاء مترتب على الشرط متأخر عنه فهذا يقتضي حدوث علم الله تعالى
والجواب أن تعلق علم الله تعالى بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن ثم إن هذه التبدل والتجدد إنما وقع في النسب والإضافات والتعليقات لا في حقيقة العلم وهذه المسألة لها غور عظيم وهي مذكورة في علم الكلام
السؤال الثاني محل البواعث والضمائر هو القلب فلم قال إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ ولم يقل إن تخفوا ما في قلوبكم
الجواب لأن القلب في الصدر فجاز إقامة الصدر مقام القلب كما قال يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ ( الناس 5 ) وقال فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 )

السؤال الثالث إن كانت هذه الآية وعيداً على كل ما يخطر بالبال فهو تكليف ما لا يطاق
الجواب ذكرنا تفصيل هذه الكلام في آخر سورة البقرة في قوله للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ( البقرة 284 )
ثم قال تعالى وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ
واعلم أنه رفع على الاستئناف وهو كقوله قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ ( التوبة 14 ) جزم الأفاعيل ثم قال وَيَتُوبَ اللَّهُ فرفع ومثله قوله فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ( الشورى 24 ) رفعاً وفي قوله وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ غاية التحذير لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فيهما فكيف يخفى عليه الضمير
ثم قال تعالى وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ إتماماً للتحذير وذلك لأنه لما بيّن أنه تعالى عالم بكل المعلومات كان عالماً بما في قلبه وكان عالماً بمقادير استحقاقه من الثواب والعقاب ثم بيّن أنه قادر على جميع المقدورات فكان لا محالة قادراً على إيصال حق كل أحد إليه فيكون في هذا تمام الوعد والوعيد والترغيب والترهيب
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُو ءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ
اعلم أن هذه الآية من باب الترغيب والترهيب ومن تمام الكلام الذي تقدم
وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في العامل في قوله يَوْمٍ وجوهاً الأول قال ابن الأنباري اليوم متعلق بالمصير والتقدير وإلى الله المصير يوم تجد الثاني العامل فيه قوله وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ في الآية السابقة كأنه قال ويحذركم الله نفسه في ذلك اليوم الثالث العامل فيه قوله وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ أي قدير في ذلك اليوم الذي تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وخص هذا اليوم بالذكر وإن كان غيره من الأيام بمنزلته في قدرة الله تعالى تفضيلاً له لعظم شأنه كقوله مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 4 ) الرابع أن العامل فيه قوله تَوَدُّ والمعنى تود كل نفس كذا وكذا في ذلك اليوم الخامس يجوز أن يكون منتصباً بمضمر والتقدير واذكر يوم تجد كل نفس
المسألة الثانية اعلم أن العمل لا يبقى ولا يمكن وجدانه يوم القيامة فلا بد فيه من التأويل وهو من

وجهين الأول أنه يجد صحائف الأعمال وهو قوله تعالى إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( الجاثية 29 ) وقال فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ( المجادلة 6 ) الثاني أنه يجد جزاء الأعمال وقوله تعالى مُّحْضَرًا يحتمل أن يكون المراد أن تلك الصحائف تكون محضرة يوم القيامة ويحتمل أن يكون المعنى أن جزاء العمل يكون محضراً كقوله وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا ( الكهف 49 ) وعلى كلا الوجهين فالترغيب والترهيب حاصلان
أما قوله وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال الواحدي الأظهر أن يجعل مَا ههنا بمنزلة الذي ويكون عَمِلَتْ صلة لها ويكون معطوفاً على مَا الأول ولا يجوز أن تكون مَا شرطية وإلا كان يلزم أن ينصب تَوَدُّ أو يخفضه ولم يقرأه أحد إلا بالرفع فكان هذا دليلاً على أن مَا ههنا بمعنى الذي
فإن قيل فهل يصح أن تكون شرطية على قراءة عبد الله ودت
قلنا لا كلام في صحته لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع لأنه حكاية حال الكافر في ذلك اليوم وأكثر موافقة للقراءة المشهورة
المسألة الثانية الواو في قوله وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء فيه قولان الأول وهو قول أبي مسلم الأصفهاني الواو واو العطف والتقدير تجد ما عملت من خير وما عملت من سوء وأما قوله تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا ففيه وجهان الأول أنه صفة للسوء والتقدير وما عملت من سوء الذي تود أن يبعد ما بينها وبينه والثاني أن يكون حالاً والتقدير يوم تجد ما عملت من سوء محضراً حال ما تود بعده عنها
والقول الثاني أن الواو للاستئناف وعلى هذا القول لا تكون الآية دليلاً على القطع بوعيد المذنبين وموضع الكرم واللطف هذا وذلك لأنه نص في جانب الثواب على كونه محضراً وأما في جانب العقاب فلم ينص على الحضور بل ذكر أنهم يودون الفرار منه والبعد عنه وذلك ينبه على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيد
المسألة الثالثة الأمد الغاية التي ينتهي إليها ونظيره قوله تعالى قَالَ يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ( الزخرف 38 )
واعلم أن المراد من هذا التمني معلوم سواء حملنا لفظ الأمد على الزمان أو على المكان إذ المقصود تمني بعده ثم قال وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وهو لتأكيد الوعيد ثم قال وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ وفيه وجوه الأول أنه رؤوف بهم حيث حذرهم من نفسه وعرفهم كمال علمه وقدرته وأنه يمهل ولا يمهل ورغبهم في استيجاب رحمته وحذرهم من استحقاق غضبه قال الحسن ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه الثاني أنه رؤوف بالعباد حيث أمهلهم للتوبة والتدارك والتلافي الثالث أنه لما قال وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وهو للوعيد أتبعه بقوله وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ وهو الموعد ليعلم العبد أن وعده ورحمته غالب على وعيده وسخطه والرابع وهو أن لفظ العباد في القرآن مختص قال تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً ( الفرقان 63 ) وقال تعالى عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( الإنسان 6 )

فكان المعنى أنه لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة فقال وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ أي كما هو منتقم من الفساق فهو رؤوف بالمطيعين والمحسنين
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما دعا القوم إلى الإيمان به والإيمان برسله على سبيل التهديد والوعيد دعاهم إلى ذلك من طريق آخر وهو أن اليهود كانوا يقولون نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) فنزلت هذه الآية ويروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) وقف على قريش وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام فقال يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة إبراهيم فقالت قريش إنما نعبد هذه حباً لله تعالى ليقربونا إلى الله زلفى فنزلت هذه الآية ويروى أن النصارى قالوا إنما نعظم المسيح حباً لله فنزلت هذه الآية وبالجملة فكل واحد من فرق العقلاء يدعي أنه يحب الله ويطلب رضاه وطاعته فقال لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) قل إن كنتم صادقين في ادعاء محبة الله تعالى فكونوا منقادين لأوامره محترزين عن مخالفته وتقدير الكلام أن من كان محباً لله تعالى لا بد وأن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه وإذا قامت الدلالة القاطعة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجبت متابتعه فإن لم تحصل هذه المتابعة دلّ ذلك على أن تلك المحبة ما حصلت
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أما الكلام المستقصى في المحبة فقد تقدم في تفسير قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( البقرة 165 ) والمتكلمون مصرون على أن محبة الله تعالى عبارة عن محبة إعظامه وإجلاله أو محبة طاعته أو محبة ثوابه قالوا لأن المحبة من جنس الإرادة والإرادة لا تعلق لها إلا بالحوادث وإلا بالمنافع
واعلم أن هذا القول ضعيف وذلك لأنه لا يمكن أن يقال في كل شيء إنه إنما كان محبوباً لأجل معنى آخر وإلا لزم التسلسل والدور فلا بد من الانتهاء إلى شيء يكون محبوباً بالذات كما أنا نعلم أن اللذة محبوبة لذاتها فكذلك نعلم أن الكمال محبوب لذاته وكذلك أنا إذا سمعنا أخبار رستم واسفنديار في شجاعتهما مال القلب إليهما مع أنا نقطع بأنه لا فائدة لنا في ذلك الميل بل ربما نعتقد أن تلك المحبة معصية لا يجوز لنا أن نصر عليها فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته كما أن اللذة محبوبة لذاتها وكمال الكمال لله سبحانه وتعالى فكان ذلك يقتضي كونه محبوباً لذاته من ذاته ومن المقربين عنده الذين تجلى لهم أثر من آثار كماله وجلاله قال المتكلمون وأما محبة الله تعالى للعبد فهي عبارة عن إرادته تعالى إيصال الخيرات والمنافع في الدين والدنيا إليه
المسألة الثانية القوم كانوا يدعون أنهم كانوا محبين لله تعالى وكانوا يظهرون الرغبة في أن يحبهم الله تعالى والآية مشتملة على أن الإلزام من وجهين أحدهما إن كنتم تحبون الله فاتبعوني لأن المعجزات دلّت على أنه تعالى أوجب عليكم متابعتي الثاني إن كنتم تحبون أن يحبكم الله فاتبعوني لأنكم

إذا اتبعتموني فقد أطعتم الله والله تعالى يحب كل من أطاعه وأيضاً فليس في متابعتي إلا أني دعوتكم إلى طاعة الله تعالى وتعظيمه وترك تعظيم غيره ومن أحب الله كان راغباً فيه لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض بالكلية عن غير المحبوب
المسألة الثالثة خاض صاحب ( الكشاف ) في هذا المقام في الطعن في أولياء الله تعالى وكتب ههنا ما لا يليق بالعاقل أن يكتب مثله في كتب الفحش فهب أنه اجترأ على الطعن في أولياء الله تعالى فكيف اجترأ على كتبه مثل ذلك الكلام الفاحش في تفسير كلام الله تعالى نسأل الله العصمة والهداية ثم قال تعالى وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والمراد من محبة الله تعالى له إعطاؤه الثواب ومن غفران ذنبه إزالة العقاب وهذا غاية ما يطلبه كل عاقل ثم قال وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يعني غفور في الدنيا يستر على العبد أنواع المعاصي رحيم في الآخرة بفضله وكرمه
قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
يروى أنه لما نزل قوله قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الآية قال عبد الله بن أُبي إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى فنزلت هذه الآية وتحقيق الكلام أن الآية الأولى لما اقتضت وجوب متابعته ثم إن المنافق ألقى شبهة في الدين وهي أن محمداً يدعي لنفسه ما يقوله النصارى في عيسى ذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لتلك الشبهة فقال قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ يعني إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا كما تقول النصارى في عيسى بل لكوني رسولاً من عند الله ولما كان مبلغ التكاليف عن الله هو الرسول لزم أن تكون طاعته واجبة فكان إيجاب المتابعة لهذا المعنى لا لأجل الشبه التي ألقاها المنافق في الدين
ثم قال تعالى فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ يعني إن أعرضوا فإنه لا يحصل لهم محبة الله لأنه تعالى إنما أوجب الثناء والمدح لمن أطاعه ومن كفر استوجب الذلة والإهانة وذلك ضد المحبة والله أعلم

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّة ً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بيّن علو درجات الرسل وشرف مناصبهم فقال إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المخلوقات على قسمين المكلف وغير المكلف واتفقوا على أن المكلف أفضل من غير المكلف واتفقوا على أن أصناف المكلف أربعة الملائكة والإنس والجن والشياطين أما الملائكة فقد روي في الأخبار أن الله تعالى خلقهم من الريح ومنهم من احتج بوجوه عقلية على صحة ذلك فالأول أنهم لهذا السبب قدروا على الطيران على أسرع الوجوه والثاني لهذا السبب قدروا على حمل العرش لأن الريح تقوم بحمل الأشياء الثالث لهذا السبب سموا روحانيين وجاء في رواية أخرى أنهم خلقوا من النور ولهذا صفت وأخلصت لله تعالى والأولى أن يجمع بين القولين فنقول أبدانهم من الريح وأرواحهم من النور فهؤلاء هم سكان عالم السماوات أما الشياطين فهم كفرة أما إبليس فكفره ظاهر لقوله تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( البقرة 34 ) وأما سائر الشياطين فهم أيضاً كفرة بدليل قوله تعالى وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( الأنعام 121 ) ومن خواص الشياطين أنهم بأسرها أعداء للبشر قال تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ( الكهف 50 ) وقال وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ ( الأنعام 112 ) ومن خواص الشياطين كونهم مخلوقين من النار قال الله تعالى حكاية عن إبليس خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( الأعراف 12 ) وقال وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( الحجر 27 ) فأما الجن فمنهم كافر ومنهم مؤمن قال تعالى وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً ( الجن 14 ) أما الإنس فلا شك أن لهم والداً هو والدهم الأول وإلا لذهب إلى ما لا نهاية والقرآن دلّ على أن ذلك الأول هو آدم ( صلى الله عليه وسلم ) على ما قال تعالى في هذه السورة إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( آل عمران 59 ) وقال تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( النساء 1 )
إذا عرفت هذا فنقول اتفق العلماء على أن البشر أفضل من الجن والشياطين واختلفوا في أن البشر أفضل أم الملائكة وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله تعالى اسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ ( الأعراف 11 ) والقائلون بأن البشر أفضل تمسكوا بهذه الآية وذلك لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة وعلو الدرجة فلما بيّن تعالى أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة لكونهم من العالمين
فإن قيل إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محال ولو حملناه على كونه أفضل عالمي زمانه أو عالمي جنسه لم يلزم التناقض فوجب حمله على هذا المعنى دفعاً للتناقض وأيضاً قال تعالى في صفة بني إسرائيل وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 47 ) ولا يلزم كونهم أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بل قلنا المراد به عالمو زمان كل واحد منهم والجواب ظاهر في قوله اصطفى آدم على العالمين يتناول كل من يصح إطلاق لفظ العالم

عليه فيندرج فيه الملك غاية ما في هذا الباب أنه ترك العمل بعمومه في بعض الصور لدليل قام عليه فلا يجوز أن نتركه في سائر الصور من غير دليل
المسألة الثانية اصْطَفَى في اللغة اختار فمعنى اصطفاهم أي جعلهم صفوة خلقه تمثيلاً بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة ويقال على ثلاثة أوجه صفوة وصفوة وصفوة ونظير هذه الآية قوله لموسى إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي ( الأعراف 144 ) وقال في إبراهيم وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاْخْيَارِ ( ص 47 )
إذا عرفت هذا فنقول في الآية قولان الأول المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح فيكون الاصطفاء راجعاً إلى دينهم وشرعهم وملتهم ويكون هذا المعنى على تقدير حذف المضاف والثاني أن يكون المعنى إن الله اصطفاهم أي صفاهم من الصفات الذميمة وزينهم بالخصال الحميدة وهذا القول أولى لوجهين أحدهما أنا لا نحتاج فيه إلى الإضمار والثاني أنه موافق لقوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ ( الأنعام 124 ) وذكر الحليمي في كتاب ( المنهاج ) أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانية والقوى الروحانية أما القوى الجسمانية فهي إما مدركة وإما محركة
أما المدركة فهي إما الحواس الظاهرة وإما الحواس الباطنة أما الحواس الظاهرة فهي خمسة أحدها القوة الباصرة ولقد كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مخصوصاً بكمال هذه الصفة ويدل عليه وجهان الأول قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( زويت لي الأرض فأريت مشارقها مغاربها ) والثاني قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري ) ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قوله تعالى وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 75 ) ذكروا في تفسيره أنه تعالى قوَّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل قال الحليمي رحمه الله وهذا غير مستبعد لأن البصراء يتفاوتون فروي أن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام فلا يبعد أن يكون بصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى من بصرها وثانيها القوة السامعة وكان ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى الناس في هذه القوة ويدل عليه وجهان أحدهما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى ) فسمع أطيط السماء والثاني أنه سمع دوياً وذكر أنه هوي صخرة قذفت في جهنم فلم تبلغ قعرها إلى الآن قال الحليمي ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا فإنهم زعموا أن فيثاغورث راض نفسه حتى سمع خفيف الفلك ونظير هذه القوة لسليمان عليه السلام في قصة النمل قَالَتْ نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النمل 18 ) فالله تعالى أسمع سليمان كلام النمل وأوقفه على معناه وهذا داخل أيضاً في باب تقوية الفهم وكان ذلك حاصلاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) حين تكلم مع الذئب ومع البعير ثالثها تقوية قوة الشم كما في حق يعقوب عليه السلام فإن يوسف عليه السلام لما أمر بحمل قميصه إليه وإلقائه على وجهه فلما فصلت العير قال يعقوب إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ( يوسف 94 ) فأحس بها من مسيرة أيام ورابعها تقوية قوة الذوق كما في حق رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال ( إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم ) وخامسها تقوية القوة اللامسة كما في حق الخليل حيث جعل الله تعالى النار برداً وسلاماً عليه فكيف يستبعد هذا ويشاهد مثله في السمندل والنعامة وأما الحواس الباطنة فمنها قوة

الحفظ قال تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( الأعلى 6 ) ومنها قوة الذكاء قال علي عليه السلام ( علمني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب ) فإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي ( صلى الله عليه وسلم )
وأما القوى المحركة فمثل عروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المعراج وعروج عيسى حياً إلى السماء ورفع إدريس وإلياس على ما وردت به الأخبار وقال الله تعالى قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ( النمل 40 )
وأما القوى الروحانية العقلية فلا بد وأن تكون في غاية الكمال ونهاية الصفاء
واعلم أن تمام الكلام في هذا الباب أن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس ومن لوازم تلك النفس الكمال في الذكاء والفطنة والحرية والاستعلاء والترفع عن الجسمانيات والشهوات فإذا كانت الروح في غاية الصفاء والشرف وكان البدن في غاية النقاء والطهارة كانت هذه القوى المحركة المدركة في غاية الكمال لأنها جارية مجرى أنوار فائضة من جوهر الروح واصلة إلى البدن ومتى كان الفاعل والقابل في غاية الكمال كانت الآثار في غاية القوة والشرف والصفاء
إذا عرفت هذا فقوله إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا معناه إن الله تعالى اصطفى آدم إما من سكان العالم السفلي على قول من يقول الملك أفضل من البشر أو من سكان العالم العلوي على قول من يقول البشر أشرف المخلوقات ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة من أولاد آدم عليه السلام هم شيث وأولاده إلى إدريس ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم حصل من إبراهيم شعبتان إسماعيل وإسحاق فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيصو فوضع النبوّة في نسل يعقوب ووضع الملك في نسل عيصو واستمر ذلك إلى زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلما ظهر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نقل نور النبوّة ونور الملك إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبقيا أعني الدين والملك لأتباعه إلى قيام القيامة ومن تأمل في هذا الباب وصل إلى أسرار عجيبة
المسألة الثالثة من الناس من قال المراد بآل إبراهيم المؤمنون كما في قوله النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ( غافر 46 ) والصحيح أن المراد بهم الأولاد وهم المراد بقوله تعالى إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) وأما آل عمران فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال المراد عمران ولد موسى وهارون وهو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فيكون المراد من آل عمران موسى وهارون وأتباعهما من الأنبياء ومنهم من قال بل المراد عمران بن ماثان والد مريم وكان هو من نسل سليمان بن داود بن إيشا وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام قالوا وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة واحتج من قال بهذا القول على صحته بأمور أحدها أن المذكور عقيب قوله إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ هو عمران بن ماثان جد عيسى عليه السلام من قبل الأم فكان صرف الكلام إليه أولى وثانيها أن المقصود من الكلام أن النصارى كانوا يحتجون على إلاهية عيس بالخوارق التي ظهرت على يديه فالله تعالى يقول إنما ظهرت على يده إكراماً من الله تعالى إياه بها وذلك لأنه تعالى اصطفاه على العالمين وخصه بالكرامات العظيمة فكان حمل هذا

الكلام على عمران بن ماثان أولى في هذا المقام من حمله على عمران والد موسى وهارون وثالثها أن هذا اللفظ شديد المطابقة لقوله تعالى وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 91 ) واعلم أن هذه الوجوه ليست دلائل قوية بل هي أمور ظنية وأصل الاحتمال قائم
أما قوله تعالى ذُرّيَّة ً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في نصب قوله ذُرّيَّة ِ وجهان الأول أنه بدل من آل إبراهيم والثاني أن يكون نصباً على الحال أي اصطفاهم في حال كون بعضهم من بعض
المسألة الثانية في تأويل الآية وجوه الأول ذرية بعضها من بعض في التوحيد والإخلاص والطاعة ونظيره قوله تعالى الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ ( التوبة 67 ) وذلك بسبب اشتراكهم في النفاق والثاني ذرية بعضها من بعض بمعنى أن غير آدم عليه السلام كانوا متولدين من آدم عليه السلام ويكون المراد بالذرية من سوى آدم
أما قوله تعالى وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فقال القفال المعنى والله سميع لأقوال العباد عليم بضمائرهم وأفعالهم وإنما يصطفى من خلقه من يعلم استقامته قولاً وفعلاً ونظيره قوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ ( الأنعام 124 ) وقوله زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ ( الأنبياء 90 ) وفيه وجه آخر وهو أن اليهود كانوا يقولون نحن من ولد إبراهيم ومن آل عمران فنحن أبناء الله وأحباؤه والنصارى كانوا يقولون المسيح ابن الله وكان بعضهم عالماً بأن هذا الكلام باطل إلا أنه لتطييب قلوب العوام بقي مصراً عليه فالله تعالى كأنه يقول والله سميع لهذه الأقوال الباطلة منكم عليم بأغراضكم الفاسدة من هذه الأقوال فيجازيكم عليها فكان أول الآية بياناً لشرف الأنبياء والرسل وآخرها تهديداً لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم
واعلم أنه تعالى ذكر عقيب هذه الآية قصصاً كثيرة
القصة الاولى
واقعة حنة أم مريم عليهما السلام
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاٍّ نثَى وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

