كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

قوله : { يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } . أي : يرسل ماء السماءِ ، ففيه إضمار .
وقيل : السماء : المطر ، أي يرسلُ المطر؛ قال الشاعر : [ الوافر ] .
4878 - إذَا نَزََل السَّماءُ بأرْضِ قَوْمٍ ... رَعيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غِضَابَا
و « مِدْراراً » يجوز أن يكون حالاً من « السَّماء » . ولم يؤنث؛ لأن « مفعالاً » لا يؤنث ، تقول : « امرأة مِئْنَاث ، ومِذْكَار » ولا يؤنث بالتاء إلا نادراً ، وحينئذ يستوي فيه المذكر والمؤنث ، فتقول رجُلٌ مخدامةٌ ، ومطرابةٌ ، وامرأة مخدامة ومطرابة ، وأن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، أي : إرسالاً مدراراً . وتقدم الكلام عليه في الأنعام .
وجزم « يرسل » جواباً للأمر ، و « مِدْرَاراً » ذا غيث كثيرٍ .
فصل في حكاية قوم نوح
قال مقاتل : لما كذَّبوا نوحاً - عليه الصلاة والسلام - زماناً طويلاً حبس اللَّهُ عنهم المطر ، وأعقم أرحامَ نسائهم أربعين سنة ، فهلكت مواشيهم وزروعهم فصاروا إلى نوح - عليه الصلاة والسلام - واستغاثوا به ، فقال : { استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } ، أي : لمن أناب إليه ، ثم رغبهم في الإيمان فقال : { يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } .
قال قتادة : علم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أنهم أهل حرصٍ على الدنيا ، فقال : هلموا إلى طاعة الله ، فإنَّ في طاعة الله درك الدنيا والآخرة .
فصل في استنزال الرزق بالاستغفار .
في هذه الآية والتي قبلها في « هود » دليلٌ على أنَّ الاستغفار يستنزلُ به الرزق والأمطار قال الشعبيُّ : خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فأمطروا فقالوا : ما رأيناك استسقيت فقال : لقد استسقيت بمجاديح السماءِ التي يستنزل بها المطر ، ثم قرأ : { استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا } .
قال ابن الأثير : المجاديحُ واحدها « مجدح » والياء زائدة للإشباع ، والقياس أن يكون واحدها مجداح ، فأما مجدح فجمعه « مجادح » ، والمجدح : نجمٌ من النجوم .
قيل : هو الدبران .
وقيل : هو ثلاثةُ كواكب ، كالأثافي تشبيهاً له بالمجدح ، الذي له ثلاث شعبٍ ، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر ، فجعل الاستغفار مشبهاً بالأنواء ، مخاطبة لهم بما يعرفونه لا قولاً بالأنواء ، وجاء بلفظ الجمع؛ لأنه أراد الأنواء جميعها التي يزعمون أن من شأنها المطر .
وشكى رجلٌ إلى الحسن الجدوبة ، فقال له : استغفر الله ، وشكى آخر إليه الفقر ، فقال له : استغفر الله ، وقال له آخر : ادعُ الله أن يرزقني ولداً ، فقال له : استغفر الله ، وشكى إليه آخرُ جفاف بساتينه فقال له : استغفر الله ، فقلنا له في ذلك ، فقال ما قلت من عندي شيئاً ، إنَّ الله تعالى يقول في سورة « نوح » : { استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } .

فإن قيل : إنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - أمر الكفار أولاً بالعبادة ، والطَّاعة ، فأيُّ فائدةٍ في أن أمرهم بعد ذلك بالاستغفار .
فالجوابُ : لمَّا أمرهم بالعبادة قالوا له : إن كان الدين الذي كُنَّا عليه حقاً ، فلم تأمرنا بتركه ، وإن كان باطلاً ، فكيف يقبلنا بعد أن عصيناه ، فقال نوح - عليه الصلاة والسلام - : إنكم وإن كنتم قد عصيتموه ولكن استغفروا من تلك الذنوب فإنَّه سبحانه كان غفاراً .
فإن قيل : فلم قيل : إنه كان غفاراً ، ولم يقل : إنَّه غفار؟ .
فالجوابُ : كأنه يقول : لا تظنوا أن غفرانه إنما حدث الآن بل هو أبداً هكذا عادته أنه غفارٌ في حق من استغفر .
قوله : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } .
قيل : الرجاء هنا بمعنى الخوف ، أي : ما لكم لا تخافون لله عظمة ، وقدرة على أحدكم بالعقوبة ، أي : أيُّ عذر لكم في ترك الخوف من الله؛ قال الهذليُّ : [ الطويل ]
4879 - إذَا لَسَعتْهُ النَّخْلُ لمْ يَرْجُ لَسْعهَا .. . . .
وقال سعيد بن جبيرٍ وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح : ما لكم لا ترجون لله ثواباً ، ولا تخافون له عقاباً .
وقال سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ } ، لا تخشون لله عقاباً وترجون منه ثواباً .
وقال الوالبي و العوفي عنه : ما لكم لا تعلمون لله عظمة .
وقيل : ما لكم لا تعتقدون لله عظمة .
وقال ابن عباس ومجاهد : ما لكم لا ترون لله عظمة .
قال قطرب : هذه لغةٌ حجازيةٌ ، وهذيل وخزاعةُ ومضر يقولون : لم أرج ، أي : لم أبال .
قوله : « وقَاراً » ، يجوز أن يكون مفعولاً به على معان ، منها : ما لكم لا تأملون له توقيراً ، أي : تعظيماً .
قال الزمخشريُّ : والمعنى ما لكم لا تكونون على حالٍ ، تأملون فيها تعظيم الله إيَّاكم في دار الثواب « ولله » بيانٌ للموقر ، ولو تأخر لكان صلته . انتهى .
أي : لو تأخر « للَّهِ » عن « وقَاراً » لكان متعلقاً به ، فيكون التوقير منهم لله تعالى وهو عكس المعنى الذي قصده ، ومنها : لا تخافون لله حلماً وترك معاجلة بالعقاب فتؤمنوا .
ومنها : لا تخافون لله عظمة ، وعلى الأول يكون الرجاء على بابه ، وقد تقدم أن استعماله بمعنى الخوف مجاز ومشترك .
وأن يكون حالاً من فاعل « تَرجُونَ » ، أي : موقرين الله تعالى ، أي : تعظمونه ف « لِلَّهِ » على هذا متعلق بمحذوف على أنه حالٌ من « وقَاراً » أو تكون اللام زائدة في المفعول به ، وحسنه هنا أمران : كون العامل فرعاً ، وكون المعمول مقدماً ، و « لا تَرْجُونَ » حال .
وقد تقدم نظيره في المائدة .
والوقارُ : العظمة ، والتوقيرُ التعظيم ، ومنه قوله تعالى : { وَتُوَقِّرُوهُ } [ الفتح : 9 ] .
وقال قتادةُ : ما لكم لا ترجون لله عاقبة كأن المعنى : ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان .

وقال ابن كيسان : ما لكم لا ترجون في عبادة الله ، وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيراً .
وقال ابن زيد : ما لكم لا تؤتون لله تعالى طاعة .
وقال الحسنُ : ما لكم لا تعرفون لله حقاً ، ولا تشكرون له نعمة .
وقيل : ما لكم لا توحدون الله لأن من عظمه فقد وحَّده .
وقيل : إن الوقار هو : الثبات لله عز وجل ، ومنه قوله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ] أي : اثبتن ، والمعنى : ما لكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى ، وأنه إلهكم ، لا إله لكم غيره ، قاله ابن بحر ، ثم دلَّهم على ذلك فقال : { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } .
يعني نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاماً ، ولحماً ، ثم أنشأناه خلقاً آخر .
وقيل : « أطْوَاراً » صبياناً ، ثم شباناً ، ثم شيوخاً ، وضعفاء ، ثم أقوياء .
وقيل : « أطواراً » ، أي : أنواعاً ، صحيحاً ، وسقيماً ، وبصيراً ، وضريراً ، وغنياً ، وفقيراً .
وقيل : الأطوار : اختلافهم في الأخلاق ، والأفعال .
قوله : { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } ، جملة حالية من فاعل « تَرْجُونَ » .
والأطوار : الأحوال المختلفة .
قال الشَّاعرُ : [ البسيط ]
4880 - فإنْ أفَاقَ فقَدْ طَارتْ عَمايَتُهُ ... والمَرْءُ يُخلقُ طَوْراً بَعْدَ أطْوارِ
وانتصابهُ على الحال ، أي : منتقلين من حال إلى حال ، أو مختلفين من بين مُسِيءٍ ، ومحسن ، وصالح ، وطالح .
قوله : { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً } .
لما ذكر لهم دليل التوحيد من أنفسهم ، أتبعه بدليل الآفاق فقال : { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً } ، أي : ألم تعلموا أنَّ الذي قدر على هذا ، فهو الذي يجب أن يعبد ، ومعنى : « طباقاً » قال ابن عباس والسدي : أي : بعضها فوق بعض كل سماء منها وطبقة على الأخرى كالقبابِ .
فإن قيل : هذا يقتضي ألا يكون بينهما فرج ، وإذا كان كذلك فكيف تسلكها الملائكة؟ .
فالجواب : أن الملائكة أرواح .
وأيضاً قال المبرِّد : معنى طباقاً ، أي : متوازية لا أنها متماسة .
وقرا الحسنُ : « خلَق الله سبعَ سماواتٍ طِباقاً » على سبع أرضين بين كل أرض وأرض وسماء خلق وأمر .
وقوله : { أَلَمْ تَرَوْاْ } ، على جهة الإخبار ، لا المعاينة كما تقول : ألمْ ترنِي كيف صنعتُ بفلان كذا ، و « طِبَاقاً » نصب على أنه مصدر طابقه طباقاً ، أو حال بمعنى : « ذات طباقٍ » ، فحذف « ذات » وأقام « طِباقاً » مقامه ، وتقدم الكلامُ عليه في سورة « الملك » .
وقال مكيّ : وأجاز الفرَّاء في غير القرآنِ جر « طِباق » على النعت ل « سماوات » .
يعني أنه يجوز أن يكون صفة للعدد تارة وللمعدود أخرى .
قوله : { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً } ، أي : في السماوات ، والقمر إنَّما هو في سماءٍ واحدةٍ منهن قيل : هو في السماء الدنيا ، وإنَّما جاز ذلك لأن بين السماواتِ ملابسة فصح ذلك ، وتقول : زيد في المدينة ، وإنَّما هو في زاوية من زواياها .

وقال ابن كيسانِ : إذا كان في إحداهنَّ فهو فيهنَّ .
وقال قطرب : « فِيهِنَّ » بمعنى : « مَعهُنَّ » .
وقال الكلبيُّ : أي : خلق الشمس والقمر مع خلق السماوات والأرض .
وقال جُلُّ أهل اللغةِ في قول امرىء القيس : [ الطويل ]
4881 - وهَلْ يَنعَمَنْ مَنْ كَانَ آخِرُ عَهدِهِ ... ثَلاثِينَ شَهْراً في ثلاثةِ أحْوالِ
« في » بمعنى : « مَعَ » .
وقال النحاس : سألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية . فقال : جوابُ النحويين : أنه إذا جعله في إحداهن ، فقد جعله فيهن ، كما تقول : أعطني الثيابَ المعلمة ، وإن كنت إنما أعلمت أحدها .
وجواب آخر : أنه يروى أنه وجه القمر إلى داخل السماء ، وإذا كان إلى داخلها فهو متصل بالسماوات ، ومعنى : « نُوْراً » ، أي : لأهل الأرض ، قاله السدي .
وقال عطاءُ : نورٌ لأهل السماوات والأرض .
وقال ابن عباس وابن عمر : وجهه يضيء لأهل الأرض ، وظهره يضيء لأهل السماء .
قوله : { وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } .
يحتمل ان يكون التقدير : وجعل الشمس فيهن - كما تقدم - والشمس ، قيل : في الرابعة ، وقيل : في الخامسة ، وقيل : في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة والله أعلم .
وقوله : « سِراجَاً » . يعني مصباحاً لأهل الأرض ، ليتوصلوا إلى التصرف لمعايشهم ، وفي إضاءتها لأهل السماء ، القولان الأولان ، حكاه الماورديُّ .
وحكى القشيريُّ عن ابن عباسٍ : أن الشمس وجهه في السماوات وقفاه في الأرض .
وقيل : على العكس .
وقيل لعبد الله بن عمر : ما بالُ الشمس تقلينا أحياناً وتبرد علينا أحياناً؟ .
فقال : إنَّها في الصيف في السماء الرابعة ، وفي الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمنِ ، ولو كانت في السَّماء الدنيا ، لما قام لها شيء .
ولما كانت الشمس سبباً لزوال الليلِ وهو ظل الأرض أشبهت السِّراجَ ، وأيضاً فالسراجُ له ضوءٌ والقمرُ له نورٌ ، والضوء أقوى من النور ، فجعل للشمس كما قال { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً } [ يونس : 5 ] .
قوله : { والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } . يعني آدمَ - عليه الصلاة والسلام - خلقه من أديم الأرض كلِّها ، قاله ابن جريج . وقد تقدم بيانه .
و « نَبَاتاً » . إما مصدر ل « أنبت » على حذف الزوائد ، ويسمى اسم مصدر ، لأن مصدر « أنْبَتَ » « إنباتاً » فجعل الاسم الذي هو النباتُ في موضع المصدر وإمَّا ب « نَبَتُّمْ » مقدراً ، أي : « فَنَبَتُّمْ نَبَاتاً » ، فيكون منصوباً بالمضارع المقدر .
قال الزمشخريُّ : أو نصب ب « أَنْبَتَكُمْ » لتضمنه معنى : « نَبَتُّمْ » .
قال أبو حيَّان : ولا أعقل معنى هذا الوجه بالثاني .
قال شهابُ الدين : هذا الوجه المتقدم ، وهو أنه منصوب ب « أَنْبَتَكُمْ » على حذف الزوائد ومعنى قوله : لتضمنه معنى « نَبَتُّمْ » ، أي : مشتمل عليه ، غاية ما فيه أنه حذفت زوائدهُ .

قال القرطبيُّ : « وقال الخليلُ والزجاجُ : إنه محمول على المعنى ، لأن معنى » أنْبتَكُم « جعلكم تنبتون نباتاً .
وقيل : معناه أنبت لكم من الأرض النبات ، ف » نَبَاتاً « على هذا نصب على المفعول الصريح ، والأول أظهر » .
قال ابن بحر : أنبتكم في الأرض بالكبر بعد الصغر ، وبالطول بعد القصر ، ثم يعيدكم فيها ، أي عند موتكم بالدفن { وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } بالنشور والبعث يوم القيامة .
والإنبات : استعارة بليغة ، قيل : المراد أنبت أباكم .
وقيل : المراد أنبت الكلَّ لأنهم من النطف ، وهي من الأغذية التي أصلها الأرض ، وهذا كالتفسير لقوله : { خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } ، ثم قال : { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } ، وهذا إشارة إلى الطريقة المعهودة في القرآن ، من أنه تعالى لما كان قادراً على الابتداء ، فهو قادر على الإعادة ، وقوله : { وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } ، أكده بالمصدر فإنه قال : يخرجكم حتماً لا محالة .
قوله : { والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً } ، أي : مبسوطة .
{ لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } أي : طرقاً واسعة ، والسُّبُل : الطرقُ ، والفجاجُ : جمع فجٍّ ، وهو الطريق الواسعة ، قاله الفراءُ .
وقيل : الفَجُّ : المسلك بين الجبلين ، وفي « الأنبياء » ، قدَّم الفجاج لتناسب الفواصل . وقد تقدم الكلام على ذلك .

قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)

قوله : { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } .
ذكر أولاً أنهم عصوا ثم ذكر أنهم ضموا إلى عصيانه طاعة رؤسائهم الذين يدعونهم إلى الكفر ، إنما زادهم أموالهم ، وأولادهم خساراً؛ لأنهم سبب لخسارة الآخرة ، والدنيا في جنب الآخرة كالعدم ، فإذا خسرت الآخرة بسببها كانت كاللُّقمةِ من الحلوى مسمومة؛ ولذلك قال جماعة : ليس لله على الكافر نعمة ، وإنَّما هي استدراج للعذابِ .
قال المفسِّرون : لبث فيهم نوحٌ - عليه السلام - كما أخبر الله تعالى ألف سنةٍ إلاِّ خمسين عاماً داعياً لهم وهم على كفرهم وعصيانهم .
قال ابنُ عباس : دعا نوحٌ الأبناءَ بعد الآباءِ ، فكان الآباءُ يأتون بأولادهم إلى نوح - عليه الصلاة والسلام - ويقولون لأبنائهم : إياكم وأن تطيعوا هذا الشيخ؛ فيما يأمركم به ، حتى بلغوا سبع قرونٍ ، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم ، ولبث بعد الطوفان ستين عاماً ، حتى كثر الناس وفشوا .
قال الحسن : كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين ، حكاه الماورديُّ .
قوله « وولده » قرأ أهل « المدينة » و « الشام » وعاصم : « وَوَلَدُه » بفتح اللام والواو .
والباقون : « وَوُلْدُهُ » بضم الواو وسكون اللام ، وقد تقدم أنهما لغتان ك « بَخَل وبُخْل » .
قال أبو حاتم : ويمكن أن يكون المضموم جمع المفتوح ك « خَشَب وخُشْب » .
وأنشد لحسَّانٍ : [ الكامل ]
4882 - يَا بِكْرَ آمنةَ المُباركِ وُلْدُهَا ... مِنْ وُلدِ مُحْضنةٍ بِسعْدِ الأسْعَدِ
قوله : { وَمَكَرُواْ } ، عطف على صلة « من » لأن المتبوعين هم الذين مكروا .
{ وَقَالُواْ } للإتباع : { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } ، وإنَّما جمع الضمير حملاً على المعنى ، بعد حملها على لفظها في { لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ } ، يجوز أن يكون مستأنفاً إخباراً عن الكفار .
قوله « كُبَّاراً » ، العامة : على ضم الكاف وتشديد الباء ، وهو بناء مبالغة أبلغ من « كُبَار » بالضم والتخفيف .
قال عيسى : وهي لغةٌ يمانية؛ وأنشد : [ الكامل ]
4883 - والمَرْءُ يُلحِقُهُ بِفِتْيانِ النَّدى ... خُلقُ الكَريمِ وليْسَ بالوُضَّاءِ
وقول الآخر : [ الكامل ]
4884 - بَيْضَاءُ تَصْطادُ الغَوِيَّ وتَسْتَبِي ... بالحُسْنِ قَلْبَ المُسْلِمِ القُرَّاءِ
ويقال : رجل طُوَّال ، وجميل ، وحُسَّان ، وعظيم ، وعُظَّام .
وقرأ ابن عيسى وابن محيصن وأبو السمال وحميد ومجاهد : بالضم والتخفيف ، وهو بناء مبالغة أيضاً دون الأول .
وقرأ زيد بن علي وابن محيصن أيضاً : بكسر الكاف وتخفيف الباء .
قال أبو بكر : هو جمع كبير ، كأنه جعل « مَكْراً » ، مكان « ذُنُوب » ، أو « أفاعيل » يعني فلذلك وصفه بالجمع .
فصل في المقصود بالمكر في الآية
قيل مكرهم : هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح .
وقيل : هو تعزيزهم الناس بما أوتوا من الدنيا ، والولد ، حتى قالت الضعفة : لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النِّعمَ .

وقال الكلبيُّ : هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد ، وهذا بعيد ، لأن هذا إنما قاله النصارى وهم بعد قوم نوح عليه السلام بأزمان متطاولة .
وقال مقاتل : هو قول كبرائهم لأتباعهم : { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } ، فمنعوا القوم عن التوحيد وأمروهم بالشرك ، واعلم أنه لما كان التوحيد أعظم المراتب ، لا جرم كان المنعُ منه أعظم الكبائر ، فلهذا وصفه اللَّهُ تعالى بأنه كبار .
قال ابن الخطيب : وإنَّما سماه مكراً لوجهين :
الأول : لما في إضافة الآلهة إليهم من الحيل الموجبة ، لاستمرارهم على عبادتها؛ لأنها معبود آبائهم ، فلو قبلتم قول نوحٍ لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين ، وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك ، ولما كان اعتراف الإنسانِ على نفسه وعلى أسلافه بالقصور والنقص والجهل بهذه الكلمة وهي لفظة « آلهتكم » وصدفكم عن الدين؛ فلهذه الحجة الخفية سمّى الله كلامهم مكراً .
الثاني : أنه تعالى حكى عن المتبوعين أنهم كان لهم مال وولد ، فلعلهم قالوا لأتباعهم : إن آلهتكم خير من إله نوح؛ لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد ، وإله نوح [ لا يعطيه شيئاً لأنه فقير ] فصرفوهم بهذا المكر عن طاعة نوح ، وهو مثل مكر فرعون إذ قال : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } [ الزخرف : 51 ] ، وقوله { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ } [ الزخرف : 52 ، 53 ] .
قوله : { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } [ نوح : 23 ] يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام ، إن قيل : إن هذه الأسماء لأصنام ، وألا يكون إن قيل : إنها أسماء رجال صالحين على ما ذكر المفسِّرون .
وقرأ نافع : « وُدّاً » بضم الواو ، والباقون : بفتحها .
وأنشد بالوجهين قول الشاعر : [ البسيط ]
4885 - حَيَّاكَ وُدٌّ فإنَّا لاَ يَحِلُّ لَنَا ... لَهْوُ النِّساءِ ، وإنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
4886 - فَحيَّاكَ وُدُّ مَنْ هداكَ لعِسِّهِ ... وخُوص بأعْلَى ذِي فَضالة هجِّه
قال القرطبي : قال الليث : « وَدٌّ » - بفتح الواو - صنم كان لقوم نوح ، و « وُدّ » - بالضم - صنم لقريش ، وبه سمي عمرو بن عبد ود .
وفي الصحاح : « والوَدُّ » بالفتح : الوتد في لغة أهل نجد ، كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال . والود في قول امرىء القيس : [ الرمل ]
4887 - تُظْهِرُ الوَدَّ إذَا مَا أشْجَذتْ ... وتُواريهِ إذَا ما تَشْتَكِرْ
قال ابن دريدٍ : هو اسم جبلٍ .
و « ود » : صنم كان لقوم نوح - عليه الصلاة والسلام - ثم صار لكلب ، وكان بدومةِ الجَندلِ ، ومنه سموا بعبد ودّ .
قوله : { وَلاَ يَغُوثُ وَيَعُوقَ } . قرأهما العامة بغير تنوين ، فإن كانا عربيين : فالمنع من الصرف للعلمية والوزن ، وإن كانا أعجميين : فالعجمة والعلمية .

وقرأ الأعمش : « ولا يغوثاً ويعوقاً » مصروفين .
قال ابن عطية : « وذلك وهم ، لأن التعريف لازم ووزن الفعل » . انتهى .
قال شهاب الدين : وليس بوهم لأمرين :
أحدهما : أنه صرفهما للتناسب إذ قبلهما اسمان مصروفان وبعده اسم مصروف كما صرف « سَلاسِل » .
والثاني : أنه جاء على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقاً ، وهي لغة حكاها الكسائي ، ونقل أبو الفضل : الصرف فيهما عن الأشهب العقيلي ، ثم قال : جعلهما « فعولاً » ، فلذلك صرفهما ، فأما في العامة : فإنهما صفتان من الغوثِ والعوقِ .
قال شهاب الدين : « وهذا كلامٌ مشكلٌ ، أما قوله : » فعولاً « فليس بصحيح ، إذ مادة يغث ويعق مفقودة ، وأما قوله : صفتان من الغوث والعوق ، فليس في الصفات ولا في الأسماء » يفعل « والصحيح ما قدمته » .
وقال الزمخشريُّ : وهذه قراءة مشكلة لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين ، ففيهما المنع من الصرف ، ولعله وجد الازدواج ، فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات : ودّاً وسواعاً ونسراً ، كما قرىء { وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواجِ .
قال أبو حيَّان : كأنه لم يطلع على أن صرف ما لا ينصرف لغة .
فصل في بيان هذه الأسماء .
قال ابن عبَّاس وغيره : وهي أصنامٌ ، وصور كان قوم نوحٍ يعبدونها ، ثم عبدتها العربُ ، وهذا قول الجمهورِ .
وقيل : إنَّها للعربِ لم يعبدها غيرهم ، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم ، فلذلك خصُّوا بالذكر بعد قوله : { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } .
وقال عروة بن الزبير : اشتكى آدمُ - عليه الصلاة والسلام - وعند بنوه : ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر ، وكان ود أكبرهم ، وأبرّهم به .
قال محمد بن كعب ، كان لآدمَ خمس بنينَ : ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وكانوا عُبَّاداً ، فمات رجل منهم فحزنوا عليه ، فقال الشيطان : أنا أصور لكم مثله ، إذا نظرتم إليه ذكرتموه ، قالوا : افعل ، فصوّره في المسجدِ ، من صفر ورصاصٍ ، ثم مات آخرُ ، فصوره حتى ماتوا كلُّهم ، وصوروهم وتناقصت الأشياءِ كما ينقص اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين ، فقال لهم الشيطان : ما لكم لا تعبدون شيئاً؟ .
قالوا : وما نعبدُ؟
قال آلهتكم وآلهة آبائكم ، ألا ترونها في مصلاكم؟ فعبدوها من دون الله ، حتى بعث الله نوحاً ، فقالوا : { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } الآية .
وقال محمد بن كعبٍ أيضاً ومحمد بن قيس : بل كانوا قوماً صالحين ، بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا زيَّن لهم إبليس أن يصوروا صورهم؛ ليتذكروا بها اجتهادهم ، وليتسلوا بالنظر إليها فصوّروهم ، فلما ماتوا هم وجاء آخرون قالوا : ليت شعرنا ، وما هذه الصورُ التي كان يعبدها آباؤنا؟ فجاءهم الشيطان فقال : كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر ، فعبدوها فابتدىء عبادة الأوثان من ذلك الوقت .

وبهذا المعنى فسر ما جاء في الصحيحين من حديث عائشةَ : « أنّ أم حبيبةَ وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة ، تسمى مارية فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنَّ أولئِكَ كَانَ إذَا مَاتَ فيهِم الرَّجلُ الصَّالحُ ، بَنَوا على قَبْرهِ مَسْجداً ، ثُمَّ صوَّرُوا فِيْهِ تِلكَ الصُّورَ أولئك شِرارُ الخَلقِ عند اللَّهِ يَوْمَ القِيَامةِ «
وذكر الثعلبيُّ عن ابن عباس قال : هذه الأصنام أسماء رجال صالحين ، من قوم نوح فلمَّا هلكوا أوحى الشيطانُ إلى قومهم أن ينصبوا في مجالسهم أنصاباً ، ويسمونها بأسمائهم
وهذا بعيدٌ ، لأن نوحاً - عليه الصلاة والسلام - هو الآمرُ لهم بتركها وذلك يدل على أنَّهم كانوا قبل نوحٍ ، حتى أرسلَ نوحٌ إليهم .
وروي عن ابن عباس : أنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - كان يحرس جسد آدمَ - عليه الصلاة والسلام - على جبل الهند فيمنع الكافرينَ أن يطوفوا بقبره ، فقال لهم الشيطانُ : إن هؤلاء ، يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم ، وإنما هو جسد ، وأنا أصوّر لكم مثله تطوفون به ، فصوَّر لهم هذه الأصنام الخمسة ، وحملهم على عبادتها ، فلمَّا كان أيام الطوفانِ دفنها الطين ، والتراب ، والماء ، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطانُ لمشركي العرب وكانت للعربِ أصنام أخر ، فاللات كانت لقديد ، وأساف ونائلة وهبل ، لأهل مكة .
قال الماورديُّ : فما » ود « فهو أول صنم معبود سمي » ودّاً « لودهم له ، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومةِ الجندلِ ، على قول ابن عباس وعطاء ومقاتل؛ وفيه يقول شاعرهم : [ البسيط ]
4888 - حَيَّاكَ وُدٌّ فإنَّا لا يحلُّ لَنَا ... لَهْوُ النِّساءِ وإنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا
وأما » سُواع « فكان لهذيل بساحل البحر في قولهم .
وقال ابن الخطيب : » وسُواع لهمدَان « .
وأما » يَغُوثُ « فكان لقطيف من مراد بالجوف من سبأ ، في قول قتادة .
وقال المهدويُّ : لمراد ثم لغطفان .
وقال الثعلبيُّ : واتخذت - أعلى وأنعم - وهما من طيىء ، وأهل جرش من مذحج يغوث ، فذهبوا به إلى مراد ، فعبدوه زماناً ، ثُمَّ بَنِي ناجية ، أرادوا نزعه من » أنعم « ففروا به إلى الحصين أخي بني الحارث بن كعب بن خزاعة . ؟
وقال أبو عثمان المهدويُّ : رأيت » يغُوث « وكان من رصاص ، وكانوا يحملونه على جمل أجرد ، ويسيرون معه ولا يهيجونه ، حتى يبرك بنفسه ، فإذا برك نزلوا ، وقالوا : قد رضي لكم المنزل فيه فيضربون عليه بناء ، وينزلون حوله .
وأما » يعوق « فكان لهمدان ببلخ ، في قول عكرمة وقتادة وعطاء ، ذكره الماورديُّ .
وقال الثعلبيُّ : وأما » يعوق « فكان لكهلان من سبأ ، ثم توارثه بنوه الأكبر فالأكبر ، حتى صار في الهمداني .
وفيه يقول غط الهمداني : [ الوافر ]

4889 - يَرِيشُ اللَّهُ في الدُّنيَا ويَبْرِي ... ولا يَبْرِي يعُوقُ ولا يَرِيشُ
وقيل : كان « يَعُوق » لمراد؛ وأما « نَسْر » ، فكان لذي الكلاع من حمير ، في قول قتادة ومقاتل .
وقال الواقدي : كان « ودّ » على صورة رجلٍ ، و « سُواع » على صورة امرأة ، و « يَغُوث » على صورة أسد ، و « يعوق » على سورة فرس ، و « نَسْر » على سورة نسر من الطير ، والله أعلم . قوله : { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً } ، أي : الرؤساء فهو عطف على قوله : { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } ، أو الأصنام ، وجمعهم جمع العقلاءِ ، معاملة لهم معاملة العقلاء لقوله تعالى : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس } [ إبراهيم : 36 ] .
قوله : { وَلاَ تَزِدِ الظالمين } . عطف على قوله : { رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } [ على حكاية كلام نوح بعد « قال » وبعد الواو النائبة عنه ، أي قال : إنهم عصوني ] ، وقال : « لا تَزِد » ، أي : قال هذين القولين ، فهما في محل نصب ، قاله الزمخشريُّ . قال : « كقولك : قال زيد نودي للصلاة ، وصلِّ في المسجد يحكي قوليه ، معطوفاً أحدهما على صاحبه » .
وقال أبو حيَّان : « ولا تَزِد » معطوف على « قَدْ أضلُّوا » لأنها محكية ب « قَالَ » مضمرة ، ولا يشترط التناسب في الجمل المتعاطفة ، بل تعطف خبراً على طلب ، وبالعكس خلافاً لمن اشترط ذلك .
فصل في معنى « إلا ضلالاً »
معنى قوله : { إِلاَّ ضَلاَلاً } .
قال ابن بحر : أي إلا عذاباً ، لقوله تعالى : { إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } [ القمر : 47 ] .
وقيل : إلاَّ خسراناً .
وقيل : إلاَّ فتنة بالمال .
قوله : { مِّمَّا خطيائاتهم } . « مَا » مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد ، ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة ، وجعل « خَطِيئَاتهِم » بدلاً وفيه تعسف .
وتقدم الخلاف في قراءة « خَطِيئاتِهِم » في « الأعراف » .
وقرأ أبو رجاء : « خطيّاتهم » جمع سلامة إلاَّ أنه أدغم الياء في الياء المنقلبة عن الهمزة .
وقال أبو عمرو : قوم كفروا ألف سنةٍ فلم يكن لهم إلاَّ خطيَّات ، يريد أنَّ الخطايا أكثر من الخطيَّات .
وقال قوم : خطايا وخطيات ، جمعان مستعملان في القلة ، والكثرة ، واستدلوا بقول الله تعالى : { مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله } [ لقمان : 27 ] .
وقال الشاعر : [ الطويل ]
4890 - لَنَا الجَفنَاتُ الغُرّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى ... وأسْيَافُنَا يَقْطُرنَ مِنْ نَجْدةٍ دَمَا
وقرأ الجحدريُّ وتروى عن أبيِّ « خطيئتهم » بالإفراد ، والهمز .
وقرأ عبد الله « مِنْ خَطيئاتِهم مَا أغْرِقُوا » ، فجعل « ما » المزيدة بين الفعلِ وما يتعلق به .
و « من » للسببية تتعلق ب « أغْرقُوا » .
وقال ابنُ عطية : لابتداء الغايةِ ، وليس بواضح .
وقرأ العامةُ : « أغرقوا » من « أغرق » .
وزيد بن علي : « غُرِّقُوا » بالتشديد .

وكلاهما للنقل ، تقول : « أغرقت زيداً في الماء ، وغرَّقته به » .
فصل في صحة « عذاب القبر »
قال ابن الخطيب : دل قوله : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } ، على إثبات عذاب القبر لأنه يدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق ، ولا يمكن حمل الآية على عذاب الآخرة وإلاَّ بطلت دلالة هذه الفاء ، وأيضاً فقوله « فأدْخِلُوا » يدل على الإخبار عن الماضي ، وهذا إنَّما يصدق لو وقع ذلك ، وقال مقاتل ، والكلبيُّ : معناه أنهم سيدخلون في الآخرة ناراً ، ثم عبر عن المستقبل بلفظ الماضي؛ لصدق وقوع وعده كقوله : { ونادى أَصْحَابُ الجنة } [ الأعراف : 44 ] .
قال ابن الخطيب : وهذا ترك للظاهر ، من غير دليل ، فإن قيل : إنما تركنا الظاهر لدليل ، وهو أن من مات في الماء ، فإنا نشاهده هناك ، فكيف يمكن أن يقال : إنهم في تلك الساعة أدخلوا ناراً؟ فالجواب : إن هذا الإشكال ، إنَّما جاء لاعتقاد أنَّ الإنسان هو مجموعُ هذا الهيكل ، وهذا خطأ لأن الإنسان هو الذي كان موجوداً من أول عمره ، مع أنَّه كان صغير الجثَّة في أول عمره ، ثم إن أجزاءه دائماً في التحلل والذوبان ، ومعلوم أن الباقي غير المتبدل ، فهذا الإنسانُ عبارة عن ذلك الشيء الذي هو باقٍ ، من أول عمره إلى الآن ، فلمَ لا يجوز أن يقال : نقل الأجزاء الباقية الأصلية التي في الإنسان عبارة عنها إلى النار وإلى العذاب .
ونقل القرطبيُّ عن القشيري أنه قال : هذه الآية تدل على عذاب القبرِ ، ومنكروه يقولون : صاروا مستحقين دخول النار ، أو عرض عليهم أماكنهم من النار ، كقوله تعالى : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] .
وقيل : أشار إلى ما في الخبر من قوله : « البحرُ نارٌ في نارِ » .
وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى : { أَغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } ، قال : يعني عذبوا بالنار في الدنيا في حالة واحدة ، كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب . ذكره الثعلبي .
وأنشد ابن الأنباري : [ البسيط ]
4891 - الخَلْقُ مُجتمِعٌ طَوْراً ومُفْتَرِقٌ ... والحَادثَاتُ فُنونٌ ذاتُ أطوَارِ
لا تَعْجَبنَّ لأضْدادٍ قَد اجْتمَعَتْ ... فاللَّهُ يَجْمَعُ بينَ المَاءِ والنَّارِ
قال المعربون : « فأدخلُوا » يجوز أن يكون من التعببير عن المستقبل بالماضي ، لتحقق وقوعه كقوله : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] ، وأن يكون على بابه ، والمراد عرضهم على النَّار في قبورهم كقوله في آل فرعون : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] .
قوله : { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً } ، أي : من يدفع عنهم العذاب ، وهذا يدل على أنهم إنما عبدوا تلك الأصنام لتدفع عنهم الآفاتِ ، وتجلب المنافع إليهم فلما جاءهم العذاب لم ينتفعوا بتلك الأصنام ، ولم يدفعوا عنهم العذاب وهو كقوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا } [ الأنبياء : 43 ] .
{ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } .
قال الزمخشريُّ : « ديَّاراً » من الأسماء المستعملة في النفي العام ، يقال : ما بالدار ديار وديور ، كقيَّام وقيُّوم ، وهو « فَيْعَال » من الدارة أصله : « ديْوَار » ففعل به ما فعل بأصل « سيِّد وميِّت » ولو كان « فَعَّالاً » لكان « دوَّاراً » انتهى .

يعني أنه كان ينبغي أن تصح واوهُ ولا تقلب ياء ، وهذا نظير ما تقدم له من البحث في « مُتَحيِّز » وأن أصله : « مُتَحَيْوز » لا « مُتَفعِّل » إذ كان يلزم أن يكون « متحوِّزاً » لأنه من « الحَوْز » ويقال فيه أيضاً : « دَوَّار » نحو « قيَّام وقوَّام » .
وقال مكيٌّ : وأصله « ديْوَار » ثم أدغموا الواو في الياء مثل « ميِّت » أصله « ميْوِت » ثم أدغموا الثاني في الأول ، ويجوز أن يكون أبدلوا من الواو ياء ، ثم أدغموا الياء الأولى في الثانية .
قال شهاب الدين : قوله أدغموا الثاني في الأول ، هذا لا يجوز؛ إذ القاعدة المستقرة في المتقاربين قلب الأول لا الثاني ، ولا يجوز العكسُ إلا شذوذاً أو لضرورة صناعية ، أما الشذوذ فكقوله : { واذَّكَرَ } [ يوسف : 45 ] بالذال المعجمة ، و { فهل من مُذَّكر } [ القمر : 15 ] بالذال المعجمة أيضاً وأما الضرورة الصناعية فنحو : امدح هذا ، لا تقلب الهاء حاء ، لئلا يدغم الأقوى في الأضعف وهذا يعرفه من عانى التصريف ، والديار : نازل الدار ، يقال : ما بالدار ديار ، وقيل : الديار صاحب الدار .
وقال البغويُّ : « الدَّيارُ يعني أحداً يدور في الأرض ، فيذهب ويجيء » فعَّال « من الدوران » .
فصل في دعاء نوح على قومه
لما أيس نوح - عليه الصلاة والسلام - من أتباعهم إياه دعا عليهم .
قالت قتادة : دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] ، فأجاب الله دعوته وأغرق أمته ، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم : « اللَّهُمَّ مُنزِلَ الكتابِ هَازِم الأحزابِ ، اهْزمهُم وزلْزلهُمْ » .
وقيل : سبب دعائه أنَّ رجلاً من قومه حمل ولداً صغيراً على كتفهِ فمرَّ بنوحٍ ، فقال : احذر هذا فإنه يضلك ، فقال : يا أبتِ ، أنزلني فأنزله فرماه فشَجَّه ، فحينئذ غضب ودعا عليهم .
وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد : إنَّما قال هذا ، حين أخرج اللَّهُ كلَّ مؤمنٍ من أصلابهم وأرحام نسائهم ، وأعقم أرحام أمهاتهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة ، وقيل : بسبعين سنة ، فأخبر اللَّهُ نوحاً أنهم لا يؤمنون ، ولا يلدون مؤمناً كما قال تعالى : { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] ، فحنيئذ دعا عليهم نوحٌ ، فأجاب اللَّهُ دعاءَ فأهلكهم كلَّهم ، ولم يكن فيهم صبي وقت العذابِ ، لأن الله تعالى قال : { وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل أَغْرَقْنَاهُمْ } [ الفرقان : 37 ] . ولم يوجد التكذيب من الأطفال .

فصل في بيان أنه لا يدعى على كافر معين
قال ابن العربي : دعا نوح على الكافرين أجمعين ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وألّبَ عليهم ، وكان هذا أصلاً في الدعاء على الكافرين في الجملة فأمَّا كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه؛ لأن مآله عندنا مجهول ، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء على عُتبةَ وشَيبَةَ وأصحابه لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم . والله أعلم .
قوله : { رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ } .
العامة : على فتح الدال على أنه تثنية والد؛ يريد : أبويه .
واسم أبيه : لملك بن متوشلخ ، واسمه أمه : شمخى بنت أنوش ، وكانا مؤمنين .
وحكى الماورديُّ : اسم أمه : منجل .
وقرأ الحسن بن علي - رضي الله عنهما - ويحيى بن يعمر والنخعيُّ : ولولدي ، تثنية ولد يعني : ابنيه ساماً وحاماً .
وقرأ ابن جبير والجحدري : « ولوالدِي » - بكسر الدال - يعني أباه .
فيجوز أن يكون أراد أباه الأقرب الذي ولده ، وخصَّه بالذَّكر لأنه أشرف من الأم ، وأن يريد جميع من ولده من لدن آدم إلى زمن من ولده .
قال الكلبيُّ : كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمن .
وذكر القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما الصلاة والسلام .
قوله { وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً } .
قال ابن عباس رضي الله عنه : أي : مسجدي ومصلاي ، « مُؤمِناً » ، أي : مُصدِّقاً بالله ، ف « مُؤمِناً » حال ، وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن بهم ، فجعل المسجد سبباً للدعاء بالمغفرة .
وقيل : المراد بقوله « بيتي » ، أي : سفينتي .
وقال ابن عباس : أي : دخل في ديني .
فإن قيل : فعلى هذا يصير قوله : « مُؤمِناً » مكرراً .
فالجواب : إنَّ من دخل في دينه ظاهراً قد يكون مُؤمناً ، وقد لا يكون مؤمناً ، فالمعنى : ولمن دخل دخولاً مع تصديق القلبِ .
قوله : { وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } ، خصَّ نفسه أولاً بالذكر والدعاء ، ثم المتصلين به لأنَّهم أولى ، وأحق بدعائه ، ثم عمَّ المؤمنين ، والمؤمناتِ إلى يوم القيامة ، قاله الضحاك .
وقال الكلبيُّ : من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم .
وقيل : من قومه ، والأول أظهر ، ثم ختم الكلام مرةً أخرى بالدعاءِ على الكافرين [ فقال : { وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً } ، أي : هلاكاً ، ودماراً ، والمراد بالظالمين : الكافرين ] فهي عامة في كل كافر ومشرك .
وقيل : أراد مشركي قومه ، و « تَبَاراً » مفعول ثاني ، والاستثناءُ مفرغ ، والتبار : كل شيء أهلك فقد تبر ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } [ الأعراف : 139 ] .
وقيل : التَّبارُ الخُسران .
قال المفسّرون : فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم .
روى الثعلبيُّ عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورةَ نُوحٍ ، كَانَ مَنَ المُؤمِنْينَ الَّذينَ تُدركُهمْ دَعْوَة نُوحٍ عليْهِ السَّلامُ » .

