كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

قال أبو البقاءك « وهو أبلغ من السجود » ، يعنيك أن جمعه على « فُعَّل » فيه من المُبَالغة ما ليس في جمعه على « فُعُول » .
وأصل باب : بَوَبٌ ، لقولهم : أَبْوَاب ، وقد يجمع على « أَبْوِبة » ؛ لازدواج الكلام؛ قال : [ البسيط ]
512 هَتَّاك أَخْبِيَةٍ وَلاَّجُ أَبْوِبَةٍ ... يَخْلِطُ بِالْجِدِّ مِنْهُ الْبِرَّ واللِّينا
ورواه الجَوهريُّ : [ البسيط ]
513 ... يَخْلِطُ بالْبِرِّ مِنْهُ الْجِدَّ وَاللِّيْنَا
ولو أفرده لم يجزن ومثله قوله عليه الصلاة والسلام : « مرحباً بالقَوْمِ أو بالوفد غير خَزَايَا ولا نَدامَى » .
وتَبَوَّبْتُ بَوَّاباً اتخذته . وأبواب مُبَوَّبة ، كقولهم : أصناف مصنّفة ، وهذا شيء من بابتك ، أي : يصلح لك وتقدّم معنى السجود .
قوله : « وَقُولُوا » قال [ ابن كثير ] الواو هنا حالية لا عاطفة ، أي : ادخلوا سُجَّداً في حال قولكم حطّة .
وأما قوله : « حطّة » قرىء بالرّفع والنصب ، فالرفع على أنه خبر متبدأ محذوف ، أي : مسألتنا حطّة ، أو أمرك حطة .
قال : « الزمخشري » : والأصل النصب بمعنى : حُطّ عنا ذنوبنا حطّة ، وإنما رفعت لتعطي مَعْنَى الثبات كقوله : [ الرجز ]
514 يَشْكُو إِليَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى ... صَبْرٌ جَميلٌ فكِلانَا مُبْتَلى
والأصل : صبراً عَلَيَّ ، أصْبِرْ صبراً ، فجعله من باب { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 24 ] وتكن الجملة في محلّ نصب بالقول .
وقال « ابن عطية » وقيل : أمروا أن يقولوها مرفوعة على هذا اللفظ .
يعني : على الحكاية ، فعلى هذا تكون هي وحَدْهَا من غير تقدير شيء في محلّ نصب بالقول وإنما منع [ النصب ] حركة الحكاية .
وقال أيضاً : وقال عكرمة : أُمِرُوا أن يقولوا : لا إله إلا الله ، لِتحطَّ بها ذنوبهم وحَكَى قَوْلَيْن آخرين بمعناه ، ثم قال : « فعلى هذه الأقوال تقتضي النَّصب » ، يعني أنه إذا كان المَعْنَى على أنّ المأمور به لا يتعيّن أن يكون بهذا اللَّفظ الخاً ، بل بأيّ شيء يقتضي حطّ الخطيئة ، فكان ينبغي أن ينتصب ما بعد القول مفعولاً به نحك قيل لزيد خيراً ، المعنى : قل له ما هو من جنس الْخُيُور . وقال النَّحَاسك الرفع أولى ، لما حكي عن العرب في معنى « بَدَّل » .
قال أحمد بن يحيى : بَدّلته أي غيرته ، ولم أزل عينه ، وأبْدَلْتُه أَزَلْتُ عينه وشَخْصَهُ؛ كقوله : [ الرجز ]
515 عَزْلَ الأَمِيْرِ لِلأَمِير المُبْدَلِ ... وقال تعالى : { ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ } [ يونس : 15 ] .
وبحديث ابن مسعود قالوا : حطّةٌ تغيؤر على الرَّفع يعني : أن الله تعالى قال : فبدَّل الذي يقتضي التَّغيير لا زَوَالَ العين ، قال : وهذا المعنى يقتضي الرَّفع لا النصب .
وقرأ بان أبي عبلة : حطَّةً بالنصب وفيها وجهان :
أحدهما : أنها مصدر نائب عن الفعل ، نحو : ضرباً زيداً .
والثاني : أن تكون منصوبة بالقول ، أي : قولوا هذا اللَّفظ بعينه ، كما تقدم في وجه الرَّفع ، فهي على الأوّل منصوبةٌ بالفعل المقدر ، وذلك الفعل المقدر ومنصوبه في محل نصب بالقول ، ورجح الزمخشري هذا الوجه .

و « الحطّة » اسم الهَيْئَةِ من الْحَطِّ ك « الجِلْسَة » و « الْقِعْدَة » .
وقيل : هي لفظة أمروا بها ، ولا ندري معناها .
وقيل : هي التَّوْبة ، وأنشد : [ الخفيف ]
516 فَازَ بِالْحِطَّةِ الَّتِي جَعَل الله ... بِهَا ذَنْبَ عَبدِهِ مَغْفُورَا
فصل في المراد بالباب
اختلفوا في « الباب » قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضّحاك ، وقتادة : إنه باب يدعى باب الحطّة من بيت المقدس ، وحكى الأَصَمّ عن بعضهم أنه عنى بالباب جِهَةً من جهات القرية ، ومدخلاً إليها .
واختلفوا في « السُّجود » ، فقال الحسن : أراد به نفس السُّجود ، إي : إلصاق الوجه بالأرض ، وهذا بعيد ، لأن الظَّاهر يقتضي وجوب الدُّخول حال السجود ، فلو حملنا السجود على ظاهره لامتنع ذلك .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أنَّ المُراد به الركوع ، لأنّ الباب كان صغيراً يحتاج الدَّاخل فيه إلى الانحناء .
قال ابن الخَطِيْبِ : وهذا بعيد؛ لأنه لو كان ضيقاً لكانوا مضطرين إلى دخوله ركّعاً ، فلا حاجة فيه إلى الامر .
وأجيب بأنه روي عن ابن عَبَّاس : أنهم دخلوا يزحفون على أَسْتاههمْ .
وقيل : المراد بالسجود : الخضوع . وهو الأقرب؛ لأنه لما تعذّر حمله على السجود الحقيقي وجب حمله على التواضع؛ لأن التَّائب عن الذنب لا بُدّ وأن يكون خاضعاً .
فصل في تفسير « الحطة »
وأما تفسير « الحطّة » فقال « القاضي » : إنه تعالى لما أمرهم بدخول الباب خاضعين أمرهم بأن يقولوا ما يَدُلّ على التوبة؛ لأن التوبة صفةُ القلب ، فلا يطلع الغير عليها ، فإذا اشتهر واحدٌ بذنب ، أو بمذهب خطأ ، ثم تاب عن الذنب ، أو أظهر له الحق ، فإنه يلزم أن يعرف إخوانه الَّذِين عرفوا منه ذلك الذنب ، أو ذلك المذهب ، فتزول عنه التُّهْمَة في الثبات على الباطل ، ويعودوا إلى مُوَالاته ، فالحاصل أنه أمر القوم أن يدخلوا البا ب على وَجْهِ الخضوع ، وأن يذكروا بلسانهم الْتِمَاسَ حَطّ الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب ، وخضوع الجوارح ، والاستغفار باللِّسان .
وقال « الأصَمّ » : هذه اللَّفظة من ألفاظ أهل الكتاب التي لا يعرف معناها في العربية .
وقال أبو مسلم الأَصْفَهَاني : معناه : أمرنا حطّة ، أي : أن نحطّ في هذه القرية ، ونستقر فيها ، ورد القاضي ذلك ، وقال : لو كان المراد ذلك لم يكن غفران خَطَايَاهُمْ متعلقاً به ، ولكن قوله : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } يدلّ على أن غفران الخَطَايا كان لأجل قولهم حطّةن ويمكن أن يجاب عنه بأنهم لما حطُّوا ف يتلك القرية حتى يدخلوا سجدًّا مع التَّوَاضُع كان الغفران متعلقاً به .
وقال معناه : اللَّهم حط عنا ذنوبنا ، فإنّا إنما انحططنا لوجهك ، وإرادة التذلل لك ، فحطّ عنا ذنوبنا .

فصل في بيان التلفظ بالحطة أو بمعناها
اختلفوا هل كلّفوا بهذه اللفظة بعينها ، أو بما يؤدي معناها؟
روي عن ابن عباس : أنهم أمروزا بهذه اللفظة بعينها ، وفيه نظر؛ لأن هذه اللفظة عربية ، ولم يكونوا يتكلمون بالعربية ، وأيضاً فإنما أمروا بأن يقولوا قولاً دالاً على التوبة والندم؛ فلو قالوا : اللّهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلاً .
قولهك « نَغْفِرْ » هو مجزوم ف يجواب الأمر ، وقد تقدم الخلاف ، هل الجازم نفس الجملة ، أو شرط مقدر؟ أي : يقولوا نغفر .
وقرىء : « نَغْفِرْ » بالنون وهو جار على ما قبله [ من قوله : ] « وإذ قلنا » و « تُغْفَر » بالتاء بالياء مبنيّاً للمفعول .
و « خطاياكم » معفول لم يسم فاعله ، فالتَّاء لتأنيث الخَطَايا ، والياء؛ لأن تأنيثها غير حقيقين وللفصل أيضاً ب « لكم » .
وقرىء : « يغفر » مبنياً للفاعل ، وهو الله تعالى وهو في معنى القراءة الأولى ، إلاّ أن فيه التفاتاً .
و « لكم » متعلّق ب « نغفر » .
وأدغم « أبو عمرو » الراء في اللاّم ، والنحاة يستضعفونها ، قالوا : لأن الرَّاء حرف تكرير فهي أقوى من اللام ، والقاعدة أن الأضعف يدغم في الأقوى من غير عَكْسٍ ، وليس فيها ضعف ، لأن انحراف اللاّم يقاوم تكرير الراء . وقد بَيَّن « أبو البَقَاءِ » ضعفه ،
وتقدم جوابه .
قوله : « خطاياكم » : إما منصوب بالفعل قبله ، أو مرفوع حسب ما تقدّم من القراءات ، وفيها [ أربعة ] أقوال :
أحدها : قول الخليل [ أنّ ] أصلها « خَطَايىء » بيا ء بعد الألف ، ثم همزة؛ لأنها جمع « خطيئة » مثل : « صَحِيْفة وصَحَايف » ، فلو تركت على حالها لوجب قَلْبُ الياء همزة؛ لأن مدة « فَعَايل » يفعل بها كذا ، على ما تقرر في التصريف ، فضر من ذلك ، لئلا تجتمع همزتان ، بأن قلب فقام اللام ، وأخّر عنها المدّة فصارت : « خَطَائي » ، فاستثقلت الكسرة على حرف ثقيل في نفسه ، وبعده ياء من جنس الكَسْرَةِ فقلبوا الكسرة فتحة ، فتحرك حرف العّلة ، وانفتح ما قبله فقلبت ألفاً ، فصارت : « خَطَاءا » بهمز بين ألفين ، فاستثقلوا ذلك ، فإنّ الهمزة تشبه الألف ، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات ، فقلبوا الهمزة ياء؛ لأنها واقعة موقعها قبل القَلْبِ ، فصارت « خَطَايَا » على وزن « فَعَالَى » ففيها أربعة أعمال : قلب ، وإبدال لكسرة فتحة ، و قلب الياء ألفاًن وإبدال الهمزة ياء ، هكذا ذكر التصريفيون ، وهو مذهب الخليل .
الثاني : وعزاه « أبو البقاء » إليه أيضاً أنه : « خطائيء » يهمزتين : الأولى منهما مكسورة وهي المنقلبة عن الياء الزائدة في « خَطِيْئة » فهو مثل « صَحِيْفة » و « صَحَائف » ، فاستثقلوا الجمع بين الهمزتين ، فنقلوا الهمزة الأولى إلى موضع الثانية ، فصار وزنه « فَعَلى » ، وإنما فَعَلوا ذلك ، لتصير المكسورة ظرفاً ، فتنقلب ياء ، فتصير « فعالىْ » ، ثم أبدلوا من كسرة الهمزة الأولى فتحة ، فانقلبت الياء بعدا ألفاً كما قالوا في : يا لَهْفى « » ويا أَسَفى « ، فصارت الهمزة بين ألفين ، فأبْدِل منها يا ، لأن الهمزة قريبة من الألف ، فاستنكروا اجتماع ثلاث ألفات .

فعلى هذا فيها خمسة تغييرات : تقديم اللام ، وإبدال الكسرة فتحة ، وإبدال الهمزة الأخيرة ياء ، ثم إبدالها ألفاً ، ثم إبدال الهمزة التي هي لام ياء . والقول الأول أَوْلَى ، لقلّة العمل ، فيكون للخليل في المسألة قولان .
الثالث : قول سيبويه أن أصلها عنده : « خَطَايىء » كما تقدم ، فأبدل الياء الزائدة همزة ، فاجتمع همزتان ، فأبدل الثانية منهما « ياء » لزوماً ، ثم عمل العمل المتقدّمن ووزنها عند « فَعَائل » مثل : « صَحَائف » ، وفيها على قوله خمسة تغييرات : إبدال الياء المزيدة همزة وإبدال الهمزة الأصلية ياء ، وقلب الكسرة فتحة ، وقلب الياء الاصلية ألفاً ، وقلب الهمزة المزيدة ياء .
الرابع : قول « الفَرَّاء » ، هو أن « خَطَايا » عنده ليس جمعاً ل « خطيئة » بالهمز ، إنما هو جمع ل « خَطِيّة » ك « هَدِيَة وهَدَايا » و « رَكيّة ورَكَايَا » .
قال الفراء : ولو جمعت « خَطيئة » مهمزة لقلت : « خَطَاءا » يعني : فلم تقلب الهمزة ياء ، بل تبقيها على حالها ، ولم يعتد باجتماع ثلاث ألفات .
ولكنه لم يقله العرب ، فدلّ ذلك عنده أنه ليس جمعاً للمهموز .
وقال « الكسائي » : ولو جمعت مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة مثل : « دواب » .
وقرىء : « يَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيْئَاتِكُمْ » و « خَطِيْئَتَكُمْ » بالجمع والتوحيد ، وبالياء والتاء على مالم يُسَمَّ فاعله ، و « خَطَايَاكُمْ » بهمز الألف الأولى دون الثانية ، وبالعكس . والمعنى في هذه القراءات واحد؛ لأن الخطيئة إذا غفرها الله تعالى فقد غفرت ، وإذا غفرت فإنما يغفرها الله .
والفعل إذا تقدّم الاسم المؤنث ، وحال بينه وبين الفاعل حَائِلٌ جاز التذكير والتّأنيث كقوله تعالى : { وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة } [ هود : 67 ] . و { وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ } [ هود : 94 ] .
وقرأ الجحدري : « خَطِيئتكم » بمدة وهمزة وتاء مرفوعة بعد الهمزة .
وقرأ ابن كثير : « خَطَايأكم » بهمزة قبل اكاف .
وقرأ الكسائي : بكسر الطاء والتاء ، والباقون بإمالة الياء .
و « الغَفْر » : السّتر ، ومنه المِغْفَر : لِسُتْرة الرأسن وغفران الذُّنوبح لأنها تغطيها ، وتقد تقدّم الفرق بينه وبين العَفُوا .
و « الغِفارَة » : خِرْقَةٌ تستر الْخِمَار أن يَمَسَّه دهن الرأس .
و « الخَطِيئة » من الخَطَأ ، وأصله : العدول عن الجهة ، وهو أنواع :
أحدها : إرادة غير ما تحسن إرادته ، فيفعله ، وهذا هو الأصل [ التام ] يقال منه : « خَطِىءَ يَخْطَأ خِطْأً وخِطْأةً » .

والثاني : أن يريد ما يحسن فعله ، ولكن يقع بخلافه ، يقال منه : أَخْطَأ إِخْطَاء ، فهو مخطىء ، وجملة الأمر أنَّ من أراد شيئاً ، فاتفق منه غيره يقال : « أخطأ » ، وإن وقع كما أراد ، يقال : « أصَاب » ، وقد يقال لمن فعل فعلاً لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل : إنه أخطأ ولهذا يقال : أَصَابَ الخَطَأ ، وأَخْطَأَ الصَّوابَ ، وأصاب الصواب ، وأخطأ الخطأ .
قوله : « وَسَنَزِيدُ المُحْسِنينَ » أي نزيدهم إحساناً على الإحْسَان المتقدم عندهم ، وهو اسم فاعل من « أحسن » ، والمُحْسِنُ من صحّح عقد توحيده ، وأحسن سياسَةَ نفسهن وأقبل على أداء فرائضه ، وكفى المسلمين شره .
وقال بعض المفسرين : معناه : من كان محسناً جازيناه بالإحسان إحساناً ، أو زيادة كما جعل للحسنة عشراً وأكثر .
وقيل : من كان محسناً بهذه الطاعة والتوبة ، فإنا نغفر خَطَاياه ، ونزيده على غُفْران الذنوب إعطاءَ الثواب الجزيل ، وفيه وجه آخر أن المعنى من كان خاطئاً غفرنا له ذنبه بهذا الفعل ، ومن لم يكن خاطئاً ، بل كان محسناً زدنا في إحسانه .
قوله : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ } .
لا بُدّ في هذا الكلام من تأويل؛ إذ الذّم إنما يتوجه عليهم إذا بدّلوا القول الذي قيل لهم ، لا إذا بدَّلوا قولاً غيره .
فقيل : تقديره : فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم ف « بدّل » يتعدّى لمفعول واحد بنفسه ، وإلى آخر بالباء ، والمجرور بها هو المتروك ، والمنصوب هو الموجود ، كقول أبي النجم : [ الرجز ]
517 وَبُدِّلَتْ والدَّهْرُ ذُو تَبَدُّلِ ... هَيْفاً دَبُوراً بِالصَّبَا وَالشَّمْأَلِ
فالمتطوع عنها الصَّبا ، والحاصل لها الهَيْفُ .
قاله أبو البقاء وقال يجوز أن يكون « بدل » محمولاً على المعنى ، تقديره : فقال الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم؛ لأن تبديل القول كان بقول « فَنَصْبُ » غير عنده في هذين القولين على النِّعت ل « قولاً » .
وقيل : تقديره : فبدل الذين قولاً بغير الذي ، فحذف الحرفن فانتصب « غير » .
ومعنى التَّبْديل : التغيير كأنه قيل : فغيروا قولاً بغيره ، إي جَاءُوا بقول آخر ، فكان القول الذي أمروا به ، كما يروا في القصّة أنهم قالوا : بدل حطّة حِنْطَة .
والإبْدَال والتبديل والاستبدال : جعل الشيء مكان آخر ، وقد يقال : التبديل : التغيير ، وإن لم يأت ببدله .
وقد تقدم الفرق بين بدل وأَبْدَلَ ، وهو أن بدّل بمعنى غيّر من غَيْر إزالة العين ، وأبدل تقتضي إزالة العين ، إلا أنه قرىء : { عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا } [ القلم : 32 ] { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } [ الكهف : 81 ] بالوجهين ، وهذا يقتضي اتِّحَادهما معنى لا اختلافهما والبديل والبدل بمعنى واحد ، وبدله غيره .
ويقال : بِدْل وَبَدل كَشِبْه وَشَبَه ، وَمِثْل وَمَثَل ، وَنِكْل وَنَكَل [ قال أبو عُبَيْدة : لم يسمع في فِعْل وفَعَل غي رهذه الأربعة أحرف ] .

فصل في بيان التبديل
قال أبو مُسلمك قوله : « فبدّل » يدلّ على أنهم لم يفلعوا ما أمروا به لأجل أنهم أتوا له ببدل ، ويدلّ عليه أن تبديل القول قد يستعمل في المُخَالفة ، قال تعالى : « سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ » إلى قوله : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله } [ الفتح : 15 ] ولم يكن تبديلهم الخلاف في الفعل لا في القول ، فكذا هاهنا لما أمروا بالتواضع ، وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله .
وقال جمهور المفسرين : إنَّ المراد بالتبديل أنهم أتوا ببدل له؛ لأن التبديل مشتقّ من البدل ، فلا بُدّ من حصول البدل ، كما يقال : بدّل دِيْنَهُ أي : انتقل من دِيْنٍ إلى دين ، ويؤيده قوله تعالى : « قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ » .
فصل في الباعث على تبديلهم
وقوله : « الَّذِيْنَ ظَلَمُوا » تنبيه على أن الباعث لهم على التبديل هو الظلم ، واختلفوا هل هو مُطْلق الظلم ، فيكونون كلهم بدلوا ، أو الظالمون منهم هم الذين بدلوانوهم الرؤساء والأشراف ، وهذا هو الظاهر ، لقوله في سورة « الأعراف » : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 162 ] واختلفوا هل التقوا كلهم على الأشياء التي بَدّلوهان أو بدّل كلّ أناس منهم شيئاًن أو بدّلوا في كل وقت شيئاً؟
فإن قيل : إنّهم قد بدّلوا القول والفعلن فلم خصّ القول بالتبديل؟
فالجواب : أن ذكر تبديلهم القول يدلّ على تبديل الفعل كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] أي : والبرد ، فكأنه قالك بدّلوا القول والفعل ، وأيضاً فقد يكون المراد بالقول المبدل هو الأمر ، والأمر يشتمل القول المأمور به والفعل .
واختلفوا في ذلك القول :
فروي عن ابن عَبّاس : أنّهم لم يدخلوا الباب سجداً ، ولم يقولوا حطّة ، بل دخلوا زَاحِفِيْنَ على اسْتَاههم قائلين جِنْطة .
وقال ابن زيد : استهزؤوا بموسى وقالوا ما شاء موسى أن يلعب بنا لا لعب بنا حطة أي شيء حطة .
وقال « مجاهد » : طؤطىء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم ، ويركعوا ، فدخلوا زَاحِفِيْنَ . وقيل لهم : قولوا حطة فقالوا : حطًّا شمقاً ما يعني حطة حمراء استخفافاً بأمر الله .
قوله : { فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ } أي : أضروا بأنفهسم ، وأوسعوا في نقصان خيراتهم في الدين والدنيا .
و « الرجز » : هو العذاب .
فصل في لغات الرجز
وفيه لُغة أخرى وهي ضمّ الراء ، وقرىء بهما .
وقيل : المضموم اسم صَنَم ، ومنه : { والرجز } [ المدثر : 5 ] . والرِّجْز والرِّجْس بالزاي والسين بِمَعْنَى ك : السُّدْغ والزُّدْغ .
والصحيح أن الرِّجْزَ : الْقَذَر ، والرِّجَز : ما يصيب الإبل ، فترتعش منه ، و منه : بحر الرِّجَز في الشّعر .
قوله : « مِنَ السَّمَاءِ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون متعلقاً ب « أَنْزَلْنَا » ، و « من » لابتداء الغاية ، أي : من جهة السماء ، وهذا الوجه هو الظاهر .
والثاني : أن يكون صفة ل « رِجْزاً » فيتعلّق بمحذوف ، و « من » أيضاً للابتداء .

وقوله : { عَلَى الذين ظَلَمُواْ } فأعادهم بذكرهم أولاً ، ولم يقل : « عليهم » تنبيهاً على أن ظُلْمهم سبب في عقابهم ، وهو من إيقاع الظاهر موقع المُضْمَر لهذا الغرض ، وإيقاع الظاهر موقع المُضْمَر على ضربين : ضرب يقع بعد تمام الكلام كهذه الآية ، وقول الخنساء : [ المتقارب ]
518 تَعَرَّقَنِي الدَّهْرُ [ نَهْساً ] وَحَزَّا ... [ وَأَوْجَعَنِي ] الدَّهْرُ قَرْعاً وَغَمْزا
أي : أصابتني نوائبه جُمَعُ .
وضرب يقع في كلام واحد؛ نحو قوله : { الحاقة 0 مَا الحآقة } [ الحاقة : 1 ، 2 ] .
519 لَيْتَ الغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِباً ... كَانَ الغُرَابُ مُقَطَّعَ الأَوْدَاجِ
وقد جمع عدي بن زيد المعنيين فقال : [ الخفيف ]
520 لاَ أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا
قوله : « بَمَا كَانُوا » متعلِّق ب « أنْزَلْنَا » و « الباء » للسببية ، و « ما » يجوز أن تكون مصدرية وهوالظّاهر أي : بسبب فِسْقِهِمْ ، وأن تكون موصولة اسمية ، والعائد محذوف على التدريج المذكور في غير موضع ، والأصل : يفسقونه ، ولا يقوى جعلها نكرة موصولة .
وقرأ « ابن وَثّاب » : « يَفْسِقُون » بكسر السين ، وتقدم أنهما لُغَتَان .
فصل في تفسير الظلم
قال أبو مسلم : هذا الفِسْقُ هو الظلم المذكور في قوله : { عَلَى الذين ظَلَمُواْ } وفائدة التكرار التأكيد .
قال ابن الخطيب : والحق أنه غيره؛ لأن الظلم قد يكون من الصَّغائر ، ولذلك قال بعض الأنبياء : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] وقد يكون من الكَبَائر ، قال تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، والفِسْق لا بُدّ وأن يكون من الكبائر ، ويمكن أن يجاب عنه : بأن أبا مُسْلِم لم يقل بأن الفسق مطلق الظلم ، وإنما خصّه بظلم معين ، وهو الذي وصفوا به في أوَّول الآية ، ويحتمل أنهم استحقُّوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل ، فنزل الرِّجْزُ عليهم بالفِسْقِ الذي كانوا يفعلوه قيل التبديل ، فيزول التكرار .
احتجّ بعضهم بقوله : « فَبَدَّل الَّذِينَ ظَلَمُوا » على أنَّ ما ورود من الأذكار لا يجوز تبديله بغيره ، وعلى هذا لا يجوز تحريم الصَّلاة بفلظ التَّعْظيمن لا يجوز القراءة بالفارسية .
وأجاب أبو الرَّازِي : « بأنهم إنما استحقُّوا الذَّم لتبديلهم القول إلى قول يُضَاد معناه معنى الأول ، فلهذا استوجبوا الذم ، فأما تغيير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك » .
قال ابن الخطيب : « والظَّاهر أن هذا بتناول كل من بدّل قولاً يقول آخر سواء اتَّفَقَا أو لم يتفقا » .
فإن قيل : قال هنا : « وإذ قلنا » ، وفي « الأعراف » : { وَإِذْ قِيلَ } [ الأعراف : 161 ] .
قيل : لأن سورة « الأعراف » مكية ، و « البقرة » مدنية فأبهم القائل في الأولى وهي « الأعراف » ليكون لهم وَقْع في القلب ، ثم بَيَّنَهُ في هذه السورة المدنية ، كأنه قال : ذلك القائل هناك هو هذا .

وقال هنا : « ادْخُلُوا » وفي « الأعراف » : « اسْكُنُوا » .
قال ابن الخطيب : « لأنّ الدخول مقدّم على السُّكْنَى » .
وهذا يرد عليه ، فإن « الأعراف » قبل « البقرة » ؛ لأنها مكية .
وقال [ هنا ] « فَكُلُوا » بالفاء ، وفي « الأعراف » « وَكُلُوا » بالواو .
والجواب ها هنا هو الذي ذكرناه في قوله تعالى في سورة البقرة : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } ، وفي الأعراف { فَكُلاَ } . [ ولم ذكر قوله : « رغداً » في « البقرة » ، وحذفه في « الأعراف » ؟ لأنه اسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنْعَام الأعظم وهو أن يأكلوا رغداً ] ، وفي « الأعراف » لما لم يسند الفعل إلى نفسه [ لا جرم ] لم يذكر الإنعام الأعظم .
وقال هنا : { وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ } ، وفي « الأعرافش » قدّم المؤخر؛ لأن الواو للجمع المطلق ، وأيضاً يحمتل أن يكون بعضهم مذنباً ، وبعضهم ليس بمذنب ، المُذْنِب يكون اشتغاله أولاً بالتوبة ، ثم بالعبادة فكلفوا أن يقولوا أولاً « حطة » ثم يدخلوا الباب سُجَّداً ، وأما الذي ليس بمذنب ، فالأولى به أن يشتغل بالعبادة أولاً ، ثم [ يذكروا ] التوبة ثانياً على سبيل هَضْم النفس ، وإزالة العجب في فعل تلك العبادة فكلفوا أن يدخلوا الباب سجداً أولاً ، ثم يقولوا « حطة » ، فذكر حكم كل قسم في سورة قاله ابن الخطيب .
وفيه نظر؛ لأن هذا القول إنما كان مَرّة واحدة .
قال هنا : { وَسَنَزِيدُ المحسنين } بالواو ، وفي « الأعراف » بغير واو .
وقال ابن الخطيب : لأنه ذكر في « الأعراف » أمرين : قول الحطة ، وهو إشارة إلى التوبة ، ودخول الباب سجداً ، وهو إشارة العبادة ، ثم ذكرجزاءين : قوله تعالى : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } ، وهو واقع في مقابلة قول الحطّة ، وقوله : { وَسَنَزِيدُ المحسنين } ، وهو واقع في مُقَابلة دخول الباب سجداً ، [ فترك ] الواو يفيد توزيع كل واحد مِنَ الجَزَاءين على كل من الشرطين .
وأما في « البقرة » فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاءً واحداً لمجموع الفعلين .
وقال هنا : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً } ، وفي « الأعراف » زاد كلمة « منهم » .
قال ابن الخطيب : لأنه تعالى قال : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ } ، فذكر أن منهم من يفعل ذلك ، ثم عدّد صنوف إنعامه عليهم ، وأوامره لهم فلما انتهت القصّة قال : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } [ فذكر لفظة « مِنْهُمْ » في آخر القصّة كما ذكرها في أول القصة ] ليكون آخر الكلام مطابقاً لأوله ، وأما هنا فلم يذكر الآيات التي قيل قوله : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ } تمييزا وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص .
وقال هنا : { فَأَنزَلْنَا } وفي [ سورة ] « الأعراف » { فَأَرْسَلْنَا } ، وأتى بالمضمر دون الظاهر؛ لأنه تعالى عدّد عليم في هذه السُّورة نعماً جسيمة كثيرة ، فكان توجيه الذّمن عليهم ، وتوبيخهم بكفرانها أَبْلَغ من حيث إنه لم يعدّد عليهم هناك ما عَدّد هنا .
فلفظ « الإنزال » للعذاب أبلغ من لفظ « الإرسال » .
وقال هنا : { يَفْسُقُونَ } ، وفي « الأعراف » : { يَظْلِمُونَ } تنبيها على أنهم جامعون بين هذين الوصفين القبيحين .

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

كسرت الذّال من « إذ » لالتقاء الساكنين ، والسين للطلب على وجه الدعاء أي : سأل لهم السُّقْيَا ، وألف « إسْتَسْقَى » منقلبة عن ياء؛ لأنه من « السَّقْي » ، وتقدَّم معنى « اسْتَفْعَلَ » ، ويقال : « سَقَيْتُه » و « أَسْقَيْتُهُ » ، بِمَعْنّى؛ وأنشد : [ الوافر ]
521 سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى ... نُمَيْراً وَالقَبَائِلَ مِنْ هِلاَلِ
وقيل : « سقيته » : أعطيته ما يشرب ، « وأسقيته » : جعلت ذلك له يتناوله كيف شاء . و « الإسْقاء » أبلغ من « السَّقْي » على هذا .
وقيل : أسقيته : دَلَلْتُه على الماء ، وسيأتي عند قوله : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] وسقى وأسقى متعدّيان لمفعولين ، قال تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] وقال : { وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً } [ المرسلات : 27 ] .
و « لِقَوْمِهِ » متعلّق بالفعل ، واللام للعلّة ، أي : لأجل ، أو تكمون للبيان لما كان المراد به الدعاء كالتي في قولهم : « سُقْياً لَكَ » فتتعلّق بمحذوف كنظيرتها .
قوله : { اضرب بِّعَصَاكَ الحجر } الإدغام هنا واجبٌ؛ لأنه متى اجتمع مثلان في كلمتين؛ أو كلمة أوّلهما ساكن وجب الإدغام نحو : اضرب بكراً ، وألف « عصاك » منقلبة عن واو؛ لقولهم في النّسب : عَصَوِيٌّ ، وفي التثنية عَصَوَان؛ قال : [ الطويل ]
522 .. عَلَى عَصَوَيْهَا سَابِرِيٌّ مُشَبْرَقُ
والجمع : « عُصِيّ » « وَعِصِيّ » بضم العين وكسرها إتباعاً ، و « أَعْصِ » مثل « زَمَنٍ » « وأَزْمُن » ، والأصل : « عُصُوُو » و « أَعْصُو » ، فأعلّ . وعَصَوْتُه بالعَصَا ، وعَصَيْتُه بالسيف . و « ألقى عَصَاه » يعبر به عن بلوغ المنزل ، قال : [ الطويل ]
523 فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قَرَّعَيْنَا بِالإيَابِ المُسَافِرُ
وانشقت العَصَا بين القوم ، أي : وقع الخلاف؛ قال : [ الطويل ]
524 إذَا كَانَتِ الهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ العَصَا ... فَحَبْسُكَ وَالضَّحَّاحُ سَيْفٌ مُهَنَّدٌ
قال الفَرَّاء : « أوّل لحن سمع ب » العراق « هذه عَصَاتي » ، يعني : بالتاء .
وفي [ المثل ] : « العَصَا من العُصَيَّة » أي : بَعْضُ الأمر من بَعْضٍ .
و « الحَجَر » مفعول . و « أل » فيه للعَهْدِ .
وقيلك للجنس ، وهو معروف ، وقياس جمعه في أدنى العدد « أَحْجَار » وفي التكثير : « حِجَارٌ وحِجَارَةٌ » نادر ، وهو كقلونا : « جَمَل وجِمَالة » ، و « ذَكَر وذِكَارة » قاله ابن فارس والجَوْهري .
وكيف يكون نادراً وفي القرآن : { فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة } [ البقرة : 27 ] ، { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً } [ الإسراء : 50 ] ، { تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ } [ الفيل : 4 ] ، { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً } [ هود : 82 ] .
قوله : { فانفجرت } « الفاء » عاطفة على محذوف لا بُدّ من تقديره : فضرب فانفجرت . قال ابن عصفور : إن هذه « الفاء » الموجودة هي الداخلة على ذلك الفعل المحذوف ، والفاء الداخلة على « انْفَجَرَتْ » محذوفة ، وكأنه يقول : حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه ، وحذفت « الفاء » الثانية لدلالة الأولى عليها .

ولا حاجة إلى ذلك ، بل يقال : حذفت الفاء ، وما عطفته قبلها .
وجعلها الزمخشري جواب شرط [ مقدر ] قال : [ أو ] فإن ضربت فقد انفجرت ، قال : « وهي على هذا فاء فَصِيحة لا تقع إلا في كلام بليغ » . وكأنه يريد تفسير المعنى لا الإعراب .
و « الانْفِجَار » : الانشقاق والتفتُّح ، ومنه : الفَجْر لانشقاقه بالضَّوء .
وفي « الأعراف » : { فانبجست } [ الأعراف : 160 ] فقيل : هما بمعنى .
وقيل : « الانْبِجَاس » أضيق؛ لأنه يكون أولاً والانفجار ثانياً .
وقيل : انبجس وتبجّس وتفجّر وتفتّق بمعنّى وَاحِدٍ .
قوله : { اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً } فاعل « انْفَجَرَتْ » ، والألف علامة الرفع؛ لأنه محمول على المُثَنّى ، وليس بمثنى حقيقة ، إذ لا واحد له من لفظه ، وكذلك مذكره « اثنان » ، ولا يضاف إلى تمييز ، لاستغنائه بذكر المعدود « مثنى » تقول : « رجلان وامرأتان » ولا تقول : يضاف إلى « اثنا رَجُل ، ولا اثنتا امرأة » إلا ما جاء نادراً فلا يقاس عليه ، قال : [ الرجز ]
525 كَأَنَّ خُصْيَيْهِ مِنَ التَّدَلْدُلِ ... ظَرْفُ عَجُوزٍ فِيهِ ثِنْتَا حَنْضَلِ
و « ثنتان » مثل « اثنتين » ، وحكم اثنين واثنتين في العدد المركب أن يُعْرَبا بخلاف سائر أخواتهما ، قالوا : لأنه حذف معهما ما يحذف في المعرب عند الإضافة ، وهي النون ، فأشبها المعرب فأعربا كالمثنى بالألف رفعاً والباء نصباً وجرًّا .
وأما « عَشْرة » فمبني لتنزله منزلة تاء التأنيث ، ولها أحكام كثيرة .
و « عَيْناً » تمييز . وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى : « عَشِرَة » بكسر الشين ، وهي لغة تميم .
قال النحَّاس : « وهذا عجيب فإن لغة تميم » عشرة « بالكسر ، وسبيلهم التخفيف ، ولغة » عَشْرة « بالسكون ، و سبيلهم التثقيل » .
وقرأ الأعمش : « عَشَرَة » بالفتح .
و « العَيْن » : اسم مشترك بين عَيْنِ الإنسان ، وعَيْنِ الماء ، وعين الرَّكّية ، وعَيْنِ الشمس ، وعَيْنِ الذهب ، وعين الميزان .
والعين : سحابة تقبل من ناحية القبلة . والعين : المَطَر الدائم ستًّا أو خمساً . والعين : الثقب في المَزَادة ، وبلد قليل العين ، أي : قليل النَّاس . [ وبها عين ، محركة الياء ] .
فإن قيل : إذا كانت العين لفظاً مشتركاً بين حقائق ، فكيف وقعت هنا تمييزاً؟
فالجواب : أن قوله : « وَإذِ اسْتَسْقَى » ، وقوله : « فَانْفَجَرَتْ » ، وقوله : « مَشْرَبَهُمْ » دليل على إرادة عين الماء ، فاللفظ مع القرينة مميز ، والعَيْن من الماء شبيهة بالعين من الحيوان لخروج الماء منها ، كخروج الدَّمع من عين الحيوان .
وقيل : لما كان عين الحيوان اشرف ما فيه شبّهت به عين الماء؛ لأنها أشرف ما في الأرض .
قوله : { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ }

[ الأعراف : 82 ] قد تقدّم الكلام على أنّ « أناس » أصل « النّاس » .
وقال الزمخشري في سورة « الأعراف » : « إنه اسم جمع غير تكسير » ، ثم قال : « ويجوز أن يكون الأصل الكسر ، والتكسير ، والضمة بدل من الكسرة ، كما أبدلت في سُكَارى » من الفتحة وسيأتي البحث معه إن شاء الله تعالى .
قوله : { مَّشْرَبَهُمْ } مفعول ل « علم » بمعنى « عرف » ، و « المَشْرَب » هنا موضع الشُّرْب؛ لأنه روي أنه كان لكل سِبْطٍ عَيْنٌ من اثنتي عشرة عيناً ، لا يشاركه فيها سبط غيره .
وقيلك هو نفس المشروب ، فيكون مصدراً واقعاً موقع المفعول به ، وضمير الجمع في قوله : « مشربهم » يعود على معنى « كُلُّ أُنَاسِ » .
فصل في بيان أن الاستسقاء كان في التِّيه
قال جمهور المفسرين : هذا الاستسقاء كان في التِّيْهِ؛ لأن الله تعالى لما ظَلَّلَ عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المَنّ والسَّلْوَى ، وجعل ثيابهم بحيث لا تَبْلَى ، ولا تَتَّسِخ خافوا العَطَش ، فأعطاهم الله الماء من ذلك الحَجَرِ ، وأنكر أبو مسلم ذلك وقال : بل هو كلام مفرد بِذَاتِهِ ، ومعنى الاسْتِسْقَاء طلب السُّقْيَا من المطر على عادة الناس إذا [ أقحطوا ] ، ويكون ما فعله الله من تَفْجِيِر الحجر بالماء فوق الإجابة بالسُّقيا ، [ وإنزال الغيث ] .
[ وقال ابن الخطيب : ] وليس في الآية ما يدلّ على أحد القولين ، وإن كان الأقرب أن ذلك وقع في التِّيْهِ؛ لأن المعتاد في البلاد الاستغناء عن طلب الماء إلا في النَّادر ، وأيضاً روي أنهم كانوا يحملون الحَجَر معهم؛ لأنه صار معدًّا لذلك ، [ فكما كان ] المَنّ والسّلوى ينزلا من كل غَدَاة ، فكذلك الماء يتفجّر لهم في كل وقت ، وذلك لا يليق إلا بأيّامهم في التّيْهِ .
فصل في جنس الشجرة
اختلفوا في العَصَا ، فقال الحسن : كانت عَصَا أخذها من بعض الأشجار وقيل : كانت من آس الجَنّة طولها عشرة أَذْرُع على طول موسى ، ولها شُعْبَتَان تَتَّقِدَان في الظلمة ، واسمه عليق ، وكان آدم عليه الصلاة والسلام حمله معه من الجَنّة إلى الأرض ، فتوارثه صَاغراً عن كَابِرٍ حتى وصل إلى شُعَيْب عليه الصلاة والسلام فأعطاه لموسى عليه الصلاة والسلام .
والذي ينبغي أن يقال : إنها كانت بمقدار يصحّ أن يتوكّأ عليها ، وأن تنقلب حَيَّةً عظيمة ، وما زاد على ذلك لا دليل عليه .
قال ابن الخطيب : « والسُّكوت عن هذه المباحث واجب؛ لأنه ليس فيها نَصّ متواتر ، ولا يتعلّق بها عمل حتى يكتفى فيها بالظَّن المستفاد من أخبار الآحاد » .
فصل في المراد بالحجر
إن قلنا : الألف واللام في « الحَجَرِ » للعَهْد ، فالإشارة إلى حَجَرٍ معلوم ، روي أنه حجر طُوري مربّع قدر رأس الشَّاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به ، ينبع من كل وَجْه ثلاثة أعين لكل سِبْط عين تسيل في جدول إلى ذلك السّبط فإذا نزلوا وضع في وسط محلّتهم .

وقيل : بل كانوا يجدونه في كل مَرْحَلة في منزلته من المرحلة الأولى ، وهذا من [ أعظم ] الإعجاز .
وقال سعيد بن جُبَيْرٍ : هو الحَجَرُ الذي وضع عليه موسى ثَوْبَهُ حين اغتسل ، فضربه حتى بَرَّأَهُ الله مما رموه به من الأُدْرَة ، فقال له جبريل : فيقول الله تعالى لك : أرفع هذا الحَجَرَ ، فإن لي فيه قدرة ، ولك فيه مُعْجزة ، فحمله في مخْلاَتِهِ . قال أبو روق : كان من [ الكدّان ] ، وقيل : من الرُّخَام .
[ فإن قلت ] : الألف واللام للجنس ، فمعناه : [ اضرب ] أي حجر كان .
قال الحسن : لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه ، قال : وهذا أظهر في الحُجّة . وروي أنه كان يضره ضربةً واحدة ، فيظهر فيه اثنتا عشر عيناً كل عين مثل ثَدْي المرأة فيعرق ، وهو الانْبِجَاس ، ثم ينفجر بالأنهار .
قال عطاء : ثم يضربه ضربةً واحدة فَيَيْبَسُ .
وقال عبد العزيز بن يحيى الكتاني : كان يضربه اثنتا عشرة ضربةً لكل عين ضربة .
قال القرطبي : ما أوتي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام من نَبْعِ الماء وانفجاره من بين أصابعه أعظم في المُعْجزة ، فإنا نشاهد الماء يتفجّر من الأحجار ، ومعجزة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام يخرج الماء من بين لَحْمِ ودَمٍ!
وروى الأئمة الثقات عن عبدالله قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم مجد ماءً فأتي بِتَوْرٍ فأدخل يده فيه ، فلقد رأيت الماء يتفجّر من بين أصابعه ، ويقول : « حي على الطّهور » .
قال الأعمش : حدثني سالم بن أبي الجَعْدن قال : قلت لجابر : كم كنتم يومئذ؟
قال : ألفاً وخمسمائة . لفظ النَّسَائي .
فصل في وجوه الإعجاز في انفجار الحجر
والحكمة في جَعْلِ الماء اثنتي عشرة عيناً قطع التنازع والتَّشَاجر بينهم ، وهذا الانفجار يدلّ على الإعجاز من وجوه .
أحدها : أن نفس ظهور الماء معجزة .
وثانيها : خروج الماء العظيم من الحجر الصغير .
وثالثها : خروج الماء بِقَدْر حاجتهم .
ورابعها : خروج الماء عند الضَّرْب بالعصا .
وخامسها : خروج الماء بالضَّرب بعصا معينة .
وسادسها : انقطاع الماء عند الاستغناء عنه ، فهذه الوجوه لا يمكن تحصيلها إلا بِقُدْرَةٍ تامة في كل الممكنات ، وعلم نافذ في جميع المعلومات .
قوله : { كُلُواْ واشربوا } هاتان الجمليتان في محلّ نصب بقول مضمر تقديره : وقلنا لهم : كلوا واشربوا . وقد تقدّم تصريف « كُلْ » وما حذف منه .
قوله : { مِن رِّزْقِ الله } هذه من باب الإعمال؛ لأن كلّ واحد من الفعلين يصحّ تسلّطه عليه ، وهو من باب إعمال الثاني للحذف من الأول . والتقدير : كلوا منه .
و « مِنْ » يجوز أن تكون لابتداء الغاية ، وأن تكون للتبعيض ، ويجوز أن يكون مفعول الأكل محذوفاً ، وكذلك مفعول الشرب؛ للدلالة [ عليهما ] ، والتقدير : كلوا المَنّ والسَّلوى لتقدمهما في قوله :

{ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } [ البقرة : 57 ] ، واشربوا ماء العيون المتفجّرة . وعلى هذا فالجار والمجرور يحتمل تعلّقه بالفعل قبله ، ويحتمل أن يكون حالاً من ذلك المفعول المحذوف ، فيتعلّق بمحذوفة .
وقيل : المراد بالرِّزْقِ الماء وحدهن ونسب الأكل إليه لما كان سبباً في نَمَاءِ ما يؤكل وحَيَاته ، فهو رزق يؤكل منه ويشرب . والمُرَاد بالزرق المرزوق ، وهو يحتمل أن يكون من باب « ذِبْح ورِعْي » ، وأن يكون من باب « درهم ضرب الأمير » وقد تقدم بيانه .
فإن قيل : قوله : { مِن رِّزْقِ الله } يفهم منه أن ثَمَّ رزقاً ليس لله ، وذلك باطل .
فالجواب : من [ وجوه ] :
[ أحدها : أن هذا مفهوم لقب؛ فلا يدل ]
الثاني : أن هذا رِزْقٌ لم تعمل فيه أيديهم بِحَرْثٍ ولا غيره ، فهو خالص أرسله الله إليهم .
الثالث : أن إضافته إلى الله تعالى إضافة تشريف لكونه أشرف ما يؤكل ، وما يشرب؛ لأنه تسبّب عن معجزٍ خارقٍ للعادة .
فصل في كلام المعتزلة
واحتجّت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلاق قالوا : لأن أقل درجات قوله : كلوا واشربوا الإباحة ، فهذا يقتضي كون الرزق مباحاً ، فلو وجد رزق حرام لكان ذلك الرزق مباحاً وحراماً وإنه غير جائز .
قوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } .
أصل « تعثوا » : « تَعْثَيُوا » ، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان فحذف الأول منهما وهو الياء ، أو لما تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً فالتقى ساكنان ، فحذفت الألف ، وبقيت الفتحة تدل عليها . وهذا أولى ، فوزنه « تفعون » .
و « العِثِيّ » و « العَيْث » : أشد الفساد وهما متقاربان .
وقال بعضهمك « إلا أنّ العَيْثَ أكثر ما يقال فيما يدرك حسّه ، والعِثِيّ فيما يدرك حكماً ، يقال : عَثِيَ يَعْثَى عِثِيًّا ، وهي لغة القرآن ، وَعَثَا يَعْثُو عُثُوًّا ، وعَاثَ يَعيثُ عَيْثاً » .
وليس « عاث » مقلوباً من « عَثِيَ » ك « جَبَذَ وجَذَبَ » لتفاوت معنييهما كما تقدم .
ويحتمل ذلك ، ثم اختصّ كل واحد بنوع ، ويقال : عَثِي يَعْثَى عِثِيًّا ومَعَاثاً ، وليس « عَثِيَ » أصله « عَثِوَ » فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، ك « رضي » من الرِّضْوَان ، لثبوت العِثِيِّ ، وإن تَوَهَّم بعضهم ذلك .
ويقال : عَثَّ يَعُيُّ مضافاً أي : فسد ، قال ابن الرِّقَاع : [ الكامل ]
526 لَوْلاَ الحَيَاءُ وَأَنَّ رَأَسِيَ قَدْ عَثَا ... فِيهِ المَشِيبُ لَزُرْتُ أُمَّ القَاسِمِ
ومنه : العُثَّة : [ سوسة ] تفسد الصُّوف .
وأما « عَتَا » بالتاء المُثَنّاة من فوق فهو قريب من معناه ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى .
و « مُفْسِدِينَ » حال من فاعل « تَعْثُوا » وهي حال مؤكدة؛ لأن معناها قد فهم من عاملها ، و حسن ذلك اختلاف اللفظين ، ومثله : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] ، هكذا قالوا . ويحتمل أن تكون حالاً مبينة؛ لأن الفساد أعم ، والمعنى أخص ، ولهذا قال الزمخشري : فقيل لهم لا تَتَمَادّوْا في الفساد في حال فسادكم؛ لأنهم كانوا متمادين فيه . فغاير بينهما كما ترى .
و « في الأرض » يحتملم أن يتعلّق ب « تعثوا » وهو الظاهر ، وأن يتعلّق ب « مفسدين » . والمراد بالأرض : عموم الأرض [ لا ] أرض التِّيْهِ .
والمراد بالفساد هاهنا هو قوله في سورة طه : { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } [ طه : 81 ] .

