كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

{ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان } [ المجادلة : 22 ] أي : جَعَل ، وقوله تعالى : { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } [ آل عمران : 53 ] ، وقوله سبحانه { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [ الأعراف : 156 ] .
الثاني : معناه قضى الله لكم؛ كقوله عزَّ وجلَّ : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا } [ التوبة : 51 ] ، أي : قضاه .
الثالث : ما كتب الله في اللَّوح المحفوظ ممَّا هو كائنٌ .
الرابع : ما كتب الله في القرآن ما إباحة هذه الأفعال .
قوله : { وَكُلُواْ واشربوا } الفائدةُ في ذكرهما : أنَّه لو اقتصر على قوله : « فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ » لم يعلم بذلك زوال تحريم الأكل والشُّرْب ، فذكرهما لتتمَّ الدلالةُ على إباحتهما وهذا جوابُ نازلةِ قيسٍ ، والأول جواب نازلةِ عمر ، وبدأ بجواب نازلَةِ عُمر لأنه المُهِمُّ .
قوله : « حَتَّى يَتَبَيَنَّ » « حَتَّى » هنا غايةٌ لقوله : { وَكُلُواْ واشربوا } بمعنى « إلى » ، ويقال : تَبَيَّنَ الشَّيْءُ ، وَأَبَانَ ، واسْتَبَانَ ، وَبَانَ كُلُّه بمعنّى ، وكلُّها تكون متعديةً ولازمةً ، إلاَّ « بَانَ » فلازمٌ ليس إلاَّ ، و « مِنَ الخَيْطِ » لابتداء الغاية ، وهي ومجرورها في محلِّ نصبٍ ب « يَتَبَيَّنَ » ؛ لأنَّ المعنى : حتى يُبَايِنَ الخَيْطُ الأبيضُ الأسود .
و { مِنَ الفجر } يجوزُ فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون تبعيضيةً؛ فتتعلَّق أيضاً ب « يَتَبيَّنَ » ؛ لأنَّ الخيطَ الأبيضَ هو بعضُ الفجر وأوله ، ولا يَضُرُّ تعلُّق حرفين بلفظٍ واحدٍ؛ لاختلاف معناهما .
والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنها حال من الضمير في الأبيض ، أي : الخيط الذي هو أبيض كائناً من الفجر ، وعلى هذا يجوز أن تكون « مِنْ » لبيان الجنس؛ كأنه قيل الخيطُ الأبيضُ الَّذي هو الفجرُ .
والثالثك أن يكون تمييزاً ، وهو ليس بشيء ، وإنما بَيَّن قوله { الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود } بقوله : { مِنَ الفجر } ولم يُبَيِّنِ الخيطَ الأسود؛ فيقول : مِنَ اللَّيْلِ؛ اكتفاءً بذلك ، وإنما ذَكَرَ هذا دونَ ذاكَ؛ لأنَّه هو المَنُوطُ به الأحكام المذكورة في المباشرة والأكْلِ والشُّرْبِ .
وهذا من أحسن التَّشْبيهات ، حيث شبَّه بياضَ النَّهار بخيطٍ أبيضَ ، وسوادَ الليل بخيطٍ أسودَ ، حتى إنه لما ذكر عَدِيُّ بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فهم من الآية الكريمة حقيقة الخيط ، تعجَّب منه ، وقال : « إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ » ويُروى : « إنَّكَ لَعَرِيضُ القَفَا »
وقد رُوِيَ أنَّ بعض الصحابة فَعَلَ كَفِعْلِ عَدِيٍّ ، ويروى أن بين قوله { الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود } وبين قوله : { مِنَ الفجر } عاماً كاملاً في النزول .
روي عن سَهْل بْنِ سَعْدٍ ، قال : أُنْزِلَتْ { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود } ولم ينزل قوله : { مِنَ الفجر } وكان رجالٌ إذا أرادوا الصَّوم ، ربط أحدهم في رجليه الخَيْطَ الأبْيَض ، والخَيْط الأَسْود ، ولا يزال يأكل حتى يتبيَّن له رؤيتهما ، فأنزل الله تعالى { مِنَ الفجر } ، فعلموا أنَّه إنما عني اللَّيل والنَّهار ، وسُمِّي الفجر خَيطاً؛ لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدّاً؛ كالخيط .

قال الشَّاعر : [ البسيط ]
959 - أَلْخَيْطُ الأَبْيَضُ ضَوْءُ الصُّبْحِ مُنْفَلِقٌ ... وَالخَيْطُ الأسْوَدُ جُنَحُ اللَّيْلِ مَكْتُومُ
والخَيطُ في كلامهم عبارةٌ عن اللون ، قاله القرطبيُّ ، وأنشد لأبي دؤاد الإياديِّ في ذلك فقال : [ المتقارب ]
960 - فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُ سُدْفَةٌ ... وَلاَحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا
وقد تُسمِّيه العرب أيضاً الصَّديع ، ومنه قولهم : انْصَدَعَ الفجْرُ؛ قال بِشْرُ بْنْ أبي خازمٍ ، أو عَمْرُوا بن مَعْدِيكرِبَ : [ الوافر ]
961 - تَرَى السِّرْحَانَ مُفْتَرِشاً ... يَدَيْهِ كَأَنَّ بَيَاضَ لَبَّتِهِ صَدِيعُ
وهذا النوع من باب التشبيه لا من الاستعارة؛ لأنَّ الاستعارة هي أن يُطْوَى فيها ذكر المشبَّه ، وهنا قد ذكر وهو قوله : { مِنَ الفجر } ، ونظيره قولك : « رَأَيْتُ أَسَداً مِنْ زَيْد » ، لو لم تَذْكُر : « مِنْ زَيْدٍ » لكان استعارةٌ ، ولكنَّ التشبيه هنا أبلغُ؛ لأنَّ الاستعارة لا بُدَّ فيها من دلالةٍ حاليةٍ ، وهنا ليس ثمَّ دلالةٌ ، ولذلك مَكَثَ بعضُ الصحابة يَحْمِلَ ذلك على الحقيقة مدةً ، حتَّى نزل « مِنَ الفَجْرِ » فتركت الاستعارة ، وإن كانت أبلغ لما ذكرنا .
فإن قيل : إنَّ بياضَ الصُّبح المشبه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذبُ؛ لأنَّ مستطيلٌ كشبه الخيط ، وأما الصُّبْحُ الصادق ، فهو بياضٌ مستديرٌ مستطيلٌ في الأفق ، فلزم على مقتضى الآية كون أوَّل النهار من طلوع الصُّبحِ الكاذب ، وليس كذلك بالإجماع .
فالجواب : أنَّ قوله { مِنَ الفجر } بيَّن أن المراد به الصُّبح الصادق ، لا يكون منتشراً ، بل يكون صغيراً دقيقاً ، فالصادق أيضاً يبدو دقيقاً ، ويرفع مستطيلاً . والفجر مصرد قولك فَجَرْتُ المَاءَ أَفْجُرُه فَجْراً وفجَّرْتُهُ تَفْجِيراً ، قال الأزهريُّ : الفَجْرُ أصله الشَّقُّ ، فعلى هذا هو انشقاقُ ظُلْمَة اللَّيل بنُورِ الصُّبح .
فصل
زعم أبو مسلم الأصفهاني : أنه لا شيء من المفطِّرات إلاَّ أحد هذه الثَّلاث ، وما ذكره الفقهاء من تكلُّف القيءِ والحقنة والسَّعوط ، فلا يفطر شيءٌ منها .
قال : لأنَّ كلَّ هذه الأشياء كانت مباحةً ثم دلَّت هذه الآية الكريمة على حرمة هذه الثلاثة على الصَّائم بعد الفجر ، وبقي ما سواها عل الإباحة الأصليَّة ، والفقهاء قالوا : خصوا هؤلاء بالذِّكْر؛ لأنَّ النَّفس تميل إليها .
فصل في صوم الجنب
مذهب أبي هريرة والحسن بن صالح؛ أنَّ الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال ، لم يكن له صوم ، وهذه الآية تبطل قولهم؛ لأنَّ المباشرة ، إذا أبيحت إلى انفجار الصُّبح ، لم يمكنه الاغتسال إلاَّ بعد الصُّبح .
ويؤيِّده ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يدركه الفجر ، وهو جنبٌ من أهله ، ثم يغتسل ويصوم ، والله أعلم .
فصل
زعم الأعمش أنه يحل الأكل والشُّرب والجماع بعد الفجر ، وقبل طلوع الشمس؛ قياساً لأوَّل النهار على آخره؛ فكما أن آخره بغروب الشَّمس ، وجب أن يكون أوله بطلوع الشَّمس ، قال : إن المراد بالخيط الأبيض ، والخيط الأسود في الآية الكريمة هو اللَّيلُ والنَّهار ، قال : ووجْه التشبيه ليس إلاَّ في البياض والسَّوَاد؛ لأن ظلمة الأفق حال طلوع الصُّبح لا يمكن تشبيهها الأسود في الشَّكل ألبتة؛ فثبت أنَّ المراد بالخيط الأسود في الآية هو اللَّيل والنهار .

ثم لو بحثنا عن حقيقة اللَّيل في قوله : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } لوجدناها عبارةً عن زمن غيبة الشَّمس؛ بدليل أنَّ الله تعالى سمَّاها بعد المغرب ليلاً مع بقاء الضَّوء فيه؛ فثبت أنه يكون الأمر في الطَّرف الأوَّل من النهار كذلك؛ فيكون قبل طلوع الشمس أيضاً ليلاً ، وألا يوجد النَّهار إلاَّ عند طلوع الشمس ، وإلاَّ يلزم أن يكون آخر النَّهار على زعمهم غياب الشَّفق الأحمر؛ لأنَّه آخر آثر الشمس؛ كما أن طلوع الفجر هو أوَّل طلوع آثار الشَّمس ، وإذا بطل هذا ، بَطَل ذاك ، ومن النَّاس من قال : آخر النهار غيابُ الشَّفَق ، ولا يجوز الإفطار إلاَّ عند طلوع الكواكب ، وكلُّها مذاهب باطلةٌ .
قوله « إلى اللَّيلِ » في هذا الجارِّ وجهان :
أحدهما : أنه متعلِّق بالإتما ، فهو غايةٌ له .
والثاني : أنه في محلِّ نصب على الحال من الصيام ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائناً إلى اللَّيل ، و « إلَى » إذا كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها ، لم يدخل فيه ، والآية من هذا القبيل .
فصل في اختلافهم في ماهيَّة اللِّيل
اختلفوا في اللِّيل ما هو؟ فمنهم : من قاس آخر النهار على أوله ، فاعتبروا في حصول الليل زوال آثار الشَّمس؛ كما حصل اعتبار زوال الليل عند ظهور النهار بظهور آثار الشَّمس .
ثم هؤلاء منهم من اكتفى بزوال الحمرة ، ومنهم من اعتبر ظهور الظَّلام التَّامْ وظهور الكواكب والحديث يبطل كلَّ ذلك ، وهو قوله - عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام - : « إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا ، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ » وهذا الحديث مع الآية يدلُّ على المنع من الوصال .
فصل
الحنفيَّة تمسَّكوا بهذه الآية الكريمة في أنَّ صوم النَّفل يجب إتمامه بقوله تعالى { أَتِمُّواْ الصيام } والأمر للوجوب فيتناول كُلَّ صيام .
وأجيبوا بأنَّ هذا إنما ورد في بيان أحكام صوم الفرض؛ بدليل أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال : « الصائم المتطوِّع أمير نفسه ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر »
وعن أمِّ هانىء : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بِشَرَابِ فَشَرِبَ ، ثُمَّ نَاوَلَهَا ، فَشَرِبَتْ ، فقالت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَمَا إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً ، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أن أرُدَّ سُؤْرَكَ ، فقال : « إنْ كَانَ قَضَاءً مِنْ رَمَضَانَ ، فاقْضي مَكَانَهَُ ، وإنْ كَانَ تَطَوُّعاً ، فإن شِئْتِ فاقْضي ، وإنْ شِئْتِ فَلاَ تَقْضِي »
قوله : { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد } جملةٌ حاليةٌ من فاعل « تُبَاشِرُوهُنَّ » ، والمعنى : « لاَ تُبَاشِرُوهُنَّ » ، وقد نَوَيْتُم الاعتكافَ في المسجد ، وليس المراد النهي عن مباشرتهنَّ في المسجد بقيد الاعتكاف؛ لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضاً .

والعُكُوفُ : الإقامة والملازمة له وهو في الشَّرع : لزوم المَسْجِد لطَاعَةِ الله تعالى فيه ، يقال : عَكَفَ بالفتح يَعْكِفُ بالضم والكسر ، وقد قرئ : { يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ } [ الأعراف : 138 ] بالوجهين ، وقال الفَرَزْدَقُ : [ الطويل ]
962 - تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِينَ كَأَنَّهُمْ ... عَلَى صَنَمٍ في الجَاهِلِيَّةِ عُكَّفُ
وقال الطِّرمَّاحُ : [ الطويل ]
963 - فَبَاتَتْ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكَّفاً ... عُكُوفُ البَوَاكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ
ويقال : الافتعال منه في الخير ، والانفعال في الشَّرِّ ، وأمَّا الاعتكاف في الشرع . فهو إقامة مخصوصةٌ بشرائط ، والكلام فيه بالنسبة إلى الحقيقة الشرعية كالكلام في الصلاة ، وقرأ قتادة : « عَكِفُونَ » كأنه يقال : عَاكِفٌ وعَكِفٌ؛ نحو : « بَارٌّ وَبَرٌّ ورَابٌّ وَرَبٌّ » ، وقرأ الأعمش : « في المَسْجِدِ » بالإفراد؛ كأنه يريد الجنس .
فصل
لما بين حكم تحريم المباشرة في الصيام ، كان يجوز أن يظن بأنَّ الاعتكاف حاله كحال الصَّوم في أنَّ الجماع يحرم فيه نهاراً أو ليلاً .
فصل
لو لمس المعتكف المرأة بغير شهوة ، جاز؛ لحديث عائشة ، وإن لمسها بشهوة ، أو قبَّلها أو باشرها فيما دون الفرج ، فهو حرام ، وهل يبطل به اعتكافه؛ فيه خلافٌ .
فصل
اتفقوا على أنَّ شرط الاعتكاف الجلوس في المسجد ، ثم اختلفوا ، فنقل عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّه قال : لا يجوز إلاَّ في المسجد الحرام ومسجد المدينة .
قال حُذَيْفَةُ : يجوز في هذين المسجدين ، وفي مسجد بيت المقدس؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ إلى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ »
وقال الزُّهْرِيُّ : لا يصحُّ إلاَّ في الجامِعِ .
وقال أبو حنيفة : لا يصحُّ إلاَّ في مسجدٍ له إمامٌ راتبٌ ، ومؤذِّن راتب .
وقال الشفعيُّ وأحمد : يصحُّ في جميع المساجد إلاَّ أن المسجد الجامع أفضل؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج إلى الجمعة ، فإن اعتكف في مسجد غير الجامع ، لاحتاج إلى الخروج إلى الجمعة ، فيشهدها ويرجع مكانه ، ويصحُّ اعتكافه؛ لأنه خرج إلى فرض ، وهو من الشَّرائع القديمة .
فصل في الاعتكاف بدون الصوم
يجوز الاعتكاف بغير صومٍ ، وبالصَّوم أفضل؛ وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - لا يجوز إلاَّ بالصَّوم .
واحتجَّ الأوَّلون : بأنَّ الاعتكاف لو أوجب الصَّوم ، لما صحَّ في رمضان؛ لأنَّ الصَّوم الذي أوجبه الاعتكاف ، إمَّا صومٌ آخر غير صوم رمضان ، وهو باطلٌ؛ لأن رمضان لا يصحُّ فيه غيره ، وأيضاً ما روي عن عمر - رضي الله عنه - قال : يا رسول الله ، إنِّي نَذَرْتُ في الجاهِلِيَّةِ أن أَعْتَكِفَ لَيْلَةً ، فَقَالَ - عليه الصَّلاَة والسَّلام- : « أَوْفِ بِنَذْرِكَ » والصَّوم لا يجوز في اللَّيل .
فصل
روى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلَّى الفجر ثم دخل معتكفه .

وقال مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة - رضي الله عنهم - إذا نذر اعتكاف شهرٍ دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم .
فصل في أقل مدة الاعتكاف
لا تقدير لزمان الاعتكاف فلو نذر اعتكاف ساعة ، انعقد ، ولو نذر الاعتكاف مطلقاً ، لخرج من نذره باعتكاف ساعة؛ كما لو نذر أن يتصدَّق مطلقاً ، فإنه يتصدق بما شاء من قليلٍ أو كثيرٍ ، والأفضل أن يعتكف يوماً للخروج من الخلاف ، فإنَّ أبا حنيفة لا يجوِّز اعتكاف أقلَّ من يومٍ ، بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر ، ويخرج بعد غروب الشمس .
فصل
قال القرطبيُّ - رحمه الله تعالى - : إذا أتى المعتكف كبيرةً ، بطل اعتكافه؛ لأنَّ الكبيرة ضدَّ العبادة ، كما أنَّ الحدث ضدَّ الطهارة والصَّلاة .
قوله : { تِلْكَ حُدُودُ الله } مبتدأٌ وخبرٌ ، واسمُ الإشارة أخبر عنه بجمع ، فلا جائز أن يشار به إلى ما نهي عنه في الاعتكاف ، لأنه شيءٌ واحدٌ ، بل هو إشارةٌ إلى ما تضمَّنته آية الصيام من أوَّلها إلى هنا ، وآية الصيام قد تضمَّنت عدة أوامر ، والأمر بالشَّيءِ نَهِيٌّ عن ضدِّه ، فبهذا الاعتبار كانت عدَّة مناهٍ ، ثم جاء آخرها صريح النهي ، وهو : « وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ » فأطلق على الكل « حُدُوداً » ؛ تغليباً للمنطوق به ، واعتباراً بتلك المناهي الَّتي تضمَّنتها الأوامر ، فقيل فيها حدودٌ ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل؛ لأنَّ المأمور به لا يقال فيه « فَلاَ تَقْرَبُوهَا » .
وقال أبو مسلم الأصفهانيُّ : « لاَ تَقْرَبُوهَا » أي : لاَ تَتَعَرَّضُوا لها بالتغيير؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ الإسراء : 34 ] .
قال أبو البقاء : دُخُولُ الفاء هنا عاطفةٌ على شيء محذوفٍ ، تقديره : « تَنَبَّهُوا فَلاَ تَقْرَبُوهَا » ، ولا يجوز في هذه الفاء أن تكون زائدةً كالتي في قوله تعالى : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] على أحد القولين؛ لأنه كان ينبغي أن ينتصب « حُدُودُ اللَّهِ » على الاشتغال؛ لأنه الفصيح فيما وقع قبل أمر أو نهيٍ ، نحو : « زَيْداً فَاضْرِبْهُ ، وعَمْراً فَلاَ تُهنْهُ » فلمَّا أجمعت القرَّاء هنا على الرفع ، علمنا أنَّ هذه الجملة التي هي « فَلاَ تَقْرَبُوهَا » منقطعةٌ عمَّا قبلها ، وإلا يلزم وجود غير الفصيح في القرآن .
والحُدُودُ : جمع حدٍّ ، وهو المنع ، ومنه قيل للبوَّابِ : حدَّاد ، لأنَّه يمنع من العبور قال اللَّيثُ - رحمه الله تعالى - : وحَدُّ الشَيْءِ منتهاه ومنقطعه ، ولهذا يقال : الحَدُّ مانعٌ جامِعٌ ، أي : يمنع غير المحدودِ الدُّخُول في المَحْدُودِ .
وقال الأزهريُّ ومنه يقال للمحروم ، محدودٌ؛ لأنَّه ممنوعٌ عن ارِّزق ، وحدود الله ما يمنع مخالفتها ، وسمِّي الحديد حديداً؛ لما فيه من المنع ، وكذلك : إحداد المرأة؛ لأنَّها تمتنع من الزينة .
والنَّهيُّ عن القُرْبَانِ أَبْلَغُ من النَّهْيِ عن الالتباس بالشيء؛ فلذلك جاءت الآية الكريمة .

وقال هنا : « فَلاَ تَقْرَبُوهَا » وفي مواضع أُخر : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] ومثله { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله } [ البقرة : 229 ] { وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } [ النساء : 14 ] لأنه غلَّب هنا جهة النهي؛ إذ هو المعقَّب بقوله : { تِلْكَ حُدُودُ الله } وما كان منهيّاً عن فعله ، كان النهيُّ عن قُرْبِانِهِ أبلغ ، وأمَّا الآياتُ الأُخَرُ ، فجاء « فَلاَ تَعْتَدُوهَا » عَقِيبَ بيان أحكام ذُكِرَتْ قبلُ؛ كالطلاق ، والعدَّة ، والإيلاء ، والحيض ، والمواريث؛ فناسب أن ينهى عن التعدِّي فيها ، وهو مجاوزة الحدِّ الذي حدَّه الله تعالى فيها .
قال السُّدِّيُّ : المراد بحدود الله شروط الله وقال شَهْرُ بن حَوْشَبٍ : فرائضُ الله .
قوله : { كذلك يُبَيِّنُ الله } الكاف في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ : أي : بياناً مثل هذا البيان .
فإنَّه لما بيَّن أحكام الصَّوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بياناً شافياً وافياً - قال بعده : { كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ } أي مثل هذا البيان الوافي الواضح .
أو حالاً من المصدر المحذوف؛ كما هو مذهب سيبويه .
قال أبو مُسْلِم : أراد بالآيات الفرائض الَّتي بيَّنها؛ كما قال سبحانه { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [ النور : 1 ] ثم فسَّر الآيات بقوله : { الزانية والزاني } [ النور : 2 ] إلى سائر ما بيَّنه من أحكام الزِّنا ، فكأنه تعالى قال : كذلك يبيِّن اللَّهُ آياتِهِ للنَّاس ما شَرَعَه لَهُمْح ليتَّقُوه ، فَيَنْجُوا مِنْ عَذَاب الله .

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

قوله : { بَيْنَكُ } : في هذا الظرف وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب « تَأْكُلُوا » بمعنى : لا تَتَنَاقَلُوهَا فيما بينكم بالأكل .
والثاني : أنه متعلِّق بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من « أمْوَالِكُمْ » أي : لا تأْكُلُوهَا كائنةً بينكم ، وقدَّره أبو البقاء أيضاً بكائنةٍ بينكم ، أو دائرةً بينكم؛ وهو في المعنى كقوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } [ البقرة : 282 ] ، وفي تقدير « دَائِرَةً » - وهو كونٌ مقيَّدٌ - نظرٌ ، إلاَّ أن يقال : دلَّت الحال عليه .
قوله : « بالبَاطِلِ » فيه وجهان :
أحدهما : تعلُّقه بالفعل ، أي : لا تأخذوها بالسبب الباطل .
الثاني : أن يكون حالاً؛ فيتعلَّق بمحذوفٍ ، ولكن في صاحبها احتمالان .
وأحدهما : أه المال؛ كأنَّ المعنى : لا تَأْكُلُوهَا ملتبسَةً بالباطِل .
والثاني : أن يكون الضمير في « تَأْكُلُوا » كأنَّ المعنى : لا تَأْكُلُوها مُبْطِلِينَ ، أي : مُلْتَبِسينَ بالبَاطِلِ .
فصل في سبب نزول الآية
قيل : نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عابس الكندي ، ادعي عليه ربيعة بن عَبْدَان الحَضْرَميُّ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً ، فقال : إنه غلبني عليها ، فقال النَّبيُّ - صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً - للحضرميِّ : « أَلَكَ بَيِّنَةٌ » ؟ قال : لا؛ قال : « فَلَكَ يَمِينُهُ » فانطلق ليحلف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أَمَا إنْ يَحْلِفْ عَلَى مَالِهِ ، ليَأْكُلَهُ ظُلْماً ، ليَلْقَيَنَّ اللَّهَ ، وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ » فأنزل الله { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } أي : لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل ، أي : من غير الوجه الذي أباحه الله ، و « البَاطِلُ » في اللغة الذَّاهِبُ الزائل ، يقال : بَطَل الشَّيْءُ بُطُولاً وبُطْلاناً ، فهو باطلٌ ، وجمع الباطل : بَوَاطِلُ ، وأَبَاطِيلُ جمع أُبْطُولَة ، يقال : بَطَل الأجير يَبْطُل بطالةً ، إذا تعطَّل ، وتَبَطَّل : اتَّبع اللَّهو ، وأبْطَلَ فلانٌ ، إذا جاء بالبَاطِل ، وقوله تعالى : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن } [ فصلت : 42 ] قال قتادة : هو إبليسُ؛ لا يزيد في القرآن ، ولا ينقص ، وقوله عزَّ وجلَّ { وَيَمْحُ الله الباطل } [ الشورى : 24 ] يعني : الشِّرك ، والبَطَلَةُ ، والبَطَلَةُ : السَّحَرةُ .
قوله : « لاَ تَأْكُلُوا » ليس المراد منه الأكل خاصَّة؛ لأنَّ غير الأكل من التصرّفات؛ كالأكل في هذا الباب ، لكنَّه لمَّا كان المقصود الأعظم من المال ، إنَّما هو الأكل ، وصار العرف فيمن أنفق ماله ، أن يقالك أكله؛ فلهذا عبَّر عنه بالأكل .
فصل فيما يحل ويحرم من الأموال
قال الغزاليُّ - رحمه الله تعالى - في كتاب « الإحياء » : المال إنَّما يحرم إما لمعنًى في عينه ، أو لخللٍ في جهة اكتسابه .
فالقسم الأول : الحرام لمعنىً في عينه .
اعلم أنَ الأموال : إمَّا أن تكون من المعادن ، أو من النبات ، أو من الحيوانات .
أما المعادن وهي أجزاء الأرض فلا يحرم شيءٌ منها ، إلاَّ من حيث يضر بالأكل وبعضها ما يجري مجرى السَّمِّ .

وأما النباتُ : فلا يحرم منه إلاَّ ما يزيل الحياة ، أو الصِّحَّة ، أو العقل .
فمزيل الحياة : كالسُّموم ، ومزيل الصِّحَّة : الأدوية في غير وقتها ، ومزيل العقل : الخمر ، والبنج ، وسائر المسكرات .
وأما الحيوانات : فتقسم إلى ما يؤكل ، وإلى ما لا يؤكل .
وما يؤكل : إنَّما يحلُّ ، إذا ذكِّي ذكاته الشَّرعيَّة ، ثم إذا ذُكِّيت ، فلا تحلُّ جميع أجزائها ، بل يحرمُ منها الدَّم ، والفَرْثُ .
القسم الثاني : ما يحرم لخللٍ في جهة إثبات اليد عليه ، فنقول :
أخذ المال : إما أن يكون باختيار المالك أو بغير اختياره؛ كالإرث ، والذي باخيتاره : إما أن يكون مأخوذاً بأمر مالكه ، وإمَّا أن يكون قهراً ، أو بالتَّراضي .
والمأخوذ قهراً : إما أن يكون لسقوط عصمة المالك؛ كالغنائم ، أو باستحقاق الأخذ؛ كزكاة الممتنعين ، والنفقات الواجبة عليهم .
والمأخوذ تراضياً : إما أن يؤخذ بعوضٍن كالبيع ، والصَّداق ، والأُجرة ، وإما أن يؤخذ بغير عوض؛ كالهبة ، والوصيَّة .
فحصل من هذا التَّقسيم أقسامٌ ستةٌ :
الأول : ما يؤخذ من غير ملكٍ؛ كنيل المعادن ، وإحياء الموات ، والاصطياد ، والاحتطاب ، والاستقاء من الأنهار ، والاحتشاش؛ فهذا حلالٌ ، لا يكون المأخوذ مختصَّاً بذي حرمة من الآدميِّين .
الثانيك المأخوذ قهراً ممَّن لا حرمة له ، وهو الفيءُن والغنيمة وسائر أموال الكُفَّار والمحاربين ، فذلك حلالٌ للمسلمين ، إذا أخرجوا منه الخمس ، وقسّموه بين المستحقِّين بالعدل ، ولم يأخذوه ممَّن كان له حرمةٌ بأمانٍ ، أو عهدٍ .
الثالث : ما يؤخذ قهراً باستحقاق عند امتناع من هو عليه فيؤخذ دون عطائه؛ وذلك حلالٌ؛ إذا تَمَّ سبب الاستحقاق ، وتَمَّ وصف المستحقِّ ، واقتصر على قدر المستحقِّ .
الرابع : ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة ، فهو حلالٌ ، إذا روعِيَ شرط العوضين ، وشرط العاقدين ، وشرط اللَّفظين ، أعني : الإيجاب والقبول عند من يشترطهما ، مع ما قيَّد الشَّرع به من اجتناب الشُّروط المفسدة .
الخامس : ما يؤخذ بالرِّضَا من غير عوضٍ؛ كما في الهبة ، والوصيَّة ، والصَّدقة ، إذا روعيَ شرط المعفود عليه ، وشرط العاقدين ، ولم يؤدِّ إلى ضرر .
السادس : ما يحصل بغير اختياره؛ كالميراث ، وهو حلالٌ ، إذا كان المورِّث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه الحلال ، ثم كان ذلك بعد قضاء الدِّين ، وتنفيذ الوصايا ، وتعديل القسمة من الورثة ، وإخراج الزَّكاة ، والحجِّ والكفَّارة الواجبة ، فهذه مجامع مداخل الحلال ، وكُلُّ ما كان بخلاف ذلك كان حراماً .
إذا عرفت ذلك ، فنقول : المال : إما أن يكون له ، أو لغيره .
فإن كان لغيره : كان حرمته لأجل الوجوه السِّتَّة المذكورة ، وإن كان له ، فأكله بالحرام : إما بأن يصرفه في شرب الخمر ، أو الزِّنا ، أو اللِّواط ، أو القمار ، أو الشُّرب المحرَّم؛ وكلُّ هذه الأقسام داخلةٌ تحت قوله { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا } .
قوله : وَتُدْلُوا بِهَا « في » تُدْلُوا « ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مجزومٌ عطفاً على ما قبله؛ ويؤيِّدجه قراءة أُبيٍّ : » وَلاَ تُدْلُوا « بإعادة لا الناهية .

والثاني : أنه منصوبٌ على الصَّرف ، وقد تقدَّم معنى ذلك ، وأنه مذهب الكوفِيِّين ، وأنه لم يثبت بدليل .
والثالث : أنه منصوبٌ بإضمار « أنْ » في جواب النهي ، وهذا مذهب الأخفش ، وجوَّزه ابن عطيَّة والزَّمخشريُّ ، ومَكِّيٌّ ، وأبو البقاء ، قال أبو حيَّان : « وأمَّا إعراب الأَخْفَشِ ، وتجويزُ الزمخشريِّ ذلك هنا ، فتلك مسألة : » لاَ تَأْكُلِ السَّمَكَ ، وتَشْرَب اللَّبَنَ « قال النحويُّون : إذا نصب ، كان الكلام نهياً عن الجمع بينهما ، وهذا المعنى : لا يصحُّ في الآية لوجهين :
أحدهما : أنَّ النهي عن الجمع لا يستلزم النَّهي عن كلِّ واحدٍ منهما على انفراده ، والنَّهي عن كلِّ واحدٍ منهما يستلزم النَّهي عن الجمع بينهما؛ لأن الجمع بينهما حصول كلِّ واحدٍ منهما ، وكلُّ واحدٍ منهما منهيٌّ عنه ضرورةً؛ إلا ترى أنَّ أكل المال بالباطل حرامٌ سواءٌ أفرد أم جمع مغ غيره من المحرَّمات؟
والثاني - وهو أقوى- : أنَّ قوله » لِتَأْكُلُوا « علَّةٌ لما قبلها ، فلو كان النهيُ عن الجمع ، لم تيصحَّ العلّةُ له؛ لأنَّه مركَّبٌ من شيئين ، لا تصحُّ العلَّة أن تترتَّب على وجودهما ، بل إنما تترتَّب على وجود أحدهما : وهو الإدلالء بالأموال إلى الحكام » .
والإدلاء مأخوذٌ من إدلاء الدَّلو ، وهو إرساله إلى البئر؛ للاستقاء؛ يقال : « أدْلَى دَلْوَهُ » إذا أرسلها ، ودَلاَهَا : إذا أخْرَجَها ، ثم جُعِلَ كُلُّ إلقاء قول أو فعل إدلاء؛ ومنه يقال للمحتجِّ أدْلَى بِحُجَّتِهِ ، كأنه يرسلها ، ليصل إلى مراده؛ كإدلاء المستقي الدلو؛ ليصل إلى مطلوبه من الماء ، وفلانٌ يدلي إلى الميِّت بقرابة ، أو رحم؛ إذا كان منتسباً ، فيطلب الميراث بتلك النِّسبة .
و « بِهَا » متعلِّقٌ ب « تُدْلُوا » وفي الباء قولان :
أحدهما : أنها للتعدية ، أي لترسلوا بها إلى الحكَّام .
والثاني : أنَّها للسبب؛ بمعنى أن المراد بالإدلاء الإسراع بالخصومة في الأموال؛ إمَّ لعدم بيِّنةٍ عليها ، أو بكونها أمانةً؛ كمال الأيتام ، والضمير في « بِهَا » : الظاهر أنه للأموال : وقيل : إنه لشهادة الزُّور؛ لدلالة السِّياق عليها ، وليس بشيء .
و « مِنْ أَمْوَال » في محلّ نصبٍ صفةً ل « فَرِيقاً » أي : فريقاً كائناً من أمْوَالِ النَّاس .
قوله : « بالإِثْم » تحتمل هذه الباء : أن تكون للسَّبب ، فتتعلَّق بقوله : « لِتَأْكُلُوا » وأن تكون للمصاحبة ، فتكون حالاً من الفاعل في « لتَأْكُلُوا وتتعلق بمحذوفٍ أي : لِتَأْكُلُوا ملتبسين بالإثم .
فصل في سبب تسمية الرشوة بالإدلاء
في تسمية الرَّشوة بالإدلاء وجهان :
أحدهما : أن الرَّشوة تقرِّب البعيد من الحاجة؛ كما أنَّ الدَّلو المملوء يصل من البعيد إلى القريب بواسطة الرِّشاء ، فالمقصود البعيد يصير قريباً ، بسبب الرَّشوة .
والثاني : أن الحاكم بسبب أخذ الرّشوة يمضي في ذلك الحكم من غير تثبُّت؛ كمضيِّ الدَّلو في الرِّشاء ، ثم المفسِّرون ذكروا وجوهاً؟
أحدها : قال ابن عبَّاس ، والحسن - رضي الله عنهما - وقتادة : المراد منه الودائعُ ، وما لا يقوم عليه البيِّنة .

وثانيها : أن المراد هو مال اليتيم في يد الأوصياء يدفعون بعضه إلى الحاكم ، ليبقى لهم بعضه .
وثالثها : قال الكلبيُّ : المراد بالإدلاء إلى الحكَّام : هو شهادة الزُّور
ورابعها : قال الحسن : هو أن يحلف؛ ليذهب حقَّه؛ كما تقدَّم في سبب النُّزول .
وخامسها : وهو أن يدفع إلى الحاكم رشوة ، وهذا أقرب إلى الظاهر ، ولا يبعد حمل اللفظ على الكُلِّ؛ لأنها بأسرها أكلٌ للمال بالباطل .
وقوله « فَريقاً » أي : طائفةً من أموال النَّاس ، والمراد « بالإثْمِ » الظلمُ ، وقال ابن عبَّاس - رضي الله عهنما - « الإثْمُ » هنا هو اليمين الكاذبة
فصل في الفسق بأخذ ما يطلق عليه اسم مال
قال الرقطبيُّ : اتَّفق أهل السُّنَّة على أنَّ من أخذ ما وقع عليه اسم مالٍ ، قلَّ أو كثر ، فإنَّه يفسَّق بذلك ، وأنه يحرم عليه أخذه؛ خلافاً لبشر من المعتمر ، ومن تابعه من المعتزلة؛ حيث قالوا : إنَّ المكلَّف لا يفسَّق إلاَّ بأخذ مائتي درهمٍ ، ولا يفسَّق بدون ذلك . وقال ابن الجُبَّائيِّ : لا يفسَّق إلاَّ بأخذ عشرة دراهم ، ولا يفسَّق بما دونهم .
وقال أبو الهُذَيْلِ : يفسَّق بأخذ خمسة دراهم ، فما فوقه ، ولا يفسَّق بما دونها ، وهذا كلّه مردودٌ بالقرآن ، اولسُّنَّة ، وباتفاق علماء الأمَّة بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « إنَّ دمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ »
وقوله تعالى : « وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل « لِتَأْكُلُوا » وذلك على رأي من يجيز تعدُّد الحال ، وأمَّا من لا يجيز ذلك ، فيجعل « بالإثْمِ » غير حالٍ .
والمعنى : وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّكُمْ مُبْطِلُون ، ولا شكَّ أن الإقدامَ على القبيح ، مع العلم بقبحه أقبح ، وصاحبه بالتَّوبيخ أحقُّ ، وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال : اختصَمَ رَجُلاَن إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، عالمٌ بالخُصُومة ، وجاهلٌ بها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للعالم ، فقال مَنْ قَضِيَ عليه : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، والَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ ، إنِّي مُحِقٌّ بحَقٍّ فقال : إن شِئْتَ أُعَاوِدُهُ ، فَعَاوَدَهُ ، فَقَضَى لِلعَالِم ، فقال المَقْضِيُّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلاً ، ثُمَ عَاوَدَهُ ثَالِثاً ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : « مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئ مُسْلِم بخصومته ، فإنَّما اقتطع قطعةً من النَّارِ » فقال العالمُ المقضِيُّ له : يا رَسُولَ الله ، إنَّ الحقَّ حقُّه ، فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « مَنِ اقْتَطَعَ بِخُصُومَتِهِ وجَدَلِهِ حَقَّ غَيْرِهِ ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ »
وعن أمِّ سلمة زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وشرَّف ، وكرَّم ، وبجَّل ، ومجَّد ، وعظَّم : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إليَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْو مَا أَسْمَع مِنْهُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ ، فَلاَ يَأْخُذَنَّهُ؛ فإنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ »

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

نقل عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال : مَا كَانَ قَوْمٌ أَقَلَّ سُؤَالاً مِنْ أُمَّةِ محمَّدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - دائماً وأبداً - سأَلُوهُ عَنْ أَرْبَعةَ عَشَرَ حَرْفاً ، فَأْجِيبُوا .
قال ابن الخَطِيبِ : ثمانيةٌ منها في سورة البقرة أولُها : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } [ البقرة : 186 ] . وثانيها : هذه الآية ، ثم الباقية بعد في سورة البقرة . فالمجموع ثمانية في هذه السُّورة ، والتَّاسع : في المائدة ، قوله تبارك وتعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [ المائدة : 4 ] والعاشر : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } [ الأنفال : 1 ] والحادي عشر : في بني إسرائيل { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح } [ الإسراء : 85 ] والثاني عشر في الكهف { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين } [ الكهف : 83 ] والثالث عشر في طه { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال } [ طه : 105 ] والرابع عشر في النَّازعات { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة } [ النازعات : 42 ] .
ولهذه الأسئلة ترتيبٌ عجيبٌ : آيتان :
الأول : منها في شرح المبدأ ، وهو قول تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } وهذا سؤالٌ عن الذَّاتِ .
والثاني : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة } وهذا سؤالٌ عن حقيقة الخلاَّقيَّة ، والحكمة في جعل الهلال على هذا الوجه .
والآيتان الأخيرتان في شرح المعاد ، وهو قوله { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال } [ طه : 105 ] و { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة } [ النازعات : 42 ] .
ونظير هذا أنَّه ورد في القرآن الكريم سورتان : أوّلهما « يَا أَيَهَا النَّاسُ » فالأولى : هي السُّورة الرابعة من النِّصْف الأوَّل؛ فإن الأولى هي « الفَاتِحَةُ » ثم « البَقَرَةُ » ثم « آلُ عِمْرَانَ » ثم « النِّسَاءُ » وهي مشتملةٌ على شرح المبدأ { اأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ النساء : 1 ] والسُّورة الثَّانية : هي الرابعة أيضاً من النِّصف الثاني : فإن أوله « مَرْيَم » ثم « طَه » ثم « الأَنْبيَاء » ثم « الحَجُّ » وهذه مشتملةٌ على شرح الميعاد { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفيَّةٌ ، وحِكَمٌ مطويَّة [ لا يَعْرِفُها إلاَّ الخواصُّ مِن عَبِيدِه ] .
فصل في اختلافهم في السائل عن الأهلَّة
روي عن معاذ بن جبلٍ ، وثعلبة بن غنمٍ الأنصاريين قالا : يا رسول الله ، ما بالُ الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيطِ ، ثُمَّ يزيد؛ حتَّى يمتلىءَ ويَسْتَوِي ، ثُمَّ لا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ ، لاَ يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ كالشَّمْسِ ، فَنَزِلَتْ هذه الآية .
وروي أنَّ معاذ بن جبلٍ قال : إنَّ اليَهُودَ سَأَلُوهُ عَنِ الأهَلَّةِ .
واعلم أنَّ قوله تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة } ليْسَ فيه بيان أنَّهم عن أيِّ شيءٍ سأَلُوا ، إلاَّ أنَّ الجواب كالدَّالِّ على موضع السُّؤال؛ لأنَّه قوله : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } يدلُّ على أنَّ سؤالهم كان على وجه الفائدة والحكمة في تغيُّر حال الأهلَّة في الزيادة والنُّقصان .
قوله تعالى : { عَنِ الأهلة } : متعلِّقٌ بالسؤال قبله ، يقال : « سَأَلَ بِهِ وَعَنْهُ » بمعنّى ، والضمير في « يَسْأَلُونَكَ » ضمير جماعة .

فإن كانت القصَّة كما روي عن معاذٍ : أنَّ اليهودَ سألُوهُ ، فلا كلام ، وإن كانت القصَّة أنَّ السائل اثنان؛ كما روي أن معاذ بن جبل ، وثعلبة بن غنمٍ ، سألوا ، فيحتمل ذلك وجهين :
أحدهما : أن يقال : إن أقلّ الجمع اثنان .
والثاني : من نسبة الشيء إلى جمعٍ ، وإن لم يصدر إلاَّ من واحدٍ منهم أو اثنين ، وهو كثيرٌ في كلامهم .
فصل
قال الزَّجَّاج - رحمه الله- : « هلال » يُجمع في أقلِّ العدد على « أَفْعِلَةٍ » نحو : مثالٍ وأَمْثِلَةٍ ، وحِمَارِ وأَحْمِرَةٍ ، وفي أكثر العدد يجمع على « فُعُلٍ » نحو حُمُرٍ ، لأنهم كرهوا في التضعيف « فُعُلٍ » ، نحو هُلُل وخُلُل ، فاتصروا على جمع أدنى العدد .
والجمهور على إظهار نون « عَنْ » قبل لام « الأَهِلَّة » وورشٌ على أصله من نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها ، وقرئ شاذَاً : « عَلَّ هِلَّةِ » ؛ وتوجيهها : أنه نقل حركة همزة « أَهِلَّة » إلى لام التَّعريف ، وأدغم نون « عَنْ » في لام التعريف؛ لسقوط همزة الوصل في الدَّرج ، وفي ذلك اعتدادٌ بحركة الهمزة المنقولة ، وهي لغة من يقول : « لَحْمَرُ » من غير همزة وصلٍ .
وإنما جُمِعَ الهلالُ ، وإن كان مفرداً؛ اعتباراً باختلاف أَزمانه؛ قالوا من حيث كونه هلالاً في شهر غير كونه هلالً في آخر ، والهل : هذا الكوكبُ المعروف .
واختلف اللُّغَوِيُّون : إلى متى يُسَمَّى هِلاَلاً؟
فقال الجمهور : يُقَالُ له « هِلاَلٌ » لِلَيْلَتَيْنِ ، وقيل : لِثَلاَثٍ ، ثم يكون « قَمَراً » وقال أبو الهيثم : يُقال له : « هِلاَلٌ » لِلَيْلَتَيْن من أوَّل الشهر ، ولَيْلَتَيْنِ من آخره ، وما بينهما « قَمَرٌ » . وقال الأصمعيُّ : يُقَالُ له « هِلاَلٌ » إلى أن يُحَجِّرُ ، وتحجيره : أن يستدير له؛ كالخيط الرقيق « ، ويقال له : » بَدْرٌ « من الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة ، وقيل : يُسَمَّى » هِلالاً « إلى أن يَبْهَرَ ضَوءُهُ سَوادَ اللَّيْلِ ، وذلك إنما يكونُ في سَبْعِ لَيَالٍ » .
واعلم أنَّ الشَّهر ينقسم عشرة أقسامٍ ، كلُّ قسمٍ : ثلاثُ ليالٍ ، ولكلِّ ثلاثِ ليالٍ اسمٌ ، فالثلاثة الأولى : تسمَّى غرر ، والثانية نقل ، والثالثة تسع ، والرابعة عشر ، والخامسة بيض والسادسة درع ، والسابعة ظلم ، والثامنة مسادس والتاسعة فرادى والعاشر محاق .
والهلا : يكون اسماً لهذا الكوكب ، ويكون مصدراً؛ يقال : هلَّ الشَّهر هلالاً ، ويقال : أُهِلَّ الهلالُ ، واسْتُهِلَّ مبنيّاً للمفعول وأهْلَلْنَاه اسْتَهْلَلْنَاهُ ، وقيل : يقال : أَهَلَّ واسْتَهَلَّ للفاعل؛ وأنْشَدَ : [ الوافر ]
964 - وَشَهْرٌ مُسْتَهِلٌّ بَعْدَ شَهْرٍ ... وَحَوْلٌ بَعْدَةُ حَوْلٌ جَدِيدٌ
وسُمِّي هذا الكوكب هلالاً؛ لارتفاع الأصوات عن رؤيته ، وقيل : لأنه من البيان ، والظهور ، أي : لظهوره وقت رؤيته بعد خفائه ، ولذلك يقال : تهلَّل وجهه : ظهر فيه بشرٌ وسُرُورٌ ، وأنْ لم يكُنْ رفع صَوْتَهُ ، ومنه قول تَأَبَّطَ شَرّاً : [ الكامل ]

965 - وَإِذَا نَظَرْتَ إلى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ ... بَرَقَتْ كَبَرْقِ العَارِضِ المُتَهَلِّلِ
وقد تقدم أنَّ الإهْلاَلَ : الصُّرَاخُ عند قوله { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } [ البقرة : 172 ] . « وفِعَالٌ » المضعَّف يطَّرد في تكسيره « أَفْعِلَة » كأَهِلَّةٍ ، وشذَّ فيه فِعَلٌّ؛ كقوله : عِنَنٌ ، وحِجَجٌ ، في عِنَان ، وحِجَاج .
وقدَّر بعضهم مضافاً قبل « الأَهِلَّة » أي : عن حكم اختلاف الأهلَّة ، لأنَّ السؤال عن ذاتها غير مفيدٍ؛ ولذلك أُجيبوا بقوله : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } وقيلك إنهم لمَّا سألُوا عن شيء قليل الجدوى ، أُجيبوا بما فيه فائدةٌ ، وعدل عن سؤالهم ، إذ لا فائدة فيه ، وعلى هذا ، فلا يحتاج إلى تقدير مضافٍ .
و « لِلنَّاسِ » متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل « مَوَاقِيتُ » أي : مواقيتُ كائنةٌ للنَّاسِ . ولا يجوزُ تعلُّقُه بنَفْس المواقيتِ؛ لما فيها من معنى النقل؛ إذ لا معنى لذلك . والمَوَاقِيتُ : جمع ميقَاتٍ؛ رَجَعَتِ الواوُ إلى أصلها؛ إذ الأصل : موقاتٌ من الوَقْتِ ، وإنَّما قلبت ياءً؛ لكسر ما قبلها ، فلمَّا زال موجبه في الجمع ، رُدَّت واواً ، ولا ينصرف؛ لأنه بزنة منتهى الجموع .
فإن قيل : لم صرفت قوارير؟ قيل لأنَّها فاصلةٌ وقعت في رأس الآية الكريمة فنوِّن ، ليجري على طريقة الآيات كام تنوَّن القوافي في مثل قوله : [ الوافر ]
966 - أَقِلِّي اللَّوْمَ ، عَاذِلَ ، والعتَابَنْ .. .
و « المِيقَات » : منتهى الوقت؛ قال تبارك وتعالى : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ } [ الأعراف : 142 ] والهلال : ميقات الشَّهر؛ أي : منتهاه ، ومواضع الإحرام : مواقيت الحجِّ؛ لأنَّها مواضع ينتهى إليها ، وقيل : الميقات : الوقت؛ كالميعاد بمعنى الوعد .
فصل في تخصيص المواقيت بالهلال دون الشمس
فإن قيل : لم خصَّ المواقيت بالأهلَّة وأشهرها دون الشمس وأشهرها؟
فالجواب : أنَّ الأهلَّة وأشهرها ، إنَّما جعلت مواقيت للنَّاس ، دون الشمس وأشهرها؛ لأنَّ الأشهر الهلاليَّة يعرفها كُلُّ أحدٍ من الخاصِّ والعامِّ برؤية الهلال ومحاقه؛ ولذلك عُلِّقت الأحكام الشَّرعيَّة بالشُّهور العربيَّة ، كصوم رمضان ، وأشهر الحجِّ ، وهي شوَّال ، وذُو القعدة وذو الحجَّة . والأشهر المنذورة ، والكفَّارات ، وحول الزَّكاة وأشهر الإجارات والمداينات والسل ، وأشهر الإيلاء ، وأشهر العدد ، ومدَّة الرَّضاع وما تتحمَّله العاقلة في ثلاث سنين ، وغير ذلك؛ بخلاف الشَّمس ، وأشهرها؛ فإن الشَّمس لا يتغيَّر شكلها بزيادةٍٍ ، ولا نقصٍ ، ولا يعرف أوَّله وآخره ، ولا تختلِفُ رؤيتها ، وكذلك أشهرها لا يعرف أوَّلها وآخرها ، إلاَّ الخواصُّ من الحُسَّاب ، وليس لها مواقيت غير الفصول الأربعة؛ وهي الصَّيف ، والشِّتاء ، والرَّبيع ، والخريف؛ ولذلك لا يتعلَّق به حكم شرعيٌّ؛ فلذلك جعلت الأهلَّة وأشهرها مواقيت للنَّاس ، دون الشَّمس .
فصل
اعلم أنَّ الله سبحانه ذكر وجه الحكمة في خلق الأهلَّة؛ فقال تعالى : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } وذكر هذا المعنى في آية أخرى ، وهي قوله تعالى : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } [ يونس : 5 ] واعلم أنَّ تقدير الزمان بالشُّهور فيه منافع دينيةٌ ، ودنيويةٌ .