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)

قوله : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ } ، هذه قراءةُ العامة ، أعني كونها من « أوْحَى » رباعياً .
وقرأ العتكي عن أبي عمرو وابن أبي عبلة وأبو إياس : « وَحَى » ثلاثياً .
وهما لغتان ، يقال : وَحَى إليه كذا وأوحى إليه بمعنى واحد ، فقلبت الواو همزة ، ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ } [ المرسلات : 11 ] ؛ وأنشد العجاج : [ الرجز ]
4892 - وحَى لَهَا القَرارَ فاسْتَقَرَّتِ ... وقرأ زيد بن علي والكسائي في رواية وابن أبي عبلة أيضاً : « أُحي » بهمزة مضمومة لا واو بعدها ، وخرجت على أن الهمزة بدلٌ من الواو المضمومة ، نحو « أعد » في « وَعَد » فهذا فرع قراءة « وَحَى » ثلاثياً .
قال الزمخشريُّ : وهو من القلب المطلق جواباً في كل واو مضومة ، وقد أطلقه المازنيُّ في المكسورة أيضاً : ك « إشاح ، وإسادة » ، و « إعاء أخيه » [ يوسف : 76 ] .
قال أبو حيَّان : وليس كما ذكر بل في ذلك تفصيل ، وذلك أن الواو المضمومة قد تكون أولاً ، وحشواً ، وآخراً ، ولكل منها أحكام ، وفي بعض ذلك خلاف ، وتفصيل مذكور في كتب النحو . وتقدم الكلام في ذلك مشبعاً في أول الكتاب .
ثم قال أبو حيَّان بعدما تقدم عن المازنيِّ : وهذا تكثير وتبجح .
قوله : { أَنَّهُ استمع } ، هذا هو القائمُ مقام الفاعل لأنَّه هو المفعول الصريحُ ، وعند الكوفيين والأخفش يجوز أن يكون القائمُ مقامه الجار ، والمجرور ، فيكون هذا باقياً على نصبه ، والتقدير : أوحي إليَّ استماع نفرٍ « من الجن » صفة ل « نَفَر » .
فصل في تفسير الآية
قال ابن عباس وغيره : قل يا محمد لأمَّتك أوحِيَ إليَّ على لسانِ جبريل ، أنَّه استمع نفرٌ من الجنِّ ، والنَّفرُ : الجماعةُ ما بين الثلاثة إلى العشرة ، واختلفوا ، هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ .
فظاهرُ القرآن يدل على أنَّه لم يرهم لقوله تعالى : { أَنَّهُ استمع } ، وقوله : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن } [ الأحقاف : 29 ] .
وفي صحيح مسلم ، والترمذي عن ابن عباسٍ قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشيطان ، وبين خبر السماء ، وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطينُ إلى قومهم فقالوا : ما لكم؟ .
فقالوا : حِيْلَ بيننا وبين خبر السماءِ ، وأرسلت علينا الشهب قالوا : ما ذلك إلا من شيء حدث ، فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها ، فمرَّ النفرُ الذين أخذوا نحو « تهامة » وهو وأصحابه بنخلة قاصدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه الفجر فلمَّا سمعوا القرآن قالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ، فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } فأنزل الله على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } الآية .

قال القرطبيُّ : وفي هذا الحديث دليلٌ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرَ الجنَّ ولكن حضروه وسمعوا قرآنه .
فإن قيل : الذين رموا بالشُّهب هم الشياطينُ والذين سمعوا القرآن هم الجنُّ ، فما وجه الجمع؟ فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّ الجن كانوا مع الشياطين ، فلما رمي الشياطين أخذوا الجنَّ الذين كانوا منهم في تجسس الخبرِ .
الثاني : أن الذين رموا بالشهبِ كانوا من الجن ، إلا أنهم قيل لهم : شياطين كما قيل : شياطين الإنس والجنِّ ، فإنَّ الشيطان كل متمرد ، وبعيد من طاعة الله تعالى .
قال ابن الخطيب رحمه الله : واختلف في أولئك الجنِّ الذين سمعوا القرآن من هم؟ .
فروى عاصم عن ذر قال : قدم رهطُ زوبعة وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرفوا ، فذلك قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن } .
وقيل : كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وعامة جنود إبليس منهم .
وقيل : كانوا سبعة ، ثلاثة من أرض « حرَّان » وأربعة من أرض « نَصِيبينَ » ، : قريِةٌ من قرى اليمن غير التي بالعراق رواه أيضاً عنهم عاصم عن ذر .
وقيل : إنَّ الجنَّ الذين أتوه بمكةَ جنُّ نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جنُّ نينَوى .
وقال عكرمةُ : كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل .
ومذهب ابن مسعود أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم ويدعوهم إلى الإسلام ، روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أمِرْتُ أن أتْلُوَ القُرآنَ على الجِنِّ فمَنْ يَذْهَبُ مَعِي؟ فَسَكَتُوا ، ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الثانية : ثُمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم الثالثة ، فقلتُ : أنَا أذْهَبُ مَعَكَ يا رسُولَ اللَّهِ ، فانطلقَ ، حتى أتى الحَجُونَ عند شعب ابن أبي دب خط عليَّ خطّاً فقال : لا تجاوزه ، ثُمَّ مضَى إلى الحَجُونِ فاتَّخَذُوا عليه أمْثَالَ الحجل كأنَّهُم رِجالُ الزُّطِّ ، قال ابنُ الأثير في » النهاية « : » الزّطّ : قومٌ من السودان والهنود « يقرعون في دُفُوفهِمْ ، كما تَقرَعُ النِّسوةُ في دُفُوفِها ، حتَّى غشاهُ ، فغَابَ عنْ بَصرِي ، فقُمْتُ ، فأوْمَأ بيدِه إليَّ أن اجْلِسْ ثُمَّ تلا القرآن صلى الله عليه وسلم فلم يزلْ صوتهُ يَرتفِعُ ، ولصقوا في الأرضِ ، حتَّى صِرْتُ لا أرَاهُمْ » .
وفي رواية أخرى ، « قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ أنْتَ؟ .
قال صلى الله عليه وسلم : أنَا نَبِيٌّ ، قالوا : فَمنْ يَشهَدُ لَكَ على ذَلِكَ؟ .
فقال الحبيب المجتبى صلى الله عليه وسلم : هذه الشَّجرةُ ، تعالي يا شجرةُ فجَاءتْ تجرُّ عُروقهَا لها قعاقعُ ، حتى انتصبتْ بين يديه صلى الله عليه وسلم فقال لها صلى الله عليه وسلم : على ماذا تشهدين فيَّ؟ .
فقالت أشْهَدُ أنَّك رسُولُ الله قال صلى الله عليه وسلم لها : اذْهَبِي ، فَرجعَتْ فذهبت مكانها كَمَا جاءتْ ، حتى صارتْ كما كانتْ .
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : فلمَّا عاد إليَّ قال : أردت أن تأتيني ، قلت : نعم يا رسول الله قال : مَا كَانَ ذلكَ لَكَ ، قال : هؤلاءِ الجِنُّ أتَوا يَسْتمعُونَ القُرآنَ ثُمَّ ولَّوا إلى قَومِهِم مُنْذرينَ ، فَسألُونِي الزَّادَ ، فزوَّدتهُم العَظْمَ والبَعْرَ ، فلا يَسْتطِيبنَّ أحدكُمْ بعَظْمٍ ، ولا بَعْر » .

وفي رواية : « أنَّه صلى الله عليه وسلم لما فرغ وضع رأسهُ صلى الله عليه وسلم على حِجْرِ ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - فرقد ، ثُمَّ استيقظ صلى الله عليه وسلم فقال : هَلْ مِنْ وُضُوءٍ؟
قال : لا ، إلاَّ أنَّ معي إداوة نبيذٍ ، فقال صلى الله عليه وسلم : هَلْ هُو إلاَّ تمرٌ وماء » فَتوضَّأ مِنْهُ « .
قال ابن الخطيب : وطريقُ الجمع بين المذهبين مذهب ابن عباس ومذهب ابن مسعود من وجوه :
أحدها : لعل ما ذكره ابن عباس وقع أولاً فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورةِ ، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روى ابن مسعود رضي الله عنهما .
وثانيها : أن بتقدير أن تكون واقعة الجن مرة واحدة إلا أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ، وما عرف أنَّهم ماذا قالوا ، وأي شيءٍ فعلوا ، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وكذا ، وقالوا كذا .
وثالثها : أن الواقعة كانت مرة واحدة ، وهو صلى الله عليه وسلم رآهم ، وسمع كلامهم ، وهم آمنوا به ، ثم رجعوا إلى قومهم ، قالوا لقومهم على سبيل الحكايةِ : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } وكان كذا وكذا فأوحى اللَّهُ تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما قالوه لأقوامهم .
قال ابن العربي : » ابن مسعود أعرفُ من ابن عباس ، لأنه شاهده ، وابن عباس سمعهُ ، وليس الخبرُ كالمعاينة « .
قال القرطبي : وقيل : إن الجنَّ أتوا النبي صلى الله عليه وسلم دفعتين .
أحدهما : بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود .
والثانية : بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس .
قال البيهقيُّ : الذي حكاه عبد الله إنما هو في أول ما سمعت الجنُّ قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه عبد الله بن عباس ثم أتاه داعي الجنِّ مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود .
فصل في لفظ » قل «
قال ابن الخطيب : اعلم أنَّ قوله تعالى : قُلْ » أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يظهر لأصحابه - رضي الله عنهم - ما أوحى إليه تعالى في واقعة الجنِّ ، وفيه فوائد .
أحدها : أن يعرفوا بذلك أنه صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الجن ، كما بعث إلى الإنس .

وثانيها : أن تعلم قريش أنَّ الجنَّ مع تمردهم لما سمعُوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم .
وثالثها : أن يعلم القومُ أنَّ الجنَّ مكلفون كالإنس .
ورابعها : أن تعلم أنَّ الجنَّ يستمعون كلاماً تفهمه من لغتنا .
وخامسها : أن يظهر المؤمنُ منهم بدعوى غيره من الجنِّ إلى الإيمان ، وفي هذه الوجوه مصالحُ كثيرة إذا عرفها الناس .
فصل في بيان أصل الجن
اختلف العلماءُ في أصل الجنِّ ، فروى الحسنُ البصريُّ أنَّ الجنَّ ولد إبليس ، والإنس ولد آدمَ - صلوات الله وسلامه عليه - ومن هؤلاء وهؤلاءِ مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء في الثَّواب والعقاب ، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرٌ فهو شيطانٌ ، روى الضحاك عن ابن عباس أن : الجن هم ولد الجان ، وليسوا شياطين ومنهم المؤمن ومنهم الكافر ، والشياطين ولد إبليس ، لا يموتون إلاَّ مع إبليس ، وروي أن ذلك النفر كانوا يهوداً .
وذكر الحسن أنَّ منهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين .
فصل في دخول الجِنة الجَنة
اختلفوا في دخول الجنِّ الجنةِ على حسب الاختلاف في أصلهم ، فمن زعم أنهم من الجانِّ لا من ذرية إبليس قال : يدخلون الجنَّة بإيمانهم ، ومن قال : إنهم من ذرية إبليس فله فيهم قولان :
أحدهما : وهو قول الحسن : يدخلونها .
الثاني : وهو قولُ مجاهد : لا يدخلونها
فصل فيمن أنكر الجن
قال القرطبيُّ : وقد أنكر جماعةٌ من كفرة الأطباءِ والفلاسفة : الجن ، وقالوا : إنهم بسائط ، ولا يصح طعامهم ، اجتراء على الله والقرآن والسنة ترد عليهم ، وليس في المخلوقات بسائط مركب من زوج ، إنما الواحد سبحانه وتعالى ، وغيره مركب ، ليس بواحد كيفما تصرف حاله ، وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة وأكثر ما يتصورون هنا في صور الحياتِ .
ففي الحديثِ : « أن رجلاً حديث عهدٍ بعرسٍ استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النَّهارِ أن يرجع إلى أهله » الحديث .
وفيه : « فإذا حية عظيمة مطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها » وذكر الحديث .
وفي الحديث : « أنَّه صلى الله عليه وسلم قال : » إنَّ لهذه البيوتِ عوامر فإذا رأيتمْ منها شَيْئاً فحَرِّجُوا عليْها ثلاثاً ، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر «
وقال : » اذهبوا فادفنوا صاحبكم « » .
وذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة كقوله في الصحيح : « إنِّ بالمدينة جنّاً قد أسْلمُوا » ، وهذه لفظ مختص بها فتختص بحكمها .
قال القرطبي : قلنا : هذا يدل على أنَّ غيرها من البيوت مثلها؛ لأنه لم يعلل بحرمة « المدينة »؛ فيكونُ ذلك الحكمُ مخصوصاً بها وإنَّما علل بالإسلام وذلك عام في غيرها ، ألا ترى قوله في الحديث مخبراً عن الجنِّ الذين لقي وكانوا من جنِّ الجزيرة وعضد هذا قوله : « ونَهَى عَن عوامِر البيوتِ » وهذا عام وقد مضى في سورة البقرة .

قوله تعالى : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } ، أي : قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كقوله تعالى { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ } [ الأحزاب : 37 ] ، { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل } [ القصص : 29 ] { فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } [ الأحقاف : 29 ] ، ووصف القرآن ب « عَجَباً » إما على المبالغة ، أي : خارجاً عن حد أشكاله إما في فصاحة كلامه ، وإما في بلاغة مواعظه ، أو عجباً من عظم بركته ، أو عزيزاً لا يوجد مثله وإما على حذف مضاف أي ذا عجب ، وإمَّا بمعنى اسم الفاعل ، أي : معجب . قوله « يَهْدِي » صفة أخرى ، أي : هادياً .
{ إِلَى الرشد } . قرأ العامةُ : « الرشد » بضمة وسكون ، وابن عمر : بضمها وعنه أيضاً : فتحهما . وتقدم هذا في الأعراف . والمعنى : يهدي إلى الصواب .
وقيل : إلى التوحيد .
قوله تعالى : { فَآمَنَّا بِهِ } ، أي : بالقرآن ، أي : فاهتدينا به ، وصدقنا أنه من عند الله ، { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } ، أي : لا نرجع إلى إبليس ، ولا نطيعه ، ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك ، وهذا يدل على أنَّ أولئك الجنِّ كانوا مشركين .
قوله : { وَأَنَّهُ تعالى } . قرأ الأخوان وابن عامر وحفص : بفتح « أنَّ » ، وما عطف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمة ، والباقون : بالكسر .
وقرأ أبو بكر وابن عامرٍ : « وإنَّهُ لمَّا قَامَ عبد الله يدعوه » بالكسر ، والباقون : بالفتح .
واتفقوا على الفتح في قوله تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } .
وتلخيص هذه أن « أنَّ » المشددة في هذه السورة على ثلاثة أقسام :
قسم : ليس معه واو العطف ، فهذا لا خلاف بين القراء في فتحه أو كسره على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية ، كقوله { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } ، لا خلاف في فتحه لوقوعه موقع المصدر ، وكقوله { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } ، لا خلاف في كسره لأنه محكي بالقول .
القسم الثاني : أن يقترن بالواو ، وهوأربع عشرة كلمة ، إحداها : لا خلاف في فتحها وهو قوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } وهذا هو القسمُ الثاني .
والثالث : « وأنه لما قام » يكسرها ابن عامر وأبو بكر ، وفتحها الباقون . كما تقدم تحرير ذلك كله .
والاثنتا عشرة : وهي قوله { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ } [ الجن : 3 ] ، { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ } [ الجن : 4 ] { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [ الجن : 5 ] ، { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ } [ الجن : 6 ] ، { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ } [ الجن : 7 ] ، { وَأَنَّا لَمَسْنَا } [ الجن : 8 ] ، { وَأَنَّأ كُنَّا } [ الجن : 9 ] ، { وَأَنَّا لاَ ندريا } [ الجن : 10 ] ، { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون } [ الجن : 11 ] ، { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [ الجن : 12 ] ، { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 13 ] ، { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون } [ الجن : 14 ] .
فهذا ضبطها من حيثُ القراءات ، وأما توجيه ذلك فاختلف الناسُ فيه .
فقال أبو حاتم في الفتح : هو معطوف على مرفوع « أوحِيَ » ، فتكون كلها في موضع رفع لما لم يسم فاعله .

ورد ذلك من حيث أنَّ أكثرها لا يصح دخولها تحت معمول « أوحِيَ » ، ألا ترى أنه لو قيل « أوحي إلينا أنا لمسنا السماء ، وأنا كنا ، وأنا لا ندري وأنا منا الصالحون ، وأنا لما سمعنا الهدى ، وأنا منا المسلمون » لم يستقم معناه .
وقال مكيٌّ : وعطف « أن » على « آمنَّا بِهِ » أتم في المعنى من العطف على « أنَّهُ اسْتمَعَ » لأنَّك لو عطفت « وأنا ظننا ، وأنا لما سمعنا ، وأنه كان رجال من الإنس ، وأنا لمسنا » وشبه ذلك على « أنَّهُ اسْتمَعَ » لم يجز؛ لأنه ليس مما أوحي إليه إنَّما هو أمر أخبروا به عن أنفسهم ، والكسر في هذا أبينُ وعليه جماعة من القُرَّاءِ .
الثاني : أن الفتح في ذلك عطف على محل « بِهِ » من « آمنَّا بِهِ » .
قال الزمخشريُّ : « كأنه قال : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا ، وأنه يقول سفيهنا ، وكذلك البواقي » .
إلا أن مكياً ضعف هذا الوجه فقال : « والفتح في ذلك على الجمل على معنى : » آمنَّا بِهِ « ، فيه بعدٌ في المعنى؛ لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا ، بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به ، ولم يخبروا أنَّهم آمنوا أنه كان رجال ، إنما حكى الله عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين به عن أنفسهم لأصحابهم ، فالكسر أولى بذلك »
وهذا الذي قاله غير لازم ، فإن المعنى على ذلك صحيح ، وقد سبق الزمخشري إلى هذا التخريج الفرَّاء والزجاج ، إلا أن الفراء استشعر إشكالاً وانفصل عنه ، فإنه قال : فتحت « أن » لوقوع الإيمان عليها ، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض فلا يمنع من إمضائهن على الفتح ، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح « أن » نحو : صدقنا ، وشهدنا ، كما قالت العرب : [ الوافر ]
4893 - وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا ... فنصب « العيونَ » لإتباعها « الحواجب » ، وهي لا تزجج إنما تكحل ، فأضمر لها الكحل . انتهى فأشار إلى شيء مما ذكره وأجاب عنه .
وقال الزجاج : « لكن وجهه أن يكون محمولاً على » آمنَّا بِهِ « وصدقناه وعلمناه ، فيكون المعنى : صدقنا أنه تعالى جد ربِّنا ما اتخذ صاحبة » .
الثالث : أنه معطوف على الهاء في « بِهِ » ، أي : آمنا به وبأنه تعالى جد ربنا ، وبأنه كان يقول - إلى آخره - وهو مذهب الكوفيين .
وهو ، وإن كان قوياً من حيثُ المعنى ، إلا أنه ممنوع من حيث الصناعة لأنه لا يعطف على الضمير المجرور ، إلا بإعادة الجار .
وتقدم تحرير هذين القولين في سورة « البقرة » عند قوله :

{ وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام } [ البقرة : 217 ] على أن مكياً قد قوى هذا المدرك ، وهو حسن جداً ، فقال : هو يعني العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار في « أن » أجود منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر « إلى » مع « أن » .
ووجه الكسر : العطف على « إن » في قوله : « إنَّا سَمعْنَا » فيكون الجميع معمولاً للقول فقالوا : « إنَّا سَمِعْنَا » ، وقالوا : « إنَّه تعَالى جَدُّ ربِّنَا » إلى آخرها .
وقال بعضهم : الجملتان من قوله تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس } ، { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ } معترضتان بين قول الجن ، وهما من كلام الباري تعالى .
والظاهر أنه من كلامهم قاله بعضهم لبعض .
ووجه الكسرِ والفتح في قوله : { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله } ما تقدم .
ووجه إجماعهم على فتح { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على « أنَّه اسْتَمَعَ » فيكون موحى أيضاً .
والثاني : أنه على حذف حرف الجر ، وذلك الحرف متعلق بفعل النهي ، أي : فلا تدعوا مع الله احداً ، لأن المساجد لله . ذكرهما أبو البقاء .
وقال الزمخشريُّ : « أنَّهُ اسْتَمَع » - بالفتح - لأنه فاعل « أوْحِيَ » ، و « إنَّا سَمِعْنَا » بالكسر لأنه مبتدأ ، محكي بعد القول ، ثُمَّ يحمل عليهما البواقي ، فما كان من الوحي فتح ، وما كان من قول الجنِّ كسر ، وكلهم من قولهم الثنتين الأخريين وهما : « وأن المساجد ، وأنه لما قام عبد الله يدعوه » ، ومن فتح كلهن ، فعطفاً على محلّ الجار والمجرور في « آمنَّا بِهِ » ، أي : صدقناه وصدقنا به .
والهاء في { أَنَّهُ استمع نَفَرٌ } ، وأنه تعالى وما بعد ذلك ضمير الأمر والشأن ، وما بعده خبر « أن » .
قوله : { جَدُّ رَبِّنَا } . قرأ العامة : { جَدّ رَبَّنَا } بالفتح ل « رَبَّنَا » .
والمراد به هنا العظمة .
وقيل : قدرته وأمره .
وقيل : ذكره .
والجدُّ أيضاً : الحظُّ ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « وَلاَ ينفعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ » والجدُّ أيضاً : أبو الأب ، والجدُّ أيضاً - بالكسر - ضد التواني في الأمر .
وقرأ عكرمة : بضم ياء « ربُّنا » وتنوين « جدٌّ » على أن يكون « ربنا » بدلاً من « جد » .
والجد : العظيمُ . كأنه قيل : وأنه تعالى عظم ربنا ، فأبدل المعرفة من النكرة .
وعنه أيضاً : « جداً » على التمييز و « ربنا » فاعل ب « تعَالى » ، وهو منقول من الفاعلية؛ إذ التقدير : « جد ربنا » ثم صار تعالى ربنا جداً أي عظمة نحو تصبب زيداً عرقاً أي عرق زيد ، وعنه أيضاً وعن قتادة كذلك إلا انه بكسر الجيم ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه نعت لمصدر محذوف ، وربنا فاعل ب « تعالى » ، والتقدير : تعالى ربُّنا تعالياً جداً ، أي : حقاً لا باطلاً .

والجِدُّ - بكسر الجيم - ضد الهزل .
والثاني : أنه منصوب على الحال ، أي : تعالى ربنا حقيقة وتمكناً ، قاله ابن عطية .
وقرأ حميد بن قيس : « جُدُّ ربِّنا » - بضم الجيم - مضافاً ل « ربِّنا » ، وهو بمعنى العظيم حكاه سيبويه .
وهو في الأصل من إضافة الصفة لموصوفها؛ إذ الأصل : ربنا العظيم ، نحو : « جرد قطيفة » الأصل : قطيفةُ جرد ، وهو مؤولٌ عن البصريين .
وقرأ ابنُ السميقع : « جدا ربنا » بألف بعد الدال مضافاً ل « ربِّنا » .
والجَدَا والجدوى : النفع والعطاء ، أي : تعالى عطاء ربِّنا ونفعه .
فصل في معنى « الجد »
قال القرطبيُّ : الجد في اللغة : العظمةُ والجلالُ ، ومنه قول أنس - رضي الله عليه - : « كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا » أي : عظم وجل فمعنى « جَدُّ ربِّنَا » أي : عظمته وجلاله ، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة ، وعن مجاهد أيضاً : ذكره .
وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمةُ أيضاً : غناه .
ومنه قيل للحظ جد ورجل مجدود : أي : محظوظ ، وفي الحديث : « وَلا يَنْفَعُ ذَا الجدِّ منْكَ الجَدُّ » ، قال أبو عبيد والخليل ، أي ذا الغنى منك الغنى ، إنما تنفعه الطاعة .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : قدرته وقال الضحاك : فعله .
وقال القرظي والضحاك : آلاؤهُ ونعماؤه على خلقه .
وقال أبو عبيد والأخفش : ملكه وسلطانه .
وقال السدي : أمره .
وقال سعيد بن جبير : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا } ، أي : تعالى ربنا .
وقيل : إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أبو الأب ، ويكون هذا من الجنِّ .
وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع : ليس لله تعالى جد وإنما قالته العرب للجهالة فلا يوحدونه .
قال القشيريُّ : ويجوز إطلاق لفظ الجدِّ في حق الله تعالى إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن ، غير أنه لفظ موهم ، فتجنُّبُه أولى .
قال القرطبيُّ : « ومعنى الآية : وأنه تعالى جدُّ ربِّنا أن يتخذ ولداً أو صاحبة للاستئناس بهما ، أو الحاجة إليهما ، والربُّ يتعالى عن ذلك كما يتعالى عن الأنداد والنظراء » .
وقوله عز وجل : { مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } ، مستأنف ، فيه تقرير لتعالي جده .
قوله : { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً } .
الهاء في « أنه » للأمر أو الحديث ، و « سَفِيهُنَا » يجوز أن يكون اسم « كَانَ » و « يقُولُ » الخبر ، ولو كان مثل هذه الجملة غير واقعة خبراً ل « كَانَ » لامتنع تقديمُ الخبرِ حينئذ ، نحو « سَفِيهُنَا يقُولُ » ، لو قلت : « يَقُولُ سَفيْهُنَا » على التقديم والتأخير ، لم يجز فيه والفرق أنه في غير باب « كَانَ » يلتبس بالفعل والفاعل ، وفي باب « كَانَ » يؤمن ذلك .

ويجوز أن يكون « سَفِيهُنَا » فاعل « يقُولُ » والجملة خبر « كَانَ » واسمها ضمير الأمر مستتر فيها ، وقد تقدم هذا في قوله : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } [ الأعراف : 137 ] وقوله تعالى : { شَطَطاً } تقدم في سورة الكهف مثله .
قال القرطبيُّ : « ويجوز أن يكون » كان « زائدة ، والسفيه : هو إبليس ، في قول مجاهد وابن جريج وقتادة . ورواه أبو بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : المشركون من الجنِّ .
قال قتادةُ : عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس والشططُ والإشطاط : الغلو في الكفر .
قال أبو مالك : هو الجور وقال الكلبي : هو الكذب وأصله البعد ويعبر به عن الجور لبعده عن العدل وعن الكذب لبعده عن الصدق؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
4894 - بأيَّةِ حالٍ حَكَّمُوا فِيكَ فاشْتَطُّوا ... وما ذَاكَ إلاَّ حَيْثُ يَمَّمَكَ الوَخْطُ
قوله : { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } أي : حسبنا { أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً } .
» أنْ « مخففة ، واسمها مضمر والجملة المنفية خبرها ، والفاعل بينهما هنا حرف النفي ، و » كذباً « مفعول به ، أو نعت مصدر محذوف ، أي : قولاً كذباً .
وقرأ الحسن والجحدري وأبو عبد الرحمن ويعقوب : » تقَوَّل « - بفتح القاف والواو المشددة - وهو مضارع » تقوَّل « أي : كذب ، والأصل : تتقوَّل ، فحذف إحدى التاءين ، نحو » تذكرون « . وانتصب » كَذِباً « في هذه القراءة على المصدر؛ لأن التقول كذب ، فهو نحو قولهم : » قَعدْتُ جُلُوساً « .
ومعنى الآية : وأنَّا حسبنا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً ، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولداً حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق .
وقيل : انقطع الإخبار عن الجنِّ - هاهنا - فقال الله تعالى جل ذكره لا إله إلا هو- :
{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس } فمن فتح ، وجعله من قول الجنِّ ردَّها إلى قوله : { أَنَّهُ استمع } ، ومن كسرها جعلها من قول الله تعالى .
والمراد به ما كانوا يفعلونه ، من قول الرجل إذا نزل بواد : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، فيبيت في جواره حتى يصبح ، قاله الحسن وابن زيد وغيرهما .
وقيل : كانوا في الجاهلية إذ أقحطوا ، بعثُوا رائدهم ، فإذا وجد مكاناً فيه كلأ وماءٌ رجع إلى أهله فسار بهم حتى إذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذُ بك بربِّ هذا الوادي أن تصيبنا فيه آفةٌ ، يعنون من الجن ، فإن لم يفزعهم أحد نزلوا ، وإن أفزعهم الجن رجعوا .
قال مقاتل : أول من تعوذ بالجنِّ قومٌ من أهل اليمن ، ثم من بني حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب ، فلَّما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم .

وقال كردم بن أبي السائب : خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فآواني المبيت إلى راعي غنمٍ ، فلما انتصف الليل جاء الذئب ، فحمل حملاً من الغنم ، فقال الراعي : يا عامر الوادي جارك الله ، فنادى منادٍ : يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمةٌ ، فأنزل الله تعالى على رسوله السيد الكامل المكمل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بمكة : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقاً } ، أي : زاد الجنُّ الإنس رهقاً ، أي : خطيئة ، وإنما قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم .
والرَّهقُ : الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم ، ورجل رهق إذا كان كذلك ، ومنه قوله : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [ يونس : 27 ] ؛ وقال الأعشى : [ البسيط ]
4895 - لا شَيْءَ يَنْفعُنِي من دوُنِ رُؤْيتها ... هَلْ يَشتفِي عَاشقٌ ما لم يُصِبْ رَهقَا
يعني إثماً ، ورجل مرهق ، أي : يغشاه السائلون .
قال الواحديُّ : الرَّهَقُ : غشيان الشيء ، ومنه قوله تعالى : { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } .
وأضيفت الزيادةُ إلى الجن إذ كانوا سبباً لها .
وقال مجاهد أيضاً : « فزَادُوهُم » أي : أن الإنس زادوا الجنَّ طغياناً بهذا التعوذ ، حتى قالت الجنُّ : « سدنا الإنس والجن » .
وقال قتادة أيضاً ، وأبو العالية والربيع وابن زيد : ازداد الإنس بهذا فرقاً وخوفاً من الجن .
وقال سعيد بن جبير : كفراً .
ولا يخفى أنَّ الاستعاذة بالجنِّ دون الاستعاذة بالله شركٌ وكفرٌ .
وقيل : لا يطلق لفظ الرجال على الجنِّ ، فالمعنى : وأنه كان رجالٌ من الإنس يعوذون من شرِّ الجن برجال من الإنس وكان الرجل من الإنس يقول مثلاً : أعوذ بحذيفة بن بدر من جنِّ هذا الوادي .
قال القشيريُّ : وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق الرِّجالِ على الجن .
وقوله : « مِنَ الإنس » صفة ل « رِجَالٌ » وكذلك قوله « مِنَ الجِنِّ » .
قوله تعالى : { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً } .
الكلام في « أنْ لنْ » كالكلام في الأول ، و « أن » وما في خبرها ، سادةٌ مسدَّ مفعولي الظن والمسألة من باب الإعمال ، لأن « ظنُّوا » يطلب مفعولين ، و « ظَننْتُم » كذلك ، وهو من إعمال الثاني للحذف من الأول .
والضمير في « أنَّهُم ظنُّوا » للإنس ، وفي « ظَنَنْتُمْ » ، للجن ، ويجوز العكس
فصل في الخطاب في الآية
هذا من قول الله تعالى للإنس ، أي : وإن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم .
قال الكلبيُّ : ظنت الجنُّ كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولاً من خلقه يقيم به الحجة عليهم وكل هذا توكيد للحجة على قريش ، أي : إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد صلى الله عليه وسلم فأنتم أحق بذلك .

قوله : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء } . هذا من قول الجنِّ ، أي : طلبنا خبرها كما جرت عادتنا { فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً } ، أي ملئت حفظاً يعني : الملائكة .
فاللَّمْسُ : المس ، فاستعير للطلب ، لأن الماس متقرب ، يقال : لمسه والتمسه ونحوه الجس يقال : جسوه بأعينهم وتجسسوه .
والمعنى : طلبنا بلوغ السَّماء واستماع كلام أهلها .
قوله : { فَوَجَدْنَاهَا } ، فيها وجهان :
أظهرهما : أنها متعدية لواحد؛ لأن معناها : أصبنا وصادفنا ، وعلى هذا فالجملة من قوله « مُلِئَتْ » في موضع نصب على الحال على إضمار « قَدْ » .
والثاني : أنها متعدية لاثنين ، فتكونُ الجملة في موضع المفعول الثاني .
و « حَرَساً » نصب على التمييز نحو « امتلأ الإناء ماء » .
والحَرَس : اسم جمع ل « حَارِس » نحو « خَدَم » ل « خَادِم » و « غيب » لغائب ، ويجمع تكسيراً على « أحْراس »؛ كقول امرىء القيس : [ الطويل ]
4896 - تَجَاوَزْتُ أحْرَاساً وأهْوَال مَعْشَرٍ ... حِرَاصٍ عليَّ لو يُسِرُّونَ مَقْتَلِي
والحاس : الحافظُ الرقيبُ ، والمصدر الحراسةُ ، و « شديداً » صفة ل « حَرسَ » على اللفظ؛ كقوله : [ الرجز ]
4897 - أخْشَى رُجَيْلاً أو رُكَيْباً عَادِيَا ... ولو جاء على المعنى لقيل : « شداد » بالجمع ، لأن المعنى : مُلئتْ ملائكة شداد ، كقولك السلف الصالح ، يعني : الصالحين .
قال القرطبيُّ : « ويجوز أن يكون حَرَساً مصدراً على معنى : حرست حراسة شديدة » .
قوله : « وشُهُباً » . جمع « شِهَاب » ك « كِتَابِ وكُتُب » .
وقيل : المراد النجوم ، أو الحرسُ أنفسهم ، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراقة السمع ، وقد تقدم في سورة « الحجر ، والصافات » .
وإنَّما عطف بعض الصفات على بعض عند تغاير اللفظ ، كقوله : [ الطويل ]
4898 - . . ... وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ
وقرأ الأعرجُ : « مُلِيتْ » بياء صريحة دون همزة .
قوله : { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ } ، المقاعد : جمع « مقعد » اسم مكان ، والضمير في « منها » ، أي : من السماء ، والمقاعد مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء ، وذلك أنَّ مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماءِ فيلقوها إلى الكهنة فحرسها الله - تعالى - حين بعث رسوله بالشهب المحرقةِ ، فقالت الجن حينئذ : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } يعني بالشهاب الكواكب المحرقة .
قوله « الآن » . هو ظرفٌ حالي ، واستعير هنا للاستقبال ، كقوله الشاعر : [ الوافر ]
4899 - . ... سأسْعَى الآنَ إذ بَلغَتْ إنَاهَا
فاقترن بحرف التنفيس ، وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله : « فالآن باشروهن » .
و « رصداً » إما مفعول له ، وإما صفة له « شهاباً » أي « ذا رصد » وجعل الزمخشري : « الرصد » اسم جمع ك « حرس » ، فقال : والرصد : اسم جمع للراصد ك « حرس » على معنى : ذوي شهاب راصدين بالرجم وهم الملائكة ويجوز أن يكون صفة ل « شهاب » بمعنى الراصد ، أو كقوله : [ الوافر ]

4900 - . . ومِعَى جَياعَا
فصل في بيان متى كان قذف الشياطين
اختلفوا : هل كانت الشياطينُ تقذف قبل البعث أو كان ذلك أمراً حدث لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فقال قوم : لم تحرس السماء في زمن الفترة فيما بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - خمسمائة عامٍ ، وإنَّما كان من أجل بعثة النبي فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلِّها وحرست بالملائكة والشهب ، قاله الكلبيُّ ، ورواه عطية عن ابن عباس ، ذكره البيهقي .
وقال عبد الله بن عمرو : لما كان اليوم الذي نُبِّىءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم منعتِ الشياطينُ ورموا بالشُّهبِ .
وقال عبد الملك بن سابور : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حُرستِ السماءُ ورميتِ الشياطينُ بالشهب ، ومنعت من الدنو من السماء .
قال نافع بن جبيرٍ : كانت الشياطين في الفترة تستمع فلا ترى ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب ، ونحوه عن أبي بن كعبٍ قال : لم يرم بنجم ، منذ رفع عيسى - عليه الصلاة والسلام - حتى نُبِّىءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُمِيَ بها .
وقيل : كان ذلك قبل البعثِ ، وإنِّما زادت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنذاراً بحاله .
وهو معنى قوله : « قَدْ مُلِئَتْ » ، أي : زيد في حرسها .
وقال أوس بن حجر - وهو جاهلي - : [ الكامل ]
4901 - فانْقَضَّ كالدُّرِّيِّ يَتْبَعُهُ ... نَقعٌ يَثُورُ تَخالهُ طُنُبَا
قال الجاحظُ : « هذا البيت مصنوع ، لأنَّ الرمي لم يكن قبل البعث » .
والقول بالرمي أصح لهذه الآية ، لأنها تخبر عن الجن ، أنَّها أخبرت بالزيادة في الحرس وأنها امتلأت من الحرس ، والشهب .
وقال بشر بن أبي خازم : [ الكامل ]
4902 - والعِيرُ يَرْهَقُها الغُبَارُ وجَحْشُهَا ... يَنقَضُّ خَلفَهُمَا انقِضَاضَ الكَوْكَبِ
وروى الزهريُّ عن علي بن الحسين عن ابن عباس - رضي الله عنهم - قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا كُنتُمْ تقُولونَ في مِثْلِ هذا فِي الجَاهليَةِ »
قالوا : كُنَّا نقُولُ : يَمُوتُ عَظِيمٌ ابنُ عظيمِ ، أو يولد عظيم [ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنها لا ترمى لموتِ أحدٍ ولا لحياته ، ولكنَّ رَبَّنَا - تبارك وتعالى - إذَا قَضَى أمْراً فِي السَّماءِ ، سبَّح حملةُ العَرْشِ ، ثُمَّ سَبَّحَ أهْلُ كُلِّ سماءٍ ، حتَّى يَنتهِي التَّسبيحُ إلى هذه السَّماءِ ، ويَسْتَخْبِر أهْلُ السَّماءِ : ماذا قال ربُّكمْ ، فيُخْبَرُون ، ويُخبر أهْلُ كُلِّ سماءٍ ، حتَّى يَنْتَهِي الخَبَرُ إلى هذه السَّماءِ فتَخْطفُهُ الجنُّ ، فيروونه كما جاءُوا به فهو حقٌّ ولكنَّهم يزيدُون فيه »

وهذا يدلُّ على أن هذه الشهب كانت موجودة قبل البعث ، وهو قول الأكثرين .
قال الجاحظ : فلو قال قائلٌ : كيف تتعرض الجنُّ لإحراق نفسها بسماع خبرٍ بعد أن صار ذلك معلوماً عندهم؟ .
فالجوابُ : أنَّ الله تعالى ينسيهم ذلك ، حتى تعظم المحنة كما ينسى إبليس في كل وقت أنه لا يسلم ، وأن الله - تعالى - قال له : { وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين } [ الحجر : 35 ] ، ولولا هذا لما تحقق التكليف .
قال القرطبيُّ : « والرَّصدُ » ، قيل : من الملائكة ، أي : ورصداً من الملائكة ، وقيل : الرَّصَد هو الشهب ، والرصد : الحافظ للشيء ، والجمع أرصاد ، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعاً كالحرس ، والواحد : راصد .
وقيل : الرَّصَد هو الشهاب ، أي : شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو « فعل » بمعنى « مفعول » ك « الخَبَط والنفض » .
قوله : { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض } ، في { أَشَرٌّ أَرِيدَ } وجهان :
أحسنهما : الرفع بفعل مضمر على الاشتغال ، وإنما كان أحسن لتقدم طالب الفعل وهو أداة الاستفهام .
والثاني : أن الرفع على الابتداءِ .
ولقائل أن يقول : يتعين هذا الرفع بإضمار فعل لمدرك آخر ، وهو أنه قد عطف ب « أمْ » فعل ، فإذا أضمرنا فعلاً رافعاً ، كنا قد عطفنا جملة فعلية على مثلها ، بخلاف رفعه بالابتداء فإنه - حينئذٍ - يخرجُ « أمْ » عن كونها عاطفة إلى كونها منقطعة إلا بتأويلٍ بعيدٍ ، وهو أن الأصل : أشَرٌّ أريد بهم ، أم خيرٌ ، فوضع لقوله : « أمْ أراد بِهمْ » موضع خير .
وقوله : « أشَرٌّ » ساد مسدَّ مفعول « ندري » ، بمعنى أنه معلق به ، وراعى معنى « مَنْ » في قوله : « بِهمْ ربُّهُمْ » فجمع .
فصل في معنى الآية
قال ابن زيد : معنى الآية : أنَّ إبليس قال : لا ندري هل أراد بهذا المنعِ أن ينزل على أهل الأرض عذاباً ، أو يرسل إليهم رسولاً .
وقيل : هو من قول الجنِّ فيما بينهم من قبل أن يسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم أي : لا ندري أشرٌّ أريد بمن في الأرض بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذب من الأمم ، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا ، فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان ، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي .
وقيل : لا ، بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين ، أي : لما آمنوا أشفقوا أن لا يؤمن كثيرٌ من أهل الأرض فقالوا : إنَّا لا ندري ، أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون؟ .