وفيه مسائل
المسألة الأولى في موضع إِذْ من الإعراب أقوال الأول قال أبو عبيدة إنها زائدة لغواً والمعنى قالت امرأة عمران ولا موضع لها من الإعراب قال الزجاج لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً لأنه لا يجوز إلغاء حرف من كتاب الله تعالى ولا يجوز حذف حرف من كتاب الله تعالى من غير ضرورة والثاني قال الأخفش والمبرد التقدير اذكر إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ ومثله في كتاب الله تعالى كثير الثالث قال الزجاج التقدير واصطفى آل عمران على العالمين إذ قالت امرأة عمران وطعن ابن الأنباري فيه وقال إن الله تعالى قرن اصطفاء آل عمران باصطفاء آدم ونوح ولما كان اصطفاؤه تعالى آدم ونوحاً قبل قول امرأة عمران استحال أن يقال إن هذا الاصطفاء مقيد بذلك الوقت الذي قالت امرأة عمران هذا الكلام فيه ويمكن أن يجاب عنه بأن أثر اصطفاء كل واحد إنما ظهرر عند وجوده وظهور طاعاته فجاز أن يقال إن الله اصطفى آدم عند وجوده ونوحاً عند وجوده وآل عمران عندما قالت امرأة عمران هذا الكلام الرابع قال بعضهم هذا متعلق بما قبله والتقدير والله سميع عليم إذ قالت امرأة عمران هذا القول
فإن قيل إن الله سميع عليم قبل أن قالت المرأة هذا القول فما معنى هذا التقييد
قلنا إن سمعه تعالى لذلك الكلام مقيد بوجود ذلك الكلام وعلمه تعالى بأنها تذكر ذلك مقيد بذكرها لذلك والتغير في العلم والسمع إنما يقع في النسب والمتعلقات
المسألة الثانية أن زكريا بن أذن وعمران بن ماثان كانا في عصر واحد وامرأة عمران حنة بنت فاقوذ وقد تزوج زكريا بابنته إيشاع أخت مريم وكان يحيى وعيسى عليهما السلام ابني خالة ثم في كيفية هذا النذر روايات
الرواية الأولى قال عكرمة إنها كانت عاقراً لا تلد وكانت تغبط النساء بالأولاد ثم قالت ( اللّهم إن لك علي نذراً إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس ليكون من سدنته )
والرواية الثانية قال محمد بن إسحاق إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد حتى شاخت وكانت يوماً في ظل شجرة فرأت طائراً يطعم فرخاً له فتحركت نفسها للولد فدعت ربها أن يهب لها ولداً فحملت بمريم وهلك عمران فلما عرفت جعلته لله محرراً أي خادماً للمسجد قال الحسن البصري إنها إنما فعلت ذلك بإلهام من الله ولولاه ما فعلت كما رأى إبراهيم ذبح ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر من الله وإن لم يكن عن وحي وكما ألهم الله أم موسى فقذفته في اليم وليس بوحي

المسألة الثالثة المحرر الذي جعل حراً خالصاً يقال حررت العبد إذا خلصته عن الرق وحررت الكتاب إذا أصلحته وخلصته فلم تبق فيه شيئاً من وجوه الغلط ورجل حر إذا كان خالصاً لنفسه ليس لأحد عليه تعلق والطين الحر الخالص عن الرمل والحجارة والحمأة والعيوب أما التفسير فقيل مخلصاً للعبادة عن الشعبي وقيل خادماً للبيعة وقيل عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله وقيل خادماً لمن يدرس الكتاب ويعلم في البيع والمعنى أنها نذرت أن تجعل ذلك الولد وقفاً على طاعة الله قال الأصم لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي فكان تحريرهم جعلهم أولادهم على الصفة التي ذكرنا وذلك لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع من الانتفاع ويجعلونهم محررين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى وقيل كان المحرر يجعل في الكنيسة يقوم بخدمتها حتى يبلغ الحلم ثم يخير بين المقام والذهاب فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب وإن اختار المقام فليس له بعد ذلك خيار ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر في بيت المقدس
المسألة الرابعة هذا التحرير لم يكن جائزاً إلا في الغلمان أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك لما يصيبها من الحيض والأذى ثم إن حنة نذرت مطلقاً إما لأنها بنت الأمر على التقدير أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلة إلى طلب الذكر
المسألة الخامسة في انتصاب قوله مُحَرَّرًا وجهان الأول أنه نصب على الحال من مَا وتقديره نذرت لك الذي في بطني محرراً والثاني وهو قول ابن قتيبة أن المعنى نذرت لك أن أجعل ما في بطني محرراً
ثم قال الله تعالى حاكياً عنها فَتَقَبَّلْ مِنّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ التقبل أخذ الشيء على الرضا قال الواحدي وأصله من المقابلة لأنه يقبل بالجزاء وهذا كلام من لا يريد بما فعله إلا الطلب لرضا الله تعالى والإخلاص في عبادته ثم قالت إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ والمعنى أنك أنت السميع لتضرعي ودعائي وندائي العليم بما في ضميري وقلبي ونيتي
واعلم أن هذا النوع من النذر كان في شرع بني إسرائيل وغير موجود في شرعنا والشرائع لا يمتنع اختلافها في مثل هذه الأحكام
قال تعالى فَلَمَّا وَضَعَتْهَا واعلم أن هذا الضمير إما أن يكون عائداً إلى الأنثى التي كانت في بطنها وكان عالماً بأنها كانت أنثى أو يقال إنها عادت إلى النفس والنسمة أو يقال عادت إلى المنذورة
ثم قال تعالى قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَى واعلم أن الفائدة في هذا الكلام أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها وكان الغالب على ظنها أنه ذكر فلم تشترط ذلك في كلامها وكانت العادة عندهم أن الذي يحرر ويفرغ لخدمة المسجد وطاعة الله هو الذكر دون الأنثى فقالت رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَى خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يعتمد به ومعتذرة من إطلاقها النذر المتقدم فذكرت ذلك لا على سبيل الإعلام لله تعالى

تعالى الله عن أن يحتاج إلى إعلامها بل ذكرت ذلك على سبيل الاعتذار
ثم قال الله تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ قرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر وَضَعَتْ برفع التاء على تقدير أنها حكاية كلامها والفائدة في هذا الكلام أنها لما قالت إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَى خافت أن يظن بها أنها تخبر الله تعالى فأزالت الشبهة بقولها وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وثبت أنها إنما قالت ذلك للاعتذار لا للاعلام والباقون بالجزم على أنه كلام الله وعلى هذه القراءة يكون المعنى أنه تعالى قال والله أعلم بما وضعت تعظيماً لولدها وتجهيلاً لها بقدر ذلك الولد ومعناه والله أعلم بالشيء الذي وضعت وبما علق به من عظائم الأمور وأن يجعله وولده آية للعالمين وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت وفي قراءة ابن عباس وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ على خطاب الله لها أي أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب والله هو العالم بما فيه من العجائب والآيات
ثم قال تعالى حكاية عنها وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاْنثَى وفيه قولان الأول أن مرادها تفضيل الولد الذكر على الأنثى وسبب هذا التفضيل من وجوه أحدها أن شرعهم أنه لا يجوز تحرير الذكور دون الإناث والثاني أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض وسائر عوارض النسوان والثالث الذكر يصلح لقوته وشدته للخدمة دون الأنثى فإنها ضعيفة لا تقوى على الخدمة والرابع أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى والخامس أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المعنى
والقول الثاني أن المقصود من هذا الكلام ترجيح هذه الأنثى على الذكر كأنها قالت الذكر مطلوبي وهذه الأنثى موهوبة الله تعالى وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبة لله وهذا الكلام يدل على أن تلك المرأة كانت مستغرقة في معرفة جلال الله عالمة بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه
ثم حكى تعالى عنها كلاماً ثانياً وهو قولها وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وفيه أبحاث
البحث الأول أن ظاهر هذا الكلام يدل على ما حكينا من أن عمران كان قد مات في حال حمل حنة بمريم فلذلك تولت الأم تسميتها لأن العادة أن ذلك يتولاه الآباء
البحث الثاني أن مريم في لغتهم العابدة فأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله تعالى أن يعصمها من آفات الدين والدنيا والذي يؤكد هذا قولها بعد ذلك وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
البحث الثالث أن قوله وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ معناه وإني سميتها بهذا اللفظ أي جعلت هذا اللفظ اسماً لها وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة
ثم حكى الله تعالى عنها كلاماً ثالثاً وهو قولها وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وذلك

لأنه لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلاً خادماً للمسجد تضرعت إلى الله تعالى في أن يحفظها من الشيطان الرجيم وأن يجعلها من الصالحات القانتات وتفسير الشيطان الرجيم قد تقدم في أول الكتاب
ولما حكى الله تعالى عن حنة هذه الكلمات قال فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما قال فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ولم يقل فتقبلها ربها بتقبل لأن القبول والتقبل متقاربان قال تعالى وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( نوح 17 ) أي إنباتاً والقبول مصدر قولهم قبل فلان الشيء قبولاً إذا رضيه قال سيبويه خمسة مصادر جاءت على فعول قبول وطهور ووضوء ووقود وولوغ إلا أن الأكثر في الوقود إذا كان مصدرا الضم وأجاز الفراء والزجاج قبولاً بالضم وروى ثعلب عن ابن الأعرابي يقال قبلته قبولاً وقبولا وفي الآية وجه آخر وهو أن ما كان من باب التفعل فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل كالتصبر والتجلد ونحوهما فإنهما يفيدان الجد في إظهار الصبر والجلادة فكذا ههنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبول
فإن قيل فلم لم يقل فتقبلها ربها بتقبل حسن حتى صارت المبالغة أكمل
والجواب أن لفظ التقبل وإن أفاد ما ذكرنا إلا أنه يفيد نوع تكلف على خلاف الطبع أما القبول فإنه يفيد معنى القبول على وفق الطبع فذكر التقبل ليفيد الجد والمبالغة ثم ذكر القبول ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبع بل على وفق الطبع وهذه الوجوه وإن كانت ممتنعة في حق الله تعالى إلا أنها تدل من حيث الاستعارة على حصول العناية العظيمة في تربيتها وهذا الوجه مناسب معقول
المسألة الثانية ذكر المفسرون في تفسير ذلك القبول الحسن وجوهاً
الوجه الأول أنه تعالى عصمها وعصم ولدها عيسى عليه السلام من مس الشيطان روى أبو هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إلا مريم وابنها ) ثم قال أبو هريرة اقرؤا إن شئتم وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ طعن القاضي في هذا الخبر وقال إنه خبر واحد على خلاف الدليل فوجب رده وإنما قلنا إنه على خلاف الدليل لوجوه أحدها أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر والصبي ليس كذلك والثاني أن الشيطان لو تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم والثالث لم خص بهذا الاستثناء مريم وعيسى عليهما السلام دون سائر الأنبياء عليهم السلام الرابع أن ذلك النخس لو وجد بقي أثره ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء فلما لم يكن كذلك علمنا بطلانه واعلم أن هذه الوجوه محتملة وبأمثالها لا يجوز دفع الخبر والله أعلم
الوجه الثاني في تفسير أن الله تعالى تقبلها بقبول حسن ما روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة وقالت خذوا هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم فقال لهم زكريا أنا أحق بها عندي خالتها فقالوا لا حتى نقترع عليها فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها على أن كل من ارتفع قلمه فهو

الراجح ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات ففي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماء وترسب أقلامهم فأخذها زكريا
الوجه الثالث روى القفال عن الحسن أنه قال إن مريم تكلمت في صباها كما تكلم المسيح ولم تلتقم ثدياً قط وإن رزقها كان يأتيها من الجنة
الوجه الرابع في تفسير القبول الحسن أن المعتاد في تلك الشريعة أن التحرير لا يجوز إلا في حق الغلام حين يصير عاقلاً قادراً على خدمة المسجد وههنا لما علم الله تعالى تضرع تلك المرأة قبل تلك الجارية حال صغرها وعدم قدرتها على خدمة المسجد فهذا كله هو الوجوه المذكورة في تفسير القبول الحسن
ثم قال الله تعالى وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا قال ابن الأنباري التقدير أنبتها فنبتت هي نباتاً حسناً ثم منهم من صرف هذا النبات الحسن إلى ما يتعلق بالدنيا ومنهم من صرفه إلى ما يتعلق بالدين أما الأول فقالوا المعنى أنها كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام واحد وأما في الدين فلأنها نبتت في الصلاح والسداد والعفة والطاعة
ثم قال الله تعالى وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا وفيه مسألتان
المسألة الأولى يقال كفل يكفل كفالة وكفلاً فهو كافل وهو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح مصالحه وفي الحديث ( أنا وكافل اليتيم كهاتين ) وقال الله تعالى أَكْفِلْنِيهَا
المسألة الثانية قرأ عاصم وحمزة والكسائي وَكَفَّلَهَا بالتشديد ثم اختلفوا في زكريا فقرأ عاصم بالمد وقرأ حمزة والكسائي بالقصر على معنى ضمها الله تعالى إلى زكريا فمن قرأ ( زكرياء ) بالمد أظهر النصب ومن قرأ بالقصر كان في محل النصب والباقون قرأوا بالمد والرفع على معنى ضمها زكرياء إلى نفسه وهو الاختيار لأن هذا مناسب لقوله تعالى أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وعليه الأكثر وعن ابن كثير في رواية كفلها بكسر الفاء وأما القصر والمد في زكريا فهما لغتان كالهيجاء والهيجا وقرأ مجاهد فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا وَأَنبَتَهَا وَكَفَّلَهَا على لفظ الأمر في الأفعال الثلاثة ونصب رَبُّهَا كأنها كانت تدعو الله فقالت اقبلها يا ربها وأنبتها يا ربها واجعل زكريا كافلاً لها
المسألة الثالثة اختلفوا في كفالة زكريا عليه السلام إياها متى كانت فقال الأكثرون كان ذلك حال طفوليتها وبه جاءت الروايات وقال بعضهم بل إنما كفلها بعد أن فطمت واحتجوا عليه بوجهين الأول أنه تعالى قال وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ثم قال وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا وهذا يوهم أن تلك الكفالة بعد ذلك النبات الحسن والثاني أنه تعالى قال وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ مَرْيَمَ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع وقت تلك الكفالة وأصحاب القول الأول أجابوا بأن الواو لا توجب الترتيب فلعل الانبات الحسن وكفالة زكرياء حصلا معاً
وأما الحجة الثانية فلعل دخوله عليها وسؤاله منها هذا السؤال إنما وقع في آخر زمان الكفالة

ثم قال الله كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا وفيه مسائل
المسألة الأولى الْمِحْرَابَ الموضع العالي الشريف قال عمر بن أبي ربيعة
ربة محراب إذا جئتها
لم أدن حتى أرتقي سلما
واحتج الأصمعي على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ ( ص 21 ) والتسور لا يكون إلا من علو وقيل المحراب أشرف المجالس وأرفعها يروى أنها لما صارت شابة بنى زكريا عليه السلام لها غرفة في المسجد وجعل بابها في وسطه لا يصعد إليه إلا بسلم وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب
المسألة الثانية احتج أصحابنا على صحة القول بكرامة الأولياء بهذه الآية ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أن زكرياء كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله فحصول ذلك الرزق عندها إما أن يكون خارقاً للعادة أو لا يكون فإن قلنا إنه غير خارق للعادة فهو باطل من خمسة أوجه الأول أن على هذا التقدير لا يكون حصول ذلك الرزق عند مريم دليلاً على علو شأنها وشرف درجتها وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصية ومعلوم أن المراد من الآية هذا المعنى والثاني أنه تعالى قال بعد هذه الآية هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّة ً طَيّبَة ً والقرآن دل على أنه كان آيساً من الولد بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته فلما رأى انخراق العادة في حق مريم طمع في حصول الولد فيستقيم قوله هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ أما لو كان الذي شاهده في حق مريم لم يكن خارقاً للعادة لم تكن مشاهدة ذلك سبباً لطمعه في انخراق العادة بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر الثالث أن التنكر في قوله وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا يدل على تعظيم حال ذلك الرزق كأنه قيل رزقاً أي رزق غريب عجيب وذلك إنما يفيد الغرض اللائق لسياق هذه الآية لو كان خارقاً للعادة الرابع هو أنه تعالى قال وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 91 ) ولولا أنه ظهر عليهما من الخوارق وإلا لم يصح ذلك
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال المراد من ذلك هو أن الله تعالى خلق لها ولداً من غير ذكر
قلنا ليس هذا بآية بل يحتاج تصحيحه إلى آية فكيف نحمل الآية على ذلك بل المراد من الآية ما يدل على صدقها وطهارتها وذلك لا يكون إلا بظهور خوارق العادات على يدها كما ظهرت على يد ولدها عيسى عليه السلام الخامس ما تواترت الروايات به أن زكريا عليه السلام كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها السلام كان فعلاً خارقاً للعادة فنقول إما أن يقال إنه كان معجزة لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك والأول باطل لأن النبي الموجود في ذلك الزمان هو زكريا عليه السلام ولو كان ذلك معجزة له لكان هو عالماً بحاله وشأنه فكان يجب أن لا يشتبه أمره عليه وأن لا يقول لمريم أَنَّى لَكِ هَاذَا وأيضاً فقوله تعالى هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ مشعر بأنه لما سألها عن أمر تلك الأشياء ثم إنها ذكرت له أن ذلك من عند الله فهنالك طمع في انخراق العادة في حصول الولد من المرأة العقيمة الشيخة العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال

إلا بأخبار مريم ومتى كان الأمر كذلك ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزة لزكريا عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال إنها كانت كرامة لعيسى عليه السلام أو كانت كرامة لمريم عليها السلام وعلى التقديرين فالمقصود حاصل فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية على وقوع كرامات الأولياء
اعترض أبو علي الجبائي وقال لم لا يجوز أن يقال إن تلك الخوارق كانت من معجزات زكريا عليه السلام وبيانه من وجهين الأول أن زكريا عليه السلام دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقاً وأنه ربما كان غافلاً عن تفاصيل ما يأتيها من الأرزاق من عند الله تعالى فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معين قال لها أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ فعنذ ذلك يعلم أن الله تعالى أظهر بدعائه تلك المعجزة والثاني يحتمل أن يكون زكريا يشاهد عند مريم رزقاً معتاداً إلا أنه كان يأتيها من السماء وكان زكريا يسألها عن ذلك حذراً من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها فقالت هو من عند الله لا من عند غيره
المقام الثاني أنا لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من خوارق العادات بل معنى الآية أن الله تعالى كان قد سبب لها رزقاً على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الإنفاق على الزاهدات العابدات فكان زكريا عليه السلام إذا رأى شيئاً من ذلك خاف أنه ربما أتاها ذلك الرزق من وجه لا ينبغي فكان يسألها عن كيفية الحال هذا مجموع ما قاله الجبائي في ( تفسيره ) وهو في غاية الضعف لأنه لو كان ذلك معجزاً لزكريا عليه السلام كان مأذوناً له من عند الله تعالى في طلب ذلك ومتى كان مأذوناً في ذلك الطلب كان عالماً قطعاً بأن يحصل وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال ولم يبق أيضاً لقوله هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ فائدة وهذا هو الجواب بعينه عن الوجه الثاني
وأما سؤاله الثالث ففي غاية الركاكة لأن هذا التقدير لا يبقى فيه وجه اختصاص لمريم بمثل هذه الواقعة وأيضاً فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا ينبغي فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة فعلمنا سقوط هذه الأسئلة وبالله التوفيق
أما المعتزلة فقد احتجوا على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء ودليل النبوّة لا يوجد مع غير الأنبياء كما أن الفعل المحكم لما كان دليلاً على العلم لا جرم لا يوجد في حق غير العالم
والجواب من وجوه الأول وهو أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدعي فإن ادعى صاحبه النبوّة فذاك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبياً وإن ادعى الولاية فذلك يدل على كونه ولياً والثاني قال بعضهم الأنبياء مأمورون بإظهارها والأولياء مأمورون بإخفائها والثالث وهو أن النبي يدعي المعجز ويقطع به والولي لا يمكنه أن يقطع به والرابع أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة فهذا جملة الكلام في هذا الباب وبالله التوفيق
ثم قال تعالى حكاية عن مريم عليها السلام إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ فهذا يحتمل أن يكون من جملة كلام مريم وأن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى وقوله بِغَيْرِ حِسَابٍ أي بغير تقدير لكثرته أو من غير مسألة سألها على سبيل يناسب حصولها وهذا كقوله وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ( الطلاق 3 ) وههنا آخر الكلام في قصة حنة

القصة الثانية
واقعة زكريا عليه السلام
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّة ً طَيِّبَة ً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قولنا ثم وهناك وهنالك يستعمل في المكان ولفظة عند وحين يستعملان في الزمان قال تعالى فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ( الأعراف 119 ) وهو إشارة إلى المكان الذي كانوا فيه وقال تعالى إِذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ( الفرقان 13 ) أي في ذلك المكان الضيق ثم قد يستعمل لفظة هُنَالِكَ في الزمان أيضاً قال تعالى هُنَالِكَ الْوَلَايَة ُ لِلَّهِ الْحَقّ ( الكهف 44 ) فهذا إشارة إلى الحال والزمان
إذا عرفت هذا فنقول قوله هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ إن حملناه على المكان فهو جائز أي في ذلك المكان الذي كان قاعداً فيه عند مريم عليها السلام وشاهد تلك الكرامات دعا ربه وإن حملناه على الزمان فهو أيضاً جائز يعني في ذلك الوقت دعا ربه
المسألة الثانية اعلم أن قوله هُنَالِكَ دَعَا يقتضي أنه دعا بهذا الدعاء عند أمر عرفه في ذلك الوقت له تعلق بهذا الدعاء وقد اختلفوا فيه والجمهور الأعظم من العلماء المحققين والمفسرين قالوا هو أن زكريا عليه السلام رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء ومن فاكهة الشتاء في الصيف فلما رأى خوارق العادات عندها طمع في أن يخرقها الله تعالى في حقه أيضاً فيرزقه الولد من الزوجة الشيخة العاقر
والقول الثاني وهو قول المعتزلة الذين ينكرون كرامات الأولياء وإرهاصات الأنبياء قالوا إن زكريا عليه السلام لما رأى آثار الصلاح والعفاف والتقوى مجتمعة في حق مريم عليها السلام اشتهى الولد وتمناه فدعا عند ذلك واعلم أن القول الأول أولى وذلك لأن حصول الزهد والعفاف والسيرة المرضية لا يدل على انخراق العادات فرؤية ذلك لا يحمل الإنسان على طلب ما يخرق العادة وأما رؤية ما يخرق العادة قد يطمعه في أن يطلب أيضاً فعلاً خارقاً للعادة ومعلوم أن حدوث الولد من الشيخ الهرم والزوجة العاقر من خوارق العادات فكان حمل الكلام على هذا الوجه أولى
فإن قيل إن قلتم إن زكريا عليه السلام ما كان يعلم قدرة الله تعالى على خرق العادات إلا عندما شاهد تلك الكرامات عند مريم عليها السلام كان في هذا نسبة الشك في قدرة الله تعالى إلى زكريا عليه السلام
فإن قلنا إنه كان عالماً بقدرة الله على ذلك لمن تكن مشاهدة تلك الأشياء سبباً لزيادة علمه بقدرة الله

