كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي

الفصل الرابع
قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى
قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله تعالى ذكرني عبدي وإذا قال الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله عظمني عبدي وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي وفي رواية أخرى فوض إلي عبدي وإذا قال إياك نعبد يقول الله عبدني عبدي وإذا قال وإياك نستعين يقول الله تعالى توكل علي عبدي وفي رواية أخرى فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى هذا بيني وبين عبدي وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم يقول الله هذا لعبدي ولعبدي ما سأل فوائد هذا الحديث الفائدة الأولى قوله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين يدل على أن مدار الشرائع على رعاية مصالح الخلق كما قال إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها الإسراء 7 وذلك لأن أهم المهمات للعبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية ثم بمعرفة العبودية لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد كما قال وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون الذاريات 56 وقال إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا الإنسان 2 وقال يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم البقرة 40 ولما كان الأمر كذلك لا جرم أنزل الله هذه السورة على محمد عليه السلام وجعل النصف الأول منها في معرفة الربوبية والنصف الثاني منها في معرفة العبودية حتى تكون هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه في الوفاء بذلك العهد الفائدة الثانية الله تعالى سمى الفاتحة باسم الصلاة وهذا يدل على أحكام الحكم الأول أن عند عدم قراءة الفاتحة وجب أن لا تحصل الصلاة وذلك يدل على أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة كما يقوله أصحابنا ويتأكد هذا الدليل بدلائل أخرى أحدها أنه عليه الصلاة والسلام واظب على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى فاتبعوه الأنعام 153 ولقوله عليه الصلاة والسلام
صلوا كما رأتيموني أصلي وثانيها أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وثالثها أن جميع المسلمين شرقا وغربا لا يصلون إلا بقراءة الفاتحة فوجب أن تكون متابعتهم واجبة في ذلك لقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم النساء 115 ورابعها قوله عليه الصلاة والسلام
لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب خامسها قوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القرآن المزمل 20 وقوله فاقرؤا أمر وظاهره الوجوب فكانت قراءة ما تيسر من القرآن واجبة وقراءة غير الفاتحة ليست واجبة فوجب أن تكون قراءة الفاتحة واجبة عملا بظاهر الأمر وسادسها أن قراءة الفاتحة أحوط فوجب المصير إليها لقوله عليه السلام
دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وسابعها أن الرسول عليه السلام واظب على قراءتها فوجب أن يكون العدول عنه محرما لقوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره النور 63 وثامنها أنه لا نزاع بين المسلمين أن قراءة الفاتحة في الصلاة أفضل وأكمل من قراءة غيرها إذا ثبت هذا فنقول التكليف كان متوجها على العبد بإقامة الصلاة والأصل في الثابت البقاء حكمنا بالخروج عن هذه العهدة عند الإيتاء بالصلاة مؤداة بقراءة الفاتحة

وقد دللنا على أن هذه الصلاة أفضل من الصلاة المؤداة بقراءة غير الفاتحة ولا يلزم من الخروج عن العهدة بالعمل الكامل الخروج عن العهدة بالعمل الناقص فعند إقامة الصلاة المشتملة على قراءة غير الفاتحة وجب البقاء في العهدة وتاسعها أن المقصود من الصلاة حصول ذكر القلب لقوله تعالى وأقم الصلاة لذكري طه 14 وهذه السورة مع كونها مختصرة جامعة لمقامات الربوبية والعبودية والمقصود من جميع التكاليف حصول هذه المعارف ولهذا السبب جعل الله هذه السورة معادلة لكل القرآن في قوله ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم الحجر 87 فوجب أن لا يقوم غيرها مقامها البتة وعاشرها أن هذا الخبر الذي رويناه يدل على أن عند فقدان الفاتحة لا تحصل الصلاة الفائدة الثالثة أنه قال
إذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله تعالى ذكرني عبدي وفيه أحكام أحدها أنه تعالى قال فاذكروني أذكركم البقرة 152 فههنا لما أقدم العبد على ذكر الله لا جرم ذكره تعالى في ملأ خير من ملئه وثانيها أن هذا يدل على أن مقام الذكر مقام عال شريف في العبودية لأنه وقع الابتداء به ومما يدل على كماله أنه تعالى أمر بالذكر فقال اذكروني أذكركم البقرة 152 ثم قال يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا الأحزاب 41 ثم قال الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم آل عمران 191 ثم قال إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون الأعراف 201 فلم يبالغ في تقرير شيء من مقامات العبودية مثل ما بالغ في تقرير مقام الذكر وثالثها أن قوله ذكرني عبدي يدل على أن قولنا الله اسم علم لذاته المخصوصة إذ لو كان اسما مشتقا لكان مفهومه مفهوما كليا ولو كان كذلك لما صارت ذاته المخصوصة المعينة مذكورة بهذا اللفظ فظاهر أن لفظي الرحمن الرحيم لفظان كليان فثبت أن قوله ذكرني عبدي يدل على أن قولنا الله اسم علم أما قوله
وإذا قال الحمد لله يقول الله تعالى حمدني عبدي فهذا يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر ويدل عليه أن أول كلام ذكر في أول خلق العالم هو الحمد بدليل قول الملائكة قبل خلق آدم ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك البقرة 30 وآخر كلام يذكر بعد فناء العالم هو الحمد أيضا بدليل قوله تعالى في صفة أهل الجنة وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين يونس 10 والعقل أيضا يدل عليه لأن الفكر في ذات الله غير ممكن لقوله عليه الصلاة والسلام
تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ولأن الفكر في الشيء مسبوق بسبق تصوره وتصور كنه حقيقة الحق غير ممكن فالفكر فيه غير ممكن فعلى هذا الفكر لا يمكن إلا في أفعاله ومخلوقاته ثم ثبت بالدليل أن الخير مطلوب بالذات والشر بالعرض فكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر فلا جرم كان اشتغاله بالحمد والشكر أكثر فلهذا قال الحمد لله رب العالمين وعند هذا يقول حمدني عبدي فشهد الحق سبحانه بوقوف العبد بعقله وفكره على وجود فضله وإحسانه في ترتيب العالم الأعلى والعالم الأسفل وعلى أن لسانه صار موافقا لعقله ومطابقا له وإن غرق في بحر الإيمان به والإقرار بكرمه بقلبه ولسانه وعقله وبيانه فما أجل هذه الحالة وأما قوله
وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله عظمني عبدي فلقائل أن يقول إنه لما قال بسم الله الرحمن الرحيم فقد ذكر الرحمن الرحيم وهناك لم يقل الله عظمني عبدي وههنا لما قال الرحمن الرحيم

قال عظمني عبدي فما الفرق وجوابه أن قوله الحمد لله دل على إقرار العبد بكماله في ذاته وبكونه مكملا لغيره ثم قال بعده رب العالمين وهذا يدل على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره واحد ليس له شريك فلما قال بعده الرحمن الرحيم دل ذلك على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره المنزه عن الشريك والنظير والمثل والضد والند في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام فلهذا السبب قال الله تعالى ههنا عظمني عبدي وأما قوله
وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي أي نزهني وقدسني عما لا ينبغي - فتقريره أنا نرى في دار الدنيا كون الظالمين متسلطين على المظلومين وكون الأقوياء مستولين على الضعفاء ونرى العالم الزاهد الكامل في أضيق العيش ونرى الكافر الفاسق في أعظم أنواع الراحة والغبطة وهذا العمل لا يليق برحمة أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين فلو لم يحصل المعاد والبعث والحشر حتى ينتصف الله فيه للمظلومين من الظالمين ويوصل إلى أهل الطاعة الثواب وإلى أهل الكفر العقاب لكان هذه الإهمال والإمهال ظلما من الله على العباد أما لما حصل يوم الجزاء ويوم الدين اندفع وهم الظلم فلهذا السبب قال الله تعالى ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى النجم 31 وهذا هو المراد من قوله تعالى مجدني عبدي الذي نزهني عن الظلم وعن شيمه وأما قوله
وإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال الله هذا بيني وبين عبدي فهو إشارة إلى سر مسألة الجبر والقدر فإن قوله إياك نعبد معناه إخبار العبد عن إقدامه على عمل الطاعة والعبادة ثم جاء بحث الجبر والقدر وهو أنه مستقل بالإتيان بذلك العمل أو غير مستقل به والحق أنه غير مستقل به وذلك لأن قدرة العبد إما أن تكون صالحة للفعل والترك وإما أن لا تكون كذلك فإن كان الحق هو الأول امتنع أن تصير تلك القدرة مصدرا للفعل دون الترك إلا لمرجح وذلك المرجح إن كان من العبد عاد البحث فيه وإن لم يكن من العبد فهو من الله تعالى فخلق تلك الداعية الخالصة عن المعارض هو الإعانة وهو المراد من قوله وإياك نستعين وهو المراد من قولنا ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا أي لا تخلق في قلوبنا داعية تدعونا إلى العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة وهب لنا من لدنك رحمة وهذه الرحمة خلق الداعية التي تدعونا إلى الأعمال الصالحة والعقائد الحقة فهذا هو المراد من الإعانة والاستعانة وكل من لم يقل بهذا القول لم يفهم البتة معنى قوله إياك نعبد وإياك نستعين وإذا ثبت هذا ظهر صحة قوله تعالى هذا بيني وبين عبدي اما الذي منه فهو خلق الداعية الجازمة وأما الذي من العبد فهو أن عند حصول مجموع القدرة والداعية يصدر الأثر عنه وهذا كلام دقيق لا بد من التأمل فيه وأما قوله
وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم يقول الله تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل وتقريره أنا نرى أهل العلم مختلفين في النفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية وفي جميع مسائل النبوات وفي جميع مسائل المعاد والشبهات غالبة والظلمات مستولية ولم يصل إلى كنه الحق إلا القليل القليل من الكثير الكثير وقد حصلت هذه الحالة مع استواء الكل في العقول والأفكار والبحث الكثير والتأمل الشديد فلولا هداية الله تعالى وإعانته وأنه يزين الحق في عين عقل الطالب ويقبح الباطل في عينه كما قال ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان الحجرات 7 وإلا لامتنع وصول

أحد إلى الحق فقوله اهدنا الصراط المستقيم إشارة إلى هذه الحالة ويدل عليه أيضا أن المبطل لا يرضى بالباطل وإنما طلب الاعتقاد الحق والدين المتين والقول الصحيح فلو كان الأمر باختياره لوجب أن لا يقع أحد في الخطأ ولما رأينا الأكثرين غرقوا في بحر الضلالات علمنا أن الوصول إلى الحق ليس إلا بهداية الله تعالى ومما يقوي ذلك أن كل الملائكة والأنبياء أطبقوا على ذلك أما الملائكة فقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم البقرة 32 وقال آدم عليه السلام وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين الأعراف 23 وقال إبراهيم عليه السلام لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين الأنعام 77 وقال يوسف عليه السلام توفني مسلما وألحقني بالصالحين يوسف 101 وقال موسى عليه السلام رب اشرح لي صدري - الآية طه 25 وقال محمد عليه السلام ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب آل عمران 8 فهذا هو الكلام في لطائف هذا الخبر والذي تركناه أكثر مما ذكرناه الفائدة الرابعة من فوائد هذا الخبر أن آيات الفاتحة سبع والأعمال المحسوسة أيضا في الصلاة سبعة وهي القيام والركوع والانتصاب والسجود الأول والانتصاب فيه والسجود الثاني والقعدة فصار عدد آيات الفاتحة مساويا لعدد هذه الأعمال فصارت هذه الأعمال كالشخص والفاتحة لها كالروح والكمال إنما يحصل عند اتصال الروح بالجسد فقوله بسم الله الرحمن الرحيم بإزاء القيام ألا ترى أن الباء في بسم الله لما اتصل باسم الله بقي قائما مرتفعا وأيضا فالتسمية لبداية الأمور قال عليه الصلاة والسلام
كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر وقال تعالى قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى الأعلى 14 وأيضا القيام لبداية الأعمال فحصلت المناسبة بين التسمية وبين القيام من هذه الوجوه وقوله تعالى الحمد لله رب العالمين بإزاء الركوع وذلك لأن العبد في مقام التحميد ناظر إلى الحق وإلى الخلق لأن التحميد عبارة عن الثناء بسبب الإنعام الصادر منه والعبد في هذا المقام ناظر إلى المنعم وإلى النعمة فهو حالة متوسطة بين الإعراض وبين الاستغراق والركوع حالة متوسطة بين القيام وبين السجود وأيضا الحمد يدل على النعم الكثيرة والنعم الكثيرة مما تثقل ظهره فينحني ظهره للركوع وقوله الرحمن الرحيم مناسب للانتصاب لأن العبد لما تضرع إلى الله في الركوع فيليق برحمته أن يرده إلى الانتصاب ولذلك قال عليه السلام
إذا قال العبد سمع الله لمن حمده نظر الله إليه بالرحمة وقوله مالك يوم الدين مناسب للسجدة الأولى لأن قولك مالك يوم الدين يدل على كمال القهر والجلال والكبرياء وذلك يوجب الخوف الشديد فيليق به الإتيان بغاية الخضوع والخشوع وهو السجدة وقوله إياك نعبد وإياك نستعين مناسب للقعدة بين السجدتين لأن قوله إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت وقوله وإياك نستعين استعانة بالله في أن يوفقه للسجدة الثانية وأما قوله اهدنا الصراط المستقيم فهو سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية الدالة على نهاية الخضوع وأما قوله صراط الذين أنعمت عليهم - إلى آخره فهو مناسب للقعدة وذلك لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابل الله تواضعه بالإكرام وهو أن أمره بالقعود بين يديه وذلك إنعام عظيم من الله على العبد فهو شديد المناسبة لقوله أنعمت عليهم وأيضا أن محمدا عليه السلام لما أنعم الله عليه بأن رفعه إلى قاب قوسين قال عند ذلك التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله والصلاة معراج المؤمن فلما

وصل المؤمن في معراجه إلى غاية الإكرام - وهي أن جلس بين يدي الله - وجب أن يقرأ الكلمات التي ذكرها محمد عليه السلام فهو أيضا يقرأ التحيات ويصير هذا كالتنبيه على أن هذا المعراج الذي حصل له شعلة من شمس معراج محمد عليه السلام وقطرة من بحره وهو تحقيق قوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين - الآية النساء 69 واعلم أن آيات الفاتحة وهي سبع صارت كالروح لهذه الأعمال السبعة وهذه الأعمال السبعة صارت كالروح للمراتب السبعة المذكورة في خلقة الإنسان وهي قوله ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين المؤمنون 12 إلى قوله فتبارك الله أحسن الخالقين المؤمنون 14 وعند هذا ينكشف أن مراتب الأجساد كثيرة ومراتب الأرواح كثيرة وروح الأرواح ونور الأنوار هو الله تعالى كما قال سبحانه وتعالى وأن إلى ربك المنتهى النجم 42
الفصل الخامس
في الصلاة معراج العارفين
اعلم أنه كان لرسول الله معراجان أحدهما من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والآخر من الأقصى إلى أعالي ملكوت الله تعالى فهذا ما يتعلق بالظاهر وأما ما يتعلق بعالم الأرواح فله معراجان أحدهما من عالم الشهادة إلى عالم الغيب والثاني من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب وهما بمنزلة قاب قوسين متلاصقين فتخطاهما محمد عليه السلام وهو المراد من قوله تعالى فكان قاب قوسين أو أدنى النجم 9 وقوله أو أدنى إشارة إلى فنائه في نفسه أما الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فاعلم أن كل ما يتعلق بالجسم والجسمانيات فهو من عالم الشهادة لأنك تشاهد هذه الأشياء ببصرك فانتقال الروح من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح هو السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب وأما عالم الأرواح فعالم لا نهاية له وذلك لأن آخر مراتب الأرواح هو الأرواح البشرية ثم تترقى في معارج الكمالات ومصاعد السعادات حتى تصل إلى الأرواح المتعلقة بسماء الدنيا ثم تصير أعلى وهي أرواح السماء الثانية وهكذا حتى تصل إلى الأرواح الذين هم سكان درجات الكرسي وهي أيضا متفاوتة في الاستعلاء ثم تصير أعلى وهم الملائكة المشار إليهم بقوله تعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش الزمر 75 ثم تصير أعلى وأعظم وهم المشار إليهم بقوله تعالى ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية الحاقة 17 وفي عدد الثمانية أسرار لا يجوز ذكرها ههنا ثم تترقى فتنتهي إلى الأرواح المقدسة عن التعلقات بالأجسام وهم الذين طعامهم ذكر الله وشرابهم محبة الله وأنسهم بالثناء على الله ولذتهم في خدمة الله وإليهم الإشارة بقوله ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته وبقوله يسبحون الليل والنهار لا يفترون الأنبياء 20 ثم لهم أيضا درجات متفاوته ومراتب متباعدة والعقول البشرية قاصرة عن الإحاطة بأحوالها والوقوف على شرح صفاتها ولا يزال هذا الترقي والتصاعد حاصلا كما قال تعالى وفوق كل ذي علم عليم يوسف 76 إلى أن ينتهي الأمر إلى نور الأنوار ومسبب الأسباب ومبدأ الكل وينبوع الرحمة ومبدأ الخير وهو الله تعالى فثبت أن عالم الأرواح هو عالم الغيب وحضرة جلال الربوبية هي غيب الغيب ولذلك قال عليه الصلاة والسلام
إن لله سبعين حجابا من النور لو كشفها

لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك البصر وتقدير عدد تلك الحجب بالسبعين مما لا يعرف إلا بنور النبوة فقد ظهر بما ذكرنا أن المعراج على قسمين أولهما المعراج من عالم الشهادة إلى عالم الغيب والثاني المعراج من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب وهذه كلمات برهانية يقينية حقيقية إذا عرفت هذا فلنرجع إلى المقصود فنقول إن محمدا عليه السلام لما وصل إلى المعراج وأراد أن يرجع قال يا رب العزة إن المسافر إذا أراد أن يعود إلى وطنه احتاج إلى محمولات يتحف بها أصحابه وأحبابه فقيل له إن تحفة أمتك الصلاة وذلك لأنها جامعة بين المعراج الجسماني وبين المعراج الروحاني أما الجسماني فبالأفعال وأما الروحاني فبالأذكار فإذا أردت أيها العبد الشروع في هذا المعراج فتطهر أولا لأن المقام مقام القدس فليكن ثوبك طاهرا وبدنك طاهرا لأنك بالوادي المقدس طوى وأيضا فعندك ملك وشيطان فانظر أيهما تصاحب ودين ودنيا فانظر أيهما تصاحب وعقل وهوى فانظر أيهما تصاحب وخير وشر وصدق وكذب وحق وباطل وحلم وطيش وقناعة وحرص وكذا القول في كل الأخلاق المتضدة والصفات المتنافية فانظر أنك تصاحب أي الطرفين وتوافق أي الجانبين فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة ألا ترى أن الصديق اختار صحبة محمد عليه السلام فلزمه في الدنيا وفي القبر وفي القيامة وفي الجنة وأن كلبا صحب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا وفي الآخرة ولهذا السر قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين التوبة 119 ثم إذا تطهرت فارفع يديك وذلك الرفع إشارة إلى توديع عالم الدنيا وعالم الآخرة فاقطع نظرك عنهما بالكلية ووجه قلبك وروحك وسرك وعقلك وفهمك وذكرك وفكرك إلى الله ثم قل الله أكبر والمعنى أنه أكبر من كل الموجودات وأعلى وأعظم واعز من كل المعلومات بل هو أكبر من أن يقاس إليه شيء أو يقال إنه أكبر ثم قل سبحانك اللهم وبحمدك وفي هذا المقام تجلى لك نور سبحات الجلال ثم ترقيت من التسبيح إلى التحميد ثم قل تبارك اسمك وفي هذا المقام انكشف لك نور الأزل والأبد لأن قوله تبارك إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام وذلك يتعلق بمطالعة حقيقة الأزل في العدم ومطالعة حقيقة الأبد في البقاء ثم قل وتعالى جدك وهو إشارة إلى إنه أعلم وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور ثم قل ولا إله غيرك وهو إشارة إلى أن كل صفات الجلال وسمات الكمال له لا لغيره فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو والمقدس الذي لا مقدس إلا هو وفي الحقيقة لا هو إلا هو ولا إله إلا هو والعقل ههنا ينقطع واللسان يعتقل والفهم يتبلد والخيال يتحير والعقل يصير كالزمن ثم عد إلى نفسك وحالك وقل وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض فقولك سبحانك اللهم وبحمدك معراج الملائكة المقربين وهو المذكور في قوله ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك البقرة 30 وهو أيضا معراج محمد عليه السلام لأن معراجه مفتتح بقوله سبحانك اللهم وبحمدك وأما قولك وجهت وجهي فهو معراج إبراهيم الخليل عليه السلام وقولك إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله فهو معراج محمد الحبيب عليه السلام فإذا قرأت هذين الذكرين فقد جمعت بين معراج أكابر الملائكة المقربين وبين معراج عظماء الأنبياء والمرسلين ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لتدفع ضرر العجب من نفسك

واعلم أن للجنة ثمانية أبواب ففي هذا المقام انفتح لك باب من أبواب الجنة وهو باب المعرفة والباب الثاني هو باب الذكر وهو قولك بسم الله الرحمن الرحيم والباب الثالث باب الشكر وهو قولك الحمد لله رب العالمين والباب الرابع الرجاء وهو قولك الرحمن الرحيم والباب الخامس باب الخوف وهو قولك مالك يوم الدين والباب السادس باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية وهو قولك إياك نعبد وإياك نستعين والباب السابع باب الدعاء والتضرع كما قال أمن يجيب المضطر إذا دعاه النمل 62 وقال ادعوني أستجب لكم غافر 60 وهو ههنا قولك اهدنا الصراط المستقيم والباب الثامن باب الاقتداء بالأرواح الطيبة الطاهرة والاهتداء بأنوارهم وهو قولك صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وبهذا الطريق إذا قرأت هذه السورة ووقفت على أسرارها انفتحت لك ثمانية أبواب الجنة وهو المراد من قوله تعالى جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ص 50 فجنات المعارف الربانية انفتحت أبوابها بهذه المقاليد الروحانية فهذا هو الإشارة إلى ما حصل في الصلاة من المعراج الروحاني وأما المعراج الجسماني فالمرتبة الأولى أن تقوم بين يدي الله مثل قيام أصحاب الكهف وهو قوله تعالى إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض الكهف 14 بل قم قيام أهل القيامة وهو قوله تعالى يوم يقوم الناس لرب العالمين المطففين 6 ثم اقرأ سبحانك اللهم وبعده وجهت وجهي وبعده الفاتحة وبعدها ما تيسر لك من القرآن واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين وهذا سر قوله إياك نعبد وإياك نستعين واعلم أن النفس الآن جارية مجرى خشبة عرضتها على نار خوف الجلال فلانت فاجعلها محنية بالركوع فقل سمع الله لمن حمده ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بنهاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو وقل سبحان ربي الأعلى فإذا أتيت بالسجدة الثانية فقد حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة الركوع الواحد والسجودان وبها تنجو من العقبات الثلاث المهلكة فبالركوع تنجو عن عقبة الشهوات وبالسجود الأول تنجو عن عقبة الغضب الذي هو رئيس المؤذيات وبالسجود الثاني تنجو عن عقبة الهوى الذي هو الداعي إلى كل المهلكات والمضلات فإذا تجاوزت هذه العقبات وتخلصت عن هذه الدركات فقد وصلت إلى الدرجات العاليات وملكت الباقيات الصالحات وانتهيت إلى عتبة جلال مدبر الأرض والسموات فقل عند ذلك التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله فالتحيات المباركات باللسان والصلوات بالأركان والطيبات بالجنان وقوة الإيمان ثم في هذا المقام يصعد نور روحك وينزل نور روح محمد فيتلاقى الروحان ويحصل هناك الروح والراحة والريحان فلا بد لروح محمد عليه الصلاة والسلام من محمدة وتحية فقل السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فعند ذلك يقول محمد عليه الصلاة والسلام
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وكانه قيل لك فهذه الخيرات والبركات بأي وسيلة وجدتها وبأي طريق وصلت إليها فقل بقولي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقيل لك إن محمدا هو الذي هداك إليه فأي شيء هديتك له

فقل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد فقيل لك إن إبراهيم هو الذي طلب من الله أن يرسل إليك مثل هذا الرسول فقال ربنا وابعث فيهم رسولا منهم البقرة 129 فما جزاؤك له فقل كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم فيقال لك فكل هذه الخيرات من محمد أو من إبراهيم أو من الله فقل بل من الحميد المجيد إنك حميد مجيد ثم إن العبد إذا ذكر الله بهذه الأثنية والمدائح ذكره الله تعالى في محافل الملائكة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله عز وجل
إذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى هذا العبد فقال الله إن ملائكة السموات اشتاقوا إلى زيارتك وأحبوا القرب منك وقد جاؤك فأبدأ بالسلام عليهم لتحصل لك فيه مرتبة السابقين فيقول العبد عن يمينه وعن شماله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فلا جرم أنه إذا دخل الجنة الملائكة يدخلون عليه من كل باب فيقولون سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار
الفصل السادس
في الكبرياء والعظمة
أعظم المخلوقات جلالة ومهابة المكان والزمان أما المكان فهو الفضاء الذي لا نهاية له والخلاء الذي لا غاية له وأما الزمان فهو الامتداد المتوهم الخارج من قعر ظلمات عالم الأزل إلى ظلمات عالم الأبد كأنه نهر خرج من قعر جبل الأزل وامتد حتى دخل في قعر جبل الأبد فلا يعرف لانفجاره مبدأ ولا لاستقراره منزل فالأول والآخر صفة الزمان والظاهر والباطن صفة المكان وكمال هذه الأربعة الرحمن الرحيم فالحق سبحانه وسع المكان ظاهرا وباطنا ووسع الزمان أولا وآخرا وإذا كان مدبر المكان والزمان هو الحق تعالى كان منزها عن المكان والزمان إذا عرفت هذا فنقول الحق سبحانه وتعالى له عرش وكرسي فعقد المكان بالكرسي فقال وسع كرسيه السموات والأرض البقرة 255 وعقد الزمان بالعرش فقال وكان عرشه على الماء هود 7 لأن جري الزمان يشبه جري الماء فلا مكان وراء الكرسي ولا زمان وراء العرش فالعلو صفة الكرسي وهو قوله وسع كرسيه السموات والأرض البقرة 255 والعظمة صفة العرش وهو قوله فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم التوبة 129 وكمال العلو والعظمة لله كما قال ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم البقرة 255 واعلم أن العلو والعظمة درجتان من درجات الكمال إلا أن درجة العظمة أكمل وأقوى من درجة العلو وفوقهما درجة الكبرياء قال تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ولا شك أن الرداء أعظم من الإزار وفوق جميع هذه الصفات بالرتبة والشرف صفة الجلال وهي تقدسه في حقيقته المخصوصة وهويته المعينة عن مناسبة شيء من الممكنات وهو لتلك الهوية المخصوصة استحق صفة الإلهية فلهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام
ألظوا بياذا الجلال والإكرام وقال ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام الرحمن 27 وقال تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام الرحمن 78 إذا عرفت هذا

الأصل فاعلم أن المصلي إذا قصد الصلاة صار من جملة من قال الله في صفتهم يريدون وجهه الكهف 28 ومن أراد الدخول على السلطان العظيم وجب عليه أن يطهر نفسه من الأدناس والأنجاس ولهذا التطهير مراتب المرتبة الأولى التطهير من دنس الذنوب بالتوبة كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا التحريم 8 ومن كان في مقام الزهد كانت طهارته من الدنيا حلالها وحرامها ومن كان في مقام الإخلاص كانت طهارته من الالتفات إلى أعماله ومن كان في مقام المحسنين كانت طهارته من الالتفات إلى حسناته ومن كان في مقام الصديقين كانت طهارته من كل ما سوى الله وبالجملة فالمقامات كثيرة والدرجات متفاوته كأنها غير متناهية كما قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله الروم 30 فإذا أردت أن تكون من جملة من قال الله فيهم يريدون وجهه الكهف 28 فقم قائما واستحضر في نفسك جميع مخلوقات الله تعالى من عالم الأجسام والأرواح وذلك بان تبتدئ من نفسك وتستحضر في عقلك جملة أعضائك البسيطة والمركبة وجميع قواك الطبيعية والحيوانية والإنسانية ثم استحضر في عقلك جملة ما في هذا العالم من أنواع المعادن والنبات والحيوان من الإنسان وغيره ثم ضم إليه البحار والجبال والتلال والمفاوز وجملة ما فيها من عجائب النبات والحيوان وذرات البهاء ثم ترق منها إلى سماء الدنيا على عظمها واتساعها ثم لا تزال ترقى من سماء إلى سماء حتى تصل إلى سدرة المنتهى والرفرف واللوح والقلم والجنة والنار والكرسي والعرش العظيم ثم انتقل من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح واستحضر في عقلك جميع الأرواح الأرضية السفلية البشرية وغير البشرية واستحضر جميع الأرواح المتعلقة بالجبال والبحار مثل ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام عن ملك الجبال وملك البحار ثم استحضر ملائكة سماء الدنيا وملائكة جميع السموات السبع كما قال عليه الصلاة والسلام
ما في السموات موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد واستحضر جميع الملائكة الحافين حول العرش وجميع حملة العرش والكرسي ثم انتقل منها إلى ما هو خارج هذا العالم كما قال تعالى وما يعلم جنود ربك إلا هو المدثر 31 فإذا استحضرت جميع هذه الأقسام من الروحانيات والجسمانيات فقل الله أكبر وتريد بقولك الله الذات التي حصل بإيجادها وجود هذه الأشياء وحصلت لها كمالاتها في صفاتها وأفعالها وتريد بقولك أكبر أنه منزه عن مشابهتها ومشاكلتها بل هو منزه عن أن يحكم العقل بجواز مقايسته بها ومناسبته إليها فهذا هو المراد من قوله في أول الصلاة الله أكبر والوجه الثاني في تفسير هذا التكبير أنه عليه الصلاة والسلام قال الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك فتقول الله أكبر من أن لا يراني ومن أن لا يسمع كلامي والوجه الثالث أن يكون المعنى الله أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأوهامهم وأفهامهم قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه التوحيد أن لا تتوهمه الوجه الرابع أن يكون المعنى الله أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته فطاعاتهم قاصرة عن خدمته وثناؤهم قاصر عن كبريائه وعلومهم قاصرة عن كنه صمديته واعلم أيها العبد أنك لو بلغت إلى أن يحيط عقلك بجميع عجائب عالم الأجسام والأرواح فإياك أن تحدثك نفسك بأنك بلغت مبادئ ميادين جلال الله فضلا عن أن تبلغ الغور والمنتهى ونعم ما قال الشاعر

أساميا لم تزده معرفة
وإنما لذة ذكرناها
ومن دعوات رسول الله عليه السلام وثنائه على الله
لا ينالك غوص الفكر ولا ينتهي إليك نظر ناظر ارتفعت عن صفة المخلوقين صفات قدرتك وعلا عن ذلك كبرياء عظمتك وإذا قلت الله أكبر فاجعل عين عقلك في آفاق جلال الله وقل سبحانك اللهم وبحمدك ثم قل وجهت وجهي ثم انتقل منها إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لك تبصر فيها عجائب عالم الدنيا والآخرة وتطالع فيها أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والمذاهب الماضية وأسرار الكتب الإلهية والشرائع النبوية وتصل إلى الشريعة ومنها إلى الطريقة ومنها إلى الحقيقة وتطالع درجات الأنبياء والمرسلين ودركات الملعونين والمردودين والضالين فإذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم فأبصر به الدنيا إذ باسمه قامت السموات والأرضون وإذا قلت الحمد لله رب العالمين أبصرت به الآخرة إذ بكلمة الحمد قامت الآخرة كما قال وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين يونس 10 وإذا قلت الرحمن الرحيم فأبصر به عالم الجمال وهو الرحمة والفضل والإحسان وإذا قلت مالك يوم الدين فأبصر به عالم الجلال وما يحصل فيه من الأحوال والأهوال وإذا قلت إياك نعبد فابصر به عالم الشريعة وإذا قلت وإياك نستعين فأبصر به الطريقة وإذا قلت اهدنا الصراط المستقيم فأبصر به الحقيقة وإذا قلت صراط الذي أنعمت عليهم فابصر به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وإذا قلت غير المغضوب عليهم فابصر به مراتب فساق أهل الآفاق وإذا قلت ولا الضالين فأبصر به دركات أهل الكفر والشقاق والخزي والنفاق على كثرة درجاتها وتباين أطرافها وأكنافها ثم إذا انكشفت لك هذه الأحوال العالية والمراتب السامية فلا تظنن أنك بلغت الغور والغاية بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء ولنفسك بالذلة والمسكنة وقل الله أكبر ثم انزل من صفة الكبرياء إلى صفة العظمة فقل سبحان ربي العظيم وإن أردت أن تعرف ذرة من صفة العظمة فاعرف أنا بينا أن العظمة صفة العرش ولا يبلغ مخلوق بعقله كنه عظمة العرش وإن بقي إلى آخر أيام العالم ثم اعرف أن عظمة العرش في مقابلة عظمة الله كالقطرة في البحر فكيف يمكنك أن تصل إلى كنه عظمة الله ثم ههنا سر عجيب وهو أنه ما جاء سبحان ربي الأعظم وإنما جاء سبحان ربي العظيم وما جاء سبحان ربي العالي وإنما جاء سبحان ربي الأعلى ولهذا التفاوت أسرار عجيبة لا يجوز ذكرها فإذا ركعت وقلت سبحان ربي العظيم فعد إلى القيام ثانيا وادع لمن وقف موقفك وحمد حمدك وقل سمع الله لمن حمده فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك وهو المراد من قوله عليه السلام لا يزال الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم فإن قيل ما السبب في أنه لم يحصل في هذا المقام التكبير قلنا لأن التكبير مأخوذ من الكبرياء وهو مقام الهيبة والخوف وهذا المقام مقام الشفاعة وهما متباينان ثم إذا فرغت من هذه الشفاعة فعد إلى التكبير وانحدر به إلى صفة العلو وقل سبحان ربي الأعلى وذلك لأن السجود أكثر تواضعا من الركوع لا جرم الذكر المذكور في السجود هو بناء المبالغة - وهو

الأعلى - والذكر المذكور في الركوع هو لفظ العظيم من غير بناء المبالغة روي أن لله تعالى ملكا تحت العرش اسمه حزقيل أوحى الله إليه أيها الملك طر فطار مقدار ثلاثين ألف سنة ثم ثلاثين ثم ثلاثين فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني فأوحى الله إليه لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ الطرف الثاني من العرش فقال الملك عند ذلك سبحان ربي الأعلى فإن قيل فما الحكمة في السجدتين قلنا فيه وجوه الأول أن السجدة الأولى للأزل والثانية للأبد والارتفاع فيما بينهما إشارة إلى وجود الدنيا فيما بين الأزل والأبد وذلك لأنك تعرف بأزليته أنه هو الأول لا أول قبله فتسجد له وتعرف بأبديته أنه الآخر لا آخر بعده فتسجد له ثانيا الثاني قيل اعلم بالسجدة الأولى فناء الدنيا في الآخرة وبالسجدة الثانية فناء عالم الآخرة عند ظهور نور جلال الله الثالث السجدة الأولى فناء الكل في نفسها والسجدة الثانية بقاء الكل بإبقاء الله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه القصص 88 الرابع السجدة الأولى تدل على انقياد عالم الشهادة لقدرة الله والسجدة الثانية تدل على انقياد عالم الأرواح لله تعالى كما قال ألا له الخلق والأمر الأعراف 54 والخامس السجدة الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته والسجدة الثانية سجدة العجز والخوف مما لم يصل إليه من أداء حقوق جلاله وكبريائه واعلم أن الناس يفهمون من العظمة كبر الجثة ويفهمون من العلو علو الجهة ويفهمون من الكبر طول المدة وجل الحق سبحانه عن هذه الأوهام فهو عظيم لا بالجثة عال لا بالجهة كبير لا بالمدة وكيف يقال ذلك وهو فرد أحد فكيف يكون عظيما بالجثة وهو منزه عن الحجمية وكيف يكون عاليا بالجهة وهو منزه عن الجهة وكيف يكون كبيرا بالمدة والمدة متغيرة من ساعة إلى ساعة فهي محدثة فمحدثها موجود قبلها فكيف يكون كبيرا بالمدة فهو تعالى عال على المكان لا بالمكان وسابق على الزمان لا بالزمان فكبرياؤه كبرياء عظمة وعظمته عظمة علو وعلوه علو جلال فهو أجل من أن يشابه المحسوسات ويناسب المخيلات وهو أكبر مما يتوهمه المتوهمون وأعظم مما يصفه الواصفون وأعلى مما يمجده الممجدون فإذا صور لك حسك مثالا فقل الله أكبر وإذا عين خيالك صورة فقل سبحانك الله وبحمدك وإذا زلق رجل طلبك في مهواة التعطيل فقل وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض وإذا جال روحك في ميادين العزة والجلال ثم ترقى إلى الصفات العلى والأسماء الحسنى وطالع من مرقومات القلم على سطح اللوح نقشا وسكن عند سماع تسبيحات المقربين وتنزيهات الملائكة الروحانيين إلى صورة فاقرأ عند كل هذه الأحوال سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين الصافات 180
الفصل السابع
في لطائف قوله الحمد لله وفوائد الأسماء
الخمسة المذكورة في هذه السورة
أما لطائف قوله الحمد لله فأربع نكت النكتة الأولى
روي عن النبي أن إبراهيم الخليل عليه السلام سأل ربه وقال يا رب ما جزاء من حمدك فقال الحمد لله فقال تعالى الحمد لله فاتحة الشكر