قوله : { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } .
هذا من قول الجنِّ ، أي : قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم : وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون .
قوله : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } ، يحتمل وجهين :
أحدهما : يحتمل أن « دُونَ » بمعنى « غير » ، أي : ومنا غير الصالحين ، أي : كافرون ، وهو مبتدأ ، وإنما فتح لإضافته إلى غير متمكن كقوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] فيمن نصب على أحد الأقوال ، وإلى هذا نحا الأخفش .
والثاني : أن « دُونَ » على بابها من الظرف ، وأنها صفة لمحذوف ، تقديره : ومنا فريق أو فوج دون ذلك ، وحذف الموصوف مع « مِنْ » التبعيضية يكثر ، كقولهم : منَّا ظعنَ ومنَّا أقام ، أي : منا فريقٌ ظعن ، ومنا فريق أقام .
ومعنى الآية : ومنا صالحون دون أولئك في الصلاح .
قوله : { كُنَّا طَرَآئِقَ } ، فيه أوجه :
أحدها : أن التقدير : كنا ذوي طرائق ، أي : ذوي مذاهب مختلفة .
الثاني : أن التقدير : كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائقِ المختلفةِ .
الثالث : أن التقدير : كنا ذوي طرائقَ مختلفةٍ؛ كقوله : [ الكامل ]
4903 - . ... كَمَا عَسَلَ الطَّريقَ الثَّعلَبُ
الرابع : أن التقدير : كانت طريقتنا طرائق قدداً ، على حذف المضاف الذي هو الطرائقُ ، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه ، قاله الزمخشريُّ .
فقد جعل في ثلاثة أوجه مضافاً محذوفاً .
وقال : إنَّه قدر في الأول : « ذَوِي » .
وفي الثاني : مثل .
وفي الثالث : طرائق .
ورد عليه ابو حيَّان قوله : { كُنَّا طَرَآئِقَ } ؛ كقوله : [ الكامل ]
4904 - ... كَمَا عَسَل الطَّريقَ الثَّعلبُ
بأن هذا لا يجوز إلا في ضرورة أو ندور ، فلا يخرج القرآنُ عليه ، يعني تعدى الفعل بنفسه إلى ظرف المكان المختص .
والقددُ : جمع قددة ، والمراد بها الطريقةُ ، وأصلها السيرة ، يقال : قِدَّة فلان حسنة ، أي : سيرته ، وهو من قدَّ السير ، أي : قطعه على استواء ، فاستعير للسيرة المعتدلة .
قال الشاعر : [ البسيط ]
4905 - ألقَابِضُ البَاسِطُ الهَادِي بطَاعتِه ... في فِتْنَةِ النَّاس إذْ أهْواؤهُم قِدَدُ
وقال آخر : [ البسيط ]
4906 - جَمعْتُ بالرَّأي منهُمْ كُلَّ رَافضَة ... إذْ هُمْ طَرائقُ في أهوائِهمْ قِدَدُ
وقال لبيد في أخيه : [ المنسرح ]
4907 - لَمْ تَبْلُغِ العَيْنُ كُلَّ نَهْمتهَا ... لَيْلةَ تُمْسِي الجِيادُ كالقِددِ
والقِدُّ - بالكسر - سير يُقَدّ من جلد غير مدبوغ ، ويقال : ما له قد ولا قحف ، فالقد : إناء من جلد ، والقحف : إناء من خشب .
فصل في معنى الآية
قال سعيد بن المسيِّب : معنى الآية « كنا مسلمين ، ويهود ونصارى ومجوساً » .
وقال السدي : في الجن مثلكم قدرية ، ومرجئة وخوارج ، ورافضة ، وشيعة ، وسنية .
وقال قوم : إنا بعد استماع القرآنِ مختلفون منا المؤمنون ، ومنا الكافرون .
وقيل : أي : ومنا الصالحون ومنا المؤمنون لم يتناهوا في الصلاح .

قال القرطبيُّ رحمه الله : « والأول أحسن ، لأنه كان في الجن من آمن بموسى ، وعيسى ، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا : { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [ الأحقاف : 30 ] ، وهذا يدل على إيمان قوم منهم في دعاء من دعاهم إلى الإيمان ، وأيضاً لا فائدة في قولهم : نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر ، والطرائق : جمع طريقة ، وهي مذهب الرجل ، أي : كنا فرقاً ، ويقال : القوم طرائق أي : على مذاهب شتَّى ، والقددُ : نحو من الطرائق وهو توكيد لها واحده : قدَّة ، يقال : لكل طريقةٍ قِدَّةٌ » .
قوله : { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } .
والظنُّ هنا بمعنى العلم ، واليقين ، وهو خلاف الظن في قوله تعالى : { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً } ، « وأنَّهُم ظنُّوا » ، أي : علماً بالاستدلال والتفكر في آيات الله تعالى ، أنا في قبضته ، وسلطانه لن نفوته بهرب ، ولا غيره .
وقوله : « فِي الأرضِ » ، حال ، وكذلك « هَرباً » مصدر في موضع الحالِ ، تقديره : لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها ، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء .
قوله : { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى } ، يعني القرآن « آمنَّا بِهِ » ، وباللَّه ، وصدقنا محمداً صلى الله عليه وسلم على رسالته ، وكان صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الإنس والجنِّ .
قال الحسن - رضي الله عنه - بعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن ولم يبعث الله قط رسولاً من الجنِّ ولا من أهل البادية ولا من النِّساء ، وذلك قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى } [ يوسف : 109 ] .
وفي الحديث : « بُعثْتُ إلى الأحْمَرِ والأسْودِ » ، أي : الإنس والجن . وقد تقدم هذا الكلام في سورة الأنعام في قوله تعالى : { يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ } [ الآية : 130 ] .
قوله : { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } .
قال ابنُ عباس : لا يخاف أن ينقص من حسناته ، ولا أن يزاد في سيئاته؛ لأن البخس : النقصان ، والرهق : العدوان ، وغشيان المحارمِ ، وقد تقدم في بيت الأعشى .
قوله : « فَلا يَخَافُ » ، أي : فهو لا يخافُ ، أي فهو غير خائف؛ ولأن الكلام في تقدير مبتدأ وخبر فلذلك دخلت الفاءُ ، ولولا ذلك لقيل : لا يخف ، قاله الزمشخريُّ .
ثم قال : « فإن قلت : أي فائدة في رفع الفعل ، وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبراً له ووجوب إدخال الفاء ، وكان كل ذلك مستغنى عنه بأن يقال : لا يخف؟ .
قلتُ : الفائدة أنَّه إذا فعل ذلك فكأنه قيل : » فهُو لا يخَافُ « ، فكان دالاً على تحقيق أن المؤمن ناجٍ لا محالة وأنَّه هو المختص بذلك دُون غيره » .

قال شهاب الدين : « وسببُ ذلك أن الجملة تكون اسمية حينئذٍ ، والاسمية أدلُ على التحقيقِ والثبوتِ من الفعلية » .
وقرأ ابن وثاب والأعمشُ : بالجزم ، وفيها وجهان :
أحدهما : ولم يذكر الزمخشريُّ غيره ، أن « لا » نافية ، والفاء حينئذ واجبة .
والثاني : أنها نافية ، والفاء حينئذٍ زائدةٌ ، وهذا ضعيفٌ .
وقوله « بَخْساً » ، فيه حذف مضاف ، أي : جزاء بخس ، كذا قرره الزمخشريُّ .
وهو مستغنى عنه .
وقرأ ابن وثاب : « بَخَساً » بفتح الخاء .
قال القرطبيُّ : وقرأ الأعمش ويحيى وإبراهيم : « فَلا يَخفْ » جزماً على جواب الشرط ، وإلغاء الفاء أيضاً .
قوله : { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون } . أي : وأنا بعد استماع القرآن مختلفون ، فمنا من أسلم ومنا من كفر ، والقاسط : الجائر لأنه عادل عن الحق ، والمقسط : العادل لأنه عادل إلى الحق ، قسط : إذا جار ، وأقسط : إذا عدل؛ قال : [ الكامل ]
4908 - قَوْمٌ همُ قتلُوا ابنَ هِنْدٍ عَنْوةً ... عَمْراً وهُمْ قَسطُوا على النُّعمَانِ
وقد تقدم في أول « النساء » أن « قَسَطَ » : ثلاثياً بمعنى « جَارَ » ، و « أقسط » الرباعي بمعنى « عَدَل » . وأن الحجاج قال لسعيد بن جبيرٍ : ما تقول فيَّ؟ .
قال : إنَّك قاسط عادل ، فقال الحاضرون : ما أحسن ما قال ، فقال : يا جهلة ، جعلني كافراً جائراً ، وتلا قوله تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } . وقرأ { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] .
قوله : { فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً } .
أي : قصدوا طريق الحقِّ ، وتوخوه ، وطلبوه باجتهاد ، ومنه التحري في الشيء .
قال الراغبُ : « حرى الشيء يحري ، أي : قصد حراه ، أي : جانبه ، وتحراه كذلك ، وحَرَى الشيء يَحْرِي ، نقص ، كأنَّه لزم حراه ، ولم يمتد؛ قال الشاعر : [ الكامل ]
4909 - . . ... والمَرْءُ بَعْدَ تمامهِ يَحْرِي
ويقال : رماه الله بأفعى حارية ، أي : شديدة » انتهى .
وكأن أصله من قولهم : هو حريٌّ بكذا ، أي حقيق به . و « رَشَداً » مفعول به .
والعامة قرأوا : « رشداً » - بفتحتين - والأعرج : بضمة وسكون .
قوله : { وَأَمَّا القاسطون } . أي : الجائرون عن طريق الحق والإيمان { فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أي : وقوداً ، وقوله « فَكانُوا » أي : في علم الله تبارك وتعالى .
فإن قيل : ذكر عقاب القاسطين ولم يذكر ثواب المسلمين .
فالجواب : بل ذكر ثواب المؤمنين بقوله { تَحَرَّوْاْ رَشَداً } أي : تَحرَّوا رشداً عَظِيماً لا يعلم كنهه إلاَّ الله تعالى ، ومثل هذا لا يتحقق إلا بالثَّواب .
فإن قيل : فإنَّ الجنَّ مخلوقون من النَّار ، فكيف يكونون حطباً للنار؟ .
فالجواب : أنّهم وإن خلقوا من النار لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية فيصيرون لحماً ، ودماً هكذا قيل .
وهذا آخر كلام الجن .
قوله { وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة } ، « أنْ » هي المخففة من الثقيلة ، وتقدم أنه يكتفي ب « لو » ، فأصله بين « أن » المخففة ، وخبرها إذا كان جملة فعلية في سورة « سَبَأ » .

وقال أبو البقاء هنا : « ولو » عوض كالسِّين ، وسوف ، وقيل : « لَوْ » بمعنى « إن » و « إن » بمعنى اللام ، وليست بلازمة كقوله { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ } [ مريم : 46 ] ، وقال في موضع آخر : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ } [ المائدة : 37 ] ذكره ابن فضالة في البرهان .
قال شهاب الدين : « وهذا شاذٌّ لا يلتفت إليه ألبتة لأنه خلاف النحويين » .
وقرأ العامة : بكسر « وأن لو » على الأصل .
وابن وثَّاب والأعمشُ : بضمها ، تشبيهاً بواو الضمير . وقد تقدم تحقيقه في البقرة .
فصل في بيان أن الله أوحى إليهم أن الإيمان بسبب البسطة في الرزق
هذا من كلام الله تعالى ، أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق ، وهذا محمولٌ على الوحي ، أي أوحي إليَّ أن لو استقاموا .
قال ابنُ بحر كل ما كان في هذه السروة من « أنَّ » المثقلة فهي حكايةٌ لقول الجن الذين سمعوا القرآن ، فرجعوا إلى قومهم منذرين ، وكل ما فيها من « أن » المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن الأنباريِّ : ومن كسر الحروف ، وفتح { وأنْ لو اسْتقَامُوا } أضمر يميناً تأويلها : والله أن لو استقاموا على الطريقة ، كما يقال في الكلام : والله إن قمت لقمت ، والله لو قمت قمت .
قال الشاعر : [ الوافر ]
4910 - أمَا - واللَّهِ - أن لَوْ كُنْتَ حُرّاً ... ومَا بالحُرِّ أنْتَ ولا العَتِيقِ
ومن فتح ما قبل المخففة نسقها على تقدير : { أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ } ، { وَأَلَّوِ استقاموا } أو « على آمنا به » ويستغنى عن إضمار اليمين .
والضمير في قوله { وَأَلَّوِ استقاموا } ، قيل : يرجع إلى الجنِّ الذين تقدم ذكرهم ووصفهم أي : هؤلاء القاسطون لو أسلموا لفعلنا بهم كذا وكذا .
وقيل : بل المراد الإنس لأن الترغيب في الانتفاع بالماءِ الغدقِ ، إنما يليق بالإنس ، لا بالجن وأيضاً أن هذه الآية إنَّما نزلت بعد ما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين ، أقصى ما في الباب أنَّهُ لم يتقدم ذكر الإنس ، ولكنه لما كان ذلك معلوماً جرى مَجْرى قوله : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] .
وقال القاضي : الأقرب أن الكل يدخلون فيه .
قال ابن الخطيب : « ويدل على صحة قول القاضي ، أنه تعالى أثبت حكماً معللاً بعلة ، وهي الاستقامةُ فوجب أن يعم الحكم لعموم العلة » .
والغدق - بفتح الدال وكسرها - : لغتان في الماء الغزير ، ومنه الغداق : للماء الكثيرِ وللرجل الكثير الغدق ، والكثير النطق .
ويقال : غدقت عينه تغدق أي : هطل دمعها غدقاً .
وقرأ العامة : « غَدَقاً » بفتحتين .
وعاصم فيما يروي عنه الأعشى ، بفتح الغين وكسر الدال ، وقد تقدم أنهما لغتان .

قوله : { وَأَلَّوِ استقاموا } .
قال ابن الخطيب : إن قلنا : إن الضمير راجعٌ إلى الجنِّ ففيه قولان :
أحدهما : أن المعنى لو ثبت أبوهم على عبادته وسجد لآدم ، ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } [ الأعراف : 96 ] الآية ، { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } [ المائدة : 66 ] الآية ، وقوله : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } [ الطلاق : 2 ] . وقوله : { فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ } [ نوح : 10 - 11 ] ، إلى قوله : { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } [ نوح : 12 ] الآية .
وإنَّما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافعِ وهذا هو اللائق بالجنِّ لا الماء المشروب .
الثاني : أن المعنى لو استقام الجنُّ أي الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها ، ولم ينتقلوا عن الإسلام لوسعنا عليهم الدنيا كقوله : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ } [ الزخرف : 33 ] الآية .
والقول الأول : اختيار الزجاج ، قال : لأنَّه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فيرجع إلى الطريقة المعروفة ، وهي طريقة الهدى .
ومعنى : { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي : لنختبرهم هل يقومون بشكرها أم لا ، وإن قلنا : إنَّ الضمير يعود على الإنس فالاحتمالان كما هما .
قوله : { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } ، دليلٌ على أنه تبارك وتعالى يضل عباده . وأجاب المعتزلة ، بأنَّ الفتنة هي الاختبار ، كما يقال : فتنت الذهب بالنار لا خلق الضلالة .
واستدلت المعتزلة بقوله تعالى { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } على أنه تعالى إنما يفعل لغرض .
وأجيبوا : بأن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلَّت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق الله تبارك وتعالى .
فصل في التحذير من الدنيا
روى مسلمُ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » أخْوفُ ما أخَافُ عليْكمْ ما يُخْرجُ اللَّهُ لكم مِنْ زهرةِ الدُّنيَا « قالوا : ومَا زَهْرةُ الدُّنيَا؟ .
قال : » بَركَاتُ الأرْضِ « . وذكر الحديث »
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « فواللَّهِ مَا الفَقْرَ أخْشَى عليْكُم ، وإنَّما أخْشَى علَيكُمْ أنْ يبسِطَ اللَّهُ عَليكُم الدُّنْيَا فتَنَافَسُوا فيها كما تَنَافَسَ فِيهَا مَنْ كَانَ قَبلكُمْ ، فيُهلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَهُمْ »
قوله : { وَمَن يُعِرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ } ، أي : عن عبادته ، أو عن موعظته ، أو عن وحيه .
وقال ابن زيدٍ : يعني القرآن ، وفي إعراضه وجهان :
الأول : عن القبول إن قيل إنها في الكفار والثاني عن العمل ، إن قيل إنَّها في أهل الإيمان .
وقيل : { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ } ، أي : لم يشكره .
قوله : { يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } .
قرأ الكوفيون : « يَسْلكْهُ » - بياء الغيبة - لإعادة الضمير على الله تعالى ، وباقي السبعة : بنون العظمة على الالتفات .
وهذا كما تقدم في قوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً }

[ الإسراء : 1 ] ، ثم قال : { بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } [ الإسراء : 1 ] .
وقرأ مسلم بن جندب : « نسلكه » بنون العظمة مضمومة من « أسلكه » . وبعضهم : بالياء من تحت مضمومة ، وهما لغتان ، يقال : سلكه وأسلكه .
وأنشد : [ البسيط ]
4911 - حَتَّى إذَا أسْلكُوهُم فِي قَتائِدَةٍ ... و « سلك ، وأسلك » يجوز أن يكونا فيهما ضُمِّنا معنى الإدخال ، فلذلك يتعديان لاثنين ويجوز أن يقال : يتعديان إلى أحد المفعولين ، بإسقاط الخافض ، كقوله تعالى : { واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ } [ الأعراف : 155 ] .
فالمعنى : ندخله عذاباً ، أو نسلكه في عذابٍ ، هذا إذا قلنا : إن « صَعَداً » مصدر .
قال الزمخشريُّ : يقال : صَعَداً وصُعُوداً ، فوصف به العذاب لأنه يتصعد للمعذب ، أي : يعلوه ، ويغلبه ، فلا يطيقه ، ومنه قول عمر - رضي الله عنه - : ما تصعد شيء ما تصعدتني خطبةُ النِّكاح يقول : ما شقَّ عليَّ ، ولا غلبني .
وأما إذا جعلناه اسماً لصخرة في جهنم ، كما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره ، فيجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون « صعداً » مفعولاً به أي « يسلكه » في هذا الموضع ويكون « عذاباً » مفعولاً من أجله .
الثاني : أن يكون « عذاباً » مفعولاً ثانياً كما تقدم ، و « صعداً » بدلاً من عذاباً ، ولكن على حذف مضاف أي : عذاب صعد ، وقرأ العامة بفتحتين ، وقرأ ابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين ، وهو صفة تقتضي المبالغة كحُطَم ولُبَد ، وقرىء بضمتينِ وهو وصف أيضاً ك « جُنُب » و « شُلُل » .
فصل
ومعنى عذاباً صعداً : أي شاقاً شديداً .
[ وقيل عن ابن عباس : ] هو جبل في جهنم ، قال الخدريُّ : كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت .
وعن ابن عباس : إن المعنى مشقّة من العذاب ، لأن الصعد في اللغة هو المشقة ، تقول : تصعدني الأمر إذا شقَّ عليك ، ومنه قول عمر المتقدم ، والمشي في الصعود يشق ، وصعود العقبة الكئودِ .
وقال عكرمةُ : هي صخرة في جهنم ملساء يكلف صعودها ، فإذا انتهى إلى أعلاها حُدِر إلى جهنم .
وقال : يكُلَّفُ الوليدُ بن المغيرة أن يصعد جبلاً في النار من صخرةٍ ملساءَ يجذب من أمامه بسلاسل ، ويضرب من خلفه بمقامع ، حتَّى يبلغ أعلاها ولا يبلغ في أربعين سنة فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ، ثم يكلف صعودها ، فذلك دأبه أبداً ، وهو قوله : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } [ المدثر : 17 ] .
قوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } . قد تقدم أن السبعة أجمعت على الفتح ، بتقدير : وأوحي إليَّ أن المساجد للَّهِ .
وقال الخليل : أي ولأن المساجد ، فحذف الجارُّ ، ويتعلق بقوله « فلا تدعُوا » .
وجعلوه كقوله تعالى : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [ قريش : 1 ] فإنه متعلق بقوله { فَلْيَعْبُدُواْ } كقوله : { إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ } [ الأنبياء : 92 ] .
وقرأ طلحة وابن هرمز : « وإنَّ المسَاجِدَ » - بالكسر . . ، وهو يحتمل الاستئناف والتعليل ، فيكون في المعنى كتقدير الخليل
فصل في المراد ب « المساجد »
المساجدُ : قيل هي جمع « مسجد » - بالكسر - وهو موضع السجود ، وقد تقدم أن قياسه الفتح .

وقيل : هو « مسجد » - بالفتح - مراداً بها الأعضاء الواردة في الحديثِ : « الجبهة والأنف والركبتان واليدان والقدمان » ، وهو قول سعيد بن المسيب .
والمعنى : إن هذه الأعضاء أنعم الله بها عليكم فلا تسجد لغيره فتجحد نعمة الله ، وقال عطاء : مساجدك أعضاؤك التي أمرت بالسجود عليها لا تذللها لغير خالقها .
قال - عليه الصلاة والسلام - « أمرت أن أسجد على سبعة أعظم » وذكر الحديث ، وقال عليه الصلاة والسلام : « إذَا سَجَدَ العَبْدُ سَجَدَ مَعهُ سَبعةُ أعْضَاءٍ » وقيل : بل جمع مسجد ، وهو مصدر بمعنى السجودِ ، ويكون الجمع لاختلاف الأنواع .
وقال القرطبي : « المراد بها البيوت التي تبنيها أهل المللِ للعبادة » .
قال سعيد بن جبير رضي الله عنه : قالت الجن : كيف لنا ان نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } ، أي : بنيت لذكر الله ولطاعته .
وقال ابن عبَّاسٍ : المساجد هنا مكة التي هي القبلة ، وسميت مكة مساجد ، لأن كلَّ أحد يسجد إليها .
قال القرطبيُّ : « والقول بأنها البيوت المبنية للعبادة ، وهذا أظهر الأقوال ، وهو مروي عن ابن عباس » .
قال ابن الخطيب : « قال الواحديُّ : وواحد المساجد - على الأقوال كلِّها - » مسجد « - بفتح الجيم - إلا على قول من يقول : إنها المواضع التي بنيت للصلاةِ؛ فإنَّ واحدها » مسجد « - بكسر الجيم - لأن المواضع ، والمصادر كلَّها من هذا الباب - بفتح العين - إلا في أحرف معدودة وهي : المسجد ، والمطلِع ، والمنسِك ، والمسكِن ، والمنبِت ، والمفرِق ، والمسقِط ، والمجزِر ، والمحشِر ، والمشرِق ، والمغرِب وقد جاء في بعضها الفتح ، وهي : المنسك والمطلع والمسكن والمفرق ، وهو جائز في كلِّها وإن لم يسمع » .
قوله : « للَّهِ » . إضافة تشريف وتكريم ، ثم خص بالذِّكر منها البيت العتيق ، فقال تعالى : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ } [ الحج : 26 ] وقال - عليه الصلاة والسلام - : « لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلاَّ إلى ثلاثةِ مساجدَ »
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « صَلاةٌ فِي مَسْجدِي هذا خَيْرٌ مِنْ ألْفِ صلاةٍ فيما سواهُ إلاَّ المَسجد الحَرامَ »
وقد روي من طريق آخر لا بأس بها « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » صَلاةٌ في مَسْجدِي هذا خَيْرٌ من ألفِ صلاةٍ فِيمَا سِواهُ إلاَّ فِي المسْجِد الحَرامِ ، فإنَّ صلاةٌ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ مائةِ ألفِ صلاةٍ في مَسْجديْ هَذَا «
قال القرطبي : » وهذا حديث صحيح « .
فصل في نسبة المساجد إلى غير الله
فإن قيل : المساجد وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً فإنَّها قد تنسب إلى غيره تعالى تعريفاً كما قيل في الحديث :

« سابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق » .
ويقال : مسجد فلان ، لأنه حبسه ، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجدِ والقناطرِ والمقابرِ ، وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك .
فصل في معنى الآية
معنى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } لا يذكرُ فيها إلا اللَّهُ تعالى فإنَّه يجوز قسمةُ الأموالِ فيها ، ويجوز وضعُ الصدقات فيها ، على رسم الاشتراك بين المساكين ، والأكل فيها ، ويجوز حبسُ الغريمِ فيها والنوم ، وسكن المريضِ فيه ، وفتح الباب للجار إليها وإنشاد الشعر فيه إذا عري عن الباطل .
قوله : { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } . وهذا توبيخٌ للمشركين ، في دعواهم مع الله غيره في المسجد الحرام .
وقال مجاهد : كانت اليهودُ ، والنصارى إذا دخلوا كنائسهم ، وبيعهم أشركوا بالله تعالى ، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة الحق إذا دخلوا المساجد كلها ، فلا تشركوا فيها صنماً وغيره مما يعبد .
وقيل : المعنى أفردوا المساجدَ لذكر الله ، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيباً ، وفي الحديث : « مَنْ نَشدَ ضالَّةً في المسجد فقولوا : لا ردَّها اللَّه عليكَ ، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا »
وقال الحسن : من السنة إذا دخل رجل المسجد أن يقول : لا إله إلا الله ، لأن قوله تعالى { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } في ضمنه أمر بذكر الله ودعائه .
وروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنه - « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قدَّم رجله اليمنى وقال : » وأنَّ المسَاجِدَ لِلَّهِ فلا تَدْعُوا مع اللَّهِ أحداً ، اللَّهُمَّ إني عبدُكَ وزائِرُكَ وعلى كُلِّ مزُورٍ حقٌّ لزائره ، وأنْتَ خَيْرُ مزُورٍ ، فأسْألُكَ بِرحْمتكَ أنْ تَفُكَّ رقَبَتِي من النَّارِ « فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال : » اللَّهُمْ صُبَّ عليَّ الخَيْرَ صباً ولا تَنزِعْ عنِّي صالحَ ما أعْطَيْتنِي أبداً ، ولا تَجْعَلْ معِيْشتِي كدّاً ، واجعل لِي في الأرضِ جداً « » .
قوله : { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } .
يجوز الفتحُ ، أي : أوحى الله إليه أنه ، ويجوز الكسر على الاستئناف ، و « عَبْدُ اللَّهِ » هو محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن حسب ما تقدم أول اسورة . « يَدعُوهُ » ، أي : يعبده .
وقال ابن جريج : « يَدْعوهُ » ، أي : قام إليهم داعياً إلى الله تعالى ، فهو في موضع الحالِ ، أي : يوحد الله .
{ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } .
قال الزُّبيرُ بن العوام : هم الجنُّ حين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم أي : كاد يركب بعضهم بعضاً ازدحاماً عليه ويسقطون حرصاً على سماع القرآنِ العظيم .
وقيل : كادوا يركبونه حرصاً ، قاله الضحاكُ .

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : رغبة في سماع القرآن .
يروى عن مكحول : أن الجنَّ بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة ، وكانوا سبعين ألفاً ، وفرغوا من بيعته عند الفجر .
وعن ابن عباس أيضاً : أن هذا من قول الجنِّ لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود .
وقيل : كاد الجنُّ يركب بعضهم بعضاً حرصاً على النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال الحسن وقتادة وابن زيد : « لمَّا قَامَ عبدُ اللَّهِ » محمد بالدعوة تلبدت الإنس ، والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى اللَّهُ تعالى إلاَّ أن ينصره ويتم نوره ، واختار الطبريُّ أن يكون المعنى كادت العربُ يجتمعون على النبي صلى الله عليه وسلم ويتظاهرون على إطفاء النورِ الذي جاء به .
قال مجاهد : اللِّبَد : الجماعات .
قوله « لِبَداً » : قرأ هشام : بضم اللام ، والباقون : بكسرها .
فالأولى : جمع « لُبْدَة » - بضم اللام - نحو « غُرفَة وغُرَف » .
وقيل : بل هو اسم مفرد صفة من الصفات نحو « حطم » وعليه قوله تعالى { مَالاً لُّبَداً } [ البلد : 6 ] .
وأما الثانية : فجمع « لِبْدة » - بالكسر - نحو « قربة وقِرَب » .
واللبدة : الشيء المتلبد ، أي : المتراكب بعضه على بعض ، ومنه قولهم « لبدة الأسد » . كقول زهير : [ الطويل ]
4912 - لَدَى أسَدٍ شَاكٍ السِّلاحِ مُقذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أظفَارُهُ لم تُقلَّمِ
ومنه : اللبد؛ لتلبُّد بعضه فوق بعض ، ولبد : اسم نسر لقمان بن عاد ، عاش مائتي سنةٍ ، حتى قالوا : أطال اللَّهُ الأمد على لبد .
والمعنى : كادت الجنُّ يكونون عليه جماعات متراكمة متزاحمين عليه كاللبد .
وقرأ الحسن والجحدريُّ : « لُبُداً » - بضمتين - ورواها جماعة عن أبي عمرو .
وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أنه جمع « لَبْد » نحو « رَهْن » جمع « رُهُن » .
والثاني : أنه جمع « لَبُود » نحو « صَبُور ، وصُبُر » وهو بناء مبالغة أيضاً .
وقرأ ابن محيصن : بضمة وسكون ، فيجوز أن تكون هذه مخففة من القراءة التي قبلها ويجوز أن يكون وصفاً برأسه .
وقرأ الحسن والجحدريُّ أيضاً : « لُبَّداً » - بضم اللام وتشديد الباء ، وهي غريبة جداً .
وقيل : وهو جمع « لابد » ك « ساجد وسُجَّد ، وراكع ورُكَّع » .
وقرأ أبو رجاء : بكسر اللام ، وكسر الباء ، وهي غريبة أيضاً .
وقيل : اللُّبَد - بضم اللام وفتح الباء - : الشيء الدائم ، واللبد أيضاً : الذي لا يسافر ولا يبرح؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
4913 - من امْرِىءٍ ذِي سماحٍ لا تزَالُ لَهُ ... بَزْلاءُ يَعْيَا بِهَا الجثَّامةُ اللُّبَدُ
ويروى : اللَّبد ، قال أبو عبيد : وهو أشبه ، ويقال : ألبدت القربة جعلتها في لبيد .
ولبيد : اسم شاعر من بني عامر .

قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)

قوله : { إِنَّمَآ أَدْعُواْ } ، قرأ عاصم وحمزةُ : بلفظ الأمر التفاتاً ، أي : قل يا محمد ، والباقون : « قال » إخباراً عن « عبد الله » وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
قال الجحدريُّ : وهي في المصحف كذلك . وقد تقدم لذلك نظائر في « قل سبحان ربي » آخر « الإسراء » ، وكذا في أول « الأنبياء » وآخرها ، وآخر « المؤمنون » .
قال المفسرون : سبب نزولِ هذه الآية أنَّ كفار قريش قالوا له : إنَّك جئت بأمر عظيم ، وقد عاديت الناس كلهم ، فارجع عن هذا ونحن نجيرك ، فنزلت .
قوله : { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَدًا } .
قرأ الأعرج : « رُشُداً » - بضمتين - . وجعل الضر عبارة عن الغي؛ لأن الضرر سبب عن الغي وثمرته ، فأقام المسبب مقام السبب ، والأصل : لا أملك غياً ، ولا رشداً ، فذكر الأهم .
وقيل : بل في الكلام حذف ، والأصل : لا أملكُ لَكُمْ ضراً ولا نَفْعاً ولا غيّاً ولا رشداً فحذف من كل واحدٍ ما يدل مقابله عليه .
فصل في معنى الآية
المعنى لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً ولا أسوق لكم خيراً .
وقيل : { لا أملك لكم ضرّاً } ، أي : كفراً « ولا رَشداً » أي : هُدَى ، أي : إنما عليَّ التبليغ .
وقيل : الضَّرُّ : العذاب ، والرشدُ : النعيم ، وهو الأول بعينه .
وقيل : الضرُّ : الموت ، والرشد الحياة .
قوله : { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ } ، أي : لن يدفع عني عذابه أحدٌ إن استحفظته وذلك أنهم قالوا : اترك ما تدعو إليه ، ونحن نجيرُك .
وروى أبو الجوزاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : انطلقتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجُون فخطَّ علينا خطّاً ، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه فقال سيد يقال له وِرْدان : أنا أزجلهم عنك ، فقال : { إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ } ، ذكره الماورديُّ رحمة الله عليه ، قال : ويحتمل معنيين :
أحدهما : لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد .
الثاني : لن يجيرني مما قدره الله تعالى علي أحدٌ ، { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } أي : ملجأ الجأ إليه ، قاله قتادة ، وعنه نصيراً ومولى .
وقال السدي : حِرْزاً ، وقال الكلبيُّ : مدخلاً في الأرض مثل السِّرب ، وقيل : مذهباً ولا مسلكاً ، حكاه ابن شجرة؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
4914 - يَا لَهْفَ نَفْسِي ولَهْفِي غَيْرُ مُجْزيَةٍ ... عَنِّي ومَا مِنْ قضَاءِ اللَّهِ مُلتَحَدُ
و « مُلتَحَداً » مفعول « أحد » لأنها بمعنى « أصيب »
قوله { إِلاَّ بَلاَغاً } ، فيه وجوه :
أحدها : أنه استثناء منقطع ، أي : لكن إن بلغت عن الله رحمتي ، لأن البلاغ من الله - تبارك وتعالى - لا يكونُ داخلاً تحت قوله : { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } .

لأنه لا يكون من دون الله - عز وجل - وبعنايته وتوفيقه .
والثاني : أنَّه متصل ، وتأويله ، أن الإجارة مستعارة للبلاغ ، أو هو سببها أو بسبب رحمته تعالى ، والمعنى لن أجِدَ شيئاً أميل إليه وأعتصمُ به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني ، وإذا كان متصلاً جاز نصبه من وجهين :
أحدهما : أن يكون بدلاً من « مُلتحَداً » لأن الكلام غير موجب ، وهذا اختيار الزَّجاجِ .
والثاني : أنه منصوب على الاستثناء .
الثالث : أنه مستثنى منقطع من قوله { لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراً } .
قال قتادة : أي : لا أملك إلا بلاغاً إليكم ، وقرره الزمخشري ، فقال : أي : لا أملك لكم إلا بلاغاً من الله ، وقيل : { إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله } جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاسطاعة وعلى هذا فالاستثناء منقطع .
الرابع : أنَّ الكلام ليس استثناء ، بل شرطاً ، والأصل : « إن لا » ف « إنْ » شرطية وفعلها محذوفٌ ، لدلالة مصدره ، والكلام الأول عليه ، و « لا » نافية ، والتقدير : « إن لا أبلغ بلاغاً من الله فلن يجيرني من الله أحدٌ » .
وجعلوا هذا كقول الآخر : [ الوافر ]
4915 - فَطلِّقْهَا فلسْتَ لهَا بِكُفءٍ ... وإلاَّ يَعْلُ مفْرِقَكَ الحُسامُ
أي : وإن لا تطلقها يعلُ ، فحذف الشرط ونفى الجواب ، وفي هذا الوجه ضعف من وجهين :
أحدهما : أن حذف الشرط دون أدلته قليل جداً .
والثاني : أنَّه حذف الجزءان هنا ، أعني الشرط والجزاء .
فيكون كقول الشاعر : [ الرجز ]
4916 - قَالتْ بنَاتُ العَمِّ : يا سَلْمَى وإنْ ... كَانَ فَقيراً مُعدماً ، قالتْ : وإنْ
أي قالت : وإن كان فقيراً معدماً فقد رضيته .
وقد يقال : إن الجواب مذكور عند من يرى جواز تقديمه ، وإما في قوة المنطوق به لدلالة ما قبله عليه .
وقال الحسنُ : { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ } . فإن فيه النجاة والأمان .
قوله { مِّنَ الله } . فيه وجهان :
أحدهما : أن « مِنْ » بمعنى « عَنْ » لأن « بلغ » يتعدى بها ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - : « ألاَ بلَّغُوا عنِّي » .
والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة ل « بلاغ » .
قال الزمخشري : « مِنْ » ليست للتبليغ وإنما هي بمنزلة « مِنْ » في قوله تعالى { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 1 ] ، بمعنى : « بلاغاً كائناً من اللَّهِ » .
قوله { وَرِسَالاَتِهِ } . فيه وجهان :
أحدهما : أنها منصوبة نسقاً على « بلاغاً » ، كأنه قيل : لا أملك لكم إلا التبليغ ، والرسالات ولم يقل الزمخشري غيره .
والثاني : أنها مجرورة نسقاً على الجلالة ، أي : إلا بلاغاً عن الله وعن رسالاته ، قدره أبو حيَّان وجعله هو الظاهر ، ويجوز في جعله « مِنْ » بمعنى « عَنْ » ، والتجوز في الحروف رأي الكوفيين ومع ذلك فغير متعارف عندهم .
قوله : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } ، في التوحيد ، والعبادة { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } ، العامة : على كسر « إن » جعلوها جملة مستأنفة بعد فاء الجزاء .

قال الواحديُّ : « إن » مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء .
ولذلك حمل سيبويه قوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] ، { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } [ البقرة : 126 ] { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } على أن المبتدأ فيها مضمر تقديره : فجزاؤه أنَّ له نار جهنَّم ، أو فحكمه أنَّ له نار جهنَّم .
قال ابن خالويه : « سمعت ابن مجاهد يقول : لم يقرأ به أحدٌ ، وهو لحنٌ ، لأنه بعد فاء الشرط ، قال : سمعتُ ابن الأنباري يقول : هو صواب ، ومعناه : فجزاؤه أنَّ لهُ نار جهنَّم » .
قال شهاب الدين : ابن مجاهد ، وإن كان إماماً في القراءات إلا أنه خفي عليه وجهها ، وهو عجيبٌ جداً كيف غفل عن قراءتي { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 54 ] في « الأنعام » ، لا جرم أن ابن الأنباري استصوب القراءة لطول باعه في العربية .
قول « خالدينَ » . حالٌ من الهاء في « له » ، والعامل الاستقرار الذي تعلق به هذا الجار وحمل على معنى « مِنْ » فلذلك جمع؛ لأن المعنى لكل من فعل ذلك فوحد أولاً اللفظ ، ثم جمع المعنى .
فصل في رد كلام المعتزلة
استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية الكريمة على أن فُسَّاق أهل الصراة يخلدون في النار؛ لأن هذا العموم أقوى في الدلالة على المطلوب من سائرِ العمومات ، وأيضاً : فقوله « أبداً » ينفي قول المخالف بأن المراد بالخلود المكثُ الطويلُ .
والجوابُ : أنَّ السياقَ في التبليغ عن الله ، والرسالة ، ثم قال تعالى : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } وإذا كان هنا محتملاً سقط الاستدلال ، أو نقول : هذه الصورة لا بد وأن تندرج في العموم ، وترك التبليغ عن الله تعالى أعظم ، فلا يجوز أن تساويه الذنوب التي ليست مثله في العقوبة ، فلا يتعدى هذا الحكمُ إلى غيره من الذنوب ، أو نقول : إن الله تعالى لم يقيد في سائر عمومات الوعيد في القرآن بالتأبيد إلا في هذه الآيةِ الكريمة فلا بد وأن يكون لهذا التخصيص فائدة ، ومعنى ، وليس المعنى إلا أن يكون هذا الذنب أعظم الذُّنُوبِ ، وإذا كان السبب في هذا التخصيصِ هذا المعنى ، علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب ، فلا يتعدى إلى غيره من الذنوب فدلت هذه الآيةُ على أن حال سائر المذنبين مخالف لذلك ، أو نقول : { وَمَن يَعْصِ الله } إلا في الكفر وإلا في الزنا وإلا في شرب الخمر ، فإن مذهب القائلين بالوعيد أنَّ الاستثناءَ إخراج ما لولاه كان داخلاً تحت اللفظ ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله تعالى { وَمَن يَعْصِ الله } متناولاً لكل من أتى بكل المعاصي .

فإن قيل : يستحيلُ العموم هنا لأن من جملة المعاصي التجسيم والتعطيل ، والقائل بالتجسيم يمتنع أن يكون مع ذلك قائلاً بالتعطيل .
قلنا : يخص هذا بدليل الفعل فيحمل على جميع ما لا يستحيل اجتماعه .
فصل في أن الأمر للوجوب
دلت هذه الآية على أن الأمر مقيد بالوجوب لأن تارك المأمورية عاص لقوله { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } [ طه : 93 ] ، { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ } [ التحريم : 6 ] ، { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } [ الكهف : 69 ] .
والعاصي مستحق للعقاب لقوله تعالى { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } .
قوله : { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بم تعلق حتى ، وجعل ما بعده غاية له؟ .
قلت : بقوله : { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } [ الجن : 19 ] على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ، ويستضعفون أنصاره ، ويستقلون عددهم { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } من بوم بدر ، وإظهار الله عليهم ، أو من يوم القيامة { فَسَيَعْلَمُونَ } حينئذٍ { مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً } .
قال : ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار ، واستقلالهم لعددهم ، كأنه قال لا يزالون على ما هم عليه ، حتى إذا رأوا ما يوعدون ، قال المشركون : متى هذا الوعد؟ إنكاراً له .
فقال : « قُلْ » : إنه كائن لا ريب فيه .
قال أبو حيان : قوله : بم تعلق ، إن عنى تعلق حرف الجر فليس بصحيح لأنها حرف ابتداءٍ ، فما بعدها ليس في موضع جر خلافاً للزجاج ، وابن درستويه ، فإنهما زعما أنها إذا كان حرف ابتداءٍ فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر ، وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها وكون ما بعدها غاية لما قبلها ، فهو صحيح ، وأما تقديره : أنها تتعلق بقوله : { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } فهو بعيد جداً لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة وقدر بعضهم ذلك المحذوف ، فقال : تقديره : دعهم حتَّى إذا رأوا .
وقال التبريزي : جاز أن يكون غاية لمحذوف ، ولم يبيِّن ما هو .
وقال أبو حيان : « والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم لكينونة النار لهم كأنه قيل : إن العاصي يحكم له بكينونة النار ، والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فيسعلمون » .
قوله : { مَنْ أَضْعَفُ } . يجوز في « مَنْ » أن تكون استفهامية فترفع بالابتداء ، و « أضْعَفُ » خبره ، والجملة في موضع نصب سادَّةٌ مسدَّ المفعولين لأنها معلقة للعلم قبلها .
وأن تكون موصولة ، و « أضعف » خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو أضعف ، والجملة صلة وعائدٌ وحسن الحذف طول الصلة بالتمييز ، والموصول مفعول للعلم بمعنى العِرفَان .
قال القرطبي : « حتى » هنا مبتدأ ، أي « حتى أذا رأوا ما يوعدون » من عذاب الآخرة أو ما يوعدون من عذاب الدنيا ، وهو القتل يوم بدر { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً } . و « مَنْ » يظهر أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم ، بكينونة النار لهم ، كأنه قيل : إن العاصي أهم أم المؤمنون؟ و « أقَلُّ عَداداً » معطوف .

قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)

قوله : { قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } ، يعني : قيام الساعة لا يعلمه إلاَّ اللَّهُ فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعلمنيه الله تعالى جلت قدرتهُ .
قوله : { أَقَرِيبٌ } ، خبرٌ مقدمٌ ، و { مَّا تُوعَدُونَ } مبتدأ مؤخر ، ويجوز أن يكون « قَرِيبٌ » مبتدأ لاعتماده على الاستفهام و « مَا تُوعَدُون » فاعل به ، أي : أقريب الذي توعدون ، نحو « أقَائِمٌ أبواك » ، و « مَا » يجوز أن تكون موصولة فالعائد محذوف ، وأن تكون مصدرية فلا عائد ، و « أمْ » الظاهر أنها متصلة .
وقال الزمخشريُّ : « فإن قلت : ما معنى قوله : { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً } ، والأمد يكون قريباً وبعيداً ، ألا ترى إلى قوله تعالى { تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [ آل عمران : 30 ] ، قلت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقرب الموعد ، فكأنه قال : ما أدري أهو حالٌّ متوقع في كُلِّ ساعة ، أم مؤجل ضربت له غاية؟ » .
وقرأ العامة : بإسكان الياء من « ربِّي » .
وقرأ الحرميان وأبو عمرو : بالفتح .
فصل في تعلق الآية بما قبلها
قال مقاتل : لما سمعوا قوله تعالى : { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } . قال النضر بن الحارث : متى يكون هذا الذي توعدنا به؟ .
فقال الله تعالى : { قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } إلى آخره ، والمعنى أنَّ وقوعه متيقن ، وأما وقت وقوعه فغير معلوم .
وقوله تعالى : { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً } ، أي : غاية وبعداً ، وهذا كقوله تعالى : { إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } .
فإن قيل : أليس « أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : » بُعثْتُ أنَا والسَّاعَةُ كهَاتيْنِ « ، فكان عالماً بقُربِ وقُوعِ القيامةِ ، فكيف قال - هاهنا - : لا أردي أقريب أم بعيد؟ .
فالجواب : أن المراد بقرب وقوعه ، هو أن ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى فهذا القدر من القرب معلوم ، فأما معرفة القرب المرتب وعدم ذلك فغير معلوم .
قوله : { عَالِمُ الغيب } ، العامة : على رفعه ، إما بدلاً من » ربِّي « وإما بياناً له وإما خبراً لمبتدأ مضمر ، أي هو عالم .
وقرىء : بالنصب على المدح .
وقرأ السديُّ : علم الغيب ، فعلاً ماضياً ناصباً للغيب .
قوله : » فلا يُظهرُ « . العامة : على كونه من » أظْهَر « ، و » أحَداً « مفعول به .
وقرأ الحسنُ : » يَظْهرُ « بفتح الياء والهاء من » ظهر « ثلاثياً ، و » أحد « فاعل به .
فصل في تفسير الغيب
الغيب ما غاب عن العباد .
وقد تقدم الكلام عليه أول البقرة .
قوله : { إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } . يجوز أن يكون استثناء منقطعاً ، أي لكن من ارتضاه فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه بالوحي و » مِنْ « في قوله : » مِنْ رسُولٍ « لبيان المرتضين وقوله : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } بيان لذلك .

