كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

ويقول الكافر : « يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً » في أخيه بْنِ عبدِ الأسدِ .
وقال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : الكافر هنا إبليس - لعنة الله عليه - وذلك بأنه عاب آدم - عليه الصلاة والسلام - بأنه خلقَ من تُرابٍ ، وافتخر بأنه خلقَ من نار ، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه من آدم وبنوه من الثواب والراحة ، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب ، تمنى أنه كان بمكان آدم ، فيقول : يا ليتني كنت تراباً ، قال : ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر .
روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « يُحْشَرُ الخَلقُ كُلُّهُمْ مِنْ دابَّةٍ ، وطَائِرٍ ، وإنْسَانٍ ، ثُمَّ يُقَالُ للبَهَائِمِ والطَّيْرِ : كُونُوا تُرَاباً ، عند ذلكَ يَقُولُ الكَافِرُ : يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً » .
وقيل : معنى « يا ليتني كنت تراباً » أي : لم أبعثْ .
وقال أبو الزناد : إذا قُضِيَ بين الناس ، وأمِرَ بأهْلِ الجنَّة إلى الجنَّة ، وأهْلِ النَّار إلى النار ، قيل لسائر الأمم ولو من الجن : عودوا تراباً ، فيعودون تراباً ، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم : يا ليتني كنت تراباً .
وقال ليث بن أبي سليم : مُؤمنو الجِنِّ يعُودُونَ تُرَاباً .
وقال عُمرُ بْنُ عبدِ العزِيْزِ والزُّهْرِيُّ والكلبيُّ ومجاهدٌ : مؤمنو الجِنِّ حول الجنَّةِ في رَبضِ ورحابٍ وليسوا فيها ، وهذا أصح ، فإنهم مُكَلَّفُونَ : يُثَابُونَ ويُعَاقَبُونَ كبَنِي آدمَ .
روى الثعلبي عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } سقاه الله تعالى بَرْدَ الشَّرابِ يَوْمَ القِيَامَةِ » .

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)

قوله تعالى : { والنازعات غَرْقاً } يجوز في « غرقاً » أن يكون مصدراً على حذفِ الزوائد ، بمعنى « إغْرَاقاً » ، وانتصابه بما قبله لملاقاته في المعنى .
وإمَّا على الحال ، أي : ذواتُ إغراقٍ ، يقال : أغرق في الشيء يغرق فيه إذا أوغل ، وبلغ أقصى غايته ، ومنه أغرق النازع في القوس أي : بلغ غاية المد والاستغراق والاستيعاب .
فصل في المراد بالنازعات
أقسم الله تعالى بهذه الأسماء الخمسة على أن القيامة حق .
و « النَّازعات » قيل : هي الملائكة التي تنزع أرواح الكُفَّار ، قاله علي ، وابن مسعود ، ومسروق ، ومجاهد .
قال ابن مسعود : يريد أنفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم ، من تحت كل شعرة ، ومن تحت الأظافير ، وأصول القدمينِ نزعاً ، كالسَّفُّود ينزع من الصوف الرَّطب ، ثم يغرقُها ، يرجعها إلى أجسادهم ، ثم ينزعها ، فهذا عمله في الكفَّار .
وقال سعيد بن جبر : نُزعَتْ أرْواحُهم ، ثم غرقت ، ثم حرقت ، ثم قذف بها في النار .
وقيل : يرى الكافر نفسه في وقت النَّزع كأنها تغرق .
وقال السدي : « والنَّازِعَات » هي النفوس حين تغرقُ في الصُّدور .
وقال مجاهد : هي الموت ينزع النفوس .
وقال الحسن وقتادة : هي النَّجوم تنزع من أفق إلى أفق ، أي : تذهب ، من قولهم : نزع إليها أي ذهب ، أو من قولهم : نزعت الخيل ، أي : « جرت » ، « غرقاً » أي أنها تغرق وتغيب وتطلع من أفق إلى أفق آخر ، وهو قول أبي عبيدة وابن كيسان والأخفش .
وقال عطاء وعكرمة : « والنَّازعَاتِ » القسيُّ تنزع بالسهام .
« غرقاً » بمعنى : إغراق ، وإغراق النازع في القوس إذا بلغ غاية المدِّ حتى ينتهي إلى النَّصلِ ، ويقال لقشرة البيضة الدَّاخلة « غِرقئ » .
وقيل : هم الغُزَاةُ الرُّماة ، وهو الذي قبله سواء؛ لأنه إذا أقسم بالقسي فالمراد : النازعون بها تعظيماً لها ، كقوله تعالى : { والعاديات ضَبْحاً } [ العاديات : 1 ] .
وقال يحيى بنُ سلام : هي الوحش تنوزع من الكلأ وتنفر .
ومعنى « غرقاً » أي : إبعاداً في النزع .
قوله تعالى : { والناشطات نَشْطاً } .
اعلم أن « نَشْطاً ، وسَبْحاً ، وسَبْقاً » كلها مصادر .
والنَّشْطُ : الرَّبْطُ ، والإنشاطُ : الحل ، يقال : نَشَطَ البعير : رَبطهُ ، وأنشطهُ : حله .
ومنه : « كأنَّما أنشط من عقال » ، فالهمزة للسَّلب ، ونشط : ذهب بسرعةٍ ، ومنه قيل لبقر الوحش : النواشط؛ وقال هميانُ بنُ قحافةَ : [ الرجز ]
5086- أمْسَتْ هُمومِي تَنْشِطُ المنَاشِطَا ... الشَّام بِي طَوْراً وطَوْراً واسِطَا
ونشط الحبل أنشطه أنشوطة : عقدته ، وأنْشَطْتُه : مددته ، ونشط ك « أنشط » .
قال الأصمعي : بئرٌ أنشاط : أي : قريبةُ القعرِ ، يخرج الدَّلوُ منها بجذبةٍ واحدةٍ ، وبئر نشُوط ، قال : وهي التي لا تخرج الدلو منها حتى تنشط كثيراً .
فصل في المراد بالناشطات
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن ، فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حلَّ عنه .

وقيل : يعني أنفس الكفار والمنافقين تنشط كما ينشط العقب الذي يعقب به السَّرج .
والنَّشْطُ : الجذبُ بسرعة .
ومنه الأُنشوطةُ : عقدة يسهل انحلالُها إذا جذبتْ مثل عقدة التكّة .
قال الليث : أنشطه بأنشوطة وأنشوطتين أي : أوثقته ، وأنشطت العقال ، أي : مددت أنشوطته فانحلّت .
ويقال : نشط بمعنى أنشط ، لغتان بمعنى .
وعن ابن عباس أيضاً : أن الناشطات الملائكة ، لنشاطها تذهب وتجيء بأمر ربها حيثما كان .
وقال مجاهدٌ : هو الموت ينشط نفس الإنسان .
وقال السدي : هي النفوس حين تَنْشَطُ من القدَميْنِ .
وقال قتادةُ ، والحسنُ والأخفشُ : هي النجوم تنشط من أفقٍ إلى أفقٍ ، أي : تذهب .
قال الجوهريُّ : يعني النجوم تنشطُ من بُرجٍ إلى برجٍ ، كالثَّور الناشط من بلدٍ إلى بلدٍ .
وقيل : « النازعات » للكافرين : و « النَّاشطاتِ » للمؤمنين ، فالملائكةُ يجْذِبُونَ أرواح المؤمنين برفقٍ .
والنَّزْعُ : جذبٌ بشدَّةٍ .
وقيل : هما جميعاً للكفَّار ، والاثنان بعدهما للمؤمنين .
قوله : { والسابحات سَبْحاً } . قال عليٌّ رضي الله عنه : هي الملائكة تُسبح أرواح المؤمنين .
قال الكلبيُّ : كالذي يسبح في الماء ، فأحياناً يَنْغَمِسُ ، وأحياناً يرتفع يسلُّونها سلاًّ رفيقاً بسهولة ، ثم يدعُونهَا حتى تستريح .
وقال مجاهدٌ وأبو صالحٍ : هي الملائكة ينزِلُونَ من السماء مُسْرِعينَ لأمر الله تعالى ، كما يقال للفرس الجواد : سابحٌ إذا أسرع في جريه ، وعن مجاهد : السابحات : الموت يسبح في نفوس بني آدم . وقيل : هي الخيل الغزاة .
قال عنترةُ : [ مجزوء الكامل ]
5087- والخَيْلُ تَعْلمُ حِينَ تَسْ ... بَحُ في حِيَاضِ المَوْتِ سَبْحاً
وقال قتادة والحسنُ : هي النجوم تسبحُ في أفلاكها ، وكذا الشمس والقمر .
قال تعالى : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] .
وقال عطاءُ : هي السُّفن تسبحُ في الماءِ .
وقال ابن عباسٍ : أرواح المؤمنين تسبحُ شوقاً إلى لقاء الله تعالى ورحمته حين تخرج .
قوله تعالى : { فالسابقات سَبْقاً } .
قال عليٌّ رضي الله عنه : هي الملائكة ، تسبقُ الشياطينَ بالوَحْيِ إلى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وهو قول مسروق ومجاهد .
وعن مجاهد - أيضاً - وأبي روق : هي الملائكة سبقت بني آدم إلى العملِ الصَّالحِ ، فتكتبه .
وعن مجاهد - أيضاً - الموت يسبقُ الإنسان .
وقال مقاتلٌ : هي الملائكة تسبقُ بأرواح المؤمنين إلى الجنَّةِ .
وقال ابنُ مسعودٍ : هي أنفس المؤمنين ، تسبقُ إلى الملائكة الذين يقبضونها ، وقد عاينت السرور شوقاً إلى لقاءِ الله تعالى .
وقال قتادةُ والحسن ومعمر : هي النجوم تسبق بعضها .
وقال عطاءٌ : هي الخيلُ التي تسبقُ إلى الجهاد .
وقيل : يحتملُ أن تكون « السَّابقات » ما تسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة ، أو نار؛ حكاه الماورديُّ .
قال الجرجانيُّ : وذكر « فالسَّابقَاتِ » بالفاء؛ لأنها مشتقة من التي قبلها ، أي : واللاتي يَسْبَحْنَ فيسبقن ، قام فذهب ، فهذا يوجبُ أن يكون القام سبباً للذهابِ .
قال الواحديُّ : قول صاحب النَّظم غير مطرد في قوله : « فالمُدبِّراتِ أمْراً »؛ لأنه يبعد ان يجعل السَّبقُ سبباً للتَّدبير .

قال ابن الخطيب ويمكن الجواب عن اعتراض الواحديِّ : بأنها لمَّا أمرتْ سبَحتْ ، فسَبقَتْ ، فدَبَّرتْ ما أمِرَتْ بتَدْبِيرِهِ ، فتكون هذه أفعالاً يتَّصِلُ بعضها ببعض ، كقولك : قام زيد ، فذهب ، فضرب عمراً ، أو لمَّا سبقُوا في الطَّاعاتِ يُسَارِعُونَ إليها ، ظهرت أمانَتهُمْ ، ففوَّض إليهم التَّدبيرَ .
قوله : { فالمدبرات أَمْراً } .
قيل : « أمْراً » مفعول بالمُدبِّراتِ .
وقيل : حال ، تُدبِّرهُ مأمورات ، وهو بعيد .
قال القشيريُّ : أجمعوا على أن المراد : الملائكة .
وقال الماورديُّ : فيه قولان :
أحدهما : الملائكةُ ، قاله الجمهور .
والقول الثاني : هي الكواكب السبع ، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل .
وفي تدبيرها الأمور وجهان :
أحدهما : تدبيرُ طُلوعِهَا وأفُولِهَا .
والثاني : في تدبير ما قَضى الله - تعالى - فيها من تقليب الأحوال .
وحكى هذا القول - أيضاً - القشيري في تفسيره ، وأن الله - تعالى - علَّق كثيراً من تدبير العالم بحركاتِ النُّجُومِ ، فأضيف التدبير إليها ، وإن كان من الله - تعالى - كما يُسمَّى الشيء باسم ما يجاوره .
وقال شهاب الدِّين : والمراد بهؤلاء إمَّا طوائفُ الملائكة ، وإمَّا طوائفُ خيل الغزاة ، وإما النجوم ، وإمَّا المنَايَا ، وإمَّا بقرُ الوحشِ وما جرى مجراها لسرعتها ، وإما أرواح المؤمنين يعني المذكورين في جميع القسم .
فصل في تدبير الملائكة
« تَدْبِيْرُ المَلائِكَة » : نزولها بالحلالِ ، والحرام ، وتفصيله قال ابن عباس : وقتادة ، وغيرهما إلى الله تعالى ، ولكن لمَّا أنزلت الملائكةُ سُمِّيت بذلك ، كما قال تعالى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ } [ الشعراء : 193 ، 194 ] ، وقوله تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ } [ النحل : 102 ] يعني : جبريل نزَّلهُ على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم والله سبحانه وتعالى هو الذي أنزلهُ .
وروى عطاء عن ابن عباس : « فالمُدبِّراتِ أمْراً » ، هي الملائكة وكلَّت بِتدْبِيْرِ أحوال أهلِ الأرض في الرياح والأمطار ، وغير ذلك .
قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ ساباط : تدبير أمر الدنيا إلى أربعة :
جِبْرِيلِ ، ومِيْكَائِيلِ ، وملكِ الموتِ واسمه عِزْرَائِيلُ ، وإسْرَافِيْل ، فأمَّا جِبْرِيْل ، فمُوكَّلٌ بالرياح ، والجنود ، وأمَّا مِيْكَائِيْل ، فموكَّلُ بالقَطْرِ والنِّباتِ ، وأمَّا ملكُ الموتِ فمُوكَّلٌ بقبض الأرْواحِ في البرِّ والبَحْرِ ، وأما إسْرَافِيلُ ، فهو ينزلُ بالأمر عليهم ، وليس في الملائكة أقربُ من إسرافيل وبينه وبين العرش خَمْسمائةِ عامٍ .
وقيل : وُكِّلُوا بأمُورٍ عَرَّفهمُ اللهُ بِهَا .
فإن قيل : لِمَ قَالَ : « أمْراً » ، ولم يَقُلْ : أمُوراً ، فإنهم يدبرون أمُوراً كثيرة؟ .
فالجوابُ : أن المرادَ به الجنسُ ، فهو قائم مقام الجمعِ .
واعلم أنَّ هذه الكلمات أقسم الله - تعالى - بها ، ولله - تعالى - أن يقسم بما شاء من خلقه ، وليس لنا ذلك .

يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)

قوله تعالى : { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة } منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ ، وهو جوابُ القسمِ : تقديرهُ : لتُبْعَثُنَّ ، لدلالةِ ما بعده عليه .
قال الفرَّاءُ : ويدل عليه قوله تعالى : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } ألسْتَ ترى أنه كالجواب لقولهم : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } نُبعث؟ فاكتفى بقوله : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } ؟ .
وقال الأخفشُ والزجاجُ : يَنْفُخْنَ في الصُّورِ نَفْخَتَيْنِ ، بدليل ذكر « الرَّادفة » و « الرَّاجفَةِ » ، وهما النَّفختانِ .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف جعلت « يَوْمَ تَرْجفُ » ظرفاً للمضمر الذي هو لَتُبْعَثُنَّ ، ولا يبعثون عند النفخة الأولى؟ .
قلت : المعنى : لتبعثن في الوقت الواسع الذي تقع فيه النفختان ، وهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع ، وهو وقت النفخة الأخرى ودلَّ على ذلك أن قوله : { تَتْبَعُهَا الرادفة } جعل حالاً عن « الرَّاجِفَة » .
وقيل : العامل مقدر ، أي : اذكر يوم ترجفُ .
وفي الجواب على هذا التقدير وجوهٌ :
أحدها : قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً } [ النازعات : 26 ] .
واستقبحه أبو بكر بن الأنباري ، لطول الفصل .
الثاني : أنه قوله : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى } [ النازعات : 15 ] ؛ لأن « هَلْ » بمعنى : « قَدْ » .
وهذا غلطٌ؛ لأنه كما تقدَّم في « هَلْ أتَى » أنَّها لا تكون بمعنى « قد » إلاَّ في الاستفهام على ما قال الزمخشري .
الثالث : أن الجواب : « تَتْبعُهَا » وإنَّما حذفتِ « اللامُ » ، والأصل : « اليَوْمَ تَرْجفُ الرَّاجفةُ تَتْبعُهَا » ، فحذفت « اللاَّمُ » ، ولم تدخل نون التوكيد على تتبعها للفصل بين « اللام » المقدَّرة ، وبين الفعل المقسمِ عليه بالظرف ، ومثله : { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } [ آل عمران : 158 ] .
وقيل : في الكلام تقديم ، وتأخير ، أي : يَوْمَ تَرْجفُ الرَّاجفةُ ، تَتْبعُهَا الرَّادفةُ والنَّازعات .
وقال أبو حاتم : هو على التقديم ، والتأخير ، كأنه قالأ : فإذا هم بالساهرة والنازعات .
قال ابنُ الأنباريُّ : وهذا خطأ؛ لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام .
وقيل : « يَوْمَ » منصوب بما دلَّ عليه « راجِفةٌ » ، أي : يَوْمَ تَرْجفُ رَجَفَتْ .
وقيل : بما دلَّ عليه « خَاشِعَة » أي : يوم ترجف خشعت ، وقوله : « تَتْبعُهَا الرَّادفَةُ » يجوز أن يكون حالاً من « الرَّاجِفَةُ » ، وأن يكون مستأنفاً .
فصل في تفسير الآية
قال عبد الرحمن بن زيد : « الرَّاجِفَةُ » أي : المُضطَرِبَةُ ، ومعناه : أنَّ الأرض تضطرب ، و « الرَّادفة » السَّاعة .
وقال مجاهدٌ : الزلزلةُ تتبعها الرادفة ، أي : الصيحة .
وعنه - أيضاً - ، وابن عباس والحسن وقتادة : هما الصَّيحتان ، أي : النفختان ، أمَّا الأولى فتُمِيْتُ كُلَّ شيء بإذنِ الله تعالى ، وأمَّا الثانية فتُحْيِي كُلَّ شيءٍ بإذن الله تعالى .
قال صلى الله عليه وسلم : « بَيْنَ النَّفْخَتيْنِ أرْبعُونَ سنةً » .
وقال مجاهد : « الرَّاجفَةُ » الرجفة حين تنشقُّ السَّماءُ ، وتُحْملُ الأرضُ والجبالُ ، فتُدَكُّ دكَّةً واحدةٍ [ وذلك بعد الزلزلة وقيل : الرجفة تحرك الأرض والرادفة زلزلة أخرى تفني الأرضين ] .