وخاتمته قال أهل التحقيق لما كانت هذه الكلمة فاتحة الشكر جعلها الله فاتحة كلامه ولما كانت خاتمته جعلها الله خاتمة كلام أهل الجنة فقال وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين يونس 10 ك وروي عن علي عليه السلام أنه قال خلق الله العقل من نور مكنون مخزون من سابق علمه فجعل العلم نفسه والفهم روحه والزهد رأسه والحياء عينه والحكمة لسانه والخير سمعه والرأفة قلبه والرحمة همه والصبر بطنه ثم قيل له تكلم فقال الحمد لله الذي ليس له ند ولا ضد ولا مثل ولا عدل الذي ذل كل شيء لعزته فقال الرب وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز علي منك وأيضا
نقل أن آدم عليه السلام لما عطس فقال الحمد لله فكان أول كلامه ذلك إذا عرفت هذا فنقول أول مراتب المخلوقات هو العقل وآخر مراتبها آدم وقد نقلنا أول كلام العقل هو قوله الحمد لله وأول كلام آدم هو قوله الحمد فثبت أن أول كلام لفاتحة المحدثات هو هذه الكلمة وأول كلام لخاتمة المحدثات هو هذه الكلمة فلا جرم جعلها الله فاتحة كتابه فقال الحمد لله رب العالمين وأيضا ثبت أن أول كلمات الله قوله الحمد لله وآخر أنبياء الله محمد رسول الله وبين الأول والآخر مناسبة فلا جرم جعل قوله الحمد لله أول آية من كتاب محمد رسوله ولما كان كذلك وضع لمحمد عليه السلام من كلمة الحمد اسمان أحمد ومحمد وعند هذا قال عليه السلام
أنا في السماء أحمد وفي الأرض محمد فأهل السماء في تحميد الله ورسول الله أحمدهم والله تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال تعالى فأولئك كان سعيهم مشكورا الإسراء 19 ورسول الله محمدهم والنكتة الثانية أن الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالنعمة والرحمة فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال والأحكام فلهذا السبب قال سبقت رحمتي غضبي النكتة الثالثة أن الرسول اسمه أحمد ومعناه أنه أحمد الحامدين أي أكثرهم حمدا فوجب أن تكون نعم الله عليه أكثر لما بينا أن كثرة الحمد بحسب كثرة النعمة والرحمة وإذا كان كذلك لزم أن تكون رحمة الله في حق محمد عليه السلام أكثر منها في حق جميع العالمين فلهذا السبب قال وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الأنبياء 107 النكتة الرابعة أن المرسل له اسمان مشتقان من الرحمة وهما الرحمن الرحيم وهما يفيدان المبالغة والرسول له أيضا اسمان مشتقان من الرحمة وهما محمد وأحمد لأنا بينا أن حصول الحمد مشروط بحصول الرحمة فقولنا محمد وأحمد جار مجرى قولنا مرحوم وأرحم وجاء في بعض الروايات أن من أسماء الرسول الحمد والحامد والمحمود فهذه خمسة للرسول دالة على الرحمة إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قال نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم الحجر 49 فقوله نبئ إشارة إلى محمد وهو مذكور قبل العباد والياء في قوله عبادي ضمير عائد إلى الله تعالى والياء في قوله أني عائد إليه وقوله أنا عائد إليه وقوله الغفور الرحيم صفتان لله فهي خمسة ألفاظ دالة على الله الكريم الرحيم فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول مع خمسة أسماء تدل على الرحمة وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء الله تدل على الرحمة ورحمة الرسول كثيرة كما قال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الأنبياء 107 ورحمة الله غير متناهية كما قال تعالى ورحمتي وسعت كل شيء الأعراف 156

فكيف يعقل أن يضيع المذنب مع هذه البحار الزاخرة العشرة المملوءة من الرحمة وأما فوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة فأشياء النكتة الأولى أن سورة الفاتحة فيها عشرة أشياء منها خمسة من صفة الربوبية وهي الله والرب والرحمن والرحيم والمالك وخمسة أشياء من صفات العبد وهي العبودية والاستعانة وطلب الهداية وطلب الاستقامة وطلب النعمة كما قال صراط الذين أنعمت عليهم فانطبقت تلك الأسماء الخمسة على هذه الأحوال الخمسة فكأنه قيل إياك نعبد لأنك أنت الله وإياك نستعين لأنك أنت الرب اهدنا الصراط المستقيم لأنك أنت الرحمن وارزقنا الاستقامة لأنك أنت الرحيم وأفض علينا سجال نعمك وكرمك لأنك مالك يوم الدين النكتة الثانية الإنسان مركب من خمسة أشياء بدنه ونفسه الشيطانية ونفسه الشهوانية ونفسه الغضبية وجوهره الملكي العقلي فتجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب الخمسة فتجلى اسم الله للروح الملكية العقلية الفلكية القدسية فخضع وأطاع كما قال ألا بذكر الله تطمئن القلوب الرعد 28 وتجلى للنفس الشيطانية بالبر والإحسان - وهو اسم الرب - فترك العصيان وانقاد لطاعة الديان وتجلى للنفس الغضبية السبعية باسم الرحمن وهذا الاسم مركب من القهر واللطف كما قال الملك يومئذ الحق للرحمن الفرقان 26 فترك الخصومة وتجلى للنفس الشهوانية البهيمية باسم الرحيم وهو أنه أطلق المباحات والطيبات كما قال أحل لكم الطيبات المائدة 4 فلان وترك العصيان وتجلى للأجساد والأبدان بقهر قوله مالك يوم الدين فإن البدن غليظ كثيف فلا بد من قهر شديد وهو القهر الحاصل من خوف يوم القيامة فلما تجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب انغلقت أبواب النيران وانفتحت أبواب الجنان ثم هذه المراتب ابتدأت بالرجوع كما جاءت فأطاعت الأبدان وقالت إياك نعبد وأطاعت النفوس الشهواينة فقالت وإياك نستعين على ترك اللذات والإعراض عن الشهوات وأطاعت النفوس الغضبية فقالت اهدنا وأرشدنا وعلى دينك فثبتنا وأطاعت النفس الشيطانية وطلبت من الله الاستقامة والصون عن الانحراف فقالت اهدنا الصراط المستقيم وتواضعت الأرواح القدسية الملكية فطلبت من الله أن يوصلها بالأرواح القدسية العالية المطهرة المعظمة فقالت صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين النكتة الثالثة قال عليه السلام
بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فشهادة أن لا إله إلا الله حاصلة من تجلي نور اسم الله وإقام الصلاة من تجلي الرب لأن الرب مشتق من التربية والعبد يربي إيمانه بمدد الصلاة وإيتاء الزكاة من تجلي اسم الرحمن لأن الرحمن مبالغة في الرحمة وإيتاء الزكاة لأجل الرحمة على الفقراء ووجوب صوم رمضان من تجلي اسم الرحيم لأن الصائم إذا جاع تذكر جوع الفقراء فيعطيهم ما يحتاجون إليه وأيضا إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات فعند الموت يسهل عليه مفارقتها ووجوب الحج من تجلى اسم مالك يوم الدين لأن عند الحج يجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد وذلك يشبه سفر يوم القيامة وأيضا الحاج يصير حافيا حاسرا عاريا وهو يشبه حال أهل القيامة وبالجملة فالنسبة بين الحج وبين أحوال القيامة كثيرة جدا النكتة الرابعة أنواع القبلة خمسة بيت المقدس والكعبة والبيت المعمور والعرش وحضرة جلال

الله فوزع هذه الأسماء الخمسة على الأنواع الخمسة من القبلة النكتة الخامسة الحواس خمس أدب البصر بقوله فاعتبروا يا أولي الأبصار الحشر 2 والسمع بقوله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الزمر 18 والذوق بقوله يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا المؤمنون 51 والشم بقوله إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون يوسف 94 واللمس بقوله والذين هم لفروجهم حافظون المؤمنون 5 فاستعن بأنوار هذه الأسماء الخمسة على دفع مضار هذه الأعداء الخمسة النكتة السادسة اعلم أن الشطر الأول من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة فتفيض الأنوار على الأسرار والشطر الثاني منها مشتمل على الصفات الخمسة للعبد فتصعد منها أسرار إلى مصاعد تلك الأنوار وبسبب هاتين الحالتين يحصل للعبد معراج في صلاته فالأول هو النزول والثاني هو الصعود والحد المشترك بين القسمين هو الحد الفاصل بين قوله مالك يوم الدين وبين قوله إياك نعبد وتقرير هذا الكلام أن حاجة العبد إما في طلب الدنيا وهو قسمان إما دفع الضرر أو جلب النفع وإما في طلب الآخرة وهو أيضا قسمان دفع الضرر وهو الهرب من النار وطلب الخير وهو طلب الجنة فالمجموع أربعة والقسم الخامس - وهو الأشرف - طلب خدمة الله وطاعته وعبوديته لما هو هو لا لأجل رغبة ولا لأجل رهبة فإن شاهدت نور اسم الله لم تطلب من الله شيئا سوى الله وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة وإن طالعت منه نور الرحمن طلبت منه خيرات هذه الدنيا وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه أن يعصمك عن مضار الآخرة وإن طالعت نور مالك يوم الدين طلبت منه أن يصونك عن آفات هذه الدنيا وقبائح الأعمال فيها لئلا تقع في عذاب الآخرة النكتة السابعة يمكن أيضا تنزيل هذه الأسماء الخمسة على المراتب الخمس المذكورة في الذكر المشهور - وهو قوله سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم - أما قولنا سبحان الله فهو فاتحة سورة واحدة وهي سبحان الذي أسرى بعبده ليلا الإسراء 1 وأما قولنا الحمد لله فهو فاتحة خمس سور وأما قولنا لا إله إلا الله فهو فاتحة سورة واحدة وهي قوله آلم الله لا إله إلا هو آل عمران 1 وأما قولنا الله أكبر فهو مذكور في القرآن لا بالتصريح في موضعين مضافا إلى الذكر تارة وإلى الرضوان أخرى فقال ولذكر الله أكبر العنكبوت 45 وقال ورضوان من الله أكبر التوبة 72 وأما قولنا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فهو غير مذكور في القرآن صريحا لأنه من الأذكار الخمسة فقولنا الله مبدأ لقولنا سبحان الله وقولنا رب مبدأ لقولنا الحمد لله وقولنا الرحمن مبدأ لقولنا لا إله إلا الله فإن قولنا لا إله إلا الله إنما يليق بمن يحصل له كمال القدرة وكمال الرحمة وذلك هو الرحمن وقولنا الرحيم مبدأ لقولنا الله أكبر ومعناه أنه أكبر من أن لا يرحم عباده الضعفاء وقولنا مالك يوم الدين مبدأ لقولنا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لأن الملك والمالك هو الذي لا يقدر عبيده على أن يعملوا شيئا على خلاف إرادته والله أعلم

الفصل الثامن
في السبب المقتضي لاشتمال بسم الله الرحمن الرحيم على الأسماء الثلاثة
وفيه وجوه ( الأول ) لا شك أنه تعالى يتجلى لعقول الخلق إلا أن لذلك التجلي ثلاث مراتب فإنه في أول الأمر يتجلى بأفعاله وآياته وفي وسط الأمر يتجلى بصفاته وفي آخر الأمر يتجلى بذاته قيل إنه تعالى يتجلى لعامة عباده بأفعاله وآياته قال ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام الشورى 32 وقال إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات آل عمران 190 ثم يتجلى لأوليائه بصفاته قال ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا آل عمران 191 ويتجلى لأكابر الأنبياء ورؤساء الملائكة بذاته قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون الأنعام 91 إذا عرفت هذا فنقول اسم الله عز وجل أقوى الأسماء في تجلي ذاته لأنه أظهر الأسماء في اللفظ وأبعدها معنى عن العقول فهو ظاهر باطن يعسر إنكاره ولا تدرك أسراره قال الحسين بن منصور الحلاج اسم الله مع الخلق قد تاهوا به ولها
ليعلموا منه معنى من معانيه
والله ما وصلوا منه إلى سبب
حتى يكون الذي أبداه مبديه
وقال أيضا يا سر سر يدق حتى
يخفى على وهم كل حي
فظاهرا باطنا تجلى
لكل شيء بكل شيء
وأما اسمه الرحمن فهو يفيد تجلى الحق بصفاته العالية ولذلك قال قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى الإسراء 110 وأما اسمه الرحيم فهو يفيد تجلي الحق بأفعاله وآياته ولهذا السبب قال ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما غافر 7
الفصل التاسع
في سبب اشتمال الفاتحة على الأسماء الخمسة
السبب فيه أن مراتب أحوال الخلق خمسة أولها الخلق وثانيها التربية في مصالح الدنيا وثالثها التربية في تعريف المبدأ ورابعها التربية في تعريف المعاد وخامسها نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى دار المعاد فاسم الله منبع الخلق والإيجاد والتكوين والإبداع واسم الرب يدل على التربية بوجوه الفضل والإحسان واسم الرحمن يدل على التربية في معرفة المبدأ واسم الرحيم في معرفة المعاد حتى يحترز عما لا ينبغي ويقدم على ما ينبغي واسم الملك يدل على أنه ينقلهم من دار الدنيا إلى دار الجزاء ثم عند وصول العبد إلى هذه المقامات انتقل الكلام من الغيبة إلى الحضور فقال إياك نعبد كأنه يقول إنك إذا انتفعت بهذه الأسماء الخمسة في هذه المراتب الخمس وانتقلت إلى دار الجزاء صرت بحيث ترى الله فحينئذ تكلم معه على سبيل المشاهدة لا على سبيل المغايبة ثم قال إياك نعبد وإياك نستعين كأنه

قال إياك نعبد لأنك الله الخالق وإياك نستعين لأنك الرب الرازق إياك نعبد لأنك الرحمن وإياك نستعين لأنك الرحيم إياك نعبد لأنك الملك وإياك نستعين لأنك المالك واعلم أن قوله مالك يوم الدين دل على أن العبد منتقل من دار الدنيا إلى دار الآخرة ومن دار الشرور إلى دار السرور فقال لا بد لذلك اليوم من زاد واستعداد وذلك هو العبادة فلا جرم قال إياك نعبد ثم قال العبد الذي اكتسبته بقوتي وقدرتي قليل لا يكفيني في ذلك اليوم الطويل فاستعان بربه فقال ما معي قليل فأعطني من خزائن رحمتك ما يكفيني في ذلك اليوم الطويل فقال وإياك نستعين ثم لما حصل الزاد ليوم المعاد قال هذا سفر طويل شاق والطرق كثيرة والخلق قد تاهوا في هذه البادية فلا طريق إلا أن أطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق فقال اهدنا الصراط المستقيم ثم إنه لا بد لسالك الطريق من رفيق ومن بدرقة ودليل فقال صراط الذين أنعمت عليهم والذين أنعم الله عليهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون فالأنبياء هم الأدلاء والصديقون هم البدرقة والشهداء والصالحون هم الرفقاء ثم قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين وذلك لأن الحجب عن الله قسمان الحجب النارية - وهي عالم الدنيا - ثم الحجب النورية - وهي عالم الأرواح - فاعتصم بالله سبحانه وتعالى من هذين الأمرين وهو أن لا يبقى مشغول السر لا بالحجب النارية ولا بالحجب النورية
الفصل العاشر
في هذه السورة كلمتان مضافتان إلى اسم الله واسمان مضافان إلى غير الله أما الكلمتان المضافتان إلى اسم الله فهما قوله بسم الله وقوله الحمد لله فقوله بسم الله لبداية الأمور وقوله الحمد لله لخواتيم الأمور فبسم الله ذكر والحمد لله شكر فلما قال بسم الله استحق الرحمة ولما قال الحمد لله استحق رحمة أخرى فبقوله بسم الله استحق الرحمة من اسم الرحمن وبقوله الحمد لله استحق الرحمة من اسم الرحيم فلهذا المعنى قيل يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة وأما قوله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين فالربوبية لبداية حالهم بدليل قوله ألست بربكم قالوا بلى الأعراف 172 وصفة الرحمن لوسط حالهم وصفة الملك لنهاية حالهم بدليل قوله لمن الملك اليوم لله الواحد القهار غافر 16 والله أعلم بالصواب وهو الهادي إلى الرشاد

بداية الجزء الثانى من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

سورة البقرة
مدنية إلا آية 281 فنزلت بمنى في حجة الوداع
وآياتها مائتان وست وثمانون
الم
تفسير آلم حروف الهجاء
الم فيه مسألتان المسألة الأولى
اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة لأن الضاد مثلاً لفظة مفردة دالة بالتواطؤ على معنى مستقل بنفسه من غير دلالة على الزمان المعين لذلك المعنى وذلك المعنى هو الحرف الأول من ( ضرب ) فثبت أنها أسماء ولأنها يتصرف فيها بالأمالة والتفخيم والتعريف والتنكير والجمع والتصغير والوصف والإسناد والإضافة فكانت لا محالة أسماء فإن قيل قد روى أبو عيسى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف لكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ) الحديث والاستدلال به يناقض ما ذكرتم قلنا سماه حرفاً مجازاً لكونه اسماً للحرف وإطلاق اسم أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور
معاني تسمية حروفها
فروع الأول أنهم راعوا هذه التسمية لمعان لطيفة وهي أن المسميات لما كانت ألفاظاً كأساميها وهي حروف مفردة والأسامي ترتقي عدد حروفها إلى الثلاثة اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في الاسم على المسمى فجعلوا المسمى صدر كل اسم منها إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها لأنه لا يكون إلا ساكناً
حكمها ما لم تلها العوامل
الثاني حكمها ما لم تلها العوامل أن تكون ساكنة الأعجاز كأسماء الأعداد فيقال ألف لام ميم كما تقول واحد اثنان ثلاثة فإذا وليتها العوامل أدركها الأعراب كقولك هذه ألف وكتبت ألفاً ونظرت إلى ألف وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية مسماه فحسب لأن جوهر اللفظ موضوع لجوهر المعنى وحركات اللفظ دالة على أحوال المعنى فإذا أريد إفادة جوهر المعنى وجب إخلاء اللفظ عن الحركات
كونها معربة
الثالث هذه الأسماء معربة وإنما سكنت سكون سائر الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد موجبه والدليل على أن سكونها وقف لا بناء أنها لو بنيت لحذي بها حذو كيف وأين وهؤلاء ولم يقل صاد قاف نون مجموع فيها بين الساكنين
معاني آلم
المسألة الثانية للناس في قوله تعالى الم وما يجري مجراه من الفواتح قولان أحدهما أن هذا

علم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لله في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور وقال علي رضي الله عنه إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي وقال بعض العارفين العلم بمنزلة البحر فأجرى منه وادٍ ثم أجرى من الوادي نهر ثم أجرى من النهر جدول ثم أجرى من الجدول ساقية فلو أجرى إلى الجدول ذلك الوادي لغرقه وأفسده ولو سال البحر إلى الوادي لأفسده وهو المراد من قوله تعالى أَنَزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَة ٌ بِقَدَرِهَا ( الرعد 17 ) فبحور العلم عند الله تعالى فأعطي الرسل منها أودية ثم أعطت الرسل من أوديتهم أنهاراً إلى العلماء ثم أعطت العلماء إلى العامة جداول صغاراً على قدر طاقتهم ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم وعلى هذا ما روي في الخبر ( للعلماء سر وللخلفاء سر وللأنبياء سر وللملائكة سر ولله من بعد ذلك كله سر فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم ولو اطلع الأنبياء على سرالملائكة لاتهموهم ولو اطلع الملائكة على سر الله تعالى لطاحوا حائرين وبادوا بائرين والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش فلما زيدت الأنبياء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار النبوة ولما زيدت العلماء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار ما عجزت العامة عنه وكذلك علماء الباطن وهم الحكماء زيد في عقولهم فقدروا على احتمال ما عجزت عنه علماء الظاهر وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال سر الله فلا تطلبوه وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال عجزت العلماء عن إدراكها وقال الحسين بن الفضل هو من المتشابه
واعلم أن المتكلمين أنكروا هذا القول هذا القول وقالوا لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوماً للخلق واحتجوا عليه بالآيات والأخبار والمعقول
حجج المتكلمين بالآيات
أما الآيات فأربعة عشر أحدها قوله تعالى أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( محمد 24 ) أمرهم بالتدبر في القرآن ولو كان غير مفهوم فكيف يأمرهم بالتدبر فيه وثانيها قوله أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) فكيف يأمرهم بالتدبر فيه لمعرفة نفي الناقص والاختلاف مع أنه غير مفهوم للخلق وثالثها قوله وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِى ّ مُّبِينٍ ( الشعراء 192 195 ) فلو لم يكن مفهوماً بطل كون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) منذراً به وأيضاً قوله بِلِسَانٍ عَرَبِى ّ مُّبِينٍ يدل على أنه نازل بلغة العرب وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون مفهوماً ورابعها قوله لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ والاستنباط منه لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه وخامسها قوله تِبْيَانًا لّكُلّ شَى ْء ( النحل 89 ) وقوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء وسادسها قوله هُدًى لّلنَّاسِ ( البقرة 185 ) هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) وغير المعلوم لا يكون هدى وسابعها قوله حِكْمَة ٌ بَالِغَة ٌ ( القمر 5 ) وقوله وَشِفَاء لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَة ٌ لّلْمُؤْمِنِينَ ( يونس 57 ) وكل هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم وثامنها قوله قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( المائدة 15 ) وتاسعها قوله أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لَرَحْمَة ً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( العنكبوت 51 ) وكيف يكون الكتاب كافياً وكيف يكون ذكرى مع أنه غير مفهوم وعاشرها قوله تعالى هَاذَا بَلَاغٌ لّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ فكيف يكون بلاغاً وكيف

يقع الإنذار به مع أنه غير معلوم وقال في آخر الآية وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الالْبَابِ ( إبراهيم 52 ) وإنما يكون كذلك لو كان معلوماً الحادي عشر قوله قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ( النساء 174 ) فكيف يكون برهان ونوراً مبيناً مع أنه غير معلوم الثاني عشر قوله فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى َ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَة ً ضَنكاً ( طه 123 124 ) فكيف يمكن اتباعه والأعراض عنه غير معلوم الثالث عشر إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ ( الإسراء 9 ) فكيف يكون هادياً مع أنه غير معلوم الرابع عشر قوله تعالى الرَّسُولُ بِمَا إِلَى قَوْلُهُ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ( البقرة 285 ) والطاعة لا تمكن إلا بعد الفهم فوجب كون القرآن مفهوماً
الاحتجاج بالأخبار
وأما الأخبار فقوله عليه السلام ( إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنّتي ) فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم وعن علي رضي الله عنه أنه عليه السلام قال عليكم بكتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن اتبع الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم هو الذي لا نزيغ به الأهواء ولا تشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن خاصم به فلج ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم
الاحتجاج بالمعقول
أما المعقول فمن وجوه أحدها أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم به لكانت المخاطبة به تجري مجرى مخاطبة العربي باللغة الزنجية ولما لم يجز ذاك فكذا هذا وثانيها أن المقصود من الكلام الإفهام فلو لم يكن مفهوماً لكانت المخاطبة به عبثاً وسفهاً وأنه لا يليق بالحكيم وثالثها أن التحدي وقع بالقرآن وما لا يكون معلوماً لا يجوز وقوع التحدي به فهذا مجموع كلام المتكلمين واحتج مخالفوهم بالآية والخبر والمعقول
احتجاج مخالفي المتكلمين بالآيات
أما الآية فهو أن المتشابه من القرآن وأنه غير معلوم لقوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ والوقف ههنا واجب لوجوه أحدها أن قوله تعالى وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ( آل عمران 7 ) لو كان معطوفاً على قوله إِلاَّ اللَّهُ لبقي يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ منقطعاً عنه وأنه غير جائز لأنه وحده لا يفيد لا يقال أنه حال لأنا نقول حينئذٍ يرجع إلى كل ما تقدم فيلزم أن يكون الله تعالى قائلاً آمنا به كل من عند ربنا وهذا كفر وثانيها أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه فإنهم لما عرفوه بالدلالة لم يكن الإيمان به إلا كالإيمان بالمحكم فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح وثالثها أن تأويلها لو كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذماً لكن قد جعله الله تعالى ذماً حيث قال فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ( آل عمران 7 )
احتجاجهم بالخبر
وأما الخبر فقد روينا في أول هذه المسألة خبراً يدل على قولنا وروي أنه عليه السلام قال ( أن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله ) ولأن القول بأن هذه الفواتح غير معلومة مروي عن أكابر الصحابة فوجب أن يكون حقاً لقوله عليه السلام ) أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم )
احتجاجهم بالمعقول
وأما المعقول فهو أن الأفعال التي كلفنا بها قسمان منها ما نعرف وجه الحكمة فيها على الجملة

بعقولنا كالصلاة والزكاة والصوم فإن الصلاة تواضع محض وتضرع للخالق والزكاة سعي في دفع حاجة الفقير والصوم سعي في كسر الشهوة ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كأفعال الحج فإننا لا نعرف بعقولنا وجه الحكمة في رمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة والرمل والاضطباع ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول فكذا يحسن الأمر منه بالنوع الثاني لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وجه المصلحة فيه أما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم لأنه لما لم يعرف فيه وجه مصلحة البتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال فلم لا يجوز أيضاً أن يكون الأمر كذلك في الأقوال وهو أن يأمرنا الله تعالى تارة أن نتكلم بما نقف على معناه وتارة بما لا نقف على معناه ويكون المقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر بل فيه فائدة أخرى وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب وإذا لم يقف على المقصود مع قطعه بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه متلفتاً إليه أبداً ومتفكراً فيه أبداً ولباب التكليف إشغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة عظيمة له فيتعبده بذلك تحصيلاً لهذه المصلحة فهذا ملخص كلام الفريقين في هذا الباب
هل المراد من الفواتح معلوم
القول الثاني قول من زعم أن المراد من هذه الفواتح معلوم ثم اختلفوا فيه وذكروا وجوهاً الأول أنها أسماء السور وهو قول أكثر المتكلمين واختيار الخليل وسيبويه وقال القفال وقد سمت العرب بهذه الحروف أشياء فسموا بلام والد حارثة بن لام الطائي وكقولهم للنحاس صاد وللنقد عين وللسحاب غين وقالوا جبل قاف وسموا الحوت نوناً الثاني أنها أسماء الله تعالى روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول ( يا كه يعص يا ح م ع سق ) الثالث أنها أبعاض أسماء الله تعالى قال سعيد بن جبير قوله ( آلر ح م ن ) مجموعها هو اسم الرحمن ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البواقي الرابع أنها أسماء القرآن وهو قول الكلبي والسدي وقتادة الخامس أن كل واحد منها دال على اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته قال ابن عباس رضي الله عنهما في ( آلم ) الألف إشارة إلى أنه تعالى أحد أول آخر أزلي أبدي واللام إشارة إلى أنه لطيف والميم إشارة إلى أنه ملك مجيد منان وقال في كهيعص إنه ثناء من الله تعالى على نفسه والكاف يدل على كونه كافياً والهاء يدل على كونه هادياً والعين يدل على العالم والصاد يدل على الصادق وذكر ابن جرير عن ابن عباس أنه حمل الكاف على الكبير والكريم والياء على أنه يجير والعين على العزيز والعدل والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصص كل واحد من هذه الحروف باسم معين وفي الثاني ليس كذلك السادس بعضها يدل على أسماء الذات وبعضها على أسماء الصفات قال ابن عباس في الم أنا الله أعلم وفي المص أنا الله أفصل وفي الر أنا الله أرى وهذا رواية أبي صالح وسعيد بن جبير عنه السابع كل واحد منها يدل على صفات الأفعال فالألف آلاؤه واللام لطفه والميم مجده قاله محمد بن كعب القرظي وقال الربيع بن أنس ما منها حرف إلا في ذكر آلائه ونعمائه الثامن بعضها يدل على أسماء الله تعالى وبعضها يدل على أسماء غير الله فقال الضحاك الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد أي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل

إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) التاسع كل واحد من هذه الحروف يدل على فعل من الأفعال فالألف معناه ألف الله محمداً فبعثه نبياً واللام أي لامه الجاحدون والميم أي ميم الكافرون غيظوا وكبتوا بظهور الحق وقال بعض الصوفية الألف معناه أنا واللام معناه لي والميم معناه مني العاشر ما قاله المبرد واختاره جمع عظيم من المحققين إن الله تعالى إنما ذكرها احتجاجاً على الكفار وذلك أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن أو بعشر سور أو بسورة واحدة فعجزوا عنه أنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها وعارفون بقوانين الفصاحة فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من البشر الحادي عشر قال عبد العزيز بن يحيى إن الله تعالى إنما ذكرها لأن في التقدير كأنه تعالى قال اسمعوها مقطعة حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك كما أن الصبيان يتعلمون هذه الحروف أولاً مفردة ثم يتعلمون المركبات الثاني عشر قول ابن روق وقطرب إن الكفار لما قالوا ( لا تسمعوا لهذاالقرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) وتواصلوا بالأعراض عنه أراد الله تعالى لما أحب من صلاحهم ونفعهم أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون ذلك سبباً لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن فأنزل الله تعالى عليهم هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عليه السلام فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم وطريقاً إلى انتفاعهم الثالث عشر قول أبي العالية إن كل حرف منها في مدة أقوام وآجال آخرين قال ابن عباس رضي الله عنه مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يتلو سورة البقرة الم ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 1 2 ) ثم أتى أخوه حيى بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن آلم وقالوا ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحق أنها أتتك من السماء فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( نعم كذلك نزلت ) فقال حيى إن كنت صادقاً إني لأَعلم أجل هذه الأمة من السنين ثم قال كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أجل أمته إحدى وسبعون سنة فضحك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال حيى فهل غير هذا فقال نعم المص فقال يحيى هذا أكثر من الأول هذا مائة وإحدى وستون سنة فهل غير هذا قال نعم الر فقال حيى هذا أكثر من الأولى والثانية فنحن نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة فهل غير هذا فقال نعم المر قال حيى فنحن نشهد أن من الذين لا يؤمنون ولا ندري بأي أقوالك نأخذ فقال أبو ياسر أما أنا فاشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون فإن كان محمد صادقاً فيما يقول إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام اليهود وقالوا اشتبه علينا أمرك كله فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير فذلك قوله تعالى هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( آل عمران 7 ) الرابع عشر هذه الحروف تدل على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر قال أحمد بن يحيى بن ثعلب إن العرب إذا استأنفت كلاماً فمن شأنهم أن يأتوا بشيء غير الكلام الذي يريدون استئنافه فيجعلونه تنبيهاً للمخاطبين على قطع الكلام الأول واستئناف الكلام الجديد الخامس عشر روى ابن الجوزي عن ابن عباس أن هذه الحروف ثناء أثنى الله عزّ وجلّ به على نفسه السادس عشر قال الأخفش إن الله تعالى أقسم بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة ومباني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا وأصول كلام الأمم بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه ثم إنه تعالى اقتصر على ذكر البعض وإن كان المراد هو الكل كما تقول قرأت

الحمد وتريد السورة بالكلية فكأنه تعالى قال أقسم بهذه الحروف إن هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ السابع عشر أن التكلم بهذه الحروف وإن كان معتاداً لكل أحد إلا أن كونها مسماة بهذه الأسماء لا يعرفه إلا من اشتغل بالتعلم والاستفادة فلما أخبر الرسول عليه السلام عنها من غير سبق تعلم واستفادة كان ذلك إخباراً عن الغيب فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكرها ليكون أول ما يسمع من هذه السورة معجزة دالة على صدقه الثامن عشر قال أبو بكر التبريزي إن الله تعالى علم أن طائفة من هذه الأمة تقول بقدم القرآن فذكر هذه الحروف تنبيهاً على أن كلامه مؤلف من هذه الحروف فيجب أن لا يكون قديماً التاسع عشر قال القاضي الماوردي المراد من ( آلم ) أنه ألم بكم ذلك الكتاب أي نزل عليكم والإلمام الزيارة وإنما قال تعالى ذلك لأن جبريل عليه السلام نزل به نزول الزائر العشرون الألف إشارة إلى ما لا بدّ منه من الاستقامة في أول الأمر وهو رعاية الشريعة قال تعالى مِن الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ( فصلت 30 ) واللام إشارة إلى الانحناء الحاصل عند المجاهدات وهو رعاية الطريقة قال الله تعالى وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( العنكبوت 69 ) والميم إشارة إلى أن يصير العبد في مقام المحبة كالدائرة التي يكون نهايتها عين بدايتها وبدايتها عين نهايتها وذلك إنما يكون بالفناء في الله تعالى بالكلية وهو مقام الحقيقة قال تعالى قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ( الأنعام 91 ) الحادي والعشرون الألف من أقصى الحلق وهو أول مخارج الحروف واللام من طرف اللسان وهو وسط المخارج والميم من الشفة وهو آخر المخارج فهذه إشارة إلى أنه لا بدّ وأن يكون أول ذكر العبد ووسطه وآخره ليس إلا الله تعالى على ما قال فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ ( الذاريات 50 )
كون فوائح السور أسماءها
والمختار عند أكثر المحققين من هذه الأقوال أنها أسماء السور والدليل عليه أن هذه الألفاظ إما أن لا تكون مفهومة أو تكون مفهومة والأول باطل أما أولاً فلأنه لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج وأما ثانياً فلأنه تعالى وصف القرآن أجمع بأنه هدى وذلك ينافي كونه غير معلوم وأما القسم الثانيفنقول إما أن يكون مراد الله تعالى منها جعلها أسماء الألقاب أو أسماء المعني والثاني باطل لأن هذه الألفاظ غير موضوعة في لغة العرب لهذه المعاني التي ذكرها المفسرون فيمتنع حملها عليها لأن القرآن نزل بلغة العرب فلا يجوز حملها على ما لا يكون حاصلاً في لغة العرب ولأن المفسرين ذكروا وجوهاً مختلفة وليست دلالة هذه الألفاظ على بعض ما ذكروه أولى من دلالتها على الباقي فأما أن يعمل على الكل وهو معتذر بالإجماع لأن كل واحد من المفسرين إنما حمل هذه الألفاظ على معنى واحد من هذه المعاني المذكورة وليس فيهم من حملها على الكل أو لا يحمل على شيء منها وهو الباقي ولما بطل هذا القسم وجب الحكم بأنها من أسماء الألقاب
جعلها أسماء ألقاب أو معاني
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال هذه الألفاظ غير معلومة قوله ( لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج ) قلنا ولم لا يجوز ذلك وبيانه أن الله تعالى تكلم بالمشكاة وهو بلسان الحبشة والسجيل والاستبرق فارسيان قوله ( وصف القرآن أجمع بأنه هدى وبيان ) قلنا لا نزاع في اشتمال القرآن على المجملات والمتشابهات فإذا لم يقدح ذلك في كونه هدى وبياناً فكذا ههنا سلمنا أنها مفهومة لكن قولك ( إنها إما أن تكون من أسماء الألقاب أو من أسماء المعاني ) إنما يصح لو ثبت كونها موضوعة لإفادة أمر ما وذلك ممنوع ولعل الله تعالى تكلم بها لحكمة أخرى مثل ما قال قطرب من أنهم لما تواضعوا في الابتداء

على أن لا يلتفتوا إلى القرآن أمر الله تعالى رسوله بأن يتكلم بهذه الأحرف في الابتداء حتى يتعجبوا عند سماعها فيسكتوا فحينئذٍ يهجم القرآن على أسماعهم سلمنا أنها موضوعة لأمر ما فلم لا يجوز أن يقال إنها من أسماء المعاني قوله ( إنها في اللغة غير موضوعه لشيء البتة ) قلنا لا نزاع في أنها وحدها غير موضوعة لشيء ولكن لم لا يجوز أن يقال إنها مع القرينة المخضوضة تفيد معنى معيناً وبيانه من وجوه أحدها أنه عليه السلام كان يتحداهم بالقرآن مرة بعد أخرى فلما ذكر هذه الحروف دلت قرينة الحال على أن مراده تعالى من ذكرها أن يقول لهم إن هذا القرآن إنما تركب من هذه الحروف التي أنتم قادرون عليها فلو كان هذا من فعل البشر لوجب أن تقدروا على الإتيان بمثله وثانيها أن حمل هذه الحروف على حساب الجمل عادة معلومة عند الناس وثالثها أن هذه الحروف لما كانت أصول الكلام كانت شريفة عزيزة فالله تعالى أقسم بها كما أقسم بسائر الأشياء ورابعها أن الاكتفاء من الاسم الواحد بحرف واحد من حروفه عادة معلومة عند العرب فذكر الله تعالى هذه الحروف تنبيهاً على أسمائه تعالى
سلمنا دليلكم لكنه معارض بوجوه أحدها أنا وجدنا السور الكثيرة اتفقت في الم و حم فالاشتباه حاصل فيها والمقصود من اسم العلم إزالة الاشتباه
فإن قيل يشكل هذا بجماعة كثيرين يسمون بمحمد فإن الاشتراك فيه لا ينافي العلمية قلنا قولنا الم لا يفيد معنى ألبتة فلو جعلناه علماً لم يكن فيه فائدة سوى التعيين وإزالة الاشتباه فإذا لم يحصل هذا الغرض امتنع جعله علماً بخلاف التسمية بمحمد فإن في التسمية به مقاصد أخرى سوى التعيين وهو التبرك به لكونه إسماً للرسول ولكونه دالاً على صفة من صفات الشرف فجاز أن يقصد التسمية به لغرض آخر من هذه الأغراض سوى التعيين بخلاف قولنا الم فإنه لا فائدة فيه سوى التعيين فإذا لم يفد هذه الفائدة كانت التسمية به عبثاً محضاً وثانيها لو كانت هذه الألفاظ أسماء للسور لوجب أن يعلم ذلك بالنواثر لأن هذه الأسماء ليست على قوانين أسماء العرب والأمور العجيبة تتوفر الدواعي على نفلها لا سيما فيما لا يتعلق بإخفائه رغبة أو رهبة ولو توفرت الدواعي على نقلها لصار ذلك معلوماً بالتواتر وارتفع الخلاف فيه فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها ليست من أسماء السور وثالثها أن القرآن نزل بلسان العرب وهم ما تجاوزوا ما سموا به مجموع اسمين نحو معد يكرب وبعلبك ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغة العرب وأنه غير جائز ورابعها أنها لو كانت أسماء هذه السور لوجب اشتهار هذه السور بها لا بسائر الأسماء لكنها إنما اشتهرت بسائر الأسماء كقولهم سورة البقرة وسورة آل عمران وخامسها هذه الألفاظ داخلة في السورة وجزء منها وجزء الشيء مقدم على الشيء بالرتبة واسم الشيء متأخر عن الشيء بالرتبة فلو جعلناها اسماً للسورة لزم التقدم والتأخر معاً وهو محال فإن قيل مجموع قولنا ( صاد ) اسم للحرف الأول منه فإذا جاز أن يكون المركب اسماً لبعض مفرداته فلم لا يجوز أن تكون بعض مفردات ذلك المركب اسماً لذلك المركب قلنا الفرق ظاهر لأن المركب يتأخر عن المفرد والاسم يتأخر عن المسمى فلو جعلنا المركب اسماً للمفرد لم يلزم إلا تأخر ذلك المركب عن ذلك المفرد من وجهين وذلك غير مستحيل أما لو جعلنا المفرد اسماً للمركب لزم من حيث أنه مفرد كونه متقدماً ومن حيث أنه اسم كونه متأخراً وذلك محال وسادسها لو كان كذلك لوجب أن لا تخلو سورة من سور القرآن من اسم على هذا الوجه ومعلوم أنه غير حاصل