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)

« لن نَصْبِرَ » ناصب منصوب ، والجملة في محلّ نصب بالقول ، وتقدم الكلام على « لن » .
قوله : { طَعَامٍ وَاحِدٍ } ، وإنما كان طعامين هما : المَنّ والسَّلْوَى؛ لأن المراد بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل ، فأريد بالوحدة نفي التبديل لا الاختلاف ، أو لأنهما ضرب واحد؛ لأ ، هما من طعام أهل التلذُّذ والترف ، ونحن أهل زِرَاعات لا نريد إلا ما ألفناه من الأشياء المتفاوتة ، أو لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر ، أو لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد .
وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم : كانوا يعجنون المَنَّ والسّلوى ، فيصير طعاماً واحداً .
وقيل : لأن العرب تعبّر عن الاثنين بلفظ الواحد ، وبلفظ الواحد عن الواحد ، كقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، وإنما يخرجان من المِلْحِ دون العَذْب .
قال ابن الخطيب : ليس المراد أنه واحد في النوع ، بل إنه واحد في المَهْجِ ، كما يقال : إن طعام فلان على مائدة طعام واحداً إذا كان لا يتغيّر عن نهجه .
وقيل : كنوا بذلك عن الغنى ، فكأنهم قالوا : لن نرضى أن نكون كلنا مشتركين في شيء واحد فلا يخدم بعضنا بعضاً ، وكذلك كانوا أول من اتخذ الخدم والعبيد . و « الطعام » : اسم لكل ما يطعم من مأكول ومشروب ، ومنه : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } [ البقرة : 249 ] ، وقد يختص ببعض المأكولات كاختصاصه بالبُرّ والتَّمْرِ في حديث الصًّدَقة ، أو صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير . والطَّعم بفتح الطاء المصدر أو ما يشتهى من الطعام أو ما يؤديه الذوق ، تقول : طَعْمُهُ حُلْو وطَعْمُهُ مُرّ ، وبضمها الشيء المطعوم كالأُكْلِ والأَكْل؛ قال أبو خِرَاشٍ : [ الطويل ]
527 أَرُدُّ شُجَاعَ البَطْنِ لَوْ تَعْلَمِينَهُ ... وأُوثِرُ غَيْرِي مِنْ عِيَالِكِ بالطُّعْمِ
وأَغْتَبِقُ المَاءَ القَرَاحَ فَأَنْتَهِي ... إذَا الزَّادُ أَمْسَى للْمُزَلَّجِ ذَا طَعْمِ
أراد بالأول المطعوم ، وبالثاني ما يُشْتَهَى منه ، وقد يعبَّر به عن الإعطاء؛ قال عليه السلام : « إِذا استَطْعَمَكُمُ الإمام فَأَطْعِمُوهُ » أي : إذا استفتح ، فافتحوا عليه ، وفلان ما يَطْعَمُ النومَ إلاَّ قائماً؛ قال : [ المتقارب ]
528 نَعَاماً بِوَجْرَةَ صُفْرَ الْخُدُودِ ... مَا تَطعَمُ النَّوْمَ إِلاَّ صِيَامَا
قوله : « فادع » اللّغة الفصيحة « ادْعُ » .
بضم العين من « دَعَا يدعو » .
ولغة بني عامر « فَادْعِ » بكسر العين قال أبو البقاء : « لالتقاء السَّاكنَيْنِ؛ يُجْرُونَ المعتلَّ مُجْرَى الصَّحيح ، ولا يراعون المحذُوفَ » يعني أن العَيْنَ ساكنةٌ ، لأجل الأمر ، والدَّالُ قبلها ساكنةٌ ، فكسرت العين ، وفيه نظرٌ ، لأن القاعدة في هذا ونحوه أن يُكْسَر الأوَّو من الساكنين ، لا الثاني ، فيجوزُ أنْ يكُون من لُغتِهِمْ « دَعَا يَدْعِي » مثل « رَمَى يَرْمي » ، والدُّعَاء هنا السُّؤال ، ويكون هنا بمعنَى التَّسْمية؛ كقوله : [ الطويل ]

529 دَعَتْنِي أَخَاهَا أُمُّ عَمْرٍ و . . . .
وقد تقدم ، و « لنا » متعلّق به ، واللام للعلة .
قوله : « يُخْرِجْ » مجزوم في جواب الأمر .
وقال بعضهم : مجوزم بلا الأمر مقدرة ، أي « ليخرج » ، وضعفه الزجاج وسيأتي الكلام على حذف لام الأمر إن شاء الله تعالى .
والقراءة المشهورة « يُخْرِجْ » بضم « الياء » وكسر « الراء » و « تُنْبِت » بضم « التاء » وكسر « الباء » وقرأ زيد بن علي « يَخْرُج » بفتح « الياء » وضم « الراء » و « تَنْبُت » بفتح « التاء » وضم « الباء » .
قوله : « مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ » مفعول « يخرج » محذوف عن سيبويه تقديره : مأكولاً مما ، أو شيئاً ممّا تنبت الأرض . والجار يجوز أن يتعلّق بالفعل قبله ، ويكومن « مِنْ الابتداء الغاية ، وأن تكون صفةً لذلك المفعول المحذوف ، فيتعلّق بمضمر ، أي : مأكولاً كائناً مما تنبته الأرض .
و » مِنْ « للتبعيض ، ومذهب الأخفش : أن » من « زائدة في المفعول ، والتقدير : يخرج ما تُنْبِتُهُ الأرض؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً .
قال النَّحاس : وإنما دعى الحسن إلى زيادتها؛ لأنه لم يجد مفعولاً ل » يخرج « فأراد أن يجعل » ما « مفعولاً و » ما « يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة ، والعائد محذوف ، أي من الذي تُنْبته ، أو من شيء تُنْبته ، ولا يجوز جعلها مصدريّة؛ لأن المفعول المحذوف لا يُوصَف بالإنبات؛ لأن الإنبات مصدر ، [ والمُخْرج ] جوهر ، وكذلك على مذهب الأخفش؛ لأن المخرج جوهر لا إنبات .
قوله : » مِنْ بَقْلِهَا « يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون بدلاً من » ما « بإعادة العامل ، و » من معناها : بيان الجِنْس .
والثاني : أن يكون في محلّ نصب على الحال من الضمير المحذوف العائد على « ما » أي : مما تُنْبته الأرض في حال كونه من بقلها ، و « من » أيضاً للبيان .
و « البَقْل » : كل ما تنبته الأرض من النَّجم ، أي : ما لا سَاقَ له ، وجمعهه « بُقُول » .
و « القِثَّاء » معروف . الواحدة : قِثَّاءة ، فهو من باب قَمْح وقَمْحة ، وفيها لغتان : المشهورة كسر القاف وهي قراءة العامة ، وقرأ يحيى بن وَثّاب ، وطلحة بن مصرّفن والأشهب العُقَيْلِيُّ بضم القاف وهي لغة « تميم » .
و « القِثَّاء » مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ ممدود ، تقول : « قِثَاء » و « قِثَّاءة » وَ « دِبَّاءَ » وَ « دِبَّاءة » ، وَ « دَاء » وَ « دَوَاء » والهمزة أصلٌ بنفسها في قولهم : « أَقْثَأَتِ الأرض » ، أي : كثر قِثَّاؤها .

ووزنها « فِعَّال » ، ويقال في جمعها : « قَثَائِي » ، مثل : « عِلْبَاء » و « عَلاَبِي » .
قال بعضهم : إلا أن « قِثَاء » من ذوات الواو ، تقول « أَقْثَأْتُ القَوْمَ » ، أي : أطمعتهم ذلك ، وَقَثأْتُ القِدْرَ سَكَّنْتُ غليانَهَا بالماء .
قال الجعدي : [ الطويل ]
530 تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا ... وَنَقْثَؤُهَا عَنَّا إِذَا حَمْيُهَا غَلاَ
وهذا وهم فاحش؛ لأنه لما جعلها من ذوات الواو كيف يستدلّ عليه بقولهم : « أقْثأت القوم » بالهمز ، بل كان ينبغي أن يقال : « أَقْثَيْثُ » والأصل « أٌقْثوْتُ » لكن لما وقعت الواو في بناء الأربعة قلبت ياء ، ك « أَغْزَيْتُ » من الغَزْوِ ، ولكان ينبغي أن يقال : قَثَوْتُ القِدْرَ « بالواون ولقال الشاغر : [ نَقْثُهَا ] بالواو .
وَ » الْمَقْثَأة « و » الْمَقْثُؤَة « بفتح الثاء وضمها : موضع » القِثَّاء « .
و » الفُوم « : الثُوم وروي عن علقمة وابن مسعود أنه قرأ : » وثُومها « ، وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما وفي مصحف عبدالله . والفاء تبدل من الثاء كما قالوا : » جدث وجدف « و » عَاثُور وعَافُور « و » مَغَافير ومَغَاثير « ، ولكنه غير قياس .
وعن ابن عباس الفُوم : الخُبْز ، تقول العرب : فَوِّمُوا لنا : أي : أختَبزُوا » .
وقال ابن عباس أيضاً وعطاء أبو مالك : هو الحِنْطَة وهي لغة قديمة ، وأنشد ابن عباس لمن سأله عن « الفُومِ » : [ الكامل ]
531 قدْ كُنْتَ أَحْسِبُنِي كَأَغْنَى وَاحِدٍ ... [ نَزَلَ ] الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعةِ فُومِ
وقال ابن دُرَيْدٍ « » الفُومَةُ السُّنْبُلَةُ « ، وأنْشَد : [ الوافر ]
532 وَقَالَ رَبيئُهُمْ لَمَّ أَتَانَا ... بِكَفِّهِ فُومَةٌ أَوُ فُومَتَانِ
وقال القتيبي : » هو الحبوبُ كلها « .
قال الكلبي والنضر بن شُمَيْل والكسَائي والمؤرجك الصّحيح أنه الثُّوم ، لقراءة ابن عباس ، ولكونه في مُصْحِف عبدالله بن مسعود وثُومها؛ ولأنه لو كان المراد الحِنْطة لما جاز أن يقال لهم : أَتَسْتَبْدِلُون الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ لأن الحِنْطة أشرف الأطعمة ، ولأنَّ الثوم أوفق للعَدَس والبَصَل من الحِنْطة وأنشد المؤرج لحسان : [ المتقارب ]
533 وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الأُصُولِ ... طَعَامُكُمُ الْفُومُ وَالْحَوْقَلُ
يعني : الثوم والبصل؛ وأنشد النضر لأمية بن أبي الصَّلْت : [ البسيط ]
534 كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظاهِرَةً ... فِيْها الْفَرَادِيسُ وَالْفُومَانُ وَالْبَصَلُ
الفَرَادِيس : واحدها فِرْدِيسُ . وَكَوْمٌ مُفَرْدَسٌ ، أي : مُعَرَّش .
وقال بعضهم : » الفُوم : الحِمَّص لغة شامِيّة « .
قوله : » وَعَدَسِهَا « العَدَس معروف ، والعَدَسَة : بَثْرَةٌ تخرج بالإنسانن وربما قَتَلَتْ وعَدَسْ زجر للبِغَال؛ قال : [ الطويل ]
535 عَدَسْ مَا لِعَبَّادِ عَليْكِ إِمَارَةٌ ... نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
والعدس : شدة الوَطْء ، والكَدح أيضاً ، يقال : عدسه . وعدس في الأرض ذهب فيها ، وعدست إليه المَنِيّة أي : سارت؛ قال الكميت : [ الطويل ]
536 أُكَلِّفُهَا هَوْلَ الظَّلاَمِ وَلَمْ أَزْلْ ... أَخَا اللَّيْلِ مَعْدُوساً إِلَيَّ وَعَادِسَا

أي : يسار إليّ بالليل . وعدس لغة في حدس ، قاله الجوهري . وعن لعي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عليكم بالعَدَس فإنه مُبَارك مُقَدّس ، وإنه يرقق القَلْب ويكثر الدَّمْعَة فإنه بارك فيه سبعون نبياً آخرهم عِيْسَى ابن مريم » .
اختلف العلماء في أكل البصل والثّوم [ والكراث ] وما له رائحة كريهة من البُقُول .
فذهب الجمهور إلى الإبَاحَةِ ، للأحاديث الثابتة في ذلك .
وذهبت طائفة من أهل الظاهر القائلين بوجوب صلاة الفرض في الجَمَاعة إلى المَنْعِ؛ لان النبي عليه الصَّلاة والسَّلام سمّاها خبيثةً .
وقال تعالى : { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث } [ الأعراف : 175 ] والصحيح الأول؛ لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام لبعض أصحابه : « كُلْ فِإنِّي أُنَاجي من لا تُنَاجي » .
فصل في لفظ أدنى
قوله : « أَتَسْتَبْدِلُون » ؛ وفي مصحف أُبي « أَتُبَدِّلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى » ، وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : وهو الظاهر قول الزجاج أن أصله : « أَدْنَوْ » من الدنو ، وهو القرب ، فقلبت الواو ألفاً لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، ومعنى الدُّنُوِّ في ذلك فيه وجهان :
أحدهما : أنه أقرب لقلّة قيمته وخَسَاسته .
والثاني : أانه أقرب لكم؛ لأنه في الدنيا بخلاف الذي هو خير ، فإنه بالصبر عليه يحصل نفعه في الآخرة .
والثاني : قول علي بن سليمان الأَخْفَش أن أصله : « أَدْنَأُ » مَهْمُوزاً من دَنَأَ بَدْنَأُ دَنَاءَة ، وهي الشيء الخَسِيْس ، إلا أنه خفّف همزته؛ كقوله : [ الكامل ]
537 . ... فَارْعَيْ فَزَارَةُ لاَ هَنَاكِ الْمَرْتَعُ
ويدل عليه قراءة زهير [ القرقبي ] الكسائي : « أدنأ » بالهمز .
الثالث : أن أصله : أّدْوَن من الشيء الدّون ، أي : الرَّدِيء ، فقلب بأن أخرت العين إلى موضع اللام ، فصار : أَدْنُوُ ، فأعلّ كما تقدم . ووزنه « أفلع » ، وقد تقدم معنى الاستبدال .
و « أدنى » خبر عن « هو » ، والجملة صلة وعائد ، وكذلك : « هو خير » صلة وعائد أيضاً .
فصل في معنى الآية
ومعنى الآية : أتستبدلون البقل والقثّاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمَنْ والسَّلوى الذي هو خير؟ من وجوه :
الأول : أنّ البقول لا خطر لها بالنسبة إلى المَنّ والسلوىن لأنهما طعام مَنّ الله به عليهم ، وأمرهم بأكله ، فكان في استدامته شكر نعمة الله ، وذلك أَجْر وذُخْر في الآخرة ، والذي طلبوه عَارٍ من هذه الخصال ، فكان أدنى .
وأيضاً لما كان المَنَّ والسَّلوى ألذّ من الذي سألوه ، وأطيب كان أدنى ، وأيضاً لما كان ما أعطوه لا كُلْفة فيه ، ولا تعب ، وكان الذي طلبوه لا يجيء إلا بالحَرْثِ والتعب كان [ أيضاً ] أدنى .
وأيضاً لما كان ما ينزل عليهم لا مِرْيَة في حلّة وخُلُوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخلّلها البيوع والغُضُوب وتدخلها الشُّبه ، كانت أدنى من هذا الوجه .

وأفرد في قوله : { الذي هُوَ أدنى } وإن كان ما طلبوه أنواعاً حملاً على قوله : « ما » في قوله : { مِمَّا تُنْبِتُ الأرض } ، أو على الطعام المفهوم من قوله : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } .
قوله : { اهبطوا مِصْراً } القراءة المعروفة « أهْبِطُوا » بكسر الياء ، وقرىء بضمها . و « مصراً » قرأ الجمهور منوناً ، وهو خطّ المصحف .
فقيل : إنهم أمروا بهبوط مِصْرٍ من الأمطار فلذلك صرف .
وقيل : أمروا بِمْصرٍ بعينه ، وإنما صرف لخفّته ، لسكون وسطه ك « هِنْد ودَعْد » ؛ وأنشد : [ المنسرح ]
538 لَمْ تَتَلفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزَرِهَا ... دَعْدٌ وَلَمْ تُسْقَ دَعدُ في العُلَبِ
فجمع بين الأمرين .
أو صرفه ذهاباً به إلى المكان .
وقرأ الحسن : « مِصْرَ » بغير تنوين ، وقال : الألف زائدة من الكاتب ، وكذلك في بعض مصاحف عُثْمان ، ومصحف أُبيّ ، وابن مَسْعُودن كأنهم عَنَوْا مكاناً بعينه ، وهو بلد فرعون وهو مروي عن أبي العالية
وقال الزمخشري : « ‘نه معرّب من لسان العَجَمِ ، فإن أصله مِصْرائيمن فعرب » ، وعلى هذا إذا قيل بأنه علم لمكان بعينه ، فلا ينبغي أن يصرف ألبتة لانضمام العُجْمة إليه ، فهو نظير « ماه وَجور وحِمْص » ، ولذلك أجمع الجمهور على منعه في قوله : { ادخلوا مِصْرَ } [ يوسف : 99 ] . والمِصْر في أصل اللغة : الحَدّ الفاصل بين الشيئين ، وحكي عن أهل « هَجَر » أنهم إذا كتبوا بيع دار قالوا : « اشترى فلانٌ الدَّارَ بِمُصُورِهَا » أي : حُدُودها؛ وأنشد : [ البسيط ]
539 وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْراً لا خَفَاءَ بِهِ ... بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلاَ
قوله : { مَّا سَأَلْتُمْ } « ما » في محلّ نصب اسماً ل « إن » ، والخبر في « لكم » ، و « ما » بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : الَّذي سألتموه .
قال أبو البَقَاءك « ويضعف أن تكون نكرة موصوفة » . يعني : أنَّ الذي سألوه شيءٌ معيَّنٌ ، فلا يحسُنُ أن يُجَابُوا بشيء مُبهَمٍ .
وقرىء : « سِلْتُمْ » مثل : بِعْتُمْ ، وهي مأخوذةٌ من « سَالَ » بالألف قال حَسَّان رضي الله عنه : [ البسيط ]
540 سَالَت هُذَيْلٌ رَسُولَ الله فَاحِشَةً ... ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ
وهل هذه الألف منقلبة عن ياء أو واو لقولهم : يَتَساوَلاَنِ ، أو عن همزة؟ ثلاثة أقوال يأتي بيانها في سورة « المعارج » إن شاء الله تعالى .
فصل في بيان أنه هل عصوا بذلك السؤال
أكثر المفسرين زعموا أن ذلك السؤال كان معصية .
قال ابن الخطيب : وعندنا ليس الأمر كذلك ، والدليل عليه أن قوله : « كلوا واشربوا » عند إنزال المَنّ والسّلوى ليس بإيجاب ، بل هو إباحةٌ ، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ } معصية؛ لأن من أُبيح له ضرب الطعام محسن منه أن يسأل غير ذلك ، إما بنفسه أو على لسان الرسول ، فلما كان عندهم أن سؤال موسى أقرب إلى الإجابة جاز لهم أن يسألوه ذلك ، ولم يكن فيه معصية .

واعلم أن سؤال النَّوع الآخر من الطعام يحتمل أن يكون لأغراض منها : أنهم لما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين مَلّوه سنةً ، فاشْتَهَوْا غيره .
ومنها : لعلّهم ما تعودوا ذلك النوع ، وإما تعودوا سائر الأنواعن ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيساً فوق رَغْبته فيما لم يَعْتَدْهُ وإن كان شريفاً .
ومنها : لعلهم ملوا البقاء في التِّيْه ، فسألوه هذه الأطعمة التي لا توجد إلاَّ في البلاد ، وغرضهم الوصول إلى البلاد لا نفس الأطعمة .
ومنها : أن المُوَاظبة على نوع واحد سببٌ لنقصان الشهوة ، وضعف الهَضْم ، وقلّة الرغبة والاستكثار من الأنواع بضد ذلكن فثبت أن تبديل طعام بغيره يصلح أن يكون مقصود العقلاء ، وليس في القرآن ما يدلّ على منعهم ، فثبت أن هذا القَدْرَ لا يجوز أن يكون معصية ، ومما يؤكد ذلك أن قوله : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } كالإجابة لما طلبوا ، ولو كانوا عاصين في ذلك السُّؤال لكانت الإجابة إليه معصية ، وهي غير جائزة على الأنبياء ، لا يقال : إنهم لما أبوا شيئاً اختاره الله لهم أعطاهم عاجل ما سألوه كما قال : { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ الشورى : 20 ] لأن هذا خلاف الظاهر .
واحتجوا على أن ذلك السؤال معصية بوجوه :
الأول : قولهم : لن نصبر على طعامٍ واحدٍ يدلّ على أنهم كرهوا إنزال المَنَ والسلوى ، فتلك الكراهة معصية .
الثاني : أن قول موسى عليه الصلاة والسلامك { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ } استفهام على سبيل الإنكار ، وذلك يدلّ على كونه معصية .
الثال : أن موسى عليه الصلاة والسلام وصف ما سألوه بأنه أدنى ، ما كانوا عليه بأنه خير ، وذلك يدلّ على ما قلناه .
والجواب عن الأول : أن قولهم : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } ليس فيه دليل على أنهم كرهوه ، بل اشتهوا شيئاً آخر؛ لأن قلهم : لن صبر إشارةٌ إلى المستقبلح لأن « لن » لنفي المستقبل ، فلا يدلّ على أنهم سخطوا الواقع .
وعن الثاني : بأن الاستفهام على سبيل الإنكار قد يكون لما فيه من تفويت الأ نفع في الدنيا ، وقد يكون لما فيه من تَفْويت الأنفع في الآخرة .
وعن الثالث : بأن الشيء قد يوصف بأنه خير من حيث إن الانتفاع به حاضر متيقّن ، ومن حيث إنه حصل بِلاَ كَدّ و لا تَعَب ، فكما يقال ذلك في الحاضر ، فقد يقال في الغائب المشكوك فيه : إنه أدنى من حيث إنه لا يتيقّن من حيث لا يوصل إليه إلا بالكَدّ ، فلا يمتنع أن يكون مراده عليه الصلاة والسلام هذا المعنى ، أو بعضه ، فثبت أن ذلك السؤال لم يكن معصية ، بل كان سؤالاً مباحاً ، وإذا كان كذلك فقوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } ، لا يجوز أن يكون لما تقدم؛ بل لما ذكره الله تعالى بعد ذلك وهو قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله } إلى آخره .

فهذا هو الموجب للغَضَبِ والعقاب لا كونهم سألوه ذلك .
فصل في المراد ب « مصر »
قال : قوم : المراد من « مصر » البلد الذي كانوا فيه مع فرعون؛ لقوله تعالى : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ } [ المائدة : 21 ] فأوجب دخول تلك الأرض ، وذلك يقتضي المنع من دخول غيرها ، وأيضاً قوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يقتضي دوامهم فيه؛ وقوله : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ } [ المائدة : 21 ] صريح في المَنْعِ من الرجوع عن بيت المقدس ، وأيضاً فإنه تعالى ، بعد الأمر بدخول الأرض المقدّسة ، قال : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } [ المائدة : 26 ] .
فلما بيّن تعالى أنهم ممنوعون من دخولها هذه المُدّة ، فعند زوال تلك المُدْة يجب أن يلزمهم دخولها ، وإذا كان كذلك لم يجز أ ، يكون المراد من مِصْر سواها .
فإن قيل : هذه الوجوه ضعيفة .
أما الأول : فلأن قوله : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَة } [ المائدة : 21 ] أمر ندب فلعلّهم ندبوا إلى دخول الأرض المقدسة ، مع أنهم ما منعوا من دخول مصر ، وأما قوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فذلك يدل على دوام تلك الأرض المقدسة .
وأما قوله : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ } فلا نسلّم أنّ معناه : ولا ترجعوا إلى مصر ، بل يحتمل أن يكون معناه : ولا تعصوا فيما أمرتكم؛ لأن العرب تقول لمن عصى الأمر : أرتَدّ على عقبة ، فالمراد من هذا العصيان كونهم أنكروا أن يكون دخول الأرض المقدسة أولى .
ويحتمل أن يكون ذلك النهي مخصوصاً بِوَقْتٍ معين .
والجوابك أنه ثبت في الأصول أن ظاهر الأمر للوجوب ، وإن سلّمنا أنه للندب ، ولكن الإذن في تركه يكون إذناً في ترك المندوب ، وهو لا يليق بالأنبياء .
وأما قوله : لا نسلّم أن المراد من قوله : « و لا ترتدوا » : ولا ترجعوا .
قلنا : الدليل عليه أن أمره بدخول الأرض المقدّسةن ثم قوله بعده : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ } يتبادر إلى الفَهْم أن النهي يرجع إلى ما تعلّق به ذلك الأمر .
وقوله : « تخصيص النهي بوقت معين » .
قلنا : التخصيص خلاف الظاهر .
قال أبو مسلم الأصفهاني : يجوز أن يكون المراد « مِصْر فرعون » لوجهين :
الأول : من قرأ « مِصْرَ » بغير تنوين كان عَلَماً للبلد المُعَيّن ، وليس في العالم بلدة ملقبة بهذا اللقب سواها ، فحمل اللفظ عليه ، ولأن اللفظ إذا دَارَ بين كونه علماً ، وبين كونه صفة فحمله على العلم أولى .
ومن قرأه منوناً فإما أن تجعله اسم عَلَم ، وتقول : إنما نون لسكون وسطه ، فيكون القريب أيضاً ما تقدم ، وإن جعلناه اسم جنس فقوله : { اهبطوا مِصْراً } يقتضي التخيير ، كما إذا قال : أَعْتِقْ رَقَبَةً .

الوجه الثاني : أن الله تعالى ورث بن إسرائيل أرض « مصر » لقوله : { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 59 ] وإذا موروثةً لهم امتنع أن يحرم عليهم دخولها .
فإن قيل : قد يكون الرجل مالكاً للدَّار وإن كان ممنوعاً من دخولها كمن أوجب على نفسه اعتكافَ أيام المسجد ، فإنه يحرم عليه دخول دَارِهِ ، وإن كانت مملوكةً له ، فلم لا يجوز أن يقال : إن الله تعالى وَرَّثهم « مصر » بمعنى الولاية ، والتصرف فيها ، ثم إنه تعالى حرم عليهم دخولها بإيجابه عليهم سُكْنى الأرض المقدسة؟
قلنا : الأصل أن الملك مطلق للتصرف والمنع من التصرف خلاف الدليل .
وأجاب الفرق الأول عن حجّتي أبي مسلم .
أما قوله « إن القراءة المشهورة بالتنوين يقتضي التخيير » .
قلنا : نعم ، لكنا نخصّص العموم في حقّ هذه البلدة المعينة بما ذكرنا من الدليل .
وأما الثاني : فإنّا لا ننازع في أن الملك لمطلق التصرف لكن قد يترك هذه الأصل لعارض كالمرهون والمستأجر ، فنحن تركنا هذا الأصل لما قدمنا من الدّلائل .
قوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة } أيك جُعِلَتِ الذِّلَّة محيطً بهم ، مشتملةً عليهم؛ كمن يكون في القُبَّة المَضْرُوبَةِ؛ قال الفرزدقُ لجرير : [ الكامل ]
541 ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الكِتَابُ المُنْزَلُ
أو ألصفت بهم حتى لزمتهم كما يضرب الطِّين على الحائط فيلزمه .
ومن قال : إنها الجزية فبعيد؛ لأن الجزية لم تكن مضروبةً حينئذ .
وقال بعضهم : هذا من باب المُعْجِزَات؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر عن ضرب الذِّلّة والمَسْكَنة عليهم ، ووقع الأمر كذلك ، فكان معجزة . و « الذِّلّة » : الصَّغَار .
والذُّلّ بالضم : ما كان عن قَهْرٍ ، وبالكسر : ما كان بعد شماس من غير قهر . قاله الراغب .
و « المَسْكَنَةُ » : مَفْعَلَة من السُّكون ، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفَقْرِ ، و « المسكين : مُفْعِيْل منه ، إلاّ أن هذه الميم قد ثبتت في اشتقاق هذه الكلمة ، قالوا : تمسكن يتمسكن فهو متمسكن ، وذلك كما تثبت ميم » تَمْنَدل وتَمَدْرَعَ « من » النَّدْلِ « و » الدَّرعِ « وذلك لا يدلّ على أصالتها؛ لأن الاشتقاق قضى عليها بالزِّيَادة .
وقال الراغب : قوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة } : فالميم في ذلك زائدة في أصحّ القولين .
وإيراد هذا الخلاف يؤذن بأن النون زائدة ، وأنه من » مسك « و » ضربت « مبني للمفعول و » الذّلة « مقام الفاعل .
قول : { وَبَآءُوا } ألف » بَاءَ بكذا « منقلبة عن واو؛ لقوله : » بَاءَ يَبُوءُ « مثل : » قَالَ يَقُولْ « قال عليه الصَّلاة والسَّلام : » أَبُوءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ « ، المصدر » البَوَاء « ؟
وبَاءَ معناه : رَجَع؛ وأنشد بعضهم هذا : [ الوافر ]

542 فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّابَايَا ... وأُبْنَا بِالمُلُوكِ مُصَفَّدينَا
وهذا وَهَمٌ؛ لأن هذا البيت من مادة : « آبَ يَئوب » فمادته من همزة ، وواو ، وبَاءٍ ، و « بَاءَ » مادته من باء ، وواو ، وهمزة ، وادعاء القلب به بعيدٌ؛ لأنه لم يُعْهَد تقدُّم العين واللام معاً على الفاء في مقلوب ، وهذا من ذلك .
والبَوَاءك الردوع بالقَوَدِ ، وهُمْ في هذا الأمر بَوَاء ، أي : سَوَاء؛ قال : [ الطويل ]
543 أَلاَ تَنْتَهي عَنَّا [ مُلُوكٌ ] وتَتَّقِي ... مَحَارِمَنَا لاَ يَبُؤِ الدَّمُ بِالدَّمِ
أي : لا يرجعُ الدم بالدم في القَوَدِ .
وبَاءَ بكذا : أقرَّ أيضاً ، ومنه الحديث المتقدِّم أي : أُقِرُّ بها ، وأُلْزِمُهَا نَفْسِي ، وقال : [ الكامل ]
544 أَنْكَرْتُ بَاطِلَها وَبُؤْتُ بِحَقِّهَا ..
وقال الراغبك « أصل البَواء مُسَاوَاةٌ الأَجْزَاءِ في المكان خلاف النَّبْوَة الذي هو مُنَافاة الأجزاء » .
وقوله : « وَبَاءوا بِغَضَبٍ » أي : حلُّوا مَبْوَأً ومعه غَضَب ، واستعمال « بَاءَ » تنبيه على أن مكانه الموافق ييلزمه فيه غضب الله فكيف بغيره من الأمكنة ، وذلك نحو : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] .
ثم قال : وقول من قال : بؤت بحقها ، أي : أقررت فليس تفسيره بحسب مقتضى اللفظ .
وقولهم : « حَيّاك الله وبَيّاك » أصله : بَوّأك ، وإنما غير للمُشَاكلة ، قاله خلف الأحمر .
وقيل : باءوا : استحقوا ، ومنه قوله تعالى : { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } [ المائدة : 29 ] أي : يستحق لإثم جمعياً ، ومن قال : إنه الرجوع فلا يقال : باء إلا بِشَرّ .
قوله : « بغضب » في موضع الحال من فاعل « باءوا » أي : رجعوا مغضوباً عليهم ، وليس مفعولاً به ك « مررت بزيد » .
وقال الزمخشري : هو من قولك : باء فلان بفلان إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمُسَاواته له ومكافأته ، أي صاروا أحقاء بغضبه . وعلى هذا التفسير ينبغي كون الباء للحال .
قوله : { مِّنَ الله } الظاهر أنه محلّ جر صفة ب « غضب » ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : بغضب كائن من الله .
و « من » لابتداء الغاية مجازاً .
وقيل : هو متعلّق بالفعل نفسه أي : رجعوا من الله بِغَضَبٍ . وليس ، بقوي .
قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } .
« ذلك » مبتدأ أشير به إلى ما تقدّم من ضرب الذِّلّة والمسكنة [ والخلافة ] بالغضب .
و « بأنهم » الخبر ، والباء للسببية ، أي : ذلك مستحقّ بسبب كفرهم .
وقال المهدوي : الباء بمعنى اللام أي : لأنهم ، ولا حاجة إلى هذا ، فإن باء السببية تفيد التَّعطيل بنفسها .
و « يكفرون » في محلّ نصب خبراً ل « كان » ، و « كان » وما في حَيّزها في حل رفع خبراً للمبتدأ كما تقدم .
قوله : { بِآيَاتِ الله } متعلّق ب « يكفرون » والباء للتعدية .

قوله : { وَيَقْتُلُونَ } في محلّ نصب عطفاً على خبر « كان » ، وقرىء : « تقتلون » بالخطاب التفاتاً إلى الخطاب الأول بعد الغيبة . و « يُقَتَّلونُ » بالتشديد للتكثير .
قوله : { النبيين } مفعول به جمع « نبي » .
والقراءة على ترك الهمزة في النُّبوة ، وما تصرف منها ، ونافع المدني على الهمز في الجميع إلاّ موضعين : في سورة « الأحزاب » : { لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ } [ الأحزاب : 50 ] ، { بُيُوتَ النبي إِلاَّ } [ الأحزاب : 53 ] ، فإن قالون حكى عنه في الوَصْلِ كالجماعة وسيأتي . وما من همز فإنه جعله مشتقاً من « النبأ » وهو الخبر ، فالنَّبِيُّ « فعيل » بمعنى « فاعل » أي : مُنَبِّىءٌ عن الله برسالته ، ويجوز أن يكون بمعنى « مفعول » ، أي : أنه مُنَبَّأٌ من الله بأوامره ونواهيه ، واستدلُّوا على ذلك بجمعه على « نُبَآء » ك « طَرِيف وظُرَفَاء » قال العَبَّاسُ بنُ مِرْدَاسٍ : [ الكامل ]
545يا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ ... بِالحَقِّ كُلُّ هُدَى الإلَهِ هُدَاكَا
فظهور الهمزتين يدلُّ على كونه من « النَّبَأ » ، واستضعف بعض النحويين هذه القراءة ، قال أبو علي : « قال سيبويه » : بلغنا أن قوماً من أهل التحقيق يحققون « نبيئاً وبريئة » قال : وهو رَدِيء ، وإنما استردأه؛ لأن الغالب في استعماله التخفيف . وقال أبو عبيدة الجمهور الأعظم من القراء والعَوَامّ على إسقاط الهمز من النَّبِي والأَنْبِيَاء ، وكذلك أكثر العرب مع حديث رويناه ، فذكر أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « يا نَبِيءَ الله » فهمز ، فقال : « لَسْتُ بِنَبِيءِ الله » فهمز ولَكِنِّي نَبِيُّ اللهِ ، ولم يهمز ، فأ ، كر عليه الهمز .
قال : وقال لي أبو عبيدة : العرب تبدل الهمزة في ثلاثة أحرف : « النبيّ والبَرية والخَابِية » وأصلهن الهَمْز .
قال أبو عبيدة : ومنها حرف رابع : « الذُّرِّيَّة » من ذَرأَ يَذْرَأ ، ويدلّ عل أن الأصل الهمز قال سيبويه : [ إنهم ] كلّهم يقولون : تنبأ مُسَيْلمة فيهمزون .
وبهذا لا ينبغي أن ترد به قراءة هذا الإمام الكبير ، أما الحديث فقد ضعفوه .
قال ابن عطيةك ومما يقوي ضعفه أنه لما أنشده العَبَّاس : [ الكامل ]
546 يَا خَاتضمَ النُّبَآءِ . .. . . .
لم ينكره ، ولا فرق بين الجمع والواحد ، ولكن هذا الحديث قد ذكره الحاكمك في « المستدرك » وقال : هو صحيح على شرط الشَّيخين ، ولم يخرجاه .
فإذا كان كذلك فليلتمس للحديث تخريجٌ يكون جواباً عن قراءة نافع ، على أنّ الَطْعِيٌ لا يُعَارَضُ بالظني ، وإنما يذكر زيادة فائدة .
والجواب عن الحديث : أنّ أبا زيد حكى : نَبَأْتُ من أرض كذا إلى أرض كذا ، أي : خرجت منها إليها فقوله : « يا نبيء الله » بالهمز يوهم يا طَرِيدَ الله الذي أخرجه من بلده إلى غيره ، فَنَهَاه عن ذلك لإيهامه ما ذكرنا ، لا لسبب يتعلّق بالقراءة .

ونظر ذلك نهيه المؤمنين عن قولهم : { رَاعِنَا } [ البقرة : 104 ] لما وجدت اليهود بذلك طريقاً إلى السَّب به في لغتهم ، أو يكون حضَّا منه عليه الصلاة والسلام على تَحَرِّي أفصح اللغات في القرآن وغيره ، وأما من لم يهمز ، فإنه يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه من المهموز ، ولكن [ خفف ] ، وهذا أولى ليُوافق القراءتين ، ولظهور الهمز في قولهم : تنبأ مسليمة : « يا خاتم النُّبَآء . » .
والثاني : أنه أصل آخر بنفسه مشتقّ من « نَبَا يَنْبُو » : إذا ظهر وارتفع ، ولا شَكَ أن رتبة النبي عليه الصلاة والسلام مرتفعة ، ومنزلته ظاهرة بخلاف غيره من الخَلْقِ ، والأصل : « نبيو وأنبواء » ، فاجتمع الياء ولواو : وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء ك « ميت » في « ميوت » ، وانكسر ما قبل الواو في الجمع فقلبت ياء ، فصار : أنبياء .
والواو في « النبوة » بدل من الهمزة على الأول ، وأصل بنفسها على الثّاني ، فهو « فعيل » بمعنى « فاعل » ، أي : ظاهر مرتفع ، أو بمعنى مفعول أي : رفعه الله على خَلْقِهِ ، أو يكون مأخوذاً من النبي الذي هو الطريق ، وذلك أن النبي طريق الله إلى خلقه ، به يتوصّلون إلى معرفة خالقهم؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
547لَمَّا وَرَدْنَ نُبَيِّا وَاسْتَتَبَّ بِنَا ... مُسْحَنْفِرٌ كَخُطُوطِ النَّسْجِ مُنْسَحِلُ
وقال الشاعر : [ المتقارب ]
548 لأَصْبَحَ رَتْاً دُقَاقَ الحَصَى ... مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الكَاثِبِ
« الرَّتْم » بالتاء المثناة والمثلثة جمعياً : الكسر .
و « الكَاثِب » بالمثلثة : اسم جَبَل ، وقالوا في تحقير نُبُوّة مسيلمة : نَبِيئة .
وقالوا : جمعه أبيناء قياس مُطّرد في « فعيل » المعتل نحو : « وَلِيّ وأولياء ، وصَفِيّ وأصفياء » .
وأما قَالُون فإنما ترك الهمز في الموضعين المذكورين لمَدْرَكٍ آخر ، هو أنه من أصله في اجتماع الهمزتين من كلمتين إذا كانتا مكسورتين أن تسهل الأولى ، إلا أن يقع قبلها حرف مدّ ، فتبدل وتدغم ، فلزمه أن يفعل هنا ما فعل في : { بالسواء إِلاَّ } [ يوسف : 53 ] من الإبدال والإدغام ، إلاّ أنه روي عنه خلاف في : { بالسواء إِلاَّ } ولم يُرْو عنه [ هنا ] خلافٌ كأنه التزم البدل لكثرة الاستعمال في هذه اللَّفظة وبابها ، ففي التحقيق لم يترك همزة « النَّبيّ » ن بل همزه ولما همزه أدّاه قياس تخفيفه إلى ذلك ، ويدلّ على هذا الاعتبار أنه إنما يَفْعَل ذلك حيث يَصِل ، أمّا إذا وقف فإنه يهمزه في الموضعين ، لزوال السَّبب المذكور ، فهو تارك للهمز لفظاً آتٍ به تقديراً .
فإن قيل : قوله : « يَكْفُرُونَ » دخل تحته قتل الأنبياء ، فَلِمَ أعاد ذكره؟
فالجواب : إن المذكور هنا هو الكفر بآيات الله ، وهو الجهل والجَحْد بآياته ، فلا يدخل تحته قتل الأنبياء .
قوله : { بِغَيْرِ الحق } في محلّ نصب على الحال من فاعل « يقتلون » تقديره : يقتلونهم مبطلين ، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف تقديره : قتلاً كائناً بغير الحَقِّ ، فيتعلّق بمحذوف .