فالدينية : كالصَّوم ، والحَجِّ ، وعدَّة المتوفَّى عنها زوجها ، والنذور المتعلِّقة بالأوقات ، وقضاء الصَّوم في أيامٍ لا تُعْلَمُ إلاَّ بالأهلَّة .
والدنيويَّة : كالمداينات ، والإجارات ، والمواعيد ، ولمدَّة الحمل والرَّضاع .
قوله : « والحَجِّ » عطفٌ على « النَّاس » قوالوا : تقديره : ومواقيتُ الحَجِّ ، فحذف الثاني؛ اكتفاءً بالأوَّل .
وقيل : فيه إضمارٌ ، تقديره : وللحَجَّ كقوله { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ } [ البقرة : 233 ] أي : لأولادكم .
ولمَّا كان الحجُّ من أعظم ما تُطْلَبُ مواقيته وأشهره بالأهلَّة ، أُفْرِدَ بالذِّكْرِ .
قال تعالى : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } [ البقرة : 197 ] .
فإن قيل : الصَّوم أيضاً يطلب هلاله؛ قال عليه الصَّلاة والسَّلام - : « صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ ، وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ »
قلنا : نعم ، ولكنَّ الصوم قد يسقط فعله عن الحائض ، والنُّفَسَاء ، والمُسَافر ، ويوقعون قضاءه في غيره من الأشهر؛ بخلاف الحجِّح فإنَّه إذا لم يصحَّ فعله في وقته ، لا يقضى في غيره من الأشهر .
واحتجَّ مالك - رحمه الله تعالى - وأبو حنيفة بهذا الآية على أنَّ الإحرام بالحجِّ في غير أشهر يصحُّ ، فإن الله تعالى جعل الأهلَّة كلها ظرفاً لذلك .
قال القَفَّال : إفراد الحجِّ بالذِّكر إنَّما كان لبيان أن الحجَّ مقصورٌ على الأشهر التي عيَّنها الله تعالى لفرضه؛ وأنه لا يجوز نقل الحجِّ من تلك الأشهر إلى شهر آخر؛ كما كانت العربُ تفعلُ ذلك في النسيء؛ فأفرد بالذِّكر ، وكأنه تخصيص بعد تعميم؛ إذ قوله تعالى : مَوَاقِيتُ لِلنَّاس « ليس المعنى لذوات الناس ، بل لا بُدَّ من مضافٍ ، أي : مواقيتُ لمقاصد النَّاس المحتاج فيها للتأقيت ، ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناس ، بل على المضاف المحذوف الذي ناب » النَّاسِ « منابه في الإعراب .
وقرأ الجمهور » الحَج « بالفتح في جميع القرآن الكريم إلا حمزة والكسائيَّ وحفصاً عن عاصم ، فقرءوا { حِجُّ البيت } [ آل عمران : 97 ] بالكسر ، وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن ، وهل هما بمعنىً واحدٍ ، أو مختلفان؟ قال سيبويه : » هما مَصْدَرَانِ « ؛ فالمفتوح كالرَّدِّ والشَّدِّ ، والمكسورُ كالذِّكر ، وقيل : بالفتح : مصدرٌ ، وبالكسر : اسمٌ .
فصل في الرد على أهل الظَّاهر
قال القرطبيُّ : هذه الآية الكريمة تَرُدُّ على أهل الظَّاهر ، ومن وافقهم في أنَّ المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غيرِ معلومة؛ واحتجُّوا بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم ، عَامَلَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَلَى شَطْرِ الزَّرْعِ والنَّخْل بما بَدَا لرسُول الله - صلى الله عليه وسلم ، وشرَّف ، وكَرَّم ، ومجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - من غير توقيت ، وقال : وهذا لا دليل فيه؛ لأنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال لليهود : » أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ «
وهذا يدلُّ على أنَّ ذلك مخصوصٌ به ، وأنَّه كان في ذلك ينتظر القضاء من رِّبه ، وليس كذلك غيره .
قوله : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ } كقوله : { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ } [ البقرة : 177 ] وقد تقدم؛ إلا أنه لم يختلف هنا في رفع » البِ { ِّ « ؛ لأنَّ زيادة الباء في الثاني عيَّنت كونه خبراً ، وقد تقدَّم لان أنَّها قد تزاد في الاسم .

وقرأ أبو عمرو ، وحفصٌ ، وورشٌ « البُيُوت » و « بَيُوت » و « الغُيُوب » و « شُيَوخاً » بضمِّ أوَّلها؛ وهو الأصل ، وقرأ الباقون بالكسر؛ لأجل الياء ، وكذلك في تصغيره ، ولا يبالى بالخروج من كسر إلى ضم؛ لأنَّ الضمة في الياء ، والياء بمنزلة كسرتين؛ فكانت الكسرة التي في الباء كأنها وليت كسرةً ، قاله أبو البقاء - رحمه الله - .
و « مِنْ » قوله : « مِنْ ظُهُورِهَا » و « مِنْ أَبْوَابِهَا » متعلقةٌ بالإتيان ، ومعناها ابتداءُ الغاية ، والضميرُ في « ظُهُورِهَا » و « أَبْوَابِهَا » للبُيُوت ، وجيء به كضمير المؤنثة الواحدة؛ لأنه يجوز فيه ذلك .
وقوله : { ولكن البر مَنِ اتقى } كقوله - تبارك وتعالى - : { ولكن البر مَنْ آمَنَ } [ البقرة : 177 ] يعني : تقديره : بِرُّ مَنْ آمَنَ كَمَا مَضَى؛ ولمَّا تقدَّم جملتان خبريتان ، وهما : « وَلَيْسَ البِرُّ » « وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى » عطف عليهما جملتان أمريتان ، الأولى للأولى ، والثانية للثانية ، وهما : « وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا » « واتَّقُوا اللَّهَ » وفي التصريح بالمفعول في قوله : « وَاتَّقُوا اللَّهَ » دلالةٌ على أنه محذوفٌ من اتَّقَى ، أي اتَّقَى الله .
فصل في سبب نزول الآية
قال الحسن ، والصمُّ : كان الرَّجُلُ في الجاهليَّة ، إذا همَّ بشيءٍ ، فتعسَّر عليه مطلوبه ، لم يدخل بيته من بابه ، بل يأتيه من خلفه ، ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً فنهاهم الله؛ لأنَّهم كانوا يفعلونه تطيُّراً ، وعلى هذا : تأويل الآية الكريمة { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا } على وجه التطيُّر ولَكِنَّ البِرَّ من يتَّقِي اللَّهَ ، ولَمْ يَتَّقِ غيْرَهُ ، ولم يَخَفْ شَيْئاً مِمَّا كان يتطيَّر به ، بل توكَّل على الله تعالى ، واتَّقَاه « ثمَّ قال : { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : لِتَفُوزُوا بالخَيْر في الدِّين والدُّنيا؛ لقوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } [ الطلاق : 4 ] وتحقيقه : أن من رجع خائباً يقال : ما أفلح ، فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في الآية هو أنَّ الواجب عليكم أن تتَّقوا الله؛ حتَّى تصيروا مفلحين ، وقد وردت الأخبار بالنَّهي عن التَّطَيُّر ، قال : » لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ « وقال : » مَنْ رَدَّهُ عَنْ سَفَرٍ تَطَيُّرٌ ، فَقَدَ أَشْرَكَ « و » كَانَ يَكْرَهُ الطِّيَرَةَ ، ويُحِبُّ الفَأْلَ الحَسَنَ « وقَدْ عَابَ الله قوماً تطيَّروا بموسى ومن معه ، فقالوا : { قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله } [ النمل : 47 ] .
وقال المفسِّرون : سَبَبُ نُزُول الآية الكريمة : كان الناس في أوَّل الإسلام ، إذا أحرم الرَّجُلُ منهم ، فإن كان من أهل المدن ، نقب نقباً في ظهر بيته يدخل منه ، ويخرج ، أو يتَّخِذ سُلَّماً يصعد منه إلى سطح داره ، ثم ينحدر ، وإن كان من أهل الوبر ، خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يخرج ولا يدخل من الباب؛ حتى يحلَّ من إحرامه ، ويرون ذلك برّاً إلا أن يكون من الحمس ، وهم قريشٌ ، وكنانة ، وخزاعة ، وخيثمٌ ، وبنوا عامر بْنِ صَعْصَعَةَ ، وبنو نَصْر بنِ معاويةَ ، وهؤلاء سُمُّوا حمساً؛ لتشديدهم في دينهم ، والحماسة الشِّدَّة .

قال العجَّاجُ : [ الرجز ]
967 - وَكَمْ قَطَعْنَا مِنْ قِفَافٍ حُمْسِ ... وهؤلاء متى أحرموا ، لم يدخلوا بيوتهم ألأبتَّة ، ولا يستظلُّون الوبر ، ولا يأكلون السمن ، والأقط ، ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم ، دخل ، وهو محرمٌ ، بيتاً لبعض الأنصار ، فاتَّبَعَهُ رَجلٌ مُحْرِمٌ مِنَ الأَنْصَارِ ، يقال له رفاعةُ ابن تابُوتَ ، فدخل على أثره من الباب ، فقال - عليه الصلاة والسلام دائماً وابداً - : « تَنَحَّ عَنَّي » فقال : ولمَ ، يا رسول الله؟ قال : « دخلت الباب ، وأنت مُحْرِمٌ » ، فقال : رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ ، فدَخَلْتُ على أُثَرِكَ ، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، شرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم : « إنِّي أحْمَسُ » فقال الرَّجُلُ : « إن كنت أحمسياً ، فإني أحمسي ، رضيت بهديك ، وسمتك ، ودينك » ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة .
قال الزُّهريُّ : كان ناسٌ من الأنصار ، فإذا أهلُّوا بالعمرةِ ، لم يحل بينهم وبين السَّمَاء شيءٌ ، وكان الرَّجُل يخرجُ مُهِلاًّ بالعمرة ، فتبدوا له الحاجة بعد ام يخرج من بيته؛ فيرجع ، ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السَّماء ، فيفتح الجدار من ورائه ، ثُمَّ يقوم في حجرته فيأمر بحاجته؛ حتى بلغنا أنَّ رسول الله صلى الله علنه وسلم ، وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم ، أهلَّ زمن الحديبية بالعمرة ، فدخل حجرة ، فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّلأ ، وعظَّم : « لِمَ فَعلْتَ ذَلِكَ؟ » قال : « لأنِّي رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم : » إني أحمسي « فقال الأنصاريُّ : وأنا أحمسي ، وأنا على دينك ، فأنزل الله تعالى الآية الكريمة .
فصل في اخلافهم في تفسير الآية
ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه :
أحدها : - وهو قول أكثر المفسرين - وهو حمل الآية الكريمة على ما قدَّمناه في سبب النُّزول ، ويصعب نظم الآية الكريمة عليه؛ فإنَّ القوم سألوا عن الحكمة في تغيير لون القمر ، فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك ، وهي قوله : { مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } فأيُّ تعلُّق بي بيان الحكمة في اختلاف نور القمر ، وبين هذه القصَّة ، فذكروا وجوهاً :
أحدها : أنَّ الله - تبارك وتعالى - لمَّا ذكر أنَّ الحكمة في اختلاف أحوال الأهلَّة جَعْلُها مواقِيتَ للنَّاسِ والحَجِّ ، وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبرها في الحجِّ ، لا جَرَمَ ذكرها الله تعالى .

وثانيها : أنه تعالى إنَّما وصل قوله : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا } بقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة } ؛ لأنَّه إنما اتَّفَقَ وقوع القصَّتين في وقت واحدٍ ، فنزلت الآية الكريمة فيهما معاً في وقت واحدٍ ، ووصل أحد الأمرين بالآخر .
وثالثها : كأنَّهم لمَّا سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلَّة ، فقيل لهم : اتركوا السُّؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم ، وارجعوا إلى البحث ، عمَّا هو أهمُّ لكم ، فإنَّكم تظنُّون أنَّ إتيان البيوت من ظُهُورها بِرٌّ؛ وليس الأمر كذلك .
الوجه الثاني من تفسير الآية : أنَّ قوله تعالى : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا } مثل ضربه الله تعالى ، ولَيْسَ المرادُ ظاهره وتفسيرُ أنّ الطريقَ المستقيم هو الطريق المعلومُ ، وهو أنْ يُستدلَّ بالمعلوم على المظنون ، ولا ينعكس .
وإذا عرف هذا ، فنقولُ : ثبت بالدلائل أن للعالم صانعاً ، مختاراً ، حكيماً ، وثبت أنَّ الحكيمَ لا يفعلُ إلاَّ الصَّواب البريء عن البعث والسَّفه .
وإذا عرفنا ذلك ، وعرفنا أنَّ اختلاف أحوال القَمَر في النُّور مِنْ فعله علمنا أنَّ فيه حكمةً ومصلحةً ، لأنَّا علمنا أنَّ الحكيم لا يفعلُ إلاَّ الحكمة ، واستدلَّلْنَا بالمَعلُوم على المجهول ، فأمَّا أن يُستدلَّ بعدم علمنا بالحكمة فيه على أنَّ فاعلهُ ليس بحكيم ، فهو استدلالٌ باطلٌ؛ لأنَّه استدلالٌ بِالمجهول على القدح في المعلوم ، وإذا عُرف هذا ، فالمرادُ من قوله تعالى : { لَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا } يعني : أنَّكم لَمَّا لم تعلمُوا الحكمةَ في اختلاف نُورِ القمرِ ، صِرْتُم شاكِّينَ في حِكمة الخالِقِ ، وقدأَتَيْتُمُ الشيءَ مِنْ غير طريقه « إنَّما البرُّ بأنْ تأتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا » وتستدلُّوا بالمعلوم المتيقَّن ، لا تعلمونَها ، فجعل إتيانَ البُيُوت من ظُهُورها كنايةً عن العُدُول عن الطَّريق الصحيح؛ وإتيانَها من أبوابِها كنايةً عن التَّمَسُّك بالطَّريق المُستقيم ، وهذا طريقٌ مشهورٌ في الكناية؛ فإنَّ مَنْ أرشد غيرهُ إلى الصَّواب ، يقولُ له : ينبغِي أنْ تأتي الأمر مِنْ بابه ، وفي ضِدَّه قالُوا : ذهبإل لاشيءِ من غير بابه ، قال تعالى : { فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [ آل عمراان : 187 ] وقال عزَّ مِنْ قَائل : { واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } [ هود : 92 ] وهذا تأويل المتكلِّمين .
قال ابن الخطيب : ولا يصحُّ تفسير هذه الآية؛ لأنَّ الوجه الأوَّلَ يغيِّر نسقَ الترتيب ، وكلام الله تعالى منزَّهٌ عن ذلك .
الوجه الثالث : قال أبو مسلم : إن المراد مِنْ هذه الآية ما كَانُوا يعملونه من النسيء؛ فإنهم كانُوا يخرجون الحجَّ عن وقته الَّذي عينه الله تعالى لهم ، فيحرِّمون الحلال ، ويحلُّون الحرام ، فذَكَرَ إتيانَ البُيُوت من ظُهُورها مثلاً لمخالفة الواجب في الحجِّ وشهوره .

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

قوله تعالى : { فِي سَبِيلِ الله } متعلَّقٌ ب « قاتلوا » على أحد معنيين : إمَّا أن تقدِّر مضافاً ، أي : في نصرةِ سبيلِ الله تعالى ، والمرادُ بالسبيلِ : دينُ الله ، لأنَّ السبيلَ في الأصل هو الطريقُ ، فُتُجوِّزَ به عن الدِّين ، لمَّا كان طريقاً إلى الله تعالى روى أبو موسى : أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، ومجَّد ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، وعَظَّم - سُئِلَ عمَّن يُقاتِلُ في سبيل الله تعالى ، فقال : « مَنْ قاتل؛ لتكون كلمةُ الله هي العُليا ، ولا يُقاتل رياءً ولا سمعةً؛ وهو في سبيل الله »
وإمَّا أن تُضَمِّن « قَاتِلُوا » معنى بالِغوا في القتالِ في نصرةِ دِينِ اللِه تعالى ، « والَّذِيِنَ يُقَاتِلُونَكُم » مفعول « قاتلوا » .
فصل في سياق الآيات
اعلم ، أنَّه لمَّا أمر بالتقوى في الآية المتقدِّمة أمر في هذه الآية الكريمة بأشدِّ أقسامِ التقوى ، وأشقها على النَّفس ، وهو قتلُ أعداء الله تعالى .
قال الربيع بن أنس : هذه أوَّل آية نزلت في القتال ، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وشرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعظَّم - يُقاتلُ مَنْ قاتلهُ ، ويَكُفُّ عن قتال منْ لمْ يقاتله إلى أن نزل قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] قاتلوا ، أو لم يقاتلوا فصارت الآية منسوخةً بها .
وقيل : نُسخَ بقوله : { اقتلوا المشركين } قريبٌ من سبعين آيةً ، وعلى هذا ، فقوله : « وَلاَ تَعْتَدُوا » أي : لا تَبْدُءوهم بالقتال ، وروي عن أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - أنَّ أوَّل آيةٍ نزلت في القتال قوله تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } الحج : 39 ] والأوَّل أكثر .
وقال ابن عبَّاس وعمر بن عبد العزيز ، ومجاهدٌ - رضي الله عنهم - هذه الآية محكمةٌ غير منسوخة؛ أُمِر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، ومَجَّد ، وعَظَّم - بقتال المُقاتلين .
ومعنى قوله : « وَلاَ تَعْتَدُوا » أي : لا تقتُلُوا النِّسَاء والصِّبيانَ ، والشيخَ الكبير والرُّهبان ، ولا من ألقى إليكم السَّلَمَ؛ قاله ابن عبَّاس ومجاهد وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبَّاس : نزلت هذه الآية في صلح الحديبية؛ وذلك أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - خرج مع أصحابه - رضي الله عنهم - إلى العُمرة وكانوا ألفاً وأربعمائة ، فنزَلُوا الحُديبة ، وهو موضعٌ كثيرُ الشَّجر ، والماء ، فصدَّهم المُشركون عن دخول البيت الحرام ، فأقامَ شهراً ، لا يقدرعلى ذلك ، ثم صالَحُوهُ على أنْ يَرجع ذلك العام ، ويرجع إليهم في العام الثَّاني ، ويَتْرُكون له مكَّة ثلاثَ أيامٍ ، حتَّى يَطوفَ ، وَيْحَرَ الهَدْي ، ويَفْعَل مَا يَشَاءُ ، فرضي الرَّسُولُ - صلواتُ الله وسلامُهُ عليه دائماً أبداً - بذلك ، فلمَّا كان العامُ المقبل ، تجهَّز رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، ومَجَّد ، وعَظَّم - وأصحابه لُعْمرة القضاء وخافوا ألاَّ تَفِي قريشٌ بما قالوا ، وأن يَصُدُّوهم عن البيت ، وكره أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتالَهُمْ في الشهر الحرام ، وفي الحرَم ، فأنزل الله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } يعنى محرمين { الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } يعني قُرَيْشاً « وَلاَ تَعْتَدُوا » فتَبْدَءوا بالقتالِ في الحَرَمِ محرمين .

فصل في اختلافهم في المراد من قوله { الذين يُقَاتِلُونَكُمْ }
اختلفُوا في المراد بقوله : { الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } : إمَّا على وجه الدَّفع عن الحجِّ ، أو على وجه المقاتلة ابتداءً .
وقيل : قاتلوا كُلَّ مَنْ فيه أهليةٌ للقتالِ سوى جُنحٍ للسَّلم؛ قال تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } [ الأنفال : 61 ] .
فإن قيل : هب أنه لا نسخ في الآية؛ فما السَّبب في أنَّ الله تبارك وتعالى أمر أوَّلاً بقتال من يقاتل ، ثُمَّ في آخر الأمر ، أذن في قتالهم ، سواءٌ قاتلوا ، أو لم يقاتلوا؟
فالجواب : أنَّ في أوَّل الأمر كان المسلمون قليلين ، وكانت المصحلة تقتضي استعمال الرِّفق ، والمجاملة ، فلمَّا قوي الإسلام ، وكَثُر الجمع ، وأقام مَنْ أقام منهم على الشِّرك بعد ظهور المعجزات ، وتكرُّرها عليهم ، وحصل اليأس من إسلامهم ، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق .
قوله تعالى : { حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } [ البقرة : 191 ] « حيث » منصوبٌ بقوله : « اقْتُلُوهُم » و « ثِقِفْتُمُوهُم » في محلِّ خفضٍ بالظرف ، و « ثَقِفْتُمُوهُمْ » أي : ظَفِرْتُمْ بهم ، ومنه : « رَجُلٌ ثَقِيفٌ » : أي سريعُ الأخذ لأقرانه ، قال [ الوافر ]
968 - فَإِمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي ... فَمَنْ أَثْقَفْ فَلَيْسَ إِلَى خُلُودِ
وثَقِفَ الشَّيْء ثقافةً ، إذا حذقهُ ، ومنه الثَّقافةُ بالسَّيف ، وثَقِفْتُ الشَّيْء قومَّتُه ، ومنه الرماحُ المثقَّفة؛ قال القائلُ : [ الطويل ]
969 - ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... وَقَدْ نَهِلَتْ مِنَّا الْمُثَقَّفَةُ السُّمْرُ
ويقالُ : ثَقِف يَثْقَفُ ثَقْفاً وثَقَفاً ورجلٌ ثَقِف لَقفٌ ، إذا كان محكِماً لما يتناوله من الأمور .
قال القرطبي : وفي هذا دليلٌ على قتل الأسير .
قوله : « مِنْ حَيْثُ » متعلِّقٌ بما قبله ، وقد تُصُرِّفَ في « حَيْثُ » بجَرِّها ب « مِنْ » كما جُرَّت ب « اليَاءِ » و « في » وبإضافة « لَدَى » إليها ، و « أَخْرَجُوكُمْ » في محلِّ جرٍّ بإضافتها إليه ، ولم يذكر « لِلْفِتْنَة » ولا « لِلْقَتْلِ » - وهُما مصدران - فاعلاً ولا مفعولاً؛ إذ المرادُ إذا وُجِدَ هذان ، من أيِّ شخص كان بأَيِّ شخصٍ كان ، وقد تقدَّم أنه يجوز حذف الفاعل مع المصدر .
فصل فيما قيل في النسخ بهذه الآية
هذا الخطابُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - وأصحابه يعني اقتلوهم ، حيثُ أبصَرْتُم مقاتِلَتَهُمْ وتمكَّنْتُم منْ قتلهم ، حيث كانوا في الحلِّ ، أو الحرم ، وفي الشَّهر الحرام { وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } وذلك أنَّهم أخرجوا المسلمين من مكّة؛ فقال : أخروجهم مِنْ ديارهم كما أخرجوكم من دياركم ، ويحتمل أنَّه أراد كما أخرجوكم مِنْ مَنَازِلكُم ، ففي الآية الأولى : أمرٌ بقتالهم؛ بشرط إقادامهم على المقاتلة ، وفي هذه الآية .

زاد في التكليف ، وأَمَرَ بقتالهم ، سواءٌ قاتَلُوا ، أو لم يُقَاتِلُوا ، واستثنى [ عنه ] المقاتلة عند المَسْجد الحَرَام ، ونقل عن مقاتل أنه قال : إنَّ قولهُ { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } منسوخ بقوله { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ البقرة : 193 ] قال ابن الخطيب وهذا ضعيفٌ ، فإنَّ الآية الأولى دالَّةٌ على الأمر بقتال مَنْ يقاتلنا ، وهذا الحُكمُ لم ينسخ ، وأمَّا أنَّها دالَّةٌ على المَنْع من قتال مَنْ لم يقاتل ، فهذا غير مسلَّم ، مع ما نقل عن الرَّبيع بن أنس . وأما قوله : إنَّ هذه الآية ، هي قوله تبارك وتعالى { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام } منسوخة بقوله تعالى { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } فهو خطأ أيضاً؛ لأنَّه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم ، وهذا الحكمُ غير منسوخ .
قوله { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } فيه وجوه :
أحدها : نقل ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنّ الفتنة هي الكُفر .
وروي أنَّ بعض الصحابة قتل رجُلاً من الكُفَّار في الشَّهر الحَرَام ، فعابه المؤمِنُون على ذكل ، فنزلت هذه الآية الكريمة ، والمعنى : أنَّ كفرهم أشدُّ من قتلهم في الحرم والإحرام .
وثانيها : أن الفتنة أصلها عرض الذَّهب على النَّار؛ لاستخلاصه من الغِشِّ ، ثُمَّ صار اسماً لكُلِّ ما كان سبَباً للامتحان؛ تشبيهاً بهذا الأصل ، والمعنى : أنَّ إقْدَامَ الكُفَّار على الكُفْر ، وعلى تخويف المؤمنين ، وإلجائهم إلى ترك الأهلِ ، والوَطن؛ هرباً من إضلال الكُفَّار ، فإنَّ هذه الفتنة الَّتي جُعِلت للمؤمنين أشَدُّ من القتل الذي يقتضي التَّخليص من غموم الدُّنيا وآفاتها .
وثالثها : أنَّ الفتنة هي العذاب الدَّائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم ، فكأنه قيل : اقتُلُوهُم حيثُ ثَقِفْتُمُوهم ، واعلَمُوا أن وراءَ ذلك مِنَ العذابِ ما هو أشدُّ منه وإطلاقُ اسم الفتنة على العذاب جائزٌ؛ وذلك من باب إطلاق اسم السَّبب على المُسَبَّب ، قال تبارك وتعالى : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] ثم قال عقبيه { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } [ الذاريات : 14 ] أي عذابكم { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات } [ البروج : 10 ] أي عذّبوهم وقال { فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله } [ العنكبوت : 10 ] أي : عذابهم كعذابه .
ورابعها : أنَّ المراد : « فتنتهم إيَّاكُمْ بَصدِّكُمْ عن المسجد الحرام أشدُّ من قتلِكُمْ إيَّاهُمْ في الحرم » .
وخامسها : أن الردَّة أشدُ من يُقْتَلُوا بحقٍّ ، والمعنى : أخروجهم منْ حيثُ أخرجوكُمْ ، ولَو قُتِلْتُمْ ، فإنَّكم إن قُتِلْتُم ، وأنتم على الحقِّ ، كان ذلك أسهل عليكُم من أنْ ترتدُّوا عن دِينكُمْ ، أو تتكاسلوا عن طاعة ربِّكم .
قوله : « وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ » قرأ الجمهورُ الأفعالَ الثلاثة : « ولا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ ، فإنْ قَاتَلُوكُمْ » بالألف من القتال ، وقرأها حمزة ، والكسائيُّ من غير ألف من القَتل وهو المُصحف بغير ألف ، وإنما كُتِبَت كذلك؛ للإيجاز؛ كما كَتَبُوا الرَّحمن بغير ألف ، وما أشبه ذلك مِنْ حروف المَدِّ واللِّين .

فأما قراءة الجمْهُور فواضحةٌ؛ لأنها نَهْيٌ عن مقدِّمات القتل؛ فدلالتها على النَّهي عن القَتْل بطريقِ الأَولى ، وأمَّا قراءةُ الأخوين ، ففيها تأويلان :
أحدهما : أن يكون المجازُ في الفعل ، أي : ولا تَقْتلُوا بَعْضَهُمْ؛ حَتَّى يَقْتُلُوا بَعْضَكُمْ؛ ومن { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ } [ آل عمران : 146 ] ثم قال « فَمَا وَهَنُوا » أي ما وَهَن مَنْ بَقِيَ منْهُمْ ، وقال الشاعر : [ المتقارب ]
970 - فَإِنْ تَقْتُلُونَا نُقَتِّلْكُمُ ... وإن تَقْصِدُوا لِدَمٍ نَقْصِدِ
أي : فإنْ تَقْتُلُوا بعضنا . يروى أن الأعمش قال لحمزة ، أرأيت قراءتك ، إذا صار الرجُلُ مَقْتُولاً ، فبعد ذلك كيف يصير قاتلاً لغيره؟!
قال حمزة : إنَّ العَرَبَ ، إذا قُتِلَ منهُم رجلٌ قالوا : قتلنا ، وإذا ضَرِبَ منهُم رجلٌ ، قالُوا ضُرِبنا وأجمعوا على « فَاقْتُلُوهُمْ » أنَّه من القتل ، وفيه بشارةٌ بأنَّهم ، إذا فعلوا ذلك ، فإنهم مُتَمَكِّنون منهُمْ بحيثُ إنكم أُمِرْتُم بقتلهم ، لا بقتالهم؛ لنُصْرتِكُمْ عليهم ، وخذْلانِهِمْ؛ وهي تؤيِّدُ قراءةَ الأخوينِ ، ويؤيِّدُ قراءة الجمهور : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } .
و « عِنْدَ » منصوبٌ بالفعل قبله ، و « حَتَّى » متعلقةٌ به أيضاً غايةٌ له ، بمعنى « إلى » والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار « أَنْ » والضميرُ في « فِيهِ » يعودُ على « عِنْدَ » إذ ضميرُ الظرفِ لا يتعدَّى غليه الفعلُ إلاَّ ب « فِي » ؛ لأنَّ الضميرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها ، وأصلُ الظرفِ على إضمار « في » اللهم إلا أَنْ يُتَوَسَّعُ في الظرفِ ، فيتعدَّى الفعلُ غلى ضميره مِنْ غير « في » ولا يُقالُ : « الظَّرْف غيْرُ المُتَصرِّف لا يتوسَّع فيه » ، فيتعدَّى إليه الفعلُ ، فضميرُهُ بطريق الأولى؛ لأنَّ ضمير الظَّرف ليس حكمه حكمَ ظاهره؛ ألا ترى أنَّ ضميره يُجَرُّ ب « في » وإن كان ظاهرُه لا يجوزُ ذلك فيه ، ولا بدَّ مِنْ حذفٍ في قوله : { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } أي : فإنْ قاتلُوكُم فيه ، فاقتلوهم فيه ، فَحَذَفَ لدلالةِ السِّيَاق عليه .
فصل
وهذا بيان بشرط كيفيَّة قتالهم في هذه البقعة خاصَّة ، وكان مِنْ قبلُ شرطاً في كلِّ قتالٍ وفي الأشهر الحرم؛ وقد تمسَّك به الحنفيَّةُ في قتل الملتجيئ إلى الحرم ، وقالوا : لمَّا لم يجز القتل عند المسجد الحرام؛ بسبب جناية الكفر فبأن لا يجوز القتلُ في المسجد الحرام بسبب الذَّنب الذي هو دون الكُفر أولى .
قوله : « كَذَلِكَ جَزَاءُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ الكافر في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و « جَزَاءُ الكَافِرِينَ » خبرُه ، أي : مِثْلُ ذَلِكَ الجَزَاءِ جَزَاؤُهُمْ ، وهذا عند مَنْ يرى أن الكاف اسمٌ مطلقاً ، وهو مذهبُ الأخفش .
والثاني : أن يكونَ « كَذَلَكَ » خبراً مقدَّماً ، و « جَزَاءٌ » مبتدأً مؤخَّراً ، والمعنى : جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجَزَاءِ ، وهو القتلُ ، و « جَزَاءُ » مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ، أي : جزاءُ اللَّهِ الكافرين ، وأجاز أبو البقاء أان يكونَ « الكَافِرِينَ » مرفوع المحلِّ على أن المصدر مقدَّرٌ من فِعْل مبنيٍّ للمفعول ، تقديرُه : كذلك يُجْزَى الكافِرُون ، وقد تقدَّم لنا الخلافُ في ذلك .

قوله تعالى : { فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : لهم . ومتعلق الانتهاء محذوفٌ أي : عن القتال ، و « انْتَهَى » « افْتَعَلَ » من النَّهي ، وأصلُ « انْتَهَوا » « انْتَهَيُوا » فاسْتُثْقَلَت الضَّمةُ على الياء؛ فحُذِفَتْ فالتقى ساكنان؛ فَحُذِفت الياءُ؛ لالتقاء الساكنين ، أو تقول : تَحَرَّكَتِ الياء ، وانفتحَ ما قبلها؛ فَقُلِبَتْ ألفاً؛ فالتقى ساكنان؛ فَحُذِفَتِ الألفُ ، وبقِيت الفتحة تَدُلُّ عليها .
فصل في اختلافهم في متعلِّق الانتهاء
هذا البيانُ لبقاء هذا الشَّرط في قتالهم قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - فإن انتهوا عن القتال؛ لأنَّ المقصُود من الإذان في القتال منعُ الكُفّار عن المُقاتلة .
وقال الحسنُ : فإن انتهوا عن الشِّرك؛ لأنَّ الكَافِرَ لا يَنَالُ المغفرة والرِّحمة بترك القتال ، بل بترك الكُفرِ .
فصل في دلالة الآية على قبول التَّوبة من كلِّ ذنب
دلَّت الآية على أنَّ التوبة مِنْ كُلِّ ذنبٍ مقبولةٌ ومَنْ قال : إنَّ التوبة عن قتل العَمْد غيرُ مقبولةٍ ، فقد أخطأ؛ لأنَّ الشرك أشدُّ من القتل ، فإذا قَبِلَ الله تبوة الكافِرِ ، فقبُولُ توبة القاتل أولى ، وأيضاً فقد يكُونُ الكافِرُ قاتلاً ، فقد انضمَّ إلى كُفره قَتْلُ العَمْد والآيَةُ دلَّت على قبُول توبة كلِّ كافِرِ ، فدلَّ على أنَّ توبتَهُ ، إذا كان قاتِلاً مقبولةٌ؛ قال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] .
قوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } يجوزُ في « حَتَّى » أن تكونَ بمعنى « كَيْ » وهو الظاهرُ ، وأن تكونَ بمعنى « إِلَى » و « أَنْ » مضمرةٌ بعدَها في الحالين ، و « تَكُونَ » هنا تامةٌ ، و « فِتْنَةٌ » فاعلٌ بها ، وأمَّا { وَيَكُونَ الدين للَّهِ } فيجوزُ أن تكون تامَّةً أيضاً ، وهو الظاهرُ ، ويتعلَّقُ « اللَّهِ » بها ، وأن تكونَ ناقصةً و « لِلَّهِ » الخبَر؛ فيتعلَّق بمحذوف أي : كائناً لله تعالى
فصل في المراد بالفتنة
قيل : المراد بالتفنة الشِّرك والكُفر؛ قالوا : كانت فتنتهُم أنَّهُم كانوا يُرهِبُون أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - بمكة ، حتى ذهبوا إلى الحبشة ، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء؛ حتى ذهبوا إلى المدينة ، وكان غرضَهُمُ من إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهُم ، ويرجِعُوا كُفَّاراً ، فإنزل الله - تبارك وتعالى - هذه الآية ، والمعنى :
قاتِلُوهُم حتَّى تَظهروا عليهم؛ فلا يفتِنُوكُم عن دِينِكُمْ ، ولا تَقَعوا في الشِّركَ { وَيَكُونَ الدين للَّهِ } أي : الطَّاعة ، والعبادةُ للَّه وحده؛ لا يُعبدُ شيءٌ دونه ونظيره قوله تعالى :

{ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } [ الفتح : 16 ] قال نافع : جاء رجلٌ إلى ابن عُمَرَ في فتنةِ ابن الزُّبير فقال ما يمنعُكَ أنْ تخرج؟ فقال : يَمنعُني أنَّ اللَّهَ حرَّمَ دم أخِي؛ ألاَّ تَسْمَعُ ما ذكر اللَّهُ تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] قال : يا ابن أخي ولأن أعتبر بهذه الآية ، ولا أقاتل أحبُّ لي من أن أعتبر بالآية الأخرى الَّتي يقُولُ الله - عزَّ وجلَّ - فيها { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } [ النساء : 93 ] قال ألم يقُل الله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؟ قال : قَدْ فعلنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، ومَجَّد ، وعَظَّم - إذْ كان الإسلامُ قليلاً ، وكان الرَّجُلُ يُفْتَنُ عن دينه ، إما يقتُلُونه ، أو يُعَذِّبونه ، حى كثُر الإسلام ، فلن تكُن فتنة وكان الدِّينُ للَّه ، وأنُتُم تُرِيدُون أنْ تُقَاتِلُوهم ، حتَّى تكُون فتنَة ، ويَكُونُ الدِّين لغيْرِ الله .
وعن سعيد بن جبير ، قال : قال رجلٌ لابن عمر كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال : هل تدري ما الفتنة؟! كان محمَّدٌ صلواتُ الله وسلامُهُ عَلْيهِ يُقاتل المُشرِكين ، وكانَ الدُّخُولُ عليهم فِتْنَةً ، وليس قتالكُم كقتالهم على المُلكِ .
فصل في معاني الفتنة في القرآن
قال أبو العبَّاس المُقِري : ورد لفظ الفتنَة في القرآن بإزاء سبعة معانٍ :
الأول : الفتنة : الكُفر؛ قال تعالى : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة } [ آل عمران : 7 ] يعني : طلب الكُفْر .
الثاني : الفتنة الصرف قال تعالى : { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ } [ المائدة : 49 ] .
الثالث : الفتنة : البلاء؛ قال تعالى { وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ } [ العنكبوت : 3 ] .
الرابع : الفتنةُ : الإحْرَاقُ؛ قال تعالى { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين } [ البروج : 10 ] ، أي : حَرَّقُوهم؛ ومثله { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] .
الخامس : الفتنة الاعتذارُ قال تعالى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام : 23 ] .
السادس : الفتنة : القَتل ، قال تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } [ النساء : 101 ] ، أي : يَقْتُلُوكم .
السابع : الفتنَة : العذَابُ؛ قال تعالى : { جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله } [ العنكبوت : 10 ] .
قوله « فَإِن انْتَهوا » ، أي : عن الكُفر وأسلَمُوا ، « فَلاَ عُدوَانَ » أي : فلا سبيل { إِلاَّ عَلَى الظالمين } قاله ابن عبَّاس ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ القصص : 28 ] ، أي : فلا سبيل عليَّ ، وقال أهلُ المعاني العدوان : الظُّلم ، أي : فإنْ أسْلَمُوا ، فلا نهب ، ولا أسر ، ولا قتْل إلاَّ على الظالمين الَّذين بَقُوا على الشِّرك؛ قال تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] وسَمَّى قتل الكُفَّار عُدواناً ، وهو في نفسه حقٌّ ، لأنَّه جزاءٌ عن العُدْوان؛ على طريق المجاز ، والمقابلة؛ لقوله { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] ، و { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ } [ التوبة : 79 ] .
وقيل : معنى الآية الكريمة إن تَعَرَّضْتم لهُمْ بعد انتهائهم عن الشِّرك والقتال ، كنتم أنْتُم ظالمينَ ، فنسلِّط عليكم مَنْ يَعتِدي عليْكُم .
قوله : { إِلاَّ عَلَى الظالمين } في محلِّ رفع خبر « لا » التبرئة ، ويجوزُ أن يكون خبرُها محذوفاً ، تقديرُه : لا عُدْوَانَ على أحد؛ فيكونُ { إِلاَّ عَلَى الظالمين } بدلاً على إعادةِ العامل ، وهذا الجملةُ ، وإنْ كانَت بصورة النَّفي ، فهي في معنى النَّهي؛ لئلا يلزَم الخُلْفَ في خبره تعالى والعربُ إذا بالَغَتْ في النهي عن الشيء ، أبْرَزَتْهُ في صورةٍ النفي المَحْضِ؛ كأنه ينبغي ألاَّ يوجدَ البتة؛ فَدَلُّوا على هذا المعنى بما ذكرْتُ لك ، وعكسُه في الإِثبات ، إذا بَالَغُوا في الأمرِ بالشَّيْء ، أبرزُوهُ في صُورة الخَبَر؛ نحو : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } [ البقرة : 233 ] على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى - .

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

قوله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } مبتدأ ، خبرُه الجارُّ بعده ، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ ، تقديرُه : انتهاكُ حُرْمة الشَّهْر الحرامِ بانتهاكِ حرمةِ الشهرِ ، والألفُ واللامُ في الشَّهْر الأوَّل والثَّاني لِلْعهَد؛ أنَّهما معلومان عند المخاطبين؛ فإنَّ الأولَ ذُو القَعْدَةِ من سنة سَبْع ، والثاني من سنة سَتٍّ .
وقرئ . « والحُرْمَات » بسكون الراء ، ويُعْزَى للحسن وقد تقدَّم عند قوله { فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة : 17 ] أنَّ جمعَ « فُعْلَةٍ » بشروطِها يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجه : هذان الاثنانِ ، وفَتْحُ العين .
فصل في بيان سبب النُّزول
في سبب نزول الآية ثلاثة أوجه :
أحدها : قال ابنُ عبَّاس ومجاهدٌ ، والضَّحَّاك - رضي الله عنهم - أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم ، وشَرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - خرج عام الحُديبية لِلْعُمرة ، وذلك في ذي القعدة سنة ستٍّ مِنَ الهجرة ، فصدَّه أهلُ مكة عَنْ ذلك ثُمَّ صالحُوه أنْ ينصرف ، ويعودَ في العام القابل؛ ويتركُوا له « مكَّةَ » ثلاثة أيَّام؛ حتَّى يقضي عُمْرَتَهُ فانصرَفَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - عامهُ ذلك ، ورجع في العام القابل في ذي القعدة سنَة سبعٍ ، ودَخَل مَكَّة ، واعتَمر؛ فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية الكريمة يعني إنَّك دخلت مكَّة في الشهر الحرام ، والقومُ كانُوا صَدُّوكَ في السنةِ الماضية في هذا الشَّهر؛ فهذا الشهر الحرامُ؛ بذلك الشهرِ الحرامِ .
وثانيها : قال الحسن : إنَّ الكُفَّار سَمِعُوا أنَّ الله تعلاى نهى الرسُولَ - عليه الصَّلاة والسَّلأم - عن المقاتلة في الأشهر الحُرُم؛ وهو قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله } [ البقرة : 217 ] فأرادوا مقاتلته ، وظنُّوا أنَّهُ لا يُقاتلهم في الأشهر الحُرُم؛ فأنزل اللَّهُ تعالى في هذه الآية؛ لبيان الحُكم في هذه الواقعة فقال : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } أي من استحلَّ قتالكم من المشركين من الشَّهر الحرام ، فاستحلّوه أنتم فيه .
وثالثها : قال بعضُ المتكلِّمين : هو أنَّ الشهر الحرام لما لم يمنعكم عن الكفر بالله ، فكيف يمنعنا عن قتالكم؟ فالشهر الحرام من جانبنا مقابل الشهر الحرام جانبكم؛ والحاصل في هذه الوجوه : أنَّ رحمة الشَّهر الحرام لما لم تمنعهُم عن الكفر ، والأفعالِ القبيحة ، فكيف جعلوه سبباً في منع القتالِ على الكفر والفساد؟!
قوله : « والحرمات قصاصٌ » الحرماتُ : جمع حرمة؛ كظلمات جمع ظلمة ، وحجرات جمع حجرة ، الحرمة ما منع من انتهاكه ، وجمعها؛ لأنَّه أراد حُرمة الشَّهر الحرامِ والبلد الحرام ، وحرمة الإحرام . و « القصاص » : المُساوَاةُ والمُمَاثلة .
والمعنى على الوجه الأوَّل في النُّزول لمَّا أضاعوا هذه الحُرمات في سنة ستٍّ ، فقد قضيتموها على زعمكم في سنة سبع .

وأما على الثَّاني : فالمراد إن أقدمُوا على مقاتلتكم في الشَّهر الحرام ، فقاتلوهم أنتم أيضاً فيه .
قال الزَّجَاج : وعلم الله بهذه الآية : أنه ليس على المسلمين : أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء ، بل على سبيل القصاص والمماثلة ، وهذا القول أشبه بما قبل هذه الآية الكريمة ، وهو قوله تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } [ البقرة : 191 ] وبما بعدها؛ وهو قوله تعالى : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ } .
وأما على القول الثالث : فقوله « والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ » يعني : حُرمَةُ كلِّ واحدٍ من الشهرين كحرْمة الآخر ، وهما مثلان ، والقِصاصُ هو المثلُ ، ولَمَّا لم يمنعكُم حرمةُ الشَّهر من الكُفْر ، والفِتنة ، والقِتال ، فكيف يمنعُنا عن القتال؛ فعلى هذا ، فقوله : « والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ » متَّصلٌ بما قبله .
وقيل : هو مقطوعٌ منه ، وهو ابتداء أمرٍ كان في أوَّل الإسلام : أن من انتهك حُرمتك ، نِلتَ منه بمثل ما اعتدى عليك ، ثم نُسِخً ذلك بالقتال .
وقالت طائفةٌ : ما تناولت الآية الكريمة من التعدِّي بين أمة محمَّد - عليه الصَّلاة والسَّلام - والجنايات ونحوها - لم يُنسَخْ ، وجاز لمن تُعُدِّيَ عليه من مال ، أو جرح أن يتعدَّى بمثل ما تُعُدِّي به عليه .
وقوله { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ } يجوزُ في « مَنْ » وجهان :
أحدهما : أن تكون شرطيةً ، وهو الظاهرُ؛ فتكونَ الفاء جواباً .
والثاني : أن تكونَ موصولةً؛ فتكونَ الفاءُ زائدةً في الخبر ، وقد تقدَّم نظيره .
قوله : { بِمِثْلِ مَا اعتدى } في الباء قولان :
أحدهما : أن تكون غير زائدةٍ ، بل تكون معلِّقةً ب « اعْتَدُوا » والمعنى : بعقوبةٍ مثْل جنايةٍ اعتدائه .
والثاني : أنها زائدةٌ ، أي : مثل ما اعَْدى به؛ فتكون : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوف ، أي : اعتداءً مماثلاً لاعتدائه ، وإمَّا حالاً من المصدر المحذوف ، كما هو مذهبُ سيبويه - رحمه الله تعالى - أي : فاعتدوا الاعتداء مُشبِهاً اعتداءُه ، و « مَا » يجوزُ أن تكوَ مصدريةً ، فلا تفتقر إلى عائدٍ ، وأن تكون موصولةً؛ فيكون العائدُ محذوفاً ، أي : بمثل ما اعتدى عليكُم به ، وجاز حذفه؛ لأنَّ المُضاف إلى الموصول قد جُرَّ بحرفٍ قد جرَّ به العائدُ ، واتَّحد المتعلِّقان وقد تقدَّم معنى تسمية المجازاة بالاعتداء .
فصل في اختلافهم في تسيمة المكافأة عدواناً
قال القرطبيُّ : اختلف النَّاس في المكافأة ، هل تُسمَّى عدواناً ، أم لا؟ فمن قال : ليس في القرآن مجازٌ ، قال : المقابلة عدوانٌ ، وهو عدوانٌ مباحٌ ، كما أنَّ المجاز في كلام العرب كذبٌ مباحٌ؛ لأن قوله : [ الطويل ]
719 - فَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعاً وَطَاعَةً .. . .
وقولَهُ : [ الرجز ]
972 - إِمْتَلأَ الحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي ... وقوله : [ الرجز ]
973 - شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى ... ومعلوم أنَّ هذه الأشياء لا تنطق ، وحدُ الكَذِب الإخبارُ عن الشَّيء بخلاف ما هو به .
ومن قال : في القُرآن مجازٌ : سمَّى هذا عُدواناً مجازاً على طريق المُقابلة كقوله عمرو بن كلثومٍ : [ الوافر ]

974 - أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
975 - ولِي فَرَسٌ لِلْحِلْمِ بِالْحِلْمِ مُلْجَمٌ ... وَلِي فَرَسٌ لِلْجَهْلِ بِالجَهْلِ مُسْرَجُ
وَمَنْ رَامَ تَقْوِيمي فَإِنِّي مُقَوَّمٌ وَمَنْ رَامَ تَعْوِيجي فَإِنِّي مُعَوَّجُ
يريد أُكافىءُ الجاهل والمُعوجَّ لا أنَّه امتدح بالجهل والاعوجاج .
قولُهُ « وَاتَّقُوا » قد تقدَّم معنى « التَّقْوَى » .
وقولُهُ : { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } ، أي : بالمعونَةِ ، والنُّصرة ، والحِفظ ، وهذا من أقوى الدَّلائل على أنَّه ليس بجسمٍ ، ولا في مكانٍ ، إذ لو كان جسماً ، لكان في مكانٍ معيَّن؛ فكان إمَّا أن يكون مع أحدٍ منهم ، ولم يكن مع الآخر ، أو يكون مع كُلِّ واحدٍ من المُتَّقين جزءُ من أجزائهِ ، تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً .

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

اعلم أنَّ تعلُّق هذه الآية الكريمة بما قبلها من وجهين :
الأول : أنَّه تعالى ، لمَّا أمرهُ بالقتالِ وهو لا يتيسَّر إلاَّ بآلاتٍ وأدواتٍ يحتاجُ فيها إلى المال ، وربَّما كان ذو المالِ عاجزاً عن القتال ، وكان الشُّجاع القادرُ على القتال عديم المال فقيراً ، فلهذا أمر اللَّهُ تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفُقراء الَّذين يقدرون على القتال .
والثاني : يروى أنَّه لمَّا نزَلَ قولُهُ تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات } [ البقرة : 194 ] قال رجلٌ من الحاضرين : واللَّهِ ، يا رسول الله ما لَنَا زادٌ ، وليس أحدُ يُطْعمنَا؛ فأمر رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، وعَظَّم - أن ينفقوا في سبيل الله ، وأن يتصدَّقوا وألاَّ يكفُّوا أيديهم عن الصَّدقة ، ولو بشقِّ تمرةٍ تُحملُ في سبيل الله فيهلكوا ، فنزلت الآية الكريمة على وفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، وعَظَّم - .
والعلم : أنَّ الإنفاقَ هو صرفُ المالِ إلى وجوه المصالح؛ فلذلك لا يُقالُ في المُضَيِّع : إنَّه مُنفقٌ ، وإذا قُيِّد الإنفاقُ بذكر « سَبِيلِ اللَّهِ » ، فالمرادُ به في طريق الدِّين؛ لأنَّ السَّبيل هو الطريقُ ، وسبيلُ الله هو دينُهُ ، فكلُّ ما أمر الله تعالى به من الإنفاق في دينِهِ ، فهُوَ داخِلٌ في الآية الكريمة ، سواءٌ كان في حجٍّ ، أو عُمرةٍ ، أو كان جهاداً بالنَّفس أو تجهيزاً للغير أو كان إنفاقاً في صلة الرَّحم ، أو في الصَّدقات ، أو على القتالِ ، أو في الزَّكاةِ ، أو الكَفَّارة ، أو في عمارة السَّبيل ، وغير ذلك ، إلاَّ أنَّ الأقربَ في هذه الآية الكريمة ذكرُ الجهاد ، فالمرادُ هاهنا الإنفاقُ في الجهاد؛ لأنَّ هذه الآية الكريمة ، إنَّما نزلت وقت ذهاب رسُول الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، وعَظَّم - لعُمرة القضاء ، وكانت تلك العُمرةُ لا بُدَّ مِنْ أن تُفضي إلى القتالِ ، إنْ منَعَهم المُشركُونَ ، فكانَتْ عمرةً وجهاداً ، فاجتمعَ فيها المعنيانِ؛ فلا جَرَم ، قال تعالى { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله } .
قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } .
في هذه الباء ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها زائدةٌ في المفعول به؛ لأن « أَلْقَى » يتعدَّى بنفسه؛ قال تبارك وتعالى { فألقى موسى عَصَاهُ } [ الشعراء : 45 ] ، وقال القائل : [ الكامل ]
976 - حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَداً فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتٍ الثُّغُورِ ظَلاَمُهَا
فزيدت الباءُ في المفعول ، كما زيدَت في قوله : [ الطويل ]
977 - وَأَلْقَى بِكَفَّيْهِ الْفَتَى اسْتِكَانَةً ... مِنَ الْجُوعِ وَهْنَاً مَا يُمِرُّ وَمَا يَحْلُو
وهذا قولُ أبي عبيدة ، وإليه ميلُ الزمخشري ، قال : « والمعنى : ولا تُقْبِضُوا التهلُكَةَ أيدِيكُمْ ، أي لا تَجْعَلُوها آخِذَةً بأيديكُمْ مالكةً لكُمْ » ، إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادة الباء في المفعول به لا تَنقاسُ ، إنما جاءت في الضَّرورة؛ كقوله : [ البسيط ]

978 - . ... سُودُ المَحَجِرِ لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ
الثاني : أنها متعلقةٌ بالفعل غيرُ زائدةٍ ، والفعولُ محذوفٌ ، تقديرُه : ولا تُلْقُوا أنْفُسَكُمْ بأيديكُم ، ويكُونُ معناها السَّبَبَ؛ كقولك : لا تُفْسِد حالك برأيك .
الثالث : أن يُضمَّن « أَلْقَى » معنى ما يتعدَّى بالباء؛ فيُعدَّى تعديته ، فيكون المفعولُ به في الحقيقة هو المجرور بالباء ، تقديره : ولا تُفْضُوا بأيديكُم إلى التَّهْلُكة؛ كقولك : أَفْضَيْتُ بِجَنْبِي إلى الأرض ، أي : طرحتُهُ على الأرض ، ويكونُ قد عَبَّرَ بالأيدي عن الأنفس كقوله : { بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] لأنَّ بها البَطشَ والحركة ، وظاهرُ كلام أبي البقاء فيما حكاهُ عن المُبرِّد : أن « ألْقَى » يتعدَّى بالباء أصلاً ك « مَرَرْتُ بزيدٍ » ، والأولى حملُهُ على ما ذكرناه .
والهمزة في « أَلْقَى » لِلْجعل على صفةٍ ، نحو : أطْرَدْتُهُ ، أي : جعلتُهُ طريداً ، الهمزة فيه : ليست للتعدية؛ لأنَّ الفعل متعدٍّ قبلها ، فمعنى « ألقَيْتُ الشيْءَ » : جَعَلْتُه لُقى ، فهو « فُعَلٌ » بمعنى « مَفْعُول » ؛ كما أن الطريد « فَعِيلٌ » بمعنى « مَفْعُول » ؛ كأنه قيل : لا تَجْعَلُوا أنفسَكُم لُقى إلى التَّهْلُكَة . والتَّهْلُكَةُ : مصدرٌ بمعنى « الهلاكِ ، يُقَالُ : هَلَكَ يَهْلِكُ هُلْكاً ، وهَلاكاً ، وهَلْكَاءَ ، على وزن فعلاء ، ومَهْلِكاً ومَهْلُكَةً ، مثلَّث العين ، وتَهْلُكَةً ، وقال الزمخشري : » ويجوزُ أن يقال : أصلُها التَّهْلِكَةُ؛ بكسر اللام ، كالتَّجْرِبة؛ على أنه مصدرٌ من هلَّك - يعني بتشديد اللامِ - فَأُبْدلتِ الكسرةُ ضَمَّةً؛ كالجِوار والجُوار « ، وردَّ أبو حيَّان بأنَّ فيه حَمْلاً على شاذٍّ ودَعوى إبدال ، لا دليلَ عليها؛ وذلك أنه انه جعلَهُ تَفعلةً بالكسر ، مصدرَ » فَعَّلَ « بالتشديد ، ومصدرُه ، إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ على » تَفْعِيل « و » تَفْعِلَةٌ « فيه شاذٌّ ، وأمَّا تنظيره له بالجِوَار والجُوَار ، فليس بشيء ، لأنَّ الضمَّ فيه شاذٌّ ، فالأولى أنْ يُقال : إنَّ الضَّمَّ أصلٌ غيرُ مبدلٍ من كسرٍ ، وقد حكى سيبويه ممَّا جاء من المصادر على ذلك التَّضُرَّة والتَّسُرَّة .
قال ابن عطيَّة : » وقرأ الخليلُ التَّهْلِكَةَ ، بكسر اللام ، وهي تَفْعِلَةٌ ، من هَلَّكَ بتشديد اللام « وهذا يُقَوِّي قول الزمشخري .
وزعم ثعلبٌ والجارزنجي أنَّ » تَهْلُكَةً « لا نظير لها ، وليس كثيراً من تكلُّفات هؤلاء النُّحاة في أمثال هذه المواضع ، وذلك أنَّهُم وجدوا نَقلاً عن أعرابيٍّ مجهولٍ يكونُ حجتَّهُم فيه ، ففرحثوا به ، واتّخَذُوه حجَّةً قويَّةً ، ودليلاً قاطِعاً ، وقالُوا : قد نُقِلَ هذا عن العرب؛ فكيف ، وقد وَرَدَ هذا في كَلاَمِ الله تعالى المشهُور له مِنْ كُلِّ واحدٍ من المُوافِق والمُخَالف بالفصاحة ، وأعجز البُلَغَاء والفُصَحاء ، وتحدَّاهم » بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ « و » بِعَشْرِ سُوَرٍ « و » بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ « [ فقال تعالى : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }

[ الإسراء : 88 ] وقال : { قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [ هود : 13 ] وقال في موضع آخر : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] كيف لا يدلُّ ذلك على صحَّة هذه اللَّفظة ، وفصاحتها ، واستقامتها .
والمشهور : أنه لا فرق بين التَّهْلُكَة ، والهلاك ، وقال قومٌ : التَّهْلُكَةُ : ما أمكن التحرُّز منه ، والهلاكُ : ما لا يمكن التحرُّز منه ، وقيل : هي نفسُ الشَّيْءِ المُهْلِكِ ، وقيل : هي ما تضضُرُّ عاقبته .
فصل في اختلافهم في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة
اختلفوا في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التَّهلكة .
فقال قومٌ : إنَّه راجعٌ إلى نفس النَّفقة .
وقال آخرون : إنَّه راجعٌ إلى غيرها ، فالأوَّلون ذكروا وجوهاً :
أحدها : قال ابن عبَّاس ، وحذيفة ، وعطاءٌ ، وعكرمةٌ ، ومجاهدٌ ، والجمهور ، وإليه ذهب البُخَارِيُّ - رضي الله عنهم - ولم يذْكُروا غيره : ألاَّ ينفقوا في مهمَّات الجهاد أموالهم؛ فستولي العَدُوُّ عليهم ، ويهلكهم؛ فكأنَّه قيل : إن كنت من رجال الدِّين فأنفق مالك في سبيل الله ، وفي طلب مرضاته ، وإن كانت من رجالِ الدُّنيا ، فأنفق مالك في دفع الهلاكِ ، والضَّرَر عن نفسِكَ .
وثانيها : أنه تبارك وتعالى لمَّا أمر بالإنفاق نهى عن نفقة جمع المال؛ لأنَّ إنفاق الجميع يفضي إلى التَّهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول ، والمشروب ، والملبوسِ ، فيكون المراد منه ما ذكره في قوله سبحانه : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] .
وقيل : الإلقاءُ في التَّهْلُكَة : هو السَّفر إلى الجهاد بغَيْر زادٍ ، نقله القُرْطُبيُّ عن زَيْد ابْنِ أَسْلَمَ ، وقد فعل ذلك قومٌ ، فانقطعوا في الطَّريق .
وأما القائلون : بأنَّ المراد منه غير النَّفقة ، فذكروا وجوهاً :
أحدها : أن يخلُّوا بالجهاد ، فيتعرَّضوا للهَلاَكِ الذي هو عذابُ النار .
ثانيها : لا تقتحموا في الحَرْبِ بحَيْثُ لا تَرْجُونَ إلاَّ قَتْلَ أنْفُسِكُمْ ، فإنَّ قَتْلَ الإنْسانِ نَفْسَه لا يَحِلُّ ، وإنما يجب الاقتحام إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل ، فأمَّا إذا كان آيساً من النِّكاية ، وكان الأغلب أنَّه مقتولٌ ، فليس له الإقدام عليه ، وهذا منقولٌ عن البَرَاءِ ابن عازب ، ونقل عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال في هذا : هو رجُلٌ ينتقّل بين الصفينِ . وطعن بعضهم في هذا التَّأوِيل؛ وقال : هذا القتلُ غير محرمٍ ، واحتجَّ بأَحَادِيثَ .
الول : روي أنَّ رجلاً من المهاجرين حمل على صَفِّ العدوِّ؛ فصاح به الناس؛ فألقى بيده إلى التَّهلكة؛ فقال أبو أيُّوبٍ الأنصاريّ : نحنُ أعلم بهذه الآية الكريمة ، وإنما نزلت فينا : صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصرناه وشهدنا المشاهد ، فلما قويَ الإسلام؛ وكثر أهله؛ رجعنا إلى إهالينا ، وأموالنا ، ومصالحنا؛ فنزلت الآية ، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل ، والمال ، وترك الجهاد . فما زال أبو أيوبٍ مجاهداً في سبيل الله؛ حتَّى كان آخر غزاة غزاها بقسطنطينيّة في زمن معاوية ، فتوفِّي هناك ، ودُفن في أصل سور القسطنطينية ، وهم يُسْتَسْقَوْنَ به .

ورُوِيَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الجنَّة؛ فقال له رجل من الأنصار : أرأيت يا رسول الله ، إن قتلت صابراً محتسباً؟ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - « لك الجنة » ؛ فانغمس في العدوِّ؛ فقتلوه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأنَّ رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كان عليه ، حين ذكر رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً - الجنة .
ورُوِيَ أنَّ رجلاً من الأنصار تخلَّف عن بني معاوية ، فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه؛ فقال لبعض من معه : سأتقدم إلى العدوِّح فيقتلونني ، ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ، ففعل ذلك؛ فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولاً حسناً .
وروي أنَّ قوماً حاصروا حصناً؛ فقاتل رجلٌ حتى قتل؛ فقيل : ألقى بيده إلى التَّهلكة ، فبلغ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ذلك؛ فقال : كذبوا قال الله تعالى : { مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله } [ البقرة : 207 ] .
ولقائلٍ أن يجيب عن هذه الآية؛ فيقول : إنَّما حرمنا إلقاء النفس في صفِّ العدوِّ ، إذا لم يتوقع إيقاع النكاية فيهم ، فأما إذا توقع ، فنحن نجوز ذلك ، فلم قلتم إنَّه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع؟
الوجه الثالث من تأويل الآية : أن يكون هذا متَّصلاً بقوله سبحانه : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ } [ البقرة : 194 ] أي : فلا تحملنَّكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم ، فتهلكوا بترككم القتال ، فإنَّكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة .
الوجه الرابع : أنَّ المعنى : أنفقوا في سبيل الله ، ولا تقولوا : إنَّا نخاف الفقر ، فنهلك إن أنفقنا ، ولا يبقى معنا شيءٌ ، فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق ، والمراد من هذا الفعل والإلقاء الحكم بذلك؛ كما يقال جعل فلانٌ فلاناً هلاكاً ، وألقاه في الهلاك؛ إذا حكم عليه بذلك .
الوجه الخامس : قال محمد بن سيرين ، وعبيدة السَّلمانيُّ : هو أنَّ الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل؛ فيستهلك في المعاصي ، فذلك هو إلقاء النفس إلى التهلكة؛ فحاصله أنَّ معناه النَّهيُ عن القنوط من رحمة الله تعالى؛ لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية ، والإصرار على الذنب .
الوجه السادس : يحتمل أن يكون المراد { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله } ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة ، والإحباط؛ وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلاً يحبط ثوابه ، إما بذكر المنَّة ، أو بذكر وجوه الرياء ، والسُّمعة؛ ونظيره قوله تعالى : { وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 33 ] .
وروي عن عكرمة : الإلقاء في التهلكة ، قال تبارك وتعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [ البقرة : 267 ] .
وقال الطَّبَرِيُّ : هو عامٌّ في جميع ما ذُكر ، لأن اللفظ يحتمله .
قوله « وَأَحْسِنُوا » اختلفوا في اشتقاق « المحْسِنِ » ، فقيل : مشتقٍّ من فعل الحسن ، وإنما كثر استعماله في من نفع غيره بنفع حسنٍ ، من حيث إنَّ الإحسان حسنٍ في نفسه ، وعلى هذا [ التَّقْدِير ] فالضربُ ، والقتلُ إذاً حَسُنَا ، كان فاعلهما محسناً .
وقيلك مشتقٌّ من الإحسان؛ ففاعل الحسن لا يوصف بكونه محسناً؛ إلاَّ إذا كان فعله حسناً ، وإحساناً معاً؛ فهذا الاشتقاق إنَّما يحصل من مجموع الأمرين .
قال الأصَمُّ : أَحْسِنُوا في فَرَائضِ اللَّهِ .
وقيل : أسحنوا في الإنفاق على من يلزمكم نفقته ، والمقصود منه أن يكن ، ذلك الإنفاق وسطاً من غير إسراف ، ولا تقتير ، وهذا أقرب لاتصاله بما قبله ، ويمكن حمل الآية على الجميع .

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

الحجُّ : في اللغة عبارةُ عن القصد ، وإنما يقال حجَّ فلانٌ الشيء ، إذا قصده مرَّةً بعد أخرى ، وأدام الاختلاف إليه ، و « الحِجَّةُ » بكسر الحاء : السَّنة ، وإنما قيل لها حِجَّةٌ؛ لأن الناس يحجُّون في كل سنةٍ ، وفي الشرع : هو اسمٌ لأفعال مخصوصة يشتمل على أركانٍ ، وواجباتٍ ، وسُننٍ .
فالركن : ما لا يحصل التحلُّل إلاَّ بالإتيان به ، والواجب هو الذي إذا تركه يجبر بالدم ، والسُّنن : ما لا يجب بتركها شيءٌ ، وكذلك أفعال العمرة .
وقرأ نافعٌ ، وأبو عَمْرٍو ، وابنُ كثير ، وأبو بكر ، عن عاصمٍ رحمة الله تعالى عليهم : « الحَجُّ » بفتحِ الحاءِ في كلِّ القرآن الكريم ، وهي لغة أهل الحجاز ، وقرأ حمزة ، والكسائيُّ ، وحفصٌ ، عن عاصمٍ : بالكسر في كلِّ القرآن .
قال الكسائيُّ : وهما لغتان بمعنى واحدٍ؛ كرِطلٍ ورَطلٍ ، وكِسر البيت ، وكَسره ، وقيل : بالفتح المصدر ، وبالكسر الاسم .
وقرأ علقمة ، وإبراهيم النَّخعيُّ : « وأقِيمُوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ » وفي مصحف ابن مسعودٍ : « وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ إلى البَيت » وروي عنه : وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت ، وفائدة التخصيص بقوله : « لِلَّهِ » - هنا - أنَّ العرب كانت تقصد الحج للاجتماع ، والتظاهر ، وحضور الأسواق؛ وكلُّ ذلك ليس لِلَه فيه طاعةٌ ، ولا قربةٌ؛ فأمر الله تعالى بالقصد إليه لأداء فرضه ، وقضاء حقِّه .
والجمهور على نصب « العُمْرَةَ » على العطف على ما قبلها ، و « لِلَّهِ » متعلقٌ بأتِمُّوا ، واللام لام المفعول من أجله . ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الحجِّ والعمرة ، تقديره : أتمُّوها كائنين لله . وقرأ عليٌّ وابن مسعودٍ ، وزيد بن ثابت ، والشعبيّ : « والعُمْرَةُ » بالرفع عل الابتداء . و « لله » الخبر ، على أنها جملة مستأنفةٌ .
قال ابن عباسٍ ، وعلقمة ، وإبراهيم ، والنخعي : إتمام الحجِّ والعمرة : أن يتمَّهما بمناسكهما وحدودهما وسننهما .
وقال سعيدُ بن جبيرٍ ، وطاوس : تمام الحجِّ والعمرة : أن تحرم بهما مفردين مستأنفين من دويرية أهلك .
ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً .
وقال عليُّ بن أبي طالبٍ ، وابن مسعودٍ - رضي الله عنهما - : تمام الحجِّ والعمرة : أن تحرم بهما من دويرية أهلك . فإن فعلها في أشهر الحج ، ثم أقام حتى حجَّ؛ فهي متعة ، وعليه فيها الهدي إن وجده ، أو الصيام إن لم يجد الهدي ، وتمام الحج أن يأتي بمناسكه كلِّها بحيث لا يلزمه دمٌ ، بسبب قرنٍ ، ولا متعةٍ .
وقال الضحاك : إتمامها : أن تكون النفقة حلالاً ، وينتهي عما نهى الله عنه .
وقال سفيان الثوري : إتمامها : أن تخرج من أهلك لهما؛ لا لتجارةٍ ، ولا لحاجةٍ أخرى .
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الوفد كثيرٌ ، والحاجُ قليلٌ .
فصل في اختلافهم في وجوب العمرة
اتَّفقت الأُمَّة على وجوب الحج ، على من استطاع إليه سبيلاً ، واختلفوا في وجوب العمرة؛ فذهب أكثر العلماء إلى وجوبها؛ وهو قول عمر ، وعليّ ، وابن عمر ، ورواه عكرمة عن ابن عباسٍ ، قال : والله إنَّ العمرة لقرينة الحجِّ في كتاب الله تعالى : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } وبه قال عطاءٌ ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وسعيد بن جبير ، وإليه ذهب الثوريُّ ، وأحمد ، والشافعيُّ ، في أصحِّ قوليه .

وذهب قومٌ إلى أنها سُنَّةٌ ، وهو قول جابرٍن وبه قال الشعبيُّ ، وإليه ذهب مالكٌ ، وأبو حنيفة ، رضي الله عنهم أجميعن .
حجةُ القولٍ الأوَّلِ أدلةٌ منها : قوله تعالى : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } والإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملً تاماً؛ بدليل قوله سبحانه وتعالى : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] أي : فعلهنَّ على التمام ، والكمال ، وقوله : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } [ البقرة : 187 ] ، أي : فافعلوا لاصيام تاماً إلى الليل .
فإن قيل يحتمل أن يكون المراد أنكم إذا شرعتم فيهما ، فأتموهما؛ لأنَّها تدلُّ على أصل الوجوب؛ لأنَّا إنما استفدنا الوجوب من قوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } [ آل عمران : 97 ] ، لا من هذه الآية ، وكذا قوله : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } [ البقرة : 187 ] إنَّما استفدنا وجوب الصوم من قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] لا من قوله : ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ « والحجُّ والعمرةُ يجب إتمامهما بالشروع فيهما ، سواءٌ أكانا فرضاً ، أو تطوُّعاً ، وتقول : الصوم خرج بدليلٍ ، أو تقول : وجب إتمامه بالشروع ، فيكون الأمر بالإتمام ، مشروطاً بالشروع فيهما .
فالجواب : أنَّ ما ذكرناه أولى؛ لأن على تقديركم يحتاج إلى إضمارٍ ، وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى إضمار؛ فكان الاحتمال الذي ذكرناه أولى ، ويدلُّ عليه : أنَّ أهل التفسير ذكروا أنَّ هذه الآية أول آيةٍ نزلت في الحجِّ ، فحملها على إيجاب الحجِّ ، أولى من حملها على وجوب الإتمام بشرط الشُّروع .
وأيضاً يؤيّده ما ذكرناه من قراءة من قرأ » وأقِيمُوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ « وإن كانت شاذَّةً ، لكنَّها تجري مجرى خبر الواحد .
فإن قيل : قراءة عليٍّ ، وابن مسعودٍ ، والشَّعبي : » والعُمْرَةُ لِلَّهِ « بالرفع يدلُ على أنهم قصدوا إفراد العمرة عن حكم الحجِّ ، في الوجوب؛ فالجواب من وجوه :
أحدها : أنها شاذَّةٌح فلا تعارض المتواترة .
فإن قيل : قد استدللتم أنتم بالشاذَّة أيضاً؟
قلنا : استدللنا بها حيث هي موافقةٌ؛ فتكون تقويةً للاستدلال ، لا أنها نفس الدَّلِيل ، واستدلالكم بالشاذَّة؛ نفس الدليل ، وهو معارضٌ بها؛ فتساقط الاستدلالان ، وسلمت المتواترة عن المعارض .
وثانيها : أن قوله : » وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ « معناها : أنَّ العمرة عبادةٌ الله ، وذلك لا ينافي وجوبها .
وثالثها : أنَّ في هذه القراءة ضعفاً في العربية؛ لأنَّها تقتضي عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية .
الدليل الثاني : قوله تعالى : { يَوْمَ الحج الأكبر } [ التوبة : 3 ] ، يدلُّ على وجود حجٌّ أصغر ، وهو العمرة بالاتفاق .
وإذا ثبت أن العمرة حجٌّ ، فتكون واجبةٌ؛ لقوله تعالى :

{ عَلَى الناس حِجُّ البيت } [ آل عمران : 97 ] .
الدليل الثالث : ما ورد في الصَّحيح : أنَّ جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - سأل النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - عن الإسلام ، فقال : « أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وأَنَّ مُحمداً رَسُولُ اللَّهِ ، وأَنْ تٌقِيمَ الصَّلاَةَ ، وتُؤْتِي الزكاةَن وتَصُومَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ »
وقوله - صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجلَّ وعظَّم - لأبي رزين ، لمَّا سأله ، فقال : إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ أدرك الإسلام ، ولا يستطيع الحجَّ والعمرة ، ولا الظَّعْنَة ، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام : « حُجَّ عن أبِيكَ وَاعْتَمْرْ » وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - « إنَّ الحجَّ والعُمْرَةَ فَرِيضَتَانِ ، لا يَضُرُّكَ بأيهما بَدَأْت »
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - « عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لاَ قِتَالَ فِيهِ : الحَجُّ وَالعُمْرَةُ »
وقال ابن عمر - رضي الله عنه - : ليس أحد من خلق الله إلاَّ وعليه حجةٌ وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلاً .
وقال الشافعيُّ - رضي الله عنه - : اعتمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجَّل وعظَّم قبل الحجِّ ، ولو لم تكن العمرة واجبةً ، لكان الأشبه أن يبادر إلى الحجِّ الواجب .
القول الثالث : في قصة الأعرابِّي حين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام ، فعلَّمه الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحجَّ ، فقال الأعرابيُّ : هل عليَّ غيرها؟ قال : « لا إلاَّ أن تطَّوع » ، فقال : والله لا أزيد على هذا ، ولا أنقض ، فقال عليه الصلاة والسلام : « أفلح إن صدق »
وقال عليه الصَّلاة والسَّلام : « بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وحَجِّ الْبَيْتِ »
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « صَلُّوا خَمْسَكُمْ ، وزَكُّوا أَمْوَالَكُمْ ، وَحُجُّا بَيْنَكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّة رَبِّكُمْ »
وعن محمد المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه سئل عن العمرة ، واجبةٌ هي أم لا؟ فقال : « لاَ ، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ »
وعن معاوية الضَّرير ، عن أبي صالحٍ الحنفي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجَّل وعظَّم - قال : « الحَجُّ جِهَادٌ ، وَالعُمْرَةُ تَطَوَّعٌ »
والجوابُ من وجوهٍ :
أحدها : أن هذه أخبارُ آحادٍ؛ فلا تعارض القرآن .
وثانيها : أنَّ هذه الآية الكريمة نزلت في السَّنة السابعة من الهجرة ، فيحتمل أنَّ هذه الأحاديث حيث وردت ، لم تكن العمرة واجبةً ، ثم نزل بعدها : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } ، وهذا هو الأقرب لما ذكرناه .

وثالثها : أن قصة الأعرابي ، والحديثين اللذين بعده ، ذكر فيهم الحجَّ ، وليس فيها بيان تفصيل الحج ، وقد بينَّا أن العمرة حجٌّ ، فلا تنافي وجوب العمرة ، وأمَّا حديث ابن المنكدر ، فرواه الحجاج بن أرطاة؛ وهو ضعيفٌ .
فصل
واتفقت الأمة على أنَّه يجوز أداء الحجِّ والعمرة على ثلاثة أوجهٍ : الإفراد ، والتمتع ، والقران .
فالإفراد : أن يُحرم بالحجِّ منفرداً ، ثم بعد الفراغ منه ، يعتمر من أدنى الحلِّ .
والتمتع : أن يعتمر في أشهر الحجِّ ، فإذا فرغ من العمرة ، يحرم بالحجِّ من مكة المشرقة في عامه .
والقران : أن يحرم بالحج والمرة معاً ، أو يحرم بالعمرة ، ثم يدخل عليها الحجَّ قبل أن يفتتح الطواف؛ فيصير قارناً ، ولو أحرم بالحج ، ثم أدخل عليه العمرة ، لم ينعقد غحرامه بالعمرة .
واختلفوا في أيِّ هذه الثَّلاثة أفضل؟ وتفاصيل هذه الأقوال مذكورةٌ في كتب الفقه .
قوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } [ البقرة : 196 ] قال أحمد بن يحيى : أصل الحصر ، والإحصار : المنع والحبس .
ومنه قيل للملك : الحصير؛ لأنه ممنوع من الناس .
قال لبيدٌ : [ الكامل ]
979 - . ... جِنٌّ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ
وهل حُصِر وأُحْصِر بمعنى ، أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ . فقال الفراء ، والزجاج ، والشيباني؛ إنهما بمعنى ، يقالان في المرض ، والعدوِّ جميعاً؛ وأنشدوا على ذلك [ الطويل ]
980 - وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ ... عَلَيْكَ وَلاَ أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ
وهو قولٌ أبي عُبَيْدَة ، وابن السِّكِّيتِ ، وابن قتيبة . وفرقَّ بعضهم ، فقال الزمخشري ، وثعلبٌ : في فصيح الكلام : يقال : أُحْصِر فلانٌ : إذا منعه أمرٌ من خوفٍ ، أو مرض ، أو عجز؛ قال تعالى : { الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله } [ البقرة : 273 ] ، وحُصِر : إذا حبسه عدوٌّ ، أو سجنٌّ ، هذا هو الأكثر في كلامهم ، وهما بمعنى في كل شيءٍ ، مثل : صدَّه وأصدَّه ، وكذلك الفراء والشيباني ، ووافقه ابن عطية أيضاً؛ فإنه قال : والمشهورُ مِنَ اللُّغَةِ : أُحْصِر بالمرضِ ، وحُصِر بالعَدُوِّ . وعكس أبن فارسٍ في « مُجْمَلِه » ، فقال : « حُصِر بالمرضِ ، وأُحْصِر بالعَدُوّ » وقال ثعلب : « حُصِر في الحَبْسِ ، أَقْوى مِنْ أُحْصِر » ، ويقال : حَصِرَ صَدْرُه ، أي : ضاق؛ ورجلٌ حَصِرٌ : لاَ يُبُوحُ بسرِّه ، قال جرير في ذلك المعنى [ الطويل ]
981 - وَلَقَدْ تَكَنَّفَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ... حَصِراً بِسِرِّكِ يَا أُمَيْمَ حَصُوراً
والحَصِيرُ : معروفٌ؛ لامتناعِ بعضه ببعض ، وانضمامُ بعضه غلى بعضٍ ، تشبيهاً باحتباس الشَّيء مع غيره ، والحصر : احتباس البول ، والغائط .
وقيل : إنَّ الحَصْرَ مختصٌّ بالمنع الحال من جهة العدوِّ؛ وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس ، وابن عمر ، وابن الزُّبير ، قالوا : لا حصر إلاَّ حصر العدوِّ ، وهو قول سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيِّب ، وإليه ذهب إسحاق ، وأحمد ، والشافعيُّ - رحمهم الله تعالى؛ وأكثر أهل اللغة يردُّون هذا القول .
وفائدة هذا الخلاف في أنَّه : هل يثبت للمحصر بالمرض ويغره من الموانع حكم المحصر بالعدوِّ؟
فقال الشافعيُّ : لا يثبت ، وقال غيره : يثبت ، والقائلون بأنه يثبت ، قال بعضهم : أنَّه ثابتٌ بالنصِّ ، وقال آخرون : بالقياس الجلي .

حجَّة القائلين بالثبوت : مذهب أهل اللغة؛ لأن أهل اللغة قائلان :
أحدهما : القائلون بأن الإحصار مختصٌّ بالحبس الحاصل بسبب المرض ، فتكون الآية الكريمة نصاً صريحاً فيه .
والثاني : القائلون بأن الإحصار المطلق الحبس ، سواءٌ كان مرضٌ أو عدوٌّ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرجَ ، فَقَدْ حَلَّ ، وعليه الحَجُّ مِنْ قَابِل »
قال عكرمة : فسألتُ ابن عباسٍ ، وأبا هريرة - رضي الله عنهما - عن ذلك؛ فقالا : صَدَق . فدلَّ ظاهر الآية ، والحديث عليه أيضاً .
وعلى القول الثَّالث : فهو أنَّ الإحصار اسمٌ لمنع العدوِّ ، فنقول : هذا باطلٌ باتفاق أهل اللغة ، وبتقدير ثبوته ، يقيس المرض على العدوِّ بجامع دفع الحرج ، وهو قياسٌ جَلِيٌّ ظاهرٌ .
وأمّا بتقدير مذهب ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، فلا شكَّ أنَّ قولهم أقوى؛ لتقدمهم على هؤلاء الأدباء ، في معرفة اللغة ، ومعرفة تفسير القرآن . والحديث ضعيف ، ويمكن تأويله بأنَّه إنّما يحل بالكسر ، والعرج ، إذا كان مشروطاً في عقد الإحرام .
كما روي : أنَّ ضباعة بنت الزبير كانت وجعةً؛ فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكرَّم ، وبجَّل ، وعظَّم : « حِجّي واشْتَرِطي ، وَقُولي اللَّهُمَّ مَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتَني » ويؤكد هذا القول وجوهٌ :
أحدها : أنَّ الإحصار : إفعالٌ من الحصر ، والإفعال تارةً يجيء بمعنى التعدية ، نحو : ذهب زَيْدٌ ، وأذْهَبْتُه انا ، ويجيءُ بمعنى : صار ذا كذا؛ نحو : أَغَدَّ البعيرُ ، أي : صار ذا غُدَّةٍ ، وأجبر الرجل ، إذا صار ذا إبل جربى ، ويجيء بمعنى : وجدته بصفة كذا؛ نوحو : أَحْمدْتُ الرجل ، أي وجدته محموداً .
والغحصار لا يمكن أن يكون للتعدية؛ فوجب إمَّا حمله على الصيرورة ، أو على الوجدان ، والمعنى أنَّهم صاروا محصورين ووجدوا محصورين .
واتفق أهل اللُّغة على أنَّ المحصور هو الممنوع بالعدو ، لا بالمرض ، فوجب أن يكون معنى الإحصار : هو أنهم صاروا ممنوعين بالعدوِّ ، وذلك يؤكِّد ما قاله الشافعيُّ .
وثانيها : أنَّ الحصر عبارة عن المنع ، وإنما يقال للإنسان : أنَّه ممنوعٌ من فعله ، ومحبوسٌ عن مراده؛ غذا كان الغي هو فاعل ذلك المنع والحبس .
فالحصر : عبارة عن الكيفية الحاصلة عند اعتدال المزاج ، وسلامة الأعضاء ، وذلك مفقودٌ في حقّ المريض؛ لأنَّه غير قادر على الفعل ألبتة؛ فلا يحكم عليه بأنه ممنوع ، لأن إحالة الحكم على المانع تستدعي حصول المقتضي .
أمَّا إذا كان ممنوعاً بالعدو ، - فها هنا - القدرة حاصلة إلاَّ أنه تعذْر الفعل؛ لأجل مدافعة العدوِّن فصح ها هنا أن يقال : إنه ممنوعٌ من الفعل؛ فوجب أن يكون الإحصار حقيقة في العدو ، لا في المرض .
وثالثها : أن قوله : « أُحْصِرْتُمْ » أي : حبستم ومنعتم ، والحبس لا بدَّ له من حابسٍ ، والمنع لا بدَّ له من مانعٍ؛ لأنَّ الحبس ، والمنع فعلٌ ، وإضافة الفعل إلى المرض محالٌ عقلاً ، لأن المرض عرضٌ لا يبقى زمانين ، فكيف يكون فاعلاً ، وحابساً ، ومانعاً .

وأمَّا وصف العدوِّ بأنه حابسٌ ، ومانعٌ؛ فهو وصفٌ حقيقيٌّ ، وحمل الكلام على الحقيقة ، أولى من حمله على المجاز .
ورابعها : أنَّ الإحصار مشتقٌ من الحصر ، ولفظ الحصر لا إشعار فيه بالمرض؛ فوجب أن يكون خالياً عن المرض قياساً على جميع الألفاظ المشتقة .
وخامسها : أنَّه تعالى قال بعده : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ } فعطل عليه المرض ، فلو كان المحصر ، هو المرض ، أو من يكون المرض داخلاً فيه ، لكان عطفاً للشيء على نفسه .
فإن قيل : إنما خصَّ المريض بالذكر؛ لأنَّ له حكماً خاصاً ، وهو حلق الرأس ، فصار تقدير الآية الكريمة : إن منعتم بمرض ، تحللتم بدمٍ ، وإن تأذَّى رأسكم بمرض ، حلقتم ، وكفَّرتم .
قلنا : هذا وإن كان حسناً لهذا الغرض ، إلاَّ أنه مع ذلك يلزم منه عطف الشيء على نفسه ، وحمل المحصر على غير المريض يوجب خلوَّ الكلام عن هذا الاستدلال ، فكان أولى .
وسادسها : قوله تعالى : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج } ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدوِّ ، لا في المرض ، فإنَّه يقال في المرض : شُفِي ، وعُفِيَ ولا يقال أمِنَ .
فإن قيل : لا نسلِّم أنَّ لفظ الأمن لا يستعمل إلاَّ في الخوف ، فإنه يقال : أمن المرض من الهلاك ، وأيضاً خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أوَّلها .
قلنا : لفظ الأمن إذا كان مطلقاً غير مقيَّد ، فإنَّه لا يفيد إلاَّ الأمن من العدوِّ .
وقوله : خصوص آخر الآية الكريمة لا يقدح في عموم أوَّلها .
قلنا : بل يوجب؛ لأن قوله : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ } ليس فيه بيان أنَّه حصل الأمن عن ماذا ، فلا بدَّ وأن يكون المراد حصول الأمن عن شيءٍ تقدَّم ذكره ، وليس إلاَّ الإحصار ، فكان التقدير : فإذا أمنتم من ذلك الإحصار .
وإذا ثبت أنَّ لفظ الأمن لا يطلق إلاَّ في العدوّ ، وجب أن يكون المراد من هذا الإحصار ، منع العدوِّ .
وسابعها : إجماع المفسرين على أن سبب نزول هذه الآية الكريمة ، أن الكفَّار أحصروا النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، واختلف العلماء في الآية النازلة في سببه؛ هل تتناول غير ذلك السبب؟ إلاّ أنهم اتفقوا على أنَّه لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجاً عنه ، فكان الإحصار في هذه الآية الكريمة عبارة عن العدوِّ ، وأمّا قياس منع المرض عليه ، فلا يمكن لوجهين :
الاول : أنَّ كلمة « إِنْ » شرطٌ ، وحكم الشرط انتفاء المشروط عند انتفائه ظاهراً ، فيقتضي ألاَّ يثبت الحكم إلاَّ في الإحصار الذي دلَّت الآية عليه ، فلو أثبتنا هذا الحكم في غيره قياساً ، كان ذلك نسخاً للنصِّ بالقياس ، وهو غير جائز .
الثاني : أنَّ الإحرام شرعٌ الزمٌن لا يحتمل النسخ قصداً؛ ألا ترى أنَّه لو جامع ، فسد حجُّه ولم يخرج من الإحرام؛ وكذا لو فاته الحجُّ حتى لزمه القضاء ، والمريض ليس كالعدوّ؛ لأن المريض لا يستفيد بتحلّله ورجوعه أمناً من مرضه ، وأمَّا المحصر بالعدو ، فإنّه خائفٌ من القتل إذا أقام ، فإذا رجع ، فقد أمن ، وتخلص من خوف القتل ، والله أعلم .

فصل
قال القرطبيُّ : « الحَاصِرُ لاَ يَخْلُوا مِنْ أَنْ يكونَ كَافِراً أَوْ مُسْلِمَاً ، فإن كان كافراً ، لم يَجُزْ قِتَالُه ، ولو وثق بالظهور عليه ، ويتحلل بموْضِعه؛ قوله تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام } [ البقرة : 191 ] ولو سأل الكافر جعلاً ، لم يجز؛ لأن ذلك وهن في الإسلام ، وإن كان مسلماً لم يجز قتاله بحال ، ووجب التحلل ، فإن طلب جعلاً ويتخلّى عن الطريق ، جاز دفعه ، ولم يجز القتال؛ لما فيه من إتلاف المهج ، وذلك لا يلزم في أداء العبادات ، فإنّ الدِّين أسمح ، وأمّا بذل الجعل ، فلما فيه من دفع أعظم الضَّررين بالأسهل منهما : ولأن الحجَّ ممَّا ينفق فيه المال ، فيعدُّ هذا من النَّفقة » .
فصل
العدوُّ الحاصر : لا يخلو إمّا أن يتيقَّن بقاؤه ، واستيطانه ، لقوته وكثرته ، أولا ، فإن كان الأول ، حلَّ المحصر مكانه من ساعته ، وإن كان الثاني ، فهو مما يرجى زواله ، فهذا لا يكون محصوراً؛ حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنَّه إن زال العدو ، لا يدرك الحج؛ فيحلّ حينئذٍ .
وقال أشهب : من حصر عن الحج بعدو ، فلا يقطع التَّلبية ، حتى يروح الناس إلى عرفة .
فصل في الإحصار
الإحصار : إنما يكون عن البيت ، أو عن عرفة . فأمَّا عن الواجبات التي تجبر بالدم كالرَّمي والمبيت بمزدلفة ، ، ونحوها ، فلا إحصار فيها؛ لأن المحرم يتمكن من إتمام حجَّه بجبرها بالدَّم ، وإذا إحصر عن طريق ، وله طريق غيرها ، يتمكَّن في الوصل إلى مكَّة ، ويدرك الحجَّ من غير زيادةٍ في النفقة ، أو ميرة لا تجحف بهن فليس بمحصر ، إذا كانت تلك الطُّرق أمناً ، [ فإن لم تكن أمناً ] ، أو كانت زيادة النَّفقة تجحف بماله . فهو محصر
فصل في قضاء المحصر
إذا أُحصر ، فلا قضاء عليه بالإحصار؛ لأنه إن كان محرماً بحجّ الفرض ، أو النَّذر ، وكان ذلك في العام الذي وجب عليه الحجُّ فيه ، لم يجب القضاء؛ لأن شروط وجوب الحجِّ لم تكمل؛ لوجود الإحصار ، وإن كان ذلك في العام الثاني : وجب عليه الحجُّ للوجوب السَّابق ، لا للإحصار؛ وإن كان الحجُّ تطوُّعا ، فلا قضاء؛ لأنَّه لم يجب عليه ابتداءً .
قوله : { فَمَا استيسر } ، « مَا » موصولة ، بمعنى : الذي ، ويضعف جعلها نكرة موصوفة ، وفيها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنَّها في محل نصب ، أي : فليُهدِ ، أو فلينحر ، وهذا مذهب ثعلب .
والثاني : ويعزى للأخفش : أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره : فعليه ما استيسر .
والثالث : أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالواجب ما استيسر ، واستيسر هنا بمعنى يسر المجرّد كصعب ، واستصعب ، وغني واستغنى ، ويجوز أن يكون بمعنى : تفعَّل نحو : تَكَبَّر واسْتَكْبَرَ ، وتعظَّم واسْتَعْظَمَ ، وقد تقدَّم ذلك .

قوله : « مِنَ الهَدْي » فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون « مِنْ » تبعيضية ، ويكون محلها النَّصب على الحال من الضَّمير المستتر في « اسْتَيْسَر » العائد على « مَا » ، أي : حال كونه بعض الهدي .
والثاني : أن تكون « مِنْ » لبيان الجنس ، فتتعلق بمحذوف أيضا .
وَفي الهَدْي قولان :
أحدهما : أنه . جَمْعَ هَدْيَةَ كَجَدْي جمع جَدْيَةِ السَّرْج .
والثاني : أن يكُون مصدراً واقعاً موقع المَفْعُول ، أي : المُهْدَى ، ولذلك يقعُ للأفرادِ والجَمْعِ . قال أبو عَمْر بنُ العلاء : لا أعْرف لهذه اللَّفْظَةِ نَظِيراً .
وقرأ مُجاهد والزُّهريُّ : « الهَديُّ » بتشديد اليَاء ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن يَكُون جمع هَدِيَّة كمطيَّة ومطايا وركيَّة ورَكايا .
قال أحمدُ بنُ يحيى : أهلُ الحِجَاز يُخَفِفُون « الهَدْي » ، وتميم يثقِّلُونَهُ؛ قال الشَّاعر : [ الوافر ]
982 - حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ وَالْمُصَلَّى ... وَأَعْنَاقِ الهَدِيِّ مُقَلَّدَاتِ
وَيُقالُ في جمع الهَدْي : « أَهْدَاءُ » .
والثاني : أنْ يكون فعيلاً بمعنى مَفْعُولٍ ، نحو : قتيلٍ بمعنى : مَقْتُول .
فصل
قال القَفَّال : في الآية الكريمة إِضْمَارٌ ، والتَّقدير : فَتَحَلَّلْتُم فما استيسر ، وهو كقوله { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ } [ البقرة : 184 ] أي : فَأَفْطَرَ فِعِدَّة ، وفيها إضمارٌ آخر ، هو ما تَقَدَّم ، أي : فَلْيَهْدِ أو فلينحر ما اسْتَيْسَرَ ، فالواجِبُ ما استيسر ، ومعنى الهَدي : ما يهدى إلى بيت الله ، عزَّ وجلَّ ، تقرباً إليه بمنزلة الهَديَّة .
قال عليٌّ وابنُ عباس - رضي الله عنهما - والحسنُ وقتادة : أعلاه بدنه ، وأوسطه بقرةٌ ، وأخسه شاةٌ ، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس .
فصل
إذا عدم المُحْصَرَ الهَدْي ، هل ينتقل إلى البَدَل؟ فيه خلافٌ قال أبو حنيفة : لا بَدَلَ لَهُ ، ويكونُ الهَدْيُ في ذمِته أبداً؛ لأنه تعالى أوجَبَ على المحصرِ الهَدْيَ على التَّعْيين ، ولم يثبت له بَدَلاً .
وقال أحمدُ : له بدلٌ؛ فعلى الأوَّل : هل له أنْ يَتَحلَّلَ في الحالِ ، أو يقيم على إحرامه؟
فقال أبو حنيفة : يقيمُ على إحرامه؛ حتى يجدهُ للآية .
وقال غيرهُ : له أَنْ يَتَحلَّل في الحال للمشقَّة ، وهؤلاء قالُوا يقوِّم الهدي بالدَّرَاهِمِ ، ويشتري بها طعاماً ، ويُؤدِّي؛ لأنَّهُ أقربُ إلى الهَدْي ، وفيه اختلافاتٌ كثيرةٌ ، ثم المُحْصَرُ إِنْ كانَ إجرامه بفرضٍ ، قد استقرَّ عليه ، فذلك الفَرْضُ في ذِمَّتِه ، وإن كان حَجّ تَطَوُّعٍ ، هل عليه القَضَاءُ؟! فيه خلاف : فذهب جماعةٌ إلى أَّنَّه لا قَضَاء عليه ، وهو قَوْلُ مالكٍ ، والشَّافعي ، وقال مجاهدٌ والشَّعبي والنَّخعيُّ ، وأصحابُ الرَّأي : عليه القَضَاءُ .
قال القُرطبيُّ : قال مالكٌ وأصحابُهُ : لا يَمْنَعُ المُحرم الاشتراطُ في الحَجِّ ، إذا خاف الحَصْر بمرضٍ ، أو عَدُوٍّ ، وهو قول الثَّورِيِّ ، وأبي حنيفة ، وأصحابه - رحمه الله - والاشتراط أنْ يَقُولَ في إحرامه ، إنْ حَبَسَنِي حابِسٌ فمحَلِّي حيثُ حَبَسَني .
وقال أَحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور لا بأس أنْ يَشْتَرِطَ ، وله شَرْطُهُ ، وهو قولُ جماعةً من الصَّحَابة والتابعين ، واحتجُّوا بقوله عليه السَّلام لِضُباعَة حين سألتهُ عن كيفيَّة الإحرام فقال :

« قُولِي : محلِّي حَيْث حَبَسْتَنِي »
فصل
اختلَفُوا في العُمْرة ، فأكثر الفُقَهاءِ قالوا : حُكْمُهَا في الإحْصار كَحُكُم الحَجِّ ، وعن ابن سيرين أَنَّهُ لا إحصار فيها؛ لأَنَّهَا غير مؤقّتة ، ويرده قوله تعالى : { فإِنْ أُحْصِرْتُمْ } عَقِيبَ ذكر الحَجِّ والعُمْرَةِ ، فيكونُ عَائِداً إليهما .
فصل
إذا أراد المحصر التحلّل وذبح ، وجب أن يَنْوِيَ التَّحلل عند الذَّبْحِ ، ولا يَتَحَلَّل أَلْبَتَّةَ قبل الذَّبْحِ .
قوله : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ } في الآية حَذْفٌ؛ لأنَّ الرَّجُلَ لا يَتَحَلَّلُ ببلوغ الهَدْي مَحِلَّه ، حتى يَنْحَر؛ فتقدير الآية الكريمة : حتَّى يَبْلُغَ الهَدْي مَحِلَّه ، فينحر فإذا نَحَرض فاحلقوا و « مَحِلَّه » يجوز أَنْ يكونَ ظرفَ مَكَانٍ ، أو زمانٍ ، ولم يُقْرأ إلاَّ بِكَسر الحاءِ فيما علمنا إلاَّ أّنَّهُ يَجُوزُ لغةً فتحُ حائِه ، إذا كانَ مكاناً . وفَرَّق الكسائيّ بينهما ، فقال : « المَكْسُورُ هو الإحْلاَلُ من الإحْرَامِ ، والمفتوحُ هو مَكَانُ الحُلُولِ من الإِحصار » .
فصل
قال أبو حنيفة : لا يَجُوزُ إِراقَهُ دم الإحصار إلاَّ في الحرم وقال أحمدُ والشَّافعيُّ - رحمهما اللَّهُ - حيث حبس والخلافُ مبنيٌّ على البَحْثِ في المَحَلِّ؛ فقال أبو حنيفة : هو اسمٌ للمكان . وقال غيره : هو اسمٌ للزَّمانِ الذي حصل فيه الحل . وحجّتهم وجوه .
منها : أنَّه - عليه السَّلامُ - أحصر بالحُديبيةِ ونحر فيها ، وليست من الحَرَمِ .
قال أصحابُ أبى حنيفة : إِنَّما أحصر فى طرف الحثدَيبية ، الّذى أسفل مَكَّةَ ، وهو من الحَرَمِ .
قال الوَاقِدِيُّ : الحديبيةُ على طرف مكَّةَ على تِسْعَةِ أَمْيِالِ من مكَّةَ .
قال القَفَّال - رحمه الله - : الدَّليل على [ أنَّ نحر ذلك الهدي ما وقع فى الحرم قوله تعالى : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25 ] .
ومنها : أَّنَّ المحصَر سواء كان فى المحلّ ، أو الحرم ، فهو مأمورٌ بنحر الهدي بقوله : { فَمَا استيسر مِنَ الهدي } ، فأوجب على المُحْصَرِ ، سواء كان فى الحلّ أو الحرمِ ، وإذا ثَبَتَ ذلك؛ وَجَبَ أن يجوز له الذَّبحُ ، حيث كَانَ قادراً على إراقة الدَّمِ .
ومنها : أنَّه تعالى إنَّما مكن المحصر من التَّحلل بالذَّبح؛ ليتمكن من تخليص نفسه فى الحال عند خَوْفِ العدوِّ ، فلم يَجُزِ النَّحْرُ إلاَّ فى الحرم وَمَا لم يحصلُ النَّحر لا يحصل له التَّحلل فى الحالِ ، وذلك يُنَاقِضُ المَقْصُودَ من مشروعيّة هذا الحكم؛ لأن الموصل ، للنَّحر إلى الحرم ، إن كان هو فالْخَوْفُ ، باقٍ ، وكيفَ يؤمر بهذا الفعل مع قيام الخَوْفِ ، وإن كَانَ غيره ، فقد لا يَجِدُ ذلك الغَيْرَ ، فماذا يفعل؟ حجَّةُ أبى حنيفة وجوه :
الأَوَّل : أَنَّ المحِلَّ - بكسر الحاء - عبارة عن المكان كالمسجدِ والمَجْلِس ، فقوله { حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ } يَدُلُّ على أَنَّهُ غير بالغٍ فى الحَالِ إلى مكان الحِلِّ ، وهو عندكم بَالِغٌ مَحَلَّهُ فى الحال .