تعالى فلم يكن لمشاهدة تلك الكرامات أثر في ذلك فلا يبقى لقوله هنالك أثر
والجواب أنه كان قبل ذلك عالماً بالجواز فأما أنه هل يقع أم لا فلم يكن عالماً به فلما شاهد علم أنه إذا وقع كرامة لولي فبأن يجوز وقوع معجزة لنبي كان أولى فلا جرم قوي طمعه عند مشاهدة تلك الكرامات
المسألة الثالثة إن دعاء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكون إلا بعد الإذن لاحتمال أن لا تكون الإجابة مصلحة فحينئذ تصير دعوته مردودة وذلك نقصان في منصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هكذا قاله المتكلمون وعندي فيه بحث وذلك لأنه تعالى لما أذن في الدعاء مطلقاً وبين أنه تارة يجيب وأخرى لا يجيب فللرسول أن يدعو كلما شاء وأراد مما لا يكون معصية ثم إنه تعالى تارة يجيب وأخرى لا يجيب وذلك لا يكون نقصاناً بمنصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم على باب رحمة الله تعالى سائلون فإن أجابهم فبفضله وإحسانه وإن لم يجبهم فمن المخلوق حتى يكون له منصب على باب الخالق
أما قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّة ً طَيّبَة ً ففيه مسائل
المسألة الأولى أما الكلام في لفظة لَّدُنْ فسيأتي في سورة الكهف والفائدة في ذكره ههنا أن حصول الولد في العرف والعادة له أسباب مخصوصة فلما طلب الولد مع فقدان تلك الأسباب كان المعنى أُريد منك إلاهي أن تعزل الأسباب في هذه الواقعة وأن تحدث هذا الولد بمحض قدرتك من غير توسط شيء من هذه الأسباب
المسألة الثانية لذرية النسل وهو لفظ يقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد منه ههنا ولد واحد وهو مثل قوله فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً ( مريم 5 ) قال الفراء وأنث طَيّبَة ً لتأنيث الذرية في الظاهر فالتأنيث والتذكير تارة يجيء على اللفظ وتارة على المعنى وهذا إنما نقوله في أسماء الأجناس أما في أسماء الأعلام فلا لأنه لا يجوز أن يقال جاءت طلحة لأن أسماء الأعلام لا تفيد إلا ذلك الشخص فإذا كان ذلك الشخص مذكراً لم يجز فيها إلا التذكير
المسألة الثالثة قوله تعالى إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ليس المراد منه أن يسمع صوت الدعاء فذلك معلوم بل المراد منه أن يجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه وهو كقول المصلين سمع الله لمن حمده يريدون قبل حمد من حمد من المؤمنين وهذا متأكد بما قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام في سورة مريم وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً ( مريم 4 )
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَة ُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَة ٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ قَالَ كَذَالِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
وفيه مسألتان

المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي فناداه الملائكة على التذكير والإمالة والباقون على التأنيث على اللفظ وقيل من ذكر فلأن الفعل قبل الاسم ومن أنث فلأن الفعل للملائكة وقرأ ابن عامر الْمِحْرَابَ بالإمالة والباقون بالتفخيم وفي قراءة ابن مسعود فناداه جبريل
المسألة الثانية ظاهر اللفظ يدل على أن النداء كان من الملائكة ولا شك أن هذا في التشريف أعظم فإن دل دليل منفصل أن المنادي كان جبريل عليه السلام فقط صرنا إليه وحملنا هذ اللفظ على التأويل فإنه يقال فلان يأكل الأطعمة الطيبة ويلبس الثياب النفيسة أي يأكل من هذا الجنس ويلبس من هذا الجنس مع أن المعلوم أنه لم يأكل جميع الأطعمة ولم يلبس جميع الأثواب فكذا ههنا ومثله في القرآن الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ( آل عمران 173 ) وهم نعيم بن مسعود إن الناس يعني أبا سفيان قال المفضل بن سلمة إذا كان القائل رئيساً جاز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه فلما كان جبريل رئيس الملائكة وقلما يبعث إلا ومعه جمع صح ذلك
أما قوله وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ فهو يدل على أن الصلاة كانت مشروعة في دينهم والمحراب قد ذكرنا معناه
أما قوله أَنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى ففيه مسائل
المسألة الأولى أما البشارة فقد فسرناها في قوله تعالى وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( البقرة 25 ) وفي قوله يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى وجهان الأول أنه تعالى كان قد عرف زكريا أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى وله ذرية عالية فإذا قيل إن ذلك النبي المسمى بيحيى هو ولدك كان ذلك بشارة له بيحيى عليه السلام والثاني أن الله يبشرك بولد اسمه يحيى
المسألة الثانية قرأ ابن عامر وحمزة ءانٍ بكسر الهمزة والباقون بفتحها أما الكسر فعلى إرادة القول أو لأن النداء نوع من القول وأما الفتح فتقديره فنادته الملائكة بأن الله يبشرك
المسألة الثالثة قرأ حمزة والكسائي يُبَشّرُكِ بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين وقرأ الباقون يُبَشّرُكِ وقرىء أيضاً يُبَشّرُكِ قال أبو زيد يقال بشر يبشر بشراً وبشر يبشر تبشيراً وأبشر يبشر ثلاث لغات
المسألة الرابعة قرأ حمزة والكسائي يَحْيَى بالإمالة لأجل الياء والباقون بالتفخيم وأما أنه لم سمى يحيى فقد ذكرناه في سورة مريم واعلم أنه تعالى ذكر من صفات يحيى ثلاثة أنواع
الصفة الأولى قوله مُصَدّقاً بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الواحدي قوله مُصَدّقاً بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ نصب على الحال لأنه نكرة ويحيى معرفة
المسألة الثانية في المراد بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ قولان الأول وهو قول أبي عبيدة أنها كتاب من الله واستشهد بقولهم أنشد فلان كلمة والمراد به القصيدة الطويلة

والقول الثاني وهو اختيار الجمهور أن المراد من قوله بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ هو عيسى عليه السلام قال السدي لقيت أم عيسى أم يحيى عليهما السلام وهذه حامل بيحيى وتلك بعيسى فقالت يا مريم أشعرت أني حبلى فقالت مريم وأنا أيضاً حبلى قالت امرأة زكريا فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله مُصَدّقاً بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وقال ابن عباس إن يحيى كان أكبر سناً من عيسى بستة أشهر وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة الله وروحه ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى عليهما السلام فإن قيل لم سمي عيسى كلمة في هذه الآية وفي قوله إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ( النساء 171 ) قلنا فيه وجوه الأول أنه خلق بكلمة الله وهو قوله كُنَّ من غير واسطة الأب فلما كان تكوينه بمحض قول الله كُنَّ وبمحض تكوينه وتخليقه من غير واسطة الأب والبذر لا جرم سمى كلمة كما يسمى المخلوق خلقاً والمقدور قدرة والمرجو رجاء والمشتهي شهوة وهذا باب مشهور في اللغة والثاني أنه تكلم في الطفولية وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية فكان في كونه متكلماً بالغاً مبلغاً عظيماً فسمي كلمة بهذا التأويل وهو مثل ما يقال فلان جود وإقبال إذا كان كاملاً فيهما والثالث أن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلاهية فسمى كلمة بهذا التأويل وهو مثل تسميته روحاً من حيث إن الله تعالى أحيا به من الضلالة كما يحيا الإنسان بالروح وقد سمى الله القرآن روحاً فقال وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) والرابع أنه قد وردت البشارة به في كتب الأنبياء الذين كانوا قبله فلما جاء قيل هذا هو تلك الكلمة فسمى كلمة بهذا التأويل قالوا ووجه المجاز فيه أن من أخبر عن حدوث أمر فإذا حدث ذلك الأمر قال قد جاء قولي وجاء كلامي أي ما كنت أقول وأتكلم به ونظيره قوله تعالى وَكَذالِكَ حَقَّتْ كَلِمَة ُ رَبّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ( غافر 6 ) وقال وَلَاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( الزمر 71 ) الخامس أن الإنسان قد يسمى بفضل الله ولطف الله فكذا عيسى عليه السلام كان اسمه العلم كلمة الله وروح الله واعلم أن كلمة الله هي كلامه وكلامه على قول أهل السنة صفة قديمة قائمة بذاته وعلى قول المعتزلة أصوات يخلقها الله تعالى في جسم مخصوص دالة بالوضع على معان مخصوصة والعلم الضروري حاصل بأن الصفة القديمة أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال أنها هي ذات عيسى عليه السلام ولما كان ذلك باطلاً في بداهة العقول لم يبق إلا التأويل
الصفة الثانية ليحيى عليه السلام قوله وَسَيّدًا والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً الأول قال ابن عباس السيد الحليم وقال الجبائي إنه كان سيداً للمؤمنين رئيساً لهم في الدين أعني في العلم والحلم والعبادة والورع وقال مجاهد الكريم على الله وقال ابن المسيب الفقيه العالم وقال عكرمة الذي لا يغلبه الغضب قال القاضي السيد هو المتقدم المرجوع إليه فلما كان سيداً في الدين كان مرجوعاً إليه في الدين وقدوة في الدين فيدخل فيه جميع الصفات المذكورة من العلم والحلم والكرم والعفة والزهد والورع
الصفة الثالثة قوله وَحَصُورًا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الحصور والحصر في اللغة الحبس يقال حصره يحصره حصراً وحصر الرجل أي اعتقل بطنه والحصور الذي يكتم السر ويحبسه والحصور الضيق البخيل وأما المفسرون

فلهم قولان أحدهما أنه كان عاجزاً عن إتيان النساء ثم منهم من قال كان ذلك لصغر الآلة ومنهم من قال كان ذلك لتعذر الإنزال ومنهم من قال كان ذلك لعدم القدرة فعلى هذا الحصور فعول بمعنى مفعول كأنه قال محصور عنهن أي محبوس ومثله ركوب بمعنى مركوب وحلوب بمعنى محلوب وهذا القول عندنا فاسد لأن هذا من صفات النقصان وذكر صفة النقصان في معرض المدح لا يجوز ولأن على هذا التقدير لا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً
والقول الثاني وهو اختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد وذلك لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها كالأكول الذي يكثر منه الأكل وكذا الشروب والظلوم والغشوم والمنع إنما يحصل أن لو كان المقتضي قائماً فلولا أن القدرة والداعية كانتا موجودتين وإلا لما كان حاصراً لنفسه فضلاً عن أن يكون حصوراً لأن الحاجة إلى تكثير الحصر والدفع إنما تحصل عند قوة الرغبة والداعية والقدرة وعلى هذا الحصور بمعنى الحاصر فعول بمعنى فاعل
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ترك النكاح أفضل وذلك لأنه تعالى مدحه بترك النكاح وذلك يدل على أن ترك النكاح أفضل في تلك الشريعة وإذا ثبت أن الترك في تلك الشريعة أفضل وجب أن يكون الأمر كذلك في هذه الشريعة بالنص والمعقول أما النص فقوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) وأما المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان والنسخ على خلاف الأصل
الصفة الرابعة قوله وَنَبِيّا واعلم أن السيادة إشارة إلى أمرين أحدهما قدرته على ضبط مصالح الخلق فيما يرجع إلى تعليم الدين والثاني ضبط مصالحهم فيما يرجع إلى التأديب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما الحصور فهو إشارة إلى الزهد التام فلما اجتمعا حصلت النبوة بعد ذلك لأنه ليس بعدهما إلا النبوة
الصفة الخامسة قوله مّنَ الصَّالِحِينَ وفيه ثلاثة أوجه الأول معناه أنه من أولاد الصالحين والثاني أنه خير كما يقال في الرجل الخير ( أنه من الصالحين ) والثالث أن صلاحه كان أتم من صلاح سائر الأنبياء بدليل قوله عليه الصلاة والسلام ( ما من نبي إلا وقد عصى أو هم بمعصية غير يحيى فإنه لم يعص ولم يهم )
فإن قيل لما كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح فلما وصفه بالنبوة فما الفائدة في وصفه بعد ذلك بالصلاح
قلنا أليس أن سليمان عليه السلام بعد حصول النبوة قال وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ( النمل 19 ) وتحقيق القول فيه أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة فذلك القدر بالنسبة إليهم يجري مجرى حفظ الواجبات بالنسبة إلينا ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر وكل من كان أكثر نصيباً منه كان أعلى قدراً والله أعلم
قوله تعالى قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ في الآية سؤالات

السؤال الأول قوله رَبّ خطاب مع الله أو مع الملائكة لأنه جائز أن يكون خطاباً مع الله لأن الآية المتقدمة دلت على أن الذين نادوه هم الملائكة وهذا الكلام لا بد أن يكون خطاباً مع ذلك المنادي لا مع غيره ولا جائز أن يكون خطاباً مع الملك لأنه لا يجوز للإنسان أن يقول للملك يا رب
والجواب للمفسرين فيه قولان الأول أن الملائكة لما نادوه بذلك وبشروه به تعجب زكريا عليه السلام ورجع في إزالة ذلك التعجب إلى الله تعالى والثاني أنه خطاب مع الملائكة والرب إشارة إلى المربي ويجوز وصف المخلوق به فإنه يقال فلان يربيني ويحسن إلي
السؤال الثاني لما كان زكريا عليه السلام هو الذي سأل الولد ثم أجابه الله تعالى إليه فلم تعجب منه ولم استبعده
الجواب لم يكن هذا الكلام لأجل أنه كان شاكاً في قدرة الله تعالى على ذلك والدليل عليه وجهان الأول أن كل أحد يعلم أن خلق الولد من النطفة إنما كان على سبيل العادة لأنه لو كان لا نطفة إلا من خلق ولا خلق إلا من نطفة لزم التسلسل ولزم حدوث الحوادث في الأزل وهو محال فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله تعالى لا من نطفة أو من نطفة خلقها الله تعالى لا من إنسان
والوجه الثاني أن زكريا عليه السلام طلب ذلك من الله تعالى فلو كان ذلك محالاً ممتنعاً لما طلبه من الله تعالى فثبت بهذين الوجهين أن قوله أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ ليس للاستبعاد بل ذكر العلماء فيه وجوهاً الأول أنه قوله إِنّى معناه من أين ويحتمل أن يكون معناه كيف تعطي ولداً على القسم الأول أم على القسم الثاني وذلك لأن حدوث الولد يحتمل وجهين أحدهما أن يعيد الله شبابه ثم يعطيه الولد مع شيخوخته فقوله أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ معناه كيف تعطي الولد على القسم الأول أم على القسم الثاني فقيل له كذلك أي على هذا الحال والله يفعل ما يشاء وهذا القول ذكره الحسن والأصم والثاني أن من كان آيساً من الشيء مستبعداً لحصوله ووقوعه إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود فربما صار كالمدهوش من شدة الفرح فيقول كيف حصل هذا ومن أين وقع هذا كمن يرى إنساناً وهبه أموالاً عظيمة يقول كيف وهبت هذه الأموال ومن أين سمحت نفسك بهبتها فكذا ههنا لما كان زكريا عليه السلام مستبعداً لذلك ثم اتفق إجابة الله تعالى إليه صار من عظم فرحه وسروره قال ذلك الكلام الثالث أن الملائكة لما بشّروه بيحيى لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة أنثى أو من صلبه فذكر هذا الكلام لذلك الاحتمال الرابع أن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء فطلبه من السيد ثم إن السيد يعده بأنه سيعطيه بعد ذلك فالتذ السائل بسماع ذلك الكلام فربما أعاد السؤال ليعيد ذلك الجواب فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى فالسبب في إعادة زكريا هذا الكلام يحتمل أن يكون من هذا الباب الخامس نقل سفيان بن عيينة أنه قال كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان قد نسي ذلك السؤال وقت البشارة فلما سمع البشارة زمان الشيخوخة لا جرم استبعد ذلك على مجرى العادة لا شكا في قدرة الله تعالى فقال ما قال السادس نقل عن السدي أن زكريا عليه السلام جاءه الشيطان عند سماع البشارة فقال إن هذا الصوت من الشيطان وقد سخر منك فاشتبه الأمر على زكريا عليه السلام فقال رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وكان مقصوده من هذا الكلام أن يريه الله تعالى آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي والملائكة لا من إلقاء

الشيطان قال القاضي لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشيطان عند الوحي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع ويمكن أن يقال لما قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله تعالى بواسطة الملائكة ولا مدخل للشيطان فيه أما ما يتعلق بمصالح الدنيا وبالولد فربما لم يتأكد ذلك المعجز فلا جرم بقي احتمال كون ذلك من الشيطان فلا جرم رجع إلى الله تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال
أما قوله تعالى وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ ففيه مسائل
المسألة الأولى الكبر مصدر كبر الرجل يكبر إذا أسن قال ابن عباس كان يوم بشر بالولد ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت تسعين وثمان
المسألة الثانية قال أهل المعاني كل شيء صادفته وبلغته فقد صادفك وبلغك وكلما جاز أن يقول بلغت الكبر جاز أن يقول بلغني الكبر يدل عليه قول العرب لقيت الحائط وتلقاني الحائط
فإن قيل يجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد قلنا هذا لا يجوز والفرق بين الموضعين أن الكبر كالشيء الطالب للإنسان فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضاً يأتيه بمرور السنين عليه أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب فظهر الفرق
أما قوله وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ
اعلم أن العاقر من النساء التي لا تلد يقال عقر يعقر عقراً ويقال أيضاً عقر الرجل وعقر بالحركات الثلاثة في القاف إذا لم يحمل له ورمل عاقر لا ينبت شيئاً واعلم أن زكريا عليه السلام ذكر كبر نفسه مع كون زوجته عاقراً لتأكيد حال الاستبعاد
أما قوله قَالَ كَذالِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ففيه بحثان الأول أن قوله قَالَ عائد إلى مذكور سابق وهو الرب المذكور في قوله قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وقد ذكرنا أن ذلك يحتمل أن يكون هو الله تعالى وأن يكون هو جبريل
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) كَذالِكَ اللَّهُ مبتدأ وخبر أي على نحو هذه الصفة الله ويفعل ما يشاء بيان له أي يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادة
قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّى ءَايَة ً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِى ِّ وَالإِبْكَارِ
واعلم أن زكريا عليه السلام لفرط سروره بما بشّر به وثقته بكرم ربه وإنعامه عليه أحب أن يجعل له

علامة تدل على حصول العلوق وذلك لأن العلوق لا يظهر في أول الأمر فقال رَبّ اجْعَل لِّى ءايَة ً فقال الله تعالى أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكره ههنا ثلاثة أيام وذكر في سورة مريم ثلاثة ليالي فدل مجموع الآيتين على أن تلك الآية كانت حاصلة في الأيام الثلاثة مع لياليها
المسألة الثانية ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً أحدها أنه تعالى حبس لسانه ثلاثة أيام فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزاً وفيه فائدتان إحداهما أن يكون ذلك آية على علوق الولد والثانية أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا وأقدره على الذكر والتسبيح والتهليل ليكون في تلك المدة مشتغلاً بذكر الله تعالى وبالطاعة والشكر على تلك النعمة الجسيمة وعلى هذا التقدير يصير الشيء الواحد علامة على المقصود وأداء لشكر تلك النعمة فيكون جامعاً لكل المقاصد
ثم اعلم أن تلك الواقعة كانت مشتملة على المعجز من وجوه أحدها أن قدرته على التكلم بالتسبيح والذكر وعجزه عن التكلم بأمور الدنيا من أعظم المعجزات وثانيها أن حصول ذلك المعجز في تلك الأيام المقدورة مع سلامة البنية واعتدال المزاج من جملة المعجزات وثالثها أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة فقد حصل الولد ثم إن الأمر خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضاً من المعجزات
القول الثاني في تفسير هذه الآية وهو قول أبي مسلم أن المعنى أن زكريا عليه السلام لما طلب من الله تعالى آية تدله على حصول العلوق قال آيتك أن لا تكلم أي تصير مأموراً بأن لا تتكلم ثلاثة أيام بلياليها مع الخلق أي تكون مشتغلاً بالذكر والتسبيح والتهليل معرضاً عن الخلق والدنيا شاكراً لله تعالى على إعطاء مثل هذه الموهبة فإن كانت لك حاجة دل عليها بالرمز فإذا أمرت بهذه الطاعة فاعلم أنه قد حصل المطلوب وهذا القول عندي حسن معقول وأبو مسلم حسن الكلام في التفسير كثير الغوص على الدقائق واللطائف
القول الثالث روي عن قتادة أنه عليه الصلاة والسلام عوقب بذلك من حيث سأل الآية بعد بشارة الملائكة فأخذ لسانه وصير بحيث لا يقدر على الكلام
أما قوله إِلاَّ رَمْزًا ففيه مسألتان
المسألة الأولى أصل الرمز الحركة يقال ارتمز إذا تحرك ومنه قيل للبحر الراموز ثم اختلفوا في المراد بالرمز ههنا على أقوال أحدها أنه عبارة عن الإشارة كيف كانت باليد أو الرأس أو الحاجب أو العين أو الشفة والثاني أنه عبارة عن تحريك الشفتين باللفظ من غير نطق وصوت قالوا وحمل الرمز على هذا المعنى أولى لأن الإشارة بالشفتين يمكن وقوعها بحيث تكون حركات الشفتين وقت الرمز مطابقة لحركاتهما عند النطق فيكون الاستدلال بتلك الحركات على المعاني الذهنية أسهل والثالث وهو أنه كان يمكنه أن يتكلم بالكلام الخفي وأما رفع الصوت بالكلام فكان ممنوعاً منه
فإن قيل الرمز ليس من جنس الكلام فكيف استثنى منه
قلنا لما أدى ما هو المقصود من الكلام سمي كلاماً ويجوز أيضاً أن يكون استثناءً منقطعاً فأما إن