وقيل : هو متصل ، و « رَصَداً » تقدم الكلام عليه .
ويجوز أن تكون « مِنْ » ، شرطية ، أو موصولة مضمنة معنى الشرط ، وقوله « فإنَّهُ » خبر المبتدأ على القولين؛ وهو من الاستثناء المنقطع أيضاً ، أي : لكن ، والمعنى : لكن من ارتضاه من الرسل ، فإنَّه يجعل له ملائكة رصداً يحفظونه .
فصل في الكرامات
قال الزمخشريُّ : « في إهذه الآية إبطال الكرامات؛ لأن الذين تضاف إليهم الكرامات ، وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل ، وقد خصَّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيها أيضاً إبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء ، وأدخل في السخط » .
قال الواحديُّ : وفيها دليل على أن من ادعى أنَّ النجوم تدل على ما يكون من حياة ، أو موت ، أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن .
قال ابن الخطيب : واعلم أن الواحديَّ يجوز الكرامات ، وأن يلهم الله أولياءه وقوع بعد الوقائع في المستقبل ونسبة الآية في الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم ، فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات على ما قاله الزمخشريُّ ، فإن جوَّز الكرامات لزمه تجويز علم النجوم وتفريقه بينهما تحكم محض .
قال ابن الخطيب : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه ، إذ لا صيغة عموم في عينه لأنه لفظ مفرد مضاف فيحمل على غيب واحد ، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله { أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } الآية .
فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذ؟ .
قلنا : لعله إذا قربت القيامةُ يظهر ، وكيف لا ، وقد قال : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] فتعلم الملائكة حنيئذ قيام القيامة ، أو هو استثناء منقطع أي : من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ، ومن خلفه حفظة يحفظونه بأمر الله من شر مردة الجنِّ والإنس ، ويدل على أنه ليس المراد منه ألا يطلع أحد على شيء من المغيبات أنه ثبت بما يقارب التواتر أن « شقّاً وسطيحاً » كانا كاهنين وقد عرفا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتَّى يرجع إليهما كسرى ، وربيعة بن مضر ، فثبت أن اللَّه تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات ، وأيضاً هل المللِ على أن معبر الرؤيا ، يخبر عن أمور مستقبلة ، ويكون صادقاً فيه ، وأيضاً : قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها فوقعت على وفق كلامها .
قال ابن الخطيب : وأخبرني أناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل فكانت على وفق خبرها .

وبالغ أبو البركات في كتاب « المعتبر » في شرح حالها وقالت : تفحصت عن حالها ثلاثين سنة ، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً ، وأيضاً فإنّا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة ، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً ، وقد ترى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف ، فإن قلنا : إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرناه .
فصل في معنى الآية
قال القرطبيُّ : المعنى { فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه ، لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات ، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات كما ورد في التنزيل في قوله : { وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } [ آل عمران : 49 ] .
وقال ابن جبير : { إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } هو جبريل - عليه السلام - وفيه بعد ، والأولى أن يكون المعنى لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى ، أي : اصطفاه للنبوة فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه ليكون ذلك دالاً على نبوته .
فصل في استئثار الله بعلم الغيب
ذكر القرطبيُّ أن العلماء قالوا : لما تمدح الله سبحانه وتعالى بعلم الغيب واستأثره دون خلقه ، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل ، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ، ودلالة صادقة على نبوتهم ، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصى وينظر في الكواكب ويزجر بالطير من ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وبتخمينه وكذبه .
قال بعض العلماء : وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفو الأحوال والرتب فيهم الملك ، والسوقة ، والظالم ، والجاهل ، والعالم والغني ، والفقير ، والكبير مع اختلاف طوالعهم ، وتباين مواليدهم ، ودرجات نجومهم ، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة ، فإن قال : إنما أغرقهم الطالع الفلاني الذي ركبوا فيه ، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام هذه الطوالع كلِّها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم ، وما يقتضيه طالعه المخصوص به ، فلا فائدة إذ ذاك في عمل المواليد ، ولا دلالة فيها على شقي ، ولا سعيد ، ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم؛ ولقد أحسن القائل : [ الكامل ]
4917 - حَكَمَ المُنجِّمُ أنَّ طَالعَ مَولِدِي ... يَقْضِي عَليَّ بِمَيتَةِ الغَرقِ
قُلْ للمُنَجِّمِ صِبْحَةَ الطُّوفانِ هَلْ ... وُلِدَ الجَمِيعُ بكَوكَبِ الغَرقِ؟
وقيل لعلي - رضي الله عنه - لما أراد لقاء الخوارج : أتلقاهم والقمر لفي العقرب؟ فقال : فأين قمرهم؟ وكان ذلك في آخر الشهر . فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها ، وما فيها من البلاغة في الرد على من يقول بالتنجيم ، وقال له مسافر بن عوف : يا أمير المؤمنين ، لا تسرِ في هذه الساعة وسِرْ بعد ثلاث ساعاة يمضين من النهار ، فقال له علي - رضي الله عنه - : ولم؟ .

قال : إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك ، وأصاب أصحابك بلاءٌ ، وضر شديد ، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت ، وظهرت وأصبت ما طلبت ، فقال علي - رضي الله عنه - : ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه منجم ، ولا لنا من بعده . ثم قال : فمن صدقك في هذا القول لن آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله نداً ، وضداً ، اللَّهُمَّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ثم قال للمتكلم : نكذبك ، ونخالفك ، ونسير في الساعة التي تنهاها عنها ، ثم أقبل على الناس فقال : أيها الناس ، إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدوا به في ظلمات البر والبحر ، إنما المنجم كافر ، والكافر في النار ، والمنجم كالساحر ، والساحر في النار ، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم ، أو تعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيتُ ، ولأحرمنَّك العطاء ، ما كان لي سلطان ، ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم ، وهو وقعة « النَّهروان » الثابتة في « صحيح مسلم » ، ثم قال : لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها ، وظفرنا ، وظهرنا لقال : إنَّما كان ذلك تنجيمي وما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ، ولا لنا من بعده ، وقد فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان ، ثم قال : يا أيها الناسُ ، توكلوا على الله وثقوا به ، فإنه يكفي ممن سواه .
قوله : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } ، يعني : ملائكة يحفظونه من أن يقرب منه شيطان ، فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة .
قال الضحاك : ما بعث الله نبياً إلى ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين ، أن يتشبهوا له بصورة الملك فإذا جاءه شيطان في صورة الملك ، قالوا : هذا شيطان فاحذره ، وإن جاء الملك قالوا : هذا رسول ربِّك .
وقال ابن عباس وابن زيد : « رَصَداً » ، أي : حفظةُ يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من أمامه ، وورائه من الجن ، والشياطين .
وقال قتادة وسعيد بن المسيِّب : هم أربعة من الملائكة حفظة يحفظون الوحي بما جاء من عند الله .
وقال الفرَّاءُ : فالمراد جبريل كان إذا نزل بالرسالة نزل معه ملائكة يحفظونه من أن يستمع الجن الوحي ، فيلقونه إلى كهنتهم ، فيسبقوا به الرسول .
وقال السديُّ : « رَصَداً » أي : حفظة يحفظون الوحي ، مما جاء من عند الله ، وما ألقاه الشيطان قالوا : إنه من الشيطان ، و « رَصَداً » نصب على المفعول .
قال الجوهريُّ : « والرَّصدُ : القوم يرصدون كالحرس ، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكور والمؤنث وربما قالوا : أرصاد ، والرّاصد للشيء : الراقب له ، يقال : رصده يرصده رصْداً ورصَداً ، والتَّرصُّد : الترقب ، والمرصد : موضع الرصد » .

قوله : { لِّيَعْلَمَ } . متعلق ب « يَسْلكُ » .
والعامة : على بنائه للفاعل ، وفيه خلاف . أي : ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة ، قاله مقاتل وقتادة .
قال القرطبيُّ : « وفيه حذف تتعلق به اللام ، أي : أخبرناه بحفظنا الوحي ، ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حاله من التبليغ بالحق والصدق » .
وقيل : ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه .
قاله ابن جبير ، قال : ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة - عليهم السلام - .
وقيل : ليعلم الرسول أن الرسل سواه بلغوا .
وقيل : ليعلم الله ، [ أي : ليظهر علمه للناس أنّ الملائكة بلغوا رسالات ربهم .
وقيل : ليعلم الرسول ، أي رسولٍ كان أنَّ الرسل سواه بلغوا ] .
وقيل : ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه .
وقال ابن قتيبة : أي : ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم ، ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم .
وقال مجاهد : ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين ، قد بلغوا رسالات ربهم .
وقيل : ليعلم الملائكة . وهذان ضعيفان ، لإفراد الضمير .
والضمير في « أبْلغُوا » عائد على « من » في قوله : « من ارْتضَى » راعى لفظها أولاً ، فأفرد في قوله { مِن بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } ، ومعناها ثانياً ، فجمع في قوله « أبْلَغُوا » إلى آخره .
وقرأ ابن عباس ومجاهد وزيد بن علي وحميد ويعقوب ليعلم مبنياً للمفعول أي ليعلم الناس أن الرسل قد بلغوا رسالاته .
وقرأ ابن أبي عبلة والزهري : لِيُعلم « - بضم الياء وكسر اللام - أي : ليعلم الله رسوله بذلك .
وقرأ أبو حيوة : » رِسَالة « بالإفراد ، والمراد الجمع .
وقرأ ابن أبي عبلة : » وأحيط ، وأحصي « مبنيين للمفعول ، » كل « رفع ب » أحصي « . قوله : » عَدَداً « ، يجوز أن يكون تمييزاً منقولاً من المفعول به ، والأصل : أحصى عدد كل شيء ، كقوله تعالى : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } [ القمر : 12 ] ، أي : عيون الأرض على خلاف سبق .
ويجوز أن يكون منصوباً على المصدر من المعنى ، لأن » أحْصَى « بمعنى » عَد « ، فكأنه قيل : وعد كل شيء عدداً .
أو يكون التقدير : وأحصى كلَّ شيء إحصاء ، فيرد المصدر إلى الفعل ، أو الفعل إلى المصدر .
ومنع مكي كونه مصدراً للإظهار ، فقال : » عَدَداً « نصب على البيان ، ولو كان مصدراً لأدغم .
يعني : أن قياسه أن يكون على » فَعْل « بسكون العين؛ لكنه غير لازم ، فجاء مصدره بفتح العين .

ولما كان « لِيعْلمَ » مضمناً معنى « قَد عَلِمَ ذلِكَ » جاز عطف « وأحَاطَ » على ذلك المقدر .
قال القرطبي : « عَدَداً » ، نصب على الحال ، أي : أحصى كل شيء .
فصل في معنى الإحاطة في الآية .
المعنى : أحاط علمه بما عند الرسل ، وما عند الملائكة .
وقال ابن جبيرٍ : المعنى ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط بما لديهم ، فيبلغوا رسالاته { وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } أي : علم كل شيء وعرفه فلم يخف عليه منه شيء ، وهذه الآية تدل على أنه تعالى عالم بالجزئيات ، وبجميع الموجودات .
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورَةَ الجِنِّ أُعْطِيَ بعَددٍ كُلِّ جنِّي وشيْطانٍ صدَّق بمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وكذَّب بِهِ عِتْقُ رَقبةٍ » والله تعالى أعلم بالصواب .

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)

قوله تعالى : { ياأيها المزمل } ، أصله « المُتزمِّلُ » فأدغمت التاء في الزاي ، يقال : تزمَّل يتزمل تزملاً ، فإذا أريد الإدغام : اجتلبت همزة الوصل ، وبهذا الأصل قرأ أبي بن كعب .
وقرأ عكرمة : « المُزمِّل » - بتخفيف الزاي وتشديد الميم - اسم فاعل ، وعلى هذا فيكون فيه وجهان :
أحدهما : أن أصله « المُزتمِل » بوزن « مفتعل » فأبدلت التاء ميماً وأدغمت ، قاله أبو البقاء ، وهو ضعيف .
والثاني : أنه اسم فاعل من « زمل » مشدداً ، وعلى هذا ، فيكون المفعول محذوفاً ، أي : المزمل جسمه . وقرىء كذلك إلا أنه بفتح الميم اسم مفعول منه أي : « المُلفَّفُ ، والتزمل : التلفف ، يقال : تزمل زيد بكساء ، أي : الفت به؛ وقال ذو الرُّمَّة : [ الطويل ]
4918 - وكَائِنْ تَخطَّت نَاقتِي مِنْ مفَازةٍ ... ومِنْ نَائِمٍ عَنْ ليْلِهَا مُتزمِّلِ
وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
4919 - كَأنَّ ثَبِيراً فِي أفَانينِ ودقِهِ ... كَبِيرُ أنَاسٍ في بجَادٍ مُزمَّلِ
وهو كقراءة بعضهم المتقدمة
فصل في بيان لمن الخطاب في الآية
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه ثلاثةُ أقوالٍ :
الأول : قال عكرمة : { ياأيها المزمل } بالنبوة المتزمل بالرسالة ، وعنه : يا أيها الذي زمل هذا الأمر ، أي : حمله ثم فتر ، وكان يقرأ : { ياأيها المزمل } - بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها ، على حذف المفعول ، وكذلك : » المدثر « ، والمعنى : المزمل نفسه والمدثر نفسه ، والذي زمله غيره .
الثاني : قال ابن عباس : يا أيها المزمل بالقرآن .
الثالث : قال قتادة : يا أيها المزمل بثيابه .
قال النخعيُّ : كان متزملاً بقطيفة عائشة رضي الله عنها بمرط طوله أربعة عشر ذراعاً نصفه عليّ ، وأنا نائمة ونصفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، والله ما كان خزاً ولا قزاً ولا مرعزاء ولا إبريسم ولا صوفاً ، كان سداه شعراً ولحمته وبراً ، ذكره الثعلبي .
قال القرطبيُّ : » وهذا القول من عائشة يدل على أنَّ السورة مدنية ، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يبنِ بها إلاَّ بالمدينة ، والقول بأنها مكية لا يصح « .
وقال الضحاكُ : تزمل لمنامه .
وقيل : بلغه من المشركين سوء قول فيه ، فاشتد عليه فتزمل ، وتدثر ، فنزل : { ياأيها المزمل } { ياأيها المدثر } .
وقيل : كان هذا في ابتداء أمر ما أوحي إليه فإنه لما سمع صوت الملك ، ونظر إليه أخذته الرعدة ، فأتى أهله ، وقال : زمِّلوني ، دثِّرُونِي .
روي معناه عن ابن عباس ، قال : أول ما جاءه جبريل خافه ، وظن أن به مساً من الجنِّ ، فناداه ، فرجل من الجبل مرتعداً وقال : زمِّلُوني ، زمِّلُونِي .
وقال الكلبيُّ : إنما تزمل النبي بثيابه ليتهيأ للصلاة ، وهو اختيار الفراءِ .
وقيل : إنه - عليه الصلاة والسلام - كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة فنودي بما يهجر تلك الحالة ، فقيل له : { ياأيها المزمل } قم واشتغل بالعبودية .

وقيل : معناه يا من تحمل أمراً عظيماً ، والزمل : الحمل .
قال البغويُّ : قال الحكماء : كان هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الوحي قبل تبليغ الرسالة ، ثم خوطب بعد بالنبي ، والرسول .
فصل في نفي كون « المزمل » اسماً للنبي صلى الله عليه وسلم
قال السهيليُّ : ليس المزمل باسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه بعض الناس ، وعدوه في أسمائه صلى الله عليه وسلم وإنما « المُزمِّلُ » اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب ، وكذلك كان المُدثِّرُ .
وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان : إحداهما : الملاطفة ، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة ، سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها « لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي - رضي الله عنه - حين غاضب فاطمة - رضي الله عنها - فأتاه وهو نائم وقد لصق جنبه بالتراب ، فقال له : » قُمْ أبَا تُرابٍ « ، إشعاراً له بأنه غير عاتب عليه ، وملاطفة له وإشعاراً بترك العتب ، [ وملاطفاً له وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة : قم يا نومان ملاطفة له ، وإشعاراً بترك العتب والتأنيب ] - وكان نائماً - فقول الله تعالى لمحمد - عليه الصلاة والسلام - : { ياأيها المزمل قُمِ } فيه تأنيس له ، وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه .
والفائدة الثانية : التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل ، وذكر الله تعالى فيه لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل ، واتصف بتلك الصفة .
قوله : { قُمِ الليل } . العامة : على كسر الميم لالتقاء الساكنين .
وأبو السمال : بضمها ، إتباعاً لحركة القاف .
وقرىء : بفتحها طلباً للخفة .
قال أبو الفتح : الغرض : الهرب من التقاء الساكنين ، فبأيِّ حركة تحرك الأول حصل الغرض .
قال شهاب الدين : » إلا أن الأصل : الكسر ، لدليل ذكره النحويون ، و « الليل » ظرف للقيام وإن استغرقه الحدث الواقع فيه ، هذا قول البصريين ، وأما الكوفيون فيجعلون هذا النوع مفعولاً به « .
قال القرطبي : » وهو من الأفعال القاصرة الغير متعدية إلى مفعول ، فأما ظرف المكان والزمان فسائغ فيه ، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة ، لا تقول : « قمت الدار » حتى تقول : « قُمْتُ وسَط الدَّارِ ، وخارج الدارِ » ، وقد قيل هنا : إن « قم » معناه : صل ، عبر به هنا واستعير له حتى صار عرفاً بكثرة الاستعمال « .
فصل في حد الليل
الليل : حده من غروب الشمس إلى طلوع الفجر وقد تقدم بيانه في البقرة .
قال القرطبيُّ : » واختلف هل كان قيامه فرضاً أو نفلاً؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان فرضاً لأن الندب لا يقع على بعض الليل دون بعض لأن قيامه ليس مخصوصاً بوقت دون وقتٍ « .

واختلف هل كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء ، أو عليه وعلى أمته ، ثلاثة أقوالٍ :
الأول : قول سعيد بن جبيرٍ لتوجه الخطاب إليه .
الثاني : قول ابن عباسٍ ، قال : كان قيامُ الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله .
الثالث : قول عائشة وابن عباس أيضاً وهو الصحيح أنه كان فرضاً عليه وعلى أمته ، لما روى « مسلم » : « أن سعد بن هشام بن عامر قال لعائشة رضي الله عنها : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ألست تقرأ : { ياأيها المزمل } قلت : بلى ، قالت : فإن الله - عز وجل - افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً ، وأمسك الله - عز وجل - خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء ، حتى أنزل الله - عز وجل - في آخر السورة التخفيف ، فصار قيام الليل تطوعاً بعد أن كان فريضة » .
وروى وكيع ، ويعلى ابن عباس قال : لما نزلت : { ياأيها المزمل } كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها ، وكان بين نزول أولها وآخرها نحو من سنة .
وقال سعيد بن جبير : مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل ، فنزلت بعد عشر سنين { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ } [ المزمل : 20 ] فخفف الله عنهم .
وقيل : كان قيام الليل واجباً ، ثم نسخ بالصلوات الخمس .
وقيل : عسر عليهم تمييز القدر الواجب فقاموا الليل كلَّه فشق ذلك عليهم فنسخ بقوله في آخرها { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } [ المزمل : 20 ] وكان بين الوجوب ونسخه سنة .
وقيل : نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد ، حتى نسخ بالمدينة .
وقيل : لم يجب التهجد قط لقوله { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] ، ولأنه لو وجب عليه صلى الله عليه وسلم لوجب على أمته لقوله تعالى { واتبعوه } [ الأعراف : 158 ] ، والنسخ على خلاف الأصل ، ولأنه فرض تعيين المقدار أي المكلف وذلك ينافي الوجوب .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً } . للناس في هذا كلام كثير ، واستدلال على جواز استثناء الأكثر ، والنصف ، واعتراضات وأجوبة .
قال شهاب الدين : وها أنا أكذر ذلك محرراً له بعون الله تعالى : اعلم أن في هذه الآية ثمانية أوجه :
أحدها : أن « نِصْفهُ » بدل من « اللَّيْلِ » بدل بعض من كل ، و « إلاَّ قَليْلاً » استثناء من النصف ، كأنه قيل : [ قُم أقل من نصف الليل ، والضمير في « مِنْهُ » و « عليه » عائد على النصف ، والمعنى : التخيير بين أمرين : بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ] ، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف ، والزيادة عليه ، قاله الزمخشريُّ .

وناقشه أبو حيَّان : « بأنه يلزم منه تكرار اللفظ ، ويصير التقدير : قم نصف الليل إلا قليلاً من نصف الليل ، قال : وهذا تركيب ينزه القرآن عنه » .
قال شهاب الدين : والوجه في إشكال ، لكن لا من هذه الحيثية ، فإن الأمر فيها سهل بل لمعنى آخر - سأذكره إن شاء الله تعالى قريباً - ، وجعل أبو البقاء هذا الوجه مرجوحاً فإنه قال : والثاني : هو بدل من « قليلاً » - يعني النصف - قال : وهو أشبه بظاهر الآية لأنه قال : « أو انقُصْ مِنْهُ » ، « أو زِدْ عليْهِ » ، والهاء فيهما للنصف ، فلو كان الاستثناء من النصف لصار التقدير : قم نصف الليل إلا قليلاً ، أو انقص منه قليلاً ، والقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يعقل .
قال شهاب الدين : « والجواب عنه : أن بعضهم قد عين هذا القليل ، فعن الكلبي ، ومقاتل : هو الثلث فلم يكن القليل غير مقدر ، ثم إن في قوله تناقضاً فإنه قال : » والقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يعقل « ، فأعاد الضمير على القليل ، وفي الأول أعاده على النصف ، ولقائل أن يقول : قد ينقدح هذا الوجه بإشكال قوي ، وهو أنه يلزم منه تكرار المعنى الواحد ، وذلك أن قوله : قُمْ نصف الليل إلا قليلاً ، بمعنى أنقص من نصف الليل ، لأن ذلك القليل ، هو بمعنى النقصان وأنت إذا قلت : » قم نصف الليل إلا القليل من النصف ، وقم نصف الليل ، أو انقص من النصف « وجدتهما بمعنى واحد ، وفيه دقة فتأمله ، ولم يذكر الحوفيُّ غير هذا الوجه المتقدم ، وقد عرف ما فيه ، وممن ذهب إليه أيضاً الزجاجُ فإنه قال : » نِصفَهُ « بدل من » الليل « و » إلاَّ قَلِيلاً « استثناء من النصف ، والضمير في » مِنْهُ « و » عَليْهِ « عائد للنصف ، والمعنى : قُم نصف الليل ، أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث ، أو زد عليه إلى الثلثين ، فكأنه قال : قم ثلثي الليل ، أو نصفه ، أو ثلثه » .
قال شهاب الدين : « والتقديرات التي يبرزونها ظاهرة حسنة إلا أن التركيب لا يساعد عليها لما عرفت من الإشكال المذكور آنفاً » .
الثاني : أن يكون « نِصفَهُ » بدلاً من « قَلِيْلاً » وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء ، وابن عطية .
قال الزمخشريُّ : « وإن شئت جعلت » نِصفَهُ « بدلاً من » قَلِيْلاً « وكان تخييراً بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه ، وإنَّما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل » .

وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أشبه من جعله بدلاً من « اللَّيْلِ » كما تقدم .
إلا أن أبا حيان اعترض هذا ، فقال : « وإذا كان » نِصفَهُ « بدلاً من » إلاَّ قليلاً « ، فالضميرُ في » نصفهُ « إما أن يعود على المبدل منه ، أو على المستثنى منه ، وهو » الليْل « لا جائزٍ أن يعود على المبدل منه؛ لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول ، إذ التقدير : إلا قليلاً نصف القليل ، وهذا لا يصح له معنى ألبتَّة ، وإن عاد الضمير إلى » اللَّيْلِ « فلا فائدة في الاستثناء من » الليْلِ « ، إذ كان يكون أخصر ، وأفصح ، وأبعد عن الإلباس : قم الليل نصفه ، وقد أبطلنا قول من قال : » إلاَّ قَليلاً « استثناء من البدل ، وهو » نِصْفَهُ « وأنَّ التقدير : قم الليل نصفه إلا قليلاً منه ، أي من النصف ، وأيضاً ففي دعوى أن » نِصفَهُ « بدل من » إلاَّ قَلِيلاً « ، والضمير في » نِصْفَهُ « عائد على » الليْلِ « ، إطلاق القليل على النصف ، ويلزم أيضاً أن يصير التقدير : إلا نصفه فلا تقمه ، أو انقص من النصف الذي لا تقومه ، وهذا معنى لا يصلح ، وليس المراد من الآية قطعاً » .
قال شهاب الدين : يقول بجواز عوده على كل منهما ، ولا يلزم محذور ، أما ما ذكره من أنه يكون استثناء مجهول من مجهول فممنوع ، بل هو استثناء معلوم من معلوم ، لأنا بينا أن القليل قدر معين وهو الثلث ، والليل ليس بمجهول ، وأيضاً فاستثناء المبهم قد ورد ، قال الله تعالى : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] ، وقال تعالى : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 249 ] ، وكان حقه أن يقول : لأنه بدل مجهول من مجهول ، وأما ما ذكره من أنه « أخصر منه ، وأوضح » كيت وكيت ، أما الأخصر ، فمسلم وأما أنه يلبس ، فممنوع ، وإنما عدل عن اللفظ الذي ذكره لأنه أبلغ ، وبهذا الوجه استدل من قال : يجوز استثناء النصفِ ، والأكثر ، [ ووجه الدلالة على الأول أنه جعل قليلاً مستثنى من الليل ثم فسَّر ذلك القليل بالنصف ، فكأنه قيل قم الليل إلا نصفه ] ووجه الدلالة على الثاني : أنه عطف « أوْ زِدْ عليْهِ » على « انْقُصْ مِنْهُ » ، فيكون قد استثنى الزائد على النصف ، لأن الضمير في « مِنْهُ » وفي « عَليْهِ » عائد على النصف وهو استدلال ضعيف لأن الكثرة إنَّما جاءت بالعطف ، وهو نظير أن يقول : له عندي عشرةٌ إلا خمسة درهماً درهماً ، فالزيادة على النصف بطريق العطف ، لا بطريق أن الاستثناء أخرج الأكبر بنفسه .
الثالث : إن « نِصفَهُ » بدل من « الليل » [ أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأول ، إلا أن الضمير في « مِنْهُ » و « عَليْهِ » عائد على الأقل من النصف ، ] وإليه ذهب الزمشخريُّ ، فإنه قال : « وإن شئت قلت : لما كان معنى { قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ } إذا أبدلت النصف من الليل يكون المعنى : قم أقل من نصف الليل ، فيرجع الضمير في » مِنْهُ « و » عَليْهِ « ، إلى الأقل من النصف ، فكأنه قيل : قم أقل من نصف الليل ، أو قم أنقص من ذلك الأقل ، أو أزيد منه قليلاً ، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث » .

الرابع : أن يكون « نِصفَهُ » بدلاً من « قَلِيْلاً » كما تقدم؛ إلا أنك تجعل القليل الثاني ربع الليلِ ، وقد أوضح الزمخشري هذا أيضاً ، فقال : « ويجوز إذا أبدلت » نِصْفَهُ « من » قَلِيْلاً « وفسرته به أن تجعل » قَلِيلاً « الثاني بمعنى نصف النصف بمعنى الربع ، كأنه قيل : أو انقص منه قليلاً نصفه ، وتجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع ، كأنه قيل : أو زد عليه قليلاً نصفه ، ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث ، فيكون تخييراً بين النصف ، والثلث ، والربع » انتهى .
واختار ابن الخطيب هذا الوجه مع الوجه الثاني : فقال : وقد أكثر الناس في هذه الآية ، وفيها وجهان ملخصان :
أحدهما : أن القليل في قوله : « إِلاَّ قَليْلاً » ، هو الثلث ، لأن قوله تعالى في آخر السورة : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ } ، يقتضي أن أكثر المقادير الواجبة هو الثلثان ، فيكون قيامُ الثلث جائزاً ، وهو قوله : { إلاَّ قَلِيلاً } فكأنه قيل : قم ثلثي الليل ، ثم قال : « نِصْفَهُ » فمعناه : أو قم نصفه ، من باب قولهم : « جالس الحسن ، أو ابن سيرين » على الإباحة ، فحذف العاطف ، فالتقدير : قم الثلثين ، أو قم النصف ، أو انقص من النصف ، أو زد عليه ، فعلى هذا يكون الثلثان أقصى الزيادة ، والثلث أقصى النقصان ، فيكون الواجب هو الثلث ، والزائد عليه مندوباً ، فإن قيل : فيلزم على قراءة الخفض في « نصفه » و « ثلثه » أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك من الواجب الأدنى ، لأنه تعالى قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } فيكون المعنى أنك تقوم أقل من الثلثين ، وأقل من النصف وأقل من الثلث ، فإذا كان الثلث واجباً كان النبي صلى الله عليه وسلم تاركاً للواجب؟
قلنا : المقدر للشيء قد ينقص منه لعدم انضباطه لأنه باجتهاد فربما أخطأ ، فهو كقوله تعالى : { عَلِمَ أَن لَّنْ تُحْصُوهُ } [ المزمل : 20 ] .
الثاني : أن « نِصْفَهُ » تفسير ل « قَلِيْلاً » لأن النصف قليل بالنسبة إلى الكل لأن المكلف بالنصف لا يخرج عن العهدة بيقين ، إلا بزيادة شيء قليل عليه فيصير في الحقيقة نصفاً وشيئاً ، فيكون الباقي بعد ذلك أقل من النصف ، فالمعنى : قم نصف الليل ، أو انقص منه نصفه ، وهو الربع ، أو زد عليه نصفه ، وهو الربع ، فيصير المجموع ثلاثة أرباع ، فيكون مخيراً بين أن يقوم تمام النصف ، أو ربع الليل ، أوثلاثة أرباعه ، وحينئذ يزول الإشكال بالكلية ، لأن الربع أقل من الثلث ، وذلك أن قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقم ثلثي الليل ، ولا نصفه ولا ثلثه ، لأن الواجب لما كان هو الربع فقط ، لم يلزم ترك قيام الثلث .

الوجه الخامس : أن يكون { إِلاَّ قَلِيلاً } استثناء من القيام ، فيجعل « الليْل » اسم جنس ، ثم قال : { إِلاَّ قَلِيلاً } ، أي : إلا الليالي التي تُخِلّ فيها ، أي تترك في قيامها القدر البين ونحوه ، وهذا النظر يحسن مع القول بالندب ، قاله ابن عطية ، احتمالاً من عنده وهذا خلافُ الظاهرِ ، وهو تأويل بعيد .
السادس : قال الأخفش : الأصل قم الليل إلا قليلاً أو نصفه ، قال : كقولك : « أعطه درهماً درهمين ثلاثة » .
وهذا ضعيف جداً ، لأن فيه حذف حرف العطفِ ، وهو ممنوعٌ ، لم يردْ منه إلا شيء شاذ ممكن تأويله ، كقولهم : « أكَلتُ لحْماً سَمَكاً تَمْراً » .
وقول الآخر : [ الخفيف ]
4920 - كَيْفَ أصْبحْتَ كيْفَ أمْسيْتَ ممَّا ... يَنْزِعُ الوُدَّ في فُؤادِ الكَريمِ
أي : « لحماً وسمكاً وتمراً » ، وكذا : كيف أصبحت ، وكيف أمسيت ، وقد خرج الناس هذا على بدل النداء .
السابع : قال التبريزي : الأمر بالقيام ، والتخيير في الزيادة ، والنقصان وقع على الثلثين في آخر الليل ، لأن الثلث الأول وقت العتمة ، والاسثتناء وارد على المأمورية ، فكأنه قال : قم ثلثي الليل إلا قليلاً أي ما دون نصفه « أو زِدْ عليْهِ » ، أي على الثلثين ، فكان التخيير في الزيادة ، والنقصان واقعاً على الثلثين ، وهذا كلام غريب لا يظهر من هذا التركيب .
الثامن : أن « نِصْفَهُ » منصوب على إضمار فعل ، أي : قم نصفه ، حكاه مكي عن غيره ، فإنه قال : « نِصْفَهُ » بدل من « الليْلِ » .
وقيل : « انتصب على إضمار : قم نصفه » .
قال شهاب الدين : « وهذا في التحقيق ، وهو وجه البدل الذي ذكره أولاً ، لأن البدل على نية تكرار العامل » .
فصل في نسخ الأمر بقيام الليل
اختلفوا في الناسخ للأمر بقيام الليل ، فعن ابن عباس وعائشة : أن الناسخ قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل } إلى آخرها ، وقيل : قوله تعالى : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } وعن ابن عباس أيضاً : أنه منسوخ بقوله { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى } ، وعن عائشة أيضاً ، والشافعي وابن كيسان : هو منسوخ بالصلوات الخمس ، وقيل : الناسخ قوله تعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } .

قال أبو عبد الرحمن السلمي : لما نزلت { ياأيها المزمل } قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ثم نزل قوله تعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } .
قال بعض العلماء : وهو فرض نسخ به فرض كان على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لفضله كما قال تعالى : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } .
قال القرطبيُّ : « والقول الأول يعم جميع هذه الأقوال ، وقد قال تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } [ البقرة : 43 ] . فدخل فيها قول من قال : إن الناسخِ الصلوات الخمس ، وذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل كانت فريضة على كلِّ مسلمٍ ، ولو على قدر حلب شاة ، وعن الحسن أيضاً أنه قال في هذه الآية : الحمد لله تطوع بعد الفريضة ، وهو الصحيح - إن شاء الله تعالى - لما جاء في قيامه من الترغيب ، والفضل في القرآن ، والسنة » .
قالت عائشة رضي الله عنها : « كنت أجعل للنبي صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل ، فتسامع الناس به فلما رأى جماعتهم كره ذلك ، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ، فدخل البيت كالمغضب ، فجعلوا يتحنحون ، ويتفلون ، فخرج إليهم فقال : » أيُّهَا النَّاسُ تكلَّفُوا مِن العمل ما تُطيقُونَ ، فإنَّ اللَّه لا يمَلُّ من الثواب حتَّى تَملُّوا من العملِ ، وإنَّ خَيْرَ العمَلِ أدومهُ ، وإنْ قَلَّ « ، فنزلت { ياأيها المزمل } ، فكتب عليهم ، وأنزل بمنزلة الفريضة حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل ، فيتعلق به ، فمكثوا ثمانية أشهرٍ ، فنزل قوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل } ، فردهم الله إلى الفريضة ، ووضع عنهم قيام الليل ، إلا ما تطوعوا به .
قال القرطبيُّ : ومعنى حديث عائشة رضي الله عنها ثابت في الصحيح ، إلى قوله : » وإنْ قَلَّ « وباقيه يدل على أن قوله تعالى { ياأيها المزمل } نزل بالمدينة ، وأنهم مكثوا ثمانية أشهرٍ يقومون ، وقد تقدم عنها في » صحيح مسلم « حولاً .
وحكى الماورديُّ عنها قولاً ثالثاً : وهو ستة عشر شهراً لم يذكر غيره عنها ، وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه : أنه كان بين أول » المُزمِّل « وآخرها سنة ، قال : فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضاً عليه ، وقيل في نسخه عنه قولان :
أحدهما : أنه كان فرضاً عليه إلى أن مات .
والثاني : أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته ، وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان :
أحدهما : المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين ، يريد قول ابن عباس حولاً ، وقول عائشة ستة عشر شهراً .
الثاني : » أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ « .
قوله : { وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } ، أي : لا تعجل في قراءة القرآنِ بل اقرأه على مهل وهينة ، وبينه تبييناً مع تدبر المعاني .

قال المبرد : أصله من قولهم : « ثغر رتل ورتل » بفتح العين وكسرها إذا كان حسن التنضيد ، ورتلت الكلام ترتيلاً ، إذا جملت فيه ، ويقال : ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق قليل .
فقوله تعالى : { تَرْتِيلاً } تأكيد في إيجاب الأمر به ، وأنه مما لا بد منه للقارىء .
روى الحسن : « أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل يقرأ آية ويبكي ، فقال : » أَمْ تَسمعُوا إلى قولِ اللَّهِ تعالى : { وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } ، هذا الترتيل « .
وروى » أبو داود « عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يُؤتَى بِقَارِىء القُرآنِ يَوْم القِيامةِ ، فيُوقَفُ فِي أول دَرجِ الجنَّةِ ، ويقال له : اقْرَأ وارْقَ ورتلْ كَمَا كُنْتَ تُرتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتك عِنْدَ آخِرِ آية تقرؤها « .

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)

قوله : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } ، الجملة من قوله : « إنَّا سَنُلقي » مستأنفة .
وقال الزمخشريُّ : « وهذه الآية اعتراض » ثم قال : « وأراد بهذا الاعتراض أن ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن ، لأن الليل وقت السبات ، والراحة ، والهدوء فلا بد لمن أحياه من مضادة لطيفة ، ومجاهدة لنفسه » انتهى .
يعني بالاعتراض من حيثُ المعنى ، لا من حيث الصناعة ، وذلك أن قوله : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } مطابق لقوله : « قُمِ الليْل » ، فكأنه شابه الاعتراض من حيث دخوله بين هذين المناسبتين .
فصل في معنى الآية
المعنى : سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل « قَوْلاً ثَقيْلاً » يثقل حمله ، لأن الليل للمنام فمن أجر بقيام أكثره ، لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل مشقة شديدة على النفس ، ومجاهدة الشيطان فهو أمر يثقل على العبد .
وقيل : المعنى سنوحي إليك القرآن وهو ثقيل يثقل العمل بشرائعه قال قتادة : ثقيل - والله - فرائضه وحدوده . وقال مجاهد : حلاله وحرامه .
وقال الحسن : العمل به .
وقال أبو العالية : ثقيل بالوعد ، والوعيد ، والحلال والحرام .
وقال محمد بن كعب : « ثقيل على المنافقين لأنه يهتك أسرارهم ، ويبطل أديانهم » .
وقيل : على الكفار لما فيه من الاحتجاج عليهم ، والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم .
وقال السديُّ : ثقيل بمعنى كريم ، مأخوذ من قولهم : فلان ثقيل عليَّ ، أي يكرم عليّ .
وقال الفراءُ : « ثَقِيْلاً » أي : رزيناً .
وقال الحسن بن الفضل : ثقيل لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزينة بالتوحيد .
وقال ابن زيد : هو ثقيل مبارك في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة .
وقيل : ثقيل : أي ثابت كثبوت الثقيل في محله ، ومعناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً .
[ وقيل : ثقيل : بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ، ومعانيه بالكلية ، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته ، والفقهاء بحثوا في أحكامه ، وكذا أهل اللغة ، والنحو ، وأرباب المعاني ، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه بفوائد ما وصل إليها المتقدمون فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاشتغال بحمله ، فصار كالجبل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله ] .
وقيل : هو الوحي ، كما جاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته ، وضعت جرانها - يعني صدرها - على الأرض فما تستطيع أن تتحرك ، حتى يُسَرَّى عنه « .
وقال القشيري : القول الثقيل هنا : هو قول : » لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ « ، لأنه ورد في الخبر : » لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ خَفيفَةٌ على اللِّسانِ ثَقِيلةٌ في المِيزَانِ « .
قوله : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل } .

في الناشئة أوجه :
أحدها : أنها صفة لمحذوف ، أي : النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها للعبادة ، أي تنهض وترفع من « نشأت السحابة » إذا ارتفعت ، ونشأ من مكانه ونشر إذا نهض ، قال : [ الطويل ]
4921 - نَشَأنَا إلى خُوصِ بَرَى نيَّهَا السُّرَى ... وألصَقَ مِنْهَا مُشرِفَاتِ القَماحِدِ
الثاني : أنها مصدر بمعنى قيام الليلِ ، على أنها مصدر من « نشأ » إذا قام ونهض ، فيكون كالعافية والعاقبة ، قالهما الزمخشري .
الثالث : أنها بلغة الحبشةِ نشأ الرجل ، أي : قام من الليل .
قال أبو حيان : فعلى هذا هي جمع ناشىء ، أي : قائم ، يعني : أنها صفة لشيء يفهم الجمع ، أي : طائفة ، أو فرقة نائشة ، وإلا ف « فاعل » لا يجمع على « فاعلة » .
قال القرطبي : « قال ابن مسعود : » الحبشة « [ يقولون : نشأ ، أي قام . فلعله أراد أن الكلمة عربية ، ولكنها شائعة في كلام الحبشة ] غالبة عليهم ، وإلاَّ فليس في القرآن ما ليس من لغة العرب » .
الرابع : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل } : ساعاته ، وأوقاته؛ لأنها تنشأ شيئاً بعد شيء .
قال القرطبيُّ : « لأنها تنشأ أولاً فأولاً ، يقال : نشأ الشيء ينشأ إذا ابتدأ ، وأقبل شيئاً بعد شيء فهو ناشىء ، وأنشأه اللهُ فنشىء ، فالمعنى : ساعات الليل الناشئة ، فاكتفى بالوصف عن الاسم فالتأنيث للفظ الساعة ، لأن كل ساعة تحدث » .
وقيدها الحسن وابن عبَّاسٍ : بما كان بعد العشاء ، إن كان قبلها فليس بناشئة ، وخصصتها عائشة رضي الله عنها بأن تكون بعد النوم ، فلو لم يتقدَّمها نوم لم تكن ناشئة .
قوله : { هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } .
قرأ أبو عمرو وابن عامرٍ : بكسر الواو ، وفتح الطاء بعدها ألف ، والباقون : بفتح الواو وسكون الطاء .
وقرأ قتادة وشبل عن أهل مكة : « وِطْأً » ، بكسر الواو وسكون الطاء .
وظاهر كلام أبي البقاء أنه قرىء بفتح الواو مع المد ، فإنه قال : « وِطْأ » بكسر الواو بمعنى مواطأة « ، وبفتحها اسم للمصدر ، ووطأ على » فعل « وهو مصدر وطىء ، والوطاء : مصدره » وِطَاء « ك » قِتَال « مصدر » قَاتلَ « ، والمعنى : أنها أشد مُواطأة ، أي : يواطىء قلبها لسانها إن أردت النفس ، ويواطىء قلب النائم فيها لسانه إن أردت القيام ، أو العبادة ، أو الساعات ، أو أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص .
والوطء - بالفتح والكسر - : على معنى أشد ثبات قدم ، وأبعد من الزلل وأثقل وأغلظ من صلاة النهار على المصلي من قوله - عليه الصلاة والسلام - : » اللَّهُمَّ اشدُدْ وطْأتكَ على مُضَر « وعلى كل تقدير : فانتصابه على التمييز .
قوله : { وَأَقْوَمُ قِيلاً } .
حكى الزمخشريُّ : أن أنساً قرأ : » وأصوب قِيْلاً « فقيل : له : يا أبا حمزة إنما هي » وأقْوَمُ « ، فقال : إن أقوم ، وأصوب وأهيأ ، واحد ، وأنَّ أبا السرار الغنوي كان يقرأ : { فَحَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ } [ الإسراء : 25 ] - بالحاء المهملة - فقيل له : هي بالجيم فقال : جَاسوا وحاسوا واحد .