وجوابه : أنَّ المحلَّ عبارة عن الزَّمان كمحل الدّين .
الثَّاني : أن لفظ « المَحِلّ » يحتمل الزَّمانَ والمَكَانَ إلاَّ أن الله - تعالى - أَزَلَ هذا الاحتمال بقوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } [ الحج : 23 ] .
وجوابه بأَنَّ كُلَّ ما وجب على المحرم فى ماله من بَدنَةٍ ، وجزاء هَدْي ، فَلاَ يُجْزِي إلاَّ فى الحَرَمِ لمساكين أهْلِهِ إلاَّ فى مَوْضعَين :
أحدهما : مَنْ سَاقَ هَدْياً ، فعطب فى طريقه ذبحه ، وخلَّى بين المَسَاكِين وَبَيْنَه .
والثَّاني : دم المُحْصَرِ بالعَدُوِّ فينحر حيثُ حبس ، فالأَدِلَّةُ المذكورةُ فى باقي الدّماءِ فلم قلتم إِنَّها تَتَنَاوَلُ هذه الصَّورَةَ؟
الثَّالث : قالوا إِنَّما سُمِّيَ هَدْياً؛ لأنه جارٍ مَجْرَى الهَدِيَّةِ التى يَبْعَثُهَا العَبْدُ إلى رَبِّهِ والهديّةُ لا تكونُ هَدِيَّةً إلاَّ إذا بَعَثَها المهَدي إلى دَارِ المهدى إليه ، وهذا المعنى لا يُتَصَّورُ إلاَّ بجعلِ موضعِ الهَدْي هو الحَرَمُ .
وجوابه : هذا تَمَسُّكٌ بالاسم ، ثم هُوَ مَحْمُولٌ على الأصلِ عند القُدْرَة .
الرابع : أَنَّ سَائِر دماء الحَجّ سواء كانت قربة ، أو كَفَّارة ، لا تَصِحُ إلاَّ فى الحرم ، فكذا هذا .
وجوابُهُ أنَّ هذا الدَّم إِنَّما وَجَبَ لإزالة الخَوْفِ ، وزوال الخوف إِنْما يَحْصُلُ إذا قدر عليه حَيْثُ أُحصر ، فلو وَجَبَ إِرْسَالَه إلى الحرم ، لم يحصل هذا المَقْصُود ، وهذا المَعْنَى غير موجود فى سائِرِ الدِّمَاءِ ، فَظَهَر الفَرْقُ .
والقَائِلُونَ بأَنَّ مَحلَّه الحَرَم قالوا : إن كان المُحْصَر حَاجّاً ، فمحله يوم النَّحْرِ ، وإِنْ كَانَ معتمراً ، فمحله يَوم يبلغ هديه الحرم .
قوله { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً } [ البقرة : 196 ] .
فى « مِنْكُمْ » وجهان :
أحدهُما : أن يَكُونَ فى مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال من « مَرِيضاً » ؛ لأنه فى الأصل صفةٌ لهن فلمَّا قُدِّم عليه انتَصَبَ حالاً . وتَكُونَ « مِنْ » تبعيضيةٌ ، أي : فَمَنْ كانَ مريضاً منكم .
والثَّاني : أجازه أبو البقاء أن يكونَ متعلِّقاً بمريضاً .
قال أبو حيان : « وهو لا يَكَادُ يُعْقَلُ » . و « مَنْ » يَجُوزُ أنْ تكونَ شرطيةً ، وأَنْ تكونَ موصولةً .
قوله : { أَوْ بِهِ أَذًى } يجوزُ أَنْ يكُونَ هذا مِنْ بابِ عَطْفِ المُفْرَدَاتِ ، وأن يَكُونَ من باب عَطْفِ الجُمَلِ . أما الأولُ ، فيكونُ الجَارُّ وَالمجرورُ فى قوله : « به » معطوفاً على « مريضاً » الّذي هو خبرُ كانَن فَيَكُونُ فى مَحَلِّ نَصْبٍ . ويكونُ « أذىً » مرفوعاً به على سبيل الفَاعِلِيِّة؛ لأَنَّ إِذَا اعْتمد رَفَع الفاعل عند الكُلَ فيصيرُ التقديرُ : فَمَنْ كان كائناً به أَذىً من رَأْسِهِ . وأما الثاَّاني فَيَكُونُ « به » خبراً مقدَّماً ، ومحلُّه على هذا رَفْعٌ ، وفى الوجهِ الأَوَّلِ كان نصباً ، و « أذىً » مبتدأٌ مؤخَّر ، وَتَكُونُ هذه فى مَحَلِّ نَصْبٍ؛ لأنَّها عَطفٌ على « مَريضاً » الواقع خبراً لكَان ، فهى وإنْ كانَتْ جُمْلَةً لفظاً ، فهي فى مَحَلِّ مُفْرَدٍ؛ إذ المَعْطُوفُ على المَفْرَدِ مفردٌ ، لا يُقَالُ : إنه عَادَ إلى عَطْفٍ المُفْرَدَاتِ ، فيتَّحِدُ الوجهانِ لوضوحِ الفَرق .

وأجازوا أن يَكُونَ « أَذىً » مَعْطُوفاً على إِضْمارِ « كان » لدلالةِ « كانَ » الأولى عليها ، وفى اسْمِ « كَانَ » المَحْذُوفَةِ حينئذٍ احْتِمَالانَ .
أحدهما : أن يَكُونَ ضميرَ « مَنْ » المتقدِّمَةِ ، فيَكُونُ « به » خبراً مقدماً ، و « أذى » مبتدأ مؤخراً ، والجُمْلَةُ فى مَحَلِّ نَصْبٍ خبراً لكان المضمرةِ .
والثَّاني : أن يكونَ « أَذىً » اسمها و « به » خبرَها ، قُدِّم على اسمها .
وأجَازَ أَبُوا البَقَاءِ أن يَكُونَ « أَوْ بِهِ أَذَىً » معطوفاً على « كَانَ » ، وأَعْرَب « به » خبراً مقدّماً متعلِّقاً بالاستقرار ، و « أَذىً » مبتدأ مُوَخَراً ، والهاءُ فى « بِهِ » عائدةٌ على « مَنْ » . وخَطَّأَهُ أبو حيان فيه ، قال : لأَنَّهُ كَانَ قد قَدَّمَ أن « مَنْ » شَرْطيةٌ ، وعلى هذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ خطأن لأَنَّ المَعْطُوف على جُمْلةِ الشَّرْطِ شَرْطٌ ، والجُمْلَةُ الشَّرْطيةُ لا تَكُونُ إلا فِعْلِيَّةً ، وهذه كما ترى جملةٌ اسْميّةٌ على ما قَرَّرَهُ . فَكَيْفَ تَكُونُ معطوفة على جملةٍ الشَّرطِ التِي يَجِبُ أن تكونَ فعليةً؟ فإنْ قيل : فإذا جَعَلْنَا « مَنْ » موصولةٌ ، فهل يَصِحُّ ما قاله من كَوْنِ « بِهِ أَذىً » معطوفاً على « كَانَ » ؟ فالجَوَابُ أنه لا يَصِحُّ أيضاً؛ لأنَّ « مَنْ » الموصولةَ إذا ضُمِّنَتْ معنى اسْم الشَّرْطِ لزِمَ أن تكونَ صلتُها جُمْلَةً فِعْليةً ، أو ما هي فى قُوَّتِهَا ، وَالبَاءُ فى « به » يجوزُ فيها وجهَان .
أحدُهما : أن تَكُونَ للإلصاق .
والثاني : ان تكونَ ظرفيةً .
والأذى مَصدر بمعنى الإيذاءِ ، وهو الأَلَمُ يُقالُ آذاه يُؤْذِيه إيذَاءً وأذى ، فكان الأَذَى مصدر على حذف الزَّوائد ، أو اسم مصدر كالعَطَاءِ اسم للإِعْطاءِ ، والنَّبَاتِ للإِنْبَاتِ . قال ابنُ عَبَّاسِ - رضي اللَّهُ عنهما « فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رأْسِهِ » أي برأسه قروح ، { أَوْ بِهِ أَذًى } ، أي : قَمْلٌ « .
قولُهُ : » مِنْ رَأْسِهِ « فى وجهان .
أحدهما : أنَّه فى مَحَلِّ رَفْع؛ لأنَّهُ صِفَةٌ لأَذَى ، أي : أذى كَائنٌ من رَأْسِهِ .
واثَّاني : أَنْ يَتَعَلَّق بما يَتَعلَّقُ » بِهِ « من الاستقرارِ ، وعلى كلا التَّقْدِيرَين تكُونُ » مِنْ « لابتداءِ الغَايَةِ .
قوله : » فَفِدْيَةٌ « فى رفعها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدُها : أن تكُونُ مُبْتَدَأً والخبرُ مَحْذُوفٌ ، أي : فعليه فِدْيَةٌ .
والثَّاني : أن تَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدأ محذوف ، أي : فالواجبُ عليه فِدْيَةٌ .
والثَّالث : أن تكُونَ فاعل فعلٍ مقدَّر ، أي فَتَجِبُ عليه فديةٌ . وقُرئ شَاذَاً : » فَفِدْيَةً « نصباً ، وهي على إضْمَار فعل ، أي : فَلْيَفْدِ فديةً . و » مِنْ صِيَام « فى مَحَلِّ رفعٍ ، أو نَصْبٍ على حسب القِرَاءَتَيْن صفةً ل » فِدْيَة « ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، و » أو « للتَّخيير ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ فعلٍ قبلَ الفَاءِ تقديرهُ : فَحَلَقَ فَفِدْيَة .

وقرأ الحَسَنُ والزُّهريُّ « نُسْك » بسكون السِّينِ ، وهو تخفيفُ المضموم . وفى النَّسُك قولان .
أحدهما : أَنَّهُ مَصْدَرٌ يُقَالُ : نَسَكَ ينسُك نُسْكاً ونُسُكاً بالضَّمِّ والإِسكان ، كما قرأهُ الحَسَنُ .
والثَّاني : أنه جَمْعُ نَسِيكة ، قال ابنُ الأَعْرَابيّ : « النَّسيكَةُ فى الأَصْلِ سَبيكة الفِضَّةِ ، وتُسَمَى العبادةُ بها؛ لأَنَّ العِبَادَة مُشْبهةٌ سبيكة الفِضَّة فى صَفَائِهَا وخُلوصِها من الآثام ويُقَالُ للمتعبد » نَاسِكٌ « ، لأَنَّهُ يُخلص نفسه من الآثام وصغارِها كالسَّبِيكةِ المخلَصة من الخَبَثِ وقيل للذَّبيحة » نَسيكة « لذلك لأنها أشرف العبادات التى يُتَقرَّبُ بها إلى اللَّهِ تعالى .
فصل في سبب نزول الآية
قال ابنُ عبَّاس : نزلت هذه الآية الكريمة فى كَعْب بنِ عجزة ، » قال كعبٌ : مَرّبي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحُدَيْبَةِ ، وكان شعر رأسي كثير القَمْلِ والصَّئبان ، وهو يتناثرُ وَأنَا أطيح ، فرآني فَقَال - عليه السَّلامُ - : « أَتُؤْذِيك هَوَامٌّ رَأْسِكَ » قُلْتُ : نعم يا رَسُول اللَّهِ ، قال : « احْلِقْ رَأْسَكَ » ، فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية الكريمة .
والمقصود منها أَنَّ المحرم إِذَا تَأَذَّى بالمرض ، أو بهوامّ رأسه؛ أُبيح له المُدَاوَةُ في الحَلْقِ بِشَرْطِ الفِدْيَةِ ، وهو على التَّخْيير بينَ أن يذبح ، أو يَصُومَ ، أو يَتَصَدَّق ، فَأَقَلّ النُّسُكِ شَاةٌ ، وَأَوْسَطُهُ بَقَرَةٌ ، وأعلاه بَدَنَةٌ . وأمَّا الصِّيامُ ، فليس فى الآية كمِّيته ، وفيه قولان :
أحدهما : أنَّه ثَلاَثَةُ أَيَّام؛ لما رَوَى أَبو دَاودَ أنَّه - عليه السَّلامُ - « لمّا مرَّ بكعب بنِ عجْرة ، وَرَأَى كثرةَ هَوَامّ رَأْسِهِ ، فَقَالَ لَهُ : احْلِقْ ، ثُمَّ اذْبَحْ شَاةٌ نُسُكاً ، أَو صُم ثَلاَثَةَ أَيَّامِ أَوِ أَطْعِم ثَلاَثَة آصعِ مِنْ تَمْرٍ على سِتَّة مساكِينَ »
والثَّاني : قال ابنُ عبّاس - رضي الله عنهما - والحَسَنُ : الصِّيام كصيام المتمع عَشْرَة أَيَّامٍ ، والإطعام مِثْلُ ذلك فى العَدَدِ؛ لأَنَّ الصِّيَامَ والإطعام لمّا كان مُجْمَلَيْنِ فى هَذَا المَوْضِعِ؛ وَجب حَمْلُهُ على المبيَّنِ فيما جاء بعد ذلك ، وهو الَّذي يلزمُ المتمتِّعَ إذا لم يجد الهدي .
فصل
اختلفوا : هَلْ يقدّم الفدية ثمّ يترخّص ، أو يُؤَخِّر الفدِية عن الترخّص ، والّضي يقتضيه ظاهر الآية الكريمة؛ أنَّهُ يؤخر الفِدْيَةَ عن الترخص ، لأن الإقْدَامَ على التّرخص كالعِلَّة فى وُجُوبِ الفِدْيَة ، فكان مُقَدَّماً عليه ، وأيضاً فقد بينَّا أنَّ تقدير الآية الكريمة : فَحَلَقَ فعليه فِدْيةٌ .
فصل
قال بَعْضُهُم هذه الآية الكريمة مختصّة بالحَصْرِ؛ وذلك إِنْ قيل أي بلوغ الهَدْي محلَّه ، ربما لحقه مرض ، وأذى فى رأْسِهِ ، فأذن الله تعالى له فى إِزَالَة ذلك المُؤْذِي بشرط أن يَفْدِي .
وقال آخرون : بل الكَلاَمُ مستأنفٌ فى كُلِّ محرم لحقه مرض ، أو أذى فى رَأْسِهِ ، فاحْتَاج إلى العلاج والحلق ، فبيَّن اللَّهُ تعالى أّنَّ لهُ ذلك ، وبين ما يجبُ عليه من الفِدْية ، وقد يَكُونُ المَرَضُ محوجاً إلى اللِّبَاسِ ، من شدَّة البَرْدِ أو غيره ، وقد يحتاج فى الأَمْرَاضِ إلى استِعْمَالِ الطّيب كثيراً ، وبالجملة فهذا الحُكمُ عامٌّ فى جميع مَحظورات الإِحْرامِ .

فصل
فَأَمّا من حق رأسه عامِداً من غير عُذْرٍ ، فقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ يجب عليه الدَّمُ .
وقال مالكٌ : حكمه حكم من فعل ذلك بعذر؛ لأَنَّ وجوبه على المَعْذُور تنبيه على وجوبه على غير المَعْذُورِ .
وقال ابنُ الخطيب : هذا ضَعيفٌ؛ لأَنَّ قوله : « فَمَنْ كَانَ منْكُمْ مَريضاً أَوْ بِهِ أَذَى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ » يدل على اشْتِراط هذا الحُكْم بهذه الأَعذارِ ، والمَشْرُوط بالشيء عدم عند عدم الشَّرْط .
قوله : « » الفاءُ عَاطفةٌ على ما تَقَدَّم ، و « إِذَا » مَنْصُوبَةٌ بالاستقرار المحذوفِ؛ لأنَّ التَّقْدِير : فعليه ما اسْتَيْسَرَ ، أي : فاستقرَّ عليه ما اسْتَيْسَرَ « .
وقوله : » فَمَنْ تَمَتَّعَ « الفاءُ جوابُ الشَّرْطِ بإذا ، والفَاءُ فى قوله : { فَمَا استيسر } جوابُ الشَّرط والثاني . ولا نَعْلَمُ خلافاً أَنَّهُ يَقَعُ الشَّرْطكُ وجوابُهُ جواباً لشرطٍ آخرَ مع الفاءِ . وقد تَقَدَّم الكَلاَمُ على { فَمَا اسْتَيْسَرَ } .
فصل
تقدير الكَلاَمِ ، فإذا أمنتم الإحصار الخَوْفِ أو المرض ، { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج } واختلفوا فى هذه المُتْعَةِ : فقال عَبدُ اللَّهِ بنُ الزُّبير : معناه فمن أُحْصِرَ حَتّى فَاتَهُ الحَجُّ ، ولم يَتَحَلَّل ، فَقَدِمَّ مَكَّةَ ، فخرج من إِحرامهِ بعَمَلِ عُمرة ، أَو اسْتَمْتَعَ بإِحْلاَلِهِ ذلك بتلك العمرة إلى السَّنَةِ المقبلة ، ثم حَجَّ فيَكُونُ متمتعاً بذلك الإحلال إلى إِحْرَامِهِ الثَّانِي فى العَام القَابِلِ ، وقيل معناه : فإذا أمنتم ، وقد حَلَلْتُم من إحرامِكُم بعد الإحصارِ ، ولم تقضوا عمرتكم ، وأخرتم العُمرَةَ إلى السَّنَةِ القَابِلة ، فاعْتَمَرتُم فى ما اسْتَيْسَرَ من الهَدْي ، وهو قول علْقَمَة ، وإبراهيم النَّخعيِّ ، وسعيد بن جبير .
ومعنى التَّمَتُّع : التَّلَذُّذ ، يقالُ تمتَّعَ بالشَّيءِ ، أي : تَلَذَّذَ به ، والمتاع : كُلُّ شَيءٍ يُتمتع به ، وأصلُهُ من قولهم : » حَبْلٌ ماتِعٌ « أي : طويلٌ ، وكل ما طالت صحبته بالشَّيء ، فهو مُتَمتِّعٌ به ، والتمتع بالعمرة إلى الحَجّ هو أن يَقدُم مكَّة مُعْتمِراً فى أشهرِ الحجِّ وينزع منها ، ثم يقيمُ بمكَّةَ حلالاً ، حتَّى يُنشىء منها الحَجَّ من عَامِهِ ذلك ، وإنَّما سُمِّي متمتعاً لأنَّهُ يكُونُ مستمتعاً بمحظورات الحج فيما بين تحلله من العمرة إلى إحرامِهِ بالحَجِّ ، وهذا التمتع الَّذي ليس بمكروهٍ ، بل هو الأفضلُ عند أحمد ، وإتمامِ التَّمتُّع المكروه ، وهو الَّذي خطب به عمر - رضي الله عنه - وقال : » مُتْعَتَانِ كَانَتَا على عهد رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنهى عنهما ، وأُعاقِبُ عليهما ، مُتْعَةُ النِّسَاءِ ، ومتعة الحَجِّ « ، والمراد بهذه المتعة أن يجمع بين الإحرامين ، ثُمَّ يفسخ الحجَّ إلى العمرة ، ويتمتَّعُ بها إلى الحَجِّ ، روي أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَذن لأصحابه فى ذلك ثُمَّ نسخ .

روي عن أبي ذَرِّ أنَّه قال : ما كانت متعة الحج إلاّ لي خاصة ، وكان السَّبَبُ فيه أنَّهم كانُوا لا يَرَونَ العُمرةَ فى أشهر الحَجِّ ، ويعدُّونَهَا مِنْ أَفْجَرِ الفجُور ، فلما أراد - عليه السَّلام - إبطال ذلك الاعتقاد عليهم بالغ فيه ، بأنْ نقلهم فى أشهرِ الحَجِّ من الحَجِّ إلى العُمرَةِ ، وهذا سَبَبٌ لا يشاركهم فيه غيرهم ، فلهذا المعنى كان فسخ الحَجِّ خاصّاً بهم .
قال القُرطبيُّ : وزعَمَ مَنْ صَحَّحَ نَهي عُمر عن التَّمَتُّعِ : أنّما نهى لينتجع إلى البيت مرَّتَيْنِ أو أكثر فى العام حتى يُكْثر عمارته بكثرة الزِّيارة فى غير المَوْسِمِ ، وأراد إدخال الرّفق على أهل الحَرَمِ بدخول النَّاس ، تحقيقاً لِدَعوة إبراهيم - عليه السَّلامُ - { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] .
وقيل : إنَّما نهى عنهما؛ لأَنَّهُ رأى النَّاسَ مالوا إلى التَّمتُّع ليسارته ، وخفِّتِهِ؛ فخشي أن يضيع الإفراد والقران ، وهما مسنُونانِ .
فصل
التَّمتُّع لا يحصُلُ إلاَّ بمحظورات الإحرامِ لكِنَّهُ لما كان بسبب إتيانِهِ بالعُمْرَة سَمَّاهُ تمتعاً بالعُمرة إلى الحَجِّ . ؟
فصل في شروط وجوب دم التَمتُّع
يشترط لوجوب دم التَّمَتُّع خمسة شروطٍ :
أحدها : أن يُقَدم العُمرة على الحَجِّ .
والثاني : أن يُحرم بالعُمرة في أشهر الحَجِّ ، فلو أحرمَ لها قبل أشهر الحَجِّ ، وأتى بشيء من الطَّوَافِ ، ولو شوطاً واحِداً ، ثم أكمل بقيه في أشهر الحَجِّ فى هذه السَّنة ، لم يلزمه الدَّمُ؛ لأنَّهُ لم يجمع بينَ النُّسُكَيْنِ فى أشهر الحَجِّ .
وقال أبو حنيفة : إذا أتى بأكثر الطَّوَافِ فى أشهر الحَجِّ ، فهو مُتَمَتِّعٌ ، وإذا أتى بالأكثر قبل أشهر الحَجِّ فلا .
الثالث : أن يَحِجُّ فى هذه السَّنَة ، فإن حَجَّ فى سَنَةٍ أخرى لم يَلْزَمْهُ دَمٌ؛ لأَنَّه لم يوجد مُزَاحمة الحَجُّ والعمرة فى عامٍ واحدٍ ، ولم يحصل الترفُّه بترك أحد السّفرين ، إلاَّ على قول ابن الزُّبير فيما قَدَّمناه .
الرابع : ألا يكُون من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى : { ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام } ، وهومَنْ كان أهلُهُ على أقلّ منمسافة القَصْرِ ، وهل تُعْتَبَرُ هذه المَسَافَةُ من مَكَّة ، أو من الحرمِ فيه وجهان .
الخامس : أن يُحْرِم بالحَجِّ من مَكَّةَ بعد الفَرَاغ من العُمرة ، فلو رجع إلى الميقاتِ ، وأحرمَ بالحَجِّ منه ، لا يلزمُهُ دَمُ التَّمَتُّعِ .
فصل
قال القُرطبيُّ : التَّمَتُّع بالعمرة إلى الحَجِّ على أربعةِ أوجهٍ :
أحدها مجمع عليه ، والثَّلاثةُ مختلفٌ فيها فالمجمعُ عليه هو المراد بقوله تبارك وتعالى : { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي } ، وذلك أَنْ يُحْرَمُ بالعُمْرَةِ في أشهر الحَجِّ ، ويكون آفاقيّاً ، ويفرغ منها ، ويقيم حلالاً بمكَّة إلى أن يحرم بالحجِّ من عامِهِ قبل رجوعه إلى بلدِهِ .
ولها ثَمَانيةٌ شروطٍ :
الأول : أن يجمع بين الحجّ والعمرة .
الثاني : فى عامٍ واحدٍ .
الثالث : فى سفر واحد .
الرابع : فى أشهر الحَجِّ .

الخامس : مقدِّماً الحج .
السادس : غير مخلط لها بالحَجِّ .
السابع : وأن تكُونَ العُمرةُ والحج عن شخصٍ واحدٍ .
الثامن : ويكون آفاقيّاً .
الوجه الثَّاني من وجوه التَّمتُّع بالعُمْرَة : هو القِرَانُ ، وهو أنْ يَجْمَعَ بينهما فى إحرامٍ واحدٍ ، قيُهِلّ بهما جميعاً فى أشهر الحَجِّ ، يتمتع القارن بترك السّفر إلى العُمْرَةِ ، مرَّة ، وإلى الحَجِّ أخرى ، ولا يحرم لكلِّ واحد من ميقاتِهِ ، فيدخل تحت قوله تعالى : { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج } .
الوجه الثالث الَّذي نهى عنه عمر - رضي اللَّهُ عنه - : وهو أنْ يُحْرِمَ بالحَجِّ فإذا دخل مَكَّةَ فسخ حجّه إلى عمرة ، ثم يحلّ إلى أن يُهِلَّ بالحج يَوْم التَّرْوية ، فاختلف فى ذلك ، فالجمْهُورُ على تَرْكِ العَمَل بها .
قال أبو ذرِّ كانت المتعة لنا فى الحَجِّ خاصّة .
الوجهُ الرَّابع من التمتع : متعة المُحصر ، ومن صُدَّ عن البيت .
فصل
دم التمتع دم جبران ، فلا يجوزُ له الأكل منه .
وقال أبو حنيفة دم نسك ، ويأكُلُ منه .
حُجَّةُ الأَوَّلِ وجوهٌ :
أحدهما : أنَّ التمتع حصل فيه خَلَلٌ فيكون دم جبران .
وبيان الخَلَلِ أنَّ عُمَرَ كان ينهى عن المتعةِ ، فقال له عثمانُ - رضي اللَّهُ عنهما - عَمَدْتُ إلى رُخْصَةٍ بسبب الحاجة؛ فَدلّ على حُصُولِ نقص فيها .
وأيضاً سمَّاها تَمَتُّعاً ، والتمتع التَّلَذُّذ ، وبمنى العبادة على المَشَقَّةِ .
وأيضاً ففي التَّمَتُّع صار السَّفَرُ للعمرة ، وكان من حَقِّه أن يكُون للحج؛ لأَنَّهُ الحج الأكبر ، وأيضاً حصل التَّرفه بالإحلال بينهما ، وأيضاً كان من حَقّه جعل الميقات للحجِّ ، فإنَّه الأَكبَرُ ، وكل هذه أنواع خَلَلٍ ، فوجب أن يَكُونَ الدَّم دم جبران .
وثانيها : أنَّ الدّم ليس بنسك أصلي من مناسك الحَجّ ، أو العمرة ، كما لو أفردها وكما في حقّ المَكِّي ، والجمعُ بين العبادَتين لا يوجب الدَّم ، بدليل أنَّ من جمع الصَّلاة ، والصّوم ، والاعتكاف لا يَلْزَمُهُ دم ، وإذا ثبت ذلك فليس الدَّم دم نسك ، بل دم جبران .
وثالثهما : أنَّ هدي التمتع ليس مُؤَقّتاً ، والمناسِكُ كلّها مؤقتة ، فيكُونُ دم جُبرانٍ .
ورابعها : أنَّه يُبَدَّلُ بالصَّوم ، ودم النُّسك لا النُّسُك لا يُبَدَّلُ بالصَّوم .
فصل
والمجزي فيها جذعة من الضأن ، أو ثنية من المَعْزِ ، أو شركُ ستَّةٍ فى بدنةٍ ، أو بقرةٍ ، ووقت وجوبه بعد الإحرام بالحجِّ؛ لأنَّ قوله : { فَمَا استيسر مِنَ الهدي } يدلُّ على أنَّه عقيب التَّمَتع ، ويستحب ذبحه يوم النَّحرِ فلو ذبح بعد الإحرام بالحجِّ جاز؛ لأَنَّ التمتع قد تَحَقَّقَ . وعن أبى حنيفة لا يجوز إلاَّ يوم النَّحر؛ لأَنَّهُ نسك عنده .
قوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ } ؛ يعنى : أنَّ المتمتع إذا لم يجد الهَدْيَ ، فعليه أنْ يصُومَ ، وهل الهدي أفضلُ أم الصِّيَامُ؟ قال ابنُ الخطيب : الظَّاهِرُ أنَّ المبدل أفْضَلُ من البدل؛ لكنَّهُ تعالى بيَّن فى هذا البدل أنَّه فى الكمال والثَّوابِ كالهَدْي وهو كقوله « تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ » .

قوله : « فَصِيَامُ » فى رفعه الأَوجه الثَّلاَثَة المّذكُورةُ فى قولِهِ : « فَفِدْيَةٌ » وقرئ نصباً ، على تقدير فَلْيَصُمْ ، وأُضيف المَصْدَرُ إلى ظَرْفِهِ معنىً ، وهو فى اللَّفظِ مَفْعُولٌ به على السَّعَةِ . و « فِي الحَجِّ » مُتَعَلّقٌ بِصِيَامٍ وقَدَّر بعضهم مُضافاً ، أي : في وقتِ الحَجِّ ، ومنهم مَنْ قَدَّر مُضَافَيْن ، أي : وقتَ أفعالِ الحَجِّ ، ومنهم مَنْ قَدَّره ظَرْفَ مكانٍ ، أي : صَوْمُهُ ، بعد إحرام العُمرة ، وقبل إحرام الحَجِّ .
وقال أبو حنيفة : يصحُّ .
حجَّةُ الأَوَّل وجوه :
أحدها : أنَّه صيامٌ قبل وقته؛ فلا يجُوزُ كمن صَامَ رَمَضانَ قبلهُ ، وكما لو صام السَّبعة قبل الرُّجوع ، وذلك لأَنَّ الله تعالى قال : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج } ، والمراد إحرام الحج ، لأنَّ سَائِرَ أفعال الحجِّ لا تصلح ظرفاً للصَّومِ ، والإحرامُ يَصلُحُ ، فوجب حمله عليه .
وثانيها : أنَّ ما قبل الإحرام بالحجِّ ليس بوقت لِلْهَدي الذى هو أصلٌ ، ولا يكُونُ وقتاً لبدله ، كسائر الأُصُول فى الأبدال .
وإذا ثبتَ ذلك ، فَنَقُولُ : اتَّفَقُوا على أَنَّه يجُوز بعد الشُّرُوع فى الحَجِّ إلى يوم النَّحْرِ ، وثبت أنَّهُ لا يجوز يوم النحر ولا أيّام التَّشريق لقوله عليه السَّلام : « لا تَصُوْمُوْا فى هَذِهِ الأَيَّامِ » ، والمستحبُّ أنْ يَصُومَ فى أيّام الحج حيثُ يكُونُ يوم عرفة مفطراً .
وقال بعضهم : يصوم ثَلاَثة أيّام آخرها يومُ عرَفَةَ والثَّامِن ، والتَّاسع ، ولو صَامَ ثَلاَثَة أيَّامٍ آخرها يومُ التَّرْوِية ، ويكُونُ قد أحرمَ بالحجِّ قبله جاز ، ولا يجُوزُ يوم النحر ، ولا أيام التَّشْريق . وهو قول مالكٍ والأوزاعيّ ، وأحمد ، وإسحاق .
فصل
اختلفوا فيمن اعْتَمرَ فى أشهر الحَجِّ ، ثُمَّ رجع إلى بَلَدِه ، ثمَّ رجَعَ في عامه فقال الجمهورُ : ليس بمتمتع ، ولا هدي عليه ، ولا صِيَام . وقال الحسن : هو مُتَمَتِّعٌ .
وأحمعوا على أَنَّ الآفاقي إذا قدم معتمراً فى أشهر الحج عازِماً على الإقامة ، ثم أنشأ الحج من عامه فحج ، آنّه متمتع عليه ما على المُتَمَتِّع .
قوله : « وَسَبْعَةٍ » الجمهورُ على جَرِّ « سَبْعَةٍ » عطفاً على ثلاثة . وقرأ زيدُ بنُ عَليٍّ ، وابن أبي عَبْلَة : « وَسَبْعَةً » بالنَّصب . وفيها تخريجان :
أحدهما : قاله الزَّمخشَرِيُّ ، وهو : أن يكُونَ عطفاً على مَحَلِّ « ثَلاَثَة » كأنه قيل : فصيامُ ثلاثةٍ ، كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] ، يعني : أنَّ المُضاف إليه المصدرُ مَنْصُوب معنى بدليل ظُهُورِ النَّصب فى « يَتيماً » .
والثاني : أنْ يَنْتَصِبَ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : « فَلْيَصُومُوا » ، قال أبو حيان « وهذا مُتَعَيِّنٌ؛ لأنَّ العَطْفَ على المَوضع يُشْتَرَطُ فيه وجُودُ المُحْرِزِ » يني : على مذهب سيبويه .
قوله : « إِذَا رَجَعْتُمْ » : مَنْصُوبٌ بِصيام أيضاً ، وهي هُنَا لِمَحضِ الظَّرفِ ، وليس فيها مَعْنَى الشَّرْط . لا يُقَالُ : يَلْزَمُ أن يَعْمَلَ عامِلٌ واحدٌ فى ظَرْفَي زَمان ، لأنَّ ذلك جائزٌ مع العطف والبَدلِ ، وهنا يكُونُ عَطَفَ شيئين على شيئين ، فَعَطَفَ « سَبْعَةٍ » على « ثَلاَثَةٍ » ، وعطف « إذ رَجَعْتُم » على « فِي الحَجّ » .

وفي قوله : « رَجَعْتُمْ » شيئان :
أحدهما التفاتٌ ، والآخَرُ الحَمْلُ على المعنى ، أمَّا الالتفاتُ : فإنَّ قبله { فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } ، فجاء بضمير الغَيْبَة عائداً على « مَنْ » ، فلو سيق هذا على نَظْمِ الأَوَّل لقيل : « إِذَا رَجَعَ » بضمير الغَيْبَةِ . وأمَّا الحَمْلُ فلأَنَّهُ أتى بضمير جمعٍ؛ اعتباراً بمعنى « منْ » ، ولو رَاعى اللَّفظ لأفردَ ، فقال : « رَجَعَ » .
فصل
اختلفوا فى المراد من الرُّجوع ، فقيل : هو الرُّجوع إلى الأهلِ والوَطَنِ وقال أبو حينفة المرادُ من الرُّجوع : هو الفراغُ من أعمال الحَجّ ، والأخذ فى الرُّجوع ، ويتفرّعُ عليه أنَّهُ لو صام السَّبْعَةَ بعدَ الفراغ من الحَجِّ ، وقبل الوصول إلى بيته ، لا تُجزيه على الأوَّل . وعن أبى حنيفة : تجزيه .
حجّةُ الأَوَّل : أَنَّهُ تعالى جعل الرُّجُوعُ إلى الوَطَنِ شَرْطاً ، وما لم يُوجَدِ الشَّرْطُ لم يوجد المَشْرُوط ، ويُؤَكِّدُ ذلك أَنَّه لو ماتَ قَبْلَ وصُوله إلى الوَطَنِ ، لم يلزمه شيءٌ . وروَى ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - قال : « لَمّا قَدِمْنَا مَكَّةَ المشرفة قال النَّبيُّ - عليه السَّلام - اجْعَلُوا إِهْلاَلَكم بِالحَجِّ عُمْرَةً إِلاَّ مَنْ قَلَّدَ الهَدْي . فطُفْنَا بالبَيْتِ ، وبالصَّفَا ، والمروة ، وأَتَيْنَا النِّسَاءَ ، ولبسنا الثِّيَابَ ، ثُمّ أمرنا عشية التَّرْوية أنْ نُهِلّ بالحجّ فإذا فرغنا قال - عليه الصلاة والسَّلام - عَلَيْكُمْ الْهَديَ ، فإِنْ لَمْ تَجِدُوا؛ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فى الحَجِّ ، وسَبْعَة إِذَا رَجْعَتُم إِلَى أَمْصَارِكُمْ » ، وأيضاً فإنَّ الله - تعالى - أسقطَ صَوْمَ رَمَضَانَ عَن المُسَافِرِ ، فصوم التَّمَتُّع أخفّ شأناً منه .
وقوله : « تِلْكَ عَشَرَةٌ » مبتدأ وخبرٌ ، والمشار إليه هي السَّبعة والثَّلاثة ، ومُمَيِّزُ السَّبعة والعشرة محذوف للعلم به . وقد أثبت تاء التأنيث فى العدد مع حذف التَّميز ، وهو أحسن الاستعمالين ، ويجوز إسقاط التَّاء حينئذٍ ، وفي الحديث : « وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ » ، وحكى الكسائيُّ : « ثُمْنَا من الشَّهْرِ خَمْساً » .
وفي قوله : « تِلْكَ عَشَرَةٌ » - مع أنَّ المعلوم أنَّ الثَّلاثة والسَّبعة عشرة - أقوال كثيرة لأهل المعاني ، منها قول ابن عرفة : « إن العَرَبَ إذا ذكرت عددين ، فمذهبهم أن يُجْمِلُوهُمَا » ، وحسَّن هذا القول الزَّمخشري بأن قال : « فائدةُ الفَذْلَكَةِ فى كُلِّ حساب : أن يُعْلَمَ العَدَدُ جُمْلَةً كما يُعْلَمُ تَفْصِيلاً ، لِيُحْتَاط به من جِهَتَيْنِ ، فيتأكَّد العِلمُ » ، وفي أمثالهم « عَلَمَانِ خَيْرٌ مِنْ عَلَمِ » . قال ابن عرفة : « وإنما تَفْعَلُ العَرَبُ ذلك؛ لأنَّها قليلةُ المَعْرِفَةِ بِالحِسَابِ » ، وقد جاء : « لا نَحْسُب ، وَلاَ نَكْتُب » ، وورد ذلك في أشعارهم ، قال النَّابغة : [ الطويل ]

983 - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَيَّامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
وقال الفرزدق : [ الوافر ]
984 - ثَلاَثٌ واثْنَتَانِ فَهُنَّ خَمْسٌ ... وَسَادِسَةٌ تَمِيلُ إِلَى شَمَامِ
وقال الأعشى : [ الوافر ]
985 - ثَلاَثٌ بِالْغَدَاةِ فَهُنَّ حَسْبِي ... وَسِتٌّ حِينَ يُدْرِكُنِي العِشَاءُ
فَذَلِكَ تِسْعَةٌ فِي الْيَوْمِ رِيِّي ... وَشُرْبُ الْمَرْءِ فَوْقَ الرِّيِّ دَاءُ
وقال آخرك [ الوافر ]
968 - فَسِرْتُ إِلَيْهِمُ عِشْرِينَ شَهْراً ... وَأَرْبَعَةً فَذَلِكَ حِجَّتَانِ
وقال عليه السَّلام : « الشهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وهَكَذَا » ، ثمَّ أَشَارَ بِيَديه ثَلاَثاً ، وأمسك إبهامه فى الثالثة ، منبهاً بالإشارة الأولى على الثلاثين ، وبالأخرى على تسعة وعشرين .
ومنها قال المبرد : طفتلك عشَرَةٌ : ثلاثةٌ فى الحَجّ وسبعةٌ إذا رَجَعْتُمْ فَقَدَّمَ وأخَّر « ، ومنها قال ابن الباذش : جيء بعشرة توطئةً للخبرِ بعدها ، لا أنَّها هي الخَبَرُ المستقلُّ بفائدةِ الإسناد كما تقول : زيدٌ رَجُلٌ صَالِحٌ » يعني أن المقصود الإخبار بالصَّلاح ، وجيء برجلٍ توطئةً ، إذ معلومٌ أنه رجلٌ . ومنها قال الزَّجاج : « جَمَعَ العدَدَيْنِ لجوازٍ أن يُظَنَّ أنَّ عليه ثَلاَثَةً أو سبعةً » ؛ لأنَّ الواو قد تقوم مقام أو ، ومنه : { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ النساء : 3 ] فأزال احتمال التَّخيير ، وهذا إنَّما يتمشَّى عند الكوفيِّين؛ فإنَّهم يقيمون الواو مقام أو . وقال الزمخشريُّ : « الواو قد تجيءُ للإباحة فى قولك : » جَالِسِ الحَسَنَ وابْنَ سِيرينَ « ألا ترى أنَّه لو جالسهما معاً ، أو أحدهما كان ممتثلاُ فجمع نفياً لتوهُّمِ الإبَاحَة » قال أبو حيان : « وفيه نَظَرٌ ، لأنَّهُ لا تُتَوَهَّمُ الإِبَاحَة؛ فإنَّ السِّيَاقَ سياقُ إيجَاب ، فهو يُنَافِي الإبَاحَةَ ، ولا يُنَافي التَّخْيِيرَ ، فإنَّ التَّخيِيرَ يَكُونُ فى الوَاجِبَاتِ ، وقد ذكر النَّحْوِيُّونَ الفَرْقَ بينَ التَّخْيِير ، والإباحَةِ » .
وقد ذكر ابن الخطيب قول الزَّمخشري هذا المقتدّم ، وذكر وجوهاً أخُر :
منها : أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالاً من المبدّل ، فبيَّن الله تعالى أنَّ هذا البدل ليس كذلك ، بل هو كامل فى كونه قائماً مقام المبدّل ، فيكون الصائم ساكن النَّفس إلى حصول الأجر الكامل من عند الله ، وذكر العشرة ليتوصل به إلى قوله « كَامِلَة » ؛ لأنَّه لو قال : « تِلْكَ كَامِلَةٌ » ؛ لجاز أن يراد به الثَّلاثة المفردة عن السَّبعة والسّبعة المفردة عن الثَّلاثة ، فلا بدّ من ذكر العشرة .
وقوله : « كَامِلَةٌ » يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجهٍ : إمَّا أن تكون كاملة فى البدل عن الهدي قائمة مقامه لا تنقص عنه ، أو أنَّ ثوابها مثل ثواب القادر على الهدي ، أو أنّ حجّ المتمتع الصّائم كاملاً كحج من لم يتمتَّع .
ومنها أنّ الله تبارك وتعالى لو قال أوجب عليكم صيام عشرة أيّام ، لم يبعد أن يكون دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيّام ، فإنّ تخصيص العام كثير في الشَّرع ، فلما قال « تِلْكَ عشرة » كانَ ذلك تنصيصاً على أنَّ المخصص لم يوجد البتَّة ، فيكون أقوى دلالة ، وأبعد من احتمال التَّخصيص والنَّسخ .

ومنها أنَّ التَّوكيد طريقة مشهورة فى كلام العرب كقوله { ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] ، وقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] وفائدة التوكيد أنَّ الكلام المعبَّر عنه بالعبارات الكثيرة الشّريفة وبالصِّفات الكثيرة ، أبعد عن السَّهو والنّسيان من الكلام المعبَّر عنه بعبارة واحدة ، وكونه معبراً عنه بعبارات كثيرة يدلُّ على كونه مشتملاً على مصالح عظيمة ، لا يجوز الإخلال بها ، فإذا كان التّوكيد مشتملاً على هذه الحكمة كان ذكره هنا دالاًّ على رعاية هذا العدد فى هذا الصَّوم ، فإنَّه من المهمّات التي لا يجوز إهمالها ألبتَّة .
ومنها أنَّ هذا الكلام يزيل الإبهام الذي في تصحيف الخطّ ، فإنَّ سبعة ، وتسعة متشابهان فى الخطِّ ، فلمَّا قال بعده : « تِلْكَ عِشَرَةٌ كَامِلَةٌ » ؛ أزال هذا الاشتباه .
ومنها : أنَّ قوله { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } يحتمل أن يكون المراد ، أن يكون الواجب بعد الرُّجوع أن يكمل صيام سبعة أيّام ، على أنَّه يحسب الثَّلاثة المتقدِّمة منها ، ويكمل عيلها أربعةً ، فلما قال « تِلْكَ عَشَرَة » ؛ أزال هذا الاحتمال .
ومنها : أن هذا خبر ، ومعناه الأمر ، أي : تلك عشرة فأكملوها ولا تنقصوها .
ومنها : أنَّه تعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيَّام فى الحجِّ وسبعة بعد الرُّجوع ، فليس فيه بيان أنَّه طاعةٌ عظيمة كاملة ، فلمَّا قال بعده : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } دلَّ ذلك على أنَّ هذه الطَّاعة فى غاية الكمال؛ وذلك لأنَّ الصَّوم مضافٌ إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال : « الصَّوْمُ لي » ، والحجُّ أيضاً مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال « الصَّوْمُ لي » ، فَكَمَا دَلَّ النَّصُّ على مَزِيدِ اختصاص هاتين العبادتين بالله - سبحانه وتعالى - ، فالفعل دلَّ أيضاً على ذلك .
أمّا فى الصَّوم فلأنَّه عبادة لا يطّلع العقل على وجه الحكمة فيها ألبتَّة ، وهو مع ذلك شاقٌّ على النَّفس جدّاً ، فلا جرم لا يؤتى به إلاَّ لمحص مرضاة الله - تعالى - ثمَّ إنَّ صوم هذه تعني الانقياد له .
وكذا الحجّ عبادة لا يطَّلع العقل على وجه الحكمة في ألبتَّة ، وهو مع ذلك شاقٌ جداً؛ لأنَّه يوجب مفارقة الأهل ، والولد والتَّباعد عن أكثر اللَّذَّات ، فلا جرم لا يؤتى به إلاّ لمحض مرضاة الله تعالى ، ثمَّ إنَّ صوم هذه الأيّام العشرة بعضه واقعٌ في زمن الحج ، فيكون جمعاً بين شيئين شاقَّين جدّاً ، وبعضه واقعٌ بعد الفراغ من الحجِّ ، وهو انتقالٌ من شاقِّ إلى شاقٍّ ، ومعلوم أنَّ ذلك سبب لكثرة الثَّواب ، وعلوِّ الدَّرجة ، فلا جرم لمَّا أوجب الله - تعالى - صيام هذه الأيَّام العشرة ، شهد سبحانه على أنَّها عبادة كاملة فى غاية الكمال والعلوّ ، فقال تعالى : { تِلْكَ عَشَرةٌ كَامِلَةٌ } ، أي : وإنها كاملة .