حملنا الرمز على الكلام الخفي فإن الإشكال زائل
المسألة الثانية قرأ يحيى بن وثاب إِلاَّ رَمْزًا بضمتين جمع رموز كرسول ورسل وقرىء رَمْزًا بفتح الراء والميم جمع رامز كخادم وخدم وهو حال منه ومن الناس ومعنى إِلاَّ رَمْزًا إلا مترامزين كما يتكلم الناس مع الأخرس بالإشارة ويكلمهم
ثم قال الله تعالى وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وفيه قولان أحدهما أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا إِلاَّ رَمْزًا فأما في الذكر والتسبيح فقد كان لسانه جيداً وكان ذلك من المعجزات الباهرة والثاني إن المراد منه الذكر بالقلب وذلك لأن المستغرقين في بحار معرفة الله تعالى عادتهم في الأول أن يواظبوا على الذكر اللساني مدة فإذا امتلأ القلب من نور ذكر الله سكت اللسان وبقي الذكر في القلب ولذلك قالوا من عرف الله كل لسانه فكأن زكريا عليه السلام أمر بالسكوت واستحضار معاني الذكر والمعرفة واستدامتها
وَسَبّحْ بِالْعَشِى ّ وَالإبْكَارِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى العشي من حين نزول الشمس إلى أن تغيب قال الشاعر فلا الظل من برد الضحى تستطيعه
ولا الفيء من برد العشى تذوق
والفيء إنما يكون من حين زوال الشمس إلى أن يتناهى غروبها وأما الإبكار فهو مصدر بكرر يبكر إذا خرج للأمر في أول النهار ومثله بكر وابتكر وبكر ومنه الباكورة لأول الثمرة هذا هو أصل اللغة ثم سمي ما بين طلوع الفجر إلى الضحى إبكاراً كما سمي إصباحاً وقرأ بعضهم بِالْعَشِى ّ وَالإبْكَارِ بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار ويقال أتيته بكراً بفتحتين
المسألة الثانية في قوله وَسَبّحْ قولان أحدهما المراد منه وصل لأن الصلاة تسمى تسبيحاً قال الله تعالى فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وأيضاً الصلاة مشتملة على التسبيح فجاز تسمية الصلاة بالتسبيح وههنا الدليل دل على وقوع هذا المحتمل وهو من وجهين الأول أنا لو حملناه على التسبيح والتهليل لم يبق بين هذه الآية وبين ما قبلها وهو قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ فرق وحينئذ يبطل لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز والثاني وهو أنه شديد الموافقة لقوله تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وثانيهما أن قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ محمول على الذكر باللسان
القصة الثالثة
وصفه طهارة مريم صلوات الله عليها
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَة ُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ يامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الرَاكِعِينَ
وفيه مسائل

المسألة الأولى عامل الإعراب ههنا في إِذْ هو ما ذكرناه في قوله إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ ( آل عمران 35 ) من قوله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ثم عطف عليه إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَة ُ وقيل تقديره واذكر إذ قالت الملائكة
المسألة الثانية قالوا المراد بالملائكة ههنا جبريل وحده وهذا كقوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) يعني جبريل وهذا وإن كان عدولاً عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه لأن سورة مريم دلت على أن المتكلم مع مريم عليها السلام هو جبريل عليه السلام وهو قوله فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ( مريم 17 )
المسألة الثالثة اعلم أن مريم عليها السلام ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ الْقُرَى ( يوسف 109 ) وإذا كان كذلك كان إرسال جبريل عليه السلام إليها إما أن يكون كرامة لها وهو مذهب من يجوز كرامات الأولياء أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام وذلك جائز عندنا وعند الكعبي من المعتزلة أو معجزة لزكرياء عليه السلام وهو قول جمهور المعتزلة ومن الناس من قال إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام والإلقاء في القلب كما كان في حق أم موسى عليه السلام في قوله وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى ( القصص 7 )
المسألة الرابعة اعلم أن المذكور في هذه الآية أولاً هو الاصطفاء وثانياً التطهير وثالثاً الاصطفاء على نساء العالمين ولا يجوز أن يكون الاصطفاء أولاً من الاصطفاء الثاني لما أن التصريح بالتكرير غير لائق فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها والاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها
النوع الأول من الاصطفاء فهو أمور أحدها أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث وثانيها قال الحسن إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين بل ألقتها إلى زكريا وكان رزقها يأتيها من الجنة وثالثها أنه تعالى فرغها لعبادته وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة ورابعها أنه كفاها أمر معيشتها فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وخامسها أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول وأما التطهير ففيه وجوه أحدها أنه تعالى طهرها عن الكفر والمعصية فهو كقوله تعالى في أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) وثانيها أنه تعالى طهرها عن مسيس الرجال وثالثها طهرها عن الحيض قالوا كانت مريم لا تحيض ورابعها وطهرك من الأفعال الذميمة والعادات القبيحة وخامسها وطهرك عن مقالة اليهود وتهمتهم وكذبهم
وأما الاصطفاء الثاني فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب وأنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة وجعلها وابنها آية للعالمين فهذا هو المراد من هذه الألفاظ الثلاثة

المسألة الخامسة روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( حسبك من نساء العالمين أربع مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة عليهن السلام ) فقيل هذا الحديث دل على أن هؤلاء الأربع أفضل من النساء وهذه الآي دلت على أن مريم عليها السلام أفضل من الكل وقول من قال المراد إنها مصطفاة على عالمي زمانها فهذا ترك الظاهر
ثم قال تعالى الْعَالَمِينَ يامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبّكِ وَاسْجُدِى وقد تقدم تفسير القنوت في سورة البقرة في قوله تعالى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( البقرة 238 ) وبالجملة فلما بيّن تعالى أنها مخصوصة بمزيد المواهب والعطايا من الله أوجب عليها مزيد الطاعات شكراً لتلك النعم السنية وفي الآية سؤالات
السؤال الأول لم قدم ذكر السجود على ذكر الركوع
والجواب من وجوه الأول أن الواو تفيد الاشتراك ولا تفيد الترتيب الثاني أن غاية قرب العبد من الله أن يكون ساجداً قال عليه الصلاة والسلام ( أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد ) فلما كان السجود مختصاً بهذا النوع من الرتبة والفضيلة لا جرم قدمه على سائر الطاعات
ثم قال وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ وهو إشارة إلى الأمر بالصلاة فكأنه تعالى يأمرها بالمواظبة على السجود في أكثر الأوقات وأما الصلاة فإنها تأتي بها في أوقاتها المعينة لها والثالث قال ابن الأنباري قوله تعالى اقْنُتِى أمر بالعبادة على العموم ثم قال بعد ذلك وَاسْجُدِى وَارْكَعِى يعني استعملي السجود في وقته اللائق به واستعملي الركوع في وقته اللائق به وليس المراد أن يجمع بينهما ثم يقدم السجود على الركوع والله أعلم الرابع أن الصلاة تسمى سجوداً كما قيل في قوله وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( ق 40 ) وفي الحديث ( إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين ) وأيضاً المسجد سمي باسم مشتق من السجود والمراد منه موضع الصلاة وأيضاً أشرف أجزاء الصلاة السجود وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه نوع مشهور في المجاز
إذا ثبت هذا فنقول قوله الْعَالَمِينَ يامَرْيَمُ اقْنُتِى معناه يا مريم قومي وقوله وَاسْجُدِى أي صلي فكان المراد من هذا السجود الصلاة ثم قال وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ إما أن يكون أمراً لها بالصلاة بالجماعة فيكون قوله وَاسْجُدِى أمراً بالصلاة حال الانفراد وقوله وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ أمراً بالصلاة في الجماعة أو يكون المراد من الركوع التواضع ويكون قوله وَاسْجُدِى أمراً ظاهراً بالصلاة وقوله وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ أمراً بالخضوع والخشوع بالقلب
الوجه الخامس في الجواب لعلّه كان السجود في ذلك الدين متقدماً على الركوع
السؤال الثاني اما المراد من قوله وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ
والجواب قيل معناه افعلي كفعلهم وقيل المراد به الصلاة في الجماعة كانت مأمورة بأن تصلي في بيت المقدس مع المجاورين فيه وإن كانت لا تختلط بهم
السؤال الثالث لم لم يقل واركعي مع الراكعات
والجواب لأن الاقتداء بالرجال حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء

واعلم أن المفسرين قالوا لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات مع مريم عليها السلام شفاها قامت مريم في الصلاة حتى ورمت قدماها وسال الدم والقيح من قدميها
ذالِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم والمعنى أن الذي مضى ذكره من حديث حنة وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم إنما هو من إخبار الغيب فلا يمكنك أن تعلمه إلا بالوحي
فإن قيل لم نفيت هذه المشاهدة وانتفاؤها معلوم بغير شبهة وترك نفي استماع هذه الأشياء من حفاظها وهو موهوم
قلنا كان معلوماً عندهم علماً يقينياً أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي فلم يبق إلا المشاهدة وهي وإن كانت في غاية الاستبعاد إلا أنها نفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع ولا قراءة ونظيره وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ ( القصص 44 ) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ ( القصص 46 ) وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم ( يوسف 102 ) ( يوسف 102 ) وَمَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا ( هود 49 )
المسألة الثانية الأنباء الإخبار عما غاب عنك وأما الإيحاء فقد ورد الكتاب به على معان مختلفة يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرهما وبهذا التفسير يعد الإلهام وحياً كقوله تعالى وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ( النحل 68 ) وقال في الشياطين لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ( الأنعام 121 ) وقال فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَة ً وَعَشِيّاً ( مريم 11 ) فلما كان الله سبحانه ألقى هذه الأشياء إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بواسطة جبريل عليه السلام بحيث يخفى ذلك على غيره سماه وحياً
أما قوله تعالى إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تلك الأقلام وجوهاً الأول المراد بالأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة وسائر كتب الله تعالى وكان القراع على أن كل من جرى قلمه على عكس جري الماء فالحق معه فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك فسلموا الأمر له وهذا قول الأكثرين والثاني أنهم ألقوا عصيهم في الماء الجاري جرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم هذا قول الربيع والثالث قال أبو مسلم معنى يلقون أقلامهم مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم فمن خرج له السهم سلم له الأمر وقد قال الله تعالى فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ( الصافات 141 ) وهو شبيه

بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور وإنما سميت هذه السهام أقلاماً لأنها تقلم وتبرى وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء فقد قلمته ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلماً
قال القاضي وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحاً نظراً إلى أصل الاشتقاق إلا أن العرف أوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به فوجب حمل لفظ القلم عليه
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يلقون أقلامهم في شيء على وجه يظهر به امتياز بعضهم عن البعض في استحقاق ذلك المطلوب وإما ليس فيه دلالة على كيفية ذلك الإلقاء إلا أنه روي في الخبر أنهم كانوا يلقونها في الماء بشرط أن من جرى قلمه على خلاف جري الماء فاليد له ثم إنه حصل هذا المعنى لزكريا عليه السلام فلا جرم صار هو أولى بكفالتها والله أعلم
المسألة الثالثة اختلفوا في السبب الذي لأجله رغبوا في كفالتها حتى أدتهم تلك الرغبة إلى المنازعة فقال بعضهم إن عمران أباها كان رئيساً لهم ومقدماً عليهم فلأجل حق أبيها رغبوا في كفالتها وقال بعضهم إن أمها حررتها لعبادة الله تعالى ولخدمة بيت الله تعالى ولأجل ذلك حرصوا على التكفل بها وقال آخرون بل لأن في الكتب الإلاهية كان بيان أمرها وأمر عيسى عليه السلام حاصلاً فتقربوا لهذا السبب حتى اختصموا
المسألة الرابعة اختلفوا في أن أولئك المختصمين من كانوا فمنهم من قال كانوا هم خدمة البيت ومنهم من قال بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي ولا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في الطريق
أما قوله أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ففيه حذف والتقدير يلقون أقلامهم لينظروا أيهم يكفل مريم وإنما حسن لكونه معلوماً
أما قوله وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ فالمعنى وما كنت هناك إذ يتقارعون على التكفل بها وإذ يختصمون بسببها فيحتمل أن يكون المراد بهذا الاختصام ما كان قبل الإقراع ويحتمل أن يكون اختصاماً آخر حصل بعد الإقراع وبالجملة فالمقصود من الآية شدة رغبتهم في التكفل بشأنها والقيام بإصلاح مهماتها وما ذاك إلا لدعاء أمها حيث قالت فَتَقَبَّلْ مِنّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( آل عمران 35 ) وقالت إِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( آل عمران 36 )
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَة ُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة ٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ

اعلم أنه تعالى لما شرح حال مريم عليها السلام في أول أمرها وفي آخر أمرها وشرح كيفية ولادتها لعيسى عليه السلام فقال إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَة ُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اختلفوا في العامل في إِذْ قيل العامل فيه وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة وقيل يختصمون إذ قالت الملائكة وقيل إنه معطوف على إِذْ الأولى في قوله إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ وقيل التقدير إن ما وصفته من أمور زكريا وهبة الله له يحيى كان إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك وأما أبو عبيدة فإنه يجري في هذا الباب على مذهب له معروف وهو أن إِذْ صلة في الكلام وزيادة واعلم أن القولين الأولين فيهما بعض الضعف وذلك لأن مريم حال ما كانوا يلقون الأقلام وحال ما كانوا يختصمون ما بلغت الجد الذي تبشر فيه بعيسى عليه السلام إلا قول الحسن فإنه يقول إنها كانت عاقلة في حال الصغر فإن ذلك كان من كراماتها فإن صح ذلك جاز في تلك الحال أن يرد عليها البشرى من الملائكة وإلا فلا بد من تأخر هذه البشرى إلى حين العقل ومنهم من تكلف الجواب فقال يحتمل أن يقال الاختصام والبشرى وقعا في زمان واسع كما تقول لقيته في سنة كذا وهذا الجواب بعيد والأصوب هو الوجه الثالث والرابع أما قول أبي عبيدة فقد عرفت ضعفه والله أعلم
المسألة الثانية ظاهر قوله إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَة ُ يفيد الجمع إلا أن المشهور أن ذلك المنادي كان جبريل عليه السلام وقد قررناه فيما تقدم وأما البشارة فقد ذكرنا تفسيرها في سورة البقرة في قوله وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( البقرة 25 )
وأما قوله تعالى بِكَلِمَة ٍ مّنْهُ فقد ذكرنا تفسير الكلمة من وجوه وأليقها بهذا الموضع وجهان الأول أن كل علوق وإن كان مخلوقاً بواسطة الكلمة وهي قوله كُنَّ إلا أن ما هو السبب المتعارف كان مفقوداً في حق عيسى عليه السلام وهو الأب فلا جرم كان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكل وأتم فجعل بهذا التأويل كأنه نفس الكلمة كما أن من غلب عليه الجود والكرم والإقبال يقال فيه على سبيل المبالغة إنه نفس الجود ومحض الكرم وصريح الإقبال فكذا ههنا
والوجه الثاني أن السلطان العادل قد يوصف بأنه ظل الله في أرضه وبأنه نور الله لما أنه سبب لظهور ظل العدل ونور الإحسان فكذلك كان عيسى عليه السلام سبباً لظهور كلام الله عزّ وجلّ بسبب كثرة بياناته وإزالة الشبهات والتحريفات عنه فلا يبعد أن يسمى بكلمة الله تعالى على هذا التأويل
فإن قيل ولم قلتم إن حدوث الشخص من غير نطفة الأب ممكن قلنا أما على أصول المسلمين فالأمر فيه ظاهر ويدل عليه وجهان الأول أن تركيب الأجسام وتأليفها على وجه يحصل فيها الحياة والفهم والنطق أمر ممكن وثبت أنه تعالى قادر على الممكنات بأسرها وكان سبحانه وتعالى قادراً على إيجاد الشخص لا من نطفة الأب وإذا ثبت الإمكان ثم إن المعجز قام على صدق النبي فوجب أن يكون صادقاً ثم أخبر عن وقوع ذلك الممكن والصادق إذا أخبر عن وقوع الممكن وجب القطع بكونه كذلك فثبت صحة ما ذكرناه الثاني ما ذكره الله تعالى في قوله إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ ( آل عمران 59 ) فلما لم يبعد تخليق آدم من غير أب فلأن لا يبعد تخليق عيسى من غير آب كان أولى وهذه حجة ظاهرة وأما على أصول الفلاسفة فالأمر في تجويزه ظاهر ويدل عليه وجوه الأول أن الفلاسفة اتفقوا على

أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التوالد من غير تولد قالوا لأن بدن الإنسان إنما استعد لقبول النفس الناطقة التي تدبر بواسطة حصول المزاج المخصوص في ذلك البدن وذلك المزاج إنما جعل لامتزاج العناصر الأربعة على قدر معين في مدة معينة فحصول أجزاء العناصر على ذلك القدر الذي يناسب بدن الإنسان غير ممتنع وامتزاجها غير ممتنع فامتزاجها يكون عند حدوث الكيفية المزاجية واجباً وعند حدوث الكيفية المزاجية يكون تعلق النفس بذلك البدن واجباً فثبت أن حدوث الإنسان على سبيل التولد معقول ممكن وإذا كان الأمر كذلك فحدوث الإنسان لا عن الأب أولى بالجواز والإمكان
الوجه الثاني وهو أنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد كتولد الفأر عن المدر والحيات عن الشعر والعقارب عن الباذروج وإذا كان كذلك فتولد الولد لا عن الأب أولى أن لا يكون ممتنعاً
الوجه الثالث وهو أن التخيلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث الكثيرة ليس أن تصور المنافي يوجب حصول كيفية الغضب ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن أليس اللوح الطويل إذا كان موضوعاً على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه بل كلما مشى عليه يسقط وما ذاك إلا أن تصور السقوط يوجب حصول السقوط وقد ذكروا في ( كتب الفلسفة ) أمثلة كثيرة لهذا الباب وجعلوها كالأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات فما المانع من أن يقال إنه لما تخيلت صورته عليه السلام كفى ذلك في علوق الولد في رحمها وإذا كان كل هذه الوجوه ممكناً محتملاً كان القول بحدوث عيسى عليه السلام من غير واسطة الأب قولاً غير ممتنع ولو أنك طالبت جميع الأولين والآخرين من أرباب الطبائع والطب والفلسفة على إقامة حجة إقناعية في امتناع حدوث الولد من غير الأب لم يجدوا إليه سبيلاً إلا الرجوع إلا استقراء العرف والعادة وقد اتفق علماء الفلاسفة على أن مثل هذا الاستقراء لا يفيد الظن القوي فضلاً عن العلم فعلمنا أن ذلك أمر ممكن فلما أخبر العباد عن وقوعه وجب الجزم به والقطع بصحته
أما قوله تعالى بِكَلِمَة ٍ مّنْهُ فلفظة مِنْ ليست للتبعيض ههنا إذ لو كان كذلك لكان الله تعالى متجزئاً متبعضاً متحملاً للاجتماع والافتراق وكل من كان كذلك فهو محدث وتعالى الله عنه بل المراد من كلمة مِنْ ههنا ابتداء الغاية وذلك لأن في حق عيسى عليه السلام لما لم تكن واسطة الأب موجودة صار تأثير كلمة الله تعالى في تكوينه وتخليقه أكمل وأظهر فكان كونه كلمة اللَّهِ مبدأ لظهوره ولحدوثه أكمل فكان المعنى لفظ ما ذكرناه لا ما يتوهمه النصارى والحلولية
وأما قوله تعالى اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ففيه سؤالات
السؤال الأول المسيح هل هو اسم مشتق أو موضوع
والجواب فيه قولان الأول قال أبو عبيدة والليث أصله بالعبرانية مشيحا فعربته العرب وغيروا لفظه وعيسى أصله يشوع كما قالوا في موسى أصله موشى أو ميشا بالعبرانية وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق

والقول الثاني أنه مشتق وعليه الأكثرون ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول قال ابن عباس إنما سمي عيسى عليه السلام مسيحاً لأنه ما كان يمسح بيده ذا عاهة إلا برىء من مرضه الثاني قال أحمد بن يحيى سمي مسيحاً لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها ومنه مساحة أقسام الأرض وعلى هذا المعنى يجوز أن يقال لعيسى مسيح بالتشديد على المبالغة كما يقال للرجل فسيق وشريب الثالث أنه كان مسيحاً لأنه كان يمسح رأس اليتامى لله تعالى فعلى هذه الأقوال هو فعيل بمعنى فاعل كرحيم بمعنى راحم الرابع أنه مسح من الأوزار والآثام والخامس سمي مسيحاً لأنه ما كان في قدمه خمص فكان ممسوح القدمين والسادس سمي مسيحاً لأنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء ولا يمسح به غيرهم ثم قالوا وهذا الدهن يجوز أن يكون الله تعالى جعله علامة حتى تعرف الملائكة أن كل من مسح به وقت الولادة فإنه يكون نبياً السابع سمي مسيحاً لأنه مسحه جبريل ( صلى الله عليه وسلم ) بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صوناً له عن مس الشيطان الثامن سمي مسيحاً لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن وعلى هذه الأقوال يكون المسيح بمعنى الممسوح فعيل بمعنى مفعول قال أبو عمرو بن العلاء المسيح الملك وقال النخعي المسيح الصديق والله أعلم ولعلّهما قالا ذلك من جهة كونه مدحاً لا لدلالة اللغة عليه وأما المسيح الدجال فإنما سمي مسيحاً لأحد وجهين أحدهما لأنه ممسوح أحد العينين والثاني أنه يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة قالوا ولهذا قيل له دجال لضربه في الأرض وقطعه أكثر نواحيها يقال قد دجل الدجال إذا فعل ذلك وقيل سمي دجالاً من قوله دجل الرجل إذا موه ولبس
السؤال الثاني المسيح كان كاللقب له وعيسى كالاسم فلم قدم اللقب على الاسم
الجواب أن المسيح كاللقب الذي يفيد كونه شريفاً رفيع الدرجة مثل الصديق والفاروق فذكره الله تعالى أولاً بلقبه ليفيد علو درجته ثم ذكره باسمه الخاص
السؤال الثالث لم قال عيسى بن مريم والخطاب مع مريم
الجواب لأن الأنبياء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات فلما نسبه الله تعالى إلى الأم دون الأب كان ذلك إعلاماً لها بأنه محدث بغير الأب فكان ذلك سبباً لزيادة فضله وعلو درجته
السؤال الرابع الضمير في قوله اسمه عائد إلى الكلمة وهي مؤنثة فلم ذكر الضمير
الجواب لأن المسمى بها مذكر
السؤال الخامس لم قال اسمه المسيح عيسى بن مريم والاسم ليس إلا عيسى وأما المسيح فهو لقب وأما ابن مريم فهو صفة
الجواب الاسم علامة المسمى ومعرف له فكأنه قيل الذي يعرف به هو مجموع هذه الثلاثة
أما قوله تعالى وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى معنى الوجيه ذو الجاه والشرف والقدر يقال وجه الرجل يوجه وجاهة هو وجيه إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس والسلطان وقال بعض أهل اللغة الوجيه هو الكريم لأن أشرف