وأصل « الرَّجفَةِ » الحركةُ ، قال تعالى : { يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض } [ المزمل : 14 ] ، وليست الرجفة هناك من الحركة فقط ، بل من قولهم : رجف الرَّعدُ يرجف رجفاً ورجيفاً ، أي : أظهرت الصوت والحركة ، ومنه سُمِّيت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها ، وإفاضة النَّاس فيها .
وقيل : الرجفة هذه منكرة في السحاب ، ومنه قوله تعالى : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } [ الأعراف : 78 ] .
وأما الرادفة : فكل شيء جاء بعد شيء آخر ، يقال : ردفهُ : أي : جاء بعده .
قوله : { قُلُوبٌ } مبتدأ ، و « يومئذ » منصوب ب « وَاجِفَة » ، و « وَاجِفَة » صفة القلوب ، وهو المسوغ للابتداء بالنكرة ، و « أبْصارُهَا » مبتدأ ثانٍ ، و « خَاشِعَة » خبره ، وهو وخبره خبر الأول ، وفي الكلام حذف مضاف ، تقديره : أبصار أصحاب القلوب .
قال ابن عطية : وجاز ذلك ، أي : الابتداء ب « قُلُوب »؛ لأنها تخصصت بقوله : « يَوْمَئِذ » .
ورد عليه أبو حيان : بأن ظرف الزَّمان لا يخصص الجثث ، يعني : لا يوصف به الجثث .
و « الواجِفة » : الخائفة الوجلة ، قاله ابن عباس ، يقال : وجَفَ يَجِفُ وجِيفاً ، وأصله : اضطراب القلب .
قال قيس بن الخطيم : [ المنسرح ]
5088- إنَّ بَنِي جَحْجَبَى وأسرتَهُمْ ... أكْبَادُنَا مِنْ وَرائِهمْ تَجِفُ
وقال السديُّ : زَائلةٌ عن أماكنها ، ونظيره : { إِذِ القلوب لَدَى الحناجر } [ غافر : 18 ] .
وقال المؤرج ، قلقة مستوفزة ، مُرتكضةٌ غير ساكنة .
وقال المبرد : مضطربة ، والمعنى متقارب ، والمراد : قلوب الكفَّار ، يقال : وجَفَ القلب يَجِفُ وجِيفاً : إذا خفق ، كما يقال : وجَبَ يَجِبُ وَجِيْباً - بالياء الموحدة - بدل الفاء ، ومنه وجيف الفرس والنَّاقة في العدوِ .
والإيجاف : حمل الدابة على السير السريع .
قوله : { أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } أي : مُنْكَسِرةٌ ذليلة من هول ما ترى ، نظيره : { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [ القلم : 43 ] .
قوله : { يَقُولُونَ } أي : يقول هؤلاء المكذِّبون المنكِرُونَ للبعث إذا قيل لهم : إنكم تُبْعَثُون ، قالوا منكرين متعجبين : أنُرَدُّ بعد موتتنا إلى أول الأمر ، فنعود أحياء ، كما كنا قبل الموت؟ وهو كقولهم : { أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [ الإسراء : 49 ] .
قوله : { فِي الحافرة } « الحافرة » : التي يرجعُ الإنسان فيها من حيث جاء ، يقال : رجع في حافرته ، ثم يعبر عن الرجوع في الأحوال من آخر الأمر إلى أوله؛ قال : [ الوافر ]
5089- أحَافِرةً عَلى صَلعٍ وشَيْبٍ؟ ... مَعاذَ اللهِ من سَفهٍ وعَارِ
يقول : أأرجعُ ما كنت عليه في شبابي مع الغزلِ والصبا بعد أن شبت وصلعت؟ .
وأصله : أنَّ الإنسان إذا رجع في طريقه أثرت قدماه فيها حفراً .
وقال الراغبُ ، في قوله تعالى : { فِي الحافرة } مثل لمن يرد من حيث جاء ، أي : أنَحْيَا بعد أن نموت؟ .
وقيل : « الحَافرة » ، الأرضُ التي جُعلتْ قبُورهُمْ فيها ، ومعناه : أئِنَّا لمردودون ونحن في الحافرة؟ أي : في القبور .
وقوله : « في الحافرة » على هذا في موضع الحال ، ويقال : رجع الشيخ إلى حافرته ، أي : هرم لقوله تعالى :

{ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } [ النحل : 70 ] .
وقولهم : « النقد عند الحافرة » لما يباع نقداً ، وأصله من الفرس إذا بيع ، فيقال : لا يزول حافره ، أو ينقد ثمنه .
والحفر : تآكل الأسنان ، ود حفر فوه حفراً ، وقد أحفر المهر للأثناء والأرباع .
والحافرة : « فاعلة » بمعنى : « مفعولة » ، وهي الأرض التي تحفر قبورهم فيها فهي بمعنى : « المحفورة » ، كقوله تعالى : { مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] ، و { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ القارعة : 7 ] ، والمعنى : أئِنَّا لمردودون في قبورنا .
وقيل : على النسب ، أي : ذاتُ حفر .
وقيل : سُمِّيت الأرض الحافرة؛ لأنها مستقر الحوافر ، كما سمِّيت القدم أرضاً؛ لأنها على الأرض ، لقولهم : الحافرة جمع حافرة بمعنى : القدم أي : نمشي أحياء على أقدامنا ، ونطأ بها الأرض .
وقيل : هي أول الأمر .
ويقول التجار : « النقد في الحافرة » أي في أول السّوم؛ وقال الشاعر : [ السريع ]
5090- آلَيْتُ لا أنْسَاكُم فاعْلَمُوا ... حَتَّى يُرَدَّ النَّاسُ في الحَافِرَهْ
وقال ابن زيدٍ : الحافرة « النَّار » ، وقرأ : « تلك إذا كرَّه خاسرة » .
وقال مقاتلٌ وزيدُ بن أسلم : هي اسم من أسماء النار .
وقال ابنُ عبَّاسٍ : الحافرة في كلام العرب : الأرض التي تغيَّرت وأنتنت بأجسادِ موتاها ، من قولهم : حفرت أسنانه ، أي : تآكلت ، أي : دكها الوسخُ من باطنها وظاهرها ، ويجوز تعلقه ب « مردودون » ، أو : بمحذوف على أنه حال .
فصل في تفسير الآية
قال ابن الخطيب : هذه الأحوال المتقدمة هي أحوال القيامة عند جمهور المفسرين .
وقال أبو مسلم : هذه الأحوال ليست هي أحوال القيامة؛ لأنه فسَّر « النَّازعات » بنزعِ القوسِ ، و « المُدبِّرات » بالأمور التي تحصل أدبار ذلك الرمي ، والعدو ، ثم بنى على ذلك فقال : « الرَّاجفَة » هي خيلُ المشركين ، وكذلك « الرَّادفة » ، وهما طائفتان من المشركين غزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقت إحداهما الأخرى ، والقلوب الواجفة ، هي القلقةُ ، والأبصار الخاشعة ، هي أبصار المنافقين ، كقوله تعالى : { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت } [ محمد : 20 ] ، كأنَّه قيل : لمَّا جاء خيل العدو ترجف؛ لأنها اضطربت قلوب المنافقين خوفاً ، وخشعت أبصارهم جُبْناً وضَعْفاً ثم قالوا : « أئِنَّا لمردودون فِي الحَافِرَةِ » أي : نرجع إلى الدنيا حتى نتحمّل هذا الخوف لأجلها . وقالوا أيضاً : « تِلْكَ إذا كَرَّة خَاسِرةٌ » ، فأول هذا الكلام حكاية لحال من غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين ، وأوسطه حكاية لحال المنافقين ، وآخره حكاية لكلام المنافقين في إنكار الحشر ، ثم إنه - تعالى - أجاب عن كلامهم بقوله تعالى : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بالساهرة } .
قال ابن الخطيب : وكلام أبي مسلم محتملٌ ، وإن كان على خلاف قولِ الجمهور .

قوله تعالى : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } .
قرأ الأخوان وأبو بكر : « نَاخِرَةً » بألف .
والباقون : « نَخِرة » بدُونِهَا .
وهما ك « حَاذِرٍ ، وحَذِر » فاعل لمن صدر عنه الفعل ، و « فعل » لمن كان فيه غريزة أو كالغريزة .
وقيل : ناخِرَة ، ونخِرَة بمعنى : بالية .
يقال : نَخِر العظم - بالكسر - أي بلي وتفتَّت .
وقيل : نَاخِرةٌ ، أي : صارت الريح تَنْخَر فيها ، أيك تصوت ، ونَخِرَةٌ أي : ينخر فيها دائماً .
وقيل : ناخرة ، أي : بالية ، ونخرة : متآكلة .
وعن أبي عمرو : النَّاخرة : التي لم تنخر بعد ، والنَّخرةُ : البالية .
وقيل : النَّاخرةُ : المصوت فيها الريح ، والنَّاخرة : البالية التي تعفّنت .
قال الزمخشري : « نَخِرَ العَظْمُ فهو نَخِرٌ ونَاخِرٌ ، كقولك : طمع ، فهو طَمِعٌ وطَامِع ، و » فَعِل « أبلغ من فاعل ، وقد قُرئ بهما ، وهو البالي الأجوف الذي تمرُّ فيه الريح ، فيسمع له نخير » .
ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
5091- وأخْلَيْتُهَا مِنْ مُخِّهَا فكَأنَّهَا ... قَوارِيرُ في أجْوافِهَا الرِّيحُ تَنْخُرُ
وقال الرَّاجز لفرسه : [ الرجز ]
5092- أقْدِمْ سَجاجِ إنَّها الأسَاوِرَهْ ... ولا يَهُولنكَ رُءُوسٌ نَادِرَهْ
فإنَّمَا قَصْرُكَ تُرْبُ السَّاهِرَهْ ... ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَهَا في الحَافِرَهْ
مِنْ بَعْدِ مَا كُنت عِظَاماً نَاخِرَهْ ... ونُخْرةُ الريح - بضم النون - شدة هبوبها ، والنُّخْرَةُ أيضاً : مقدم أنف الفرس ، والحمار ، والخنزير ، يقال : هشم نخرته ، أي : مقدم أنفه .
و « إذَا » منصوبٌ بمُضْمَرٍ ، أي : إذَا كُنَّا كذا نُردُّ ونُبعَثُ .
قوله تعالى : { قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } .
« تلك » مبتدأ بها إلى الرَّجفةِ والردة في الحافرة ، و « كَرَّةٌ » خبرها ، و « خاسرة » صفة ، أي : ذاتُ خسرانٍ ، أو أسند إليها الخسار مجازاً والمراد أصحابُها ، والمعنى : إن كان رجوعنا إلى القيامة حقاً ، فتلك الرجعة رجعة خاسرة [ خائبة ] ، وهذا أفادته « إذن » فإنها حرف جواب وجزاء عند الجمهور .
وقيل : قد لا تكون جواباً .
وعن الحسن : أن « خاسرة » بمعنى كاذبة ، أي : ليست كائنة .
وقال الربيع بن أنس : خاسرةٌ على من كذَّب بها .
وقيل : كَرَّةُ خُسران ، والمعنى : أهْلُهَا خاسرون ، كقولك : تِجَارةٌ رابحةٌ ، أي : يَرْبَحُ صاحبها .
وقال قتادة ومحمد بن كعب أي : لئن رجعنا أحياءً بعد الموت لنحشرن بالنَّار ، وإنَّما قالوا هذا لأنَّهُم أوعدُوا بالنار ، و « الكَرُّ » : « الرجوع » ، يقال : كرَّهُ ، وكَرَّ بنفسه ، يتعدى ولا يتعدَّى .
والكَرَّةُ : المرَّةُ ، الجمع : الكرَّات .
قوله : { فَإِنَّمَا هِيَ } ضمير الكرة ، أي : لا تحسبوا تلك الكرَّة صعبة على الله تعالى .
قال الزمخشري : « فإن قلت : بم يتعلق قوله : » فإنما هي «؟ .
قلت : بمحذوف ، معناه : لا تستصعبوها فإنما هي زجرة واحدة ، يعني بالتعلُّق من حيث المعنى ، وهو العطف .
وقوله : » فإذَا هُمْ « المفاجأة والسبب هنا واضحان .
والزجرة : قال ابن عباس رضي الله عنهما : في النَّفخةِ الواحدة » فإذا هُمْ « أي : الخلائق أجمعون ، » بالساهرة « أي : على وجه الأرض من الفلاة ، وصفت بما يقع فيها ، وهو السهر لأجل الخوف .

وقيل : لأن السراب يجري فيها من قولهم : « عين ساهرة » أي : جارية الماء ، وفي ضدها نائمة .
[ قال الزمخشري : « والساهرةُ : الأرض البيضاء المستوية ، سميت بذلك؛ لأن السراب يجري فيها ] من قولهم : عين ساهرة : أي : جارية الماء ، وفي ضدِّها نائمة؛ قال الأشعثُ بن قيسٍ : [ الطويل ]
5093- وسَاهِرةٍ يُضْحِي السَّرابُ مُجَلِّلاً ... لأقْطَارِهَا قدْ جُبْتُهَا مُتلثِّماً
أي : ساكنها لا ينام خوف الهلكة انتهى؛ وقال أميَّةُ : [ الوافر ]
5094- وفِيهَا لَحْمُ سَاهِرةٍ وبَحْرٍ ... ومَا فَاهُوا به لهُمُ مُقِيمُ
يريد : لحم حيوان أرض ساهرة؛ وقال أبو كبير الهذليُّ : [ الكامل ]
5095- يَرْتدْنَ سَاهِرةً كَأنَّ جَمِيمهَا ... وعَمِيمَهَا أسْدافُ ليْلٍ مُظْلِمِ
وقال الراغب : هي وجه الأرض .
وقيل : أرض القيامة ، وحقيقتها التي يكثر الوطء بها ، كأنَّها سهرت من ذلك .
والأسهران : عرقان في الأنف .
والساهور : غلافُ القمر الذي يدخل فيه عند كسوفه؛ قال : [ البسيط ]
5096- . ... أوْ شُقَّةٌ خَرجتْ مِنْ بَطْنِ سَاهُورِ
أي : هذه المرأة بمنزلة قطعة القمرِ . وقال أمية بن أبي الصلت : [ الكامل ]
5097- قَمَرٌ وسَاهُورٌ يُسلُّ ويُغْمَدُ ... وروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : » السَّاهرة : أرض من فضَّةٍ لم يُعْصَ اللهُ عليها مُنْذُ خَلقهَا « .
وقيل : أرض يجددها الله يوم القيامة .
وقيل : السَّاهرة : اسم الأرض السابعة يأتي الله بها ، فيحاسب عليها الخلائقَ ، وذلك حين تبدَّلُ الأرض غير الأرض .
وقال الثَّوري : السَّاهرة : أرضُ » الشَّام « .
وقال وهبُ بن منبه : جبلُ بيتِ المقدسِ .
وقال عثمانُ بنُ أبي العاتكةِ : إنَّه اسم مكان من الأرض بعينه ، ب » الشام « ، وهو الصقع الذي بين جبل » أريحَا « وجبل » حسَّان « يمُدُّه الله كيف يشاء .
وقال قتادةُ : هي جهنَّم ، أي : فإذا هؤلاءِ الكُفَّار في جهنَّم ، وإنَّما قيل لها : ساهرة؛ لأنَّهُم لا ينامون عليها حينئذ .
وقيل : السَّاهرة بمعنى : الصحراء على شفيرِ جهنَّم ، أي : يوقفون بأرض القيامة ، فيدوم السهر حينئذ .

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)

قوله تعالى : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى } أي : قد جاءك وبلغك ، وهذه تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي : أنَّ فرعون كان أقوى من كفار عصرك ، ثُمَّ أخذناه وكذلك هؤلاء .
وقيل : « هَلْ » بمعنى : « ما » أي : ما أتاك ، ولكِّي أخبرك به ، فإنَّ فيه عِبْرَةً لمن يخشى .
وقال ابنُ الخطيبِ : قوله : « هَلْ أتَاكَ » يحتملُ أن يكون معناه : أليْسَ قَدْ أتَاكَ حديثُ موسى ، هذا إن كان قد أتاه ذلك قبل هذا الكلام ، أمَّا إن لم يكن قد أتاه ، فقد يجوز أن يقال : « هَلْ أتَاكَ » أي : أنا أخبرك وتقدم الكلام على موسى وفرعون فإنَّ فيه عبرة لمن يخشى .
قوله : { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ } منصوب ب « حديث » لا ب « أتاك »؛ لاختلاف وقتيهما ، وتقدم الخلاف بين القراء في « طُوَى » في سورة [ طه : 12 ] .
و « الوادي المقدس » : المُبَاركُ المُطَهَّر .
قال الفراء : « طُوى » واد بين « المدينة » و « مصر » ، قال : وهو معدولٌ ، من « طاو » ، كما عدل « عُمَرُ » من « عامر » .
قال الفراء : مَنْ صرفه قال : هو ذكر ، ومن لم يصرفه جعله معدولاً ك « عمر ، وزفر » .
قال : « والصَّرفُ أحبُّ إليَّ إذا لم أجد في المعدول نظيراً » أي : لم أجد له اسماً من الواو والياء عدلَ من « فاعل » إلى « فُعَل » غير طُوى .
وقيل : « طوى » معناه : يا رجل ، بالعبْرَانيَّةِ ، فكأنَّه قيل : اذهب يا رجل إلى فرعون ، [ قاله ابن عباس .
وقيل : الطوى : أي : ناداه بعد طويّ من الليل اذهب إلى فرعون ] ؛ لأنك تقول : جئتك بعد طويّ ، أي بعد ساعة من الليل .
وقيل : معناه « بالوَادِ المُقدَّسِ طُوى » أي بُورِكَ فيهِ مرَّتيْنِ .
قوله : { اذهب } يجوز أن يكون تفسيراً للنداء ، ناداه اذهب ، ويجوز أن يكون على إضمار القول .
وقيل : هو على حذف ، أي : أن اذهب ، ويدل له قراءة عبد الله : أن اذهب .
و « أن » هذه الظَّاهرة أو المقدرة ، يحتملُ أن تكون تفسيرية ، وأن تكون مصدرية ، أي : ناداه ربُّه بكذا .
« اذهب إلى فرعون إنه طغى » أي تجاوز القدر في العصيان .
قال ابنُ الخطيب : ولم يُبيِّنُ أنَّه طغَى في أيِّ شيءٍ .
فقيل : تكبَّر على الله تعالى ، وكفر به .
وقيل : تكبَّر على الخلقِ واسْتعبَدهُمْ .
روي عن الحسن قال : كان فرعون علجاً من « همدان » .
وقال مجاهد : كان من أهل « إصطخر » وعن الحسن - أيضاً - كان من أهل « أصبهان » ، يقال له : ذو ظفر ، طوله أربعة أشبارٍ .

قوله : { هَل لَّكَ } خبر مبتدأ مضمر .
و { إلى أَن تزكى } متعلِّق بذلك المبتدأ ، وهو حذفٌ سائغٌ ، والتقدير : هل لك سبيل إلى التزكية ، ومثله : هل لك في الخير ، تريد : هل لك رغبة في الخير؛ قال : [ الطويل ]
5098- فَهَلْ لَكمُ فِيهَا إليَّ فإنَّنِي ... بَصِيرٌ بِمَا أعْيَا النِّطاسِيَّ حِذْيَمَا
وقال أبو البقاء : لمَّا كان المعنى : أدعوك ، جاء ب « إلى » .
وقال غيره : يقال : هل لك في كذا ، هل لك إلى كذا كما تقول : هل ترغب فيه وهل ترغب إليه؟ .
قال الواحدي : المبتدأ محذوف في اللفظ ، مراد في المعنى ، والتقدير : هل لك إلى أن تزكَّى حاجة .
وقرأ نافع وابن كثير : بتشديد الزاي من « تزكَّى » والأصل تتزكى ، وكذلك « تَصدَّى » في السورة تحتها ، فالحرميان : أدغما ، والباقون : حذفوا ، نحو تنزل ، وتقدَّم الخلاف في أيتهما المحذوفة .
فصل في تفسير الآية
معنى « هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزكَّى » أي : تُسْلِم فتطهرُ من الذُّنُوبِ .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - هل لك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله .
و « أهْديكَ إلى ربِّك فتَخْشَى » أي : تخافُه وتتقيه .
قال ابن الخطيب : سائر الآيات تدل على أنه - تعالى - لمَّا نادى موسى - عليه الصلاة والسلام - ذكر له أشياء كثيرة ، كقوله تعالى في سورة « طه » : { نُودِيَ ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ } [ طه : 11 ، 12 ] إلى قوله : { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } [ طه : 23 ، 24 ] .
فدلَّ [ قوله تعالى - هاهنا - : « اذْهَبْ إلى فِرعَوْنَ إنَّه طَغَى » ] أنه من جملة ما ناداه به [ لا كل ما ناداه به ] ، وأيضاً فليس الغرض أنَّه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى فرعون فقط بل إلى كل من كان في الطور ، إلاَّ أنَّه خصَّه دعوته جاريةٌ مجرى دعوةِ كُلِّ القَوْمِ .
فصل في كلام المعتزلة
تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في إبطال القول بأن الله - تعالى - يخلق فعل العبد ، فإن هذا استفهام على سبيل التقرير ، أي : لك سبيل إلى أن تزكَّى ، ولو كان ذلك بفعل الله - تعالى - لا نقلب الكلام حجةً على موسى .
والجواب : ما تقدَّم في نظائره .
حكى القرطبيُّ عن صخرِ بنِ جويرية قال : « لمَّا بعث الله تعالى موسى - عليه الصلاة والسلام - إلى فرعون ، قال له : » اذْهَبْ إلى فِرْعَونَ « إلى قوله : » وأهْديكَ إلى ربِّك فتَخْشَى « ، ولن يفعل ، فقال : يا رب ، وكيف أذهب إليه ، وقد علمت أنه لا يفعل ، فأوحى الله - تعالى - إليه أن امض إلى ما أمرتَ به ، فإنَّ في السماء اثني عشر ألفاً ملك ، يطلبون علم القدرة ، فلم يبلغوه ، ولم يدركوه » .