قال الزمخشري : قتل الأنبياء لا يكون إلاَّ بغير الحَقّ ، فما فائدة ذكره؟
وأجاب : بأن معناه أنهم قتلوهم بغير الحَقّ عندهم؛ لأنهم لم يقتلوا والا أفسدوا في الأرض حتى يقتلوا ، فو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهاً يستحقّون به القتل عندهم .
وقيل : إنما خرج وصفهم بذلك مخرج الصّفة لقتلهم بأنه ظلم في حقهم لا حقٌ ، وهو أبلغ في الشناعة والتعظيم لذنوبهم .
وقيل : هذا التكرير للتأكيد ، كقوله تعالى : { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } [ المؤمنون : 117 ] ، ويستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني بُرْهَان .
وقيل : إن الله تعالى [ لو ذمّهم على مجرد القتل قالوا : أليس أنّ الله يقتلهم ، فكأنه تعالى قال : القَتْلُ الصادر من الله تعالى ] قَتْلٌ بحقِّ ، ومن غير الله قَتْلٌ بغير حق .
فإن قيل : كيف جاز أن يخلّي بين الكافرين [ وقتل ] الأنبياء؟
قيل : ذلك كرامة لهم ، وزيادة في منازلهم كمن يقتل في سبيل الله من المؤمنين ، وليس ذلك بِخُذْلان لهم .
قال ابن عباس والحسن رضي الله عنهم : لم يقتل قَطّ نبي من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر .
فصل في أوجه ورود لفظ الحق
وقد ورد « الحَقّ » على أحد عشر وجهاً :
الأول : بمعنى « الجَزْ » لقوله تعالى : { وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } [ آل عمران : 112 ] أي : بغير جَزْمٍ كهذه الآية .
الثاني : بمعنى « الصّفة » قال تعالى : { الآن جِئْتَ بالحق } [ البقرة : 71 ] أي : بالصفة التي نعرفها .
الثالث : بمعنى « الصّدق » قال تعالى : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } [ الروم : 47 ] ، ومثله { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق } [ مريم : 47 ] أي : قول الصدق .
الرابع : بمعنى : « وجب » قال تعالى : { ولكن حَقَّ القول مِنِّي } [ السجدة : 13 ] أي : وجب ، ومثله : { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } [ غافر : 6 ] أي : وجبت .
الخامس : بمعنى : « الولد » قال تعالى : { بَشَّرْنَاكَ بالحق } [ الحجر : 55 ] أي : بالولد .
السادس : الحقّ : الحُجّة قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } [ يونس : 76 ] أي : جاءتهم الحجّة ، وهي اليَدُ والعَصَاة .
السابع : بمعنى « القَضَاء » قال تعالى : { قَالَ رَبِّ احكم بالحق } [ الأنبياء : 115 ] أي : اقض ، ومثله : { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } [ النور : 49 ] .
الثامن : بمعنى : « التوحيد » قال تعالى : { بَلْ جَآءَ بالحق } [ الصافات : 37 ] أي بالتوحيد .
التاسع : الحَقّ : الإسلام قال تعالى : { وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل } [ الإسراء : 81 ] أي : جاء الإسلام ، وذهب الكفر ، ومثله : { أَفَمَن يهدي إِلَى الحق } [ يونس : 35 ] أي : إلى الإسلام ، ومثله : { إِنَّكَ عَلَى الحق المبين } [ النمل : 79 ] .
العاشر : بمعنى القرآن ، قال تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ } [ ق : 5 ] أي : بالقرآن .
الحادي عشر : الحَقّ : هو الله تعالى ، قال تعالى : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ } [ المؤمنون : 71 ] أي : في إيجاد الولد ، ومثله :

{ وَتَوَاصَوْاْ بالحق } [ العصر : 3 ] أي : بالله .
قوله : « ذَلِكَ بَمَا عَصَوا » مثل ما تقدم .
وفي تكرير اسم الإشاره قولان :
أحدهما : أمه مُشَار به إلى ما أشير بالأول إليه على سبيل التأكيل .
والثاني : ما قاله الزمخشري : وهو أن يشار به إلى الكُفْرِ ، وقَتْلِ الأنبياء ، على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم ، واعتدائهم؛ لأنهم انهمكوا فيها .
و « ما » مصدرية ، و « الباء » للسببية ، أي بسبب عصيانهم ، فلا محلّ ل « عصوا » لوقوعه صلةً ، وأصل « عَصَوْا » : « عَصَيُوا » تحركت الياء وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفاً ، فالتقى سكنان [ الياء ] والواو ، فحذفت الياء لكونها أوّل السّاكنين ، وبقيت الفتحة تدلّ عليها ، فوزنه « فَعَوْا » .
وأصل « العصيان » : الشدة . واعتصمت النَّوَاة : إذا اشتدت .
قوله : { وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } المراد منه الظُّلم ، أو تجاوز الحَقّ إلى الباطل .
وأصل : « الاعتداء » : المُجَاوزة من « عَدَا » « يعْدُوا » ، فهو « افْتِعَال » منه ، ولم يذكر متعلّق العصيان والاعتداء ، ليعم كل ما يُعْصى ويعتدى فيه .
وأصل « يَعْتَدُون » : « يَعْتَدِيُون » ، ففعل به ما فعل ب { تَتَّقُونَ } [ البقرة : 21 ] من الحذف والإعلال ، وقد تقدم ، فوزنه : « يَفْتَعُون » .
والواو من « عصوا » واجبة الإدغام في الواو بعدها ، لانفتاح ما قبلهان وليس فيها [ مدٌّ ] يمنع من الإدغام ، ومثله : { فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ } [ آل عمران : 20 ] وهذا بخلاف ما إذا انظم ما قبل الواو ، فإن المَدّ يقوم مقام الحاجز بين المثلين : فجيب الإظهار ، نحو : { آمَنُواْ وَعَمِلُواْ } [ البقرة : 25 ] ومثله : { الذى يُوَسْوِسُ } [ الناس : 5 ] .
فإن قيل : ما الفرق بين ذكره « الحَقّ » هاهنا معرفاً ، وبين ذكره في « آل عمران » منكراً في قوله { وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } [ آل عمران : 112 ] ؟
والجواب : أن الحَقّ المعلوم الذي يوجب القتل فيما بين الناس هو قوله عليه الصلاة والسلام : « لا يَحِلّ دَمُ امرىءٍ مسلم إلا بإحْدَى ثَلاَثٍ ، كُفْر بعد [ إيمان ] ، وزِنّى بعد [ إحْصَان ] ، وقَتْل نفس بغير حق » .
فالمعرّف إشارة إلى هذا ، والمنكّر المراد به تأكيد العموم ، أي : لم يكن هناك حقّ ألبتّة لا لهذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره .
فإن قيل : ما الفائدة في جمعه « الأنبياء » هنا جمع سَلاَمة ، وفي « آل عمران » جمع تكسير؟
فالجواب : [ ذلك لموافقة ما بعده من جمعي السَّلامة ، وهو « النَّبِيِّين » « الصَّابِئِين » بخلاف الأنبياء ] . .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

قال ابن عباس : والمراد ب « الذين آمنوا » هم الذين آموا قبل [ مبعث ] محمد بعيسى عليه الصلاة والسلام مع البراءة عن أباطيل اليهود مثل قَسّ بن سَاعِدة ، وبحيرى الراهب ، وحبيب النَّجَّار ، وزيد بن عمرو بن نُفَيل ، وَورقَة بن نَوْفَل وسلمان الفَارِسي ، وأبو ذر الغفاري ، وخَطَر بن مَالِك ، ووَفْد النجاشي ، فكأنه قال : إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد ، والذين كانوا على الأديان الباطلة كلّ من آمن منهم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بالله واليوم الآخر ومحمد ، فلهم أجرهم .
وقال سفيان الثوري : المراد من قوله : « الذين آمنوا » هم المنافقون؛ لأنهم يؤمنون باللّسَان دون القَلْبِ ، ثم اليهود والنصارى والصَّائبون ، فكأنه قال : هؤلاء المُبطلون كل من آمن منهم بالإيمان الحقيقي ، فلهم أجرهم .
وقال المتكلمون : المراد أنَّ الذين آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام في الحقيقة ، وهو عائد إلى الماضي ، ثم قوله : « من آمن بالله » يقتضي المستقبل ، فكأنه قال : إن الذين آمنوا في الماضي ، وثبتوا عليه في المستقبل .
و « هَادُوا » في ألفه قولان :
أحدهما : أنه من واو ، والأصل « هَادَ يَهُود » أي : تاب؛ قال الشاعر [ السريع ]
549 ... إنِّي امْرُؤٌ مِنْ حُبِّهِ هَائِدُ
أي : تائب ، منه سمي اليَهُود ، لأنهم تابوا عن عبادة العِجْلِ ، وقالوا : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي : تُبْنَا ورجعنا .
[ قاله ] ابن عباس .
وقيل : هو من التهويد ، وهو النطق في سكون ووَقَارٍ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
550 وَخُودٌ مِنَ اللاَّئِي تَسَمَّعْنَ بِالضُّحَى ... قَرِيضَ الرُّدَافَى بِالغِنَاءِ المُهَوِّدِ
وقيل : من « الهَوَادَة » ، وهي الخضوع .
الثاني : أنها من ياء ، والأصل : « هَادَ يَهِيد » ، أي : تَحَرَّك ، ومنه سمي اليهود؛ لتحركهم في دراستهم ، قاله أبو عمرو بن العلاء .
وقيل : سموا يهوداً نسبة ليَهُوذَا بالذال المعجمة وهو ابن يَعْقُوب عليه الصلاة والسلام ، فغيَّرته العرب بالدّال المهملة ، جرياً على عادتها في التلاعب بالأسماء الأعجمية ، فعرب ونسب الواحد إليه ، فقيل يَهُودِيّ ، ثم حذف الياء في الجمع ، فقيل يَهُود .
وكل جمع منسوب إلى جنس ، فهو بإسقاط ياء النسب؛ كقولهم في « زِنْجِيّ » : زَنْجٌ ، وفي « رُومِيّ » : رُوم أيضاً . وهيادا : إذا دخل في اليهودية ، وتهوَّد إذا [ نسبه إليهم ] وهوّد إذا دعا إلى اليهودية .
والنَّصَارى جمع واحده « نَصْرَان » ، و « نَصْرَانة » ك : « نَدْمَان ونَدمانة ونَدَامَى » ، قاله سيبويه؛ وأنشد : [ الطويل ]
551 فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا ... كَمَا أَسْجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ
وقال عليه الصلاة والسلام : « فَابواه يُهَوِّدَانِهِ » وقرأ أبو السمال ومجاهد : « هادَوْا » بفتح الدال ، وإسكان الواو كأنهما من المفاعلة ، والأصل : هادَيُوا فأعلّ كنظائره .

وقيل : سُمُّوا يهوداً ليملهم عن دين الإسلام ، وعن دين موسى ، فعلى هذا إنما سموا يهوداً بعد أنبيائهم .
وقال ابن الأعرابي : يقال : هَادَ : إذا رجع من خير إلى شَرّ ، ومن شَرّ إلى خير ، وسمي اليهود بذلك لتخليطهم ، وكثرة انتقالهم من مذاهبهم ، نقله النووي في « التهذيب » عن الوَاحِديّ .
وأنشد الطبري على « نَصْران » [ قول الشاعر ] : [ الطويل ]
552 يَضَلُّ إذَا دَارَ العِشَا مُتَحَفِّناً ... وَيُضْحِي لَدَيْهِ وَهْوَ نَصْرانُ شَامِسُ
قال سيبويه : إلا أنه لم يستعمل في الكلام إلا بياء النَّسَب .
وقال الخليل : « واحد النصارى نَصْرِيّ ، كمَهْرِيٍّ ومَهَارَى » .
وقال الزمخشريُّ : الياء في « نَصْرانِيّ » للمبالغة كالتي في « أحَمَرِيّ » و « نَصَارَى » نكرةٌ ، ولذلك دخلت عليه آل ، ووصف بالنكرة في قول الشاعر : [ البسيط ]
553صَدَّتْ كَمَا صَدَّ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُ ... سَاقِي نَصَارى قُبَيْلَ الفِصْحِ صُوَّامِ
وقال جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدهان وقياسه النَّصَارنيون . وسموا بذلك نسبة إلى قرية يقال لها : « نَاصِرة » كان ينزلها عيسى عليه الصلاة والسلام ، قاله ابن عباس ، وقَتَادة ، وابن جُرَيْج . فنسب عيسى إليها ، فقيل : عيسى الناصري ، فلما نسب أصحابه إليه قيل : النَّصَارَى .
قال الجوهري : و « نَصْران » قررية ب « الشَّام » ينسب إليها النصارَى . أو لأنهم كانوا يتناصرون؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
554لَمَّا رَأَيْتُ نَبَاطاً أَنْصَارَا ... شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتي الإِزَارَا
كُنْتُ لَهُمْ من النَّصَارَى جَارَا ... وقيل : لأن عيسى عليه الصلاة والسلام قال للحواريين : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } [ آل عمران : 52 ] .
و « الصَّابئين » الجمهور على همزة ، وقرأه نافع وشيبة والزهري بياء ساكنة غير مهموزة ، وعن أبي جعفر بياءين خَالِصَتَيْنِ بدل الهمزة ، فمن همزه جعله من صَبَأَ نابُ البعير أي : خرج ، وصبأت النجوم : طلعت .
وقال أبو علي : صَبَأَتُ على القوم إذا طَرَأْتُ عليهم . فالصَّابىء : التَّارك لدينه ، كالصَّابىء الطارىء على القوم ، فإنه تارك لأرضهن ومنتقل عنها .
ومن لم يهمز فإنه يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مأخوذا من المهموز فَأَبْدَلَ من الهمزة حرف علّة إما ياء أو واواً ، فصار من باب المنقوص مثل : « قاض أو غازٍ » ، والأصل : صاب ، ثم جمع كما يجمع القاضي أو الغازي ، إلا أن سيبويه لا يرى قلب هذه الهمزة إلاَّ في الشعر ، والأخفش وأبو زيد يريان ذلك مطلقاً .
الثَّاني : أنه من باب « صَبَا . . يَصْبُو » إذا مال ، ولذلك كانت العرب يسمون النبي صلى الله عليه وسلم صابئاً؛ لأنه أظهر ديناً خلاف أديانهم ، فالصَّابي كالغازي أصله : « صَابِوُا » فأعلّ كإعلال غازٍ ، وأسند أبو عبيد إلى ابن عباس : « ما الصَّابون إنا هي الصابئون ، والخَاطُون إنما هي الخاطئون » . فقد اجتمع في قراءة نافع همز « النبيين » ، وترك همز « الصابئين » .

[ وقد عُلم أنّ العكس فيهما أفصح ] .
فصل في تفسير الصابئين
[ وللمفسرين في تفسير « الصَّابئين » أقوال ] :
فقال مُجَاهد والحسن : هم طائفة بين اليَهُود والمجوس لا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم .
وقال السّدي : هم فرقة من أهل الكتاب [ وقاله إسحاق بن راهوية . قال ابن المنذر ] :
وقال إسْحَاق : لا بأس بذبائح الصابئين؛ لأنهم طائفة من أهل الكتاب .
وقال أبو حنيفة : لا بأس بذبائحهم ، ومناكحة نسائهم .
وقال الخليل : هم قوم يشبه دينهم دين النَّصَارى ، إلاَّ أن قبلتهم نحو مهبّ الجنوب ، يزعمون أنهم على دين نوح عليه الصَّلاة والسَّلام . [ نقله ] القرطبي .
وقال قَتَادَةٌ : قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى الشمس كل يوم خمس صلوات .
وقال أيضاً : الأديان خمسة أربعة للشَّيطان ، وواحد للرحمن ، وهم : الصابئون وهم يعبدون الملائكة ، والمَجُوس يعبدون النَّار ، والذين أشركوا يعبدون الأوثان ، واليهود والنَّصَارى ، وقال : قبيلة نحو « الشام » بين اليهود والنَّصَارى ، والمجوس لا دين لهم ، وكان مجاهد لا يراهم من أهل الكِتَابِ ، وهو منقول عن أبي حنيفة .
وقال قتادة ومُقَاتل : هم قوم يقرون بالله عز وجل ، ويعبدون الملائكة ، ويقرون بالزَّبُور ، ويصلون إلى الكعبة أخذوا من كلّ دين شيئاً .
وقال [ الكلبي ] : « هم قوم بين اليهود والنَّصارى يحلقون أوساط رؤوسهم ، ويجبُّون مذاكيرهم » . وقال عبدالعزيز بن يحيى : درجوا وانقرضوا .
وقيل : هم الكلدانيون الذين جاءهم إبراهيم علي الصَّلاة والسَّلام ردًّا عليهم ومبطلاً لقولهم ، وكانوا يعبدون الكواكب .
قال ابن الخطيب : وهو الأقرب ، ثم لهم قولان :
أحدهما : أنَّ الله خلق هذا العالم ، وأمر بتعظيم هذه الكواكب واتخاذها قِبْلَةَ الصلاة ، والدعاء والتعظيم .
والثاني : أن الله سبحانه وتعالى خلق الأفلاك والكواكب ، وجعل الكواكب مدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر ، والصحة والمرض ، فيجب على البشر تعظيمها؛ لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم .
قوله : { مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً } آمن : صدق . و « من » في قوله : « مَنْ آمَنَ » في موضع نصب بدل من « الَّذِينَ آمَنُوا » . والفاء في قوله : « فَلَهُمْ » داخلة بسبب الإبهام الذي في « مَنْ » .
وقيل : ف يموضع رفع بالابتداء ، ومعناها الشرط ، و « آمن » في موضع جزم بالشرط ، و « الفاء » جواب و « لَهُمْ أَجْرُهُمْ » خير « من » والجملة كلها خبر « إن » ، والعائد على « الذين » محذوف تقديره : من آمن منهم بالله ، وحمل الضمير على لفظ « مَنْ » فأفرد ، وعلى المعنى في قوله : « فَلَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ » فجمع؛ كقوله : [ الطويل ]
555أَلِمَّا بِسَلْمَى عَنْكُمَا إنْ عَرَضْتُمَا ... وقُولاَ لَهَا : عُوجِي عَلَى مَنْ تَخَلَّفُوا
وقال الفرزدق : [ الطويل ]
556تَعَالَ فِإنْ عَاهَدْتَنِي لاَ تَخْونُنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ

[ فراعى المعنى ] وقد تقدم تحقيق ذلك [ عند ) قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا } [ البقرة : 8 ] والأجر في الأصل مصدر يقال : أجره الله يَأْجُرُه أَجْراً ، وقد يعبر به عن نفس الشيء المُجَازَى به ، والآية الكريمة تحتمل المعنيين .
والمارد بهذه العِنْدِيَّةِ أن أجرهم متيقّن جارٍ مجرى الحاصل عندهم .
قوله : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فقيل : أراد زوال الخوف [ عنهم ] في الدنيا .
وقيل : الآخرة وهو أصح؛ لأنه عامّ في النفي ، وكذا قوله : « وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ » ، وهذه لا تحصل في الدنيا؛ لأنّ المكلف في الدنيا لا ينفك من خوف وحزن ، إما في أسباب الدنيا ، أو في أمور الآخرة ، فكأنه سبحانه وعَدَهُمْ في الآخرة بالأجر ، ثم بين صفة ذلك الأجر أن يكون خالياً من الخوف والحزن ، وذلك يوجب أن يكون نعيمهم دائماً؛ لأنهم لو جوّزوا كونه منقطعاً لاعتراهم الخوف العظيم .
فإن قيل : فما الحكمة في قوله تعالى هاهنا : « الصَّابئين » منصوبة ، وفي « المائدة » : { والصابئون } [ المائدة : 69 ] مرفوعة . وقال في الحج : { والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } [ الحج : 17 ] فقدم « الصَّابئين » على « النصارى » في آية ، وأخَّر « الصَّائبين » في الأخرى ، فهل في ذلك حكمة ظاهرة .
قال ابن الخَطيب : إن أدركنا تلك الحكم فقد فُزْنَا بالكمال ، وإن عجزنا أحلنا القصور على أفهامنا لا على كلام الحكيم .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)

هذا هو الإنعام العاشر .
والميثاق إنما يكون بفعل الأمور التي توجب الانقياد والطاعة .
واختلفوا في ذلك الميثاق .
قال الأصَمّ : [ ما وعده الله القوم ] من الدَّلائل الدَّالة على صدق أنبيائه ورسله ، وهذا النوع من المواثيق أقوى المواثيق والعُهُود ، لأنها لا تحتمل الخلف والكذب والتبديل بوجه ألبتة . وقال أبو مسلم : هو ما روى عبدالرَّحمن بن زيد بن أسلم أن موسى عليه الصَّلا والسَّلام لما رجع إلى قومه بالألواحن قال لهم : « إن فيها كتاب الله تعالى » فقالوا : لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جَهْرَةً فيقول : هذا كتابي فخذوه فأخذتهم الصَّاعقة ، فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ، ثم قال لهم بعد ذلك : خذوا كتاب الله ، فأبوا فرفع الطور وقيل لهم : خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم ، [ فأخذوه ] فرفع الطور هو الميثاق؛ لأنه آية [ باهرة ] عجيبةُ تبْهِرُ العقول ، وتردّ المكذبَ إلى التصديق ، والشَّاكَّ إلى اليقين ، وأكدوا ذلك ، وعرفوا أنه من قبله تعالى وأظهروا التوبة ، وأعطوا العهد والميثاق ألاَّ يعودوا إلى ما كان منهم ، وأن يقوموا بالتوراة ، فكان هذا عهداً موثقاً . وري عن عبدالله بن عباس : أن لله مِثَاقَيْنِ .
الأول : حين أخرجهم من صلب آدم ، وأشهدهم على أنفسهم .
والثاني : أنه ألزم النَّاس متابعة الأنبياء ، وهو المراد من هذا العَهْدِ .
قال ابن الخَطِيبِ : « وهذا ضعيف » .
فإن قيل : لهم قال : « ميثاقكم » ولم يقل : « مواثيقكم » ؟
قال القَفَّال : لوجهين :
أحدهما : أراد به الدلالة على أنّ كلّ واحد منهم قد أخذ ذلك كما قال : { يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ غافر : 67 ] أي : كل واحد منهم أخذ عليه ما أخذ على غيره ، فلا جرم كان كله ميثاقاً واحداً .
والثاني : أنه لو قال : مواثيقكم لأبهم أن يكون هُنَاك مواثيق أخذت عليم لا ميقاق واحد .
قوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } نظيره : { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } [ الأعراف : 171 ] . و « الواو » في قوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ } واو عطف على تفسير ابن عباس ، والمعنى : أن أخذ الميثاق كان متقدماً فلما نقضوه بالامتناع عن قَبُول الكتاب رفعنا عليهم الجبل .
وعلى تفسير أبي مسلم ليست واو عطف ولكنها واو الحال ، كما يقال : « فعلت ذلك والزمان زمان » فكأنه قال : وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطُّور فوقكم .
وفوقكم ظرف مكان ناصبه « رفعنا » ، وحكم « فوق » مثل حكم « تحت » ، وقد تقدم الكلام عليه .
قال أبو البقاء : ويَضْعُفُ أن يكون حالاً من « الطور » ؛ لأن التقدير يصير : ورفعنا الطور عالياً ، وقد استفيد من « رفعنا » . وفي هذا نظر؛ لأن المراد به علو خاص ، وهو كونه عالياً عليم لا مُطْلَقَ العلو حتى يصير : رفعناه عالياً كما قدره .

قال : « لأن الجبل لم يكن فوقهم وقت الرفع ، وإنما صار فوقهم بالرفع » .
ولقائل أن يقول : لم لا تكون حالاً مقدرة ، وقد قال هو في قوله : { بِقُوَّةٍ } إنها حال مقدرة كما سيأتي .
و « الطور » اسم [ لكلّ ] جبل ، وقيل : [ لما ] أَنْبَتَ منها خاصة دون ما لم ينبت ، وهل هو عربي أو سُرْيَانيّ قولان .
وقيل : سمي بطور بن إسماعيل عليه الصلاة والسلام؛ وقال العَجَّاج : [ الرجز ]
557 دَانَى جَنَاحَيْهِ مِنَ الطُّورِ فَمَرّ ... تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ
وقال الخليل : الطُّور اسم جبل معلوم؛ لأن التعريف تقتضي حلمه على جبل معهود مسمى بهذا الاسم ، وهو جبل المُنَاجاة . وقد يجوز أن ينقله الله إلى حيث هم ، فيجعله فوقهم وإن كان بعيداً منهم .
وقال ابن عباس : أمر الله جبلاًُ من جبال « فلسطين » ، فانقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظُّلة ، وبعث ناراً من قبل وجوههم ، وأتاهم البحر الملح من خلفهم ، وقيل لهم : خذوا ما آتيناكم ، أي : اقبلوا ما أعطيناكم وإلاَّ رضختكم بهذا الجبل ، وغرقتكم في هذا البحر ، وأحرقتكم بهذه النار فلما رأوا أن لا مهرب منه قلوا ذلك ، وسجدوا خوفاً ، وجعلوا يلاحظون الجبل ، وهم سجود ، فصارتْ سُنّة في اليهود لا يسجدون إلاَّ على أنصاف وجوههم .
قوله : « خذوا » في محل نصب بقول مضمر ، أي : وقلنا لهم : خذوا ، وهذا القول مضمر يجوز أن يكون في محل نصب على الحال من فاعل « رفعنا » والتدقير : ورفعنا الطور قائلين لكم خذوا . وقد تقدّم أن خذ محذوف الفاء أن الأصل : اؤخذ ، عند قوله : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } [ البقرة : 35 ] .
قوله : { مَآ آتَيْنَاكُم } مفعول « خذوا » ، و « ما » موصولة بمعنى الذي لا نكرة موصوفة ، والعائد محذوف أي : ما آتيناكموه .
قوله : « بقوة » في محل نَصْبٍ على الحال ، وفي صاحبها قولان :
أحدهما : إنه فاعل « خذوا » وتكون حالاً مقدرة ، والمعنى : خذوا الذي آتيناكموه حال كونكم عازمين على الجدّ في العمل به .
والثاني : أنه ذلك العائد المحذوف ، والتقدير : خذوا الذي آتيناكموه في حال كونه مشدداً فيه أي : في العمل به ، والاجتهاد في معرفته .
قوله : « ما فيه » الضمير يعود على « ما آتيناكم » أي : أذكروا ما في الكتاب ، واحفظوه وادرسوه ، ولا تغفلوا عنه ، ولا يحمل على الذكر الذي هو ضدّ النسيان؛ لأنه ليس من فعل العبد ، فلا يجوز الأمر به ، وفي حرف « أُبَيِّ » « واَّكِرُوا » بذال مشددة وكسر الكاف ، وفي حرف عبد الله « وتَذَكَّروا مَا فِيهِ » [ ومعناه ] : اتّعظوا به .
قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : لكي تتقوا فتنجوا من الهلاك في الدنيا ، والعذاب في العقبى .
قوله : { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } التولّي تفعل من الوَلْي ، وأصله : الإعراض والإدبار عن الشَّيء بالجسم ، ثم استعمل في الإعراض عن الأوامر والمعتقدات اتساعاً ومجازاً وذلك إشارة إلى ما تقدم من رفع الطُّور ، وايتاء التوراة .

قال القَفَّال رحمه الله : « إنهم بعد قبول التوراة ، ورفع الطور تولّوا عن التَّوْراة بأمور كثيرة ، فحرّفوا التوراة وتركوا العمل بها ، وقتلوا الأنبياء ، وكفروا بها وعصوا أمرهم ولعلّ فيها اختصّ به بعضهم دون البعض ، ومنها ما علمه أوائلهم ، ومنها ما فعله متأخروهم ، ولم يزالوا في التِّيهِ مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً يخالفون موسى ، ويعرضون عنه ، ويلقونه بكلّ أذى ، ويجاهرون بالمعاصي حتى لقد خسف ببعضهم ، وأحرقت النار بعضهم ، وعوقبوا بالطاعون ، وكلّ هذا مذكور في تراجم التوراة ، ثم فعل متأخروهم ما لا خَفَاءَ به من تخريب » بيت المقدس « ، وكفروا بالمسيح وهمّوا بقتله . والقرآن وإن لم يكن فيه بَيَانُ ما تولوا به عن التوراة ، فالجملة معروفة من إخبار الله تعالى عن عِنَادِ أسلافهم ، فلا عَجَبَ في إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من الكتاب والنبوة » .
قوله : { فَلَوْلاَ فَضْلُ الله } « لولا » هذه حرف امتناع لوجود ، والظَّاهر أنها بسيطة وقال أبو البَقَاءِ : هي مركّبة من « لو » ، و « لا » و « لو » قبل التركيب يمتنع بها الشيء لامتناع غيره ، و « لا » للنفي ، والامتناع نفي في المعنى ، وقد دخل النفي ب « لا » على أحد امتناعي « لو » والامتناع نفي في المعنى ، والنَّفي إذا دخل على النَّفي صار إيجاباً ، فمن [ ثمَّ ] صار معنى « لولا » هذه يمتنع بها الشيء لوجود غيره وهذا تكلْف ما لا فائدة فيه ، وتكون « لولا » أيضاً حرف تحضيض فتختص بالأفعال ، وسيأتي الكلام علهيا إن شاء الله تعالى .
و « لولا » هذه تختص بالمبتدأ ، ولا يجوز أن يليها الأفعال ، فإن ورد ما ظَاهِرُهُ ذلك أُوِّل؛ كقوله : [ الوافر ]
558وَلَوْلاَ يَحْسِبُونَ الحِلْمَ عَجْزاً ... لَمَا عَدِمَ المُسِيئُونَ احْتِمَالي
وتأويله أن الأصل : « ولولا أن تحسبوا » فلما حذفت أن ارتفع الفعل؛ كقوله : [ الطويل ]
559 أَلاّ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الوَغَى .. . .
أي : « أَنْ أَحْضُرَ » .
والمرفوع بعدها مبتدأ خلافاً للكسائي حيث رفعه بفعل مضمر ، وللفراء حيث قال : « مرفوع بنفس لولا » . وخيره واجب الحذف للدلالة عليه وسد شيء مسده وهو جوابها والتقدير : ولولا فَضْل الله كائن أو حاصل ، ولا يجوز أن يثبت إلا في ضرورة شعر ، ولذلك لُحِّنَ المعرِّيُّ في قوله : [ الوافر ]
560 يُذِيبُ الرُّعْبُ مِنْهُ كُلَّ عَضْبٍ ... فَلَوْلاَ الغِمْدُ يُمْسِكُهُ لَسَالاَ
حيث أثبت خبرها بعدها ، هكذا أطلقوا ، وبعضهم فَصَّل فقال : إن كان خبر ما بعدها كونناً مطلقاً ، فالحذف واجب ، وعليه جاء التنزيل وأكثر الكلام ، وإن كان كوناً مقيداً فلا يخلو إما أن يدلّ عليه دليل أوْ لا ، فإن لم يدلِّ عليه دليل ، وجب ذكره؛ نحو قوله عليه الصَّلاة والسَّلام :

« لَوْلاَ قَوْمُكِ حَديثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ » ، وقول الآخر : [ الطويل ]
561 فَلَوْلاَ بَنُوهَا حَوْلَهَا لَخَبَطْتُهَا ..
وإن دلّ عليه دليل جاز الذِّكر والحذف نحو : « لولا زيد لَغُلِبْنَا » : شجاع ، وعليه بيت المعرّي المتقدم .
وقال أبو البَقَاءِ : ولزم حذف الخبر للعلم به ، وطول الكَلاَم فإن وقعت « أن » بعدها ظهر الخبر كقوله : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين } [ الصافات : 143 ] فالخبر في اللّفظ ل « أن » ، وهذا الَّذِي قاله موهم ، ولا تعلّق لخبر « أن » بالخبر المحذوف ، ولا يغني عنه ألبتة فهو كغيره سواء ، والتقدير : فلولا كونه مسبحاً حَاضِرٌ أو موجودٌ . فأي فائدة في ذكره لهذا؟ [ والخبر ] يجب حذفه في صور أخرى تأتي مفصّلة إن شاء الله تعالى في مواضعها ، وقد تقدم عنى الفضل عند قوله : { فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } [ البقرة : 47 ] .
قوله : { لَكُنْتُم مِّنَ الخاسرين } اللاَّ جواب « لولا » والعم أن جوابها إن كان مثبتاً ، فالكثير دخول اللام كهذه الآية ونظائرها ، ويقلّ حذفها؛ قال : [ البسيط ]
562 لَوْلاَ الحَيَاءُ وَلَوْلاَ الذِّينُ عِبْتُكُمَا ... بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إذْ عِبْتُمَا عَوَرِي
وإن كان منفيًّا فلا يخلو : إما أن يكون حرف النَّفي « ما » أو غيرها ، إن كان غيرها فترك اللام واجب نحو : « لولا زيد لم أقم ، ولن أقوم » ، لئلا يتوالى لامان ، وإن كان ب « ما » فالكثير الحَذْف ، ويقلّ الإتيان بها ، وهكذا حكم جواب « لو » الامتناعية ، وقد تقدم عند قوله : { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } [ البقرة : 20 ] ، ولا محلّ لجوابها من الإعراب . و « من الخاسرينَ » في محلّ نصب خبر « كان » ، و « من » للتبعيض .
فصل في تفسير فضل الله عليهم
ذكر القَفَّال في تفسيره وجهين :
الأول : لولا تفضل الله عليكم من إمهالكم ، وتأخير العذاب عنكم لكنتم من الخاسرين ، أي من الهالكين [ الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم ] ، ومنه قوله تعالى : { خَسِرَ الدنيا والآخرة } [ الحج : 11 ] .
والثاني : أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله : { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذلك } ، ثم قال : { فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } رجوعاً بالكلام إلى أوله ، أي : لولا لطف الله تعالى بكم برفع الجبل فوقكم لَدُمْتُمْ على ردّكم الكتاب ولكنه تفضل عليكم ورحمكم ولولا ذلك لكنتم من الخاسرين ببقائكم على تلك الحالة حتى يتم .
فإن قيل : كلمة « لولا » تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره ، فهذا يقتضي أن انْتِفَاء الخسران من لوازم حُصُول فضل الله تعالى بحيث حصل الخُسْران وجب أن يحصل هناك لطف الله تعالى .
وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يفعل بالكافر شيئاً من الألطاف الدينية ، وذلك خلاف قوله المعتزلة .
أجاب الكعبي بأنه تعالى سَوّى بين الكُلّ في الفضل ، لكن بعضهم انتفع دون بعض ، فصح أن يقال ذلك كما يقول القائل لرجل وقد سوى بين أولاده في العطية فانتفع بعضهم لولا أن أباك [ فضّلك ] لكنت فقيراً ، هذا ضعيف؛ لأن أهل اللّغة نصوا على أن « لولا » تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره ، وإذا ثبت هذا فكلام الكَعْبِي ساقط .

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

لما عدّد وجوه إنعامه عليهم شرح [ إليهم ] ما وجه إليهم من التشديدات .
و « اللام » في [ لقد ] جواب قسم محذوف تقديرهك والله لَقَد ، وكذلك نظائرها .
قال بعض المتأخرين لها نحو أريين معنى ، قال : وجميع أقسام « اللام » التي هي حرف معنى يرجع عند التَّحقيق إلى قسمين : عاملة ، وغير عاملة ،
فالعاملة قسمان : جارّة ، وجازمة ، وزاد الكوفيون النَّاصبة للفعل .
وغير العاملة خمسة أقسام : لام ابتداء ، ولام فارقة ، ولام الجواب ، ولام موطّئة ، ولام التعريف عند من جعل حرف التعريف أحادياً .
أما الجارة فلها ثلاثون قسماً مذكورة في كتب النحو .
وأمّا الجازمة فلام الأمر ، والدعاء والالْتِمَاس . وحركة هذه اللام الكسر .
ونقل ابن مالك عن الفرّاء أن فتحها لغة ، ويجوز إسكانها بعد الواو والفاء ، وهو الأكثر .
وفي حذف لام الطلب وإبقاء عملها أقوال :
وأما اللام [ هنا فهي لام « كي » ] عند الكوفيين ، وعند البصريين لام جَرّ .
ولام الجحود نحو : ما كان زيد لِيَذْهَبَ ، ولام الصَّيرورة ، وتسمى لام التَّعَاقُب ، ولام المآل واللام الزائدة كقوله : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] واللام بمعنى الفاء كقوله : { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } [ يونس : 88 ] أي : فيضلوا . والكلام على هذه اللاَّمات ليس هذا موضعه ، وإنما نبّهنا عليه ، فيطلب من مكانه .
و « قد » حرف تحقيق وتوقّع ، وتنفيذ في المضارع التقليلّ إلاّ في أفعالِ الله تعالى فإنها للتحقيق ، وقد تخرج المضارع إلى المُضِيِّ كقوله : [ البسيط ]
563 قَدْ أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرَّا أَنامِلُهُ ... كَانَ أُثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصَادِ
وهي أداة مختصّة بالفعل ، وتدخل على الماضي والمضارع ، وتحدث في الماضي التقريب من الحال .
وفي عبارة بعضهم : « قد » حرف يصحب الأفعال ، ويُقَّرب الماضي من الحال ، ويحدث تقليلاً في الاستقبال .
والحاصل أنها تفيد مع الماضي أحد ثلاثة مَعَانٍ : التوقّع ، في التقريب ، والتحقيق ، ومع المضارع أحد أربعة معانٍ : التوقّع ، والتقليل ، والتكثير ، والتحقيق . قال ابن مالك : « والدَّالة على التقليل تصرف المضارع » ، وكذلك الدّالة على التكثير . وأما الدالة على التحقيق ، فقد تصرفه إلى المُضِيِّ ، ولا يلزم فيها ذلك ، وهي مع الفعل كجزء منه ، فلا يفصل بينهما بغير القسمح كقوله : [ الطويل ]
564 أخَالِدُ قَدْ والله أوْطَأْتَ عَشْوَةً ... وَمَا العَاشِقُ المَظْلُومُ فِينَا بِسَارِقِ
وإذا دخلت على الماضي ، فيشترط أن يكون متصرفاً ، وإذا دخلت على المضارع ، فيشترط تجرّدهُ من جازم وناصب ، وحرف تنفيس ، وتكون اسماً بمعنى « حَسْب » ؛ نحو : « قَدْنِي دِرْهَمٌ » ، أي : حَسْبِي ، وتتّصل بها نون الوقاية مع ياء المتكلم غالباً ، وقد جمع الشاعر بين الأمرين ، قال : [ الرجز ]
565 قَدْنِي مِنْ نَصْرِ الخُبْيبَيْنِ قَدِي ... والياء المتّصلة ب « قدني » في موضع نصب إن كان « قَدْني » اسم فعل ، وفي موضع جرّ إن كانت بمعنى « حَسْب » .

والياء في « قدي » تحتمل أن تكون بمعنى « حسبي » ، ولم يأت بنون الوقاية على أحد الوجهين ، وتحتمل أن تكون اسم فعل ، وحذفت النون للضرورة ، وتحتمل أن تكون اسم فعل ، والياء للإطلاق .
وإن كانت حرفاً جاز حذف الفعل بعدها ، كقوله : [ الكامل ]
566 أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا ... لَمّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ
أي : قد زالت .
وللقسم وجوابه أحكام تأتي إن شاء الله تعالى [ مفصلة ] .
و « عَلِمْتُم » بمعنى : عرفتم ، فيتعدّى لواحد فقط .
والفرق بين العِلْمِ والمَعْرفة أن العلم يستدعي معرفة الذات ، وماهي عليه من الأحوال نحو : « علمت زَيداً قائماً أو ضاحكاً » ، والمعرفة تستدعي معرفة الذَّات .
وقيل : لأن المعرفة يسبقها جهل ، والعلم قد لايسبقه جهل ، ولذلك لا يجوز إطلاق المعرفة عليه سبحانه وتعالى .
و « الَّذِينَ اعْتَدَوا » الموصول وصِلَتُهُ في محصل نصب مفعول به ، ولا حاجة إلى حذف مضاف كما قدره بعضهم ، أي : أحكام الذين اعتدوا؛ لأن المعنى عرفتم أشخاصهم وأعيانهم .
وأصل « اعْتَدَوْا » : « اعْتَدَيُوا » ، فأعلّ بالحذف ، ووزنه « افْتَعَوْا » ، وقد عرف تصريفه ومعناه .
و « منكم » في محلّ نصب على الحال من الضمير في « اعتدوا » ، ويجوز أن يكون من « الذين » . أي من المعتدين كائنين منكم .
و « من » للتبعيض .
و « السَّبْتِ » متعلّق ب « اعتدوا » ، والمعنى : في حكم السبت .
وقال أبو البقاء : وقد قالوا : « اليوم السَّبت » ، فجعلوا « اليوم » خبراً عن « السبت » ، كما يقال : « اليوم القتيال » ، فعلى ما ذكرنا يكون في الكلام حذف ، تقديره : في يوم السَّبْت ، فالسَبت في الأصل مصدر « سَبَتَ » أي : قطع العمل .
وقال ابن عطية : والسَّبْت : إما مأخوذ من « السُّبُوت » الذي هو الراحة والدَّعَة ، وإما من « السَّبْت » وهو القطْع؛ لأن الأشياء فيه سبتت ، وتمت خِلْقَتُهَا .
ومنه قولهم : سبت رأسه أي : حلقه .
وقال الزمخشري : « والسّبت مصدر [ سبتت ] اليهود : إذا عظمت يوم السبت » . وفيه نظر ، فإنّ هذا اللفظ موجود ، واشتقاقه مذكور في لسان العرب قبل فعل اليَهُود ذلك ، اللّهم إلا [ أن ] يريد هذا السبت الخاصَّ المذكور في هذه الآية .
والأصل فيه المصدر كما ذكرت ، ثم سمي به هذا اليوم من الأسبوع ، لاتفاق وقوعه فيه كما تقدم أن خلق الأشياء تَمّ وانقطع ، وقد يقال : يوم السبت فكيون مصدراً .
وإذا ذكر معه « اليوم » ، أو مع ما أشبهه من أسماء الأزمنة مما يتضمّن عملاً وحدثاً جاز نصب « اليوم » ، ورفعه ، نحو : « اليوم الجمعة » ، « اليوم العيد » كما يقال : « اليوم الاجتماع والعَوْد » .

فإن ذكر مع « الأحد » وأخوته وجب الرفع على المشهور ، وتحقيقها مذكور في [ كتب ] النحو .
فصل في قصة عدوانهم بالصيد
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال : هؤلاء القوم كانوا في زمان دَاوُدَ عليه الصلاة والسلام ب « أيلة » على ساحل البحر بين « المدينة » و « الشام » وهو مكان يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السّنة حتى لا يرعى الماء لكثرتها ، وفي غير ذلك الشهر في كل سَبْت يجتمعون هناك حتى يخرجن بخراطيمهن من لماء لأمنها ، فإذا مَضَى السَّبت تفرقن ، ولزمن قَعْرَ البحر فذلك قوله : { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } [ الأعراف : 163 ] فعمد رجال فحفروا حِيَاضاً عند البحر ، وشرعوا إليها الجَدَاول ، فإذا كانت عشية يوم الجمعة فَتَحُوا تلك الجداول ، فكانت الحيتان تدخل إلى الحِيَاض ، فلا تطيق الخروج منها لبعد عُمْقِها ، وقلّة الماء ، فيأخذونها يوم الأحد .
وقيل : كانوا ينصبون الحَبَائل والشّصُوص يوم الجمعة ، ويخرجونها يوم الأحد ، وذلك هو اعتداؤهم ، ففعلوا ذلك زماناً واشتغلوا وهم خائفون من العقوبة ، فلما طال العَهْدُ ، و لم تنزل عقوبة قَسَتْ قلوبهم [ وتجرءوا ] على الذنب فاسْتَنّ الأبناء بِسُنَّة الآباء ، واتخذوا الأموال ، وقالوا : ما نرى السبت إلاّ وقد أحل لنان فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد في السبت ، ونهرهم عن ذلك فلم ينتهوا ، وقالوا : نحن في هذا العمل منذ زمان ، فما زادنا الله به إلا عِزًّا فقيل لهم : لا تفتروا فربما نزل بكم العَذَابُ ، فانقسموا ثلاثة أصناف : صنف أَمْسَكَ وانتهى ، وصنف ما أمسك ولم يَنْتَهِ ، وصنف انتهكوا الحرمة فلما أبوا قَبُولَ النصح قال الناهون : والله لا ننساكم فقسموا القرية بجدار ، ومكثوا على ذلك سنين ، فلعنهم داود عليه الصلاة والسلام وغضب الله عز وجل عليهم لإصرارهم على المعصية ، فخرج النَّاهون ذات يوم من بابهم ، والمجرمون لم يفتحوا بابهم ، ولم يخرج منهم أحد فلما أبطئوا تَسَوروا عليهم الحائط ، فإذا هم جميعاً قدرة خاسئين .
فإن قيل : إذا كانوا قد نهوا عن الاصْطِيَاد يوم السَّبت ، فما الحكمة في أن أكثر الحيتان يوم السَّبت دون سائر الأيام؟
فالجواب : أما على مذهب أهل السُّنة فإرادة الإضلال جائزة من لله تعالى .
وأما على مذهب المعتزلة ، فالتشديد في التكاليف حسن لغرض ازياد الثواب .
و « قِردَةً خَاسِئِيْنَ » يجوز فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن يكونا خبرين ، قال الزَّمخشري : « أي : كونوا جامعين بين القِردَيّة والخسوء » .
وهذا التقدير منه بناء على أن الخبر لا يتعدّد ، فلذلك قدرهما بمعنى خبر واحد من باب : « هذا حُلْو حَامض » وقد تقدّم القول فيه .

والثَاني : إن يكون « خاسئين » نعتاً ل « قردة » قاله أبو البقاء . وفيه نظر من حيث إنّ القردة غير عقلاء ، وهذا جمع العقلاء .
فإن قيل : المخاطبون عقلاء؟ فالجواب : أنّ ذلك لا يفيد؛ لأن التقدير عندكم حينئذ : كونوا مثل قدرة من صفتهم الخُسوء ، ولا تعلّق للمخاطبين بذلك ، إلا أنه يمكن أن يقال : إنهم مشبَّهُون بالعقلاء كقوله : { لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] و { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] .
والثالث : أن يكون حالاً من اسم « كونوا » ، والعامل فيه « كونوا » ، وهذا عند من يجيز ل « كان » أن تعمل في الظروف [ والأحوال ] وفيه خلاف سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى عند قوله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } [ يونس : 2 ] .
الرابع : وهو الأجود أن يكون حالاً من الضمير المُسْتكنّ في « قردة » ؛ لأنه في معنى المشتق أي : كونوا ممسوخين في هذه الحال .
وجمع « فِعْل » على « فِعَلَة » قليل لا يَنْقَاس .
ومادة « القرد » تدلّ على اللُّصوق والسكون ، تقول : قَرَد بمكان كذا : لصق به وسكن ، ومنه : الصُّوف « الْقَرَد » أي : المتداخل ، ومنه أيضاً : « القُرَادُ » هذا الحيوان المعروف ويقال : « خسأته فخَسَاً ، فالمتعدي والقاصر سواء نحو : زاد وغاض وقيل : خسأته فخسىء وانسخاً ، والمصدر » الخسوء « و » الْخَسْء « .
وقال الكسائي : » خسأت الرجل خسأ ، وخسأ هو خسوءاً « ، ففرق بين المصدرين .
والخسوء : الذّلة والصَّغار والطرد والبعد ، ومنه : خسأت الكلب قال مجاهد وقتادة والربيع : وهي لغة » كنانة « .
وقال أبو روق : يعني خرساً لقوله تعالى : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] والمراد من هذا الأمر سرعة التكوين لا نفس الأمر . روي عن مجاهد رضي الله عنه أن الله تعالى مسخ قلوبهم يعني : بالطَّبع والخَتْم ، إلا أنه مَسَخَ صورهم لقوله { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] وهذا مَجَاز ظاهر [ مشهور ] .
فصل في المقصود من ذكر هذه القصة
والمقصود من ذكر هذه القصّة أمران :
الأول : إظهار معجزة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كالخطاب لليهود الذي كانوا في زمانه ، أخبرهم عليه الصَّلاة والسَّلام عن هذه الواقعة مع أنه كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب ، ولم يخالط القوم دلّ على أنه إنما عرفه بالوحي .
والثاني : أنه تعالى لما أخبرهم بما عاجل به أصحاب السَبت ، فكأنه يقول لهم : لا تتمردوا و لاتغتروا بالإمهالن فينزل بكم ما نزل بهم ، ونظيره قوله تعالى { يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ } [ النساء : 47 ] الآية .
فإن قيل : إنهم بعد أن صاروا قدرةً لا يبقى لهم فَهْم ، ولا عَقْل ، ولا علم ، فلا يعلمون ما نزل بهم من العذاب ، ووجود القرديّة غير مؤلم .