أعضاء الإنسان وجهه فجعل الوجه استعارة عن الكرم والكمال
واعلم أن الله تعالى وصف موسى ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه كان وجيهاً قال الله تعالى كَبِيراً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ ءاذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً ( الأحزاب 69 ) ثم للمفسرين أقوال الأول قال الحسن كان وجيهاً في الدنيا بسبب النبوة وفي الآخرة بسبب علو المنزلة عند الله تعالى والثاني أنه وجيه عند الله تعالى وأما عيسى عليه السلام فهو وجيه في الدنيا بسبب أنه يستجاب دعاؤه ويحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص بسبب دعائه ووجيه في الآخرة بسبب أنه يجعله شفيع أمته المحقين ويقبل شفاعتهم فيهم كما يقبل شفاعة أكابر الأنبياء عليهم السلام والثالث أنه وجهه في الدنيا بسبب أنه كان مبرأ من العيوب التي وصفه اليهود بها ووجيه في الآخرة بسبب كثرة ثوابه وعلو درجته عن الله تعالى
فإن قيل كيف كان وجيهاً في الدنيا واليهود عاملوه بما عاملوه قلنا قد ذكرنا أنه تعالى سمى موسى عليه السلام بالوجيه مع أن اليهود طعنوا فيه وآذوه إلى أن برأه الله تعالى مما قالوا وذلك لم يقدح في وجاهة موسى عليه السلام فكذا ههنا
المسألة الثانية قال الزجاج وَجِيهاً منصوب على الحال المعنى أن الله يبشرك بهذا الولد وجيهاً في الدنيا والآخرة والفراء يسمي هذا قطعاً كأنه قال عيسى بن مريم الوجيه فقطع منه التعريف
أما قوله وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ففيه وجوه أحدها أنه تعالى جعل ذلك كالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم ودرجتهم بواسطة هذه الصفة وثانيها أن هذا الوصف كالتنبيه على أنه عليه السلام سيرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة وثالثها أنه ليس كل وجيه في الآخرة يكون مقرباً لأن أهل الجنة على منازل ودرجات ولذلك قال تعالى وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَة ً ( الواقعة 7 ) إلى قوله وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( الواقعة 10 )
أما قوله تعالى وَيُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً ففيه مسائل
المسألة الأولى الواو للعطف على قوله وَجِيهاً والتقدير كأنه قال وجيهاً ومكلماً للناس وهذا عندي ضعيف لأن عطف الجملة الفعلية على الإسمية غير جائز إلا للضرورة أو الفائدة والأولى أن يقال تقدير الآية إِنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَة ٍ مّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الوجيه في الدنيا والآخرة المعدود من المقربين وهذا المجموع جملة واحدة ثم قال وَيُكَلّمُ النَّاسَ فقوله وَيُكَلّمُ النَّاسَ عطف على قوله إِنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكِ
المسألة الثانية في المهد قولان أحدهما أنه حجر أمه والثاني هو هذا الشيء المعروف الذي هو مضجع الصبي وقت الرضاع وكيف كان المراد منه فإنه يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد ولا يختلف هذا المقصود سواء كان في حجر أمه و كان في المهد
المسألة الثالثة قوله وَكَهْلاً عطف على الظرف من قوله فِى الْمَهْدِ كأنه قيل يكلم الناس صغيراً وكهلاً وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الكهل

الجواب الكهل في اللغة ما اجتمع قوته وكمل شبابه وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوي وتم قال الأعشى
يضاحك الشمس منها كوكب شرق
مؤزر بجميم النبت مكتهل
أراد بالمكتهل المتناهي في الحسن والكمال
السؤال الثاني أن تكلمه حال كونه في المهد من المعجزات فأما تكلمه حال الكهولة فليس من المعجزات فما الفائدة في ذكره
والجواب من وجوه الأول أن المراد منه بيان كونه متقلباً في الأحوال من الصبا إلى الكهولة والتغير على الإله تعالى محال والمراد منه الرد على وفد نجران في قولهم إن عيسى كان إلاهاً والثاني المراد منه أن يكلم الناس مرة واحدة في المهد لإظهار طهارة أمه ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة والثالث قال أبو مسلم معناه أنه يكلم حال كونه في المهد وحال كونه كهلاً على حد واحد وصفة واحدة وذلك لا شك أنه غاية في المعجز الرابع قال الأصم المراد منه أنه يبلغ حال الكهولة
السؤال الثالث نقل أن عمر عيسى عليه السلام إلى أن رفع كان ثلاثاً وثلاثين سنة وستة أشهر وعلى هذا التقدير فهو ما بلغ الكهولة
والجواب من وجهين الأول بينا أن الكهل في أصل اللغة عبارة عن الكامل التام وأكمل أحوال الإنسان إذا كان بين الثلاثين والأربعين فصح وصفه بكونه كهلاً في هذا الوقت والثاني هو قول الحسين بن الفضل البجلي أن المراد بقوله وَكَهْلاً أن يكون كهلاً بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان ويكلم الناس ويقتل الدجال قال الحسين بن الفضل وفي هذه الآية نص في أنه عليه الصلاة والسلام سينزل إلى الأرض
المسألة الرابعة أنكرت النصارى كلام المسيح عليه السلام في المهد واحتجوا على صحة قولهم بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها ولا شك أن هذه الواقعة لو وقعت لوجب أن يكون وقوعها في حضور الجمع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد والإثنين لا يجوز ومتى حدثت الواقعة العجيبة جداً عند حضور الجمع العظيم فلا بد وأن تتوفر الدواعي على النقل فيصير ذلك بالغاً حد التواتر وإخفاء ما يكون بالغاً إلى حد التواتر ممتنع وأيضاً فلو كان ذلك لكان ذلك الإخفاء ههنا ممتنعاً لأن النصارى بالغوا في إفراط محبته إلى حيث قالوا إنه كان إلاهاً ومن كان كذلك يمتنع أن يسعى في إخفاء مناقبه وفضائله بل ربما يجعل الواحد ألفاً فثبت أن لو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها النصارى ولما أطبقوا على إنكارها علمنا أنه ما كان موجوداً ألبتة
أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة وقالوا إن كلام عيسى عليه السلام في المهد إنما كان للدلالة على براءة حال مريم عليها السلام من الفاحشة وكان الحاضرون جمعاً قليلين فالسامعون لذلك الكلام كان جمعاً قليلاً ولا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء وبتقدير أن يذكروا ذلك إلا أن اليهود كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت فهم أيضاً قد سكتوا لهذه العلة فلأجل هذه الأسباب بقي الأمر مكتوماً

مخفياً إلى أن أخبر الله سبحانه وتعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك وأيضاً فليس كل النصارى ينكرون ذلك فإنه نقل عن جعفر بن أبي طالب لما قرأ على النجاشي سورة مريم قال النجاشي لا تفاوت بين واقعة عيسى وبين المذكور في هذا الكلام بذرة
ثم قال تعالى وَمِنَ الصَّالِحِينَ
فإن قيل كون عيسى كلمة من الله تعالى وكونه وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وكونه من المقربين عند الله تعالى وكونه مكلماً للناس في المهد وفي الكهولة كل واحد من هذه الصفات أعظم وأشرف من كونه صالحاً فلم ختم الله تعالى أوصاف عيسى بقوله وَمِنَ الصَّالِحِينَ
قلنا إنه لا رتبة أعظم من كون المرء صالحاً لأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظباً على النهج الأصلح والطريق الأكمل ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدنيا والدين في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح فلما ذكر الله تعالى بعض التفاصيل أردفه بهذا الكلام الذي يدل على أرفع الدرجات
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذَالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَالتَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ
قال المفسرون إنها إنما قالت ذلك لأن التبشير به يقتضي التعجب مما وقع على خلاف العادة وقد قررنا مثله في قصة زكريا عليه السلام وقوله إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( غافر 68 ) تقدم تفسيره في سورة البقرة
أما قوله تعالى وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَالتَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وعاصم وَيُعَلّمُهُ بالياء والباقون بالنون أما الياء فعطف على قوله يَخْلُقُ مَا يَشَاء وقال المبرد عطف على يبشرك بكلمة وكذا وكذا وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ ومن قرأ بالنون قال تقدير الآية أنها قالت رب أنى يكون لي ولد فقال لها الله كَذالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ فهذا وإن كان إخباراً على وجه المغايبة فقال ونعلمه لأن معنى قوله قَالَ كَذالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء معناه كذلك نحن نخلق ما نشاء إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ والله أعلم
المسألة الثانية في هذه الآية أمور أربعة معطوف بعضها على بعض بواو العطف والأقرب عندي أن يقال المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ومجموعهما هو المسمى بالحكمة ثم بعد أن صار

عالماً بالخط والكتابة ومحيطاً بالعلوم العقلية والشرعية يعلمه التوراة وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة لأن التوراة كتاب إلاهي وفيه أسرار عظيمة والإنسان ما لم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض في البحث على أسرار الكتب الإلاهية ثم قال في المرتبة الرابعة والإنجيل وإنما أخر ذكر الإنجيل عن ذكر التوراة لأن من تعلم الخط ثم تعلم علوم الحق ثم أحاط بأسرار الكتاب الذي أنزله الله تعالى على من قبله من الأنبياء فقد عظمت درجته في العلم فإذا أنزل الله تعالى عليه بعد ذلك كتاباً آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو الغاية القصوى والمرتبة العليا في العلم والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية فهذا ما عندي في ترتيب هذه الألفاظ الأربعة
وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِى ءُ الاٌّ كْمَهَ والاٌّ بْرَصَ وَأُحْى ِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَة ً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية وجوه الأول تقدير الآية ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ونبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ مّن رَّبّكُمْ والحذف حسن إذا لم يفض إلى الاشتباه الثاني قال الزجاج الاختيار عندي أن تقديره ويكلم الناس رسولاً وإنما أضمرنا ذلك لقوله أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ والمعنى ويكلمهم رسولاً بأني قد جئتكم الثالث قال الأخفش إن شئت جعلت الواو زائدة والتقدير ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً أني قد جئتكم بآية
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان رسولاً إلى كل بني إسرائيل بخلاف قول بعض اليهود إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين منهم
المسألة الثالثة المراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه تعالى عدد ههنا أنواعاً من الآيات وهي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار عن المغيبات فكان المراد من قوله قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ مّن رَّبّكُمْ الجنس لا الفرد
ثم قال أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ
اعلم أنه تعالى حكى ههنا خمسة أنواع من معجزات عيسى عليه السلام
النوع الأول
ما ذكره ههنا في هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة إِنّى بفتح الهمزة وقرأ نافع بكسر الهمزة فمن فتح إِنّى فقد جعلها بدلاً

من آية كأنه قال وجئتكم بأنى أخلق لكم من الطين ومن كسر فله وجهان أحدهما الاستئناف وقطع الكلام مما قبله والثاني أنه فسّر الآية بقوله أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ ويجوز أن يفسر الجملة المتقدمة بما يكون على وجه الابتداء قال الله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( الفتح 29 ) ثم فسّر الموعود بقوله لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وقال إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ ( آل عمران 59 ) ثم فسّر المثل بقوله خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) وهذا الوجه أحسن لأنه في المعنى كقراءة من فتح إِنّى على جعله بدلاً من آية
المسألة الثانية أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ أي أقدر وأصور وقد بينا في تفسير قوله تعالى قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ ( البقرة 21 ) إن الخلق هو التقدير ولا بأس بأن نذكره ههنا أيضاً فنقول الذي يدل عليه القرآن والشعر والاستشهاد أما القرآن فآيات أحدها قوله تعالى فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 ) أي المقدرين وذلك لأنه ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع فوجب تفسير كونه خالقاً بالتقدير والتسوية وثانيها أن لفظ الخلق يطلق على الكذب قال تعالى في سورة الشعراء إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاْوَّلِينَ ( الشعراء 137 ) وفي العنكبوت وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ( العنكبوت 17 ) وفي سورة ص إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ( ص 7 ) والكاذب إنما سمي خالقاً لأنه يقدر الكذب في خاطره ويصوره وثالثها هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ أي أصور وأقدر وقال تعالى في المائدة وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ ( المائدة 110 ) وكل ذلك يدل على أن الخلق هو التصوير والتقدير ورابعها قوله تعالى هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) وقوله خُلِقَ إشارة إلى الماضي فلو حملنا قوله خُلِقَ على الإيجاد والإبداع لكان المعنى أن كل ما في الأرض فهو تعالى قد أوجده في الزمان الماضي وذلك باطل بالاتفاق فإذن وجب حمل الخلق على التقدير حتى يصح الكلام وهو أنه تعالى قدر في الماضي كل ما وجد الآن في الأرض وأما الشعر فقوله
ولأنت تفري ما خلقت وبع
ض القوم يخلق ثم لا يفري
وقوله
ولا يعطي بأيدي الخالق ولا
أيدي الخوالق إلا جيد الأدم
وأما الاستشهاد فهو أنه يقال خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس والخلاق المقدار من الخير وفلان خليق بكذا أي له هذا المقدار من الاستحقاق والصخرة الخلقاء الملساء لأن الملاسة استواء وفي الخشونة اختلاف فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والتسوية
إذا عرفت هذا فنقول اختلف الناس في لفظ الْخَالِقُ قال أبو عبد الله البصري إنه لا يجوز إطلاقه على الله في الحقيقة لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والحسبان وذلك على الله محال وقال أصحابنا الخالق ليس إلا الله واحتجوا عليه بقوله تعالى اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الرعد 16 ) ومنهم من احتج بقوله هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ ( فاطر 3 ) وهذا ضعيف لأنه تعالى قال هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ السَّمَاء ( فاطر 3 ) فالمعنى هل من خالق غير الله موصوف بوصف كونه رازقاً من السماء ولا يلزم من صدق قولنا الخالق الذي يكون هذا شأنه ليس إلا الله صدق قولنا أنه لا خالق إلا الله

وأجابوا عن كلام أبي عبد الله بأن التقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن لكن الظن وإن كان محالاً في حق الله تعالى فالعلم ثابت
إذا عرفت هذا فنقول أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ معناه أصور وأقدر وقوله كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ فالهيئة الصورة المهيئة من قولهم هيأت الشيء إذا قدرته وقوله فَأَنفُخُ فِيهِ أي في ذلك الطين المصور وقوله فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع فَيَكُونُ بالألف على الواحد والباقون عَلَيْهِمْ طَيْراً على الجمع وكذلك في المائدة والطير اسم الجنس يقع على الواحد وعلى الجمع
يروى أن عيسى عليه السلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات أخذوا يتعنتون عليه وطالبوه بخلق خفاش فأخذ طيناً وصوره ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض قال وهب كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ثم اختلف الناس فقال قوم إنه لم يخلق غير الخفاش وكانت قراءة نافع عليه وقال آخرون إنه خلق أنواعاً من الطير وكانت قراءة الباقين عليه
المسألة الثانية قال بعض المتكلمين الآية تدل على أن الروح جسم رقيق كالريح ولذلك وصفها بالفتح ثم ههنا بحث وهو أنه هل يجوز أن يقال إنه تعالى أودع في نفس عيسى عليه السلام خاصية بحيث متى نفخ في شيء كان نفخه فيه موجباً لصيرورة ذلك الشيء حياً أو يقال ليس الأمر كذلك بل الله تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخة عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات وهذا الثاني هو الحق لقوله تعالى الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) وحكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قال في مناظرته مع الملك رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ( البقرة 258 ) فلو حصل لغيره هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال
المسألة الثالثة القرآن دلّ على أنه عليه الصلاة والسلام إنما تولد من نفخ جبريل عليه السلام في مريم وجبريل ( صلى الله عليه وسلم ) روح محض وروحاني محض فلا جرم كانت نفخة عيسى عليه السلام للحياة والروح
المسألة الرابعة قوله بِإِذُنِ اللَّهِ معناه بتكوين الله تعالى وتخليقه لقوله تعالى وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ( آل عمران 145 ) أي إلا بأن يوجد الله الموت وإنما ذكر عيسى عليه السلام هذا القيد إزالة للشبهة وتنبيهاً على إني أعمل هذا التصوير فأما خلق الحياة فهو من الله تعالى على سبيل إظهار المعجزات على يد الرسل
واما النوع الثاني والثالث والرابع من المعجزات
فهو قوله وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ

ذهب أكثر أهل اللغة إلى أن الأكمه هو الذي ولد أعمى وقال الخليل وغيره هو الذي عمي بعد أن كان بصيراً وعن مجاهد هو الذي لا يبصر بالليل ويقال إنه لم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب ( التفسير ) وروي أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده قال الكلبي كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات بيا حي يا قيوم وأحيا عاذر وكان صديقاً له ودعا سام بن نوح من قبره فخرج حياً ومرّ على ابن ميت لعجوز فدعا الله فنزل عن سريره حياً ورجع إلى أهله وولد له وقوله بِإِذُنِ اللَّهِ رفع لتوهم من اعتقد فيه الإلاهية
وأما النوع الخامس
من المعجزات إخباره عن الغيوب فهو قوله تعالى حكاية عنه وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُواْ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في هذه الآية قولان أحدهما أنه عليه الصلاة والسلام كان من أول مرة يخبر عن الغيوب روى السدي أنه كان يلعب مع الصبيان ثم يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم وكان يخبر الصبي بأن أمك قد خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله ويبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء ثم قالوا لصبيانهم لا تلعبوا مع هذا الساحر وجمعوهم في بيت فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا له ليسوا في البيت فقال فمن في هذا البيت قالوا خنازير قال عيسى عليه السلام كذلك يكونون فإذا هم خنازير
والقول الثاني إن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر وقت نزول المائدة وذلك لأن القوم نهوا عن الادخار فكانوا يخزنون ويدخرون فكان عيسى عليه السلام يخبرهم بذلك
المسألة الثانية الإخبار عن الغيوب على هذا الوجه معجزة وذلك لأن المنجمين الذين يدعون استخراج الخير لا يمكنهم ذلك إلا عن سؤال يتقدم ثم يستعينون عند ذلك بآلة ويتوصلون بها إلى معرفة أحوال الكواكب ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيراً فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة ولا تقدم مسألة لا يكون إلا بالوحي من الله تعالى
ثم إنه عليه السلام ختم كلامه بقوله إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَة ً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
والمعنى إن في هذه الخمسة لمعجزة قاهرة قوية دالة على صدق المدعي لكل من آمن بدلائل

المعجزة في الحمل على الصدق بلى من أنكر دلالة أصل المعجز على صدق المدعي وهم البراهمة فإنه لا يكفيه ظهور هذه الآيات أما من آمن بدلالة المعجز على الصدق لا يبقى له في هذه المعجزات كلام البتة
وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاة ِ وَلاٌّ حِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِأَيَة ٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
اعلم أنه عليه السلام لما بيّن بهذه المعجزات الباهرة كونه رسولاً من عند الله تعالى بيّن بعد ذلك أنه بماذا أرسل وهو أمران أحدهما قوله وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاة ِ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قد ذكرنا في قوله وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ ( آل عمران 49 ) أن تقديره وأبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ فقوله وَمُصَدّقًا معطوف عليه والتقدير وأبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ وإني بعثت مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَى َّ مِنَ التَّوْرَاة ِ وإنما حسن حذف هذه الألفاظ لدلالة الكلام عليها
المسألة الثانية إنه يجب على كل نبي أن يكون مصدقاً لجميع الأنبياء عليهم السلام لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة فكل من حصل له المعجز وجب الاعتراف بنبوته فلهذا قلنا بأن عيسى عليه السلام يجب أن يكون مصدقاً لموسى بالتوراة ولعلّ من جملة الأغراض في بعثة عيسى عليه السلام إليهم تقرير التوراة وإزالة شبهات المنكرين وتحريفات الجاهلين
وأما المقصود الثاني من بعثة عيسى عليه السلام قوله وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ
وفيه سؤال وهو أنه يقال هذه الآية الأخيرة مناقضة لما قبلها لأن هذه الآية الأخيرة صريحة في أنه جاء ليحل بعد الذي كان محرماً عليه في التوراة وهذا يقتضي أن يكون حكمه بخلاف حكم التوراة وهذا يناقض قوله وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاة ِ
والجواب إنه لا تناقض بين الكلام وذلك لأن التصديق بالتوراة لا معنى له إلا اعتقاد أن كل ما فيها فهو حق وصواب وإذا لم يكن الثاني مذكوراً في التوراة لم يكن حكم عيسى بتحليل ما كان محرماً فيها مناقضاً

لكونه مصدقاً بالتوراة وأيضاً إذا كانت البشارة بعيسى عليه السلام موجودة في التوراة لم يكن مجيء عيسى عليه السلام وشرعه مناقضاً للتوراة ثم اختلفوا فقال بعضهم إنه عليه السلام ما غير شيئاً من أحكام التوراة قال وهب بن منبه إن عيسى عليه السلام كان على شريعة موسى عليه السلام كان يقرر السبت ويستقبل بيت المقدس ثم إنه فسّر قوله وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ بأمرين أحدهما إن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ونسبوها إلى موسى فجاء عيسى عليه السلام ورفعها وأبطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى عليه السلام والثاني أن الله تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات كما قال الله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 ) ثم بقي ذلك التحريم مستمراً على اليهود فجاء عيسى عليه السلام ورفع تلك التشديدات عنهم وقال آخرون إن عيسى عليه السلام رفع كثيراً من أحكام التوراة ولم يكن ذلك قادحاً في كونه مصدقاً بالتوراة على ما بيناه ورفع السبت ووضع الأحد قائماً مقامه وكان محقاً في كل ما عمل لما بينا أن الناسخ والمنسوخ كلاهما حق وصدق
ثم قال وَجِئْتُكُمْ بِأَيَة ٍ مّن رَّبّكُمْ وإنما أعاده لأن إخراج الإنسان عن المألوف المعتاد من قديم الزمان عسر فأعاد ذكر المعجزات ليصير كلامه ناجعاً في قلوبهم ومؤثراً في طباعهم ثم خوفهم فقال فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لأن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله تعالى فبيّن أنه إذا لزمكم أن تتقوا الله لزمكم أن تطيعوني فيما آمركم به عن ربي ثم إنه ختم كلامه بقوله إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ ومقصوده إظهار الخضوع والاعتراف بالعبودية لكيلا يتقولوا عليه الباطل فيقولون إنه إلاه وابن إلاه لأن إقراره لله بالعبودية يمنع ما تدعيه جهال النصارى عليه ثم قال فَاعْبُدُوهُ والمعنى أنه تعالى لما كان رب الخلائق بأسرهم وجب على الكل أن يعبدوه ثم أكد ذلك بقوله هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ
فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى بشارة مريم بولد مثل عيسى واستقصى في بيان صفاته وشرح معجزاته وترك