قوله : « ذَلِكَ لِمَنْ » « ذَلِكَ » مبتدأ ، والجارُّ بعده الخبر . وفي اللاَّم قولان :
أحدهما : أنَّها على بابها ، أي : ذلك لازمٌ لمن .
والثاني : أنها بمعنى على ، كقوله : { أولئك لَهُمُ اللعنة } [ الرعد : 25 ] ، وقال عليه السَّلام : « اشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاَءَ » ، أي : عليهم ، وقوله : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] أي : فعلهيا ، وذلك إشارة إلى التَّمتُّع ، والقران للغريب [ ولا حاجة إلى هذا . و « مَنْ » يجوز أن تكون موصولة ، وموصوفة . و « حَاضِرِي » خبر « يَكُن » ، وحذفت نونه للإضافة ] .
فصل
قوله : « ذلك » إشارة إلى أمرٍ تقدَّم ، وأقرب الأمور المذكورة ، ذكر ما يلزم المتمتع من الهدي وبدله .
وقال بعض العلماء : لزوم الهدي وبدله للمتمتّع مشروطٌ بألاّ يكون من حاضري المسجد الحرام ، فإن كان من أهل الحرم ، فلا يلزمه هدي المتمتّع ، وإنَّما لزم الآفاقي ، لأنه كان يجب عيله أن يحرم بالحجِّ من الميقات ، فلمّا أحرم بالعمرة من الميقات ، ثم أحرم بالحجِّ من غير الميقات ، فقد حصل هناك خللٌ ، فجبر بالدَّم ، بدليل أنّه لو رجع ، فأحرم بالحجِّ أيضاً من الميقات؛ لما يلزمه دمٌ ، والمكيُّ ميقاته موضعه ، فلا يقع فى حجِّه خللٌ من جهة الإحرام ، فلا هدي عليه .
وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : قوله « ذَلِكَ » إشارةٌ إلى الأبعد وهو ذكر التّمتع ، وعنده لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام ، ومن تمتع أو قرن ، كان عليه دم جنايةٍ لا يأكل منه .
حجَّة القول الأوَّل وجوه :
أحدها : قوله تعالى { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج } عامٌّ يدخل فيه الحرمي ، وغيره .
وثانيهما : أنَّ الإشارة يجب عودها إلى أقرب مذكور ، وهو جوب الهدي ، فإذا خصَّ وجوب الهدي بالمتمتع الآفاقي؛ لزم القطع بأن غير الآفاقي قد يكون أيضاً متمتعاً .
وثالثها : أنَّ الله تعالى شرع القران والمتعة تبييناً لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحجِّ ، والنسخ ثبت فى حقّ النَّاس كافَّةً .
حجَّة أبي حنيفة : أنَّ قوله : « ذَلِكَ » كنايةٌ؛ فوجب عودها إلى كلِّ ما تقدم ، لأنَّه ليس البعض أولى من البعض .
والجواب أنَّ عوده إلى الأقرب أولى ، لأنَّ القرب سببٌ للرُّجحان ، ومذهبكم أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل مختصٌّ بالجملة الأخيرة ، وإنَّما تميزت تلك الجملة عن سائر الجمل بسبب القرب ، فكذا ها هنا .
فصل
اختلفوا فى حاضري المسجد الحرام ، فذهب قوم إلى أنَّهم أهل مكَّة ، وهو قول مالك - رحمه الله - .
وقال ابن جريج : أهل عرفة والرجيع وضجنان .
وقال الشَّافعيُّ - رحمه الله - : كلُّ من كان وطنه من مكَّة على أقلّ من مسافة القصر ، فهو من حاضري المسجد الحرام .
وقال عكرمة : من كان دون الميقات .
وقيل هم أهل الميقات فما دونه ، وهو قول أصحاب الرَّأي .

وقال طاوسٌ : الحرم كلُّه ، وهو قول الشَّافعيِّ ، وأحمد لقوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } [ الإسراء : 1 ] وإنما أسرى به من الحرم من بيت أمِّ هانئ لا من المسجد ، وقال { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } [ الحج : 33 ] ، والمراد الحرم؛ لأن الدماء لا تراق في البيت ، والمسجد الحرام إنَّما وصف بهذا؛ لأن أصل الحرام المنع ، والمحرم : ممنوعٌ من المكاسب ، والمسجد الحرام ممنوعٌ أن يفعل فيه ما منع من فعله .
قال الفرَّاء : يقال حرامٌ ، وحرمٌ مثل : زمانٍ وزمنٍ ، وذكر حضور الأهل ، والمراد حضور المحرم ، لا حضور الأهل ، لأنَّ الغالب على الرَّجل أنّه يسكن حيث أهله ساكنون فلو خرج المكيٌّ إلى الآفاق ، وأهله بمكَّة ، ثمَّ عاد متمتعاً؛ لزمه هدي التمتع ، ولا أثر لحضور أهل فى المسجد الحرام .
وقيل المراد بقوله : { لمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ } ، أي يكون أهلاً لهذه العبادة .
فصل
ودم القرآن كدم التَّمتُّع ، فالمكيُّ إذا قرن ، أو تمتع ، فلا هدي عليه .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قوله : يريد فيما فرضه عليكم ، { واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } لمن تهاون بحدوده .
وقال أبو مسلمٍ : العقاب والمعاقبة سيَّان ، وهو مجازاة المسيء على إساءته ، وهو مشتقٌّ من العاقبة ، كأنّه يراد عاقبة فعل المسيء ، كقول القائل : لتذوقن ما ذوّقت ، و « شَدِيدُ العِقَابِ » من باب إضافة الصِّفة المشبَّهة إلى مرفوعها ، وقد تقدَّم أنَّ الإضافة لا تكون إلا من نصب ، والنَّصب والإضافة أبلغ من الرَّفع؛ لأنَّ فيها إسناد الصِّفة للموصوف ، ثم ذكر من هي له حقيقة ، والرَّفع إنَّما فيه إسنادها ، دون إسناد إلى موصوف لمن هي له حقيقة .

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)

« الحَجُّ » مبتدأ ، و « أشْهُرٌ » خبره ، والمبتدأ والخبر لا بدّ أن يصدقا على ذاتٍ واحدٍ ، و « الحَجُّ » فعلٌ من الإفعال ، و « أشْهُرٌ » زمانٌ ، فيهما غيران ، فلا بدَّ من تأويل ، وفيه ثلاثة احتمالات :
أحدها : أنَّه على حذف مضافٍ من الأوَّل ، تقديره : أشهر الحج أشهر معلوماتٌ . أي : لا حجَّ إلاَّ في هذه الأشهر ولا يجوز في غيرها ، كما كان يفعله أهل الجاهيلَّة في غيرها ، كقوله البرد شهران ، وقت البرد شهران .
الثاني : الحذف من الثاني تقديره : الحجّ حجّ أشهرٍ ، فيكون حذف من كل واحدٍ ما أثبت نظيره .
الثالث : أن تجعل الحدث نفس الزَّمان مبالغةً ، ووجه المجاز كونه حالاًّ فيه ، فلما اتُّسع في الظَّرف جعل نفس الحدث ، ونظيره : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] وإذا كان ظرف الزمان نكرةً مخبراً به عن حدثٍ ، جاز فيه الرفع والنَّصب مطلقاً ، أي : سواءً كان الحدث مستوعباً للظَّرف ، أم لا ، هذا مذهب البصريين .
وأمَّا الكوفيُّون فقالوا : إن كان الحدث مستوعباً ، فالرَّفع فقط نحو : « الصَّوْمُ يومٌ » وإن لم يكن مستوعباً ، فهشامٌ يلتزم رفعه أيضاً نحو : « مِيَعَادُكَ يَوْمٌ » والفرَّاء يجيز نصبه مثل البصريّين ، وقد نقل عنه أنَّه منع نصب « أشْهُر » ، يعني : في الآية الكريمة ، لأنها نكرةٌ ، فيكون له في المسألة قولان ، وهذه مسألةٌ طويلةٌ .
قال ابن عطيَّ : « ومنْ قَدَّر الكَلاَم : الحج في أشهر ، فيلزَمُهُ مع سقوطِ حَرْفِ الجَرّ نصبُ الأَشْهُر ، ولم يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ » قال أبَو حيان رحمه الله : ولا يَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّ الرَّفْع على جِهة الاتِّساع ، وإن كان أصلُهُ الجرَّ ب « في » .
فصل
أجمع المفسِّرون على أنَّ شوَّالاً ، وذا القعدة ، من أشهر الحج ، واختلفوا فى ذي الحَّجة فقال عروة بن الزُّبير : إنها بكليتها من أشهر الحج وهو قول مالك ، وداود .
وقال أبو حنيفة : العشر الأول من ذي الحجَّة من أشهر الحجِّ؛ وهو قول ابن عبَّاسٍ ، وابن عمر ، والنخعي ، والشعبي ، ومجاهد ، والحسن .
وقال الشافعيُّ - رحمه الله - التسعة الأول ، مع ليلة النَّحر من أشهر الحج .
حجَّة الأوَّل : أن الأشهر جمعٌ ، وأقلُّه ثلاثةٌ ، وأيضاً فإنَّ أيَّام النَّحر يفعل فيها بعض ما يتَّصل بالحج : من رمي الجمار ، والذَّبح ، والحلق ، وطواف الزِّيارة ، والبيتوتة يعني ليالي منى ، وإذا حاضت المرأة ، فقد تؤخِّر الطَّواف الذي لا بدَّ منه إلى انقضاء أيَّامٍ بعد العشرة . ومذهب عروة تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر .
والجواب أنَّ لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد؛ بدليل قوله : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] . وقال - عليه السَّلام : « الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ » وأيضاً فإنَّه نزَّل بعض الشَّهر منزلة كلِّه ، فإنّ العرب تسميِّ الوقت تامّاً بقليله ، وكثيره ، يقال زرتك سنة كذا ، وأتيتك يوم الخميس ، وإنما زاره ، وأتاه في بعضه ، وأيضاً فإنَّ الجمع ضمُّ شيءٍ إلى شيءٍ ، فإذا جاز أن يسمَّى الاثنان جماعةً ، جاز أن يسمَّى الاثنان ، وبعض الثَّالث جماعةً ، وأمَّا رمي الجمار ، فإنما يفعله الإنسان ، وقد حلّ بالحلق والطَّواف ، والنَّحر ، فكأنه ليس من أعمال الحجِّ ، والحائضُ إذا طافت بعده ، فكأنه في حكم القضاء ، لا في حكم الأداء .

حجَّة الثاني : أنَّ المفسرين قالوا : أنّ يوم الحجِّ الأكبر ، هو يوم النَّحر ، لأنَّ معظم أفعال الحج يفعل فيه : من طواف الزيارة؛ الذي هو ركنٌ في الحج ، والرَّمي ، والذَّبح ، والحلق ، فدخوله في أيام الحج أولى .
حجَّة الشافعي - رحمه الله تعالى - : أنَّ الحجَّ يفوت بطلوع الفجر يوم النَّحر ، والعبادة لا تفوت مع بقاء وقتها .
فصل
قال بعض العلماء : لا يجوز أن يُهِلَّ بالحج قيل أشهر الحج ، وهو قول ابن عباس ، وجابر ، وبه قال عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، إليه ذهب الأوزاعي ، والشافعيُّ ، وأحمد فى رواية ، وإسحاقٌ .
وقال مالكٌ ، والثوريُّ وأبو حنيفة - رضي الله عنه - يجوز .
حجَّة الأول : قوله : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } .
جمع الأشهر جمع تقليلٍ ، على سبيل التَّنكير؛ لا يتناول الكلَّ ، وأكثر الجمع إلى عشرةٍ ، وأدناه إلى ثلاثةٍ ، وعند التنكير ينصرف إلى الأدنى ، واتفق المفسِّرون على أنّ تلك الثَّلاثة ، شوَّال وذو القعدة ، وبعض ذي الحجَّة .
وإذا تقرَّر ، وجب ألاَّ يجوز الإحرام بالحجِّ قبل الوقت؛ لأنَّ الإحرام بالعبادة قبل وقت أدائها لا يصحّ؛ كالصَّلاة ، وخطبة الجمعة قبل الوقت .
حجَّة الثاني : قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } [ البقرة : 189 ] ، فجعل الأهلَّة كلَّها مواقيت الحجِّ ، وليس مواقيتاً للأداء ، فثبت أنها مواقيت لصحَّة الإحرام ، ويجوز أن يسمَّى الإحرام حجّاً؛ مجازاً ، كما سمّيَ الوقت حجّاً في قوله : « الحَجُّ أَشْهُرٌ » بل هنا أولى؛ لأن الإحرام أقرب إلى الحج من الوقت . وقد اشتهر بين أكابر الصّحابة أنَّهم قالوا : إتمام الحجِّ والعمرة أن يحرم بهما من دويرة أهله ، ومن يكن منزله بعيداً يجب أن يكون في المشرق أو في المغرب ، فلا بدَّ وأن يحرم بالحج قبل أشهرٍ ، وأيضاً فإنَّ الإحرام التزامٌ بالحجِّ ، فجاز تقديمه على الوقت؛ كالنَّذر .
وأجاب الأوَّلون عن قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة } بأنَّ قوله « الحجُّ أَشْهُرٌ » أخصُّ منها ، وفرَّقوا بين النَّذر ، والإحرام : بأنَّ الوقت معتبرٌ للأداء ، ولا اتِّصال للنذر بالأداء ، بدليل أنّ الأداء لا يتصور إلاَّ بعقد مبتدأ ، والإحرام مع كونه التزاماً ، فهو شروعٌ في الأداء ، وعقدٌ عليه؛ فلا جرم افتقر إلى الوقت .
فصل
قوله : « مَعْلُومَاتٌ » أي : معلومات عندهم ، مقررة لبيان الشرع ، بخلاف مرادهم بها . أو معلوماتٌ ببيان الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام وأنها مؤقتةٌ في أوقات معينة ، لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها ، كما فعلوه في النَّسيء .

قوله : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج } .
يجوز في « مَنْ » أن تكون شرطيةً ، وأن تكون موصولةً ، كما تقدَّم في نظايرها ، و « فِيهنَّ » متعلِّقٌ ب « فَرَضَ » . والضَّمير في « فِيهِنَّ » يعود على « أَشْهُر » وجيء به كضمير الإناث ، لما تقدم من أنَّ جمع غير العاقل في القلَّة يعامل معاملة جمع الإناث على الأفصح؛ فلذلك جاء « فِيهِنَّ » دون « فِيهَا » ، وهذا بخلاف قوله : { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التوبة : 36 ] لأنه هناك جمع كثرة .
وفرض في اللُّغة : ألزم وأوجب ، يقال فرضت عليك كذا ، أي : أوجبته ، وأصل الفرض في اللغة : التَأثير والحزُّ والقطع .
قال ابن الأعرابي - رحمه الله تعالى - : الفرض الحزُّ في القدح ، [ وفي الوتد ، وفي غيره ] ، وفرضة القوس : الحزُّ الذي فيه الوتر ، وفرضه الوتد الحزُّ الذي فيه ، ومنه فرض الصلاة؛ لأنها لازمةٌ للعبد كلزوم الحزّ لقدح ، ففرض ها هنا - بمعنى : أوجب ، وقد جاء في القرآن « فَرَضَ » بمعنى أبان؛ قال تعالى : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [ النور : 1 ] بالتخفيف ، وقوله : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 2 ] . راجع إلى معنى القطع؛ لأنَّ من قطع شيئاً ، فقد أبانه من غيره ، والله تعالى إذا فرض شيئاً ، أبانه عن غيره ، ففرض بمعنى : أوجب : وفرض : بمعنى أبان؛ كلاهما راجعٌ إلى أصل واحدٍ؛ ومن ها هنا فرَّق بعضهم بين الفرض والواجب ، فقالوا :
الفرضُ ما ثبت بدليل قطعيّ؛ لأن أصله القطع ، وسمَّاه بالركن .
والواجب ما ثبت بدليل ظنِّي ، وجعل الفرض لا يسامح به ، عمداً ولا سهواً ، وليس له جابر ، والواجب ما يجبر ويسامح فيه العباد لسهوة ، قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ « فَرَضَ » في القرآن خمسة معان : الأول : فرض بمعنى أوجب ، كهذه الآية الكريمة ، ومثله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] أي أوجبتم .
الثاني : فرض بمعنى بيَّن ، قال تعالى : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 2 ] ومثله { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [ النور : 1 ] .
الثالث : فرض : بمعنى أنزل؛ قال تعالى : { إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ } [ القصص : 85 ] أي : أنزل .
امس : الفرض : الفريضة في قسمة المواريث؛ كما قال تبارك وتعالى : { فَرِيضَةً مِّنَ الله } [ النساء : 11 ] .
فصل
قوله : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج } يدلُّ على أنّه لا بدَّ للمحرم من فعل يفعله؛ يصير به محرماً وحاجاً ، واختلفوا في ذلك الفعل .
فقال الشَّافعيُّ ، وأحمد : ينعقد الإحرام بمجرد النِّية ، من غير حاجةٍ إلى التَّلبية .
وقال أبو حنيفة : لا يصحُّ الشُّروع في الإحرام بمجرد النية؛ حتى يضمَّ إليه التَّلبية أو سوق الهدي .
وقال القفَّال في تفسيره : ويروى عن جماعةٍ من العلماء؛ أنّ من أشعر هديه أو قلَّده ، فقد أحرم ، وروى نافع عن ابن عمر أنّه قال : إذا قلَّد أو أشعر ، فقد أحرم ، وعن ابن عباسٍ : إذا قلَّد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو الحجَّ ، فقد أحرم .

قوله : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } إمَّا جواب الشَّرط ، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حسب القولين المتقدِّمين . وقرأ أبو عمرٍ وابن كثير : بتنوين « رَفَثَ » و « فُسُوقَ » ، ورفعهما ، وفتح « جِدَالَ » .
والباقون : بفتح الثَّلاثة .
وأبو جعفر - ويروى عن عاصم - برفع الثلاثة والتنوين .
فأمَّا قراءة الرفع ففيها وجهان :
أظهرهما : أنَّ « لا » ملغاةٌ ، وما بعدها رفع بالابتداء ، وسوَّغ الابتداء بالنكرة؛ تقدُّم النفي عليها ، و « في الحج » خبر الأول ، وحُذِفَ خبرُ الثاني ، والثالث؛ لدلالةِ خبرِ الأولِ عليهما ، ويجوزُ أنْ يكونَ « في الحج » خبرَ الثلاثة ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ « في الحجِّ » خبرَ الثاني ، وحُذِفَ خبرُ الأولِ ، والثالث؛ لقبح مثل هذا التركيب ، ولتأديته إلى الفصل .
والثاني : أن تكون « لاَ » عاملةً عمل ليس ، ولعملها عمل ليس شروطٌ : تنكير الاسم ، وألاَّ يتقدَّم الخبر ، ولا ينتقض النفيُّ؛ فيكونُ « رَفَثَ » اسمَها ، وما بعده عطْفٌ عليه ، و « في الحجِّ » الخبرُ على حسب ما تقدَّم من التقادير فيما قبله .
وخرَّجه ابن عطية بهذا الوجه ، وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ إعمال « لا » عمل ليس لم يقم عليه دليل صريحٌ ، وإنما أنشدوا أشياء محتملةً ، أنشد سيبويه : [ مجزوء الكامل ]
987 - مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرَانِهَا ... فَأَنَّا ابْنُ قَيْسٍ لاَ بَرَاحُ
وأنشد غيره : [ الطويل ]
988 - تَعَزَّ فَلاَ عَلَى الأَرْضِ باقيَا ... وَلاَ وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا
وقول الآخر : [ البسيط ]
989 - أَنْكَرْتُها بَعْدَ أَعْوَامِ مَضيْنَ لَهَا ... لاَ الدَّارُ دَاراً وَلاَ الجِيرَانُ جَيرَانَا
وأنشد ابن الشَّجري : [ الطويل ]
990 - وحَلَّتْ سَوادَ القَلْبِ لاَ أَنَا بِاغِياً ... سِوَاهَا وَلاَ فِي حُبِّها مُتَرَاخِيَا
وللكلام على الأبيات موضعٌ غير هذا .
وأمَّا من نصب الثلاثة منونةً فتخريجها على أن تكون منصوبةً على المصدر بأفعال مقدرةٍ من لفظها ، تقديره : فلا يَرْفُثُ رَفَثاً ، ولا يَفُسُقُ فُسُوقاً ولا يُجَادِلُ جِدَالاً ، وحينئذٍ فلا عمل ل « لا » فيما بعدها ، وإنَّما هي نافيةٌ للجمل المقدرة ، و « في الحجِّ » متعِّلقٌ بأيِّ المصادر الثَّلاثة شئت ، على أنَّ المسألة من التنازع ، ويكون هذا دليلاً على تنازع أكثر من عاملين ، وقد يمكن أن يقال : إنَّ « لا » هذه هي التي للتَّبرئة على مذهب من يرى أنَّ اسمها معربٌ منصوب ، وإنما حذف تنوينه؛ تخفيفاً ، فرجع الأصل في هذه القراءة الشاذة كما رجع في قوله : [ الوافر ]
991 - أَلاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً .. . . .
وقد تقدَّم تحريره .
وأمَّا قراءة الفتح فى الثَّلاثة فهي « لا » التي للتَّبرئة . وهل فتحة الاسم فتحة إعراب أم بناءٍ؟ فيه قولان ، الجمهور على أنَّها فتحة بناءٍ ، وإذا بني معها ، فهل المجموع منها ، ومن اسمها في موضع رفع بالابتداء ، وإن كانت عاملة فى الاسم النصب على الموضع وما بعدها ، ولا خبر لها؟ أو ليس المجموع فى موضع مبتدأ ، بل « لاَ » عاملةٌ في الاسم النَّصب على الموضع ، وما بعدها خبرٌ ل « لاَ » ؛ لأنَّها اجريت مجرى « أنَّ » فى نصب الاسم ، ورفع الخبر؛ قولان :
الأول : قول سيبويه .

والثاني : قول الأخفش . وعلى هذين المذهبين ، يترتَّب الخلاف فى قوله : « فِي الحَجِّ » ، فعلى مذهب سيبويه : يكون فى موضع خبر المبتدأ ، وعلى رأي الأخفش : يكون فى موضع خبر « لا » ، وقد تقدَّم شيء من هذا أول الكتاب .
وأمَّا من رفع الأولين ، وفتح الثالث : فالرفع على ما تقدَّم ، وكذلك الفتح ، إلا أنه ينبغي أن ينبَّه على شيءٍ : وهو أنَّا قلنا بمذهب سيبويه من كون « لا » وما بني معها في موضع المبتدأ ، على مذهب الأخفش ، فلا يجوز أن يكون « في الحجِّ » إلا خبراً للمبتدأين ، أو خبراً ل « لاَ » . لا يجوز أن يكون خبراً للكلِّ؛ لاختلاف الطالب؛ لأنَّ المبتدأ يطلبه خبراً له ، ولا يطلبه خبراً لها .
وإنَّما قرئ كذلك ، قال الزمخشري : « لأنَّهما حَمَلا الأوَّلَيْنِ على معنى النَّهي ، كأنه قيلَ : فلا يكوننَّ رَفَثٌ ولا فُسُوقٌ ، والثالثُ على معنى الإخبارِ بانتفاء الجِدالِ ، كأنه قِيلَ : ولا شكَّ ولا خلاف فى الحجِّ » ، واستدلَّ على أنّ المنهيَّ عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال ، بقوله عليه السلام : « مَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ . . . » وأنه لم يذكر الجدال . وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ سبقه إليه صاحب هذه القراءة؛ إلاَّ أنه أفصح عن مراده ، قال أبو عمرو بن العلاء - أحد قارئيها - : الرفع بمعنى فَلاَ يَكُونُ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ ، أي شيء يخرج من الحجِّ ، ثم ابتدأ النفي فقال : « ولا جدال » ، فأبوا عمرو لم يجعل النفيين الأوَّلين نهياً ، بل تركهما على النَّفي الحقيقي .
فمن ثم ، كان فى قوله هذا نظيرٌ؛ فإنَّ جملة النفي بلا التبرئة ، قد يراد بها النهي أيضاً ، وقيل ذلك فى قوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] . والذي يظهر فى الجواب عن ذلك ، ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال : « وقيل : الحُجَّةُ لِمَنْ رَفَعَهُمَا أنَّ النفيَ فيهما ليس بعامٍّ؛ إذ قد يقعُ الرفَثُ ، والفُسُوقُ فى الحَجِّ من بعض الناسِ ، بخِلاَفِ نفي الجِدَالِ في أَمْرِ الحجِّ؛ فإنه عامٌّ؛ لاسْتِقْرَارِ قَوَاعِدِهِ » . قال شهاب الدِّين . وهذا يتمشَّى على عُرف النَّحويين ، فإنهم يقولون : « لا » العاملة عمل « لَيْسَ » لنفي الوحدة ، والعاملة عمل « إنَّ » لنفي الجنس ، قالوا : ولذلك يقال : لا رجل فيها ، بل رجلان ، أو رجالٌ؛ إذا رفعت ، ولا يحسن ذلك إذا بنيت اسمها أو نصبت بها .

وتوسَّط بعضهم فقال : التي للتبرئة نصٌّ في العموم ، وتلك ليس نصَّاً .
والظاهر أنَّ النكرة في سياق النفي مطلقاً للعموم ، وقد تقدَّم معنى الرَّفث فى قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } [ البقرة : 187 ] قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر : هو الجماع ، وهو قول الحسن ، ومجاهد ، وعمرو بن دينار ، وقتادة ، وعكرمة ، والنخعي ، والربيع .
وروي عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : الرَّفث : غشيان النساء ، والتَّقبيل ، والغمز ، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام .
وقال طاوسٌ : هو التَّعريض للنساء الجماع ، وذكره بين أيديهنَّ .
وقال عطاءٌ : الرَّفث : هو قول الرجل للمرأة فى حال الإحرام : إذا حللت ، أَصَبْتُكِ .
وقيل الرَّفث : الفحش ، والفسق وقد تقدم فى قوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } [ البقرة : 26 ] . وقرأ عبد الله « الرَّفُوث » وهو مصدر بمعنى الرَّفث .
وقوله : « فَلاَ رَفَثَ » وما في حيِّزه فى محلِّ جزمٍ ، إن كانت « مَنْ » شرطيةً ، ورفع ، إن كانت موصولةً ، وعلى كلا التقديرين ، فلا بدَّ من رابطٍ يرجع إلى « مَنْ » ؛ لأنها إن كانت شرطيةً ، فقد تقدَّم أنه لا بدَّ من ضمير يعود على اسم الشرط ، وإن كانت موصولة ، فهي مبتدأ والجملة خبرها ، ولا رابط فى اللَّفظ ، فلا بدَّ من تقديره ، وفيه احتمالان :
أحدهما : أن تقديره : ولا جدال منه ، ويكون « منه » صفَّة ل « جِدَال » ، فيتعلَّق بمحذوف ، فيصير نظيره قولهم : « السَّمْنُ مَنَوانِ بِدِرْهَمٍ » تقديره : منوان منه .
والثانيك أن يقدَّر بعد « الحج » تقديره : ولا جدال في الحجِّ منه ، أو : له . ويكون هذا الجارُّ في محلِّ نصب على الحال من « الحج » .
وللكوفيِّين في هذا تأويل آخر : وهو أنَّ الألف واللام نابت مناب الضمير ، والأصل : في حجِّه ، كقوله : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [ النازعات : 40 ] ثم قال : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] أي : مأواه .
وكرَّر الحجَّ؛ وضعاً للظاهر موضع المضمر تفخيماً ، كقوله : [ الخفيف ]
992 - لاَ أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ .. . . .
وكأنَّ نظم الكلام يقتضي : « فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحجَّ فَلاَ رَفَث فيه » ، وحسَّن ذلك في الآية الكريمة الفصل بخلاف البيت .
والجدال مصدر « جَادَل » . والجدال : أشدُّ الخصام ، مشتقٌّ من الجدالة ، وهي الأرض؛ كأن كلَّ واحد من المتجادلين يرمي صاحبه بالجدالة .
قال القائل : [ الراجز ]
993 - قَدْ أَرْكَبُ الآلَةَ بَعْدَ الآلهْ ... واتْرُكُ العَاجِزَ بالْجَدَالَهْ
ومنه « الأَجْدَالُ » للصَّقر؛ لشدَّته .
وقال القائل : [ الكامل ]
994 - .. يَهْوِي مُحَارِبُهَا هُوِيَّ الأجْدَلِ
والجدل : فَتْلُ الحبل ، ومنه زمامٌ مجدولٌ ، أي : محكم الفتل .
فصل
قد تقدَّم أنّ الفسق : هو الخروج عن الطَّاعة ، واختلف المفسرون فيه ، فحمله أكثر المحقِّقين على كلِّ المعاصي ، وهذا قول ابن عباس - رضي الله عنهما - ، وطاوس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والزهري ، والربيع ، والقرظي ، قالوا : لأنَّ اللفظ صالحٌ للكلِّ ، والنَّهي عن الشَّيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه؛ ويؤكده قوله تعالى

{ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] ، وقوله : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } [ الحجرات : 7 ] .
وذهب بعضهم إلى أنَّ المراد منه بعض أنواعه ، ثم ذكروا وجوهاً .
أحدها : قال الضحّاك : المراد التنابز بالألقاب؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } [ الحجرات : 11 ] . والثاني : قال عطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي : المراد السّباب ، لقوله - عليه السلام - « سِبَابُ المؤْمِن فُسُوقٌ ، وقِتَالُه كُفْرٌ »
الثالث : أنَّ المراد منه الإيذاء ، والإفحاش؛ قال تعالى : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } [ البقرة : 282 ] .
الرابع : قال ابن زيد : هو الذَّبح للأصنام؛ فإنّهم كانوا فى حجِّهم يذبحون لأجل الأصنام قال تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [ الأنعام : 121 ] ، وقوله : { أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } [ الأنعام : 145 ] .
الخامس : قال ابن عمر : هو قتل الصَّيد ، وسائر محظورات الإحرام .
وأمّا الجدال : فهو « فِعَالٌ » من المجادلة ، الذي هو الفَتْلُ ، يقال : زمامٌ مجدولٌ وجديلٌ ، أي : مفتولٌ ، والجديل : اسم للزِّمان؛ لأنه لا يكون إلاَّ مفتولاً ، وسميت المخاصمة مجادلة لأنّ كلَّ واحدٍ من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه . وذكر المفسرون فيه وجوهاً :
أحدها : قال ابن مسعود ، وابنُ عباس ، والحسنُ : هو الجدالُ الذي يخافُ معه الخروجُ إلى السِّباب ، والتكذيب ، والتجهيل . وهو قولُ عمرو بن دينار ، وسعيد بن جُبَيرٍ ، وعِكْرمة ، والزهريِّ ، وعطاءٍ ، وقتادة .
الثاني : قال محمد بن كعب القُرظيُّ : إِنَّ قُريشاً كانوا إذا اجتمعوا بِمنَى قال بعضهُم : حجُّنا أَتَمُّ . وقال آخرون : بل حَجُّنَا أَتَم ، فَنَهَاهُمَّ اللَّهُ عن ذلك .
الثالثك قال القاسِمُ بن محمد : هو أنْ يقولَ بعضهُم : الحَجُّ اليَوْمَ ، ويقول بعضُهم : الحج غداً ، وذلك بأنهم أُمِرُوا بأن يَجْعَلُوا حِسَابَ الشهور على الأهِلَّةِ ، فكان بعضُهم يجعلُ الشهورَ على الأَهِلّةِ ، وآخرون يجعلونها بالعدد فلهذا السبب؛ كانوا يختلفون .
الرابع : قال مقاتِلٌ ، والقفّال : هو ما جادلُوا فيه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حين أمرهُم بنسخ الحج إلى العُمْرَة ، إلاَّ مَنْ قَلّدَ الهَدْيَ ، قالُوا : كيف نجعلُها عُمْرَةً ، وقد سمينا الحج؟! فهذا جِدَالُهم .
الخامس : قال مَالِكٌ في « الموطأ » : الجدالُ في الحج أنَّ قريشاً كانوا يقفون عن المشعَرِ الحَرَامِ في المُزْدَلِفة بقزح وغيرها يقفُ بعرفاتٍ ، وكُلٌّ منهم يزعَمُ أنّ موقفهُ موقف إبراهيم ، ويقولُ عليه الصلاة والسلام نحن أصْوَبُ؛ فقال الله تعالى : { لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر وادع إلى رَبِّكَ إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ الحج : 67 - 68 ] قال مالكٌ : هذا هو الجِدالُ فيما يُروى والله أعلم .
السَّادس : قال ابنُ زيْدٍ : كانوا يَقِفُون مَواقِف مختلقة ، فبعضهم يقفُ بعرفة ، وبعضهم بالزدلفة ، وبعضُهم حجَّ في ذي القَعْدة ، وبعضُهم في ذي الحَجَّةِ ، وكُلٌّ يقول : ما فعلتُه هو الصَّوَابُ؛ فقال تعالى : { وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } ، أَي : اسْتَقَرَّ أَمرُ الحج على ما فعلهُ الرسولُ - عليه السلام - فلا اختلاف فيه مِنْ بعدِ ذلك ، وذلك معنى قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -

« أَلاَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوات والأَرْضَ » .
قال مجاهدٌ : معناه : لا شَكَّ في الحجِّ أنّه في ذي الحجةِ ، فأَبْطَلَ اللَّهُ النَّسِيءَ .
قال أهلُ المعاني : ظَاهِرُ الآية الكريمة نفيٌ ومعناه نَهْيٌ ، أي لا ترفُثُوا ، ولا تَفسقوا ولا تُجَادِلُوا؛ كقوله تعالى { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 3 ] أي : لا ترتابُوا .
قال القاضي : قوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } يحتملُ أن يكونَ خبراً ، وأنْ يكونَ نَهْياً ، كقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ، أي : لا تَرْتَابُوا فيه ، وظاهرُ اللفظِ للخبر ، فإذا حَمَلناهُ على الخبر كان معناه : أنّ الحجة لا تثبتُ مع واحدةٍ من هذه الخِلالِ ، بل تَفْسُدُ؛ كالضدِّ لها وهي مانعةٌ من صحَّته ، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى؛ إلاَّ أَنْ يُراد بالرفَثِ ، الجماعُ [ المفسِدُ للحج ، ويُحْملُ الفسوقُ على الزِّنا؛ لأنه يُفسِدُ الحجَّ ، ويُحملُ الجِدالُ على الشَّكِّ في وجوب الحجِّ ] ؛ لأن ذلك يكون كُفْراً ، فلا يَصِحَّ معه الحج ، وإنَّما حَمَلْنَا هذه الألفاظ على هذه المعاني؛ حتَّى يصحَّ خبرُ اللَّهِ بأنَّ هذه الأشياء لا تُوجَدُ مع الحج .
فصل
قال ابنُ العَرَبيِّ : المرادُ بقوله : « فَلاَ رَفَثَ » نَفْيُهُ مَشْرُوعاً لا مَوجُوداً ، فإِنَّا نَجِدُ الرفثَ فيه حِسَاً ، وخبرُ اللَّهِ تعالى لا يجُوزُ أَنْ يَقَعَ بخلاف مخبره ، وإنما يرجعُ النفيُ إلى وجوده مَشْرُوعاً لا إلى وجوده مَحْسُوساً؛ كقوله تعالى : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] أي : مشروعاً لا حسّاً ، فإنَّ نجدُ المطلقاتِ لا يتربصْنَ؛ فعاد النَّفْيُ إلى الحكم الشَّرعيِّ لا إلى الوجود الحِسّيّ؛ وهو كقوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } [ الواقعة : 79 ] إذا قلنا : إنّه واردٌ فى الآدَمِيِّينٍ؛ وهو الصَّحيحُ ، فإنَّ معناه لا يَمَسُّه أَحَدٌ منهم شَرْعاً ، فإن وجد المَسُّ ، فعلى خلاف حُكْم الشرع ، وهذه الدَّقِيقةً فاتت العُلماء فقالوا : إِنّ الخبرَ يكونُ بمعنى النَّهْي ، وما وجِدَ ذَلك قَطُّ ، ولا يصح أَنْ يُوجَدَ؛ فإنهما مُخْتَلِفَان حقيقةً ، ومُتَضَادان وَصْفاً .
فصل
قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - فإن قيل أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحجُّ فَاسِداً ويجبُ على صاحبه المضيّ فيه ، وإذا كان الحجُّ باقِياً معها ، لم يصدق الخبرُ لأَنَّ هذه الأشياء لا توجدُ مع الحجة؟
قلنا المرادُ من الآية الكريمة حصولُ المضادةِ بين هذه الأشياء ، وبَيْن الحجة المأمُورِ بها ابتداءً ، وتلك الحجةُ الصحيحةُ لا تَبْقَى مع هذه الأشياء؛ بدليل أنّه يجبُ قضاؤُهَا ، والحجةُ الفاسِدَةُ التي يجبُ عليه المضِيُّ فيها شيءٌ آخر سوى تلك الحجةِ المأمُورِ بها ابتداءً ، وأَمَّا الجِدَالُ الحَاصِلُ بسبب الشَّكِّ في وجوب الحج ، فظاهره أنَّه لا يبْقَى معه عملُ الحج؛ لأنَّ ذلك كُفْرٌ وعملُ الحج مشروطٌ بالإسلام ، فثبت أَنَّا إِذَا حملنا اللفظ على الخبر ، وجب حَمْلُ الرَّفث والفُسُوق والجِدَالِ على ما ذكرنا ، وأمَّا إِذَا حملناه على النَّهي ، وهو في الحقيقة عُدُولٌ عن الظَّاهِر ، فقد يَصِحُّ أنْ يرادَ بالرفثِ الجماعُ ومقدماتُه ، وقولُ الفُحْشِ ، وأَنْ يرُادَ بالفِسْقِ جميعُ أنْواعه ، وبالجدالِ جميعُ أَنواعه؛ ، لأَنَّ اللفْظَ مُطْلَقٌ ومتناولٌ لكل هذه الأقسامِ ، فيكون النهي عنها نَهْياً عن جميع أقسامها .

فإن قيل : ما الحكمةُ في أنّ الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة : وهي الرَّفث ، والفُسُوق ، والجدَال في الحج ، مِنْ غير زِيَادَةٍ ولا نَقْصٍ؟
فالجواب : لأنه ثَبَتَ في العلوم العقلية أنّ للإنسان أربَعَ قُوىً : قوّة شَهْوَانيةٌ بهيميَّةٌ ، وقُوَّةٌ غَضَبيَّةٌ سبعيَّةٌ ، وقُوَّةٌ وهمِيَّةٌ شيطانيَّةٌ ، وقُوة عقليةٌ مَلكيَّةٌ ، والمقصود من جميع العبادات قَهْرُ القُوَى الثلاث ، أعْنِي : الشهوانية والغضبية والوهْمية .
فقوله : « فَلاَ رَفَثَ » إشارةٌ إلى قَهْرِ الشهوانية .
وقوله : « ولا فُسُوقَ » إشارةٌ إلى قَهْرِ القُوةِ الغضبيةِ التي توجِبُ المعصية والتمردَ .
وقوله : { وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } إشارةٌ إلى قَهْرِ القوةِ الوهْمية ، التي تحملُ الإنسانَ على الجدال في ذاتِ الله ، وصفاتِهِ ، وأفعاله ، وأحكامه ، وأسمائِهِ ، وهي البَاعِثَةُ على مُنَازعِةِ الناسِ ، ومُمَاراتِهِم ، والمخاصَمَةِ مَعَهُم في كل شَيْءٍ ، فلمّا كان سَبَبُ الشَّرِّ مَحْصُوراً في هذه الأمور الثلاثة؛ لا جرم لا يَذْكُرْ معَها غيرَها .
فصل
من الناس مَنْ عاب الاستدلالَ ، والبَحْثَ ، والنَّظر ، والجِدال؛ واحْتَجَّ بقوله تعالى : { وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } ، وهذا يَقْتَضِي نَفْيَ جميع أنواعِ الجدال ، ولو كان الجِدَالُ في الدين طَاعَةٌ ، لما نُهِيَ عَنْهُ في الحج ، بل على ذلك التقدير ، يكونُ الاشتغالُ بالجِدَالِ ضَمَّ طاعَةٍ إلى طَاعَةٍ ، فيكون أَوْلَى بالترغيب فيه . وأيضاً قال تبارك وتعالى : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [ الزخرف : 58 ] ، عابهم بكونِهم مِنْ أَهْل الجَدَلِ ، فدلّ على الجدل مَذْمُومٌ ، وقال تبارك وتعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [ الأنفال : 46 ] فنهى عن المنازعة .
وأمّا جمهور المتكلِّمين فقالوا : الجدَالُ في الدين طاعةٌ عظيمةٌ؛ لقوله تعالى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] ، وحكى قول الكفَّار لنوح - عليه السلام - { قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } [ هود : 32 ] ، ومعلومٌ أَنَّ ذلك الجِدال ، إنما كان لتقريرِ أُصُولِ الدين ، فيُحملُ الجدالُ المذمومُ على الجدل في تقرير الباطل ، وطلب المالِ ، والجَاهِ ، والجدالُ الممدوحُ على الجَدَلِ في تقرير الحقِّ ، ودعوةِ الخَلْقِ إلى سبيل اللِّهِ ، والذَّبِّ عن دين الله .
قولُه : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } تقدَّمَ الكلامُ على نَظِيرتِهَا ، وهي : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] فَكُلُّ ما قيلَ ثَمَّ ، يُقالُ هُنَا . قال أبو البقاء رحمه الله « وَنَزِيدُ هنا وَجْهاً آخرَ : وهو أَنْ يَكُونَ » مِنْ خَيْر « في مَحلِّ نصبٍ نَعْتاً لمَصْدرٍ مَحْذُوفٍ ، تقديرُه : وَمَا تَفْعَلُوا فِعْلاً كَائِناً مِنْ خَيْرٍ » .

و « يَعْلَمْه » جَزْمٌ على جوابِ الشَّرط ، ولاَ بُدَّ مِنْ مَجَازٍ فِي الكَلامَ : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبَّر بالعِلْم عن المُجازاة على فعل الخَيْر ، كأنّهُ قِيل : يُجازِيكم ، وإِمَّا أَنْ تُقَدَّر المُجازاة بعد العِلم ، أي : فيثيبُه عَلَيْه .
وفي قوله : « وَمَا تَفْعَلُوا » التفَاتٌ؛ إذْ هو خُرُوج مِنْ غَيْبَةٍ في قوله : فَمَنْ فَرَضَ « وحُمِلَ على َمَعْنَى » مَنْ « إذ جَمَعَ الضميرَ ولم يُفْرده . وقد خَبَطَ بعضُ المُعْربين ، فقال : » مِنْ خَيْر « مُتعَلِّق بتَفْعلوا ، وهو في مَوضع نصب؛ لمصدّر محذوفٍ ، تقديرُه : » وَمَا تَفْعَلُوا فِعْلاً مِنْ خَيْر « والهاءُ في » يَعْلَمْه « تَعُودُ إلى خير . قال شهابُ الدِّين : وهذا غَلَطٌ فاحِشٌ؛ لأَنَّه مِنْ حَيْثُ عَلَّقه بالفعلِ قبله كيف يَجْعَلُه نَعْتَ مصدرٍ مَحذوفٍ؟ ولأنَّ جَعْلَه الهاءَ تعودُ إلى » خَيْر « يلزمُ منه خلوُّ جملة الجواب مِنْ ضمير يَعُودُ اسم الشَّرْطِ ، وذلك لا يجوزُ ، أَمَّا لَوْ كانَتْ أَداةُ الشَّرْطِ حَرْفاً ، فلا يُشْترطُ فيه ذلك ، فالصَوابُ ما تقدَّم . وإنما ذكرت لك هذا لِئَّلا تراه فَتَتَوهَّمَ صِحَّتَه . والهاءُ عائِدةٌ على » ما « الَّتي هي اسمُ الشَّرْطِ .
فصل
اعلم أنَّ اللَّهَ تعالى يعلمُ كُلَّ شَيْءٍ وإذا خَصَّ هُنا الخير بأنه يعلمُه لفوائِد .
أحدها : إذا علمتُ منك الخير ، ذكرتُه وشَهَرْتُه ، وإذا علمتُ مِنْك الشرَّ ، سترتُه وأخفَيْتُه؛ لِتَعلم أنّه إذا كانت رَحْمَتي بك في الدنيا هكذا فكيف في العُقْبَى؟
وثانيها : قال بعضُ المفسرين في قوله : { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] معناه : لَو أمكَنَنِي أن أُخْفيها عن نفسي ، لَفَعلتُ ، فكذا - هاهنا - كأنَّه قيل لِلْعَبْدِ : ما تَفْعَلْه مِن الشَّرِّ ، فَلَوْ أَمْكنِني أَنْ أُخْفيهُ عن نَفْسي لَفَعلتُ ذلك .
وثالثها : أنّ السُّلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع : كُلّ ما تتحمله من المشقَّة والخِدْمة في حَقِّي ، فأنا عالِمٌ به ، ومُطَّلِعٌ عليه ، كان هذا وَعْداً له بالثَّواب العظيم ، ولَو قال ذلك لعبده المذنِبِ ، كان تَوَعُّداً له بالعِقابِ الشَّديد ، ولَمَّا كان سبحانه أكرمَ الأَكرَمِينَ؛ لا جرمَ ذَكرَ ما يَدُلُّ على الثَّوابِ ، ولم يذكرْ ما يدلُّ على العِقَابِ .
ورابعها : أَنَّ جبريل - عليه السلام - لمَّا قال : » ما الإحسان « ؟ فقال : » الإحْسَانُ : أَنْ تَعْبُد اللَّهُ كَأنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ « ، فهاهنا بيَّن للعبدِ أنَّه يَرَاهُ ، ويعلمُ ما يفعلهُ من الخيراتِ لتكون طاعةُ العَبْدِ للربِّ من الإحسانِ ، الذي هُو أَعْلَى دَرَجاتِ العِبَادِةِ ، فإن الخادِمَ مَتَى علم أَنَّ مخدومه مُطَّلِعٌ عليه ، ليس بغافلٍ عن أَحوالِهِ - كان أَحْرصَ على العَمَلِ .
فصل
قال القُرطبيُّ : هذا شرط وجوابه ، والمعنى أنَّ اللَّهَ يُجَازيكُم على أعمالكُم؛ لأنَّ المجازاة إنما تقعُ من العَالِمِ بالشَّيءِ .
وقيل : هو تحريضٌ وحَثٌّ على حُسنِ الكَلاَمِ مَكَانَ الفُحشِ ، وعلى البِرِّ والتَّقْوَى في الأخلاقِ مكان الفُسُوقِ والجِدَالِ .

وقيل : جعل الخير عبارةً عن ضبط أَنفُسِهم؛ حتى لا يوجد ما نهُوا عنه .
قوله : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } فيه قولان :
أحدهما : أن المراد تزوّدوا من التَّقْوَى؛ لقولهِ { فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } فتحقيقٌ [ الكلام فيه : أَنَّ ] الإنسان له سَفَرانِ ، سفرٌ فى الدنيا ، وسَفَرٌ مِنَ الدُّنيا .
فالسَّفَرُ في الدنيا ، لا بُدَّ له مِنْ زَادٍ ، وهو الطَّعامُ ، والشَّرَابُ ، والمركبُ ، والمالُ والإعراضُ عمّا سِوَاهُ ، وهذا الزادُ خيرٌ مِنَ الزَّادِ الأوَّلِ لوجوه :
أحدها : أنّ زادَ الدُّنيا [ يخلصُكَ مِنْ عَذَابِ مُنْقَطِعٍ ، وزادَ الآخرة يُخَلِّصُك مِنْ عذاب دائمٍ ، وزادُ الدُّنيا ] يوصلك إلى لذَّةٍ مَمزُوجةٍ بالآلامِ ، والبلايَا ، وزادَ الآخرةِ يُوصِلكّ إلى لذَّاتِ باقيةٍ خالصةٍ عن شوائب المضَرَّةِ ، وزادُ الدنيَا يُوصِلُك إلى دُنيا مُنقضيةٍ ، وزادُ الآخرة يُوصِلُكَ إلى الآخرة ، وهي كل ساعةٍ من الإِقبالِ ، والقُرْبِ ، والوُصُول غير منقضية وزادُ الدنيا يُوصِلُكُ إلى منصة الشَّهوة والنَّفْس وزادُ الآخرة يُوصِلُكَ إلى حضرة الجلالِ والقُدُس؛ فلهذا قال : { خَيْرَ الزاد التقوى } فَاشْتغلوا بتقواي يا أولي الألباب ، يعني : إِن كُنتُم من أُولي الألباب الَّذين يعلمون حقائق الأمور فاشتغلوا بتحصيل هذا الزادِ؛ لما فيه من كثرةِ المَنافع؛ وفي هذا المعنى قال الأعشى : [ الطويل ]
995 - إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزادٍ مِنَ التُّقَى ... وَلاَقَيْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدْمِتَ عَلَى أَلاَّ تَكُونَ كَمِثْلِهِ ... وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصْدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا
والقولُ الثَّانِي : أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في أُناسٍ مِنْ أهل اليمن ، كانوا يحجُّونَ بغير زادٍ ، ويقُولُونَ إِنّا مُتَوكِّلُونَ وكانوا يَسْأَلُونَ وربما ظَلَمُوا الناس وغصبُوهُم ، فأمرهم اللَّهُ تعالى أَنْ يَتَزوَّدُوا ما يَبْلُغُون به ، فإنّ خير الزادِ ما تكفون به وجوهكم عن السُّؤال ، وأنْفُسَكُم عن الظلم .
وعن ابن زيدٍ ، أنّ بعض قبائِلِ العربِ كانوا يحرّمُون الزادَ على الحج ، والعمرة؛ فنزلت الآية . قال ابنُ الجَوزيّ : قد لَبَسَ إِبْلِيسُ على قومٍ يَدعُون التوكُّل؛ فخرجوا بِلاَ زادٍ ، وظنُّوا أن هذا هو التوكُّلُ وهُم على غاية الخطأَ ، قال رَجلٌ لأحمد بن حَنْبلٍ : أُرِيد أَنْ أَخْرُجَ إلى مكَّةَ المشرفة على التوكُّلِ بِغَير زادٍ ، فقال له أَحْمَدُ : اخرج في غير القَافِلَةِ . فقال : لا إِلاَّ معهُم ، فقال : على جُرُب النَّاسِ تَوكلت .
وروى محمد بنُ جرير الطبري عن ابن عمر قال : كانوا إذا أَحْرَموا ، ومعهم أزودةٌ رَمَوْا به؛ فنهوا عن ذلك بهذه الآية الكريمة .
قال القاضي : فإن أرادنا تصحيح هذا القول ففيه وجهان :
الأوَّل : أنّ القادر على أنْ يستصحِبَ المالَ في السفر إذا لم يستصحبه ، عَصَى اللَّهُ تعالى في ذلك ، فبهذا الطَّرِيق يصحُ دُخُولُه تحتَ الآية الكريمة .
والثاني : أَنْ يكونَ في الكلام حَذْفٌ ، والمرادُ تَزَوَّدوا لعاجل سفركم ، ولآجِلِ ، فإِنَّ خير الزادِ التقوَى . وقيل : المعنى فإنّ خَيْرَ الزادِ ما اتقى به المسافر من الهَلَكة ، والحاجة إلى السؤال ، والتكفُّفِ ، وأَلِفُ « الزَّادِ » مُنقلبَةٌ عَنْ « واوٍ » لقولهم تَزَوَّدَ .