قوله تعالى : { فَأَرَاهُ الآية الكبرى } « الفاء » في « فأراه » : معطوف على محذوف ، يعني فذهب فأراه ، كقوله تعالى : { اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت } [ البقرة : 60 ] أي : فضرب فانفجرت .
واختلفوا في الآية الكبرى ، أي : العلامة العظمى ، وهي المعجزة .
فقيل : هي العصا .
وقيل : اليدُ البيضاءُ تبْرقُ كالشَّمْسِ ، قاله مقاتل والكلبي .
والأول : قول عطاء وابن عباس؛ لأنَّه ليس في اليد إلا انقلاب لونها ، وهذا كان حاصلاً في العصا؛ لأنَّها لمَّا انقلبت حيّة ، فلا بد وأن يتغيَّر اللون الأول ، فإذن كل ما في اليد ، فهو حاصل في العصا ، وأمور أخر ، وهي الحياة في الجرم الجمادي ، وتزايد الأجر إليه ، وحصول القدرةِ الكبيرة والقُوَّة الشديدة ، وابتلاعها أشياء كثيرة ، وزوال الحياة ، والقدرة عليها ، وبقاء تلك الأجزاء التي عظمت ، وزوال ذلك اللون والشكل اللذين صارت العصا بهما حيَّة ، وكلُّ واحدٍ من هذه الوجوه كان معجزاً مستقلاً في نفسه ، فعلمنا أن الآية الكبرى هي العصا .
وقال مجاهد : هي مجموع العصا واليد .
وقيل : فلق البحر ، وقيل : جميع آياته ومعجزاته .
{ فَكَذَّبَ } أي : كذَّب بِنَبِيِّ الله موسى و « عصى » ربَّه تبارك وتعالى .
فإن قيل : كل من كذَّب الله فقد عصى ، فما فائدة قوله : « فكذب وعصى »؟ .
فالجواب : كذَّب بالقول ، وعصى بالتمرد والتجبر .
{ ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى } أي : يعملُ بالفساد في الأرض .
وقيل : يعمل في نكاية موسى .
وقيل : « أدْبَرَ يَسْعَى » هارباً من الحيَّة .
قال ابن الخطيب : معنى « أدْبَرَ يَسْعَى » أي : أقبل يسعى ، كما يقالُ : أقبل يفعل كذا ، يعني : إن شاء يفعل ، فموضع « أدبر » موضع « أقبل » لئلاَّ يوصف بالإقبَالِ .
قوله : { فَحَشَرَ فنادى } لم يذكر مفعولاهما ، إذ المراد : فعل ذلك ، أو يكون التقدير : فحشر قومه فناداهم .
وقوله : « فَقَالَ » تفسير للنِّداء .
وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : فنادى فحشر؛ لأنَّ النداء قبل الحشر ، ومعنى « حشر » ، أي : جمع السَّحرة ، وجمع أصحابه ليَمْنَعُوهُ من الحيَّة .
وقيل : جمع جنوده للقتال ، والمحاسبة ، و « السَّحَرةُ » : المعارضة .
وقيل : حَشَرَ النَّاس للُضُور « فنادى » أي : قال لهم بصوتٍ عالٍ .
{ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } أي : لا ربَّ فوقِي .
وقيل : أمر منادياً ينادي فنادى في النَّاس بذلك .
وقيل : قام فيهم خطيباً فقال ذلك .
وعن ابن عباس ، ومجاهدٍ ، والسديِّ ، وسعيد بن جبير ، ومقاتلٍ : كلمته الأولى { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] والأخرى : { أنَا ربُّكمُ الأعْلَى } .
قال ابنُ عباس : كان بين الكلمتين أربعون سنة ، والمعنى : أمهله في الأولى ، ثم أخذه في الآخرة فعذبه بكلمتيه .
قال ابن الخطيب : واعلم أنَّا بينَّا في سورة « طه » أنه لا يجوز أن يعتقد الإنسانُ في نفسه كونه خالقاً للسماوات والأرض والجبال والنبات والحيوان ، فإنَّ العلمَ بفسادِ ذلك ضروريٌّ ، فمن تشكك فيه كان مجنوناً ، ولو كان مجنوناً لما جاز من الله بعثة الرسل إليه ، بل الرَّجل كان دهرياً منكراً للصَّانع والحشر والنشر ، وكان يقول : ليس لأحدٍ أمرٌ ولا نهيٌ إلاَّ لي « فأنَا ربُّكم » ، بمعنى مربيكم والمُحسنُ إليكم ، وليس للعالم إله حتى يكون له عليكم أمرٌ ، أو نهيٌ ، أو يبعث إليكم رسولاً .

قال القاضي : وقد كان الأليق به بعد ظهور خزيه عند انقلاب العصا حية ألا يقول هذا القول؛ لأن عند ظهور الدلالة والمعجزة ، كيف يليق أن يقول : « أنَا ربُّكم الأعْلَى » فدلت هذه الآية أنَّه في ذلك الوقت صار كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول .
قوله تعالى : { فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى } يجوز أن يكون مصدر الأخذِ ، والتجوز إما في الفعل ، أي : نكل بالأخذِ نكال الآخرة ، وإما في المصدر ، أي : أخذه أخذ نكالٍ ، ويجوز أن يكون مفعولاً له ، أي : لأجلِ نكالهِ ، ويضعف جعله حالاً لتعريفه ، وتأويله كتأويل جهدك وطافتك ، غير مقيس .
ويجوز أن يكون مصدراً مؤكِّداً لمضمون الجملة المتقدِّمة ، أي : نكل الله [ به ] نكال الآخرة . قاله الزَّمخشريُّ ، وجعله كوعد الله ، وصبغة الله .
وقال القرطبيُّ : وقيل : نُصِبَ بنَزْعِ حرف الصِّفة ، أي : فأخذه الله بنكال الآخرة ، فلمَّا نُزعَ الخافضُ نُصِبَ .
والنكال : اسم لما جعل نكالاً للغير ، أي : عقوبة له حتى يعتبر ، يقال : نَكَل فلانٌ بفلانِ ، إذا ألحقهُ عُقوبة ، والكلمة من الامتناع ، ومنه النُّكُول عن اليمين ، والنكل : القيد وقد مضى في سورة « المزمل » ، والنكال : بمنزلة التنكيل ، كالسلام بمعنى التسليم .
والآخرة والأولى : إمَّا الدَّاران وإمَّا الكلمتان والاخرة قوله : « أنَا ربُّكمُ الأعْلَى » ، والأولى : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] كما تقدم فحذف الموصول للعلم به .
فصل في تفسير الآخرة والأولى
قيل : الآخرة والأولى : هما الكلمتان كما تقدَّم .
وقال الحسنُ وقتادةُ : « نكال الآخرة والأولى » : هو أن أغرقهُ في الدَّنيَا وعذّبه في الآخرة .
وروي عن قتادة - أيضاً - : الآخرةُ قوله : { أنَا ربُّكمُ الأعْلَى } والأولى تكذيبه بموسى عليه الصلاة والسلام .
قال الفقال : وهذا كأنَّه هو الأظهرُ؛ لأنَّه - تعالى - قال : { فَأَرَاهُ الآية الكبرى فَكَذَّبَ وعصى ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } فذكر القصتين ، ثم قال : { فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى } .
فظهر أنَّ المراد : أنَّه عاقبه على هذين الأمرين .
ثمَّ إنَّه - تعالى - ختم هذه القصة بقوله :
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى } ، إنَّ فيما قصصنا عليك اعتباراً وعظةً لمن يخاف .

أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)

قوله : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } ، يريد : أهل « مكّة » ، أي : أخلقكم بعد الموت أشدُّ في تقديركم أم السماءُ؟ .
فمن قدر على خلقِ السَّماء على عظمها ، وعظم أحوالها ، قدر على الإعادة ، وهذا كقوله : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 57 ] .
والمقصود من الآية الاستدلال على منكري البعث ، ونظيره قوله تعالى : { أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } [ يس : 81 ] .
ومعنى الكلام : التقريع والتوبيخ .
ثم وصف تعالى السماء ، فقال : « أم السَّماءَ بَناهَا » عطف على « أنتم » ، وقوله « » بَنَاهَا « بيان لكيفية خلقه إياها ، فالوقف على » السَّماءِ « ، والابتداء بما بعدها ، ونظيره قوله - تعالى - في » الزخرف « : { أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } [ الزخرف : 58 ] .
وقوله : » رَفَعَ سَمْكهَا « جملة مفسرة لكيفية البناء ، » والسَّمْك « : » الارتفاع « .
قال الزمخشريُّ : » جعل مقدار ذهابها في سمتِ العلوِّ مديداً رفيعاً « .
وسكمتُ الشيء : رفعته في الهواء ، وسمك هو ، أي : ارتفع سُمُوكاً ، فهو قاصرٌ ومتعدٍّ ، وبناء مسموك ، وسنامٌ سَامِكٌ تَامِكٌ ، أي : عالٍ مرتفعٌ ، وسماك البيت ما سمكته به ، والمسموكاتُ : السماوات ويقال : اسمك في الدّيم ، أي : اصعد في الدرجة ، والسماك : نجم معروف ، وهما اثنان ، رامح وأعزل؛ قال الشاعر : [ الكامل ]
5099- إنَّ الذي سَمكَ السَّماءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتاً دَعَائِمُهُ اعَزُّ وأطْوَلُ
وقال البغويُّ : » رفَعَ سمْكهَا « أي : سقفها .
فصل في الكلام على هذه الآية
قال الكسائيُّ والفراء والزجاج : هذا الكلام تم عند قوله تعالى : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا } ، قال : لأنَّه من أصله السماء ، والتقدير : » أم السماء التي بناها « فحذف » التي « ، ومثل هذا الحذف جائز .
قال القفالُ : يقال : الرجل جاءك عاقل ، أي : الرجل الذي جاءك عاقل ، وإذا ثبت جواز ذلك في اللغة ، فنقول : الدَّليل على أن قوله تعالى : » بَنَاهَا « صلةٌ لما قبله ، أنَّه لو لم يكن صلة لكان صفة فقوله : » بَنَاهَا « صفة ، ثم قوله : » رَفَعَ سَمْكهَا « صفة ، فقد توالت صفتان ، لا تعلُّق لإحداهما بالأخرى ، فكان يجب إدخال العاطف بينهما ، كما في قوله : » وأغطَشَ ليْلهَا « ، ولمَّا لم يكن كذلك ، علمنا أنَّ قوله : » بَناهَا « صلةٌ للسَّماءِ ، فكان التقدير : أم السَّماء التي بناهَا » ، وهذا يقتضي وجود سماءٍ ما بَنَاهَا اللهُ ، وذلك باطل .
وقوله : { فَسَوَّاهَا } أي : خَلقهَا خَلْقاً مستوياً ، لا تفاوت فيه ، ولا فطور ، ولا شقوق .
فصل فيمن استدل بالآية على أن السماء كرة
قال ابن الخطيب : واستدلُّوا بهذه الآية على كونِ السَّماء كُرةً ، قالوا : لأنه لو لم تكن كرةً لكان بعضُ جوانبها سطحاً ، والبعض زاويةً والبعضُ خطًّا ، ولكان بعض أجزائه اقرب إلينا ، والبعض الآخر أبعد ، فلا تحصل التَّسويةُ الحقيقية ، ثُمَّ قالوا : لما ثبت أنَّها محدثةٌ مُفتقِرةٌ إلى فاعل مختار ، فأيُّ ضررٍ في الدِّين يُنافِي كونها كرة .

قوله تعالى : { وَأَغْطَشَ } . أي : أظلم بلغة أنمار ، يقال : غطشَ الليلُ ، وأغطشته أنا؛ قال : [ المتقارب ]
5100- عَقرْتُ لَهُمْ نَاقَتِي مَوهِناً ... فَليْلهُم مُدلَهِمٌّ غَطِشْ
وليل أغطش ، وليلة غطشاء .
قال الراغب : وأصله من الأغطش ، وهو الذي في عينه شبه عمش ، ومنه فلاة غَطْشَى لا يهتدى فيها ، والتَّغَاطشُ : التَّعامِي انتهى .
ويقال : أغْطشَ اللَّيْلُ قاصراً ك « أظلم » ، ف « أفْعَلَ » فيه متعدٍّ ولازمٍ ، فالغَطَشُ والغَتَشُ : الظُّلمة ، ورجل أغطش ، أي : أعْمَى ، أو شبيهٌ به ، وقد غطش ، والمرأة : غطشاءُ ، وفلاة غَطْشَى لا يهتدى لها؛ قال الأعشى : [ المتقارب ]
5101- وبَهْمَاءَ بالليْلِ غَطْشَى الفَلاَ ... ةِ يُؤنِسُنِي صَوْتُ قَيَّادِهَا
ومعنى قوله : { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا } أي : جعلهُ مُظلماً ، وأضاف اللَّيل إلى السَّماء؛ لأنَّ الليل يكون بغروب الشمس ، والشمس تضاف إلى السماء ، ويقال : نجُومُ اللَّيْلِ؛ لأنَّ ظهورها بالليل .
قوله : { وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } ، فيه حذف ، أي : ضحى شمسها ، وأضاف الليل والضحى لها للملابسة التي بينها وبينهما ، وإنَّما عبَّر عن النَّهارِ بالضحى؛ لأنَّ الضُّحى أكمل النَّهار بالنَّور والضَّوءِ .
قوله تعالى : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } أي : بسطها ، و « بَعْدَ » على بابها من التأخير ، ولا معارضة بينها وبين آية فُصلت؛ لأنَّه - تعالى - خلق الأرض غير مدحوة ، ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض .
وقول أبي عبيدة : إنَّها بمعنى : « قَبْلَ » منكرٌ عند العلماء .
والعرب تقول : دحوتُ الشيء ادحوهُ دحْواً : إذا بسطه ، ودحَى يَدحِي دَحْياً : إذا بسطه ، فهو من ذوات الواو والياء ، فيكتب بالألف ، والياء .
وقيل لعشّ النَّعامة : أدحو ، وأدحى لانبساطه في الأرض .
وقال أمية بن أبي الصلت : [ الوافر ]
5102- وبَثَّ الخَلْقَ فِيهَا إذْ دَحاهَا ... فَهُمْ قُطَّانُهَا حتَّى التَّنَادِي
وقيل : دَحَى بمعنى سوَّى .
قال زيدُ بنُ عمرو بن نفيلٍ : [ المتقارب ]
5103- وأسْلَمْتُ وجْهِي لِمَنْ أسْلمَتْ ... لَهُ الأرْضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثِقَالاً
دَحَاهَا فلمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا بأيدٍ وأرْسَى عَلَيْهَا الجِبَالا
والعامة : على نصب الأرض ، والجبال على إضمار فعلٍ مفسَّر بما بعده ، وهو المختار لتقدُّم جملة فعلية .
ورفعهما الحسن ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة وأبو السمال وعمرو بن عبيد ، برفعهما علىلابتداء ، وعيسى برفع « الأرض » فقط .
فصل
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : خلق الله تعالى الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان ، وكان قبل أن يخلق الدُّنيا بألفي عام ، ثم دُحيتِ الأرض من تحت البيت .
وحكى القرطبي عن بعض أهل العلم أنَّ « بَعْدَ » هنا في موضع : « مع » ، كأنَّه قال : والأرض مع ذلك دحاها ، كقوله تعالى : { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } [ القلم : 13 ] ، ومنه قولهم : « أنت أحمق ، وأنت بعد هذا سيِّئُ الخلقِ »؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]

5104 - فَقُلت لَهَا : عَنِّي إليْك فإنَّنِي ... حَرامٌ وإنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ
أي : مع ذلك .
وقيل : « بعد » بمعنى : « قبل » كقوله تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر } [ الأنبياء : 105 ] أي : من قبلِ الفرقان؛ قال أبو كثير : [ الطويل ]
5105- حَمدْتُ إلَهِي بَعْدَ عُرْوةَ إذْ نَجَا ... خِراشٌ وبَعْضُ الشَّرِّ أهونُ مِنَ بعضِ
وزعموا أن خِراشاً نجا قبل عروة .
وقيل : « دَحاهَا » حرثها وشقَّها ، قاله ابن زيد .
وقيل : « دَحاهَا » مهَّدها للأقوات ، والمعنى متقارب .
قوله : { أَخْرَجَ } . فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون تفسيراً .
والثاني : أن يكون حالاً .
قال الزمخشري : فإن قلت هلاَّ أدخل حرف العطف على « أخرج »؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون « دَحَاهَا » بمعنى : بسطها ، ومهَّدها للسُّكْنَى ، ثم فسَّر التَّمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكلِ والمشربِ وإمكان القرار عليها .
والثاني : أن يكون « أخْرَج » حالاً ، بإضمار « قد » ، كقوله تعالى : { أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [ النساء : 90 ] .
واعلم أنَّ إضمار « قد » هو قول الجمهور ، وخالف الكوفيون والأخفش .
قوله : { مِنْهَا مَآءَهَا } ، أي : من الأرض عيونها المتفجِّرة بالماء .
و « مَرْعَاهَا » أي : النبات الذي يرعى ، والمراد بمرعاها ، ما يأكل النَّاسُ والأنعامُ ، ونظيره قوله تعالى : { أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً } [ عبس : 25 ، 26 ] ، إلى قوله تعالى : { مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } [ عبس : 32 ] ، واستعير الرَّعي للإنسان ، كما استعير الرَّتعُ في قوله : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } [ يوسف : 12 ] وقد قُرئ « نرتع » ويرتع من الرَّعي ، والرعي في الأصل مكان أو زمان ، أو مصدر ، وهو هنا مصدر بمعنى : « المفعول » ، وهو في حق الآدميين استعارة .
قال ابن قتيبة : قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] ، فانظر كيف دلَّ بقوله : « مَاءهَا ومَرْعاهَا » على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ، ومنها متاعاً للأنام من العشب ، والشجر ، والثمر ، والحب والقضب ، واللباس ، والدواء ، حتى النار والملح .
أمَّا النار؛ فلأنها من العيدانِ ، قال جلا وعلا : { أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون } [ الواقعة : 71 ، 72 ] .
وأمَّا الملحُ؛ فلأنَّه من الماءِ .
قوله تعالى : { والجبال أَرْسَاهَا } .
قراءة العامة : بنصب « الجبال » .
وأرْسَى : ثبَّت فيها الجبال .
وقرأ الحسنُ ، وعمرو بنُ عبيدٍ ، وعمرو بنُ ميمونٍ ، ونصرُ بنُ عاصمٍ : بالرَّفعِ على الابتداءِ .
قوله تعالى : { مَتَاعاً لَّكُمْ } .
العامَّة : على النصب مفعولاً له ، أو مصدراً لعاملٍ مقدرٍ ، اي : متَّعكُمْ ، أو مصدراً من غير اللفظ؛ لأن المعنى : أخرج منها ماءها ومرعاها أمتع بذلك .
وقيل : نُصِبَ بإسقاط حرف الصفة ، تقديره : لتتمتعوا به متاعاً ، والمعنى منفعة لكم ولأنعامكم .

فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)

قوله تعالى : { فَإِذَا جَآءَتِ الطآمة الكبرى } في جواب « إذا » أوجه :
أحدها : قوله : { فَأَمَّا مَن طغى } ، نحو : « إذا جاءك بنو تميمٍ ، فأما العاصي فأهنه ، وأمَّا الطائع فأكرمه » .
وقيل : محذوف .
فقدَّرهُ الزمخشريُّ : فإن الأمر كذلك ، أي : فإنَّ الجحيمَ مأواهُ .
وقدَّره غيرهُ : انقسم الرَّاءون قسمين .
وقيل : عاينُوا أو علموا .
وقيل : جوابها أدخل أهل النار النار ، وأهل الجنة الجنة .
وقال أبو البقاء : العامل فيها جوابها ، وهو معنى قوله تعالى : { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان } .
والطَّامةُ الكبرى : الدَّاهيَة العُظمَى التي تطمّ على غيرها من الدَّواهي لعظمها ، و « الطَّمُّ » : « الدفن » ، ومنه : طمَّ السَّيلُ الرَّكية ، وفي المثل : جَرَى الوادِي فطمَّ على القُرَى .
وقيل : مأخوذٌ من قولهم : طمَّ الفرس طميماً ، إذا استفرغ جهده في الجري ، والمراد بها في القرآن : النَّفخة الثانية؛ لأن بها يحصل ذلك .
قال ابن عباس : هي النَّفخةُ الثانية التي يكون معها البعث .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أيضاً ، والضحاك : أنَّها القيامة ، سميت بذلك؛ لأنَّها تطمُّ على كل شيء فتغمره .
وقال القاسمُ بنُ الوليد الهمداني : الطامةُ الكبرى حين يساق أهل الجنَّة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار .
قوله : { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ } بدل من « إذا » ، أو : منصوباًَ بإضمار فعلٍ ، أي : أعني : يوم أو يوم يتذكر كيت وكيت .
قوله : { مَا سعى } أي : ما عمل من خير أو شر يراه مكتوباً في كتابه فيتذكرهُ ، وكان قد نسيه ، لقوله تعالى : { أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ } [ المجادلة : 6 ] .
قوله تعالى : { وَبُرِّزَتِ الجحيم } العامة على بنائه للمفعول مشدداً ، و { لِمَن يرى } بياء الغيبة .
وزيدُ بن علي وعائشة وعكرمة : مبنيًّا للفاعل مخففاً ، و « ترى » بتاء من فوق ، فجوزوا في تاء « ترى » أن تكون للتأنيث ، وفي « ترى » ضمير الجحيم ، كقوله تعالى : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ الفرقان : 12 ] ، وأن تكون للخطاب ، أي : ترى أنت يا محمد ، والمراد : ترى الناس . وقرأ عبد الله : « لمن رأى » فعلاً ماضياً .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : « بُرِّزَتْ » كشفت عنها تتلظّى ، فيراه كل ذي بصرٍ ، فالمؤمنون يمرُّون عليها ، { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] ، وأمَّا الكفار فهي مأواهُم .
وقيل : الرؤية هنا : استعارة ، كقولهم : قد تبين الصبح لذي عينين .
وقيل : المراد : الكافر؛ لأنه الذي يرى النار بما فيها من أصناف العذاب .
وقيل : يراها المؤمن ليعرف قدر النَّعمةِ .
قوله : { فَأَمَّا مَن طغى } أي : تجاوز الحدَّ في العصيان .
قيل : نزلت في النَّضْرِ وأبيه الحارث ، وهي عامة في كل كافرٍ آثر الحياة الدنيا على الآخرة .
قوله : { فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى } إمَّا هي المأوى له ، أو هي مأواه ، وقامت « أل » مقام الضمير ، وهو رأي الكوفيين وقد تقدم تحقيق هذا والرد على قائله ، خلافاً للبصريين؛ قال الشاعر : [ الطويل ]

5106- رَحيبٌ قِطَابُ الجَيْبِ مِنْهَا رَقِيقَةٌ ... بِجَسِّ النَّدامَى بَضَّةُ المُتَجَرَّدِ
إذ لو كانت « أل » عوضاً من الضمير لما جمع بينهما في هذا البيت ، ولا بُدَّ من أحد هذين التأويلين في الآية الكريمة لأجل العائد من الجملة الواقعة خبراً للمبتدأ ، والذي حسَّن عدم ذكر العائد كون الكلمة وقعت رأس فاصلة .
وقال الزمخشري « فإن الجحيم مأواهُ ، كما تقول للرجل : غُضَّ الطَّرف ، تريد طرفك ، وليس الألف و » اللام « بدلاً من الإضافة ، ولكن لما علم أنَّ الطَّاغي هو صاحب المأوى ، وأنَّه لا يغُضُّ طرف غيره تركت الإضافة ، ودخول الألف واللام في » المأوى « والطرف ، للتعريف؛ لأنهما معروفان » .
قال أبو حيان : « وهو كلام لا يتحصَّل منه الرابط العائد على المبتدأ ، إذ قد نفى مذهب الكوفيين ، ولم يقدّر ضميراً محذوفاً ضميراً كما قدَّره البصريون ، فرام حصول الرابط بلا رابط » .
قال شهابُ الدِّين : « ولكن لما علم إلى آخره ، هو عين قول البصريين ، ولا أدري كيف خفي عليه هذا » .
قوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } اي : حَذِرَ مقامه بين يدي ربه .
وقال الربيعُ : مقامه يوم الحساب .
وقال مجاهدٌ : خوفه في الدنيا من الله عند مواقعه الذَّنب فقلع عنه ، نظيره : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] .
{ ونَهَى النَّفْس عن الهَوى } أي : زجرها عن المعاصي والمحارم .
قال ابن الخطيب : هذان الوصفان مضادَّان للوصفين المتقدمين ، فقوله تعالى : { مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } ضدُّ قوله : « فأمَّا من طغى » ، « ونَهَى النفس » ضدُّ قوله : « وآثر الحياةَ الدُّنيا » فكما دخل في ذينك الوصفين جميع القبائح دخل في هذين الهوى ، وسيأتي زمان يقوى الهوى الحقَّ ، فنعوذُ بالله من ذلك الزمنِ .
قوله : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } أي : المنزل ، نزلت لآيتان في مصعبِ بن عميرٍ ، وأخيه عامرِ بنِ عميرٍ .
ورى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أمَّا من طغى فهو أخٌ لمصعب بن عمير ، أسر يوم بدر ، فأخذته الأنصار ، فقالوا : من أنت . قال : أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدوه في الوثاق ، وأكرموه ، وبيتوه عندهم ، فلمَّا أصبحُوا حدَّثوا مصعب بن عمير حديثه ، فقال : ما هو لي بأخ ، شدُّوا أسيركم ، فإنَّ أمَّه أكثر أهل البطحاءِ حلياً ومالاً ، فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه .
« » وأمَّا من خَاف مَقامَ ربِّهِ « فمصعب بن عمير ، وَقَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم » أحُدٍ « حين تفرَّق الناس عنه ، حتى نفذت المشاقص في جوفه ، وهي السِّهام ، فلما رأه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشطحاً في دمهِ ، قال : » عِندَ اللهِ أحْتسبهُ « . وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : » لَقِدْ رأيْتهُ وعَليْهِ بُرْدَانِ ما تُعرفُ قيمتُهما وإنَّ شِراكَ نَعْليهِ مِنْ ذَهَبٍ « » .
وعن ابن عباس : - رضي الله عنهما - « نزلت هذه الآية في رجلين : أبو جهل بن هشام ، ومصعب بن عمير » .
وقال السديُّ : نزل قوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } في أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه .
وقال الكلبيُّ : هما عامَّتان .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا } . لما سمع المشركون أخبار القيامة ، ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل : « الطَّامة الكبرى » ، و « الصَّاخَّة » ، و « القاَرِعَة » ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً ، متى تكون الساعة؟ .
وقيل : يحتمل أن يكون ذلك إيهاماً لأيقاعهم أنَّه لا أصْلَ لذلكَ ، ويحتملُ أنَّهم كانوا يسألونه عن وقت القيامة استعجالاً كقوله : { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } [ الشورى : 18 ] .
وقوله : { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } ، أي : إقامتها ، والمعنى : أيُّ شيء يقيمُها ويوجدُها ، ويكون المعنى : أيان منتهاها ومستقرها ، كما أنَّ مرسى السفينة : مستقرّها الذي تنتهي إليه فأجابهم الله - تعالى - بقوله : { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } .
قوله « فِيْمَ » خبر مقدم و « أنْتَ » مبتدأ مؤخرٌ ، و « مِنْ ذِكْراهَا » متعلقٌ بما تعلق به الخبر ، والمعنى : أنت في أي شيء من ذكراها ، أي : ما أنْتَ من ذكراهَا لهم وتبين وقتها في شيء .
وقال الزمخشري : « وعن عائشة - رضي الله عنها - لم يزل رسول الله عليه وسلم يذكر الساعة ، ويسأل عنها ويذكرها حتى نزلت ، قال : » فَهوَ عَلى هَذَا تَعجَّبَ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرهِ لَهَا كأنَّهُ قِيلَ : فِي أيِّ شُغلٍ واهتمامٍ أنْتَ من ذِكرِهَا والسُّؤال عَنْهَا « .
وقيل : الوقف على قوله : » فيم « ، وهو خبر مبتدأ مضمر ، أي : فيم هذا السؤال ، ثم يبتدئ بقوله : » أنْت مِنْ ذِكراهَا « أي : إرسالك ، وأنت خاتم الأنبياء ، وآخر الرسل ، والمبعوث في تسمية ذكر من ذكراها ، وعلامة من علاماتها ، فكفاهُم بذلك دليلاً على دُنوِّها ، ومشارفتها ، والاستعداد لها ، ولا معنى لسؤالهم عنها .
قاله الزمخشري : وهو كلام حسنٌ ، لولا أنَّه يخالف الظاهر ، وتفكيك لنظم الكلام .
ومعنى » إلى ربِّك مُنتَهاهَا « منتهى علمها ، كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } [ الأعراف : 187 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ] .
قال القرطبي : ويجوز أن يكون إنكاراً على المشركين في مسألتهم له ، أي : فيم أنت من ذلك حتى يسألوك بيانه ، ولست ممن يعلمه ، وروي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما .
قوله تعالى : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } .
العامة : على إضافة الصفة لمعمولها تخفيفاً .
وقرأ عمر بن عبد العزيزِ وأبو جعفرٍ ، وطلحةُ ، وابن محيصنٍ : بالتنوين ، ويكون في موضع نصب ، والمعنى : إنَّما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة .
قال الزمخشري : وهو الأصل ، والإضافة تخفيف ، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال ، فإذا أريد الماضي ، فليس إلا الإضافة ، كقولك : هو منذرٌ زيدٍ أمس .
قال أبو حيان : قوله : » هُو الأصل « يعني : » التنوين « ، هو قول قاله غيره .
ثم اختار أبو حيَّان : أن الأصل الإضافة ، قال : لأنَّ العمل إنما هو بالشبه ، والإضافة أصل في الأسماء ، ثم قال : وقوله : » ليس إلا الإضافة « فيه تفصيل وخلاف مذكورفي كتب النحو .

قال شهاب الدين : لا يلزمه أن يذكر إلاَّ محل الوفاق ، بل هذان اللذان ذكرهما مذهب جماهير الناس .
فصل في معنى الآية
المعنى : إنَّما أنت مُخوِّف ، وخص الإنذار بمن يخشى؛ لأنهم المنتفعون به ، وإن كان منذراً لكلِّ مكلَّف ، كقوله : { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ الرحمن بالغيب } [ يس : 11 ] .
قوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا } يعني : الكُفَّار ، يرون الساعة .
{ لَمْ يلبثوا } في دنياهم ، { إِلاَّ عَشِيَّةً } أي : قدر عشيَّةٍ ، { أَوْ ضُحَاهَا } أي : أو قدْرَ الضُّحى الذي يلي تلك العَشيَّة ، والمراد : تقليل مدة الدنيا ، كقوله تعالى : { لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } [ الأحقاف : 35 ] . وأضاف الضحى إلى العشية إضافة الظرف إلى ضمير الظرف الآخر تجوُّزاً واتِّساعاً . وذكرهما؛ لأنَّهما طرفا النهار ، وحسَّن هذه الإضافة وقوع الكلمة فاصلة .
قإن قيل : قوله تعالى : { أَوْ ضُحَاهَا } معناه : ضُحَى العشيَّة ، وهذا غيرر معقولٍ؛ لأنَّه ليس للعشيَّة ضُحى؟ .
فالجواب : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الهاء والألف صلة للكلام ، يريد : لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى .
وقال الفرَّاء والزجاجُ : المرادُ بإضافة الضُّحى إلى العشية على عادة العرب ، يقولون : آتيك الغداة أو عشيها ، وآتيك العشية أوغداتها ، فتكون العشية في معنى : آخر النهار ، والغداة في معنى : أول النهار؛ وأنشد بعض بني عقيل : [ الرجز ]
5107أ- نَحْنُ صَبَحْنَا عَامراً في دَارِهَا ... جُرْداً تَعَادَى طَرفَيْ نَهارِهَا
عَشِيَّةَ الهِلالِ أو سِرَارِهَا ... وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)

قوله تعالى : { عَبَسَ وتولى } أي : كَلحَ بوجههِ ، يقال : عبَسَ وبَسَر وتولى ، أي : أعرضَ بوجهه .
قوله : { أَن جَآءَهُ } . فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه مفعولٌ من أجله ، وناصبه : إمَّا « تولَّى » وهو قول البصريين ، وإمَّا « عَبَسَ » وهو قول الكوفيين ، والمختار مذهب البصريين لعدم الإضمار في الثاني ، وتقدم تحقيق هذا في مسائل النزاع والتقدير : لأن جَاءهُ الأعْمَى فعل ذلكَ .
قال القرطبيُّ : إن من قرأ بالمدِّ على الاستفهام ، ف « أنْ » متعلقة بمحذوف دلَّ عليه { عَبَسَ وتولى } والتقدير : أأن جاءهُ اعرض عنهُ وتولى؟ فيوقف على هذه القراءة على « تولَّى » ، ولا يوقف عليه على قراءة العامة .
فصل في سبب نزول الآية
قال المفسرون : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتومٍ ، واسمُ مكتُومٍ عاتكةُ بنتُ عامرٍ بن مخزومٍ ، وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم صناديدُ قريش : عُتْبَةُ وشيبةُ ابنا رَبِيعةَ ، وأبُو جَهْلٍ بْنُ هشام ، والعبَّاسُ بنُ عبدِ المُطلبِ ، وأميَّةُ بن خلفٍ ، والوليدُ بنُ المُغيرةِ ، يدعوهم إلى الإسلام رجاءَ أن يسلم بإسلامهم غيرُهم ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : عَلِّمني مما علمك الله ، وكرَّر ذلك عليه ، فكره قطعه لكلامه ، وعبس وأعرض عنه ، فنزلت هذه الآية .
قال ابن العربي : أمَّا قول المفسرين : إنه الوليد بن المغيرة ، أو أمية بن خلف والعباس ، فهذا كله باطلٌ وجهلٌ؛ لأن أمية والوليد كانا ب « مكة » وابن أم مكتوم كان ب « المدينة » ما حضر معهما ، ولا حضرا معه ، وماتا كافرين ، أحدهما : قبل الهجرة ، والآخر في « بدر » ، ولم يقصد أمية « المدينة » قط ، ولا حضر معه مفرداً ، ولا مع أحدٍ ، وإنَّما أقبل ابن أم مكتوم والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الإسلام ، وقد طمع في إِسلامهم ، وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى ، فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله وجعل يناديه ويكثر النداء ، ولا يدري أنه مشتغل بغيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء إنَّما اتْباعُه العُمْيَان والسَّفلة والعبيد ، فعبس وأعرضَ عنه ، فنزلت الآية .
قال الثوري : « فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم بسط له رداءهُ ، ويقول : » مَرْحَباً بمَنْ عَاتَبنِي فِيهِ ربِّي « ، ويقول : » هَلْ مِنْ حَاجَةٍ «؟ واستخلفهُ على » المدينة « مرتين في غزوتين غزاهما » .
قال أنسٌ رضي الله عنه : فرأيته يوم « القادسيَّة » راكباً وعليه دِرْع ، ومعه رايةٌ سوداءُ .

فصل في معاتبة الله تعالى رسوله
قال ابن الخطيب : ما فعله ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزَّجْر ، فكيف عاتب الله - تعالى - رسوله على تأديبه ابن أم مكتوم؟ .
وإنما قلنا : إنه كان يستحق التأديب؛ لأنه وإن كان أعمى لا يرى القوم ، لكنه سمع مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأولئك الكفار ، وكان بسماعه يعرف شدة اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بشأنهم ، فكان إقدامه على قطع كلام النبي صلى الله عليه وسلم لغرض نفسه قبل تمام غرض النبي صلى الله عليه وسلم معصية عظيمة .
وأيضاً : فإنَّ الأهم يقدِّم على المُهِمّ ، وكان قد أسلم ، وتعلَّم ما يحتاج إليه من أمر دينه ، أما أولئك الكفَّار ، فلم يكونوا أسلموا بعد ، وكان إسلامهم سبباً لإسلام جمع عظيم ، فكان كلام ابن مكتوم كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل ، وذلك محرم .
وأيضاً : فإنَّ الله - تعالى - ذمّ الذين يناجونه من وراء الحجرات بمجود ندائهم ، فهذا النداء الذي هو كالصَّارف للكفار عن [ قبول ] الإيمانِ أوْلَى أن يكون ذنباً ، فثبت أن الذي فعله ابن أمِّ مكتوم كان ذنباً ومعصية .
وأيضاً : فمع هذا الاعتناء بابن أم مكتوم ، فكيف لقب بالأعمى؟ .
وأيضاً : فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم يؤدَّب أصحابه بما يراه مصلحة ، والتَّعبيسُ من ذلك القبيل ، ومع الإذن فيه ، كيف يعاتب عليه؟ .
والجواب عن الأول : أنَّ ما فعله ابن أم مكتوم كان من سُوءِ الأدب لو كان عاملاً بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مشغولٌ بغيره ، وأنَّه يرجو إسلامهم ، ولكن الله عاتبه حتى لا تنكسر قلوبُ أهْلِ الصُّفَّةِ ، أو ليعلم أنَّ المؤمن الفقير خيرٌ من الغنى ، وكان النظر إلى المؤمن أولى ، وإن كان فقيراً أصلحُ وأوْلَى من الإقبالِ على الأغنياء طمعاً في إيمانهم ، وإن كان ذلك أيضاً طمعاً في المصلحة ، وعلى هذا يخرج قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } [ الأنفال : 67 ] الآية .
وقيل : إنَّما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنِّي لأعْطِي الرَّجُل وغَيرهُ أحَبُّ إليَّ مِنْهُ مخَافَة أن يكُبَّهُ اللهُ على وجْهِهِ » .
وقال ابن زيدِ : إنَّما عبس النبي صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم ، وأعرض عنه؛ لأنَّه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه ، فدفعه ابن أم مكتوم ، وأبى إلا أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلمه فكان في هذا نوع جفاءٍ منه ، ومع هذا أنزل الله تعالى في حقه : { عَبَسَ وتولى } ، بلفظ الإخبار عن الغائب تعظيماً له ، ولم يقل : عَبْسَتَ وتولَّيت . ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيساً له ، فقال : « ومَا يُدْرِيكَ » أي : يعلمك « لَعلَّهُ » ابنُ أم مكتوم « يَزَّكَّى » بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين ، وإنَّما ذكره بلفظ العمى ليس للتحقير ، بل كأنه قيل : إنه بسبب عماه يستحق مزيد الرفق والرأفة ، فكيف يليق بك يا محمد ، أن تخصَّه بالغلظةِ ، وأمَّا كونه مأذوناً لهُ في تأديب أصحابه ، لكن هنا لمَّا أوهم تقديمَ الأغنياء على الفقراءِ ، وكان ذلك مما يوهمُ ترجيح الدنيا على الدِّين ، فلهذا السبب عوتب .