ههنا قصة ولادته وقد ذكرها في سورة مريم على الاستقصاء شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات وأظهر لهم تلك الدلائل فهم بماذا عاملوه فقال تعالى فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الإحساس عبارة عن وجدان الشيء بالحاسة وههنا وجهان أحدهما أن يجري اللفظ على ظاهره وهو أنهم تكلموا بالكفر فأحس ذلك بإذنه والثاني أن نحمله على التأويل وهو أن المراد أنه عرف منهم إصرارهم على الكفر وعزمهم على قتله ولما كان ذلك العلم علماً لا شبهة فيه مثل العلم الحاصل من الحواس لا جرم عبر عن ذلك العلم بالإحساس
المسألة الثانية اختلفوا في السبب الذي به ظهر كفرهم على وجوه الأول قال السدي أنه تعالى لما بعثه رسولاً إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم إلى دين الله فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم وكان أمر عيسى عليه السلام في قومه كأمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو بمكة فكان مستضعفاً وكان يختفي من بني إسرائيل كما اختفى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الغار وفي منازل من آمن به لما أرادوا قتله ثم إنه عليه الصلاة والسلام خرج مع أمه يسيحان في الأرض فاتفق أنه نزل في قرية على رجل فأحسن ذلك الرجل ضيافته وكان في تلك المدينة ملك جبار فجاء ذلك الرجل يوماً حزيناً فسأله عيسى عن السبب فقال ملك هذه المدينة رجل جبار ومن عادته أنه جعل على كل رجل منا يوماً يطعمه ويسقيه هو وجنوده وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر علي فلما سمعت مريم عليها السلام ذلك قالت يا بني ادع الله ليكفي ذلك فقال يا أماه إن فعلت ذلك كان شر فقالت قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه فقال عيسى عليه السلام إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني فلما فعل ذلك دعا الله تعالى فتحول ما في القدور طبيخاً وما في الخوابي خمراً فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذا الخمر فتعلل الرجل في الجواب فلم يزل الملك يطالبه بذلك حتى أخبره بالواقعة فقال إن من دعا الله حتى جعل الماء خمراً إذا دعا أن يحيي الله تعالى ولدي لا بد وأن يجاب وكان ابنه قد مات قبل ذلك بأيام فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك فقال عيسى لا تفعل فإنه إن عاش كان شراً فقال ما أبالي ما كان إذا رأيته وإن أحييته تركتك على ما تفعل فدعا الله عيسى فعاش الغلام فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح واقتتلوا وصار أمر عيسى عليه السلام مشهوراً في الخلق وقصد اليهود قتله وأظهروا الطعن فيه والكفر به
والقول الثاني إن اليهود كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشر به في التوراة وأنه ينسخ دينهم فكانوا من أول الأمر طاعنين فيه طالبين قتله فلما أظهر الدعوة اشتد غضبهم وأخذوا في إيذائه وإيحاشه وطلبوا قتله
والقول الثالث إن عيسى عليه السلام ظن من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به وأن دعوته لا تنجع فيهم فأحب أن يمتحنهم ليتحقق ما ظنه بهم فقال لهم مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ فما أجابه إلا الحواريون فعند ذلك أحس بأن من سوى الحواريين كافرون مصرون على إنكار دينه وطلب قتله
أما قوله تعالى قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ ففيه مسألتان

المسألة الأولى في الآية أقوال الأول أن عيسى عليه السلام لما دعا بني إسرائيل إلى الدين وتمردوا عليه فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بجماعة من صيادي السمك وكان فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا ابنا زيدي وهم من جملة الحواريين الاثنى عشر فقال عيسى عليه السلام الآن تصيد السمك فإن تبعتني صرت بحيث تصيد الناس لحياة الأبد فطلبوا منه المعجزة وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئاً فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق منه واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملؤا السفينتين فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام
والقول الثاني أن قوله مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ إنما كان في آخر أمره حين اجتمع اليهود عليه طلباً لقتله ثم ههنا احتمالات الأول أن اليهود لما طلبوه للقتل وكان هو في الهرب عنهم قال لأولئك الاثنى عشر من الحواريين أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني
فأجابه إلى ذلك بعضهم وفيما تذكره النصارى في إنجيلهم أن اليهود لما أخذوا عيسى سل شمعون سيفه فضرب به عبداً كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى باذنه فقال له عيسى حسبك ثم أخذ اذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت والحاصل أن الغرض من طلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه
والاحتمال الثاني أنه دعاهم إلى القتال مع القوم لقوله تعالى في سورة أخرى يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنَّصَارِى ( الصف 14 )
المسألة الثانية قوله إِلَى اللَّهِ فيه وجوه الأول التقدير من أنصاري حال ذهابي إلى الله أو حال التجائي إلى الله والثاني التقدير من أنصاري إلى أن أبين أمر الله تعالى وإلى أن أظهر دينه ويكون إلى ههنا غاية كأنه أراد من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي ويظهر أمر الله تعالى الثالث قال الأكثرون من أهل اللغة إلى ههنا بمعنى مع قال تعالى وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ ( النساء 2 ) أي معها وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الذود إلى الذود إبل ) أي مع الذود
قال الزجاج كلمة إِلَى ليست بمعنى مع فإنك لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز أن تقول ذهب زيد مع عمرو لأن إِلَى تفيد الغاية و مَّعَ تفيد ضم الشيء إلى الشيء بل المراد من قولنا أن إِلَى ههنا بمعنى مَّعَ هو أنه يفيد فائدتها من حيث أن المراد من يضيف نصرته إلى نصرة الله إياي وكذلك المراد من قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ ( النساء 2 ) أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم وكذلك قوله عليه السلام ( الذود إلى الذود إبل ) معناه الذود مضموماً إلى الذود إبل والرابع أن يكون المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه وفي الحديث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول إذا ضحى ( اللّهم منك وإليك ) أي تقرباً إليك ويقول الرجل لغيره عند دعائه إياته إِلَى أي انضم إلى فكذا ههنا المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله تعالى الخامس أن يكون إِلَى بمعنى اللام كأنه قال من أنصاري لله نظيره قوله تعالى قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقّ ( يونس 35 ) والسادس تقدير الآية من أنصاري في سبيل الله و ( إلى ) بمعنى ( في ) جائز وهذا قول الحسن

أما قوله تعالى قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في لفظ الحواري وجوهاً الأول أن الحواري اسم موضوع لخاصة الرجل وخالصته ومنه يقال للدقيق حواري لأنه هو الخالص منه وقال ( صلى الله عليه وسلم ) للزبير ( إنه ابن عمتي وحواري من أمتي ) والحواريات من النساء النقيات الألوان والجلود فعلى هذا الحواريون هم صفوة الأنبياء الذي خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم وفي نصرتهم
القول الثاني الحواري أصله من الحور وهو شدة البياض ومنه قيل للدقيق حواري ومنه الأحور والحور نقاء بياض العين وحورت الثياب بيضتها وعلى هذا القول اختلفوا في أن أولئك لم سموا بهذا الاسم فقال سعيد بن جبير لبياض ثيابهم وقيل كانوا قصارين يبيضون الثياب وقيل لأن قلوبهم كانت نقية طاهرة من كل نفاق وريبة فسموا بذلك مدحاً لهم وإشارة إلى نقاء قلوبهم كالثوب الأبيض وهذا كما يقال فلان نقي الجيب طاهر الذيل إذا كان بعيداً عن الأفعال الذميمة وفلان دنس الثياب إذا كان مقدماً على ما لا ينبغي
القول الثالث قال الضحاك مرّ عيسى عليه السلام بقوم من الذين كانوا يغسلون الثياب فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا والذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري وهو القصار فعربت هذه اللفظة فصارت حواري وقال مقاتل بن سليمان الحواريون هم القصارون وإذا عرفت أصل هذا اللفظ فقد صار بعرف الاستعمال دليلاً على خواص الرجل وبطانته
المسألة الثانية اختلفوا في أن هؤلاء الحواريين من كانوا
فالقول الأول إنه عليه السلام مرّ بهم وهم يصطادون السمك فقال لهم ( تعالوا نصطاد الناس ) قالوا من أنت قال ( أنا عيسى بن مريم عبد الله ورسوله ) فطلبوا من المعجز على ما قال فلما أظهر المعجز آمنوا به فهم الحواريون
القول الثاني قالوا سلمته أمه إلى صباغ فكان إذا أراد أن يعلمه شيئاً كان هو أعلم به منه وأراد الصباغ أن يغيب لبعض مهماته فقال له ههنا ثياب مختلفة وقد علمت على كل واحد علامة معينة فاصبغها بتلك الألوان بحيث يتم المقصود عند رجوعي ثم غاب فطبخ عيسى عليه السلام جباً واحداً وجعل الجميع فيه وقال ( كوني بإذن الله كما أريد ) فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال قد أفسدت علي الثياب قال ( قم فانظر ) فكان يخرج ثوباً أحمر وثوباً أخضر وثوباً أصفر كما كان يريد إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به فهم الحواريون
القول الثالث كانوا الحواريون إثنى عشر رجلاً اتبعوا عيسى عليه السلام وكانوا إذا قالوا يا روح الله جعنا فيضرب بيده إلى الأرض فيخرج لكل واحد رغيفان وإذا عطشوا قالوا يا روح الله عطشنا فيضرب بيده إلى الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئنا سقيتنا وقد آمنا بك فقال ( أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه ) فصاروا يغسلون الثياب بالكراء فسموا حواريين
القول الرابع أنهم كانوا ملوكاً قالوا وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً وجمع الناس عليه وكان

عيسى عليه السلام على قصعة منها فكانت القصعة لا تنقص فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك فقال تعرفونه قالوا نعم فذهبوا بعيسى عليه السلام قال من أنت قال أنا عيسى بن مريم قال فإني أترك ملكي وأتبعك فتبعه ذلك الملك مع أقاربه فأولئك هم الحواريون قال القفال ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك وبعضهم من صيادي السمك وبعضهم من القصارين والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام وأعوانه والمخلصين في محبته وطاعته وخدمته
المسألة الثالثة المراد من قوله الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ أي نحن أنصار دين الله وأنصار أنبيائه لأن نصرة الله تعالى في الحقيقة محال فالمراد منه ما ذكرناه
أما قوله بِاللَّهِ فَإِذَا فهذا يجري مجرى ذكر العلة والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله لأجل أنا آمنا بالله فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله والذب عن أوليائه والمحاربة مع أعدائه
ثم قالوا وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ وذلك لأن إشهادهم عيسى عليه السلام على أنفسهم إشهاد لله تعالى أيضاً ثم فيه قولان الأول المراد واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك والذب عنك مستسلمون لأمر الله تعالى فيه الثاني أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم
واعلم أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إيمانهم وعلى إسلامهم تضرعوا إلى الله تعالى وقالوا رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وذلك لأن القوم آمنوا بالله حين قالوا في الآية المتقدمة بِاللَّهِ فَإِذَا ثم آمنوا بكتب الله تعالى حيث قالوا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا وآمنوا برسول الله حيث قالوا وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب فقالوا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين ويفضل على درجته لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة قال الله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) الثاني وهو منقول أيضاً عن ابن عباس فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي اكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه قال الله تعالى فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( الأعراف 6 )
وقد أجاب الله تعالى دعاءهم وجعلهم أنبياء ورسلاً فأحيوا الموتى وصنعوا كل ما صنع عيسى عليه السلام
والقول الثالث فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق والمقصود من هذا أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلام أنفسهم حيث قالوا وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ فقد أشهدوا الله تعالى على ذلك تأكيداً للأمر وتقوية له وأيضاً طلبوا من الله مثل ثواب كل مؤمن شهد لله بالتوحيد ولأنبيائه بالنبوّة
القول الرابع إن قوله فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ إشارة إلى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السماوات مع الملائكة قال الله تعالى كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ ( المطففين 18 ) فإذا كتب الله ذكرهم مع الشاهدين المؤمنين كان ذكرهم مشهوراً في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين

القول الخامس إنه تعالى قال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ ( آل عمران 18 ) فجعل أولو العلم من الشاهدين وقرن ذكرهم بذكر نفسه وذلك درجة عظيمة ومرتبة عالية فقالوا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك
والقول السادس إن جبريل عليه السلام لما سأل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) عن الإحسان فقال ( أن تعبد الله كأنك تراه ) وهذا غاية درجة العبد في الاشتغال بالعبودية وهو أن يكون العبد في مقام الشهود لا في مقام الغيبة فهؤلاء القوم لما صاروا كاملين في درجة الاستدلال أرادوا الترقي من مقام الاستدلال إلى مقام الشهود والمكاشفة فقالوا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ
القول السابع إن كل من كان في مقام شهود الحق لم يبال بما يصل إليه من المشاق والآلام فلما قبلوا من عيسى عليه السلام أن يكونوا ناصرين له ذابين عنه قالوا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي اجعلنا ممن يكون في شهود جلالك حتى نصير مستحقرين لكل ما يصل إلينا من المشاق والمتاعب فحينئذ يسهل علينا الوفاء بما التزمناه من نصرة رسولك ونبيك
ثم قال تعالى وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى أصل المكر في اللغة السعي بالفساد في خفية ومداجاة قال الزجاج يقال مكر الليل وأمكر إذا أظلم وقال الله تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الأنفال 30 ) وقال وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ( يوسف 102 ) وقيل أصله من اجتماع الأمر وإحكامه ومنه امرأة ممكورة أي مجتمعة الخلق وإحكام الرأي يقال له الإجماع والجمع قال الله تعالى فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ( يونس 71 ) فلما كان المكر رأياً محكماً قوياً مصوناً عن جهات النقص والفتور لا جرم سمي مكراً
المسألة الثانية أما مكرهم بعيسى عليه السلام فهو أنهم هموا بقتله وأما مكر الله تعالى بهم ففيه وجوه الأول مكر الله تعالى بهم هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وذلك أن يهودا ملك اليهود أراد قتل عيسى عليه السلام وكان جبريل عليه السلام لا يفارقه ساعة وهو معنى قوله وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( البقرة 87 ) فلما أرادوا ذلك أمره جبريل عليه السلام أن يدخل بيتاً فيه روزنة فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل عليه السلام من تلك الروزنة وكان قد ألقى شبهه على غيره فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق فرقة قالت كان الله فينا فذهب وأخرى قالت كان ابن الله والأخرى قالت كان عبد الله ورسوله فأكرمه بأن رفعه إلى السماء وصار لكل فرقة جمع فظهرت الكافرتان على الفرقة المؤمنة إلى أن بعث الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الجملة فالمراد من مكر الله بهم أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال الشر إليه
الوجه الثاني أن الحواريين كانوا إثنى عشر وكانوا مجتمعين في بيت فنافق رجل منهم ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى فأخذوا ذلك المنافق الذي كان فيهم وقتلوه وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام فكان ذلك هو مكر الله بهمه
الوجه الثالث ذكر محمد بن إسحاق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى عليه السلام

فشمسوهم وعذبوهم فلقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم وكان ملك اليهود من رعيته فقيل له إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فقتل فقال لو علمت ذلك لحلت بينه وبينهم ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه فتابعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم وكان اسم هذا الملك طباريس وهو صار نصرانياً إلا أنه ما أظهر ذلك ثم إنه جاء بعده ملك آخر يقال له مطليس وغزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو من أربعين سنة فقتل وسبى ولم يترك في مدينة بيت المقدس حجراً على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح وألهم بقتله
القول الرابع أن الله تعالى سلّط عليهم ملك فارس حتى قتلهم وسباهم وهو قوله تعالى بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ ( الإسراء 5 ) فهذا هو مكر الله تعالى بهم
القول الخامس يحتمل أن يكون المراد أنهم مكروا في إخفاء أمره وإبطال دينه ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل والدناءة أعداءه وهم اليهود والله أعلم
المسألة الثالثة المكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر والاحتيال على الله تعالى محال فصار لفظ المكر في حقه من المتشابهات وذكروا في تأويله وجوهاً أحدها أنه تعالى سمى جزاء المكر بالمكر كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) وسمى جزاء المخادعة بالمخادعة وجزاء الاستهزاء بالاستهزاء والثاني أن معاملة الله معهم كانت شبيهة بالمكر فسمي بذلك الثالث أن هذا اللفظ ليس من المتشابهات لأنه عبارة عن التدبير المحكم الكامل ثم اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير وذلك في حق الله تعالى غير ممتنع والله أعلم
إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى َّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى العامل في إِذْ قوله وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ أي وجد هذا المكر إذ قال الله هذا القول وقيل التقدير ذاك إذ قال الله

المسألة الثانية اعترفوا بأن الله تعالى شرف عيسى في هذه الآية بصفات
الصفة الأولى إِنّي مُتَوَفّيكَ ونظيره قوله تعالى حكاية عنه فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ( المائدة 117 ) واختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين أحدهما إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم ولا تأخير فيها والثاني فرض التقديم والتأخير فيها أما الطريق الأول فبيانه من وجوه الأول معنى قوله إِنّي مُتَوَفّيكَ أي متمم عمرك فحينئذ أتوفاك فلا أتركهم حتى يقتلوك بل أنا رافعك إلى سمائي ومقربك بملائكتي وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن والثاني مُتَوَفّيكَ أي مميتك وهو مروي عن ابن عباس ومحمد بن إسحاق قالوا والمقصود أن لا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها قال وهب توفي ثلاثة ساعات ثم رفع وثانيها قال محمد بن إسحاق توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه الثالث قال الربيع بن أنس أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء قال تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا ( الزمر 42 )
الوجه الرابع في تأويل الآية أن الواو في قوله مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى َّ تفيد الترتيب فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال فأما كيف يفعل ومتى يفعل فالأمر فيه موقوف على الدليل وقد ثبت الدليل أنه حي وورد الخبر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه سينزل ويقتل الدجال ) ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك
الوجه الخامس في التأويل ما قاله أبو بكر الواسطي وهو أن المراد إِنّي مُتَوَفّيكَ عن شهواتك وحظوظ نفسك ثم قال وَرَافِعُكَ إِلَى َّ وذلك لأن من لم يصر فانياً عما سوى الله لا يكون له وصول إلى مقام معرفة الله وأيضاً فعيسى لما رفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة والغضب والأخلاق الذميمة
والوجه السادس إن التوفي أخذ الشيء وافياً ولما علم الله إن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه الصلاة والسلام رفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْء ( النساء 113 )
والوجه السابع إِنّي مُتَوَفّيكَ أي أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفى وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن
الوجه الثامن إن التوفي هو القبض يقال وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه كما يقال سلم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه وقد يكون أيضاً توفي بمعنى استوفى وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفياً له
فإن قيل فعلى هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله وَرَافِعُكَ إِلَى َّ تكراراً
قلنا قوله إِنّي مُتَوَفّيكَ يدل على حصول التوفي وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء فلما قال بعده وَرَافِعُكَ إِلَى َّ كان هذا تعييناً للنوع ولم يكن تكراراً
الوجه التاسع أن يقدر فيه حذف المضاف والتقدير متوفي عملك بمعنى مستوفي عملك وَرَافِعُكَ

إِلَى َّ أي ورافع عملك إلي وهو كقوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) والمراد من هذه الآية أنه تعالى بشّره بقبول طاعته وأعماله وعرفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها
الطريق الثاني وهو قول من قال لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير قالوا إن قوله وَرَافِعُكَ إِلَى َّ يقتضي أنه رفعه حياً والواو لا تقتضي الترتيب فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير والمعنى أني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن
واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر والله أعلم
والمشبهة يتمسكون بهذه الآية في إثبات المكان لله تعالى وأنه في المساء وقد دللنا في المواضع الكثيرة من هذا الكتاب بالدلائل القاطعة على أنه يمتنع كونه تعالى في المكان فوجب حمل اللفظ على التأويل وهو من وجوه
الوجه الأول أن المراد إلى محل كرامتي وجعل ذلك رفعاً إليه للتفخيم والتعظيم ومثله قوله إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى ( الصافات 99 ) وإنما ذهب إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) من العراق إلى الشام وقد يقول السلطان ارفعوا هذا الأمر إلى القاضي وقد يسمي الحجاج زوار الله ويسمى المجاورون جيران الله والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم فكذا ههنا
الوجه الثاني في التأويل أن يكون قوله وَرَافِعُكَ إِلَى َّ معناه إنه يرفع إلى مكان لا يملك الحكم عليه فيه غير الله لأن في الأرض قد يتولى الخلق أنواع الأحكام فأما السماوات فلا حاكم هناك في الحقيقة وفي الظاهر إلا الله
الوجه الثالث إن بتقدير القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك سبباً لانتفاعه وفرحه بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبه من الثواب والروح والراحة والريحان فعلى كلا القولين لا بد من حمل اللفظ على أن المراد ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان لله تعالى
الصفة الثالثة من صفات عيسى قوله تعالى وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ والمعنى مخرجك من بينهم ومفرق بينك وبينهم وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منصبه عند الله تعالى
الصفة الرابعة قوله وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ وجهان الأول أن المعنى الذين اتبعوا دين عيسى يكونون فوق الذين كفروا به وهم اليهود بالقهر والسلطان والاستعلاء إلى يوم القيامة فيكون ذلك إخباراً عن ذل اليهود وإنهم يكونون مقهورين إلى يوم القيامة فأما الذين اتبعوا المسيح عليه السلام فهم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله وأما بعد الإسلام فهم المسلمون وأما