قولهُ : « واتَقُونِي » أَثبتَ أبو عمر « الياءَ » في قوله : « وَاتَّقُونِي » على الأصل ، وحذف الآخرون؛ للتخفيف ، ودلالة الكسرةِ عليه ، وفيه تَنْبيهٌ على كمالِ عظمةِ اللَّهِ وجلالِهِ؛ وهو كقول الشَّاعر : [ الرجز ]
996 - أَنَا أَبُوا النَّجْمِ وَشْعْرِي شِعْرِي ... قولُه { واتقون ياأولي الألباب } اعلم أَنَّ لُبَّ الشيءٍ ولُبَابَهُ هو الخَالِصُ منه .
قال النَّحاسُ : سمعت أبا إسحاق يقول : قال لي أحمدُ بن يحيى ثعلبٌ : أتعرف في كَلام العرب شيْئاً من المُضاعَفِ جاء على فَعُلَ؟ قلت : نعم ، حكى سيبويه عن يونس : لَيُبْتَ تَلُبّ؛ فاسْتَحْسَنُه ، وقال : ما أَعْرفُ له نظيراً .
واختلفوا فيه فقال بعضهم : إنّه للعقلِ؛ لأنه أشرفُ ما في الإنسان ، وبه تميز عن البهائِمِ ، وقَرُبَ مِنْ درجةِ الملائكة .
وقال آخرون : إنّه في الأَصْلِ اسمٌ للقَلْبِ الذي هو محل للعقلِ ، والقَلْبُ قد يُجعل كنايةً عن العَقلِ ، فقوله : { ياأولي الألباب } أي : يا أُولِي العُقُولِ ، وإطلاق اسم المحلِّ على الحال مجازٌ مشهُورٌ .
فإن قيل : إذا كان لا يصِحُّ إِلاَّ خِطَابٌ العقل؛ فما فائدة قوله : { ياأولي الألباب } ؟!
فالجواب : معناهُ أنّكم لمّا كنتُم مِنْ أُولِي الألباب ، تمكنتُم مِنْ معرفة هذه الأشياء ، والعَمَلِ بها ، فَكَانَ وجوبها عليكم أَثبت ، وإعراضُكم عنها أقبحَ؛ ولهذا قال الشاعر : [ الوافر ]
997 - وَلَمْ أَرَ في عُيُوب النَّاسِ شَيْئاً ... كَنَقْص الْقَادِرِيْن عَلَى التَّمَامِ
وقال تبَاركَ وتعالى : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] يعني : أَنَّ الأنعامَ مَعْذُورةٌ بسبب العَجزِ ، وأَمَّا هؤلاء فقادِرُون فكان إعراضهم أفحش ، فلا جرم كانُوا أَضَلَّ .

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

قوله { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } « أَنْ » في محلِّ نَصْبٍ في مَوْضعين عند سيبويه والفراء ، وجَرٍّ عند شَيْخَيْهما والأَخْفِشِ؛ لأنَّها على إضمارِ حَرْفِ الجَرِّ ، أي : في أَنْ ، وهذا الجارُّ متعلِّقٌ : إمَّا بجُناح؛ لما فيه مِنْ مَعْنَى الفِعْلِ وهو الميلُ والإِثمُ ، وما كانَ في معناهُمَا ، وإمَّا بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل « جُناح » فيكونُ مرفوعَ المحلِّ ، أي : جناحٌ كائنٌ في كذا .
ونقل أبو البقاء رحمه الله تعالى عن بعضهم ، أنه متعلقٌ ب « ليس » ، واسْتضْغَفُه . قال شهاب الدِّين : بل يُحْكَمُ بتخطئته ألبتة .
قوله : « مِنْ رَبِّكُمْ » يجوزُ أَنْ يتعلَّق بتبتغوا فيكون مفعولاً له ، وأَنْ يكون صِفَةٌ ل « فضلاً » ، فيكون منصوب المَحَلِّن مُتَعَلِّقاً ، بمحذوفٍ . و « منْ » في الوجهين لابْتِدَاء الغاية ، لكن فى الوجهِ الثاني تحتاجُ إلى حَذْفِ مُضافٍ أي : كَائناً مِنْ فُضولِ ربكم .
فصل
قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ } يدلُّ على أنّ شُبْهَةً قَامَتْ عندهم في تحريم التجارة من وجوهٍ :
أحدها : أنَّه تبارك وتعالى منع الجِدَال في الحجِّ ، والتِّجَارةُ كثيرةُ الإفضاءِ إلى المُنازعَةِ في قلَّة القِيمَةِ وكثرتِهَا؛ فوجَبَ أَنْ تكونَ التجارة مُحَرَّمةً .
ثانيها : أنّ التجارة كانت مُحرمةً في وقت الحج في الجاهليةِ ، وذلك شيءٌ ، حسَنٌ؛ لأن المشتغل بالحج مشتغلٌ بخدمةِ الله تعالى ، فوجب ألاَّ يَشُوبَ هذا العملَ بالأطماعِ الدُّنيويَّةِ .
وثالثها : أنّ المسلمين عَلِمُوا أنّ كثيراً من المباحاتِ صارت مُحرمةً عليهم في الحج : كاللّبسِ ، والاصْطِيَادِ ، والطِّيبِ ، والمباشرة ، فغلب على ظنِّهم أنَّ الحجَّ لمَّا صار سبباً لحرمةِ اللبسِ مع الحاجَةِ إليه ، فأَوْلَى منه تحريمُ التجارةِ؛ لقلة الاحتياج إليها .
ورابعها : عند الاشتغال بالصلاةِ يَحْرُمُ الاشتغالُ بالتجارةِ؛ قال تعالى : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع } [ الجمعة : 9 ] فلهذا السبب ، بيّن اللَّهُ تعالى - هاهنا - أنَّ التجارةَ جائزةٌ غير مُحَرَّمةٍ .
فإذا عُرِفَ هذا ، فذكر المفَسِّرُونَ في قوله : { أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } وجهين :
الأوَّل : أَنَّ المراد هو التجارة؛ نظيره قوله تعالى : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله } [ المزمل : 2 ] وقوله : { جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } [ القصص : 73 ] ويدُلُّ عليه ما رَوَى عَطاءٌ عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ وابن الزُّبير أنّهم قرأوا : « أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَواسِمِ الحَجِّ » .
وقال ابن عباسٍ : كان ناسٌ من العرب يَحْتَرِزُونَ مِنَ التجارةِ في أيَّامِ الحَجِّ ، وإذا دَخَلَ العَشْرُ ، بالغوا في تَرْك البيع والشِّراء بالكية ، وكانوا يُسَمّون التاجر في الحج الدَّاجَّ ، ويقُولون : هؤلاء الدَّاجُّ ، وليسوا بالحاجِّ . ومعنى الدَّاجّ : المُكتسب الملْتَقِط ، وهو مشتقٌّ من الدَّجاجة وبلغُوا في الاحتراز عن الأعمال إلى أن امتَنَعُوا من إِغاثةِ الملهُوفِ والضعيفِ وإِطعام الجائع؛ فأزال اللَّهُ هذا الوَهْمُ وبيّن أنّه لا جُناح في التجارة ، ولما كان ما قَبْل هذه الآية في أحكامِ الحج ، وما بعدها في الحج ، وهو قوله تعالى : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ } دَلّ ذلك على أَنَّ هذا الحكمَ واقِعٌ في زمان الحجِّ؛ فلهذا السبب استغني عن ذكره .

وروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّ رجلاً قال له : إنَّا قَوْمٌ نكري ، وإنَّ قَوماً يَزْعُمونَ أنّه لا حَجَّ لنا ، فقال : أَلَسْتُم تُحْرِمُونَ كما يُحْرِمون ، وتَطُوفُونَ كما يَطُوفُونَ ، وتَرْمُونَ كما يَرْمُونَ؟ قلتُ : بَلَى ، قال : أنْتُم حُجَّاجٌ؛ وجاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عمَّا سَأَلتني ، فلم يَرُدُّ عليه؛ حَتَّى نزل قوله تعالى { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } فَدَعَاهُ ، وقال : أَنْتُم حُجَّاجٌ .
وبالجملة فهذه الآية الكريمة نزلت رَدّاً على مَنْ يقول : لا حجَّ لِلتَّاجِرِ ، والأَجِيرِ ، والجَمَّالِ .
ورَوَى عمرو بن دِينارٍ ، عن ابن عباسٍ : أنَّ عُكَاظَ ومِجَنَّةَ ، وذا المجاز كانت أسواقاً في الجاهليِّة ، يتَّجرون فيها في أيَّام الموسِم ، وكانت مَعَايشُهم مِنْهَا ، فلمّا جاء الإسلامُ ، كرهوا أنْ يَتّجروا في الحج بغير إذنٍ ، فسألَوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآيةُ .
وقال مجاهدٌ : إنهم كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بِعَرفة ، ولا مِنَى ، فنزلت هذه الآيةُ ، فلهذا حمل أكثرُ المفسرين الآية على التجارةِ في أيام الحجِّ ، وحَمَلَ أبُو مُسْلم الآية على ما بعد الحج ، قال : والتقديرُ : واتقوني في كل أفعالِ الحج ، وبعد ذلك { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } ونظيره قوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } [ الجمعة : 10 ] .
قال ابن الخطيب : وهذا القولُ ضعيفٌ من وجوه ، لأَنَّ قوله : { فَإِذَا أَفَضْتُم مِن عَرَفَاتٍ } يدلُّ على أنّ هذه الإفاضة حَصَلَتْ بعد ابتغاء الفَضْلِ؛ لأن الفاءَ للتَّعْقيب ، وذلك يَدُلُّ على وُقُوع التجارة فيى زَمَانِ الحج .
وأيضاً فَحَملُ الآية على موضع الشُبْهَة ، أَوْلَى مِنْ حَمْلِها على مَوْضع لا شُبْهَةَ فيه ، ومَحلُّ الشبهةِ ، هو التجارةُ في زمان الحجِّ ، وأَمَّا بعدَ فراغ الحجِّ ، فكُلُّ أَحَدٍ يعلمُ حلَّ التجارة .
فإن قيل : وكذلك أيضاً كل أَحَدٍ يعلمُ أَنَّ الصلاةَ إذا قُضِيت ، يُبَاحُ البيعُ والشِّرَاء؛ فلماذا قال : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } .
قلنا لأنه أمَر قبله بالسَّعي ، ونهى عن البيع ، فقال : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع } فَنَهى عن البيع بعد النِّدَاءِ ، فلمَّا قال بعده : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } ، كأنّه قال : إِنَّ المانعَ الذي مَنَعَكُمْ من البَيْعِ قد زال؛ فانْتَشِرُوا في الأرض ، وابتغُوا من فضل الله .
وأمَّا قِياسُ الحجِّ على الصلاةِ ، فالفرقُ بينهما : أنّ الصلاة أعمالُها مُتَّصِلَةٌ ، فلا يَحِلُّ في أثنائِهَا التشاغلُ بغيرها ، وأَمّا أعمال الحج ، فهي مُتَفرِّقَةٌ بعضها عن بعضٍ ، ففي خلالها لا يبقى المرءُ على الحكم الأول ، فتصيرُ الصلاةُ عملاً واحداً من أعمالِ الحج ، لا مَجْمُوعَ الأَعْمَالِ ، وأيضاً فقوله : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة } تَصريحٌ بأَنّ الابتغاء بعد انقضاء الحج .

فإن قيل : حُكمْ باقٍ في كل تلك الأَوقاتِ؛ بدليل حُرْمَةِ التطيب واللَّبسِ .
فالجوابُ : هذا قياسٌ في مقابلة النص .
القولُ الثاني : قال أبو جعفرٍ محمد بن علي الباقر : المرادُ بقوله تعالى : { أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } هو أَنْ يبتغي الإنسانُ حال كونه حاجّاً أعمالاً أخَرَ ، تكونُ مُوجِبةً لاستحقاقِ فضْلِ الله ورحمته مِثْلَ إِعانَةِ الضَّعيف ، وإغَاثَةِ الملهوف ، وإطعام الجَائِعِ ، واعترضَ عليه القاضي : بأَنّ هذا واجبٌ ، أو مَنْدُوبٌ ، ولا يُقالُ في مِثله : لا جَنَاحَ عَليكُم فيه ، إِنَّما يُذكر هذا اللفظ في المُبَاحَاتِ .
والجوابُ : لا نُسَلِّمُ أَنَّ هذا اللفظَ لا يُذكرُ إلاّ في المُبَاحَاتِ لقوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } [ النساء : 101 ] والقصْرُ مندوبٌ وكما قال تعالى : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [ البقرة : 158 ] والطوافُ ركنٌ في الحج ، وإنّما أهلُ الجاهلية كانوا يعتقدون أنّ ضَمَّ سَائِرِ الطاعَاتِ إلى الحجِّ ، يُوقِعُ خَلَلاً في الحج ، ونَقْصاً؛ فبيَّن اللَّهُ تعالى بقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جَنَاحٌ } أنّ الأمر ليس كذلك .
فصل
اتفقُوا على أنّ التجارة إنْ أوْقعت نَقْصاً في الطاعة ، لم تَكُنْ مباحةً ، وإِنْ لم تُوقِعْ نقصاً في الطاعةِ ، كانت مُبَاحةً ، وتركها أَوْلَى؛ بقوله تعالى : { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ البينة : 5 ] ، والإخلاصُ هو ألاَّ يكونَ له حَامِلٌ على الفِعْل سِوى كونهِ عبادةً ، والحاصِلُ أنّ الإِذْنَ في هذه التجارة جَار مَجْرَى الرُّخَصِ .
قوله : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ } العامُ فيها جَوَابُها ، وهو « فَاذْكُرُوا » قال أبُوا البقاءِ رحمه الله « ولا تمنَعُ الفاءُ مِنْ عَمَل ما بعدَها ، فيما قَبْلَها؛ لأنه شَرْطٌ » .
ومَنَعَ أبُو حَيَّان مِنْ ذلك بما معناه : أنَّ مكانَ إنشاءِ الإِفَاضَةِ غيرُ مكانِ الذكْرِ؛ لأنَّ ذلك عَرَفَاتٌ ، وهذا المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاقِعاً عند إِنْشاء الإِفَاضَة .
قوله : « مِنْ عَرَفَاتٍ » مُتَعلِّقٌ ب « أَفَضْتُم » والإِفَاضَةُ في الأَصْلِ : الصبُّ ، يُقالُ ، فَاضَ الإِناءُ ، إذا امْتَلأَ حَتَّى ينصبَّ عن نواحيه . ورجلٌ فيَّاضٌ ، أي : مندفقٌ بالعطاءِ؛ قال زُهيرٌ : [ الطويل ]
998 - وَأَبْيَضَ فَيَّاضٍ يَدَاهُ غَمَامَةٌ ... عَلَى مُعْتَفِيهِ مَا تُغِبُّ فَوَاضِلُهُ
وحديثٌ مستقيضٌ ، أي شائِعٌ .
ويقالُ : فاضَ الماءُ وأَفَضْتُه ، ثم يُستعملُ في الإِحْرامِ مَجَازاً . والهَمْزَةُ في « أَفَضْتُم » فيها وجهان :
أحدُهما : أنها للتعدية ، فيكون مفعولُه مَحْذُوفاً ، تقديره : أَفَضْتُم أنفسكم ، وهذا مَذْهب الزجاج ، وتبعَهُ الزَّمَخْشَريُّ ، وقَدَّره الزجاجُ فقال : معناه : دَفَعَ بعضُكم بَعْضاً والإِفَاضَةُ : الاندفاعُ في السَّيْرِ بكثيرةٍ ، ومنه يُقالُ : أَفَاضَ البَعِيرُ بجرِته ، إذا وقع بها فألقاها منبثة ، وكذلك أَفَاضَ القِداحَ في المَيْسِر ، ومعناه : جمعها ، ثم أَلقاها مُتَفَرِّقَةً ، وإِفَاضَة الماءِ من هذا؛ لأنه إذا صُبَّ ، تَفَرَّق ، والإِفَاضَةُ في الحديث ، إِنَّما هو الاندفاعُ فيه بإكثارٍ ، وتصرُّفٍ في وُجُوهِهِ؛ قال تعالى :

{ إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } [ يونس : 61 ] ، قال بعضُهم : ولَيْسَ كذلك؛ لما يأتي ، ومنه يُقال للناس : فَوْض ، ومثلهم فَوْضَى ، ويُقال : أَفَاضَت العينُ دَمْعَها ، فأصلُ هذه الكلمة : الدفعُ للشيءِ حتى يتفرقَ ، فقوله تعالى : « أَفَضْتُم » ، أي : دَفَعْتُم بكثرة ، وأصلُه : أَفَضْتُم أَنْفُسَكُم ، فتُرِك ذِكْرُ المفعول كما تُركَ في قولهم : دَفَعُوا مِنْ مَوضِعِ كَذَا ، وَصَبُّوا .
والوجه الثاني : أَنّ أَفْعَل هنا ، بمعنى « فَعَلَ » المجردِ فلا مفعول له . قال أبو حيَّان : لأنه لا يحفّظُ : أَفَضْتُ زيداً بهذا المعنى الذي شرحناه آنفاً وأَصلُ أَفَضْتُم : أفْيَضْتُم فأُعلَِّ؛ كنظائره ، بأَنْ نُقِلَتْ حَركَةُ حَرفِ العِلَّةِ على السَّاكِن قبلهُ فتحرَّك حرفُ العِلَّة في الأصل ، وانْفَتَحَ ما قبله؛ فَقُلِب ألفاً ، وهو مِنْ ذواتِ الياءِ من الفَيْض ، كما تقدَّمَ ، وليس مِنْ ذواتِ الواوِ من قولهم : فَوْضَى الناسِ ، وهم أخلاطُ الناسِ بلا سائِسٍِ .
وعَرَفات اسمُ مكانٍ مَخْصُوصٍ ، وهل هو مشقٌّ أو مُرْتَجَلٌ؟ قولان :
أحدهما : أنه مرتجلٌ ، وإليه ذهب الزمخشريُّ ، قال : « لأنَّ العَرَفَةَ لا تُعْرَفُ في أسماءِ الأجناس؛ إلا أنْ تكونَ جمعَ عارفٍ » .
والثَّاني : أنه مُشتقٌّ ، واختُلِف في اشتقاقه ، فقيل : مِنَ المَعْرِفة؛ لأنَّ إبراهيم - عليه السلام - لَمَّا عرَّفه جبريلُ هذه البقعة بالنَّعْتِ ، والصِّفَةِ؛ فَسُمِّيَتْ « عَرَفَاتٍ » قاله عليٌ ، وابنُ عبَّاسٍ وعطاءٌ والسُّدّيُّ .
قال السُّدِّيُّ : لمّا أَذَّنَ إبراهيم في الناس بالحجِّ ، فأجابوه : بالتَّلبية ، وأتاهُ مَنْ أَتَاهُ - أمَرَهُ اللَّهُ أنْ يَخْرُجَ إلى عَرَفاتٍ ، ونعتها له ، فخرج ، فلمَّا بَلَغَ الشجرة عند العقبةِ ، استقبلَهُ الشيطانُ؛ يَرُدُّهُ؛ فرماه بسبع حَصَيَاتٍ ، يُكَبّرُ مع كُلِّ حَصَاة ، فَطَار ، فَوقَعَ على الجمرة الثَّانية؛ فرمَاهُ وكبِّر [ فطار ، فَوقع على الجَمْرة الثالثة؛ فرماه وكبّر ] ، فلمّا رأى الشَّيطانُ أنَّه لا يُطيعُهُ؛ ذهب ، فانطلق إبراهيم حتَّى أتى ذا المجازِ ، فلمّا نظر إليه ، لم يَعْرِفه ، فجاز فسُمِّي ذا المجاز ، ثمَّ انطلق حتَّى وقَفَ بعرفاتٍ فعرفها بالنَّعْت؛ فسُمِّي الموقف « عَرَفَة » والموضعُ « عَرَفَاتٍ » ، حتى إذا أَمْسَى ازْدَلَف أي قَرُبَ إلى جَمع فسُمِّي المُزْدَلَفَة .
وقال عطاء : إنّ جبريل - عليه السلام - علّم إبراهيم - عليه السّلام - المَنَاسِك ، وأوْصَلَه إلى عَرَفاتٍ ، وقال له : أعَرَفْتَ كيف تَطُوفُ ، وفي أي مَوْضعٍ تَقِف؟ قال : نعم .
وقيل : إن إبراهيم - عليه السلام - وضَعَ ابنهُ إسماعيل وأمَّه هاجر بمكَّة ، ورجع إلى الشَّام ولم يَلْتَقِيا سِنين ، ثم الْتَقَيَا يوم عَرَفَة بِعَرَفَات .
وقال الضَّحَّاكِ : إنّ آدم وحَوَّاء - عليهما السلام - التَقَيَا بعرَفة ، فعرَفَ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما صاحِبُه؛ فسُمِّي اليوم عَرَفَة والمَوْضِع بعَرَفَاتٍ؛ وذلك أنَّهما لمّا أُهْبِطا من الجَنَّة ، وقع آدم بسَرَنْدِيب ، وحوّاء بجَدَّة ، وإبليس ببيسان والحية ب « أصْفهان » فلمّا أَمَر الله - تعالى - آدم - عليه السّلام - بالحجِّ ، لقي حواء بعَرَفَاتٍ فتعارفا ، قاله ابن عبَّاس .

وقيل : إنّ آدم - عليه السّلام - علّمهُ جبريل مَنَاسِك الحَجِّ ، فلمّا وقَفَ بعَرَفَاتٍ قال له : أَعَرفتَ؟ قال : نعم ، فسُمِّي عَرَفَاتٍ .
وقيل : إن الحجاج يتعارَفُون بعَرَفَاتٍ إذا وَقَفُوا .
وقيل : إنّه - تبارك وتعالى - يتعرّف فيه إلى الحُجَّاجِ بالمَغْفِرة والرَّحْمة .
وروى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ؛ أنّ إبراهيم - عليه السّلام - رأى ليلة التَّروية في منامه ، أنَّه يؤمر بذبح ولده ، فلما أصبح روَّى يومه أجمع ، أي : فكّر أمنَ الله هذه الرُّؤيا أم من الشَّيطان؟ فسمِّي اليوم يوم التَّروية . ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانياً ، فلمّا أصبح عرف أنّ ذلك من الله ، فسمي اليوم عرفة .
[ وقيل : مشتقَّة من العرف ، وهو الرائحة الطيبة ] .
قال تعالى : { وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ } [ محمد : 6 ] أي طيَّبها لهم ، فيكون المعنى : أن المذنبين لمّا تابوا في عرفات ، فقد تخلَّصوا من نجاسات الذُّنوب ، واكتسبوا عند الله رائحةً طيِّبة .
وقيل : أصله من الصَّبر : يقال : رجل عارفٌ؛ إذا كان صابراً خاشعاً؛ قال ذو الرُّمَّة في ذلك : [ الطويل ]
999 - . ... عَرُوفٌ لَمَا خَطَّتْ عَلَيْهِ عَلَيْهِ المَقَادِرُ
أي : صبورٌ على قضاء الله - تعالى - فسمِّي بهذا الاسم؛ لخضوع الحاجِّ وتذللِّهم وصبرهم على الدُّعاء ، واحتمال الشَّدائد لإقامة هذه العبادة .
وقيل : مشتقَّة من الاعتراف؛ لأن الحاجَّ إذا وقف اعترف للحقِّ بالربوبيَّة والجلال والاستغناء ، ولنفسه بالفقر والذِّلَّة والمسْكَنَة والحاجة .
وقيل : إنّ آدم وحوّاء - عليهما السّلام - لمّا وقفا بعرفاتٍ ، قالا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] قال الله - سبحانه وتعالى - : « الآن عَرَفْتُمَا أَنْفُسَكُما »
وقيل : من العرف ، وهو الارتفاع ، ومنه عرف الدّيك ، وعرفات جمع عرفة في الأصل .
ثم سمّي به بقعة واحدة كقولهم : ثوبٌ أخلاقٌ ، وبرمةٌ أعشار ، وأرضٌ سباسب ، والتَّقدير ، كان كلُّ قطعة من تلك الأرض عرفة ، فسمِّي مجموع تلك القطع بعرفاتٍ .
والمشهورُ : أنَّ عرفات وعرفة واحدٌ ، وقيل : عرفة اسم اليوم ، وعرفات اسم مكان ، وعرفة هي نعمان الأراك؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]
1000 - تَزَوَّدْتُ مِنْ نَعْمَانَ عُودِ أَرَاكَةٍ ... لِهِنْدٍ وَلَكِنْ مَنْ يُبْلِّغُهُ هِنْدَا
والتنوين في عرفاتٍ وبابه فيه ثلاثة أقوال :
أظهرها : أنه تنوين مقابلةٍ ، يعنون بهذا أنَّ تنوين هذا الجمع مقابلٌ لنون جمع الذكور ، فتنوين مسلماتٍ مقابلٌ لنون مسلمين ، ثم جعل كلُّ تنوين في جمع الإناث - وإن لم يكن لهنّ جمعٌ مذكرٌ - طرداً للباب .
والثاني : أنه تنوين صرف ، وهو ظاهر قول الزمخشريِّ؛ فإنه قال : « فإن قلتَ : فَهَلاَّ مُنِعَتِ الصَّرْفَ ، وفيها السببان : التعريف والتأنيث؛ قلت : لا يخلو التأنيث : إما أن يكون بالتاء التي في لفظها ، وإما بتاء مقدَّرة؛ كما هي في » سُعاد « ، فالتي في لفظها ليست للتأنيث ، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنَّث ، ولا يصحُّ تقدير التاء فيها؛ لأنَّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعةٌ من تقديرها ، كما لا تقدَّر تاء التأنيث في » بِنْتٍ « ؛ لأنَّ التاء التي هي بدلٌ من الواو؛ سبباً فيها ، فصار التنوين عنده للصَّرف .

وأجاب غيره من عدم امتناع صرفها : فأنَّ هذه اللَّفظة في الأصل اسمٌ لقطع كثيرة من الأرض ، كلُّ واحدة منها تسمى بعرفة ، وعلى هذا التَّقدير لم يكن علماً ، ثم جعلت علماً لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف .
والثالثك أنَّ جمع المؤنث ، إن كان مذكرٌ؛ كمسلمات ومسلمين ، فلتنوين للمقابلة ، وإلاَّ فللصَّرف؛ كعرفاتٍ .
والمشهور - حال التسمية به - إن يُنوَّن ويعرب بالحركتين : الضمة والكسرة؛ كما لو كان جمعاً ، وفيه لغةٌ ثانيةٌ : وهو حذف التنوين تخفيفاً ، وإعرابه بالكسرة نصباً ، والثالثة : أعرابه غير منصرف بالفتحة جرّاً ، وحكاها الكوفيُّون والأخفش ، وأنشد قول امرئ القيس : [ الطويل ]
1001 - تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرَعَاتَ وَأَهْلَهَا ... بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِي
بالفتح .
فصل
اعلم أنَّ اليوم الثَّامن من ذي الحجَّة يسمَّى يوم التَّروية ، والتَّاسع : يوم عرفة ، وقد تقدَّم تعليل يوم عرفة ، وأمَّا التَّريوة ففيه قولان :
أحدهما : ما تقدَّم من تروِّي إبراهيم - عليه السَّلام - في منامه ، من روَّى يروِّي تروية؛ إذا تفكَّر وأعمل فكره ورؤيَّته .
وقيل : إن آدم - عليه السلام - أمر ببناء البيت ، فلمَّا بناه تفكَّر فقال : رب ، إنَّ لكلِّ عاملٍ أجراً ، فما أجري على هذا العلم؟ قال : إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك . قال : رب زدني ، قال : لأغفرنّ لأولادك إذا طافوا به ، قال : رب زدني ، قال : أغفر لكلِّ من استغفر له الطَّائفون من موحدي أولادك . قال : حسبي يا ربِّ حسبي .
وقيل : إنَّ أهل مَّة يخرجون يوم التَّروية إلى منى فيروُّون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في الغد بعرفات .
الثاني : من رواه بالماء يرويه؛ إذا سقاه من عطشٍ ، فقيل : إن أهل مكَّة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق ، وكان الحاجُّ يستريحون في هذا اليوم من مشاقِّ السَّفر ، ويتسعون في الماء ، ويروون بهائمهم بعد قلَّة الماء في الطَّريق .
وقيل : إنهم يتزوَّدون الماء إلى عرفة .
وقيل : إنَّ المذنبين كالعطاش الَّذين وردوا بحار رحمة الله - تعالى - ، فشربوا منها حتى رووا .
فصل في فضل هذين اليومين
دلّ عليه قوله تعالى : { والشفع والوتر } [ الفجر : 3 ] ، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : « الشَّفْعُ » ؛ يوم التَّروية وعرفة ، والوتر يوم النَّحر .
وعن عبادة؛ أنه - عليه السّلام - قال : « صِيَامُ عَشْر الأضْحَى كُلُّ يومٍ مِنْها كالشَّهْرِ ، ولِمَن يَصُوم يَوْم التَّروية سَنَة ، وبصَوْم يوم عَرَفَة سَنَتَانِ »
وروى أنس عنه - عليه السلام -؛ قال : « مَنْ صَامَ يَوْمَ التَّرويَةِ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَثْلَ ثَوَابِ عِيسَى ابْنِ مَريمَ »

، وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء خمسة منها مختصَّة به ، وخمسة يشترك فيها مع غيره ، فالخمسة الأول :
أحدها : عرفة وتقدَّم اشتقاقه .
الثاني : يوم إياس الكفَّار من دين الإسلام؛ قال - تبارك وتعالى - : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً } [ المائدة : 3 ] .
قال عمر ، وابن عبَّاس : نزلت هذه الآية الكريمة عشيَّة عرفة ، والنَّبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة في موقف إبراهيم - عليه السلام - : ، وذلك في حجَّة الوداع وقد اضمحلَّ الكفر وهدم شأن الجاهليَّة ، فقال النبيُّ - عليه السلام - : « لو يَعْلَمُ النَّاسُ ما لَهُم في هذه الآية ، لقَّرَّت أَعْيُنُهُم » فقال يهوديُّ لعمر : لو أنَّ هذه الآية نَزَلَت عَلَيْنَا لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْم عِيداً ، فقال عُمَر : أمَّا نَحْنُ فَجَعَلْنَاهُ عيدين « ؛ كان يوم عَرَفَة ويَوم الجُمَعَة ، ومعنى إياس المشركين بأنَّهم يئسوا من قوم محمَّد - عليه السَّلام - أن يرتَدّوا [ راجعين ] إلى دينهم .
الثالث : يوم إكمال الدِّين؛ نزل فيه قول تعالى : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] فلم يأمرهم بعد ذلك بشيءٍ من الشَّرائع .
الرابع : يوم إتمام النِّعمة؛ لقوله فيه : { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [ المائدة : 3 ] وأعظم النِّعم نعمة الدِّين .
الخامس : يوم الرِّضوان؛ لقوله تعالى في ذلك اليوم : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً } [ المائدة : 3 ] .
أما الخمسة الأُخر .
فأحدها : يوم الحجِّ الأكبر؛ قال تعالى : { وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر } [ التوبة : 3 ] وهذا الاسم مشترك بينه وبين يوم النَّحر ، واختلف فيه الصَّحابة - رضي الله عنهم - والتابعون .
فمنهم من قالك إنَّه عرفة؛ لأنَّ فيه الوقوف بعرفة » والحَجُّ عَرَفَة « فإنَّه لو أدركه وفاته سائر مناسك الحجِّ ، أجزاء عنها الدَّم ، فلهذا سمِّي بالحَجِّ الأكبر .
وقال الحَسَن : سمِّي به؛ لأنه اجتمع فيه الكفَّار والمسلمون ، ونودي فيه على ألاَّ يحجَّ بعده مشرك .
وقال ابن سيرين : إنما سمِّي به؛ لأنَّه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلِّها؛ من اليهود والنَّصارى وحجِّ المسلمين ، ولم يجتمع قبله ولا بعده .
ومنهم من قالك إِنَّه يوم النَّحر؛ لأن فيه أكثر مناسك الحجِّ ، فأمَّا الوقوف فلا يجب في اليوم بل يجزئ باللَّيل .
وثانيها : الشَّفع .
وثالثهما : الوتر .
ورابعها : الشَّاهد .
وخامسها : المشهود في قوله تعالى : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } [ البروج : 3 ] .
فصل » في ترتيب أعمال الحج «
من دخل مكَّة محرماً في ذي الحجَّة أو قبله ، فإن كان مفرداً أو قارناً طاف طواف القدوم ، وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات وإن كان متمتِّعاً طاف وسعي وحلق ، وتحلَّل من عمرته ، وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفاتٍ ، وحينئذٍ يحرم من مكَّة بالحجِّ ويخرج ، وكذلك من أراد الحجَّ من أهل مكَّة ، والسُّنَّة أن يخطب الإمام بمكَّة يوم السَّابع من ذي الحجَّة ، بعد أن يصلِّي الظُّهر خطبة واحدة ، يأمرهم فيها بالذِّهاب غداً بعد صلاة الصُّبح إلى منى ، ويعلمهم تلك الأعمال ، ثم يذهبون يوم التَّروية وهو اليوم الثَّامن من ذي الحجَّة إلى منى ، بحيث يوافون الظُّهر بها ، ويصلُّون بها الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء والصُّبح من يوم عرفة ، فإذا طلعت الشَّمس على ثبيرٍ يتوجَّهون إلى عرفات ، فإذا دنوا منها فالسُّنَّة ألاَّ يدخلوها ، بل يضرب فيه الإمام بنمرة ، وهي قريبة من عرفة ، فينزلون هناك حتَّى نزول الشَّمس ، فيخطب الإمام خطبتين ، يبيِّن لهم مناسك الحجِّ ، ويُحرِّضهم على كثرة الدُّعاء والتَّهليل بالموقف ، فإذا فرغ من الخطبة الاولى ، جلس ثم قال ، وافتتح الخطبة الثَّانية والمؤذِّنون يأخذون في الأذان معه ، ويخفِّف بحيث يكون فراغه من الخطبة ، مع فراغ المؤذِّنين من الأذان ، ثم ينزل فيقيم المؤذِّنون فيصلِّي بهم الظُّهر ، ثم يقيمون في الحال ويصلِّي بهم العصر ، وهذا الجمع متفقٌ عليه ، فإذا فرغوا في الصَّلاة توجَّهوا إلى عرفاتٍ ، فيقفون عند الصَّخرات موقف النَّبي صلى الله عليه وسلم ويستقبلون القبلة ويذكرون الله - تعالى - ويدعونه إلى غروب الشَّمس .

وهنا الوقوف ركنٌ لا يدرك الحجُّ إلاّ به ، فمن فاته في وقته وموضعه ، فقد فاته الحجُّ ، ووقت الوقوف يدخل بزوال الشَّمس من يوم عرفة ، ويمتدُّ إلى طلوع الفجر من ليوم النَّحر ، وذلك نصف يوم وليلة كاملة ، فإذا حضر الحاجُّ هناك في هذا الموقف لحظة واحدة من ليل أو نهار ، كفاه .
قال القرطبيّ - رحمه الله تعالى - : أجمع أهل العلم على أنَّ من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزَّوال ، ثم أفاض منها قبل الزَّوال أنّه لا يعتدّ بوقوفه ذلك ، وأجمعوا على تمام حجِّ من وقف بعرفة بعد الزَّوال ، وأفاض نهاراً قبل اللِّيل إلاَّ مالك؛ فإنَّه قال : لا بدَّ أن يأخذ من اللَّيل شيئاً ، وأمَّا من وقف بعرفة باللَّيل ، فإنّه لا خلاف بين الأئمَّة في تمام حجِّه ، [ فإذا غربت الشَّمس ، دفع الإمام من عرفات وأخّر صلاة المغرب ] وعند أحمد - رضي الله عنه - وقت الوقوف من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر .
فصل
قال القرطبيّ : لا خلاف بين العلماء أنَّ الوقوف بعرفة راكباً لمن قدر عليه أفضل؛ لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، وعرفة كلها موقف إلاّ بطن عُرنَة .
قال : ولا بأس بالتَّعريف في المساجد يوم عرفة؛ تشبيهاً بأهل عرفة .
فصل
فإذا غربت الشَّمس دفع الإمام من عرفات ، وأخَّر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة .
وفي تسميتها بالمزدلفة أقوال :
أحدها : أنّهم يقربون فيها من منى ، والأزدلاف : القرب .
والثاني : أنّ النَّاس يجتمعون فيها ، والاجتماع الازدلاف .
والثالث : يزدلفون إلى الله - تعالى - ، أي : يتقربَّبون بالوقوف ، ويقال للمزدلفة : جمع؛ لأنَّه يجمع فيها بين المغرب والعشاء؛ قاله قتادة .
وقيل : إنّ آدم - عليه السلام - اجتمع فيها مع حوَّاء ، وازدلف إليها ، أي : دنى منها ، فإذا أتى الإمام المزدلفة ، جمع المغرب والعشاء بإقامتين ، ثم يبيتون بها ، فإن لم يبت بها فعليه دم [ شاة ] ، فإذا طلع الفجر ، صلُّوا الصُّبح بغلس ، والتَّغليس هنا أشدُّ استحباباً منه في غيره بالاتَّفاق ، فإذا صلُّوا الصبح ، أخذوا منها حصى الرَّمي ، كُلُّ إنسانِ سبعين حصاة ، ثم يذهبون إلى المشعر الحرام ، وهو جبل يقال له : « قزح » ، وسُمِّي مشعراًً؛ لأنَّه من الشِّعار وهو العلامة؛ لأنه معلم الحجِّ ، والصَّلاة والمبيت به ، والدعاء عنده من شعائر الحجِّ ، وسمِّي بالحرام لحرمته وهو أقصى المزدلفة مما يلي منى ، فيرقى عليه إن أمكنه ، أو يقف قريباً منه إن لم يمكنه ، وبحمده الله - تعالى - ويهلِّله ويكبّره إلى أن يسفر جداً ، ثم يدفع قبل طلوع الشَّمس ، ويكفي المرور كام في عرفة ، ثم يذهبون منه إلى وادي محسر ، فإذا بلغوا بطن محسر فمن كان راكباً ، حَرَّك دابته ، ومن كان ماشياً ، أسرع قدر رمية بحجر ، فإذا أتوا منى رموا جمرة العقبة في بطن الوادي بسبع حصيات ، يقطع التَّلبية مع ابتداء الرَّمي ، فإذا ذبح حلق رأسه ، أو قصَّر شعره بأن يقطع طرفه ، ثم يأتي إلى مكَّة بعد الحلق ، فيطوف بالبيت طواف الإفاضة ، ويسمّى طواف الزِّيارة ، ويصلي ركعتي الطَّواف ، ويسعى بين الصَّفا والمروة ، ثم يعود إلى منى في بقيَّة يوم النَّحر ، وعليه المبيت بمنى ليالي التَّشريق لأجل الرَّمي ، وسمِّيت « منى » لأنه يمنى فيه الدَّم ، أي : يراق ، فذا حصل الرَّمي والحلق والطَّواف ، فقد حلّ .

فصل
اعلم أنّ أهل الجاهليَّة كانوا قد غيَّروا مناسك الحجِّ عن سنَّة إبراهيم - عليه السلام - وذلك أنّ قريشاً وقوماً آخرين سمُّوا أنفسهم بالحمس ، وهم أهل الشَّدَّة في دينهم ، والحماسة الشِّدَّة ، يقال : رجل أحمس وقوم حمسٌ ، ثم إن هؤلاء كانوا لا يقفون في عرفاتٍ ، ويقولون : لا نخرج من الحرم ، ولا نتركه وقت الطَّاعة ، وكان غيرهم يقفون بعرفاتٍ والَّذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل غروب الشِّمس ، والذين يقفون بالزدلفة يفيضون إذا طلعت الشَّمس ، ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير ، ومعناه : أشرق يا ثبير بالشَّمس ، كيما نندفع من مزدلفة ، فيدخلون في غور من الأرض ، فأمر الله - تعالى - محمَّداً - عيله السَّلام - بمخالفة القوم في الدُّفعتين ، فأمره بأن يفيض من عرفة بعد المغرب ، وبأن يفيض من مزدلفة قبل طلوع الشَّمس ، فالسُّنَّة بيَّنت المراد من الآية الكريمة .
فصل
الآية دلَّت على وجوب ذكر الله عند المشعر الحرام ، عند الإفاضة من عرفات ، والإفاضة من عرفة مشروطة بالحصول في عرفة ، ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به وكان مقدوراً للمكلَّف ، فهو واجبٌ ، فدلَّت الآية الكريمة على أنَّ الحصول في عرفاتٍ واجبٌ في الحجِّ ، فإذا لم يأت به لم يكن آتياً بالحجِّ المأمور؛ فوجب ألاَّ يخرج عن العهدة ، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطاً .

أقصى ما في الباب : أنّ الحجَّ يحصل عند ترك بعض المأمورات بدليل منفصل ، إلاّ أنّ الأصل ما ذكرنا ، وذهب كثير من العلماء إلى أنّ الآية لا دلالة فيها على أنّ الوقوف شرطٌ ، ونقل عن الحسن أن الوقوف بعرفة واجبٌ ، إلاَّ أنه إن فاته ذلك ، قام الوقوف بجميع الحرم مقامه ، واتَّفق الفقهاء على أنّ الحجَّ لا يحصل إلاّ بالوقوف بعرفة .
قوله : { عِندَ المشعر الحرام } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب « اذْكُرُوا » .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حالٌ من فاعل « اذْكُرُوا » أي : اذكروه كائنين عند المشعر .
والمشعر : المعلم من الشِّعار وهو العلامة؛ لأنّه من معالم الحجِّ ، وأصله قولك : شعرت بالشَّيء إذا علمته ، وليت شعري ما فعل فلانٌ ، أي : ليت بلغه وأحاط به ، وشعار الشَّيء علامته ، واختلفوا :
فقال بعضهم : هو المزدلفة ، لأن الصَّلاة والمقام والمبيت بها ، والدُّعاء عنده ، قال الواحدي في البسيط .
وقال الزَّمخشري : الأصحُّ أنه قزح وهو آخر المزدلفة .
وقال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : والأول أقرب؛ لأنَّ الفاء في قوله : { فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } تدلُّ على أنّ الذِّكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات ، وما ذاك إلاّ البيتوتة بالمزدلفة .
فصل
قوله : { فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } يدلُّ على أن الحصول عند المشعر الحرام واجبٌ ، ويكفي فيه المرور به ، كما في عرفة ، فأمَّا الوقوف هناك فمسنون .
وروي عن علقمة والنَّخعي؛ أنّهما قالا : الوقوف بالمزدلفة ركنٌ بمنزلة الوقوف بعرفة ، لقوله تعالى : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } ، فإذا قلنا : بأن الوقوف بعرفة ركن وليس ذكره صريحاً في الكتاب ، وإنَّما وجب بإشارة الآية الكريمة أو بالسُّنَّة - فالمشعر الحرام فيه أمر جزمٌ .
وقال جمهور الفقهاء : ليس برِكن؛ لقوله - عليه السلام - : « الحَجُّ عَرَفَةُ ، فمن وقف بعرفة ، فقد تم حجُّه » وقوله « مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَة فَقَدْ أَدْرَك الحَجَّ ، ومن فاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الحَجُّ » ، وأيضاً فقوله تعالى : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } أمر بالذِّكر لا بالوقوف فالوقوف بالمشعر الحرام يقع للذِّكر ، وليس بأصلٍ ، وأمّا الوقوفَ بعرفة فهو أصلٌ؛ لأنه قال : { فإِذَآ أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ } ولم يقل عند الذكر بعرفاتٍ .
فصل
اختلفوا في الذِّكر المأمور به عند المشعر الحرام .
فقال بعضهم : هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء ، والصَّلاة تسمَّى ذكراً؛ قال تعالى : { وَأَقِمِ الصلاة لذكريا } [ طه : 14 ] ، وأيضاً فإنه أمر بالذِّكر هناك ، والأمر للوجوب ، ولا ذكر هناك يجب إلاَّ هذا .
وقال الجمهور : هو ذكر الله بالتَّسبيح والتَّحميد والتَّهليل .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : كان النّاس إذا أدركوا هذه اللَّيلة لا ينامون .

قوله : « كَمَا هَدَاكُمْ » فيه خمسة أقوال :
أحدها : أن تكون « الكَافُ » في محلّ نصبٍ نعتاً لمصدر محذوفٍ .
والثاني : أن تكون في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المقدَّر ، وهو مذهب سيبويه .
والثالثك أن يكون في محلِّ نصب على الحال من فاعل « اذْكُرثوا » تقديره : مشبهين لكم حين هداكم ، قال أبو البقاء : « ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ؛ لأنَّ الجُثَّة لا تشبه الحدث » .
ومثله : « كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ » الكاف نعت لمصدر محذوف .
قال القرطبيّ : والمعنى : « اذْكُرُوه ذكْراً حسناً كما هَدَاكُمْ هَدَاية حَسنَة » .
الثالث : أن يكون حالاً ، تقديره : فاذكروا الله مبالغين .
والرابع : للتعليل بمعنى اللام ، أي : اذكروه لأجل هدايته إيَّاكم ، حكى سيبويه رحمه الله : « كَمَا أنَّهُ لاَ يَعْلَمُ ، فتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ » . وممَّن قال بكونها للعلِّيَّة الأخفش وجماعةٌ .
و « مَا » في « كَمَا » يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون مصدريةً ، فتكون مع ما بعدها في محلِّ جر بالكاف ، أي : كهدايته .
والثاني - وبه قال الزمخشريُّ وابن عطية - أن تكون كافَّةً للكاف عن العمل ، فلا يكون للجملة التي بعدها محلٌّ من الإعراب ، بل إن وقع بعدها اسم ، رفع على الابتداء كقول القائل : [ الطويل ]
1002 - وَنَنْصًرُ مَوْلاَنَا ونَعْلَمُ أَنَّهُ ... كَمَا النَّاسُ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ
وقال آخر : [ الوافر ]
1003 - لَعَمْرُكَش إنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ ... كَمَا النَّشْوَانُ والرَّجُلُ الْحَلِيمُ
أُرِيدُ هِجَاءَهُ وَأَخَافُ رَبِّي ... وَأَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ لَئِيمٌ
وقد منع صاحب « المُسْتَوْفى » كون « مَا » كافةً للكاف ، وهو محجوجٌ بما تقدّم .
والخامس : أن تكون الكاف بمعنى « عَلَى » ؛ كقوله : { وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] .
فإن قيل : قوله تعالى : { واذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } ثم قال : « وَاذْكُرُوهُ » فما فائدة هذا التَّكرار؟
فالجواب من وجوهٍ :
أحدها : أنّ أسماء الله - تعالى - توقيفيَّة؛ فقوله أولاً : { واذكروا الله } أمر بالذِّكر ، وقوله تعالى : { واذكروه كَمَا هَدَاكُم } أمر بأن نذكره بالأسماء والصِّفات التي بيَّنها لنا وهدانا إليها ، لا بأسماء تذكر بحسب الرَّأي والقياس .
وقيل : أمر بالذِّكر أولاً ، ثم قال : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } ، أي : وافعلوا ما أمركم به من الذِّكر كما هداكم لدين الإسلام ، كأنّه قال : إنَّما أمرتكم بهذا الذِّكر؛ لتكونوا شاكرين لتلك النِّعمة ، ونظيره ما أمرهم به من التكبير عند فراغ رمضان ، فقال : { وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] ، وقال في الأضاحي : { كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } [ الحج : 37 ] .
وقيل : أمر أولاً بالذِّكر باللِّسان ، وثانياً بالذِّكر بالقلب ، فإن الذكر في كلام العرب ضربان :
أحدهما : الذِّكر ضد النِّسيان .
والثاني : الذِّكر بالقول .
فالأول : كقوله : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ] .
والثاني : كقوله : { فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } [ البقرة : 200 ] ، و

{ واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } [ البقرة : 203 ] فالأول محمول على الذِّكر باللِّسان ، والثاني على الذكر بالقلب .
وقال ابن الأنباري : معنى قوله : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } أي : اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته .
وقيل : المراد مواصلة الذكر بالذِّكر؛ كأنه قيل لهم : اذكروا الله واذكروه ، أي : اذكروه ذكراً بعد ذكر؛ كما هداكم هداية بعد هداية ، نظيره قوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } [ الأحزاب : 41 ] .
وقيل : المراد بالذكر الأول : ذكر الله بأسمائه وصفاته الحسنى ، والمراد بالثاني : الاشتغال بشكر نعمائه والشُّكر مشتمل أيضاً على الذِّكر .
فصل
قال بعضهم : إن هذه الهداية خاصَّة ، والمراد : كما هداكم في مناسك حجِّكم إلى سنَّة إبراهيم - عليه السلام - .
وقال بعضهم : بل هي عامَّة متناولة لكل أنواع الهدايات .
قوله : { وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين } : « إنْ » هذه هي المخفَّفة من الثقيلة ، واللام بعدها للفرق بينهما وبين النافية ، وجاز دخول « إنْ » على الفعل؛ لأنه ناسخٌ ، وهل هذه اللام لام الابتداء التي كانت تصحب « إنَّ » ، أو لامٌ أخرى غيرها؛ اجتلبت للفرق؟ قولان هذا رأيُ البصريِّين .
وأمَّا الكوفيون فعندهم فيها خلاف : فزعم الفرّاء أنها بمعنى « إنْ » النافية ، واللام بمعنى « لاَّ » ، أي : ما كنتم من قبله إلاَّ من الضالِّين ، ومذهب الكسائيِّ التفصيل : بين أن تدخل على جملةٍ فعليَّة ، فتكون « إنْ » بمعنى « قَدْ » ، واللاَّم زائدةً للتوكيد؛ كقوله : { وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين } [ الشعراء : 186 ] ، وبين أن تدخل على جملةٍ ، كقوله : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] ؛ فتكون كقول الفرَّاء .
و « مِنْ قَبْلِهِ » متعلِّقٌ بمحذوفٍ يدلُّ عليه « لَمِنَ الضَّالِّينَ » ، تقديره : كنتم من قبله ضالِّين لمن الضَّالِّين ، ولا يتعلَّق بالضالِّينَ بعده؛ لأنَّ ما بعد « أَلِ » الموصولةِ ، لا يعمل فيما قبلها ، إلا على رأي من يتوسَّع في الظرف ، والهاء في « قَبْلِهِ » عائدةٌ على « الهُدَى » المفهوم من قوله « كَمَا هَدَاكُمْ » .
وقيل : تعود إلى القرآن ، والتقدير : واذكروه كما هداكم ، بكتابه الذي بيَّن لكم معالم دينه ، وإن كنتم من قبل إنزاله عليكم من الضَّالِّين .
وقيل : إلى الرَّسول .