فالجواب : لم لا يجوز أن يقال : إنّ الذي كان إنساناً عاقلاً فاهماً كان ثابتاً لم يتغير ، وإنما تغيرت الصورة فلم يقدر على النّطق والأفعال الإنسانية ، لكنها كانت تعرف ما نالها من تغير الخِلْقة بسبب المعصية ، فكانت في نهاية الخوف والخَجَل ، وربما كانت متألمة بسبب تغير تلك الأعضاء؟ .
فإن قيل : أولئك القردة بقوا أو هلكوا ، فإن قوا فالقردة الموجودون في زماننا هل يجوز أن يكونوا من نَسْلِهمْ أم لا؟
فالجواب : الكل جائز ، إلاّ أن الرواية عن ابن عباس أنهم مكثوا ثلاثة أيام ، ثم هلكوا ولم يأكلوا ولم يشربوا ، ولم ينسلوا .
قال ابن عطية : وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « إن المَمْسوخ لا يَنْسِلُ ، ولا يَأْكل ، ولا يَشْرَب ، ولا يَعيْش أكثر من ثَلاَثَة أيام » قاله القُرْطبي . وهذا هو الصحيح .
واحتج ابن العَرَبيّ وغيره على أن المَمْسُوخَ يَعيش ، ويَنسل ، لقوله عليه الصلاة واللام : « إنّ امة من بَنِي إسْرَائِيْلَ لا يُدْرى ما فعلت ولا أراها إلا الفَأْر ألا ترونها إذا وضع لها أَلْبَان الإِبِلِ لم تَشْرَبْهُ وإذا وضع لها أَلْبَان الشَّاة تشربها » .
ويقول جابر رضي الله عنه : أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بِضَبٍّ فأَبى أن يأكل منه وقال : « لا أَدْرى لعلّه من القُرُون التي مُسِخَتْ » .
وروى البخاري عن عمر بن ميمن أنه قال : « رأيت في الجاهلية قدرةً قد زَنَتْ فرجموها فرجمتها معهم » .
قال ابن العربيك فإن قيل : كيف تعرف البَهَائم الشرائع حتى ورثوها خَلْفاً عن خَلْفٍ إلى زمان عمر؟
قلنا : نعم! كان ذلك؛ لأن اليهود غَيَّرُوا الرَّجم ، فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون أبلغ في قيام الحُجَّة على ما أنكروا وغيّروه ، حتى تشهد عليم كتبهم ، وأَخْبارهم ، ومسوخهم ، حتى يعلموا أنّ الله يعلم ما يُسِرُّون وما يعلنون .
قال القرطبي : ولا حُجَّة في شيء من ذلك ، أما حديث الفأر والضَّبّ فكان هذا حَدْساً منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أنّ الممسوخ لا يعيش ولا يَنْسل .
وأما حديث القدرة ففي بعض الروايات لم يذكروا فيها أنها زنت إنما ذكر الرَّجم فقط ، وإنما أخرجه البخاري دلالة على أن [ عمر بن ميمون أدرك الجاهلية ، ولم يُبَالِ بظنه الذي ظنه في الجاهلية ، وذكر ابن عبد البر أن ] عمرو بن ميمون من كبار التابعين من لكوفيين ، هو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة .
« فَجَعَلْنَاهَا » فعل وفاعل ومفعول .
« نَكَالاً » مفعول ثانٍ ل « جعل » التي بمعنى « صبر » والأول هو الضمير ، وفيه أقوال : أحدها : يعود على المَسْخَة .

وقيل : على القرية ، لأن الكلام يقتضيها كقوله : { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } [ العاديات : 4 ] أي : بالمكان .
وقيل : على العقوبة .
وقيل : على الأمة .
« النكال » المنع ، ومنه : النّكل ، والنِّكلْك اسم للقيد من الحديد ، واللِّجَام؛ لأنه يُمنع به ، وسمي العقاب نَكَالاً؛ لأنه يُمنْع به غير المعاقب أن يفعل فِعْلَه ، ويمنع المعاقب أن يعود إلى فَعله الأول .
و « التنكيل » : إصابة الغير بالنِّكَال لِيُردَعَ غيره ، ونَكَلَ عن كذا يَنْكلُ نُكُولاً : امتنع ، وفي الحديث : « إنّ الله يحب الرُّجُلَ النِّكل » أي : القوي على الغرس .
« والْمَنْكَل » : مَا يُنكَّلُ به الإنسان ، قال : [ الرجز ]
567 فَارْمِ عَلَى أَقفَائِهِمْ بِمَنْكَلِ ... والمعنى : أنا جعلنا ما جرى على هؤلاء عقوبة رادعة لغيرهم .
والضمير في « يَدَيْهَا » و « خلفها » كالضمير في « جَعَلْنَاهَا » .
قال ابن الخطيب : لما قبلها وما معها وما بعدها من الأمم والقرون ، لأن مَسْخَهُمْ ذكر في كتب الأولين ، فاعتبروا بها ، « ما يحضرها من [ القرون ] والأمم . وما خَلْفَهَا من بعدهم .
وقال الحَسَنُك عقوبة لجميع ما ارتكبوه من هذا الفعْلِ ، وما بعده .
و » مَوْعِظَةً « عطف على » نَكَالاً « وهي » مَفعِلَةٌ « ، من الوَعْظ وهو التخويف .
وقال الخليل : » التذكير بالخير فيما يرق له القلب « .
والاسم : » العظة « ك » العِدَة « و » الزِّنَة « و » لِلْمُتَّقِينَ « متعلّق ب » موعظة « ، واللام للعلّة ، وخصّ المتّقين بالذِّكر وإن كانت موعطةً لجميع العالم البَرّ والفاجر؛ لأن المنتفع بها هم المتقون دون غيرهم ، ويجوز أن تكون اللام [ مقوية ] ؛ لأن » موعظة « فرع على الفعل في العمل فهو نظير { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ البروج : 16 ] فلا تعلّق لها لزيادتها ، ويجوز أن تكون متعلّقة بمحذوف؛ لأنها صفة ل » موعظة « .
أي : موعظة كائنة للمتّقين ، أي : يعظ المتقون بعضهم بعضاً .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

في مناسبة هذه القصة لما قبلها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه تعالى لما عدد النعم المتقدمة على بني إسرائيل كإنزال المَنّ والسَّلْوَى ، ورفع الطُّور ، وغير ذلك ذكر بعده هذه النعم الت بها بيّن البريء من غيره وذلك من أعظم النعم .
الثاني : أنه تعالى لما حكى عنهم التَّشْديدات والتعنُّت كقوله : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] وقولهم : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } [ البقرة : 61 ] ، وغير ذلك من التعنُّت ذكر بعده تعنتاً آخر ، وهو تعنتهم في صفة البقرة .
الثالث : ذكرها معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر بهذه القصّة من غير تعلّم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب .
وهذه الآية متأخرة في المعنى دون التلاوة عن قوله : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً } [ البقرة : 72 ] وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى .
والجمهور على ضم الرَّاء في « يَأْمُرُكم » ؛ لأنه مضارع معرب مُجَرّد عن ناصب وجازم ، وروي عن أبي عمرو سكونها سكوناً محضاً ، واختلاس الحركة ، وذلك لتوالي الحركات ، لأن الراء حرف تكرير ، فكأنها حرفان ، وحركتها حركتان .
وقيل : شبَّهها ب « عَضْد » فَسُكِّن أوسطه إجراء للمنفصل مجرى المتصلن وهذا كما تقدم في قراءة { بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] وقد تقدم ذكر من استضعفها من النُّحَاة ، وتقدّم ذكر الأجوبة عنه .
ويجوز إبدال همزة « يَأمُرُكمْ » ألفاً ، وهذا مطرد .
و « يأمركم » هذه الجُمْلة في محلّ رفع خبر ل « إن » ، و « إن » وما في حيّزها في محلّ نصب مفعولاً بالقول ، والقول وما في حيّزه في محلّ جرّ بإضافة الظرف إليه ، والظرف معمول لفعل محذوف أيك اذكر .
قوله : { أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } أن وما حيّزها مفعول ثانِ ل « يأمركم » ، فموضعها يجوز أن يكون نصباً ، وأن يكون جرَّا على ما مضى من الخلاف ، لأن الأصل على إسقاط حرف الجر أي بأن تَذْبَحُوا ، يجوز أن يوافق الخليل هنا على أن موضعها نصب؛ لأن هذا الفعل يجوز حذف الباء معه ، ولو لم تكن الباء في « أن » نحو : « أمرتكم الخير » .
و « البقرة » واحدة البقر ، تقع على الذّكر والأنثى نحو : « حَمَامة » ، والصِّفة تميز الذّكر من الأنثى ، تقول : بقرة ذكر ، وبقرة أنثى .
وقيل : بقرة اسم للأنثى خاصّة من هذا الجنس مقابل الثور ، نحو : نَاقَة وجَمَل ، وأَتَان وحِمَار .
وسمي هذا الجنس بذلك ، لأنه يَبْقُر الأرض ، أي : يشقّها بالحرث ، ومنه : بَقَرَ بطنه ، والباقر أبو جعفر ، لشقِّه العلم ، والجمع « بَقَر وَبَاقِر وَبَيْقُور وَبَقِير » .
و « البَقِيرة » : ثوب يشقّ فتلقيه المرأة في عنقها من غير كُمَّين .
فصل في قصة القتيل
روي عن ابن عباس وسائر المفسرين : أن رجلاً من بني إسرائيل قتل قريباً له ليرثه ، وقيل : لينكح زوجته ، وقيل : إن ابن أخيه قتله ليتزوج ابنته ، وكان امتنع من تزويجها له ، فقتله ثم رماه في مجمع الطريق ، ثم شكا ذلك إلى موسى عليه الصلاة والسلام فاجتهد موسى في أن يعرف القاتل ، فلما لم يظهر قالوا : قل لربك « بَيِّنْه » فأوحى الله إليه أن يأمرهم بأن يذبحوا بقرة [ فعجبوا ] من ذلك ، ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهما حالاً بعد حال ، واستقصوا في طلب الوصف ، فلما تعينت لم يجدوها بذلك النَّعت إلاَّ عند إنسان معيّن ولم يبعها إلاَّ بأضعاف ثمنها فاشتروها وذبحوها ، وأمرهم موسى عليه الصَّلاة والسَّلام أن يأخذوا عُضْواً منها ، فيضربوا به القتيل ، ففعلوا فأحيا الله القتيل ، وسمى لهم قاتلهم ، وهو الذي ابتدأ بالشّكاية فقتلوه [ فوراً ] .

قوله : « أَتتَّخِذُنَا هُزواً » المفعول الثاني ل « أتتخذنا » هو « هُزواً » ، وفي وقوع « هزواً » مفعولاً ثانياً ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه على حَذْف مضاف ، أي : ذوي هزء .
الثاني : أنه مصدر واقع المفعول به ، أي مهزوءاً بنا .
الثالث : أنهم جعلوا نفس الهزء مُبَالغة . وهذا أولى .
وقال الزمخشري : وبدأ ب « أَتَجْعَلُنَا » مكان هُزْءٍ ، وهو قريب من هذا . وفي « هزواً » ستّ قراءات ، المشهور منها ثلاث : « هُزُؤًا » بضمتين مع الهمز ، و « هُزْءًا » بسكون الزَّاي مع الهمز وصلاً ، وهي قراءة حمزة رحمه الله ، فإذا وقف أبدلها واواً ، وليس قياس تخفيفها ، وإنما قياسه إلقاء حركتها على الساكن قبلها .
وإنما اتبع رسْمَ المصحف ، فإنها رسمت فيه « واو » ، ولذلك لم يُبْدِلها في « جزءاً » واواً وقفاً لأنها لم تُرْسَم فيه واواً كما سيأتين وقراءته أصلها الضم كقراءة الجماعة إلاّ أنه خُفِّفَ كقولهم في عنق : عُنْق .
وقيل : بل هي أصل بنفسها ليست مخففةً من ضم .
كى مكّي عن الأخفش عن عيسى بن عمر : « كل اسم ثلاثي أوله مضموم يجوز فيه لغتانك التخفيف والتثقيل » .
و « هُزُواً » بضمتين مع الواو وصلاً ووفقاً ، وهي قراءة حفص عن عاصم ، كأنه أبدل الهمزة واواً تخفيفاً ، وهو قياس مطرد في كل همزة مفتوحة مضموم ما قبلها نحو : جُوَن في جُؤن ، وحكم [ كُفْواً ] في قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] حكم « هزواً » في جميع ما تقدم قراءةً وتوجيهاً .
و « هْزاً » بإلقاء حركة الهمزة على الزاي وحذفها ، وهو أيضاً قياس مطرد .
و « هُزْواً » بسكون العين مع الواو . و « هُزًّا » بتشديد لزاي من غير همزة ، ويروى عن أبي جعفر [ وتقدم معنى « الهزء » في أول سورة ] .
وقال الثعلبي في تفسيره : قرىء : « هُزُؤًّا » و « كُفُؤًّا » مثقلات ومهموزات ، وهي قراءة أبي عمرو وأهل « الشام » و « الحجاز » واختار الكسائي ، وأبو عبيد ، وأبو حاتم « هُوُزًّا » و « كُفُوًّا » مثقلات بغير همز قال : وكلّها لغات صحيحة فصيحة معناها : الاستهزاء .

فصل في الباعث على تعجبهم
القوم إنما قالوا ذلك؛ لأنهم لما طلبوا من موسى عليه الصلاة والسَّلام تعيين القاتل ، فقال موسى عليه الصّلاة والسلام : اذبحوا بقرة فلم يفرقوا ، وبين هذا الجواب وذلك السؤال مناسبة ، فظنوا أنه عليه الصَّلاة والسَّلام يُدَاعبهم؛ لأنه من المحتمل أن يكون عليه الصَّلاة والسَّلام أمرهم بذبح البقرة ، ولم يعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة ، وضربوا القتيل ببعضها يصير حياً ، فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء ، ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام بيّن لهم كيفية الحال إلاّ أنهم تعجّبوا من [ أن ] القتيل كيف يصير حيًّا بأن يضرب ببعض أجزاء البقرة ، وظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء .
نقل القرطبي عن المَاوَرْدَيّ قال : « وإنما أمروا والله أعلم بذبح بقرة دون غيرها؛ لأنها من جنس ما عبدوه من العِجْل ليُهَوِّن عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه ، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته » .
وهذا المعنى علّة في ذبح البقرة ، وليس بعلّة في جواب السَّائل ، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حَيّ ، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها .
فصل في بيان هل كفر قوم موسى بسؤالهم ذلك؟
قال بعضهم : إن أولئك الأقوام كفروا بقولهم لموسى عليه الصلاة والسلام : أتتخذنا هزوًا ، لأنهم إن قالوا لموسى ذلك لأنهم شكّوا في قدرة الله تعالى على إحياء الميت فهو كفر ، وإن شكّوا في ذلك أن الذي أمرهم به موسى عليه الصلاة والسلام هل هو بأمر الله ، فقد جَوْزوا الخيانة على موسى عليه الصَّلاة والسِّلام في الوحي ، وذلك أيضاً كفر ، ومن ا لناس من [ قال ] : إنه لا يوجب الكفر لوجهين :
الأول : أن المداعبة على الأنبياء جائزة ، فلعلهم ظنوا أنه عليه الصَّلاة والسَّلام يداعبهم مُدَاعبة حقّه ، وذلك لا يوجب الكفر .
والثاني : أن معنى قوله : « أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً » أي : ما أعجب هذا الجواب ، كأنك تستهزىء بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء .
قوله : « أَعُوذُ بِالله » تقدم إعرابه في الاستعاذة .
وهذا جواب لاستفهامهم في المعنى ، كأنه قال لا أهزأ مستعيذاً بالله من ذلك فإن الهازىء جاهل ، فلم يستعذ موسى عليه الصلاة والسلام من الشَّيء الذي نسبوه إليه ، لكنه استعاذة من السَّبب الموجب له ، كما يقول : أعوذ بالله من عدم العَقْل؛ وغلبة الهَوَى ، والحاصل أنه أطلق اسم السّبب على المسبب مجازاً .

ويحتمل أن يكون المراد « أعوذ بالله أن أكُونَ من الجَاهِلِين » بما في الاستهزاء في أمر الدين من العقاب الشديد ، والوعيد والعظيم ، فإني متى علمت ذلك امتنع إقْدَامي على الاستهزاء .
وقال بعضهم : إن نفس الهزوّ قد يسمى جهلاً وجهالة ، فقد روي عن بعض أهل اللُّغة أن الجَهْل ضدّ الحلم ، كما قال بعضهم : إنه ضدّ العلم .
قوله : « أَنْ أَكُونَ » أي من أن أكون ، فيجيء فيه الخلاف المعروف .
و « مِنَ الْجَاهِلِيْنَ » خبرها ، وهو أبلغ من قولك : أن أكون جاهلاً . فإن المعنى أنّ انتظم في سلك قوم اتصفوا بالجهل .
قوله : « قَالُوا : ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ » ف « يبيّن » مجزوز على جواب الأمر كقوله : { فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا } [ البقرة : 61 ] .
قوله : « مَا هِيَ » ، « ما » استفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، تقديره : أي شيء هي؟ وما [ الاستفهامية ] يطلب بها شرح الاسم تارة ، نحو : ما العَنْقَاء؟ وماهية المسمى أخرى ، نحو : ما الحركة؟ .
وقال السكاكي : « يسأل ب » ما « عن الجنس ، تقول : ما عندك » أي : أيّ أجناس الأشياء عندك؟ وجوابه « كتاب » ونحوه ، أو عن الوصف ، تقول : ما زيد؟ وجوابه : « كريم » ، وهذا هو المراد في الآية .
و « هي » ضمير مرفوع منفصل في محلّ رفع خبراً ل « ما » والجلمة في محلّ نصب ب « يبيّن » ؛ لأنه معلّق عن الجلمة بعده ، وجاز ذلك ، لأنه شبيه بأفعال القلوب .
قوله : « لاّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ » لا « نافية » ن و « فارض » صفة ل « بقرة » .
واعترض ب « لا » بين الصفة والموصوف ، نحوك « مررت برجل لا طويل ولا قصير » .
وأجاز أبو البقاء : أن يكون خبر المبتدأ محذوف ، أي : لا هي فَارِضٌ .
وقوله : « ولا بِكْر » مثل ما تقدّم .
وتكررت « لا » لأنها متى وقعت قبل خبر ، أو نعت ، أَو حال وجب تكريرها تقول : « زيد لا قائم ولا قاعد » ، و « مررت به لا ضحاكاً ولا باكياً » .
ولا يجوز عدم التكرار إلا في ضرورة خلاقاً للمبرّد وابن كَيْسَان؛ فمن ذلك : [ الطويل ]
568 وَاَنْتَ امْرُؤٌ مِنَّا خُلِقْتَ لِغَيْرنا ... حَيَاتُكَ لاَ نَفْعُ ومَوْتُكَ فَاجِعُ
وقوله : [ الطويل ]
569 قَهَرْتُ الْعِدَا لاَ مُسْتَعِيناً بِعُصْبَةٍ ... وَلَكِنْ بَأَنْواعِ الْخَدائِعِ وَالمَكْرِ
فلم يكرهها في الخبر ، ولا في الحال .
و « الفارض » : المُسِنّة الهَرِمَة ، قال الزمخشريُّ : كأنها سميْت بذلك؛ لأنها فَرَضَتْ سِنَّها ، أي : قَطَعَتْهَا وبلغت آخرها؛ قال : [ الطويل ]
570 لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْطَيْتَ ضَيْفَكَ فَارِضاً ... تُسَاقُ إِلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ

ويقال لكل ما قَدُمَ : فارض؛ قال [ الرجز ]
571 شَيَّبَ أَصْدَاعِيْ فَرَأْسِي أَبْيَضُ ... مَحَامِلٌ فِيهَا رِجَالٌ فُرَّضُ
أي : كبار قدماء .
وقال آخر : [ الرجز ]
572 يَارُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ ... لَهُ قُرُوءٌ كَقُروءِ الْحَائِضِ
وقال الرَّاغب : سميت فارضاً ، لأنها تقطعه الأرض ، والْفَرْضُ في الأصل القطع ، وقيل : لأنها تحمل الأعمال الشاقة .
وقيل : لأن فريضة البقر تَبِيعٌ ومُسِنَّةٌ ، قال : فعلى هذا تكون الفارض اساً إسلاميّاً .
وقيل : « الفَارِضُ » : التي ولدت بطوناً كثيرة فيتسّع جوفها لذلك؛ لأن معنى الفارض في اللغة الواسع ، نقله القرطبي عن بعض المتأخرين . ويقال : فَرَضَتْ تَفْرِضُ بالفتح فُرُوضاً .
وقيل : فَرُضَتْ بالضم أيضاً .
وقال المفضَّل بن سَلَمَةَ : الفارض : المُسِنَّة . و « البِكْر » : ما لم تحمل .
وقيل : ما ولَدَتْ بطناً واحداً ، وذلك الولد بِكْرٌ أيضاَ . قال : الرجز ]
573 يَا بِكْرَ بَكْرَين وَيَا خِلْبَ الْكَبِدْ ... أَصْبَحْتَ مِنِّي كِذِرَاع مِنْ عَضُدْ
و « البِكْر » من الحيوان : من لم يطرقه فحل ، و « البَكْر » بالفتح الْفَتِيُّ من الإِبل ، والبَكَارة بالفتح المصدر .
وقال المفضَّل بن سلمة : البِكْر : الشابة .
قال القفال رحمه الله تعالى : اشتقاق البكر يدل على الأول ، ومنه الباكورة لأول الثمرة ، ومنه : بُكْرَة النهار ، ويقال : بكرت عليه البارحة ، إذا جاء في أول الليل .
والأظهر أنها هي التي لم تلد؛ لأن المعروف من اسم البكر من إناث بني آدم : ما لم يَنْزُ عليها الفحل .
قوله : عَوَانٌ صفة ل « بقرة » ، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف أي : هي عَوانٌ كما تقدم في { لاَّ فَارِضٌ } [ البقرة : 68 ] والعوان : النَّصَف ، وهو التوسُّط بين الشيئين ، وذلك أقوى ما يكون وأحسنه؛ قال : [ الوافر ]
574 .. نَوَاعِمُ بَيْنَ أَبْكَارٍ وَعُون
وقال الشاعر يصف فرساًك [ الطويل ]
575 كُمَيْتٍ بَهِيمٍ اللَّونِ لَيْسَ بِفَارضٍ ... وَلاَ بِعَوانٍ ذَاتِ لَوْنٍ مُخَصَّفِ
« فرس أخصف » إذا ارتفعَ الْبَلَق من بطنه إلى جنبه ، ويقال للنخلة الطويلة : عوان ، وهي فيما زعموا لغة عَانِيَة ، حكاه القرطبي .
وقيل : هي التي ولدت مرة بعد أخرى منه « الحرب العوان » أي التي جاءت بعد حرب أخرى؛ قال زهير : [ الطويل ]
576 إِذَا لَحِقَتْ حَرْبٌ عَوَانٌ مُضِرَّةٌ ... ضَرُوسٌ تُهِمرُّ النَّاسَ أَنْيَابُهَا عُصْلُ
والعُوْن بسكون الواو الجمع ، وقد يضم ضرورة كقوله : [ السريع ]
577 . . في الأَكُفِّ اللاَّمِعَاتِ سُوُرْ
بضم الواو . ونظيره في الصحيح « قَذَال وقُذُل » و « حِمَار وحُمُر » .
قوله : « بين ذلك » صفة ل عوان « [ فهي ] في محلّ رفع ، ويتعلق بمحذوف ، أي : كائن بين ذلك ، و » بين « إنما تضاف لشيئين فصاعداً ، و جاز أن تضاف هنا إلى مفرد؛ لأنه يشار به إلى المُثَنَّى والمجموع؛ كقوله : [ الرمل ]
578 إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى ... وَكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ

كأنه قيل : بين ما ذكر من الفارض البكر . قال الزمخشري :
فإن قلت : كيف جاز أن يشار به إلى مؤنثين ، وإنما هو لإشارة المذكر؟
قلت : لأنه في تأويل ما ذكر وما تقدم ، وقال : وقد يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا ، قال أبو عبيدة : قلت لرؤبة في قوله : [ الرجز ]
579 فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
إن أردت الخطوط فقل : كأنها ، وإن أردت السواد والبَلَق فقل : كأنهما ، فقال : أردتُ : ذَاكَ وَلِكَ . والذي حسن منه أن أسماء الإشارة تثنيتها ، وجمعها ، وتأنيثهما ليست على الحقيقة ، وكذلك الموصولات ، ولذلك جاء « الذي » بمعنى الجمع واحتج بعض العلماء بقوله : « عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ » على جواز الاجتهاد ، واستعمال غلبة النَّص في الأحكام ، إذ لا يعلم أنها بين الفَارِض والبِكْر إلا من طريق الاجتهاد .
قوله : { مَا تُؤْمَرونَ } « ما » موصولة بمعنى « الذي » ، والعائد محذوف تقديره : تؤمرون به ، فحذفت الباء ، وهو حذف مطرد ، فاتصل الضمير فحذفت « الهاء » ، وليس هو نظير : { كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] فإن الحذف هناك غير مقيس .
ويضعف أن تكون « ما » نكرة موصوفة .
قال أبو البقاء : لأن المعنى على العموم ، وهو ب « الذي » أشبه ، ويجوز أن تكون مصدرية أي : أمركم بمعنى مأموركم ، تسمية للمفعول بالمصدر ك « ضَرْب الأمير » قاله الزمخشري .
و « تؤمرون » مبني للمعفول ، و « الواو » قائم مقام الفاعل ، ولا محلّ لهذه الجملة لوقوعها صلة .
صل في الغاية من وصف البقرة
والمقصود كون البقرة في أكمل أحوالها ، وذلك لأن الصَّغيرة تكون ناقصة؛ لأنها لم تصل إلى حالة الكمال ، والمُسِنّة صارت ناقصةً؛ لتجاوزها حَدّ الكمال ، والمتوسط هو الذي يكون في حال الكمال . قاله الثعلبي .
قوله : { مَا لَوْنُهَا } كقوله : « مَا هِيَ » .
وقرأ الضحاك : « لونها » بالنصب .
وقال أبو البقاء : لو قرىء : لَوْنَهَا « بالنصب لكان له وَجْهٌ ، وهو أن تكون » ما « زائدة كهي في قوله { أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ } [ القصص : 28 ] ويكون التقدير : يبين لنا لَوْنَهَا وهذا تجديد للأمر ، وتأكيد وتنبيه على ترك التعنّتن وهذا يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب ، ويدل على أن الأمر على الفور؛ لأنه تعالى ذمهم على التأخير بقوله : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] .
واستدل بعضهم على أن الأمر على التراخي؛ لأنه تعالى لم يعنفهم على التأخير والمُرَاجعة في الخطاب ، قاله القرطبي عن ابن خُوَيْزِمَنْداد .
قال الثعلبي : وقرأ الضحاك : » لونَهَا « بالنصب .
وأما » ما هي « فابتداء وخبر لا غَيْرُ ، إذ لا يمكن جعل » ما « زائدة؛ لأن » هي « لا يصح أن يكون مفعول » يبين « يعني : أنها بصيغة الرفع ، وهذا ليس من مواضع زيادة » ما « فلا حاجة إلى هذا .

واللَّوْن عبارة عن الحُمْرة والسَّوَاد ونحوهما ، واللَّوْن أيضاَ النَّوع ، وهو الدَّقَل نوع من النخل .
قال الأَخْفَشُ : « هو جماعة واحدها لِينَة » وفلان يَتَلَوَّنُ ، أي : لا يثبتُ على حال؛ قال الشاعر : [ الرمل ]
580 كُلَّ يَوْمٍ تَتَلَوَّنْ ... غَيْرُ هَذَا بِكَ أَحْمَلُ
و « صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا » يجوز أن يكون « فاقع » صفة ، و « لونها » فاعل به ، وأن يكون خبراً مقدماً و « لونها » مبتدأ مؤخر ، والجملة صفة ذكرهما أبو البقاء .
وفي الوجه الأول نظر ، وذلك أن بعضهم ذكر أن هذه التوابع للألوان لا تعمل عمل الأفعال .
فإن قيل : يكون العمل ل « صفراء » لا ل « فاقع » كما تقول : « مررت برجل أبيض ناصع لونه » ف « لونه » مرفوع ب « أبيض » لا ب « ناصع » .
فالجواب : أن ذلك هاهنا ممنوع من جهة أخرى ، وهو أن « صفراء » مؤنَث اللفظ ، ولو كان رافعاً ل « لَوْنُها » لقيل : أصفر لونها ، كما تقول : مررت بأمرأة أصفر لونها ، ولا يجوز : صفراء لونها؛ لأن الصفة كالفعل ، إلاَّ أن يقال : إنه لما أضيف إلى مؤنث اكتسب منه التأنيث ، فعومل معاملته كما سيأتي .
ويجوز أن يكون « لونها » مبتدأ و « تَسُرُّ » خبره ، وإنما أنث الفعل لاكتسابه بالإضافة معنى التأنيث؛ كقوله : [ الطويل ]
581 مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيهَا مَرٌّ الرِّياحِ النَّوَاسِمِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
582 وَتَشْرَقُ [ بَالقَوْلِ ] الَّذِي قَدْ أَذَعْتَهُ ... كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّم
أنّث فعل المَرِّ والصَّدْرِ لما أَضيفا لمؤنث ، وقرىء : { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } [ يوسف : 10 ] .
وقيل : لأن المراد باللَّون هنا الصُّفرة ، وهي مؤنّثة ، فحمل على المعنى في ذلك ، ويقال : أصفر فاقع ، وأبيض ناصع ، ويَقِقٌ ولَهِقٌ ولِهَاقٌ ، وأخضر ناضر ، وأحمر قانىء ، وأسود حالك وحائك وَحُلْكُوك ، ودَجُوجِيٌّ وغِرْبِيبُ ، وبَهِيم .
وقيل : « البهيم الخالص من كل لون » .
وبهذا يظهر أن « صفراء » على بابها من اللون المعروف لا سَوْدَاء كما قاله بعضهم : فإن الفُقُوع من صفة الأصفر خاصّة ، وأيضاً فإنه مجاز بعدي ، ولا يستعمل ذلك إلا في الإبل لِقُرْبِ سوادها من الصّفرة ، كقوله تعالى : { كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } [ المرسلات : 33 ] وقال [ الخفيف ]
583تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ وتِلْكَ رِكَابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أَوْلاَدُهَا كَالزَّبِيبِ
فإن قيل : هلاّ قيل : صفراء فاقعة؟ وأي فائدة في ذلك اللون؟
فالجواب : فائدته التأكيد؛ لأن اللون اسم للهَيْئَةِ ، وهي الصّفرة ، فكأنه قال : شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك : جدّ جدّه .
وعن وهب : إذا نظرت إليها خُيِّل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جِلْدِهَا ، فمعنى قوله : « تَسُرُّ النَّاظِرينَ » أي : يعجبهم حسنها وصَفَاءُ لونها ، لأن العين تسر بالنظر إلى الشيء الحسن .

قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه : من لبس نعلاً صفراء قلْ همه؛ لأن الله تعالى يقول : { صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ الناظرين } .
قال الكسائي؛ يقال : فَقَع لونها يَفْقَعُ فُقُوعاً ، إذا خَلَصَت صفرته ، والإفْقَاع : سوء الحال ، وفَوَاقِعُ الدهر : بَوَائِقُه ، وفَقَّع بأصابعه : إ ذا صوَّت ، ومنه حديث أبن عباس : « نَهَى عن التَّفقيع في الصلاة » ، وهي الفرقعة ، هي غَمْزُ الأصابع حتى تُنْقِض ، قاله القرطبي .
واختلفوا هل كانت جميعها صفراء حتى قُرونها وأظلآفها ، أو الصفرة المعتادة؟ قولان . وفي قوله « فاقع » لطيفة ، وهي أنه وصفها باسم الفاعل الذي هو نعت للدوام والاستمرار . يعني : في الماضي والمستقبل .
وفي قوله : « تَسُرُّ » لطيفةٌ ، وهي أنه أتى بصيغة المضارع وهو يقتضي التجدُّد والحدوث ، بخلاف الماضي .
وفي قوله : « النَّاظرين » آية لطيفة ، وهي أنه أتى بصيغة الجمع المُحَلّى بالألف واللام ، ليعمّ كلّ ناضر منفردين ومجتمعين .
وقيل : المراد بالنظر نظر البصر للمرء والمرأة أو المراد به النظر بعين اليقين ، وهو التفكر في المخلوقات .
قوله : { تَسُرُّ الناظرين } جلمة في محل رفع صفة ل « بقرة » أيضاً ، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون خبراً عن « لونها » بالتأويلين المذكورين .
و « السرور » لذّة في القلب عند حصول نفع أو توقّعه ، ومنه [ السرير ] الذي يُجْلس عليه إذا كان لأولي النعمة ، وسرير الميت تشبيهاً به في الصورة وتفاؤلاً بذلك .
قوله : { ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِيَ } تقرير للسؤال عن حالها وصفتها ، واستكشاف زائد ، ليزدادوا بياناً لوصفها ، وفي مصحف عبد الله : « سل لنا ربك يبين لنا ما هي؟ وما صفتها » .
قوله : { إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا } البَقَر : اسم إن ، وهو اسم جنس كما تقدم .
وقرأ محمد ذو الشامة الأموي : « إنّ البَاقِرَ » وهو جمع البَقَر ك « الجَامِل » جماعة الجَمَل؛ قال الشاعر : [ الكامل ]
584 مَالِي رَأَيْتُكَ بَعْدَ عَهْدِكَ مُوحِشاً ... خَلِقاً كَحَوْضِ البَاقِرِ المُتَهَدِّمِ
قال قطرب : « يقال لجمع البقرة : بَقَر وبَاقِر وبَاقُور وبَيْقُور » .
وقال الأَصْمَعِيّ : « الباقر » جمع باقرة ، قال : ويجمع بقر على بَاقُورة ، حكاه النّحاس .
قال القرطبي : والباقر والبقر والبيقور والبقير لُغَات بمعنى واحد والعرب تذكره وتؤنثه ، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في « تشابه » .
و « تشابه » جملة فعلية في محلّ رفع خبر ل « إن » ، وقرىء : « تَشَّابَهُ » مشدَّداً ومخفَّفاً ، وهو مضارع الأصل : « تَتَشَابَهُ » بتاءين ، فَأُدْغِمَ تارةً ، وحذف منه أخرَى ، وكلا الوجهين مقيس .
وقرىء أيضاً : « يَشَّابَهُ » بالياء من تحت ، [ وأصله : يَتَشَابَهُ فأدغم أيضاً ، وتذكير الفعل وتأنيثه جائزات؛ لأن فاعله اسم جنس ] وفيه لغتان : التذكيرُ والتأنيثُ ، قال تعالى :

{ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] فَأَنَّث ، و { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] فذكر ، وقيل : ذكر الفعل لتذكير لفظ « البقرة » ؛ كقوله : { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } .
وقال المبرِّد : سئل سِيبَوَيْهِ عن هذه الآية ، فقال : « كل جمع حروفه أقل من حروف وَاحِده ، فإن العرب تذكره » ؛ واحتج بقول الأعشى : [ البسيط ]
585 وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلْ ... [ وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أيُّهَا الرَّجُلُ ]
ولم يقل : « مرتحلون » .
وفي « تشابه » قراءاتك « تَشَابَهَ » بتخفيف الشين وفتح الباء والهاء ، وهي قراءة العامة . و « تَتَشَابَه » بتاءين على الأصل .
و « تَشَّبَّه » بتشديد الشين والباء من غير ألف ، والأصل : تَتَشَبَّهُ .
و « تَشَابَهَتْ » على وزن « تَفَاعلت » وهو في مصحف أُبَيّ كذلك أَنّثه لتأنيث البقرة .
و « مُتَشَابِهَة » و « مُتَشَبِّهة » على اسم الفاعل من تشابه وتشبّه . وقرىء : « تَشَبَّهَ » ماضياً .
وقرأ ابن أبي إسحاق : « تَشَّابَهَتْ » بتشديد الشين ، قال أبو حاتم : هذا غلط ، لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلاّ في المضارع . . وهو معذور في ذلك .
وقرىء : « تَشَّابَهَ » كذلك ، إلاّ أنه بطرح تاء التأنيث ، ووجهها على إشكالها أن يكون الأصل : إن القرة تشابهت ، فالتاء الأولى من البقرة و [ التاء ] الثانية من الفعل ، فلما اجتمع مثلان أدغم نحو : الشجرة تمايلت ، إلاّ أنه يُشكِل أيضاً في تَشَّابَه من غير تاء؛ لأنه كان يجب ثبوت علامة التأنيث .
وجوابه : أنه مثل : [ المتقارب ]
586 .. وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
مع أن ابن كيسان لا يلتزم ذلك في السّعَةِ .
وقرأ الحسنك « تَشَابَهُ » بتاء مفتوحة وهاء مضمومة وتخفيف الشين أراد : تتشابه .
وقرأ الأعرج : « تَشَّابَهُ » بفتح التاء وتشديد الشين وضمّ الهاء على معنى : تتشابه .
وقرأ مجاهد : « تَشَّبَّه » كقراءة الأعرج ، إلا أنه بغير ألف . ومعنى الآية : [ التلبيس ] والتشبه .
قيل : إنما قالوا : « إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا » أي : اشتبه أمره علينا ، فلا نهتدي إليه؛ لأن وجوه البقر [ تتشابه ] يريد : أنها يشبه بعضها بعضاً ، ووجوه البقر تتشابه .
قوله : { إِن شَآءَ الله } هذا شرط جوابه محذوف لدلالة « إنْ » ، ما في حيّزها عليه ، والتقدير : إن شاء الله هِدَايتنا للبقرة ، اهتدينا ، ولكنهم أخرجوه في جملة اسمية مؤكدة بحرفي تأكيد مبالغة في طلب الهِدَاية ، واعترضوا بالشرط تيمُّناً بمشيئة الله تعالى . « المهتدون » اللام : لام الابتداء داخلة على خبر « إن » .
وقال أبو البقاء : جواب الشرط « إن » وما عملت فيه عند سيبويه .
وجاز ذلك لما كان الشرط متوسطاً ، وخبر « إنَّ » هو جواب الشرط في المعنى ، وقد وقع بعده ، فصار التقدير : إن شاء الله هدايتنا اهتدينا .
وهذا الذي قاله لا يجوز ، فإنه متى وقع جواب الشرط ما لا يصلح أن يكون شرطاً وجب اقترانه بالفَاءِ ، وهذه الجملة لا تصلح أن تقع شرطاً ، فلو كانت جواباً لزمتها الفاء ، ولا تحذف إلا ضرورة ، ولا جائز أن يريد أبو البقاء أنه دالّ على الجواب ، وسماه جواباً مجازاً؛ لأنه جعل ذلك مذهباً للمبرد مقابلاً لمذهب سيبويه فقال : وقال المبرد : والجواب محذوف دلت عليه الجملة؛ لأن الشرط معترض ، فالنية به التأخير ، فيصير كقولك : أنت ظالم إن فعلت .

وهذا الذي نقله عن المبرد هو المنقول عن سيبويه ، والذي نقله عن سيبويه قريبٌ مما نقل عن الكوفيين وأبي زيد من أنه يجوز تقديم جواب الشَّرْط عليه ، وقد ردّ عليهم البصريون بقول العرب : « أنت ظالم إن فعلت » .
إذ لو كان جواباً لوجب اقترانه بالفاء لما ذكرت ذلك .
وأصل « مُهْتَدُون » : « مُهْتَدِيُون » ، فأعلّ بالحذف ، وهو واضح .
فصل في الاستثناء بالمشيئة
قال الحسن رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وَالَّذِي نَفْسَ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لَمْ يَقُولُوا : إنْ شَاءَ اللهُ لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا أَبَداً » .
واعلم أن التلّفظ بهذه الكلمة مندوب إليه في كلّ عمل يراد تحصيله ، قاله تعالى : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً 0 إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الكهف : 23 ، 24 ] .
وفيه استعانة بالله وتفويض الأمور إليه ، والاعتراض بقدرته .
فصل في الإرادة الكونية
احتج أهل السُّنة بهذه الآية على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى .
وعند المعتزلة أن الله تعالى لما أمرهم بذلك ، فقد أراد اهتداءهم لا مَحَالَة ، وحينئذ لا يبقى لقولهم : « إنْ شاء الله » فائدة .
قال ابن الخطيب : أما على قول أصحابنا ، فإن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد فحينئذ يبقى لقولهم : « إن شاء الله » فائدة .
فصل في مذهب المعتزلة في المشيئة
احتج المعتزلة بهذه الآية على أن مشيئة الله تعالى محدثة من وجهين :
الأول : أن دخول حرف « إن » يقتضي الحدوث .
الثاني : أنه تعالى علّق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء ، فلم لم يكن حصول الاهتداء أزليًّا وجب ألاّ تكون مشيئة الاهتداء أزلية .
فصل في تقدير المشيئة
ذكر القفال في تقدير هذه المشيئة وجوهاً :
أحدها : وإنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيل أوصافها المميزة لها عن غيرها .
وثانيها : وإنا إن شاء الله تعريفها إيَّانا بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها .
وثالثها : وإنا إن شاء الله على هدى ، أي : في استقصائنا في السّؤال عن أوصاف البقر ، أي إنّا لسنا على ضلالة فيما نفعل من هذا البحث .
ورابعها : إنا بمشيئة الله نَهْتَدِي للقاتل إذا وصفت لنا هذه البقرة بما تمتاز به عن غيرها .

قال القرطبي : وفي هذا الاستثناء إنابةٌ وانقياد ، ودليل نَدَم على عدم موافقة الأمر . وتقدير الكلام : وإنما لمهتدون إن شاء الله .
فقدم على ذكر الاهتداء اهتماماً به .
قوله : { إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ } المشهور « ذَلُولٌ » بالرفع على أنها صفة ل « بقرة » ، وتوسطت « لا » للنفي كما تقدم في « لاَ فَارِض » ، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : لا هي ذلول ، والجملة من هذا المبتدأ أو الخبر في [ محل ] رفع صفة ل « بقرة » .
وقرىء : « لاَ ذَلُولَ » بفتح اللام على أنها « لا » التي للتَّبرئة والخبر محذوف تقديره : لا ذلولَ ثَمَّ أو ما أشبهه ، وليس المعنى على هذه القراءة ، ولذلك قال الأخفس : « لا ذلول نعت ، ولا يجوز نصبه » .
و « الذَّلول » : التي ذُلِّلَت بالعمل ، يقال : بقرة ذَلُوث بَيِّنَةٌ الذِّل بكسر الذال ، ورجل ذَليل : بين الذُّل بضمّها ، وقدم عند قوله : { الذلة } [ البقرة : 61 ] .
[ قوله ] : { تُثِيرُ الأرض } في هذه الجملة أقوال كثيرة : أظهرها : أنها في محلّ نصب على الحال من الضمير المستكن في « ذلول » تقديره : لا تُذَلُّ حال إثارتها .
وقال ابن عطية : وهي عند قوم جملة في موضع الصفة ل « بقرة » أي : لا ذلولٌ مثيرة .
وقال أيضاً : « ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال ، لأنها نكرة » .
أما قوله : في موضع الصفة فإنه يلزم منه أن البقرة كانت مثيرة للأرض ، وهذا الم يقل به الجمهور ، بل قال به بعضهم ، وسيأتي إن شاء الله .
وأما قوله : لا يجوز أن تكون حالاً يعني من « بقرة » ؛ لأنها نكرة .
فالجواب : أنَّا لا نسلم أنها حال من « بقرة » ، بل من الضمير في « ذلول » كما تقدم ، أو تقول : بل هي حال من النكرة؛ لأن النكرة قد وصفت وتخصصت بقوله : « لا ذَلُول » ، وإذا وصفت النكرة ساغ إتيان الحال منها اتفاقاً .
وقيل : إنها مستأنفة ، [ واستئنافها على وجهين :
أحدهما : أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي تثير .
والثاني : أنها مستأنفة ] بنفسها من غير تقدير مبتدأ ، بل تكون جملة فعلية ابْتُدِىءَ بها لمجرد الإخبار بذلك . وقد منع من القول باستئنافها جماعة منه الأخْفَشُ عليّ بن سليمان ، وعلل ذلك بوجهينك
أحدهماك أن بعده : « وَلاَ تَسْقِي الحَرْثَ » فلو كان مستأنفاً لما صحّ دخول « لا » بينه وبين « الواو » .
والثّانيك إنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها ، والله تعالى نفى عنها ذلك بقوله : « لا ذَلُول » وهذا المعنى هو الذي منع أن يكون « تُثِير » صفة ب « بقرة » ؛ لأن اللازم مشترك ، ولذلك قال أبو البقاء : ويجوز على قول مَنْ أثبت هذا الوجه [ يعني : كونه تثير الأرض ولا تسقي أن تكون « تثير » في موضع رفع صفة ل « بقرة » .

وقد أجاب بعضهم عن الوجه الثاني ] ، فإن إثارة الأرض عبارة عن مَرَحِهَا ونَشَاطِهَا؛ كما قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
587 يُهِيلُ ويُذْرِي تُرْبَهُ وَيُثِيرُهُ ... إِثَارَةَ نَبَّاثِ الهَوَاجِرِ مُخْمِسِ
أي : تثير الأرض مرحاً ونشاطاً لا حَرثاً وعملاً .
وقال أبو البقاء : وقيل : هو مستأنف ، ثم قال : وهو بعيد عن الصّحة لوجهين :
أحدهما : أنه عطف عليه قوله : « وَلاَ تَسْقِي الحَرْثَ » ، فنفى المعطوف ، فيجب أن يكون المعطوف عليه كذلك؛ لأنه في المعنى واحد ، ألا ترى أنك لا تقول : مررت برجل قائم ولا قاعد ، بل تقول : لا قاعد بغير واو ، كذلك يجب أن يكون هذا .
وذكر الوجه الثاني لما تقدم ، وأجاز أيضاً أن يكون « تثير » في محلّ رفع صفة ل « ذلول » ، وقد تقدم خلاف هل يوصف الوصف أم لا؟
فهذه ستة أوجه تلخيصها : أنها حال من الضمير في « ذَلُول » ، أو من « بقرة » ، أو صفة ل « بقرة » ، أو ل « ذلول » ، أو مستأنفة بإضمار مبتدأ ، أو دونه .
قوله : { وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } الكلام فيه هذه كالكلام فيما قبلها من كونها صفة ل « بقرة » ، أو خبر لمبتدأ محذوف .
وقال الزمخشري : و « لا » الأولى للنفي يعني الدَّاخلة على « ذلول » .
والثانية مزيدة لتأكيد الأولى؛ لأن المعنى : لا ذلول تثير [ الأرض ] وتسقي ، على أن الفعلين صفتان ل « ذَلُول » ، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية .
وقرىء : « تُسْقى » بضم التاء من « أَسْقى » .
وإثارة الأرض : تحريكها وبَحْثُهَا ، ومنه : { وَأَثَارُواْ الأرض } [ الروم : 9 ] أي : بالحَرْث والزراعة ، وفي الحديث : « أَثِيرُوا القُرْآنَ فَإِنَّهُ عِلْمُ الأَوَّلِينَ وَالأَخِرِينَ » .
وفي رواية : « مَنْ أَرَادَ العِلْمَ فَلْيُثوِّرِ القُرْآن » .
وجملة القول أن القرة لا يكون بها نَقْص ، فإن الذلول بالعمل لكونها تثير الأرض ، وتسقي الحرث لابد وأن يظهر بها النقص .
قال القرطبي : قال الحسن : وكانت تلك البقرة وَحْشٍية ، ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض ، ولا تسقي الحرث .
وقال : الوقف هاهنا حسن .
و « مُسَلَّمة » قيل : من العيوب مطلقاً .
وقيل : من آثار العمل المذكور .
وقيل : مسلمة من الشّبه التي هي خلاف لونها ، أي : خلصت صُفْرتها عن اختلاط سائر الألوان بها ، وهذا ضعيف؛ لأن قوله : « لاَ شِيَةَ فِيهَا » يصير تكراراً .
و « شِيَة » : مصدر وَشَيْتُ الثوب أَشِيه وَشْياً وَشِيَةً ، حذفت فاؤها؛ لوقوعها بين ياء وكيرة في المضارع ، ثم حمل باقي الباب عليه ، ووزنها « عِلَةٌ » ومثلها :
« صِلَةٌ وعِدَةٌ وَزِنَة » .