فصل فيمن استدل بالآية على جواز صدور الذنوب من الأنبياء
قال ابن الخطيب : تمسَّك القائلون بصدورِ الذنب عن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بهذه الآية .
وقالوا : لمَّا عُوتبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك الفعل دلَّ على أنَّه كان معصية .
قال ابن الخطيب : وهذا بعيد لما ذكرنا في الجواب عن الأول ، وأيضاً : فإن هذا من باب الاحتياط وترك الأفضل .
قوله تعالى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى } ؛ الظاهر أنه أجرى التَّرجي مجرى الاستفهام ، لما بينهما من معنى الطَّلب في التَّعليق ، لأن المعنى منصب على تسليط الدراية على التَّرجي ، إذ التقدير : لا يدري ما هو مترجّى منه التركيب ، أو التذكر .
وقيل : الوقف على « يَدْرِي » ، والابتداء بما بعده على معنى : وما يطلعك على أمره ، وعاقبة حاله ، ثم ابتدأ ، فقال : « لعلَّه يزكَّى » .
فصل في تحرير الضمير في قوله : « لعله »
قيل : الضمير في « لعلَّهُ » للكافر ، يعني : لعل إذا طمعت في أن يتزكَّى بالإسلام .
{ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى } أي : قبول الحق ، « وما يدريك » أنَّ ما طمعت فيه كائن ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } [ الأنعام : 52 ] .
وقوله : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } [ الكهف : 28 ] .
قوله : { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى } .
قرأ عاصم : « فتنفعه » بالنصب .
والباقون : بالرفع .
فمن رفع ، فهو نسق على قوله : « أو يذَّكرُ » .
ومن نصب ، فعلى جواب التَّرجي كقوله في « المؤمن » : { فَأَطَّلِعَ } [ غافر : 37 ] ، وهو مذهب كوفي وقد تقدم الكلام عليه .
وقال ابن عطية : في جواب التمني؛ لأنَّ قوله تعالى : { أَوْ يَذَّكَّرُ } في حكم قوله : { لَعَلَّهُ يزكى } .
قال أبو حيان : « وهذا ليس تمنياً إنما هو ترجٍّ » .
قال شهاب الدين : إنما يريد التًّمني المفهوم من الكلام ، ويدلُّ له ما قاله أبو البقاء : « وبالنصب على جواب التمني في المعنى » ، وإلاَّ فالفرق بين التمنِّي والترجِّي لا يجهله ابن عطية .
وقال مكي : « من نصبه جعله جواب » لَعلَّ « بالفاء؛ لأنَّه غير موجب ، فأشبه التَّمني والاستفهام ، وهو غير معروف عند البصريين » وقرأ عاصمٌ في رواية الأعرج : « أو يذْكُر » - بسكون الذال ، وتخفيف الكاف مضمومة - مضارع « ذكر » ، والمعنى : أو يتَّعظ بما يقوله : « فتنفعه الذكرى » أي : العِظَةُ .

قوله : { أَمَّا مَنِ استغنى } قال عطاء : يريد عن الإيمان ، وقال الكلبي : استغنى عن الله ، وقال بعضهم : استغنى أثرى؛ وهو فاسد ههنا؛ لأن إقبال النبي - عليه الصلاة والسلام - لم يكن لثروتهم ومالهم حتى يقال له أما من أثرى ، فأنت تقبل عليه ، ولأنه قال : { وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يسعى وَهُوَ يخشى } ولم يقل وهو فقير معدم ، ومن قال : أما من استغنى بماله فهو صحيح ، لأن المعنى أنه استغنى عن الإيمان والقرآن بما لَهُ من المال .
وقوله تعالى : { فَأَنتَ لَهُ تصدى } تقدمت فيه قراءتا التثقيل والتخفيف .
قال الزجاج : أي : أنت تقبل عليه وتتعرض له وتميل إليه ، يقال تصدى فلان لفلان ، يتصدّد إذا تعرض له ، والأصل فيه تصدد يتصدّد من الصدد ، وهو ما استقبلك وصار قبالتك فأبدل أحد الأمثال حرف علة مثل : تظنيت وقصيت ، وتقضى البازي قال الشاعر :
5107ب- تَصدَّى لِوضَّاح كأنَّ جَبينَه ... سِرَاجُ الدُّجَى يُجْبَى إليه الأساور
وقيل : هو من الصدى ، وهو الصوت المسموع في الأماكن الخالية والأجرام الصلبة .
وقيل : من الصدى وهو العطش ، والمعنى على التعرض ، ويتمحّل لذلك إذا قلنا أصله من الصوت أو العطش .
وقرأ أبو جعفر « تُصْدي » بضم التاء وتخفيف الصاد . أي يصديك حرصك على إسلامه .
يقال : صدى الرجل وصديته ، وقال الزمخشري : وقرئ « تُصدي » بضم التاء أي تعرض ، ومعناه يدعوك إلى داع إلى التصدي له؛ من الحرص والتهالك على إسلامه .
قوله : { أَلاَّ يزكى } مبتدأ خبره « عليك » أي ليس عليك عدم تزكيته .
والمعنى لا شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام ، فإنه ليس عليك إلا البلاغ ، أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم إلى أن تعرض عمن أسلم للاشتغال بدعوتهم .
قوله : { يسعى } حال من فاعل « جاءك » والمعنى أن يسرع في طلب الخير ، كقوله : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } [ الجمعة : 9 ] .
وقوله : { وَهُوَ يخشى } جملة حالية من فاعل « يسعى » فهو حال من حال وجعلها حالاً ثانية معطوفة على الأولى ليس بالقوي وفيها ثلاثة أوجه يخشى الله ويخافه في ألاَّ يهتم بأداء تكاليفه ، أو يخشى الكفار وأذاهم في إتيانك ، أو يخشى الكبوة فإنه كان أعمى ، وما كان له قائد .
قوله { تلهى } أصله تتلهى من لهي يلهى بكذا أي اشتغل وليس هو من اللهو في شيء .
وقال أبو حيان : ويمكن أن يكون منه لأن ما يبنى على فعل من ذوات الواو تنقلب واوه لانكسار ما قبلها . نحو شقي يشقى . فإن كان مصدره جاء بالياء فيكون من مادة غير مادة اللهو .
قال شهاب الدين : الناس إنما لم يجعلوه من اللهو لأجل أنه مسند إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ولا يليق بمنصبه الكريم أن ينسب إليه التفعل من اللهو .

بخلاف الاشتغال فإنه يجوز أن يصدر منه في بعض الأحيان ، ولا ينبغي أن يعتقد غير هذا وإنما سقط الشيخ وقرأ ابن كثير في رواية البزي عنه « عنهو تلهى » بواو وهي صلة لهاء الكناية ، وتشديد التاء والأصل تتلهى فأدغم ، وجاز الجمع بين ساكنين لوجود حرف علة وإدغام ، وليس لهذه الآية نظير . وهو أنه إذا لقي صلة هاء الكناية ساكن آخر ثبتت الصلة بل يجب الحذف ، وقرأ أبو جعفر « تُلَهَّى » بضم التاء مبنياً للمفعول . أي يلهيك شأن الصناديد ، وقرأ طلحة « تتلهى » بتاءين وهي الأصل ، وعنه بتاء واحدة وسكون اللام .
فصل
فإن قيل قوله : { فَأَنتَ لَهُ تصدى } فأنت عنه تلهى كان فيه اختصاصاً .
قلنا نعم ، ومعناه إنكار التصدي والتلهي عنه ، أي مثلك خصوصاً لا ينبغي أن يتصدى للغني ، ويتلهى عن الفقير .

كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)

قوله : { كَلاَّ } وهو ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله . قال الحسن : لما تلا جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات عاد وجهه كأنما أسف الرماد فيه ينتظر ماذا يحكم الله عليه ، فلما قال : { كَلاَّ } سري عنه ، أي لا تفعل مثل ذلك قال ابن الخطيب : وقد بينا نحن أن ذلك محمول على ترك الأولى .
وقوله : { إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } فيه سؤالان :
الأول : قوله : { إِنَّهَا } ضمير المؤنث ، وقوله : { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } ضمير المذكر ، والضميران عائدان إلى شيء واحد ، فكيف القول فيه؟ .
الجواب : وفيه وجهان :
الأول : أن قوله : { إِنَّهَا } ضمير المؤنث ، قال مقاتل : يعني آيات القرآن ، وقال الكلبي : يعني هذه السورة وهو قول الأخفش والضمير في قوله : { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } عائد إلى التذكرة أيضاً ، لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ .
الثاني : قال صاحب النظم : إنها تذكرة يعني بها القرآن والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة أخرجه على لفظ التذكرة ، ولو ذكره لجاز كما قال في موضع آخر { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } والدليل على أن قوله : { إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } المراد به القرآن قوله { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } .
فصل
كيف اتصال هذه الآية بما قبلها؟ الجواب : من وجهين :
الأول : كأنه قيل : هذا التأديب الذي أوحيته إليك وعرفته لك في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا أثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة .
الثاني : كأنه قيل : هذا القرآن قد بلغ في العظمة إلى هذا الحد العظيم ، فأي حاجة به إلى أن يقبله هؤلاء الكفار ، فسواء قبلوه أو لم يقبلوه فلا تلتفت إليهم ولا تشغل قلبك بهم ، وإياك أن تعرض عمن آمن به تطييباً لقلوب أرباب الدنيا .
قوله : { ذَكَرَهُ } يجوز أن يكون الضمير لله تعالى ، لأن منزل التذكرة ، وأن يكون للتذكرة ، وذكر ضميرها؛ لأنها بمعنى الذكر والوعظ .
وقوله : { فَي صُحُفٍ } صفة لتذكرة . فقوله : { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } جملة معترضة بين الصفة وموصوفها ، ونحوها { فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ المزمل : 19 ] ويجوز أن يكون « في صحف » خبراً ثانياً ل « إنها » والجملة معترضة بين الخبرين .
فصل
اعلم أنه تعالى وصف تلك التذكرة بأمرين :
الأول : قوله : { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } أي هذه تذكرة بينة ظاهرة بحيث لو أرادوا فهمها والاتعاظ بها والعمل بموجبها لقدروا عليه .
والثاني : قوله : { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } أي تلك التذكرة معدة في هذه الصحف المكرمة ، والمراد من ذلك تعظيم حال القرآن والتنويه بذكره والمعنى أن هذه التذكرة مثبتة في صحف .
والمراد من « الصحف » قولان :
الأول : أنها صحف منتسخة من اللوح مكرمة عند الله تعالى مرفوعة في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار مطهرة عن أيدي الشياطين ، أو المراد مطهرة بسبب أنها لا يمسها إلا المطهرون وهم الملائكة .

قوله : { سَفَرَة } جمع سافر وهو الكاتب ومثله كاتب وكتبة ، وسفرت بين القوم أسفر سفارة أصلحت بينهم قال :
5107ج- فَمَا أدَعُ السِّفارةَ بَيْنَ قَومي ... ولا أمْشِي بغِشٍّ إن مَشَيْتُ
وسفرت المرأة : كشفت نقابها .
وقوله : { كِرَامٍ } هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق ، ولا يشاركهم فيها سواهم ، وروى الضحاك عن ابن عباس في « كِرامٍ » قال : يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته أو تَبَرَّزَ لغائطهِ .
وقيل : يُؤثِرُون منافعَ غيرهم على منافع أنفسهم .
وقوله تعالى : { بَرَرَةٍ } جمع بارّ ، مثل : كافرٍ وكفرةٍ ، وساحرٍ وسحرةٍ وفاجرٍ وفجرةٍ ، يقال : برٌّ وبارٌّ ، إذا كان أهلاً للصِّدقِ ، برَّ فلان في يمينه أي : صدق ، وفلان يَبِرُّ خالقهُ ويتبرَّرهُ : أي : يُطِيعهُ ، فمعنى « بررة » أي : مطيعين لله صادقين الله في أعمالهم .
فصل في المراد بالسفرة
قال ابن الخطيب : قوله تعالى : { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } يقتضي أن طهارة تلك الصحف إنما حصلت بأيدي هؤلاء السَّفرة ، فقال القفالُ في تقريره : لمَّا كان لا يمسُّها إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهير إليها لطهارة من يمسُّها .
وقال القرطبي : إن المراد بقوله - تعالى - في سورة « الواقعة » : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } [ الواقعة : 79 ] أنهم الكرام البررة في هذه السورة .

قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)

قوله تعالى : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ } . أي : لُعِنَ .
وقيل : عُذِّبَ ، والإنسان : الكافرُ .
روى الأعمشُ عن مجاهدٍ قال : ما كان في القرآن من قتل الإنسان ، فإن ما عني به الكافر .
قال النحويون : وهذا إما تعجبٌ ، أو استفهام تعجبٍ .
قال ابن الخطيب : اعلم أنَّه - تعالى - لما ذكر ترفُّع صناديد قريش على فقراء المسلمين عجب [ عباده ] المؤمنين من ذلك ، فكأنَّه قيل : وأيُّ سببٍ في هذا الترفُّع مع أنَّه أوله نطفة مَذِرَة ، وآخره جِيفةٌ قذرةٌ ، وهو فيما بين الوقتين حمال عذرة ، فلا جرم أن يذكر - تعالى - ما يصلُح أن يكون علاجاً لعجبهم ، وعلاجاً لكفرهم فإنَّ خلقة الإنسان تصلُح لأن يستدلّ بها على وجود الصانع ، ولأن يستدل بها على القول بالبعث والحشر .
قيل : نزلت في عتبةَ بنِ أبي لهبٍ ، والظاهر العموم .
وقوله تعالى : { قُتِلَ الإنسان } دعاء عليه بأشدِّ الأشياءِ؛ لأنَّ القتل غاية شدائدِ الدُّنيا ، و { مَآ أَكْفَرَهُ } ، تعجُّبٌ من إفراطهِ في كفرانِ نعمةِ اللهِ .
فإن قيل : الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز ، والقادر على الكُلِّ كيف يليق به ذلك؟ والتعجب أيضاً إنما يليق بالجاهل بسبب الشَّيء ، فالعالمُ به كيف يليق ذلك بِهِ؟ .
فالجواب : أن ذلك ورد على أسلوب كلام العرب ، لبيان استحقاقهم لأعظم العقاب ، حيث أتوا بأعظم القبائحِ كقولهم إذا تعجَّبُوا من شيءٍ قاتلهُ اللهُ ما أخَسّه ، وأخزاه الله ما أظلمه ، والمعنى : اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا .
وقيل : ما أكفرهُ بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه ، والاستفهام بقوله : { مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ } قيل : استفهامُ توبيخٍ ، أي : أيُّ شيءٍ دعاهُ إلى الكفر .
وقيل : استفهام تحقير ، له ، فذكر أوَّل مراتبه ، وهو قوله تعالى : { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ } ، ولا شك أن النطفة شيءٌ حقيرٌ مهينٌ ، ومن كان أصله ذلك كيف يتكبر ، وقوله : « فقدَّره » اي : أطواراً .
وقيل : سوَّاه لقوله تعالى : { ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } [ الكهف : 37 ] ، وقدَّر كُلَّ عُضوٍ في الكيفيَّة والكميَّة بالقدر اللائق لمصلحته ، لقوله تعالى : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ الفرقان : 2 ] ، ثُمَّ لما ذكر المرتبة الوسطى قال تعالى : { ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ } .
قيل : المراد : تيسير خروجه من بطنِ أمِّه ، ولا شكَّ أن خروجه حيًّا من أضيقِ المسالك من أعجب العجائبِ ، يقالُ : إنه كان رأسه في بطن أمه من فوقٍ ، ورجلاهُ من تحتٍ ، فإذا جاء وقت الخروج انقلب ، فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام ، المراد منه قوله تعالى : { وَهَدَيْنَاهُ النجدين } [ البلد : 10 ] ، أي : التمييز بين الخير والشرِّ .
وقيل : مخصوصٌ بالدين .
قوله تعالى : { ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ } . يجوز أن يكون الضمير للإنسان ، والسبيل ظرف ، أي : يسر للإنسان الطريق ، أي : طريق الخير ، والشر ، كقوله تعالى : { وَهَدَيْنَاهُ النجدين } [ البلد : 10 ] .
وقال أبو البقاء : ويجوز أن ينتصب بأنَّه مفعولٌ ثانٍ ل « يسره » ، والهاء للإنسان ، أي : يسره السبيل ، أي : هداه له .

قال شهاب الدين : فلا بد من تضمينه معنى « أعْطَى » حتى ينصب اثنين ، أو حُذف حرف الجر أي : يسَّره للسَّبيل ، ولذلك قدره بقوله : « هَداه له » ، ويجوز أن يكون « السَّبيل » منصوباً على الاشتغالِ بفعلٍِ مقدرٍ ، والضمير له ، تقديره : ثم يسِّر السبيل يسَّره ، أي : سهلهُ للناس ، كقوله تعالى : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] ، وتقدَّم مثله في قوله تعالى : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل } [ الإنسان : 3 ] .
فصل في تفسير الآية
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهدٍ قالا : سبيل الشقاء والسعادة .
وقال ابن زيد : سبيل الإسلام ، وقال أبو بكر بن طاهر : يسّر على كلّ أحد ما خلقهُ لهُ وقدره عليه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « اعْمَلُوا فكُلٌّ مُيسَّرٌ لمَا خُلِقَ لَهُ » .
قوله تعالى : { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } هذه المرتبة الثالثة ، أي : جعل له قبراً يوارى فيه يقال : قبرهُ إذا دفنه ، وأقبرهُ ، أي : جعلهُ بحيث يقبر ، وجعل له قبراً إكراماً له ، ولم يجعله ممَّن يُلْقَى على وجه الأرض تأكله الطير . قاله الفراء .
قال أبو عبيدة : « أقْبَرَهُ » جعل له قبراً ، وأمرَ أن يقبر ، والقَابِرُ : هو الدَّافن بيده؛ قال : الأعشى : [ السريع ]
5108- لَوْ أسْندَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِهَا ... عَاشَ ولَمْ يُنْقَلْ إلى قَابرِ
يقال : قبرت الميت « أي » دفنته ، وأقبره الله أي : صيَّرهُ بحيثُ جعل لهُ قبراً .
وتقول العرب : بترت ذنب البعير وأبتره الله ، وعضبت قرن الثور ، وأعضبه الله وطردت فلاناً ، والله أطرده ، أي : صَيَّره طريداً .
قوله تعالى : { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } . أي : أحياه بعد موته ، ومفعول شاء محذوف ، أي : شاء إنشارهُ ، و « أنشره » جواب « إذا » .
وقرأ العامة : « أنْشَرَ » ، بالألف .
وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب عن ابن أبي حمزة : « نَشَرهُ » ثلاثياً بغير ألف .
ونقلها أبو الفضل أيضاً ، وقال : هما لغتان بمعنى الإحياء .
قال ابن الخطيب : وإنَّما قال : « إذا شَاءَ أنشرهُ » إشعاراً بأنَّ وقته غير معلوم ، فتقديمه وتأخيره موكولٌ إلى مشيئة الله تعالى .
قوله تعالى : { كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } « كلاَّ » : ردعٌ للإنسان عن تكبُّره ، وترفعه ، وعن كفره ، وإصراره عن إنكار التوحيد ، وعلى إنكار البعث ، والحشر والنشر وقوله تعالى : { لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } قال مجاهد وقتادة : لا يقضي أحدٌ جميع ما أمر به ، وهو إشارة إلى أن الإنسان لا ينفكُّ عن تقصير ألبتَّة .
قال ابن الخطيب : وعندي في هذا التفسير نظر؛ لأن الضمير فيه عائد إلى المذكور السَّابق وهو الإنسان في قوله تعالى : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ } وليس المراد من الإنسان هنا : جميع الإنسان ، بل الإنسان الكافر ، فقوله تعالى : { لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } ، كيف يمكن حمله على جميع الناس؟ .

وقال ابن فورك : كلاَّ لما يقض الله ما أمره ، [ كلا لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان وترك التكبر ، بل أمره بما لم يقض له به وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول لما يقض ما أمره ] : لم يبال بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم - عليه الصلاة والسلام - .
وقيل : المعنى : إن ذلك الإنسان الكافر لم يقض ما أمره به من التَّأمُّلِ في دلائل الله تعالى ، والتَّدبُّر في عجائب خلقه .
قوله : « ما أمره » ، « ما » : موصولة .
قال أبو البقاء : بمعنى « الذي » ، والعائد محذوف ، أي : ما أمره به .
قال شهابُ الدين : وفيه نظر ، من حيثُ إنَّه قدر العائد مجروراً بحرف لم يجر الموصول ، ولا أمره به ، فإن قلت : « أمر » يتعدى إليه بحذف الحرف ، فاقدره غير مجرور .
قلت : إذا قدرته غير مجرور فإمَّا أن تُقدِّره متصلاً أو منفصلاً ، وكلاهما مشكل ، لما تقدم في أول « البقرة » عند قوله تعالى : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] .
وقال الحسن : « كلاَّ » معناه : « حقًّا » ، « لما يقض » : أي : لم يعمل بما أمره به .
قال القرطبي : و « ما » في قوله : « لما » عماد للكلام ، كقوله تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله } [ آل عمران : 159 ] ، وقوله تعالى : { عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } [ المؤمنون : 40 ] .
وقال ابن الأنباريِّ : الوقف على « كلاَّ » قبيح ، والوقف على « أمره » و « نشره » جيد ، ف « كلا » على هذا بمعنى حقًّا .