النصارى فهم وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم يخالفونه أشد المخالفة من حيث أن صريح العقل يشهد أنه عليه السلام ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجهال ومع ذلك فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود فلا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكاً يهودياً ولا بلدة مملوءة من اليهود بل يكونون أين كانوا بالذلة والمسكنة وأما النصارى فأمرهم بخلاف ذلك الثاني أن المراد من هذه الفوقية الفوقية بالحجة والدليل
واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله وَرَافِعُكَ إِلَى َّ هو الرفعة بالدرجة والمنقبة لا بالمكان والجهة كما أن الفوقية في هذه ليست بالمكان بل بالدرجة والرفعة
أما قوله ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فالمعنى أنه تعالى بشّر عيسى عليه السلام بأنه يعطيه في الدنيا تلك الخواص الشريفة والدرجات الرفيعة العالية وأما في القيامة فإنه يحكم بين المؤمنين به وبين الجاحدين برسالته وكيفية ذلك الحكم ما ذكره في الآية التي بعد هذه الآية وبقي من مباحث هذه الآية موضع مشكل وهو أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره على ما قال وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبّهَ لَهُمْ ( النساء 157 ) والأخبار أيضاً واردة بذلك إلا أن الروايات اختلفت فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء الذين دلوا اليهود على مكانه حتى قتلوه وصلبوه وتارة يروى أنه عليه السلام رغب بعض خواص أصحابه في أن يلقي شبهه حتى يقتل مكانه وبالجملة فكيفما كان ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات
الإشكال الأول إنا لو جوزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر لزم السفسطة فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانياً فحينئذ أجوز أن يكون هذا الذي رأيته ثانياً ليس بولدي بل هو إنسان ألقي شبهه عليه وحينئذ يرتفع الأمان على المحسوسات وأيضاً فالصحابة الذين رأوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) يأمرهم وينهاهم وجب أن لا يعرفوا أنه محمد لاحتمال أنه ألقي شبهه على غيره وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع وأيضاً فمدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات كان سقوط خبر المتواتر أولى وبالجملة ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية
والإشكال الثاني وهو أن الله تعالى كان قد أمر جبريل عليه السلام بأن يكون معه في أكثر الأحوال هكذا قاله المفسرون في تفسير قوله إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( المائدة 110 ) ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي العالم من البشر فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه وأيضاً أنه عليه السلام لما كان قادراً على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وعلى إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين عن التعرض له
والإشكال الثالث إنه تعالى كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه
والإشكال الرابع أنه إذا ألقي شبهه على غيره ثم إنه رفع بعد ذلك إلى السماء فالقوم اعتقدوا فيه أنه

هو عيسى مع أنه ما كان عيسى فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى
والإشكال الخامس أن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح عليه السلام وغلوهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً مصلوباً فلو أنكرنا ذلك كان طعناً فيما ثبت بالتواتر والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونبوّة عيسى بل في وجودهما ووجود سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكل ذلك باطل
والإشكال السادس أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حياً زماناً طويلاً فلو لم يكن ذلك عيسى بل كان غيره لأظهر الجزع ولقال إني لست بعيسى بل إنما أنا غيره ولبالغ في تعريف هذا المعنى ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أن ليس الأمر على ما ذكرتم فهذا جملة ما في الموضع من السؤالات
والجواب عن الأول أن كل من أثبت القادر المختار سلم أنه تعالى قادر على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زيد مثلاً ثم إن هذا التصوير لا يوجب الشك المذكور فكذا القول فيما ذكرتم
والجواب عن الثاني أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه أو أقدر الله تعالى عيسى عليه السلام على دفع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء وذلك غير جائز
وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث فإنه تعالى لو رفعه إلى السماء وما ألقي شبهه على الغير لبلغت تلك المعجزة إلى حد الإلجاء
والجواب عن الرابع أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين وكانوا عالمين بكيفية الواقعة وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس
والجواب عن الخامس أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل لم يكن مفيداً للعلم
والجواب عن السادس إن بتقدير أن يكون الذي ألقي شبه عيسى عليه السلام عليه كان مسلماً وقبل ذلك عن عيسى جائز أن يسكت عن تعريف حقيقة الحال في تلك الواقعة وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع والله ولي الهداية
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بيّن بعد ذلك مفصلاً ما في

ذلك الاختلاف أما الاختلاف فهو أن كفر قوم وآمن آخرون وأما الحكم فيمن كفر فهو أن يعذبه عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وأما الحكم فيمن آمن وعمل الصالحات فهو أن يوفيهم أجورهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أما عذاب الكافر في الدنيا فهو من وجهين أحدهما القتل والسبي وما شاكله حتى لو ترك الكفر لم يحسن إيقاعه به فذلك داخل في عذاب الدنيا والثاني ما يلحق الكافر من الأمراض والمصائب وقد اختلفوا في أن ذلك هل هو عقاب أم لا قال بعضهم إنه عقاب في حق الكافر وإذا وقع مثله للمؤمن فإنه لا يكون عقاباً بل يكون ابتلاءً وامتحاناً وقال الحسن إن مثل هذا إذا وقع للكافر لا يكون عقاباً بل يكون أيضاً ابتلاءً وامتحاناً ويكون جارياً مجرى الحدود التي تقام على النائب فإنها لا تكون عقاباً بل امتحاناً والدليل عليه أنه تعالى يعد الكل بالصبر عليها والرضا بها والتسليم لها وما هذا حاله لا يكون عقاباً
فإن قيل فقد سلمتم في الوجه الأول إنه عذاب للكافر على كفره وهذا على خلاف قوله تعالى وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّة ٍ ( النحل 61 ) وكلمة لَوْ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فوجب أن لا توجد المؤاخذة في الدنيا وأيضاً قال تعالى الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( غافر 17 ) وذلك يقتضي حصول المجازاة في ذلك اليوم لا في الدنيا قلنا الآية الدالة على حصول العقاب في الدنيا خاصة والآيات التي ذكرتموها عامة والخاص مقدم على العام
المسألة الثانية لقائل أن يقول وصف العذاب بالشدة يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد ولسنا نجد الأمرر كذلك فإن الأمر تارة يكون على الكفار وأخرى على المسلمين ولا نجد بين الناس تفاوتاً
قلنا بل التفاوت موجود في الدنيا لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى عليه السلام ونري الذلة والمسكنة لازمة لهم فزال الإشكال
المسألة الثالثة وصف تعالى هذا العذاب بأنه ليس لهم من ينصرهم ويدفع ذلك العذاب عنهم
فإن قيل أليس قد يمتنع على الأئمة والمؤمنين قتل الكفار بسبب العهد وعقد الذمة
قلنا المانع هو العهد ولذلك إذا زال العهد حل قتله
وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حفص عن عاصم فَيُوَفّيهِمْ بالياء يعني فيوفيهم الله والباقون بالنون حملاً على ما تقدم من قوله فَاحْكُمْ فَأُعَذّبُهُمْ وهو الأولى لأنه نسق الكلام

المسألة الثانية ذكر الذين آمنوا ثم وصفهم بأنهم عملوا الصالحات وذلك يدل على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان وقد تقدم ذكر هذه الدلالة مراراً
المسألة الثالثة احتج من قال بأن العمل علة للجزاء بقوله فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ فشبههم في عبادتهم لأجل طلب الثواب بالمستأجر والكلام فيه أيضاً قد تقدم والله أعلم
المسألة الرابعة المعتزلة احتجوا بقوله وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي قالوا لأن مريد الشيء لا بد وأن يكون محباً له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقتا بالأشخاص فقد يقال أحب زيداً ولا يقال أريده وأما إذا علقتا بالأفعال فمعناهما واحد إذا استعملتا على حقيقة اللغة فصار قوله وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ بمنزلة قوله ( لا يريد ظلم الظالمين ) هكذا قرره القاضي وعند أصحابنا أن المحبة عبارة عن إرادة إيصال الخير إليه فهو تعالى وإن أراد كفر الكافر إلا أنه لا يريد إيصال الثواب إليه وهذه المسألة قد ذكرناها مراراً وأطواراً
ذالِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
فيه مسائل
المسألة الأولى ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم من نبأ عيسى وزكريا وغيرهما وهو مبتدأ خبره نَتْلُوهُ و مِنَ الاْيَاتِ خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون ذلك بمعنى الذي و نَتْلُوهُ صلته و مِنَ الاْيَاتِ الخبر
المسألة الثانية التلاوة والقصص واحد في المعنى فإن كلا منهما يرجع معناه إلى شيء يذكر بعضه على إثر بعض ثم إنه تعالى أضاف التلاوة إلى نفسه في هذه الآية وفي قوله نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى ( القصص 3 ) وأضاف القصص إلى نفسه فقال نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( يوسف 3 ) وكل ذلك يدل على أنه تعالى جعل تلاوة الملك جارية مجرى تلاوته سبحانه وتعالى وهذا تشريف عظيم للملك وإنما حسن ذلك لأن تلاوة جبريل ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان بأمره من غير تفاوت أصلاً أُضيف ذلك إليه سبحانه وتعالى
المسألة الثالثة قوله مِنَ الاْيَاتِ يحتمل أن يكون المراد منه أن ذلك من آيات القرآن ويحتمل أن يكون المراد منه أنه من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارىء من كتاب أو من يوحى إليه فظاهر أنك لا تكتب ولا تقرأ فبقي أن ذلك من الوحي
المسألة الرابعة وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ فيه قولان الأول المراد منه القرآن وفي وصف القرآن بكونه ذكراً حكيماً وجوه الأول إنه بمعنى الحاكم مثل القدير والعليم والقرآن حاكم بمعنى أن الأحكام تستفاد منه والثاني معناه ذو الحكمة في تأليفه ونظمه وكثرة علومه والثالث أنه بمعنى المحكم فعيل بمعنى مفعل قال الأزهري وهو شائع في اللغة لأن حكمت يجري مجرى أحكمت في المعنى فرد إلى الأصل

ومعنى المحكم في القرآن أنه أحكم عن تطرق وجوه الخلل إليه قال تعالى الر كِتَابٌ ( هود 1 ) والرابع أن يقال القرآن لكثرة حكمه إنه ينطق بالحكمة فوصف بكونه حكيماً على هذا التأويل
القول الثاني أن المراد بالذكر الحكيم ههنا غير القرآن وهو اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام أخبر أنه تعالى أنزل هذا القصص مما كتب هنالك والله أعلم بالصواب
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وكان من جملة شبههم أن قالوا يا محمد لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى فقال إن آدم ما كان له أب ولا أم ولم يلزم أن يكون ابناً لله تعالى فكذا القول في عيسى عليه السلام هذا حاصل الكلام وأيضاً إذا جاز أن يخلق الله تعالى آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم بل هذا أقرب إلى العقل فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولده من التراب اليابس هذا تلخيص الكلام
ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ أي صفته كصفة آدم ونظيره قوله تعالى مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ( الرعد 35 ) أي صفة الجنة
المسألة الثانية قوله تعالى خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ليس بصلة لآدم ولا صفة ولكنه خبر مستأنف على جهة التفسير بحال آدم قال الزجاج هذا كما تقول في الكلام مثلك كمثل زيد تريد أن تشبهه به في أمر من الأمور ثم تخبر بقصة زيد فتقول فعل كذا وكذا
المسألة الثالثة اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوق بوالد لا إلى أول وهو محال والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم عليه السلام كما في هذه الآية وقال تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( النساء 1 ) وقال هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( الأعراف 189 ) ثم إنه تعالى ذكر في كيفية خلق آدم عليه السلام وجوهاً كثيرة أحدها أنه مخلوق من التراب كما في هذه الآية والثاني أنه مخلوق من الماء قال الله تعالى وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ( الفرقان 54 ) والثالث أنه مخلوق من الطين قال الله تعالى الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَة ٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ ( السجدة 7 8 ) والرابع أنه مخلوق من سلالة من

طين قال تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ( المؤمنون 11 13 ) الخامس أنه مخلوق من طين لازب قال تعالى إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ ( الصافات 11 ) السادس إنه مخلوق من صلصال قال تعالى إِنّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ( الحجر 28 ) السابع أنه مخلوق من عجل قال تعالى خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( الأنبياء 37 ) الثامن قال تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ ( البلد 4 ) أما الحكماء فقالوا إنما خلق آدم عليه السلام من تراب لوجوه الأول ليكون متواضعاً الثاني ليكون ستاراً الثالث ليكون أشد التصاقاً بالأرض وذلك لأنه إنما خلق لخلافة أهل الأرض قال تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) الرابع أراد إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام وابتلاهم بظلمات الضلالة وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام وأعطاهم كمال الشدة والقوة وخلق آدم عليه السلام من التراب الذي هو أكثف الأجرام ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية وخلق السماوات من أمواج مياه البحار وأبقاها معلقة في الهواء حتى يكون خلقه هذه الأجرام برهاناً باهراً ودليلاً ظاهراً على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج والخالق بلا مزاج وعلاج الخامس خلق الإنسان من تراب ليكون مطفئاً لنار الشهوة والغضب والحرص فإن هذه النيران لا تطفأ إلا بالتراب وإنما خلقه من الماء ليكون صافياً تتجلى فيه صور الأشياء ثم إنه تعالى مزج بين الأرض والماء ليمتزج الكثيف فيصير طيناً وهو قوله إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ ثم إنه في المرتبة الرابعة قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ والسلالة بمعنى المفعولة لأنها هي التي تسل من ألطف أجزاء الطين ثم إنه في المرتبة السادسة أثبت له من الصفات ثلاثة أنواع
أحدها أنه من صلصال والصلصال اليابس الذي إذا حرك تصلصل كالخزف الذي يسمع من داخله صوت والثاني الحمأ وهو الذي استقر في الماء مدة وتغير لونه إلى السواد والثالث تغير رائحته قال تعالى فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ( البقرة 259 ) أي لم يتغير
فهذه جملة الكلام في التوفيق بين الآيات الواردة في خلق آدم عليه السلام
المسألة الرابعة في الآية إشكال وهو أنه تعالى قال خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فهذا يقتضي أن يكون خلق آدم متقدماً على قول الله له كُنَّ وذلك غير جائز
وأجاب عنه من وجوه الأول قال أبو مسلم قد بينا أن الخلق هو التقدير والتسوية ويرجع معناه إلى علم الله تعالى بكيفية وقوعه وإراداته لإيقاعه على الوجه المخصوص وكل ذلك متقدم على وجود آدم عليه السلام تقديماً من الأزل إلى الأبد وأما قوله كُنَّ فهو عبارة عن إدخاله في الوجود فثبت أن خلق آدم متقدم على قوله كُنَّ
والجواب الثاني وهو الذي عول عليه القاضي أنه تعالى خلقه من الطين ثم قال له كُنَّ أي أحياه كما قال ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً فإن قيل الضمير في قوله خلقه راجع إلى آدم وحين كان تراباً لم يكن آدم عليه السلام موجوداً
أجاب القاضي وقال بل كان موجوداً وإنما وجد بعد حياته وليست الحياة نفس آدم وهذا ضعيف لأن

آدم عليه السلام ليس عبارة عن مجرد الأجسام المشكلة بالشكل المخصوص بل هو عبارة عن هوية أخرى مخصوصة وهي إما المزاج المعتدل أو النفس وينجر الكلام من هذا البحث إلى أن النفس ما هي ولا شك أنها من أغمض المسائل
الجواب الصحيح أن يقال لما كان ذلك الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب سماه آدم عليه السلام قبل ذلك تسمية لما سيقع بالواقع
والجواب الثالث أن قوله ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ يفيد تراخي هذا الخبر عن ذلك الخبر كما في قوله تعالى ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 17 ) ويقول القائل أعطيت زيداً اليوم ألفاً ثم أعطيته أمس ألفين ومراده أعطيته اليوم ألفاً ثم أنا أخبركم أني أعطيته أمس ألفين فكذا قوله خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ أي صيره خلقاً سوياً ثم إنه يخبركم أني إنما خلقته بأن قلت له كُنَّ
المسألة الخامسة في الآية إشكال آخر وهو أنه كان ينبغي أن يقال ثم قال له كن فكان فلم يقل كذلك بل قال كُنْ فَيَكُونُ
والجواب تأويل الكلام ثم قال له كُنْ فَيَكُونُ فكان
واعلم يا محمد أن ما قال له ربك كُنَّ فإنه يكون لا محالة
الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قال الفرّاء والزجاج قوله الْحَقّ خبر مبتدأ محذوف والمعنى الذي أنبأتك من قصة عيسى عليه السلام أو ذلك النبأ في أمر عيسى عليه السلام الْحَقّ فحذف لكونه معلوماً وقال أبو عبيدة هو استئناف بعد انقضاء الكلام وخبره قوله مِن رَبّكَ وهذا كما تقول الحق من الله والباطل من الشيطان وقال آخرون الحق رفع بإضمار فعل أي جاءك الحق
وقيل أيضاً إنه مرفوع بالصفة وفيه تقديم وتأخير تقديره من ربك الحق فلا تكن
المسألة الثانية الامتراء الشك قال ابن الأنباري هو مأخوذ من قول العرب مريت الناقة والشاة إذا حلبتها فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء كاللبن الذي يجتذب عند الحلب يقال قد مارى فلان فلاناً إذا جادله كأنه يستخرج غضبه ومنه قيل الشكر يمتري المزيد أي يجلبه
المسألة الثالثة في الحق تأويلان الأول قال أبو مسلم المراد أن هذا الذي أنزلت عليك هو الحق من خبر عيسى عليه السلام لا ما قالت النصارى واليهود فالنصارى قالوا إن مريم ولدت إلاهاً واليهود رموا مريم عليها السلام بالإفك ونسبوها إلى يوسف النجار فالله تعالى بيّن أن هذا الذي أنزل في القرآن هو الحق ثم نهى عن الشك فيه ومعنى ممتري مفتعل من المرية وهي الشك

والقول الثاني أن المراد أن الحق في بين هذه المسألة ما ذكرناه من المثل وهو قصة آدم عليه السلام فإنه لا بيان لهذه المسألة ولا برهان أقوى من التمسك بهذه الواقعة والله أعلم
المسألة الرابعة قوله تعالى فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ خطاب في الظاهر مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا بظاهره يقتضي أنه كان شاكاً في صحة ما أنزل عليه وذلك غير جائز واختلف الناس في الجواب عنه فمنهم من قال الخطاب وإن كان ظاهره مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه في المعنى مع الأمة قال تعالى الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء والثاني أنه خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمعنى فدم على يقينك وعلى ما أنت عليه من ترك الامتراء
فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
اعلم أن الله تعالى بيّن في أول هذه السورة وجوهاً من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى بالزوجة والولد وأتبعها بذكر الجواب عن جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام وختم الكلام بهذه النكتة القاطعة لفساد كلامهم وهو أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم عليه السلام أن يكون ابناً لله تعالى لم يلزم من عدم الأب البشري لعيسى عليه السلام أن يكون ابناً لله تعالى الله عن ذلك ولما لم يبعد انخلاق آدم عليه السلام من التراب لم يبعد أيضاً انخلاق عيسى عليه السلام من الدم الذي كان يجتمع في رحم أم عيسى عليه السلام ومن أنصف وطلب الحق علم أن البيان قد بلغ إلى الغاية القصوى فعند ذلك قال تعالى فَمَنْ حَاجَّكَ بعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة فقال فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ إلى آخر الآية ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى اتفق أني حين كنت بخوارزم أخبرت أنه جاء نصراني يدعي التحقيق والتعمق في مذهبهم فذهبت إليه وشرعنا في الحديث وقال لي ما الدليل على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت له كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن رددنا التواتر أو قبلناه لكن قلنا إن المعجزة لا تدل على الصدق فحينئذ بطلت نبوّة سائر الأنبياء عليهم السلام وإن اعترفنا بصحة التواتر واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق ثم إنهما حاصلان في حق محمد وجب الاعتراف قطعاً بنبوّة محمد عليه السلام ضرورة أن عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول فقال النصراني أنا لا أقول في عيسى عليه السلام إنه كان نبياً بل أقول إنه

كان إلاهاً فقلت له الكلام في النبوّة لا بد وأن يكون مسبوقاً بمعرفة الإله وهذا الذي تقوله باطل ويدل عليه أن الإله عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته يجب أن لا يكون جسماً ولا متحيزاً ولا عرضاً وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوماً وقتل بعد أن كان حياً على قولكم وكان طفلاً أولاً ثم صار مترعرعاً ثم صار شاباً وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديماً والمحتاج لا يكون غنياً والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً
والوجه الثاني في إبطال هذه المقالة أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حياً على الخشبة وقد مزقوا ضلعه وأنه كان يحتال في الهرب منهم وفي الاختفاء عنهم وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد فإن كان إلاهاً أو كان الإله حالاً فيه أو كان جزءاً من الإله حاك فيه فلم لم يدفعهم عن نفسه ولم لم يهلكهم بالكلية وأي حاجة به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهما وبالله أنني لأتعجب جداً إن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول ويعتقد صحته فتكاد أن تكون بديهة العقل شاهدة بفساده
والوجه الثالث وهو أنه إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد أو يقال حل الإله بكليته فيه أو حل بعض الإله وجزء منه فيه والأقسام الثلاثة باطلة أما الأول فلأن إلاه العالم لو كان هو ذلك الجسم فحين قتله اليهود كان ذلك قولاً بأن اليهود قتلوا إلاه العالم فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إلاها ثم إن أشد الناس ذلاً ودناءة اليهود فالإلاه الذي تقتله اليهود إلاه في غاية العجزا وأما الثاني وهو أن الإله بكليته حل في هذا الجسم فهو أيضاً فاسد لأن الإله لم يكن جسماً ولا عرضاً امتنع حلوله في الجسم وإن كان جسماً فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزاءه بأجزاء ذلك الجسم وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحل وكان الإله محتاجاً إلى غيره وكل ذلك سخف وأما الثالث وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإله وجزء من أجزائه فذلك أيضاً محال لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلاهية فعند انفصاله عن الإله وجب أن لا يبقى الإله إلاهاً وإن لم يكن معتبر في تحقق الإلاهية لم يكن جزأ من الإله فثبت فساد هذه الأقسام فكان قول النصارى باطلاً
الوجه الرابع في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله تعالى ولو كان إلاهاً لاستحال ذلك لأن الإله لا يعبد نفسه فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور دالة على فساد قولهم ثم قلت للنصراني وما الذي دلك على كونه إلاهاً فقال الذي دل عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإله تعالى فقلت له هل تسلم إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول أم لا فإن لم تسلم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فأقول لما جوّزت حلول الإله في بدن عيسى عليه السلام فكيف عرفت أن الإله ما حل في بدني وبدنك وفي بدن كل حيوان ونبات وجماد فقال الفرق ظاهر وذلك لأني إنما حكمت بذلك الحلول لأنه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك فعلمنا أن ذلك الحلول مفقود ههنا فقلت له تبين