وهي عبارة عن اللُّمْعَة المخالفة للون ، ومنه : ثوب مَوْشِيٌّ : أي : منسوج بلونين فأكثر ، وثور مَوْشِيٌّ القَوَائِم ، أي : أَبْلَقُهَا؛ قال : [ البسيط ]
588 مِنْ وَحْشِ وَجْرَةً مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ ... طَاوِي المَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ
ومنه : الواشي للنَّمَّام؛ لأنه يَشِي حديثه ، أي يزينه ويخلطه بالكذب .
وقال بعضهم : ولا يقال له وَاشٍ حتى يغير كلامه ويزينه .
ويقال : ثور أَشْيَهُ ، وفرس أَبْلَقُ ، وكمَبْش أخْرَجُ ، وتَيْس أَبْرَق ، وغُراب أَبْقَع ، كل ذلك بمعنى البلقة .
و « شية » اسم « لا » ، و « فيها » خبرها .
فصل في ضبط الحيوان بالصفة
دلت هذه الآيات على ضَبْطِ الحيوان بالصفة ، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السَّلَمُ فيه ، وكذلك كل ما ضبط بالصفة .
وقال عليه الصلاة والسلام :
« لاَتَصِفُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا » فجعل عليه الصلاة والسلام الصّفة تقدم مقام الرؤية .
قوله : { الآن جِئْتَ } الآن منصوب ب « جئت » ، وهي ظَرْف للزّمان يقتضي الحال ، ويخلص المضارع له عند جمهور النّحاة .
وقال بعضهم : هذا هو الغالب ، وقد جاء حيث لا يمكن أن يكون للحال ، كقوله : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن } [ الجن : 2 ] { فالآن بَاشِرُوهُنَّ } [ البقرة : 187 ] فلو كان يقتضي لحال لما جاء مع فعل الشرط والأمر اللذين هما نصّ في الاستقبال ، وعبر عنه هذا القائل بعبارة تُوافق مذهبه وهي : « الآن » لوقت حصر جميعه أو بعضه يريد بقوله : « أو بعضه » نحو : « فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ » ، وهو مبني .
واختلف في علّة بنائه : فقال الزَّجَّاج : لأنه تضمن معنى الإشارة؛ لأن معنى أفعل الآن ، أي : هذا الوقت .
وقيل : لأنه أشبه الحرف في لزوم لَفْظ واحد ، من حيث إنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمع ولا يصغّر .
وقيل : لأنه تضمّن معنى حرف التعريف ، وهو الألف واللام ك « أمس » ، وهذه الألف واللام زائدة فيه بدليل بنائه ، و لم يُعْهَد مُعرفٌ ب « أل » إلا معرباً ، ولزمت فيه الألف واللام كما لزمت في « الذي والّتي » وبابهما ، ويعزى هذا للفارسي ، وهو مردود بأن التضمين اختصار ، فكيف يختصر الشيء ، ثم يؤتى بمثل لفظه .
وهو لازم للنظر فيه ، ولا يتصرف غالباً ، وقد وقع مبتدأ في قوله عليه الصلاة والسلام : « فَهُوَ يَهْوِي في قَعْرِهَا الآنَ حِينَ انْتَهَى » .
ف « الآن » مبتدأ ، وبني على الفتح لما تقدم ، و « حين » خبره ، بُنِيَ لإضافته إلى غير متمكّن ، ومجروراً في قوله :
589 أَإِلَى الآنِ لاَ يَبِينُ ارْعِوَاءُ .. . .
وادعى بعضهم إعرابه مستدلاً بقوله : [ الطويل ]
590 كَأَنَّهُمَا مِلآنِ لَمْ يَتَغَيَّرا ... وَقَدْ مَرَّ لِلدَّارَيْنِ مِنَ بَعْدِنَا عَصْرُ

يريد : « مِنَ الآنِ » فجره بالكسرة ، وهذا يحتمل أن يكون بني على الكسر ، وزعم الفراء أنه منقول من فعل ماضي ، وأن أصله « آنَ » بمعنى : « حان » فدخلت عليه « أل » زائدة ، واسْتُصْحِب بناؤه على الفَتْح ، وجعله مثل قولهم « ما رأيته من شب إلى دُبَّ » .
وقوله عليه الصلاة والسلام : « وأنْهَاكُمْ عَنْ قِيلٍ وَقَال » .
ورد عليه بأن « أل » لا تدخل على المنقول من فعل ماض ، وبأنه كان ينبغي أن يجوز إعرابه كنظائره .
وعنه قول آخر أن أصله « أوان » فحذفت الألف ، ثم قلبت الواو ألفاً ، فعلى هذا ألفعه عن واو .
وأدخله الرَّاغب في باب « أين » ، فتكون ألفه عن « ياء » . والصواب الأول .
وقرىء : قالوا : ألآن بتحقيق الهمزة من غير نَقْل ، وهي قراءة الجمهور .
و « قَالُ : لأنَ » بنقل حركة الهمزة على اللام قبلها ، وحذف الهمزة ، وهو قياس مطّرد ، وبه قرأ نافع وحمزة باختلاف عنه .
و « قَالُوا : لآنَ » بثبوت « الواو » من « قالوا » ؛ لأنها إنما حذفت لالتقاء السكانين ، وقد تحركت « اللام » لنقل حركة « الهمزة » إليها ، واعتدوا بذلك كما قالوا في الأحمر « مَحْمَر » .
وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى في { عَاداً الأولى } [ النجم : 50 ] ويحكى وجه رابع « قَالُوا : آلآنَ » بقطع همزة الوصل ، وهو بعيد ، و « بِالحَق » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون باء التَّعدية كالهمزة كأنه قيل : « أَجَأْتَ الحق » ، أي : ذكرته .
الثاني : أن يكون في محلّ نصب على الحال من فاعل « جئت » أي : جئت ملتبساً بالحق ، أو « ومعك الحق » .
فصل في تحقيق أنهم لم يكفروا
قال القاضي : قولهم : « الآن جِئْتَ بِالْحَقِّ » كفر من قِبَلِهم لا محالة؛ لأنه يدل على أنهم اعتقدوا فيما تقدم من الأوامر أنها ما كانت حقّة .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به حتى تميزت من غيرها فلا يكون كفراً .
قوله : « فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ » أي : فذبحوا البقرة . و « كَادُوا » كاد واسمها وخبرها ، والكثير في خبرها تجرده من « أن » .
وشذ قوله : [ الرجز ]
591 قَدْ كَادَ مِنْ طُولٍ الْبِلَى أَنْ يَمْصَحَا ... وهي عكس « عسى » وذكروا ل « كاد » تفسيرين :
أحدهما : قالوا : نفيها إثبات وإثباتها نفي ، فقوله : كاد يفعل كذا ، معناه : قرب من أن يفعل ، لكنه ما فعله .
والثاني : قال عبدالقاهر النحوي : إن « كاد » لمقاربة الفعل ، فقوله : « كاد يفعل » [ معناه ] قرب من فعله .
وقوله : « ما كاد يفعل » معناه : ما قرب منه .

وللأولين أن يحتجوا بهذه الآية؛ لأن قوله : « ومَا كَادُوا » معناه ما قاربوا الفعل ، ونفى المقاربة من الفعل يناقض إثبات وقوع الفعل ، فلو كانت « كاد » للمقاربة لزم وقوع التناقض في الآية ، وقد تقدم الكلام معلى كاد عند قوله : { يَكَادُ البرق } [ البقرة : 20 ] .
فصل في النسخ بالأشقّ
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لو ذبحوا آيّة بقرة أرادوا لأجزأت عنهم؛ لكنه شددوا على أنفسهم ، فشدد الله تعالى عليهم ، فعلى هذا نقول : التكاليف متغيرة فكلفوا في الأول أية بقرة كانت ، فلما لم يفعلوا كلفوا بأن تكون لا فارضاً ولا بكراً ، قيل : عَوَان ، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون صفراء ، فلما لم يفعلوا كُلِّفوا أن تكون مع ذلك لا ذَلُول تثير الأرض ولا تسقي الحرث؛ لأنه قد ثبت أنه لا يجوز تأخير البيان ، فلا بد من كونه تكليفاً بعد تكليف وذلك يدلّ على نسخ الأسهل بالأشقّ على جواز النسخ قبل الفعل ، وعلى وقوع النسخ في شرع موسى عليه الصلاة والسلام وعلى أن الزيادة على النصح نسخ ، وعلى حسن التكليف ثانياً لمن عصى ولم يفعل ما كلف أولاً ، وعلى أن الأمر للوجوب والفور؛ لأنه تعالى ذمَّ التثاقل فيه ، والتكاسل في الاشتغال بمقتضاه ، ولم يوجد في هذه الصورة إلا مجرد الأمر .
قال القاضي : إنما وجب؛ لأن فيه إزالة شرّ وفتنة ، فأمر تعالى بذبح البقرة ، لكي يظهر القاتل ، فيزول الشَّر والفتنة ، فلما كانت المصلحة في هذا الفعل صار واجباً .
وقال بعضهم : إما أمروا بذبح بقرة معيّنة في نفسها ، فلذلك حسن موقع سؤالهم لأن المأمور به إذا كان مجملاً حسن الاستفسار والاستعلام ، وعلى القول الأول لا بُدّ من بيان ما الذي حملهم على [ هذا ] الاستفسار؟
فقيل : إن موسى عليه الصلة والسلام لما أمرهم بذبح بقرة وأن يضربوا القتيل ببعضها فيصير حيًّا تعجبوا من ذلك ، وظنوا أنّ تلك البقرة التي لها هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة فلا جرم استقصوا في السؤال عنها كَعَصا موسى المخصوصة من بين سائر العصِيّ بتلك الخواص ، إلاّ أن القوم أخطئوا في ذلك؛ لأن هذه الآية العجيبة ما كانت خاصة للبقرة ، بل كانت معجزة يظهرها الله تعالى على يد موسى عليه الصلاة والسلام .
وقيل : لعلّ القوم أردوا أَيَّ بقرة معينة لا مطلق البقرة ، فلما وقعت المنازعة رجعوا عند ذلك إلى موسى عليه الصلاة والسلام .
قال القُشيريّ في تفسيره : قيل : إن أوّل من راجع موسى عليه الصَّلاة والسلام في البحث عن البقرة القاتل خوف أن يفتضح ، وقد وجدت تلك البقرة عند الشّاب .
وقيل : إن الخطاب الأول للعموم ، إلاَّ أن القوم أرادوا الاحتياط فيه ، فسألوا طلباً لمزيد البيان ، وإزالة سائر الاحتمالات إلاّ أن المصلحة تغيرت ، واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة .

وقيل : كان سؤالهم تقديراً من الله عز وجلّ وحكمة ، ومصلحة لصاحب البقرة ، فإنه يروى أن رجلاً صالحاً من بني إسرائيل كان له ولد بارّ ، وكان له عجلة فأتى بها غَيْضَة وقال : اللّهم إن استودعتكها لابْنِي حتى يكبر ، ثم مات الأب فشبّت ، وكانت من أحسن البقر [ وأتمّها ] وهي البقرة التي وصفها الله لهم فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مَسْكِها ذهباً ، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير .
ذكر مكي : أن هذه البقرة نزلت من السماء ، ولم تكن من بقر الأرض قاله القرطبي . وزاد المارودي : ثم فرق ثمنها على بني إسرائيل ، فأصاب كل فقير دينارين ، وروي أنهم طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة .
فصل في سبب تثاقلهم
اختلفوا في السبب الذي كان لأجله « ما كادوا يفعلون » ، فقيل : لأجل غلاء ثمنها ، وقيل : لخوف الشهوة والفضيحة ، وعلى كلا القولين فالإحْجَام عن المأمور به غير جائز .
أما الأول فلأن ذبح البقرة ما كان يتمّ إلا بالثمن الكثير فوجب؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، إلاّ أن يدل دليل على خلافه .
وأما خوف الفضيحة فلا يدفع التكليف ، فإن القَوَدَ إذا وجب عليه لزمه تسليم النفس من وليّ الدم إذا طالب ، وربما لزمه التعويض ليزول الشر والفتنة ، وإنما لزمه ذلك لتزول التّهمة عن القوم الذين طرحوا القتيل بالقرب منهم ، لأنه الذي عرضهم إليه ، فيلزمهم أزالتها ، فكيف يجوز جعله سبباً للتَّثَاقُلِ في هذا الفعل .
قوله تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا } .
أعلم أن وقوع ذلك القتل كان متقدماً على الأمر بالذبح ، فأما الإخبار عن وقع ذلك القتل ، وعن ضرب القتيل ببعض البقرة ، فلا يجب أن يكون متقدماً في التلاوة في الأول؛ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود ، فأما التقدم في الذكر فغير واجب؛ لأنه تارة يتقدّم ذكر السبب على الحكم ، وتارة على العكس ، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم الله تعالى بذبح البقرة فلما ذبحوها قال : وإذا قتلتم نفساً من قبل ، واختلفتم وتنازعتم ، فإني أظهر لكم القاتل الذي [ سترتموه ] بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة .
وذلك مستقيم والواو لا تقتضي الترتيب .
قال القرطبي : { حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين } [ هود : 40 ] إلى قوله « إِلاَ قَلِيْلٌ » فذكر أهلاك من هلك منهم ، ثم عطف عليه بقول : { وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [ هود : 41 ] فذكر الركوب متأخراً ، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك ، ومثله في القرآن كثير ، قال تعالى : { الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا 0 قَيِّماً }

[ الكهف : 1 ، 2 ] أي : أنزل على عبده الكتاب قَيِّماً ولم يجعل له عوجاً فإن قيل [ هب أنه ] لا خلل في هذا النظم [ ولكن النظم ] الآخر كان مستحسناً ، فما فائدة في ترجيح هذا النظم؟
قلنا : إنما قدمت قصة الأمر بالذبح على ذلك القتل؛ لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ، ولو كانت قصة واحدة لذهب الغرض من تثنية التفريع .
فصيل في نسبة القتل إلى جميعهم
« فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا » فعل وفاعل ، والفاء للسببية؛ لأن التَّدَارُؤَ كان مسبباً عن القتل ، ونَسَبض القتل إلى الجميع ، وإن لم يصدر إلا من واحد أو اثنين كما قيل؛ لأنه وُجِد فيهم وهو مجاز شائع .
وأصل « ادّارأتم » : تدارأتم تَفَاعلتم من الدَّرْء هو الدّفع ، فاجتمعت « التاء » مع « الدال » وهي مُقارِبتها ، فأريد الإدغام فقلبت التاء دالاً ، وسكنت لأجل الإدغام ، ولا يمكن الابتداء بساكن ، فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بها فبقي « ادارأتم » ، والأصل ادْدَارأتم فأدغم ، وهذا مطرد في كل فعل على « تفاعل » أو « تفعّل » فاؤه دال نحو : « تَدَايَنَ وادَّايَنَ ، وتَدَيَّنَ وأدِّيَنَ » أو طاء ، أو ظاء ، أو صاداً ، أو ضاداً نحو : « تطاير واطَّايَر » وتطير واطّير [ وتظاهر واظَّاهر ، وتطهر واطَّهَّر ، والمصدر على التفاعل أو التفعّل نحو : تَدَارُؤ وتَطَهُّر ] نظراً إلى الأصل .
وهذا أصل نافع في جميع الأبواب .
معنى : « ادرأتم » : اختلفتم واختصمتم في شأنها .
وقيل : [ تدافعتم ] أي كل واحد ينفي القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره .
والكناية في قوله : « فيها » للنفس .
وقال القفال : ويحتمل إلى القتلة؛ لأن قوله : « قتلتم » يدل على المصدر .
قوله : « والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ » الله رفع بالابتداء و « مخرج » خبره ، و « ما » موصولة منصوبة المحل باسم الفاعل .
فإن قيل : اسم الفاعل لا يعمل بمعنى الماضي إلا محلّى بالألف واللام ،
فالجواب : أن هذه حكاية حال ماضية ، واسم الفاعل فيها غير ماض وهذا كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } [ الكهف : 18 ] .
والكسائي يُعْمِله مطلقاً ، ويستدل بهذا ونحوه . و « ما » يجوز أن تكون موصولة اسمية ، فلا بد من عائد ، تقديره : مخرج الذي كنتم تكتمونه ، ويجوز أن تكون مصدرية ، والمصدر واقع موضع المفعول به ، أي : مخرج مكتومكم وهذه الجملة لا محلّ لها من الاعراب؛ لأنها معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهما : « فَادَّارَأْتُمْ » وقوله : « فَقُلْنَا : اضْرِبُوهُ » قاله الزمخشري .
والضمير في : فاضربوه « يعود على » النفس « لتأويلها بمعنى الشخص والإنسان ، أو على القتيل المدلول عليه بقوله : » والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ « والجملة من » اضربوه « في محلّ نصب بالقول .
وفي الكلام محذوف والتقدير : قلنا : اضربوه ببعضها فضربوه ببعضها فحيي ، إلا أنه حذف ذلك لدلالة قوله : » يُحْيِي الله الموتى « عليه ، فهو كقوله :

{ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت } [ البقرة : 60 ] أي فضرب فانفجرت [ وقوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ } [ البقرة : 184 ] أي : فأفطر فعدّة ] وقوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } [ البقرة : 196 ] أي : فحلق ففدية .
فصل في بيان المضروب به
اختلفوا في البعض الذي ضربوا القتيل به .
فقيل : اللِّسَان ، لأنه آلة الكلام قال الضحاك والحسين بن الفَضْل .
وقال سعيد بن جُبَير : يعجب ذنبها قاله يمان بن رئاب وهو أولى؛ لأنه أساس البدن الذي ركب عليه الخلق ، وهو أول ما يخلف وآخر ما يبلى .
وقال مجاهد : بذنبها .
وقال عكرمة والكَلْبي : بخذها الأيمن .
وقال السَدّي : بالبَضْعة التي بين كتفيها .
وقيل : بأذنها .
وقال ابن عباس : بالعظم الذي يلي الغضروف ، وهو أصل الأذن [ وهو المقتل ] .
والأقرب أنهم كانوا مخيرين في أبعاض البقرة؛ لأنهم أمروا بضرب القتيل ببعض البقرة وأي بعض من أبعاض البقرة ضربوا القتيل به ، فإنهم ممتثلين الأمر ، والإتيان بالمأمور به يدل على الخروج عن العُهْدة .
وليس في القرآن ما يدل على تعيين ذلك البعض ، فإن ورد فيه خبر صحيح قُبِلَ ، وإلا وجب السكوت عنه .
فإن يل : ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أن الله تعالى قادر على أن يحييه ابتداء؟
فالجواب : أن الفائدة فيه لتكون الحُجّة أوكد ، وعن الحيلة أبعد ، فقد يجوز في العقل للملحد أن يوهمهم أن موسى عليه الصلاة والسلام إنما أحياه بضرب من السِّحر أو من الحيلة ، فلما حيي بالضرب بقطعة من البقرة المذبوحة فانتفت الشبّهة .
فإن قيل : هلا أمر بذبح غير البقرة؟
فالجواب : أن الكلام في غيرها لو أمروا به كالكلام فيها .
ثم ذكروا فيها فوائد :
أحدهما : التقريب بِالقَرَابِيْن التي كانت العادة بها جارية ، ولأن هذا القُرْبَان كان عندهم أعظم القرابين ، ولما فيه من مزيد الثواب لتحمل الكُلْفة في تحصيل هذه البقرة .
قيل : على غلاء ثمنها ، ولما فيه من حصول المال العظيم لمالك البقرة .
قوله : « كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى » « كذلك » في محلّ نصب؛ لأنه نعت لمصدر محذوف تقديره : يحيي الله الموتى إحياء مثل ذلك الإحياء ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : إحياء كائناً كذلك الإحياء ، أو لأنه حال من المصدر المعروف ، أي : ويريكم الإراءة حال كمونها مُشَبِهَةً ذلك الإحياء ، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه .
و « الموتى » جمع مَيِّت ، وفي هذه الإشارة وجهان :
أحدهما : أنها إشارة إلى نفس ذلك الميت .
والثاني : أنها احتجاج على صحّة الإعادة . قال الأصم : إنه على المشركين؛ لأنه إن ظهر لهم بالتَّوَاتر [ أن هذا الإحياء قد كان على هذه الوجه علموا صحّة الإعادة ، وإنن لم يظهر ذلك بالتواتر ] ، فإنه داعية إلى التفكُّر .

وقال القَفّال : ظاهره يدلّ على أن الله تعالى قال هذا لبني إسرائيل أي : إحياء الله الموتى يكون مثل هذا الذي شاهدتم؛ لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلاَّ أنهم لم يؤمنوا به إلاَّ من طريق الاستدلال ، ولم يشاهدوا شيئاً منه ، فإذا شاهدوه اطمأنت قلوبهم ، وانتفت عنهم الشّبهة ، فأحيا الله القتيلَ عياناً ، ثم قال لهمك كذلك يحيي الله المَوْتَى ، أي : كما أحياها في الدُّنيا يحييها في الآخرة من غير احتياج إلى مادّة ومثال وآلة التي لا يخلو منها المستدل .
قوله : « وَيُريكُمْ آيَاتِهِ » الرؤيا هنا بَصَرية ، فالهمزة للتعدية أكسبت الفعل مفعولاً ثانياً وهو « آياته » ، والمعنى : يجعلكم مُبْصرين آياته .
و « كم » هو المفعول الأول ، وأصل « يريكم » : يُأَرْإيكم ، فحذفت همزة « أفعل » في المضارعة لما تقدم في { يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 3 ] وبابه ، [ فبقي يُرْئيكم ] ، فنقلبت حركة الهمزة على « الراء » ، وحذفت « الهمزة » تخفيفاً ، وهو نقل لازم في مادة « رأى » وبابه دون غيره مما عينه همزة نحو : « نأى ينأى » ولا يجوز عدم النقل في « رأي » وبابه إلا ضرورة كقوله : [ الوافر ]
592 أُرِي عَيْنَيَّ مَالَمْ تَرْأَيَاهُ ... كِلاَنا عَلِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ
فصل في نظم الآية
[ القائل أن يقول ] : إن ذلك كان آية واحدة فلم سميت بالآيات؟
فالجواب : أنها تدلّ على وجود الصانع القادر على المقدورات العالم بكلّ المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع ، وعلى صدق موسى عليه الصَّلاة والسَّلام ت وعلى براءة من لم يقتل ، وعلى تعيين القاتل ، فهي وإن كانت آية واحدة إلا أنها لَمَّا دلت على [ هذه ] المدلولات الكبيرة لا جرم جرت مجرى الآيات .
قوله : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } تقدم تفسير العَقْل .
قال الواقديك كل ما في القرآن من قوله : « لَعَلَّكُمْ » فهو بمعنى « لكن » إلاّ التي في الشعراء : { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } [ الشعراء : 129 ] فإنه بمعنى لعلكم تخلدون فلا تموتون .
فإن قيل : القوم كانوا عقلاء قبل عرض هذه الآية عليهم ، وإذا كانوا عقلاء امتنع أن يقال : إني عرضت عليك ا لآية الفلانية لكي تصير عاقلاً [ فالجواب أنه ] لا يمكن إجراء الآية على ظاهرها ، بل لا بد من التأويل ، وهو أن يكون المراد : لعلكم تعلمون لعدم الاختصاص حتى لاينكروا المبعث
فصل في توريث القاتل
ذكر كثير من المتقدمين أن من جملة أحكام هذه الآية أن القاتل هل يرث أم لا؟
قالوا : لا ، لأنه روي عن عَبِيْدَةَ السَّلْمَاني أن الرجل القاتل في هذه [ الواقعة ] حرم الميراث لكونه قاتلاً .
قال القاضي : « لا يجوز جعل هذه المسألة من أحكام هذه الآية؛ لأنه ليس في ظاهر الآية أن القاتل هل كان وارثاً لقتيله أم لا » وبتقدير أن يكون وارثاً فهل حرم الميراث أم لا؟ وليس يجب إذ روي عن عبيدة أن القاتل حرم الميراث لكونه قاتلاً ، أي : بعد ذلك في جملة أحكام القرآن إذا كان لا يدلّ عليه لا مجملاً ولا مفصلاً ، وإذا كان كذلك لم يثبت أن شرعهم كشرعنا ، وأنه [ لا ] يلزم الاقتداء لهم .

واستدل مالك بهذه الآية على صحّة القول بالقَسَامَةِ بقول المقتول : حقّي عند فلان ، أو فلان قتلني .
ومنعه الشافعي وغيره؛ لأن قول القتيل : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني خبر يحتمل الصدق والكذب ، ودم المدعى عليه معصوم غير مباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاحتمال ، وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة فأخبر تعالى أنه يحييه ، وذكره يتضمن الإخبار بقاتله خبر ما لا يدخله الاحتمال .
قال ابن العربي : المعجزة إنما كانت في إحيائه ، فلما صار حيًّا صار كلامه كسائر كلام الناس .

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

قال القفال : يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب الذين كانوا في زمان محمد عليه الصلاة والسلام ، أي : اشتدت قلوبكم وقَسَت وضلّت من بعد البَيّنات التي جاءت أوائلكم ، والعقاب الذي نزل بمن أَصَرَّ على المعصية منهم ، والآيات التي جاءهم بها أنبياءهم ، فأخبر بذلك عن طُغْيَانهم ، وجَفَائهم على ماعندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب .
قال : لأنه خطاب مُشَافهة فَحَمْله على الحاضرين أولى ، ويحتمل أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمان موسى عليه الصلاة والسلام خصوصاً . وروي أن ذلك القتيل لما عين القاتل كذبه ، وما ترك الإنكار وساعده عليه جمع ، فتكون الإشارة لقوله بعد ذلك إلى ما أظهره الله تعالى من إحياء القتيل بِضَرْبِهِ ببعض البقرة المذبوحة . ويحتمل أن تكون الإشارة إلى جميع ما عدده الله تعالى من النعم العظيمة ، والآيات الباهرة التي آظهرها الله تعالى على يد موسى عليه الصلاة والسلام فإنّ أولئك اليهود بعد أن كثرت مشاهدتها لها ما خلوا من العِنَاد والاعتراض على موسى عليه الصَّلاة والسَّلام .
فإن قيل : لم أتى ب « ثم » التي تقتضى الترتيب والمُهْلة ، فقال : « ثم قست » ، وقال : « مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ » والبَعْدية لا تقتضي التعقيب ، وقلوبهم لم تزل قاسيةً مع رؤية مالآية وبعدها؟
فالجواب : أنه أتى ب « من » التي لابتداء الغاية فقال : من بعد ذلك فجعل ابتداء المقصود عقيب رؤية الآيات ، فنزلت المهلة .
وقال أبو عبيدة : « معنى قَسَتْ : جفت » .
وقال الواقدي : خفت من الشّدة فلم تكن .
وقال المؤرخ : « غلظت » .
وقيل : اسودت .
وقال االزجاج : « القَسْوة ذهاب اللّين والرحمة والخشوع والخضوع » .
قوله : « أَوْ أشَدُّ قَسْوَةً » « أو » هذه ك « أو » التي في قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ } [ البقرة : 19 ] فكل ما قبل ثمة يمكن القول به هنا ، ولما قال أبو الأسود : [ الوافر ]
593 أُحِبُّ مُحَمَّداً حُبًّا شَديداً ... وَعَبَّاساً وَحَمْزَةَ أَوْ عَلِيًّا
اعترضوا عليه في قوله : « أو » التي تقتضي الشك ، وقالوا له : أشككت؟ فقال : كلا ، واستدل بقوله تعالى : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ } [ سبأ : 24 ] فقال : أو كان شاكًّا من أخبر بهذا؟ وإنما قصد رحمه الله الإبهام على المخاطب .
قال ابن الخطيب : كلمة « أو » للتردد ، وهي لا تليق بعلاَّم الغيوب ، فلا بد من التأويل وهو من وجوه : أحدهما : أنها بمعنى « الواو » كقوله : { إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] وقوله : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ } [ النور : 31 ] وقوله : { أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ }

[ النور : 61 ] ومن نظائره قوله : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] .
وثانيها : أن المراد : فهي كالحجارة ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة .
[ وثالثها : أي : في نظركم واعتقادكم إذا طلعتم على أحوال قلوبهم قلتم : إنها كالحجارة أو أشدّ قسوة من الحجارة ] .
ورابعها : أن « أو » بمعنى « بل » ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
594 فَوَاللهِ مَا أَدْرِي أَسَلْمَى تَقَوَّلَتْ ... أَمِ النَّوْمُ أَو كُلُّ إِلَيَّ حَبِيبُ
وخامسها : أنه على حد قولك : « ما أكل إلا حلواً أو حامضاً » أي : طعامه لا يخرج عن هذين ، وليس الغرض إيقاع التردّد بل نفي غيرهما .
وسادسها : أن « أو » حرف إباحة ، أي : بأي هذين شبّهت قلوبهم كان صدقاً كقولهم : « جالس الحَسَنَ أو ابن سيرين » أي أيهما جالست كنت مصيباً أيضاً . و « أشَدّ » مرفوع لعطفه على محل « كَالحِجَارةِ » أي : فهي مِثْلُ الحجارة أو أشد . والكاف يجوز أن تكون حرفاً فتتعلّق بمحذوف ، وأن كون اسماً فلا تتعلّق بشيء ، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفاً أي : أو هي أشد .
و « قسوة » منصوب على التمييز؛ لأن الإبْهَامَ حصل في نسبة التفضيل إليهما ، والمفضل عليه محذوف للدلالة عليه ، أي : أشدّ قسوة من الحِجَارَةِ .
وقرىء : « أَشَدْ » بالفتح وَوَجْهُهَا : أنه عطفها على « الحجارة » أي : فهي كالحجارة أو [ كأشد ] منها .
قال الزمخشري موجهاً للرفع : و « أشد » معطوف على الكاف ، إما على معنى : أو مثل أشد ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وتعضده قراءة الأعمش بنصب الدال عطفاً على « الحجارة » ويجوز على ما قاله أن يكون مجروراً بالمضاف المحذوف ترك على حاله ، كقراءة : { والله يُرِيدُ الآخرة } [ الأنفال : 67 ] بجر « الآخرة » أي : ثواب الآخرة ، فيحصل من هذا أن فتحه الدال يُحتمل أن تكون للنصب ، وأن تكون للجر .
وقال الزمخشري أيضاً : فإن قلت : لم قيل : أشدُّ قسوة مما يَخْرُج منه « أفعل » التفضيل وفعل التعجب؟ يعني : أنه [ مستكمل ] للشروط من كونه ثلاثياً تاماً غير لون ولا عاهة متصرفاً غير ملازم للنفي .
ثم قال : قلت : لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة ، ووجهٌ آخر وهو الاّ يقصد معنى الأقسى ، ولكنه [ قصد ] وصف القسوة بالشدة ، كأنه « اشتدت قسوة الحجارة ، وقلوبهم أشد قسوة » .
وهذا الكلام حسن ، إلا أن كون « القسوة » جوز بناء التعجّب منها فيه نظر من حيث إنها من الأمور الخِلْقِية أو من العيوب ، وكلاهما ممنوع منه بناء البابين .
وقرىء : « قاسوة » .
فصل في أوجه شدة القسوة من الحجارة
إنما وصفها بأنها أشد قسوةً من الحجارة لوجوه :
أحدها : أن الحجارة لو كانت عاقلة ، ورأت هذه الآية لقبلتها كما قال : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله }

[ الحشر : 21 ] .
وثانيها : أن الحجارة ليس فيها امتناع لما يحدث فيها من أمر الله فقال : وإن كانت قاسيةً ، بل منصرفة على مراد الله تعالى غير ممتنعة ، وهؤلاء مع ما وصفنا في اتّصَال الآيات عندهم ، وتتابع نِعَمِ الله عليهم يمتنعون من الطاعة ، ولا تلين قلوبهم بمعرفة حق الله .
وثالثها : أن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه ، أما قلوب هؤلاء فلا نفع منها ألبتة .
فصل في الرد على المعتزلة
قال القاضي : إن كان الدَّوام على الكفر مخلوف فيهم ، فكيف يحسن ذمهم؟ فلو قال : إن الذي خلق الصَّلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القَسْوة ، والخالق في الأحجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكُفر بخلق الإيمان فينا ، فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجّتهم على موسى أَوْكد من حجّته عليهم ، وهذا النمط قد تكرر مراراً .
قوله : { وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار } .
واعلم أنه سبحانه وتعالى فَضَّل الحجارة على قلوبهم بأنه قد يحصل في الحجارة أنواع من المنافع ، ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع .
فأولها : قوله : « وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار » واللاّم في « لَمَا » لام الابتداء دخلت على اسم « إن » لتقدم الخبر ، وهو « من الحجارة » ، وهي « ما » التي بمعنى « الذي » في محلّ النصب ، ولو لم يتقدم الخبر لم يَجُزْ دخول اللام على الاسم؛ لئلاَّ يتوالى حَرْفاً تأكيد ، وإن كان الأصل يقتضي ذلك ، والضمير في « منه » يعود على « ما » حملاً على اللفظ .
قال أبو البقاء : ولو كان في غير القرآن لجاز « منها » على المعنى .
وهذا الذي قاله قد قرأ به أُبّي بن كعب والضحاك .
وقرأ مالك بن دينار « يَنْفَجِر » من الانفجار .
وقرأ قتادة : « وَإِنْ مِنَ الْحِجَارَةِ » بتخفيف « إنْ » من الثقيلة ، وأتى باللام فارقة بينها وبين « إن » النافية ، وكذلك : « وَإِنْ منْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ » و « إنْ مِنْهَا لَمَا يَهْبِط » ، وهذه القرءاة تحتمل أن تكون « ما » فيها في محل رفع وهو المشهور ، وأن تكون في محلّ نصب؛ لأن « إنْ » المخففة سمع فيها الإعمال والإهمال ، قال تعالى : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } [ هود : 111 ] في قراءة من قرأه .
وقال في موضع آخر : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا } [ يس : 32 ] إلا أن المشهور الإهمال .
والتفجير : الفتح بالسّعة والكثرة؛ يقال : انفجرت قرحة فلان أي : انشقت بالمدّة ، ومنه : الفَجْر والفُجُور .
فصل في تولد الأنهار
قالت الحكماء : الأنهار إنما تتولّد عن أَبْخِرَةٍ تجتمع في باطن الأرض ، فإن كان ظاهر الأرض رَخْواً انشقت تلك الأبخرة وانفصلت ، وإن كان ظاهر الأرض صلباً حجريّاً اجتمعت تلك الأَبْخِرَةُ ، ولا يزال يتصل بعضها ببعض حتى تكثر كثرة عظيمة ، فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مَدِّها أن تنشقّ الأرض ، وتسيل تلك المياه أوديةً وأنهاراً .

قوله : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء } أي : وإنَّ من الحجارة لما يتصدّع ، فينبع الماء منه فيكون عَيْناً لا نهراً جارياً .
و « يَشَّقَّقُ » أصله : يَتَشَقّق ، فأدغم وبالأصل قرأ الأعمش ، وقرأ طلحة بن مصرف : « لَمَّا بتشديد » الميم « في الموضعين قال ابن عطية : » وهي قراءة غير متّجهة « .
وقرأ أيضا : » ينشقّ « بالنون وفاعله ضمير » ما « .
وقال ابو البقاء : ويجوز أن يكون فاعله ضمير » الماء « لأن » يَشَّقَّقُ « يجوز أن يُجْعل ل » الماء « على المعنى ، فيكون معك فِعْلان ، فيعمل الثاني منهما في الماء ، وفاعل الأول مضمر على شريطة التفسير .
وعند الكوفيين يعمل الأول ، فيكون في الثاني ضمير ، يعني : أنه من باب التنازع ، ولا بد من حذف عائد من » يشقق « على » ما « الموصولة دلَّ عليه قوله : » منه « ، والتقدير : وإن من الحجارة لما يشقق الماء منه ، فيخرج الماء منه .
وقال أيضاً : ولو قرىء : » تتفجّر « بالتاء جاز . قال أبو حاتم : يجوز » لما تتفجر « بالتاء؛ لأنه أنثه بتأنيث الأنهار ، وهذا لا يكون في » تشقق « يعني التأنيث .
قال النَّحَّاس : يجوز ما أنكره على المعنى ، لأن المعنى : وإن منها الحجارة تتشقق يعني فيراعى به معنى » لما « ، فإنها واقعة على الحجارة .
قوله : » وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله « .
قال أبو مُسْلم : » الضمير في قوله : « وَإِنَّ مِنْها » راجع إلى « القلوب » ، فإنه يجوز عليهما الخَشْيَة ، والحجارة لا يجوز عليها الخَشْيَة . وقد تقدم ذكر القلوب كما تقدم ذكر الحجارة ، وأقصى ما في الباب أن الحجارة أقرب المذكورين إلاّ أنّ هذا الوصف ألْيَقُ بالقلوب من الحجارة ، فوجب رجوع الضمير إلى « القلوب » دون « الحجارة » ، وفيه بعد لتنافر الضّمائر .
وقال الجمهور المفسرين : الضمير عائد إلى « الحجارة » .
وقالوا : يجوز أن يكون حقيقة على معنى أن الله خلق فيها قَابِليَّةً لذلك ، وأن المراد من ذلك جَبَلُ موسى عليه الصلاة والسلام حين تقطع وتجلّى له ربه ، وذلك لأن الله تعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدْرَاك ، وهذا غير مستعبد في قدرة الله تعالى .
ونظيره قوله تعالى : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ فصلت : 21 ] .
فكما جعل الجِلْد ينطق ويسمع ويعقل ، فكذلك الجَبَل وصفه بالخشية .

وقال أيضاً : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله } [ الحشر : 21 ] .
وروي أنه حنّ الجِذْع لصعود رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر ، ولما أتى الوحي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول المبعث ، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله سلمت عليه الحِجَارَةُ فكلها كانت تقول : السَّلام عليك يا رسول الله .
قال مجاهد : ما تَرَدَّى حَجَرٌ من رأس جبل ، ولا تَفَجَّرَ نَهْرٌ من حَجَر ، ولا خرج منه ماء إلاَّ من خشية الله ، نزل بذلك القرآنُ ، مثله عن ابن جُرَيْجِ وثبت عنه عليه الصلاة والسلام قال : « إنَّ حَجَراً كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ فِي الجَاهِلِيَّةِ إنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُوكَ عَلَى ظَهْري فَيُعَذّبني اللهُ فَنَادَاهُ حِرَاءٌ : » إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ « وقوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة } [ الأحزاب : 72 ] الآية .
وأنكرت المعتزلة ذلك ، ولا يلتفت إليهم؛ لأنه لا دليل لهم إلا مجرد الاستبعاد .
لو قال بعض المفسِّرين : الضمير عائدٌ إلى » الحجارة « و » الحجارة « لا تعقلُ ، ولا تَفْهَم ، فلا بدَّ من التأويل ، فقال بعضُهُمْ : إسناد الهبوط استعارة؛ كقوله : [ الكامل ]
595 لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ
وقوله : » مِنْ خَشْيَةِ اللهِ « أي : ذلك الهبوط لو وجد من العاقل لكان به خاشياً لله ، وهو كقوله تعالى : { جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } [ الكهف : 77 ] أي جداراً قد ظهر فيه المَيَلاَن ومقاربة السقوط ما لو ظهر مثله في حيّ مختارٍ ، لكان مريداً للانقضاض ، ونحو هذا قوله : [ الطويل ]
596 بَخِيْلٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ ... تَرَى الأُكْمَ فِيهِ سُجَّداً لِلْحَوَافِرِ
فجعل ما ظهر في الأكم من أثر الحَوَافر من عدم امتناعها مِنْ دفع ذلك عن نفسها كالسُّجود منها للحوافر .
الوجه الثاني : من التأويل : قوله : » مِنْ خَشْيَةِ اللهِ « : من الحجارة ما ينزل ، وما يشقق ، ويتزايل بعض عن بعض عند الزلازل من أجل ما يريد الله بذلك من خَشْية عباده له وفزعهم إليه بالدعاء والتوبة .
وتحقيقه أنه كان المقصود الأصلي من أهباط الأحجار في الزلازل الشديدة أن تحصل الخشية في القلوب .
الوجه الثالث : قال الجُبَّائي : » الحجارة « البَرَدُ الذي يهبط من السحاب تخويفاً من الله تعالى لعباده لِيَزْجُرَهُمْ به .
قال : وقوله : » مِنْ خَشْيَةِ اللهِ « أي : خشية الله ، أي : ينزل بالتخويف للعباد ، أو بما يوجب الخشية لله ، كما تقول : نزل القرآن بتحريم كذا ، وتحليل كذا ، أي : بإيجاب ذلك على الناس .
قال القاضي : هذا التأويل ترك للظَّاهر من غير ضرورة؛ لأن البَرَد لا يوصف بالحجارة؛ لأنه ماء في الحقيقة .
قوله : » مِنْ خَشْيَةِ اللهِ « منصوب المحلّ متعلق ب » يهبط « ، و » من « للتعليل .
وقال أبو البقاء : » من « في موضع نصب ب » يهبط « ، كما تقول : يهبط بخشية الله ، فجعلها بمعنى » الباء « [ المعدية ] وهذا فيه نظر لا يخفى .

و « خشية » مصدر مضاف للمفعول تقديره : من أن يخشى الله ، وإسناد الهبوط إليها استعارة؛ كقوله : [ الكامل ]
597 لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ
ويجوز أن يكون حقيقة على معنى : أن الله خلق فيها قابليّةً لذلك .
وقيل : الضمير في « منها » يعود على « القلوب » ، وفيه بُعْد لتنافر الضمائر .
قوله : « وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ » قد تقدم في قوله : « وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ » .
قال القرطبي : « بغافل » في موضع نصب على لغة « الحِجَاز » ، وعلى لغة « تميم » في موضع رفع .
قوله : « عَمَّا تَعْمَلُونَ » متعلّق ب « غافل » ، و « ما » موصولة اسمية ، والعائد الضمير ، أي : تعملونه ، أو مصدرية فلا يحتاج إليه أي : عن عملكم ، ويجوز أن يكون واقعاً موقع المفعول به ، ويجوز ألاّ يكون .
وقرىء : يَعْمَلُونَ « بالياء والتاء .
فصل في المقصود بالآية
والمعنى : أن الله بِالْمِرصَاد لهؤلاء القاسية قلوبهم ، وحافظ لأعمالهم مُحْصٍ لهان فهو مجازيهم بها وهو كقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [ مريم : 64 ] وهذا وعيد وتخويف كبير .
فإن قيل : هل يصح أن يوصف الله بأنه ليس بغافل؟
قال القاضي : لا يصح؛ لأنه يوهم جواز الغَفْلة عليه ، وليس الأمر كذلك؛ لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحّتها عليه ، بدليل قوله { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [ البقرة : 255 ] { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } [ الأنعام : 14 ] .

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)

قال القرطبي : هذا استفهما فيه معنى الإنكار ، كأنه أَيْأَسَهُمْ من إيمان هذه الفرقة من اليهود .
ويقال : طَمِع فيه طَمَعاً وطَماعيةً مخفف فهو طَمِعٌ على وزن « فَعِل » وأطمعه فيه غيره .
ويقال في التعجب : طَمُعَ الرُّجل بضم الميم أي : صار كثير الطّمع .
والطمع : رزق الجُنْد ، يقال : أمر لهم الأمير بأَطْمَاعهم ، أي : بأرزاقهم .
وامرأة مِطْمَاع : تُطْمِعُ وَلاّ تُمَكِّن .
فصل في قبائح اليهود
لما ذكر قَبَائح أفعال أَسْلاف اليهود شرع قَبَائح أفعال اليَهود الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام .
قال القَفّال رحمه الله : إن فيما ذكره الله تعالى في [ سورة البقرة ] من أقاصيص بني إسرائيل وجوهاً من المقاصد .
أحدها : الدلالة بها على صحّة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عنها غير تعلّم ، وذلك لا يكون إلا بالوَحْي ، ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب .
أما أهل الكتاب فكانوا يعلمونها ، فلما سمعوها من محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من غير تفاوت ، علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوَحْي .
وأما العرب فلما [ شاهدوا ] من أن أهل الكتاب يصدقون محمداً في هذه الأخبار ، فلم يكونوا يسمعون هذه الأخبار إلاّ من علماء أهل الكتاب ، فيكون ميلهم إلى الطّاعة أقرب .
وثانيها : تعديد النِّعَم على بني إسرائيل ، وما مَنَّ الله به على أَسْلاَفهم من أنواع النعم ، كالإنْجَاءِ من آل فرعون بعد اسْتِبْعَادهم ، وتَصْيِيْرِ أبنائهم أنبياء وملوكاً ، وتمكينهم في الأرض ، وفَرْق البحر لهم ، وأهلاك عَدُوّهم ، وإنزال التوراة والصَّفْح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العَجْل ، ونَقْض المَوَاثيق ، ومسألة النَّظّر إلى الله جَهَرةً ، ثم ما أخرجه لهم في التِّيْهِ من الماء من الحَجَر ، وإنزال المَنّ والسَّلْوَى وتَظْلِيل الغَمَام من حَرّ الشمس ، فذكّرهم بهذه النعم كلها .
وثالثها : إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقديم كُفْرهم وخلافهم ، وتعنّتهم على الأنبياء ، وعِنَادهم ، وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم ، وذلك لأنهم بعد مُشَاهدتهم الآيات الباهرة عَبَدوا العِجْل بعد مفارقة موسى بمدّة يسيرة ، ولما أمروا بدخول الباب سُجّداً وأن يقولوا حطّة ، ووعدهم أن يغفر لهم خَطَاياهم ، ويزيد في ثواب محسنهم ، فبدلوا القول وفَسَقوا ، وسألوا الفُومَ البَصَلَ بَدَلَ المَنّ والسَّلوى ، وامتنعوا من قَبُول التوراة بعد إيمانهم بموسى عليه الصّلاة والسلام وأخذ منهم المَوَاثيق أن يؤمنوا به حين رفع فوقهم الجَبَل ، ثم استحلّوا الصيد في السّبت واعتدوا ، ثم أمروا بذبح البقرة ، فشافهوا موسى عليه الصلاة والسلام بقولهم : « أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً » .
ثم لما شاهدوا إحْيَاء الموتى ازدادوا قَسْوى ، فكأن الله تعالى يقول : إذا كانت هذه أفعالهم مع نبيهم الذي أعزّهم الله به ، فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمداً عليه الصلاة والسلام ، فَلْيَهُنْ عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم ، وإعراضهم عن الحق .