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)

قوله تعالى : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ } .
قال ابن الخطيب : اعلم أنَّ عادة الله - تعالى - جارية في القرآن الكريم ، كلما ذكر دلائل الأنفس يذكر عقبها دلائل الآفاق ، فبدأ - هاهنا - بما يحتاج الإنسان إليه .
واعلم أنَّ النَّبْتَ إنَّما يحصل من القَطْرِ النازل من السماء الواقع في الأرض ، فالسماء كالذَّكر ، والأرض كالأنثى ، فبيَّن نزول السماء إلى الأرض بقوله : { أَنَّا صَبَبْنَا المآء } .
وقال القرطبي : لمَّا ذكر تعالى ابتداء خلقِ الإنسان ، ذكر ما يسَّر من رزقه ، أي : فلينظر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته ، وكيف هيأ له أسباب المعاشِ ليستعد بها للمعاد ، وهذا النظر نظر القلب بالفكر ، والتدبر .
قال الحسنُ ومجاهدٌ : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ } أي : إلى مدخله ومخرجه .
روى الضحاكُ بنُ سفيان الكلابي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » يَا ضحَّاكُ ، ما طَعامُكَ «؟ قلت : يا رسول الله ، اللَحْمُ واللَّبنُ ، قال : » ثُمَّ يصيرُ إلى مَاذَا «؟ قلت : إلى ما قد علمتهُ ، قال : » فإنَّ الله - تعالى - ضَرَبَ مَا يَخْرجُ مِنْ ابْنِ آدمَ مثلاً للدُّنْيَا « » .
وقال أبو الوليد : سألت ابن عمر - رضي الله عنه - عن الرجل يدخل الخلاء ، فينظر ما يخرج منه ، قال : يأتيه الملك فيقول : انظر ما بخلت به إلى ما صار .
واعلم أنَّ الطعام الذي يتناوله الإنسان له حالتان :
إحداهما متقدمة ، وهي التي لا بد من وجودها حتى يدخل ذلك الطعام في الوجود .
والحالة الثانية متأخرة وهي الأمور التي لا بد منها في بدن الإنسان ، حتى يحصل الانتفاع بذلك الطعام ، فلما كانت الحالة الأولى أظهر للحسِّ ، لا جرم اكتفى الله تعالى بذكرها .
قوله تعالى : { أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً } .
قرأ الكوفيون : « أنَّا » بفتح الهمزة غير ممالة .
والباقون : بالكسر .
والحسين بن علي : بالفتح والإمالة .
فأمَّا الفراءة الأولى ، ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بدل من « طَعامه » ، فيكون في محل جر ، واستشكل بعضهم هذا الوجه ، ورد بأنه ليس بواضح .
والثاني : أنه بدلُ اشتمالٍ ، بمعنى أنَّ صبَّ الماء سبب في إخراج الطَّعام ، فهو مشتمل عليه بهذا التقدير ، وقد نحا مكيٌّ إلى هذا فقال : لأن هذه الأشياء مشتملة على الطعام ومنها يتكون ، لأنَّ معنى « إلى طعامهِ » إلى حدوث طعامه كيف يتأتى ، فالاشتمال في هذا إنما هو من الثاني على الأول؛ لأن الاعتبار إنَّما هو في الأشياء التي يتكون منها الطعام لا في الطعام نفسه .
والوجه الثاني : أنها على تقدير لام العلَّة ، أي فلينظر لأنا ، ثم حذف الخافض فجرى الخلاف المشهور في محلها .
قال القرطبيُّ : ف « أنّا » في موضع خفضٍ على الترجمة عن الطعام ، فهو بدل منه؛ كأنًّه قال : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ } إلى « أنَّا صببنا » ، فلا يحسن الوقف على « طعامه » في هذه القراءة .

والوجه الثالث : أنَّها في محل رفعٍ خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هو أنَّا صَببنَا ، وفيه ذلك النظر المتقدم؛ لأنَّ الضمير إن عاد على الطعام ، فالطعام ليس هو نفس الصب ، وإن عاد على غيره ، فهو غير معلوم ، وجوابه ما تقدم .
وأما القراءة الثانية : فعلى الاستئناف تقديراً لنعمه عليه .
وأما القراءة الثالثة : « أنَّى » التي بمعنى : « كَيْفَ » ، وفيها معنى التَّعجُّب ، فهي على هذه القراءة كلمة واحدة ، وعلى غيرها كلمتان .
قال القرطبي : فمن أخذ بهذه القراءة ، قال : الوقف على « طعامه » تام ، ويقال : معنى « أنَّى » : أين ، إلاَّ أنَّ فيها كناية عن الوجوه ، وتأويلها : من أي وجهٍ صببنا؛ قال : الكميت : [ المنسرح ]
5109- أنَّى ، ومِنْ أيْنَ آبَكَ الطَّربُ ... مِنْ حَيْثُ لا صبْوةُ ولا رَيبُ
فصل في المراد بصبّ الماء
قوله : { صَبَبْنَا المآء صَبّاً } ، يعني : الغيث والأمطار ، { ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً } أي : بالنبات { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً } أي : قَمْحاً وشعيراً وسلقاً ، وسائر ما يحصد ويدخر ، وإنما قدم ذلك لأنها كالأصل في الأغذية ، « وعِنَباً » وإنما ذكره بعد الحب؛ لأنه غذاء من وجه ، وفاكهة من وجه .
قوله : { وَقَضْباً } : القَضْبُ هنا ، قال ابن عباس : هو الرطبُ ، لأنه يقضب النخل ، أي : يقطع ، ورجَّحه بعضهم بذكره بعد العنب ، وكثيراً ما يقترنان .
وقيل : القت .
قال القتيبي : كذا يسميه أهلُ « مكة » .
وقيل : كُل ما يُقْضَبُ من البُقولِ لبني آدمَ .
وقيل : هو الرَّطبةُ ، والمقاضب : الأرض التي تنبتها .
قال الراغب : والقَضْبُ : كالقضيب ، لكن القضيب يستعمل في فروع الشجر ، والقضبُ يستعمل في البقل ، والقَضَبُ : أي بالفتح قطع القَضْب والقضيب ، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رأى في ثوبٍ تصليباً قضبه ، وسيفٌ قاضبٌ وقضيبٌ ، أي : قاطعٌ ، فالقضيب - هاهنا - بمعنى : الفاعل ، وفي الأول : بمعنى المفعول ، وكذا قولهم : ناقة قضيب ، لما تركب من بين الإبل ولما ترض ، ويقال لكل ما لم يهذب : مقتضب ، ومنه اقتضاب الحديث ، لما لم يترو فيه .
وقال الخليل : القَضْبُ : أغصان الشجرة التي يتّخذ منها سهامٌ أو قسيٌّ .
وقال ابن عباس : إنه الفصفصة ، وهوالقتّ الرطب .
وقال الخليل : القَضْبُ : الفصفصة الرطبة .
وقيل : بالسين ، فإذا يبست فهو قتّ .
قوله : { وَزَيْتُوناً } . وهي : شجرة الزيتون ، { وَنَخْلاً } يعني : النخيل .
قوله : { وَحَدَآئِقَ غُلْباً } . جمع « أغلبَ وغلبَاء » ك « حُمْر » في « أحْمرَ ، وحَمْراءَ » ، يقال : حديقة غلباء ، أي : غليظة الشجر ملتفة ، واغلولب العشب أي : غلظ ، وأصله في وصف الرقاب يقال : رجل أغلب ، وامرأة غلباء ، أي : غليظة الرقبة .
قال عمرو بن معديكرب : [ الكامل ]

5110- يَسْعَى بِهَا غلْبُ الرِّقابِ كأنَّهُمْ ... بُزلٌ كُسينَ مِنَ الكُحَيْلِ جِلالا
ويقال للأسد : الأغلب؛ لأنه مصمت العنق لا يلتفت إلا جميعاً؛ قال العجاج : [ الرجز ]
5111- مَا زِلْتُ يَوْمَ البَيْنِ ألْوِي صُلْبِي ... والرَّأسَ حتَّى صِرْتُ مِثْلَ الأغلبِ
والغلبة : القهر؛ أن يُنال وتصيب عليه رقبته ، هذا أصله ، وحديقة غلباء : ملتفة ، وحدائق غلب ، وقال ابن عباس : الغلب جمع أغلب ، وغلباء ، وهي الغِلاظ ، وعنه أيضاً : الطوال .
وقال قتادةُ : وابنُ زيدٍ : الغلبُ : النَّخْلُ الكرامُ .
وعن ابن زيدٍ أيضاً وعكرمةَ : عظام الأوساط ، والجذوع .
وقال مجاهد : ملتفة . وتقدم الكلام على الحدائق في سورة « النمل » .
قوله : { وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } . الفاكهةُ : ما يأكله الناس من ثمار الأشجار ، كالتين ، والخوخ ، وغيرهما .
قال ابن الخطيب : وقد استدلَّ بعضهم بأنَّ الله - تعالى - لمَّا ذكره الفاكهة بعد ذكر العنبِ ، والزيتونِ ، والنخل ، وجب ألا يدخل هذه الأشياء في الفاكهة ، وهذا أقربُ من جهة الظاهر؛ لان المعطوف مغاير للمعطوف عليه .
وأمَّا الأبُّ : فقيل : الأبُّ للبهائم بمنزلة الفاكهة للنَّاس .
وقيل : هو مطلق المرعى .
قال الشاعر يمدحُ النبي صلى الله عليه وسلم : [ الطويل ]
5112- لَهُ دَعْوةٌ مَيْمُونةٌ رِيحُهَا الصَّبا ... بِهَا يُنْبِتُ اللهُ الحَصِيدةَ والأبَّا
وقيل : سمي المرعى أبًّا؛ لأنه يؤبُّ ، أي : يؤم وينتجع ، والأبُّ والأمُّ بمعنى؛ قال الشاعر : [ الرمل ]
5113- جِذمُنَا قَيْسٌ ونَجْدٌ دَارُنَا ... ولنَا الأبُّ بِهِ والمُكْرَعُ
وأبُّ لكذَا يَؤبُّ ابًّا ، وأبَّ إلى وطنه ، إذا نَزعَ الشيء نزوعاً : تهيَّأ لقصدهِ ، وهكذا أب بسيفه : أي : تهيَّأ لسله ، وقولهم : « إبان ذلك » هو فعلان منه ، وهو الشيء المتهيِّئ لفعله ومجيئه ، وقيل : الأبّ : يابس الفاكهة لأنها تؤب للشتاء ، أي تعد .
وقيل : الأبُّ ما تأكله البهائمُ من العُشْبِ .
قال ابنُ عباسٍ والحسن : الأبُّ ، كل ما أنبتت الأرض مما لا يأكله الناس ، وما يأكله الآدميون ، هو : « الحصيد » .
وعن ابن عباس وابن أبي طلحة : الأبُّ ، الثِّمارُ الرَّطبةُ .
وقال الضحاك : هو التِّينُ خاصَّةً . وهو محكي عن ابن عباس أيضاً . وقيل : الأب الفاكهة رطب الثمار ويابسها .
وقال إبراهيم التيمي : سُئل أبُو بكر الصديقُ - رضي الله عنه - عن تفسير الفاكهة والأبِّ ، فقال : أيُّ سماءٍ تظلني وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم .
وقال أنس : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ هذه الآية ، ثم قال : كل هذا عرفناه فما الأبُّ؟ ثم رفع عصا كانت بيده ، ثم قال : هذا لعمر الله التكليف ، وما عليك يا ابن أم عمر ألا تدري ما الأبُّ؟ .
ثم قال : اتَّبعوا ما بين لكم في هذا الكتاب ، وما لا فدعوه .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « خُلِقْتُمْ مِنْ سَبْعٍ ، ورُزقتُمْ مِنْ سَبعٍ فاسجُدُوا للهِ على سَبْعٍ » .
وإنما أراد بقوله عليه الصلاة والسلام : « خُلِقْتُمْ مِنَ سَبْعٍ » يعني : { مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ }

[ الحج : 5 ] الآية .
والرزق من سبع ، وهو قوله تعالى : { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً } إلى قوله « وفاكهة » ثم قال : « وأبًّا » وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم ، وأنَّه مما تختص به البهائم ، والله أعلم .
قوله : { مَّتَاعاً لَّكُمْ } : نصب على المصدر المؤكد؛ لأن إنبات هذه الأشياء متاعٌ لجميع الحيوانات ، واعلم أنه - تعالى - لما ذكر ما يغتذي به الناس والحيوان ، قال جل من قائل : { مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } .
قال الفراء : جعلناه منفعة لكم ومتعة لكم ولأنعامكم ، وهذا مثلٌ ضربه الله لبعث الموتى من قبورهم ، كنبات الزرع بعد دُثُوره كما تقدم بيانه في غير موضع .

فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

قوله تعالى : { فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة } : وهي الصَّيحةُ التي تصخُّ الآذان ، أي : تصمها لشدة وقعتها .
وقيل : هي مأخوذة من صَخّهُ بالحجر أي : صَكَّهُ به .
وقال الزمخشري : « صخَّ لحديثه مثل أصاخ له ، فوصفت النفخة بالصاخَّة مجازاً؛ لأن النَّاس يصخُّون لها » .
وقال ابن العربي : الصاخَّة : التي تورث الصَّممَ ، وإنَّها لمسمعة ، وهذا من بديع الفصاحة؛ كقول الشاعر : [ البسيط ]
5114- أصمَّنِي سِرُّهُمْ أيَّام فُرقتِهِمْ ... فَهل سَمِعتُمْ بِسرِّ يُورِثُ الصَّمَمَا
وقال آخر : [ الطويل ]
5115- أصَمَّ بِكَ النَّاعِي وإنْ كَانَ أسْمَعَا .. . .
وجواب « إذا » محذوف ، يدل عليه قوله : « لكُلِّ امرئٍ مِنهُمْ يومئذٍ شأنٌ يُغنِيهِ » . والتقدير : فإذا جاءت الصاخة اشتغل كل أحد بنفسه .
فصل في تعلق الآية
لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد ليتزودوا له بالأعمال الصالحة ، والإنفاق مما امتن به عليهم .
وقال ابنُ الخطيب : لمَّا ذكر تعالى هذه الأشياء ، وكان المقصود منها أمور ثلاثة :
أولها : الدلائل الدالة على التوحيد .
وثانيها : الدلائل الدالة على القدرة والمعاد .
وثالثها : أن هذا الإله الذي أحسن إلى عبيده بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان ، لا يليق بالعاقل أن يتمرَّد عن طاعته ، وأن يتكبَّر على عبيده أتبع ذلك بما يكون كالمؤكِّد لهذه الأغراض ، وهو شرح [ أهوالِ الآخرةِ ] ، فإن الإنسان إذا سمعها خاف ، فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمل في الدلائل ، والإيمان بها ، والإعراض عن الكفر ، ويدعوه أيضاً إلى ترك التكبُّر على الناس ، وإلى إظهار التواضع فقال تعالى : { فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة } يعني : صيحة القيامةِ ، وهي النفخة الأخيرةُ ، تصخُّ الأسماع أي : تصمُّها ، فلا تسمع إلا ما يدعى به الأحياء .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا مِنْ دَابَّةٍ إلا وهِيَ مُصِيخَةٌ يوْمَ الجُمعَةِ شفقاً مِنَ السَّاعَةِ إلاَّ الجنِّ والإنسَ » .
قوله : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء } بدل من « إذا » ، ولا يجوز أن يكون « يغنيه » عاملاً ، في « إذا » ، ولا في « يوم »؛ لأنه صفة ل « شأن » ولا يتقدم معمول الصِّفة على موصوفها .
والعامة على « يغنيه » من الإغناءِ .
وابن محيصن والزهري ، وابنُ أبي عبلة وحميدٌ ، وابن السميفع : « يعنيه » بفتح الياء والعين المهملة من قولهم : عناني في الأمر ، أي : قصدني .
فصل في معنى الآية
قوله : « يَفِرُّ » ، أي : يهرب في يوم مجيء الصاخَّةِ ، « مَنْ أخِيْهِ » أي : من مُوالاةِ أخيهِ ، ومُكالمتهِ لأنه مشتغل بنفسه ، لقوله بعده : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ، أي : يشغلهُ عن غيره .
وقيل : إنَّما يفرّ حذراً من مطالبتهم إياه بالتبعات ، يقول الأخُ : ما واسيتنِي بمالك ، والأبوان يقولان : قصرت في برنَا ، والصاحبة تقول : أطمعتني الحرامَ ، والبنون يقولون : ما علمتنا .

وقيل : لعلمه أنهم لا ينفعونه ، ولا يغنون عنه شيئاً ، لقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً } [ الدخان : 41 ] .
وقال عبد الله بن طاهر : يفرُّ منهم لمَّا تبين له عجزهم ، وقلّة حيلتهم .
وذكر الضحاك عن ابن عباس ، قال : يفر قابيلُ من أخيه هابيل ، ويفرُّ النبي من أمِّه ، ويفرُّ إبراهيمُ من أبيه ، ونوحٌ من ابنه ، ولوطٌ من امرأتهِ ، وآدمُ من سوءةِ بنيهِ .
قال ابنُ الخطيب : المراد : أن الذين كان المرء يفرُّ إليهم في دار الدنيا ، ويستجيرُ بهم ، فإنه يفرُّ منهم في دار الآخرة ، وذكروا في فائدة الترتيب كأنَّه قيل : { يَوْمَ يفرُّ المَرْءُ من أخِيهِ } ، بل من أبويه ، فإنهما أقرب من الأخوين ، بل من الصَّاحبة والولد؛ لأنَّ تعلُّق القلب بهما أشد من تعلُّقه بالأبوين . ثم لمَّا ذكر الفِرارَ أتبعه بذكر سببه فقال تعالى : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } .
قال ابن قتيبة : « يغنيه » أي : يصرفه عن قرابته ، ومنه يقال : أغْنِ عنِّي وَجْهَكَ ، أي : اصرفه .
وقال أهل المعاني : إنَّ ذلك الهم الذي حصل له قد ملأ صدره ، فلم يبق فيه متسع لهمّ آخر ، فصار شبيهاً بالغني في أنه ملك شيئاً كثيراً .
قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } . لما ذكر تعالى حال يوم القيامة في الهول بيَّن أن المكلفين فيه على قسمين : سعداء ، وأشقياء ، فوصف سبحانه السعيد بقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } أي : مضيئة مشرقة ، وقد علمت ما لها من الفوز ، والنعيم ، من أسفر الصبح : إذا أضاء ، وهي وجوه المؤمنين « ضاحكةٌ » أي : مسرورة فرحة .
قال الكلبي : يعني بالفراغ من الحساب { مُّسْتَبْشِرَةٌ } أي : بما آتاها الله تعالى من الكرامة .
وقال عطاءُ الخراسانيُّ : « مسْفِرةٌ » من طول ما اغبرت في سبيل الله .
وقال الضحاكُ : من آثار الوضوء .
وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : من قيامِ اللَّيل ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « مَنْ كَثُرتْ صلاتُه باللَّيلِ حسُنَ وجههُ بالنَّهارِ » .
قوله تعالى : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } .
قال المبرد : « الغَبَرةُ » الغبارُ ، والقترةُ : سوادٌ كالدُّخان .
وقال أبو عبيدة : القترُ في كلام العرب : الغبارُ ، جمع القترة؛ قال الفرزدقُ : [ البسيط ]
5116- مُتَوجٌ بِرداءِ المُلكِ يَتْبعهُ ... مَوْجٌ تَرى فَوقَهُ الرَّاياتِ والقَتَرَا
وفي عطفه على الغبرة ما يرد هذا إلا أن يقال : اختلف اللفظ فحسن العطف ، كقوله : [ الوافر ]
5117- .. . كَذِبًا ومَيْنَا
وقوله : [ الطويل ]
5118- .. النَّأيُ والبُعْدُ
وهو خلاف الأصل ، وفي الحديث : « إنَّ البَهَائِمَ إذَا صَارتْ تُراباً يَوْمَ القِيَامَةِ حُولَ ذلِكَ التُّرابُ في وُجوهِ الكُفَّارِ » .
وقال زيدُ بن أسلمَ : القترةُ : ما ارتفعت إلى السماء ، والغبرةُ : ما انحطت إلى الأرض ، والغُبَار والعبرةُ واحدٌ .
قال ابن عباس : « تَرْهَقُهَا » أي : تغشاها ، « قَتَرةٌ » أي : كسوفٌ وسواد .
وعنه - أيضاً - : ذلَّةٌ وشدَّةٌ .
وقيل : تَرهقُهَا ، أي : تدركها عن قُرب ، كقولك : رَهقَتْهُ الخيل إذا أدركته مسرعة ، والرَّهْقُ : عجلة الهلاك ، القترةُ : سواد كالدُّخان ، ولا يرى أوحشُ من اجتماع الغبار والسواد في الوجه ، كما ترى وجوه الزنوج إذا غبرت ، فجمع الله - تعالى - في وجوههم بين السواد ، والغبرة ، كما جمعوا بين الكفر ، والفجور ، والله أعلم .