الجواب ( قوله المشكاة والسجيل ليستا من لغة العرب ) قلنا عنه جوابان أحدهما أن كل ذلك عربي لكنه موافق لسائر اللغات وقد يتفق مثل ذلك في اللغتين الثاني أن المسمى بهذه الأسماء لم يوجد أولاً في بلاد العرب فلما عرفوه عرفوا منها أسماءها فتكلموا بتلك الأسماء فصارت تلك الألفاظ عربية أيضاً
قوله ( وجد أن المجمل في كتاب الله لا يقدح في كونه بياناً ) قلنا كل مجمل وجد في كتاب الله تعالى قد وجد في العقل أو في الكتاب أو في السنة بيانه وحينئذٍ يخرج عن كونه غير مفيد إنما البيان فيما لا يمكن معرفة مراد الله منه
وقوله ( لم لا يجوز أن يكون المقصود من ذكر هذه الألفاظ إسكاتهم عن الشغب ) قلنا لو جاز ذكر هذه الألفاظ لهذاالغرض فليجز ذكر سائر الهذيانات لمثل هذا الغرض وهو بالإجماع باطل
وأما سائر الوجوه التي ذكروها فقد بينا أن قولنا ( آلم ) غير موضوع في لغة العرب لإفادة تلك المعاني فلا يجوز استعمالها فيه لأن القرآن إنما نزل بلغة العرب ولأنها متعارضة فليس حمل اللفظ على بعضها أولى من البعض ولأنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت أبواب تأويلات الباطنية وسائر الهذيانات وذلك مما لا سبيل إليه
أما الجواب عن المعارضة الأولى فهو أن لا يبعد أن يكون في تسمية السور الكثيرة باسم واحد ثم يميز كل واحد منها عن الآخر بعلامة أخرى حكمة خفية
وعن الثاني أن تسمية السورة بلفظة معينة ليست من الأمور العظام فجاز أن لا يبلغ في الشهرة إلى حد التواتر
وعن الثالث أن التسمية بثلاثة أسماء خروج عن كلام العرب إذا جعلت اسماً واحداً على طريقة ( حضرموت ) فأما غير مركبة بل صورة نثر أسماء الأعداد فذاك جائز فإن سيبويه نص على جواز التسمية بالجملة والبيت من الشعر والتسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم
وعن الرابع أنه لا يبعد أن يصير اللقب أكثر شهرة من الاسم الأصلي فكذا ههنا
وعن الخامس أن الاسم لفظ دال على أمر مستقل بنفسه من غير دلالة على زمانه المعين ولفظ الاسم كذلك فيكون الاسم اسماً لنفسه فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون جزء الشيء اسماً له
وعن السادس أن وضع الاسم إنما يكون بحسب الحكمة ولا يبعد أن تقتضي الحكمة وضع الاسم لبعض السور دون البعض على أن القول الحق أنه تعالى يفعل ما يشاء فهذا منتهى الكلام في نصرة هذه الطريقة
واعلم أن بعد هذا المذهب الذي نصرناه بالأقوال التي حكيناها قول قطرب من أن المشركين قال بعضهم لبعض ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) فكان إذا تكلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أول هذه السورة بهذه الألفاظ ما فهموا منها شيئاً والإنسان حريص على ما منع فكانوا يصغون إلى القرآن ويتفكرون ويتدبرون في مقاطعه ومطالعه رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم ويوضح ذلك المشكل فصار ذلك وسيلة إلى أن يصيروا مستمعين للقرآن ومتدبرين في مطالعه ومقاطعه والذي يؤكد هذا المذهب أمران أحدهما أن هذه الحروف ما جاءت إلا في أوائل السور وذلك يوهم أن الغرض ما ذكرنا والثاني أن

العلماء قالوا أن الحكمة في إنزال المتشابهات هي أن المعلل لما علم اشتمال القرآن على المتشابهات فإنه يتأمل القرآن ويجتهد في التفكر فيه على رجاء أنه ربما وجد شيئاً يقوي قوله وينصر مذهبه فيصير ذلك سبباً لوقوفه على المحكمات المخلصة له عن الضلالات فإذا جاز إنزال المتشابهات التي توهم الضلالات لمثل هذا الغرض فلأن يجوز إنزال هذه الحروف التي لا توهم شيئاً من الخطأ والضلال لمثل هذا الغرض كان أولى أقصى ما في الباب أن يقال لو جاز ذلك فليجز أن يتكلم بالزنجية مع العربي وأن يتكلم بالهذيان لهذا الغرض وأيضاً فهذا يقدح في كون القرآن هدى وبياناً لكنا نقول لم لا يجوز أن يقال إن الله تعالى إذا تكلم بالزنجية مع العربي وكان ذلك متضمناً لمثل هذه المصلحة فإن ذلك يكون جائزاً وتحقيقه أن الكلام فعل من الأفعال والداعي إليه قد يكون هو الإفادة وقد يكون غيرها قوله ( أنه يكون هذياناً ) قلنا إن عنيت بالهذيان الفعل الخالي عن المصلحة بالكلية فليس الأمر كذلك وإن عنيت به الألفاظ الخالية عن الإفادة فلم قلت أن ذلك يقدح في الحكمة إذا كان فيها وجوه أخر من المصلحة سوى هذا الوجه وأما وصف القرآن بكونه هدى وبياناً فذلك لا ينافي ما قلناه لأنه إذا كان الغرض ما ذكرناه كان استماعها من أعظم وجوه البيان والهدى والله أعلم
القول بأنها أسماء السور
فروع على القول بأنها أسماء السور الأول هذه الأسماء على ضربين أحدهما يتأتى فيه الإعراب وهو أما أن يكون اسماً مفرداً ( كصاد وقاف ونون ) أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كحم وطس ويس فإنها موازنة لقابيل وهابيل وأما طسم فهو وإن كان مركباً من ثلاثة أسماء فهو كدر ابجرد وهو من باب ما لا ينصرف لاجتماع سببين فيها وهما العلمية والتأنيث والثاني ما لا يتأتى فيه الإعراب نحو كه يعص وال مر إذا عرفت هذا فنقول أما المفردة ففيها قراءتان إحداهما قراءة من قرأ صاد وقاف ونون بالفتح وهذه الحركة يحتمل أن تكون هي النصب بفعل مضمر نحو اذكر وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف كما تقدم بيانه وأجاز سيبويه مثله في حم وط س وي س لو قرىء به وحكى السيرافي أن بعضهم قرأ ( ي س ) بفتح النون وأن يكون الفتح جراً وذلك بأن يقدرها مجرورة بإضمار الباء القسمية فقد جاء عنهم ( الله لأفعلن ) غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة ويتأكد هذا بما روينا عن بعضهم ( أن الله تعالى أقسم بهذه الحروف ) وثانيتهما قراءة بعضهم صاد بالكسر وسببه التحريك لالتقاء الساكنين أما القسم الثاني وهو ما لا يتأتى الإعراب فيه فهو يجب أن يكون محكياً ومعناه أن يجاء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى كقولك ( دعني من تمرتان )
الثاني أن الله تعالى أورد في هذه الفواتح نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة
الثالث هذه الفواتح جاءت مختلفة الأعداد فوردت ( ص ق ن ) على حرف و ( طاه وط س وي س وح م ) على حرفين و ( آلم وال ر وط سم ) على ثلاثة أحرف والم ص وال مر على أربعة أحرف و ( كه عيص وحم ع سق ) على خمسة أخرف والسبب فيه أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فقط فكذا ههنا

الرابع هل لهذه الفواتح محل من الإعراب أم لا فنقول إن جعلناها أسماء للسور فنعم ثم يحتمل الأوجه الثلاثة أما الرفع فعلى الابتداء وأما النصب والجر فلما مر من صحة القسم بها ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل على قوله كما لا محل للجمل المبتدأ وللمفردات المعدودة
الإشارة في ( ذلك الكتاب )
ذَالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
قوله تعالى ذالِكَ الْكِتَابُ وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول المشار إليه ههنا حاضر و ( ذلك ) اسم مبهم يشار به إلى البعيد والجواب عنه من وجهين الأول لا نسلم أن المشار إليه حاضر وبيانه من وجوه أحدها ما قاله الأصم وهو أن الله تعالى أنزل الكتاب بعضه بعد بعض فنزل قبل سورة البقرة سور كثيرة وهي كل ما نزل بمكة مما فيه الدلالة على التوحيد وفساد الشرك وإثبات النبوة وإثبات المعاد فقوله ذالِكَ إشارة إلى تلك السور التي نزلت قبل هذه السورة وقد يسمى بعض القرآن قرآناً قال الله تعالى وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ ( الأعراف 204 ) وقال حاكياً عن الجن قُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ أَنَّهُ ( الجن 1 ) وقوله إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى ( الأحقاف 30 ) وهم ما سمعوا إلا البعض وهو الذي كان قد نزل إلى ذلك الوقت وثانيها أنه تعالى وعد رسوله عند مبعثه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماحي وهو عليه السلام أخبر أمته بذلك وروت الأمة ذلك عنه ويؤيده قوله إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ( المزمل 5 ) وهذا في سورة المزمل وهي إنما نزلت في ابتداء المبعث وثالثها أنه تعالى خاطب بني إسرائيل لأن سورة البقرة مدنية وأكثرها احتجاج على بني إسرائيل وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما السلام أن الله يرسل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وينزل عليه كتاباً فقال تعالى ذالِكَ الْكِتَابُ أي الكتاب الذي أخبر الأنبياء المتقدمون بأن الله تعالى سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل ورابعها أنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا ( الزخرف 4 ) وقد كان عليه السلام أخبر أمته بذلك فغير ممتنع أن يقول تعالى ذالِكَ الْكِتَابُ ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ وخامسها أنه وقعت الإشارة بذلك إلى ( آلم ) بعد ما سبق التكلم به وانقضى والمنقضى في حكم المتباعد وسادسها أنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً احتفظ بذلك وسابعها أن القرآن لما اشتمل على حكم عظيمة وعلوم كثيرة يتعسر اطلاع القوة البشرية عليها بأسرها والقرآن وإن كان حاضراً نظراً إلى صورته لكنه غائب نظراً إلى أسراره وحقائقه فجاز أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد الغائب
( ذلك ) يشار بها للقريب والبعيد
المقام الثاني سلمنا أن المشار إليه حاضر لكن لا نسلم أن لفظة ( ذلك ) لا يشار بها إلا إلى البعيد بيانه أن ذلك وهذا حرفاً إشارة وأصلهما ( ذا ) لأنه حرف للإشارة قال تعالى مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ( البقرة 245 ) ومعنى ( ها ) تنبيه فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل هذا أي تنبه

أيها المخاطب لما أشرت إليه فإنه حاضر لك بحيث تراه وقد تدخل الكاف على ( ذا ) للمخاطبة واللام لتأكيد معنى الإشارة فقيل ( ذلك ) فكأن المتكلم بالغ في التنبيه لتأخر المشار إليه عنه فهذا يدل على أن لفظة ذلك لا تفيدالبعد في أصل الوضع بل اختص في العرف بالإشارة إلى البعيد للقرينة التي ذكرناها فصارت كالدابة فإنها مختصة في العرف بالفرس وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدب على الأرض وإذا ثبت هذا فنقول إنا نحمله ههنا على مقتضى الوضع اللغوي لا على مقتضى الوضع العرفي وحينئذٍ لا يفيد البعد ولأجل هذه المقاربة يقام كل واحد من اللفظين مقام الآخر قال تعالى وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِلَى قَوْلُهُ وَكُلٌّ مّنَ الاْخْيَارِ ( ص 45 48 ) ثم قال هَاذَا ذِكْرُ ( الأنبياء 24 ) وقال وَعِندَهُمْ قَاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ( ص 52 53 ) وقال وَجَاءتْ سَكْرَة ُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( ق 19 ) وقال فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاْخِرَة ِ وَالاْوْلَى إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَة ً لّمَن يَخْشَى ( النازعات 25 26 ) وقال وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى َ الصَّالِحُونَ ( الأنبياء 105 ) ثم قال إِنَّ فِى هَاذَا لَبَلَاغاً لّقَوْمٍ عَابِدِينَ ( الأنبياء 106 ) وقال فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذالِكَ يَحْيَى اللَّهُ الْمَوْتَى ( البقرة 73 ) أي هكذا يحيى الله الموتى وقال وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 17 ) أي ما هذه التي بيمينك والله أعلم
المسألة الثانية لقائل أن يقول لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة الجواب لا نسلم أن المشار إليه مؤنث لأن المؤنث إما المسمى أو الاسم والأول باطل لأن المسمى هو ذلك البعض من القرآن وهو ليس بمؤنث وأما الاسم فهو ( آلم ) وهو ليس بمؤنث نعم ذلك المسمى له اسم آخر وهو السورة وهو مؤنث لكن المذكور السابق هو الاسم الذي ليس بمؤنث وهو ( آلم ) لا الذي هو مئنث وهو السورة
مدلول لفظ ( كتاب )
المسألة الثالثة اعلم أن أسماء القرآن كثيرة أحدها الكتاب وهو مصدر كالقيام والصيام وقيل فعال بمعنى مفعول كاللباس بمعنى الملبوس واتفقوا على أن المراد من الكتاب القرآن قال كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ( ص 29 ) والكتاب جاء في القرآن على وجوه أحدها الفرض كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( البقرة 178 ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 ) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً ( النساء 103 ) وثانيها الحجة والبرهان فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( الصافات 157 ) أي برهانكم وثالثها الأجل وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ( الحجر 4 ) أي أجل ورابعها بمعنى مكاتبة السيد عبده وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( النور 33 ) وهذا المصدر فعال بمعنى المفاعلة كالجدال والخصام والقتال بمعنى المجادلة والمخاصمة والمقاتلة واشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته وسميت الكتيبة لاجتماعها فسمي الكتاب كتاباً لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم أو لأن الله تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلق
اشتقاق لفظ ( قرآن )
وثانيها القرآن قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ ( الإسراء 88 ) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً ( الزخرف 3 ) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( البقرة 185 ) إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ ( الإسراء 9 ) وللمفسرين فيه قولان أحدهما قول ابن عباس أن القرآن والقراءة

واحد كالخسران والخسارة واحد والدليل عليه قوله فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ ( القيامة 18 ) أي تلاوته أي إذا تلوناه عليك فاتبع تلاوته الثاني وهو قول قتادة أنه مصدر من قول القائل قرأت الماء في الحوض إذا جمعته وقال سفيان بن عيينة سمي القرآن قرآناً لأن الحروف جمعت فصارت كلمات والكلمات جمعت فصارت آيات والآيات جمعت فصارت سوراً والسور جمعت فصارت قرآناً ثم جمع فيه علوم الأولين والآخرين فالحاصل أن اشتقاق لفظ القرآن إما من التلاوة أو من الجمعية
معنى الفرقان
وثالثها الفرقان تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ( الفرقان 1 ) وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ( البقرة 185 ) واختلفوا في تفسيره فقيل سمي بذلك لأن نزوله كان متفرقاً أنزله في نيف وعشرين سنة ودليله قوله تعالى وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ( الإسراء 106 ) ونزلت سائر الكتب جملة واحدة ووجه الحكمة فيه ذكرناه في سورة الفرقان في قوله تعالى وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءانُ ( الفرقان 32 ) وقيل وقال الذين كفروا سمي بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام والمجمل والمبين والمحكم والمؤول وقيل الفرقان هو النجاة وهو قول عكرمة والسدي وذلك لأن الخلق في ظلمات الضلالات فبالقرآن وجدوا النجاة وعليه حمل المفسرون قوله وَإِذَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَإِذْ ( البقرة 53 )
معنى تسميته بالذكر
ورابعها الذكر والتذكرة والذكرى أما الذكر فقوله وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ( الأنبياء 50 ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) وفيه وجهان أحدهما أنه ذكر من الله تعالى ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه وأوامره والثاني أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به وأنه شرف لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته وأما التذكرة فقوله وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَة ٌ لّلْمُتَّقِينَ ( الحاقة 48 ) وأما الذكرى فقوله تعالى وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( الذاريات 55 )
تسميته تنزيلاً وحديثاً
وخامسها التنزيل وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ ( الشعراء 192 193 )
وسادسها الحديث اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً ( الزمر 23 ) سماه حديثاً لأن وصوله إليك حديث ولأنه تعالى شبهه بما يتحدث به فإن الله خاطب به المكلفين
وسابعها الموعظة تُرْجَعُونَ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَة ٌ مّن رَّبّكُمْ ( يونس 57 ) وهو في الحقيقة موعظة لأن القائل هو الله تعالى والآخذ جبريل والمستملي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكيف لا تقع به الموعظة
تسميته بالحكم والحكمة
وثامنها الحكم والحكمة والحكيم والمحكم أما الحكم فقوله وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا ( الرعد 37 ) وأما الحكمة فقوله حِكْمَة ٌ بَالِغَة ٌ ( القمر 5 ) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَة ِ ( الأحزاب 34 ) وأما الحكيم فقوله يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ ( ي س 1 2 ) وأما المحكم فقوله كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ( هود 1 )
معنى الحكمة
واختلفوا في معنى الحكمة فقال الخليل هو مأخوذ من الأحكام والإلزام وقال المؤرخ هو مأخوذ من حكمة اللجام لأنها تضبط الدابة والحكمة تمنع من السفه
وتاسعها الشفاء وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة ٌ لّلْمُؤْمِنِينَ ( الإسراء 82 ) وقوله وَشِفَاء لِمَا فِى الصُّدُورِ وفيه وجهان أحدهما أنه شفاء من الأمراض والثاني أنه شفاء من مرض

الكفر لأنه تعالى وصف الكفر والشك بالمرض فقال فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ( البقرة 10 ) وبالقرآن يزول كل شك عن القلب فصح وصفه بأنه شفاء
كونه هدي وهادياً
وعاشرها الهدى والهادي أما الهدى فلقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) هُدًى لّلنَّاسِ ( آل عمران 4 الأنعام 91 ) وَشِفَاء لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَة ٌ لّلْمُؤْمِنِينَ ( يونس 57 ) وأما الهادي إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ ( الإسراء 9 ) وقالت الجن قُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ أَنَّهُ يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ
الحادي عشر الصراط المستقيم قال ابن عباس في تفسيره إنه القرآن وقال وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ
والثاني عشر الحبل وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ( آل عمران 103 ) في التفسير إنه القرآن وإنما سمي به لأن المعتصم به في أمور دينه يتخلص به من عقوبة الآخرة ونكال الدنيا كما أن المتمسك بالحبل ينجو من الغرق والمهالك ومن ذلك سماه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عصمة فقال ( إن هذا القرآن عصمة لمن اعتصم به ) لأنه يعصم الناس من المعاصي
الثالث عشر الرحمة وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة ٌ لّلْمُؤْمِنِينَ ( الإسراء 88 ) وأي رحمة فوق التخليص من الجهالات والضلالات
تسميته بالروح
الرابع عشر الروح وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) وإنما سمي به لأنه سبب لحياة الأرواح وسمي جبريل بالروح فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ( مريم 17 ) وعيسى بالروح أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ ( النساء 171 )
الخامس عشر القصص نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( يوسف 3 ) سمي به لأنه يجب اتباعه وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ ( القصص 11 ) أي اتبعي أثره أو لأن القرآن يتتبع قصص المتقدمين ومنه قوله تعلى إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ( آل عمران 62 )
السادس عشر البيان والتبيان والمبين أما البيان فقوله هَاذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ ( آل عمران 138 ) والتبياني فهو قوله وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَى ْء ( النحل 89 ) وأما المبين فقوله تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( يوسف 1 )
السابع عشر البصائر هَاذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ ( الأعراف 203 ) أي هي أدلة يبصر بها الحق تشبيهاً بالبصر الذي يرى طريق الخلاص
الثامن عشر الفصل إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ ( الطارق 13 14 ) واختلفوا فيه فقيل معناه القضاء لأن الله تعالى يقضي به بين الناس بالحق قيل لأنه يفصل بين الناس يوم القيامة فيهدي قوماً إلى الجنة ويسوق آخرين إلى النار فمن جعله إمامه في الدنيا قاده إلى الجنة ومن جعله وراءه ساقه إلى النار
تسميته بالنجوم

التاسع عشر النجوم فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ( الواقعة 75 ) وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ( النجم 1 ) لأنه نزل نجماً نجماً
العشرون المثاني مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ( الزمر 23 ) قيل لأنه ثنى فيه القصص والأخبار
تسميه القرآن نعمة وبرهانا
الحادي والعشرون النعمة وَأَمَّا بِنِعْمَة ِ رَبّكَ فَحَدّثْ ( الضحى 11 ) قال ابن عباس يعني به القرآن
الثاني والعشرون البرهان قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ ( النساء 174 ) وكيف لا يكون برهاناً وقد عجزت الفصحاء عن أن يأتوا بمثله
الثالث والعشرون البشير والنذير وبهذا الاسم وقعت المشاركة بينه وبين الأنبياء قال تعالى في صفة الرسل مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ ( النساء 165 الأنعام 48 ) وقال في صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً ( الفتح 8 ) وقال في صفة القرآن في ح م السجدة بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ( فصلت 4 ) يعني مبشراً بالجنة لمن أطاع وبالنار منذراً لمن عصى ومن ههنا نذكر الأسماء المشتركة بين الله تعالى وبين القرآن
تسميته قيماً
الرابع والعشرون القيم فِيمَا لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا ( الكهف 2 ) والدين أيضاً قيم ذالِكَ الدّينُ الْقَيّمُ ( التوبة 36 ) والله سبحانه هو القيوم اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ ( البقرة 255 آل عمران 2 ) وإنما سمي قيماً لأنه قائم بذاته في البيان والإفادة
الخامس والعشرون المهيمن وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ( المائدة 48 ) وهو مأخوذ من الأمين وإنما وصف به لأنه من تمسك بالقرآن أمن الضرر في الدنيا والآخرة والرب المهيمن أنزل الكتاب المهيمن على النبي الأمين لأجل قوم هم أمناء الله تعالى على خلقه كما قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( البقرة 143 )
السادس والعشرون الهادي إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ ( الإسراء 9 ) وقال يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ ( الجن 2 ) والله تعالى هو الهادي لأنه جاء في الخبر ( النور الهادي )
تسميته نوراً
السابع والعشرون النور اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 ) وفي القرآن وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ ( الأعراف 157 ) يعني القرآن وسمي الرسول نوراً قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( المائدة 15 ) يعني محمد وسمي دينه نوراً يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ( الصف 8 ) وسمي بيانه نوراً أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ ( الزمر 22 ) وسمي التوراة نوراً إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ( المائدة 44 ) وسمي الإنجيل نوراً وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ ( المائدة 46 ) وسمي الإيمان نوراً يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ( الحديد 12 )
الثامن والعشرون الحق ورد في الأسماء ( الباعث الشهيد الحق ) والقرآن حق وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( الحاقة 51 ) فسماه الله حقاً لأنه ضد الباطل فيزيل الباطل كما قال بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ( الأنبياء 18 ) أي ذاهب زائل

التاسع والعشرون العزيز وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( الشعراء 9 68 ) وفي صفة القرآن وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ( فصلت 41 ) والنبي عزيز لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ والأمة عزيزة وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( المنافقون 8 ) فرب عزيز أنزل كتاباً عزيزاً على نبي عزيز لأمة عزيزة وللعزيز معنيان أحدهما القاهر والقرآن كذلك لأنه هو الذي قهر الأعداء وامتنع على من أراد معارضته والثاني أن لا يوجد مثله
تسمية القرآن بالكريم
الثلاثون الكريم وَأَنَّهُ إِنَّهُ لَقُرْءانٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ( الواقعة 77 ) واعلم أنه تعالى سمي سبعة أشياء بالكريم مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( الانفطار 60 ) إذ لا جواد إجود منه والقرآن بالكريم لأنه لا يستفاد من كتاب من الحكم والعلوم ما يستفاد منه وسمي موسى كريماً وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ( الدخان 17 ) وسمي ثواب الأعمال كريماً فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَة ٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ( ي س 11 ) وسمي عرشه كريماً اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ( النمل 26 ) لأنه منزل الرحمة وسمي جبريل كريماً إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( التكوير 19 ) ومعناه أنه عزيز وسمي كتاب سليمان كريماً إِنّى أُلْقِى َ إِلَى َّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ( النمل 29 ) فهو كتاب كريم من رب كريم نزل به ملك كريم على نبي كريم لأجل أمة كريمة فإذا تمسكوا به نالوا ثواباً كريماً
ومن أسمائه ( العظيم )
الحادي والثلاثون العظيم وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءانَ الْعَظِيمَ ( الحجر 87 ) اعلم أنه تعالى سمى نفسه عظيماً فقال وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْعَظِيمُ ( البقرة 255 ) وعرشه عظيماً وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( التوبة 129 ) وكتابه عظيماً وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ ( الحجر 87 ) ويوم القيامة عظيماً لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( المطففين 5 6 ) والزلزلة عظيمة إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ ( الحج 1 ) وخلق الرسول عظيماً وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( القلم 4 ) والعلم عظيماً وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 ) وكيد النساء عظيماً إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ( يوسف 28 ) وسحر سحرة فرعون عظيماً وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ( الأعراف 116 ) وسمي نفس الثواب عظيماً وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَة ً وَأَجْراً عَظِيماً ( الفتح 29 ) وسمي عقاب المنافقين عظيماً وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ( البقرة 7 )
ومنها المبارك
الثاني والثلاثون المبارك وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ ( الأنبياء 50 ) وسمى الله تعالى به أشياء فسمي الموضع الذي كلم فيه موسى عليه السلام مباركاً فِى الْبُقْعَة ِ الْمُبَارَكَة ِ مِنَ الشَّجَرَة ِ ( القصص 30 ) وسمى شجرة الزيتون مباركة يُوقَدُ مِن شَجَرَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ زَيْتُونَة ٍ ( التوبة 35 ) لكثرة منافعها وسمي عيسى مباركاً وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً ( مريم 31 ) وسمي المطر مباركاً وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكاً ( ق 9 ) لما فيه من المنافع وسمي ليلة القدر مباركة إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ ( الدخان 3 ) فالقرآن ذكر مبارك أنزله ملك مبارك في ليلة مباركة على نبي مبارك لأمة مباركة
اتصال ( آلم ) بقوله ( ذلك الكتاب )
المسألة الرابعة في بيان اتصال قوله الم بقوله ذالِكَ الْكِتَابُ قال صاحب الكشاف إن جعلت الم اسماً للسورة ففي التأليف وجوه
الأول أن يكون الم مبتدأ و ذالِكَ مبتدأ ثانياً و الْكِتَابِ خبره والجملة خبر المبتدأ الأول ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص وإنه الذي يستأهل أن يكون كتاباً

كما تقول هو الرجل أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال وأن يكون الكتاب صفة ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود وأن يكون الم خبر مبتدأ محذوف أي هذه الم وَيَكُونَ ذالِكَ الْكِتَابُ خبراً ثانياً أو بدلاً على أن الكتاب صفة ومعناه هو ذلك وأن تكون هذه الم جملة و ذالِكَ الْكِتَابُ جملة أخرى وإن جعلت الم بمنزلة الصوت كان ذالِكَ مبتدأ وخبره الْكِتَابِ أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل أو الكتاب صفة والخبر ما بعده أو قدر مبتدأ محذوف أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف ذلك الكتاب وقرأ عبد الله الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ( السجدة 2 ) وتأليف هذا ظاهر
تفسير قوله تعالى لاَ رَيْبَ فِيهِ
قوله تعالى لاَ رَيْبَ فِيهِ فيه مسألتان
المسألة الأولى الريب قريب من الشك وفيه زيادة كأنه ظن سوء تقول رابني أمر فلان إذا ظننت به سوء ومنها قوله عليه السلام ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) فإن قيل قد يستعمل الريب في قولهم ( ريب الدهر ) و ( ريب الزمان ) أي حوادثه قال الله تعالى نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( الطور 30 ) ويستعمل أيضاً في معنى ما يختلج في القلب من أسباب الغيظ كقول الشاعر فقضينا من تهامة كل ريب
وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
قلنا هذان قد يرجعان إلى معنى الشك لأن ما يخاف من ريب المنون محتمل فهو كالمشكوك فيه وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن فقوله تعالى لاَ رَيْبَ فِيهِ المراد منه نفي كونه مظنة للريب بوجه من الوجوه والمقصود أنه لا شبهة في صحته ولا في كونه من عند الله ولا في كونه معجزاً ولو قلت المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ( البقرة 23 ) وها هنا سؤالات السؤال الأول طعن بعض الملحدة فيه فقال إن عني أنه لا شك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه وإن عني أنه لا شك فيه عنده فلا فائدة فيه الجواب المراد أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه والأمر كذلك لأن العرب مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه السؤال الثاني لم قال ههنا لاَ رَيْبَ فِيهِ وفي موضع آخر لاَ فِيهَا غَوْلٌ ( الصافات 47 ) الجواب لأنهم يقدمون الأهم فالأهم وههنا الأهم نفي الريب بالكلية عن الكتاب ولو قلت لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتاباً آخر حصل الريب فيه لا ها هنا كما قصد في قوله لاَ فِيهَا غَوْلٌ تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا السؤال الثالث من أين يدل قوله لاَ رَيْبَ فِيهِ على نفي الريب بالكلية الجواب قرأ أبو الشعثاء لاَ رَيْبَ فِيهِ بالرفع واعلم أن القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية والدليل عليه أن قوله لاَ رَيْبَ نفي لماهية الريب ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من

أفراد الماهية لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية وذلك يناقض نفي الماهية ولهذا السر كان قولنا ( لا إله إلا الله ) نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى وأما قولنا ( لا ريب فيه ) بالرفع فهو نقيض لقولنا ( ريب فيه ) وهو يفيد ثبوت فرد واحد فذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ليتحقق التناقض
الوقف على ( فيه )
المسألة الثانية الوقف على فِيهِ هو المشهور وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على لاَ رَيْبَ ولا بدّ للواقف من أن ينوي خبراً ونظيره قوله قَالُواْ لاَ ضَيْرَ وقول العرب لا بأس وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز والتقدير لاَ رَيْبَ فِيهِ فِيهِ هُدًى واعلم أن القراءة الأولى أولى لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى والله أعلم
حقيقة الهدى
قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ فيه مسائل
المسألة الأولى في حقيقة الهدى الهدى عبارة عن الدلالة وقال صاحب الكشاف الهدى هو الدلالة الموصلة إلى البغية وقال آخرون الهدى هو الاهتداء والعلم والذي يدل على صحة القول الأول وفساد القول الثاني والثالث أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهدتاء محال لكنه غير ممتنع بدليل قوله تعالى وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى أثبت الهدى مع عدم الاهتداء ولأنه يصح في لغة العرب أن يقال هديته فلم يهتد وذلك يدل على قولنا واحتج صاحب الكشاف بأمور ثلاثة أولها وقوع الضلالة في مقابلة الهدى قال تعالى أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ بِالْهُدَى ( البقرة 16 ) وقال لَعَلَى هُدًى أو فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( الأعراف 60 ) وثانيها يقول مهدي في موضع المدح كمهتدي فلو لم يكن من شرط الهدى كون الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً لاحتمال أنه هدى فلم يهتد وثالثها أن اهتدى مطاوع هدى يقال هديته فاهتدى كما يقال كسرته فانكسر وقطعته فانقطع فكما أن الإنكسار والانقطاع لا زمان للكسر والقطع وجب أن يكون الاهتداء من لوازم الهدى والجواب عن الأول أن الفرق بين الهدى وبين الاهتداء معلوم بالضرورة فمقابل الهدى هو الإضلال ومقابل الاهتداء هو الضلال فجعل الهدى في مقابلة الضلال ممتنع وعن الثاني أن المنتفع بالهدى سمي مهدياً وغير منتفع به لا يسمى مهدياً ولأن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم وعن الثالث أن الائتمار مطاوع الأمر يقال أمرته فائتمر ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه آمراً حصول الائتمار فكذا هذا لا يلزم من كونه هدى أن يكون مفضياً إلى الاهتداء على أنه معارض بقوله هديته فلم يهتد ومما يدل على فساد قول من قال الهدى هو العلم خاصة أن الله تعالى وصف القرآن بأنه هدى ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم فدل على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم
معنى المتقي

المسألة الثانية المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقي والوقاية فرط الصيانة إذا عرفت هذا فنقول إن الله تعالى ذكر المتقي ههنا في معرض المدح ومن يكون كذلك أولى بأن يكون متقياً في أمور الدنيا بل بأن يكون متقياً فيما يتصل بالدين وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات محترزاً عن المحظورات واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصغائر في التقوى فقال بعضهم يدخل كما يدخل الصغائر في الوعيد وقال آخرون لا يدخل ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكل إنما النزاع في أنه إذا لم يتوق الصغائر هل يستحق هذا الاسم فروي عنه عليه السلام أنه قال ( لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم الذين يحذرون من الله العقوبة في ترك ما يميل الهوى إليه ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء منه واعلم أن التقوى هي الخشية قال في أول النساء تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ ( النساء 1 ) ومثله في أول الحج وفي الشعراء إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ ( هود 106 ) يعني ألا تخشون الله وكذلك قال هود وصالح ولوط وشعيب لقومهم وفي العنكبوت قال إبراهيم لقومه اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ( نوح 3 ) يعني اخشوه وكذا قوله اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ( آل عمران 102 ) وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ( البقرة 197 ) وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ( البقرة 48 ) واعلم أن حقيقة التقوى وإن كانت هي التي ذكرناها إلا أنها قد جاءت في القرآن والغرض الأصلي منها الإيمان تارة والتوبة أخرى والطاعة ثالثة وترك المعصية رابعاً والإخلاص خامساً أما الإيمان فقوله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى ( الفتح 26 ) أي التوحيد أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( الحجرات 3 ) وفي الشعراء قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ ( الشعراء 11 ) أي أو يؤمنون وأما التوبة فقوله وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ ( الأعراف 96 ) أي تابوا وأما الطاعة فقوله في النحل أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ ( النحل 2 ) وفيه أيضاً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ( النحل 52 ) وفي المؤمنين وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ( المؤمنون 52 ) وأما ترك المعصية فقوله وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( البقرة 189 ) أي فلا تعصوه وأما الإخلاص فقوله في الحج فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ( الحج 32 ) أي من إخلاص القلوب فكذا قوله وَإِيَّاى َ فَاتَّقُونِ ( البقرة 41 ) واعلم أن مقام التقوى مقام شريف قال تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ( النحل 128 ) وقال إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات 13 ) وعن ابن عباس قال عليه السلام ( من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده ) وقال علي بن أبي طالب التقوى ترك الإصرار عل المعصية وترك الاغترار وبالطاعة قال الحسن التقوى أن لا تختار عل الله سوى الله وتعلم أن الأمور كلها بيد الله وقال إبراهيم بن أدهم التقوى أن لا يجد الخلق في لسانك عيباً ولا الملائكة في أفعالك عيباً ولا ملك العرش في سرك عيباً وقال الواقدي التقوى أن تزين سرك للحق كما زينت ظاهرك للخلق ويقال التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك ويقال المتقي من سلك سبيل المصطفى ونبذ الدنيا وراء القفا وكلف نفسه الإخلاص والوفا واجتنب الحرام والجفا ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلا ما في قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ كفاه لأنه تعالى بين أن القرآن هدى للناس في قوله شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ ( البقرة 185 ) ثم قال ههنا في القرآن إنه هدي للمتقين فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس فمن لا يكون متقياً كأنه ليس بإنسان

المسألة الثالثة في السؤالات السؤال الأول كون الشيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص فلماذا جعل القرآن هدى للمتقين فقط وأيضاً فالمتقي مهتدى والمهتدي لا يهتدي ثانياً والقرآن لا يكون هدى للمتقين الجواب القرآن كما أنه هدى للمتقين ودلالة لهم على وجود الصانع وعلى دينه وصدق رسوله فهو أيضاً دلالة للكافرين إلا أن الله تعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) وقال إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِكْرَ ( ي س 11 ) وقد كان عليه السلام منذراً لكل الناس فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره وأما من فسر الهدى بالدلالة الموصلة إلى المقصود فهذا السؤال زائل عنه لأن كون القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلا في حق المتقين السؤال الثاني كيف وصف القرآن كله بأنه هدى وفيه مجمل ومتشابه كثير ولولا دلالة العقل لما تميز المحكم عن المتشابه فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن ومن هذا نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولاً إلى الخوارج لا تحتج عليهم بالقرآن فإنه حصم ذو وجهين ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب ذلك فيه ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر وبعضها صريح في القدر فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسف الشديد فكيف يكون هدى
الجواب أن ذلك المتشابه والمجمل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين وهو إما دلالة العقل أو دلالة السمع صار كله هدى السؤال الثالث كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه فإذن استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله تعالى وصفاته وفي معرفة النبوة ولا شك أن هذه المطالب أشرف المطالب فإذا لم يكن القرآن هدى فيها فكيف جعله الله تعالى هدى على الإطلاق
الجواب ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشرائع أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلق لا يقتضي العموم فإن الله تعالى وصفه بكونه هدى من غير تقييد في اللفظ مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة فثبت أن المطلق لا يفيد العموم
السؤال الرابع الهدى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره والقرآن ليس كذلك فإن المفسرين ما يذكرون آية إلا وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة وما يكون كذلك لا يكون مبيناً في نفسه فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره فكيف يكون هدى قلنا من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المتعارضة ولا يرجح واحداً منها على الباقي يتوجه عليه هو هذا السؤال وأما نحن فقد رجحنا واحداً على البواقي بالدليل فلا يتوجه علينا هذا السؤال
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) محل هُدًى لّلْمُتَّقِينَ الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر مع لاَ رَيْبَ فِيهِ لذلك أو مبتدأ إذا جعل الظرف المتقدم خبراً عنه ويجوز أن ينصب على الحال

والعامل فيه الإشارة أو الظرف والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يضرب عن هذا المجال صفحاً وأن يقال إن قوله الضَّالّينَ الم جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها و ذالِكَ الْكِتَابُ جملة ثانية و لاَ رَيْبَ فِيهِ ثالثة و هُدًى لّلْمُتَّقِينَ رابعة وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض والثانية متحدة بالأولى وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة
بيانه أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدي به ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقرير الجهة التحدي ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة بكماله ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ثم لم يخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق من نكتة ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر الذي هو هدى موضع الوصف الذي هو هادٍ وإيراده منكراً
اعلم أن فيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب الكشاف الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ أما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة أو منصوب أو مدح مرفوع بتقدير أعني الذين يؤمنون أو هم الذين وإما منقطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى فإذا كان موصولاً كان الوقف على المتقين حسناً غير تام وإذا كان منقطعاً كان وقفاً تاماً
المسألة الثانية قال بعضهم الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلاً للحسنات وتاركاً للسيآت أما الفعل فأما أن يكون فعل القلب وهو قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وأما أن يكون فعل الجوارح وأساسه الصلاة والزكاة والصدقة لأن العبادة أما أن تكون بدنية وأجلها الصلاة أو مالية وأجلها الزكاة ولهذا سمي الرسول عليه السلام ( الصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الإسلام ) وأما الترك فهو داخل في الصلاة لقوله تعالى اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ( العنكبوت 45 ) والأقرب أن لا تكون هذه الأشياء تفسيراً لكونهم متقين وذلك لأن كمال السعادة لا يحصل إلا بترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي فالترك هو التقوى والفعل إما فعل القلب وهو الإيمان أو فعل الجوارح وهو الصلاة والزكاة وإنما قدم التقوى الذي هو الترك على الفعل الذي هو الإيمان والصلاة والزكاة لأن القلب كاللوح القابل لنقوش العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة واللروح يجب تطهيره أولاً عن النقوش الفاسدة حتى يمكن إثبات النقوش الجيدة فيه وكذا القول في الأخلاق فلهذا السبب قدم التقوى وهو ترك ما لا ينبغي ثم ذكر بعده فعل ما ينبغي
المسألة الثالثة قال صاحب الكشاف الإيمان إفعال من الأمن ثم يقال آمنه إذا صدقه وحقيقته