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)

استشكل الناس مجي « ثُمَّ » هنا؛ من حيث إنَّ الإفاضة الثانية هي الإفاضة الأولى؛ لأنَّ قريشاً كانت تقف بمزدلفة ، وسائر الناس بعرفة ، فأمروا أن يفيضوا من عرفة كسائر الناس ، فكيف يجاء ب « ثُمَّ » التي تقتضي الترتيب والتراخي؟ والجواب من وجوهٍ :
أحدها : أنَّ الترتيب في الذِّكر ، لا في الزمان الواقع فيه الأفعال ، وحسَّن ذلك؛ أن الإفاضة الأولى غير مأمور بها ، إنما المأمور به ذكر الله ، إذا فعلت الإفاضة .
ثانيها : أن تكون هذه الجملة معطوفةً على قوله : { واتقون ياأولي الألباب } ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، وهو بعيدٌ .
ثالثها : أن تكون « ثُمَّ » بمعنى الواو ، قال بعض النُّحَاةِ : فهي لعطف كلامٍ منقطع من الأول .
قال بعضهم : وهي نظير قوله تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ } [ البلد : 12 ، 13 ] إلى قوله : { ثُّمَّ كّانَ } [ البلد : 17 ] ، أي : كان مع هذا من المؤمنين ، وفائدة « ثُمَّ » ههنا : تأخُّر أحد الخبرين عن الآخر ، لا تأخّر المخبر عنه [ عن ذلك المخبر عنه ] .
رابعها : أن الإفاضة الثانية هي من جمع إلى منى ، والمخاطبون بها جميع الناس ، قاله الضَّحَّاك ، ورجَّحه الطبريُّ ، وهو الذي يقتضيه ظاهر القرآن ، فتكون « ثُمَّ » على بابها ، قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلتَ : كيف موقعُ » ثُمَّ « ؟ قلتُ : نحو موقِعها في قولك : أَحْسِنْ إلَى النَّاسِ ، ثُمَّ لاَ تُحْسِنْ إلَى غَيْرِ كَريمٍ » تأتي ب « ثُمَّ » ؛ لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم ، والإحسان إلى غيره ، وبُعد ما بينهما ، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات ، قال : { ثُمَّ أَفِيضُواْ } لتفاوت ما بين الإفاضتين ، وأنَّ إحداهما صواب والثانية خطأ « قال أبو حيَّان : » وليستِ الآية نظيرَ المثال الذي مَثَّلَهُ ، وخاصل ما ذكر أن « ثُمَّ » تسلب الترتيب ، وأنَّ لها معنى غيره سمَّاه بالتفاوت ، والبعد لما بعدها عمَّا قبلها ، ولم يذكر في الآية إفاضة الخطأ حتَّى تجيء « ثُمَّ » لتفاوت ما بينهما ، ولا نعلم أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى ل « ثُمَّ » قال شهاب الدين - رحمه الله تعالى - : وهذا الذي ناقش الزمخشريَّ به تحاملٌ عليه ، فإنه يعني بالتفاوت والبعد التراخي الواقع بين الرتبتين ، وسيأتي له نظائر ، وبمثل هذه الأشياء لا يردُّ بها على مثل هذا الرجل .
و « مِنْ حَيْثُ » متعلِّقٌ ب « أَفِيضُوا » ، و « مِنْ » لابتداء الغاية ، و « حَيْثُ » هنا على بابها من كونها ظرف مكانٍ ، وقال القفَّال : « هي هنا لزمان الإفاضة » وقد تقدَّم أن هذا قول الأخفش ، وتقدَّم دليله ، وكأن القفال رام بذلك التغاير بين الإفاضتين؛ ليقع الجواب عن مجيء « ثُم » هنا ، ولا يفيد ذلك؛ لأن الزَّمان يستلزم مكان الفعل الواقع فيه .

و { أَفَاضَ الناس } في محلِّ جرِّ بإضافة « حَيْثُ » إليها ، والجمهور على رفع السِّين من « النَّاسُ » . وقرأ سعيد بن جبيرٍ : « النَّاسِي » وفيها تأويلان :
أحدهما : أنه يراد به آدم - عليه السَّلام - بقوله : « فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً » .
والثاني : أنيراد به التارك للوقوف بمزدلفة ، وهم جمع النَّاس ، فيكون المراد ب « النَّاسِي » جنس الناسين ، قال ابن عطيَّة : « ويجوز عند بعضهم حذف الياء ، فيقول : » النَّاسِ « بكسر السِّين ، فاكتفى بالكسرة عن الياء ، وبها قرأ الزُّهريُّ؛ كالقاص والهاد؛ قال : أمّا جوازه في العربية ، فذكره سيبويه وأمّا جوازه قراءةً ، فلا أحفظه . قال أَبو حيان : لم يجز سيبويه ذلك إلا في الشِّعر ، وأجازه الفرَّاء في اكلام ، وأمَّا قوله : » لَمْ أَحْفَظْهُ « ، فقد حفظه غيره ، حكاها المهدويُّ قراءةً عن سعيد بن جبير أيضاً .
فصل في المراد بالإفاضة
في الآية الكريمة قولان :
الأول : أنّ المراد بهذه الإفاضة من عرفات .
قال المفسِّرون : كانت قريش وحلفاؤها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة ، ويقولون : نحن أهل الله وقطَّان حرمه ، فلا نخرج من الحرم ، ويستعظمون أن يقفوا مع النَّاس بعرفاتٍ ، وسائر العرب كانوا يقفون بعرفاتٍ ، فإذا أفاض النَّاس من عرفات ، أفاض الحمس من المزدلفة ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية الكريمة ، وأمرهم أن يقفوا بعرفات وأن يفيضوا منها كما يفعله سائر النَّاس ، والمراد بالنَّاس : العرب كلُّهم غير الحمس .
وقال الكلبي : هم أهل اليمن وربيعة ، وروي أنَّه - عليه السلام - لمّا جعل أبا بكرٍ أميراً في الحجِّ ، أمره بإخراج النَّاس إلى عرفتٍ ، فلمّا ذهب مرّ على الحمس وتركهم ، فقالوا له : إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب ، فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر رسول الله إلى عرافتٍ ، ووقف بها وأمر سائر النَّاس بالوقوف بها ، وقال بعضهم : » أفِيضُوا « أمر عامٌّ لكلِّ النَّاس .
وقوله : { حَيْثُ أَفَاضَ الناس } المراد : إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - كان يقف في الجاهليَّة بعرفة كسائر النَّاس ويخالف الحمس .
وقال الضَّحَّاك : النَّاس ههنا إبراهيم وحده ، وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً يقتدى به ، وهو كقوله - تبارك وتعالى - : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } [ آل عمران : 173 ] يعني به : نعيم ابن مسعود ، { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] يعني أبا سفيان ، وهو مجاز مشهور؛ ومنه قوله : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] .
وقال القفَّال : قوله : { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } [ عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفاتٍ ، وأنَّه هو الأمر القديم وما سواه فهو مبتدع محدث؛ كما يقال : هذا ممَّا فعله النَّاس قديماً .
وقال الزَّهريّ : إنّ المراد من النَّاس في هذه الآية : آدم - عليه السلام -؛ واحتج بقراءة سعيد بن جبير المتقدِّمة .

القول الثاني - وهو اختيار الضحَّاك ورجَّحه الطَّبري - : أنّ المراد بهذه الإفاضة ، هي الإفاضة من مزدلفة إلى منى يوم النَّحر ، قبل طلوع الشمس للرَّمي والنَّحر .
وقوله : { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } ] المراد : إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما .
قوله : { واستغفروا الله } اسْتَغْفَرَ « يتعدَّى لاثنين ، ولهما بنفسه ، والثاني ب » مِنْ « ؛ نحو : استغفرت الله من ذنبي ، وقد يحذف حرف الجر؛ كقول القائل : [ البسيط ]
1004 - أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ العِبَادِ إِلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ
هذا مذهب سيبويه - رحمه الله - وجمهور النَّاس .
وقال ابن الطَّراوة : إنه يتعدَّى إليهما بنفسه أصالة ، وإنما يتعدَّى ب » مِنْ « ؛ لتضمنه معنى ما يتعدَّى بها ، فعنده » اسْتَغْفَرْتُ اللَّهُ مِنْ كَذَا « بمعنى تبت إليه من كذا ، ولم يجىء : » اسْتَغْفَرَ « في القرآن الكريم متعدِّياً إلاَّ للأول فقط ، فأمَّا قوله تعالى : { واستغفر لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] { واستغفر لِذَنبِكَ } [ يوسف : 29 ] { فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 135 ] فالظاهر أنَّ هذه اللام لام العلَّة ، لا لام التعدية ، ومجرورها مفعول من أجله ، لا مفعول به . وأمَّا » غَفَر « فذكر مفعوله في القرآن تارةً : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } [ آل عمران : 135 ] ، وحذف أخرى : { وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } [ المائدة : 40 ] . والسين في » اسْتَغْفَرَ « للطلب على بابها ، والمفعول الثاني هنا محذوف للعلم به ، أي : من ذنوبكم التي فرطت منكم .
فإن قيل : أمرٌ بالاستْغفارِ مطلقاً ، وربما كان فيهم من لم يُذِنبْ ، فحينذٍ لا يحتاجُ إلى الاسْتِغْفار .
فالجواب : أنّه غن كان مُذْنِباً ، فالاستِغْفار واجِب ، وإم لم يُذْنِب ، فيجوز من نفْسِه صدور التَّقْصِير في أداء الواجِبات ، والحتِراز عن المَحْظُوراتِ؛ فيجب عليه الاسْتِغْفار تَدَارُكاً لذلك لخَلَلِ المُجَوَّز ، وهذا كالمُمْتَنِنِع في حَقِّ البَشَر .
فصل
واختلف العلماء - رضي الله عنهُم - في هذه المَغْفرة الموعُودة .
فقال بعضهم : إنّها عند الدَّفع من عَرَفَاتِ إلى جمع .
وقال آخرون : إنها عند الدَّفْع من جَمْع إلى مِنىً ، وهذا مَبْنِيٌّ على الخِلاَف المُتَقَدِّم في قوله : » ثُمَّ أَفِيضُوا « على أيّ الأَمْرَين يحمل .
قال القفّال - رحمه اللَّهُ - ويتأكَّد الثَّانِي بما رَوَى نَافِعٌ عن ابن عُمَر؛ قال : » خَطَبنا رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عشِيَّة عَرَفَة؛ فقال : « يا أيُّها النَّاسُ إن يَطَّلعُ الله عَلَيْكُم في مَقَامِكُم هذا ، فَقَبِل من مُحْسِنِكُم ، ووهب مُسِيئَكُم لمُحْسِنِكُم ، والتَّبِعَاتُ عوَّضهَا من عنده ، أفيضُوا على اسْم الله تعالى » قال أصحابُه : يا رسُول الله ، أَفَضْتَ بنا بالأَمْسِ كَئِيباً حزِيناً ، وأَفضتَ بنا اليَوْمَ فَرِحاً مَسْرُوراً ، فقال عليه السَّلام - « إنّي سَأَلْت ربِّي - عزَّ وجل - بالأمْس شَيئاً لم يَجُدْ لي به : سأَلْتُه التَّبِعَات فَأَبَى عَلَيَّ ، فلمّا كَانَ اليَوْم أَتَى جِبْرِيلُ - عليه السّلام - فقال : إنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلام ويقول : التبِعَات ضَمِنْتُ عِوَضَهَا من عِنْدِي » والله أعلم .

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

اعلم أن « قَضَى » إذا عُلِّق بفعل النَّفْس ، فالمرادُ منه الإِتْمَام والفَرَاغ؛ كقوله تعالى : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 12 ] { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة } [ الجمعة : 10 ] ، وقوله - عليه السلام - : « وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا » ، ويقال للحَاكِم عند فصل الخُصُومَةِ ، قَضَى بينهما . وإذا عُلِّق على فِعْل الغَيْر ، فالمراد به الإِلْزَام ، كقوله : { وقضى رَبُّكَ } [ الإسراء : 23 ] وإذا اسْتُعْمِل في الإعلامِ ، فالمراد أيضاً كذلك؛ كقوله : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الإسراء : 4 ] ، أي : أعْلَمْنَاهُم ، وهذه الآية الكريمة من القِسم الأوَّل .
وقال بعضهم : يحتمل أن يكون المُرَادُ : اذكُرُوا الله عِنْد المَنَاسِك ، ويكون المُرَادُ من هذا الذَّكرِ : ما أُمروا به من الدُّعَاءِ بعَرَفاتٍ والمشعر الحَرَام والطَّواف والسَّعي؛ كقول القائل : إذا حَجَجْتَ فَطُف وقف بعرَفَة ، ولا يُريد الفراغ من الحَجِّ ، بل الدُّخُول فيه ، وحَمَلهُم التَّأْويل صيغة الأَمر .
والمَنَاسِكُ ، جمعُ « مَنْسِكٍ » بفتح السين وكسرِها ، وسيأتي تحقيقُها ، وقد تقدَّم اشتقاقها قريباً ، والقُرَّاء على إظهار هذا ، ورُوِي عن أبي عمرو الإِدغامُ ، قالوا : شَبَّه حركة الإِعرابِ بحركةٍ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام ، وأدغم أيضاً « مَنَاسِككمْ » ولم يُدْغِمْ ما يُشْبِهُهُ من نحو : { جِبَاهُهُمْ } [ التوبة : 35 ] و { وُجُوهُهُمْ } [ آل عمران : 106 ] .
قال بعض المُفسِّرين : إن جعلها جمع « مَنْسَك » الذي هو المَصْدَر بمنزلة النُّسُك ، فالمراد : إذا قضيتم عبادتكُم الَّتِي أُمِرْتُمْ بها في الحَجِّ ، وإن جَعَلْتَها جمع « مَنْسَك » الذي هو مَوْضع العِبادة ، فالتَّقدير : فإذا قَضَيْتُم أعمال مناسِكِكُم ، فيكون من باب حَذْفِ المُضَاف .
إذا عُرِفَ هذا؛ فنقول : قال بعضهم : المراد بالمَنَاسِكِ ما أَمَر الله - تعالى - به في الحَجِّ من العِبَادَاتِ ، وقال مُجاهد : قضاء المَنَاسِكِ : إراقَةُ الدِّمَاء ، يقال : أنسَك الرجل يَنْسُك نُسْكاً ، إذا ذبح نسِيكته بعد رَمْي جمرة العقبة والاستقرار بمِنىً ، والفَاءُ في قوله : { اذكروا الله } تدلُّ على أنَّ الذَّكْر يجب عقيب الفراغ من المَنَاسِك؛ فلذلك اخْتَلَفُوا .
فمنهم من حمله على التكبير بعد الصَّلاَة يَوْم النَّحْر وأَيَّام التَّشْريق - على حسبِ اختِلاَفهم في وقته - أن بعد الفراغ من الحَجَّ لا ذِكْر مَخْصُوص إلاَّ التكبِير .
ومنهم من قال : بل المُراد تحويلُ القَوْم عمّا اعتَادُوهُ بعد الحَجِّ من التَّفَاخُر بالآباء؛ لأنه تعالى لم يم يَنءه عنه بهذه الآية الكريمة ، لم يَعْدلُوا عن هذه الطَّرِيقة .
ومنهم من قال : بل المُراد منه أنّ الفَراغَ من الحَجِّ يوجِبُ الإِقبَال على الدَّعاء والاستغفار؛ كما أن الإِنْسَان بعد الفَراغ من الصَّلاة يُسَنُّ أن يشتغل بالذِّكر والدُّعاء .
قوله : { كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } الكافُ كالكاف في قوله { كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] إلاَّ في كونها بمعنى « عَلَى » أو بمعنى اللام ، فَلْيُلتفتْ إليه ، والجمهورُ على نصب « آبَاءَكُمْ » مفعولاً به ، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل ، وقرأ محمدُ بنُ كعبٍ : « آبَاؤكُمْ » رفعاً ، على أنَّ المصدرّ مضافٌ للمفعولِ ، والمعنى : كما يَلْهَجُ الابنُ بذكر أبيه ، ورُوِيَ عنه أيضاً : « أَبَاكُمْ » بالإِفراد على إرادة الجنسِ ، وهي توافِقُ قراةَ الجماعة في كونِ المصدر مضافاً لفاعله ، ويَبْعُدُ أن يقال : هو مرفوعٌ على لغةِ مَنء يُجْرِي « أَبَاكَ » ونحوَهُ مُجْرَى المقْصورِ .

فصل
قال جمهور المُفسِّرين : إن القوم كانوا بعد الفراغ من الحَجِّ يبالِغُوا في الثَّنَاءِ على آبَائِهِم وفي ذكر مَناقِبهم ، فقال تعالى : { فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } ، أي : فاجهَدُوا في الثَّنَاء على الله وشرح الآية ، كما بذلتم جَهْدَكم في الثَّناء على آبَائِكم .
وقال الضَّحَّاك والرَّبيع : اذكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم وأمَّهَاتكم ، واكتفى بذكر الآباءِ ، كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] قالوا : وهو قول الصَّبيِّ أول ما يُفصح للكلام أَبَه أَبَه أُمَّه أُمَّه ، أي : كونوا مُوَاظِبين على ذِكْرِ الله؛ كمواظَبَة الصَّغير على ذِكْر أ [ يه وأمِّه .
وقال أبو ملسم : أجرى ذِكر الآباء مثلاً لدوام الذكْرِ ، أي : كما أنّ الرَّجُل لا يَنْسَى ذكر أبيه ، فكذلك يَجِبُ ألاّ يَغْفَل عن ذِكْر الله - تعالى - .
وقال ابن الأَنْباري : كانت العرب في الجَاهِليَّة تكثِر من القَسَم بالآباءِ والأَجْدَادِ؛ فقال تعالى : عَظِّمُوا الله كَتَعْظِيم آبَائكُم .
وقيل : كما أنّ الطِّفْل يرجع إلى أبِيه في طَلَبِ جميع مُهِمَّاتِه ، ويكون ذَاكِراً له بالتَّعظِيم فكُونُوا أنتم في ذِكْر الله كذلك .
وقيل : يُحْتَمل أنّهم كَانُوا يّذْكُرون آباءَهُم؛ ليتَوسَّلُوا بذكرهم إلى إجابة الدُّعَاء ، فعرَّفَهُم الله - تعالى - أنّ آباءَهُمْ لَيْسَوا في هذه الدَّرَجَة؛ إذ أَفْعَالُهم الحَسَنة مُحْبَطة بشِرْكِهِم .
وسُئِل ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - عن قوله تعالى : { فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } ، فقيل : يأتي على الرَّجُل اليَوْم لا يذكُر فيه أَبَاهُ .
قال ابن عبَّاس : ليس كذلك؛ ولكن هو أن تَغْضَب لله إذا عُصِيَ ، أَشَدَّ من غَضَبِك لوَالِدَيْك إذا ذُكِرا بِسوءٍ .
قوله : { أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } يجوزُ في « أَشَدَّ » أن يكونَ مجروراً ، وأَنْ يكونَ منصوباً : فأمّا جَرُّه ، فذكروا فيه وجهين :
أحدهما : أن يكونَ مجروراً عطفاً على « ذِكْركم » المجرورِ بكافِ التشبيه ، تقديرُهُ : أو كَذِكْر أَشَدَّ ذِكْراً ، فتجعلُ للذكر ذِكْراً مجازاً ، وإليه ذهب الزَّجَّاج ، وتبعه أبو البقاء - رضي الله عنه - وابن عَطيَّة .
والثَّاني : أنه مجرورٌ عطفاً على المخْفُوض بإضافة المَصْدر إليه ، وهو ضميرُ المخاطبين ، قال الزمخشريُّ : أَوْ أَشَدَّ ذكِراً في موضِع جرٍّ عَطْفاً على ما أُضيفَ إليه الذكْرُ في قوله : { كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } ؛ كما تقول : « كَذِكْرِ قُرَيْش آباءَهُمْ أو قَوْم أَشَدَّ منْهُمْ ذِكْراً » وهو حَسَنٌ ، وليس فيه تَجَوُّزٌ بأَنْ يُجْعَلَ لِلذكرِ ذِكْرٌ؛ لأنه جَعَلَ « أَشَدٌّ » من صفات الذَّاكرِينَ ، إلا أن فيه العَطْفَ على الضَّميرِ المجْرُورِ من غير إعادة الجارِّ ، وهو ممنوعٌ عند البَصْريين ، ومَحَلُّ ضرورة .
وأمَّا نصبُه فمن أوجهٍ :
أحدُها : أن يكونَ معطوفاً على « آباءَكُمْ » قال الزمخشريُّ ، فإنه قال : « بمعنى أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً مِنْ آبَائِكُم » ؛ إلى أنَّ « ذِكْراً » من فِعْلِ المذكور هو كلامٌ يَحْتاجُ إلى تفسير ، فقولُه : « هو معطُوفً على آبَاءَكُمْ » : معناه أنك إذا عَطَفْتَ « أَشَدَّ » على « آبَاءَكُمْ » ، كان التقديرُ : أو قوماً أشدَّ ذِكْراً من آبائِكُمْ ، فكان القومُ مذكورِينَ ، والذكرُ الذي هو تمييزٌ بعد « أَشَدَّ » هو من فِعْلهم ، أي : من فعلِ القوم المذكُرِين؛ لأنه جاء بعد « أَفْعَلَ » الذي هو صفةٌ للقوم ، ومعنى « مِنْ آبَائِكُمْ » أي من ذكرِكم لآبائِكُمْ ، وهذا أيضاً ليس فيه تجوزٌّ بأنْ جُعِل الذِّكْرُ ذَاكِراً .

الثاني : أن يكونَ مَعْطُوفاً على محلِّ الكاف في « كَذِكْرِكُم » ؛ لأنها عندهم نعتٌ لمصدر محذوف ، تقديرُه : « ذِكْراً كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ » وجَعَلُوا الذِّكْرَ ذاكراً مجازاً؛ كقولهم : شِعْرٌ شَاعِرٌ ، وهذا تخريج أبي عَلِيٍّ وابن جنِّي .
الثالث : قاله مَكّيٌّ : أن يكونَ منصوباً بإضمار فِعْلٍ ، قال : تقديرُه : « فاذْكرُوهُ ذِكْراً أَشَدَّ من ذِكرِكُمْ لآبائكم » ؛ فيكونَ نعتاً لمصدر في موضع الحالِ ، أي : اذكُرُوهُ بَالِغِينَ في الذِكْرِ .
الرابع : أن يكونَ مَنْصُوباً بإضمار فعْلِ الكَوْن ، قال أبو البقاء : « وعِنْدِي أنَّ الكلاَمَ محمولٌ على المَعْنى ، والتقدير : أو كُونُوا أَشَدَّ لِلَّهِ ذِكْراً منكم لآبائِكُمْ ، ودلَّ على هذا المعنى قولُه : { فاذكروا الله } أي : كونوا ذَاكِريهِ ، وهذا أسهلُ مِنْ حَمْلِه على المَجَاز » يعنى المجازَ الذي تقدَّم ذِكْرُهُ عن الفارسيِّ وتلميذه .
الخامس : أن يكون « أَشَدَّ » نَصْباً على الحال مِنْ « ذِكْراً » ؛ لأنه لو تأخَّرَ عنه ، لكان صفةٌ له؛ كقوله : [ مجزوء الوافر ]
1005 - لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ ... يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ
« مُوحِشاً » حالٌ من « طَلَل » ؛ لأنَّه في الأصل صفةٌ ، فلما قُدِّم تعذَّر بقاؤه صفةً ، فَجُعِلَ حالاً ، قاله أبو حيَّانّ - رحمه الله تعالى - ، فإنه قال بعد ذكْره ثلاثةَ أوجه لنصبه ، ووجهين لجَرِّه : « فهذه خمسةُ أوجه كلُّها ضعيفةٌ ، والذي يتبادر إلى الذِّهْنِ في الآية أنهم أُمِرُوا بأَنْ يَذْكُروا الله ذِكْراً يُمَاثِلُ ذِكْرَ آبائِهِم ، أَوْ أَشَدَّ ، وقد ساغ لنا حَمْلُ هذه الآية الكريمة لعيه بوجهٍ ذُهِلُوا عنه » ، فَذَكَر ما تقدَّم ، ثم جَوَّز في « ذِكْراً » - والحالةُ هذه - وجْهَين :
أحدهما : أن يكونَ معطوفاً على مَحَلِّ الكاف في « كِذِكْرِكُمْ » ، ثم اعترضَ على نفسِه في هذا الوجه؛ بأنه يلزم منه الفصلُ بين حرفِ العطف ، وهو « أَوْ » وبين المعطوف وهو « ذِكْراً » بالحال ، وهو « أَشَدَّ » ، وقد نصَّ النحويون على أن الفصْلَ بينهما لا يجوز إلا بشرطَيْن :
أحدهما : أن يكون حرفُ العطفِ أكثرَ من حرفٍ واحد .

والثاني : أن يكونَ الفاصلُ قَسَماً ، أو ظَرْفاً أو جَارّاً ، وأحدُ الشرطَيْنِ موجودٌ ، وهو الزيادةٌ على حرِفٍ ، والآخرُ مفقودٌ ، وهو كونُ الفاصل ليس أحدَ الثلاثةِ المتقدِّمة ، ثم أجابَ بأن الحالَ مقدَّرةٌ بحرفِ الحر وشَبَّهه بالظرفِ ، فَأُجْرِيَت مُجْرَاهُمَا .
والثاني : من الوجْهَيْن في « ذِكْراً » أن يكونَ مصدراً لقوله : « فَاذْكُرُوا » ، ويكون قوله : « كَذِكْرِكُمْ » في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ « ذِكْراً » ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له ، فلما قُدِّمتْ ، كانَتْ في محلِّ حالٍ ، ويكون « أَشَدَّ » عطفاً على هذه الحال ، وتقديرُ الكلامَ « » فاذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَذِكْرِكُمْ ، أي : مُشْبِهاً ذِكْرَكُمْ أَو أَشَدَّ « ؛ فيصيرُ نظيرَ : » اضْرِبْ مِثْلَ ضَرْبِ فُلاَنِ أَوْ أَشَد « الأصل : اضْرِبْ ضَرْباً مِثْلَ ضَرْبِ فُلاَنِ أَوْ أَشَدَّ .
و » ذِكْراً « تمييزٌ عند غير الشَّيح كما تقدَّم ، واستشْكَلُوا كونَه تمييزاً منصوباً؛ وذلك أن أفعلَ التفضيل يجب أن تُضَاف إلى ما بعدها ، إذا كان مِنْ جنسِ ما قبلها؛ نحو : » وَجْهُ زَيْدٍ أَحْسَنُ وَجْهٍ « ، » وعِلْمُهُ أَكْثَرُ عِلْم « وإنْ لم يكن مِنْ جنسِ ما قبلها ، وجَبَ نصبُه؛ نحو : » زَيْدٌ أَحْسَنُ وَجْهاً ، وخَالِدٌ أَكْثَرُ عِلْماً « ، إذا تقرَّر ذلك ، فقوله : » ذِكْراً « هو من جنس ما قبلها ، فعلَى ما قُرِّر ، كان يقتضي جَرَّه ، فإنه نظيرُ : » اضْرِبْ بَكْراً كَضَرْبِ عَمْرٍو زَيْداً أَوْ أَشَدَّ ضَرْبٍ « بالجرِّ فقط . والجوابُ عن هذا الإِشكالِ مأَخوذٌ من الأوجه المتقدِّمة في النصب والجر المذكورَيْن في » أَشَدَّ « ؛ من حيث أن يُجْعَلَ الذِّكْرُ ذاكراً مجازاً؛ كقولهم : » شِعْرٌ شَاعِرٌ « ؛ كما قال به الفارسيُّ وصاحبُه ، أو يُجْعَلَ » أَشَدَّ « من صفاتِ الأعيان ، لا من صفاتِ الإِذكار؛ كما قال به الزمخشريُّ ، أو يُجْعَلَ » أَشَدَّ « حالاً من » ذكْراً « أو ننصبّه بفعْلٍ و » أو « هنا قيل للإِباحةِ ، وقيل للتخيير ، وقيل : بمعنى بَلْ ، وهو قول أكثر المفسِّرين .
قوله : { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا } » مَنْ « مبتدأٌ ، وخبرُه في الجارِّ قبله ، ويجوز أن تكونَ فاعلةً عند الأخفش ، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً ، وفي هذا الكلام التفاتٌ؛ إذ لو جَرَى على النسقِ الأولِ ، لقيل : » فَمِنْكُمْ « ، وحَمِل على معنى » مَنْ « ؛ إذ جاء جَمْعاً في قوله : » رَبِّنَا آتِنَا « ، ولو حُمِل على لفظِها ، لقال » رَبِّ آتِني « .
وفي المفعول الثاني ل » آتِنَا « - لأنه يتعدَّى لاثْنَيْنِ ثانيهما غيرُ الأَوَّل - ثلاثةُ أقوال :
أظهرها : أنه محذوفٌ؛ اختصاراً أو اقتصاراً؛ لأنه من باب » أَعْطَى « ، أي : آتِنا ما نُريدُ ، أو مطلوبَنَا .

والثاني : أن « فِي » بمعنى « مِنْ » أي : من الدنيا .
والثالث : أنها زائدٌ ، أي : آتِنا الدنيا ، ولَيْسَا بشيء .
فصل
واعلم أنَّه بيَّن أولاً منَاسِكَ الحَجِّ ، ثم أمر بَعْدَها بالذِّكْرِ ، ثم بيّن بعد الذِّكْرِ كيفيَّة الدَّعَاء ، وهذا من أحسن التَّرْتيب؛ فإنّ تقديم العِبَادة يكسر النَّفْسَ ، وبعد العِبَادة لا بُدَّ من الاشْتِغال بذكْرِ الله ، فإن به يَكْمُل الدُّعَاء؛ كما حُكِيَ عن إبراهيم - عليه السَّلام -؛ أنّه قدَّم الذِّكْر على الدُّعاء ، فقال : { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] ثم قال : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين } [ الشعراء : 83 ] ثم بيَّن - تبارك وتعالى - أنّ الَّذِين يَدْعُون فَريقان : أحدهما يطلب الدُّنْيَا ، والثَّاني يطلب الدُّنْيَا والآخِرة ، وقد بقي قِسْمٌ ثالثٌ وهو طلب الآخِرَةِ؛ واخْتَلَفُوا في هذا القِسْم : هل هو مَشْرُوعٌ أم لا؟ والأكثرونَ على أنّه غير مشورع؛ لأن الإنسان ضعيف لا طاقة له بآلام الدُّنيا؛ فالأولى أن يستعيذ بربِّه من كل شرِّ في الدُّنيَا والآخِرة .
روى القفَّال في « تَفْسيرِه » عن أنس - رضي الله عنه - « أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ على رَجُلٍ يعُودُ ، قد أنهَكُه المَرَضُ حتَّى صَارَ كالفَرْخ ، فقال : ما كُنتُ تدعُوا الله به قَبْلَ هذا؟ قال : كُنْتُ أقُولُ : اللَّهُمَّ ما كُنتَ تُعاقِبني به في الآخِرة فَعَجِّل بِهِ في الدُّنْيا ، فقال النبيُّ - عليه السلام - : سبحان الله!! إنّك لا تُطِيقُ ذلك؛ هلا قُلْتَ : » ربنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة وفي الآخِرَةِ حَسَنَة وقِنَا عَذَابَ النَّارَ « قال : فدَعَا له رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَشُوفِي »
فصل
اختلفوا في الَّذِين يَقتَصِرُون في الدُّعاء على طلب الدُّنْيَا على قَوْلَيْن .
فقال قوم : هم الكُفَّار؛ رُوِي عن ابن عَبَّاس - رضي الله عنهما -؛ أنّ المُشْركين كانوا إذا وقَفُوا للدُّعاء ، يقولون : اللَّهُمَّ أعطِنا غنماً وإبلاً وبقراً ، وعبيداً ، وإماءً ، وكان الرَّجُل يقوم ويقُول : اللَّهُم إنّ أبي كان عظيم القُبَّة ، كبير الجَفْنَة ، كثير المال؛ فأعطني مثلما أعطيْتَه ، ولم يَطْلُبُوا التَّوْبة والمغفِرة؛ لأنهم كانوا مُنْكِرين البعثَ والمَعَاد .
وعن أنسٍ؛ كانوا يقولون : اسْقِنا المطر ، وأَعْطِنا على عَدُوِّنا الظَّفَر ، فأخبر الله - تعالى - أنَّ من كان هكذا ، فلا خلاق لهُ في الآخِرَة ، أي : لا نَصِيبَ لهُ .
قال القرطبي : فنهُوا عن ذلك الدُّعاء المَخْصُوص بأمرِ الدُّنْيَا ، وجاء النَّهْي بصيغة الخَبَر عَنْهُم .
وقال آخرون : قد يكُونُوا مؤمِنِين ، ويسألون الله - تعالى - لِدُنياهُم لا لآخِرَتِهِم ، ويكون سُؤَالُهم هذا ذَنباً؛ لأنهم سأَلُوا الله في أعظم المواقف حُطام الدُّنْيَا الفَانِي ، وأعْرَضُوا عن سُؤَال نعيم الآخِرة ، ويقال لِمَن فَعَل ذَلِك : أنّه لا خَلاَقَ لَهُ في الآخِرةِ ، وإن كان مُسْلِماً؛ كما رُوِي في قوله - تعالى -

{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة } [ آل عمران : 77 ] أنها نزلت فيمن أخذ مالاً بيمينٍ فاجرةٍ .
ورُوِي عن النَّبيّ - عليه السَّلام - : إنّ الله يُؤَيِّد هذا الدِّين بأقْوَامٍ لا خَلاَق لَهُم ، ومعنى ذلك على وجوهٍ .
أحدها : أنّه لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يَتُوب .
الثاني : لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يَعْفُوا الله عنهُ .
والثالث : لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأَلَ الله - تعالى - لآخرته ، وكذلك لا خلاق لمن أخذ مالاً بيمِينٍ فاجرةٍ ، كَخلاق من تورَّع عن ذلك؛ ونظير هذه الآيةِ قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
قوله تعالى : { فِي الآخرة حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] يجوز في الجارِّ وجهان .
أحدهما : أن يتعلَّق ب « آتنا » كالذي قبله .
والثاني : أجازه أبو البقاء أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حالٌ من « حَسَنَةٌ » ؛ لأنه كان في الأصل صفةً لها ، فلما قُدِّم عليها ، انتصَبَ حالاً .
قوله : { وَفِي الآخرة حَسَنَةً } هذه الواوُ عاطفةٌ شيئَيْن على شيئَيْن متقدِّمَيْن ف « في الآخِرةِ » عطفٌ على « في الدُّنْيَا » بإعادةِ العاملِ ، و « حَسَنَةٌ » عطفٌ على « حَسَنَةً » ، والواو تَعْطِفُ شيئين فأكثرَ ، على شيئين فأكثرَ؛ تقول : « أَعْلَمَ اللَّهُ زَيْداً عَمْراً فَاضِلاً ، وَبَكْراً خَالِداً صَالِحاً » ، اللهم إلا أن تنوبَ عن عاملين ، ففيها خلافٌ وتفصيلٌ يأتي في موضعِه - إنْ شاء الله - ، وليس هذا كما زعم بعضُهُم : أنه من بابِ الفصْلِ بين حرفِ العطفِ وهو على حرفٍ واحد ، وبين المعطوفِ بالجارِّ والمجرور ، وجعله دليلاً على أبي عليٍّ الفارسيِّ؛ حيثُ منع ذلك إلا في ضَرَورةٍ؛ لأن هذا من باب عَطْفِ شيئين على شيئين؛ كما ذكرتُ لك ، لا من باب الفصلِ ، ومحلُّ الخلافِ إنما هو نحو : « أَكْرَمْتُ زَيْداً وَعِنْدَك عَمْراً » ، وإنما يُرَدُّ على أبي عَليٍّ بقولِه : { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } [ النساء : 58 ] وقوله تعالى : { الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] .
فصل
ذكر المفسِّرُون في الحُسْنَيين وجوهاً :
قال عليٌّ بن أبي طالب : في الدُّنيا امرأة صالحة ، وفي الآخِرَة الجنَّة؛ رُوِي عن رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ أنه قال : الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ .
وقال الحسن : في الدُّنيا حَسَنَة العلم والعِبَادةً ، وفي الآخِرَة : الجَنَّة والنظر .
روى الضحّاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ؛ « أنّ رجلاً دَعَا ربَّه فقال : » رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَاَ النَّارِ « فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : » ما أَعْلَمُ أنّ هذا الرَّجُل سأَلَ الله شَيْئاً من أمر الدُّنْيَا « ، فقال بَعْضُ الصحابة : بَلَى يا رسُول الله إنّه قال : » ربَّنّا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة « ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » إنّه يَقُول ربَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا عملاً صَالِحاً «

وقال السُّدِّيُّ وابن حيان : في الدُّنْيَا رِزْقاً حَلاَلاً وعَمَلاً صَالِحاً ، وفي الآخرة المَغْفِرة والثَّوَاب .
وقال عوف : من آتاهُ الله الإِسْلام والقُرْآن وأَهْلاً ومالاً ، فقد أُوتِي في الدُّنْيا حَسَنَة وفي الآخِرة حسَنَة .
وقيل : الحَسَنة في الدُّنْيا الصِّحَة والأَمن ، والكفاية ، والولد الصَّالِح ، والزَّوجَة الصَّالحة ، والنُّصْرة على الأَعْداء؛ لأن اللَّهَ تعالى سمَّى الخَصْب والسَّعَة في الرِّزق حسَنة؛ فقال : { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } [ التوبة : 50 ] .
وقيل في قوله تعالى : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين } [ التوبة : 52 ] أنهما الظَّفَر والنُّصْرة ، وأمّا الحَسَنةُ في الآخِرة فهي الفوز بالثَّواب والخلاص من العِقاب .
وقال قتادة : هو طَلَبُ العافية في الدَّارَيْن .
وبالجُمْلة فهذا الدُّعاء جامِعٌ لجميع مطالب الدُّنْيَا والآخرة؛ روى ثابتٌ؛ أنَّهم قالوا لأَنس : ادع لنا ، فقال : « اللَّهُ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخِرَة حَسَنَة وقِنا عَذَاب النَّار » قالوا : زدنا ، فأعادها ، قالوا : دزنا ، قال : ما تُرِيدون؛ قد سأَلتُ لك خير الدُّنيا والآخرة .
وعن أنس؛ قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِر أن يَقُول : « رَبَّنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخرة حَسَنةً وقِنا عذاب النَّارِ »
وعن عبد الله بن السَّائِب؛ أنّه سمع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقُول فيما بين رُكْن بني جمح والرُّكن الأَسود « رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنَة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ »
فصل
قال ابن الخطيب : اعلم أن مَنْشأ البَحث في الآية الكريمة أنّه لو قِيلَ : آتِنا في الدنيا الحَسَنَة وفي الآخِرة الحَسَنة ، لكان ذلك مُتَنَاوِلاً لكل الحَسَناتِ ، ولكنه قال : « آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَة حَسَنَةً » ، وهذا نَكِرَة في محلِّ الإثبَاتِ ، فلا يتنَاول إلاّ حَسَنةً واحِدَة؛ فلذلك اخْتَلف المُفَسِّرون ، فكل واحد منهم حَمَل اللَّفظ على ما رآه أَحْسَن أَنْوَاع الحَسَنة ، وهذا بناء منه على أنّ الفَرْد المُعَرَّف بالأَلف واللاَّم يَعمُّ ، وقد اختار في « المَحْصُول » خلافه .
ثم قال : فإن قيل : أليس أنّه لو قيل : آتِنَا الحَسَنة في الدُّنيا والحَسَنة في الآخِرَة ، لكان مُتَنَاوِلا لكلِّ الأقْسَام ، فلم تَرَك ذلك وذكره مُنكِّراً؟
وأجاب بأن قال : إنّ بَيَّنَّا أنّه ليس للدَّاعِي أن يَقُول : اللهم أَعْطِني كَذَا وكَذَا ، بل يجب أن يقول : اللَّهُم إن كان كّذَا مَصْلَحَةً لي ، وموافِقاً لقَضَائِك وقَدَرِك ، فأَعْطِني ذَلِك ، فلو قال : اللهم أَعْطِني الحَسَنَة في الدُّنْيَا ، لكان ذلك جَزْماً ، وقد بَيَّنَّا أنّه غير جَائِز ، فلمّا ذكَرَه على سبيل التَّنْكِير ، كان المراد منه حَسَنَة واحدة ، وهي التي تُوَافِقُ قَضَاءَه وقدَرضه ، وكان ذلك أحسن وأقْرَب إلى رعايته الأَدَب .

وقوله : « فِنَا » : ممَّا حُذِفَ منه فأؤُه ولامُه من وَقَى يقي وِقَايةً ، أمَّا حذفُ فائه ، فبالحَمْلِ على المضارع؛ لوقوع الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ كما حُذِفَت يقي ويَشي مثل بعد ، هذا قول البصريِّين ، وقال الكُوفِيُّون : حُذِفت فرقاً اللازم والمُتَعدِّي .
قال محمَّد بن زيد : وهذا خطأ؛ لأن العرب تقول : وَرِمَ يَرِمُ ، فيحذفون الواو وأمَّا حذفُ لامِهِ؛ فلأنَّ الأمر جارٍ مَجْرَى المضارع المجزوم ، وجزمِه بحذفِ حرفِ العلةِ؛ فكذلك الأمرُ منه ، فوزن « قِنَا » حينئذ : عِنَا ، والأصل : اوْقِنَا ، فلمَّا حُذِفَت الفاءُ اسْتُغُنِي عن همزةِ الوصل ، فَحُذِفَتْ ، و « عَذَابَ » مفعولٌ ثانٍ .
قوله تعالى : « أُولَئِكَ » مبتدأ و « لَهُمْ » خبرٌ مقدم ، و « نَصِيب » مبتدأ ، وهذه الجملةُ خَبرُ الأولِ ، ويجوز أن يكونَ « لَهُمْ » خبرَ « أولئك » ، و « نَصِيب » فاعلٌ به؛ لما تضمنَّه من معنى الفعلِ لاعتمادِه ، والمشارُ إليه ب « أُولئكَ » فيه قولان :
أظهرهُما : أنهما الفريقان : طالبُ الدنيا وحدَها وطالبُ الدنيا والآخرة ، وقيل : بَلْ لِطَالب الدنيا والآخرة؛ لأنه - تعالى - ذكر حكم الفريق الأَوَّل؛ حيث قال : { وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } .
قوله : { مِّمَّا كَسَبُواْ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل « نَصِيب » ، فهو في محلِّ رفعٍ ، وفي « مِنْ » ثلاثةُ أقوال :
أحدُها : أنها للتبعيض ، أي : نصيب من جِنْس ما كسبوا .
والثاني : أنها للسببيةِ ، أي : مِنْ أَجْلِ ما كَسَبُوا .
والثالث : أنها للبيان .
فصل
قال ابن عَبَّاس في قوله : { أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ } : هو الرَّجُل يأخُذُ مالاً يَحُجُّ به مِنْ غيره؛ فيكون له ثَوَابٌ .
و « ما » يجوزُ فيها وجهان : أن تكونَ مصدريةً ، أي : مِنْ كَسْبِهِمْ؛ فلا تحتاجُ إلى عائدٍ .
والثاني : أنها بمعنى « الَّذِي » ، فالعائدُ محذوفٌ؛ لاستكمال الشروط ، أي : مِنض الذي كَسَبُوه .
و « الكَسْبُ » : يُطلق على ما يَنَالهُ العَبْد بعمله ، بشرط أن يكُونَ لجرِّ مَنْفَعةٍ ، أو دفع مضرَّة .
قوله : { والله سَرِيعُ الحساب } السَّريع فاعل من السُّرْعة قال ابن السِّكِّيت : سَرُعَ يَسْرُع سَرْعاً وسُرْعَة ، فهو سَرِيعٌ؛ مثل عَظُم يَعْظُم .
و « الحِسَاب » مصدر كالمُحَاسَبَة ، ومَعْنى الحساب في اللُّغةِ : العدُّ؛ قال حَسَب يَحْسُبُ حِساباً وحسبَة وحَسْباً إذا عَدّ ذكره الليث وابن السِّكِّيت ، والحَسْب ما عُدَّ؛ ومنه حَسَبُ الرَّجُل : وهو ما يُعَدُّ من مآثِرِه ومَفَاخِرِه ، والمعنى أنّ الله سريع الحساب ، لا يَحْتَاج إلى عَدٍّ ولا إلى عَقدٍ كما يَفْعَلُه الحسَّابُ ، والاحْتِسَاب : الاعتِدَاد بالشَّيْء .
وقال الزّجَّاج : الحِسَاب في اللُّغة مأخوذٌ من قَوْلهم : « حَسْبُك كذا » ، أي : كَفَاك ، فسُمِّي الحِسَابُ في المُعَامَلات حِسَاباً؛ لأنّه يُعلم به ما فيه كِفَايَة ، وليس فيه زِيَادة على المِقْدَار ولا نُقْصَان .

وقيل : { والله سَرِيعُ الحساب } قال الحَسَن : أسْرَع مِنْ لَمْحِ البَصَر .
وقيل : إتْيَان القِيَامة قريبٌ؛ لأن ما هو أتٍ لا مَحَالَة قَرِيب؛ قال - تعالى - { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } [ الشورى : 17 ] .
وقيل : سريع الحساب ، أي : سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم؛ لأنّه - تعالى - في الوقت الواحد يسأله السَّائلون ، كلُّ واحدٍ منهم أشياء مختلفة من أمور الدُّنيا والآخرة ، فيعطي كلَّ واحد مطلوبه من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك .
فصل في أن الله هو المحاسب
اختلف الناس في معنى كونه - تعالى - محاسباً للخلق على وجوه :
أحدها : أنّ معنى الحساب : أنّه - تعالى - يعلِّمهم ما لهم و [ ما ] عليهم ، بمعنى أنّه يخلق علوماً ضروريّة في قلوبهم ، بمقادير أعمالهم وكمِّيَّاتها وكيفيَّاتها ، ومقادير ما لهم من الثَّواب والعقاب .
قالوا : ووجه المجاز فيه أنّ الحساب سبب لحصول علم الإنسان بمال له و [ ما ] عليه ، فإطلاق اسم الحساب على هذا الإعلام يكون من باب إطلاق اسم السَّبب على المسبِّب ، وهو مجاز مشهورٌ .
ونقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنّه قال : لا حساب على الخلق ، بل يقفون بين يدي الله - تعالى - ، يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم ، فيقال لهم : هذه سيِّئاتكم قد تجاوزت عنها ، ثم يعطون حسناتهم ، ويقال لهم : هذه حسناتكم قد ضاعفتها لكم .
الثاني : لأنّ المحاسبة عبارة عن المجازاة؛ قال - تبارك وتعالى - { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً } [ الطلاق : 8 ] ، ووجه المجاز : أنَّ الحساب سبب للأخذ والعطاء ، وإطلاق اسم السَّبب على المسبّب جائزٌ؛ فحسن إطلاق لفظ الحساب على المجازاة .
الثالث : أنّه تتعالى يكلِّم العباد في أحوال أعمالهم ، وكيفيَّة ما لها من الثّضواب والعقاب ، فمن قال : إن كلامه ليس بحرف ولا صوتٍ ، قال : إنّه تعالى يخلق في أذن المكلَّف سمعاً يسمع به كلامه القديم؛ كما أنّه يخلق في عينيه رؤية يرى بها ذاته القديمة ، ومن قال : إنه صوت ، قال : إنّه - تعالى - يخلق كلاماً يسمعه كلُّ مكلَّف ، إمّا بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كلِّ واحدٍ منهم ، أو في جسم يقرب من أذنه ، بحيث لا تبلغ قوَّة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلِّف به ، والله أعلم .