والعامة : على فتح التاء في « قَتَرة » ، وأسكنها ابن أبي عبلة .
قوله : { أولئك هُمُ الكفرة } : جمع كافِر ، « الفَجرَةُ » : جمع فَاجِر ، وهو الكاذبُ المُفتَرِي على الله تعالى .
وقيل : الفَاسقُ : يقال : فَجَرَ فُجُوراً ، أي : فسَقَ ، وفَجرَ : أي : كذبَ . وأصله الميل ، والفاجر المائل .
روى الثعلبي عن أبيٍّ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورَة { عَبَسَ وتولى } جاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ ووجْههُ ضَاحِكٌ مُسْتَبْشِرٌ » .

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)

قوله تعالى : { إِذَا الشمس كُوِّرَتْ } : في ارتفاع الشمس وجهان :
أصحهما : أنها مرفوعة بفعل مقدر مبني للمفعول ، حذف وفسَّره ما بعده على الاشتغال ، والرفع على هذا الوجه ، أعني : إضمار الفعل واجبٌ عند البصريين؛ لأنهم لا يجيزون أن يليها غيره ، ويتَأوَّلُون ما أوهمَ خلافَ ذلكَ .
والثاني : أنَّها مرفوعة بالابتداء ، وهو قول الكوفيين ، والأخفش ، لظواهر جاءت في الشعر ، وانتصر له ابن مالك .
قال الزمخشري : ارتفاع « الشمس » على الابتداء ، أو الفاعليَّة؟ .
قلت : بل على الفاعلية ثم ذكر نحو ما تقدم ، ويعني بالفاعلية : ارتفاعها بفعل الجملة ، وقد مرَّ أنَّهُ يسمي مفعول ما لم يسم فاعله فاعلاً ، وارتفاع « النجوم » وما بعدها ، كما تقدَّم في « الشمس » .
فصل في تفسير معنى التكوير
قد تقدَّم تفسير التَّكوير في أول « تنزيل » .
قيل : التَّلفيف على جهةِ الاستدارة ، كتكوير العمامة .
وفي الحديث : « نعُوذُ باللهِ مِنَ الحَوْرِ بَعدَ الكَوْرِ » ، أي : من التشتت بعد الألفة .
وقيل : من فساد أمورنا بعد صلاحها .
والحَوْرُ : بالحاء المهملة والراء؛ الطيُّ واللَّف ، والكورُ والتَّكويرُ واحدٌ .
وسميت كارَّة القصار : كارة؛ لأنه يجمع ثيابه في ثوب واحد .
ثم إن الشيء الذي يلفّ يصير مختفياً عن الأعين ، فعبر عن إزالة النور عن جرم الشمس ، وغيبوبتها عن الأعين ب « التكوير » .
فلهذا قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : تكويرها : إدخالها في العرش .
وقال الحسنُ : ذهاب ضوئها ، وهو قول مجاهدٍ وقتادة .
وروي عن ابن عباس أيضاً وسعيد بن جبير : غورت .
وقال الرًّبيعُ بنُ خيثمٍ : « كُوِّرتْ » : رمي بها .
ومنه كورته فتكور : أي : سقط .
قال الأصمعي : يقال : طعنه فكوَّره وحوره أي : صرعه .
فمعنى « كورت » : أي : ألقيت ورميت عن الفلك .
وعن أبي صالح : « كورت » نكست .
وقال ابن الخطيب : وروي عن عمر - رضي الله عنه - أن لفظة « كُوِّرتْ » مأخوذةٌ من الفارسية ، فإنه يقال للأعمى : كور .
قوله : { وَإِذَا النجوم انكدرت } أي : تناثرت وتساقطت .
قال تعالى : { وَإِذَا الكواكب انتثرت } [ الانفطار : 2 ]
والأصل في الانكدار : الانصباب .
قال الخليل : انكدر عليهم القول إذا جاءوا أرسالاً ، وانصبوا عليهم .
وقال أبو عبيدة : انصبّ كما ينصب العقاب إذا كسرت؛ قال العجاجُ يصفُ صقراً : [ الرجز ]
5119- أبْصَرَ خِرْبَانَ فضَاءٍ فانْكَدرْ ... تَقضِّيَ البَازِيَ إذَا البَازِي كَسَرْ
روى ابن عباس - رضي الله عنهما - : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يَبْقَى في السَّمَاءِ يَوْمَئذٍ نَجمٌ إلاَّ سَقطَ في الأرْضِ » .
وروي ابن عباس - رضي الله عنهما - : أن النجوم قناديلُ معلقةٌ بين السماء والأرض بسلاسلَ من نور بأيدي الملائكة ، فإذا مات من في السموات ، ومن في الأرض تساقطت تلك الكواكب من أيدي الملائكة؛ لأنه مات من كان يمسكها .

قال القرطبي : « ويحتمل أن يكون » انكدارها « : طمسَ آثارها ، وسميت النجوم نجوماً لظهورها في السماء بضوئها .
وعن ابن عباس - أيضاً - : » انْكَدرَتْ « : تغيَّرت ، فلم يبق لها ضوءٌ لزوالها عن أماكنها ، والمعنى متقارب .
قوله : { وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ } ، يعني : قطعت عن وجه الأرض وسيرت في الهواء ، لقوله تعالى : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] ، وقوله تعالى : { وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً } [ النبأ : 20 ] في الهواء ، لقوله تعالى : { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب } [ النمل : 88 ] .
وقيل : سيرها أن تحوَّل عن صفة الجبال للحجارة ، فتكون كثيباً مهيلاً ، أي : رملاً سائلاً ، وتكون كالعِهْن ، وتكون هباءً منبثاً ، وتكون مثل السَّراب الذي ليس بشيءٍ ، وعادت الأرض قاعاً صفصفاً ، { لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً } [ طه : 107 ] .
قوله تعالى : { وَإِذَا العشار عُطِّلَتْ } . العشار : جمع عشراء ، وهي : الناقة التي مر لحملها عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع في تمام السَّنة وكذلك يقال في جمع نفساء .
قال القرطبي : وهو اسمها بعد ما تضع أيضاً ، ومن عادة العرب أن يسمُّوا الشيء باسمه المتقدم ، وإن كان قد جاوز ذلك ، يقول الرجل لفرسه وقد قرح : قربوا مهري يسميه بمتقدم اسمه ، وإنَّما خصَّ العشار بالذكر؛ لأنَّها أعزُّ ما يكون عند العرب ، وهذا على وجه المثل؛ لأن في القيامة لا تكون ناقة عشراء ، أو المعنى : أنَّ يوم القيامة بحالٍ لو كان للرجل ناقة عشراء لعطَّلها ، واشتغل بنفسه ، يقال : ناقة عشراء ، وناقتان عشراوتانِ ، ونوقٌ عشارٌ وعشراوات ، يبدلون من همزة التأنيث واواً .
وقد عشرت الناقة تعشيراً : أي : صارت عشراء .
وقيل : » العِشَارُ « : السَّحاب ، و » عطلت « : أي : لا تمطر .
والعرب تشبه السحاب بالحامل ، قال تعالى : { فالحاملات وِقْراً } [ الذاريات : 2 ] .
وقيل : الأرض تعطل زرعها .
والتعطيل : الإهمال ، ومنه قيل للمرأة : عاطل إذا لم يكن عليها حُليّ . وتقدم في » بئر معطلة « .
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
5120- وجيدِ كَجيدِ الرِّئمِ لَيْسَ بفَاحِشٍ ... إذَا هِيَ نَصَّتْهُ ولا بِمُعَطِّلِ
وقرأ ابنُ كثير في رواية : » عُطِلت « بتخفيف الطاء .
قال الرازي : هو غلطٌ ، إنما هو بفتحتين ، بمعنى : » تعطَّلتْ «؛ لأن التشديد فيه للتعدي ، يقال : عطلت الشيء ، وأعطله فعطل .
قوله تعالى : { وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ } ، الوحوش : ما لم يتأنس به من حيوان البرّ ، والوحشُ أيضاً : المكان الذي لا أنس فيه ، ومنه : لقيته بوحش أي : ببلد قفر ، والوحشُ : الذي يبيت وجوفه خالياً من طعامٍ ، وجمعه : أوحاشٌ ، وسمِّي به المنسوب إلى المكان الوحشيّ : وحشي ، وعبر بالوحشيّ عن الجانب الذي يضاد الإنسي ، والإنسي : ما يقبل من الإنسان وعلى هذا وحشي الفرس وإنسيه .
وقوله تعالى : { حُشِرَتْ } . أي : جمعت ، والحشرُ : الجمع قاله الحسنُ وقتادةُ وغيرهما .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : حشرها موتها ، رواه عكرمة ، وحشر كلِّ شيءٍ : الموت لغير الجن والإنس ، فإنهما يوافيان يوم القيامة .

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : يحشَرُ كلُّ شيءٍ حتى الذباب .
وعن ابن عباس - أيضاً - : يحشر الوحوش غداً ، أي : تُجمع ، حتى يقتصّ لبعضها من بعض ، فيقتص للجمَّاء من القرناء ثم يقال لها : كوني تراباً فتموت .
وقرأ الحسن وابن ميمون : « حُشِّرت » بتشديد الشين .
ومعنى الآية : أي : أنَّ الوحوش إذا كانت هذه حالها فكيف ببني آدم؟ .
وقيل : أي : أنَّها مع نفرتها اليوم من النَّاس ، وتبددها في الصحاري ، تنضمّ غداً إلى الناس من أهوال ذلك اليوم؛ قاله أبي بن كعب .
قوله تعالى : { وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ } .
قرأ ابن كثيرٍ وأبو عمروٍ : « سُجِرتْ » بتخفيف الجيم .
والباقون : بتثقيلها على المبالغة والتنكير .
والمعنى : مُلئتْ من الماء ، والعرب تقول : سجرتُ الحوضَ أسجره سجراً إذا ملأتهُ ، وهو مسجورٌ ، والمسجورُ والسَّاجرُ في اللغة : المَلآن .
وروى الربيع بن خيثمٍ : « سُجِّرَت » : فاضت وملئت ، قال تعالى : { وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ } [ الانفطار : 3 ] .
وقال الحسن : اختلطت وصارت شيئاً واحداً .
وقيل : أرسل عذبها على مالحها ، ومالحها على عذبها حتى امتلأت .
وقال القشيريُّ : يرفع الله الحاجز الذي ذكره - تعالى - في قوله : { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 20 ] ، فإذا رفع ذلك البرزج تفجَّرت مياه البحار ، فعمَّت الأرض كلَّها ، وصارت بحراً واحداً .
وعن الحسن وقتادة وابن حيان : تيبس ، فلا يبقى من مائها قطرةٌ .
قال القشيريُّ : وهو من سجرتُ التنور أسجره سجراً : إذا أحميته ، وإذا سلط عليه الإيقاد نشف ما فيه من الرُّطوبة ، وتقدم اشتقاق هذه المادة .
قال القفالُ : وهذا التأويل يحتمل وجوهاً :
الأول : أن تكون جهنم في قعر البحار ، فهي الآن غير مسجرة بقوام الدنيا ، فإذا انتهت مدة الدنيا أوصل الله تعالى تأثير ذلك النِّيران إلى البِحَار ، فصارت مسجورة بالكلية ، وهذا قولُ ابن زيد ، وعطية ، وسفيان ، ووهب ، وأبيّ ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عباس في رواية ، والضحاك - رضي الله عنهم - أوقدت فصارت ناراً .
الثاني : قال ابن عباس : يُكوِّر الله تعالى الشمس ، والقمر ، والنجوم في البحار ، فتصير البحار مسجورة بسبب ذلك يبعث الله - تعالى - [ لها ] ريحاً دبوراً ، فتنفخه حتى تصير ناراً ، كذا جاء في الحديث .
الثالث : أن يخلق الله - تعالى - تحت البحار نيراناً عظيمة حتى تسجر تلك المياه .
قال ابن الخطيب : وهذه وجوه متكلِّفة ، ولا حاجة إلى شيء منها؛ لأن القادر على تخريب الدنيا يقدر على أن يفعل في البحار ما شاء من تسجير مياهها ، ومن قلب مياهها ناراً من غير حاجةٍ إلى أن يلقي فيها الشمس والقمر ، أو يكون تحتها نار جهنم .
قال القرطبيُّ : وروي عن ابنِ عمرو - رضي الله عنه - : لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم .

وقال أبي بن كعب رضي الله عنه : ستّ آيات قبل يوم القيامة : بينما الناس في أسواقهم إذا ذهب ضوءُ الشمس ، فتحيَّروا ودهشُوا ، فبينما هم كذلك ينظرون إذا تناثرت النجوم ، وتساقطت ، فبينما هم كذلك إذا وقعت الجبال على وجه الأرض ، فتحركت واضطربت ، واحترقت فصارت هباءً منبثاً ، ففزعتِ الجنُّ إلى الإنسِ ، وفزعتِ الإنسُ إلى الجنِّ ، واختلط الدواب ، والوحش ، والهوام والطير ، وماج بعضها في بعض ، فذلك قوله تعالى : { وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ } ، ثم قالت الجنُّ للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجَّجُ ، فبينما هم كذلك إذا تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى ، وإلى السماء السابعة العليا ، فبينما هم كذلك إذا جاءتهم ريح ، فأماتتهم .
وقال ابن الخطيب : وهذه العلامات يمكن أن تكون عند خراب الدنيا ، وأن تكون بعد القيامة .
وقيل : معنى « سُجِّرتْ » يحمر ماؤها حتى يصير كالدَّم ، من قولهم : « عَيْنٌ سَجراءُ » . أي : حمراء .
قوله تعالى : { وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ } .
العامة : على تشديد « الواو » من « زوَّجت » من التزويج .
وروي عن عاصم : « زُوْوجَتْ » على وزن « فُوعِلتْ » .
قال أبو حيان : « والمُفاعَلةُ » تكون من اثنين .
قال شهابُ الدِّين : وهي قراءةٌ مشكلةٌ؛ لأنَّه لا ينبغي أن يلفظ بواو ساكنة ، ثم أخرى مكسورة ، وقد تقدم أنه متى اجتمع مثلان ، وسكن أولهما وجب الإدغام حتى في كلمتين ، ففي كلمة واحدة أولى .
فصل في المراد بالآية
قال النُّعمانُ بنُ بشيرٍ : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « { وإذَا النُّفوسُ زُوِّجَتْ } قال : » يُقْرَنُ كُل رجُلٍ مَعَ كُلِّ قومٍ كَانُوا يَعْملُونَ كعَملهِ « » .
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : يقرن الفاجرُ مع الفاجر ، ويقرن الصالحُ مع الصالحِ .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : ذلك حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة : السَّابقون زوج صِنْفاُ ، وأصحاب اليمين زوجٌ ، وأصحاب الشِّمال زوجٌ .
وعنه أيضاً قال : زوجت نفوس المؤمنين بالحُورِ العينِ ، وقُرِنَ الكفَّار والمنافقون بالشَّياطينِ .
وقال الزجاجُ : قُرنَت النفوسُ بأعمالها .
وقيل : قرنت الأرواح بالأجساد أي : وقت ردت إليها قاله عكرمة .
وقيل غير ذلك .
قوله تعالى : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } .
الموءودة : هي البِنْتُ تدفنُ حيَّة من الوأد ، وهو الثقل لأنها تثقل بالتراب والجندل .
يقال : وأد يَئِدُ ، ك « وعد » « يعِد » .
وقال الزمخشري : « وأدَ يئد » ، مقلوب من « آد يئود » إذا أثقل ، قال الله تعالى : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } [ البقرة : 255 ] ؛ لأنه إثقال بالتراب .
قال أبو حيان : ولا يدعى ذلك؛ لأن كلاًّ منهما كامل التصرف في الماضي ، والأمر ، والمضارع والمصدر واسم الفاعل ، واسم المفعول ، وليس فيه شيء من مسوغات إدغام القلب ، والذي يعلم به الأصالة من القلب أن يكون أحد النظمين فيه حكم يشهدُ له بالأصالةِ ، والآخر ليس كذلك ، أو أكثر استعمالاً من الآخر ، وهذا على ما قرروهُ في أحكام علم التصريف .

فالأول : ك « يَئِسَ وأيِسَ » .
والثاني : ك « طَأمَن واطمَأنَّ » .
والثالث : ك « شوائع وشواعي » .
والرابع : ك « لعمري ، ورعملي » .
قرأ العامة : « الموءودة » بهمزة بين واوين ساكنتين كالموعودة .
وقرأ البزي في رواية بهمزة مضمومة ، ثم واو ساكنة . وفيه وجهان :
أحدهما : أن تكون كقراءة الجماعة ، ثم نقل حركة الهمزة إلى « الواو » قبلها ، وحذفت الهمزة فصار اللفظ : « الموودة » بواو مضمومة ، ثم أخرى ساكنة ، فقلبت « الواو » المضمومة همزة ، نحو « أجُوهٍ » في « وُجُوه » فصار اللفظ كما ترى ، ووزنها الآن « مَفْعُولة »؛ لأن المحذوف « عين » .
والثاني : أن تكون الجملة اسم مفعول من « آدَهُ يئوده » مثل « قَادَه يَقُودُه » ، والأصل : « مأوودة » ، مثل : « مقوودة » ، ثم حذف إحدى الواوين على الخلاف المشهور في الحذف من نحو : « مَقُول ، ومَصُون » ، فوزنها الآن إما « مَفعلة » ، إن قلنا : إنَّ المحذوف الواو الزائدة ، وإمَّا « مَفولة » إن قلنا : إن المحذوف عين الكلمة ، وهذا يظهرُ فضل علم التصريف . وقرأ الموودة - بضم الواو الأولى - على أنه نقل حركة الهمزة بعد حذفها ، ولم يقلب الواو همزة .
وقرأ الأعمش : « المودة » ، [ بسكون الواو ] ، وتوجيهه : أنه حذف الهمزة اعتباطاً ، فالتقى ساكنان ، فحذف ثانيهما ، ووزنها « المُفْلَة » : لأن الهمزة عين الكلمة ، وقد حذفت .
وقال مكي : بل هو تخفيف قياسي ، وذلك أنه نقل حركة « الهمزة » إلى « الواو » لم يهمزها ، فاستثقل الضمة عليها فسكَّنها ، فالتقى ساكنان ، فحذف الثاني .
وهذا كله خروج عن الظاهر .
وإنما يظهر في ذلك ما نقله الفراء من أن حمزة وقف عليها كالموزة .
قالوا : لأجل الخط لأنها رسمت كذلك ، والرسم سُنة متبعة .
والعامة على : « سُئِلَت » مبنياً للمفعول ، مضموم السين .
والحسن : يكسرها من سال يسال .
وقرأ أبو جعفر : « قُتِّلتْ » - بتشديد التاء - على التكثير؛ لأن المراد اسم الجنس ، فناسبه التكثير .
وقرأ عليٌّ وابن مسعودٍ وابنُ عباسٍ - رضي الله عنهم - « سألَت » مبنياً للفاعل ، « قُتِلتُ » بضم التاء الأخيرة والتي للمتكلم ، حكاية لكلامها .
وعن أبيّ وابن مسعودٍ - أيضاً - وابن يعمر : « سألتْ » مبنياً للفاعل ، « قُتِلتْ » بتاء التأنيث الساكنة ، كقراءة العامة .
فصل في وأد أهل الجاهلية لبناتهم
كانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين :
إحداهما : كانوا يقولون : الملائكة بنات الله ، فألحقٌوا البنات به؛ تبارك وتعالى عن ذلك .