آمنه من التكذيب والمخالفة وأما تعديته بالباء فلتضمنه معنى ( أقر وأعترف ) وأما ما حكى أبو زيد ما آمنت أن أجد صحابة أي ماوثقت فحقيقته صرت ذا أمن أي ذا سكون وطمأنينة وكلا الوجهين حسن في يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق وأقول اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان في عرف الشرع ويجمعهم فرق أربع
الفرقة الأولى الذين قالوا الإيمان اسم لأفعال القلوب والجوارح والإقرار باللسان وهم المعتزلة والخوارج والزيدية وأهل الحديث أما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله وبكل ما وضع الله عليه دليلاً عقلياً أو نقلياً من الكتاب والسنّة ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً فقالوا مجموع هذه الأشياء هو الإيمان وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر وأما المعتزلة فقد اتفقوا على أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد به التصديق ولذلك يقال فلان آمن بالله وبرسوله ويكون المراد التصديق إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية فلا يقال فلان آمن بكذا إذا صلى وصام بل يقال فلان آمن بالله كما يقال صام وصلى لله فالإيمان المعدي بالباء يجري على طريقة أهل اللغة أما إذا ذكر مطلقاً غير معدي فقد اتفقوا على أنه منقول من المسمى اللغوي الذي هو التصديق إلى معنى آخر ثم اختلفوا فيه على وجوه أحدها أن الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة أو من باب الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات وهو قول واصل بن عطاء وأبي الهذيل والقاضي عبد الجبار بن أحمد وثانيها أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل وهو قول أبي علي وأبي هاشم وثالثها أن الإيمان عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد فالمؤمن عند الله كل من اجتنب كل الكبائر والمؤمن عندنا كل من اجتنب كل ما ورد فيه الوعيد وهو قول النظام ومن أصحابه من قال شرط كونه مؤمناً عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها وأما أهل الحديث فذكروا وجهين الأول أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ثم كل معصية بعده كفر على حدة ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد الجحود والإنكار لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله وهو قول عبد الله بن سعيد بن كلاب الثاني زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها وهو إيمان واحد وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان ومن ترك شيئاً من الفرائض فقد انتقصإيمانه ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه ومنهم من قال الإيمان اسم للفرائض دون النوافل
الفرقة الثانية الذين قالوا الإيمان بالقلب واللسان معاً وقد اختلف هؤلاء على مذاهب الأول أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب وهو قول أبي حنيفة وعامة الفقهاء ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين أحدهما اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة فمنهم من فسرها بالاعتقاد الجازم سواء كان اعتقاداً تقليدياً أو كان علماً صادراً عن الدليل وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلد مسلم ومنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال وثانيهما اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقق الإيمان علم بماذا قال بعض المتكلمين هو العلم بالله وبصفاته على سبيل التمام والكمال ثم أنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله

تعالى لا جرم أقدم كل طائفة على تكفير من عداها من الطوائف وقال أهل الإنصاف المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم أو عالماً لذاته وبكونه مرئياً أو غيره لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان القول الثاني أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً وهو قول بشر بن عتاب المريسي وأبي الحسن الأشعري والمراد من التصديق بالقلب الكلام القائم بالنفس القول الثالث قول طائفة من الصوفية الإيمان إقرار باللسان وإخلاص بالقلب
الفرقة الثالثة الذين قالوا الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط وهؤلاء قد اختلفوا على قولين أحدهما أن الإيمان عبارة عن معرفة الله بالقلب حتى أن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقربه فهو مؤمن كامل الإيمان وهو قول جهم بن صفوان أما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلة في حد الإيمان وحكى الكعبي عنه أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيهما أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب وهو قول الحسين بن الفضل البجلي
الفرقة الرابعة الذين قالوا الإيمان هو الإقرار باللسان فقط وهم فريقان الأول أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط لكن شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيماناً لا أنها داخلة في مسمى الإيمان وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي وإن كان الكعبي قد أنكر كونه قولاً لغيلان الثاني أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان وهو قول الكرامية وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع والذي نذهب إليه أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب ونفتقر ههنا إلى شرح ماهية التصديق بالقلب فنقول أن من قال العالم محدث فليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفاً بالحدوث بل مدلولها حكم ذلك القائل بكون العالم حادثاً والحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث للعالم فهذا الحكم الذهني بالثبوت أو بالانتفاء أمر يعبر عنه في كل لغة بلفظ خاص واختلاف الصيغ والعبارات مع كون الحكم الذهني أمراً واحداً يدل على أن الحكم الذهني أمر مغاير لهذه الصيغ والعبارات ولأن هذه الصيغ دالة على ذلك الحكم والدال غير المدلول ثم نقول هذا الحكم الذهني غير العلم لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به فعلمنا أن هذا الحكم الذهني مغاير للعلم فالمراد من التصديق بالقلب هو هذا الحكم الذهني بقي ههنا بحث لفظي وهو أن المسمى بالتصديق في اللغة هو ذلك الحكم الذهين أم الصيغة الدالة على ذلك الحكم الذهني وتحقيق القول فيه قد ذكرناه في أصول الفقه إذا عرفت هذه المقدمة فنقول الإيمان عبارة عن التصديق بكل ما عرف بالضرورة كونه من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع الاعتقاد فنفتقر في إثبات هذا المذهب إلى إثبات قيود أربعة
القيد الأول أن الإيمان عبارة عن التصديق ويدل عليه وجوه الأول أنه كان في أصل اللغة للتصديق فلو صار في عرف الشرع لغير التصديق لزم أن يكون المتكلم به متكلماً بغير كلام العرب وذلك ينافي وصف القرآن بكونه عربياً الثاني أن الإيمان أكثر الألفاظ دوراناً على ألسنة المسلمين فلو صار

منقولاً إلى غير مسماه الأصلي لتوفرت الدواعي على معرفة ذلك المسمى ولاشتهر وبلغ إلى حد التواتر فلما لم يكن كذلك علمنا أنه بقي على أصل الوضع الثالث أجمعنا على أن الإيمان المعدي بحرف الباء مبقي على أصل اللغة فوجب أن يكون غير المعدي كذلك الرابع أن الله تعالى كلما ذكر الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب قال مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ( البقرة 41 ) وقوله وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ( النحل 106 ) كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( المجادلة 22 ) وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( الحجرات 14 ) الخامس أن الله تعالى أينما ذكر الإيمان قرن العمل الصالح به ولو كان العمل الصالح داخلاً في الإيمان لكان ذلك تكراراً السادس أنه تعالى كثيراً ذكر الإيمان وقرنه وبالمعاصي قال الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ( الأنعام 82 ) وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ ( الحجرات 9 ) واحتج ابن عباس على هذا بقوله تعالى الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 78 ) من ثلاثة أوجه أحدهما أن القصاص إنما يجب على القاتل المتعمد ثم أنه خاطبه بقوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فدل على أنه مؤمن وثانيها قوله فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء ( البقرة 178 ) وهذه الأخوة ليست إلا إخوة الإيمان لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ ( الحجرات 10 ) وثالثها قوله ذالِكَ تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَة ٌ ( البقرة 178 ) وهذا لا يليق إلا بالمؤمن ومما يدل على المطلوب قوله تعالى وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ ( الأنفال 72 ) هذا أبقى اسم الإيمان لمن لم يهاجر مع عظم الوعيد في ترك الهجرة في قوله تعالى الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ( النحل 28 ) وقوله مَالَكُمْ مّن وَلايَتِهِم مّن شَى ْء حَتَّى يُهَاجِرُواْ ( الأنفال 72 ) ومع هذا جعلهم مؤمنين ويدل أيضاً عليه قوله تعالى الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ( الممتحنة 1 ) وقال تَشْكُرُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ( الأنفال 27 ) وقوله تعالى تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً ( التحريم 8 ) والأمر بالتوبة لمن لا ذنب له محال وقوله وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً ءايَة ً الْمُؤْمِنُونَ ( النور 31 ) لا يقال فهذا يقتضي أن يكون كل مؤمن مذنباً وليس كذلك قولنا هب أنه خص فيما عدا المذنب فبقي فيهم حجة
القيد الثاني أن الإيمان ليس عبارة عن التصديق اللساني والدليل عليه قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ( البقرة 8 ) نفي كونهم مؤمنين ولو كان الإيمان بالله عبارة عن التصديق اللساني لما صح هذا النفي
القيد الثالث أن الإيمان ليس عبارة عن مطلق التصديق لأن من صدق بالجبت والطاغوت لا يسمى مؤمناً
القيد الرابع ليس من شرط الإيمان التصديق بجميع صفات الله عزّ وجلّ لأن الرسول عليه السلام كان يحكم بإيمان من لم يخطر بباله كونه تعالى عالماً لذاته أو بالعلم ولو كان هذا القيد وأمثاله شرطاً معتبراً في تحقيق الإيمان لما جاز أن يحكم الرسول بإيمانه قبل أن يجربه في أنه هل يعرف ذلك أم لا فهذا هو بيان القول في تحقيق الإيمان فإن قال قائل ها هنا صورتان الصورة الأولى من عرف الله تعالى بالدليل

والبرهان ولما تم العرفان مات ولم يجد من الزمان والوقت ما يتلفظ فيه بكلمة الشهادة فههنا أن حكمتم أنه مؤمن فقد حكمتم بأن الإقرار اللساني غير معتبر في تحقيق الإيمان وهو خرق للإجماع وإن حكمتم بأنه غير مؤمن فهو باطل لقوله عليه السلام ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) وهذا قلب طافح بالإيمان فكيف لا يكون مؤمناً الصورة الثانية من عرف الله تعالى بالدليل ووجد من الوقت ما أمكنه أن يتلفظ بكلمة الشهادة ولكنه لم يتلفظ بها فإن قلتم إنه مؤمن فهو خرق للإجماع وإن قلتم ليس بؤمن فهو باطل لقوله عليه السلام ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ) ولا ينتقي الإيمان من القلب بالسكوت عن النطق
والجواب أن الغزالي منع من هذا الإجماع في الصورتين وحكم بكونهما مؤمنين وإن الامتناع عن النطق يجري مجرى المعاصي التي يؤتى بها مع الإيمان
المسألة الرابعة قيل الْغَيْبَ مصدر أقيم مقام اسم الفاعل كالصوم بمعنى الصائم والزور بمعنى الزائر ثم في قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قولان الأول وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني أن قوله بِالْغَيْبِ صفة المؤمنين معناه أنهم يؤمنون بالله حال الغيب كما يؤمنون به حال الحضور لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون ونظيره قوله تعالى ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ( يوسف 52 ) ويقول الرجل لغيره نعم الصديق لك فلان بظهر الغيب وكل ذلك مدح للمؤمنين بكون ظاهرهم موافقاً لباطنهم ومباينتهم لحال المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والثاني وهو قول جمهور المفسرين أن الغيب هو الذي يكون غائباً عن الحاسة ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل وإلى ما ليس عليه دليل فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب الذي دل عليه دليل بأن يتفكروا ويستدلوا فيؤمنوا به وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله تعالى وبصفاته والعلم بالآخرة والعلم بالنبوة والعلم بالأحكام وبالشرائع فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقة فيصلح أن يكون سبباً لاستحقاق الثناء العظيم واحتج أبو مسلم على قوله بأمور الأول أن قوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالأْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ ( البقرة 4 ) إيمان بالأشياء الغائبة فلو كان المراد من قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه وأنه غير جائز الثاني لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب وهو خلاف قوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) أما لو فسرنا الآية بما قلنا لا يلزم هذا المحذور الثالث لفظ الغيب إنما يجوز إطلاقه على من يجوز عليه الحضور فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله تعالى وصفاته فقوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذات الله تعالى وصفاته ولا يبقى فيه إلا الإيمان بالآخرة وذلك غير جائز لأن الركن العظيم في الإيمان هو الإيمان بذات الله وصفاته فكيف يجوز حمل اللفظ على معنى يقتضي خروج الأصل أما لو حملناه على التفسير الذي اخترناه لم يلزمنا هذا المحذور
والجواب عن الأول أن قوله يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يتناول الإيمان بالغائبات على الإجمال ثم بعد ذلك قوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يتناول الإيمان ببعض الغائبات فكان هذا من باب عطف التفصيل على الجملة وهو جائز كما في قوله وَمَلَئِكَتُهُ وَجِبْرِيلُ وَرُسُلِهِ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) وعن الثاني أنه لا نزاع في أنا نؤمن بالأشياء الغائبة عنا فكان ذلك التخصيص لازماً على

الوجهين جميعاً فإن قيل أفتقولون العبد يعلم الغيب أم لا قلنا قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل وإلى ما لا دليل عليه أما الذي لا دليل عليه فهو سبحانه وتعالى العالم به لا غيره وأما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن تقول نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل ويفيد الكلام فلا يلتبس وعلى هذا الوجه قال العلماء الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة وعن الثالث لا نسلم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور والدليل على ذلك أن المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشاهد ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته والله أعلم
المسألة الخامسة قال بعض الشيعة المراد بالغيب المهدي المنتظر الذي وعد الله تعالى به في القرآن والخبر أما القرآن فقوله وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( النو 55 ) وأما الخبر فقوله عليه السلام ( لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً ) واعلم أن تخصيص المطلق من غير الدليل باطل
المسألة السادسة ذكروا في تفسير إقامة الصلاة وجوهاً أحدها أن إقامتها عبارة عن تعديل أركانها وحفظها من أن يقع خلل في فرائضها وسننها وآدابها من أقام العود إذا قومه وثانيها أنها عبارة عن المداومة عليها كما قال تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ وقال الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ ( المعارج 34 ) من قامت السوق إذا نفقت وأقامتها نفاقها لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي نتوجه إليه الرغبات وإذا أضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه وثالثها أنها عبارة عن التجرد لأدائها وأن لا يكون في مؤديها فتور من قولهم قام بالأمر وقامت الحرب على ساقها وفي ضده قعد عن الأمر وتقاعد عنه إذا تقاعس وتثبط ورابعها إقامتها عبارة عن أدائها وإنما عبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنها بالقنوت وبالركوع وبالسجود وقالوا سبح إذا صلى لوجود التسبيح فيها قال تعالى فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ ( الصافات 143 ) وإعلم أن الأولى حمل الكلام على ما يحصل معه من الثناء العظيم وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا الإقامة على إدامة فعلها من غير خلل في أركانها وشرائطها ولذلك فإن القيم بأرزاق الجند إنما يوصف بكونه قيماً إذا أعطي الحقوق من دون بخس ونقص ولهذا يوصف الله تعالى بأنه قائم وقيوم لأنه يجب دوام وجوده ولأنه يديم إدرار الرزق على عباده
المسألة السابعة ذكروا في لفظ الصلاة في أصل اللغة وجوهاً أحدها أنها الدعاء قال الشاعر فوقابلها الريح في دنها
وصلى على دنها وارتشم
وثانيها قال الخارزنجي اشتقاقها من الصلى وهي النار من قولهم صليت العصا إذا قومتها بالصلى فالمصلي كأنه يسعى في تعديل باطنه وظاهره مثل من يحاول تقويم الخشبة بعرضها على النار وثالثها أن الصلاة عبارة عن الملازمة من قوله تعالى تَصْلَى نَاراً حَامِيَة ً ( لغشية 4 ) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ ( المسد 3 ) وسمي الفرس الثاني من أفراس المسابقة مصلياً ورابعها قال صاحب الكشاف الصلاة فعلة من ( صلى ) كالزكاة من ( زكى ) وكتبتها بالواو على لفظ المفخم وحقيقة صلى حرك الصلوين

لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده وقيل الداعي مصلى تشبيهاً له في تخشعه بالراكع والساجد وأقول ها هنا بحثان
الأول إن هذا الاشتقاق الذي ذكره صاحب الكشاف يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة وذلك لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة وأكثرها دوراناً على ألسنة المسلمين واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهاراً فيما بين أهل النقل ولو جوزنا أن يقال مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره ثم أنه خفي ولدارس حتى صار بحيث لا يعرفه إلا الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزاً ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد الله تعالى من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المعاني في زماننا هذا لاحتمال أنها كانت في زمان الرسول موضوعة لمعان أخر وكان مراد الله تعالى منها تلك المعاني إلا أن تلك المعاني خفيت في زماننا واندرست كما وقع مثله في هذه اللفظة فلما كان ذلك باطلاً بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل
الثاني الصلاة في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة يتلو بعضها بعضاً مفتتحة بالتحريم مختتمة بالتحليل وهذا الاسم يقع على الفرض والنفل لكن المراد بهذه الآية الفرض خاصة لأنه الذي يقف الصلاح عليه لأنه عليه السلام لما بين للإعرابي صفة الصلاة المفروضة قال والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أفلح إن صدق )
المسألة الثامنة الرزق في كلام العرب هو الحظ قال تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ ( الواقعة 82 ) أي حظكم من هذا الأمر والحظ هو نصيب الرجل وما هو خاص له دون غيره ثم قال بعضهم الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل وهو باطل لأن الله تعالى أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ( الرعد 22 ) فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه وقال آخرون الرزق هو ما يملك وهو أيضاً باطل لأن الإنسان قد يقول اللهم ارزقني ولداً صالحاً أو زوجة صالحة وهو لا يملك الولد ولا الزوجة ويقول اللهم ارزقني عقلاً أعيش به وليس العقل بمملوك وأيضاً البهيمة يكون لها رزق ولا يكون لها ملك وأما في عرف الشرع فقد اختلفوا فيه فقال أبو الحسين البصري الرزق هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به فإذا قلنا قد رزقنا الله تعالى الأموال فمعنى ذلك أنه مكننا من الانتفاع بها وإذا سألناه تعالى أن يرزقنا مالاً فإنا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخص وإذا سألناه أن يرزق البهيمة فإنا نقصد بذلك أن يجعلها به أخص وإنما تكون به أخص إذا مكنها من الانتفاع به ولم يكن لأحد أن يمنعها من الانتفاع به واعلم أن المعتزلة لما فسروا الرزق بذلك لا جرم قالوا الحرام لا يكون رزقاً وقال أصحابنا الحرام قد يكون رزقاً فحجة الأصحاب من وجهين الأول أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه فمن انتفع بالحرام فذلك الحرام صار حظاً ونصيباً فوجب أن يكون رزقاً له الثاني أنه تعالى قال وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ( هود 6 ) وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة فوجب أن يقال أنه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئاً أما المعتزلة فقد احتجوا بالكتاب والسنة والمعنى أما الكتاب فوجوه أحدها قوله

تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام وذلك باطل بالاتفاق وثانيها لو كان الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه لقوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ( البقرة 254 ) وأجمع المسلون على أنه لا يجوز للغاصب أن ينفق مما أخذه بل يجب عليه رده فدل على أن الحرم لا يكون رزقاً وثالثها قوله تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ اللَّهِ أَذِنَ لَكُمْ ( يونس 59 ) فبين أن من حرم رزق الله فهو مفتر على الله فثبت أن الحرام لا يكون رزقاً وأما السنة فما رواه أبو الحسين في كتاب الغرر بإسناده عن صفوان بن أمية قال كنا عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ جاءه عمرو بن قرة فقال له يا رسول الله إن الله كتب على الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأئذن لي في الغناء من غير فاحشة فقال عليه السلام ( لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله رزقاً طيباً فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله أما إنك لو قلت بعد هذه المقدمة شيئاً ضربتك ضرباً وجيعاً ) وأما المعنى فإن الله تعالى منع المكلف من الانتفاع بالحرام وأمر غيره بمنعه منه والانتفاع به من منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال أنه رزقه إياه ألا ترى أنه لا يقال أن السلطن قد رزق جنده مالاً قد منعهم من أخذه وإنما يقال إنه رزقهم ما مكنهم من أخذه ولا يمنعهم منه ولا أمر بمنعهم منه أجاب أصحابنا عن التمسك بالآيات بأنه وإن كان لكل من الله لكنه كما يقال يا خالق المحدثات والعرش والكرسي ولا يقال يا خالق الكلاب والخنازير وقال عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( الإنسان 6 ) فخص اسم العباد بالمتقين وإن كان الكفار أيضاً من العباد وكذلك ها هنا خص اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف وإن كان الحرام رزقاً أيضاً وأجابوا عن التمسك بالخبر بأنه حجة لنا لأن قوله عليه السلام ( فاخترت ما حرم االله عليك من رزقه ) صريح في أن الرزق قد يكون حراماً وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة محض للغة وهو أن الحرام هل يسمى رزقاً أم لا ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ والله أعلم
المسألة التاسعة أصل الإنفاق إخراج المال من اليد ومنه نفق المبيع نفاقاً إذا كثر المشترون له ونفقت الدابة إذا ماتت أي خرج روحها ونافقاء الفأرة لأنها تخرج منها ومنه النفق في قوله تعالى أَن تَبْتَغِى َ نَفَقاً فِى الاْرْضِ ( الأنعام 35 )
المسألة العاشرة في قوله وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فوائد أحدها أدخل من التبعيضية صيانة لهم وكفى عن الإسراف والتبذير المنهي عنه وثانيها قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم كأنه قال ويخصون بعض المال بالتصدق به وثالثها يدخل في الإنفاق المذكور في الآية الإنفاق الواجب والإنفاق المندوب والإنفاق الواجب أقسام أحدها الزكاة وهي قوله في آية الكنز وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( التوبة 34 ) وثانيها الإنفاق على النفس وعلى من تجب عليه نفقته وثالثها الإنفاق في الجهاد وأما الإنفاق المندوب فهو أيضاً إنفاق لقوله وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ وأراد به الصدقة لقوله بعده فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ ( المنافقون 10 ) فكل هذه الإنفاقات داخلة تحت الآية لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالأْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ
اعلم أن قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) عام يتناول كل من آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما السلام أو ما كان مؤمناً بهما ودلالة اللفظ العام على بعض ما دخل فيه التخصيص أضعف من دلالة اللفظ الخاص على ذلك البعض لأن العام يحتمل التخصيص والخاص لا يحتمله فلما كانت هذه السورة مدنية وقد شرف الله تعالى المسلمين بقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 2 3 ) فذكر بعد ذلك أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسول كعبد الله بن سلام وأمثاله بقوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ لأن في هذا التخصيص بالذكر مزيد تشريف لهم كما في قوله تعالى مَن كَانَ عَدُوّا اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) ثم تخصيص عبد الله بن سلام وأمثاله بهذا التشريف ترغيب لأمثاله في الدين فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذلك العام ثم نقول أما قوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ففيه مسائل
المسألة الأولى لا نزاع بين أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد منه التصديق فإذا قلنا فلان آمن بكذا فالمراد أنه صدق به ولا يكون المراد أنه صام وصلى فالمراد بالإيمان ها هنا التصديق بالأَتفاق لكن لا بدّ معه من المعرفة لأن الإيمان ها هنا خرج مخرج المدح والمصدق مع الشك لا يأمن أن يكن كاذباً فهو إلى الذم أقرب
المسألة الثانية المراد من إنزال الوحي وكون القرآن منزلاً ومنزلاً ومنزولاً به أن جبريل عليه السلام سمع في السماء كلام الله تعالى فنزل على الرسول به وهذا كما يقال نزلت رسالة الأمير من القصر والرسالة لا تنزل لكن المستمع يسمع الرسالة من علو فينزل ويؤيدي في سفل وقوله الأمير لا يفارق ذاته ولكن السامع يسمع فينزل ويؤدي بلفظ نفسه ويقال فلان ينقل الكلام إذا سمع في موضع وأداه في موضع آخر فإن قيل كيف سمع جبريل كلام الله تعالى وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم قلنا يحتمل أن يخلق الله تعالى له سمعاً لكلامه ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم ويجوز أن يكون الله خلق في اللوح المحفوظ كتابة بهذا النظم المخصوص فقرأه جبريل عليه السلام فحفظه ويجوز أن يخلق الله أصواتاً مقطعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فيتلفقه جبريل عليه السلام ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام القديم
المسألة الثالثة قوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ هذا الإيمان واجب لأنه قال في آخره وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( البقرة 5 ) فثبت أن من لم يكن له هذا الإيمان وجب أن لا يكون مفلحاً وإذا ثبت أنه واجب وجب تحصيل العلم بما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التفصيل لأن المرء لا يمكنه أن يقوم بما أوجبه الله عليه علماً وعملاً إلا إذا علمه على سبيل التفصيل لأنه إن لم يعلمه كذلك امتنع عليه القيام به إلا أن تحصيل هذا العلم واجب على سبيل الكفاية فإن تحصيل العلم بالشرائع

النازلة على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التفصيل غير واجب على العامة وأما قوله وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ فالمراد به ما أنزل على الأنبياء الذين كانوا قبل محمد والإيمان به واجب على الجملة لأن الله تعالى ما تعبدنا الآن به حتى يلزمنا معرفته على التفصيل بل إن عرفنا شيئاً من تفاصيله فهناك يجب علينا الإيمان بتلك التفاصيل وأما قوله وَبِالأْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى الآخرة صفة الدار الآخرة وسميت بذلك لأنها متأخرة عن الدنيا وقيل للدنيا دنيا لأنها أدنى من الآخرة
المسألة الثانية اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه فلذلك لا يقول القائل تيقنت وجود نفسي وتيقنت أن السماء فرقي لما أن العلم به غير مستدرك ويقال ذلك في العلم الحادث بالأمور سواء كان ذلك العلم ضرورياً أو استدلالياً فيقول القائل تيقنت ما أردته بهذا الكلام وإن كان قد علم مراده بالاضطرار ويقول تيقنت أن الإله واحد وإن كان قد علمه بالاكتساب ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه يتيقن الأشياء
المسألة الثالثة أن الله تعالى مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة ومعلوم أنه لا يمدح المرء بأن يتيقن وجود الآخرة فقط بل لا يستحق المدح إلا إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب والسؤال وإدخال المؤمنين الجنة والكافرين النار روى عنه عليه السلام أنه قال ( يا عجبا كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه وعجباً ممن يعرف النشأة الأولى ثم ينكر النشأة الآخرة وعجباً ممن ينكر البعث والنشور وهو في كل يوم وليلة يموت ويحيا يعني النوم واليقظة وعجباً ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور وعجباً من المتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة )
أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه ثلاثة أحدها أن ينوي الابتداء بِالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) وذلك لأنه لما قيل هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) فخص المتقين بأن الكتاب هدى لهم كان لسائل أن يسأل فيقول ما السبب في اختصاص المتقين بذلك فوقع قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إلى قوله وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ جواباً عن هذا السؤال كأنه قيل الذي يكون مشتغلاً بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والفوز بالفلاح والنجاة لا بدّ وأن يكون على هدى من ربه وثانيها أن لا ينوي الابتداء به بل يجعله تابعاً لّلْمُتَّقِينَ ثم يقع الابتداء من قوله أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهِمْ كأنه قيل أي سبب في أن صار الموصوفون بهذه الصفات مختصين بالهدى فأجيب بأن أولئك الموصفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلاً وبالفلاح آجلاً وثالثها أن يجعل الموصول الأول صفة الْمُتَّقِينَ ويرفع الثاني على الابتداء و أُوْلَائِكَ خبره ويكون المراد جعل اختصاصهم بالفلاح والهدى تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا

بنبوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله تعالى
المسألة الثانية معنى الاستعلاء في قوله عَلَى هُدًى بيان لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه حيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ونظيره ( فلان على الحق أو على الباطل ) وقد صرحوا به في قولهم ( جعل الغواية مركباً وامتطى الجهل ) وتحقيق القول في كونهم على الهدى تمسكهم بموجب الدليل لأن الواجب على المتمسك بالدليل أن يدوم على ذلك ويحرسه عن المطاعن والشبه فكأنه تعالى ومدحهم بالإيمان بما أنزل عليه أولاً مدحهم بالإقامة على ذلك والمواظبة على حراسته عن الشبه ثانياً وذلك واجب على المكلف لأنه إذا كان متشدداً في الدين خائفاً وجلا فلا بدّ من أن يحاسب نفسه في علمه وعمله ويتأمل حاله فيهما فإذا حرس نفسه عن الإخلال كان ممدوحاً بأنه على هدى وبصيرة وإنما نكر هُدًى ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه ولا يقدر قدره كما يقال لو أبصرت فلاناً لأبصرت رجلاً قال عون بن عبد الله الهدى من الله كثير ولا يبصره إلا بصير ولا يعمل به إلا يسير ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء ولا يهتدى بها إلا العلماء
المسألة الثالثة في تكرير أُوْلَائِكَ تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح أيضاً فقد تميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين فإن قيل فلم جاء مع العاطف وما الفرق بينه وبين قوله أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ( الأعراف 179 ) قلنا قد اختلف الخبران هنا فلذلك دخل العاطف بخلاف الخبرين ثمت فإنهمامتفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد وكانت الجملة الثانية مقررة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل
المسألة الرابعة هُمْ فصل وله فائدتان إحداهما الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة وثانيتهما حصر الخبر في المبتدأ فإنك لو قلت الإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان أما لو قلت الإنسان هو الضاحك فهذا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان
المسألة الخامسة معنى التعريف في الْمُفْلِحُونَ الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك فاستخبرت من هو فقيل زيد التائب أي هو الذي أخبرت بتوبته أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحون فهم هم كما تقول لصاحبك هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام إن زيداً هو هو
المسألة السادسة المفلح الظافر بالمطلوب كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه والمفلح بالجيم مثله والتركيب دال على معنى الشق والفتح ولهذا سمي الزراع فلاحاً ومشقوق الشفة السفلى أفلح وفي المثل ( الحديد بالحديد يفلح ) وتحقيقه أن الله تعالى لما وصفهم بالقيام بما يلزمهم علماً وعملاً بين نتيجة ذلك وهو الظفر بالمطلوب الذي هو النعيم الدائم من غير شوب على وجه الإجلال والإعظام لأن ذلك هو الثواب المطلوب للعبادات
المسألة السابعة هذه الآيات يتمسك الوعيدية بها من وجه والمرجئة من وجه آخر أما الوعيدية فمن وجهين الأول أن قوله وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يقتضي الحصر فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن لا

يكون مفلحاً وذلك يوجب القطع على وعيد تارك الصلاة والزكاة الثاني أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم فيلزم أن تكون علة الفلاح هي فعل الإيمان والصلاة والزكاة فمن أخل بهذه الأشياء لم يحصل له علة الفلاح فوجب أن لا يحصل الفلاح أما المرجئة فقد احتجوا بأن الله حكم بالفلاح على الموصوفين بالصفات المذكروة في هذه الآية فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحاً وإن زنى وسرق وشرب الخمر وإذا ثبت في هذه الطائفة تحقق العفو ثبت في غيرهم ضرورة إذ لا قائل بالفرق والجواب أن كل واحد من الاحتجاجين معارض بالآخر فيتساقطان ثم الجواب عن قول الوعيدية أن قوله وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يدل على أنهم الكاملون في الفلاح فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل في الفلاح ونحن نقول بموجب فإنه كيف يكون كاملاً في الفلاح وهو غير جازم بالخلاص من العذاب بل يجوز له أن يكون خائفاً منه وعن الثاني أن نفي السبب الواحد لا يقتضي نفي المسبب فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تعالى والجواب عن قول المرجئة أن وصفهم بالتقوى يكفي في نيل الثواب لأنه يتضمن إتقاء المعاصي وإتقاء ترك الواجبات والله أعلم
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن في الآية مسائل نحوية ومسائل أصولية ونحن نأتي عليها إن شاء الله تعالى أما قوله ءانٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن ءانٍ حرف والحرف لا أصل له في العمل لكن هذا الحرف أشبه الفعل صورة ومعنى وتلك المشابهة تقتضي كونها عاملة وفيه مقدمات المقدمة الأولى في بيان المشابهة واعلم أن هذه المشابهة حاصلة في اللفظ والمعنى أما في اللفظ فلأنها تركبت من ثلاثة أحرف وانفتح آخرها ولزمت الأسماء كالأفعال ويدخلها نون الوقاية نحو إنني وكأنني كما يدخل على الفعل نحو أعطاني وأكرمني وأما المعنى فلأنها تفيد حصول معنى في الاسم وهو تأكد موصوفيته بالخبر كما أنك إذا قلت قام زيد فقولك قام أفاد حصول معنى في الاسم المقدمة الثانية أنها لما أشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل وذلك ظاهر بناءً على الدوران المقدمة الثالثة في أنها لم نصبت الاسم ورفعت الخبر وتقريره أن يقال إنها لما صارت عاملة فأما أن ترفع المبتدأ والخبر معاً أو تنصبهما معاً أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر وبالعكس والأول باطل لأن المبتدأ والخبر كانا قبل دخول ءانٍ عليهما مرفوعين فلو بقيا كذلك بعد دخولها عليهما لما ظهر له أثر البتة ولأنها أعطيت عمل الفعل والفعل لا يرفع الإسمين فلا معنى للاشتراك والفزع لا يكون أقوى من الأصل والقسم الثاني أيضاً باطل لأن هذا أيضاً مخالف لعمل الفعل لأن الفعل لا ينصب شيئاً مع خلوه عما يرفعه والقسم الثالث أيضاً باطل لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع فإن الفعل يكون عمله في الفاعل أولاً بالرفع ثم في المفعول بالنصب فلو جعل الحرف ههنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع ولما بطلت الأقسام الثلاثة تعين القسم الرابع وهو أنها تنصب الاسم وترفع

الخبر وهذا مما ينبه على أن هذه الحروف دخيلة في العمل لا أصلية لأن تقديم المنصوب على المرفوع في باب الفعل عدول عن الأصل فذلك يدل ههنا على أن العمل لهذه الحروف ليس بثابت بطريق الأصالة بل بطريق عارض
المسألة الثانية قال البصريون هذا الحرف ينصب الاسم ويرفع الخبر وقال الكوفيون لا أثر له في رفع الخبر بل هو مرتفع بما كان مرتفعاً به قبل ذلك حجة البصريين أن هذه الحروف تشبه الفعل مشابهة تامة على ما تقدم بيانه والفعل له تأثير في الرفع والنصب فهذه الحروف يجب أن تكون كذلك وحجة الكوفيين من وجهين الأول أن معنى الخبرية باقٍ في خبر المبتدأ وهو أولى باقتضاء الرفع فتكون الخبرية رافعة وإذا كانت الخبرية رافعة استحال ارتفاعه بهذه الحروف فهذه مقدمات ثلاثة إحداها قولنا الخبرية باقية وذلك ظاهر لأن المراد من الخبرية كون الخبر مسنداً إلى المبتدأ وبعد دخول حرف ( إن ) عليه فذاك الإسناد باقٍ وثانيها قولنا الخبرية ههنا مقتضية للرفع وذلك لأن الخبرية كانت قبل دخول ( إن ) مقتضية للرفع ولم يكن عدم الحرف هناك جزءاً من المقتضى لأن العدم لا يصلح أن يكون جزء العلة فبعد دخول هذه الحروف كانت الخبرية مقتضية للرفع لأن المقتضى بتمامه لو حصل ولم يؤثر لكان ذلك لمانع وهو خلاف الأصل وثالثها قولنا الخبرية أولى بالاقتضاء وبيانه من وجهين الأول أن كونه خبراً وصف حقيقي قائم بذاته وذلك الحرف أجنبي مباين عنه وكما أنه مباين عنه فغير مجاور له لأن الاسم يتخللهما الثاني أن الخبر يشابه الفعل مشابهة حقيقية معنوية وهو كون كل واحد منهما مسنداً إلى الغير أما الحرف فإنه لا يشابه الفعل في وصف حقيقي معنوي فإنه ليس فيه إسناد فكانت مشابهة الخبر للفعل أقوى من مشابهة هذا الحرف للفعل فإذا ثبت ذلك كانت الخبرية باقتضاء الرفع لأجل مشابهة الفعل أولى من الحرف بسبب مشابهته للفعل ورابعها لما كانت الخبرية أقوى في اقتضاء الرفع استحال كون هذا الحرف رافعاً لأن الخبرية بالنسبة إلى هذا الحرف أولى وإذا كان كذلك فقد حصل الحكم بالخبرية قبل حصول هذا الحرف فيعد وجود هذا الحرف لو أسند هذا الحكم إليه لكان ذلك تحصيلاً للحاصل وهو محال الوجه الثاني أن سيبويه وافق على أن الحرف غير أصل في العمل فيكون إعماله على خلاف الدليل وما ثبت على خلاف الدليل يقدر بقدر الضرورة والضرورة تندفع بأعمالها في الاسم فوجب أن لا يعملها في الخبر
المسألة الثالثة روى الأنباري أن الكندي المتفلسف ركب إلى المبرد وقال إني أجد في كلام العرب حشوا أجد العرب تقول عبد الله قائم ثم تقول إن عبد الله قائم ثم تقول إن عبد الله لقائم فقال المبرد بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم عبد الله قائم إخبار عن قيامه وقولهم إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل وقولهم إن عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر لقيامه واحتج عبد القاهر على صحة قوله بأنها إنما تذكر جواباً لسؤال السائل بأن قال إنا رأيناهم قد ألزموها الجملة من المبتدأ والخبر إذا كان جواباً للقسم نحو والله إن زيداً منطلق ويدل عليه من التنزيل قوله وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاْرْضِ ( الكهف 83 ) وقوله في أول السورة نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقّ إِنَّهُمْ فِتْيَة ٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ ( الكهف 13 ) وقوله فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ ( الشعاء 216 ) وقوله قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( الأنعام 56 ) وقوله وَقُلْ إِنّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ( االحج 89 )