الآن أنك ما عرفت معنى قولي إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول وذلك لأن ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإله في بدن عيسى فعدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل فإذا ثبت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك وفي حق الكلب والسنور والفأر ثم قلت إن مذهباً يؤدي القول به إلى تجويز حلول ذات الله في بدن الكلب والذباب لفي غاية النحسة والركاكة
الوجه الخامس أن قلب العصا حية أبعد في العقل من إعادة الميت حياً لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى إلاهاً ولا ابناً للإلاه فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلاهية كان ذلك أولى وعند هذا انقطع النصراني ولم يبق له كلام والله أعلم
المسألة الثانية روي أنه عليه السلام لما أورد الدلائل على نصارى نجران ثم إنهم أصروا على جهلهم فقال عليه السلام ( إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم ) فقالوا يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فلما رجعوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى فقال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لكان الاستئصال فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خرج وعليه مرط من شعر أسود وكان قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي رضي الله عنه خلفها وهو يقول إذا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ثم قالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك فقال صلوات الله عليه فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين فأبوا فقال فإني أناجزكم القتال فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك في كل عام ألفى حلة ألفا في صفر وألفا في رجب وثلاثين درعاً عادية من حديد فصالحهم على ذلك وقال والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا وروي أنه عليه السلام لما خرج في المرط الأسود فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله ثم جاء الحسين رضي الله عنه فأدخله ثم فاطمة ثم علي رضي الله عنهما ثم قال إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث
المسألة الثالثة فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي في عيسى عليه السلام وقيل الهاء تعود إلى الحق في قوله الْحَقُّ مِن رَّبّكَ ( هود 17 ) مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ( البقرة 145 ) بأن عيسى عبد الله ورسوله عليه السلام وليس المراد ههنا بالعلم نفس العلم لأن العلم الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك بل المراد بالعلم ما ذكره بالدلائل العقلية

والدلائل الواصلة إليه بالوحي والتنزيل فقل تعالوا أصله تعاليوا لأنه تفاعلوا من العلو فاستثقلت الضمة على الياء فسكنت ثم حذفت لاجتماع الساكنين وأصله العلو والارتفاع فمعنى تعالى ارتفع إلا أنه كثر في الاستعمال حتى صار لكل مجيء وصار بمنزلة هلم
المسألة الرابعة هذه الآية دالة على أن الحسن والحسين عليهما السلام كانا ابني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعد أن يدعو أبناءه فدعا الحسن والحسين فوجب أن يكونا ابنيه ومما يؤكد هذا قوله تعالى في سورة الأنعام وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ ( الأنعام 84 ) إلى قوله وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى ( الأنعام 85 ) ومعلوم أن عيسى عليه السلام إنما انتسب إلى إبراهيم عليه السلام بالأم لا بالأب فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابناً والله أعلم
المسألة الخامسة كان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي وكان معلم الاثنى عشرية وكان يزعم أن علياً رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد عليه السلام قال والذي يدل عليه قوله تعالى وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ وليس المراد بقوله وَأَنفُسَنَا نفس محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد به غيره وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد ولا يمكن أن يكون المراد منه أن هذه النفس هي عين تلك النفس فالمراد أن هذه النفس مثل تلك النفس وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة وفي حق الفضل لقيام الدلائل على أن محمداً عليه السلام كان نبياً وما كان علي كذلك ولانعقاد الإجماع على أن محمداً عليه السلام كان أفضل من علي رضي الله عنه فيبقى فيما وراءه معمولاً به ثم الإجماع دل على أن محمداً عليه السلام كان أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية ثم قال ويؤيد الاستدلال بهذه الآية الحديث المقبول عند الموافق والمخالف وهو قوله عليه السلام ( من أراد أن يرى آدم في علمه ونوحاً في طاعته وإبراهيم في خلته وموسى في هيبته وعيسى في صفوته فلينظر إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ) فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقاً فيهم وذلك يدل على أن علياً رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأما سائر الشيعة فقد كانوا قديماً وحديثاً يستدلون بهذه الآية على أن علياً رضي الله عنه مثل نفس محمد عليه السلام إلا فيما خصه الدليل وكان نفس محمد أفضل من الصحابة رضوان الله عليهم فوجب أن يكون نفس علي أفضل أيضاً من سائر الصحابة هذا تقدير كلام الشيعة والجواب أنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمداً عليه السلام أفضل من علي فكذلك انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي وأجمعوا على أن علياً رضي الله عنه ما كان نبياً فلزم القطع بأن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياء عليهم السلام
المسألة السادسة قوله ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نتباهل كما يقال اقتتل القوم وتقاتلوا واصطحبوا وتصاحبوا والابتهال فيه وجهان أحدهما أن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء وإن لم يكن باللعن ولا يقال ابتهل في الدعاء إلا إذا كان هناك اجتهاد والثاني أنه مأخوذ من قولهم عليه بهلة الله أي لعنته وأصله مأخوذ مما

يرجع إلى معنى اللعن لأن معنى اللعن هو الإبعاد والطرد وبهله الله أي لعنه وأبعده من رحمته من قولك أبهله إذا أهمله وناقة باهل لا صرار عليها بل هي مرسلة مخلاة كالرجل الطريد المنفي وتحقيق معنى الكلمة أن البهل إذا كان هو الإرسال والتخلية فكان من بهله الله فقد خلاه الله ووكله إلى نفسه ومن وكله إلى نفسه فهو هالك لا شك فيه فمن باهل إنساناً فقال علي بهلة الله إن كان كذا يقول وكلني الله إلى نفسي وفرضني إلى حولي وقوتي أي من كلاءته وحفظه كالناقة الباهل التي لا حافظ لها في ضرعها فكل من شاء حلبها وأخذ لبنها لا قوة لها في الدفع عن نفسها ويقال أيضاً رجل باهل إذا لم يكن معه عصاً وإنما معناه أنه ليس معه ما يدفع عن نفسه والقول الأول أولى لأنه يكون قوله ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي ثم نجتهد في الدعاء ونجعل اللعنة على الكاذب وعلى القول الثاني يصير التقدير ثم نبتهل أي ثم نلتعن فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ وهي تكرار بقي في الآية سؤالات أربع
السؤال الأول الأولاد إذا كانوا صغاراً لم يجز نزول العذاب بهم وقد ورد في الخبر أنه صلوات الله عليه أدخل في المباهلة الحسن والحسين عليهما السلام فما الفائدة فيه
والجواب إن عادة الله تعالى جارية بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلكت معهم الأولاد والنساء فيكون ذلك في حق البالغين عقاباً وفي حق الصبيان لا يكون عقاباً بل يكون جارياً مجرى إماتتهم وإيصال الآلام والأسقام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده وأهله شديدة جداً فربما جعل الإنسان نفسه فداءً لهم وجنة لهم وإذا كان كذلك فهو عليه السلام أحضر صبيانه ونساءه مع نفسه وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك ليكون ذلك أبلغ في الزجر وأقوى في تخويف الخصم وأدل على وثوقه صلوات الله عليه وعلى آله بأن الحق معه
السؤال الثاني هل دلت هذه الواقعة على صحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
الجواب أنها دلّت على صحة نبوته عليه السلام من وجهين أحدهما وهو أنه عليه السلام خوفهم بنزول العذاب عليهم ولو لم يكن واثقاً بذلك لكان ذلك منه سعياً في إظهار كذب نفسه لأن بتقدير أن يرغبوا في مباهلته ثم لا ينزل العذاب فحينئذ كان يظهر كذبه فيما أخبر ومعلوم أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان من أعقل الناس فلا يليق به أن يعمل عملاً يفضي إلى ظهور كذبه فلما أصر على ذلك علمنا أنه إنما أصر عليه لكونه واثقاً بنزول العذاب عليهم وثانيهما إن القوم لما تركوا مباهلته فلولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته وإلا لما أحجموا عن مباهلته
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنهم كانوا شاكين فتركوا مباهلته خوفاً من أن يكون صادقاً فينزل بهم ما ذكر من العذاب
قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول أن القوم كانوا يبذلونه النفوس والأموال في المنازعة مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولو كانوا شاكين لما فعلوا ذلك الثاني أنه قد نقل عن أولئك النصارى أنهم قالوا إنه والله هو النبي المبشر به في التوراة والإنجيل وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصال فكان ذلك تصريحاً منهم بأن الامتناع عن المباهلة كان لأجل علمهم بأنه نبي مرسل من عند الله تعالى

السؤال الثالث أليس إن بعض الكفار اشتغلوا بالمباهلة مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قالوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء ( الأنفال 32 ) ثم إنه لم ينزل العذاب بهم ألبتة فكذا ههنا وأيضاً فبتقدير نزول العذاب كان ذلك مناقضاً لقوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( الأنفال 33 )
والجواب الخاص مقدم على العام فلما أخبر عليه السلام بنزول العذاب في هذه السورة على التعيين وجب أن يعتقد أن الأمر كذلك
السؤال الرابع قوله إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ هل هو متصل بما قبله أم لا
والجواب قال أبو مسلم إنه متصل بما قبله ولا يجوز الوقف على قوله الْكَاذِبِينَ وتقدير الآية فنجعل لعنة الله على الكاذبين بأن هذا هو القصص الحق وعلى هذا التقدير كان حق ءانٍ أن تكون مفتوحة إلا أنها كسرت لدخول اللام في قوله لَهُوَ كما في قوله إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ( العاديات 11 ) وقال الباقون الكلام تم عند قوله عَلَى الْكَاذِبِينَ وما بعده جملة أخرى مستقلة غير متعلقة بما قبلها والله أعلم
إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قوله إِنَّ هَذَا إشارة إلى ما تقدم ذكره من الدلائل ومن الدعاء إلى المباهلة لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ والقصص هو مجموع الكلام المشتمل على ما يهدي إلى الدين ويرشد إلى الحق ويأمر بطلب النجاة فبين تعالى إن الذي أنزله على نبيه هو القصص الحق ليكون على ثقة من أمره والخطاب وإن كان معه فالمراد به الكل
المسألة الثانية هُوَ في قوله لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ فيه قولان أحدهما أن يكون فصلاً وعماداً ويكون خبر ءانٍ هو قوله الْقَصَصُ الْحَقُّ
فإن قيل فكيف جاز دخول اللام على الفصل
قلنا إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجود لأنه أقرب إلى المبتدأ منه وأصلها أن تدخل على المبتدأ
والقول الثاني إنه مبتدأ والقصص خبره والجملة خبر ءانٍ
المسألة الثالثة قرىء لَهُوَ بتحريك الهاء على الأصل وبالسكون لأن اللام ينزل من هُوَ منزلة بعضه فخفف كما خفف عضد

المسألة الرابعة يقال قص فلان الحديث يقصه قصاً وقصصاً وأصله اتباع الأثر يقال خرج فلان قصصاً وفي أثر فلان وقصاً وذلك إذا اقتص أثره ومنه قوله تعالى وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ ( القصص 11 ) وقيل للقاص إنه قاص لاتباعه خبراً بعد خبر وسوقه الكلام سوقاً فمعنى القصص الخبر المشتمل على المعاني المتتابعة
ثم قال وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ وهذا يفيد تأكيد النفي لأنك لو قلت عندي من الناس أحد أفاد أن عندك بعض الناس فإذا قلت ما عندي من الناس من أحد أفاد أنه ليس عندك بعضهم وإذا لم يكن عندك بعضهم فبأن لا يكون عندك كلهم أولى فثبت أن قوله وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ مبالغة في أنه لا إلاه إلا الله الواحد الحق سبحانه وتعالى
ثم قال وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وفيه إشارة إلى الجواب عن شبهات النصارى وذلك لأن اعتمادهم على أمرين أحدهما أنه قدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فكأنه تعالى قال هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلاهية بل لا بد وأن يكون عزيزاً غالباً لا يدفع ولا يمنع وأنتم قد اعترفتم بأن عيسى ما كان كذلك وكيف وأنتم تقولون إن اليهود قتلوه والثاني أنهم قالوا إنه كان يخبر عن الغيوب وغيرها فيكون إلاهاً فكأنه تعالى قال هذا القدر من العلم لا يكفي في الإلاهية بل لا بد وأن يكون حكيماً أي عالماً بجميع المعلومات وبجميع عواقب الأمور فذكر العَزِيزُ الحَكِيمُ ههنا إشارة إلى الجواب عن هاتين الشبهتين ونظير هذه الآية ما ذكره تعالى في أول السورة من قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لا إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( آل عمران 6 )
ثم قال فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ والمعنى فإن تولوا عما وصفت من أن الله هو الواحد وأنه يجب أن يكون عزيزاً غالباً قادراً على جميع المقدورات حكيماً عالماً بالعواقب والنهايات مع أن عيسى عليه السلام ما كان عزيزاً غالباً وما كان حكيماً عالماً بالعواقب والنهايات فاعلم أن توليهم وإعراضهم ليس إلا على سبيل العناد فاقطع كلامك عنهم وفوض أمرهم إلى الله فإن الله عليم بفساد المفسدين مطلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة قادر على مجازاتهم
قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَة ٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ

واعلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما أورد على نصارى نجران أنواع الدلائل وانقطعوا ثم دعاهم إلى المباهلة فخافوا وما شرعوا فيها وقبلوا الصغار بأداء الجزية وقد كان عليه السلام حريصاً على إيمانهم فكأنه تعالى قال يا محمد اترك ذلك المنهج من الكلام واعدل إلى منهج آخر يشهد كل عقل سليم وطبع مستقيم أنه كلام مبني على الإنصاف وترك الجدال و قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَة ٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أي هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض ولا ميل فيه لأحد على صاحبه وهي أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً هذا هو المراد من الكلام ولنذكر الآن تفسير الألفاظ
أما قوله تعالى مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ففيه ثلاثة أقوال أحدها المراد نصارى نجران والثاني المراد يهود المدينة والثالث أنها نزلت في الفريقين ويدل عليه وجهان الأول أن ظاهر اللفظ يتناولهما والثاني روي في سبب النزول أن اليهود قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام ما تريد إلا أن نتخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى وقالت النصارى يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزيرا فأنزل الله تعالى هذه الآية وعندي أن الأقرب حمله على النصارى لما بينا أنه لما أورد الدلائل عليهم أولاً ثم باهلهم ثانياً فعدل في هذا المقام إلى الكلام المبني على رعاية الإنصاف وترك المجادلة وطلب الإفحام والإلزام ومما يدل عليه أنه خاطبهم ههنا بقوله تعالى مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وهذا الاسم من أحسن الأسماء وأكمل الألقاب حيث جعلهم أهلاً لكتاب الله ونظيره ما يقال لحافظ القرآن يا حامل كتاب الله وللمفسر يا مفسر كلام الله فإن هذا اللقب يدل على أن قاتله أراد المبالغة في تعظيم المخاطب وفي تطييب قلبه وذلك إنما يقال عند عدول الإنسان مع خصمه عن طريقة اللجاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنصاف
أما قوله تعالى تَعَالَوْاْ فالمراد تعيين ما دعوا إليه والتوجه إلى النظر فيه وإن لم يكن انتقالاً من مكان إلى مكان لأن أصل اللفظ مأخوذ من التعالي وهو الارتفاع من موضع هابط إلى مكان عال ثم كثر استعماله حتى صار دالاً على طلب التوجه إلى حيث يدعى إليه
أما قوله تعالى إِلَى كَلِمَة ٍ سَوَاء بَيْنَنَا فالمعنى هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض لا ميل فيه لأحد على صاحبه والسواء هو العدل والإنصاف وذلك لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف فإذا أنصف وترك ظلمه أعطاه النصف فقد سوى بين نفسه وبين غيره وحصل الاعتدال وإذا ظلم وأخذ أكثر مما أعطى زال الاعتدال فلما كان من لوازم العدل والإنصاف التسوية جعل لفظ التسوية عبارة عن العدل
ثم قال الزجاج سَوَآء نعت للكملة يريد ذات سواء فعلى هذا قوله كَلِمَة ٍ سَوَاء أي كلمة عادلة مستقيمة مستوية فإذا آمنا بها نحن وأنتم كنا على السواء والاستقامة ثم قال أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى محل ءانٍ في قوله أن لا نعبد فيه وجهان الأول إنه رفع بإضمار هي كأن قائلاً قال ما تلك الكلمة فقيل هي أن لا نعبد إلا الله والثاني خفض على البدل من كلمة
المسألة الثانية إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء أولها أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وثانيها أن لا نُشْرِكَ بِهِ

شَيْئاً وثالثها أن لاَّ يَتَّخِذِ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ وإنما ذكر هذه الثلاثة لأن النصارى جمعوا بين هذه الثلاثة فيعبدون غير الله وهو المسيح ويشركون به غيره وذلك لأنهم يقولون إنه ثلاثة أب وابن وروح القدس فأثبتوا ذوات ثلاثة قديمة سواء وإنما قلنا إنهم أثبتوا ذوات ثلاثة قديمة لأنهم قالوا إن أقنوم الكلمة تدرعت بناسوت المسيح وأقنوم روح القدس تدرعت بناسوت مريم ولولا كون هذين الأقنومين ذاتين مستقلتين وإلا لما جازت عليهما مفارقة ذات الأب والتدرع بناسوت عيسى ومريم ولما أثبتوا ذوات ثلاثة مستقلة فقد أشركوا وأما إنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله فيدل عليه وجوه
أحدها إنهم كانوا يطيعونهم في التحليل والتحريم والثاني إنهم كانوا يسجدون لأحبارهم والثالث قال أبو مسلم من مذهبهم أن من صار كاملاً في الرياضة والمجاهدة يظهر فيه أثر حلول اللاهوت فيقدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فهم وإن لم يطلقوا عليه لفظ الرب إلا أنهم أثبتوا في حقه معنى الربوبية والرابع هو أنهم كانوا يطيعون أحبارهم في المعاصي ولا معنى للربوبية إلا ذلك ونظيره قوله تعالى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الجاثية 23 ) فثبت أن النصارى جمعوا بين هذه الأمور الثلاثة وكان القول ببطلان هذه الأمور الثلاثة كالأمر المتفق عليه بين جمهور العقلاء وذلك لأن قبل المسيح ما كان المعبود إلا الله فوجب أن يبقى الأمر بعد ظهور المسيح على هذا الوجه وأيضاً القول بالشركة باطل باتفاق الكل وأيضاً إذا كان الخالق والمنعم بجميع النعم هو الله وجب أن لا يرجع في التحليل والتحريم والانقياد والطاعة إلا إليه دون الأحبار والرهبان فهذا هو شرح هذه الأمور الثلاثة
ثم قال تعالى فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ والمعنى إن أبوا إلا الإصرار فقولوا إنا مسلمون يعني أظهروا أنكم على هذا الدين لا تكونوا في قيد أن تحملوا غيركم عليه
ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِى إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاة ُ وَالإْنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
اعلم أن اليهود كانوا يقولون إن إبراهيم كان على ديننا والنصارى كانوا يقولون كان إبراهيم على ديننا فأبطل الله عليهم ذلك بأن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده فكيف يعقل أن يكون يهودياً أو نصرانياً
فإن قيل فهذا أيضاً لازم عليكم لأنكم تقولون إن إبراهيم كان على دين الإسلام والإسلام إنما أنزل بعده بزمان طويل فإن قلتم إن المراد أن إبراهيم كان في أصول الدين على المذهب الذي عليه المسلمون الآن فنقول فلم لا يجوز أيضاً أن تقول اليهود إن إبراهيم كان يهودياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه

اليهود وتقول النصارى إن إبراهيم كان نصرانياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه النصارى فكون التوراة والإنجيل نازلين بعد إبراهيم لا ينافي كونه يهودياً أو نصرانياً بهذا التفسير كما إن كون القرآن نازلاً بعده لا ينافي كونه مسلماً
والجواب إن القرآن أخبر أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً فظهر الفرق ثم نقول أما إن النصارى ليسوا على ملة إبراهيم فالأمر فيه ظاهر لأن المسيح ما كان موجوداً في زمن إبراهيم فما كانت عبادته مشروعة في زمن إبراهيم لا محالة فكان الاشتغال بعبادة المسيح مخالفة لملة إبراهيم لا محالة وأما إن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم فذلك لأنه لا شك إنه كان لله سبحانه وتعالى تكاليف على الخلق قبل مجيء موسى عليه السلام ولا شك أن الموصل لتلك التكاليف إلى الخلق واحد من البشر ولا شك أن ذلك الإنسان قد كان مؤيداً بالمعجزات وإلا لم يجب على الخلق قبول تلك التكاليف منه فإذن قد كان قبل مجيء موسى أنبياء وكانت لهم شرائع معينة فإذا جاء موسى فإما أن يقال إنه جاء بتقرير تلك الشرائع أو بغيرهما فإن جاء بتقريرها لم يكن موسى صاحب تلك الشريعة بل كان كالفقيه المقرر لشرع من قبله واليهود لا يرضون بذلك وإن كان قد جاء بشرع آخر سوى شرع من تقدمه فقد قال بالنسخ فثبت أنه لا بد وأن يكون دين كل الأنبياء جواز القول بالنسخ واليهود ينكرون ذلك فثبت أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم فبطل قول اليهود والنصارى بأن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً فهذا هو المراد من الآية والله أعلم
هاأَنتُمْ هَاؤُلا ءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَاذَا النَّبِى ُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِى ُّ الْمُؤْمِنِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي وَإِذْ أَنتُمْ بالمد والهمزة وقرأ نافع وأبو عمرو بغير همز ولا مد إلا بقدر خروج الألف الساكنة وقرأ ابن كثير بالهمز والقصر على وزن صنعتم وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز فمن حقق فعلى الأصل لأنهما حرفان ها و وَإِذْ أَنتُمْ ومن لم يمد ولم يهمز فللتخفيف من غير إخلال

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66