ورابعها : تحذير أَهْل الكِتَاب الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من نزول العذاب علهيم كما نزل بأسلافهم في تلك الوقائع المعدودة .
وخامسها : الاحتجاج على من أنكر الإعادة من مشركي العرب مع إقراره بالابتداء كما في قوله : { كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى } [ البقرة : 73 ] .
فصل في تسلية النبيّ صلى الله عليه وسلم
اعلم أن المراد تسلية رسوله عليه الصلاة والسلام فيما يظهر من أَهْل الكتاب في زمانه من قلّة القبول فقال : « أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ » .
قال الحسن : هو خطاب مع الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين .
قال القاضي : وهذا الأليق بالظاهر ، وإن كان الأصل في الدّعاء ، فقد كان من الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان ، ويظهر لهم الدلائل . قال ابن عَبَّاس : إنه خطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام خاصّة؛ لأنه هو الدّاعي ، وهو المقصود بالاستجابة . واللفظة وإن كانت للعموم لكن حملناها على هذا الخصوص لهذن [ القرينة ] .
روي أنه حين دخل « المدينة » ودعا اليهود إلى كتاب الله ، وكذبوه ، فأنزل الله تعالى وسبب هذه الاستعباد ما ذكرناه أي : أتطمعون أن يؤمنوا مع أنهم ما آمنوا بموسى عليه الصَّلاة والسَّلام الذي كان هو السبب في خَلاَصهم من الذّل ، وفضلهم على الكل بظهور المُعْجزات المتوالية على يَدِهِ ، مع ظهور أنواع العذاب على المتمردين ، فأي استبعاد في عدم إيمان هؤلاء .
فصل في إعراب الآية
قوله : « أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ » ناصب ومنصوب ، وعلامة النصب حذف النون والأصل في « أن » وموضعها نصب أو جر على ما عرف ، وعدي « يؤمنوا » باللاّم لتضمّنه معنى أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم قاله الزمخشري .
فإن قيل : ما معنى الإضافة في قوله : « يُؤْمِنُواْ لَكُمْ » والإيمان إنما هو لله؟
فالجواب : أن الإيمان وإن كان الله فهم الدّاعون إليه كما قال تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [ العنكبوت : 26 ] لما آمن بنبوّته وتصديقه ، ويجوز أن يراد أن يؤمنوا لأجلكم ، ولأجل تشدّدكم في دعائهم . قوله : « وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ » « الواو » : للحال .
قال بعضهم : وعلامتها أن يصلح موضها « إذ » ، والتقدير : أفتطمعون في إيمانهم ، والحال أنهم كاذبون محرفون لكلام الله تعالى .
و « قد » مقربة للماضي من الحال سوّغت وقوعه حالاً .
و « يَسْمَعُون » خبر « كان » .
و « منهم » في محلّ رفع صفة ل « فريق » ، أي : فريق كائن منهم .
قال سيبويه : واعلم أن ناساً من ربيعة يقولون : « مِنْهِم » بكسر الهاء إتباعاً لكسرة الميم .

لم يكن المسكن حاجزاً حصيناً عندهم .
و « الفريق » اسم جمع لا واحد له من لفظه ك « رَهْط وَقَوْم » ، وجمعه في أدنى العدد « أَفْرقه » ، وفي الكثير « أفْرِقَاء » .
و « يَسْمَعُون » نعت ل « فريق » ، وفيه بعد ، و « كان » وما في حَيّزها في محلّ نصب على ما تقدم .
وقرىء : « كَلِمَ اللهِ » وهو اسم جنس واحدة كلمة ، وفرّق النحاة بين الكلام والكلم ، بأن الكلام شرطه الإفادة ، والكلم شرطه التركيب من ثلاث فصاعداً؛ لأنه جمع في المعنى ، وأقلّ الجمع ثلاثة ، فيكون بينهما عموم وخصوص من وجه ، وهل « الكلام » مصدر أو اسم مصدر؟ خلاف .
والمادة تدل على التأثير ، ومنه الكَلْم وهو الجُرْح ، والكَلاَم يؤثر في المخاطب .
قال الشاعر : [ المتقارب ]
598 ... وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ
ويطلق الكلام لغة على الخَطِّ والإشارة؛ كقوله : [ الطويل ]
599 إِذَا كَلَّمَتْنِي بِالعُيُونِ الفَوَاتِرِ ... رَدَدْتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوادِرِ
وعلى النفساني؛ قال الأخطل : [ الكامل ]
600 إِنَّ الْكَلاَمَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنِّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلاً
وقيل : لم يوجد هذا البيت في ديون الأخطل .
وأما عند النحويين [ فيطلق ] على اللّفظ المركب المفيد بالوضع .
و « ثم » للتراخي إما في الزمان أو الرتبة .
و « التحريف » : الإمالة والتحويل ، وأصله من الانحراف عن الشيء ، ويقال : قلم محرّف إذا كان مائلاً .
قوله : « منْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ » متعلق ب « يحرفونه » ، و « ما » يجوز أن تكن موصولة اسمية ، أي : ثم يحرفون الكلام من بعد المعنى الذي فهموه وعرفوه ، ويجوز أن تكون مصدرية .
والضمير في « عقلوه » يعود حينئذ على الكلام أي : من بعد تعقلهم إياه .
قوله : « وَهُمْ يَعْلَمُونَ » جملة حالية ، وفي العامل قولان :
أحدهما : « عقلوه » ، ولكن يلزم منه أن تكون حالاً مؤكدة؛ لأن معناها قد فهم من قوله : « عقلوه » .
والثاني وهو الظاهر : أنه « يحرفونه » ، أي : يحرفونه حال علمهم بذلك .
فصل في تعيين الفريق
قال بعضهم : الفريق مَنْ كان في زمن موسى عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لأنه وصفهم بأنهم سمعوا كلام الله ، والذين سمعوا كلام الله هم أهل المِيْقَاتِ .
قال ابن عباس : هذه الآية نزلت في السَبعين المختارين الذين ذهبوا مع موسى عليه الصلاة والسلام إلى المِيْقَات ، سمعوا كلام الله ، وأمره ونهيه ، فلما رجعوا إلى قومهم رجع الناس إلى قولهم ، وأما الصادقون منهم فأدّوا كما سمعوا .
قالت طائفة منهم : سمعنا الله في آخر كلامه يقول : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم ألاَّ تفعلوا فلا بأس .

قال القرطبي : ومن قال : إنّ السبعين سمعوا كما سمع موسى عليه الصلاة والسلام فقد أخطأ ، وأذهب بفضيلة موسى ، واختصاصه بالتكليم .
وقال السُّدِّي وغيرهك لم يطيقوا سماعه ، واختلطت أذهانهم ، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم ، فلمَّا فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان موسى عليه الصلاة والسَّلام ، كما قال تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله } [ التوبة : 6 ] .
ومنهم من قال : المراد بالفريق مَنْ كان في زمن محمد صلى الله عليه وسلم كما غيّروا آية الرجم ، وصفة محمد صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنهم كاذبون ، وهو قول مجاهد وقتادة وعكرمة ووهب والسدي وهذا أقرب؛ لأن الضمير في قوله : « وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ » راجع إلى ما تقدم من قوله : « أَفتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ » والذي تعلّق الطبع بإيمانهم هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام .
وقولهم : الذين سمعوا كلام الله هم الذين حضروا المِيْقَات ممنوع؛ لأن من سمع التوراة والقرآن يجوز أن يقال : إنه سمع كلام الله .
فإن قيل : كيف يلزم من إقدام البعض على التَّحْريف حصول اليأس من إيمان الباقين ، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين؟
أجاب القَفّال فقال : يحتمل أن يكون المعنى يؤمن هؤلاء ، وهم إنما يأخذون دينهم ، ويتعلمونه من علمائهم وهم قوم يتعمدون التحريف عناداً ، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وعرفوه .
فصل في كلام القدرية والجبرية
قوله : « أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ » استفهام على سبيل الإنكار ، فكان ذلك جَزماً بأنهم لا يؤمنون ألبتة ، وإيمانُ من أخبر الله تعالى عنهم بأنه لا يؤمن ممتنع ، فحينئذ تعود الوجوه المذكورة للقدرية والجبرية .
قال القاضي : قوله : « أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لكمْ » يدل على أن إيمانهم من قلبهم؛ لأنه لو كان بخلق الله تعالى فيهم لكان لا يتغّير حال الطمع فيهم بصفة الفريق الذي تقدّم ذكرهم ، ولما صحّ كون ذلك تسليةً للرسول وللمؤمنين؛ لأن الإيمان موقوف على خلقه تعالى ذلك ، وزواله موقف على ألا يخلقه فيهم .
وأيضاً إعظامه تعالى لكذبهم في التحريف من حيث فعلوه ، وهم يعلمون صحته .
وإضافته تعالى التحريف إليهم على وجه الذم يدلّ على ذلك ، واعلم أن الكلام عليه قد تقدم جوابه مراراً .
فصل في ذم العالم المعاند
قال أبو بكر الرازي : الآية تدلّ على أن العالم المعاند أبعد من الرّشد ، وأقرب إلى اليأس من الجاهل؛ لأن تعمّده التحريف مع العلم بما فيه من العذاب يكون أشد قسوة ، وأعظم جناية .
فصل في بيان أنهم إنما فعلوا ذلك لأغراض
فإن قيل : إنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض كما قال تعالى :

{ واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ آل عمران : 187 ] وقال : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ] .
قال ابن الخطيب : ويجب أن يكونوا قليلين؛ لأن الجَمْع العظيم لا يجوز عليم كِتْمَان ما يعتقدون؛ لأنا إنْ جوزنا ذلك لم نعلم المحق من المبطل ، إن كثر العدد .
فإن قيل : قوله : « عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » تكْرار .
أجاب القَفّال رضى الله عنه بوجهين :
أحدهما : « مَنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوا مراد الله تعالى منه » ، فأوّلوه تأويلاً فاسداً يعلمون أنه غير مراد الله تعالى .
والثاني : أنهم عقلوا مراد الله تَعَالى ، وعلموا أن التأويل الفاسد يكسبهم العذاب والعقوبة من الله تعالى .
واعلم أن المقصود من ذلك تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام وتصبيره على عنادهم فكلما كان عنادهم أعظم كان ذلك في التسلية أقوى .

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)

روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى عليه وسلم قالوا لهم : آمنا بالذي آمنتم به ، نشهد أنَّ صاحبكم صادق ، وأنَّ قوله حقّ ، ونجده بِنَعْتِهِ وصفته في كتابنا ، ثم إذا خَلاَ بعضهم إلى بعض قال الرؤساء كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، ووهب بن يهودا وغيرهم أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم في كتابه من نَعْتِهِ وصفته ليحاجوكم به .
قال القَفَّال رحمه الله تعالى في قوله تعالى : { فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } : مأخوذ من قولهم : فتح الله على فلان في علم كذا أي [ رزقه الله ذلك ] وسهل له طلبه .
قال الكَلْبي : بما قضى الله عليكم من كتابكم أن محمداً حق ، وقوله صِدْق ، ومنه قبل للقاضي : الفَتَّاح بلغة « اليَمَن » .
وقال الكِسَائي : ما بَيّنه الله عليكم .
وقال الواقدي : بما أنزل الله عليكم نظيره { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } [ الأعراف : 96 ] أي : أنزلنا .
وقال أبو عبيدة والأخفش : بما مَنَّ الله عليكم به ، وأعطاكم من نصركم على عدوكم .
وقيل : بما فتح الله عليكم أي : أنزل من العذاب ليعيركم به ، ويقولون فمن أكرم على الله منكم .
وقال مجاهد والقاسم بن أبي بزّة : هذا قول يهود « قُرَيظة » بعضهم لبعض حين سبهم النبي عليه الصلاة والسلام فقال : « يَا إخْوَانَ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ وَعَبَدَ الطَّاغُوتِ » فَقَالُوا : من أخبر محمداً بهذا؟ ما خرج هذا إلاَّ منكم .
وقيل : الإعلام والتبيين بمعنى : أنه بيّن لكم صفة محمد عليه الصلاة والسلام .
فصل في إعراب الآية
قد تقدّم على نظير قوله : « وإذ لَقُوا » في أول السورة وهذه الجملة الشرطية تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون مستأنفة كاشفة عن أحوال اليهود والمنافقين .
والثاني : أن تكون في محلّ نصب على الحال معطوفة على الجملة الحالية قبلها وهي : « وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ » والتقدير : كيف تطمعون في إيمانهم وحالهم كيت وكيت؟
وقرأ ابن السّميفع : « لاَقوا » وهو بمعنى « لقوا » فَاعَل بمعنى فَعِل نحو : « سافر » وطارقت النعل :
وأصل « خلا » : « خَلَو » قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وتقدم معنى « خلا » و « إلى » في أول السورة .
قوله : { بِمَا فَتَحَ الله } متعلق ب « التحديث » قبله ، و « ما » موصولة بمعنى « الذي » والعائد محذوف ، أي : فتحه .
وأجاز أبو البَقَاءِ أن تكون نكرة موصوفة أو مصدرية ، أي : شيء فتحه ، فالعائد محذوف أيضاً ، أو بِفَتْحِ الله عليكم .
وفي جعلها مصدرية إشكال من حيث إنَّ الضمير في قوله بعد ذلك : « لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ » عائد على « ما » و « ما » المصدرية حرف لا يعود عليها ضمير على المشهورن خلافاً للأخفش ، وأبي بكر بن السراج ، إلاّ أن يُتَكَلّف فيقال : الضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله : « أَتُحَدِّثُونَهُمْ » أو من قوله : « فتح » ، أي : ليحاجُّوكم بالتحديث الذي حدّثتموهم ، أو بالفتح الذي فتحه الله عليكم .

والجملة في قوله : « أَتُحَدِّثُونَهُمْ » في محلّ نصب بالقول ، قال القُرْطبي : ومعنى فتح : حكم .
والفتح عند العرب : القضاء والحكم ، ومنه قوله تعالى : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } [ الأعراف : 89 ] أي : الحاكمين . والفتاح : القاضي بلغة « اليمن » ، يقال : بيني وبينك الفَتّاح ، قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم .
والفتح : النصر ، ومنه قوله : { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } [ البقرة : 89 ] وقوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } [ الأنفال : 19 ] .
قوله : « لِيُحَاجُّوكُمْ » أي : ليخاصموكم ، ويحتجوا بقولكم عليكم ، وهذه اللام تسمى لام « كي » بمعنى أنها للتعليل ، كما أن « كي » كذلك لا بمعنى أنها تنصب ما بعدها بإضمار ب « كي » كما سيأتي ، وهي حرف جر ، وإنما دخلت على الفعل؛ لأنه منصوب ب « أن » المصدرية مقدّرة بعدها ، فهو معرب بتأويل المصدر أي : للمُحَاجَّة ، فلم تدخل إلاّ على اسم ، لكنه غير صريح .
والنصب ب « أن » المضمرة كما تقدم لا ب « كي » خلافاً لابن كَيْسَان والسّيرافي ، وإن ظهرت بعدها نحو قوله تعالى : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ } [ الحديد : 23 ] لأن « أن » هي أم الباب ، فادعاء إضمارها أولى من غيرها .
وقال الكوفيون : النَّصْب ب « اللام » نفسها ، وأن ما يظهر بعدها من « كي » ، ومن « أَنْ » إنما هو على سبيل التأكيد ، وللاحتجاج موضعٌ غير هذا .
ويجوز إظهار « أن » وإضمارها بعد هذه « اللام » إلاَّ في صورة واحدة ، وهي إذا وقع بعدها « لا » نحو قوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ } [ البقرة : 150 ] وذلك لما يلزم من توالي لاَمَيْنِ ، فَيثْقُل اللفظ .
والمشهور في لغة العرب كسر هذه اللام؛ لأنها حرف جر ، وفيها لغة شاذة وهي الفتح .
قال الأخفش : « لأن الفتح الأصل » .
قال خلف الأحمر : هي لغة بني العَنْبَر . وهذه اللام متعلّقة بقوله : « أَتُحَدِّثُونَهُمْ » .
وذهب بعضهم إلى أنها متعلّقة ب « فتح » وليس بظاهر؛ لأن المُحَاجَّة ليست علّة للفتح ، وإنما هي نشأت عن التحديث ، اللّهم إلا أن يقال : تتعلّق به على أنها لام العاقبة ، وهو قول قيل به ، فصار المعنى أن عاقبة الفتح ومآله صار إلى أن يحاجُّوكم .
أو تقول : إن اللاَّم لام العلة على بابها ، وإنما تعلّقت ب « فتح » ؛ لأنه سبب للتحديث ، والسبب والمسبب في هذا واحد .

والحُجّة : الكلام المستقيم على الإطلاق ، ومن ذلك محجّة الطريق ، وحاججت فلاناً [ فحججته ] أي : غالبته ، ومنه الحديث : « فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى » ، وذلك لأن الحجّة نفي الطَّريق المسلوك الموصّلة للمراد .
والضمير في « به » يعود على « ما » من قوله تعالى : { بِمَا فَتَحَ الله } وقد تقدم أنه يضعف القول بكونها مصدرية ، وأنه يجوز أن يعود على أحد المصدرين المفهومين من « أَتُحَدِّثُونَهُمْ » و « فتح » .
قوله : « عِنْدَ رَبِّكُمْ » ظرف معمول لقوله : « لِيُحَاجُّوكُمْ » بمعنى : ليحاجُوكم يوم القيامة ، فيكون ذلك زائداً في ظهور فضيحتكم على رؤوس الخَلاَئق في الموقف ، فكنى عنه بقوله : « عِنْدَ رَبِّكُمْ » قاله الأصم وغيره .
وقال الحسن : « عند » بمعنى « في » أي : ليحاجُّوكم في ربكم أي : فيكونون أحقّ به منكم .
وقيل : ثم مضاف محذوف أي : عند ذكر ربكم . وقال القَفّال رحمه الله تعالى : يقال : فلان عندي عالم أي : في اعتقادي وحُكْمي ، وهذا عند الشَّافعي حَلاَل ، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حرام أي : في حكمهما وقوله : « لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ » أي : لتصيروا محجوجين [ عند ربكم ] بتلك الدلائل في حكم الله .
ونظيره تأويل بعض العلماء قوله : { يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون } [ النور : 13 ] اي : في حكم الله وقضائه أن القاذف إذا لم يأت بالشهود لزمه حكم الكاذبين وإن كان في نفسه صادقاً .
وقيل : هو معمول لقوله : « بِمَا فَتَحَ اللهُ » أي : بما فتح الله من عند ربّكم ليحاجّوكم ، وهو نَعْته عليه الصلاة والسلام وأخذ ميثاقهم بتصديقه .
ورجّحه بعضهم وقال : هو الصحيح؛ لأن الاحتجاج عليهم هو بما كان في الدّنيا .
وفي هذا نظر من جهة الصناعة ، وذلك أن « ليُحَاجُّوكُمْ » متعلق بقوله : « أَتُحَدِّثُونَهُمْ » على الأظهر كما تقدم ، فيلزم الفَصْل به بين العامل وهو « فتح » وبين معمول وهو عند ربك وذلك لا يجوز؛ لأنه أجنبي منهما .
قوله : « أَفَلاَ تَعْقِلُونَ » في هذه الجملة قولان :
أحدهما : أنها مندرجة في حَيِّز القول ، أي : إذا خَلاَ بعضهم ببعض قالوا لهم : أتحدثونهم بما يرجع وَبَاله عليكم وصِرْتُم محجوجين به ، أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق ، وهذا أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم ، فَعَلَى هذا محلها النصب .
والثاني : أنها من خطاب الله تعالى للمؤمنين ، وكأنه قدح في إيمانهم ، لقوله : { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } [ البقرة : 75 ] قاله الحسن .
فعلى هذا لا محلّ له ، ومفعول « تعقلون » يجوز أن يكون مراداً ، ويجوز ألاّ يكون .
قوله : « أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ » تقدم أن مذهب الجمهور أن النّية بالواو والتقديم على الهمزة؛ لأنها عاطفة ، وإنما أخزت عنها ، لقوة همزة الاستفهام ، وأن مذهب الزمخشري تقدير فعل بعد الهمزة و « لا » للنفي .

و « أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ » في محلّ نصب وفيها حينئذ تقديران :
أحدهما : أنها سادّة مسدّ مفرد إن جعلنا « علم » بمعنى « عرف » .
والثاني : أنها سادّة مسدّ مفعولين إن جعلناها متعدية لاثنين ك « ظننت » ، وقد تقدم أن هذا مذهب سيبويه والجمهور ، وأن الأخفش يدعي أنها سدّت مسدّ الأول ، والثاني محذوف . و « ما » يجوز أن تكون بمعنى « الذي » ، وعائدها محذوف ، اي : ما يسرونه ويعلنونه ، وأن تكون مصدرية ، أي يعلم سرهم وعلانيتهم . [ والسر ] والعلانية يتقابلان .
وقرأ ابن محيصن « تسرون » و « تعلنون » بالتاء على الخطاب .
فصل في أن المراد بالسؤال هو التخويف والزجر
في الآية قولان :
الأول : وهو قول الأكثرين أن اليهود كانوا يعرفون أن الله يعلم السّر والعلانية ، فخوّفهم به .
والثاني : أنهم ما علموا بذلك ، فرغبهم بهذا القول في أن يتفكّروا ، فيعرفوا أن ربهم يعلم سرهم وعلانيتهم ، وأنهم لا يأمنون حلول العِقَابِ بسببِ نِفَاقِهِمْ ، وعلى كلا القولين فهذا الكلام زَجْر لهم عن النفاق ، وعن وصية بعضهم بعضاً بكتمان دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
والأقرب أن اليهود المخاطبين بذلك كانوا عالمين بذلك؛ لأنه لا يكاد يقال على طريق الزجر : أو لا يعلم كيف وكيت ، إلاّ وهو عالم بذلك الشيء ، ويكون ذلك زاجراً له عن ذلك الفعل .
فصل في الاستدلال بالآية على أمور
قال القاضي : الآية تدلّ على أمور منها :
أنه تعالى إن كان هو الخالق لأفعال العباد ، فكيف يصح أن يزجرهم عن تلك الأقوال والأفعال ، ومنها أنها تدلّ على صحّة الحجاج والنظر وأن ذلك قد كان على طريقة الصّحابة والمؤمنين .
ومنها أنها تدلّ على أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية يكون أعظم جرماً .

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

واعلم أنه تعالى لما وصف اليهود العِنَادِ ، وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم ، فالفرقة الأولى هي الضَّالة والمضلّة ، وهم الذين يحرّفون لكلم عن مواضعه .
والفرقة الثانية : المنافقون .
والفرقة الثالثة : الذين يُجَادلون المنافقين .
والفرقة الرابعة : هم المذكورون هنا ، وهم العامة الأمّيون الذين لا يعرفون القراءة ، ولا الكتابة ، وطريقتهم التقليد وقَبُول ما يقال لهم ، فبين الله تعالى أن المُمْتَنِعِينَ عن الإيمان ليس سبب ذلك واحداً ، بل لكل قسم سبب .
وقال بعضهم : هم بعض اليهود والمنافقين .
وقال عكرمة والضَّحاك : « هم نصارى العرب » .
وقيل : « هم قوم من أهل الكتاب رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها ، فصاروا آمنين » . وعن علي رضي الله عنه هم المجوس .
قولهك « مِنْهُمْ » خبر مقدم ، فتعلّق بمحذوف . و « أمّيون » مبتدأ مؤخر ، ويجوز على رأي الأخفش أن يكون فاعلاً بالظرف قبله ، وإن لم يعتمد .
وقد بنيت على ماذا يعتمد فيما تقدم .
و « أُمِّيُّونَ » جمع « أمّي » وهو من لا يَكْتب ولا يَقْرأ .
واختلف في نسبته فقيل : إلى « الأمّ » وفيه معنيان :
أحدهما : أنه بحال أُمّه التي ولدته من عدم معرفة الكتابة ، وليس مثل أبيه؛ لأن النساء ليس من شُغْلهن الكتابة .
والثاني : أنه بحاله التي ولدته أمه عليها لم يتغير عنها ، ولم ينتقل .
وقيل : نسب إلى « الأُمَّة » وهي القَامَة والخِلْقَة ، بمعنى أنه ليس له من النَّاس إلا ذلك .
وقيل : نسب إلى « الأُمَّة » على سَذَاجتها قبل أن يَعْرِف الأشياء ، كقولهم : عامي أي : على عادة العامة .
وعن ابن عَبَّاس : « قيل لهم : أميون؛ لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب » .
وقال أبو عبيدة : « قيل لهم : أُميون ، لإنْزَال الكتاب عليهم ، كأنهم نسبوا لأم الكتاب » .
وقرأ ابن أبي عَبْلة : « أُمِّيُون » بتخفيف الياء كأنه استثقل توالي تضعيفين .
وقيل : الأمي : من لا يُقِرّ بكتاب ولا رسول .
قوله : « لاَ يَعْلَمُونَ » جملة فعلية في محلّ رفع صفة ب « أميون » ، كأنه قيل : أميون غير عالمين .
قوله : « إلاَّ أَمَانِيَّ » هذا استثناء منقطع؛ لأن « الأماني » ليست من جنس « الكتاب » ، ولا مندرجة تحت مدلوله ، وهذا هو المُنْقطع ، ولكن شرطه أن يتوهّم دخوله بوجه ما ، كقوله : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن } [ النساء : 157 ] وقوله النَّابغة : [ الطويل ]
601 حَلَفْتُ يَمِيناً غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةِ ... وَلاَ عِلْمَ إِلاَّ حُسْنَ ظَنٍّ بِصَاحِبِ
لأن بذكر العلم اسْتُحضِر الظن ، ولهذا لا يجوز : صَهَلَتِ الخيل إلاَّ حماراً .
واعلم أن المنقطع على ضربيين : ضرب يصحّ توجه العامل عليه ، نحو : جاء القوم إلاّ حماراً .

وضرب لا يتوجه نحو ما مثل به النحاة : « ما زاد إلا ما نقص » ، و « ما نفع إلا ما ضر » فالأول فيه لُغتَان : لغة « الحجاز » وجوب نصبه ، ولغة « تميم » أنه كالمتّصل ، فيجوز فيه بعد النفي وشبهه النصب والإتباع .
والآية الكريمة من الضرب الأولن فيحتمل في نصبها وَجْهَان :
أحدهما : على الاستثناء المنقطع .
والثاني : أنه بدل من « الكتاب » .
و « إلاّ » في المنقطع تقدر عند البصريين ب « لَكِنَّ » ، وعند الكونفيين ب « بل » ، وظاهر كلام أبي البقاء أن نصبه على المصدر بفعل مَحْذُوف ، فإنه قال : « إلا أماني » اسثناء منقطع؛ لأن الأماني ليس من جنس العلم ، وتقدير « إلاّ » في مثل هذا ب « لكن » أي : لكن يتمنونه أماني ، فيكون عنده من باب الاستثناء المفرّغ المنقطع ، فيصير نظير : « ماعلمت إلا ظنّاً » . [ وفيه نظر ] .
الأَمَاني مع « أُمْنِيَّة » بتشديد الياء فيها .
وقال ابو البَقَاءِ : « يجوز تخفيفها فيها » .
وقرأ أبو جعفر بتخفيفها ، حَذَفَ إحدى الياءين تخفيفاً .
قال الأخفشك « هذا كما يقال في جمع مفتاح : مفتاح ومفاتيح » .
قال النَّحَّاس : « الحذف في المعتلّ اكثر » ؛ وأنشد قول النابغة : [ الطويل ]
602 وَهَلْ يُرْجِعُ التَّسْلِيمَ أو يَكْشِفُ العَمَى ... ثَلاثُ الأَثافِي والرُّسُومُ البَلاَقِعُ
وقال أبو حَاتِمٍ : « كلّ ما جاء واحده مشدداً من هذا النوع فلك في الجمع الوجهان » . وأصله يرجع إلى ما قال الأخفش .
ووزن « أمنية » : « أُفْعُولَة » من تَمَنَّى يَتَمَنَّى : إذا تلا وقرأ؛ قال : [ الطويل ]
603 تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ آخِرَ لَيْلِهِ ... تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ
وقال كعب بن مالك : [ الطويل ]
604 تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وآخِرَهُ لاَقى حِمَامَ المقَادِرِ
وقال تعالى : { إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] أي : قرأ وتلا . والأصل على هذا : « أُمْنُويَة » فأعلت إعلال « ميت » و « سيد » وقد تقدم .
وقيل : الأمنية : الكذب والاختلاق .
قال أعرابي لابن دَأْب في شيء يحدث به : أهذا الشيء رويته أم تمنيته أي : اختلقته .
وقيل : ما يتمّناه الإنسان ويشتهيه .
وقيل : : ما يقدره ويحزره من مَتَّى : إذا كذب ، أو تمنى ، أو قدر؛ كقوله : [ البسيط ]
605 لاَ تَأْمَنَنَّ وَإِنْ أَمْسَيْتَ في حَرَمٍ ... حَتَّى تُلاَقِيَ مَا يَمْنِي لَكَ المَانِي
أي : يقدر لك المقدر .
قال الراغب : والمني : التقدير ، ومنه « المَنَا » الذي يُوزَن به ، ومنه « المنية » وهو الأجل المقدر للحيوان ، « والتَّمَنِّي » : تقدير شيء في النفس وتصويره فيها ، وذلك قد يكون عن ظنّ وتخمين ، وقد يكون بناء على رَوِيَّةٍ وأصل ، لكن لما كان أكثره عن تخمين كان الكذب أملك له ، فأكثر التمني تصوّر ما لاحقيقة له [ والأمنية : الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء ] .

ولما كان الكذب تصوّر ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ الدَّال صار التمني كالمبدأ للكذب فعبر عنه .
ومنه قوله عثمان : « ما تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت » .
وقال الزمخشري : والاشتقاق من منَّى : إذا قدَّر؛ لأن المتمني يُقَدِّرُ في نفسه ، ويَحْزر ما يتمناه ، وكذلك المختلق ، والقارىء يقدر أن كلمة كذا بعد كذا ، فجعل بين هذه المعاني قدراً مشتركاً وهو واضح .
وقال أبو مسلم : حَمْله على تمني القلب أولى بقوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } [ البقرة : 111 ] .
وقال الأكثرون : حمله على القراءة أليق؛ لأنا إذا حَمَلْنَاه على ذلك كان له به تعلّق ، فكأنه قال : لا يعلمون الكتاب إلاَّ بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه ، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه ، ثم إنَّهُمْ لا يتمكّنون من التدبُّر والتأمل ، وإذا حمل على أن المراد الأحاديث والأكاذيب أو الظن والتقدير وحديث النفس كان الاستثناء فيه نادراً .
قوله : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } « إن » نافية بمعنى « ما » وإذا كانت نافية المشهور أنها لا تعمل عمل « ما » الحِجَازية .
وأجاز بعضهم ذلك ونسبه لسيبويه ، وأنشد : [ المنسرح ]
606 إنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً عَلَى أَحَدٍ ... إلاَّ عَلَى أَضْعَفِ المَجَانِينِ
« هو » اسمها ، و « مستولياً » خبرها .
فقوله : « هم » في محل رفع الابتداء لا سام « إن » لأنها لم تعمل على المشهور ، و « إلا » للأستثناء المفرغ ، ويظنون في محلّ الرفع خبراً لقوله « هم » .
وحذف مفعولي الظَّن للعمل بهما واقتصاراً ، وهي مسألة خلاف .
فصل في بطلان التقليد في الأصول
الآية تدلّ على بطلان التقليد .
قال ابن الخطيب : وهو مشكل؛ لأن التقليد في الفروع جائز عندنا .
قوله : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب } « ويل » مبتدأ ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة ، لأنه دعاء عليهم ، والدعاء من المسوغات ، سواء كان دعاء له نحو : « سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ » أو دعاء عليه كهذه الآية ، والجار بعده الخبر ، فيتعلّق بمحذوف .
وقال أبو البقاء : ولو نصب لكان له وجه على تقدير : ألزمهم الله ويلاً ، واللام للتبيين؛ لأن الاسم لم يذكر قبل المصدر يعني : أن اللام بعد المنصوب للبيان ، فيتعلّق بمحذوف . وقوله : لأن الاسم لم يذكر قبل ، يعني أنه لو ذكر قبل « ويل » فقلت : « ألزم الله زيداً ويلاً » لم يحتج إلى تبيين بخلاف ما لو تأخر . وعبارة الجرمي توهم وجوب الرفع في المقطوع عن الإضافة؛ ونصّ الأخفش على جواز النّصب ، فإنه قال : ويجوز النصب على إضمار فعل أي : ألزمهم الله ويلاً .
واعلم أن « وَيْلاً » وأخواته وهي : « وَيْح » و « وَيْس » و « وَيْب » و « وَيْه » و « ويك » و « عَوْل » من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها ، وتلك الأَفْعَال واجبة الإضمار ، لا يجوز إظهارها ألبتة؛ لأنها جعلت بدلاً من اللفظ بالفعل ، وإذا فصل عن الإضافة فالأحسن فيه الرفع نحوك « ويل له » وإن أضيف نصب على ما تقدم ، وإن كانت عبارة الجرمي توهم وجوب الرفع عند قَطْعه عن الإضافة ، فإنه قال : فإذا أدخلت اللاّم رفعت فقلت : « ويل له » و « ويح له » كأنه يريد على الأكثر ، ولم يستعمل العرب منه فعلاً؛ لاعتلال عنيه وفائه .

وقد حكى ابن عرفة : « تَوَيَّلَ الرجل » إذا دعا بالوَيْلِ . وهذا لا يرد؛ لأنه مثل قولهم : سَوَّفْتَ ولَوْلَيت إذا قلت له : سَوْفَ وَلَوْ .
ومعنى الويل : شدة الشر ، قاله الخليل .
وقال الأَصْمَعِيّ : الويل : التفجُّع ، والويح : الترحم .
وقال سيبويه : وَيْلٌ لمن وقع في الهَلكة ، وويح زجر لمن أشرف على الهلاك .
وقيل : الويل : الحزن .
وهل « ويل وويح وويس وويب » بمعنى واحد أو بينها فرق؟ خلاف فيه ، وقد تقدم ما فرقه به سيبويه في بعضها .
وقال قوم : « ويل » في الدعاء عليه ، و « ويح » وما بعده ترحم عليه .
وزعم الفراء أنّ أَصْل « ويل » : وَيْ ، أي : حزن ، كما تقول : وي لفلان أي حُزْنٌ له ، فوصلته العرب باللاّم ، وقدرت أنها منه فأعربوها ، وهذا غريب جدَّا .
ويقال : وَيْلٌ وَوَيْلَة .
وقال امرؤ القيس [ الطويل ]
607 لَهُ الوَيْلُ إنْ اَمْسَى وَلاَ أُمُّ عَامِرٍ ... لَدَيْه وَلاَ البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
وقال أيضاً : [ الطويل ]
608 وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ ... فَقَالَتْ : لَكَ الوَيْلاَتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي
ف « وَيْلات » جمع « وَيْلة » لا جمع « وَيْل » كما زعم ابن عطية؛ لأن جمع المذكر بالألف والتاء لا ينقاس .
قال ابن عباس رضي الله عنه : « الويل العذاب الأليم » ، وعن سفيان الثورى أنه قال : « صديد أهل جهنم » . [ وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : « الوَيْلُ وَادٍ في جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ »
] . وقال سعيد بن المسيب : « وَادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدّنيا لانماعت من شدّة حره » .
وقال ابن يزيد : « جبل من قَبح ودم » .
وقيل : صهريج في جهنم .
وحكى الزهراوي عن آخرين : أنه باب من أبواب جَهَنَّم .
وعن ابن عباس : الويل المشقّة من العذاب .
وقيل : ما تقدم في اللغة .
قوله : « بِأَيْدِيْهِمْ » متعلّق ب « يكتبون » ، ويبعد جعله حالاً من « الكتاب » ، والكتاب هنا بعض المكتوب ، فنصبه على المفعول به ، ويبعد جعله مصدراً على بابه ، وهذا من باب التأكيد ، فإن [ الكتابة ] لا [ تكون ] بغير اليد ، [ ونظيره ] :

{ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [ آل عمران : 167 ] .
وقيل : فائدة ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم ، ولم يأمروا به غيرهم ، فإنّ قولهم : فعل كذا يحتمل أنه أمر بفعله ولم يباشره ، نحو : « بنى الأمير المدينة » فأتى بذلك رفعاً لهذا المجاز .
وقيل : فائدة [ ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم ، ولم يأمروا به غيرهم . ففائدته ] بيان جرأتهم ومجاهرتهم ، فإن المُبَاشر للفعل أشدّ مواقعة ممن لم يباشره .
وهذان القولان قريبان من التأكيد ، فإنَّ أصل التأكيد رفع توهّم المجاز .
وقال ابن السراج : ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تِلْقَائهِمْ ، ومن عند أنفسهم ، وهذا الذي قاله لا يلزم .
والأيدي : جمع « يد » ، والأصل : أَيْدُيٌ بضم الدال ك « فلس وأفلس » في القِلّة ، فاستثقلت الضمة قبل الياء ، فقلبت كسرة للتجانُس ، نحو : « بيض » جمع « أبيض » ، والأصل « بُيْض » بضم الباء ك « حمر » جمع « أحمر » ، وهذا رأي سيبويه ، أعني أنه يقر الحرف ويغير الحركة ، ومذهب الأخفش عكسه ، وسيأتي تحقيق مذهبهما عند ذكر « معيشة » إن شاء الله تعالى .
وأصل « يد » : يَدْيٌ بسكون العين .
وقيل : يَدَيٌ بتحريكها فَتحرَّكَ حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفاً ، فصار : يَداً ك « رَحًى » وعليه التثنية : يَدَيَانِ [ وعليه أيضاً قوله : [ الزجز ]
609 يَارُبَّ سَارٍ بَاتَ ما تَوَسَّدَا ... إلاَّ ذِرَاعَ العَنْزِ أَوْ كَفَّ اليَدَا ]
[ والمشهور في تثنيتها عدم ردِّ لامها ، قال تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ] { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد : 1 ] وقد شذّ الردُّ في قوله : يَدَيَانِ؛ قال : [ الكامل ]
610 يَدَيَانِ بَيْضَاوَانِ عِنْدَ مُحَلَّمٍ ... قَدْ يَمْنَعَانِكَ أَنْ تُضَامَ وتُقْهَرَا
و « أياد » جمع الجمع ، نحو : كلب وأكلب وأكالب ، ولا بد في قوله : « يَكْتُبُونَ الكِتَابَ » من حذف يصح معه المعنى ، فقدره الزمخشري : « يكتبون لكتاب المحرف » ، وقدره غيره حالاً من الكتاب تقديره : ويكتبون الكتاب محرفاً ، وإنما [ أحوج ] إلى هذا الإضمار؛ لأن الإنكار لا يتوجّه على من كتب اللكتاب بيده إلا إذا حرفه غيره .
قوله : « لِيَشْتَرُوا » اللام : لام كي ، وقد تقدمت ، والضمير في « به » يعود على ما أشاروا إليه بقوله « هذا من عند الله » .
و « ثَمَناً » مفعوله .
وقد تقدّم تحقيق دخول الباء على غير الثمن عند قوله : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 41 ] فليلتفت إليه ، واللاّم متعلقة ب « يقولون » أي : يقولون ذلك لأجل الاشتراء .
وأبعد من جعلها متعلّقة بالاستقرار الذي تضمنه قوله : « مِنْ عِنْد اللهِ » .

قوله : « مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ » متعلّق ب « ويل » أو بالاستقرار في الخبر .
و « من » للتعليل و « ما » موصولة اسمية ، والعائد محذوف ، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة .
والأول أقوى ، والعائد أيضاً محذوف أي : كتبته ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : من كَتْبِهِمْ .
و « وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ » مثل ما تقدم قبله ، وإنما كرر الوَيْل؛ ليفيد أن الهَلَكَة متعلقة بكل واحد من الفعلين على حِدَته لا بمجموع الأمرين ، وإنا قدم قوله : « كَتَبَتْ » على « يَكْسِبُون » ؛ لأن الكتابة مقدمة ، فنتيجتها كَسْب المال ، فالكَتْب سبب والكَسْب مسبب ، فجاء النظم على هذا .
فصل في سبب هذا الوعيد
هذا الوعيد مرتّب على أمرين : على الكتابة الباطلة لقصد الإضلال ، وعلى أن المكتوب من عند الله ، فالجمع بينهما منكر عظيم .
وقوله : « لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً » تنبيه على أمرين :
الأول : أنه يدلّ على نهاية شقاوتهم؛ لأن العاقل لا يرضى بثمن قليل في الدنيا يحرمه الأجر العظيم الأبدي في الآخرة .
والثاني : إنما فعلوا ذلك طلباً للمال والجَاهِ ، وهذا يدلّ على أن أخْذَ المال بالباطل وإن كان بالتّراضي فهو مُحَرّم؛ لأن الذي كانوا يعطونه من المال كان عن محبة ورضا .
وقوله : { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } دليل علىأخذهم المال عليه ، فلذلك كرر [ ذكر ] الويل .
واختلفوا في قوله : « يَكْسِبُونَ » هل المراد سائر معاصيهم ، أو ما كانوا يأخذون على الكتابة والتحريف؟
والأقرب في نظم الكلام أنه راجعٌ إلى الكَسْب المأخوذ على وجه الكتابة والتحريف ، وإن كان من حيث العموم أنه يشمل الكل .
فصل في الرد على المعتزلة
قال القاضي : دلت الآية على أن كتابتهم ليست خلقاً لله تعالى لأنها لو كانت خلقاً لله تعالى لكانت إضافتها إليه تعالى بقولهم : « هو من عند الله » حقيقة؛ لأنه تعالى إذا خلقها فيهم فَهَبْ أن العبد يكتسب إلا أن نسبة ذلك الفعل إلى الخالق أقوى من انتسابه إلى المكتسب ، فكان إسناد تلك الكتابة إلى الله تعالى أولى من إسنادها إلى العَبْدِ ، فكان يجب أن يستحقوا الحمد على قولهم فيها : إنها من عند الله ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن تلك الكتابة ليست مخلوقة لله تعالى .
والجواب : أنَّ الداعية الموجبة لها من خَلْق الله كما تقدم في مسألة الداعي .
فصل
يروى أن أَحْبار اليهود خافوا ذهاب كَلِمتهم ومآكلهم وزوال رِيَاستهم حين قدم رسول الله صلى لله عليه وسلم « المدينة » فاحْتَالوا في تَعْويق اليهود عن الإيمان ، فعمدوا إلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة فغيّروها ، وكان صفته فيها حَسَن الوجه ، حَسَن الشعر ، أَكْحَل العينين رَبْعة القامة فغيّروها وكتبوا مكانها طويلاً أَزْرق سَبْطَ الشعر ، فإذا سألهم سَفَلتهم عن محمد صلى الله عليه وسلم قرءوا ما كتبوه عليهم ، فيجدونه مخالفاً لصفته فيكذبونه .

وقال أبو مَالِكٍ : نزلت هذه الآية في الكاتب الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيغير ما يملي عليه .
روى الثعلبي بإسناده عن أنس أن رجلاً كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وكان قد قرأ « البقرة » و « آل عمران » وكان النبي صلى الله عليه وسلم تلا « غفوراً رحيماً » فكتب « عليماً حكيماً » فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم : « اكْتُبُ كَيْفَ شِئْتَ » قال : فارتد ذلك الرجل عن الإسلام ، ولحق بالمشركين فقال : أنا أعلمكم بمحمد إنِّي كنت أكتب ما شئت ، فمات ذلك الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنَّ الأَرْضَ لاَ تَقْبَلُهُ » قلا : فأخبرني أبو طَلْحَة : أنه أتى الأرض التي مات فيها ، فوجده منبوذاً .
قال أبو طلحة : ما شأن هذا الميت؟ قالوا دفناه مراراً فلم تقبله الأرض .

وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)

فقوله : « إلاّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً » استثناء مفرّغ ، و « أيَّاماً » منصوب على الظرف بالفعل قبله ، والتدقير : لن تَمّسنا النار أبداً إلاّ أياماً قلائل يَحْصُورُها العَدُّ؛ لأن العد يحصر القليل ، وأصل : « أيّام » : أَيْوَام؛ لأنه جمع يوم ، نحو : « قوم وأقوام » ، فاجتمع الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فوجب قلب الواو ياء ، وإدغام الياء في الياء مثل : « هَيّت وميّت » ؟
فصل
ذكروا في الأيام المعدودة وجهين :
الأول : أن لفظه الأيام [ لا تضاف إلا إلى العشرة فما دونها ، ولا تضاف إلى ما فوقها ، فيقال : أيام خمسة ، وأيام عشرة ، ولا يقال : أيام أحد عشر . إلاَّ أن هذا ] يشكل بقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] إلى أن قال : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } [ البقرة : 184 ] وهي أيام الشهر كله ، وهي أزيد من العشرة .
قال القاضي : إذا ثبت أن الأيام محمولة على العَشْرة فما دونها ، فالأشبه أن يقال : إنه الأقل أو الأكثر؛ لأن من يقول ثلاثة يقول : أحمله على أقل الحقيقة فله وجه ، ومن يقول : عشرة يقول : أحمله على الأكثر وله وجه .
فأما حمله على أقل من العشرة وأزيد من الثلاثة فلا وجه له؛ لأنه ليس عَدَدٌ أولى من عَدَدٍ ، اللهم إلا إنْ جاءت في تقديرها رواية صحيحة ، فحينئذ يجب القول بها .
روي عن ابن عباس ومجاهد : أن اليهود كانت تقول : « الدنيا سبعة آلاف سنة ، فالله يعذب على كلّ ألف سنة يوماً واحداً » .
وحكى الأصم عن بعض اليهود : أنهم عبدوا العِجْل سبعة أيام .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه : أنه قدر هذه الأيام بالأربعين ، وهو عدد الأيام التي عبد آباؤهم العجل فيها ، وهي مدّة غيبة موسى عليه الصلاة والسلام عنهم .
وقال الحسن وأبو العالية : قالت اليهود : إن ربنا عتب علينا في أمرنا ، فأقسم ليعذّبنا أربعين يوماً ، فلن تمسّنا النار إلاّ أربعين يوماً تحلّة القسم ، فكذبهم الله تعالى بقوله تعالى : « قُلْ : أتخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً » .
وقالت طائفة : إن اليهود قالت في التوراة : إنَّ جهنم مسيرة أربعين سنة ، وأنهم يقطعون في كلّ يوم سنة حتى يكملوها ، وتذهب جهنّم . رواه الضَّحاك عن ابن عباس .
وعن ابن عباس رضي الله عنه زعم اليهود أنه وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنّم أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزَّقوم ، فتذهب جهنم وتهلك .
فإن قيل : « وَقَالُوا : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً » وقال في مكان آخر : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } [ آل عمران : 24 ] والمصروف في المكانين واحد وهو « أيام » .
فالجواب : أن الاسم إن كان مذكراً ، فالأصل في صفة جمعه التاء ، يقال : كُوز وكِيزان مكسورة ، وثياب مَقْطوعة ، وإن كان مؤنثاً كان الأصل في صفة جمعه الألف والتاء يقال : جرّة وجِرَار مكسورات ، وخَابِية وخَوَابي مكسورات ، إلا أنه قد يوجد الجمع بالألف والتاء فيما واحده مذكّر في بعض الصور ، وعلى هذا ورد قوله :

{ في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } [ البقرة : 203 ] ، و { في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } [ الحج : 28 ] .
فصل في مدة الحيض
ذهب الحنفيّة إلى أنّ أقل الحَيْض ثلاثة أيام ، وأكثره عشرة ، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام : « دَعِي الصَّلاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ » فمدّة الحيض تسمى أياماً ، وأقلّ عدد يسمى أياماً ثلاثة ، وأكثره عشرة على ما بَيّنا ، وعليه الإشكال المتقدم .
قوله : « أَتَّخَذْتُمْ » الهمزة للاستفهام ، ومعناها الإنكار والتَّقْريع ، وبها استغني عن همزة الوصل الدّاخلة على « أتخذتم » كقوله : { أفترى عَلَى الله } [ سبأ : 8 ] { أَصْطَفَى } [ الصافات : 153 ] وبابه . وقد تقدم القول في تصريف « أتَّخَذْتُمْ » وخلاف أبي علي فيها .
ويحتمل أن تكون هنا لواحد .
وقال أبو البقاء : وهو بمعنى « جَعَلتم » المتعدية لواحد .
ولا حاجة إلى جعلها بمعنى « جعل » لتعديها لواحد ، بل المعنى : هلأ أخذتم من الله عهداً؟ ويُحتمل أن يتعدّى لاثنين ، الأول « عهد » ، والثاني « عند الله » مقدماً عليه ، فعلى الأول يتعلّق « عند الله » ب « اتَّخَذْتُمْ » .
وعلى الثاني يتعلّق بمحذوف .
ويجوز نقل حركة همزة الاستفهام إلى لام « قل » قبلها ، فتفتح وتحذف الهمزة . وهي لغة مطّردة قرأ بها نافع في رواية وَرْش عنه .
قوله : « فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ » هذا جواب الاستفهام المقتدم في قوله : « أتَّخَذْتُمْ » .
وهل هذا بطريق تضمين الاستفهام معنى الشرط ، أو بطريق إضمار الشَّرط بعد الاستفهام وأخواته؟
قولان [ تقدم تحقيقها ] واختار الزمخشري القول الثاني ، فإنه قال : « فَلَنْ يُخْلِفَ » متعلّق بمحذوف تقديره : إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده .
وقال ابن عطيةك « فلن يخلف الله عَهْده : اعتراض بين أثناء الكلام » كأنه يعني بذلك أن قوله : « أم تقولون » مُعَادل لقوله : « أتخذتم » فوقعت هذه الجملة بين المتعادلين مُعْترضة ، والتقدير أيّ هذين واقع اتخاذكم العهد أم قولكم بغير علم؟ فعلى هذا لا محلّ لها من الإعراب ، وعلى الأول محلها الجزم .
قوله : « أَمْ تَقُولُونَ » « أم » هذه يجوز فيها وجهان :
أحدهماك أن تكون متّصلة ، فتكون للمعادلة بين الشيئين ، أي : أيّ هذين واقع ، وأخرجه مُخْرج المتردّد فيه ، وإن كان قد علم وقوع أحدهما ، وهو قولهم على الله مالا يعلمون للتقرير ، ونظيره : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] علم أيهما على هدى ، وأيهما في ضلال ، وقد عرف شروط المتصلة أول السورة .
ويجوز أن تكون منقطعة ، فتكون غير عاطفة ، وتقدر ب « بل » والهمزة ، والتقدير : بل أتقولون ، ويكون الاستفهام للإنكار؛ لأنه قد وقع القول منهم بذلك ، هذا هو المشهور في « أم » المنقطعة ، وزعم جماعهة أنها تقدر ب « بل » وحدها دون همزة استفهام ، فيعطف ما بعدها [ على ما قبلها ] في الإعراب؛ واستدّل عليه بقولهم : « إن لنا إبلاً أَمْ شَاءً » بنصب « شَاءً » وقول الآخر : [ الطويل ]

611 فَلَيْتَ سُلَيْمَى في الْمَمَاتِ ضَجِيعَتي ... هُنَالِكَ أَمْ فِي جَنَّةٍ أَمْ جَهَنَّمِ
التقدير : بل في جهنَّم ، ولو كانت همزة الاستفهام مقدَّرةً بعدها لوجب الرفع في « شاء » ، و « جهنم » على أنها خبر لمبتدأ محذوف ، وليس لقائل أن يقول : هي في هذين الموضعين مُتَّصلة لما عرف أن من شرطها أن تتقدّمها الهمزة لفظاً أو تقديراً ، ولا يصلح ذلك هنا .
قوله : « مَا لاَ تَعْلَمُونَ » ما منصوبة ب « تقولون » ، وهي موصولة بمعنى « الذي » أو نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف ، أي : ما لا تعلمونه ، فالجملة لا محلّ لها على القول الأول ، ومحلّها النصب على الثاني .
فصل في الاستدلال بالآية على أمور
الآية تدلّ على أمور :
أحدها : أن القول بغير دليل باطل .
الثاني : ما جاز وجوده وعدمه عقلاً لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلاَّ بدليل سمعي .
الثالث : تمسّك منكرو القياس وخبر الواحد بهذه الآية ، قالوا : لأن القياس وخبر الواحد لا يفيدان العلم ، فهو قول على الله بما لا يعلم .
والواجب : أنه دلت الدلائل على وجوب العمل عند حصول الظّن المستفاد من القياس ، منه خبر الواحد ، فكان وجوب العمل عنده معلوماً ، فكان القول به قولاً بالمعلوم .

بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)

« بلى » حرف جواب ك « نعم وجير وأَجَلوإي » ، إلا أن « بلى » جواب لنفي متقدم ، سواءً دخله استفهام أم لا فيكون إيجاباً له نحو قول زيد ، فتقول : بلى ، أي : قد قام ، وتقول : أليس زيد قائماً فتقول : بلى أيى هو قائم قال تعالى : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] ويروى عن ابن عَبّاس أنهم لو قالوا نعم لكفروا .
وقال بعضهم : إن « بلى » قد تقع جواباً لنفي متقدّم وقد تقع جواباً لاستفهام إثبات كما قال عليه الصّلاة والسلام للذي سأله عن عطية أولاده : أَتُحِبُّ أَنْ تُسَاوِيَ بَيْنَ أَوْلاَدِكَ في البِرِّ « قال : » بَلَى « .
وقوله عليه الصلاة والسلام لرجل : أَلَسْتَ أَنْتَ الَّذِي لَقِيتُهُ ب » مكة « ؟ قال : » بلى « فأما قوله : [ الوافر ]
612 أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو ... وَإِيَّانَا ، فَذَاكَ بِنَا تَدَانِي
نَعَمْ وَتَرى الْهِلاَلَ كَمَا أَرَاهُ ... وَيعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلاَنِي
فقيل : ضرورة . وقيل : نظر إلى المعنى؛ لأن الاستفهام إذا دخل على النفي قرره وبهذا يقال : فيكف نقل عن ابن عباس أنهم لو قالوا لكفروا مع أنّ النفي صار إيجاباً . وقيل : قوله : » نعم « ليس جواباً ب » أليس « إنما هو جواب لقوله : » فَذَاكَ بَنَا تَدانِي « فقوله تعالى : » بَلَى « رد لقولهم : » لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ « أي : بلى تمسّكم أبداً ، في مقابلة قولهم : » إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ « وهو تقدير حسن .
والبصريون يقولون : إن » بلى « حرف بَسِيْط ، وزعم الكوفيون أن أصلها » بلى « التي للإضراب زيدت عليها » الباء « ليحسن الوَقْف عليها ، وضمنت الياء معنى الإيجاب قيل : تدّل على رد النفي ، والياء تدلّ على الإيجاب يعنون بالياء الألف . وإنما سموها ياء؛ لأنها حرف عال وتكتب بالياء .
و » مَنْ « يجوز فيها وَجْهَان .
أحدهما : أن تكون موصولة بمعنى » الذي « والخبر قوله : » فأولئك « ، وجاز دخول الفاء في الخبر لاستكمال الشروط ، ويؤيد كونها موصولة ، وذكر قسيمها موصولاً وهو قوله : » وَالَّذِينَ كَفَرُوا « ، ويجوز أن تكون شرطية ، والجواب قولهك » فَأُوْلَئِكَ « ، وعلى كلا القولين فحملّها الرفع بالابتداء ، ولكن إذا قلنا : إنها موصولة كان الخبر : » فأولئك « وما بعدها بلا خلاف ، ولا يكون لقوله : » كَسَبَ سَيِّئَةً « وما عطف عليه محلّ من الإعراب؛ لوقوعة صلة .
وإذا قلنا : إنها شرطية جاء في خبرها الخلاف المشهور ، إما الشرط أو الجزاء ، أو هما حسب ما تقدم ، ويكون قوله : » كَسَبَ « وما عطف عليه في محلّ جزم بالشرط .

« سَيّئة » مفعول به ، وأصلها : « سَيْوِئَة » ؛ لأنها من ساء يسوءُ فوزنها « فَيْعِلَة » فاجتمع الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فأعلت إعلال « سَيِّد ومَيِّت » كما تقدم .
وراعى لفظ « مَن » فأفرد في قوله : « كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ » والمعنى مرة أخرى مجمع في قوله : « فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فيهَا خَالِدُونَ » .
وقرأ نافع وأهل « المدينة » « خَطِيئَاتِه » بجمع السلامة والجمور : « خَطِيْئة » بالإفراد ، ووجه القراءتين ينبني على معرفة السّيئة والخطيئة .
وفيهما أقوال :
أحدها : أنهما عبارتان عن الكُفْر بلفظين مُخْتلفين .
الثاني : أنهما عبارتان عن الكُفْر بلفظين مخْتلفين .
الثالث : [ عكس الثاني ] .
فوجه قراءة الجماعة على الأول والثالث أن المراد بالخطيئة الكفر ، وهو مفرد ، وعلى الوجه الثَّاني أن المراد به جنس الكبيرة ، ووجه قراءة نافع على الوَجْه الأول والثالث أن المراد بالخَطِيئات أنواع الكُفْر المتجددة في كلّ وقت ، وعلى الوجه الثاني أن المراد به الكبائر وهي جماعة .
وقيل المراد بالخطيئة نفس السّيئة المتقدمة ، فسماها بهذين الاسمين تقبيحاً لها كأنه قال : وأحاطت به خطيئهُ تلك أي السيئة ، ويكون المراد بالسّيئة الكُفْر ، أو يراد بهم العُصَاة ، ويكون أراد بالخلود المُكث الطويل ، ثم بعد ذلك يخرجون .
وقوله : « فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ » إلى آخره تقدم نظيره .
وقرى « خطاياه » تكسيراًن وهذه مخالفة لسواد المصحف؛ فإنه رسم « خطيئتهُ » بلفظ التوحيد ، وتقدم القول في تعريف خَطَايا .
فصل في لظفة « بلى »
قال صاحب « الكشاف » : بلى إثبات لما بعد حرف النفي ، وهو قوله : « لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ » أي : بلى تمسكم أبداً بدليل قوله : « هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ » .
أما السيئة فإنها تتناول جميع المعاصي ، قال تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] « مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ » ولما كان من الجائز أن يظن أن كلّ سيئة صغرات أو كبرت ، فحالها سواء في أنّ فاعلها يخلد في النَّار لا جرم بَيَّنَ تعالى أن الذي يستحقّ به الخلود أن يكون سيئة مُحِيْطة به ، ومعلوم أن لفظ الإحاطة حقيقة في إحاطة جسم بجسم آخر كإحاطة السُّور بالبلد والكُوز بالماء ، وذلك هاهنا ممتنع ، فنحمله على ما إذا كانت السيئة كبيرة لوجهين :
أحدهما : أن المحيط يستر المحاط به ، والكبيرة لكونها محيطة لثواب الطاعات كالسَّاترة لتلك الطاعات ، فكانت المُشَابهة حاصلةً من هذه الجهة .
والثانيك أن الكبير إذا أَحْبَطَتْ ثواب الطَّاعات ، فكأنها استولت على تلك الطاعات ، وأحاطت بها كما يحيط العَسْكر بالإنسان بحيث لا يتمكن من التخلص منه فكأنه تعالى قال : بلى من كَسَبَ كبيرة وأحاطت كبيرته بطاعاته ، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
فإن قيل : هذه الآية : وردت في حق اليهود؟
[ فالجواب ] : العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب ، هذا وجه استدلال المعتزلة في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر .

وقد اختلف أهل القبلة [ فيه ] فمنهم من قطع بوعيدهم وهم فريقان؛ منهم من أثبت الوعيد المؤبّد ، وهم جمهور المعتزلة والخوارج .
ومنهم من أثبت وعيداً منقطعاً ، وهو قول بشر المريسي .
ومنهم من قطع بأنه لا وعيد لهم ، وهو قول شاذّ ينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر .
والقول الثالث : أنّا نقطع بأنه سبحانه يعفو عن بعض العُصَاة ولكنا نتوقف في حقّ كل أحد على التعيين ، ونقطع بأنه إذا عَذَّبَ أحداً منهم ، فإنه لا يعذبه أبداً ، بل يقطع عذابه ، وهذا قول أكثر الأَصْحَاب والتابعين ، وأهل السنة والجماعة ، وأكثر الإمامية ، فيشتمل هذا البحث على مسألتين .
إحداهما : القطع بالوعيد .
والأخرى : إذا ثبت الوعيد ، فهل يكون ذلك على صفة الدوام أم لا؟ أما المعتزلة فإنهم استدلوا بالعمومات الواردة وهي على قسمين :
أحدهما : صيغة « من » في معرض الشرط .
والثاني : صيغة الجمع . فأما صيغة « من » في الشرط فإنها تفيد العُمُوم على ما ثبت في أصول الفقه ، فكلّ آية وردت في القرآن بصيغة « من » في الوعيد ، فقد استدلّت المعتزلة بها .
قالوا : لأنها تفيد العموم من وجوه :
أحدها : أنها لو لم تكن موضوعة للعموم لكانت إما موضوعة للخصوص ، أو مشتركة بينهما ، والقسمان باطلان ، فوجب كونها موضوعة للعموم .
أما بطلان كونها موضوعة للخُصُوص ، فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المتكلّم أن يعطي الجزاء لكلّ من أتى بالشرط؛ لأنّ على هذا التقدير لا يكون ذلك الجزاء مرتباً على ذلك الشّرط لكنهم أجمعوا على أنه إذا قال : من دخل داري أكرمته أنه يحسن أن يكرم كلّ من دخل داره ، فعلمنا أن هذه اللفظة ليست للخصوص .
وأما بطلان كونها موضعة للاشتراك فلأمرين :
الأول : أنَّ الاشتراك خلاف الأصل .
والثاني : أنه لو كان ذلك لما عرف كيفية ترتّب الجزاء على الشرط إلاَّ بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قال : مَنْ دخل داري أكرمته ، فيقال له : أردت الرجال أو النساء؟ فإذا قال : أردت الرجال يقال له : أردت العرب أم العجم؟ فإذا قال : أردت العرب يقال له : أردت ربيعة أم مضر؟ وهلم جرّاً إلى إن يأتي على جميع التقسيمات المُمْكنة ، لما علمنا بالضرورة من عادة أهل اللسان قُبْحَ ذلك علمنا أن القول بالاشتراك باطل .
الوجه الثاني : صحة الاستثناء منهما ، فإن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل .
الوجه الثالث : أنه لما نزل قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] قال ابن الزبعرى : لأخصمن محمداً صلى الله عليه وسلم ثم قال يا محمد أليس قد عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد عيسى ابن مريم ، فتمسك بعموم اللفظ والنبي عليه الصلاة لم ينكر عليه ذلك ، فدل ذلك على أن هذه الصيغة تفيد العموم .

النوع الثاني من دلائل المعتزلة : التمسّك في الوعيد بصيغة الجمع المعرفة بالألف واللام ، قال تعالى : { وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 14 ] فإنها تفيد العموم ، ويدل عليه وجوه :
أحدها : قول أبو بكر رضي الله عنه : « الائمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ » والأنصار سلموا له صحة تلك الحجة . ولما هَمّ بقتال مانعي الزكاة قال له عمر رضي الله عنه : أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم « اُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ » فاحتج عليه بهذا اللفظ بعمومه ، ولم يقل أبو بكر ولا أحد من الصحابة : إن اللفظ لا يفيده ، بل عدل إلى الاستثناء ، فقال إنه عليه الصلاة والسلام قال : « إِلاَّ بحَقِّهَا » .
الثاني : أن هذا الجمع يؤكّد بما يقتضي الاستغراق ، فوجب أن يفيد الاستغراق لقوله تعالى : { فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] وما كان كذلك فوجب أن يؤكد المؤكد في أصله الاستغراق؛ لأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد أجماعاً ، والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتاً في الأصل .
الثالث : صحّة الاستثناء منه .
الرابع : أن المعرف يقتضي الكثرة فوق المنكر؛ لأنه يصح انتزع المنكر من المعرف ولا ينعكس ، ومعلوم أن المنتزع [ منه أكثر من المنتزع ] .
النوع الثاني : صيغ الجموع المقرونة بحرف « الذي كقوله تعالى : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى } [ النساء : 10 ] { الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة } [ النحل : 28 ] { والذين كَسَبُواْ السيئات } [ يونس : 27 ] { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة } [ التوبة : 34 ] { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات } [ النساء : 18 ] فلو لم يكن الفاسق من أهل الوعيد لم يكن له في التوبة حاجة .
النوع الثالث : لفظة » ما « كقوله { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } [ آل عمران : 180 ] .
النوع الرابع : لفظة » كل « كقوله : { وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ } [ يونس : 54 ] .
النوع الخامس : ما يدلّ على أنه سبحانه لا بد وأن يفعل ما توعدهم به وهو قوله : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد 0 مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ } [ ق : 28 ، 29 ] صريح في أنه تعالى لا بد وأن يفعل ما دلّ اللفظ عليه ، وكذا الكلام في الصّيغ الواردة في الحديث .
والجواب من وجوه :
أحدها : لا نسلم أن صيغة » من « في [ معرض ] الشرط للعموم ، و لانسلّم أن صيغة الجمع إذا كانت معرفة بالألف واللام كانت للعوم ، والذي يدلّ عليه أمور :
الأول : أنه يصحّ إدخال لفظتي الكل والبعض على هاتين اللَّفظتين ، فيقال : كل من دخل داري أكرمته ، وبعض مَنْ دخل داري أكرمته ، ويقال أيضاً : كل الناس كذا ، وبعض الناس كذا ، ولو كانت لفظة » من « في معرض الشرط تفيد العموم لكان إدخال لفظة » كل « عليها تكريراً ، وإدخال لفظة » بعض « عليها نقضاً ، وكذلك في [ فلظ الجمع ] المعرف .

الثاني أن هذه الصيغ جاءت في كتاب الله تارةً للاستغراق ، وأخرى للبعض ، فإن أكثر العمومات مخصوصة ، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل ، فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين العموم والخصوص ، وذلك هو أن يحمل على إفادة الأكثر من غير بيان أن يفيد الاستغراق أو لا يفيد .
الثالث : أن هذه الصيغ لو أفادت العموم إفادة قطعية لاستحال إدخال لفظ التأكيد عليها؛ لأن تحصيل الحاصل مُحَال ، فحيث حسن إدخال هذه الألفاظ عليها علمنا أنها لا تفيد معنى العموم لا مَحَالة ، سلمنا أنها تفيد معنى ولكن إفادة قطعية أو ظنية ، والأول ممنوع وباطل قطعاً؛ لأن من المعلوم بالضرورة أنَّ الناس كثيراً ما يعبرون عن الأكثر بلفظ الكل ، والجمع على سبيل المبالغة كقوله تعالى : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 23 ] وإذا كانت هذه الألفاظ تفيد معنى العموم إفادة ظنية ، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية ، سلّمنا أنها تفيد معنى العموم إفادة قطعية ، ولكن لا بد من اشتراط أَلاَّ يوجد شيء من المخصصات ، فإنه لا نزاع في جواز تطرق التخصيص إلى العام ، فلم قلتم : إنه لم يوجد شيء من المخصصات؟ أقصى ما في الباب أن يقال : بحثنا فلم نجد شيئاً من المخصصات ، لكن عدم الوِجْدَان لا يدلّ على عدم الوجود .
وإذا كانت إفادة هذه الألفاظ الاستغراق متوقفة على نفي المخصصات ، وهذا الشرط غير معلوم [ كانت الدلالة متوقفة على شرط غير معلوم ] فوجب ألاَّ تحصل الدلالة ، ومما يؤكد هذا قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] حكم على كل الذين كفروا أنهم لا يؤمنون ، ثم إنا شاهدنا قوماً منهم قد آمنوا ، فعلمنا أنه لا بد من أحد الأمرين :
إما لأن هذه الصيغة ليست موضوعة للشمول ، أو لأنها وإن كانت موضوعة لهذا المعنى ، إلاَّ أنه قد وجدت قرينة في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يعلمون من أجلها أ ، مراد الله تعالى من هذا العموم هو الخصوص ، وأما ما كان هناك فَلِمَ يجوز مثله هاهنا؟ سلمنا أنه لا بد من بيان المخصص لكن آيات العفو مخصصة لها ، والرجحان معنا؛ لأن آيات العفو بالنسبة إلى آيات الوعيد خاصة بالنسبة إلى العام ، والخاصّ مقدم على العام لا محالة ، سلّمنا أنه لا يوجد المخصّص ، ولكن عمومات الوعيد مُعَارضة بعمومات الوعد ، ولا بدّ من الترجيح ، وهو معنى من وجوه :
أحدها : أنَّ الوفاء بالوعد أدخل في الكرم من الوفاء بالوعيد .
الثاني : أنه قد اشتهر في الأخبار أن رحمة الله سابقة على غضبه وغالبة عليه ، فكان ترجيح عمومات الوعد أولى .
الثالث : أن الوعيد حق الله تعالى والوعد حق العبد ، وحق العبد أولى بالتحصيل من حق الله تعالى ، سلّمنا أنه لم يوجد المعارض ، ولكن هذه العمومات نزلت في حق الكُفَّار ، فلا تكون قاطعة في العمومات .

فإن قيل : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب .
قلنا : هَبْ أنه كذلك ، ولكن لما رأينا كثيراً من الألفاظ العامة وردت في الأسباب الخاصة ، والمراد تلك الأسباب الخاصة فقط علمنا أنّ إفادتها للعموم لا تكون قوية . والله أعلم .
فهذا أصل البَحْث في دلائل الفريقين ، وأما دلائل الفريقين من الكتاب والسُّنة فكثيرة ، فمنها على هذه الأصل حجّة من قال بالعفو في حق العبد ، [ وبعض ] الآيات الدالة على أنه تعالى غفور رحيم غافر غفار ، وهذا لا يحسن إلاّ في حق من يستحق العذاب .
[ فإن قيل ] : لم لا يجوز حمله على تأخير العِقَابِ كقوله في قصة اليهود : { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ } [ البقرة : 52 ] والمراد تأخير العقاب إلى الآخرة ، وكذا قوله : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] وكذا قوله : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 34 ] .
فالجواب : العفو أصله الإزالة من عَفَا أمره كما قال تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [ البقرة : 178 ] وليس المراد منه التأخير إلى وقت معلوم ، بل الإسقاط المطلق ، فإن الغريم إذا أخر المطالبة لا يقال : إنه عفى فيه ، ولو أسقطه يقال : إنه عفى عنه .
الثانية : قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] وهذا يتناول صاحب [ الصغيرة وصاحب الكبيرة ] قبل التوبة؛ لأن الغفران للتائبين وأصحاب الصغائر واجب غير معلّق على المشيئة .
فإن قيل : لا نسلم أن تلك المغفرة تدلّ على أنه تعالى لا يعذب العُصَاة في الآخرة؛ لأن المغفرة إسقاط العقاب ، وهو أعم من إسقاطه دائماً أو لا دائماً واللفظ الموضوع بإزار القَدْرِ المشترك لا إشعار له بكل واحد ، فيجوز أن يكون المراد أن الله تعالى لا يؤخر عقاب الشرك في الدنيا لمن يشاء ، ويؤخر عقاب ما دون ذلك في الدنيا لمن يشاء . فحصل بذلك تخويف كل الفريقين .
سلمنا أنَّ الغفران عبارة عن الإسقاط على الدوام ، فلم لا يمكن حمله على مغفرة التائب ، ومغفرة صاحب الصغيرة؟
وأيضاً لا نسلم أن قوله : « مَا دُونَ ذَلِكَ » يفيد العموم لصحة إدخال لفظ « كل » و « بعض » على البدل ، [ مثل أن ] يقال : ويغفر كل ما دون ذلك ، وهو يمنع العموم .
سلمنا أنه للعموم ، ولكنا نخصصه بصاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة .
فالجواب : أما إذا حملنا المغفرة على التأخير ، وجب أن يكون عقاب المشركين في الدنيا أكثر [ من عقاب المؤمنين ] ، وإلاَّ لم يكن في التفضيل فائدة ، وليس كذلك لقوله تعالى : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ } [ الزخرف : 33 ] .
قوله : لم قلتم : إن قوله : « مَا دُونَ ذَلِكَ » يفيد العموم؟
قلنا : لأن قوله « ما » تفيد الإشَارَة إلى الماهية الموصوفة بأنها دون الشرك وهذه الماهيّة ما هية واحدة ، وقد حكم قطعاً بأنه يغفرها ، ففي كل صغيرة متحقق فيها هذه الماهية وجب تحقق الغفران .

الثالثة : قال يحيى بن معاذ : إلهي إذا كان توحيد ساعة يَهْدم كفر خسمين سنة فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات كان مقتضى العَدْل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي لعمومات الوعد وهي كثيرة ثم نقول : لما وقع التعارض فلا بد من الترجيح وهو معنا من وجوه :
أحدها : أن عمومات الوعد أكثر ، والترجيح بكثرة الأدلة أمر معتبر في الشرع .
وثانيها : قوله تعالى : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } [ هود : 114 ] [ يدلّ على أن الحسنة إنما كانت مذهبة للسيئة لكونها حسنة ، فوجب أن تكون كل حسنة مذهبة لكل سيئة ] ترك العمل به في حسنات الكُفَّار ، [ فإنها لا تذهب سيئاتهم ] فيبقى معمولاً به في الباقي .
وثالثها : تضعف الحسنة ، كما قال تعالى : { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ] ثم زاد فقال : « وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ » وفي جانب السَّيئة قال : { وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا } [ الأنعام : 160 ] .
ورابعها : قال في آية الوعد : { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ الله حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً } [ النساء : 122 ] .
ذكره للتأكيد ولم يقل في شيء من المواضع وعيد الله حقّاً .
وخامسها : أن القرآن مملوء من كونه تعالى غافراً غفوراً رحيماً كريماً عفوّاً رحماناً .
والأخبار في هذا قد بلغت حدّ التواتر ، وكل ذلك يوجب رُجْحَان الوعد ، وليس في القرآن ما يدل على أنه تعالى بعيد عن الرحمة والكرم والعفو ، وكل ذلك يوجب رُجْحَان جانب الوعد .
سادسها : أن الإنسان [ هذا أتى ] بأفضل الخيرات وهو الإيمان ولم يأت بأقبح القبائح وهو الكفر [ بل أتى بالبشر الذي هو في طبقة القبائح ليس في الغاية والسيد إذا أتى عبده من الطاعات ، وأتى بمعصية متوسطة ، فلو تولى بتلك المعصية على الطاعة لعد لئيماً مؤذياً ] .
فصل في الاستدلال بالآية
قد شُرِطَ في هذه الآية شرطان :
أحدهما : اكتساب السّيئة .
والثاني : إحاطة تلك السيئة بالعَبْدِ ، وذلك يدل على أنه لا بُدّ من وجود الشرطين ولا يكفي وجود أحدهما ، وهذا يدل على أن من عقد اليمين على شرطين في طلاق أو أعتاق أنه لا يحنث بوجود أجدهما .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)

اعلم أنه سبحانه وتعالى : ما ذكر في القرآن آية وعيد إلا وذكر في جنبها آية وَعْد ، وذلك لفوائد :
أحدها : أن يظهر سبحانه بذلك عدله؛ لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصّرين على الكفر ، وجب أن يحكمم بالنَّعيم الدائم على المصرين على الإيمان .
وثانيهما : أنّ المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه على ما قال عليه الصلاة والسلام : « المؤمن لَوْ وَزِنَ خُوْفُهُ وَرَجَاؤهُ لاَعْتَدَلاَ » وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق .
وثالثها : أن يظهر بوعده كمال رحمته وبوعيده كما حِكْمته ، فيصير ذلك سبباً [ للعرفان ] .
فإن قيل : دلّت الآية على أنْ العمل الصالح خارج عن الإيمان؛ لأنه لو دلّ الإيمان على العمل الصالح لعد الإيمان تكريراً .
أجاب القاضي : بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة إلاّ أن قوله : « آمن » لا يفيد إلا أنه فعل فعلاً واحداً من أفعال الإيمان ، فلهذا حسن أن يقول : « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .
والجواب : أن فعل الماضي يدلّ على حصول المصدر في زمان معين والإيمان هو المصدر فلو دلّ ذلك على جميع الأعمال الصالحة لكان قوله : » آمَنَ « دليلاً على صدور تلك الأعمال منه .
فصل في مرتكب الكبيرة
هذه الآية تدلّ على أن صاحب الكبيرة قد يدخل الجنة؛ لأنه أتى بالإيمان والأعمال الصالحات ، ثم أتى بعد ذلك بالكبيرة ، ولم يَتُبْ عنها ، فهذا الشَّخص قبل إتيانه بالكبيرة كان قد صدق عليه أنه آمن ، وعلم الصالحات [ في ذلك الوقت ، ومن صدق عليه ذلك قوله : » أُولَئِكَ أًصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ « .
فإن قيل قوله تعالى : » وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ « لا يصدق عليه إلا إذا أتى بجميع [ الأعمال ] ، ومن جملة الصَّالحات التوبة ، فإذا لم يأت بها لم يكن آتياً بالصالحات ، فلا يندرج تحت [ الآية ] .
قلنا : [ لو سلمنا أنه قبل ] الإتْيَان بالكبيرة [ صدق ] عليه أنه آمن وعمل الصالحات [ لأنه متى صدق المركب يجب صدق المفرد ، بل إنه إذا أتى بالكبيرة لم يصدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات ] في كل الأوقات ، لكن قولنا : آمن وعمل الصالحات أعم من قولنا : إنه كذلك في كل الأوقات ، أو في بعض الأوقات ، والمعتبر في الآية هو القَدْرُ المشترك ، فثبت أنه مندرج تحت حكم الوَعْدِ .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

« إذْ » معطوف على الظرف قبله ، وقد تقدم ما فيه من كونه متصرفاً أو لا .
و « أّخَذْنَا » في محلّ خفض ، أي : واذكر وَقْت أَخْذنا ميثاقهم ، أو نحو ذلك .
« لا تَعْبُدُونَ » قرأ ابن كثير وغيره والكِسائي بالياء ، والباقون بالتاء .
فمن قرأ فلأن الأسماء الظَّاهرة حكمها الغيبة ، ومن قرأ بالخطاب هو الْتِفَات ، وحكمته أنه أدعى لِقَبُول المخاطب الأمر والنهي الواردين عليه .
وجعل أبو البقاء قراءة الخِطَاب على إضمار القول .
قال : يقرأ بالتاء على تقدير : قلنا لهم : لا تعبدون إلا الله وكونه التفاتاً أحسن .
وفي هذه الجملة المنفيّة من الإعراب ثمانية أوجه :
أظهرها : أنها مفسرة لأخذ الميثاق ، وذلك لأنه تعالى لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل كان ذلك في إبْهَام للميثاق ما هو؟ فأتى بهذه الجُمْلة مفسرة له ، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب .
الثاني : أنها في محلّ نصب على الحال من « بَنِي إِسْرَائِيْلَ » وفيها حينئذ وجهان :
أحدهما : أنها حال مقدّرة بمعنى : أخذنا ميثاقهم مقدّرين التوحيد أبداً ما عاشوا .
والثَّاني : أنَّها حال مقارنة بمعنى : أخذنا مِيْثَاقهم ملتزمين الإقامة على التوحيد ، قاله أبو البقاء [ وسبقه إلى ذلك قطرب والمبرد ] .
وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذلك على الصحيح ، خلافاً لمن أجاز مجيئها من المُضَاف إليه مطلقاً ، لا يقال : المضاف إليه معمول له في المعنى ل « ميثاق » ؛ لأن ميثاقاً إما مصدر أو في حكمه ، فيكون ما بعده إما فاعلاً أو مفعولاً ، وهو غير جائز « لأن من شرط عمل المصدر غير الواقع موقع الفعل أن ينحل إلى حرف مصدري ، وفعل هذا لا ينحل لهما ، لو قدرت : وإذ أخذنا أن نواثق بني إسرائيل ، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل ، لم يصح ألا ترى أنك لو قلت : أخذت علم زيد لم يتقدر بقول : أخذت أن يعلم زيد ، ولذلك منع ابن الطَّراوة في ترجمة سيبويه : » هذا باب علم ما الكلم من العربية « أن يقدر المصدر بحرف مصدري والفعل ، ورده وأنكر على من أجازه .
الثالث : أن يكون جواباً لقسم محذوف دلّ عليه لفظ المِيْثَاق ، أي : استحلفناهم ، أو قلنا لهم : بالله لا تعبدون ، ونسب هذا الوجه لسيبويه ، ووافقه الكسائي والفَرّاء والمبرد .
الرابع : أن يكون على تقدير حذف حرف الجر ، وحذف » أن « ، والتقدير : أخذنا ميثاقهم على ألاَّ تعبدوا ، فَحُذِف حرف الجر؛ لأن حذفه مطرد مع » أنَّ وأنْ « كما تقدم ، ثم حذفت » أن « الناصبة ، فارتفع الفعل بعدها؛ كقول طرفة : [ الطويل ]
613 أَلاّ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى ... وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ ، هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي

وحكي عن العرب : « مُرْهُ يَحْفِرَهَا » أي : بأن يحفرها ، والتقدير : عن أن يحضر ، أو بأن يحفرها ، وفيه نظر ، فإن [ إضمار ] « أن » لا ينقاس ، إنما يجوز في مواضع عدها النحويون ، وجعلوا ما سواها شاذّاً قليلاً ، وهو الصحيح خلافاً للكوفيين ، وإذا حذفت « أن » ، فالصحيح جواز [ النصب والرفع ] ، وروي « مُرْهُ يَحْفِرهَا » و « أحضر الوَغَى » بالوجهين ، وهذا رأي المبرد والكوفيين خلافاً لأبي الحسن ، حيث التزم رفعه .
وأيد الزمخشري هذا الوجه الرابع بقراءة عبد الله : « لاَ تَعْبُدُوا » على النهي ، قال : إلاَّ أنه جاء على لفظ الخبر لقوله تعالى : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } [ البقرة : 233 ] ، قال : والذي يؤكد كونه نهياً [ قوله : « وأقيموا الصلاة » ] فإنه تنصره قراءة عبد الله وأُبي : « لا تعبدوا » .
الخامس : أن يكون في محلّ نصب بالقول المحذوف ، وذلك القول حال تقديره : قائلين لهم : لا تعبدون إلا الله ، ويكون خبراً في معنى النهي ، ويؤيده قراءة أُبَي المتقدمة ، ولهذا يصح عطف « قُولُوا » عليه ، وبه قال الفَرّاء .
السادس : أَنَّ « أنْ » الناصبة مضمرة كما تقدم ، ولكنها هي وما في حَيّزها في محلّ نصب على أنها بدل من « مِيْثَاق : ، وهذا قريب من القول الأول من حيث إن هذه الجملة مفسرة للميثاق ، وفيه النظر المتقدم أعني حذف أن في غير المواضع المقيسة .
السابع : أن يكون منصوباً بقول محذوف ، وذلك القول ليس حالاً ، بل مجرد أخبار ، والتقدير : وقلنا لهم ذلك ، ويكون خبراً في معنى النهي .
قال الزمخشري : كما تقول : تذهب إلى فلان تقول له : كذا تريد الأمر ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي؛ لأنه كأنه سُورعَ إلى الامتثال والانتهاء ، فهو يخبر عنه ، وتَنْصره قراءى عبد الله وأُبَيّ : » لاَ تَعْبُدُوا « ولا بد من إرادة القول بهذا .
الثامن : أن يكون التقدير : » ألاَّ تَعْبُدُونَ « وهي » أن « المفسرة؛ لأن في قوله : أخَذْنَا مِيْثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ » إيهاماً كما تقدم ، وفيه معنى القول ، ثم حذف « أن » المفسرة ، ذكره الزَّمخشري .
وفي ادعاء حذف حرف التفسير نظر لا يخفى .
قوله : « إِلاَّ اللهَ » استثناء مفرغ؛ لأن ما قبله مفتقر إليه وقد تقدم تحقيقه أولاً .
وفيه التفات من التكلّم إلى الغيبة ، إذ لو جرى الكَلاَم على نسقه لقيل : لا تعبدون إلاَّ إيانا ، لقوله : « أَخّذْنَا » .
وفي هذا الالتفات من الدّلالة على عظم هذا الاسم والتفرد به ما ليس في المضمر ، وأيضاً الأسماء الواقعة ظاهرة ، فناسب أن يجاوز الظاهرُ الظاهرَ .
فصل في مدلول « الميثاق »
هذا الميثاق يدلّ على تمام ما لا بد منه في الدينن لأنه تعالى لما أمر بعبادته ، ونهى عن عبادة غيره ، وذلك مسبوق بالعِلْمِ بذاته سبحانه ، وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه ، وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد ، ومسبوق أيضاً بالعلم بكيفية تلك العبادة الَّتِي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوَحْي والرسالة ، فقوله : « لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ » يتضمّن كلّ ما اشتمل عليه الكلام والفقه والأحكام .

وقال مكّي : « هذه الميثاق هو الذي أخذه عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم كالذَّر » و « بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً » فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن تتعلق الباء ب « إحساناً » على أنه مصدر واقع [ موقع } فعل الأمر ، والتقدير وأحسنوا وبالوالدين ، والباء ترادف « إلى » في هذا المعنى ، تقول : أحسنت به وإليه ، بمعنى أن يكون على هذا الوجه ثَمَّ مضافٌ محذوف ، وأحسنوا بر الوالدين بمعنى : أحسنوا إليهما برّهما .
قال ابن عطية : يعترض على هذا القول ، أن يتقدّم على المصدر معمولُهُ ، وهذا الاعتراض لا يتم على مَذْهَب الجمهور ، فإن مذهبهم جواز تقديم معمول المَصْدر النَّائب عن فعل الأمر عليه ، تقول : « ضرباً زيداً » وإن شئتك « زيداً ضرباً » وسواء عندهم إن جعلنا العمل للفعل المقدر ، أم للمصدر النائب عن فعله ، فإن التقديم عندهم جائز ، وإنما بمتنع تقدم معمول المَصْدر المنحل لحرف مصدري والفعل كما تقدم وإنما يتم على مذهب أبي الحسن ، فإنه منع تقديم معمول المصدر النائب عن الفعل ، ويخالف الجمهور في ذلك .
الثاني : أنها متعلّقة بمحذوف وذلك المحذوف يجوز أن يقدر فعل أمر مُرَاعاة لقوله : « لاَ تَعْبُدُونَ » فإنه في معنى النهي كما تقدم ، كأنه قال : لا تبعدوا إلا الله وأحسنوا بالوالدين ، ويجوز أن يقدر خبراً مراعاة لِلَفْظِ « لاَ تَعْبُدُونَ » والتقدير : وتحسنون [ وإن كان معناه الأمر ، وبهذين ] الاحتمالين قدره الزمخشري ، وينتصب « إحساناً » حينئذ على المصدر المؤكّد لذلك الفعل المحذوف .
وفيه نظر من حيث إن حذف عامل المؤكّد منصوصٌ على عدم جوازه ، وفيه بحث ليس هذا موضعه .
الثالث : أن يكون التقدير : واستوصوا بالوالدين ، ف « البَاء » متعلّقة [ بهذا الفعل المقدر ] أيضاً ، وينتصب « إحساناً » حينئذ على أنه مفعول به .
الرابع : تقديره : وَوَصَّيْنَاهُمْ بالوالدين ، فالباء متعلّقة بالمحذوف أيضاً ، وينتصب « إحساناً » [ حينئذ ] على أنه مفعول لأجله ، أي : لأجل إحساننا إلى الموصى بهم من حيث إنّ الإحسان متسبّب عن وصيتنا بهم ، أو الموصى لما يترتب الثواب منّا لهم إذا أحسنوا إليهم .
الخامس : أن تكون الباء وما عملت فيه عطفاً على قوله : « لاَ تَعْبُدُونَ » إذا قيل بأن « أن » المصدرية مقدرة فينسبك منها ومما بعدها مصدر يعطف عليه هذا المجرور ، والتقدير : أخذنا ميثاقهم بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين ، أ ي : وببرّ الوالدين ، أو : بإحسان إلى الوالدين ، فتتعلّق « الباء » حينئذ ب « الميثاق » لما فيه من مَعْنَى الفعل ، فإن الظرف وشبهه تعمل فيه رَوَائح الأفعال ، وينتصب « إحساناً » حينئذ على المصدر من ذلك المضاف المحذوف ، وهو « البر » لأنه بمعناه ، أو الإحسان الذي قدرناه .