وأشباه ذلك مما يعلم أنه يدل على أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يجيب به الكفار في بعض ما جادلوا ونظروا فيه وعليه قوله فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الاشعراء 16 ) وقوله وَقَالَ مُوسَى يافِرْعَوْنُ فِرْعَونُ إِنّى رَسُولٌ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ ( االأعراف 104 ) وفي قصة السحرة إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ ( الأعراف 125 ) إذ من الظاهر أنه جواب فرعون عن قوله قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ ( طه 71 الشعراء 49 ) وقال عبد القاهر والتحقيق أنها للتأكيد وإذا كان الخبر بأمر ليس للمخاطب ظن في خلافه لم يحتج هناك إلى ( إن ) وإنما يحتاج إليها إذا كان السامع ظن الخلاف ولذلك تراها تزداد حسناً إذا كان الخبر بأمر يبعد مثله كقول أبي نواس فعليك باليأس من الناس
إن غنى نفسك في الياس
وإنماحسن موقعها لأن الغالب أن الناس لا يحملون أنفسهم على اليأس وأما جعلها مع اللام جواباً للمنكر في قولك ( إن زيداً لقائم ) فجيد لأنه إذا كان الكلام مع المنكر كانت الحاجة إلى التأكيد أشد وكما يحتمل أن يكون الإنكار من السامع احتمل أيضاً أن يكون من الحاضرين واعلم أنها قد تجيء إذا ظن المتكلم في الذي وجد أنه لا يوجد مثل قولك إنه كان مني إليه إحسان فعاملني بالسوء فكأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وتبين الخطأ في الذي توهمت وعليه قوله تعالى حكاية عن أم مريم قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ( آل عمران 36 ) وكذلك قول نوح عليه السلام قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ ( الشعراء 117 )
أما قوله تعالى الَّذِينَ كَفَرُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه صعب على المتكلمين ذكر حد الكفر وتحقيق القول فيه أن كل ما ينقل عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنه ذهب إليه وقال به فإما أن يعرف صحة ذلك النقل بالضرورة أو بالاستدلال أو بخبر الواحد أما القسم الأول وهو الذي عرف بالضرورة مجيء الرسول عليه السلام به فمن صدقه في كل ذلك فهو مؤمن ومن لم يصدقه في ذلك فأما بأن لا يصدقه في جميعها أو بأن لا يصدقه في البعض دون البعض فذلك هو الكافر فإذن الكفر عدم تصديق الرسول في شيء مما علم بالضرورة مجيئه به ومثاله من أنكر وجود الصانع أو كونه عالماً قادراً مختاراً أو كونه واحداً أو كونه منزهاً عن النقائص والآفات أو أنكر نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو صحة القرآن الكريم أو أنكر الشرائع التي علمنا بالضرورة كونها من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كوجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج وحرمة الربا والخمر فذلك يكون كافراً لأنه ترك تصديق الرسول فيما علم بالضرورة أنه من دينه فأما الذي يعرف بالدليل أنه من دينه مثل كونه عالماً بالعلم أو لذاته وأنه مرئي أو غير مرئي وأنه خالق أعمال العباد أم لا فلم ينقل بالتواتر القاطع لعذر مجيئه عليه السلام بأحد القولين دون الثاني بل إنما يعلم صحة أحد القولين وبطلان الثاني بالاستدلال فلا جرم لم يكن إنكاره ولا الإقرار به داخلاً في ماهية الإيمان فلا يكون موجباً للكفر والدليل عليه أنه لو كان ذلك جزء ماهية الإيمان لكان يجب على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يعرف أنه هل يعرف الحق في تلك المسألة ولو كان الأمر كذلك لاشتهر قوله في تلك المسألة بين جميع الأمة ولنقل ذلك على سبيل التواتر فلما لم ينقل ذلك دل على أنه عليه السلام ما وقف الإيمان عليها وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون معرفتها من الإيمان ولا إنكارها موجباً للكفر ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من هذه الأمة ولا نكفر أرباب التأويل

وأما الذي لا سبيل إليه إلا برواية الآحاد فظاهر أنه لا يمكن توقف الكفر والإيمان عليه فهذا قولنا في حقيقة الكفر فإن قيل يبطل ما ذكرتم من جهة العكس بلبس الغيار وشد الزنار وأمثالهما فإنه كفر مع أن ذلك شيء آخر سوى ترك تصديق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما علم بالضرورة مجيئه به قلنا هذه الأشياء في الحقيقة ليست كفراً لأن التصديق وعدمه أمر باطن لا اطلاع للخلق عليه ومن عادة الشرع أنه لا يبني الحكم في أمثال هذه الأمور على نفس المعنى لأنه لا سبيل إلى الاطلاع بل يجعل لها معرفات وعلامات ظاهرة ويجعل تلك المظان الظاهرة مداراً للأحكام الشرعية وليس الغيار وشد الزنار من هذا الباب فإن الظاهر أن من يصدق الرسول عليه السلام فإنه لا يأتي بهذه الأفعال فحيث أتى بها دل على عدم التصديق فلا جرم الشرع يفرع الأحكام عليها لا أنها في أنفسها كفر فهذا هو الكلام الملخص في هذا الباب والله أعلم
المسألة الثانية قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إخبار عن كفرهم بصيغة الماضي والأخبار عن الشيء بصيغة الماضي يقتضي كون المخبر عنه متقدماً على ذلك الأخبار إذا عرفت هذا فنقول احتجت المعتزلة بكل ما أخبر الله عن شيء ماضٍ مثل قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أو إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً ( نوح 1 ) على أن كلام الله محدث سواء كان الكلام هذه الحروف والأصوات أو كان شيئاً آخر قالوا لأن الخبر على هذا الوجه لا يكون صدقاً إلا إذا كان مسبوقاً بالخبر عنه والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير فهذا الخبر يستحيل أن يكون قديماً فيجب أن يكون محدثاً أجاب القائلون بقدم الكلام عنه من وجهين الأول أن الله تعالى كان في الأزل عالماً بأن العالم سيوجد فلما أوجده انقلب العلم بأنه سيوجد في المستقبل علماً بأنه قد حدث في الماضي ولم يلزم حدوث علم لله تعالى فلم لا يجوز أيضاً أن يقال إن خبر الله تعالى في الأزل كان خبراً بأنهم سيكفرون فلما وجد كفرهم صار ذلك الخبر خبراً عن أنهم قد كفروا ولم يلزم حدوث خبر الله تعالى الثاني أن الله تعالى قال لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ( الفتح 27 ) فلما دخلوا المسجد لا بدّ وأن ينقلب ذلك الخبر إلى أنهم قد دخلوا المسجد الحرام من غير أن يتغير الخبر الأول فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز في مسألتنا مثله أجاب المستدل أولاً عن السؤال الأول فقال عند أبي الحسين البصري وأصحابه العلم يتغير عند تغير المعلومات وكيف لا والعلم بأن العالم غير موجود وأنه سيوجد لو بقي حال وجود العالم لكان ذلك جهلاً لا علماً وإذا كان كذلك وجب تغير ذلك العلم وعلى هذا سقطت هذه المعارضة وعن الثاني أن خبر الله تعالى وكلامه أصوات مخصوصة فقوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ معناه أن الله تعالى تكلم بهذا الكلام في الوقت المتقدم على دخول المسجد لا أنه تكلم به بعد دخول المسجد فنظيره في مسألتنا أن يقال إن قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ تكلم الله تعالى به بعد صدور الكفر عنهم لا قبله إلا أنه متى قيل ذلك كان اعترافاً بأن تكلمه بذلك لم يكن حاصلاً في الأزل وهذا هو المقصود أجاب القائلون بالقدم بأنا لو قلنا إن العلم يتغير بتغير المعلوم لكنا إما أن نقول بأن العالم سيوجد كان حاصلاً في الأزل أو ما كان فإن لم يكن حاصلاً في الأزل كان ذلك تصريحاً بالجهل وذلك كفر وإن قلنا إنه كان حاصلاً فزواله يقتضي زوال القديم وذلك سد باب إثبات حدوث العالم والله أعلم
المسألة الثالثة قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ صيغة للجمع مع لام التعريف وهي للاستغراق بظاهره ثم

إنه لا نزاع في أنه ليس المراد منها هذا الظاهر لأن كثيراً من الكفار أسلموا فعلمنا أن الله تعالى قد يتكلم بالعام ويكون مراده الخاص إما لأجل أن القرينة الدالة على أن المراد من ذلك العموم ذلك الخصوص كانت ظاهرة في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فحسن ذلك لعدم التلبيس وظهور المقصود ومثاله ما إذا كان للإنسان في البلد جمع مخصوص من الأعداء فإذا قال ( إن الناس يؤذونني ) فهم كل أحد أن مراده من الناس ذلك الجمع على التعيين وإما لأجل أن التكلم بالعام لإرادة الخاص جائز وإن لم يكن البيان مقروناً به عند من يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب وإذا ثبت ذلك ظهر أنه لا يمكن التمسك بشيء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق لاحتمال أن المراد منها هو الخاص وكانت القرينة الدالة على ذلك ظاهرة في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فلا جرم حسن ذلك وأقصى ما في الباب أن يقال لو وجدت هذه القرينة لعرفناها وحيث لم نعرفها علمنا أنها ما وجدت إلا أن هذا الكلام ضعيف لأن الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود من أضعف الإمارات المفيدة للظن فضلاً عن القطع وإذا ثبت ذلك ظهر أن استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف والله أعلم ومن المعتزلة من احتال في دفع ذلك فقال إن قوله إن الذين كفروا لا يؤمنون كالنقيض لقوله إن الذين كفروا يؤمنون وقوله إن الذين كفروا يؤمنون لا يصدق إلا إذا آمن كل واحد منهم فإذا ثبت أنه في جانب الثبوت يقتضي العموم وجب أن لا يتوقف في جانب النفي على العموم بل يكفي في صدقه أن لا يصدر الإيمان عن واحد منهم لأنه متى لم يؤمن واحد من ذلك الجمع ثبت أن ذلك الجمع لم يصدر منهم الإيمان فثبت أن قوله إن الذين كفروا لا يؤمنون يكفي في إجرائه على ظاهره أن لا يؤمن واحد منهم فكيف إذا لم يؤمن الكثير منهم والجواب أن قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ صيغة الجمع وقوله لاَ يُؤْمِنُونَ أيضاً صيغة جمع والجمع إذا قوبل بالجمع توزع الفرد على الفرد فمعناه أن كل واحد منهم لا يؤمن وحينئذٍ يعود الكلام المذكور
المسألة الرابعة اختلف أهل التفسير في المراد ههنا بقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ فقال قائلون إنهم رؤساء اليهود المعاندون الذين وصفهم الله تعالى بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمون وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وقال آخرون بل المراد قوم من المشركين كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم وهم الذين جحد وأبعد البينة وأنكروا بعد المعرفة ونظيره ما قال الله تعالى فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ( فصلت 4 5 ) وكان عليه السلام حريصاً على أن يؤمن قومه جميعاً حيث قال الله تعالى له فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ( الكهف 6 ) وقال أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( يونس 99 ) ثم إنه سبحانه وتعالى بين له عليه السلام أنهم لا يؤمنون ليقطع طمعه عنهم ولا يتأذى بسبب ذلك فإن اليأس إحدى الراحتين
أما قوله تعالى سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب الكشاف سَوَآء اسم بمنعى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر منه قوله تعالى تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَة ٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ( آل عمران 64 ) فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ ( فصلت 10 ) بمعنى مستوية فكأنه قيل إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه
المسألة الثانية في ارتفاع سواء قولان أحدهما أن ارتفاعه على أنه خبر لأن و ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ

تُنذِرْهُمْ في موضع الرفع به على الفاعلية كأنه قيل إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه كما تقول إن زيداً مختصم أخوه وابن عمه الثاني أن تكون أنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء وسواء خبره مقدماً بمعنى سواء عليهم إنذارك وعدمه والجملة خبر لأن واعلم أن الوجه الثاني أولى لأن ( سواء ) اسم وتنزيله بمنزلة الفعل يكون تركاً للظاهر من غير ضرورة وأنه لا يجوز وإذا ثبت هذا فنقول من المعلوم أن المراد وصف الإنذار وعدم الإنذار بالاستواء فوجب أن يكون سواء خبراً فيكون الخبر مقدماً وذلك يدل على أن تقديم الخبر على المبتدأ جائز ونظيره قوله تعالى سَوَاء مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ( الجاثية 21 ) وروى سيبويه قولهم ( تميمي أنا ) ( ومشنوء من يشنؤك ) أما الكوفيون فأنهم لا يجوزونه واحتجوا عليه من وجهين الأول المبتدأ ذات والخبر صفة والذات قبل الصفة بالاستحقاق فوجب أن يكون قبلها في اللفظ قياساً على توابع الإعراب والجامع التبعية المعنوية الثاني أن الخبر لا بدّ وأن يتضمن الضمير فلو قدم الخبر على المبتدأ لوجد الضمير قبل الذكر وأنه غير جائز لأن الضمير هو اللفظ الذي أشير به إلى أم معلوم فقبل العلم به امتنعت الإشارة إليه فكان الإضمر قبل الذكر محالاً أجاب البصريون على الأول بأن ما ذكرتم يقتضي أن يكون تقدم المبتدأ أولى لا أن يكون واجباً وعن الثاني أن الإضمار قبل الذكر واقع في كلام العرب كقولهم ( في بيته يؤتى الحكم ) قال تعالى فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَة ً مُّوسَى ( طه 67 ) وقال زهير فمن يلق يوماً على علاته هرما
يلق السماحة منه والندى خلقا
والله أعلم
المسألة الثالثة اتفقوا على أن الفعل لا يخبر عنه لأن من قال خرج ضرب لم يكن آتياً بكلام منتظم ومنهم من قدح فيه بوجوه أحدها أن قوله ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ فعل وقد أخبر عنه بقوله سَوَاء عَلَيْهِمْ ونظيره قوله ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ( يوسف 35 ) فاعل ( بدا ) هو ( ليسجننه ) وثانيها أن المخبر عنه بأنه فعل لا بدّ وأن يكون فعلاً فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل فإن قيل المخبر عنه بأنه فعل هو تلك الكلمة وتلك الكلمة اسم قلنا فعلى هذا المخبر عنه بأنه فعل إذا لم يكن فعلاً بل إسماً كان هذا الخبر كذباً والتحقيق أن المخبر عنه بأنه فعل إما أن يكون اسماً أو لا يكون فإن كان الأول كان هذا الخبر كذباً لأن الاسم لا يكون فعلاً وإن كان فعلاً فقد صار الفعل مخبراً عنه وثالثها أنا إذا قلنا الفعل لا يخبر عنه فقد أخبرنا عنه بأنه لا يخبر عنه والمخبر عنه بهذا الخبر لو كان اسماً لزم أنا قد أخبرنا عن الاسم بأنه لا يخبر عنه وهذا خطأ وإن كان فعلاً صار الفعل مخبراً عنه ثم قال هؤلاء لما ثبت أنه لا امتناع في الإخبار عن الفعل لم يكن بنا حاجة إلى ترك الظاهر أما جمهور النحويين فقد أطبقوا على أنه لا يجوز الإخبار عن الفعل فلا جرم كان التقدير سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك فإن قيل العدول عن الحقيقة إلى المجاز لا بدّ وأن يكون لفائدة زائدة إما في المعنى أو في اللفظ فما تلك الفائدة ههنا قلنا قوله سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ معناه سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك لهم بعد ذلك لأن القوم كانوا قد بلغوا في الإصرار واللجاج والأعراض عن الآيات والدلائل إلى حالة ما بقي فيهم البتة رجاء القبول بوجه وقبل ذلك ما كانوا كذلك ولو قال سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك لما أفاد أن هذا المعنى إنما حصل في هذا الوقت دون ما قبله ولما قال ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ

أفاد أن هذه الحالة إنما حصلت في هذا الوقت فكان ذلك يفيد حصول اليأس وقطع الرجاء منهم وقد بينا أن المقصود من هذه الآية ذلك
المسألة الرابعة قال صاحب الكشاف ( الهمزة ) و ( أم ) مجردتان لمعنى الاستفهام وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً قال سيبويه جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء كقوله اللهم اغفر لنا أيتها العصابة يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام كما أن ذلك جرى على صورة النداء ولا نداء
المسألة الخامسة في قوله ءأَنذَرْتَهُمْ ست قراءات إما بهمزتين محققتين بينهما ألف أولاً ألف بينهما أو بأن تكون الهمزة الأولى قوية والثانية بين بين بينهما ألف أولاً ألف بينهما وبحذف حرف الاستفهام وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله كما قرىء ( قد أفلح ) فإن قيل فما تقول فيمن يقلب الثانية ألفاً قال صاحب الكشاف هو لاحن خارج عن كلام العرب
المسألة السادسة الإنذار هو التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن تأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى من تأثير البشارة لأن اشتغال الإنسان بدفع الضرر أشد من اشتغاله بجلب المنفعة وهذا الموضع موضع المبالغة وكان ذكر الإنذار أولى أما قوله لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب الكشاف هذه إما أن تكون جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبراً ( لأن ) والجملة قبلها اعتراض
المسألة الثانية احتج أهل السنّة بهذه الآية وكل ما أشبهها من قوله لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ ( ي س 7 ) وقوله ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً إلى قوله سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ( المدثر 11 17 ) وقوله تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ ( المسد 1 ) على تكليف ما لا يطلق وتقريره أنه تعالى أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قط فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر لله تعالى الصدق كذباً والكذب عند الخصم قبيح وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة وهما محالان على الله والمفضي إلى المحال محال فصدور الإيمان منه محال فالتكليف به تكليف بالمحال وقد يذكر هذا في صورة العلم هو أنه تعالى لما علم منه أنه لا يؤمن فكان صدور الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله تعالى جهلاً وذلك محال ومستلزم المحال محال فالأمر واقع بالمحال ونذكر هذا على وجه ثالث وهو أن وجود الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بعدم الإيمان لأنه إنما يكون علماً لو كان مطابقاً للمعلوم والعلم بعدم الإيمان إنما يكون مطابقاً لو حصل عدم الإيمان فلو وجد الإيمان مع العلم بعدم الإيمان لزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجوداً ومعدوماً معاً وهو محال فالأمر بالإيمان مع وجود علم الله تعالى بعدم الإيمان أمر بالجمع بين الضدين بل أمر بالجمع بين العدم والوجود وكل ذلك محال ونذكر هذا على وجه رابع وهو أنه تعالى كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون بالإيمان ألبتة والإيمان يعتبر فيه تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط وهذا تكليف بالجمع بين النفي والإثبات ونذكر هذا على وجه خامس وهو أنه تعالى عاب الكفار على أنهم

حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه في قوله يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ ( الفتح 15 ) فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله تعالى عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله تعالى وذلك منهي عنه ثم ههنا أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة فمحاولة الإيمان منهم تكون قصداً إلى تبديل كلام الله وذلك منهي عنه وترك محاولة الإيمان يكون أيضاً مخالفة لأمر الله تعالى فيكون الذم حاصلاً على الترك والفعل فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع وهذا هو الكلام الهادم لأصول الاعتزال ولقد كان السلف والخلف من المحققين معولين عليه في دفع أصول المعتزلة وهدم قواعدهم ولقد قاموا وقعدوا واحتالوا على دفعه فما أتوا بشيء مقنع وأنا أذكر أقصى ما ذكروه بعون الله تعالى وتوفيقه قالت المعتزلة لنا في هذه الآية مقامان المقام الأول بيان أنه لا يجوز أن يكون علم الله تعالى وخبر الله تعالى عن عدم الإيمان مانعاً من الإيمان والمقام الثاني بيان الجواب العقلي على سبيل التفصيل أما المقام الأول فقالوا الذي يدل عليه وجوه أحدها أن القرآن مملوء من الآيات الدالة على أنه لا مانع لأحد من الإيمان قال وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى ( الإسراء 94 ) وهو إنكار بلفظ الاستفهام ومعلوم أن رجلاً لو حبس آخر في بيت بحيث لا يمكنه الخروج عنه ثم يقول ما منعك من التصرف في حوائجي كان ذلك منه مستقبحاً وكذا قوله وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ ( الأعراف 12 ) وقوله لإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ ( النساء 39 ) وقول موسى لأخيه مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ ( طه 92 ) وقوله فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( الانشقاق 20 ) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَة ِ مُعْرِضِينَ ( المدثر 49 ) عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 ) لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( التحريم 1 ) قال الصاحب بن عباد في فصل له في هذا الباب كيف يأمره بالإيمان وقد منعه عنه وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول أنى تصرفون ويخلق فيهم الإفك ثم يقول أنى تؤفكون وأنشأ فيهم الكفر ثم يقوم لم تكفرون وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ( آلل عمران 71 ) وصدهم عن السبيل ثم يقول لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( آل عمران 99 ) وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ وذهب بهم عن الرشد ثم قال فَأيْنَ تَذْهَبُونَ ( التكوير 26 ) وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَة ِ مُعْرِضِينَ ( المدثر 49 ) وثانيها أن الله تعالى قال رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( السناء 165 ) وقال وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ( طه 134 ) فلما بين أنه ما أبقي لهم عذراً إلا وقد أزاله عنهم فلو كان علمه بكفرهم وخبره عن كفرهم مانعاً لهم عن الإيمان لكان ذلك من أعظم الأعذار وأقوى الوجوه الدافعة للعقاب عنهم فلما لم يكن كذلك علمنا أنه غير مانع وثالثها أنه تعالى حكى عن الكفار في سورة ( ح م السجدة ) أنهم قالوا قلوبنا في أكنه مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر وإنما ذكر الله تعالى ذلك ذماً لهم في هذا القول فلو كان العلم مانعاً لكانوا صادقين في ذلك فلم ذمهم عليه ورابعها أنه تعالى أنزل قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى ءاخِرَهُ ذماً لهم وزجراً عن الكفر وتقبيحاً لفعلهم فلو كانوا ممنوعين عن الإيمان غير قادرين عليه لما استحقوا الذم البتة بل كانوا معذورين كما يكون الأعمى معذوراً في أن لا يمشي وخامسها القرآن إنما أنزل ليكون حجة لله ولرسوله عليهم لا أن يكون لهم حجة على الله وعلى رسوله فلو

كان العلم والخبر مانعاً لكان لهم أن يقولوا إذا علمت الكفر وأخبرت عنه كان ترك الكفر محالاً منا فلم تطلب المحال منا ولم تأمرنا بالمحال ومعلوم أن هذا مما لا جواب لله ولا لرسوله عنه لو ثبت أن العلم والخبر يمنع وسادسها قوله تعالى نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( الأنفال 40 ) ولو كان مع قيام المانع عن الإيمان كلف به لما كان نعم المولى بل كان بئس المولى ومعلوم أن ذلك كفر قالوا فثبت بهذه الوجوه أنه ليس عن الإيمان والطاعة مانع البتة فوجب القطع بأن علم الله تعالى بعدم الإيمان وخبره عن عدمه لا يكون مانعاً عن الإيمان المقام الثاني قالوا إن الذي يدل على أن العلم بعدم الإيمان لا يمنع من وجود الإيمان وجوه أحدها أنه لو كان كذلك لوجب أن لا يكون الله تعالى قادراً على شيء لأن الذي علم وقوعه يكون واجب الوقوع والذي علم عدم وقوعه يكون ممتنع الوقوع والواجب لا قدرة له عليه لأنه إذا كان واجب الوقوع لا بالقدرة فسواء حصلت القدرة أو لم تحصل كان واجب الوقوع والذي يكون كذلك لم يكن للقدرة فيه أثر وأما الممتنع فلا قدرة عليه فيلزم أن لا يكون الله تعالى قادراً على شيء أصلاً وذلك كفر بالاتفاق فثبت أنا لعلم بعدم الشيء لا يمنع من إمكان وجوده وثانيها أن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه فإن كان ممكناً علمه ممكناً وإن كان واجباً علمه واجباً ولا شك أن الإيمان والكفر بالنظر إلى ذاته ممكن الوجود فلو صار واجب الوجود بسبب العلم كان العلم مؤثراً في المعلوم وقد بينا أنه محال وثالثها لو كان الخبر والعلم مانعاً لما كان العبد قادراً على شيء أصلاً لأن الذي علم الله تعالى وقوعه كان واجب الوقوع والواجب لا قدرة عليه والذي علم عدمه كان ممتنع الوقوع والممتنع لا قدره عليه فوجب أن لا يكون العبد قادراً على شيء أصلاً فكانت حركاته وسكناته جارية مجرى حركات الجمادات والحركات الاضطرارية للحيوانات لكنا بالبديهة نعلم فساد ذلك فإن رمى إنسان إنساناً بالآجرة حتى شجه فإنا نذم الرامي ولا نذم الآجرة وندرك بالبديهة تفرقة بين ما إذا سقطت الآجرة عليه وبين ما إذا لكمه إنسان بالاختيار ولذلك فإن العقلاء ببداءة عقولهم يدركون الفرق بين مدح المحسن وذم المسيء ويلتمسون ويأمرون ويعاتبون ويقولون لم فعلت ولم تركت فدل على أن العلم والخبر غير مانع من الفعل والترك ورابعها لو كان العلم بالعدم مانعاً للوجود لكان أمر الله تعالى للكافر بالإيمان أمراً بإعدام علمه وكما أنه لا يليق به أن يأمر عباده بأن يعدموه فكذلك لا يليق به أن يأمرهم بأن يعدموا علمه لأن إعدم ذات الله وصفاته غير معقول والأمر به سفه وعبث فدل على أن العلم بالعدم لا يكون مانعاً من الوجود وخامسها أن الإيمان في نفسه من قبيل الممكنات الجائزات نظراً إلى ذاته وعينه فوجب أن يعلمه الله تعالى من الممكنات الجائزات إذ لو لم يعلمه كذلك لكان ذلك العلم جهلاً وهو محال وإذا علمه الله تعالى من الممكنات الجائزات التي لا يمتنع وجودها وعدمها البتة فلو صار بسبب العلم واجباً لزم أن يجتمع على الشيء الواحد كونه من الممكنات وكونه ليس من الممكنات وذلك محال وسادسها أن الأمر بالمحال سفه وعبث فلو جاز ورود الشرع به لجاز وروده أيضاً بكل أنواع السفه فما كان يمتنع وروده بإظهار المعجزة على يد الكاذبين ولا إنزال الأكاذيب والأباطيل وعلى هذا التقدير لا يبقى وثوق بصحة نبوة الأنبياء ولا بصحة القرآن بل يجوز أن يكون كله كذباً وسفهًا ولما بطل ذلك علمنا أن العلم بعدم الإيمان والخبر عن عدم الإيمان لا يمنع من الإيمان وسابعها أنه لو جاز ورود الأمر بالمحال في هذه الصورة لجاز

ورود أمر الأعمى بنقط المصاحف والمزمن بالطيران في الهواء وأن يقال لمن قيد يداه ورجلاه وألقي من شاهق جبل لم لا تطير إلى فوق ولما لم يجز شيء من ذلك في العقول علمنا أنه لا يجوز الأمر بالمحال فثبت أن العلم بالعدم لا يمنع من الوجود وثامنها لو جاز ورود الأمر بذلك لجاز بعثة الأنبياء إلى الجمادات وإنزال الكتب عليها وإنزال الملائكة لتبليغ التكاليف إليها حالاً بعد حال ومعلوم أن ذلك سخرية وتلاعب بالدين وتاسعها أن العلم بوجود الشيء لو اقتضى وجوبه لأغنى العلم عن القدرة والإرادة فوجب أن لا يكون الله تعالى قادراً مريداً مختاراً وذلك قول الفلاسفة القائلين بالموجب وعاشرها الآيات الدالة على أن تكليف ما لا يطاق لم يوجد قال الله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) وقال وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وقال وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ( الأعراف 157 ) وأي حرج ومشقة فوق التكليف بالمحال المقام الثالث الجواب على سبيل التفصيل للمعتزلة فيه طريقان الأول طريقة أبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار فإنا لما قلنا لو وقع خلاف معلوم الله تعالى لانقلب علمه جهلاً قالوا خطأ قول من يقول إنه ينقلب علمه جهلاً وخطأ أيضاً قول من يقول إنه لا ينقلب ولكن يجب الإمساك عن القولين والثاني طريقة الكعبي واختيار أبي الحسين البصري أن العلم تبع المعلوم فإذا فرضت الواقع من العبد من الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل لله تعالى هو العلم بالإيمان ومتى فرضت الواقع منه هو الكفر بدلاً عن الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل هو العلم بالكفر بدلاً عن الإيمان فهذا فرض علم بدلاً عن علم أخر لا أنه تغير العلم فهذان الجوابان هما اللذان عليهما اعتماد جمهور المعتزلة واعلم أن هذا المبحث صار منشأ لضلالات عظيمة فمنها أن منكري التكاليف والنبوات قالوا قد سمعنا كلام أهل الجبر فوجدناه قوياً قاطعاً وهذان الجوابان اللذان ذكرهما المعتزلة يجريان مجرى الخرافة ولا يلتفت العاقل إليهما وسمعنا كلام المعتزلة في أن مع القول بالجبر لا يجوز التكليف ويقبح والجواب الذي ذكره أهل الجبر ضعيف جداً فصار مجموع الكلامين كلاماً قوياً في نفي التكاليف ومتى بطل ذلك بطل القول بالنبوات ومنها أن الطاعنين في القرآن قالوا الذي قاله المعتزلة من الآيات الكثيرة الدالة على أنه لا منع من الإيمان ومن الطاعة فقد صدقوا فيه والذي قاله الجبرية من أن العلم بعدم الإيمان مانع منه فقد صدقوا فيه فدل على أن القرآن ورد على ضد العقل وعلى خلافه وذلك من أعظم المطاعن وأقوى القوادح فيه ثم من سلم من هؤلاء أن هذا القرآن هو القرآن الذي جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) توسل به إلى الطعن فيه وقال قوم من الرافضة إن هذا الذي عندنا ليس هو القرآن الذي جاء به محمد بل غير وبدل والدليل عليه اشتماله على هذه المناقضات التي ظهرت بسبب هذه المناظرة الدائرة بين أهل الجبر وأهل القدر ومنها أن المقلدة الطاعنين في النظر والاستدلال احتجوا بهذه المناظرة وقالوا لو جوزنا التمسك بالدلائل العقلية لزم القدح في التكليف والنبوة بسبب هذه المناظرة فإن كلام أهل الجبر في نهاية القوة في إثبات الجبر وكلام أهل القدر في بيان أنه متى ثبت الجبر بطل التكليف بالكلية في نهاية القوة فيتولد من مجموع الكلامين أعظم شبهة في القدح والتكليف والنبوة فثبت أن الرجوع إلى العقليات يورث الكفر والضلال وعند هذا قيل من تعمق في الكلام تزندق ومنها أن هشام بن الحكم زعم أنه سبحانه لا يعلم الأشياء قبل

وقوعها وجوز البداء على الله تعالى وقال أن قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ إنما وقع على سبيل الاستدلال بالأمارة ويجوز له أن يظهر خلاف ما ذكره وإنما قال بهذا المذهب فراراً من تلك الإشكالات المتقدمة واعلم أن جملة الوجوه التي رويناها عن المعتزلة كلمات لا تعلق لها بالكشف عن وجه الجواب بل هي جارية مجرى التشنيعات فأما الجوابان اللذان عليهما اعتماد القوم ففي نهاية الضعف أما قول أبي علي وأبي هشام والقاضي خطأ قول من يقول إنه يدل وخطأ قول من يقول إنه لا يدل إن كان المراد منه الحكم بفساد القسمين كان ذلك حكماً بفساد النفي والإثبات وذلك لا يرتضيه العقل وإن كان معناه أن أحدهما حق لكن لا أعرف أن الحق هو أنه يدل أو لا يدل كفي في دفعه تقرير وجه الاستدلال فإنا لما بينا أن العلم بالعدم لا يحصل إلا مع العدم فلو حصل الوجود معه لكان قد ا جتمع العدم والوجود معاً ولا يتمكن العقل من تقرير كلام أوضح من هذا وأقل مقدمات فيه وأما قول الكعبي ففي نهاية الضعف لأنا وإن كنا لا ندري أن الله تعالى كان في الأزل عالماً بوجود الإيمان أو بعدمه لكنا نعلم أن العلم بأحد هذين الأمرين كان حاصلاً وهو الآن أيضاً حاضر فلو حصل مع العلم بأحد النقيضين ذلك النقيض الآخر لزم اجتماع النقيضين ولو قيل بأن ذلك العلم لا يبقى كان ذلك اعترافاً بانقلاب العلم جهلاً وهذا آخر الكلام في هذا البحث واعلم أن الكلام المعنوي هو الذي تقدم وبقي في هذا الباب أمور أخرى إقناعية ولا بدّ من ذكرها وهي خمسة أحدها روى الخطيب في كتاب تاريخ بغداد عن معاذ بن معاذ العنبري قال كنت جالساً عند عمرو بن عبيد فأتاه رجل فقال يا أبا عثمان سمعت والله اليوم بالكفر فقال لا تعجل بالكفر وما سمعت قال سمعت هاشماً الأوقص يقول إن تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ ( المسد 1 ) وقوله ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ( المدثر 11 ) إلى قوله سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ( المدثر 26 ) إن هذا ليس في أم الكتاب والله تعالى يقول حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( الدخان 2 ) إلى قوله وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِى ٌّ حَكِيمٌ ( الزخرف 4 ) فما الكفر إلا هذا يا أبا عثمان فسكت عمرو هنيهة ثم أقبل عليّ فقال والله لو كان القول كما يقول ما كان على أبي لهب من لوم ولا على الوليد من لوم فلما سمع الرجل ذلك قال أتقول يا أبا عثمان ذلك هذا والله الذي قال معاذ فدخل بالإسلام وخرج بالكفر وحكي أيضاً أنه دخل رجل على عمرو بن عبيد وقرأ عنده بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( البروج 22 ) فقال له أخبرني عن تُبْتُ أكانت في اللوح المحفوظ فقال عمرو ليس هكذا كانت بل كانت تبت يدا من عمل بمثل ما عمل أبو لهب فقال له الرجل هكذا ينبغي أن تقرأ إذا قمنا إلى الصلاة فغضب عمرو وقال إن علم الله ليس بشيطان إن علم الله لا يضر ولا ينفع وهذه الحكاية تدل على شك عمرو بن عبيد في صحة القرآن وثانيها روى القاضي في كتاب طبقات المعتزلة عن ابن عمر أن رجلاً قام إليه فقال يا أبا عبد الرحمن أن أقواماً يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ويقولون كان ذلك في علم الله فلم نجد منه بداً فغضب ثم قال سبحان الله العظيم قد كان في علمه أنهم يفعلونها فلم

يحملهم على الله على فعلها حدثني أبي عمر بن الخطاب أنه سمع رسول ( صلى الله عليه وسلم ) يقول مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أظلتكم والأرض التي أقلتكم فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والأرض فكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله تعالى وكما لا تحملكم السماء والأرض على الذنوب فكذلك لا يحملكم علم الله تعالى عليها واعلم أن في الأخبار التي يرويها الجبرية والقدرية كثرة والغرض من رواية هذا الحديث بيان أنه لا يليق بالرسول أن يقول مثل ذلك وذلك لأنه متناقض وفاسد أما المتناقض فلأن قوله ( وكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله ) صريح في الجبر وما قبله صريح في القدر فهو متناقض وأما أنه فاسد فلأنا بينا أن العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان متنافيان فالتكليف بالإيمان مع وجود العلم بعدم الإيمان تكليف بالجمع بين النفي والإثبات أما السماء والأرض فإنهما لا ينافيان شيئاً من الأعمال فظهر أن تشبيه إحدى الصورتين بالأخرى لا يصدر إلا عن جاهل أو متجاهل وجل منصب الرسالة عنه وثالثها الحديثان المشهوران في هذا الباب أما الحديث الأول فهو ما روي في الصحيحين عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الصادق المصدوق ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه ملكاً فينفخ فيه الروح فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) وحكى الخطيب في تاريخ بغداد عن عمرو بن عبيد أنه قال لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا ما أحببته ولو سمعت عبد الله بن مسعود يقول هذا ما قبلته ولو سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول هذا لرددته ولو سمعت الله عزّ وجلّ يقول هذا لقلت ليس على هذا أخذت ميثاقنا وأما الحديث الثاني فهو مناظرة آدم وموسى عليهما السلام فإن موسى قال لآدم أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة فقال آدم أنت الذي اصطفاك الله لرسالاته ولكلامه وأنزل عليك التوراة فهل تجد الله قدره على قال نعم فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فحج آدم موسى والمعتزلة طعنوا فيه من وجوه أحدها أن هذا الخبر يقتضي أن يكون موسى قد ذم آذم على الصغيرة وذلك يقتضي الجهل في حق موسى عليه السلام وأنه غير جائز وثانيها أن الولد كيف يشافه والده بالقول الغليظ وثالثها أنه قال أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة وقد علم موسى أن شقاء الخلق وإخراجهم من الجنة لم يكن من جهة آدم بل الله أخرجه منها ورابعها أن آدم عليه السلام احتج بما ليس بحجة إذ لو كن حجة لكان لفرعون وهامان وسائر الكفار أن يحتجوا بها ولما بطل ذلك علمنا فساد هذه الحجة وخامسها أن الرسول عليه السلام صوب آدم في ذلك مع أنا بينا أنه ليس بصواب إذا ثبت هذا وجب حمل الحديث على أحد ثلاثة أوجه أحدها أنه عليه السلام حكى ذلك عن اليهود لا أنه حكاه عن الله تعالى أو عن نفسه والرسول عليه السلام كان قد ذكر هذه الحكاية إلا أن الراوي حين دخل ما سمع إلا هذا الكلام فظن أنه عليه السلام ذكره عن نفسه لا عن اليهود وثانيها أنه قال فحج آدم منصوباً أي أن موسى عليه السلام غلبه وجعله محجوباً وأن الذي أتى به آدم ليس بحجة ولا بعذر وثالثها وهو المعتمد أنه ليس المراد من المناظرة الذم على المعصية ولا الاعتذار منه بعلم الله بل موسى عليه السلام سأله عن السبب