قال شهاب الدين : « وغرضه من هاتين الحكايتين ، جواز قراءة القرآن بالمعنى ، وليس في هذا دليل؛ لأنه تفسيرُ معنى ، وأيضاً ، فالذي بين أيدينا قرآن متواتر ، وهذه الحكاية آحاد ، وقد تقدم أن أبا الدرداء كان يُقْرِىءُ رجلاً ، { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم } [ الدخان : 43-44 ] ، فجعل الرجل يقول : طعام اليتيم ، فلما تبرم منه قال : طعام الفاجر يا هذا ، فاستدل به على ذلك من يرى جوازه ، وليس فيه دليل ، لأن مقصود أبي الدرداء بيان المعنى فجاء بلفط مبين » .
قال الأنباري : وذهب بعض الزائغين إلى أن من قال : إن من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآنِ ، فهو مصيب إذا لم يخالف ولم يأت بغير ما أراد الله ، واحتجوا بقول أنس هذا ، وهذا قول لا يعرج عليه ، ولا يلتفت إلى قائله ، لأنه لو قرىء بألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها ، واشتملت على غايتها لجازأن يقرأ في موضع { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } الشكر للباري ملك المخلوقين ، ويتسع الأمر في هذا ، حتى يبطل لفظ جميع القرآن ، ويكون التالي له مفترياً على الله - تعالى - كاذباً على رسوله صلى الله عليه وسلم ولا حجة لهم في قول ابن مسعود : « نَزلَ القرآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ ، إنما هو كقول أحدكم : تعلم ، وتعال ، وأقبل »؛ لأن هذا الحديث يوجب أن القراءات المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلفت ألفاظها ، واتفقت معانيها ، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في « هَلُمَّ » ، وتعال ، وأقبل « ، فأما ما لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وتابعوهم ، فإن من أورد حرفاً منه في القرآن بهت ، ومال ، وخرج عن مذهب الصواب ، وحديثهم الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة لا يصححه أهل العلم . انتهى .
فصل في فضل صلاة الليل
بيَّن تعالى في هذه الآية فضل صلاةِ الليل على صلاة النَّهار ، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر ، وأجلب للثواب ، كان علي بن الحسين يصلي بين المغرب ، والعشاء ، ويقول : هذه ناشئة الليل .
وقال عطاء وعكرمة : هو بدوام الليل . قال في الصحاح : » ناشئة الليل « أول ساعاته .
وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هي الليل كلهُ ، لأنه ينشأ بعد النهار ، وهو اختيار مالك .
قال ابن العربي : » وهو الذي يعطيه اللفظ ويقتضيه اللغة « .
وقالت عائشة رضي الله عنها وابن عباس - أيضاً - ومجاهد : إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم ، ومن قال قبل النوم فما قام ناشئة .
وقال يمان وابن كيسان : هو القيام من آخر الليل .

وأما قوله : { أَشَدُّ وَطْأً } ، أي : أثقل على المصلي من ساعات النهار ، لأن الليل وقت منام وراحة فإذا قام إلى صلاة الليل ، فقد تحمل المشقة العظيمة ، هذا على قراءة كسر الواو ، وفتح الطاء ، وأما على قراءة المد : فهو مصدر « واطَأتْ وِطاءً ومُواطَأةً » ، أي : وافقت على الأمر من الوفاق ، تقول : فلان مواطىء اسمه اسمي ، أي : موافقه ، فالمعنى أشد موافقة بين القلب ، والبصر ، والسمع واللسان لانقطاع الأصوات ، والحركات ، قاله مجاهد وابن مليكة وغيرهما ، قال تعالى : { ليواطؤوا عدَّةَ ما حرم الله } [ التوبة : 37 ] ، أي : ليوافقوا ، وقيل : أشدّ مهاداً للتصرف في التفكر والتدبر .
وقيل : أشد ثباتاً من النهار ، فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله فيكون ذلك أثبت للعمل ، والوطء : الثبات ، تقول : وطئتُ الأرض بقدمي .
وقوله : { وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي : القراءة بالليل أقوم منها بالنهار ، أي : أشد استقامة واستمراراً على الصواب ، لأن الأصوات هادئة ، والدنيا ساكنة ، فلا يضطرب على المصلي ما يقرأه .
وقال قتادة ومجاهد : أصوب للقراءة وأثبت للقول؛ لأنه زمان التفهم .
وقيل : أشد استقامة لفراغ البال بالليل .
وقيل : أعجل إجابة للدعاء ، حكاه ابن شجرة .
وقال عكرمة : عبادة الليل أتم نشاطاً وأتم إخلاصاً ، وأكثر بركة .
قوله : { إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً } .
قرأ العامة : بالحاء المهملة ، وهو مصدر « سَبح » ، وهو استعارة للتصرف في الحوائج من السباحة في الماء ، وهي البعد فيه .
وقال القرطبيُّ : السَّبْحُ « الجري ، والدوران ، ومنه السباحة في الماء لتقلبه بيديه ورجليه ، وفرس سابح » شديد الجري « . قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
4922 - مِسَحٍّ إذَا السَّابحَاتُ عَلى الوَنَى ... أثَرْنَ غُبَاراً بالكَديدِ المُركَّلِ
وقيل : السبح : الفراغ ، أي : إن لك فراغاً للحاجات بالنهار .
وعن ابن عباس وعطاء : » سَبْحاً طَويْلاً « يعني فراغاً طويلاً يعني لنومك ، وراحتك فاجعل ناشئة الليل لعبادتك . وقرأ يحيى بن يعمر ، وعكرمة وابن أبي عبلة : » سَبْخاً « بالخاء المعجمة .
واختلفوا في تفسيرها : فقال الزمخشريُّ : » استعارة من سبخ الصوف ، وهو نفشه ، ونشر أجزائه لانتشار الهمِّ ، وتفريق القلب بالشواغل « .
وقيل : التسبيخ ، التخفيف ، حكى الأصمعيُّ : » سبخ الله عنك الحمى ، أي : خففها عنك « .
قال الشاعر : [ الطويل ]
4923 - فَسَبِّخْ عليْكَ الهَمَّ واعْلَمْ بأنَّهُ ... إذَا قدَّر الرَّحمنُ شَيْئاً فكَائِنُ
أي : خفف ، ومنه » قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشةَ ، وقد دعت على سارق ردائها : « لا تُسبِّخِي بدُعَائكِ عليْهِ » ، أي : لا تخففي إثمه .
وقيل : التسبيخ : المد ، يقال : سبخي قُطنكِ ، أي : مديه ، والسبيخة : قطعة من القطن ، والجمع : سبائخ؛ قال الأخطل يصف صائداً وكلاباً : [ البسيط ]
4924- فَأرْسلُوهُنَّ يُذْرينَ التُّرابَ كمَا ... يُذْرِي سَبائِخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوْتَارِ
وقال أبو الفضل الرازي : « قرأ ابن يعمر وعكرمة : » سَبْخاً « - بالخاء المعجمة - وقالا : معناه نوماً ، أي : ينام بالنهار؛ ليستعين به على قيام الليل ، وقد تحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى ، لكنهما فسراها : فلا تجاوز عنه » .

قال شهاب الدين : « في هذا نظرٌ ، لأنهما غاية ما في الباب انهما نقلا هذه القراءة ، وظهر لهما تفسيرها بما ذكر ، ولا يلزم من ذلك أنه لا يجوز غير ما ذكر من تفسير اللفظة » .
وقال ثعلب : السَّبْخُ - بالخاء المعجمة - التردد والاضطراب ، والسبح : السكون « .
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : » الحُمَّى من فَيْحِ جَهنَّمَ فَسبِّحُوهَا بالمَاء « ، أي فسكِّنُوهَا بالمَاءِ .
وقال أبو عمرو : السَّبْخُ : النوم والفراغ ، فعلى هذا يكون من الأضداد ، ويكون بمعنى السبح بالحاء المهملة .
قوله : { واذكر اسم رَبِّكَ } ، أي : ادعه بأسمائه الحسنى ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة .
وقيل : اقصد بعملك وجه ربِّك .
وقال سهل : اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتِك توصلك بركة قراءتها إلى ربك وتقطعك عما سواه .
وقيل : اذكر اسم ربِّك في وعده ، ووعيده؛ لتتوفّر على طاعته وتعدل عن معصيته .
وقال الكلبي : صلِّ لربِّك ، أي : بالنهار .
قال القرطبيُّ : وهذا حسن ، لأنه لما ذكر الليل ذكر النهار ، إذ هو قسيمه ، وقد قال تعالى : { وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } [ الفرقان : 62 ] .
قوله : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } ، هذا مصدر على غير المصدر ، وهو واقع موقع التبتل ، لأن مصدر » تفعَّل « » تفعُّل « نحو » تصرَّف تصرُّفاً ، وتكرَّم تكرُّماً « ، وأما » التفعيل « فمصدر » فعَّل « نحو » صرَّف تصريفاً؛ كقول الآخر : [ الرجز ]
4925 - وقَدْ تَطَوَّيْتَ انْطواءَ الحِضْبِ ... فأوقع « الانفعال » موقع « التفعل » .
قال الزمخشريُّ : لأنَّ معنى « تبتَّل » بتل نفسه ، فجيء به على معناه مراعاةً لحق الفواصل .
والبَتْلُ : الانقطاع ، ومنه امرأة بتول ، أي : انقطعت من النكاح ، وبتلت الحبل : قطعته .
قال الليثُ : التبتل : تمييز الشيء من الشيء ، وقالوا : طَلْقةٌ بَتْلةٌ ، يعنون انقطاعها عن صاحبها ، فالتبتُّل : ترك النكاح والزهد فيه ، ومنه سمي الراهب متبتلاً لانقطاعه عن النكاح؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
4926 - تُضِيءُ الظَّلامَ بِالعشَاءِ كأنَّها ... مَنارةُ مُمْسَى رَاهبٍ مُتبتِّلِ
ومنه الحديث : أنه نهى عن التبتل ، وقال : « يَا مَعْشَرَ الشَّبابِ ، من اسْتَطَاعَ مِنْكمُ البَاءَةَ فَليتَزوَّجْ » والمراد به في الآية الكريمة : الانقطاع إلى عبادة الله تعالى دون ترك النكاح .
والتبتل في الأصل : الانقطاع عن الناس ، والجماعات ، وقيل : إن أصله عند العرب التفرد . قاله ابن عرفة .
قال ابن العربي : « هذا فيما مضي ، وأما اليوم ، وقد مرجت عهود الناس ، وخفت أماناتهم ، واستولى الحرام على الحطام ، فالعزلة خير من الخلطة ، والعُزبة أفضل من التأهل ، ولكن معنى الآية : وانقطع عن الأوثان ، والأصنام ، وعن عبادة غير الله .
وكذلك قال مجاهد : معناه : أخلص له العبادة ، ولم يرد التبتل ، فصار التبتُّلُ مأموراً به في القرآن ، مَنْهِيّاً عنه في السنَّةِ ، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي فلا يتناقضان ، وإنما بعث ليبينَ للناس ما نزل إليهم ، والتبتل المأمور به : الانقطاع إلى الله بإخلاص كما قال تعالى :

{ وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ البينة : 5 ] ، والتبتل المنهي عنه : سلوك مسلك النصارى في ترك النكاحِ ، والترهب في الصوامع ، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلمِ غنماً يتبع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن « .
قوله : { رَّبُّ المشرق والمغرب } .
قرأ الأخوان وأبو بكر وابن عامرٍ : بجر » ربِّ « على النعت ل » ربِّك « ، أو البدل منه ، أو البيان له .
وقال الزمخشري : وعن ابن عباس : على القسم بإضمار حرف القسمِ ، كقولك : » والله لأفعلنَّ « وجوابه » لا إله إلاَّ هُو « ، كما تقول : » والله لا أحد في الدار سوى زيد « .
قال أبو حيَّان : لعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس ، لأن فيه إضمار الجار ، ولا يجيزه البصريون إلاَّ مع لفظ الجلالةِ المعظمة خاصة ، ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية فإنما تنفى ب » مَا « ، وحدها ، فلا تنفى ب » لا « إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيراً ، أو بماض في معناه قليلاً .
نحو قول الشاعر : [ البسيط ]
4927 - رِدُوا فَواللَّهِ لا زُرْنَاكُمُ أبَداً ... مَا دَامَ في مائنَا وِرْد لِوُرَّادِ
والزمخشري أورد ذلك على سبيل التجويزِ ، والتسليم ، والذي ذكره النحويون هو نفيها ب » مَا «؛ كقوله : [ الطويل ]
4928 - لَعمْرُكَ ما سَعْدٌ بخُلَّةِ آثمٍ ... ولا نَأنَإٍ يَوْمَ الحِفَاظِ ولا حَصِرْ
قال شهاب الدين : » قد أطلق ابن مالك أن الجملة المنفية سواء كانت اسمية ، أم فعليه تنفى ب « ما » ، أو « لا » ، أو « إن » بمعنى : « ما » ، وهذا هو الظاهر « .
وباقي السبعة : ترفعه ، على الابتداء وخبره الجملة من قوله » لا إله إلا الله « ، أو على خبر ابتداء مضمر ، أي : » هُو ربُّ « ، وهذا أحسن لارتباط الكلام بعضه ببعض .
وقرأ زيد بن علي : » ربَّ « بالنصب على المدح .
وقرأ العامة : » المشْرِق والمَغْرِب « موحدين .
وعبد الله وابن عباس : » المشَارِق والمغَارِب « .
ويجوز أن ينصب » ربَّ « في قراءة زيد من وجهين :
أحدهما : أنه بدل من » اسم ربِّك « ، أو بيان له ، أو نعت له ، قاله أبو البقاء ، وهذا يجيء على أن الاسم هو المسمى .
والثاني : أنه منصوب على الاشتغال بفعل مقدر ، أي : فاتخذ ربَّ المشرق فاتخذه ، وما بينهما اعتراض .
والمعنى : أن من علم أنه رب المشارق ، والمغارب انقطع بعمله إليه » واتَّخذهُ وَكِيْلاً « ، أي : قائماً وقيل : كفيلاً بما وعدك .

وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)

قوله : { واصبر على مَا يَقُولُونَ } ، أي : من الأذى ، والسب ، والاستهزاء ، ولا تجزع من قولهم ، ولا تمتنع من دعائهم ، وفوض الأمر إليّ ، فإني إذا كنت وكيلاً لك ، أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بأمور نفسك { واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً } ، الهجر : ترك المخالطةِ ، أي : لا تتعرض لهم ، ولا تشتغل بمكافأتهم فإن ذلك ترك للدعاء إلى الله تعالى ، وكان هذا قبل الأمر بالقتال ، ثم أمر بعد ذلك بقتالهم .
قال قتادة وغيره ، نسختها آية القتال .
وقال أبو الدرداء : إنا لنكشر في وجوه [ أقوام ] ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتلعنهم .
قال ابن الخطيب : وقيل وهو الأصح إنّها محكمة .
قوله : { وَذَرْنِي والمكذبين } . يجوز نصب « المُكذِّبِيْنَ » على المعية ، وهو الظاهر ، ويجوز على النسق وهو أوفق للصناعة .
والمعنى : ارض بي لعقابهم ، نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين .
وقال مقاتل : نزلت في المطعمين يوم بدر ، وهم عشرة تقدم ذكرهم في الأنفال .
وقال يحيى بن سلام : إنهم بنو المغيرة .
وقال سعيد بن جبير : أخبرت أنهم اثنا عشرة رجلاً ، « أولي النعمة » أي : أولي الغنى ، والترفه واللذة في الدنيا { وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } يعني إلى مدة آجالهم ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيراً حتى وقعت وقعة بدر .
وقيل : « ومَهِّلهُمْ قَلِيلاً » مدة الدنيا .
قوله : « أوْلِي النَّعمَةِ » ، نعت للمكذبين . و « النعمة » - بالفتح - : التنعم ، وبالكسر ، الإنعام ، وبالضم : المسرَّةُ ، يقال : نِعْمة ونُعْمة عين .
وقوله : « قَلِيلاً » ، نعت لمصدر ، أي : تمهيلاً ، أو لظرف زمان محذوف ، أي : زماناً قليلاً .
قوله : { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً } ، جمع نكل ، وفيه قولان :
أشهرهما : أنه القيد .
وقيل : الغل؛ وقالت الخنساء : [ المتقارب ] .
4929 - دَعَاكَ فقطَّعْتَ أنْكالَهُ ... وقَدْ كُنَّ مِنْ قَبْلُ لا تُقطَعُ
قال الحسن ومجاهد وغيرهما : الأنكال : القيود ، واحدها : نكل ، وهو ما منع الإنسان من الحركة ، وقيل : سمي نكلاً ، لأنه ينكل به .
قال الشعبي : أترون أن الله جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا - لا والله - ولكنهم إذا أراد أن يرتفعوا اشتعلت بهم .
وقال الكلبيُّ : الأنكال : الأغلال .
وقال مقاتل : الأنكال : أنواع العذاب الشديد .
وقال عليه الصلاة والسلام : « إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ النَّكلَ على النَّكلِ » - قال الجوهريُّ : بالتحريك - قيل : وما النكل؟ قال : « الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب » - ذكره الماورديُّ ، قال : ومن ذلك سمي القَيْدُ نِكلاً لقوته وكذلك الغُلّ وكل عذاب قوي .
قال ابن الأثير : « النَّكَلُ - بالتحريك - من التنكيل ، وهو المنع ، والتنحية عما يريد يقال : رجل نَكَلٌ ونِكْلٌ ، كشبه وشبهٌ ، أي : ينكل به أعداؤه ، وقد نكل الأمر ينكل ، ونكل ينكل : إذا امتنع ، ومنه النكول في اليمين وهو الامتناع منها وترك الإقدام عليها » .

والجحيم : النار المؤجَّجَةُ .
{ وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } . « الغُصَّةُ » : الشجى ، وهو ما ينشب في الحلق فلا ينساغ ، ويقال : « غَصِصتُ » - بالكسر - فأتت غَاصٌّ وغصَّان ، قال : [ الرمل ]
4930 - لَو بِغيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ ... كُنْتُ كالغَصَّانِ بالمَاءِ اعتِصَارِي
والمعنى : طعاماً غير سائغ يأخذ بالحلق ، لا هو نازل ، ولا هو خارج وهو كالغسلين ، والزَّقُّوم والضريع . قاله ابن عباس . وعنه أيضاً : أنه شوك يدخل الحلق فلا ينزل ولا يخرج .
وقال الزجاجُ : أي : طعامهم الضريع ، وهو شوك كالعوسج .
وقال مجاهد : هو كالزقوم .
والغصة : الشجى ، وهو ما ينشب في الحلق من عظم ، أو غيره ، وجمعها : غُصَص ، والغَصَصُ - بالفتح - مصدر قولك « غَصِصْتَ » يا رجل تَغُصُّ ، فأنت غاصٌّ بالطعام وغصَّان وأغْصصتُهُ أنا ، والمنزل غاص بالقوم أي ممتلىء بهم « .
ومعنى الآية : أن لدينا في الآخرة ما يضادّ تنعمهم في الدنيا ، وهذه هي الأمور الأربعة : الأنكال ، والجحيم ، والطعام الذي يغص به ، والعذاب الأليم ، والمراد به : سائرُ أنواع العذابِ .
قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال } . أي : تتحرك ، وفي نصب » يوم « أوجه :
أحدها : أنه منصوب ب » ذرني « ، وفيه بعد .
والثاني : أنه منصوب بنزع الخافض أي : هذه العقوبة في يوم ترجف .
الثالث : أنه منصوب بالاستقرار المتعلق به » لَديْنَا « .
والرابع : أنه صفة ل » عَذاباً « فيتعلق بمحذوف ، أي عذاباً واقعاً يوم ترجف .
الخامس : أنه منصوب ب » ألِيْم « .
والعامة : » تَرجُف « - بفتح التاء ، وضم الجيم - مبنياً للفاعل .
وزيد بن علي : مبنياً للمفعول ، من أرجفها : والرجفة : الزلزلة والزعزعة الشديدة .
قوله : { وَكَانَتِ الجبال } ، أي : وتكون الجبال { كَثِيباً مَّهِيلاً } ، الكثيب : الرمل المجتمع .
قال حسان : [ الوافر ]
4931 - عَرفْتُ دِيَارَ زَينَب بالكَثِيبِ ... كخَطِّ الوحْي في الورَقِ القَشِيبِ
والجمع في القلة : » أكْثِبَةٌ « ، وفي الكثرة : » كثبان « و » كُثُب « ك » رَغيف وأرغِفَة ، ورُغْفَان ورُغُف « .
قال ذو الرمة : [ الطويل ]
4932 - فَقلْتُ لهَا : لا إنَّ أهْلِي لَجيرةٌ ... لأكْثِبَةِ الدَّهْنَا جَمِيعاً ومَالِيَا
قال الزمخشري : من كثبت الشيء إذا جمعته ، ومنه الكثبة من اللبن؛ قالت الضائنة : أجَزُّ جُفالاً ، وأحلبُ كُثَباً عُجَالاً .
[ والمهيل : أصله » مهيول « ك » مضروب « استثقلت الضمة على الياء ] فنقلت إلى الساكن قبلها ، وهو الهاء فالتقى ساكنان ، فاختلف النحاة في العمل في ذلك : فسيبويه ، وأتباعه حذفوا الواو ، وكانت أولى بالحذف ، لأنها زائدة ، وإن كانت القاعدة إنما تحذف لالتقاء الساكنين الأول ، ثم كسروا الهاء لتصح الياء ، ووزنه حينئذ » مفعل « .
والكسائي والفراء والأخفش : حذفوا الياء ، لأن القاعدة في التقاء الساكنين : إذا احتيج إلى حذف أحدهما حذف الأول ، وكان ينبغي على قولهم أن يقال فيه : » مهول « إلا أنهم كسروا الهاء لأجل الياء التي كانت فقلبت الواو ياء ، ووزنه حينئذ » مفعول « على الأصل ، و » مفيل « بعد القلب .

قال مكي : « وقَدْ أجَازوا كلهم أن يأتي على أصله في الكلام ، فتقول : مهيول ومبيوع » ، وما أشبه ذلك من ذوات الياء ، فإن كان من ذوات الواو لم يجز أن يأتي على أصله عند البصريين ، وأجازه الكوفيون ، نحو : مقوول ، ومصووغ .
وأجازوا كلهم : مهول ومبوع ، على لغة من قال : بوع المتاع ، وقول القول ، ويكون الاختلاف في المحذوف منه على ما تقدم .
قال شهاب الدين : « التمام في » مبيوع ، ومهيول « وبابه ، لغة تميم ، والحذف لغة سائر العرب » .
ويقال : هلتُ التراب أهيله هيلاً ، فهو مهيل فيه .
وفيه لغة : أهلتُه - رباعيّاً - إهالةً فهو مُهال ، نحو أبعته إباعة فهو مباع . والمهيل من هال تحته القدم أي انصب أي هلت التراب أي طرحته .
وقال القرطبيُّ : والمَهِيلُ : الذي يمر تحت الأرجل ، قال الضحاك والكلبي : المهيل : الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها ، فإذا أخذت أسفله انهال .
وقال ابن عباس : « مهيلاً » أي : رملاً سائلاً متناثراً .
قال القرطبيُّ : وأصله مَهْيُول ، وهو « مفعُول » من قولك : هلت التراب عليه أهيلة إهالة وهيلاً ، إذا صببته .
يقال : مَهِيل ومَهْيُول ، ومَكِيل ومكيول ، ومَدِين ومديُون ومَعِين ومَعْيُون .
قال الشاعر : [ الكامل ]
4933 - قَدْ كَانَ قَومُكَ يَحسبُونكَ سيِّداً ... وإخَالُ أنَّكَ سيِّدٌ مَعيُونُ
وقال - عليه الصلاة والسلام - حين شكوا إليه الجدوبة : « » أتكِيْلُون أمْ تَهِيْلُون «؟ قالوا : نهيل . قال : » كِيلُوا طَعامَكُم يُبارِكْ لَكُمُ الله فِيْهِ « » .

إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)

واعلم أنه تعالى لما خوف المكذبين أولي النَّعمةِ بأهوال يوم القيامة خوفهم بعد ذلك بأهوال الدنيا ، فقال :
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً } يريد النبي صلى الله عليه وسلم أرسله إلى قريش { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً } وهو موسى - عليه الصلاة والسلام - وهذا تهديد لأهل مكة بالأخذ الوبيل .
قال مقاتل : وإنما ذكر موسى وفرعون دون سائر الرسل لأن أهل « مكة » ازدروا محمداً صلى الله عليه وسلم واستخفوا به؛ لأنه ولد فيهم كما أن فرعون ازدرى بموسى؛ لأنه ربَّاه ، ونشأ فيما بينهم كما قال تعالى : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا } [ الشعراء : 18 ] .
وذكر ابن الخطيب هذا السؤال والجواب وليس بالقوي لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ولد ، ونشأ فيما بين قوم نمرود ، وكان « آزَر » وزير نمرود على ما ذكره المفسرون ، وكذلك القول في نوح وهود وصالح ولوط ، لقوله تعالى في قصة كل واحد منهم لفظة « أخاهم » لأنه من القبيلة التي بعث إليها .
قوله : { فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } ، إنما عرفه لتقدم ذكره ، وهذه « أل » العهدية ، والعرب إذا قدمت اسماً ثم حكت عنه ثانياً ، أتوا به معرفاً ب « أل » ، أو أتوا بضميره لئلا يلتبس بغيره نحو « رأيت رجلاً فأكرمتُ الرجل ، أو فأكرمته » ، ولو قلت : « فأكرمت رجلاً » لتوهم أنه غير الأول وسيأتي تحقيق هذا عند قوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } [ الشرح : 6 ] وقوله - عليه الصلاة والسلام - : « لَنْ يغْلِبَ عسرٌ يُسرين » .
قال المهدوي هنا : ودخلت الألف واللام في « الرسول » لتقدم ذكره ، ولذلك اختير في أول الكتب « سَلامٌ عَليْكُم » ، وفي آخرها « السَّلام عليْكُم » .
قوله : { فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } ، أي : شديداً ، وضرب وبيل ، وعذاب وبيل ، أي : شديد .
قاله ابن عباس ومجاهد ، ومنه : « مطر وابل » ، أي : شديد ، قاله الأخفش .
وقال الزَّجاجُ : أي : ثقيلاً غليظاً ، ومنه قيل للمطر وابل . وقيل : مهلكاً ، قال : [ الكامل ]
4934 - أكَلْتِ بَنِيكِ أكْل الضَّبِّ حتَّى ... وجَدْتِ مرارة الكَلأ الوَبيلِ
واستوبل فلان كذا : أي : لم يحمد عاقبته ، وماء وبيل ، أي : وخيم غير مريء وكلأ مستوبل ، وطعام وبيل ومستوبل إذا لم يُمرأ ولم يستمرأ؛ قال زهير : [ الطويل ]
4935 - فَقضَّوا مَنايَا بَينَهُمْ ثُمَّ أصْدَرُوا ... إلى كَلأٍ مُستوبَلٍ مُتوخمِ
وقالت الخنساء : [ الوافر ]
4936 - لَقَدْ أكَلتْ بجِيلةُ يَوْمَ لاقَتْ ... فَوارِسَ مالِكٍ أكْلاً وبِيلا
والوبيل أيضاً : العصا الضخمة؛ قال : [ الطويل ]
4937 - لَوْ أصْبَحَ فِي يُمْنَى يَديَّ رِقامُهَا ... وفِي كفِّيَ الأخْرَى وبِيلاً نُحَاذِرُهْ
وكذلك : « الوبل » بكسر الباء ، و « الوبل » أيضاً : الحزمة من الحطب وكذلك « الوبيل » .

قال طرفة : [ الطويل ]
4938 - . . ... عَقِيلةُ شَيْخٍ كالوَبِيلِ يَلنْدَدِ
فصل في الاستدلال بالآية على « القياس »
قال ابن الخطيب : هذه الآية يمكن الاستدلال بها على إثبات القياس ، لأن الكلام إنما ينتظم لو قسنا إحدى الصورتين على الأخرى .
فإن قيل هنا : هب أن القياس في هذه الصورة حجة ، فلم قلتم : إنه في سائر الصور حجة ، حينئذ يحتاج إلى سائر القياسات على هذا القياسِ ، فيكون ذلك إثباتاً للقياس بالقياس؟ .
قلنا : لا نثبت سائر القياسات بالقياس على هذه الصورة ، وإلا لزم المحذور الذي ذكرتم بل وجه التمسك أن نقول : لولا أنه تمهد عندهم أن الشيئين اللذين يشتركان في مناط الحكم ظنّاً يجب اشتراكهما في الحكم ، وإلا لما أورد هذا الكلام في هذه الصورة وذلك لأن احتمال الفرق المرجوح قائم هنا ، فإنَّ لقائلٍ أن يقول : لعلهم إنما استوجبوا الأخذ الوبيل بخصوصية حال العصيان في تلك الصورة وتلك الخصوصية غير موجودة - هاهنا - ، ثم إنه تعالى مع قيام هذا الاحتمال جزم بالتسوية في الحكم [ فهذا الجزم لا بد وأن يقال إنه كان مسبوقاً بتقدير أنه متى وقع اشتراك في المناط الظاهر وجزم الاشتراك في الحكم ] ، وإن الفرق المرجوح من أن ذلك المرجوح لخصوص تلك الواقعةِ لا عبرة به لم يكن لهذا الكلام كثير فائدة ، ولا معنى لقولنا القياس حجة إلا لهذا .
فصل في معنى شهادة الرسول عليهم
قال ابن الخطيب : ومعنى كون الرسول شاهداً عليهم من وجهين :
الأول : أنه شاهد عليهم يوم القيامة بكفرهم ، وتكذيبهم .
الثاني : أن المراد بكونه شاهداً كونه مبيناً للحق في الدنيا ومبيناً لبطلان ما هم عليه من الفكر ، لأن الشاهد بشهادته يبين الحق ، ولذلك وصفت بأنها بينة ، ولا يمتنع أن يوصف صلى الله عليه وسلم بذلك من حيث إنه يبين الحق .
قال ابن الخطيب : وهذا بعيد ، لأن الله تعالى قال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] أي : عُدُولاً خياراً ، ويكون الرسول عليكم شهيداً ، فبين أنه شاهد عليهم في المستقبل لأن حمله الشهادة في الآخرة حقيقة ، وحمله على البيان مجاز ، والحقيقة أولى من المجاز .
قوله : { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } .
« يوماً » إما منصوب ب « تَتَّقُونَ » على سبيل المفعول به تجوزاً .
وقال الزمخشري : « يوماً مفعول به ، أي : فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وهَوْلَهُ إن بقيتم على الكفر » .
وناقشه أبو حيان فقال : « وتتقون مضارع » اتقى « و » اتقى « ليس بمعنى » وقى « حتى يفسره به و » اتقى « يتعدى إلى واحد و » وقى « يتعدى إلى اثنين ، قال تعالى : { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } [ الطور : 18 ] ولذلك قدره الزمخشريُّ : تقون أنفسكم لكنه ليس » تتقون « بمعنى » تقون « ، فلا يعدى تعديته » انتهى .

ويجوز أن ينتصب على الظرف ، أي : فكيف لكم بالتقوى يوم القيامة ، إن كفرتم في الدنيا . قاله الزمخشري .
ويجوز أن ينتصب مفعولاً ب « كفرتم » إن جعل « كفَرْتُمْ » بمعنى « جَحدتُمْ » أي : فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة .
ولا يجوز أن ينتصب ظرفاً لأنهم لا يكفرون ذلك اليوم بل يؤمنون لا محالة .
ويجوز أن ينتصب على إسقاط الجار ، أي : كفرتم بيوم القيامة .
فصل في المراد بالآية
قال القرطبيُّ : وهذا تقريع وتوبيخ ، أي : كيف تتقون العذاب إن كفرتم ، وفيه تقديم وتأخير ، أي : كيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم ، وكذا قراءة عبد الله وعطية .
قال الحسن : بأي صلاة تتقون العذاب؟ بأي صوم تتقون العذاب؟ وفيه إضمار ، أي : كيف تتقون عذاب يوم القيامة .
وقال قتادة : والله ما يتقى من كفر ذلك اليوم بشيء ، و « يَوْماً » مفعول ب « تتقون » على هذه القراءة وليس بظرف ، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول « كفرتم » ، وقال بعض المفسرين : وقف التمام على قوله « كَفرْتُمْ » والابتداء « يَوْماً » يذهب إلى أن « اليوم » مفعول « يَجْعَلُ » والفعل لله - عز وجل - كأنه قال : يجعل الله الولدان شيباً في يوم .
قال ابن الأنباري : وهذا لا يصح؛ لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله .
وقال المهدوي : والضمير في « يَجْعلُ » يجوز أن يكون لله - عز وجل - ويجوز أن يكون لليوم ، وإذا كان لليوم ، صلح أن تكون صفة له ، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله - عز وجل - إلا مع تقدير حذف ، كأنه قيل : يوماً يجعل الله الولدان فيه شيباً « .
وقال ابن الأنباري : ومنهم من نصب » اليوم « ب » كَفرْتُمْ « ، وهذا قبيح؛ لأن اليوم إذا علق ب » كفرتم « احتاج إلى صفة ، أي : كفرتم بيوم ، فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف ، وينصب ما بعدها ، احتججنا عليه بقراءة عبد الله : { فَكيْفَ تتَّقُونَ يَوْماً } .
قال القرطبيُّ : » هذه القراءة ليست بمتواترة ، وإنما جاءت على وجه التفسير ، وإذا كان الكفر بمعنى الجحود ف « يوم » مفعول صريح من غير صفة ، ولا حذفها ، أي : فكيف تتقون الله ، وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة ، والجزاء « .
والعامة : على تنوين » يَوْماً « ، وجعل الجملة بعده نعتاً له ، والعائد محذوف ، أي : جعل الولدان فيه . قاله أب البقاء ، ولم يتعرض للفاعل في » يَجْعلُ « ، وهو على هذا ضمير الباري تعالى ، أي : يوماً يجعل الله فيه ، وأحسن من هذا أن يجعل العائد مضمراً في » يَجْعَلُ « هو فاعله ، وتكون نسبة الجعل إلى اليوم من باب المبالغة ، أي : نفس اليوم يجعل الولدان شيباً .

وقرأ زيد بن علي : « يَوْمَ يَجْعَلُ » بإضافة الظرف للجملة ، والفاعل على هذا هو ضمير الباري - تعالى - والجعل - هنا - بمعنى التصيير ، ف « شيباً » مفعول ثان .
وقرأ أبو السمال : « فكيف تتَّقُون » بكسر النون على الإضافة .
والولدان : الصبيان .
وقال السديُّ : هم أولاد الزنا .
وقيل : أولاد المشركين ، والعموم أصح أي يوم يشيب فيه الصغير من غير كبر ، وذلك حين يقال لآدم : يا آدَمُ قَمْ فابْعَثْ بعثاً للنارِ . قال القشيريُّ : هم أهل الجنة ، يُغيِّرُ اللَّهُ أحوالهم ، وأوصافهم على ما يريد .
وقيل : هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم ، وهو مجاز لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ، لكن معناه : أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة ، ويقال : هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعقِ . والله أعلم .
و « شيباً » : جمع « أشْيَب » ، وأصل الشين الضم فكسرت لتصح الياء ، نحو : أحْمَر حُمْرٌ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
4939 - مِنَّا الذِي هُوَ مَا إنْ طَرَّ شَارِبُهُ ... والعَانِسُونَ ومنَّا المُرْدُ والشِّيبُ
وقال آخر : [ الطويل ]
4940 - .. لَعِبْنَ بِنَا شِيباً ، وشَيَّبْنَنَا مُرْدَا
قال الزمخشريُّ : وفي بعض الكتب أن رجلاً أمسى فاحم الشعر كحنكِ الغراب ، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة ، فقال : رأيت القيامة والجنة والنار في المنام ، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار ، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون .
ويجوز أن يوصف اليوم بالطول فإن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب .
قال ابن الخطيب : إن الله تعالى ذكر من هول ذلك اليوم أمرين :
الأول : جعل الولدان شيباً وفيه وجهان :
الأول : أنه مثلٌ في الشدة ، يقال في اليوم الشديد : يوم يشيِّبُ نواصي الأطفال ، والأصل فيه أن الهموم ، والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان ، أسرع فيه الشيبُ لأن كثرة الهموم؛ توجب انكسار الروح إلى داخل القلب ، وذلك الانكسار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية ، وضعفها يوجب بقاء الأجزاء الغذائية غير تامة النضج ، وذلك يوجب استيلاء البلغم على الأخلاط ، وذلك يوجب ابيضاض الشعر ، فلما رأوا أن حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم جعلوا الشيب كناية عن الشدة والهموم ، وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الولدان شيباً حقيقة لأن إيصال الألم أو الخوف إلى الأطفال غير جائز يوم القيامة .
الثاني : ما تقدم من طول اليوم وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة ، والشيب .
قوله : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } . صفة أخرى ، أي : متشققة بسبب هوله وشدته ، فتكون الباء سببية ، وجوز الزمخشريُّ أن تكون للاستعانة ، فإنه قال : والباء في « به » مثلها في قولك : « فطرت العود بالقدُومِ فانفَطرَ بِهِ » .

وقال القرطبيُّ : ومعنى « به » ، أي : فيه ، أي : في ذلك اليوم لهوله ، هذا أحسن ما قيل فيه ، ويقال : مثقلة به إثقالاً يؤدي إلى انفطارها لعظمته عليها ، وخشيته من وقوعها ، كقوله تعالى : { ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض } [ الأعراف : 187 ] ، وقيل : « به »؛ أي : له ، أي : لذلك اليوم ، يقال : فعلت كذا بحرمتك ، أو لحرمتك ، والباء واللام وفي متقاربه في مثل هذا الموضع ، قال الله تعالى : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة } [ الأنبياء : 47 ] ، أي : في يوم القيامة ، وقيل : « به » أي بالأمر ، أي : السماء منفطر بما يجعل الولدان شيباً .
وقيل : السَّماءُ منفطر بالله ، أي : بأمره . وإنما لم تؤنث الصفة لوجوه منها :
قال أبو عمرو بن العلاء : لأنها بمعنى السقفِ تقول : هذا سماء البيت ، قال تعالى : { وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [ الأنبياء : 32 ] .
ومنها : أنها على النسب ، أي : ذات انفطار ، نحو : امرأة مرضع وحائض ، أي : ذات إرضاع ، وذات حيض .
ومنها أنها تذكر ، وتؤنث؛ أنشد الفراء : [ الوافر ]
4941 - فَلوْ رَفَعَ السَماءُ إليْه قَوماً ... لخُضْنَا بالسَّماءِ وبالسَّحَابِ
ومنها : اسم الجنس ، يفرق بينه وبين واحده بالتاء ، فيقال : سماة ، وقد تقدم أن اسم الجنس يذكر ويؤنث .
ولهذا قال أبو علي الفارسي : هو كقوله : { جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } [ القمر : 7 ] و { الشجر الأخضر } [ يس : 80 ] و { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] يعني : فجاء على أحد الجائزين .
وقيل : لأن تأنيثها ليس بحقيقي ، وما كان كذلك جاز تذكيره وتأنيثه؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
4942 - . ... والعَيْنُ بالإثْمِدِ الحَارِيِّ مَكحُولُ
قوله : { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } ، يجوز أن يكون الضميرُ لله تعالى ، وإن لم يجر له ذكر للعلم به ، فيكون المصدر مضافاً لفاعله ، ويجوز أن يكون لليوم ، فيكون مضافاً لمفعوله والفاعل وهو « اللَّهُ » مقدر .
فصل في المراد بالوعد
قال المفسرون : كان وعده بالقيامة والحساب والجزاء مفعولاً كائناً لا محالة ولا شك فيه ولا خلاف ، وقال مقاتل : كان وعده بأن يظهره دينه على الدين كله .
قوله : { إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ } ، أي : هذه السورة والآيات عظة ، وقيل : آيات القرآن إذ هو كالسورة الواحدة { فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } ؛ لأن هذه الآيات مشتملة على أنواع الهداية ، والإرشاد ، فمن شاء أن يؤمن ، ويتخذ بذلك إلى ربِّه سبيلاً ، أي : طريقاً إلى رضاه ، ورحمته فليرغب ، فقد أمكن له؛ لأنه أظهر له الحجج ، والدلائل .
قيل : نسخت بآية السيف ، وكذلك قوله تعالى : { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } .
قال الكلبيُّ : والأشبه أنه غير منسوخٍ .