والظّاهر من هذه الأوجه هو الثَّاني ، لعدم الإضمار اللازم في غيره ، أو لأن ورود المصدر نائباً عن فعل الأمر مطّرد شانع .
وإنما تقدّم المعمول اهتماماً به وتنبيهاً على أنه أولى بالإحسان إليه ممن ذُكِرَ معه .
و « الَوالِدَان » الأب والأم ، يقال لكل واحدٍ منهما : والد؛ قال : [ الطويل ]
614 عَجِبْتُ لمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ... وَدْي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أِبَوَانِ
وقيل : لا يقال في الأم : والدة بالتاء ، وإنما قيل فيها وفي الأب : والدان تغليباً للذكر .
و « الإحسان » : الإنعام على الغير .
وقيل : بل هو أعم من الإنعام .
وقيل : هو النَّافع لكل شيء .
فصل في وجوه ذكر البر بالوالدين مع عبادة الله
قال ابن الخَطِيْبِ : إنما أراد عبادة الله بالإحْسَان إلى الوالدين لوجوه :
أحدها : أن نعمة الله على العَبْدِ أعظم النعم ، فلا بد من تقديم شكره على شُكْرِ غيره ، ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعظم النّعم؛ لأن الوالدين هما الأصل في وجود الولد ، ومنعمان عليه بالتربية ، فإنعامهما أعظم والإنْعَام بعد إنعام الله تعالى .
وثانيها : أن الله سبحانه وتعالى المؤثر في وجود الإنْسَان في الحقيقة ، والوالدان مؤثران في وجوده بحسب العُرْفِ الظاهر ، فلأنه المؤثر الحقيقي أردفه بذكر المؤثر بحسب العرف الظَّاهر .
وثالثها : أن الله سبحانه وتعالى لا يطلب على إنعامه على العبد عوضاً ألبتَّة ، وإنعام الوالدين كذلك ، فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضاً .
ورابعها : أن الله لا يملّ من الإنعام على العبد ، ولو أتى العبد بأعظم الجرائم ، فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه ، وكذلك الوالدان لا يملاَّن الولد ولا يقعطان عنه موادتهما وإن كان الولد مسيئاً إلى الوالدين .
وخامسها : كما أن الوالد المشفق يتصرّف في مال ولده بالاسْتِرْبَاح ، وطلب الزيادة ويصونه عن البخس والنقصان ، فكذلك الحقّ سبحانه وتعالى يتصرف في طاعة العبد ، فيصونها عن الضياع ويضاعفها كما قال : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } [ البقرة : 261 ] .
فلما تشابها من هذه الحيثيات كانت نعم الوالدين قليلة بالنسبة إلى نِعَمِ الله تعالى ، [ بل النعم كلها من الله تعالى فلا ] جَرَمَ ذكر الإحسان إلى الوالدين عقب ذكر عبادة الله تعالى .
فصل في وجوب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين
اتفق أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين لقوله في هذه الآية : « وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً » بغير تقييد بكونهما مؤمنين أم لا ، وقد ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف يشعر بغلبة الوصف فالأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما وَالدَيْن ، وذلك يقتضي العموم ، وهكذا الاستدلال بقوله تعالى :

{ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } [ الإسراء : 23 ] وهذا نهاية المبالغة في المنع من إيذائهما إلى أن قال : { وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء : 24 ] فصرّح ببيان السّبب في وجوب هذا التعظيم ، وكذلك قوله : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] وقوله تعالى : { وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً } [ لقمان : 15 ] صريح في الدّلالة .
و « ذِي الْقُرْبى » وما بعده عطف على المجرور بالباء ، وعلامة الجر فيها الياء؛ لأنها من الأسماء الستة التي ترفع بالواو ، وتنصب بالألف ، وتجر بالياء بشروط مذكورة ، وهل إعرابها بالحروف أو بغيرها؟ عشرة مذاهب للنَّحويين فيها .
وهي من الأسماء اللاَّزمة للإضافة لفظاً ومعنى إلى أسماء الأجناس الظاهرة؛ ليتوصّل بذلك إلى وصف النكرة باسم الجنس؛ نحو : « مَرَرْتُ بِرَجُلٍ ذِي مَالٍ » وإضافته إلى المضمر ممنوعةٌ إلا في ضرورة أو نادر كلام؛ كقوله : [ الوافر ]
615 صَبَحْنَا الْخزرَجِيَّةَ مُرْهَفَاتٍ ... أَبَانَ ذَوِي أَرُومَتِهَا ذَوُوهَا
وأنشد الكسائِيُّ : [ الرمل ]
616 إِنَّما يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ ... في النَّاسِ ذَوُوهُ
وعلى هذا قولهم : « اللهم صَلِّ على محمد وذويه » .
وإضافته إلى العلم قليلة جدًّا ، وهي على ضربين :
واجبة : وذلك إذا اقترنا وضعاً ، نحو : « ذي يزن » و « ذي رعين » .
وجائزة وذلك إذا لم يقترنا وضعاً ، نحو : « ذي قطري » و « ذي عمرو » أي : صاحب هذا الاسم .
وأقل من ذلك إضافتها إلى ضمير المخاطب؛ كقوله : [ الطويل ]
617 وَإِنَّا لَنَرْجُو عَجِلاً مِنْكَ مِثْلَ مَا ... رَجَوْنَاهُ قِدْماً مِنْ ذَوِيكَ الأَفَاضِلِ
وتجيء « ذو » موصولة بمعنى « الَّذِي » وفروعه ، والمشهورُ حينئذ بِنَاؤها وتذكيرها ، ولها أحكام كثيرة .
و « القربى » مضاف إليه ، وألفه للتَّأنيث ، وهو مصدر ك « الرُّجْعَى والعُقْبَى » ، ويطلق على قرابة الصُّلْب والرَّحِم؛ قال طَرَفَةُ : [ الطويل ]
618 وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً ... عَلَى الْحُرِّ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ
وقال أيضاً : [ الطويل ]
619 وَقَرَّبْتُ بالْقُرْبَى وَجَدِّكَ إِنَّهُ ... مَتَى يَكُ أَمْرٌ لِلنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ
والمادة تدلّ على الدّنو عند البعد .
فصل
اعلم أن حقّ ذوي القُرْبى كالتَّابع لحق الوالدين؛ لأن اتصال الأقارب بواسطة اتِّصَال الوالدين ، فلذلك أَخَّر الله تَعَالى ذكرهم بعد ذكر الوالدين ، والسبب في تأكيد رعاية هذا الحق إلى القرابة؛ لأن القرابة مظنّة الاتِّحَاد والأُلْفَة والرعاية والنصرة ، فهذا وجبت رعاية حُقُوق الأَقَارب .
فصل في أحكام تؤخذ من الآية
قال الشَّافعي رضي الله عنه : لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث المَحرم ، وغير المَحرَم ، ولا يدخل الأب والابن؛ لأنها لا يعرفان بالقَرابَة ، ويدخل الأحفاد والأجداد .
وقيل : لا يدخل الأصول والفروع .

وقيل : يدخل الكلّ .
قال الشافعي : يرتقي إلى أقرب جدّ ينسب هو إليه ويعرف به ، وإن كان كافراً .
وذكر أصحابه في مثاله : لو أنه أوصى لأقارب الشافعي ، فإنا نصرفه إلى بني شَافعٍ دون بني المطّلب ، وبني عبد مناف ، وإن كانوا أقارب؛ لأنّ الشّافعي ينتسب في المشهور إلى بني شافع دون عبد مَنَاف .
قال الغَزَالي : وهذا في زمان الشَّافعي ، أما في زماننا فلا ينصرف إلاَّ إلى أولاد الشافعي ولا يرتقي إلى بني شافع؛ لأنّه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا ، أما قرابة الأم ، فإنها تدخل في وصيّة العجم ، ولا تدخل في وصيّة العرب الأَظْهر؛ لأنهم لا يعدون ذلك قَرَابةً أما لو قال : لأرحام فلان دخل قَرَابَة الأب والأم .
قوله : « وَاليَتَامَى » وزنه « فَعَالى » ، وألفه للتأنيث ، وهو جمع « يتيم » ك « نديم ونَدَامى » ولا ينقاس هذا الجمع .
وقال ابن الخطيب : جمعه « أَيْتَام ويتامى » واليُتْم : الانفراد ، ومنه اليتيم؛ لانفراده عن أبويه أو أحدهما ، ودرة يتيمة : إذا لم يكن لها نظير .
وقيل : اليَتَيم : الإبطاء ، ومنه : صبي يتيم؛ لأنه يبطىء عنه البرّ وقيل : هو التغافل ، لأن الصبيّ يتغافل عما يصلحه .
قال الأَصْمَعيّ : « اليتيم في الآدميين من فَقَدَ الآباء ، وفي غيرهم من فقد الأمّهات » .
وقال المَاوَرْدِي : إن اليتم أيضاً في الناس من قبل فقد الأمهات .
والأول هو المعروف عند أهل اللغة ، ويسمى يتيماً إلى أن يبلغ ، يقال : يَتِمَ يَيْتَم يَتْماً مثل : سَمِعَ يَسْمعُ سَمْعاً ويَتُمَ يَيْتُم يُتْماً مثل : عَظُمَ يَعْظُم عُظْماً ، فهاتان لُغَتان مشهورتان حكاهما الفرَّاء ، ويقال : أيتمه الله إيتاماً ، أي : فعل به ذلك .
وعلامة الجَرّ في « القربى » و « اليَتَامى » كسرة مقدرة على الألف ، وإن كانت للتأنيث؛ لأنَّ ما لا ينصرف إذا أضيف أو دخلته « أل » انجزّ بالكسرة ، وهل يسمّى حينئذ منجرّاً أو منصرفاً .
ثلاثة أقوال ، يفصل في الثالث بين أن يكون أحدَ سببيه العلمية ، فيسمى منصرفاً نحو : « يَعْمُرُكُمْ » أو لا يسمى منجراً نحو : « بالأحمر » ، و « القربى واليتامى » من هذا الأخير .
فصل في رعاية اليتيم
[ اليتيم كالتالي ] لرعاية حقوق الأقارب؛ لأنه لصغره لا ينتفع به وليتمه وخلوه عمن يقوم به يحتاج إلى من ينفعه ، والإنسان قلّما يرغب في صُحبة مثل هذا ، وإن كان هذا التكليف شاقّاً على الأنفس لا جَرَمَ كانت درجته عظيمةً في الدين .
قال عليه الصلاة والسلام : « أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيْمِ كَهَاتَيْنِ فِي الجَنَّةِ » وأشار بالسَّبَّابة والوسطى . وقال عله الصلاة والسلام : [ « مَا قَعَدَ يَتِيْم مع قَوْم عَلَى قَصْعَتِهِمْ فَيقرب قَصْعَتَهُمُ الشَّيْطَانُ » وقال عليه السلام ] : « مَنْ ضَمَّ يَتِيْماً مِنْ بَيْنِ المُسْلِميْنَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يُغْنِيَهُ اللهًُ عَزَّ وَجَلَّ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلاً لاَ يُغْفَرُ » .

قوله : « والمساكين » جمع « مسكين » ، ويسمونه جمعاً لا نظير له من الآحاد ، وجمعاً على صيغة منتهى الجُمُوع ، وهو من العِلَلِ القائمة مقام علّتين ، وسيأتي تحقيقه قريباً إن شاء الله تعالى .
وتقدم القول في اشتقاقه عند ذكر المسكنة .
واختلف فيه : هل هو بمعنى الفقير أو أسوأ حالاً منه كقوله : { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [ البلد : 16 ] أي : لصق جلده بالتراب ، وهو قول أبي حنيفة وغيره بخلاف القير؛ فإن له شيئاً ما .
قال : [ البسيط ]
620 أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَم يُتْرَكْ لَهُ سَبدُ
أو أكمل حالاً؛ لأن الله جعل لهم ملكاً ما ، قال : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } [ الكهف : 79 ] وهو قول الشافعي وغيره .
فصل
إنما تأخّرت درجتهم عن اليتامى؛ لأن المِسْكين قد ينتفع به في الاستخدامن فكان الميل إلى مُخَالطته أكثر من المَيْل إلى مُخَالطة اليتامى ، وأيضاً المسكين يمكنه الاشتغال بتعهّد نفسه ، ومصالح معيشته ، واليتيم ليس كذلك ، فلا جَرَمَ قدم الله ذكر اليتيم على المسكين .
قال : عليه الصَّلاة والسلام : « السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ والمِسْكِينَ كَالمُجَاهِدِ فِي سَبِيْلِ اللهِ وأحسبه قال وَكَالقَائِمِ لاَ يَفْتُرُ مِنْ صَلاَةٍ وَكَالصَّائم لاَ يُفْطِرُ » .
قال ابن المنذر : كان طاوس يرى السَّعي على الأخواب أفضل من الجهاد في سبيل الله .
قوله : « وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً » هذه الجملة عَطْفٌ على قوله : « لاَ تْعُبُدُونَ » في المعنى ، كأنه قال : لا تعبدوا إلا الله ، وأحسنوا بالوالدين وقولوا ، أو على « أحسنوا » المقدر ، كما تقدم تقريره في قوله تعالى : « وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً » .
وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً لقول محذوف تقديره : وقلنا لهم : قولُوا .
وقرأ حمزة والكسائي : « حَسَناً » بفتحتين ، و « حُسُناً » بضمتين ، و « حُسْنَى » من غير تنوين ك « حُبْلى » و « إِحْسَاناً » من الرباعي .
فأما من قرأ : « حُسْناً » بالضم والإسكان ، فيحتمل أوجهاً :
أحدها وهو الظَّاهر أنه مصدر وقع صفةً لمحذوف تقديره : وقولوا للناس حُسناً أي : ذا حسن .
الثاني : أن يكون وصف به مُبَالغة كأنه جعل القول نفسه حسناً .
الثالث : أنه صفة على وزن « فُعْل » ، وليس أصله المصدر ، بل هو كالحلو والمر ، فيكون بمعنى « حَسَنٍ » بفتحتين ، فيكون فيه لغتان : حُسْن وحَسَن ك « البُخْل والبَخَل ، والحُزْن والحَزَن ، والعُرْب والْعَرب » .
الرابع : أنه منصوب على المَصْدر من المعنى ، فإن المعنى : وَلْيَحْسُنْ قَوْلُكم حُسْناً .
وأما قراءة : « حَسَناً » بفتحتين فصفة لمصدر محذوف تقديره : قولاً حسناً ، كما تقدم في أحد أوجه « حُسْناً » .
وأما « حُسْناً » بضمتين ، فضمة السين لإتباع الحاء ، فهو بمعنى « حُسْناً » بالسكون ، وفيه الأوجه المتقدمة .

وأما « حُسْنَى » بغير تنوين فمصدر ك « البُشْرَى والرُّجْعَى » .
وقال النحاس في هذه القراءة : ولا يجوز هذا في العربية ، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام ، نحو : الكُبْرَى والفُضْلى . هذا قول سيبويه ، وتابعه ابن عطية على هذا ، فإنه قال : ورده سيبويه؛ لأن « أفعل » و « فعلى » لا يجيء إلا معرفة إلاَّ أن يزال عنها معنى التَّفضيل ، ويبقى مصدراً ك « العُقْبى » ، فذلك جائز ، وهو وجه القراءة بها . انتهى وناقشه أبو حيان وقال : في كلامه ارْتباك؛ لأنه قال : لأن « أفعل » و « فعلى » لا يجيء إلا معرفة ، وهذا ليس بصحيح .
أما « أَفْعل » فله ثلاثة استعمالات .
أحدها : أن يكون معها « مِنْ » ظاهرة أو مقدرة ، أو مضافاً إلى نكرة ، ولا يتعرف في هذين بحال .
الثاني : أن تدخل عليه « أل » فيتعرف بها .
الثالث : أن يضاف إلى معرفة فيتعرف على الصحيح .
وأما « فُعْلى » فلها استعمالان :
أحدهما : بالألف واللام .
والثاني : الإضافة لمعرفة ، وفيها الخلاف السابق .
وقوله : « إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ، وتبقى مصدراً » ظاهر هذا أن « فُعْلى » أنثى « أفعل » إذا زال عنها معنى التفضيل تبقى مصدراً وليس كذلك ، بل إذا زال عن « فعلى » أنثى « أفعل » معنى التفضيل صارت بمنزلة الصفة التي لا تفضيل فيها؛ ألا ترى إلى تأويلهم « كُبْرى » بمعنى كبيرة ، « وصُغْرى » بمعنى صغيرة ، وأيضاً فإن « فعلى » مصدر لا يَنْقَاسُ ، إنما جاءت منها الألفاظ ك « العُقْبَى والبُشْرَى » ثم أجاب الشيخ عن هذا الثاني بما معناه أن الضمير في قوله : « عنها » عائد إلى « حسنى » لا إلى « فعلى » أنثى « أفعل » ، ويكون استثناء منقطعاً كأنه قال : إلا أن يزال عن « حسنى » التي قرأ بها أُبَيّ معنى التفضيل ، ويصير المعنى : إلا أن يُعْتقد أن « حسنى » مصدر لا أنثى « أفعل » .
وقوله : « وهو وجه القراءة بها » أي والمصدر وجه القراءة بها . وتخريج هذه القراءة على وجهين :
أحدهما : المصدر ك « البُشْرى » وفيه الأوجه المتقدمة في « حسناً » مصدراً ، إلا أنه يحتاج إلى إثبات « حُسْنى » مصدراً من قول العرب : حَسُن حُسْنَى ، كقولهم : رَجَع رُجْعَى ، إذا مجيء « فُعْلى » مصدراً لا يَنْقَاسُ .
والوجه الثاني : أن تكون صفةً لموصوف محذوف ، أي : وقولوا للناس كلمةً حُسْنَى ، أو مقالةً حسنى ، وفي الوصف بها حينئذ وجهان :
أحدهما : أن تكون للتفضيل ، ويكون قد شَذَّ استعمالها غير معرفة ب « ألْ » ، ولا مضافة إلى معرفة ، كما شذَّ قوله : [ البسيط ]

621 وَإِنْ دَعَوتِ إِلَى جُلَّى وَمَكْرُمَةٍ ... يَوْماً سَرَاةَ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا
وقوله : [ الرجز ]
622 في سَعْي دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مَدَّتِ ... والوجه الثاني : أن تكون لغير التفضيل ، فيكون معنى حُسْنى : حَسَنة ك « كبرى » في معنى كبيرة ، أي : وقولوا للناس مَقَالة حَسَنة ، كما قال : يوسف أحسن إخوته في معنى حسن إخوته انتهى .
وبهذا يعلم فساد قول النحاس .
وأما من قرأ : « إحساناً » فهو مصدر وقع صفةً لمصدر محذوف ، أي : قولاً إحساناً [ وفيه تأويل مشهور ] ، ف « أحساناً » مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة ، أي : قولاً ذا حُسْن ، كما تقول : أعشبت الأرض ، أي : صارت ذا عُشْب .
فإن قيل : لم خوطبوا ب « قُولوا » بعد الإخبار؟
فالجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه على طريقة اللْتِفَاتِ ، كقوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .
الثاني : فيه حذف ، أي : قلنا لهم : قولوا .
الثالث : الميثاق لا يكون إلا كلاماً كأنه قيل : قلت : لا تعبدوا وقولوا .
فصل في بيان هل الكفار داخلون في المخاطبة بالحسنى
قال بعضهم : إنما يجب القول الحسن مع المؤمنين ، أما مع الكُفّار والفُسَّاق فلا ، بدليل أنه يجب لعنهم وذمّهم ومحاربتهم ، فكيف يمكن أن يكون القول معهم حسناً ، وأيضاً قوله تعالى : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [ النساء : 148 ]
والقائلون بهذا القول منهم من زعم أن هذا الأمر صار منسوخاً بآية القِتَالِ .
ومنهم من قال : إنه دخله التَّخصيص .
وزعم أبو جعفر محمد بن علي البَاقِر أن هذا العموم باقٍ على ظاهره ، ولا حاجة إلى التخصيص ، ويدلّ عليه أن موسى وهارون مع عُلوّ منصبهما أُمِرَا بالرِّفْق واللِّين مع فرعون ، وكذا محمد صلى لله عليه وسلم أمر بالرفق وترك الغِلْظَة بقوله : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة } [ النحل : 125 ] .
وال : { وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 108 ] .
وقوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] .
وقوله : { وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] .
وأما ما تمسكوا به من أنه يجب لعنهم وذمهم .
قلنا : لا نسلّم أنه يجب لعنهم ، وإن سلّمنا لكن لا نسلّم أن اللّعن ليس قَوْلاً حسناً .
بيانه : أنّ القول الحسن ليس عبارة عن القول الذي يستهوونه ، بل القول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به ، ونحن إذا لعنَّاهم وذَمَمْنَاهم ليرتدعوا به عن الفعل القبيح كان ذلك نافعاً في حقهم ، فكان قولاً حسناً ، كما أن تغليظ الوالد لولده في القول يكون حسناً ونافعاً من حيث يَرْتَدِعُ به عن الفعل القبيح .
سلمنا أنّ لعنهم ليس قولاً حسناً ، ولكن لا نسلّم أن وجوبه ينافي وجوب القول الحسن .
بيانه : أنه لا مُنَافَاةَ بين كون الشخص مستحقًّا للتعظيم بسبب إحسانه إلينا ، ومستحقًّا للتحقير بسبب كفره ، وإذا كان كذلك ، فلم لا يجوز أن يقال بوجوب القول الحَسَنِ معهم ، وأما تمسّكهم بقوله تعالى :

{ لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [ النساء : 148 ]
فجوابه : لِمَ يجوز أن يكون المراد منه كشف حال الظالم ليحترز الناس عنه [ وهو المراد بقوله عليه السلام « اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس »
] . فصل في أن الإحسان كان واجباً عليهم
ظاهر الآية يدلّ على أن الإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين كان واجباً علهيم في دينهم ، وكذا القول الحسن للناس كان واجباً عليهم؛ لأن أخذ الميثاق يدلّ على الوجوب ، وذلك لأن ظاهر الأمر للوجوب ، والأمر في شرعنا أيضاً كذلك من بعض الوجوه ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه : أن الزّكاة نسخت كلّ حق ، وهذا ضعيف؛ لأنه لا خلاف أن من اشتدت به الحاجة ، وشاهدناه بهذه الصفة ، فإنه يلزمنا التصدق عليه ، وإن لم يجب علينا الزكاة حتى أنه إن لم تندفع حاجتهم بالزَّكَاةِ كان هذا التصدّق واجباً ، ولا شك في وجوب مُكَالمة الناس بطريق لا يتضررون منه .
قال ابن عَبَّاس معنى الآية : « قولوا لهم لا إله إلا الله » .
وفسّره ابن جريج : « قولوا للناس حسناً صدقاً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتغيّروا صفته » .
وقال سفيان الثوري : مروهم بالمعروف وأنْهوهم عن المنكر .
وقال أبو العالية : « قولوا لهم الطّيب من القول ، وجاوزهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به » ، وهذا كلّه حضٌّ على مكارم الأخلاق ، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لَيْناً حسناً ، كما قال تعالى لموسى وهارون : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } [ طه : 44 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة : « لاَ تَكُوني فَحَّاشَةً فَإِنَّ الفُحْشَ لَوْ كَانَ رَجُلاً لَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ » ، ويدخل في هذه الآية المؤمن والكافر .
قوله : « وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وآتُوا الزَّكَاةَ » تقدم نظيره .
وقال ابن عطية : « زكاتهم هي التي كانوا يضعونها ، وتنزل النَّار على ما تقبل منه ، ولم تنزل على ما لم يتقبل ، ولم تكن كزكاتنا .
قال القرطبي : : وهذا يحتاج إلى نَقْل . . . » .
قوله : « ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ » .
قال الزمخشري : « وهذا على طريقة الالتفات » وهذا الذي قاله إنما يجيء على قراءة : « لاَ يَعْبُدُونَ » بالغيبة ، وأما على قراءة الخطاب فلا التفات ألبتَّة ، ويجوز أن يكون أراد بالالتفات الخروج من خطاب بني إسرائيل القدماء إلى خطاء الحاضرين في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم [ وقد قيل ذلك ] ويؤيده قوله تعالى : « إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ » .
قيل : يعني بهم الذين أسلموا في زمانه عليه الصلاة والسلام كعبد الله بن سَلام وأضرابه ، فيكون التفاتاً على القِرَاءتين .

ثم قال ابن الخطيب : الآية تحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون المُرَاد من تقدم من بني إسرائيل ، لأنه تعالى قد سَاقَ الكلام الأول في إظهار النعم بإقامة الحجج ثم بيّن بعد أنهم تولوا إلا قليلاً ، فإنهم بقوا على ما دخلوا فيه ، فإنّ أول الكلام في المتقدمين ، فالظاهر يقتضي أن آخره فيهم ، إلا بدليل يوجب الانصراف عن الظاهر .
وثانيها : أنه خطاب للحاضرين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني : أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أَسْلاَفكم؛ لأنه خطاب مشافهة ، وهو بالحاضرين أليق .
وثالثها : أن يكون المراد بقوله : « ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ » من تقدم؛ لأنه تعالى لما بين أنه تعالى أنعم عليهم بتلك النّعم ثم تولّوا عنها بعد ذلك كان ذلك دالاًّ على نهاية قبح أفعالهم ، ويكون قوله : وأنتم معرضون مختصاً بمن كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أي : انكم بمنزلة المتقدّمين الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق ، فإنكم بعد إطّلاعكم على صدق دلائل النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعرضتم عنه ، فكنتم بهذا الإعراض بمثابة أولئك المتقدمين [ الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق بذلك الشِّرك ] في ذلك التولي والله أعلم .
و « قليلاً » منصوب على الاستثناء؛ لأنه من موجب .
وقال القرطبي : المستثنى عند سيبويه منصوب؛ لأنه مشبه بالمَفْعُول .
وقال محمد بن يزيد : هو المفعول حقيقة؛ لأن معناه : استثنيت قليلاً .
وروي عن أبي عمرو وغيره : « إلاَّ قَلِيلٌ » بالرفع ، وفيه ستّة أقوال :
أصحها : أن رفعه على الصفة بتأويل « إلاّ » وما بعدها بمعنى « غَيْر » ، وقد عقد سيبويه رحمه الله في كتابه لذلك باباً فقال : « هذا باب ما يكن فيه » إلاَّ « ما بعدها وصفاً بمنزلة غَيْر ومثل » وذكر من أمثلة هذا الباب : « لو كان معنا رجلٌ إلا زيدٌ لغُلِبْنَا » و { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] .
قال الطويل :
623 . . ... قَلِيلٌ بِهَا الأَصْوَاتُ إِلاَّ بُغَامُهَا
وسَوَّى بين هذا وبين قراءة : { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر } [ النساء : 95 ] برفع « غير » وجوز في نحو : « ما قام القومُ إلا زيدٌ » بالرفع البدل والصِّفةن وخرج على ذلك قوله : [ الوافر ]
624 وَكُلّ أخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أبِيكَ إلاَّ الفَرْقَدَانِ
كأنه قيل : « وكلُّ أخٍ غيرُ الفَرْقَدَين مُفَارِقُهُ أخُوهُ » ؛ كما قال الشَّمَّاخ : [ الطويل ]
625 وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ ... لِوَصلِ خَلِيلٍ صَارٍمٌ أَو مُعَارِزُ
وأنشد غيره : [ الرمل ]
626 لِدَمٍ ضَائِعٍ تَغَيَّبَ عَنْهُ ... أَقْرَبُوهُ إلاَّ الصَّبَا والجَنُوبُ
وقوله : [ البسيط ]
627 وَبِالصَّرِمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ ... عَافٍ تَغَيَّرَ إلاَّ النُّؤْيُ والوَتِدُ
والفرق بين الوصف « إلاَّ » والوصْفِ بغيرها أنَّ « إلاَّ » توصف بها المعارفُ والنكرات ، والظاهرُ والمضمرُ .
وقال بعضهم : « لا توصف بها إلا النكرة أو المعرفة بلام الجنس ، فإنه في قوة النكرة » .

وقال المبرِّد : « شرطه صلاحية البدلِ في موضعه » .
الثاني : أنه عطف بيان ، قاله ابن عصفور .
وقال : « إنما يعني النحويون بالوصف » إلاَّ « عطف البيان » ، [ وفيه نظرٌ ] .
الثالث : أنه مرفوع بفعل مَحْذُوف ، كأنه قال : امتنع قليل .
الرابع : أن يكون مبتدأ وخبره محذوف ، أي إلاَّ قليل منكم لم يتولّوا ، كما قالوا « مامررت بأحد إلاّ رجلٌ من بني تميم خيرٌ منه » .
الخامس : أنه توكيد للضمير المرفوع ، ذكر هذه الأوجه أبو البقاء .
وقال : سيبويه وأصحابه يسمونه نعتاً ووصفاً يعني التوكيد ، وفي هذه الأوجه التي ذكرها ما لا يخفى ، ولكنها قد قيلت .
السادس : أنه بدلٌ من الضمير « تولّيتم » .
قال ابن عطية : وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي؛ لأنَّ « توليتم » معناه النفي كأنه قال : لم تَفُوا بالميثاق إلا قليل ، وهذا الذي ذكره مِنْ جَوَاز البدل منعه النحويون ، فلا يجيزون « قام القوم إلا زيد » على البدل .
قالوا : لأن البدل يَحُلّ محلّ المبدل منه فيؤول إلى قولك : « قام إلا زيد » ، وهو ممتنع .
وأما قوله : إنه في تأويل النفي ، فما من موجب إلاَّ يمكن فيه ذلك ، ألا ترى أن قولك : « قام القوم إلا زيد » في حكم قوله : « لم يجلسوا إلاَّ زيد » ، فكل موجب إذا أخذت نفي نقيضه أو ضده كان كذلك ، ولم تعتبر العرب هذا في كلامها ، وإنما أجاز النحويون :
« قام القوم إلا زيد » بالرفع على الصيغة كما تقدم تقديره .
و « منكم » صفة ل « قَلِيلاً » فيه في محل نصب ، أو رفع على حسب القراءتين ، والظاهر أن القليل مراد بهم الأشخاصُ لوصفه بقوله : « مِنْكُمْ » .
وقال ابن عطية : « ويُحْتَمَل أن تكون القلة في الإيمان ، أي : لم يبق حينَ عَصَو وكمفروا آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل ، إذ لا ينفعهم ، والأول أقوى » انتهى .
وهذا قول بعيد جدّاً أو ممتنع .
« وأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ » جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال من فاعل « تَوَلَّيْتُمْ » وفيها قولان :
أحدهما : أنها حال مؤكِّدة؛ لأن التولّي والإعراَ مُتَرَادفان ، وقيل مبيِّنة ، فإن التولي باليدين والإعراض بالقلب ، قاله أبو البقاء .
وقال بعده : وقيل : « تَوَلَّيْتُمْ » يعني آباءهم ، و « وأنتم معرضون » يعني أنفسهم ، كما قال : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [ البقرة : 49 ] أي آباءهم انتهى .
وهذا يؤدّي إلى أن جلمة قوله : « وأنْتُمْ معْرِضُونَ » لا تكون حالاً؛ لأن فاعل التولّي في الحقيقة ليس هو صَاحِبَ الحال والله أعلم .
وكذلك تكون « مبيّنة » إذا اختلف متعلّق التولي والإراض كما قال بعضهم : ثم توليتم عن أخذ ميثاقكم ، وأنتم معرضون عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم .
وقيل : التولّي والإعراض مأخوذان من سلوك الطريق ، وذلك أنه إذا سلك طريقاً ورجع عَوْدَه على بَدْئه سمي ذلك تولياً ، وإن سلك في عُرْض الطريق سمي إعراضاً .
وجاءت الحال جملة اسمية مصدرة ب « أنتم » ؛ لأنه أكد .
وجيء بخبر المبتدأ اسماً ، لأنه أولّ على الثبوت فكأنه قيل : وأنتم عادتكم التولي والإعراض عن الحق .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)

هذا الخطاب كله كالذي قبله : وقوله : « لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ » كقوله : « لاَ تَعْبُدُونَ إَلاَّ اللهَ » في الإعراب سواء .
و « تُسْفِكُونَ » من « أَسْفَك » الرّباعي .
وقرأ طلحة بن مصرف ، وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء وهي لغةن وأبو نهيك « تُسَفْكْونَ » بضم التاء ، وفتح السين وتشديد الفاء .
و « وَلاَ تْخْرِجُونَ » معطوف .
فإن قيل : الإنسان ملجاً إلى ألاَّ يقتل نفسه فأي فائدة في النهي عنه؟
فالجواب من أوجه :
أحدها : أن هذا الإلجاء قد تغير كما ثبت في أهل « الهِنْدِ » أنهم يقدرون في قتل النفس التَّخلُّص من عالم الفساد ، واللحوق بعالم النور والصلاح ، أو كثير ممن صعب عليه الزمان ، وثقل عليه أمر من الأمور ، فيقتل نفسه ، فإذا انتفى كون الإنسان ملجاً إلى ترك قتله نفسه صحّ كونه مكلفاً به .
وثانيها : المراد لا يقتل بعضكم بعضاً ، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتّصل به نَسَباً وديناً كقوله تعالى : { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] وثالثها أنه إذا قتل غيره ، فكأنما قتل نفسه؛ لأنه يقتصُّ منه بإقامة المسبّب مقام السَّبب ، وهو قريب من قولهم : « القَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ » ؛ وقال : [ الطويل ]
628 سَقَيْنَاهُمُ كَأْساً سَقَوْنَا بِمِثِلْهَا ... وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى المَوْتِ أَصْبَرَا
وقيل : لا تفسكوا بارتكاب أنفسكم ما يوجب سفكها كالارْتِدَاد نحوه وهو قريب مما قبله .
ورابعها : لا تتعرضوا لمُقَاتلة من يقتلكم ، فتكونوا قد قتلتم أنفسكم .
وخامسها : لا تسفكوا دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا ، فتكونوا مهلكين لأنفكسم .
قوله : « وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ » فيه وجهان .
الأول : لا تفعلون ما تستحقّون بسببه أن تخرجوا من دياركم .
الثاني : المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم؛ لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة .
« مِنْ دِيَارِكُمْ » متعلّق ب « تخرجون » ، و « من » لابتداء الغاية ، و « ديار » جمع دار الاصل : دَوَرَ؛ لأنه من دَارَ يَدُورُ دَوَرَاناً ، فأصل دِيَار : دِوَار ، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، واعتلالها في الواحد .
وهذه قاعدة مطّردة [ في كل جمع على « فِعَالٍ » صحيح اللام قد اعتلت عين مفردة ، أو سكنت حرف علة نحو : ] ديار وثياب ، ولذلك صحّ « رِوَاء » لاعتلال لامه ، و « طِوَال » لتحرك عين مفردة ، وهو « طويل » .
فأما « طيال » في « طوال » فَشَاذّ ، وحكم المصدر حكم هذا نحوك قام قياماً ، وصام صياماً ، ولذلك صح « لِوَاذ » لصحة فعله في قولهم : « لاوذ » .
وأما دَيَّار فهو من لفظه الدار ، وأصله : ديوان ، فاجتمع الياء والواو فأعلاً على القاعدة المعروفة فوزنه : « فَيْعَال » لا « فَعَّال » ، إذ لو كان « فَعَّالاً » لقيل : دَوَّار ك « صَوَّام وقَوَّام » والدَّار : مجتمع القوم من الأَبنية .

وقال الخَلِيلُ : كل موضع حَلَّه الناس ، وإن لم يكن أبنية .
[ وقيل : سميت داراً لدورها على سكانها ، كمى سمي الحائط حائطاً لإحاطته على ما يحويه ] .
و « النفس » مأخوذ من النّفَاسة ، فنفس الإنسان أشرف ما فيه .
وقوله : « ثم أقررتم » .
قال أبو البقاء : فيه وجهان :
أحدهما : أن « ثُمّ » على بابها في إفادة العطف والتراخي ، والمعطوف عليه محذوف تقديره : فَقَبِلْتُمْ ، ثم أقررتم .
والثاني : أن تكون « ثم » جاءت لترتيب الخبر لا لترتيب المخبر عنه ، كقوله تعالى : { ثُمَّ الله شَهِيدٌ } [ يونس : 46 ] .
قوله : « وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ » كقوله : { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } [ البقرة : 83 ] وفيها وجوه : أحدها : أقررتم بالمِيثَاق ، ثم اعترفتم على أنفسكم بلزومه ، وأنتم تشهدون عليها ، كقولك : فلان مقرّ على نفسه بكذا ، شاهد عليها .
وثانيها : اعترفتم بقَبُوله ، وشهد بعضكم على بعض بذلك؛ لأنه كان شائعاً بينكم مشهوراً .
وثالثها : وأنتم تشهدون اليوم ما مَعْشَرَ اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق .
ورابعها : أن المراد بهذا الإقرار الذي هو الرِّضا بالأمر والصبر عليه ، كما يقال فلان لا يقر على الضَّيم ، فيكون المعنى أنه تعالى أمركم بذلك ، ورضيتم به ، وأقمتم عليه ، وشهدتم على وجوبه وصحته .
فإن قيل : لم قال « أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ » والمعنى واحد؟
فالجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أقررتم يعني أسْلافكم ، وأنتم تشهدون الآن على إقرارهم .
الثاني : أقررتم في وقت المِيثَاقِ الذي مضى ، وأنتم بعد ذلك تشهدون [ بقلوبكم ] .
الثالث : أنه للتأكيد .
قوله : « ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ » فيه سبعة أقوال :
أحدها : وهو الظاهر أن « أنتم » في محل رفع بالابتداء ، وهؤلاء خبره و « تقتلون » « حال ، والعامل فيها اسم الإشارة لما فيه من معنى الفِعْل ، وهي حال منه ليتّحد ذُوا الحال وعاملها .
وقد قالت العرب : » ها أنت ذا قائماً « و » ها أنا ذا قائماً « و » ها هوذَا قائماً « فأخبروا باسم الإشارة عن الضَّمير في اللَّفظ والمعنى على الإخبار بالحال ، فكأنه قال : » أنت الحاضر « ، وأنا الحاضر » ، وهو الحاضر « في هذه الحالة .
ويدل على أن الجملة من قوله : » تَقْتُلُونَ « حال وقوع الحال الصريحة موقعها كما تقدم في : » ها أنا ذا قائماً « ونحوه إلى هذا المعنى نَحَا الزمخشري فقال : » ثُمّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ « استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارِهم وشَهَادتِهم ، والمعنى : ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون : يعني أنكم قوم آخرون غيرُ أولئك المقربين ، تنزيلاً لتغير الصّفة منزلة تغير الذَّات كما تقول : رجعت بغير الوجه الذي خرجت به .

وقوله : « تَقْتُلُونَ » بيان لقوله : « ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ » .
واعترضه أبو حَيَّان فقال : الظاهر أن المشار إليهم بقوله : « ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ » هم المخاطبون أولاً ، فليسوا قوماً آخرين ، ألا ترى أن التقدير الذي قَدَّره الزمخشري من تقدير [ تغير الصّفة منزلة ] تغيّر الذات لا يتأتى في نحو : ها أنا ذا قائماً ، ولا في نحو : ها أنتم هؤلاء ، بل المُخَاطب هو المشار إليه من غير تَغَيُّرٍ .
وأجيب بأن هذا الإيراد بعيد غير واضح .
والثاني : أن « أنتم » أيضاً مبتدأ ، و « هؤلاء » خبره ، ولكن بتأويل حذف مضاف تقديره : ثم أنتم مِثْلُ هؤلاء ، و « تقتلون » حال ايضاً ، العامل فيها معنى التشبيه ، إلا أنه يلزم منه الإشَارة إلى غائبين؛ لأن المراد بهم أَسْلاَفهم علىهذا ، وقد يقال : إنه نزل الغائب منزلة الحاضر .
الثالث : ونقله « ابن عطية » عن شيخه « ابن الباذش » أن « أنتم » خبر متقدم ، و « هؤلاء » مبتدأ مؤخر . وهذا فاسد؛ لأن المبتدأ أو الخبر متى استويا تعريضاً وتنكيراً لم يَجُزْ تقدم الخبر ، وإن ورد منه ما يوهم فمتأول .
الرابع : أن « أنتم » مبتدأ و « هؤلاء » مُنَادى حذف منه حرف النِّدَاء ، وتقلتون خبر المبتدأ ، وفصل بالنداء بين المبتدأ وخبره .
وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به « الفراء » وجماعة؛ أنشدوا : [ البسيط ]
629 إِنَّ الأُولى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ ... هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولاَ
أي : يا هذا ، وهذا لا يجوز عند البصريين ، ولذلك لُحِّنَ المتنبي في قوله : [ الكامل ]
630 هَذِي بَرَزْتِ لَنَا فَهِجْتِ رَسِيَا .. .
وفي البيت كلام طويل .
الخامس : أن « هؤلاء » موصول بمعنى « الذي » ، و « تقتلون » صلته ، وهو خبر عن « أنتم » أي : أنتم الذين تقتلون . وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به « الفراء » وجماعة؛ أنشدوا : [ البسيط ]
631 .. نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
أي : والذي تحملين ، ومثله : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ } [ طه : 17 ] يعني : وما التي؟
السادس : أنَّ « هؤلاء » منصوب على الاختصاص ، بإضمار « أعني » و « أنتم » مبتدأ ، و « يقتلون » خبره ، اعترض بينهما بجملة الاختصاص ، وإليه ذهب ابن كَيْسَان . وهذا لا يجوز ، لأن النحويين قد نصّوا على أن الاختصاص لا يَكُون بالنكرات ، ولا أسماء الإشارة ، والمستقرأ من لسان العرب أن المنصوب على الاختصاص : إما « أي » نحو : « اللهم اغفر لنا أيتها العِصَابة » أو معرف ب « أل » نحو : نحن العَرَبَ أَقْرَى النَّاس للضيف ، أو بالإضافة نحو : نحن مَعَاشِرَ الأنبياء لا نورّث ، وقد يجيء كقوله : [ الرجز ]
632 بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ ...

وأكثر ما يجيء بعد ضمير تكلُّم كما تقدم ، وقد يجيء مخاطب كقولهم : « بك الله نرجو الفضل » .
السابع : أن يكون « أَنْتُمْ هَؤُلاَء » على ما تقدّم من كونهما مبتدأ أو خبر ، والجُمْلة من « تقتلون » مستأنفة مبينة للجملة قبلها ، يعني : أنتم هؤلاء الأشخاص الحَمْقَى ، وبيان حَمَاقتكم وقلّة عقلوكم أنكم تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقاً منكم من دِيَارِهِمْ ، وهذا ذكره الزَّمخشري في آل عمران في قوله : { هاأنتم هؤلااء حَاجَجْتُمْ } [ آل عمران : 66 ] ولم يذكر هنا ، وسيأتي بنصه إن شاء الله تعالى .
قوله : « تَظَاهَرُونَ » هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل « تُخْرجون » وفيها خمس قراءات : « تَظَّاهرُون » بتشديد الظَّاء ، والأصل : تتظاهرون فأُدغم لقرب الظاء من التاء .
و « تَظَاهَرُون » مخففاً ، والأصل كما تقدم ، إلا أنه خفّفه بالحذف ، وهل المحذوف الثانية وهو الأَوْلَى؛ لحصول الثقل بها ، ولعدم دلالتها على معنى المُضَارعة ، أو الأُولَى كما زعم هشام؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
633 تَعَاطَسُونَ جَمِيعاً حَوْلَ دَارِكُمُ ... فَكُلُّكُمْ يَابَنِي حَمْدَانِ مَزكُومُ
أراد : تتعاطسون فحذف .
و « تَظَّهَّرُون » بتشديد الظاء والهاء .
و « تَظَاهَرُون » من « تَظَاهر » و « تَتَظَاهَرُونَ » على الأصل من غير حذف ، ولا إدْغَام وكلهم يرجع إلى معنى المعاونة والتَّنَاصُر من المظاهرة ، كأن كل واحد منهم يسند ظَهْرَهُ للآخر ليتقوّى به ، فيكون له كالظَّهر؛ قال : [ الطويل ]
634 تَظَاهَرْتُمُ أَسْتَاهَ بَيْتٍ تَجَمَّعَتْ ... عَلَى وَاحِدٍ لاَ زِلْتُمُ قِرْنَ وَاحِدِ
قال ابن الخطيب : الآية تدلّ على أن الظُّلم كما هو محرم ، فإعانة الظالم على ظلمه محرمة .
فإن قيل : أليس أن الله تعالى لما أقدر الظَّالم على الظّلم ، وأزال العوائق والموانع ، وسلط عليه الشهوة الدّاعية إلى الظلم كمان قد أعانه على الظلم ، فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحةً لوجب ألاَّ يوجد ذلك من الله تعالى؟
والجواب : أنه تعالى وإن مكّن الظَّالم من ذلك فقد زَجَرَهُ عن الظلم بالتَّهْديد والزجر ، بخلاف المعني للظالم على ظلمه ، فإنه يرغبه فيه ، ويحسنه له ويدعوه إليه فظهر الفرق .
و « الإثم » في الأصل : الذنب ، وجمعه « آثام » ، ويطلق على الفعل الذي يستحقّ به صاحبه الذّم واللوم .
وقيلك هو ما تَنْفِرُ منه النفس ، ولا يطمئنّ إليه القَلْب ، فالإثْمُ في الآية يحتمل إن يكون مراداً به [ أحد ] هذه المعاني ويحتمل أن يتجوّز به عما يوجب الإثم من إقامة السَّبب مقام السَّبب مقام المسببح كقوله : [ الوافر ]
635 شَرِبءتُ الإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بِالعُقُولِ
فعبر عن الخمر بالإثم ، لما كان مسبَّباً عنها .
فصل في معنى العدوان واشتقاقه
و « العُدْوَان » : التجاوز في الظلم ، وقد تقدم في { يَعْتَدُونَ } [ البقرة : 61 ] وهو مصدر ك « الكُفْرَان والغُفْرَان » والمشهور ضمّ فائه ، وفيه لغة بالكَسْر .

قوله : « وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ » « إن » شرطية ، و « يأتوكم » مجزوم بها بحذف النون والمخاطب مفعول .
و « أسارى » حال من الفاعل في « يأتوكم » .
وقرأ الجماعة غير حمزة « أُسارى » وقرأ هو : « أَسْرَى » وقرء : : أَسَارَى « بتفح الهمزة ، فقراءة الجماعة تحتمل أربعة أوجه :
أحدها : أنه جُمِعَ جَمْع » كَسْلاَن « لما جمعهما من عدم النَّشَاط والتصرف ، فقالوا : » أسير وأسارى « بضم الهمزة ك » كَسْلاَن وكُسَالَى « و » سَكْرَان وسُكَارى « ، كما أنه قد شبه كَسْلان وسَكْران به فجمعا جمعه الأصلي الذي هو على » فعلى « فقالوا : كسلان وكَسْلى ، وسكران وسَكْرى لقولهم : أسير وأسرى .
قال سيبويه : فقالوا : في جمع كَسْلان كَسْلَى شبّهوه ب » أَسْرَى « . كما قالوا : أُسارى شبَّهوه ب » كَسَالى « ، ووجه الشبه أنَّ الأسْر يدخل على المرء كرهاً كما يدخل الكَسَل .
قال بعضهم : والدَّليل على اعتبار هذا المعنى أنهم جمعوا » مريضاً وميتاً وهالكاً « على » فَعْلَى « فقالوا : » مرضى وموتى وهَلْكَى « لما جمعها المَعْنَى الذي في » قَتْلَى وجَرْحَى « .
الثَّاني : أنَّ » أُسَارى « جمع » أسير « ، وقد وجدنا » فَعِيلاً « يجمع على » فُعَالى « قالوا : شيخ قديم ، وشيوخ قُدَامى . وفيه نظر ، فإن هذا شاذ لا يقاس عليه .
الثالث : أنه جمع » أسير « أيضاً ، وإنما ضموا الهمزة من » أُسَارى « وكان أصلها الفَتْح ك » نديم ونُدَامى « كما ضمت الكاف والسين من » كُسَالى « و » سُكَارى « وكان الأصل فيهما الفتح نحوك » عَطْشَان وعَطَاشى « .
الرابع : أنه جمع » أسرى « الذي هو جمع » أسير « فيكون جمع الجمع .
وأما قراءة حمزة فواضحة؛ لأن » فَعْلَى « ينقاس في » فعيل « نحو : » جريح وجرحى « و » قتيل وقَتْلَى « و » مريض ومرضى « .
وأما » أَسَارَى « بالفتح فقد تقدم أنها أصل أُسَارَى بالضم عند بعضهم ، ولم يَعْرِفْ أهل اللُّغَة فرقاً بين » أُسَارَى « و » أَسْرَى « إلاَّ ما حكاه أبو عُبَيْدَة عن أبي عمرو بن العلاء ، فإنه قال : » ما كان في الوَثَاقِ « فهم الأُسَارَى ، وما كان في اليد ، فهم الأَسْرَى » ونقل بعضهم عنه الفرقَ بمعنًى آخر ، فقال : « ما جاء مستأسراً فهم الأسْرَى ، وما صار في أيديهم ، فهم الأُسَارَى » ، وحكى النقَّاشُ من ثَعْلَبِ؛ أنه لما سمع هذا الفَرْق قال : « هذا كلامُ المَجَانِينِ » ، وهي جُرْآة منه على أبي عمرو ، وحكى عن المبرِّد أنه يقال : « أسِير وأُسَرَاء » ك « شَهِيدٍ وشُهَدَاء » و « الأَسير » : مشتقٌّ من « الإسَارِ » وهو القَيْدُ الذي يُرْبَطُ به من المحمل ، فسمي الأسير أسيراً ، وإن لم يُرْبَط ، والأَسْر : الخلْقُ في قوله :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75