الذي حمله على تلك الزلة حتى خرج بسببها من الجنة فقال آدم إن خروجي من الجنة لم يكن بسبب تلك الزلة بل بسبب أن الله تعالى كان قد كتب عليّ أن أخرج من الجنة إلى الأرض وأكون خليفة فيها وهذا المعنى كان مكتوباً في التوراة فلا جرم كانت حجة آدم قوية وصار موسى عليه السلام في ذلك كالمغلوب واعلم أن الكلام في هذه المسألة طويل جداً والقرآن مملوء منه وسنستقصي القول فيها في هذا التفسير إن قدر الله تعالى ذلك وفيما ذكرنا ههنا كفاية
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة ٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنهم لا يؤمنون أخبر في هذه الآية بالسبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم والكلام ههنا يقع في مسائل
المسألة الأولى الختم والكتم أخوان لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية لئلا يتوصل إليه أو يطلع عليه والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة
المسألة الثانية اختلف الناس في هذا الختم أما القائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر ثم لهم قولان منهم من قال الختم هو خلق الكفر في قلوب الكفار ومنهم من قال هو خلق الداعية التي إذا انضمت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سبباً موجباً لوقوع الكفر وتقريره أن القادر على الكفر إما أن يكون قادراً على تركه أو لا يكون فإن لم يقدر على تركه كانت القدرة على الكفر موجبة للكفر فخلق القدرة على الكفر يقتضي خلق الكفر وإن قدر على الترك كانت نسبة تلك القدرة إلى فعل الكفر وإلى تركه على سواء فإما أن يكون صيرورتها مصدراً للفعل بدلاً عن الترك يتوقف على انضمام مرجح إليها أولاً يتوقف فإن لم يتوقف فقد وقع الممكن لا عن مرجح وتجويز يقتضي القدح في الاستدلال بالممكن على المؤثر وذلك يقتضي نفي الصانع وهو محال وأما إن توقف على المرجح فذلك المرجح إما أن يكون من فعل الله أو من فعل العبد أولاً من فعل الله ولا من فعل العبد لا جائز أن يكون من فعل العبد وإلا لزم التسلسل ولا جائز أن يكون لا بفعل الله ولا بفعل العبد لأنه يلزم حدوث شيء لا لمؤثر وذلك يبطل القول بالصانع فثبت أن كون قدرة العبد مصدراً للمقدور المعين يتوقف على أن ينضم إليها مرجح هو من فعل الله تعالى فنقول إذا انضم ذلك المرجح إلى تلك القدرة فإما أن يصير تأثير القدرة في ذلك الأثر واجباً أو جائزاً أو ممتنعاً والثاني والثالث باطل فتعين الأول وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون جائزاً لأنه لو كان جائزاً لكان يصح في العقل أن يحصل مجموع القدرة مع ذلك المرجح تارة مع ذلك الأثر وأخرى منفكاً عنه فلنفرض وقوع ذلك لأن كل ما كان جائزاً لا يلزم من فرض وقوعه محال فذاك المجموع تارة يترتب عليه الأثر وأخرى لا يترتب عليه الأثر فاختصاص أحد الوقتين يترتب ذلك الأثر عليه إما أن يتوقف على

انضمام قرينة إليه أو لا يتوقف فإن توقف كان المؤثر هو ذلك المجموع مع هذه القرينة الزائدة لا ذلك المجموع وكنا قد فرضنا أن ذلك المجموع هو المستقل خلف هذا وأيضاً فيعود التقسيم في هذا المجموع الثاني فإن توقف على قيد آخر لزم التسلسل وهو محال وإن لم يتوقف فحينئذٍ حصل ذلك المجموع تارة بحيث يكون مصدراً للأثر وأخرى بحيث لا يكون مصدراً له مع أنه لم يتميز أحد الوقتين عن الآخر بأمر ما البتة فيكون هذا قولاً بترجح الممكن لا عن مرجح وهو محال فثبت أن عند حصول ذلك المرجح يستحيل أن يكون صدور ذلك الأثر جائزاً وأما أنه لا يكون ممتنعاً فظاهر وإلا لكان مرجح الوجود مرجحاً للعدم وهو محال وإذا بطل القسمان ثبت أن عند حصول مرجح الوجود يكون الأثر واجب الوجود عن المجموع الحاصل من القدرة ومن ذلك المرجح وإذا ثبت هذا كان القول بالجبر لازماً لأن قبل حصول ذلك المرجح كان صدور الفعل ممتنعاً وبعد حصوله يكون واجباً وإذ عرفت هذا كان خلق الداعية الموجبة للكفر في القلب ختماً على القلب ومنعاً له عن قبول الإيمان فإنه سبحانه لما حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون ذكر عقيبة ما يجري مجرى السبب الموجب له لأن العلم بالعلة يفيد العلم بالمعلول والعلم بالمعلول لا يكمل إلا إذا استفيد من العلم بالعلة فهذا قول من أضاف جميع المحدثات إلى الله تعالى وأما المعتزلة فقد قالوا إنه لا يجوز أجراء هذه الآية على المنع من الإيمان واحتجوا فيه بالوجوه التي حكيناها عنهم في الآية الأولى وزادوا ههنا بأن الله تعالى قد كذب الكفار الذين قالوا إن على قلوبهم كنان وغطاء يمنعهم عن الإيمان وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( النساء 155 ) وقال فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ( فصلت 4 5 ) وهذا كله عيب وذم من الله تعالى فيما ادعوا أنهم ممنوعون عن الإيمان ثم قالوا بل لا بدّ من حمل الختم والغشاوة على أمور أخر ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها أن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بدلائل الله تعالى حتى صار ذلك كالألف والطبيعة لهم أشبه حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه وكذلك هذا في عيونهم حتى كأنها مسدودة لا تبصر شيئاً وكأن بآذانهم وقرأ حتى لا يخلص إليها الذكر وإنما أضيف ذلك إلى الله تعالى لأن هذه الصفة في تمكنها وقوة ثباتها كالشيء الخلقي ولهذا قال تعالى بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ ( النساء 155 ) كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( المطففين 14 ) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ( لتوبة 77 ) وثانيها أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب وثالثها أنهم لما أعرضوا عن التدبر ولم يصغوا إلى الذكر وكان ذلك عند إيراد الله تعالى عليهم الدلائل أضيف ما فعلوا إلى الله تعالى لأن حدوثه إنما اتفق عند إيراده تعالى دلائله عليهم كقوله تعالى في سورة براءة زَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( التوبة 125 ) أي ازدادوا بها كفراً إلى كفرهم ورابعها أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى تحصيل الإيمان لهم إلا بالقسر والإلجاء إلا أن الله تعالى ما أقرهم عليه لئلا يبطل التكليف فعبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم إشعاراً بأنهم الذين انتهوا في الكفر إلى حيث لا يتناهون عنه إلا بالقسر وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغي وخامسها أن يكون ذلك حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكماً به من قولهم قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ( فصلت 5 ) ونظيره في الحكاية والتهكم قوله لَمْ يَكُنِ الَّذِين

َ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَة ُ ( البينة 1 ) وسادسها الختم على قلوب الكفار من الله تعالى هو الشهادة منه عليهم بأنهم لا يؤمنون وعلى قلوبهم بأنها لا تعي الذكر ولا تقبل الحق وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إلى الحق كما يقول الرجل لصاحبه أريد أن تختم على ما يقوله فلان أي تصدقه وتشهد بأنه حق فأخبر الله تعالى في الآية الأولى بأنهم لا يؤمنون وأخبر في هذه الآية بأنه قد شهد بذلك وحفظه عليهم وسابعها قال بعضهم هذه الآية إنما جاءت في قوم مخصوصين من الكفار فعل الله تعالى بهم هذا الختم والطبع في الدنيا عقاباً لهم في العاجل كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا فقال وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ ( البقرة 65 ) وقال فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة ٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَة ً يَتِيهُونَ فِى الاْرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( المائدة 26 ) ونحو هذا من العقوبات المعجلة لما علم الله تعالى فيها من العبرة لعبادة والصلاح لهم فيكون هذا مثل ما فعل بهؤلاء من الختم والطبع إلا أنهم إذا صاروا بذلك إلى أن لا يفهموا سقط عنهم التكليف كسقوطه عمن مسخ وقد أسقط الله التكليف عمن يعقل بعض العقل كمن قارب البلوغ ولسنا ننكر أن يخلق الله في قلوب الكافرين مانعاً يمنعهم عن الفهم والاعتبار إذا علم أن ذلك أصلح لهم كما قد يذهب بعقولهم ويعمي أبصارهم ولكن لا يكونون في هذا الحال مكلفين وثامنها يجوز أن يجعل الله على قلوبهم الختم وعلى أبصارهم الغشاوة من غير أن يكون ذلك حائلاً بينهم وبين الإيمان بل يكون ذلك كالبلادة التي يجدها الإنسان في قلبه والقذي في عينيه والطنين في أذنه فيفعل الله كل ذلك بهم ليضيق صدورهم ويورثهم الكرب والغم فيكون ذلك عقوبة مانعة من الإيمان كما قد فعل ببني إسرائيل فتاهوا ثم يكون هذا الفعل في بعض الكفار ويكون ذلك آية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ودلالة له كالرجز الذي أنزل على قوم فرعون حتى استغاثوا منه وهذا كله مقيد بما يعلم الله تعالى أنه أصلح للعباد وتاسعها يجوز أن يفعل هذا الختم بهم في الآخرة كما قد أخبر أنه يعميهم قال وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا ( الإسراء 97 ) وقال وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً ( طه 102 ) وقال الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ ( ي س 65 ) وقال لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ ( االأنبياء 100 ) وعاشرها ما حكوه عن الحسن البصري وهو اختيار أبي على الجبائي والقاضي أن المراد بذلك علامة وسمة يجعلها في قلب الكفار وسمعهم فتستدل الملائكة بذلك على أنهم كفار وعلى أنهم لا يؤمنون أبداً فلا يبعد أن يكون في قلوب المؤمنين علامة تعرف الملائكة بها كونهم مؤمنين عند الله كما قال أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وحينئذٍ الملائكة يحبونه ويستغفرون له ويكون لقلوب الكفار علامة تعرف الملائكة بها كونهم ملعونين عند الله فيبغضونه ويلعنونه والفائدة في تلك العلامة إما مصلحة عائدة إلى الملائكة لأنهم متى علموا بتلك العلامة كونه كافراً ملعوناً عند الله تعالى صار ذلك منفراً لهم عن الكفر أو إلى المكلف فإنه إذا علم أنه متى آمن فقد أحبه أهل السموات صار ذلك مرغباً له في الإيمان وإذا علم أنه متى أقدم على الكفر عرف الملائكة منه ذلك فيبغضونه ويلعنونه صار ذلك زاجراً له عن الكفر قالوا والختم بهذا المعنى لا يمنع لأنا نتمكن بعد ختم الكتاب أن نفكه ونقرأه ولأن الختم هو بمنزلة أن يكتب على جبين الكافر أنه كافر فإذا لم يمنع ذلك من الإيمان فكذا هذا الكافر يمكنه أن يزيل تلك السمة عن قلبه بأن يأتي بالإيمان ويترك الكفر قالوا وإنما خص القلب والسمع بذلك لأن الأدلة السمعية لا تستفاد إلا من جهة السمع والأدلة العقلية لا تستفاد إلا من جان ببالقلب ولهذا خصهما بالذكر

فإن قيل فيتحملون الغشاوة في البصر أيضاً على معنى العلامة قلنا لا لأنا إنما حملنا ما تقدم على السمة والعلامة لأن حقيقة اللغة تقتضي ذلك ولا مانع منه فوجب إثباته أما الغشاوة فحقيقتها الغطاء المانع من الإبصار ومعلوم من حال الكفار خلاف ذلك فلا بدّ من حمله على المجاز وهو تشبيه حالهم بحال من لا ينتفع ببصره في باب الهداية فهذا مجموع أقوال الناس في هذا الموضع
المسألة الثالثة الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الختم هي الطبع والكنان والرين على القلب والوقر في الآذان والغشاوة في البصر ثم الآيات الواردة في ذلك مختلفة فالقسم الأول وردت دلالة على حصول هذه الأشياء قال كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( المطففين 14 ) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً ( الأنعام 25 ) وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( التوبة 87 ) بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ( النساء 155 ) فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( فصلت 4 ) لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً ( ي س 70 ) إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء النحل 80 ) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ( البقرة 10 ) والقسم الثاني وردت دلالة على أنه لا مانع البتة وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ ( الأسراء 94 ) فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( االكهف 29 ) لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ( البقرة 28 ) لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ( آل عمران 71 ) والقرآن مملوء من هذين القسمين وصار كل قسم منهما متمسكاً لطائفة فصارت الدلائل السمعية لكونها من الطرفين واقعة في حيز التعارض أما الدلائل العقلية فهي التي سبقت الإشارة إليها وبالجملة فهذه المسألة من أعظم المسائل الإسلامية وأكثرها شعباً وأشدها شغباً ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال لا لأنهم نزهوه فسئل عن أهل السنّة فقال لا لأنهم عظموه والمعنى أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله وعلو كبريائه إلا أن أهل السنّة وقع نظرهم على العظمة فقالوا ينبغي أن يكون هو الموجد ولا موجد سواه والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة فقالوا لا يليق بجلال حضرته هذه القبائح وأقول ههنا سر آخر وهو أن إثبات الإله يلجىء إلى القول بالجبر لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع ولو توقفت لزم الجبر وإثبات الرسول يلجىء إلى القول بالقدرة بل ههنا سر آخر هو فوق الكل وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح وهذا يقتضي الجبر ونجد أيضاً تفرقة بديهية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية وجزماً بديهياً بحسن المدح وقبح الذم والأمر والنهي وذلك يقتضي مذهب المعتزلة فكأن هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب العلوم الضرورية وبحسب العلوم النظرية وبحسب تعظيم الله تعالى نظراً إلى قدرته وحكمته وبحسب التوحيد والتنزيه وبحسب الدلائل السمعية فلهذه المآخذ التي شرحناها والأسرار التي كشفنا عن حقائقها صعبت المسألة وغمضت وعظمت فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق وأن يختم عاقبتنا بالخير آمين رب العالمين
المسألة الخامسة قال صاحب الكشاف اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم لقوله تعالى وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَة ً ( الجاثية 23 ) ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم

المسألة السادسة الفائدة في تكرير الجار في قوله وَعَلَى سَمْعِهِمْ أنها لما أعيدت للأسماع كان أدل على شدة الختم في الموضعين
المسألة السادسة إنما جمع القلوب والأبصار ووحد السمع لوجوه أحدها أنه وحد السمع لأن لكل واحد منهم سمعاً واحداً كما يقال أتاني برأس الكبشين يعني رأس كل واحد منهما كما وحد البطن في قوله ( كلوا في بعض بطنكم تعيشوا ) يفعلون ذلك إذا أمنوا اللبس فإذا لم يؤمن كقولك فرشهم وثوبهم وأنت تريد الجمع رفضوه الثاني أن السمع مصدر في أصله والمصادر لا تجمع يقال رجلان صوم ورجال صوم فروعي الأصل يدل على ذلك جمع الأذن في قوله وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ ( فصلت 5 ) الثالث أن نقدر مضافاً محذوفاً أي وعلى حواس سمعهم الرابع قال سيبويه إنه وحد لفظ السمع إلا أنه ذكر ما قبلة وما بعده بلفظ الجمع وذلك يدل على أن المراد منه الجمع أيضاً قال تعالى يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( البقرة 257 ) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ ( المعارج 37 ) قال الراعي فبها جيف الحيدي فأما عظامها
فبيض وأما جلدها فصليب
وإنما أراد جلودها وقرأ ابن أبي عبلة ( وعلى أسماعهم )
المسألة السابعة من الناس من قال السمع أفضل من البصر لأن الله تعالى حيث ذكرهما قدم السمع على البصر والتقديم دليل على الفضيل ولأن السمع شرط النبوة بخلاف البصر ولذلك ما بعث الله رسولاً أصم وقد كان فيهم من كان مبتلي بالعمى ولأن بالسمع تصل نتائج عقول البعض إلى البعض فالسمع كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف والبصر لا يوقفك إلا على المحسوسات ولأن السمع متصرف في الجهات الست بخلاف البصر ولأن السمع متى بطل بطل النطق والبصر إذا بطل لم يبطل النطق ومنهم من قدم البصر لأن آلة القوة الباصرة أشرف ولأن متعلق القوة الباصرة هو النور ومتعلق القوة السامعة الريح
المسألة الثامنة قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ يدل على أن محل العلم هو القلب واستقصينا بيانه في قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 ) في سورة الشعراء
المسألة التاسعة قال صاحب الكشاف البصر نور العين وهو ما يبصر به الرائي ويدرك المرئيات كما أن البصيرة نور القلب وهو ما يستبصر به ويتأمل فكأنهما جوهران لطيفان خلق الله تعالى فيهما آلتين للأبصار والاستبصار أقول إن أصحابه من المعتزلة لا يرضون منه بهذا الكلام وتحقيق القول في الأبصار يستدعي أبحاثاً غامضة لا تليق بهذا الموضع
المسألة العاشرة قرىء غِشَاوَة ً بالكسر والنصب وغشاوة بالضم والرفع وغشاوة بالفتح والنصب وغشوة بالكسر والرفع وغشوة بالفتح والرفع والنصب وغشاوة بالعين غير المعجمة والرفع من الغشا والغشاوة هي الغطاء ومنه الغاشية ومنه غشي عليه إذا زال عقله والغشيان كناية عن الجماع
المسألة الحادية عشرة العذاب مثل النكال بناء ومعنى لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول نكل عنه ومنه العذب لأنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخاً لأنه ينقخ العطش أي يكسره وقراتاً لأنه برقته عن القلب ثم اتسع فيه فسمي كل ألم

فادح عذاباً وإن لم يكن نكالاً أي عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة والفرق بين العظيم الكبير أن العظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير فكأن العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير ويستعملان في الجثث والأحداث جميعاً تقول رجل عظيم وكبير تريدجئته أو خطره ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس وهو غطاء التعامي عن آيات الله ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله تعالى
المسألة الثانية عشرة اتفق المسلمون على أنه يحسن منالله تعالى تعذيب الكفار وقال بعضهم لا يحسن وفسروا قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ بأنهم يستحقون ذلك لكن كرمه يوجب عليه العفو ولنذكر ههنا دلائل الفريقين أما الذين لا يجوزون التعذيب فقد تمسكوا بأمور أحدها أن ذلك التعذيب ضرر خالٍ عن جهات المنفعة فوجب أن يكون قبيحاً أما أنه ضرر فلا شك وأما أنه خالٍ عن جهات المنفعة فلأن تلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى أو إلى غيره والأول باطل لأنه سبحانه متعالٍ عن النفع والضرر بخلاف الواحد منا في الشاهد فإن عبده إذا أساء إليه أدبه لأنه يستلذ بذلك التأديب لما كان في قلبه من حب الانتقام ولأنه إذا أدبه فإنه ينزجر بعد ذلك عما يضره والثاني أيضاً باطل لأن تلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى المعذب أو إلى غيره أما إلى المعذب فهو محال لأن الأَضرار لا يكون عين الانتفاع وأما إلى غيره فمحال لأن دفع الضرر أولى بالرعاية من إيصال النفع فإيصال الضرر إلى شخص لغرض إيصال النفع إلى شخص آخر ترجيح للمرجوح على الراجح وهو باطل وأيضاً فلا منفعة يريد الله تعالى إيصالها إلى أحد إلا وهو قادر على ذلك الاتصال من غير توسيط الإضرار بالغير فيكون توسيط ذلك الإضرار عديم الفائدة فثبت أن التعذيب ضرر خالٍ عن جميع جهات المنفعة وأنه معلوم القبح ببديهة العقل بل قبحه أجلى في العقول من قبح الكذب الذي لا يكون ضاراً والجهل الذي لا يكون ضاراً بل من قبح الكذب الضار والجهل الضار لأن ذلك الكذب الضار وسيلة إلى الضرر وقبح ما يكون وسيلة إلى الضرر دون قبيح نفس الضرر وإذا ثبت قبحه امتنع صدوره من الله تعالى لأنه حكيم والحكيم لا يفعل القبيح وثانيها أنه تعالى كان عالماً بأن الكافر لا يؤمن على ما قال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 ) إذا ثبت هذا ثبت أنه متى كلف الكافر لم يظهر منه إلا العصيان فلو كان ذلك العصيان سبباً للعقاب لكان ذلك التكليف مستعقباً لاستقحاق العقاب إما لأنه تمام العلة أو لأنه شطر العلة وعلى الجملة فذلك التكليف أمر متى حصل حصل عقيبة لا محالة العقاب وماكان مستعقباً للضرر الخالي عن النفع كان قبيحاً فوجب أن يكون ذلك التكليف قبيحاً والقبيح لا يفعله الحكيم فلم يبق ها هنا إلا أحد أمرين إما أن يقال لم يوجد هذا التكليف أو إن وجد لكنه لا يستعقب العقاب وكيف كان فالمقصود حاصل وثالثها أنه تعالى إما أن يقال خلق الخلق للإنفاع أو للإضرار أولاً للإنفاع ولا للإضرار فإن خلقهم للإنفاع وجب أن لا يكلفهم ما يؤدي به إلى ضد مقصوده مع علمه بكونه كذلك ولما علم إقدامهم على العصيان لو كلفهم كان التكليف فعلاً يؤدي بهم إلى العقاب فإذا كان قاصداً لإنفاعهم وجب أن لا يكلفهم وحيث كلفهم دل على أن العصيان لا يكون سبباً لاستحقاق العذاب ولا جائز أن يقال خلقهم لا للإنفاع

ولا للإضرار لأن الترك على العدم يكفي في ذلك ولأنه على هذا التقدير يكون عبثاً ولا جائز أن يقال خلقهم للإضرار لأن مثل هذا لا يكون رحيماً كريماً وقد تطابقت العقول والشرائع على كونه رحيماً كريماً وعلى أنه نعم المولى ونعم النصير وكل ذلك يدل على عدم العقاب ورابعها أنه سبحانه هو الخالق للدواعي التي توجب المعاصي فيكون هو الملجىء إليها فيقبح منه أن يعاقب عليها إنما قلنا إنه هو الخالق لتلك الدواعي لما بينا أن صدور الفعل عن مقدرة يتوقف على انضمام الداعية التي يخلقها الله تعالى إليها وبينا أن ذلك يوجب الجبر وتعذيب المجبور قبيح في العقول وربما قرروا هذا من وجه آخر فقالوا إذا كانت الأوامر والنواهي الشرعية قد جاءت إلى شخصين من الناس فقبلها أحدهما وخالفها الآخر فأثيب أحدهما وعوقب الآخر فإذا قيل لم قيل هذا وخالف الآخر فيقال لأن القابل أحب الثواب وحذر العقاب فأطاع والآخر لم يحب ولم يحذر فعصى أو أن هذا أصغى إليّ من وعظه وفهم عنه مقالته فأطاع وهذا لم يصغ ولم يفهم فعصي فيقال ولم أصغي هذا وفهم ولم يصغ ذلك ولم يفهم فنقول لأن هذا لبيب حازم فطن وذلك أخرق جاهل غبي فيقال ولم اختص هذا بالحزم والفطنة دون ذاك ولا شك أن الفطنة والبلادة من الأحوال الغريزية فإن الإنسان لا يختار الغباوة والخرق ولا يفعلهما في نفسه بنفسه فإذا تناهت التعليلات إلى أمور خلقها الله تعالى اضطراراً علمنا أن كل هذه الأمور بقضاء الله تعالى وليس يمكنك أن تسوي بين الشخصين اللذين أطاع أحدهما وعصى الآخر في كل حال أعني في العقل والجهل والفطانة والغباوة والحزم والخرق والمعلمين والباعثين والزاجرين ولا يمكنك أن تقول إنهما لو استويا في ذلك كله لما استويا في الطاعة والمعصية فإذن سبب الطاعة والمعصية من الأشخاص أمور وقعت بتخليق الله تعالى وقضائه وعند هذا يقال أين من العدل والرحمة والكرم أن يخلق العاصي على ما خلقه الله عليه من الفظاظة والجسارة والغباوة والقساوة والطيش والخرق ثم يعاقبه عليه وهلا خلقه مثل ما خلق الطائع لبيباً حازماً عارفاً عالماً وأين من العدل أن يسخن قلبه ويقوي غضبه ويلهب دماغه ويكثر طيشه ولا يرزقه ما رزق غيره من مؤدب أديب ومعلم عالم وواعظ مبلغ بل يقيض له أضداد هؤلاء في أفعالهم وأخلاقهم فيتعلم منهم ثم يؤاخذه بما يؤاخذ به اللبيب الحازم والعاقل العالم البارد الرأس المعتدل مزاج القلب اللطيف الروح الذي رزقه مربياً شفيقاً ومعلماً كاملاً ما هذا من العدل والرحمة والكرم والرأفة في شيءا فثبت بهذه الوجوه أن القول بالعقاب على خلاف قضايا العقول وخامسها أنه تعالى إنما كلفنا النفع لعوده إلينا لأنه قال إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) فإذا عصينا فقد فوتنا على أنفسنا تلك المنافع فهل يحسن في العقول أن يأخذ الحكيم إنساناً ويقول له إني أعذبك العذاب الشديد لأنك فوت على نفسك بعض المنافع فإنه يقال له إن تحصيل النفع مرجوح بالنسبة إلى دفع الضرر فهب أني فوت على نفسي أدون المطلوبين أفتفوت عليّ لأجل ذلك أعظمها وهل يحسن من السيد أن يأخذ عبده ويقول إنك قدرت على أن تكتسب ديناراً لنفسك ولتنتفع به خاصة من غير أن يكون لي فيه غرض البتة فلما لم تكتسب ذلك الدينار ولم تنتفع به آخذك وأقطع أعضاءك إرباً إرباً لا شك أن هذا نهاية السفاهة فكيف يليق بأحكم الحاكمينا ثم قالوا هب أن سلمنا هذا العقاب فمن أين القول بالدوام وذلك لأن أقسى الناس قلباً وأشدهم غلظة وفظاظة وبعداً عن الخير إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه وعذبه يوماً أو شهراً أو سنة فإنه يشبع منه ويمل فلو بقي مواظباً عليه لامه كل أحد ويقال

هب أنه بالغ هذا في أضرارك ولكن إلى متى هذا التعذيب فإما أن تقتله وتريحه وإما أن تخلصه فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذ بالانتقام فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام الذي يقالا وسادسها أنه سبحانه نهى عباده عن استيفاء الزيادة فقال فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ( الإسرءا 33 ) وقال وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) ثم إن العبد هب أنه عصى الله تعالى طول عمره فأين عمره من الأبد فيكون العقاب المؤبد ظلماً وسابعها أن العبد لو واظب على الكفر طول عمره فإذا تاب ثم مات عفا الله عنه وأجاب دعاءه وقبل توبته ألا ترى أن هذا الكريم العظيم ما بقي في الآخرة أو عقول أولئك المعذبين ما بقيت فلم لا يتوبون عن معاصيهم وإذا تابوا فلم لا يقبل الله تعالى منهم توبتهم ولم لا يسمع نداءهم ولم يخيب رجاءهم ولم كان في الدنيا في الرحمة والكرم إلى حيث قال ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ( النحل 62 ) وفي الآخرة صار بحيث كلما كان تضرعهم إليه أشد فإنه لا يخاطبهم إلا بقوله اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( المؤمنون 10 ) قالوا فهذه الوجوه مما توجب القطع بعدم العقاب ثم قال من آمن من هؤلاء بالقرآن العذر عما ورد في القرآن من أنواع العذاب من وجوه أحدها أن التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد اليقين والدلائل العقلية تفيد اليقين والمظنون لا يعارض المقطوع وإنما قلنا إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين لأن الدلائل اللفظية مبنية على أصول كلها ظنية والمبني على الظني ظني وإنما قلنا إنها مبنية على أصول ظنية لأنها مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف ورواة هذه الأشياء لا يعلم بلوغهم إلى حد التواتر فكانت روايتهم مظنونة وأيضاً فهي مبنية على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار بالزيادة والنقصان وعدم التقديم والتأخير وكل ذلك أمور ظنية وأيضاً فهي مبنية على عدم المعارض العقلي فإنه بتقدير وجوده لا يمكن القول بصدقهما ولا بكذبهما معاً ولا يمكن ترجيح النقل على العقل لأن العقل أصل النقل والطعن في العقل يوجب الطعن في العقل والنقل معاً لكن عدم المعارض العقلي مظنون هذا إذا لم يوجد فكيف وقد وجدنا ههنا دلائل عقلية على خلاف هذه الظواهر فثبت أن دلالة هذه الدلائل النقلية ظنية وأما أن الظني لا يعارض اليقيني فلا شك فيه وثانيها وهو أن التجاوز عن الوعيد مستحسن فيما بين الناس قال الشاعر فوإني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعاد ومنجز موعدي
بل الإصرار على تحقيق الوعيد كأنه بعد لؤما وإذا كان كذلك وجب أن لا يصلح من الله تعالى وهذا بناءً على حرف وهو أهل السنّة جوزوا نسخ الفعل قبل مدة الامتثال وحاصل حروفهم فيه أن الأمر يسن تارة لحكمة تنشأ من نفس المأمور به وتارة لحكمة تنشأ من نفس الأمر فإن السيد قد يقول لعبده إفعل الفعل الفلاني غداً وإن كان يعلم في الحال أنه سينهاه عنه غداً ويكون مقصوده من ذلك الأمر أن يظهر العبد الانقياد لسيده في ذلك ويوطن نفسه على طاعته فكذلك إذا علم الله من العبد أنه سيموت غداً فإنه يحسن عند أهل السنّة أن يقول صلِ غداً إن عشت ولا يكون المقصود من هذا الأمر تحصيل المأمور به لأنه ههنا محال بل المقصود حكمة تنشأ من نفس الأمر فقط وهو حصول الانقياد والطاعة وترك التمرد إذا ثبت هذا

فنقول لم لا يجوز أن يقال الخبر أيضاً كذلك فتارة يكون منشأ الحكمة من الأخبار هو الشيء المخبر عنه وذلك في الوعد وتارة يكون منشأ الحكمة هو نفس الخبر لا المخبر عنه كما في الوعيد فإن الأخبار على سبيل الوعيد مما يفيد الزجر عن المعاصي والإقدام على الطاعات فإذا حصل هذا المقصود جاز أن لا يوجد المخبر عنه كما في الوعيد وعند هذا قالوا إن وعد الله بالثواب حق لازم وأما توعده بالعقاب فغير لازم وإنما قصد به صلاح المكلفين مع رحمته الشاملة لهم كالوالد يهدد ولده بالقتل والسمل والقطع والضرب فإن قبل الولد أمره فقد انتفع وإن لم يفعل فما في قلب الوالد من الشفقه يرده عن قتله وعقوبته فإن قيل فعلى جميع التقادير يكون ذلك كذباً والكذب قبيح قلنا لا نسلم أن كل كذب قبيح بل القبيح هو الكذب الضار فأما الكذب النافع فلا ثم إن سلمنا ذلك لكن لا نسلم أنه كذب أليس أن جميع عمومات القرآن مخصوصة ولا يسمى ذلك كذباً أليس أن كل المتشابهات مصروفة عن ظواهرها ولا يسمى ذلك كذباً فكذا ههنا وثالثها أليس أن آيات الوعيد في حق العصاة مشروطة بعدم التوبة وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً في صريح النص فهي أيضاً عندنا مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً بصريح النص صريحاً أو نقول معناه أن العاصي يستحق هذه الأنواع من العقاب فيحمل الأخبار عن الوقوع على الأخبار عن استحقاق الوقوع فهذا جملة ما يقال في تقرير هذا المذهب وأما الذين أثبتوا وقوع العذاب فقالوا إنه نقل إلينا على سبيل التواتر من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقوع العذاب فإنكاره يكون تكذيباً للرسول وأما الشبه التي تمسكتم بها في نفي العقاب فهي مبنية على الحسن والقبح وذلك مما لا نقول به والله أعلم
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
اعلم أن المفسرين أجمعوا على أن ذلك في وصف المنافقين قالوا وصف الله الأصناف الثلاثة من المؤمنين والكافرين والمنافقين فبدأ بالمؤمنين المخلصين الذين صحت سرائرهم وسلمت ضمائرهم ثم أتبعهم بالكافرين الذين من صفتهم الإقامة على الجحود والعناد ثم وصف حال من يقول بلسانه إنه مؤمن وضميره يخالف ذلك وفيه مسائل
المسألة الأولى أعلم أن الكلام في حقيقة النفاق لا يتخلص إلا بتقسيم نذكره فنقول أحوال القلب أربعة وهي الاعتقاد المطابق المستفاد عن الدليل وهو العلم والاعتقاد المطابق المستفاد لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد والاعتقاد الغير المطابق وهو الجهل وخلو القلب عن كل ذلك فهذه أقسام أربعة وأما أحوال اللسان فثلاثة الإقرار والإنكار والسكوت فيحصل من تركيباتها اثنا عشر قسماً النوع الأول ما إذا حصل العرفان القلبي فههنا إما أن ينضم إليه الإقرار باللسان أو الإنكار باللسان أو السكوت القسم الأول ما إذا حصل العرفان بالقلب والإقرار باللسان فهذا الإقرار إن كان اختيارياً فصاحبه مؤمن حقاً بالإتفاق وإن كان اضطرارياً وهو ما إذا عرف بقلبه ولكنه يجد من نفسه أنه لولا الخوف لما أقر بل أنكر فهذا يجب أن يعد منافقاً لأنه بقلبه

منكر مكذب فإذا كان باللسان مقراً مصداقاً وجب أن يعد منافقاً لأنه بقلبه منكر مكذب بوجوب الإقرار القسم الثاني أن يحصل العرفان القلبي والإنكار اللساني فهذا الإنكار إن كان اضطرارياً كان صاحبه مسلماً لقوله تعالى إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ( النحل 106 ) وإن كان اختيارياً كان كافراً معانداً القسم الثالث أن يحصل العرفان القلبي ويكون اللسان خالياً عن الإقرار والإنكار فهذا السكوت إما أن يكون اضطرارياً أو اختيارياً فإن كان اضطرارياً فذلك إذا خاف ذكره باللسان فهذا مسلم حقاً أو كما إذا عرف الله بدليله ثم لما تمم النظر مات فجأة فهذا مؤمن قطعاً لأنه أتى بكل ما كلف به ولم يجد زمان الإقرار والإنكار فكان معذوراً فيه وأما إن كان اختيارياً فهو كمن عرف الله بدليله ثم إنه لم يأت بالإقرار فهذا محل البحث وميل الغزالي رحمه الله إلى أنه يكون مؤمناً لقوله عليه السلام ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ) وهذا الرجل قلبه مملوء من نور الإيمان فكيف لا يخرج من النار النوع الثاني أن يحصل في القلب الاعتقاد التقليدي فإما أن يوجد معه الإقرار أو الإنكار أو السكوت القسم الأول أن يوجد معه الإقرار ثم ذلك الإقرار إن كان اختيارياً فهذا هو المسألة المشهورة من أن المقلد هل هو مؤمن أم لا وإن كان اضطرارياً فهذا يفرع على الصورة الأولى فإن حكمنا في الصورة الأولى بالكفر فها هنا لا كلام وإن حكمنا هناك بالإيمان وجب أن يحكم ها هنا بالنفاق لأن في هذه الصورة لو كان القلب عارفاً لكان هذا الشخص منافقاً فبأن يكون منافقاً عند التقليد كان أولى القسم الثاني الاعتقاد التقليدي مع الإنكار اللساني ثم هذا الإنكار إن كان اختيارياً فلا شك في الكفر وإن كان اضطرارياً وحكمنا بإيمان المقلد وجب أن نحكم بالإيمان في هذه الصورة القسم الثالث الاعتقاد التقليدي مع السكوت اضطرارياً كان أو اختيارياً وحكمه حكم القسم الثالث من النوع الأول إذا حكمنا بإيمان المقلد النوع الثالث الإنكار القلبي فإما أن يوجد معه الإقرار اللساني أو الإنكار اللساني أو السكوت القسم الأول أن يوجد معه الإقرار اللساني فذلك الإقرار إن كان اضطرارياً فهو المنافق وإن كان اختيارياً فهو مثل أن يعتقد بناءً على شبهة أن العالم قديم ثم بالاختيار أقر باللسان أن العالم محدث وهذا غير مستبعد لأنه إذا جاز أن يعرف بالقلب ثم ينكر باللسان وهو كفر الجحود والعناد فلم لا يجوز أن يجهل بالقلب ثم يقر باللسان فهذا القسم أيضاً من النفاق القسم الثاني أن يوجد الإنكار القلبي ويوجد الإنكار اللساني فهذا كافر وليس بمنافق لأنه ما أظهر شيئاً بخلاف باطنه القسم الثالث أن يوجد الإنكار القلبي مع السكوت اللساني فهذا كافر وليس بمنافق لأنه ما أظهر شيئاً النوع الرابع القلب الخالي عن جميع الاعتقادات فهذا إما أن يوجد معه الإقرار أو الإنكار أو السكوت القسم الأول إذا وجد الإقرار فهذا الإقرار إما أن يكون اختيارياً أو اضطرارياً فإن كان اختيارياً فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر لكنه فعل ما لا يجوز حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر أما إذا كان اضطرارياً لم يكفر صاحبه لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً القسم الثاني القلب الخالي مع الإنكار باللسان وحكمه على العكس من حكم القسم العاشر القسم الثالث القلب الخالي مع اللسان الخالي فهذا إن كان في مهلة النظر فذاك هو الواجب وإن كان خارجاً عن مهلة النظر وجب تكفيره ولا يحكم عليه بالنفاق البتة فهذه هي الأقسام الممكنة في هذا الباب وقد ظهر منه أن النفاق ما هو وأنه الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ما في ظاهره أو كان باطنه خالياً عما يشعر به ظاهره وإذ عرفت هذا ظهر أن قوله

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ المراد منه المنافقون والله أعلم
المسألة الثانية اختلفوا في أن كفر الكافر الأصلي أقبح أم كفر المنافق قال قوم كفر الكافر الأصلي أقبح لأنه جاهل بالقلب كاذب باللسان والمنافق جاهل بالقلب صادق باللسان وقال آخرون بل المنافق أيضاً كاذب باللسان فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه ولذلك قال تعالى قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( الحجرات 14 ) وقال وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ( المنافقون 1 ) ثم إن المنافق اختص بمزيد أمور منكرة أحدها أنه قصد التلبيس والكافر الأصلي ما قصد ذلك وثانيها أن الكافر عى طبع الرجال والمنافق على طبع الخنوثة وثالثها أن الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه ولم يرض إلا بالصدق والمنافق رضي بذلك ورابعها أن المنافق ضم إلى كفره الاستهزاء بخلاف الكافر الأصلي ولأجل غلظ كفره قال تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( النساء 145 ) وخامسها قال مجاهد إنه تعالى ابتدأ بذكر المؤمنين في أربع آيات ثم ثنى بذكر الكفار في آيتين ثم ثلث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية وذلك يدل على أن المنافق أعظم جرماً وهذا بعيد لأن كثرة الاقتصاص بخبرهم لا توجب كون جرمهم أعظم فإن عظم فلغير ذلك وهو ضمهم إلى الكفر وجوهاً من المعاصي كالمخادعة والاستهزاء وطلب الغوائل إلى غير ذلك ويمكن أن يجاب عنه بأن كثرة الاقتصاص بخبرهم تدل على أن الاهتمام بدفع شرهم أشد من الاهتمام بدفع شر الكفار وذلك يدل على أنهم أعظم جرماً من الكفار
المسألة الثالثة هذه الآية دالة على أمرين الأول أنها تدل على أن من لا يعرف الله تعالى وأقر به فإنه لا يكون مؤمناً لقوله وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ وقالت الكرامية إنه يكون مؤمناً الثاني أنها تدل على بطلان قول من زعم أن كل المكلفين عارفون بالله ومن لم يكن به عارفاً لا يكون مكلفاً أما الأول فلأن هؤلاء المنافقين لو كانوا عارفين بالله وقد أقروا به لكان يجب أن يكون إقرارهم بذلك إيماناً لأن من عرف الله تعالى وأقر به لا بدّ وأن يكون مؤمناً وأما الثاني فلأن غير العارف لو كان معذوراً لما ذم الله هؤلاء على عدم العرفان فبطل قول من قال من المتكلمين أن من لا يعرف هذه الأشياء يكون معذوراً
المسألة الرابعة ذكروا في اشتقاق لفظ الإنسان وجوهاً أحدها يروى عن ابن عباس أنه قال سمي إنساناً لأنه عهد إليه فنسي وقال الشاعر سميت إنساناً لأنك ناسي
وقال أبو الفتح البستي فيا أكثر الناس إحساناً إلى الناس
وأكثر الناس إفضالاً على الناس
نسيت عهدك والنسيان مغتفر
فاغفر فأول ناس أول الناس
وثانيها سمي إنساناً لاستئناسه بمثله وثالثها قالوا الإنسان إنما سمي إنساناً لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون من قوله مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ ( القصص 29 ) كما سمي الجن لاجتنانهم واعلم أنه لا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقاً من شيء آخر وإلا لزم التسلسل وعلى هذا لا حاجة إلى جعل لفظ الإنسان مشتقاً من شيء آخر
المسألة الخامسة قال ابن عباس أنها نزلت في منافقي أهل الكتاب منهم عبد الله بن أبي