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

قوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل } .
العامة : على ضم « اللام » من « ثلثي » وهو الأصل ، كالربع والسدس .
وقرأ هشام : بإسكانها تخفيفاً .
قوله : { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } ، قرأ الكوفيون وابن كثير : بنصبهما ، والباقون ، بجرهما .
وفي الجر إشكال يأتي إن شاء الله تعالى .
فالنصبُ : نسق على « أدْنَى »؛ لأنه بمعنى وقت أدنى ، أي : أقرب ، استعير الدنو لقرب المسافة في الزمان ، وهذا مطابق لما في أول السورة من التقسيم ، وذلك أنه إذا قام أدنى من ثلثي الليل ، فقد صدق عليه أنه قام الليل إلا قليلاً ، لأن الزمان لم يقم فيه ، فيكون الثلث ، وشيئاً من الثلثين ، فيصدق عليه قوله : « إلاَّ قَلِيلاً » .
وأما قوله : « ونصفهُ » فهو مطابق لقوله : « ولا نِصْفهُ » ، وأما قوله : « وثُلثهُ » فإنَّ قوله : { أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً } قد ينتهى النقص في القليل إلى أن يكون الوقت ثلثي الليل ، وأما قوله : { أَو زِدْ عَلَيْهِ } فإنَّه إذا زاد على النصف قليلاً كان الوقت أقل من الثلثين . فيكون قد طابق أدنى من ثلثي الليل ، ويكون قوله تعالى : { نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً } شرطاً لمبهم ما دل عليه قوله : { قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً } ، وعلى قراءة النصب : فسر الحسن « تحصُوهُ » بمعنى تطيقوه ، وأما قراءة الجر : فمعناها أنه قيام مختلف مرة أدنى من الثلثين ، ومرة أدنى من الثلث وذلك لتعذر معرفة البشر بمقدار الزمان مع عذر النوم ، وقد أوضح هذا كله الزمخشري ، فقال : وقرىء : « نصفه وثلثه » بالنصب ، على أنك تقوم أقل من الثلثين ، وتقوم النصف والثلث ، وهو مطابق لما مر فيه أول السورة في التخيير بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص وهو الثلث ، وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين .
وقرىء بالجر أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف والثلث ، وهو مطابق للتخيير بين النصف ، وهو أدنى من الثلثين ، والثلث ، وهو أدنى من النصف ، والربع وهو أدنى من الثلث ، وهو الوجه الأخير ، انتهى .
يعني بالوجه الأخير ما قدمه أول السورة من التأويلات . وقال أبو عبد الله الفارسي : وفي قراءة النصب إشكال إلا أن يقدر نصفه تارة ، وثلثه تارة ، وأقل من النصف ، والثلث تارة ، فيصح المعنى .
فصل في بيان أن هذه الآية تفسير للقيام في أول السورة
قال القرطبي : هذه الآية تفسير لقوله تعالى : { إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً } أو زد عليه - كما تقدم - وهي الناسخة لفريضة قيام الليل كما تقدم ، ومعنى قوله تعالى : « تَقُومُ » أي : تصلي ، و « أدْنَى » ، أي : أقل .

وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام : « ثلثي » بإسكان اللام ، و « نصفه وثلثه » بالخفض : قراءة العامة - كما تقدم - ، عطفاً على « ثلثي » والمعنى : تقوم أدنى من ثلثي الليل ، ومن نصفه ، وثلثه ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، لقوله تعالى : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } فكيف تقيمون نصفه أو ثلثيه ، وهو لا تحصونه؟! وأما قراءة النصف عطفاً على « أدنى » ، والتقدير : تقوم أدنى من ثلثيه وتقوم نصفه وثلثه . قال الفراءُ : وهو أشبه بالصوابِ؛ لأنه قال : أقلّ من الثلثين ، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة .
قال القشيريُّ : وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف لخفة القيام عليهم بذلك القدر ، وكانوا يزيدون ، وفي الزيادة إصابة المقصود ، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه ، وينقصون منه ، ويحتمل أنهم أمروا بالقيام نصف الليل ، ورخص لهم في الزيادة والنقصان ، وكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين ، وفي النصف إلى قريب من الثلث ، ويحتمل أنَّهُم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث ، والزيادة إلى الثلثين ، وكان فيهم من يفي بذلك ، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم ، وقيل : إنَّما فرض عليهم الربع ، وكانوا ينقصون من الربع .
قال القرطبيُّ : « وهَذَا تَحكُّمٌ » .
قوله : { وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ } . رفع بالعطف على الضمير في « تقُومُ » ، وجوز ذلك الفصل بالظرف ، وما عطف عليه .
قوله : { والله يُقَدِّرُ الليل } .
قال الزمخشريُّ : « تقديم اسم الله - عز وجل - مبتدأ مبنياً عليه » يقدر « هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير » .
ونازعه أبو حيَّان في ذلك ، وقال : « لو قيل : زيدٌ يحفظ القرآن ، لم يدل ذلك على اختصاصه » .
وقيل : الاختصاص في الآية مفهوم من السياق ، والمعنى : ليعلم مقادير الليل ، والنهار على حقائقها ، وأنتم تعلمون بالتحري ، والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ .
قوله : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } ، « أنْ لَنْ » و « أنْ سَيكُون » كلاهما مخففة من الثقيلة والفاصل للنفي ، وحرف التنفيس .
والمعنى : علم أن لن تطيقُوا معرفة حقائق ذلك ، والقيام به ، أي : أن الله هو الذي يعلم مقادير الليل والنهار على حقيقته .
وقيل : المعنى : لن تطيقوا قيام الليل ، والأصح الأول ، لأن قيام الليل ما فرض كله قط .
قال مقاتل وغيره : لما نزل { قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } [ المزمل : 2-4 ] شق ذلك عليهم ، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل ، من ثلثه ، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطىء ، وانتفخت أقدامهم ، وانتقعت ألوانهم ، فخفف الله عليهم ، وقال : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } ، أي : علم أنكم إن زدتم ثقل عليكم ، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضاً ، وإن نقصتم شق معرفة ذلك عليكم .

قوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ، أي : فعاد عليكم بالعفو ، وهذا يدل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به .
وقيل : « فتَابَ علَيْكمْ » من فرض القيام أو عن عجزكم ، وأصل التوبة الرجوع - كما تقدم - فالمعنى : رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف ، ومن عسر إلى إيسار ، وإنما أمروا بحفظ الأوقات بالتحري ، فخفف عنهم ذلك التحري .
وقيل : معنى قوله : { والله يُقَدِّرُ الليل والنهار } ، أي : يخلقهما مقدرين ، كقوله تعالى : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ الفرقان : 2 ] .
قال ابنُ العربي : تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف التكليف . قوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } .
قيل : المراد نفس القراءةِ ، أي : فاقرأوا فيما تصلون به بالليل ما خف عليكم .
قال السديُّ : مائة آية .
وقال الحسنُ : من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن .
وقال كعبٌ : من قرأ في ليلةٍ مائة آيةٍ كتب من القانتين .
وقال سعيد بن جبير : خمسون آية .
قال القرطبي : قول كعب أصح ، « لقوله - عليه الصلاة والسلام- : » مَنْ قَامَ بِعشْرِ آيَاتٍ لمْ يُكتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ ، ومَنْ قَامَ بِمائَةِ آيةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتيْنَ ، ومَنْ قَامَ بألفِ آيةٍ كُتِبَ من المُقنطرينَ « خرجه أبو داود الطيالسي .
وروى أنس بن مالك قال : » سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مَنْ قَرَأ خَمْسينَ آيةً فِي يَومٍ أوْ فِي ليْلةٍ لَمْ يُكتَبْ مَنَ الغَافليْنَ ، ومَنْ قَرَأ مِائةَ آيةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتينَ ، ومَنْ قَرَأ مائَتَي آيةٍ لَمْ يُحَاجِّهِ القرآنُ إلى يَوْمِ القيامة ، ومن قرأ خَمْسمائةِ آيةٍ كُتِبَ لَهُ قِنطارٌ مِنَ الأجْرِ » .
فقوله : « مَنَ المقُنَطرِيْنَ » ، أي : أعطي قنطاراً من الأجر .
وجاء في الحديث : « أن القنطار : ألف ومائتا أوقية ، والأوقية خير مما بين السماء والأرض » .
وقال أبو عبيدة : القناطيرُ ، واحدها قنطار ، ولا تجد العرب تعرف وزنه ، ولا واحد للقنطار من لفظه .
وقال ثعلب : المعمول عليه عند العربِ أنه أربعة آلافِ دينارٍ ، فإذا قالوا : قناطير مقنطرة فهي اثنا عشر ألف دينار .
وقيل : إن القنطار : ملء جلد ثور ذهباً .
وقيل : ثمانون ألفاً .
وقيل : هي جملة كثيرة مجهولة من المال ، نقله ابن الأثير .
وقيل : المعنى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } ، أي : فصلوا ما تيسر عليكم ، والصلاة تسمى قرآناً ، قال تعالى : { وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } [ الإسراء : 78 ] ، أي : صلاة الفجر .
قال ابن العربي : « والأول أصح ، لأنه أخبر عن الصلاة وإليها يرجع القول » .
قال القرطبيُّ : « الأول أصح حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ ، والقول الثاني مجاز لأنه من تسمية الشيءِ ببعض ما هو من أعماله » .
فصل في بيان أن الآية ناسخة
قال بعض العلماءِ : قوله تعالى { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } نسخ قيام الليل ونصفه ، والنقصان من النصف ، والزيادة عليه ، ثم يحتمل قول الله - عز وجل - { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } معنيين :
أحدهما : أن يكون فرضاً ثانياً لأنه أزيل به فرض غيره .

والآخر : أن يكون فرضاً منسوخاً أزيل بغيره كما أزيل به غيره ، وذلك بقول الله - تعالى - : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] ، فاحتمل قوله تعالى : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] أي : تتهجد بغير الذي فرض عليك مما تيسر منه .
قال الشافعيُّ : فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين فوجدنا سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس .
فصل في أن النسخ هنا خاص بالأمة
قال القشيريُّ : والمشهورُ أنَّ نسخ قيامِ الليل كان في حق الأمةِ ، وبقيت الفريضةُ في حق النبي صلى الله عليه وسلم .
وقيل : إنما النسخ : التقدير بمقدار ، وبقي أصل الوجوب كقوله تعالى : { فَمَا استيسر مِنَ الهدي } [ البقرة : 196 ] ، فالهدي لا بد منه ، كذلك لا بد من الصلاة في الليل ولكن فوض تقديره إلى اختيار المصلي ، وعلىهذا فقال قوم : فرض قيام الليل بالقليل باق ، وهو مذهب الحسنِ .
قال الشافعيُّ : بل نسخ بالكلية ، فلا تجب صلاة الليل أصلاً ، ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صلى الله عليه وسلم هي هذه ، وهو قيامه ، ومقداره مفوض إلى خيرته ، وإذا ثبت أن القيام ليس فرضاً ، فقوله تعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } ، معناه : اقرأوا إن تيسر عليكم ذلك وصلوا إن شئتم .
وقال قوم : إنَّ النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه ، وقوله : { نَافِلَةً لَكَ } محمول على حقيقة النفل ، ومن قال : نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل لم ينسخ ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة كقوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل } [ الإسراء : 78 ] الآية ، وقوله تعالى : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ } [ الروم : 17 ] الآية ، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع .
وقيل : وقع النسخ بقوله تعالى : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة كما أن فرضية الصلاة ، وإن خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { ياأيها المزمل قُمِ الليل } [ المزمل : 1-2 ] فهي عامة له ولغيره .
وقد قيل : إن فريضة قيام الليل امتدت إلى ما بعد الهجرةِ ، ونسخت بالمدينة لقوله تعالى : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله } ، وإنما فرض القتال بالمدينة ، فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة ، فقيام الليل نسخ بقوله : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] .
وقال ابن عباس : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نسخ قول الله - عز وجل - : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ } ، وجوب قيام الليل
فصل في علة تخفيف قيام الليل
قوله : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى } بيَّن سبحانه علة تخفيف قيام الليل ، فإن الخلق منهم المريض ، ويشق عليه قيام الليل ، ويشق عليه أن تفوته الصلاة ، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل ، والمجاهد كذلك ، فخفَّف الله عن الكل لأجل هؤلاء .

وقال ابن الخطيب : لمَّا علم الله تعالى أعذار هؤلاء ، يعني المريض ، والمسافر ، والمجاهد ، فلو لم يناموا بالليل لتوالت عليهم أسباب المشقة ، وهذا السبب ما كان موجوداً في حق النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً } [ المزمل : 7 ] فلا جرم لم ينسخ وجوب التهجد في حقه عليه الصلاة والسلام .
و « أن » في قوله : « أنْ سيَكونُ » مخففة من الثقيلة ، أي : علم أنه سيكون .
قوله : « وآخَرُونَ » عطف على « مَرْضَى » ، أي : علم أن سيوجد منكم قوم مرضى ، وقوم آخرون مسافرون ، ف « يَضْربُونَ » نعت ل « آخَرُونَ » وكذلك « يَبْتَغُونَ » ، ويجوز أن يكون « يبتغون » حالاً من فاعل « يَضْرِبُونَ » ، و « آخَرُونَ » عطف على « آخَرُونَ » و « يُقَاتلُونَ » صفته .
فصل في بيان أن الكسب الحلال كالجهاد
سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين ، والملتمسين للمال الحلال للنفقة على نفسه ، وعياله ، والإحسان ، فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنّ جمعه من الجهاد في سبيل الله .
قال - عليه الصلاة والسلام - : « » مَا مِنْ جَالبٍ يَجلبُ طَعاماً مِنْ بَلدٍ إلى بَلدٍ ، فيَبيعُهُ بِسْعرٍ يَومِهِ إلاَّ كانتْ مَنزِلتُهُ عنْدَ اللَّهِ تعالى مَنْزلةَ الشُّهداءِ « ثُمَّ قَرَأ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله } » .
وقال ابن مسعود : أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً ، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء ، وقرأ : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله } .
وقال ابن عمر : ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إليَّ من الموت بين شعبتي رحْلي ، أبتغي من فضل الله ، ضارباً في الأرض .
وقال طاووس : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله .
قوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } ، أي : صلُّوا ما أمكن فأوجب الله تعالى من صلاة الليل ، ما تيسَّر ، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم .
وقال عبد الله بن عمرو : « قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يَا عَبْدَ اللَّه ، لا تكُنْ مِثْلَ فُلانِ كَانَ يقُومُ اللَّيْلَ ، فتركَ قِيامَ اللَّيْلِ «

، ولو كان فرضاً ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه ، بل كان يذمه غاية الذم .
فصل في القدر الذي يقرأ به في صلاته
إذا ثبت أنَّ قيام الليل ليس بفرض ، وأن قوله { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } ، { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة ، فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة .
فقال مالك والشافعيُّ : فاتحة الكتاب لا يجوز العدول عنها ولا الاقتصار على بعضها ، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة من أي القرآن كانت ، وعنه ثلاث آياتٍ لأنها أقل سورة ، وقيل المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة .
قال الماورديُّ : فعلى هذا القول يكون مطلق الأمر محمولاً على الوجوب ليقف بقراءته على إعجازه وما فيه من دلائل التوحيد ، وبعث الرسل ، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ، ودلائل التوحيد أن يحفظه؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة والأكثرون على أنه للاستحباب ، لأنه لو وجب علينا قراءته لوجب حفظه . وفي قدر الواجب أقوال :
الأول : قال الضحاكُ : جميع القرآن ، لأن الله تعالى يسره على عباده .
الثاني : قال جويبر : ثلث القرآن .
الثالث : قال السديُّ : مائتا آية .
الرابع : قال ابن عباسٍ : مائة آية .
الخامس : قال أبو خالد الكناني : ثلاث آياتٍ كأقصر سورة .
قوله { وَأَقِيمُواْ الصلاة } ، يعني الخمس المفروضة ، وهي الخمس لوقتها ، { وَآتُواْ الزكاة } الواجبة في أموالكم .
قاله عكرمة وقتادة ، وقال الحارث العكلي : صدقة الفطر ، لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك ، وقيل : صدقة التطوع .
وقيل : كل فعل خير .
وقال ابن عباسٍ : طاعة الله الإخلاص .
قوله : { وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً } . القرض الحسن ما أريد به وجه الله تعالى خالصاً من المال الطيب وقال زيد بن أسلم : القرض الحسن ، النفقة على الأهل ، وقيل : صلةُ الرَّحمِ ، وقرى الضيف ، وقال عمر بن الخطاب : هو النفقة في سبيل الله .
قوله : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله } تقدم بيانه في سورة « البقرة » .
قوله : { هُوَ خَيْراً } ، العامة على نصب الخير مفعولاً ثانياً ، و « هُوَ » إما تأكيد للمفعول الأول ، أو فصل .
وجوَّز أبو البقاء : أن يكون بدلاً ، وهو غلط ، لأنه كان يلزم أن يطابق ما قبله في الإعراب فيقال : إياه .
وقرأ أبو السمال وابن السميقع : « خير » على أن يكون « هو » مبتدأ ، و « خير » خبره ، والجملة مفعول ثان ل « تَجِدُوه » .
قال أبو زيد : هي لغة تميم ، يرفعون ما بعد الفصل .
وأنشد سيبويه : [ الطويل ]
4943 - تَحِنُّ إلى لَيْلَى وأنْتَ تَرَكْتَها ... وكُنْتَ عَليْهَا بالمَلا أنْتَ أقْدَرُ
والقَوَافِي مرفوعةٌ ، ويروى : « أقدرا » بالنصب .

[ وقال الزمخشريُّ : وهو فصل ] ، وجاز ، وإن لم يقع بين معرفتين ، لأن « أفعل من » أشبه في امتناعه من حرف التعريف ، المعرفة .
قال شهاب الدين : « هذا هو المشهورُ ، وبعضهم يجوزه في غير أفعل من النكرات » .
وقال القرطبي : « ونصب » خيراً ، وأعظم « على المفعول الثاني : ل » تَجِدُوهُ « و » هُوَ « فصل عند البصريين ، وعماد عند الكوفيين ، لا محلَّ له من الإعراب ، و » أجْراً « تمييز » .
فصل في معنى الآية
المعنى : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً } من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت . قاله ابن عباس .
وقال الزجاجُ : { خير لكم من متاع الدنيا } .
قوله : { وَأَعْظَمَ أَجْراً } ، قال أبو هريرة : يعني الجنَّة ، ويحتمل أن يكون « أعظم أجْراً » لإعطائه بالحسنة عشراً { واستغفروا الله } أي سلوه المغفرة لذنوبكم { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لما كان عل التوبة رحيم لكم بعدها ، قاله سعيد بن جبير وقيل : غفور لمن لم يصرّ على الذنوب .
وقال مقاتل : غفور لجميع الذنوب لأن قوله « غَفُورٌ » يتناول التائب والمصر ، بدليل أنه يصح استثناء كل واحد منهما وحده ، والاستثناء حكمه إخراج ما لولاه لدخل .
وأيضاً : غفران التائب واجب عند الخصم فلا يحصل المدح بأداء الواجبِ ، والغرض من الآية تقرير المدح فوجب حمله على الكل تحقيقاً للمدح .
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُوْرَةَ يا أيُّهَا المُزَّمِّل رُفِعَ عنهُ العُسْرُ في الدُّنيَا والآخِرَةِ » ، والله أعلم .

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)

قوله تعالى : { ياأيها المدثر } ؛ يا أيها الذي قد دثر ثيابه ، أي : تغشى بها ونام .
وقرأ العامة : بتشديد الدال وكسر الثاء ، اسم فاعل من « تدثَّر » وأصله : المتدثر فأدغم ك « المزمّل » . وفي حرف أبي : « المتدثر » على الأصل المشار إليه .
وقرأ عكرمة : بتخفيف الدال ، اسم فاعل من « دثّر » - بالتشديد - ويكون المفعول محذوفاً أي : المدثر نفسه ، كما تقدم .
وعنه أيضاً : فتح الثاء .
ومعنى « تَدثَّر » لبس الدِّثَار ، وهو الثوب الذي فوق الشِّعار ، « والشِّعَار » : ما يلي الحسد ، وفي الحديث : « الأنْصَارُ شِعَارٌ والنَّاسُ دِثَارٌ » .
و « سيف دَاثِر » : بعيد العَهْد الصِّقال .
ومنه قيل للمنزل الدارس : داثر لذهاب أعلامه وفلان داثرُ المال ، أي : حسن القيام به .
قوله : « قُمْ » إما أن يكون من القيام المعهود ، فيكون المعنى : قم من مضجعك ، وإما من « قام » بمعنى الأخذ في القيام ، كقوله : [ الطويل ]
4944 - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسيْفِهِ .. . .
وقوله : [ الوافر ]
4945 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمُ ..
في أحد القولين ، فيكون المعنى : قيام عزم وتصميم ، والقول الآخر : أن « قام » مزيدة ، وفي جعلها بمعنى الأخذ في القيام نظر؛ لأنه حينئذ يصير من أخوات « عَسَى » فلا بد له من خبر يكون فعلاً مضارعاً مجرداً .
قوله : { فَأَنذِرْ } ، مفعوله محذوف ، أي : أنذر قومك عذاب الله ، والأحسن أن لا يقدر له ، أي : أوقع الإنذار .
فصل في معنى الآية
المعنى : يا أيها الذي قد دُثِّر ثيابه ، أي : تغشى بها ونام .
وقيل : ليس المراد التدثر بالثوب ، فإن قلنا التدثر ، ففيه وجوه :
أحدها : أن هذا من أوائل ما نزل من القرآن .
روى جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كُنْتُ عَلى جَبلِ حِراءَ ، فنُودِيتُ يا مُحَمَّدُ ، إنَّكَ لرَسُولٌ ، فنَظرْتُ عَنْ يَمِينِي ، ويسَارِي ، فَلمْ أرَ أحَداً فنَظرْتُ فَوْقِي فَرأيتُ المَلكَ الذي جَاءَنِي بحِراءَ جَالِساً عَلى كُرسِي بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ ، فَخِفْتُ فَرجَعْتُ إلى خَدِيْجَةَ ، فقلتُ : دَثِّرُوني ، وصبُّوا عليَّ ماءاً بارداً » ، فأنزلَ اللَّهُ تعالى : { ياأيها المدثر } .
وثانيها : أن أبا جهل ، وأبا لهب ، وأبا سفيان ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وأميَّة بن خلف ، والعاص بن وائل والمطعم بن عدي ، اجتمعوا وقالوا : إنَّ وفود العرب مجتمعون في أيام الحج ، وهم يسألون عن أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم وقد اختلفتم في الإخبار عنه ، فمن قائل هو مجنون . وقائل : كاهن . وقائل : ساحر ، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد ، فيستدلون باختلاف الأجوبة على أنها أجوبة باطلة ، فسمُّوا محمداً باسم واحد يجتمعون عليه ، وتسميه العرب به فقدم رجل منهم فقال : إنه شاعر ، فقال الوليد : سمعت كلام عبيدة بن الأبرص [ وكلام أمية بن أبي الصلت ، وكلامه ما يشبه كلامهما ، فقالوا : كاهن : فقال : ] الكاهن يصدق ويكذب ، وما كذب محمد صلى الله عليه وسلم قط ، فقال آخر : إنه مجنون ، فقال الوليد : الجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط ، ثم قام الوليد فانصرف إلى بيته ، فقال الناس : صبأ الوليد بن المغيرة ، فدخل عليه أبو جهل فقال : ما لك يا أبا عبد شمس ، هذه قريش تجمع لك شيئاً يعطونكه ، زعموا أنك قد احتجت وصبأت ، فقال الوليد : ما لي إليه حاجة ، ولكني فكرت في محمد ، فقلت : إنه ساحر لأن الساحر هو الذي يفرق بين الأب وابنه ، وبين الأخ وأخيه ، وبين المرأة وزوجها ، فشاع ذلك في الناس ، فصاحوا يقولون : محمد ساحر والناس مجتمعون ، فوقعت الصيحةُ في الناس فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اشتد عليه ورجع إلى بيته محزوناً ، فتدثر بقطيفة فأنزل الله تعالى : { ياأيها المدثر } .

وثالثها : أنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً ، متدثراً بثيابه ، فجاءه جبريل - عليه السلام - وأيقظه - عليه الصلاة والسلام - ، وقال : { ياأيها المدثر قُمْ فَأَنْذِرْ } كأنه قال : اترك التدثر بالثياب ، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله تعالى له .
وإن قلنا : ليس المراد منه التدثر بالثياب ففيه وجوه :
الأول : قال عكرمة : يا أيها المدثر بالنبوة ، والرسالة انْقُلْها ، من قولهم : ألبسه اللَّهُ لباس التقوى وزيَّنَهُ برداء العلم .
قال ابن العربي : « وهذا مجاز بعيد ، لأنه لم يكن تنبأ بعد ، وإن قلنا : إنها أول القرآن لم يكن نبياً بعد إلا إن قلنا : إنها ثاني ما نزل » .
الثاني : أن المدثر بالثوب يكون كالمتخفي فيه ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان في جبل حراء كالمتخفي من النَّاس ، فكأنه قال : يا أيها المدثِّر بدثار الاختفاء قم بهذا الأبر واخرج من زاوية الخمول ، واشتغل بإنذار الخلق ، والدعوة إلى معرفة الحقِّ .
الثالث : أنه تعالى جعله رحمة للعالمين ، فكأنه قيل له : يا أيها المدثِّر بأثواب العلم العظيم ، والخلق الكريم ، والرحمة الكاملة : « قُمْ فأنْذِرْ » عذاب ربّك .
فصل في لطف الخطاب في الآية
قوله تعالى : { ياأيها المدثر } ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله وعبر عنه بصفته ، ولم يقل : يا محمدُ ، كما تقدم في المزمل .
فصل في معنى « فأنذر »
ومعنى قوله تعالى : { فَأَنذِرْ } ، أي : خوِّف أهل مكة ، وحذرهم العذاب إن لم يسلموا .
وقيل : الإنذار هنا : إعلامهم بنوته - عليه السلام - لأنها مقدمة الرسالة .
وقيل : هو دعاؤهم إلى التوحيد لأنه المقصود .
وقال الفراء : قم فصلِّ ومر بالصلاة .
قوله : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } ، قدم المفعول ، وكذا ما بعد ، إيذاناً بالاختصاص عند من يرى ذلك ، أو للاهتمام به .

قال الزمخشري : « واختص ربَّك بالتكبير » .
ثم قال : « ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل : ومهما تكن فلا تدع تكبيره » وقد تقدم الكلام في مثل هذه الفاء في البقرة عند قوله تعالى : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] .
قال أبو حيان : « وهو قريب مما قدره النحاة في قولك : » زيداً فاضرب « ، قالوا : تقديره : » تنبَّهْ فاضرب زيداً « فالفاء هي جواب الأمر ، وهذا الأمر إما مضمن معنى الشرط ، وإما الشرط محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة » .
قال أبو الفتح الموصلي : يقال : « زيداً اضرب ، وعمراً اشكر » وعنده أن الفاء زائدة .
وقال الزجاج : ودخلت الفاء لإفادة معنى الجزائية ، والمعنى : قم فكبِّر ربَّك ، وكذلك ما بعده .
فصل في معنى الآية
معنى قوله : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } ، أي سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظمه ، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة ، أو ولد ، وفي الحديث : أنهم قالوا : بم تفتتح الصلاة؟ فنزلت : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } . أي : صفه بأنه أكبر .
قال ابن العربي : وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة فإنه مراد به تكبيره بالتقديس ، والتنزيه بخلع الأنداد ، والأصنام دونه ، ولا تتخذ ولياً غيره ، ولا تعبد سواه ، وروي « أن أبا سفيان قال يوم أحد : » أعْلُ هُبَل « ، فقال : صلى الله عليه وسلم » قُولُواْ اللَّهُ أعْلَى وأجَلُّ « ، وقد صار هذا القول بعرف الشرع في تكثير العبادات كلها أذاناً ، وصلاة بقوله » اللَّهُ أكبرُ « وحمل عليه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الوارد على الإطلاق في موارد منها قوله : » تَحْريمُهَا التَّكبيرُ ، وتحْلِيلُهَا التَّسلِيمُ « ، والشَّرعُ يقتضي معرفة ما يقتضي بعمومه ، ومن موارده أوقات الإهلال بالذبائح تخليصاً له من الشرك ، وإعلاناً باسمه بالنسك ، وإفراداً لما شرع من أمره بالسفك .
والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير في الصلاة هو لفظ » اللَّهُ أكبَرُ « .
وقال المفسرون : لما نزل قوله تعالى : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال : اللَّهُ أكبر ، فكبرت خديجة - رضي الله عنها - وعلمت أنه وحي من الله تعالى ذكره القشيري .
وقال الكلبيُّ : فعظم ربَّك عما يقوله عبدة الأوثان .
قال مقاتل : هو أن يقال : الله أكبر .
وقيل : المرادُ منه التكبير في الصلاة .
فإن قيل : هذه السورة نزلت في أول البعث ، ولم تكن الصلاة واجبة .
فالجواب : لا يبعد أنه كانت له - عليه الصلاة والسلام - صلوات تطوع فأمر أن يُكبِّر ربَّه فيها قال ابن الخطيب : وعندي أنه لما قيل له : { قُمْ فَأَنذِرْ } قيل بعد ذلك { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } عن اللغو والرفث .
قوله : { وَثَيَابَكَ فَطَهِّرْ } .
قيل : المراد الثياب الملبوسة ، فعلى الأول يكون المعنى : وعملك فأصلح ، قاله مجاهد وابن زيد والسديُّ ، وروى منصور عن أبي رزين ، قال : يقول : وعملك فأصلح .

وإذا كان الرجل خبيث العمل ، قالوا : إن فلاناً خبيث الثيابِ ، وإذ كان الرجل حسن العمل ، قالوا : إنَّ فلاناً طاهر الثياب ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « يَحْشرُ المَرءُ فِي ثَوبَيْهِ الَّذي مَاتَ فِيْهِمَا » ، يعني : عمله الصالح والطالح ، ذكره الماوردي .
ومن قال المراد به القلب ، قلبك فطهر ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير رضي الله عنهما؛ ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
4946 - .. فَسُلِّي ثِيَابِي مِن ثِيابكِ تَنْسُلِ
أي : قلبي من قلبك .
قال الماورديُّ : ولهم في تأويل الآية وجهان :
أحدهما : المعنى : وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : وقلبك فطهر من القذر ، أي : لا تقذر فتكون دنس الثياب وهو ما يروى عن ابن عباس أيضاً ، واستشهدوا بقوله غيلان بن سلمة الثقفي : [ الطويل ]
4947 - فَإنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لا ثَوْبَ غَادِرٍ ... لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرةٍ أتقنَّعُ
ومن قال : المراد به النفس ، قال : معناه ونفسك فطهر ، أي : من الذنوب ، والعرب تكني عن النفس بالثياب . قاله ابن عباس - رضي الله عنه -؛ ومنه قول عنترة : [ الكامل ]
4948 - فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الطَّويلِ ثِيابَهُ ... لَيْسَ الكرِيمُ على القَنَا بِمُحَرَّمِ
وقول امرىء القيس المتقدم . ومن قال : بأنه الجسم قال : المعنى وجسمك فطهر من المعاصي الظاهرة ، ومنه قول ليلى تصف إبلاً : [ الطويل ]
4949 - رَموْهَا بأثْوابٍ خِفافٍ فلا تَرَى ... لَهَا شَبَهاً إلاَّ النَّعامَ المُنفَّرَا
أي : ركبوها فرموها بأنفسهم .
ومن قال : المراد به الأهل ، قال : معناه : وأهلك طهرهم من الخطايا بالموعظة والتأديب ، والعرب تسمي الأهل ثوباً وإزاراً ولباساً ، قال تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } [ البقرة : 187 ] .
قال الماورديُّ : ولهم في تأويل الآية وجهان :
الأول : معناه : ونساءك فطهر باختيار المؤمنات العفائف .
الثاني : الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر في الطهر إلا في الحيض حكاه ابن بحر .
قال ابن الخطيب : « وحمل الآية على هذا التأويل يعسر لأنه على هذا الوجه لا يحسن اتصال الآية بما قبلها » .
ومن قال المراد به الخلق قال معناه : وخلقك فحسِّنْ قاله الحسن والقرظي؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
4950 - فَلاَ أبَ وابْناً مِثْلَ مَرْوانَ وابْنِهِ ... إذَا هُوَ بالمَجْدِ ارتَدَى وتَأزَّرَا
والسبب في حسن هذه الكناية وجهان :
الأول : أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان فلهذا جعلوا الأثواب كناية عن الإنسان ، فيقال : المجد في ثوبه والعفة في إزاره .
الثاني : أنه من طهر باطنه غالباً طهر ظاهره ، ومن قال : المراد به الدين فمعناه : ودينك فطهر .
جاء في الصحيح : أنه صلى الله عليه وسلم قال : « ورأيتُ النَّاس وعَلَيْهِمْ ثِيابٌ مِنْهَا ما يَبلغُ الثُّدِيَّ ، ومِنْهَا دونَ ذلِكَ ، ورَأيْتُ عُمر بن الخطَّاب ، وعليْهِ إزارٌ يُجُرُّهُ ، قالوا : يا رسُولَ اللَّهِ فَمَا أوَّلتَ ذلِكَ؟ قال : الدِّينُ » .

وروي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - في قوله تعالى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال : معناه لا تلبس ثيابك على عذرة؛ قال ابن أبي كبشة : [ الطويل ]
4951 - ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهارَى نَقيَّةٌ ... وأوْجُهُهمْ عِنْدَ المُشاهدِ غُرَّانُ
يعني بطهارة ثيابهم : سلامتهم عن الدناءات ويعني بعزة وجوههم : تنزيههم عن المحرمات ، أو جمالهم في الخلقة ، أو كليهما . قاله ابن العربي .
وقال سفيانُ بن عيينة : لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم ، قاله عكرمة .
ومن قال : إن المراد به الثياب الملبوسة ، فلهم أربعة أوجهٍ :
الأول : وثيابك فأنق .
الثاني : وثيابك فشمِّر ، أي قصِّر ، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة فإذا جُرَّت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها نجاسة ، قاله الزجاج وطاووس .
الثالث : وثيابك فطهر من النجاسة بالماء ، قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء .
الرابع : لا تلبس ثيابك إلا من كسبِ الحلال ليكون مطهرة من الحرام .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - لا يكون ثيابك التي تلبس من ملبس غير طاهر .
قال ابن العربي : وليس بممتنع أن تحمل الآية على عمومها ، من أن المراد بها الحقيقة ، والمجاز ، وإذا حملناها على الثياب الطاهرةِ المعلومة ، فهي تتناول معنيين :
أحدهما : تقصير الأذيال ، فإنها إذا أرسلت تدنست ، ولهذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لغلام من الأنصار ، وقد رأى ذيله مسترخياً : ارفع إزارك ، فإنه أتْقَى ، وأبْقَى ، وأنقى .
وقال صلى الله عليه وسلم : « إزْرَةُ المُؤمِن إلى أنْصَافِ سَاقيْهِ ، لا جُناحَ عليْهِ فِيْمَا بَينهُ وبيْنَ الكعْبَيْنِ ومَا كَانَ أسْفل مِنْ ذلِكَ ففِي النَّارِ » فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب ، وتوعد ما تحته بالنار ، فما بال رجال يرسلون أيذالهم ، ويطيلون ثيابهم ، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر ، وقال صلى الله عليه وسلم : « » لا يَنْظرُ اللَّهُ تعالى إلى مَنْ جَرَّ ثَوبَهُ خَيلاء « ، وفي رواية : » منْ جرَّ إزارهُ خُيَلاء لَمْ ينْظُرِ اللَّهُ إليْهِ يَوْمَ القِيامةِ « قال أبو بكر - رضي الله عنه - : يا رسول الله إني أجد شِقّ إزاري يسترخي إلا أني أتعاهد ذلك منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لَسْتَ ممَّنْ يَصْنعهُ خيلاء « » .
والمعنى الثاني : غسلها بالماء من النجاسة ، وهو الظاهر .
قال المهدوي : واستدل به بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب ، وليس ذلك يفرض عند مالك وأهل المدينة ، وكذلك طهارة البدن ، للإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار غير غسل .
قال ابن الخطيب : إذا حملنا لفظ التطهير على حقيقته ، فنقول : المراد منه أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتطهير ثيابه من الأنجاس والأقذار ، وعلى هذا التقدير ففي الآية ثلاثة احتمالاتٍ :
الأول : قال الشافعي - رضي الله عنه - : المقصود من الآية الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس .

وثانيها : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات ، فأمره الله تعالى بأن يصون ثيابه عن النجاسات .
وثالثها : روي أنهم ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَلَى شاةٍ ، فشق عليه فرجع إلى بيته حَزيناً وتدثر في ثيابه ، فقال : { ياأيها المدثر قُمْ فَأَنذِرْ } ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } على أن لا ينتقم منهم { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } عن تلك النجاسات والقاذورات .
قوله : { والرجز } . قرأ حفص ومجاهد وعكرمة وابن محيصن : بضم الراء ، والباقون : بكسرها .
فقيل : لغتان بمعنى ، وعن أبي عبيدة : الضم أقيس اللغتين ، وأكثرهما .
وقال مجاهدٌ : هو بالضم اسم صنم ، ويعزى للحسن البصري أيضاً ، وبالكسر ويذكر : اسم للعذاب ، وعلى تقدير كونه العذاب ، فلا بد من حذف مضاف ، أي : اهجر أسباب العذاب المؤدية إليه ، أقام السبب مقام المسبب ، وهو مجاز شائع بليغ .
وقال السديُّ : « الرَّجْز » ، بنصب الراء : الوعيد .
وقال مجاهد وعكرمة : المراد بالرجز : الأوثان ، لقوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 10 ] ، وقال ابن عباس أيضاً : والمأثم فاهجر ، أي فاترك ، وكذلك روى مغيرة عن إبراهيم النخعي ، قال : الرجز : الإثم .
وقال قتادة : الرجز إساف ، ونائلة .
وأصل « الرُّجْز » : العذابُ ، قال تعالى : { لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ } [ الأعراف : 134 ] .
وقال تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء } [ الأعراف : 163 ] .
قوله : { وَلاَ تَمْنُن } ، العامة : على فك الإدغام والحسن وأبو السمال والأشهب العقيلي : بالإدغام .
وقد تقدم أن المجزوم ، والموقوف من هذا النوع يجوز فيهما الوجهان ، وتقدم تحقيقه في « المائدة » ، عند قوله تعالى : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } [ المائدة : 54 ] .
والمشهور أنه من المنّ ، وهو الاعتداد على المعطى بما أعطاه ، وقيل : معناه « ولا تضعف » من قولهم : حبل متين ، أي : ضعيف .
قوله : { تَسْتَكْثِرُ } ، العامة على رفعه ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه في موضع الحال ، أي : لا تمنن مستكثراً ما أعطيت .
وقيل : معناه لا تأخذ أكثر مما أعطيت .
الثاني : على حذف « أن » يعني أن الأصل ولا تمنن أن تستكثر ، فلما حذفت « أن » ارتفع الفعل ، كقوله : [ الطويل ]
4952 - ألاَ أيُّهَذَا الزَّاجِري أحْضُرُ الوغَى ..
في إحدى الروايتين . قاله الزمخشريُّ .
ولم يبين ما محل « أن » وما في خبرها . وفيه وجهان :
أظهرهما - وهو الذي يريده - هو أنها إما في محل نصب ، أو جر على الخلاف فيها؛ حذف حرف الجر وهو هنا لام العلة ، تقديره : ولا تمنن لأن تستكثر .
والثاني : أنها في محل نصب فقط مفعولاً بها ، أي : لا تضعف أن تستكثر من الخير ، قاله مكي .

وقد تقدم أن « تَمْنُنْ » بمعنى تضعف ، وهو قول مجاهد .
إلا إنَّ أبا حيان قال - بعد كلام الزمخشريِّ - : « وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر ، ولنا مندوحة عنه مع صحته معنى » .
والكوفيون يجيزون ذلك ، وأيضاً : فقد قرأ الحسن والأعمش : « تَسْتكثِرَ » أيضاً على إضمار « أن » ، كقولهم : « مُرْهُ يحفرها » .
وأبلغ من ذلك التصريح بأن في قراء عبد الله : « ولا تمنن أن تستكثر » .
وقرأ الحسن - أيضاً - وابن أبي عبلة تستكثرْ جزماً ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون بدلاً من الفعل قبله . كقوله : { يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ } [ الفرقان : 68 - 69 ] ف « يُضَاعَفُ » بدلاً من « يَلْقَ »؛ وكقوله : [ الطويل ]
4953 - مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنَا في دِيَارنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً ونَاراً تَأجَّجَا
ويكون من المنِّ الذي في قوله تعالى : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] .
الثاني : أن يشبه « ثرو » بعضد فيسكن تخفيفاً . قاله الزمخشري .
يعني : أنه يأخذ من مجموع « تستكثر » [ ومن الكلمة التي بعده وهو الواو ما يكون فيه شبهاً بعضد ، ألا ترى أنه قال : أن يشبه ثرو ، فأخذ بعض « تستكثر » ] وهو الثاء ، والراء وحرف العطف من قوله : { وَلِرَبِّكَ فاصبر } ؛ وهذا كما قالوا في قول امرىء القيس : [ السريع ]
4954 - فالْيَوْمَ أشْرَبْ غَيْرَ مُسْتحقِبٍ ... إثْماً من اللَّهِ ولا واغِلِ
بتسكين « أشْرَبْ » - أنهم أخذوا من الكلمتين رَبْغَ ك « عضد » ثم سكن .
وقد تقدم في سورة « يوسف » في قراءة قُنبل : « من يَتّقي » ، بثبوت الياء ، أن « مَنْ » موصولة ، فاعترض بجزم « يَصْبِر »؟ .
فأجيب بأنه شبه ب « رف » ، أخذوا الباء والراء من « يَصْبِر » والفاء من « فإنَّه » ، وهذه نظير تيك سواء .
الوجه الثالث : أن يعتبر حال الوقف ، ويجرى الوصل مجراه ، قاله الزمخشري ، أيضاً .
يعني أنه مرفوع ، وإنما سكن تخفيفاً ، أو أجري الوصل مُجْرَى الوقفِ .
قال أبو حيان : « وهذان لا يجوز أن يحمل عليهما مع وجود أرجح منهما ، وهو البدل معنى وصناعة » .
فصل في تعلق الآية بما قبلها
في اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى أمره قبل هذه الآية بأربعة أشياء : إنذار القوم ، وتكبير الرب ، وتطهير الثياب ، وهجر الرجز ، ثم قال - جلَّ ذكره - : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } ، أي : لا تمن على ربِّك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما يفعله بل اصبر على ذلك كله لوجه ربِّك متقرباً بذلك إليه غير ممتن به عليه .
قال الحسن - رحمه الله - : بحسناتك ، فتستكثرها .
وقال ابن عباس وقتادة وعكرمةُ : ولا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها .

وقيل : لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي مستكثراً بذلك الإنعام ، فإنَّما فعلت ذلك بأمر الله تبارك وتعالى ، فلا منة لك عليهم ، ولهذا قال تعالى : { وَلِرَبِّكَ فاصبر } .
وقيل : لا تمنن عليهم بنبوتك ، أي : لتستكثر ، أي : لتأخذ منهم على ذلك أجراً تستكثر به مالك .
وقال مجاهدٌ : لا تضعف أن تستكثر من الخير ، من قولك : حبل منين ، إذا كان ضعيفاً ، ودليله قراءة ابن مسعود : ولا تمنن تستكثر من الخير وعن مجاهد أيضاً ، والربيع : لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير فإنه مما أنعم الله عليك .
وقال ابن كيسان : لا تستكثر عملك فتراه من نفسك ، إنما عملك منه من الله عليك ، إذ جعل الله لك سبيلاً إلى عبادته .
وقال زيد بن أسلم إذا أعطيت عطية فأعطها لربِّك ، لا تقل : دعوت فلم يستجب لي .
وقيل : لا تفعل الخير لترائي به الناس .
فإن قيل هذا النهي مختص بالرسول صلى الله عليه وسلم أو يتناول الأمة؟ .
فالجوابُ : أن ظاهر اللفظ قرينة الحال لا تفيد العموم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما نهي عن ذلك تنزيهاً لمنصب النبوة ، وهذا المعنى غير موجود في الأمة .
وقيل : المعنى في حقِّ الأمة هو الرياءُ ، واللَّهُ تعالى منع الكل من ذلك .
فإن قيل : هل هذا نهي تحريم أو تنزيه؟
فالجواب : أن ظاهر النهي التحريم .
فصل في المقصود من الآية
قال القفال : يحتمل أن يكون المقصود من الآية أن يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي أحداً شيئاً لطلب عوض سواء كان العوض زائداً أو ناقصاً ، أو مساوياً ، ويكون معنى قوله تعالى { تَسْتَكْثِرُ } ، أي : طالباً للكثرة كارهاً أن ينتقص المال بسبب العطاءِ ، فيكون الاستكثار - هاهنا - عبارة عن طلب العوض كيف كان ، وإنما حسنت هذه العبارةُ ، لأن الغالب أن الثواب زائد على العطاء ، فسمى طلب الثواب استكثاراً ، حملاً للشيء على أغلب أحواله ، كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ، ولها ولد للحاجة إلى من يربي أغلب أن المرأة إنما تتزوج ، ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها ، فسمي الولد ربيباً ، ثم اتسع الأمر ، وإن كان حين تتزوج أمه كبيراً ، ومن ذهب إلى هذا القول قال : السبب فيه أن يصير عطاء النبي صلى الله عليه وسلم خالياً عن انتظار العوض ، والتفات النفس إليه فيكون ذلك خالصاً مخلصاً لوجه الله تعالى .
قال القرطبي - رحمه الله - : « أظهر الأقوال قول ابن عباس » لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال « يقال : مننت فلاناً كذا ، أي : أعطيته ، ويقال للعطية : المنة فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله ، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها ، لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يجمع للدنيا ، ولهذا قال :

« مَا لي ممَّا أفَاء اللَّهُ عليَّ إلا الخُمْسَ ، والخمس مَردُودٌ عَليْكُمْ » وكان ما يفضل عن نفقة عياله مصروفاً إلى مصالح المسلمين ، ولهذا لم يورث « .
قوله : { وَلِرَبِّكَ فاصبر } التقديم على ما تقدم . وحسنه كونه رأس فاصلة موافياً لما تقدم .
{ وَلِرَبِّكَ } يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون لام العلة ، أي : لوجه ربِّك فاصبر ، أي : على أذى الكفار وعلى عبادة ربك ، وعلى كل شيء مما لا يليق فترك المصبور عليه ، والمصبور عنه للعلم بهما .
والأحسن أن لا يقدر شيء خاص بل شيء عام .
والثاني : ان يضمن » صبر « معنى : » أذعن « ، أي : أذعن لربِّك ، وسلم له أمرك صابراً ، لقوله تعالى : { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ } [ القلم : 48 ] .

فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)

قوله : { فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور } .
قال الزمخشري : « الفاء » في قوله : { فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور } لتسبيب ، كأنه قال : اصبر على أذاهم ، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى فيه عاقبة صبرك عليه . والفاء في « فإذا » متعلقة ب « أنذر » ، أي : فأنذرهم إذا نقر في الناقور . قاله الحوفيُّ .
وفيه نظر من حيث أن الفاء تمنع من ذلك ، ولو أراد تفسير المعنى لكان سهلاً ، لكنه في معرض تفسير الإعراب لا تفسير المعنى .
الثاني : أن ينتصب بما دل عليه قوله تعالى : { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } .
قال الزمخشري : فإن قلت : بم انتصب « إذا » ، وكيف صح أن يقع « يومئذ » ظرفاً ل « يوم عسير »؟ .
قلت : انتصب « إذا بما دل عليه الجزاء؛ لأن المعنى : فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين والذي أجاز وقوع » يومئذ « ظرفاً ل { يَوْمٌ عَسِيرٌ } ، إذ المعنى فذلك يوم النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يقع ، ويأتي حين يُنقر في النَّاقُور ، انتهى .
ولا يجوز أن يعمل فيه نفس » عسير «؛ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل موصوفها عند البصريين ، ولذلك رد على الزمخشري قوله : أن » في أنفسهم « متعلق ب » بَلِيغاً « في سورة » النساء « في قوله تعالى { وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } [ النساء : 63 ] والكوفيون يجوزون ذلك وتقدم تحريره .
الثالث : أن ينتصب بما دل عليه » فذلك «؛ لأنه إشارة إلى النقر ، قاله أبو البقاء ، ثم قال : » و « يومئذ » بدل من « إذا » ، و « ذلك » مبتدأ ، والخبر { يَوْمٌ عَسِيرٌ } ، أي : نقر يوم « .
الرابع : أن يكون » إذا « مبتدأ ، و » فذلك « خبره ، والفاء مزيدة فيه ، وهو رأي الأخفش .
وأما » يَومَئذٍ « ففيه أوجه :
أحدها : أن يكون بدلاً من » إذا « ، وقد تقدم ذلك في الوجه الثالث .
الثاني : أن يكون ظرفاً ل { يَوْمٌ عَسِيرٌ } كما تقدم في الوجه الثاني .
الثالث : أن يكون ظرفاً ل » ذلك « ، لأنه أشار به إلى النقر .
الرابع : أنه بدل من » فذلك « ولكنه مبنيّ لإضافته إلى غير متمكن .
الخامس : أن يكون » فذلك « مبتدأ ، و { يَوْمٌ عَسِيرٌ } خبره ، والجملة خبر » فَذلِكَ « .
قوله : » نُقِرَ « ، أي : صوت ، يقال : نقرت الرجل إذا صوت له بلسانك ، وذلك بأن تلصق لسانك بنقرة حنكك ، ونقرتُ الرجل : إذا خصصته بالدعوة كأنك نقرت له بلسانك مشيراً إليه ، وتلك الدعوة يقال لها : النقرى ، وهي ضد الدعوة الجفلى؛ قال الشاعر : [ الرمل ]

4955 - نَحْنُ فِي المشْتَاةِ نَدْعُو الجَفلَى ... لا تَرَى الآدِبَ فِينَا يَنْتَقِرْ
وقال امرؤ القيس : [ الرجز ]
4956 - أنَا ابْنُ مَاويَّةَ إذْ جَدَّ النَّقُرْ ... يريد : النقر ، أي الصوت ، والنقر في كلام العرب : الصوت؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
4957 - أخَفِّضُهُ بالنَّقْر لمَّا عَلوْتهُ ... ويَرْفعُ طَرْفاً غَيْرَ جَافٍ غَضِيضِ
والناقور : « فاعول » منه كالجاسوس من التجسس ، وهو الشيء المصوّت فيه .
قال مجاهد وغيره : وهو كهيئة البوق ، وهو الصور الذي ينفخ فيه الملك .
والنقير : فرع الشيء الصلب ، والمنقار : الحديدة التي ينقر بها ، ونقرت عينه : بحثت على أخباره استعارة من ذلك ، ونقرته : أعبته .
ومنه قول امرأة لزوجها : مر بي على بني نظر ، ولا تمر بي على بنات نقر ، أرادت : ببني نظر الرجال لأنهم ينظرون إليها ، وبينات نقر : النساء ، لأنهن يعبنها وينقرن عن أحوالها .
قوله : { عَلَى الكافرين } . فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن يتعلق ب « عسير » .
الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه نعت ل « عَسِيرٌ » .
الثالث : أنه في موضع نصب على الحال من الضمير المستكنّ في « عَسِيرٌ » .
الرابع : أن يتعلق ب « يسير » ، أي : غير يسير على الكافرين قاله أبو البقاء .
إلا أن فيه تقديم معمول المضاف إليه على المضاف ، وهو ممنوع ، وقد جوزه بعضهم إذ كان المضاف « غير » بمعنى النفي ، كقوله : [ البسيط ]
4958 - إنَّ امْرَأ خَصَّنِي يَوْماً مودَّتهُ ... عَلى التَّنَائِي لعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ
وتقدم تحرير هذا آخر الفاتحة .
الخامس : أن يتعلق بما دل عليه « غَيرُ يَسيرٍ » ، أي : لا يسهل على الكافرين .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : فما فائدة قوله : « غير يسير » ، و « عسير » مغن عنه؟ .
قلت : لما قال - سبحانه وتعالى - : « على الكافرين » فقصر العسر عليهم ، قال : « غَيرُ يَسِيرٍ » ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً ، ليجمع بين وعيد الكافرين ، وزيادة غيظهم ، وتيسيراً للمؤمنين ، وتسليتهم ، ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا .
فصل في تعلق الآية بما بعدها
لما ذكر ما يتعلق بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعده وعيد الأشقياء قيل : المراد بهذه الآية هو النفخة الثانية .
وقيل : الأولى ، قال الحليمي في كتاب « المنهاج » : إنه تعالى سمى الصور اسمين ، وإن كان هو الذي ينفخ فيه النفختان معاً ، فإن نفخة الإصعاق غير نفخة الإحياء ، وجاء في الأخبار أن في الصور ثقباً بعدد الأرواح كلِّها ، وأنها تجمع في ذلك الثقب في النفخة الثانية ، فيخرج عن النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزع منه ، فيعود الجسد حياً بإذن الله تعالى .

قال ابن الخطيب : وهذا مردود ، لأن الناقور اسم لما ينقر فيه لا لما ينقر فيه ، ويحتمل أن يكون الصور محتوياً على ثقبين : ينقر في إحداهما ، وينفخ في الأخرى ، فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النقر ، والنفخ ، لتكون الصيحة أشد ، وأعظم ، وإذا نفخ فيه للإحياء ، لم ينقر فيه بل يقتصر على النفخ لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها بنقرها من أجسادها بالنفخة الأولى للنقير ، وهو نظير صوت الرعد؛ فإنه إذا اشتد فربما مات بسماعه ، والصيحة الشديدة التي يصيحها رجل بصبي فيفزع منه فيموت .
قال ابن الخطيب : وفيه إشكال ، وهو أن هذا يقتضي أن يكون النقر إنما يحصل عند صيحة الإصعاق وذلك اليوم غير شديد على الكافرين؛ لأنهم يموتون في تلك الساعة ، إنما اليوم الشديد على الكافرين صيحة الإحياء ، ولذلك يقول : { ياليتها كَانَتِ القاضية } [ الحاقة : 27 ] ، أي : يا ليتنا بقينا على الموتة الأولى .
وقوله : « فَذلِكَ » ، أي : فذلك اليوم يوم شديد على الكافرين « غير يَسيرٍ » أي : غير سهل ، ولا هين وذلك أن عقدهم لا تنحل ، إلا إلى عقد أشد منها ، فإنهم يناقشون الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم ، وتسودُّ وجوههم ، ويحشرون زرقاً ، وتتكلم جوارحهم ، ويفضحون على رؤوس الأشهاد بخلاف المؤمنين الموحدين المذنبين فإنها تنحل إلى ما هو أخف ، حتى يدخلوا الجنة برحمة الله تعالى فإنهم لا يناقشون الحساب ، ويحشرون بيض الوجوه ، ثِقال الموازين .
قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون عسيراً على المؤمنين ، والكافرين ، على ما روي أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - يفزعون يومئذ ، وأن الولدان يشيبون ، إلا أنه يكون على الكفار أشد فعلى الأول : لا يحسن الوقف على قوله { يَوْمٌ عَسِيرٌ } ، فإن المعنى : إنه على الكافرين عسير وغير يسير .
وعلى الثاني : يحسن الوقف ، لأنه في المعنى : أنه في نفسه عسير على الكل ثم الكافر فيه مخصوص بزيادة تخصه ، وهي أنه عليه عسير .
فصل في دليل الخطاب
قال ابن الخطيب : استدل بهذه الآية القائلون بدليل الخطاب ، قالوا : لولا أن دليل الخطاب حجة وإلا فما فهم ابن عباس من كونه غير يسير على الكافرين كونه يسيراً على المؤمنين .

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)

قوله تعالى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } ، الواو في قوله : { وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } ، كقوله : « والمُكَذبين » في الوجهين المتقدمين في السورة قبلها .
وقوله تعالى : { وَحِيداً } فيه أوجه :
أحدها : أنه حال من الياء في « ذَرْنِي » ، أي : ذرني وحدي معه فأنا أكفيك في الانتقام منه .
الثاني : أنه حال من التاء في « خَلقْتُ » ، أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه .
الثالث : أنه حال من « مَن » .
الرابع : أنه حال من عائده المحذوف ، أي خلقته وحيداً ، ف « وَحِيْداً » على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف ، أي : خلقته وحده لا مال له ولا ولد ، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته؛ قاله مجاهد .
الخامس : أن ينتصب على الذَّمِّ ، لأنه يقال : إن وحيداً كان لقباً للوليد بن المغيرة ، ومعنى « وَحِيْداً » ذليلاً .
قيل : كان يزعم أنه وحيد في فضله ، وماله ، وليس في ذلك ما يقتضي صدق مقالته لأن هذا لقب له شهر به ، وقد يلقب الإنسان بما لا يتصف به ، وإذا كان لقباً تعين نصبه على الذم .
فصل في معنى « ذرني »
معنى « ذرني » أي : دعني ، وهي كلمة وعيد وتهديد ، « ومَنْ خَلقْتُ » هذه واو المعية ، أي : دعني والذي خلقته وحيداً .
قال المفسرون : هو الوليد بن المغيرة المخزومي ، وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه فإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة ، وأذى الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يسمى الوحيد في قومه .
قال ابن عباس : كان الوليد يقول : أنا الوحيد ابن الوحيد ، ليس لي في العرب نظير ، ولا لأبي المغيرة نظير ، فقال الله تعالى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ } بزعمه « وَحِيْداً » لأن الله تعالى صدقه ، بأنه وحيد .
قال ابن الخطيب : ورد هذا القول بعضهم بأنه تعالى لا يصدقه في دعواه بأنه وحيد لا نظير له ، ذكره الواحدي ، والزمخشري ، وهو ضعيف من وجوه :
الأول : لأنه قد يكون الوحيد علماً فيزول السؤال ، لأن اسم العلم لا يفيد في المسمى صفة ، بل هو قائم مقام الإرشاد .
الثاني : أن يكون ذلك بحسب ظنه ، واعتقاده ، كقوله - عز وجل - : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] .
الثالث : أنه وحيد في كفره ، وعناده وخبثه؛ لأن لفظ الوحيد ليس فيه أنه وحيد في العلو والشرف .
الرابع : أنه إشارة إلى وحدته عن نفسه .
قال أبو سعيد الضرير : الوحيد الذي لا أب له كما تقدم في « زَنِيْمٌ » .
قوله تعالى : { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } ، أي : خولته ، وأعطيته مالاً ممدوداً .
قال ابن عباس : هو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والنعم والخيول والعبيد والجواري .

وقال مجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس - أيضاً - : ألف دينار .
وقال قتادة : ستة آلاف دينار .
وقال سفيان الثوري : أربعة آلاف دينار .
وقال الثوري - أيضاً - : ألف ألف دينار .
وقال ابن الخطيب : المال الممدود : هو الذي يكون له مدد يأتي منه الجزء بعد الجزء دائماً ، ولذلك فسره عمر - رضي الله عنه - غلة شهر بشهر وقال النعمان : الممدود بالزيادة كالزرع والضرع ، وأنواع التجارات .
قال مقاتل : كان له بستان لا ينقطع شتاء ولا صيفاً ، كما في قوله - عز وجل - : { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } [ الواقعة : 30 ] ، أي : لا ينقطع والذي يظهر أنه المال الكثير ، والتقديرات تحكم .
قوله : { وَبَنِينَ شُهُوداً } ، أي : حضوراً لا يغيبون ، ولا يفارقونه - ألبتة - طَيِّبَ القلب بحضورهم .
وقيل : معنى كونهم شهوداً ، أي : يشهدون معه المجامعَ والمحافلَ .
وقيل : « شهوداً » أي : صاروا مثلهُ في شهود ما كان يشهدُ ، والقيام بما كان يباشره .
قال مجاهد وقتادة : كانوا عشرة .
وقال السديُّ والضحاكُ : كانوا اثني عشر رجلاً ، وعن الضحاك : سبعة ولدُوا بمكة ، وخمسة بالطائف .
وقال مقاتل : كانوا سبعة أسلم منهم ثلاثةٌ : خالد ، وهشام ، والوليد بن الوليد ، قال : فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك قال ابن الخطيب كانوا سبعة الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص ، وعبد القيس ، وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة : خالد ، وعمارة ، وهشام .
قوله : { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } ، أي : بسطتُ له في العيش بسطاً في الجاه العريض والرياسة في قومه .
والتميهدُ عند العرب : التوطئة والتهيئة .
ومنه : مهدُ الصبيّ .
وقال ابن عباس : { ومَهَّدتُ لهُ تَمْهِيداً } أي : وسعَّتُ له ما بين « اليمن » إلى « الشام » ، وهو قول مجاهدٍ وعن مجاهد أيضاً : أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش .
قوله تعالى : { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ } . لفظة « ثُمَّ » - هاهنا - معناها : التعجب كقولك لصاحبك : أنزلتك داري وأطعمتك وأسقيتك ثم أنت تشتمني ، ونظيره : قوله تعالى : { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] ، فمعنى « ثُمَّ - هاهنا - الإنكارُ والتعجبُ ، أي : ثم الوليد يطمعُ بعد هذا كله أن أزيدهُ في المالِ والولدِ ، وقد كفر بِي! قاله الكلبي ومقاتل ، ثم قال : » كَلاَّ « ليس يكون ذلك مع كفرهِ بالنعمِ .
قال الحسنُ وغيره : أي : ثُمَّ يطمعُ أن أدخلهُ الجنة ، وكان الوليد يقولُ : إنْ كَانَ محمدٌ صادقاً فما خلقتِ الجنة إلا لي ، فقال الله عزَّ وجلَّ رداً عليه وتكذيباً له : » كلاَّ « لستُ أزيدهُ ، فلمْ يزلْ في نقصانٍ بعد قوله : » كلاَّ « حتى افتقر ومات فقيراً .
وقيل : أي : ثم يطمع أن أنصره على كفره ، » كَلا « قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة ، فيكون متصلاً بالكلام الأول .

وقيل : « كَلاَّ » بمعنى « حقاً » ، ويبتدىء بقوله « إنَّهُ » يعني الوليد { كان لآيَاتِنَا عَنِيداً } ، أي : معانداً للنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به .
قال الزمخشريُّ : { إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا } استئناف جواب لسائل سأل : لم لا يزداد مالاً ، وما باله ردع عن طبعه؟ .
فأجيب بقوله : { إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً } ، انتهى .
فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم في الهرة : « إنَّها ليْسَتْ بنجسٍ ، إنَّها مِنَ الطوَّافِيْنَ عَليْكُمْ » .
والعنيد : المعاند .
يقال : عاند فهو عنيد وعانِد ، والمعاند : البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد ، والجمع : عند مثل : « راكع وركع » ، قاله أبو عبيدة؛ وأنشد قول الحازميِّ : [ الرجز ]
4959 - إذَا رَكبتُ فاجْعَلانِي وَسَطا ... إنَّي كَبِيرٌ لا أطيقُ العُنَّدا
وقال أبو صالح : « عنيداً » معناه : مباعداً؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
4960 - أرَانَا على حَالٍ تُفَرِّقُ بَيْنَنا ... نَوّى غُرْبَةٌ إنَّ الفِراقَ عَنُودُ
وقال قتادة : جاحداً .
وقال مقاتل : معرضاً .
وقيل : إنه المجاهر بعداوته .
وعن مجاهد : أنه المجانب للحق .
قال الجوهري : ورجل عنود : إذا كان لا يخالط الناس ، والعنيد من التجبر ، وعرق عاند : إذا لم يرقأ دمه ، وجمع العنيد عُنُد مثل رغيف ورغف ، والعنود من الإبل : الذي لا يخالط الإبل إنما هو في ناحية ، والعنيد في معنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير .
فصل في بيان فيما كانت المعاندة
في الآية إشارة إلى أنه كان يعاند في أمور كثيرة :
منها أنه كان يعاند في دلائل التوحيد ، والعدل ، والقدرة ، وصحة النبوة وصحة البعث .
ومنها : أن كفره كان عناداً لأنه كان يعرف هذه الأشياء بقلبه وينكرها بلسانه . وكفر المعاند أفحش أنواع الكفر .
ومنها : أن قوله « كان » يدل على أن هذه حرفته من قديم الزمان .
ومنها : أن هذه المعاندة ، كانت مختصة منه بآيات الله تعالى .
قوله : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } ، أي : سأكلفه ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : سألجئه ، والإرهاق في كلام العرب : أن يحمل الإنسان الشيء .
والصعود : جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً ، ثم يهوي به كذلك فيه أبداً . رواه الترمذي .
وفي رواية : صخرة في جهنم ، إذا وضعوا أيديهم عليها ذابت ، فإذا رفعوها عادت .
وقيل : هذا مثل لشدة العذاب الشاق الذي لا يطاق ، كقوله : عقبة صعود وكؤود ، أي : شاقة المصعدِ .
ثم إنه تعالى حكى كيفية عناده ، وهو قوله تعالى :
{ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } : يجوز أن يكون استئناف تعليل لقوله تعالى : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } ، ويجوز أن يكون بدلاً من { إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً } .
يقال : فكر في الأمر ، وتفكر إذا نظر فيه وتدبر ، ثم لما تفكر رتب في قلبه كلاماً وهيأه ، وهو المراد من قوله « وقَدَّرَ » .
والعرب تقول : قدرت الشيء إذا هيأته .
فصل في معنى الآية
معنى الآية : أن الوليد فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن لما نزل :

{ حمتَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز العليم غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذِي الطول لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المصير } [ غافر : 1 - 3 ] ، سمعه الوليد يقرأها ، فقال : والله لقد سمعت منه كلاماً ما هو من كلام الإنس ، ولا من كلام الجنِّ ، وإنَّ له لحلاوة ، وإنَّ عليه لطلاوة ، وإنَّ أعلاه لمثمر ، وإنَّ أسفله لمغدق وإنه ليعلو ، وما يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر ، فقالت قريش : صبأ الوليد لتصبونَّ قريش كلها ، وكان يقال للوليد : ريحانة قريش ، فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه فانطلق إليه حزيناً ، فقال له : ما لي أراك حزيناً ، فقال : وما لي لا أحزن ، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينوك بها ، ويزعمون أنك زينت كلام محمدٍ ، وتدخل على ابن أبي كبشة ، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما ، فغضب الوليدُ - لعنهُ الله - وتكبَّر ، وقال : أنا أحتاجُ إلى كسرِ محمدٍ وصاحبه ، وأنتم تعلمون قدر مالي ، واللاتِ والعُزَّى ما بي حاجةٌ إلى ذلك وأنتم تزعمُون أن محمداً مجنون ، فهل رأيتموه قط يخنق؟ .
قالوا : لا والله ، قال : وتزعمون أنه كاهنٌ ، فهل رأيتموه تكهن قط؟ ولقد رأينا للكهنةِ أسجاعاً وتخالجاً ، فهل رأيتموهُ كذلك؟ .
قالوا : لا والله . وقال : تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا : لا والله .
قال : وتزعمون أنه كذَّاب ، فهل جريتمْ عليه كذباً قط؟ .
قالوا : لا والله . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُسمَّى الصادق والأمين من كثرة صدقه ، فقالت قريش للوليدِ : فما هو؟ ففكّر في نفسه ثم نظر ثم عبس ، فقال : ما هذا إلا سحرٌّ أما رأيتموه يفرق بين الرجل وولده فذلك قوله تعالى : { إِنَّهُ فَكَّرَ } أي في أمر محمدٍ والقرآن « وقدر » في نفسه ماذا يمكنهُ أن يقول فيهما .
قوله : { فَقُتِلَ } ، أي : لعنَ .
وقيل : قُهِرَ وغلبَ .
وقال الزهري : عذب ، وهو من باب الدعاء .
قال ابن الخطيب : وهذا إنما يذكرُ عند التعجب والاستعظام .
ومثله قولهم : قتلهُ اللَّهُ ما أشجعهُ ، وأخزاه الله ما أفجره ، ومعناهُ : أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسدهُ بذلك ، وإذا عرف ذلك ، فنقول : هنا يحتملُ وجهين :
الأول : أنه تعجب من قوة خاطره ، يعني أنه لا يمكن القدحُ في أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم بشبهةٍ أعظم ولا أقوى مما ذكرهُ هذا القائلُ .
الثاني : الثناءُ عليه على طريقةِ الاستهزاء ، يعني أن هذا الذي ذكره في غاية الركاكة والسقوط .
قوله : { كَيْفَ قَدَّرَ } ، أي : كيف فعل هذا ، كقوله تعالى : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } [ الإسراء : 48 ] ثم قيل : بضرب آخر من العقوبة . « كيف قدَّر » على أيّ حال قدَّر . « ثم نظر » بأي شيء يردّ الحق ويدفعهُ .
قال ابن الخطيب : والمعنى أنه أولاً فكّر .

وثانياً : قدَّر . وثالثاً : نظر في ذلك المقدرِ ، فالنظر السابق للاستخراج ، والنظر اللاحق لتمام الاحتياطِ ، فهذه المرات الثلاث متعلقة بأحوال ثلاث .
قوله تعالى : { ثُمَّ عَبَسَ } ، يقال : عبس يعبس عبساً ، وعبوساً : أي : قطب وجهه .
وقال الليث : عبس يعبس فهو عبس إذا قطب ما بين عينيه ، فإذا أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل : كلح ، فإن اهتم لذلك ، وفكر فيه قيل : بسر ، فإن غضب مع ذلك قيل بسل . واعلم أنه ذكر صفات جسمه بعد صفات قلبه ، وهذا يدل على عناده ، لأن من فكر في أمر حسن يظهر عليه الفرح لا العبوس ، والعبس أيضاً : ما يبس في أذناب الإبل من البعر ، والبول؛ قال أبو النجم : [ الرجز ]
4961 - كَأنَّ في أذْنابِهنَّ الشُّوَّلِ ... مِنْ عبسِ الصَّيفِ قُرونَ الأُيَّلِ
فصل في معنى الآية
معنى الآية : قطب وجهه في وجوه المؤمنين ، وذلك أنه لما قال لقريش محمداً ساحر مرَّ على جماعة من المسلمين ، فدعوه إلى الإسلام ، فعبس في وجوههم .
وقيل : عبس على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه ، والعبس : مصدر « عبس » مخففاً « ، كما تقدم .
قوله : » وَبَسَرَ « ، يقال : بَسَر يَبسُرُ بسراً وبُسُوراً » إذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء واسود وجهه منه ، يقال : وجه باسر ، أي منقبض مسود كالح متغير اللون ، قاله قتادة والسدي؛ ومنه قول بشير بن الحارث : [ المتقارب ]
4962 - صَبَحْنَا تَمِيماً غَداةَ الجِفارِ ... بِشهْبَاءَ ملمُومةٍ بَاسِرَهْ
وأهل اليمن يقولون : بسر المركب بسراً ، أي : وقف لا يتقدم ، ولا يتأخر ، وقد أبسرنا : أي صرنا إلى البسور .
وقال الراغب : البسر استعجال الشيء قبل أوانه ، نحو : بسر الرجل حاجته طلبها في غير أوانها ، وماء بسر متناول من غديره قبل سكونه ، ومنه قيل للذي لم يدرك من التمر : بسر ، وقوله تعالى : { عَبَسَ وَبَسَرَ } ، أي : أظهر العبوس قبل أوانه ، وقبل وقته .
قال : فإن قيل : فقوله تعالى : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } [ القيامة : 24 ] ، ليس يفعلون ذلك قبل الموت ، وقد قلت : إن ذلك يكون فيما يقع قبل وقته .
قيل : أشير بذلك إلى حالهم قبل الانتهاء بهم إلى النار ، فخص لفظ البسر تنبيهاً على أن ذلك مع ما ينالهم من بعد ، يجري مجرى التكلف ، ومجرى ما يفعل قبل وقته ، ويدل على ذلك { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة : 25 ] .
وقد عطف في هذه الجمل بحروف مختلفة ، ولكل منها مناسبة ، أما ما عطف ب « ثُمَّ » فلأن بين الأفعال مهلة ، وثانياً : لأن بين النظر ، والعبوس ، وبين العبوس ، والإدبار تراخياً .
قال الزمخشريُّ : و « ثمّ نظر » عطف على « فكَّر » و « قدَّر » ، والدعاء اعتراض بينهما ، يعني بالدعاء قوله : « فَقُتِل » ، ثم قال : فإن قلت : ما معنى « ثُمَّ » الداخلة على تكرير الدعاء؟ .

قلت : الدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى؛ ونحوه قوله : [ الطويل ]
4963 - ألاَ يَا اسْلمِي ثُمَّ اسْلمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي .. . .
فإن قلت : ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟ .
قلت : للدلالة على أنه تأنَّى في التأمل ، والتمهل ، وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخٍ ، وتباعد ، فإن قلت : فلم قال : « فَقالَ » - بالفاء - بعد عطف ما قبله ب « ثُمَّ »؟ .
قلت : لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث ، فإن قلت : فلم لم يتوسط حرف العطف بين الجملتين؟ .
قلت : لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التأكيد من المؤكد .
قوله تعالى : { ثُمَّ أَدْبَرَ } ، أي : ولى وأعرض ذاهباً عن سائر الناس إلى أهله .
{ واستكبر } حين دعي إلى الإيمان ، أي : تعظم .
{ إن هذا } أي : ما هذا الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم { إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } ، أي : تأثره عن غيره .
والسحر : الخديعة .
وقيل : السحر إظهار الباطل في صورة الحق .
والأثر : مصدر قولك : أثرت الحديث آثره ، إذا ذكرته عن غيرك؛ ومنه قيل : حديث مأثور ، أي : ينقله خلف عن سلف؛ قال الأعشى : [ السريع ]
4964 - إنَّ الَّذي فيه تَمَاريْتُمَا ... بُيِّنَ للسَّامِع والآثِرِ
قال ابن الخطيب : فيه وجهان :
الأول : أنه من قولهم : أثرت الحديث آثره ، أَثراً ، إذا حدثت به عن قوم في آثارهم ، أي : بعدما ماتوا ، هذا هو الأصل ، ثم صار بمعنى الرواية عما كان .
والثاني : يؤثر على جميع السحر ، وهذا يكون من الإيثارِ .
وقال أبو سعيد الضرير : يؤثر ، أي : يُورَثُ .
قوله تعالى : { إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر } ، أي : هذا إلا كلام المخلوقين تختدع به القلوب كما يخدع بالسحر .
قال ابن الخطيب : ولو كان الأمر كذلك لتمكنوا من معارضته إذا طريقتهم في معرفة اللغة متقاربة .
قال السديُّ : يعني أنه من قول سيَّار عبد لبني الحضرمي ، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك .
وقيل : إنه أراد أنه تلقنه ممن ادعى النبوة قبله ، فنسج على منوالهم .
قال ابن الخطيب وهذا الكلام يدل على أن الوليد كان يقولُ هذا الكلام عناداً ، لما روي في الحديث المتقدم : « أنه لما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم » حم « ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لقد سمعتُ من محمدٍ كلاماً ، ليس من كلام الجنِّ ، ولا من كلام الإنس » الحديث ، فلمَّا أقر بذلك في أول الأمر علمنا أن قوله - هاهنا - : { إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر } ، إنَّما ذكره عناداً ، أو تمرداً لا اعتقاداً .
قوله تعالى : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } هذا بدل من قوله تعالى : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } . قاله الزمخشري .
فإن كان المراد بالصعود : المشقة ، فالبدل واضح ، وإن كان المراد : صخرة في جهنم - كما جاء في التفسير - فيعسر البدل ، ويكون فيه شبه من بدل الاشتمال ، لأن جهنم مشتملة على تلك الصخرة .

فصل في معنى الآية
المعنى : سأدخله سقر كي يصلى حرها ، وإنما سميت « سَقَرَ » من سقرته الشمس : إذا أذابته ولوحته ، وأحرقت جلدة وجهه ، ولا ينصرف للتعريف والتأنيث قال ابن عباس : « سقر » اسم للطبقة السادسة من « جهنم » .
{ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } . هذا مبالغة في وصفها ، أي : وما أعلمك أي شيء هي؟ . وهي كلمة تعظيم ، وتهويل ، ثم فسر حالها ، فقال - جل ذكره - : { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } أي : لا تترك لهم لحماً ، ولا عظماً ، ولا دماً إلا أحرقته .
قوله : { لاَ تُبْقِي } ، فيها وجهان :
أحدهما : أنها في محل نصب على الحال ، والعامل فيها معنى التعظيم ، قاله أبو البقاء .
يعني أن الاستفهام في قوله : « مَا سَقَرُ » للتعظيم ، والمعنى : استعظموا سقر في هذه الحال .
ومفعول « تُبْقِي » ، وتَذرُ « محذوف أي لا تبقي ما ألقي فيها ، ولا تذره ، بل تهلكه .
وقيل : تقديره لا تُبْقِي على من ألقي فيها ، ولا تذر غاية العذاب إلا وصلته إليه .
والثاني : أنها مستأنفة .
قال ابن الخطيب : واختلفوا في قوله : { لا تبقي ولا تذر } .
فقيل : هما لفظان مترادفان بمعنى واحد ، كرر للتأكيد والمبالغة ، كقولك صدَّ عني وأعرض عني ، بل بينهما فرق ، وفيه وجوه :
الأول : لا تبقي من اللحم ، والعظم ، والدم شيئاً ، ثم يعادون خالقاً جديداً ، » ولا تَذرُ « أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت ، وهكذا أبداً ، رواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وقال مجاهد : لا تبقي فيها حياً ولا تذره ميتاً بل تحرقهم كلما جُدِّدوا . وقال السديّ : لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً . وقيل : لا تبقي من المعذبين ، ولا تذر من فوقها شيئاً ، إلا تستعمل تلك القوة في تعذيبهم .
قوله تعالى : { لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } ، قرأ العامة : بالرفع ، خبر مبتدأ مضمر ، أي هي لواحة ، وهذه مقوية للاستئناف في » لا تُبقِي « .
وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة وزيد بن علي وعطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر : بنصبهما على الحال ، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها حال من » سَقرُ « ، والعامل معنى التعظيم كما تقدم .
والثاني : أنها حال من » لا تُبْقِي « .
والثالث : من » لا تَذرُ « .
وجعل الزمخشري : نصبها على الاختصاص للتهويل .
وجعلها أبو حيان حالاً مؤكدة .
قال : » لأن النار التي لا تبقي ولا تذر ، لا تكون إلاَّ مُغيرة للأبشار « .
و » لوَّاحةٌ « هنا مبالغة ، وفيها معنيان :
أحدهما : من لاح يلوح ، أي : ظهر ، أي : أنها تظهر للبشر ، [ وهم الناس ، وإليه ذهب الحسن وابن كيسان ، فقال : » لوَّاحةٌ « أي : تلوح للبشر ] من مسيرة خمسمائة عام ، وقال الحسن : تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً ، ونظيره :

{ وَبُرِّزَتِ الجحيم لِمَن يرى } [ النازعات : 36 ] .
والثاني : وإليه ذهب جمهور الناس ، أنها من لوّحه أي : غيَّرهُ ، وسوَّدهُ .
قال الشاعر : [ الرجز ]
4965 - تقُولُ : ما لاحَكَ يا مُسَافِرُ ... يَا بْنَةَ عَمِّي لاحَنِي الهَواجِرُ
وقال رؤبة بن العجَّاج : [ الرجز ]
4966 - لُوِّحَ مِنْهُ بَعْدَ بُدْنٍ وسَنَقْ ... تَلْويحكَ الضَّامرَ يُطْوى للسَّبَقْ
وقال آخر : [ الطويل ]
4967 - وتَعْجَبُ هِنْدٌ إنْ رأتْنِي شَاحِباً ... تقُولُ لشَيءٍ لوَّحتهُ السَّمائمُ
ويقال : لاحَهُ يلُوحُه : إذا غير حليته .
قال أبو رزين : تلفح وجوههم لفحة تدعهم أشد سواداً من الليل ، قال تعالى : { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } [ المؤمنون : 104 ] .
وطعن القائلون بالأول في هذا القول ، فقالوا : لا يجوز أن يصفهم بتسويد الوجوهِ ، مع قوله : { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } .
وقيل : اللوح شدة العطش ، يقال : لاحه العطش ولوحه : أي غيره ، قال الأخفش : والمعنى أنها معطشة للبشر ، أي : لأهلها؛ وأنشد : [ الطويل ]
4968 - سَقَتْنِي على لَوْحِ من المَاءِ شَرْبةً ... سَقَاهَا بِه اللَّهُ الرِّهامَ الغَوادِيَا
يعني باللوح : شدة العطش . والرهام جمع رهمة - بالكسر - وهي المطرة الضعيفة وأرهمت السحابة : أتت بالرهام .
واللُّوح - بالضم - الهواء بين السماء والأرض ، والبشر : إما جمع بشرة ، أي : مغيرة للجلود . قاله مجاهد وقتادة ، وجمع البشر : أبشار ، وإما المراد به الإنس من أهل النار ، وهو قول الجمهور .
واللام في « البشر » : مقوية ، كهي في { لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] .
وقراءة النصب في « لوَّاحَةً » مقوية ، لكون « لا تُبْقِي » في محل الحال .
قوله تعالى : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } ، هذه الجملة فيها الوجهان :
أعني : الحالية ، والاستئناف وفي هذه الكلمة قراءات شاذة ، وتوجيهات مشكلة .
فقرأ أبو جعفر وطلحة : « تِسعَة عْشرَ » - بسكون العين من « عشر »؛ تخفيفاً؛ لتوالي خمس حركات من جنس واحد ، وهذه كقراءة { أَحَدَ عَشْرَ كَوْكباً } [ يوسف : 4 ] وقد تقدمت . وقرأ أنس وابن عباس رضي الله عنهما « تِسعَةُ عشَر » بضم التاء ، « عَشَر » بالفتح .
وهذه حركة بناء ، لا يجوز أن يتوهم كونها إعراباً ، إذ لو كانت للإعراب لجعلت في الاسم الأخير لتنزل الكلمتين منزلة الكلمة الواحدة ، وإنما عدل إلى التسكين كراهة توالي خمس حركات .
وعن المهدوي : « من قرأ : » تِسْعَةُ عَشَرْ « فكأنه من التداخل ، كأنه أراد العطف ، فترك التركيب ، ورفع هاء التأنيث ، ثم راجع البناء ، وأسكن » انتهى .
فجعل الحركة للإعراب ، ويعني بقوله : أسكن راء « عَشَرْ » فإنه في هذه القراءة كذلك .
وعن أنس - رضي الله عنه - أيضاً : « تِسْعَةُ أعْشُرٍ » بضم « تِسْعَة » و « أعْشُر » بهمزة مفتوحة ، ثم عين ساكنة ، ثم شين مضمومة ، وفيها وجهان :
قال أبو الفضل : يجوز أن يكون جمع « العشيرة » على « أعْشُر » ، ثم أجراه مجرى « تِسْعَة عشر » .

وقال الزمخشريُّ : جمع « عَشِير » مثل : يَمِين وأيْمُن .
وعن أنس - أيضاً - : « تِسْعَةُ وعْشُرْ » بضم التاء وسكون العين وضم الشين وواو مفتوحة بدل الهمزة .
وتخريجها كتخريج ما قبلها ، إلا أنه قلب الهمزة واواً مبالغة في التخفيف ، والضمة - كما تقدم - للبناء لا للإعراب .
ونقل المهدوي : أنه قرىء : « تِسْعَةٌ وعَشْرْ » ، قال : « فجاء به على الأصل قبل التركيب وعطف » عَشْر « على » تِسْعَة « ، وحذف التنوين ، لكثرة الاستعمال ، وسكون الراء من » عشر « على نية الوقف » .
وقرأ سليمان بن قتة : بضم التاء وهمزة مفتوحة ، وسكون العين ، وضم الشين وجر الراء من « أعْشُرٍ » .
والضمة على هذا ضمة إعراب ، لأنه أضاف الاسم لها بعده فأعربهما إعراب المتضايفين وهي لغة لبعض العرب يفكون تركيب الأعداد ، ويعربونها كالمتضايفين؛ كقوله : [ الرجز ]
4969 - كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوتِهْ ... بِنْتَ ثَمانِي عَشْرةٍ مِنْ حِجَّتِهْ
قال أبوالفضل : ويجيء على هذه القراءة ، وهي قراءة من قرأ : « أعشر » مبنياً ، أو معرباً من حيث هو جمع ، أن الملائكة الذي هم على « سَقَر » تسعون ملكاً .
فصل في معنى الآية
معنى الآية : أنه يلي أمر تلك النار تسعة عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها .
قيل : هم خزنة النار ، مالك وثمانية عشر ملكاً .
وقيل : التسعة عشر نقيباً ، وقال أكثر المفسرين : تسعة عشر ملكاً بأعيانهم .
قال القرطبي : وذكر ابن المبارك عن رجل من بني تميم ، قال كنا عند أبي العوام .
فقرأ هذه الآية ، فقال : ما تسعة عشر تسعة عشر ألف ملك أو تسعة عشر ملكاً؟ قال : قلت : لا بل تسعة عشر ملكاً ، قال : وأنى تعلم ذلك؟
فقلت : لقول الله - عز وجل - : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ المدثر : 31 ]
قال : صدقت ، هم تسعة عشر ملكاً .
قال ابنُ جريج : نعت النبي صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعْينُهُمْ كالبَرْقِ ، وأنْيابُهمْ كالصَّيَاصي ، وأشْعارُهمْ تَمَسُّ أقْدامَهُمْ يَخرجُ لهَبُ النَّارِ مِنَ أفْواهِهِمْ » ، الحديث .
قال ابن الأثير : « الصَّياصِي : قرون البقر » .
وروى الترمذي عن عبد الله قال : « قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟
قالوا : لا ندري حتى نسأله فجاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد غلب أصحابك اليوم ، فقال : وبماذا غلبوا؟ .
قال : سألهم يهود ، هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ .
قال : فماذا قالوا؟ قال : فقالوا : لا ندري حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم : أيغلب قومٌ سئلوا عما لا يعلمون ، فقالوا : لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ لكنهم قد سألوا نبيهم ، فقالوا : أرنا الله جهرة ، عليّ بأعداء الله ، إني سائلهم عن تربة الجنة ، وهي الدرمك ، فلما جاءوا ، قالوا : يا أبا القاسم ، كم عدد خزنة جهنم؟ .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هَكذَا ، وهَكذَا « ، في مرة عشرة ، وفي مرة تسعة ، قالوا : نعم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : » مَا تُربَةُ الجنَّةِ «؟ فسكتوا ، ثم قالوا : أخبرنا يا أبا القاسم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » الخُبْزُ مِنَ الدَّرْمكِ « .