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)

قوله : { مَعْدُودَاتٍ « : صفة لأيام ، وقد تقدَّم أن صفة ما لا يعقل يطَّرد جمعها بالألف والتاء ، وقد ذكر أبو البقاء هنا سؤالاً؛ فقال : إن قيل » الأيَّام « واحدها » يَوْم « و » المَعْدُودَات « واحدتها » مَعْدُودَةٌ « ، واليوم لا يوصف بمعدودة ، لأنَّ الصفة هنا مؤنثة ، والموصوف مذكَّر ، وإنما الوجه أن يقال : » أَيَامٌ مَعْدُودَةٌ « فتصف الجمع بالمؤنث ، فالجواب أنه أجرى » مَعْدُودَاتٍ « ، على لفظ » أَيَّام « ، وقابل الجمع بالجمع مجازاص ، والأصل » مَعْدُودَة « ؛ كما قال : { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] ، ولو قيل : إن الإيام تشتمل على السَّاعات ، والساعة مؤنَّثة ، فجاء الجمع على معنى ساعات الأيَّام ، وفيه تنبيه على الأمر بالذِّكر في كلِّ ساعات هذه الأيام ، أو في معظمها ، لكان جواباً سديداً ، ونظير ذلك الشهر والصَّيف والشتاء؛ فإنها يجاب بها عن » كَمْ « ، و » كَمْ « إنما يجاب عنها بالعدد ، وألفاظ هذه الأشياء ليست عدداً ، وإنما هي أسماء المعدودات ، فكانت جواباً من هذا الوجه . قال شهاب الدين وهذا تطويل من غير فائدةٍ ، وقوله » مفرد معدوداتٍ معودةٌ بالتأنيث « ممنوعٌ ، بل مفردها » مَعْدُود « بالتذكير ، ولا يضرُّ جمعه بالألف والتاء ، إذ الجمع بالألف والتاء لا يستدعي تأنيث المفرد؛ ألا ترى إلى قولهم : حمَّمات وسجلاَّات وسرادقات .
قال الكوفيُّون : الألف والتَّاء في » مَعْدُودَاتٍ « لأقلِّ العدد .
وقال البصريُّون : هما للقليل والكثير؛ بدليل قوله تعالى : { وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ } [ سبأ : 37 ] والغرفات كثيرة .
فصل
اعلم أنّ الله - تعالى - لمّا ذكر المشعر الحرام ، لم يذكر الرَّمي لوجهين :
أحدهما : أنّ ذلك كان أمراً مشهوراً عندهم ، وكانوا منكرين لذلك إلاّ أنّه - تعالى - ذكر ما فيه من ذكر الله - تعالى - ؛ لأنهم كانوا لا يفعلونه .
الثاني : لعلَّه إنما لم يذكر الرَّمي؛ لأن في الأمر بذكر الله في هذه الأيَّام دليلاً عليه؛ إذ كان من سنَّته التكبير على كلِّ حصاةٍ .
فصل
قال هنا : ي أيَّام معدوداتٍ ، وفي سورة الحجِّ : { وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } [ الحج : 28 ] ، فقال أكثر أهل العلم ، الأيَّام المعلومات : عشر ذي الحجَّة ، آخرهن يوم النَّحر .
والمعدودات : هي أيَّام التَّشريق؛ وهي أيَّام منى ، ورمي الجمار ، وسمِّيت معدودات لقلَّتهن؛ كقوله : { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [ يوسف : 20 ] ولقوله تعالى بعده : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ، وأجمعت الأمَّة على أنّ هذا الحكم إنّما يثبت في أيَّام منى؛ وهي أيَّام التَّشريق .
قال الواحديّ - رحمه الله - : أيَّام التَّشريق ثلاثة أيَّام بعد يوم النَّحر :
أولها : يوم النَّفر؛ وهو الحادي عشر من ذي الحجَّة ، يستقرُّ النَّاس فيه بمنًى .

والثاني : يوم النَّفر الأول؛ لأن بعض النَّاس ينفرون في هذا اليوم من منًى .
والثَّالث : يوم النَّفر الثَّاني : وهي الأيّام الثّلاثة مع يوم النَّحر كلُّها أيَّام النَّحر ، وعند أحمد - رحمه الله - : عند آخر وقت النَّحر إلى يومين من أيَّام التَّشريق ، وأيّام التَّشريق مع يوم النَّحر أيام رمي الجمار؛ وأيّام التكبير أدبار الصَّلوات .
واستدلَّ القفَّال على أنّ الأيَّام المعدودات هي أيَّام التَّشريق بما روى عبد الرَّحمن بن يعمر الدئلي؛ أنّ رسول الله صلى الله عيله وسلم أمر منادياً فنادى ، « الحَجُّ عَرَفَةُ ، من جَاء لَيْلَة جمْعٍ قبل طُلُوعِ الفَجْرِ ، فقد أدرك الحجَّ ، وأيّام منىً ثلاثَة أيّام ، فمن تَعَجَّل في يَوْمَيْن فلا إثْمَ عَلَيْه ، ومن تَأَخَّر فلا إثْمَ عَلَيْه ، وهذا يدلُّ على أنّ الأيَّام المعدودات هي أيَّام التَّشريق .
وروي عن ابن عبَّاس : » المَعْلُومَات « يوم النَّحر ويومان بعده ، و » المَعْدُودَات « أيام التَّشريق .
وعن عليه - رضي الله عنه - قال : » المَعْلُومَات يوم النَّحْرِ وثَلاَثَةَ بَعْدَه « .
وروى عطاء عن ابن عباس : » المَعْلُمات يوم عَرَفَة والنَّحْر وأيّام التَّشْرِيق « .
وقال محمد بن كعب : هما شيء واحد ، وهي أيَّام التَّشريق ، وروي عن نبيشة الهذلي؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أيَّام التَّشْرِيق أيّام أَكْلِ وشُرْبٍ وذِكْرِ اللَّهِ ، ومن الذِّكْر في أيَّام التَّشْرِيقِ التكْبِير «
فصل
اعلم أنّ المراد بالذكر في هذه الأيَّام : التكبير عند رمي الجمرات ، وأدبار الصلوات .
وروي عن عمر ، وعبد الله بن عمر؛ أنّهما كانا يكبِّران بمنًى تلك الأيّام خلف الصَّلوات ، وفي المجلس ، وعلى الفراش والفسطاط ، وفي الطَّريق ، ويكبِّر النَّاس بتكبيرهما ، ويتلوان هذه الآية .
وذهب الجمهور إلى أنّ التكبير عقيب الصَّلوات مختصٌّ بعيد الأضحى ، [ في حق الحاجِّ وغيره .
وذهب أحمد - رحمه الله - إلى أنّه يستحبُّ التكبير ليلة العيدين ] . واختلفوا في ابتدائه وانتهائه .
فقال مالك الشَّافعي : يكبِّر المحرم وغيره عقيب الصَّلوات ، من صلاة الظُّهر من يوم النَّحر ، إلى بعد صلاة الصُّبح من آخر أيَّام التَّشريق ، وهو قول ابن عبَّاس ، وابن عمر؛ لأن التكبير إنَّما ورد في حقِّ الحاجِّ والنَّاس تبعٌ لهم ، وذكر الحاجِّ قبل هذا الوقت هو التَّلبية ، وهي تنقطع مع ابتداء الرَّمي .
وقال أحمد - رحمه الله - : يكبّر المحرم من صلاة الظُّهر يوم النَّحر إلى آخر أيَّام التَّشريق ، روي ذلك عن علي وبه قال مكحول وأبو يوسفٌ ، وروي هذا القول عن بعضهم في حقّ المحرم أيضاً ، روي عن علي وعمر وابن مسعود وابن عبَّاس .
وقال أبو حنيفة : يكبر المحرم وغيره من صلاة الصُّبح يوم عرفة ، إلى بعد العصر يوم النَّحر ، روى ذلك عن ابن مسعود وعلقمة والأسود والنَّخعي .
وللشافعي قول آخر : أنّه يبتدئ من صلاة المغرب ليلة النَّحر ، إلى صلاة الصُّبح من آخر أيام التَّشريق ، وله قول ثالث : أنّه يبتدئ من صلاة الصُّبح يوم عرفة إلى العصر من يوم النَّحر؛ وهو كقول أبي حنيفة - رضي الله عنه - .

فإن قيل : التكبير مضاف إلى الأيَّام المعدودات وهي أيّام التَّشريق ، فينبغي ألاَّ تكون مشروعةً يوم عرفة .
فالجواب : أنّ هذا يقتضي ألاَّ يكون يوم النَّحر داخلاً فيها وهو خلاف الإجماع .
وصفة التكبير عند أهل العراق شفعاً : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، روي ذلك عن ابن مسعود - رضي الله عنهما - وهو قول أحمد .
وقال أهل المدينة : صفة التكبير : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثاً نسقاً ، وهو قول سعيد بن جبير والحسن ، وبه قال مالك والشَّافعي وأبو حنيفة ، ويقول بعده : لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد .
قوله تعالى : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } « مَنْ » يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون شرطيةٌ ، ف « تَعَجَّلَ » في محلِّ جزمٍ ، والفاء في قوله : « فَلاَ » جواب الشرط والفاء وما في حَيِّزها في محلِّ جزم أيضاً على الجواب .
والثاني : أنها موصولة ب « تَعَجَّلَ » فلا محلَّ ل « تَعَجَّلَ » ؛ لوقوعه صلةً ، ولفظه ماضٍ ، ومعناه يحتمل المضيَّ والاستقبال؛ لأنَّ كلَّ ما وقع صلةً ، فهذا حكمه؛ والفاء في « فَلاَ » زائدة في الخبر ، وهي وما بعدها في محلِّ رفع خبراً للمبتدأ .
قال القرطبي : « مَنْ » في قوله : « فَمَنْ تَعَجَّلَ » رفع بالابتداء ، والخبر « فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ » ، ويجوز في غير القرآن ، فلا إثْمَ عَلَيْهِم؛ لأن معنى « مَنْ » جماعة؛ كقوله - تبارك وتعالى - : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] ، وكذلك « مَنْ تأَخَّرَ » .
و « في يَوْمَيْنٍ » متعلِّق ب « تَعَجَّلَ » ولا بدَّ من ارتكاب مجازٍ؛ لأن الفعل الواقع في الظرف المعدود يستلزم أن يكون واقعاً في كلٍّ من معدوداته ، تقول : « سِرْتُ يَوْمَيْنِ » لا بد وأن يكون السير وقع في الأول والثاني و بعض الثاني ، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجهٍ ، ووجه المجاز : إمَّا من حيث إنَّه نسب الواقع في أحدهما واقعاً فيها؛ كقوله : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } [ الكهف : 61 ] و { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، والنَّاسي أحدهما : وكذلك المخرج من أحدهما ، وإمَّا من حيث حذف مضاف ، أي : في تمام يومين أو كمالهما .
و « تَعَجَّلَ » يجوز أن يكون بمعنى « اسْتَعْجَلَ » ك « تَكَبَّرَ ، واسْتَكْبَرَ » ، أو مطاوعاً ل « عَجَّل » نحو « كَسَّرْتُه فَتَكَسَّرَ » ، أو بمعنى المجرَّد ، وهو « عِجِلَ » ، قال الزمخشريُّ : « والمطاوعة أوفَقُ » ؛ لقوله : « ومَنْ تَأَخَّرَ » ؛ كما هي في قوله : [ البسيط ]

1006 - قَدْ يُدْرِكُ الْمَتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وَقَدْ يَكُونُ مَعَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ
لأجل قوله « المُتَأَنِّي » . و « تَعَجَّلَ واسْتَعْجَلَ » يكونان لازمين ومتعدِّييثن ، ومتعلِّق التعجيل محذوف ، فيجوز أن تقدِّره مفعولاً صريحاً ، أي : من تعجَّل النَّفر ، وأن تقدِّره مجروراً أي : بالنَّفر ، حسب استعماله لازماً ومتعدِّياً .
وفي هذه الآيات من علم البديع : الطباق ، وهو ذكر الشيء وضده في « تَعَجَّل وتَأَخَّرَ » ، فهو كقوله : { أَضْحَكَ وأبكى } [ النجم : 43 ] و { أَمَاتَ وَأَحْيَا } [ النجم : 44 ] ، وهذا طباقٌ غريب ، من حيث جعل ضدَّ « تَعَجَّلَ » : « تَأَخَّرَ » ، وإنما ضدُّ « تَعَجَّلَ » : « تَأَنَّى » ، وضدُّ « تَأَخَّرَ » : « تقدَّم » ، ولكنه في « تَعَجَّلَ » عبرَّ بالملزوم عن اللازم ، وفي « تَأَخَّرَ » باللازم عن الملزوم ، وفيها من علم البيان : المقابلة اللفظيَّة ، وذلك أن المتأخِّر بالنَّفرات آتٍ بزيادة في العبادة ، فله زيادة في الأجر على المتعجِّل ، فقال في حقه أيضاً : « فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ » ؛ ليقابل قوله أولاً : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ، فهو كقوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] .
وذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً؛ فقال : قوله : « وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ » فيه إشكالٌ؛ لأنه إذا كان قد استوفى كلَّ ما يلزمه في تمام الحجِّ ، فما معنى قوله : « فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ » فهذا اللَّفظ إنما يقال في حقِّ المقصِّر ، وأجاب بوجوه :
أحدها : ما تقدَّم من المقابلة ، ونقله عن الواحدي .
وثانيها : أنّه - تعالى - لما أذن في التَّعجيل على سبيل الرُّخصة ، احتمل أن يخطر بالبال أنَّ من لم يترخَّص فإنه يأثم . كما قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : القصر عزيمة والإتمام غير واجب ، ومذهب أحمد - رحمه الله - : القصر والفطر في السَّفر أفضل ، فأزال الله - تعالى - هذه الشُّبهة ، وبيَّن أنه لا إثم عليه في الأمرين ، فإن شاء تعجَّل وإن شاء تأخَّر .
وثالثها : قال بعض المفسِّرين : إن منهم من كان يتعجَّل ، ومنهم من كان يتأخَّر ، وكل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله ، ويقول : هو مخالفٌ لسنَّة الحجِّ ، فبيَّن الله - تعالى - أنّه لا عيب على كلِّ واحد من الفريقين .
ورابعها : أنّ المعنى في إزالة الإثم عند المتأخِّر؛ إنما هو لمن زاد على مقام الثَّلاث؛ فكأنّه قيل : أيَّام منى التي ينبغي المقام فيها هي ثلاث ، فمن نقَّص منها وتعجَّل في يومين ، فلا إثم عليه ، ومن زاد عليها فتأخَّر عن الثَّالث إلى الرَّابع؛ فلم ينفر مع النَّاس ، فلا شيء عليه .
وخامسها : أنّه ذكر هذا الكلام؛ مبالغة في أن الحجَّ يكفِّر الذُّوب والآثام؛ كما إذا تناول الإنسان التّرياق فيقول له الطَّبيب : إن تناولت السُّمَّ فلا ضرر وإن لم تتناوله فلا ضرر ، ومقصوده بيان أن التّرياق دواء كامل في دفع المضارِّن لا بيان أن تناول السُّمِّ وعدم تناوله يجريان مجرَى واحداً؛ فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحجِّ مكفرِّراً لكلِّ الذُّنوب؛ لأن التَّعجيل وتركه سيَّان؛ ومما يدلُّ على أن الحجَّ سبب قويٌّ في تكفير الذُّنوب قوله - عليه السّلام -

« مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَومِ وَلَدَتْهُ أُمّهُ » ، وهنا قول عليٍّ وابن مسعود .
فصل
وقرأ الجمهور « فَلاَ إِثْمَ » بقطع الهمزة على الأصل ، وقرأ سالم بن عبد الله : « فَلاَ اثْمَ » بوصلها وحذلف ألف لا ، ووجهه أنه خفَّف الهمزة بين بين فقربت من الساكن ، فحذفها؛ تشبيهاً بالألف ، فالتقى ساكنان : ألف « لاَ » وثاء « إِثْم » ، فحذفت ألف « لاَ » ، لالتقاء الساكنين ، وقال أبو البقاء - رحمه الله تعالى - : « ووجهُها أنَّه لمَّا خَلَطَ الاسْمَ ب » لاَ « حَذَفَ الهمزة؛ تشبيهاً بالألف » يعني أنه لمَّا ركِّبت « لاَ » ن مع اسمها ، صارا كالشيء الواحد ، والهمزة شبيهة الألف ، فكأنه اجتمع ألفان ، فحذفت الثانية لذلك ، ثم حذفت الألف لسكونها وسكون الثَّاء .
فصل
قال القرطبي : روى الثِّقات؛ أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أمَّ سلمة أن تصبح بمكَّة يوم النَّحر ، وكان يؤمُّها ، وهذا يدلُّ على أنّها رمت الجمرة بمنًى قبل الفجر؛ لأن هذا لا يكون إلاّ وقد رمت الجمرة بمنى ليلاً قبل الفجر .
وروى أبو داود عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة؛ أنّها قالت : « أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمِّ سلمة ليلة يوم النَّحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت فأفاضت ، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها » . فإذا ثبت ذلك فالرَّمي باللَّيل جائز لمن فعله ، والاختيار من طلوع الشَّمس إلى زوالها ، وأجمعوا على أن من رماها قبل غروب الشَّمس من يوم النَّحر ، فقد أجزأ ولا شيء عليه ، إلا مالكاً؛ فإنه قال : يستحب له أن يهرقَ دماً .
واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشَّمس ، ورماها من اللَّيل أو من الغد ، هل يلزمه دم أم لا؟
فصل
المبيت بمنى ليلالي منى واجبٌ؛ لرمي الجمار في كلِّ يوم بعد الزَّوال إحدى وعشرين حصاةً ، عند كل جمرة سبع حصيات ، ويرخَّص في ترك المبيت لرعاء الإبل وأهل سقاية الحاجِّ ، ثم من رمى اليوم الثاني من أيام التَّشريق ، وأراد أن ينفر ويدع المبيت في اللَّيلة الثَّالية ، ورمى يومها ، فله ذلك؛ بشرط أن ينفر قبل غروب الشمس ، فإن غربت الشمس وهو بمنى ، لزمه المبيت بها والرَّمي من غد ، هذا مذهب الشَّافعي وأحمدن وهو قول أكثر التَّابعين .

وقال أبو حنيفة : يجوز أن ينفر ما لم يطلع النحر؛ لن وقت الرَّمي لم يدخل .
فصل
إذا ترك الرَّمي ، فذكره بعدما صدر وهو بمكَّة ، بعدما خرج منها ، فعليه الهدي ، وسواء ترك الجمار كلَّها ، أو جمرة منها ، أو حصاةً من جمرة ، حتى خرجت أيَّام منى فعليه دمٌ ، وإن ترك جمرة واحدة ، كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاعٍ ، إلى أن يبلغ دماً ، إلاَّ جمرة العقبة فعليه دمٌ .
وقال الأوزاعي : يتصدّق إن ترك حصاةً ، وقال الثَّوري : يطعم في الحصاة والحصاتين والثلاث ، فإن ترك أربعاً فعليه دمٌ ، وقال اللَّيث : في الحصاة الواحدة دم ، نقله القرطبي .
فصل
قال القرطبي - رحمه الله تعالى - : من بقي في يده حصاة لا يدري من أيِّ الجمار هي ، جعلها في الأولى ورمى بعدها الوسطى والآخرة ، فإن طال ، استأنف جميعاً .
قوله : « لِمَن اتَّقَى » هذا الجارُّ خبر مبتدأ محذوفٍ ، واختلفوا في ذلك المبتدأ حسب اختلافهم في تعلُّق هذا الجار من جهة المعنى ، لا الصناعة ، فقيل : يتعلَّق من جهة المعنى بقوله : « فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ » فتقدِّر له ما يليق به ، أي : انتفاء الإثم لمن اتَّقى ، وقيل : متعلِّقٌ بقوله : « وَاذْكُرُوا » أي : الذكر لمن اتقى ، وقيل : متعلِّقٌ بقوله : « غَفُورٌ رَحِيمٌ » ، أي المغفرة لمن اتَّقى ، وقيل : التقدير : السلامة لمن اتَّقى ، وقيل : التقدير : ذلك التخيير ونفي الإثم عن المستعجل والمتأخِّر؛ لأجل الحاجِّ المتَّقي؛ لئلاّ يتخالج في قلبه شيءٌ منها ، فيحسب أنَّ أحدهما يرهق صاحبه إثماً في الإقدام عليه؛ لأنَّ ذا التقوى حذر متحرزٌ من كل ما يربيه ، قيل : التقدير : ذلك الذي مرَّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى؛ لأنه هو المنتفع به دون غيره ، كقوله : { يُرِيدُونَ وَجْهَ الله } [ الروم : 38 ] ، قال هذين التقديرين الزمخشريُّ ، وقال أبو البقاء : « تقديره : جواز التعجيل والتأخير لمن اتقى » ، وكلُّها متقاربةٌ ، ويجوز أن يكون « لِمَن اتَّقَى » في محلِّ نصب على أن اللام لام التعليل ، ويتعلَّق بقوله « فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ » أي : انتفى الإثم؛ لأجل المتَّقي ، ومفعول : « اتَّقى » محذوف ، أي : اتَّقى الله ، وقد جاء مصرَّحاً به في مصحف عبد الله ، وقيل : اتَّقى الصَّيد .
فصل
في هذه التَّقوى وجوه :
أحدهما : قال أبو العالية : ذهب أئمةٌ أن « اتَّقى » فيما بقي من عمره ، ولا يتَّكل على ما سلف من أعمال الحجِّ .
وثانيها : أنّ هذه المغفرة لا تحصل إلاّ لمن كان متَّقياً قبل حجِّح؛ كقوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } [ المائدة : 27 ] ؛ لأن المصرَّ على الذَّنب لا ينفعه حجُّه ، وإن كان قد أدَّى الفرض في الظَّاهر .

وثالثها : أنّه المتَّقي عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحجِّ؛ لقوله عليه السّلام :
« مَنْ حَجَّ فَلَم يَرْفثْ وَلَمْ يَفْسُقْ . . . »
ورابعها : روى الكلبي عن ابن عباس : « لِمَن اتَّقَى الصَّيْد ما يلزَمُهُ اجتِنَابُه من محْظُورَاتِ الإِحْرَامِ » .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيفٌ من وجهين :
أحدهما : أنَّه تقييد للَّفظ المطلق بغير دليل .
والثاني : أنّ هذا لا يصحُّ إلاّ إذا حمل على ما قبل هذه الأيَّام؛ لأنه في يوم النَّحر إذا رمى وطاف وحلق ، فقد تحلَّل قبل الجمار ، فلا يلزمه اتِّقاء الصَّيد في هذه الأيَّام .
قوله : « واتَّقُوا الله » فهو أمر في المستقبل ، وهو مخالف لقوله : « لِمَنْ اتَّقَى » الذي أ { يد به الماضين فلا يكون تكراراً ، وقد تقدم أن التَّقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات .
وقوله : { واعلموآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
فهو توكيد للأمر بالتَّقوى؛ لأن مَنْ تصور الحشر والمحاسبة والمساءلة ، وأنّ بعد الموت لا دار إلاّ الجنَّة أو النَّار ، صار ذلك من أقوى الدَّواعي إلى التَّقوى ، وأمَّا الحشر : فهو اسمٌ يقع على ابتداء أوَّل خروجهم من الأجْداث ، يوم لا مالك سواه ولا ملجأ إلاّ إيَّاه .
قوله : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } .
لمّا ذكر الذين قصرت همَّتهم على الدُّنيا في قوله : « ومِنَ النَّاسِ من يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة » ، والمؤمنين الذين سألوا خير الدَّارين ، ذكر المنافقين؛ لأنَّهم أظهروا الإيمان وأسرُّوا الكفر .
قوله تعالى : « مَنْ يُعْجِبُكَ » : يجوز في « مَنْ » أن تكون موصولة ، وأن تكون نكرةً موصوفةً ، وقد تقدَّم نظيرها ، والإعجاب : استحسان الشيء ، والميل إليه ، والتعظيم له ، والهمزة فيه للتعدِّي .
وقال الراغب : « العَجَبُ حَيْرَةٌ تَعْرَضُ للإنسان عند الجهل بسبب الشَّيء ، وليس هو شيئاً له في ذاته حالةً ، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السَّبب ومن لا يعرفه ، وحقيقة : أعجبني كذا : ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه » ، ويقال : عجبت من كذا ، قال القائل : [ الرجز ]
1007 - عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُهْ ... مِنْ عَنَزِيَّ سَبَّنِي لَمْ أَضْرِبُهْ
قال بعض المفسِّرين : يقال في الاستحسان : أعجبني كذا ، وفي الإنكار والكراهة : عجبت من كذا .
قوله : « في الحَيَاةِ » فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب « قَوْلُهُ » ، أي : يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا ، أنَّ ادِّعاءه المحبة بالباطل يطلب حظّاً من الدنيا .
والثاني : أن يتعلَّق ب « يُعْجِبُكَ » ، أي : قوله حلوٌ فصيحٌ في الدُّنيا ، فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة ، لما يرهقه في الموقف من الاحتباس واللُّكنة ، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام ، قال أبو حيان : « والذي يظهر أنه متعلِّق ب » يُعْجِبُكَ « ، لا على المعنى الذي قاله الزمخشري ، بل على معنى أنك تستحسن مقالته دائماً في مدَّة حياته؛ إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجبٌ رائقٌ لطيفٌن فمقالته في الظاهر معجبة دائماً ، لا تراه يعدل عن تلك المقالة الحسنة الرائعة إلى مقالةٍ منافيةٍط .

قوله : « وَيُشْهِدُ اللَّهَ » في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها عطف على « يُعْجِبُكَ » ، فهي صلة لا محلَّ لها من الإعراب ، أو صفةٌ ، فتكون في محلِّ رفع على حسب القولين في « مَنْ » .
والثاني : أن تكون حاليةً ، وفي صاحبها حينئذً وجهان :
أحدهما : أنه الضمير المرفوع المستكن في « يُعْجِبُكَ » .
والثاني : أنه الضمير المجرور في « قَوْلُهُ » ، تقديره : يعجبك أن يقول في أمر الدنيا ، مقسماً على ذلك .
وفي جعلها حالاً نظر وجهين :
أحدهما : من جهة المعنى ، فإنه يلزم منه أن يكون الإعجاب والقول مقيدين بحالٍ ، والظاهر خلافه .
والثاني : من جهة الصِّناعة وهو أنَّه مثبتٌ ، فلا يقع حالاً إلا في شذوذٍ؛ نحو : « قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ » أو ضرورةً؛ نحو : [ المتقارب ]
1008- . ... نَجَوْتُ وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا
وتقديره مبتدأً قبله على خلاف الأصل ، أي : وهو يشهد .
والجمهور على ضمِّ حرف المضارعة وكسر الهاء ، مأخوذاً من « أَشْهَدَ » ونصب الجلالة مفعولاً به ، وقرأ أبو حيوة وابن محيصنٍ بفتحهما ورفع الجلالة فاعلاً .
قال القرطبيُّ - رحمه الله تعالى - ويؤيِّده قراءة ابن عباسٍ « واللَّهُ يَشْهَدُ عَلَى مَا في قَلْبِهِ » .
وقرأ أُبَيٌّ : « يَسْتَشْهِدُ اللَّهَ » .
فأمَّا قراءة الجمهور وتفسيرهم ، فإن المعنى : يحلف بالله ويشهده أنّه صادقٌ ، وقد جاءت الشهادة بمعنى القسم في آية اللِّعان ، وقيل : فيكون اسم الله منتصباً على حذف حرف الجر ، أي : يقسم بالله ، قال شهاب الدين : وهذا سهوٌ من قائله؛ لأنَّ المستعمل بمعنى القسم « شَهِدَ » الثلاثيٌّ ، لا « أَشْهَدَ » الرباعيُّ ، لا تقول : أُشْهِدُ بالله ، بل : أَشْهَدُ بالله ، فمعنى قراءة الجمهور : يطَّلع الله على ما في قلبه ، ولا يعلم به أحدٌ ، لشدة تكتُّمه .
وأمَّا تفسير الجمهور : فيحتاج إلى حذف ما يصحُّ به المعنى ، تقديره : ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه؛ لأن الذي في قلبه هو الكفر ، وهو لا يحلف عليه ، إنما يحلف على ضدِّه ، وهو الذي يعجب سامعه ، ويقوِّي هذا التأويل قراءة أبي حيوة؛ إذ معناها : ويطَّلع الله على ما قلبه من الكفر . وأمَّا قراءة أُبيًّ : فيحتمل « استَفْعَلَ » وجهين :
أحدهما : أن يكون بمعنى « أَفْعَلَ » ؛ فيوافق قراءة الجمهور .
والثاني : أنه بمعنى المجرَّد وهو « شَهِدَ » ، وتكون الجلالة منصوبةً على إسقاط الخافض .
قوله : { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } الكلام في هذه الجملة كالتي قبلها ، وهنا وجهٌ آخر ، وهو أن تكون حالاً من الضمير في « يُشْهِدُ » ، والألد : الشديد؛ من اللَّدد ، وهو شدة الخصوة؛ قال : [ الخفيف ]

1009 - إنَّ تَحْتَ التُّرَابِ عَزْماً وحَزْماً ... وَخَصِيماً أَلَدَّ ذَا مِغْلاَقِ
ويقال : لَدِدت بكسر العين ألَدُّ بفتحها ، ولدَدته بفتح العين ألُدُّه بضمها أي : غلبته في ذلك ، فيكون متعدياً ، قال الشاعر : [ الرجز ]
1010 - تَلُدُّ أَقْرَانَ الرِّجَالِ اللُّدِّ ... تلدُّ أقران الرِّجال ، معناه أنّه في أي وجه أخذ خصمه من اليمين أو الشمال في أبواب الخصومة غلبه .
ورجل ألدُّ وألنددٌ ويلنددٌ ، وامرأةٌ لدَّاء ، والجمع « لُدٌّ » ك « حُمْرٍ » .
وفي اشتقاقه أقوالٌ : قال الزجَّاج : من لُديدَي العنق ، وهما صفحتاه .
وقيل : من لديدي الوادي ، وهما جانباه ، سمِّيا بذلك؛ لاعوجاجهما .
وقيل : هو من لدَّه إذا حبسه ، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته .
و « الخِصَامِ » فيه قولان :
أحدهما : قال الزجَّاج : وهو جمع خصمٍ بالفتح؛ نحو : كعبٍ وكعابٍ ، وكلبٍ وكلابٍ ، وبحرٍ وبحارٍ ، وعلى هذا فلا تحتاج غلى تأويل .
والثاني : قال الخليل وأبو عبيد إنه مصدر ، يقال : خاصمَ خصاماً ، نحو قاتلَ قتالاً ، وعلى هذا فلا بد من مصحِّح لوقوعه خبراً عن الجثَّة ، فقيل : في الكلام حذف من الأول ، أي وخصامه أشدُّ الخصام ، وجعل أبو البقاء « هو » ضمير المصدر الذي هو « قوله » فإنه قال : ويجوز أن يكون « هُوَ » ضمير المصدر الذي هو « قَوْلُهُ » وهو خصام ، والتقدير : خصامه ألدُّ الخصام .
وقيل : من الثاني : أي : وهو أشدُّ ذوي الخصام ، وقيل : أريد بالمصدر اسم الفاعل؛ كما يوصف به في قولهم : رجل عدلٌ وخصمٌ ، وقيل : « أَفْعَلُ » هنا ليست للتفضيل ، بل هي بمعني لديد الخصام ، فهو من باب ضافة الصفة المشبهة ، وقال الزمخشريُّ : والخِصَامُ المُخَاصَمَةُ ، وإضافةُ الألدِّ بمعنى « في » ؛ كقولهم : « ثَبْتُ الغَدْرِ » يعني أن « أَفْعَلَ » ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه ، بل هي ضافة على معنى « في » ؛ قال أبو حيان : وهذا مخالفٌ لما يَزْعُمُهُ النحاة من أنَّ « أَفْعَلَ » لا تضاف إلا إلى ما هي بعضه ، وفيه إثبات الإضافة بمعنى « في » ، وهو قولٌ مرجوحٌ ، وقيل : « هُوَ » ليس ضمير « مَنْ » بل ضمير الخصومة يفسِّره سياق الكلام ، أي : وخصامه أشدُّ الخصام .
فصل في بيان عموم هذه الآية
قال بعض المفسِّ { ين : هذه الآية الكريمة مختصَّة بأقوام معيَّنين ، وقال بعضهم : إنّها عامة في كلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفة ، والأولون اختلفوا على وجوهٍ :
أحدها : أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة ، واسمه : أُبي ، وسمِّي الأخنس؛ لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رجلاً حلو المنظر ، حلو الكلام ، وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجالسه ويظهر الإسلام ، ويقول : إنيّ أحبُّك ، ويحلف بالله على ذلك ، وكان منافقاً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيه في مجلسه ، وكان حسن العلانية خبيث الباطن ، فخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزَّرعن وقيل : المواشي ، وقيل : بيَّت قوماً من ثقيف فلبسهم ، وأهلك مواشيهم ، وأحرق زرعهم .

وقال مُقاتِلٌ : خرج إلى الطَّائف مُقْتَضِياً مالاً لَهُ على غرِيم فَأَحْرَقَ له كدساً ، وعَقَرَ لَهُ أَتاناً ، والنّسلُ : نَسْل كُلّ حيوان من ناطقٍ ، وغيره؛ فنزلت الآية الكريمة .
الثَّاني : أنَّ الأَخْنَس أَشَار على بني زهرة بالرُّجُوع يوم بدرٍ وقال لهُم : إِنَّ مُحَمَّد ابن أخيكم ، فإِنْ يَكُ كَاذِباً كفاكموه سائر النَّاس ، وإن يَكُ صَادِقاً كنتم أَسعَدَ النَّاسِ به ، قالُوا نِعْمَ الرَّأيُ ما رَأَيَتَ قال : فإذا نودي في النَّاس بالرحيل فإنّي أخنس بكم ، فاتَّبِعُوني ، ثمَّ انخنَسَ بثلاثِمائة من بني زُهْرَة عن قِتَال رسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وسُمِّيَ بهذا السَّبب الأَخنس ، فبلغ ذلك رسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فأعجبه .
قال ابنُ الخطيب : وعندي أَنَّ هذا القول ضعيفٌ ، لأَنَّهُ لا يَسْتَوجِبُ الذَّمَّ بهذا العمل ، والآية مذكورة في معرض الذَّمِّ ، فلا يمكن حَمْلُها عليه .
الثالث : روي عن ابن عبَّاس والضحَّاك أنَّ كُفَّار قريش بعثوا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - « أَنَّا قد أَسلمنا ، فابعثْ إِلَيْنَا نفراً مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابك ، فبعثَ إليهم جماعَة ، فنزلوا ببطن الرجي ، ووصل الخَبَرُ إلى الكُفَّارِ ، فَرَكِبَ منهم سبعون راكباً ، وأَحَاطُوا بهم ، وَقَتَلُوهم ، وصَلَبُوهُم ، فَنَزَلَتْ هذه الآية الكريمة ، ولذلك عقَّبَهُ بقول » مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ « فَنَبَّه بذلك على حال هؤُلآءِ الشَّهداء .
القولُ الثَّاني : وهو اختيارُ أكثر المحقِّقين من المُفسِّرين ، أنَّها عامَّة في كُلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفَةِ المَذْكُورة ، نقل عن محمَّد بن كعب القُرظِي أنَّه جرَى بَيْنَهُ وبَيْنَ غيره كلام في الآية فقال : إِنَّها وإن نزلت فيمن ذكرتهم ، فلا يَمْتنعُ أن تنزل الآية الكريمة في الرَّجُلِ ، ثم تَكُونُ عامَّة في كُلِّ مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات .
وَرَوَتْ عائشة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم قال : - » إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ «
قال ابن الخطيب : نُزُول الآية الكريمة على سبب لا يمنعُ من العُمُومِ ، بل في الآية الكريمة ما يَدُلُّ على العُمومِ مِنْ وجوه :
الأول : أَنَّ ترتيب الحُكم على الوصف المُنَاسِبِ مشعراً بالعلِّيَّة .
الثاني : أَنَّ الحَمْلَ على العُموم أكثر فائدة ، لأَنَّهُ زجرٌ لكلِّ مكلَّف عن تِلك الطَّريقةِ المَذْمُومَةِ .
الثالث : أَنَّهُ أَقربٌ إلى الاحتياطِ .
قال قتادةُ ومُجاهدٌ وجماعة من العلماء : نزلت في كُلِّ مُبْطنٍ كُفراً ، أو نِفاقاً ، أو كذباً أو إضراراً ، وهو يظهر بلسانِهِ خلاف ذلك ، فهي عامة .

قال القرطبي رحمه الله : وهي تشبه ما ورد في التِّرمذيّ أَنّ في بعض الكُتُب أَنَّ اللَّهَ تعالى يقُولُ : « إِنَّ مِنْ عِبَادِي قوماً ألسِنَتُهُمْ أَحْلَى من العسَلِ ، وقلوبهم أَمَرّ مِنَ الصَّبْرِ ، يَلْبسون للنَّاس جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّين ، يشترُون الدُّنيا بالَّدين ، يقُولُ الله - تبارك وتعالى - إِنَّهُم لمُغترُّون ، وعلى اللَّهِ يجترئُونَ فبي حلفت لأُسَلِّطَنَّ عليهم فِتنَةً تدَعُ الحليم منهم حيران . ومعنى : » وَيُشْهِدُ الله « ، أي : يقول : اللَّهُ يعلم أَنَّي أقُولُ حَقّاً .
فصل
اختلفُوا في المَوْصُوف بالصِّفاتِ المذكورة في الآية ، هل هو مُنَافقٌ أمْ لا؟
قال ابنُ الخطيب : إنَّها لا تدلُّ على ذلك ، فإِنَّ قوله : { يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا } لا دلالة فيه على صِفةٍ مَذْمُومةٍ ، إِلاَّ من جهة الإِيماء الحاصل بقوله { فِي الحياة الدنيا } ، فإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ : فُلاَن حُلْوُ الكَلاَمِ فيما يَتَعَلَّقَ بالدُّنيا أَوْهَم نوعاً من المَذمَّةِ .
وقوله : { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ } لا دلالة فيه على حالَةٍ مُنْكرةٍ ، وإِن أَضمرنا فيه أَنَّهُ يُشْهِدُ اللَّهَ على ما في قلبه ، مع أنَّ قلبه بخلاف ذلك لأَنَّهُ ليس في الآية أَنَّ القَوْلَ الَّذي أَظْهرهُ هو الإِسلامُ والتَّوحِيدُ حتى يكُون خلافه نِفَاقاً ، بل يَحْتَمِلُ أن يُضْمِر الفساد ، ويظهر ضِدَّهُ ، فَيَكُونُ مُرائِياً
وقوله : { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } أيضاً لا يُوجِبُ النِّفَاقَ .
وقوله : { وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا } فالمفسد قد يكون مُسْلِماً .
وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } أيضاً لا يَقْتَضِي النِّفَاق ، إِلاَّ أنَّ المُنَافِقَ داخل في هذه الصِّفَاتِ الخَمْس ، والمرائي أيضاً .
فصل في ما أثر عن السلف في بيان » ألد الخصام «
قال مُجاهدٌ : أَلَدُّ الخِصَام : معناهُ : ظَالِمٌ لا يستقيمُ وقال السُّدُّ - رحمه الله تعالى - أعوجُ الخِصَامِ .
وقال قتادةُ : شديدُ القَسْوة في المعَصية ، جدلٌ بالباطل ، عالم اللِّسان ، جاهل العمل ، يتقلد بالحكمة ، ويعملُ بالخطيئة .
فصل في بيان أمر الاحتياط في الدِّين
قال القُرطبيُّ : قال عُلماؤُنَا : في الآية الكريمة دليلٌ على أَنَّ الاحتياط فيما يتعلق بأُمُور الدِّين والدُّنيا ، واستبراء أحوال الشهود والقضاة ، وأَنَّ الحاكم لا يعملُ على ظاهر أَحوالِ النَّاسِ وما يبدو من إيمانهم ، وصلاحهم؛ حتى يَبْحث عن باطنهم؛ لأَنَّ الله تعالى بَيَّنَ أَحوال النَّاسِ ، وأَنَّ منهم من يظهرُ قولاً جميلاً ، وهو يَنْوي قَبِيحاً .
فإِنْ قِيلَ : هذا يَعارضُ قوله عليه السَّلام : » أُمِرتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لا إِله إِلاَّ اللَّهُ « وقوله : » فَأَقْضِيَ لَهُ بِنَحو ما أَسْمَعُ «
فالجوابُ : هذا كان في صدر الِسلامِ ، حيثُ كان إِسْلاَمُهُم سلامتهم ، وأمَّا الآن ، وقد عَمَّ الفسادُ ، فلا ، قاله ابنُ العَرَبيّ .
والصَّحيحُ : أَنَّ الظَّاهِرَ يَعملُ عليه ، حَتّى يبين خلافه .
قوله تعالى : { وَإِذَا تولى سعى } » سَعَى « جوابُ إذا الشَّرطيَّة ، وهذه الجُملةُ الشَّرطيةُ تحتملُ وجْهَيْنِ .

أحدهما : أن تكُونَ عطفاً على ما قبلها ، وهو « يُعْجِبُكَ » ، فتكون : إمَّا صلةً ، أو صفةً حسب ما تقدَّم في « مَنْ » .
والثاني : أن تكُون مُستأَنفةً لمُجرَّدِ الإخبارِ بحالِهِن وقد تَمَّ الكلامُ عند قوله : « ألدُّ الخصام » .
والتّولِّي والسَّعْيُ يحْتَمِلان الحقيقة ، أي : تولَّى ببدنِهِ عنك وسعَى بِقَدَمَيْهِ ، والمُجازَ بأن يريدُ بالتولِّي الرُّجُوع عن القَوْلِ الأَوَّل ، وبالسَّعي العمَل والكَسْبَ من السَّعاية ، وهو مجازٌ شائعٌ؛ ومنه : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] ، وقال امرؤُ القَيسِ : [ الطويل ]
1011 - لَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي - وَلَمْ أَطْلُبْ - قليلٌ مِنَ المَالِ
وَلكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ وَقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالِي
وقال آخرُ : [ السريع ]
1012 - أَسْعَى عَلَى حَيِّ بَنِي مَالِكٍ ... كُلُّ امْرِىءٍ فِي شَأْنِهِ سَاعِي
والسَّاعيةُ بالقولِ ما يقْتَضِي التَّفْرِيق بينَ الأَخِلاَّءِ؛ قال القائل : [ السريع ]
1013 - مَا قُلْتُ مَا قَالَ وُشَاةٌ سَعَوْا ... سَعْيَ عَدْوٍّ بَيْنَنَا يَرْجُفُ
وقال الضَّحَّاكُ : وإذا تَوَلَّى ، أي : مَلَكَ الأَمْرَ ، وصارَ والياً سَعَى في الأَرض .
وقال مُجاهدٌ : إيضا وُلِّي ، وعمل بالعُدوان ، والظُّلم ، أَمْسَكَ اللَّهُ المطر ، وأهلك الحرث والنَّسل .
قوله : « فِي الأَرْضِ » مُتَعَلِّقٌ ب « سَعَى » ، فإنْ قيل : مَعْلُومٌ أنَّ السَّعْيَ لا يكُونُ إلاَّ فِي الأَرْضِ قيل : لأنَّهُ يُفيدُ العُمُومَ ، كأنه قيل : أيَّ مكانٍ حَلَّ فيه من الأرض أفسدَ فيه ، فَيَدُلَّ لفظُ الأَرْضِ على كَثرةٍ فسادِهِ ، إذ يلزَمُ مِنْ عمومِ الظَّرفِ عمومُ المَظْرُوفِ ، و « ليُفْسِدَ » مُتَعَلّقٌ ب « سَعَى » علَّةً له .
قوله : « وَيُهْلِكَ الحَرْثَ » الجُمْهُورُ على : « يُهْلِكَ » بضمِّ اليَاءِ ، وكسر اللام ونصب الكافِ . « الحَرْثَ » مفعول به ، وهي قراءةٌ واضِحَةٌ من : أَهْلَكَ يُهْلك ، والنَّصبُ عطَفٌ على الفعل قبلُهُ ، وهذا شبيهٌ بقوله تعالى : { وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] فإنَّ قوله : « ليفْسِدَ » يَشْتَمِلُ على أَنَّهُ يُهْلَكُ الحَرْثَ والنَّسْلَ ، فخصَّهُما بالذّكر لذلك . وقرأ أُبيّ : « وليُهْلِكَ » بإظهارِ لام العِلَّةِ ، وهي معنى قراءة الجَمهور ، وقرأ أبو حَيوة - ورُويت عن ابن كثيرٍ وابن عمرو - « وَيَهْلِك الحَرْثُ والنَّسْلُ » بفتح الياءِ ، وكسر اللام من هلك الثَّلاثي ، و « الحَرْث » فاعلٌ ، و « النَّسلُ » عطفٌ عليه . وقرأ قومٌ : « ويُهْلِكُ الحَرْثَ » من أَهْلَكَ ، و « الحَرْث » مفعولٌ به إلا أَنَّهُم رفعُوا الكاف . وخُرِّجت على أربعةِ أوجهٍ : أن تكُونَ عَطْفاً على « يُعْجِبُك » أو على « سَعَى » ؛ لأَنَّهُ في معنى المُستقبل ، أو على خبر مُبْتَدأ للمفعول ، « الْحَرْثُ » رفعاً ، وَقَرَأَ أيضاً : « ويَهَلكُ » بفتح الياءِ واللام ورفعِِ الكَافِ ، « الحَرْثُ » رفعا على الفاعلية ، وفتحُ عين المُضارع هنا شاذٌّ لفَتْحٍ عين ماضِيهِ ، وَليس عينُهُ ولا لامُهُ حرفَ حَلْق ، فهو مثلُ رَكَنَ يَرْكَنُ بالفتح فيهما .

و « الحرث » في اللُّغة : الشَّقُّ ، ومنه المِحراثُ لام يُشقّ به الأرض ، والحرث : كسب المالِ وجمعه ، والحَرْثُ : الزَّرعُ ، والحرَّاث الزرَّاع ، وقد حرث ، واحترثَ مثل : زَرَعَ وازْدَرَعَ .
ويقالُ : احرثِ القرآن؛ أي : ادرسه ، وحَرَثتُ النَّاقة وأحرثْتُها ، أي : سِرْتُ عليها حتَّى هزلت ، وحرثت النَّارَ حرّكتها والمِحراث ما يحرك به نار التَّنور نقله الجوهري . وقد تَقَدَّمَ .
والنَّسْلُ : مصدرُ نَسَلَ ينسُل ، أي : خرج بِسُرعة ، ومنه : نَسَلَ وَبَرُ البَعِير ، ونَسَلَ ريشُ الطَّائر ، أي : خَرَجَ وتطايَرَ وقال القُرطبيُّ : النَّسْلُ ما خرج من كُلِّ أنثى من ولدٍ وأصله الخروج ، والسُّقُوط .
وقيل : النَّسلُ الخروج مُتتابعاً ، ومنه : « نُسَالُ الطَّائِر » ما تتابع سقُوطه من ريشه؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1014 - وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّ خَلِيقَةٌ ... فَسلِّي ثِيَابي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ
وقوله : { مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } [ الأنبياء : 96 ] يحتملُ المعنيين . و « الحَرْثَ وَالنَّسْلَ » وإن كانا في الأصلِ مصدَرَيْنِ فإنهما هنا واقعان موقَعَ المفعولِ به .
فصل في المراد ب « التولي »
ذكرُوا في هذا التوَلِّي قولين :
أحدهما : معناه : إذا انْصَرَفَ من عندك سَعَى بالفسَادِ ، وهذا الفَسَادُ يَحتمِلُ وجهَينِ :
أحدهما : إِتْلافُ الأموالِ بالتَّخريب ، والتَّحريق ، والنَّهب كما تقدَّم .
والوجه الثاني : أَنَّهُ كان بعد الانصرافِ من حَضْرَةِ النَّبِيِّ - عليه السَّلام - يلقي الشّبه في قلوب المؤمنين ويستخرج الحيل في تقوية الكُفْرِ ، قال تعالى حكاية عن فرعون { إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد } [ غافر : 26 ] وسمي هذا المعنى فساداً ، لأَنَّهُ يوقع اختلافاً بين النَّاس ، ويفرّق كلمتهم ، ويتبَّرأُ بعضهم من بعض ، فتنقطعُ الأَرْحام وتُسفَكُ الدماءُ .
القول الثَّاني في التَّوَلِّي والسَّعي؛ أي : رجع عن قوله واجتهد في إيقاع الفساد ، وأصل السَّعي المشي بسرعةٍ ، ولكنَّهُ يستعارُ لإِيقاع الفِتنة بيْنَ النَّاسِ ، ومنه يُقالُ : فلان يَسْعَى بالنَّميمة ، والمراد ب « الحَرْث » الزَّرْعُ وب « النَّسل » : تلك الحمر على التَّفْسِير الأَوَّل ، وهو يَقَعُ على ما يُحْرَثُ ويُزْرَعُ .
وقيل : إِنَّ الحَرثَ هو شَقُّ الأرض ، ويقالُ لما يُشقّ به : محرث .
والنَّسلُ في اللُّغة الوَلَدُ ، ومن قال : إِنَّ الأَخنس بيَّت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعاً ، فالمراد بالحرث : الرجال والنساء .
أمَّا النساء فلقوله تعالى : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } [ البقرة : 223 ] .
وأَمَّا الرجال : فهم الذين يشقون أرض التوليد ، وأَمَّا النسلُ فالمراد منه الصبيان .
قوله : { والله لاَ يُحِبُّ الفساد } .
قال العباس بن الفضل : الفسادُ هو الخرابُ .
وقال سعيد بن المسيب : قطع الدراهم من الفساد في الأرض .
وقال عطاء : كان رجل يقال له عطاء بن منبه أحرم في جُبَّةٍ ، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزعها .
قال قتادة : قلت لعطاء : إِنَّا كنا نسمع أن يشقها ، فقال عطاء : إِنَّ اللَّهَ لا يحب الفساد .
قال القطربي : والآية تَعُمُّ كُلَّ فساد كان في الأرض ، أو مالٍ أو دين ، وهو الصحيح .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75