ومعتب بن قشير وجد ابن قيس كانوا إذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق ويقولون إنا لنجد في كتابنا نعته وصفته ولم يكونوا كذلك إذا خلا بعضهم إلى بعض
المسألة السادسة لفظة ( من ) لفظة صالحة للتثنية والجمع والواحد أما في الواحد فقوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ( الأنعام 25 ) وفي الجمع كقوله وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ( يونس 42 ) والسبب فيه أنه موحد اللفظ مجموع المعنى فعند التوحيد يرجع إلى اللفظ وعند الجمع يرجع إلى المعنى وحصل الأمران في هذه الآية لأن قوله تعالى يِقُولُ لفظ الواحد و مِنَ لفظ الجمع وبقي من مباحث الآية أسئلة السؤال الأول المنافقون كانوا مؤمنين بالله وباليوم الآخر ولكنهم كانوا منكرين لنبوته عليه السلام فلم كذبهم في إدعائهم الإيمان بالله واليوم الآخر والجواب إن حملنا هذه الآية على منافقي المشركين فلا إشكال لأن أكثرهم كانوا جاهلين بالله ومنكرين البعث والنشور وإن حملناها على منافقي أهل الكتاب وهم اليهود فإنما كذبهم الله تعالى لأن إيمان اليهود بالله ليس بإيمان لأنهم يعتقدونه جسماً وقالوا عزيز بن الله وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان فلما قالوا آمنا بالله كان خبثهم فيه مضاعفاً لأنهم كانوا بقلوبهم يؤمنون به على ذلك الوجه الباطل وباللسان يوهمون المسلمين بهذا الكلام إنا آمنا لله مثل إيمانكم فلهذا كذبهم الله تعالى فيه السؤال الثاني كيف طابق قوله وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ قولهم بِاللَّهِ فَإِذَا والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل والجواب أن من قال فلان ناظر في المسألة الفلانية فلو قلت إنه لم يناظر في تلك المسألة كنت قد كذبته أما لو قلت إنه ليس من الناظرين كنت قد بالغت في تذكيبه يعني أنه ليس من هذا الجنس فكيف يظن به ذلك فكذا ههنا لما قالوا آنا بالله فلو قال الله ما آمنوا كان ذلك تكذيباً لهم أما لما قال وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ كان ذلك مبالغة في تكذيبهم ونظيره قوله يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا هو أبلغ من قولهم وما يخرجون منها السؤال الثالث ما المراد باليوم الآخر الجواب يجوز أن يراد به الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع له أمد ويجوز أن يراد به الوقت المحدود من النشور إلى أن تدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة وما بعده فلا حد له
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ
اعلم أن الله تعالى من قبائح المنافقين أربعة أشياء أحدها ما ذكره في هذه الآية وهو أنهم يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءامَنُوا فيجب أن يعلم أولاً ما المخادعة ثم ثانياً ما المراد بمخادعة الله وثالثاً أنهم لماذا كانوا يخادعون الله ورابعاً أنه ما المراد بقوله وما يخدعون إلا أنفسهم

المسألة الأولى اعلم أنه لا شبهة في أن الخديعة مذمومة والمذموم يجب أن يميز من غيره لكي لا يفعل وأصل هذه اللفظة الإخفاء وسميت الخزانة المخدع والأخدعان عرقان في العنق لأنهما خفيان وقالوا خدع الضب خدعاً إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلاً وطريق خيدع وخداع إذا كان مخالفاً للمقصد بحيث لا يفطن له ومنه المخدع وأما حدها فهو إظهار ما يوهم السلامة والسداد وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير والتخلص منه فهو بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسنة وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين لأن الدين يوجب الاستقامة والعدولعن الغرور والإساءة كما يوجب المخالصة لله تعالى في العبادة ومن هذا الجنس وصفهم المرائي بأنه مدلس إذا أظهر خلاف مراده ومنه أخذ التدليس في الحديث لأن الراوي يوهم السماع ممن لم يسمع وإذا أعلن ذلك لا يقال إنه مدلس
المسألة الثانية وهي أنهم كيف خادعوا الله تعالى فلقائل أن يقول إن مخادعة الله تعالى ممتنعة من وجهين الأول أنه تعالى يعلم الضمائر والسرائر فلا يجوز أن يخادع لأن الذي فعلوه لو أظهروا أن الباطن بخلاف الظاهر لم يكن ذلك خداعاً فإذا كان الله تعالى لا يخفي عليه البواطن لم يصح أن يخادع الثاني أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم فلم يكن قصدهم في نافقهم مخادعة الله تعالى فثبت أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره بل لا بدّ من التأويل وهو من وجهين الأول أنه تعالى ذكر نفسه وأراد به رسولة على عادته في تفخيم وتعظيم شأنه قال إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وقال في عكسه وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَى ْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ( الأنفال 41 ) أضاف السهم الذي يأخذه الرسول إلى نفسه فالمنافقون لما خادعوا الرسول قيل إنهم خادعوا الله تعالى الثاني أن يقال صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يخادع وصورة صنيع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد الكفرة صورة صنيع الله معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم
المسألة الثالثة فهي في بيان الغرض من ذلك الخداع وفيه وجوه الأول أنهم ظنوا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين يجرونهم في التعظيم والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان وإن أسروا خلافه فمقصودهم من الخداع هذا الثاني يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليهم أسراره وإفشاء المؤمنين أسرارهم فينقلونها إلى أعدائهم من الكفار الثالث أنهم دفعوا عن أنفسهم أحكام الكفار مثل القتل لقوله عليه الصلاة والسلام ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) الرابع أنهم كانوا يطمعون في أموال الغنائم فإن قيل فالله تعالى كان قادراً على أن يوحي إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كيفية مكرهم وخداعهم فلم لم يفعل ذلك هتكاً لسترهم قلنا إنه تعالى قادر على استئصال إبليس وذريته ولكنه تعالى أبقاهم وقواهم إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد أو لحكمة لا يطلع عليها إلا هو فإن قيل هل للاقتصار بخادعت على واحد وجه صحيح قلنا قال صاحب ( الكشاف ) وجهه أن يقال عنى به فعلت إلا أنه أخرج في زنة فاعلت لأن الزنة في أصلها للمبالغة والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب لزيادة قوة الداعي إليه ويعضده قراءة أبي حيوة ( يخدعون الله ) ثم قال يُخَادِعُونَ بياناً ليقول ويجوز أن يكون مستأنفاً كأنه قيل ولِمَ يدَّعون الإيمان كاذبين وما نفعهم فيه فقيل يُخَادِعُونَ

المسألة الرابعة قرأ نافع وابن كثير وأبو عمر ( وما يخادعون ) والباقون ( يخدعون ) وحجة الأولين مطابقة اللفظ حتى يكون مطابقاً للفظ الأول وحجة الباقين أن المخادعة إنما تكون بين اثنين فلا يكون الإنسان الواحد مخادعاً لنفسه ثم ذكروا في قوله وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وجهين الأول أنه تعالى يجازيهم على ذلك ويعاقبهم عليه فلا يكونون في الحقيقة خادعين إلا أنفسهم عن الحسن والثاني ما ذكره أكثر المفسرين وهو أن وبال ذلك راجع إليهم في الدنيا لأن الله تعالى كان يدفع ضرر خداعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم وهو كقوله إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النساء 142 ) وقوله إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ( البقرة 14 15 ) أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء ( البقرة 13 ) وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً ( النحل 50 ) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً ( الطارق 15 16 ) إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( الأحزاب 57 ) وبقي في الآية بعد ذلك أبحاث أحدها قرىء ( وما يخادعون ) من أخدع و ( يخدعون ) بفتح الياء بمعنى يختدعون ( ويخدعون ) و ( يخادعون ) على لفظ ما لم يسم فاعله وثانيها النفس ذات الشيء وحقيقته ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( المائدة 116 ) والمراد بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لا يعدوهم إلى غيرهم وثالثها أن الشعور علم الشيء إذا حصل بالحس ومشاعر الإنسان حواسه والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس لكنهم لتماديهم في الغفلة كالذي لا يحس
أما قوله تعالى فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ فاعلم أن المرض صفة توجب وقوع الضرر في الأفعال الصادرة عن موضع تلك الصفة ولما كان الأثر الخاص بالقلب إنما هو معرفة الله تعالى وطاعته وعبوديته فإذا وقع في القلب من الصفات ما صار مانعاً من هذه الآثار كانت تلك الصفات أمراضاً للقلب فإن قيل الزيادة من جنس المزيد عليه فلو كان المراد من المرض ههنا الكفر والجهل لكان قوله فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا محمولاً على الكفر والجهل فيلزم أن يكون الله تعالى فاعلاً للكفر والجهل قالت المعتزلة لا يجوز أن يكون مراد الله تعالى منه فعل الكفر والجهل لوجوه أحدها أن الكفار كانوا في غاية الحرص على الطعن في القرآن فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) إذا فعل الله الكفر فينا فكيف تأمرنا بالإيمان وثانيها أنه تعالى لو كان فاعلاً للكفر لجاز منه إظهار المعجزة على يد الكذاب فكان لا يبقى كون القرآن حجة فكيف نتشاغل بمعانيه وتفسيره وثالثها أنه تعالى ذكر هذه الآيات في معرض الذم لهم على كفرهم فكيف يذمهم على شيء خلقه فيهم ورابعها قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فإن كان الله تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم فأي ذنب لهم حتى يعذبهم وخامسها أنه تعالى أضافه إليهم بقوله بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ وعلى هذا وصفهم تعالى بأنهم مفسدون في الأرض وأنهم هم السفهاء وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إذا ثبت هذا فنقول لا بدّ من التأويل وهو من وجوه الأول يحمل المرض على الغم لأنه يقال مرض قلبي من أمر كذا والمعنى أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا ثبات أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واستعلاء شأنه يوماً فيوماً وذلك كان يؤثر في زوال رياستهم كما روي أنه عليه السلام مر بعبد الله بن أبي بن سلول على حمار فقال له نح حمارك يا محمد فقد آذتني ريحه فقال له بعض الأنصار اعذره يا رسول الله فقد كنا عزمنا على أن نتوجه الرياسة قبل أن تقدم علينا فهؤلاء لما اشتد عليهم الغم وصف ال له

تعالى ذلك فقال فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا أي زادهم الله غماً على غمهم بما يزيد في إعلاء أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتعظيم شأنه الثاني أن مرضهم وكفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكاليف فهو كقوله تعالى في سورة التوبة فَزَادَهُمُ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( التوبة 125 ) والسورة لم تفعل ذلك ولكنهم لما ازدادوا رجساً عند نزولها لما كفروا بها قيل ذلك وكقوله تعالى حكاية عن نوح إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 5 6 ) والدعاء لم يفعل شيئاً من هذا ولكنهم ازدادوا فراراً عنده وقال وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى ( التوبة 49 ) والنبي عليه السلام إن لم يأذن له لم يفتنه ولكنه كان يفتتن عند خروجه فنسبت الفتنة إليه وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ( المادة 64 ) وقال فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ( فاطر 42 ) وقولك لمن وعظته فلم يتعظ وتمادى في فساده ما زادتك موعظتي إلا شراً ومازادتك إلا فساداً فكذا هؤلاء المنافقون لما كانوا كافرين ثم دعاهم الله إلى شرائع دينه فكفروا بتلك الشرائع وازدادوا بسبب ذلك كفراً لا جرم أضيفت زيادة كفرهم إلى الله الثالث المراد من قوله فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا المنع من زيادة الألطاف فيكون بسبب ذلك المنع خاذلاً لهم وهو كقوله قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( المنافقون 4 ) الرابع أن العرب تصف فتور الطرف بالمرض فيقولون جارية مريضة الطرف قال جرير فإن العيون التي في طرفها مرض
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فكذا المرض ههنا إنما هو الفتور في النية وذلك لأنهم في أول الأمر كانت قلوبهم قوية على المحاربة والمنازعة وإظهار الخصومة ثم انكسرت شوكتهم فأخذوا في النفاق بسبب ذلك الخوف والإنكسار فقال تعالى فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا أي زادهم ذلك الانكسار والجبن والضعف ولقد حفق الله تعالى ذلك بقوله وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ ( الحشر 2 ) الخامس أن يحمل المرض على ألم القلب وذلك أن الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه فإذا دام به ذلك فربما صار ذلك سبباً لغير مزاج القلب وتألمه وحمل اللفظ على هذا الوجه حمل له على حقيقته فكان أولى من سائر الوجوه أما قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قال صاحب ( الكشاف ) ألم فهو أليم كوجع فهو وجيع ووصف العذاب به فهو نحو قوله تحية بينهم ضرب وجيع وهذا على طريقة قولهم جد جده والألم في الحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد أما قوله بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ففيه أبحاث أحدها أن الكذب هو الخبر عن شيء على خلاف ما هو به والجاحظ لا يسميه كذباً إلا إذا علم المخبر كون المخبر عنه مخالفاً للخبر وهذا الآية حجة عليه وثانيها أن قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ صريح في أن كذبهم علة للعذاب الأليم وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراماً فأما ما روي أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات فالمراد التعريض ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به وثالثها في هذه الآية قراءتان إحداهما يَكْذِبُونَ والمراد بكذبهم قوله بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا والثانية ( يكذبون ) من كذبه الذي هو نقيض صدقه ومن كذب الذي هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل صدق

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ
إعلم أن هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال المنافقين والكلام فيه من وجوه أحدها أن يقال من القائل لاَ تُفْسِدُواْ فِى الارْضِ وثانيها ما الفساد في الأرض وثالثها من القائل إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ورابعها ما الصلاح
أما المسألة الأولى فمنهم من قال ذلك القائل هو الله تعالى ومنهم من قال هو الرسول عليه السلام ومنهم من قال بعض المؤمنين وكل ذلك محتمل ولا يجوز أن يكون القائل بذلك من لا يختص بالدين والنصيحة وإن كان الأقرب هو أن القائل لهم ذلك من شافههم بذلك فإما أن يكون الرسول عليه السلام بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك فنصحهم فأجابوا بما يحقق إيمانهم وأنهم في الصلاح بمنزلة سائر المؤمنين وإما أن يقال إن بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبله منهم وكان ينقلب واعظاً لهم قائلاً لهم لاَ تُفْسِدُواْ فإن قيل أفما كانوا يخبرون الرسول عليه السلام بذلك قلنا نعم إلا أن المنافقين كانوا إذا عوتبوا عادوا إلى إظهار الإسلام والندم وكذبوا الناقلين عنهم وحلفوا بالله عليه كما أخبر تعالى عنهم في قوله يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَة َ الْكُفْرِ ( التوبة 74 ) وقال يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ ( التوبة 96 )
المسألة الثانية الفساد خروج الشيء عن كونه منتفعاً به ونقيضه الصلاح فأما كونه فساداً في الأرض فإنه يفيد أمراً زائداً وفيه ثلاثة أقوال أحدها قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي أن المراد بالفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى وتقريره ما ذكره القفال رحمه الله وهو أن إظهار معصية الله تعالى إنما كان إفساداً في الأرض لأن الشرائع سنن موضوعة بين العباد فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه فحقنت الدماء وسكنت الفتن وكان فيه صلاح الأرض وصلاح أهلها أما إذا تركوا التمسك بالشرائع وأقدم كل أحد على ما يهواه لزم الهرج والمرج والاضطراب ولذلك قال تعالى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( محمد 22 ) نبههم على أنهم إذا أعرضوا عن الطاعة لم يحصلوا إلا على الإفساد في الأرض به وثانيها أن يقال ذلك الفساد هو مداراة المنافقين للكافرين ومخالطتهم معهم لأنهم لما مالوا إلى الكفر مع أنهم في الظاهر مؤمنون أوهم ذلك ضعف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وضعف أنصاره فكان ذلك يجرىء الكفرة على إظهار عداوة الرسول ونصب الحرب له وطمعهم في الغلبة وفيه فساد عظيم في الأرض وثالثها قال الأصم كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه وجحد الإسلام وإلقاء الشبه
المسألة الثالثة الذين قالوا إنما نحن مصلحون هم المنافقون والأقرب في مرادهم أن يكون نقيضاً لما نهوا عنه فلما كان الذي نهوا عنه هو الإفساد في الأرض كان قولهم إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ كالمقابل له وعند ذلك يظهر احتمالان أحدهما أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب

وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين لا جرم قالوا إنما نحن مصلحون لأنهم في اعتقادهم ما سعوا إلا لتطهير وجه الأرض عن الفساد وثانيهما أنا إذا فسرنا لاَ تُفْسِدُواْ بمداراة المنافقين للكفار فقولهم إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ يعني به أن هذه المداراة سعي في الإصلاح بين المسلمين والكفار ولذلك حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً ( النساء 62 ) فقولهم إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أي نحن نصلح أمور أنفساً
واعلم أن العلماء استدلوا بهذه الآية على أن من أظهر الإيمان وجب إجراء حكم المؤمنين عليه وتجويز خلافه لا يطعن فيه وتوبة الزنديق مقبولة والله أعلم وأما قوله أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ فخارج على وجوه ثلاثة أحدها أنهم مفسدون لأن الكفر فساد في الأرض إذ فيه كفران نعمة الله وإقدام كل أحد على ما يهواه لأنه إذا كان لا يعتقد وجود الإله ولا يرجو ثواباً ولا عقاباً تهارج الناس ومن هذا ثبت أن النفاق فساد ولهذا قال فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ على ما تقدم تقريره
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَآءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَاكِن لاَّ يَعْلَمُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من قبائح أفعال المنافقين وذلك لأنه سبحانه لما نهاهم في الآية المتقدمة عن الفساد في الأرض أمرهم في هذه الآية بالإيمان لأن كمال حال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين أولهما ترك ما لا ينبغي وهو قوله ءامَنُواْ وههنا مسائل
المسألة الأولى قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ أي إيماناً مقروناً بالإخلاص بعيداً عن النفاق ولقائل أن يستدل بهذه الآية على أن مجرد الإقرار إيمان فإنه لو لم يكن إيماناً لما تحقق مسمى الإيمان إلا إذا حصل فيه الإخلاص فكان قوله ءامَنُواْ كافياً في تحصيل المطلوب وكان ذكر قوله كَمَا ءامَنَ النَّاسُ لغواً والجواب أن الإيمان الحقيقي عند الله هو الذي يقترن به الإخلاص أما في الظاهر فلا سبيل إليه إلا بإقرار الظاهر فلا جرم افتقر فيه إلى تأكيده بقوله كَمَا ءامَنَ النَّاسُ
المسألة الثانية اللام في النَّاسِ فيها وجهان أحدهما أنها للعهد أي كما آمن رسول الله ومن معه وهم ناس معهودون أو عبد الله بن سلام وأشياعه لأنهم من أبناء جنسهم والثاني أنها للجنس ثم ها هنا أيضاً وجهان أحدهما أن الأوس والخزرج أكثرهم كانوا مسلمين وهؤلاء المنافقون كانوا منهم وكانوا قليلين ولفظ العموم قد يطلق على الأكثر والثاني أن المؤمنين هم الناس في الحقيقة لأنهم هم الذين أعطوا الإنسانية حقها لأن فضيلة الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل المرشد والفكر الهادي
المسألة الثالثة القائل وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ إما الرسول أو المؤمنون ثم كان بعضهم يقول

لبعض أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان وسفيه بني فلان والرسول لا يعرف ذلك فقال تعالى أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء
المسألة الرابعة السفه الخفة يقال سفهت الريح الشيء إذا حركته قال ذو الرمة فجرين كما اهتزت رياح تسفهت
أعاليها مر الرياح الرواسم
وقال أبو تمام الطائي فسفيه الرمح جاهله إذا ما
بدا فضل السفيه على الحليم
أراد به سريع الطعن بالرمح خفيفه وإنما قيل لبذيء اللسان سفيه لأنه خفيف لا رزانة له وقال تعالى وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ( النساء 5 ) وقال عليه السلام ( شارب الخمر سفيه ) لقلة عقله وإنما سمي المنافقون المسلمين بالسفهاء لأن المنافقين كانوا من أهل الخطر والرياسة وأكثر المؤمنين كانوا فقراء وكان عند المنافقين أن دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) باطل والباطل لا يقبله إلا السفيه فلهذه الأسباب نسبوهم إلى السفاهة ثم إن الله تعالى قلب عليهم هذا اللقب وقوله الحق لوجوه أحدها أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه وثانيها أن من باع آخرته بدنياه فهو السفيه وثالثها أن من عادى محمداً عليه الصلاة والسلام فقد عادى الله وذلك هو السفيه
المسألة الخامسة إنما قال في آخر هذه الآية لاَّ يَعْلَمُونَ وفيما قبلها لاَّ يَشْعُرُونَ لوجهين الأول أن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري وأما أن النفاق وما فيه من البغي يفضي إلى الفساد في الأرض فضروري جار مجرى المحسوس الثاني أنه ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم أحسن طباقاً له والله أعلم
وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُو ا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِى ءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
هذا هو النوع الرابع من أفعالهم القبيحة يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه وقرأ أبو حنيفة ( وإذا لاقوا ) أما قوله قَالُواْ ءامَنَّا فالمراد أخلصنا بالقلب والدليل عليه وجهان الأول أن الإقرار باللسان كان معلوماً منهم فما كانوا يحتاجون إلى بيانه إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب فيجب أن يكون مرادهم من هذا الكلام ذلك الثاني أن قولهم للمؤمنين ( آمنا ) يجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم وإذا كانوا يظهرون لهم التكذيب بالقلب فيجب أن يكون مرادهم فيما ذكروه للمؤمنين

التصديق بالقلب أما قوله وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ فقال صاحب ( الكشاف ) يقال خلوت بفلان وإليه وإذا انفردت معه ويجوز أن يكون من ( خلا ) بمعنى مضى ومنه القرون الخالية ومن ( خلوت به ) إذا سخرت منه من قولك ( خلا فلان بعرض فلان ) أي يعبث به ومعناه أنهم أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول أحمد إليك فلاناً وأذمه إليك وأما شياطينهم فهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم أما قوله إِنَّا مَعَكُمْ ففيه سؤالان السؤال الأول هذا القائل أهم كل المنافقين أو بعضهم الجواب في هذا خلاف لأن من يحمل الشياطين على كبار المنافقين يحمل هذا القول على أنه من صغارهم وكانوا يقولون للمؤمنين آمنا وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا إنا معكم لئلا يتوهموا فيهم المباينة ومن يقول في الشياطين المراد بهم الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كل المنافقين ولا شبهة في أن المراد بشياطينهم أكابرهم وهم إما الكفار وإما أكابر المنافقين لأنهم هم الذين يقدرون على الإفساد في الأرض وأما أصاغرهم فلا السؤال الثاني لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالجملة الإسمية محققة ( بأن ) الجواب ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين لأنهم كانوا في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم في الدرجة الكاملة منه إما لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة لأن القول الصادر عن النفاق والكراهة قلما يحصل معه المبالغة وإما لعلمهم بأن ادعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين وأما كلامهم مع إخوانهم فهم كانوا يقولونه عن الاعتقاد وعلموا أن المستمعين يقبلون ذلك منهم فلا جرم كان التأكيد لائقاً به أما قوله إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ففيه سؤالان السؤال الأول ما الاستهزاء الجواب أصل الباب الخفة من الهزء وهو العدو السريع وهزأ يهزأ مات على مكانه وناقته تهزأ به أي تسرع وحدُّه أنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطان ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية فعلى هذا قولهم إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ يعني نظهر لهم الموافقة على دينهم لنأمن شرهم ونقف على أسرارهم ونأخذ من صدقاتهم وغنائمهم السؤال الثاني كيف تعلق قوله إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ بقوله إِنَّا مَعَكُمْ الجواب هو توكيد له لأن قوله إِنَّا مَعَكُمْ معناه الثبات على الكفر وقوله إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ رد للإسلام ورد نقيض الشيء تأكيد لثباته أو بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر أو استئناف كأنهم اعترضوا عليه حين قالوا إنا معكم فقالوا إن صح ذلك فكيف توافقون أهل الإسلام فقالوا إنما نحن مستهزئون
واعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكى عنهم ذلك أجابهم بأشياء أحدها قوله اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ وفيه أسئلة الأول كيف يجوز وصف الله تعالى بأنه يستهزىء وقد ثبت أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس وهو على الله محال ولأنه لا ينفك عن الجهل لقوله قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( البقرة 67 ) والجهل على الله محال والجواب ذكروا في التأويل خمسة أوجه أحدها أن ما يفعله الله بهم جزاء على استهزائهم سماه بالاستهزاء لأن جزء الشيء يسمى باسم ذلك

الشيء قال تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ( البقرة 194 ) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النساء 144 ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( آل عمران 54 ) وقال عليه السلام ( اللهم إن فلاناً هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فاهجه اللهم والعنه عدد ما هجاني ) أي أجزه جزاء هجائه وقال عليه السلام ( تكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا ) وثانيها أن ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع عليهم وغير ضار بالمؤمنين فيصير كأن الله استهزأ بهم وثالثها أن من آثار الاستهزاء حصول الهوان والحقارة فذكر الاستهزاء والمراد حصول الهوان لهم تعبيراً بالسبب عن المسبب ورابعها إن استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أحكامه في الدنيا ما لهم عند الله خلافها في الآخرة كما أنهم أظهروا للنبي والمؤمنين أمراً مع أن الحاصل منهم في السر خلافه وهذا التأويل ضعيف لأنه تعالى لما أظهر لهم أحكام الدنيا فقد أظهر الأدلة الواضحة بما يعاملون به في الدار الآخرة من سوء المنقلب والعقاب العظيم فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا وخامسها أن الله تعالى يعاملهم معاملة المستهزىء في الدنيا وفي الآخرة أما في الدنيا فلأنه تعالى أطلع الرسول على أسرارهم مع أنهم كانوا يبالغون في إخفائها عنه وأما في الآخرة فقال ابن عباس إذا دخل المؤمنون الجنة والكافرون النار فتح الله من الجنة باباً على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحاً أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة وأهل الجنة ينظرون إليهم فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب فذاك قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ إلى قوله فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ( المطففين 34 ) فهذا هو الاستهزاء بهم السؤال الثاني كيف ابتدأ قوله اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ولم يعطف على الكلام الذي قبله الجواب هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة وفيه أن الله تعالى هو الذي يستهزىء بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزائهم في مقابلته كالعدم وفيه أيضاً أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم باستهزاء مثله
السؤال الثالث هل قيل إن الله مستهزىء بهم ليكون مطابقاً لقوله إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ الجواب لأن ( يستهزىء ) يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتاً بعد وقت وهذا كانت نكايات الله فيهم أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّة ً أَوْ مَرَّتَيْنِ ( التوبة 126 ) وأيضاً فما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار واستشعار حذر من أن تنزل عليهم آية يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَة ٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ الجواب الثاني قوله تعالى وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( البقرة 15 ) قال صاحب الكشاف إنه من مد الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره وكذلك مد الدواة وأمدها زادها ما يصلحها ومددت السراج والأرض إذا أصلحتهما بالزيت والسماد ومده الشيطان في الغي وأمده إذا واصله بالوسواس ومد وأمد بمعنى واحد وقال بعضهم مد يستعمل في الشر وأمد في الخير قال تعالى أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ( المؤمنين 55 ) ومن الناس من زعم أنه من المد في العمر والإملاء والإمهال وهذا خطأ لوجهين الأول أن

قراءة ابن كثير وابن محيصن ( ونمدهم ) وقراءة نافع ( وإخوانهم يمدونهم في الغي ) يدل على أنه من المدد دون المد الثاني أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له كأملي له قالت المعتزلة هذه الآية لا يمكن أجراؤها على ظاهرها لوجوه أحدها قوله تعالى وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَى ِّ أضاف ذلك الغي إلى إخوانهم فكيف يكون مضافاً إلى الله تعالى
وثانيها أن الله تعالى ذمهم على هذا الطغيان فلو كان فعلاً لله تعالى فكيف يذمهم عليه
وثالثها لو كان فعلاً لله تعالى لبطلت النبوة وبطل القرآن فكان الاشتغال بتفسيره عبثاً
ورابعها أنه تعالى أضاف الطغيان إليهم بقوله ( في طغيانهم ) ولو كان ذلك من الله لما أضافه إليهم فظهر أنه تعالى إنما أضافه إليهم ليعرف أنه تعالى غير خالق لذلك ومصداقه أنه حين أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي ولم يقيده بالإضافة في قوله وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَى ِّ ( الأعراف 202 ) إذا ثبت هذا فنقول التأويل من وجوه أحدها وهو تأويل الكعبي وأبي مسلم بن يحيى الأصفهاني أن الله تعالى لما منحهم ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مظلمة بتزايد الظلمة فيها وتزايد النور في قلوب المسلمين فسمي ذلك التزايد مدداً وأسنده إلى الله تعالى لأنه مسبب عن فعله بهم وثانيها أن يحمل على منع القسر والإلجاء كما قيل إن السفيه إذا لم ينه فهو مأمور وثالثها أن يسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده ورابعاً ما قاله الجبائي فإنه قال ويمدهم أي يمد عمرهم ثم إنهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون وهذا ضعيف من وجهين الأول لما تبينا أنه لا يجوز في اللغة تفسير ويمدهم بالمد في العمر الثاني هب أنه يصح ذلك ولكنه يفيد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في طغيانهم يعمهون وذلك يفيد الإشكال أجاب القاضي عن ذلك بأنه ليس المراد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في الطغيان بل المراد أنه تعالى يبقيهم ويلطف بهم في الطاعة فيأبون إلا أن يعمهوا واعلم أن الكلام في هذا الباب تقدم في قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فلا فائدة في الإعادة واعلم أن الطغيان هو الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتو قال تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاء ( الحاقة 11 ) أي جاوز قدره وقال اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ( طه 24 ) أي أسرف وتجاوز الحد وقرأ زيد بن علي في طغيانهم بالكسر وهما لغتان كلقيان ولقيان والعمه مثل العمى إلا أن العمى عام في البصر والرأي والعمه في الرأي خاصة وهو التردد والتحير لا يدري أين يتوجه
أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
واعلم أن تراء الضلالة بالهدى اختيارها عليه واستبدالها به فإن قيل كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى قلنا جعلوا لتمكنهم منه كأنه في أيديهم فإذا تركوه ومالوا إلى الضلالة فقد استبدلوها به

والضلالة الجور والخروج عن القصد وفقد الاهتداء فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين أما قوله فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ فالمعنى أنهم ما ربحوا في تجارتهم وفيه سؤالان السؤال الأول كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها الجواب هو من الإسناد المجازي وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشتري السؤال الثاني هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال فما معنى ذكر الربح والتجارة وما كان ثم مبايعة على الحقيقة والجواب هذا مما يقوي أمر المجاز ويحسنه كما قال الشاعر فولما رأيت النسر عز ابن دأية
وعشش في وكريه جاش له صدري
لما شبه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب أتبعه بذكر التعشيش والوكر فكذا ههنا لما ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله ويواخيه تمثيلاً لخسارتهم وتصويراً لحقيقته أما قوله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ فالمعنى أن الذي تطلبه التجار في متصرفاتهم أمران سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوا الأمرين لأن رأس مالهم هو العقل الخالي عن المانع فلما اعتقدوا هذه الضلالات صارت تلك العقائد الفاسدة الكسيبة مانعة من الاشتغال بطلب العقائد الحقة وقال قتادة انتقلوا من الهدى إلى الضلالة ومن الطاعة إلى المعصية ومن الجماعة إلى التفرقة ومن الأمن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة والله أعلم
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ
اعلم أنا قبل الخوض في تفسير ألفاظ هذه الآية نتكلم في شيئين أحدها أن المقصود من ضرب الأمثال أنها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه وذلك لأن الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالشاهد فيتأكد الوقوف على ماهيته ويصير الحس مطابقاً للعقل وذلك في نهاية الإيضاح ألا ترى أن الترغيب إذا وقع في الإيمان مجرداً عن ضرب مثل له لم يتأكد وقوعه في القلب كما يتأكد وقوعه إذا مثل بالنور وإذا زهد في الكفر بمجرد الذكر لم يتأكد قبحه في العقول كما يتأكد إذا مثل بالظلمة وإذا أخبر بضعف أمر من الأمور وضرب مثله بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في تقرير صورته من الأخبار بضعفه مجرداً ولهذا أكثر الله تعالى في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله قال تعالى وَتِلْكَ الاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ( العنكبوت 43 الحشر 21 ) ومن سور الإنجيل سورة الأمثال وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المثل في أصل كلامهم بمعنى المثل وهو النظير ويقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ثم قيل للقول الثائر الممثل مضر به بمورده مثل وشرطه أن يكون قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه

المسألة الثانية أنه تعالى لما بين حقيقة صفات المنافقين عقبها بضرب مثلين زيادة في الكشف والبيان أحدهما هذا المثل وفيه إشكالات أحدها أن يقال ما وجه التمثيل بمن أعطي نوراً ثم سلب ذلك النور منه مع أن المنافق ليس له نور وثانيها أن يقال إن من استوقد ناراً فأضاءت قليلاً فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم فأما المنافقون فلا انتفاع لهم ألبتة بالإيمان فما وجه التمثيل وثالثها أن مستوقد النار قد اكتسب لنفسه النور والله تعالى ذهب بنوره وتركه في الظلمات والمنافق لم يكتسب خيراً وما حصل له من الخيبة والحيرة فقد أتى فيه من قبل نفسه فما وجه التشبيه والجواب أن العلماء ذكروا في كيفية التشبيه وجوهًا أحدها قال السدي إن ناساً دخلوا في الإسلام عند وصوله عليه السلام إلى المدينة ثم إنهم نافقوا والتشبيه ههنا في نهاية الصحة لأنهم بإيمانهم أولاً اكتسبوا نوراً ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك النور ووقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين لأن المتحير في طريقه لأجل الظلمة لا يخسر إلا القليل من الدنيا وأما المتحير في الدين فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبد الآبدين وثانيها إن لم يصح ما قاله السدي بل كانوا منافقين أبداً من أول أمرهم فههنا تأويل آخر ذكره الحسن رحمه الله وهو أنهم لما أظهروا الإسلام فقد ظفروا بحقن دمائهم وسلامة أموالهم عن الغنيمة وأولادهم عن السبي وظفروا بغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين وعد ذلك نوراً من أنوار الإيمان ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدائم قليلاً قدرت شبههم بمستوقد النار الذي انتفع بضوئها قليلاً ثم سلب ذلك فدامت حيرته وحسرته للظلمة التي جاءته في أعقاب النور فكان يسير انتفاعهم في الدنيا يشبه النور وعظيم ضررهم في الآخرة يشبه الظلمة وثالثها أن نقول ليس وجه التشبيه أن للمنافق نوراً بل وجه التشبيه بهذا المستوقد أنه لما زال النور عنه تحير والتحير فيمن كان في نور ثم زال عنه أشد من تحير سالك الطريق في ظلمة مستمرة لكنه تعالى ذكر النور في مستوقد النار لكي يصح أن يوصف بهذه الظلمة الشديدة لا أن وجه التشبيه مجمع النور والظلمة ورابعها أن الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنفاق ومن قال بهذا قال إن المثل إنما عطف على قوله وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ فالنار مثل لقولهم ( آمنا ) وذهابه مثل لقولهم للكفار ( إنا معكم ) فإن قيل وكيف صار ما يظهره المنافق من كلمة الإيمان مثلاً بالنور وهو حين تكلم بها أضمر خلافها قلنا إنه لو ضم إلى القول اعتقاداً له وعملاً به لأتم النور لنفسه ولكنه لما لم يفعل لم يتم نوره وإنما سمى مجرد ذلك القول نوراً لأنه قول حق في نفسه وخامسها يجوز أن يكون استيقاد النار عبارة عن إظهار المنافق كلمة الإيمان وإنما سماه نوراً لأنه يتزين به ظاهره فيهم ويصير ممدوحاً بسببه فيما بينهم ثم إن الله تعالى يذهب ذلك النور بهتك ستر المنافق بتعريف نبيه والمؤمنين حقيقة أمره فيظهر له اسم النفاق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان فبقي في ظلمات لا يبصر إذ النور الذي كان له قبل قد كشف الله أمره فزال وسادسها أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات وسابعها يجوز أن يكون المستوقد ههنا مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار فإن الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء ألا ترى إلى قوله تعالى كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ( المائدة 64 ) وثامنها قال سعيد بن جبير نزلت في اليهود