قال ابن الأثير : الدرمك : هو الدقيق الحوارى .
قال القرطبيُّ : الصحيح - إن شاء الله - أن هؤلاء التسعة عشر ، هم الرؤساء ، والنقباء ، وأما جملتهم فكما قال تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] ، وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يُؤتَى بجَهنَّم يَومئِذٍ ، لها سبعُونَ ألفَ زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجُرُّونهَا » .
وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : لما نزل قوله - عز وجل - { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمعُ ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم : « تسعة عشر » وأنتم الدهماء - أي العدد العظيم - والشجعان ، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم .
قال السدي : فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي : لا يهولنكم التسعة عشر ، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة وبمنكبي الأيسر التسعة ، ثم تمرون إلى الجنة ، يقولها مستهزءاً .
وفي رواية : أن الحارث بن كلدة قال : أنا أكفيكم سبعة عشر ، واكفوني أنتم اثنين ، فلما قال أبو الأسود ذلك ، قال المسلمون : ويحكم ، لا يقاس الملائكة بالحدادين ، فجرى هذا مثلاً في كل شيئين لا تساوي بينهما ، ومعناه : لا يقاس الملائكة بالسجّانين ، والحداد : السجان .
فصل في تقدير عدد الملائكة
ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوهاً :
منها ما قاله أرباب الحكمةِ : أنّ سبب فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية ، هو القوى الحيوانية والطبيعية ، فالقوى الحيوانية : فهي الخمسة الظاهرة ، والخمسة الباطنة ، والشَّهوة ، والغضب فهذه اثنا عشر ، وأما القوى الطبيعية : فهي الجاذبة ، والماسكة ، والهاضمة ، والدافعة والعادية ، والنافية ، والمولدة ، فالجموع تسعة عشر ، فلما كانت هذه منشآت الآفات لا جرم كان عدد الزبانية هكذا .
ومنها : أن أبو جهنم سبعة ، فستة منها للكفار وواحد للفسَّاق ، ثم إنَّ الكفَّار يدخلون النار لأمور ثلاثة : ترك الاعتقاد ، وترك الإقرار ، وترك العمل ، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة ، فالمجموع : ثمانية عشر .
وأما باب الفساق : فليس هناك إلا ترك العمل ، فالمجموع : تسعة عشر مشغولة بغير العبادة ، فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر .

وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)

قوله : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً } .
روي أن أبا جهل لما نزل قول الله تعالى : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } [ المدثر : 30 ] قال : أيعجز كل مائة ان يبطشوا بواحدٍ منهم ثم يخرجون من النار؛ فنزل قوله عز وجل : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً } أي : لم نجعلهم رجالاً فتغالبوهم .
وقيل : جعلهم ملائكة لأنهم خلاف المعذبين من الجن والإنس ، فلا تأخذهم مآخذ المجانس من الرقة والرأفة ، ولا يستريحون إليهم ، ولأنهم أشد الخلق بأساً ، وأقواهم بطشاً ، ولذلك جعل - تعالى - الرسول إلى البشر من جنسهم ليكون رأفة ورحمة بنا .
وقيل : لأنَّ قوتهم أعظم من قوة الإنس والجن .
فإن قيل : ثبت في الأخبار أنَّ الملائكة مخلوقون من النور ، والمخلوق من النور كيف يطيق المكث في النار؟ .
فالجواب : أن الله - تعالى - قادر على كل الممكنات ، فكما أنه لا استبعاد في [ إبقاء الحي في مثل ذلك العذاب أبد الآباد ولا يموت ، فكذا لا استبعاد ] في بقاء الملائكة هناك من غير ألم .
قوله { وَمَا جَعَلْنَآ عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } . أي : بليّة .
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : المعنى : ضلالة للذين كفروا .
وقوله تعالى { فِتْنَةً } مفعول ثانٍ على حذف مضاف ، أي إلا سبب فتنة ، و « الذين » صفة ل « فتنة » ، وليست « فتنة » مفعولاً له .
فصل في علة ذكر العدد .
قال ابن الخطيب : هذا العدد إنَّما صار سبباً لفتنة الكفار من وجهين :
الأول : أن الكفار يستهزئون ويقولون : لم لم يكونوا عشرين ، وما المقتضي لتخصيص هذا العدد؟ .
والثاني : أن الكفار يقولون : هذا العدد القليل ، كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر خلق العالم من الجن والإنس من أول ما خلقهم الله إلى قيام القيامة؟ .
والجواب عن الأول : أن هذا السؤال لازمٌ على كل عددٍ يفرض .
وعن الثاني : أنه لا يبعد أن الله يزرق ذلك العدد القليل قوة تفي بذلك ، فقد اقتلع جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - مدائن قوم لوطٍ على أحدِ جناحيه ، ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياح ديكتهم ، ثم قلبها وجعل عاليها سافلها .
وأيضاً : فأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا ، ولا للعقل فيها مجال .
فصل في أن الله تعالى يريد الفتنة .
دلت هذه الآية على أن الله - تعالى - يريد الفتنة .
وأجاب الجبائي : بأن المراد من الفتنة تشديدُ التعبد ليستدلوا على أنه - تعالى - قادرٌ على تقوية هؤلاء التسعة عشر على ما لا يقوى عليه مائةُ ألفِ ملكٍ أقوياء .
وأجاب الكعبي : بأن المراد من الفتنة الامتحانُ حتَّى يفوضَ المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعين إلى علم الله تعالى ، وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به ، أو يكون المراد من الفتنة ما وقعوا فيه من الكفر بسبب تكذيبهم بعدد الخزنة ، وحاصله ترك الألطاف .

والجواب : أن نقول : هل لا يزال لهذه المتشابهات أثرٌ في تقوية داعية الكفر أم لا؟ فإن لم يكن له أثرٌ في تقوية داعية الكفر لم يكن إنزال هذه المتشابهات فتنة للذين كفروا ألبتة وإن كان له أثرٌ في تقوية داعية الكفر ، فقد حصل المقصود؛ لأنه إذا ترجَّحت داعية الفعل صارت داعيةُ الترك مرجوحة ، والمرجوح يمتنع تأثيره ، فيكون الترك ممتنع الوقوع ، فيصير الفعل واجب الوقوع . والله أعلم .
قوله تعالى : { لِيَسْتَيْقِنَ الذين } . متعلق ب « جعلنا » لا ب « فتنة » .
وقيل : بفعل مضمر ، أي : فعلنا ذلك ليستيقن .
فصل في المراد بالآية
معنى الكلام : ليُوقنَ الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدَّة خزنة جهنَّم مُوافقةٌ لما عندهم . قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم . ثم يحتمل أن يريد الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام ، ويحتمل أن يريد الكُلَّ ، { وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً } لتصديقهم بعدد خزنة النار .
قال ابن الخطيب : فإن قيل : حقيقة الإيمان عندكم لا تقبل الزيادة والنقصان ، فما قولكم في هذه الآية؟ .
فالجواب : نحملُه على ثمرات الإيمان ، وعلى آثاره ولوازمه .
قوله تعالى : { وَلاَ يَرْتَابَ } ، أي : ولا يشك { الذين أُوتُواْ } أي : أعطُوا { الكتاب والمؤمنون } أي : المُصدِّقُون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنَّ خزنة جهنَّم تسعة عشر .
فإن قيل : لما أثبت الاستيقان لأهل الكتاب ، وأثبت زيادة الإيمان للمؤمنين ، فما الفائدة في قوله تعالى بعد ذلك : { وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُوا الكتاب والمؤمنون } ؟ .
فالجواب : أن الإنسان إذا اجتهد في أمرٍ غامضٍ دقيقِ الحُجَّة كثير الشُّبه ، فحصل له اليقين ، فربَّما غفل عن مقدمةٍ من مقدِّمات ذلك الدليل الدقيق ، فيعود الشرك ، فإثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي طريان الارتياب بعد ذلك ، ففائدة هذه الإعادة نفي ذلك الشكِّ ، وأنه حصل له يقينٌ جازمٌ ، لا يحصل عقيبه شكٌّ ألبتة .
قوله تعالى : { وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } ، أي : في صدورهم شكٌّ ونفاقٌ من منافقي أهل « المدينة » الذين يجيئون في مستقبل الزمان بعد الهجرة ، وهذا إخبار عما سيكون ، ففيه معجزة { والكافرون } أي : اليهود والنصارى { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } يعني : بعدد خزنةِ جهنَّم ، وهذا قول أكثر المفسرين .
وقال الحسن بن الفضل : السورة مكيّة ، ولم يكن ب « مكة » نفاقٌ ، فالمرض في هذه الآية الخلاف ، والمراد بالكافرين : مشركو العرب ، ويجوز أن يُراد بالمرض الشكُّ والارتياب لأن أهل « مكة » كان أكثرهم مشركين ، وبعضهم قاطعين بالكذب ، وقوله تعالى إخباراً عنهم : { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } ؟ أي : هذا العدد الذي ذكره حديثاً ، أي ما هذا من الحديث .
قال الليث رحمه الله : المثل الحديث ، ومنه :

{ مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } [ محمد : 15 ] ، أي حديثها والخبر عنها .
وقال ابن الخطيب : إنما سمَّوه مثلاً؛ لأنه لمَّا كان هذا العدد عدداً عجيباً ظن القوم أنه رُبَّما لم يكن مراداً لله منه ما أشعر به ظاهره بل جعله مثلاً لشيء آخر تنبيهاً على مقصود آخر - لا جَرمَ سمَّوه مثلاً - لأنهم لمَّا اسغربوه ظنُّوا أنه ضرب مثلاً لغيره ، و « مَثَلاً » تمييزٌ أو حالٌ ، وتسمية هذا مثلاً على سبيل الاستعارة لغرابته .
فصل في لام : « وليقول »
« اللام » في قوله تعالى : { وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } جار على أصول أهل السُّنة؛ لأن ذلك مراد ، وعند المعتزلة : هي لام العاقبة ، ونسبوه إلى الله - عز وجل - مع أنهم ينكرون ذلك ، إما على سبيل التَّهكُّم ، وإما على ما يقولونه .
قوله : { كَذَلِكَ } : نعتٌ لمصدر ، أو حالٌ منه على ما عرف ، وذلك إشارة إلى ما تقدم من الإضلال والهدي أي : مثل ذلك الإضلالِ والهدى { يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ } كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم « يُضِلُّ » أي : يُعمي ويُخزي من يشاء ، ويهدي من يشاء أي ويرشد من يشاء كإرشاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه الآية تدل على مذهب أهل السنة؛ لأنه - تعالى - قال في أول هذه الآية : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } وقال - جل ذكره - في آخر الآية : { وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } ، ثم قال سبحانه : { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ } .
وأما المعتزلة فذكروا تأويلاتهم المشهورة ، وتقدم أجوبتها .
قوله : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } ، « جُنُود ربِّك » : مفعولٌ واجبُ التقديم لحصر فاعله ولعود الضمير على ما اتصل بالمفعول .
فصل في تفسير الآية
أي : وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار « إلاَّ هُوَ » أي : الله عز وجل ، وهذا جواب لأبي جهل حين قال : ما لإله محمد صلى الله عليه وسلم من الجنود إلاَّ تسْعةَ عشرَ إلاَّ أنَّ لكلِّ واحد منهم من الأعوان والجنود ما لا يعلم عددهم إلا هو ، ويحتمل أن يكون المعنى { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ } لفرط كثرتها { إِلاَّ هُوَ } فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين ، ولكن له في هذا العدد حكمة لا يعلمها الخلق ، وهو جل جلاله يعلمها .
ويكون المعنى : أنه لا حاجة بالله - سبحانه - في تعذيب الكفار والفساق إلى هؤلاء الخزنة ، بل هو الذي يعذِّبهم في الحقيقة ، وهو الذي يخلق الألم فيهم ، ولو أنه - تعالى - قلب شعرة في عين ابن آدم أو سلط الألم على عرق واحد من عروق بدنه لكفاه ذلك بلاء ومحنة ، فلا يلزم من تقليل عدد الخزنة قلَّةُ العذاب فجنود الله تعالى غير متناهية لأن مقدوراته غير متناهية
قال صلى الله عليه وسلم :

« أطَّتِ السَّماءُ وحَقَّ لَهَا أن تَئِطَّ ، مَا فيهَا مَوضع أرْبعِ أصَابعَ إلاَّ وفِيهَا مَلكٌ سَاجِدٌ » .
قوله جل ذكره : { وَمَا هِيَ } ، يجوز أن يعود الضمير على « سَقَر » أي : وما سقر إلاَّ تذكرةٌ أي عظةٌ للبشر ، وأن يعود على الآيات المذكورة فيها ، أو النار لتقدمها ، أو الجنود لأنه أقربُ مذكور ، أو نار الدنيا ، وإن لم يجرِ لها ذكر تذكرة لنا بالآخرة ، قاله الزجاج أو ما هذه العدة { إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ } أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى ، وأنه سبحانه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار .
والبشر : مفعول ب « ذكرى » و « اللام » فيه مزيدة .

كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)

قوله : { كَلاَّ والقمر } .
قال الفراء : « كَلاَّ » أصله للقسم ، التقدير : أي : والقمر .
وقيل : المعنى حقّاً والقمر ، فلا يوقف على هذين التقديرين على « كلا » .
وأجاز الطبري الوقف عليها ، وجعلها ردّاً على الذين زعموا أنهم يقاومون خزنة جهنم أي : ليس الأمر كما يقول من زعم أنه يقاوم خزنة النار ، ثم أقسم على ذلك بالقمر ، وبما بعده .
وقيل : هذا إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن يكون لهم ذكرى؛ لأنهم لا يتذكرون .
وقيل : هو ردعٌ لمن ينكر أن يكون الكبر نذيراً .
وقيل : ردع عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة .
قوله تعالى : { والليل إِذْ أَدْبَرَ } .
قرأ نافع وحمزة وحفص : « إذ » ظرفاً لما مضى من الزمان « أدبر » بزنة « أكْرَمَ » .
والباقون : « إذا » ظرفاً لما يستقبل « دَبَرَ » بزنة « ضَرَبَ » .
والرَّسْمُ محتمل لكلتيهما ، فالصورة الخطية لا تختلف .
واختار أبو عبيد قراءة « إذا » ، قال : لأن بعده « إذَا أسْفرَ » ، قال : « وكذلك هي في حرف عبد الله » ، يعني : أنه مكتوب بألفين بعد الذال؛ أحدهما : ألف « إذا » والأخرى همزة « أدبر » .
قال : وليس في القرآن قسم يعقبه « إذ » ، وإنما يعقبه « إذا » .
واختار ابن عباس - رضي الله عنه - : « إذا » .
ويحكى عنه : أنه لما سمع « دَبَرَ » قال : « إنَّما يدبرُ ظهر البعير » .
واختلفوا : هل « دبر ، وأدبر » بمعنى أم لا؟ .
فقيل : هما بمعنى واحد ، يقال : دبر الليل والنهار وأدبر ، وقبل وأقبل؛ ومنه قولهم : « أمس الدابر » فهذا من « دَبَر » ، و « أمس المُدبِر »؛ قال صَخرُ بن عمرو بن الشَّريدِ السُّلمِيُّ : [ الكامل ]
4970 - ولقَدْ قَتلْتُكمْ ثُنَاءَ ومَوْحَداً ... وتَركْتُ مُرَّةَ مِثلَ أمْسِ الدّابرِ
ويروى : « المُدْبِر » ، وهذا قول الفرَّاء والأخفش والزجاج .
وأما : « أدبر الراكب » وأقبل فرباعي لا غير .
وقال يونس : « دبر » انقضى ، و « أدبر » تولى ، ففرق بينهما .
وقال الزمخشري : « ودبر : بمعنى أدبر » ك « قبل بمعنى أقبل » .
وقيل منه : صاروا كأمسِ الدابر .
وقيل : هو من دبر الليل بالنهار ، إذا خلفه .
وذكر القرطبي عن بعض أهل اللغة : « دبر الليل : إذا مضى ، وأدبر : أخذ في الإدبار » .
وقرأ محمد بن السميفع : « والليل إذا أدبر » بألفين ، وكذلك هي في مصحف عبد الله وأبيّ .
وقال قطرب : من قرأ « دبر » فيعني أقبل ، من قول العرب : دبر فلان ، إذا جاء من خلفي .

قال أبو عمرو : وهي لغة قريش .
قوله تعالى : { والصبح إِذَآ أَسْفَرَ } . أي أضاء ، وفي الحديث : « أسِفرُوا بالفَجْرِ » .
ومنه قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } [ عبس : 38 ] .
وقرأ العامة : « أسْفَرَ » بالألف وعيسى بن الفضل وابن السميفع : « سَفَر » ثلاثياً .
والمعنى : طرح الظُّلمة عن وجهه على وجه الاستعارة ، وهما لغتان .
ويقال : سَفَرَ وجه فلان إذا أضاء ، وأسفر وجهه حسناً : أي أشرق ، وسفرت المرأة ، أي كشفت عن وجهها ، فهي سافرة .
قال القرطبي : ويجوز أن يكون سَفَرَ الظلام ، أي كنسه ، كما يسفر البيت أي : يُكنس ، ومنه السفير ، لما يسقط من ورق الشجر ويتحاتّ ، يقال : إنما سمي سفيراً لأن الريح تُسْفره ، أي : تكنسه ، والمُسفرة : المكنسة « .
قوله : { إِنَّهَا } . أي : إن النار .
وقيل : إن قيام الساعة كذا حكاه أبو حيان . وفيه شيئان : عوده على غير مذكور ، وكونُ المضاف اكتسب تأنيثاً .
وقيل : إنه النذارة ، وقيل : هي ضمير القصّة ، وهذا جواب القسم وتعليل ل » كَلاَّ « والقسم معترض للتوكيد . قاله الزمخشري .
قال شهاب الدين : » وحينئذ يحتاج إلى تقدير جوازه ، وفيه تكلف وخروج عن الظاهر « .
قوله : { لإِحْدَى الكبر } . قرأ العامَّةُ : » لإحْدَى الكُبَر « بهمزة ، وأصلها واو من الوحدة .
وقرأ نصر بن عاصم ، وابن محيصن ، ويروى عن ابن كثير : » لَحدى « بحذف الهمزة .
وهذا من الشُّذوذ بحيث لا يقاس عليه .
وتوجيهه : أن يكون أبدالها ألفاً ثُمَّ حذف الألف لالتقاء الساكنين ، وقياس تخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بَيْنَ بَيْنَ .
قال الواحدي : ألف إحدى مقطوع لا تذهب في الوصل و » الكُبَر « : جمع » كُبْرَى « ك » الفُضَل « جمع » فُضْلَى « .
قال الزمخشري : » الكُبَر : جمع الكُبْرى « . جعلت ألف التأنيث كتاء التأنيث ، فكما جمعت » فُعْلة « على » فُعَل « جمعت » فُعْلى « عليها ، ونظير ذلك : » السَّوافِي « في جمع » السَّافِيَاء « وهو التراب التي تسفّه الريح ، و » القَواصع « في جمع » القَاصِعَاء « كأنها جمع » فاعلة « قاله ابن الخطيب
فصل في معنى الآية
معنى » إحْدَى الكُبَرِ « أي إحدى الدواهي ، قال : [ الرجز ]
4971 - يَا ابْنَ المُعلَّى نزَلتْ إحْدَى الكْبَرْ ... دَاهِيَةُ الدَّهْرِ وصَمَّاءُ الغِيَرْ
ومثله : هو أحد الرجال ، وهي إحدى النساء ، لمن يستعظمونه . والمراد من » الكبر « دركات جهنم ، وهي سبعة : جَهَنَّم ، ولَظَى ، والحطمة ، والسَّعير ، والجَحِيم ، والهَاوية ، وسَقَر . أعاذنا الله منها .
وفي تفسير مقاتل : » الكُبَر « اسم من أسماء النار .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما » إنها « أي إن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم » لإحْدَى الكُبَر « أي : الكبيرة من الكبائر .
قوله : { نَذِيراً } . فيه أوجه :
أحدها : أنه تمييز من » إحدى « لما ضمنت معنى التعظيم ، كأنه قيل : أعظم الكبر إنذاراً ، ف » نذير « بمعنى » الإنذار « كالنكير بمعنى الإنكار ، كأنه قيل : إنها لإحدى الدواهي إنذاراً ، ومثله : هي إحدى النساء عفافاً .

الثاني : أنه مصدر بمعنى الإنذار أيضاً ولكنه نصب بفعل مقدَّر ، قاله الفراء .
الثالث : أنه « فعيل » بمعنى « مُفْعِل » وهو حال من الضمير في « إنها » . قاله الزجاج ، وذُكِّرَ لأن معناه معنى العذاب أو أراد أنَّها « ذات إنذارٍ » على معنى النسب ، كقولهم : امرأة طالق وطاهر .
قال الحسن رضي الله عنه : والله ما أنذرَ الخلائق بشيءٍ أدهى منها .
الرابع : أنه حال من الضمير في « إحدى » لتأويلها بمعنى العظم .
الخامس : أنه حال من فاعل « قُمْ » أول السورة ، والمراد بالنذير : محمدٌ صلى الله عليه وسلم أي : قُمْ نذيراً للبشر ، أي : مخوفاً لهم . قاله أبو علي الفارسي .
وروي عن ابن عباس ، وأنكره الفراء .
قال ابن الأنباري : قال بعض المفسرين : معناه يا أيُّها المدثِّر ، قُم نذيراً للبشر ، وهذا قبيح لطول ما بينهما .
السادس : أنه مصدر منصوب ب « أنذِر » أول السورة ، كأنه قال : إنذاراً للبشر .
قال الفراء : يجوز أن يكون النذير بمعنى الإنذار ، أي : أنذر إنذاراً ، فهو كقوله تعالى : { كَيْفَ نَذِيرِ } [ الملك : 17 ] . أي : إنذاري ، فعلى هذا يكون راجعاً إلى أول السورة .
السابع : هو حالٌ من « الكُبَر » .
الثامن : حالٌ من ضمير « الكُبَرِ » .
التاسع : أنه منصوب بإضمار « أعني » .
العاشر : أنه حال من « لإحدى » . قاله ابن عطية .
الحادي عشر : أنَّه منصوب ب « ادع » مقدَّراً ، إذ المراد به الله تبارك وتعالى .
روى أبو معاوية الضرير : حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي رزين : « نذيراً للبشر » ، قال : يقول الله عز وجل : أنا لكم منها نذير فاتقوها .
و « نذيراً » على هذا نصب على الحال ، أي ب { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً } منذراً بذلك البشر .
الثاني عشر : أنَّه منصوب ب « نادى ، أو ببلِّغ » إذ المراد به الرسول صلى الله عليه وسلم .
الثالث عشر : أنَّه منصوب بما دلَّت عليه الجملة ، تقديره : عظُمتْ نذيراً .
الرابع عشر : هو حال من الضمير في « الكُبَرِ » .
الخامس عشر : أنَّها حال من « هو » في قوله { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } .
السادس عشر : أنَّها مفعول من أجله ، النَّاصب لها ما في « الكُبَرِ » من معنى الفعل .
قال أبو البقاء : « إنَّها لإحْدى الكبر لإنذار البشر » . فظاهرُ هذا أنه مفعول من أجله . واعلم أنَّ النصب : قراءةُ العامَّة .
وقرأ أبي بن كعب ، وابن أبي عبلة : بالرفع .

فإن كان المراد النار جاز فيه وجهان :
أن يكون خبراً بعد خبرٍ ، وأن يكون خبر مبتدإ مضمرٍ ، أي : هي نذير ، والتذكِر - لما تقدم - من معنى النَّسبِ . وإن كان الباري تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم كان على خبر مبتدإ مضمر ، أي : هو نذير .
و « للبشر » : إما صفة ، وإما مفعول ل « نذير » واللام مزيدة لتقوية العامل .
قوله : { لِمَن شَآءَ } ، فيه وجهان :
أحدهما : أنه بدل من البشر بإعادة العامل كقوله : { لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] ، و { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ } [ الأعراف : 75 ] ، وأن يتقدم مفعول « شاء » أي : نذيراً لمن شاء التقدم أو التأخر ، وفيه ذكر مفعول « شاء » وقد تقدم أنه لا يذكر إلا إذا كان فيه غرابة .
الثاني : وبه بدأ الزمخشري : أن يكون « لمن شاء » خبراً مقدماً ، و « أن يتقدم » مبتدأ مؤخر .
قال : كقولك : لمن توضّأ أن يصلي ، ومعناه : مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم ، أو يتأخر انتهى .
فقوله : « التقدم أو التأخر » وهو مفعول « شاء » المقدر .
قال أبو حيَّان رحمه الله : قوله : « أن يتقدم » هو المبتدأ معنى لا يتبادر إلى الذهن ، وفيه حذف .
قال القرطبي : اللام في « لمن شاء » متعلقة ب « النذير » ، أي : نذيراً لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الخير والطاعة أو يتأخر إلى الشر والمعصية ، نظيره : { ولقد علمنا المستقدمين منكم } ، أي : في الخير { وَلَقَدْ علمنالمستأخرين } [ الحجر : 24 ] عنه ، قال الحسن : هذا وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر ، كقوله تعالى : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 27 ] .
وقيل : المعنى لمن شاء الله أن يتقدم أو يتأخر ، فالمشيئة متصلة بالله - عز وجل - والتقديم بالإيمان والتأخير بالكفر .
وكان ابن عباس يقول : هذا تهديد وإعلام أنَّ من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً جوزي بثوابٍ لا ينقطع ، ومن تأخر عن الطاعة ، وكذب محمداً صلى الله عليه وسلم عوقب عقاباً لا ينقطع .
وقال السديُّ : « لمن شاء منكم أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها ، أو يتأخر عنها إلى الجنة » .
فصل فيمن استدل بالآية على كون العبد متمكناً من الفعل
احتج المعتزلة بهذه الآية على كون العبد متمكناً من الفعل غير مجبور عليه .
وجوابه : أنَّ هذه الآية دلَّت على أن فعل العبد معلق على مشيئته ، لكن مشيئة العبد معلقة على مشيئة الله - تعالى جل ذكره - كقوله تعالى : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الإنسان : 30 ] .
وحينئذ تصير الآية حجة عليهم .
قال ابن الخطيب : وذكر الأصحاب جوابين آخرين :
الأول : معنى إضافة المشيئة إلى المخاطبين ، التهديد ، كقوله عز وجل : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } .
الثاني : أنَّ هذه المشيئة لله - تبارك وتعالى - على معنى : لمن شاء الله منكم أن يتقدم ، أو يتأخر .

كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)

قوله : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } . فيه أوجه :
أحدها : أنَّ « رَهِينَةٌ » بمعنى « رَهْنٍ » ك « الشَّتِيمة » بمعنى « الشَّتْم » .
قال الزمخشري : ليس كتأنيث « رهين » في قوله : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } [ الطور : 21 ] لتأنيث النفس ، لأنه لو قصدت الصفة لقيل : رهين؛ لأن « فعيلاً » بمعنى « مفعول » يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وإنَّما هي اسم بمعنى « الرهن » كالشتيمة بمعنى « الشّتم » كأنه قيل : كل نفس بما كسبت رهن ، ومنه بيت الحماسة : [ الطويل ]
4972 - أبَعْدَ الذي بالنَّعْفِ نَعْفِ كُويكِبٍ ... رَهِينَةِ رَمْسٍ ذي تُرابٍ وجَنْدلِ
كأنَّه قال : « رَهْنِ رَمْسٍ » .
الثاني : أن الهاء للمبالغة .
الثالث : أنَّ التأنيث لأجل اللفظ .
واختار أبو حيان : أنها بمعنى « مفعول » وأنها كالنَّطيحة ، وقال : ويدل على ذلك أنَّه لما كان خبراً عن المذكر كان بغير هاء ، وقال تعالى : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } فأنَّثَ حيث كان خبراً عن المذكر أتى بغير تاء ، وحيث كان خبراً عن مؤنث أتى بالتاء كما في هذه الآية فأمَّا التي في البيت فأنَّثَ على معنى النَّفْسِ .
فصل في معنى رهينة
ومعنى « رهينة » أي : مُرتهَنَة بكسبها ، مأخوذة بعملها ، إمَّا خلَّصهَا وإمَّا أوبقها .
قوله : { إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين } . فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه استثناء متصل إذا المراد بهم المسلمون الخالصون الصالحون ، فإنَّهم فكُّوا رقاب أنفسهم بأعمالهم الحسنة كما يخلِّص الراهن رهنه بإيفاءِ الحق .
والثاني : أنَّه منقطع ، إذا المراد به الأطفال والملائكة .
قال ابن عباس : المراد بهم الملائكة .
وقال عليُّ بن أبي طالب وابن عمر - رضي الله عنهما - هم أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيُرْتهَنُوا .
وقال الضحاك : هم الذين سبقت لهم منا الحسنى ، ونحوه عن ابن جريج قال : كل نفس بعملها محاسبة إلا أصحاب اليمين ، وهم أهل الجنة فإنَّهم لا يحاسبون .
وكذا قال مقاتل والكلبي أيضاً : هم أصحاب الجنة الذين كانوا عن يمين آدم - عليه الصلاة والسلام - يوم الميثاق حين قال الله تعالى لهم : « هؤلاء في الجنة ولا أبالي » .
قال الحسن وابن كيسان : هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين ، لأنهم أدَّوا ما كان عليهم .
وعن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : هم المسلمون .
وقيل : إلا أصحاب الحق وأهل الإيمان .
وقيل : هم الذين يُعطون كتبهم بأيمانهم .
وقال أبو جعفر الباقرُ : نحن وشيعتنا أصحاب اليمين ، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون .
قوله تعالى : { فِي جَنَّاتٍ } . يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : هم في جنات ، وأن يكون حالاً من « أصحاب اليمين » ، وأن يكون حالاً من فاعل « يتساءلون » .

ذكرهما أبو البقاء . ويجوز أن يكون ظرفاً ل « يتساءلون » ، وهو أظهر من الحالية من فاعله .
و « يتساءلون » يجوز أن يكون على بابه ، أي : يسأل بعضهم بعضاً ، ويجوز أن يكون بمعنى « يسألون » أي يسألون غيرهم ، نحو « دَعوْتُه وتَداعَيْتُه » .
قوله : { عَنِ المجرمين } فيه وجهان :
الأول : أن تكون كلمة « عن » صلة زائدة ، والتقدير : يتساءلون المجرمين ، فيقولون لهم : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } ، فإنه يقال : سألته كذا ، وسألته عن كذا .
الثاني : أن يكون المعنى : أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضاً عن أحوال المجرمين .
فإن قيل : فعلى هذا يجب أن يقولوا : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } ؟ .
فأجاب الزمخشري عنه فقال : « المرادُ من هذا أن المشركين يلقون ما جرى بينهم وبين المؤمنين ، فيقولون : قلنا لهم : مَا سلَكَكُمْ في سَقَرَ » .
وفيه وجه آخر وهو : أنَّ المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم؟ فلما رأوهم ، قالوا لهم : ما سلككم في سقر؟ والإضمارات كثيرة في القرآن .
قوله : { مَا سَلَكَكُمْ } : يجوز أن يكون على إضمار القول ، وذلك في موضع الحال أي : يتساءلون عنهم قائلين لهم : ما سلككم؟ قال الزمخشري : فإن قلت : كيف طابق بعد قوله : « ما سلككم » وهو سؤال المجرمين ، قوله : { يَتَسَآءَلُونَ عَنِ المجرمين } ، وهو سؤال عنهم ، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل : يتساءلون المجرمين : ما سلككم؟ .
قلت : قوله تعالى : { مَا سَلَكَكُمْ } ليس ببيانٍ للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسئولين عنهم؛ لأن المشركين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين ، فيقولون : قلنا لهم : ما سلككم في سقر؟ أي : أدخلكم في سقر ، كما تقول : سَلكْتُ الخَيْط في كذا إذا أدخلته فيه ، والمقصود من هذا : زيادة التوبيخ والتخجيل ، والمعنى : ما أدخلكم في هذه الدركةِ من النار؟ فأجابوا : أن العذاب لأمور أربعة ، ثم ذكروها وهي قولهم : { لَمْ نَكُ مِنَ المصلين } .
قال الكلبيُّ رحمه الله : يسألُ الرجلُ من أهل الجنة الرجلَ من أهل النار باسمه فيقول له : يا فلانُ .
وفي قراءة عبد الله بن الزبير : يا فلان ، ما سلككم في سقر؟ وهي قراءة على التفسير؛ لا أنها قرآن كما زعم من طعن في القرآن . قاله ابن الأنباري .
وقيل : إن المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم ، فتسأل الملائكة المشركين ، فيقولون لهم : ما سلككم في سقر؟ .
قال الفراء : في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين هم الولدان؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب .
قوله : { لَمْ نَكُ مِنَ المصلين } ، هذا هو الدالُّ على فاعل « سلكنا كذا » الواقع جواباً لقول المؤمنين لهم : « ما سلككم » [ والتقدير : سلكنا عَدمُ صلاتنا كذا وكذا .
قال أبو البقاء : هذه الجملة سدّت مسدّ الفاعل ، وهو جواب : ما سلككم ، وهو نظير « مناسككم » ، وقد تقدم في « البقرة » ]
فصل في تفسير الآية
قال القرطبي : معنى قولهم : { لَمْ نَكُ مِنَ المصلين } أي : المؤمنين الذين يصلون { وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين } أي : لم نكن نتصدق .

قال ابن الخطيب : « وهذان يجب أن يكونا محمولين على الصلاة الواجبة ، والزكاة؛ لأن ما ليس بواجب لا يجوز أن يعذَّبوا على تركه » .
{ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين } ، أي : في الأباطيل .
وقال ابن زيد : { نَخُوضُ مَعَ الخآئضين } في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وهو قولهم - لعنهم الله - : إنه ساحر ، كاهن ، مجنون ، شاعر كذبوا - والله - لم يكن فيه شيءٌ من ذلك صلى الله عليه وسلم .
وقال قتادة : كلما غوى غاوٍ غوينا معه .
وقيل : معناه : كنا أتباعاً ولم نكن متبوعين ، وقولهم : { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين } أي : نكذّب بيوم القيامة ، يوم الجزاء والحكم .
{ حتى أَتَانَا اليقين } أي : جائنا الموت ، قال الله تعالى : { حتى يَأْتِيَكَ اليقين } [ الحجر : 99 ] .
وهذه الآية تدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة .
فإن قيل : لم أخر التكذيب وهو أفحش تلك الخصال الأربع؟ .
فالجواب : أريد أنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذِّبين بيوم الدين ، والغرض تعظيم هذا الذنب كقوله تعالى : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ } [ البلد : 17 ] .
قوله : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين } ؛ كقوله : [ الطويل ]
4973 - عَلَى لاَحِبٍ لا يُهتَدَى بِمنَارِهِ .. .
في أحد وجهيه ، أي : لا شفاعة لهم فلا انتفاع بها ، وليس المراد أن ثمَّ شفاعةً غير نافعة كقوله تعالى : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] الآية .
وهذه الآية تدلُّ على صحة الشفاعة للمذنبين من هذه الأمة بمفهومها؛ لأن تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدلُّ على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين .
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : يشفع نبيكم صلى الله عليه وسلم رابع أربعة : جبريل ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، أو عيسى ، ثم نبيكم صلى الله عليه وسلم ثم الملائكة ، ثم النبيون ، ثم الصديقون ، ثم الشهداء ، ويبقى قوم في جهنم ، فيقال لهم : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } ؟ قالوا : لم نك من المصلين ، إلى قوله : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين } .
قال عبد الله بن مسعود : فهؤلاء الذين في جهنم .

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

قوله : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } عن القرآن ، أي : فما لأهل « مكة » قد أعرضوا وولَّوا .
قال مقاتل : معرضين عن القرآن من وجهين :
أحدهما : الجحود والإنكار .
والثاني : ترك العمل بما فيه .
وقيل : المراد بالتذكرة : العظة بالقرآن ، وغيره من المواعظ .
و « مُعرِضيْنَ » حال من الضمير في الجار الواقع خبراً عن « ما » الاستفهامية ، وقد تقدم أن مثل هذه الحال تسمى حالاً لازمة وقد تقدم بحث حسن .
و « عن التذكرة » متعلق به .
قال القرطبي : « وفي » اللام « معنى الفعل ، فانتصاب الحال على معنى الفعل » .
قال ابن الخطيب : « هو كقولك : ما لك قائماً » .
قوله : { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ } ، هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من الضمير في الجار ، وتكون بدلاً من « معرضين » . قاله أبو البقاء . يعني : أنها كالمشتملة عليها ، وأن تكون حالاً من الضمير في « معرضين » فيكون حالاً متداخلة .
وقرأ العامة : حُمُر - بضم الميم - ، والأعمش : بإسكانها .
وقرأ نافع وابن عامر : « مُسْتَنْفَرَةٌ » - بفتح الفاء - على أنه اسم مفعول ، أي : نفَّرها القنَّاص .
والباقون : بالكسر ، بمعنى نافرة .
يقال : استنفر ونفر بمعنى نحو عجب واستعجب ، وسخر واستسخر؛ قال الشاعر : [ الكامل ] .
4974 - إمْسِكْ حِماركَ إنَّهُ مُسْتنفِرٌ ... فِي إثرِ أحْمرةٍ عَمدْنَ لِغُرَّبِ
وقال الزمخشري : « وكأنها تطلب النِّفار في نفوسها ، في جمعها له وحملها عليه » .
فأبقى السِّين على بابها من الطلب ، وهو معنى حسنٌ .
قال أبو علي الفارسي : « الكسر في » مستنفرة « أولى لقوله : » فرَّت « للتناسب ، لأنه يدل على أنها استنفرت ، ويدل على صحة ذلك ماروى محمد بن سلام قال : سألت أبا سوار الغنوي - وكان عربياً فصيحاً - فقلت : كأنهم حمرٌ ماذا؟ فقال : مستنفرة طردها قسورة ، فقلت : إنما هي فرَّت من قسورة ، فقال : أفرت؟ قلت : نعم ، قال : فمستنفِرة إذاً » انتهى .
يعني : أنها مع قوله طرد ، تناسب الفتح ، لأنها اسم مفعول ، فلما أخبر بأن التلاوة « فرّت من قسورة » رجع إلى الكسر للتناسب إلا أنَّ بمثلِ هذه الحكاية لا تردُّ القراءة المتواترة .
والقَسْورة : قيل : الصَّائد ، أي : نفرت وهربت من قسورة ، أي : من الصائد .
وقيل : الرُّماة يرمُونها .
وقيل : هو اسم جمع لا واحد له .
وقال بعض أهل اللغة : إن « القَسْوَرة » : الرامي ، وجمعه : القساورة .
ولذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان : « القسورة » وهم الرماة والصيَّادون ، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو ظبيان عن أبي موسى الأشعري ، وأنشدوا للبيد بن ربيعة : [ الطويل ]
4975 - إذَا مَا هَتفْنَا هَتْفةً في نَديِّنَا ... أتَانَا الرِّجالُ العَائِدُون القَساوِرُ

وقيل : « القسورة » : الأسد . قاله أبو هريرة ، وابن عباس أيضاً رضي الله عنه .
قال ابن عرفة : من القسْرِ بمعنى القهْرِ ، أي : أنه يقهرُ السِّباع والحمر الوحشيَّة تهرب من السباع؛ ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
4876 - مُضمرٌ يَحْذَرُهُ الأبطَالُ ... كَأَنَّهُ القَسْوَرَةُ الرِّئبَالُ
أي : الأسد ، إلا أن ابن عباس أنكره ، وقال لا أعرف القسورة أسد في لغة أحد من العرب ، وإنما القسورة : عصبُ الرجال؛ وأنشد : [ الرجز ]
4977 - يَا بِنْتُ كُونِي خَيرةً لِخيِّرهْ ... أخْوالُهَا الجِنُّ وأهْلُ القَسْوره
وقيل : القَسْورةُ : ظُلمَة الليل ، قال ابن الأعرابي : وهو قول عكرمة .
وعن ابن عباس : ركز الناس؛ أي حسُّهم وأصواتهم .
وعنه أيضاً : { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } أي : من حبال الصيادين ، وعنه أيضاً : القسورة بلسان « الحَبَشَةَ » الأسد ، وخالفه عكرمة فقال : الأسد بلسان « الحبشة » : عَنْبَسة ، وبلسان « الحبشة » : الرُّماة ، وبلسان « فارس » : شير ، وبلسان « النَّبْط » : أريا .
وقيل : هو أوَّل سواد الليل ، ولا يقال لآخر سواد الليل : قسورة .
فصل في المراد بالحمر المستنفرة
قال ابن عباس : كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم حمر مستنفرة ، قال ابن عباس : أراد الحمر الوحشية .
قال الزمخشري : وفي تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله ، ولا يرى مثلُ نفار حمر الوحش ، واطرادها في العدوِ إذا خافت من شيء .
قوله تعالى : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } ، أي : يُعطى كُتُباً مفتوحةً ، وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا : يا محمد ، لا نُؤمِنُ بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه : « من رب العالمين » ، إلى فلان ابن فلان ، ونُؤمر فيه باتباعك ، ونظيره : { وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } [ الإسراء : 93 ] .
وقال ابن عباس : كانوا يقولون : إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل واحدٍ منا صحيفةٌ فيها براءةٌ من النار .
وقال مطرٌ الوراق : أرادوا أن يعطوا بغير عمل .
وقال الكلبي : قال المشركون : بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوباً ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك .
قال ابن الخطيب : وهذا من الصُّحف المنشَّرة بمعزل .
وقيل المعنى : أن يذكر بذكرٍ جميلٍ ، فجعلت الصُّحفُ موضعَ الذِّكر مجازاً ، فقالوا : إذا كانت ذنوب الإنسان تُكتَب عليه فما بالنا لا نرى ذلك؟!
قوله : « مُنشَّرة » .
العامة : على التشديد ، من « نشَّرهُ » بالتضعيف .
وابن جبير : « مُنْشرَةٌ » بالتخفيف ، و « نشَّر ، وأنشر » بمنزلة « نزّل وأنزَل » : والعامة أيضاً على ضمِّ الحاء من « صحُف » .
وابن جبير : على تسكينها .
قال أبو حيان : « والمحفوظ في الصحيفة والثوب : » نشَر « مخففاً ثلاثياً ، وهذا مردود بالقرآن المتواتر » .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75