وانتظارهم لخروج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واستفتاحهم به على مشركي العرب فلما خرج كفروا به فكان انتظارهم لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) كإيقاد النار وكفرهم به بعد ظهوره كزوال ذلك النور
المسألة الثالثة فأما تشبيه الإيمان بالنور والكفر بالظلمة فهو في كتاب الله تعالى كثير والوجه فيه أن النور قد بلغ النهاية في كونه هادياً إلى المحجة وإلى طريق المنفعة وإزالة الحيرة وهذا حال الإيمان في باب الدين فشبه ما هو النهاية في إزالة الحيرة ووجدان المنفعة في باب الدين بما هو الغاية في باب الدنيا وكذلك القول في تشبيه الكفر بالظلمة لأن الضال عن الطريق المحتاج إلى سلوكه لا يرد عليه من أسباب الحرمان والتحير أعظم من الظلمة ولا شيء كذلك في باب الدين أعظم من الكفر فشبه تعالى أحدهما بالآخر فهذا هو الكلام فيما هو المقصود الكلي من هذه الآية بقيت ههنا أسئلة وأجوبة تتعلق بالتعلق بالتفاصيل السؤال الأول قوله تعالى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً يقتضى تشبيه مثلهم بمثل المستوقد فما مثل المنافقين ومثل المستوقد حتى شبه أحدهما بالآخر والجواب استعير المثل للقصة أو للصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة كأنه قيل قصتهم العجيبة كقصة الذي استوقد ناراً وكذا قوله مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ( الرعد 35 ) أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاْعْلَى ( النحل 60 ) أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ ( الفتح 29 ) أي وصفهم وشأنهم المتعجب منه ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا فلان مثله في الخير والشر فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن السؤال الثاني كيف مثلت الجماعة بالواحد والجواب من وجوه أحدها أنه يجوز في اللغة وضع ( الذي ) موضع ( الذين ) كقوله وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ ( التوبة 69 ) وإنما جاز ذلك لأن ( الذي ) لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة مجملة وكثرة وقوعه في كلامهم ولكونه مستطالاً بصلته فهو حقيق بالتخفيف ولذلك أعلوه بالحذف فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا فيه على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين وثانيها أن يكون المراد جنس المستوقدين أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد ناراً وثالثها وهو الأقوى أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد وإنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد ومثله قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُواْ التَّوْرَاة َ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ ( الجمعة 5 ) وقوله يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِى ّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ( محمد 20 ) ورابعها المعنى ومثل كل واحد منهم كقوله يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ( غافر 67 ) أي يخرج كل واحد منكم السؤال الثالث ما الوقود وما النار وما الإضاءة وما النور ما الظلمة الجواب أما وقود النار فهو سطوعها وارتفاع لهبها وأما النار فهو جوهر لطيف مضيء حار محرق واشتقاقها من ( نارينور ) إذا نفر لأن فيها حركة واضطراباً والنور مشتق منها وهو ضوؤها والمنار العلامة والمنارة هي الشيء الذي يؤذن عليه ويقال أيضاً للشيء الذي يوضع السراج عليه ومنه النورة لأنها تطهر البدن والإضاءة فرط الإنارة ومصداق ذلك قوله تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ( يونس 5 ) و ( أضاء ) يرد لازماً ومتعدياً تقول أضاء القمر الظلمة وأضاء القمر بمعنى استضاء قال الشاعر

فأضاءت لهم أحسابهم ووجوههم
دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وأما ما حول الشيء فهو الذي يتصل به تقول دار حوله وحواليه والحول السنة لأنها تحول وحال عن العهد أي تغير وحال لونه أي تغير لونه والحوالة انقلاب الحق من شخص إلى شخص والمحاولة طلب الفعل بعد أن لم يكن طالباً له والحول انقلاب العين والحول الانقلاب قال الله تعالى لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً والظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير والظلمة في أصل اللغة عبارة عن النقصان قال الله تعالى اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا ( الكهف 33 ) أي لم تنقص وفي المثل من أشبه أباه فما ظلم أي فما نقص حق الشبه والظلم الثلج لأنه ينتقص سريعًا والظلم ماء السن وطراوته وبياضه تشبيهاً له بالثلج السؤال الرابع أضاءت متعدية أم لا الجواب كلاهما جائز يقال أضاءت النار بنفسها وأضاءت غيرها وكذلك أظلم الشيء بنفسه وأظلم غيره أي صيره مظلماً وههنا الأقرب أنها متعدية ويحتمل أن تكون غير متعدية مستندة إلى ما حوله والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء ويعضده قراءة ابن أبي عبلة ( ضاء ) السؤال الخامس هلا قيل ذهب الله بضوئهم لقوله فَلَمَّا أَضَاءتْ الجواب ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة فلو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم ذهاب الكمال وبقاء ما يسمى نوراً والغرض إزالة النور عنهم بالكلية ألا ترى كيف ذكر عقيبه وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ والظلمة عبارة عن عدم النور وكيف جمعها وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة خالصة وهو قوله لاَّ يُبْصِرُونَ السؤال السادس لم قال ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ولم يقل أذهب الله نورهم والجواب الفرق بين أذهب وذهب به أن معنى أذهبه أزاله وجعله ذاهباً ويقال ذهب به إذا استصحبه ومعنى به معه وذهب السلطان بماله أخذه قال تعالى فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ ( يوسف 15 ) إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَاهٍ بِمَا خَلَقَ ( المؤمنون 91 ) والمعنى أخذ الله نورهم وأمسكه وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ ( فاطر 2 ) فهو أبلغ من الإذهاب وقرأ اليماني ( أذهب الله نورهم ) السؤال السابع ما معنى ( وتركهم ) والجواب ترك إذا علق بواحد فهو بمعنى طرح وإذا علق بشيئين كان بمعنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب ومنه قوله وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ أصله هم في ظلمات ثم دخل ترك فنصبت الجزئين السؤال الثامن لم حذف أحد المفعولين من لا يبصرون الجواب أنه من قبيل المتروك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعد أصلاً
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ

اعلم أنه لما كان المعلوم من حالهم أنهم كانوا يسمعون وينطقون ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة فلم يبق إلا تشبيه حالهم لشدة تمسكهم بالعناد وإعراضهم عما يطرق سمعهم من القرآن وما يظهره الرسول من الأدلة والآيات بمن هو أصم في الحقيقة فلا يسمع وإذا لم يسمع لم يتمكن من الجواب فلذلك جعله بمنزلة الأبكم وإذا لم ينتفع بالأدلة ولم يبصر طريق الرشد فهو بمنزلة الأعمى أما قوله فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ففيه وجوه أحدها أنهم لا يرجعون عما تقدم ذكره وهو التمسك بالنفاق الذي لأجل تمسكهم به وصفهم الله تعالى بهذ الصفات فصار ذلك دلالة على أنهم يستمرون على نفاقهم أبداً وثانيها أنهم لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه وعن الضلالة بعد أن اشتروها وثالثها أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا خامدين في مكانهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وكيف يرجعون إلى حيث ابتدأوا منه
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أن هذا هو المثل الثاني للمنافقين وكيفية المشابهة من وجوه أحدها أنه إذا حصل السحاب الذي فيه الظلمات والرعد والبرق واجتمع مع ظلمة السحاب ظلمة الليل وظلمة المطر عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم فإذا أضاء لهم مشوا فيه وإذا ذهب بقوا في ظلمة عظيمة فوقفوا متحيرين لأن من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذهب عنه تشتد حيرته وتعظم الظلمة في عينه وتكون له مزية على من لم يزل في الظلمة فشبه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بالدين بهؤلاء الذين وصفهم إذ كانوا لا يرون طريقاً ولا يهتدون وثانيها أن المطر وإن كان نافعاً إلا أنه لما وجد في هذه الصورة مع هذه الأحوال الضارة صار النفع به زائلاً فكذا إظهار الإيمان نافع للمنافق لو وافقه الباطن فإذا فقد منه الإخلاص وحصل معه النفاق صار ضرراً في الدين وثالثها أن من نزل به هذه الأمور مع الصواعق ظن المخلص منها أن يجعل أصابعه في أذنيه وذلك لا ينجيه مما يريده تعالى به من هلاك وموت فلما تقرر ذلك في العادات شبه تعالى حال المنافقين في ظنهم أن إظهارهم للمؤمنين ما أظهروه ينفعهم مع أن الأمر في الحقيقة ليس كذلك بما ذكر ورابعها أن عادة المنافقين كانت هي التأخر عن الجهاد فراراً من الموت والقتل فشبه الله حالهم في ذلك بحال من نزلت هذه الأمور به وأراد دفعها يجعل إصبعيه في أذنيه وخامسها أن هؤلاء الذين يجعلون

أصابعهم في آذانهم وإن تخلصوا عن الموت في تلك الساعة فإن الموت والهلاك من ورائهم لا مخلص لهم منه فكذلك حال المنافقين في أن الذي يخوضون فيه لا يخلصهم من عذاب النار وسادسها أن من هذا حاله فقد بلغ النهاية في الحيرة لاجتماتع أنواع الظلمات وحصول أنواع المخافة وحصل في المنافقين نهاية الحيرة في باب الدين ونهاية الخوف في الدنيا لأن المنافق يتصور في كل وقت أنه لو حصل الوقوف على باطنه لقتل فلا يكاد الوجل والخوف يزول عن قلبه مع النفاق وسابعها المراد من الصيب هو الإيمان والقرآن والظلمات والرعد والبرق هو الأشياء الشاقة على المنافقين وهي التكاليف الشاقة من الصلاة والصوم وترك الرياسات والجهاد مع الآباء والأمهات وترك الأديان القديمة والانقياد لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع شدة استنكافهم عن الانقياد له فكما أن الإنسان يبالغ في الاحتراز عن المطر الصيب الذي هو أشد الأشياء نفعاً بسبب هذه الأمور المقارنة فكذا المنافقون يحترزون عن الإيمان والقرآن بسبب هذه الأمور المقارنة والمراد من قوله كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ أنه متى حصل لهم شيء من المنافع وهي عصمة أموالهم ودمائهم وحصول الغنائم لهم فإنهم يرغبون في الدين وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ أي متى لم يجدوا شيئاً من تلك المنافع فحينئذٍ يكرهون الإيمان ولا يرغبون فيه فهذه الوجوه ظاهرة في التشبيه وبقي على الآية أسئلة وأجوبة السؤال الأول أي التمثيلين أبلغ والجواب التمثيل الثاني لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأغاليظ ولذلك تراهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ السؤال الثاني لم عطف أحد التمثيلين على الآخر بحرف الشك الجواب من وجوه أحدها لأن ( أو ) في أصلها تساوي شيئين فصاعداً في الشك ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوي في غير الشك كقولك جالس الحسن أو ابن سيرين تريد أنهما سيان في استصواب أن تجالس أيهما شئت ومنه قوله تعالى وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً ( الإنسان 24 ) أي أن الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما فكذا قوله أَوْ كَصَيّبٍ معناه أن كيفية المنافقين شبيهة بكيفتي هاتين القصتين فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك وثانيها إنما ذكر تعالى ذلك لأن المنافقين قسمان بعضهم يشبهون أصحاب النار وبعضهم يشبهون أصحاب المطر ونظيره قوله تعالى وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 135 ) وقوله وَكَم مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( الأعراف 4 ) وثالثها أو بمعنى بل قال تعالى وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَة ِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( الصافات 147 ) ورابعها أو بمعنى الواو كأنه قال وكصيب من السماء نظيره قوله تعالى لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ( النور 61 ) وقال الشاعر فوقد زعمت ليلى بأني فاجر
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وهذه الوجوه مطردة في قوله ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِى َ كَالْحِجَارَة ِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً ( البقرة 74 ) السؤال الثالث المشبه بالصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق ما هو الجواب لعلماء البيان ههنا قولان أحدهما أن هذا تشبيه مفرق ومعناه أن يكون المثل مركباً من أمور والممثل يكون أيضاً مركباً

من أمور ويكون كل واحد من المثل شبيهاً بكل واحد من الممثل فههنا شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر وما يتعلق به من شبهات الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالبرق والرعد وما يصيب الكفرة من الفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق والمعنى أو كمثل ذوي صيب والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة والقول الثاني أنه تشبيه مركب وهو الذي يشبه فيه إحدى الجملتين بالأخرى في أمر من الأمور وإن لم تكن آحاد إحدى الجملتين شبيهة بآحاد الجملة الأخرى وههنا المقصود تشبيه حيرة المنافقين في الدنيا والدين بحيرة من انطفت ناره بعد إيقادها وبحيرة من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق فإن قيل الذي كنت تقدره في التشبيه المفرق من حذف المضاف وهو قولك أو كمثل ذوي صيب هل يقدر مثله في المركب قلنا لولا طلب الراجع في قوله يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِى ءاذَانِهِم ما يرجع إليه لما كان بنا حاجة إلى تقديره السؤال الرابع ما الصيب الجواب أنه المطر الذي يصوب أي ينزل من صاب يصوب إذا نزل ومنه صوب رأسه إذا خفضه وقيل إنه من صاب يصوب إذا قصد ولا يقال صيب إلا للمطر الجود كان عليه الصلاة والسلام يقول ( اللهم اجعله صيباً هنيئاً ) أي مطراً جوداً وأيضاً يقال للسحاب صيب قال الشماخ وأسحم دان صادق الوعد صيب
وتنكير صيب لأنه أريد نوع من المطر شديد هائل كما تنكرت النار في التمثيل الأول وقرىء ( أو كصائب ) وصيب أبلغ والسماء هذه المظلة السؤال الخامس قوله من السماء ما الفائدة فيه والصيب لا يكون إلا من السماء الجواب من وجهين الأول لو قال أو كصيب فيه ظلمات احتمل أن يكون ذلك الصيب نازلاً من بعض جوانب السماء دون بعض أما لما قال من السماء دل على أنه عام مطبق آخذ بآفاق السماء فكما حصل في لفظ الصيب مبالغات من جهة التركيب والتنكير أيد ذلك بأن جعله مطبقاً الثاني من الناس من قال المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء فتنعقد هناك من شدة برد الهواء ثم تنزل مرة أخرى فذاك هو المطر ثم إن الله سبحانه وتعالى أبطل ذلك المذهب ههنا بأن بين أن ذلك الصيب نزل من السماء كذا قوله وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ( الفرقان 48 ) وقوله وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ( النور 43 ) السؤال السادس ما الرعد والبرق الجواب الرعد الصوت الذي يسمع من السحاب كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتقض وترتعد إذا أخذتها الريح فصوت عند ذلك من الارتعاد والبرق الذي يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً إذا لمع السؤال السابع الصيب هو المطر والسحاب فأيهما أريد فما ظلماته الجواب أما ظلمات السحاب فإذا كان أسحم مطبقاً فظلمته سحمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل وأما ظلمة المطر فظلمته تكاثفه وانسجامه بتتابع القطر وظلمته إظلال الغمامة مع ظلمة الليل السؤال الثامن كيف يكون المطر مكاناً للرعد والبرق وإنما مكانهما السحاب الجواب لما كان التعليق بين السحاب والمطر شديداً جاز إجراء أحدهما مجرى الآخر في الأحكام

السؤال التاسع هلا قيل رعود وبروق كما قيل ظلمات الجواب الفرق أنه حصلت أنواع مختلفة من الظلمات على الاجتماع فاحتيج إلى صيغة الجمع أما الرعد فإنه نوع واحد وكذا البرق ولا يمكن اجتماع أنواع الرعد والبرق في السحاب الواحد فلا جرم لم يذكر فيه لفظ الجمع السؤال العاشر لم جاءت هذه الأشياء منكرات الجواب لأن المراد أنواع منها كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف السؤال الحادي عشر إلى ماذا يرجع الضمير في ( يجعلون ) الجواب إلى أصحاب الصيب وهو وإن كان محذوفاً في اللفظ لكنه باقٍ في المعنى ولا محل لقوله يجعلون لكونه مستأنفاً لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلاً قال فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد فقيل يجعلون أصابعهم في آذانهم ثم قال فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق فقال يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ( البقرة 20 ) السؤال الثاني عشر رءوس الأصابع هي التي تجعل في الآذان فهلا قيل أناملهم الجواب المذكور وإن كان هو الأصبع لكن المراد بعضه كما في قوله فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ( المائدة 38 ) المراد بعضهما السؤال الثالث عشر ما الصاعقة الجواب إنها قصف رعد ينقض منها شعلة من نار وهي نار لطيفة قوية لا تمر بشيء إلا أتت عليه إلا أنها مع قوتها سريعة الخمود السؤال الرابع عشر ما إحاطة الله بالكافرين الجواب إنه مجاز والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة ثم فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه عالم بهم قال تعالى وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَى ْء عِلْمَا ( الطلاق 12 ) وثانيها قدرته مستولية عليهم وَاللَّهُ مِن وَرَاءهُم مُحِيطٌ ( البروج 20 ) وثالثها يهلكهم من قوله تعالى إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ( يوسف 66 ) السؤال الخامس عشر ما الخطف الجواب إنه الأخذ بسرعة وقرأ مجاهد ( يخطِف ) بكسر الطاء والفتح أفصح وعن ابن مسعود ( يختطف ) وعن الحسن ( يَخَطف ) بفتح الياء والخاء وأصله يختطف وعنه يخطف بكسرهما على اتباع الياء الخاء وعن زيد بن علي يخطف من خطف وعن أبي يتخطف من قوله وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ( العنكبوت 67 ) أما قوله تعالى كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ ( البقرة 20 ) فهو استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول كيف يصنعون في حالتي ظهور البرق وخفائه والمقصود تمثيل شدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة ولو شاء الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم وفي ضوء البرد فأعماهم وأضاء إما متعدٍ بمعنى كلما نور لهم مسلكاً أخذوه فالمفعول محذوف وإما غير متعدٍ بمعنى كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره ويعضده قراءة ابن أبي عبلة ( كلما ضاء ) فإن قيل كيف قال مع الإضاءة كلما ومع الإظلام إذا قلنا لأنهم حراص على إمكان المشيء فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها وليس كذلك التوقف والأقرب في أظلم أن يكون غير متعدٍ وهو الظاهر ومعنى قاموا وقفوا وثبتوا في مكانهم ومنه قامت السوق وقام الماء جمد ومفعول شاء محذوف لأن الجواب يدل عليه والمعنى ولو شاء الله أن

يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بهما وههنا مسألة وهي أن المشهور أن ( لو ) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ومنهم من أنكر ذلك وزعم أنها لا تفيد إلا الربط واحتج عليه بالآية والخبر أما الآية فقوله تعالى وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( الأنفال 23 ) فلو أفادت كلمة لو انتفاء الشيء لا انتفاء غيره للزم التناقض لأن قوله وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ يقتضي أنه ما علم فيهم خيراً وما أسمعهم وقوله وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ يفيد أنه تعالى ما أسمعهم وأنهم ما تولوا ولكن عدم التولي خير فلزم أن يكون قد علم فيهم خيراً وما علم فيهم خيراً وأما الخبر فقوله عليه السلام ( نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ) فعلى مقتضى قولهم يلزم أنه خاف الله وعصاه وذلك متناقض فقد علمنا أن كلمة ( لو ) لا تفيد إلا الربط والله أعلم
وأما قوله إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى منهم من استدل به على أن المعدوم شيء قال لأنه تعالى أثبت القدرة على الشيء والموجود لا قدرة عليه لاستحالة إيجاد الموجود فالذي عليه القدرة معدوم وهو شيء فالمعدوم شيء والجواب لو صح هذا الكلام لزم أن ما لا يقدر الله عليه لا يكون شيئاً فالموجود لما لم يقدر الله عليه وجب أن لا يكون شيئاً
المسألة الثانية احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء قال لأنها تدل على أن كل شيء مقدور لله والله تعالى ليس بمقدور له فوجب أن لا يكون شيئاً واحتج أيضاً على ذلك بقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) قال لو كان هو تعالى شيئاً لكان تعالى مثل نفسه فكان يكذب قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء فوجب أن لا يكون شيئاً حتى لا تتناقض هذه الآية واعلم أن هذا الخلاف في الاسم لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم واحتج أصحابنا بوجهين الأول قوله تعالى قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ ( الأنعام 19 ) والثاني قوله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) والمستثنى داخل في المستثنى منه فيجب أن يكون شيئاً
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى خلافاً لأبي علي وأبي هاشم وجه الاستدلال أن مقدور العبد شيء وكل شيء مقدور لله تعالى بهذه الآية فيلزم أن يكون مقدور العبد مقدوراً لله تعالى
المسألة الرابعة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المحدث حال حدوثه مقدور لله خلافاً للمعتزلة فإنهم يقولون الاستطاعة قبل الفعل محال فالشيء إنما يكون مقدوراً قبل حدوثه وبيان استدلال الأصحاب أن المحدث حال وجوده شيء وكل شيء مقدور وهذا الدليل يقتضي كون الباقي مقدوراً ترك العمل به فبقي معمولاً به في محل النزاع لأنه حال البقاء مقدوره على معنى أنه تعالى قادر على إعدامه أما حال الحدوث فيستحيل أن يقدر الله على إعدامه لاستحالة أن يصير معدوماً في أول زمان وجوده فلم يبق إلا أن يكون قادراً على إيجاده
المسألة الخامسة تخصيص العام جائز في الجملة وأيضاً تخصيص العام جائز بدليل العقل لأن قوله وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ( البقرة 284 ) يقتضي أن يكون قادراً على نفسه ثم خص بدليل العقل فإن قيل إذا كان

اللفظ موضوعاً للكل ثم تبين أنه غير صادق في الكل كان هذا كذباً وذلك يوجب الطعن في القرآن قلنا لفظ الكل كما أنه يستعمل في المجموع فقد يستعمل مجازاً في الأكثر وإذا كان ذلك مجازاً مشهوراً في اللغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذباً والله أعلم
القول في إقامة الدلالة على التوحيد والنبوة والمعاد
يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ
اعلم أن في هذه الآيات مسائل
المسألة الأولى أن الله تعالى لما قدم أحكام الفرق الثلاثة أعني المؤمنين والكفار والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب وهو من باب الالتفات المذكور في قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وفيه فوائد أحدها أن فيه مزيد هز وتحريك من السامع كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكياً عن ثالث إن فلاناً من قصته كيت وكيت ثم تخاطب ذلك الثالث فقلت يا فلان من حقك أن تسلك الطريقة الحميدة في مجاري أمورك فهذا الانتقال من الغيبة إلى الحضور يوجب مزبد تحريك لذلك الثالث وثانيها كأنه سبحانه وتعالى يقول جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أولاً ثم الآن أزيد في إكرامك وتقريبك فأخاطبك من غير واسطة ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة شرف المخاطبة والمكالمة وثالثها أنه مشعر بأن العبد إذا كان مشتغلاً بالعبودية فإنه يكون أبداً في الترقي بدليل أنه في هذه الآية انتقل من الغيبة إلى الحضور ورابعها أن الآيات المتقدمة كانت في حكاية أحوالهم وأما هذه الآيات فإنها أمر وتكليف ففيه كلفة ومشقة فلا بدّ من راحة تقابل هذه الكلفة وتلك الراحة هي أن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته كما أن العبد إذا ألزم تكليفاً شاقاً فلو شافهه المولى وقال أريد منك أن تفعل كذا فإنه يصير ذلك الشاق لذيذاً لأجل ذلك الخطاب
المسألة الثانية حكي عن علقمة والحسن أنه قال كل شيء في القرآن يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فإنه مكي وما كان خَبِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ فبالمدينة قال القاضي هذا الذي ذكروه إن كان الرجوع فيه إلى النقل فمسلم وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة فهذا ضعيف لأنه يجوز أن يخاطب المؤمنين مرة بصفتهم ومرة باسم جنسهم وقد يؤمر من ليس بمؤمن بالعبادة كما يؤمر

المؤمن بالاستمرار على العبادة والازدياد منها فالخطاب في الجميع ممكن
المسألة الثالثة اعلم أن الألفاظ في الأغلب عبارات دالة على أمور هي إما الألفاظ أو غيرها أما الألفاظ فهي كالاسم والفعل والحرف فإن هذه الألفاظ الثلاثة يدل كل واحد منها على شيء هو في نفسه لفظ مخصوص وغير الألفاظ فكالحجر والسماء والأرض ولفظ النداء لم يجعل دليلاً على شيء آخر بل هو لفظ يجري مجرى عمل يعمله عامل لأجل التنبيه فأما الذين فسروا قولنا ( يا زيد ) بأنادي زيداً أو أخاطب زيداً فهو خطأ من وجوه أحدها أن قولنا أنادي زيداً خبر يحتمل التصديق والتكذيب وقولنا يا زيد لا يحتملها وثانيها أن قولنا يا زيد يقتضي صيرورة زيد منادى في الحال وقولنا أنادي زيداً لا يقتضي ذلك وثالثها أن قولنا يا زيد يقتضي صيرورة زيد مخاطباً بهذا الخطاب وقولنا أنادي زيداً لا يقتضي ذلك لأنه لا يمتنع أنه يخبر إنساناً آخر بأني أنادي زيداً ورابعها أن قولنا أنادي زيداً إخبار عن النداء والأخبار عن النداء غير النداء والنداء هو قولنا يا زيد فإذن قولنا أنادي زيداً غير قولنا يا زيد فثبت بهذه الوجوه فساد هذا القول ثم ههنا نكتة نذكرها وهي أن أقوى المراتب الاسم وأضعفها الحرف فظن قوم أنه لا يأتلف الاسم بالحرف وكذا أعظم الموجودات هو الحق سبحانه وتعالى وأضعفها البشر وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً فقالت الملائكة أي مناسبة بينهما أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا فقيل قد يأتلف الاسم مع الحرف في حال النداء فكذا البشر يصلح لخدمة الرب حال النداء والتضرع رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ
المسألة الرابعة ( ياء ) حرف وضع في أصله لنداء البعيد وإن كان لنداء القريب لكن لسبب أمر مهم جداً وأما نداء القريب فله أي والهمزة ثم استعمل في نداء من سها وغفل وإن قرب تنزيلاً له منزلة البعيد فإن قيل فلم يقول الداعي يا رب يا الله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 ) قلنا هو استبعاد لنفسه من مظان الزلفى وما يقربه إلى منازل المقربين هضماً لنفسه وإقراراً عليها بالتنقيص حتى يتحقق الإجابة بمقتضى قوله ( أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ) أو لأجل أن إجابة الدعاء من أهم المهمات للداعي
المسألة الخامسة ( أي ) وصلة إلى نداء ما فيه الألف اللام كما أن ( ذو ) و ( الذي ) وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل وهو اسم مبهم يفتقر إلى ما يزيل إبهامه فلا بدّ وأن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه يتصف به حتى يحصل المقصود بالنداء فالذي يعمل فيه حرف النداء هو أي والاسم التابع له صفة كقولك يا زيد الظريف إلا أن أيا لا يستقل بنفسه استقلال زيد فلم ينفك عن الصفة وموصوفها وأما كلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها ففيها فائدتان الأولى معاضدة حرف النداء بتأكيد معناه والثانية وقوعها عوضاً مما يستحقه أي من الإضافة وإنما كثر في كتاب الله تعالى النداء على هذه الطريقة لاستقلاله بهذه التأكيدات والمبالغات فإن كل ما نادى الله تعالى به عباده من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد واقتصاص أخبار المتقدمين بأمور عظام وأشياء يجب على المستمعين أن يتيقظوا لها مع أنهم غافلون عنها فلهذا وجب أن ينادوا بالأبلغ الآكد
المسألة السادسة اعلم أن قوله قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ يقتضي أن الله تعالى أمر كل الناس

بالعبادة فلو خرج البعض عن هذا الخطاب لكان ذلك تخصيصاً للعموم وههنا أبحاث البحث الأول أن لفظ الجمع المعرف بلام التعريف يفيد العموم والخلاف فيه مع الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي هاشم لنا أنه يصح تأكيده بما يفيد العموم كقوله فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( االحجر 15 ) ولو لم يكن اللفظ في أصله للعموم لما كان قوله كُلُّهُمْ تأكيداً بل بياناً ولأنه يصح استثناء كل واحد من الناس عنه والاستثناء يخرج ما لولاه لدخل فوجب أن يفيد العموم وتمام تقريره في أصول الفقه البحث الثاني لما ثبت أن قوله تعالى يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ يتناول جميع الناس الذين كانوا موجودين في ذلك العصر فهل يتناول الذين سيوجدون بعد ذلك أم لا والأقرب أنه لا يتناولهم لأن قوله يا أيهاالناس خطاب مشافهة وخطاب المشافهة مع المعدوم لا يجوز وأيضاً فالذين سيوجدون بعد ذلك ما كانوا موجودين في تلك الحالة وما لا يكون موجوداً لا يكون إنساناً وما لا يكون إنساناً لا يدخل تحت قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فإن قيل فوجب أن لا يتناول شيء من هذه الخطابات الذين وجدوا بعد ذلك الزمان وأنه باطل قطعاً قلنا لو لم يوجد دليل منفصل لكان الأمر كذلك إلا أنا عرفنا بالتواتر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن تلك الخطابات ثابتة في حق من سيوجد بعد ذلك إلى قيام الساعة فلهذه الدلالة المنفصلة حكمنا بالعموم البحث الثالث قوله قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ أمر للكل بالعبادة فهل يفيد أمر الكل بكل عبادة الحق لا لأن قوله اعبدوا معناه ادخلوا هذه الماهية في الوجود فإذا أتوا بفرد من أفراد الماهية في الوجود فقد أدخلوا الماهية في الوجود لأن الفرد من أفراد الماهية مشتمل على الماهية لأن هذه العبادة عبارة عن العبادة مع قيد كونها هذه ومتى وجد المركب فقد وجد قيداه فالآتي بفرد من أفراد العبادة آتٍ بالعبادة والآتي بالعبادة آتٍ بتمام ما اقتضاه قوله اعْبُدُواْ وإذا كان كذلك وجب خروجه عن العهدة فإن أردنا أن نجعله دالاً على العموم نقول الأمر بالعبادة لا بدّ وأن يكون لأجل كونها عبادة لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف لا سيما إذا كان الوصف مناسباً للحكم وههنا كون العبادة عبادة يناسب الأمر بها لما أن العبادة عبارة عن تعظيم الله تعالى وإظهار الخضوع له وكل ذلك مناسب في العقول وإذا ثبت أن كون عبادة علة للأمر بها وجب في كل عبادة أن يكون مأموراً بها لأنه أينما حصلت العلة وجب حصول الحكم لا محالة البحث الرابع لقائل أن يقول قوله قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ لا يتناول الكفار البتة لأن الكفار لا يمكن أن يكونوا مأمورين بالإيمان وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكونوا مأمورين بالعبادة أما أنه لا يمكن أن يكونوا مأمورين بالإيمان فلأن الأمر بمعرفة الله تعالى إما أن يتناوله حال كونه غير عارف بالله تعالى أو حال كونه عارفاً بالله تعالى أما إن تناوله حال كونه غير عارف بالله فيستحيل أن يكون عارفاً بأمر الله تعالى لأن العلم بالصفة مع الجهل بالذات محال فلو تناوله الأمر في هذه الحالة لكان قد تناوله الأمر في حال يستحيل منه أن يعرف كونه مأموراً بذلك الأمر وذلك تكليف ما لا يطاق وإن تناوله الأمر بالمعرفة حال كونه عارفاً بالله فذالك محال لأنه أمر بتحصيل الحاصل وذلك غير ممكن فثبت أن الكافر يستحيل أن يكون مأموراً بتحصيل المعرفة وإذا استحال ذلك استحال أن يكون مأموراً بالعبادة لأنه إما أن يؤمر بالعبادة قبل

المعرفة وهو محال لأن عبادة من لا يعرف ممتنعة أو يؤمر بالعبادة بعد المعرفة إلا أن على هذا التقدير يكون الأمر بالعبادة موقوفاً على الأمر بالمعرفة فلما كان الأمر بالمعرفة ممتنعاً كان الأمر بالعبادة أيضاً ممتنعاً وأيضاً يستحيل أن يكون هذا الخطاب مع المؤمنين لأنهم يعبدون الله فأمرهم بالعبادة يكون أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال والجواب من الناس من قال الأمر بالعبادة مشروط بحصول المعرفة كما أن الأمر بالزكاة مشروط بحصول ملك النصاب وهؤلاء هم القائلون بأن المعارف ضرورية وأما من لم يقل بذلك استدل بهذه الآية على أن المعارف ليست ضرورية فقال الأمر بالعبادة حاصل والعبادة لا تمكن إلا بالمعرفة والأمر بالشيء أمر بما هو من ضرورياته كما أن الطهارة إذا لم تصح إلا بإحضار الماء كان إحضار الماء واجباً والدهري لا يصح منه تصديق الرسول إلا بتقديم معرفة الله تعالى فوجبت والمحدث لا تصح منه الصلاة إلا بتقديم الطهارة فوجبت والمودع لا يمكنه رد الوديعة إلا بالسعي إليها فكان السعي واجباً فكذا ههنا يصح أن يكون الكافر مخاطباً بالعبادة وشرط الإتيان بها الإتيان بالإيمان أولاً ثم الإتيان بالعبادة بعد ذلك بقي لهم الأمر بتحصيل المعرفة محال قلنا هذه المسألة مستقصاة في الأصول والذي نقول ههنا إن هذا الكلام وإن تم في كل ما يتوقف العلم يكون الله آمراً على العلم به فإنه لا يجري فيما عدا ذلك من الصفات فلم لا يجوز ورود الأمر بذلك سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يقال هذا الأمر بتناول المؤمنين قوله لأنه يصير ذلك أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال قلنا لما تعذر ذلك فنحمله إما على الأمر بالاستمرار على العبادة أو على الأمر بالازدياد منها ومعلوم أن الزيادة على العبادة عبادة فصح تفسير قوله ( اعبدوا ) بالزيادة في العبادة البحث الخامس قال منكرو التكليف لا يجوز ورود الأمر من الله تعالى بالتكليف لوجوه أحدها أن التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء دواعيه إلى الفعل أو الترك أو حال رجحان أحدهما على الآخر فإن كان الأول فهو محال لأن في حال الاستواء يمتنع حصول الترجيح لأن الاستواء يناقض الترجيح فالجمع بينهما محال والتكليف بالفعل حال استواء الداعيين تكليف بما لا يطاق وإن كان الثاني فالراجح واجب الوقوع لأن المرجوح حال ما كان مساوياً للراجح كان ممتنع الوقوع وإلا فقد وقع الممكن لا عن مرجح وإذا كان حال الاستواء ممتنع الوقوع فبأن يصير حال المرجوحية ممتنع الوقوع أولى وإذا كان المرجوح ممتنع الوقوع كان الراجح واجب الوقوع ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين إذا ثبت هذا فالتكليف إن وقع بالراجح كان التكليف تكليفاً بإيجاد ما يجب وقوعه وإن وقع بالمرجوح كان التكليف تكليفاً بما يمتنع وقوعه وكلاهما تكليف ما لا يطاق وثانيها أن الذي ورد به التكليف إما أن يكون قد علم الله في الأزل وقوعه أو علم أنه لا يقع أو لم يعلم لا هذا ولا ذاك فإن كان الأول كان واجب الوقوع ممتنع العدم فلا فائدة في ورود الأمر به وإن علم لا وقوعه كان ممتنع الوقوع واجب العدم فكان الأمر بإيقاعه أمراً بإيقاع الممتنع وإن لم يعلم لا هذا ولا ذاك كان ذلك قولاً بالجهل على الله تعالى وهو محال ولأن بتقدير أن يكون الأمر كذلك فإنه لا يتميز المطيع عن العاصي وحينئذٍ لا يكون في الطاعة فائدة وثالثها أن ورود الأمر بالتكاليف إما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة فإن كان لفائدة فهي إما عائدة إلى المعبود أو إلى العابد أما إلى المعبود فمحال لأنه كامل لذاته والكامل لذاته لا يكون كاملاً بغيره ولأنا نعلم

بالضرورة أن الإله العالي على الدهر والزمان يستحيل أن ينتفع بركوع العبد وسجوده وأما إلى العابد فمحال لأن جميع الفوائد محصورة في حصول اللذة ودفع الألم وهو سبحانه وتعالى قادر على تحصيل كل ذلك للعبد ابتداء من غير توسط هذه المشاق فيكون توسطها عبثاً والعبث غير جائز على الحكيم ورابعها أن العبد غير موجد لأفعاله لأنه غير عالم بتفاصيلها ومن لا يعلم تفاصيل الشيء لا يكون موجداً له وإذا لم يكن العبد موجداً لأفعال نفسه فإن أمره بذلك الفعل حال ما خلقه فيه فقد أمره بتحصيل الحاصل وإن أمره به حال ما لم يخلقه فيه فقد أمره بالمحال وكل ذلك باطل وخامسها أن المقصود من التكليف إنما هو تطهير القلب على ما دلت عليه ظواهر القرآن فلو قدرنا إنساناً مشتغل القلب دائماً بالله تعالى وبحيث لو اشتغل بهذه الأفعال الظاهرة لصار ذلك عائقاً له عن الاستغراق في معرفة الله تعالى وجب أن يسقط عنه هذه التكاليف الظاهرة فإن الفقهاء والقياسيين قالوا إذا لاح المقصود والحكمة في التكاليف وجب اتباع الأحكام المعقولة لا اتباع الظواهر والجواب عن الشبه الثلاثة الأول من وجهين الأول أن أصحاب هذه الشبه أوجبوا بما ذكروه اعتقاد عدم التكاليف فهذا تكليف ينفي التكليف وأنه متناقض الثاني أن عندنا يحسن من الله تعالى كل شيء سواء كان ذلك تكليف ما لا يطاق أو غيره لأنه تعالى خالق مالك والمالك لا اعتراض عليه في فعله البحث السادس قالوا الأمر بالعبادة وإن كان عاماً لكل الناس لكنه مخصوص في حق من لا يفهم كالصبي والمجنون والغافل والناسي وفي حق من لا يقدر لقوله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 233 )
ومنهم من قال إنه مخصوص في حق العبيد لأن الله تعالى أوجب عليهم طاعة مواليهم واشتغالهم بطاعة الموالي يمنعهم عن الاشتغال بالعبادة والأمر الدال على وجوب طاعة المولى أخص من الأمر الدال على وجوب العبادة والخاص يقدم على العام والكلام في هذا المعنى مذكور في أصول الفقه
المسألة السابعة قال القاضي الآية تدل على أن سبب وجود العبادة ما بينه من خلقه لنا والإنعام علينا واعلم أن أصحابنا يحتجون بهذه الآية على أن العبد لا يستحق بفعله الثواب لأنه لما كان خلقه إيانا وإنعامه علينا سبباً لوجوب العبادة فحينئذٍ يكون اشتغالنا بالعبادة أداء للواجب والإنسان لا يستحق بأداء الواجب شيئاً فوجب أن لا يستحق العبد على العبادة ثواباً على الله تعالى أما قوله رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه سبحانه لما أمر بعبادة الرب أردفه بما يدل على وجود الصانع وهو خلق المكلفين وخلق من قبلهم وهذا يدل على أنه لا طريق إلى معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال وطعن قوم من الحشوية في هذه الطريقة وقالوا الاشتغال بهذا العلم بدعة ولنا في إثبات مذهبنا وجوه نقلية وعقلية وههنا ثلاث مقامات المقام الأول في بيان فضل هذا العلم وهو من وجوه أحدها أن شرف العلم بشرف المعلوم فمهما كان المعلوم أشرف كان العلم الحاصل به أشرف فلما كان أشرف المعلومات ذات الله تعالى وصفاته وجب أن يكون العلم المتعلق به أشرف العلوم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66