والثانية : مخافة الحاجة والإملاق ، وإمَّا خوفاً من السَّبْي والاسْترقَاقِ .
قال ابن عبَّاسٍ : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة ، وتمخّضت على رأسها فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة ، وردَّت التراب عليها ، وإن ولدتْ غلاماً حبسته ، ومنه قول الراجز : [ الرجز ]
5121- سَمَّيْتُهَا إذْ وُلِدَتْ تَمُوتُ ... والقَبْرُ صِهْرٌ ضَامِنٌ زِمِّيتُ
وقيل : كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد إبقاء حياتها ألبسها جُبَّة من صوفٍ ، أو شعرٍ ، ترعى له الإبل والغنم في البادية ، وإذا أراد قتلها تركها حتى إذا بلغت قامتُها ستة أشبار فيقول لأمّها : طيِّبيها ، وزيَّنيها حتى أذهب بها إلى أقاربها [ وقد حفر لها بئراً الصحراء ] ، فيذهب بها إلى البئر ، فيقول لها : انظري فيها ، ثم يدفعها من خلفها ، ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض .
وكان صعصعة بن ناجية ممن يمنع الوأد؛ فافتخر الفرزدق به في قوله : [ المتقارب ]
5122- ومِنَّا الذي مَنَعَ الوَائِدَاتِ ... وأحْيَا الوَئِيدَ فَلمْ يُوأدِ
فصل
رُوَيَ « أنَّ قيس بن عاصم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : إنِّي وأدتُ ثماني بنات كُنَّ لي في الجاهليَّة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فأعْتِقْ عن كُلِّ واحدةٍ منهُنَّ رقبةٌ « ، قال : يا رسول الله إنِّي صاحبُ إبل ، قال عليه الصلاة والسلام : » فأهْدِ عَن كُلِّ واحدةٍ مِنْهُنَّ بدنَةً إنْ شِئْتَ « » .
واعلم أنَّ سؤال الموءودة سؤالُ توبيخ لقاتلها ، كما يقال للطفل إذا ضرب : لِمَ ضُربتَ ، وما ذنْبُكَ؟ .
قال الحسنُ : أراد الله توبيخ قاتلها؛ لأنها قتلت بغير ذنبٍ .
وقال أبنُ أسلمُ : بأي ذنب ضربتْ ، وكانوا يضربونها .
وقيل في قوله تعالى : { سُئِلَتْ } معناه : طُلبتْ ، كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل ، وهو كقوله تعالى : { وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً } [ الأحزاب : 15 ] أي : مطلوباً ، فكأنها طلبت منهم ، فقيل : أين أولادكم؟ .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ المَرْأةَ الَّتي تَقْتلُ ولدهَا تَأتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مُتعلِّقٌ ولدُهَا بِثَدْيَيِْهَا ، مُلطَّخاً بدمَائِهِ ، فيقُولُ : يا ربِّ ، هذهِ أمِّي ، [ وهذه ] قَتلتْنِي » .
والأول قول الجمهور ، كقوله تعالى لعيسى ابن مريم : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين } [ المائدة : 116 ] ، على جهة التوبيخ ، والتبكيت لهم ، فكذلك سؤال الموءودة : توبيخ لوائدها وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها؛ لأن هذا مما لا يصحّ إلا بذنب ، أي : فبأي ذنب كان ذلك ، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها كان أعظم في البيّنة وظهور الحجة على قاتلها ، وفي الآية دليل على أن الأطفال المشركين لا يعذَّبُون ، وعلى أن التعذيب لا يستحقُّ إلاَّ بذنبٍ .
قوله تعالى : { وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ } .
قرأ الأخوان وابن كثير وأبو عمرو : بالتثقيل ، على تكرار النشر للمبالغة في تقريع العاصي ، وتبشير المطيع .
وقيل : لتكرير ذلك من الإنسان .
والباقون : بالتخفيف . ونافع وحفص وابن ذكوان « سُعِّرت » بالتثقيل ، والباقون بالتخفيف .

قوله : { نُشِرَتْ } ، أي : فتحت بعد أن كانت مطويَّة ، والمراد : صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال العباد من خير أو شر ، تطوى بالموت ، وتنشر في يوم القيامة ، فيقف كل إنسان على صحيفته ، فيعلم ما فيها ، فيقول : { مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] .
قوله تعالى : { وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ } ، أي قُشرت ، من قولهم : كشط جلد الشَّاة ، أي : سلخها . وقرأ الله « قشطت » - بالقاف - وقد تقدم أنهما متعاقبان كثيراً ، وأنه قرئ : وقافوراً [ وكافوراً ] في { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } [ الإنسان : 1 ] . [ يقال : لبكت الثريد ولبقته ] .
قال القرطبي : « يقال : كشَطْتُ البعير كشْطاً ، نزعت جلده ، ولا يقال : سلخته ، لأن العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته » ، والمعنى : أزيلت عما فوقها .
قال الفراء : طويت .
قوله تعالى : { وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ } ، أي : أوقدت ، فأضرمت للكفَّار ، وزيد في إحمائها يقال : سعرتُ النَّار وأسْعرتُهَا .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أوقِدَ على النَّارِ ألْفَ سنةٍ حَتَّى اسْودَّتْ فهيَ مُظْلمةٌ » .
احتج بهذه الآية من قال : إن النار مخلوقة الآن؛ لأنه يدل على أنَّ سعيرها معلَّق بيوم القيامة .
قوله تعالى : { وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ } ، أي : أدنيت وقرِّبتْ من المتَّقِينَ .
قال الحسنُ - رضي الله عنه - [ إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها .
وقال عبد الله بن زيد ] : زُيِّنت ، والزُّلْفَى في كلام العرب : القُربَة .
قوله تعالى : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ } ، هذا جواب « إذا » أوَّل السُّورة وما عطف عليها ، والمعنى : ما عملتْ من خيرٍ وشرٍّ . وروي عن ابن عباس وعمر - رضي الله عنهما - أنهما قرآها ، فلما بلغا « علمت نفس ما أحضرت » قالا : لهذا أجريتِ القصَّةُ .
قال ابن الخطيب : ومعلوم أنَّ العمل لا يمكن إحضاره ، فالمراد : إذا ما أحضرته في صحائفها ، أو ما أحضرته عند المحاسبة ، وعند الميزان من آثار تلك الأعمال ، أو المراد : ما أحضرت من استحقاق الجنَّة والنَّار ، فإنَّ كلَّ نفس تعلم ما أحضرت ، لقوله تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } [ آل عمران : 30 ] .
والتنكير في قوله : « نَفْسٌ » من عكس كلامهم الذي يقصدون به المبالغة ، وإن كان اللفظ موضوعاً للتقليل ، لقوله تعالى : { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } [ الحجر : 2 ] ، أو يكون المراد : أنَّ الكفار كانوا يتعبُون أنفسهم بما يظنونه طاعة ، ثم يظهر لهم في القيامة خلاف ذلك .

فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)

قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس } ، أي : « أقسم » ، و « لا » زائدة كما تقدم .
« والخُنَّسُ » : جمع خانسٍ ، والخُنوسُ : الانقباضُ ، يقال : خنس بين القوم ، وانْخنسَ .
وفي الحديث : « فانْخَنَسْتُ » ، أي : استخفيت . يقال : خَنَسَ عنه يَخْنسُ - بالضم - خُنُوساً .
والخنسُ : تأخر الأنف عن الشَّفة مع ارتفاع الأرنبة قليلاً .
ويقال : رجلٌ أخنسُ ، وامرأةٌ خنساءُ ، ومنه : الخنساءُ الشاعرةُ .
والخُنَّسُ في القرآن ، قيل : الكواكب السبعة السَّيارة القمران ، وزحل ، والمشتري والمريخ ، والزهرة ، وعطارد؛ لأنها تخنس في المغيب أو لأنها تختفي نهاراً .
وعن علي رضي الله عنه : هي زُحَل ، والمشتري ، والمريخ ، والزهرة وعطارد .
وفي تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم وجهان :
أحدهما : لأنَّها تستقبل الشمس ، قاله بكر بن عبد الله المزني .
الثاني : تقطع المجرة ، قاله ابن عباس .
وقيل : خُنُوسُهَا : رجوعها ، وكُنُوسها : اختفاؤها تحت ضوء الشمس .
قال ابن الخطيب : الأظهرُ أنَّ ذلك إشارة إلى رجوعها واستقامتها .
وقال الحسن وقتادة : هي النجوم كلها؛ لأنها تخنس بالنهار إذا غربت ، وتظهر بالليل ، وتكنس في وقت غروبها ، أي : تتأخر عن البصر لخفائها ، وتكنس أي : تستتر ، كما تكنس الظِّباء في المغارة ، وهي الكناس ، والكنس : الداخلة في الكناس ، وهي بيت الوحش ، والجواري : جمع جارية .
وعن ابن مسعود : هي بقر الوحش؛ لأن هذه صفتها .
وروي عن عكرمة قال : الخُنَّسُ : البقر ، والكُنسُ : هي الظباء ، فهي خنسٌ إذا رأين الإنسان خَنَسْنَ ، وانقبضن وتأخرن ودخلن كناسهنّ .
قال القرطبيُّ : « والخُنَّسُ » على هذا : من الخنس في الأنف ، وهو تأخير الأرنبة ، وقصر القصبة ، وأنوف البقر والظِّباء خنس ، والقول الأول أظهر لذكر الليل والصبح بعده .
وحكي الماورديُّ : أنها الملائكة ، والكُنَّسُ : الغيبُ ، مأخوذة من الكناس ، وهو كناس الوحش الذي يختفي فيه ، والكُنَّسُ : جمع كانس وكانسة .
قوله تعالى : { والليل إِذَا عَسْعَسَ } . يقال : عَسْعَسَ وسَعْسَع ، أي : أقبل .
قال العجاج : [ الرجز ]
5123- حَتَّى إذَا الصُّبْحُ لهَا تَنفَّسَا ... وانْجَابَ عَنْهَا ليْلُهَا وعِسْعَسَا
أي : أدبر .
قال الفراء : أجمع المفسرون على أن معنى « عسعس » : أدبر حكاه الجوهري .
وقيل : دَنَا من أوله وأظلم ، وكذلك السحاب إذا دنا من الأرض .
وقيل : « أدْبَر » من لغة قريش خاصَّة .
وقيل : أقبل ظلامُه ، ورجحه مقابلته بقوله تعالى { والصبح إِذَا تَنَفَّسَ } ، وهذا قريبٌ من إدباره .
وقيل : هو لهما على طريق الاشتراك .
قال الخليل وغيره : عسعس الليل : إذا أقبل ، أو أدبر .
قال المبرد : هو من الأضداد ، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحدٍ ، وهو ابتداء الظلام في وله ، وإدباره في آخره .
قال الماورديُّ : وأصل العسِّ : الامتلاء .
ومنه قيل للقدح الكبير : عُسٌّ ، لامتلائه بما فيه ، فأطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه ، وأطلق على إدباره لانتهاء امتلائه ، فعلى هذا يكون القسم بإقبال الليل وبإدباره ، وهو قوله تعالى : { والصبح إِذَا تَنَفَّسَ } لا يكون فيه تكرار .

وعَسْعَس : اسم موضع البادية ، وأيضاً : هو اسم رجل .
ويقال للذئب : العَسْعَسُ والعَسْعَاس؛ لأنه يعسُّ في الليل ويطلب .
ويقال للقنافذ : العَساعِس ، لكثرة ترددها بالليل ، والتَّعَسْعُس : الشم والتَّعَسْعُس - أيضاً - : طلب الصيد .
قوله تعالى : { والصبح إِذَا تَنَفَّسَ } ، أي امتد حتى يصير نهاراً واضحاً .
يقال للنهار إذا زاد : تنفس ، ومعنى التنفس : خروج النسيم من الجوف .
وفي كيفية المجاز قولان :
الأول : أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم ، فجعل ذلك نفساً له على المجاز ، فقيل : تنفس الصبح .
الثاني : أنه شبَّه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي خنس بحيث لا يتحرك ، فإذا تنفس وجد راحة ، فهاهنا لما طلع الصبح ، فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس .
وقيل : { إِذَا تَنَفَّسَ } أي إذا انشق وانفلق ، ومنه تنَفَّسَتِ القوسُ : أي : تصدعت . [ وهذا آخر القسم ] .
قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } . قال الحسنُ وقتادةُ والضحاكُ : الرسول الكريم : جبريل .
والمعنى : إنَّه لقولُ رسولٍ كريمٍ من الله كريمٍ على الله ، وأضاف الكلام إلى جبريل ، ثم عزاه عنه فقال : { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين } [ الواقعة : 80 ] ليعلم أهل التحقيق في التصديق أن الكلام لله تعالى .
وقيل : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن جعله جبريل ، فقوته ظاهرة؛ لما روى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : من قوته قلعه مدائن قوم لوط بقوادمِ جناحه .
وقوله تعالى : { عِندَ ذِي العرش } أي : عند الله سبحانه وتعالى .
« مكين » أي : ذي منزلةٍ ومكانةٍ .
وروى أبو صالح قال : يدخل سبعين سرادقاً بغير إذن .
وقيل : المراد : القوة في أداء طاعة الله تعالى ، وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف .
وقوله تعالى : { عِندَ ذِي العرش } هذه العندية ليست عندية الجهة ، بل عندية الإشراف ، والتكريم ، والتعظيم .
وقوله تعالى : « أنا عند المنكسرة قلوبهم » ، وقوله سبحانه : { مَكِينٍ } : قال الكسائي : يقال : مكنَ فلانٌ عند فلانٍ - بضم الكاف - تمكُّناً ومكانة ، فعلى هذا هو ذو الجاه الذي يعطي ما يسأل .
قوله تعالى : { مُّطَاعٍ ثَمَّ } ؛ أي : في السموات .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : من طاعة الملائكة جبريل - عليه السلام - أنَّه لمَّا أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قال جبريلُ لرضوان خازن الجنانِ : افتحْ له ففتحَ ، فدخلها ، فرأى ما فيها وقال لمالك خازن النار : افتح له ففتح ، فدخلها ، ورأى ما فيها .
وقوله تعالى : { أَمِينٍ } ، أي : مؤتمن على الوحي الذي يجيء به .
ومن قال : إن المراد محمد صلى الله عليه وسلم فقال : « ذِ قوةٍ » على تبليغ الوحي « مطاع » أي : يطيعه من أطاع الله عز وجل .
{ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } حتى يتَّهم في قوله ، وهو من جواب القسم والضمير في قوله : « إنَّهُ » يعود إلى القرآن الذي نزل به جبريل - عليه السلام - على محمد صلى الله عليه وسلم .

وقيل : يعود إلى الذي أخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم من أنّ أمر الساعة في هذه السورة ليس بكهانة ، ولا ظنَّ ، ولا افتعال ، إنما هو قول جبريل أتاه به وحياً من الله تعالى .
فصل فيمن استدل بالآية على تفضيل جبريل على سيدنا محمد
قال ابنُ الخطيب : احتج بهذه الآية من فضل جبريل - عليه الصلاة والسلام - على محمد صلى الله عليه وسلم فقال : إذا وازنت بين قوله سبحانه : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } ، وبين قوله تعالى : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } ظهر التفاوت العظيم .
قوله : « عند ذي » : يجوز أن يكون نعتاً ل « رسولٍ » ، وأن يكون حالاً من « مكينٍ » ، وأصله الوصف ، فلما قدم نصب حالاً .
قوله : { ثَمَّ أَمِينٍ } . العامة : على فتح الثَّاء؛ لأنه ظرف مكان للبعد ، والعامل فيه « مطاعٍ » .
وأبو البرهسم ، وأبو جعفر وأبو حيوة : بضمها ، جعلوها عاطفة ، والتراخي هنا في الرتبة؛ لأن الثانية أعظم من الأولى .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين } ، أي : لقد رأى جبريل في صورته في ستمائة جناح { بالأفق المبين } أي : حيث تطلع الشمس من قبل المشرق .
وقيل : « بالأفق المبين »؛ أقطار السماء ونواحيها .
قال الماورديُّ : فعلى هذا ففيه ثلاثة أقوال :
الأول : أنه رآه في الأفق الشرقيِّ . قاله سفيان .
الثاني : في أفق السماء الغربي ، حكاه ابن شجرة .
الثالث : أنه رآه نحو « أجياد » ، وهو مشرق « مكة » ، قاله مجاهد .
وقيل : إنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه - عز وجل - بالأفق المبينِ ، وهو قول ابن مسعود وقد تقدم ذلك في سورة « والنجم » .
وفي « المُبينِ » قولان :
أحدهما : أنه صفة للأفق ، قاله الربيع .
الثاني : أنَّه صفة لمن رآه ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ } .
قرأ ابن كثير ، وأبو عمر ، والكسائي : بالظاء ، بمعنى متهم من ظن بمعنى : اتهم ، فيتعدى لواحدٍ .
وقيل : معناه بضعيف القوة عن التبليغ من قولهم : « بئر ظنُون » أي : قليلة الماء ، والظِّنَّة التهمة ، واختاره أبو عبيدة وفي مصحف عبد الله كذلك .
والباقون : بالضاد ، بمعنى : بخيل بما يأتيه من قبل ربِّه ، من ضننت بالشيء أضنُّ ضنًّا ، يعني : لا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك ، ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً ، إلا أنَّ الطبري قال : بالضاد خطوط المصاحف كلها .
وليس كذلك لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها ، وهذا دليل على التمييز بين الحرفين خلافاً لمن يقول : إنه لو وقع أحدهما موقع الآخر بحال لجاز لعسر معرفته ، وقد شنَّع الزمخشريُّ على من يقول ذلك ، وذكر بعض المخارج ، وبعض الصفات بما يطول ذكره .

و { عَلَى الغيب } متعلق ب « ظنين » ، أو « ضَنِيْنٍ » .
و « الغيب » : القرآن ، وخبر السماء هذا صفة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : صفة جبريل عليه السلام .
قوله تعالى : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } ، أي : مَرْجُومٍ ، والضمير في « هو » للقرآن ، قالت قريش : إنَّ هذا القرآن يجيء به شيطان ، فيلقيه على لسانه ، فنفى الله ذلك ، يريدون بالشيطان : الأبيض الذي كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه .
فصل في الكلام على الآية
قال ابنُ الخطيب : إن قيل : إنَّه حلف على أن القرآن قول جبريل - عليه السلام - فوجب علينا أن نصدقه ، فإن لم نقطع بوجوب حمل اللفظ على الظاهر ، فلا أقلَّ من الاحتمال ، وإن كان كذلك ثبت أن هذا القرآن يحتملُ أن يكون كلام جبريل لا كلام الله تعالى ، وبتقدير أن يكون كلام جبريل لا يكون معجزاً ، ولا يمكن أن يقال بأن جبريل معصوم؛ لأنَّ عصمته متفرعة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وصدق النبي صلى الله عليه وسلم على كون القرآن معجزاً ، وكون القرآن معجزاً متفرع على عصمة جبريل ، فيلزم دور .
فالجواب : أنَّ الإعجاز ليس في الفصاحة ، بل في سلب تلك الدواعي عن القلوب ، وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلاَّ الله تعالى ، لأن سلب القدرة عما هو مقدور لا يقدر عليه إلا الله تعالى .
ثم قال في قوله تعالى : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } : فإن قيل : القول بصحة النبوة موقوف على نفي هذا الاحتمال فكيف يمكن نفيه بالدليل السمعي؟ .
قلنا : قد بينَّا أنَّه على القول بالصرف لا يتوقف صحة النبوة على نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي .

فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

قوله تعالى : { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } « أيْنَ » : منصوب ب « تذهبون »؛ لأنه ظرف مبهم .
وقال أبو البقاء : أي : إلى أين؟ فحذف حرف الجرِّ ، كقولك : ذهبت « الشام » ، ويجوز أن يحمل على المعنى ، كأنه قال : أين تؤمنون ، يعني : أنه على الحذف ، أو على التضمين ، وإليه نحا مكيٌّ أيضاً .
ولا حاجة إلى ذلك ألبتَّة لأنه ظرف مبهم لا مختص .
فصل في تفسير الآية
قال قتادةُ : فإلى أين تعدلون عن هذا القول ، وعن طاعته .
وقال الزجاج : فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بيَّنت لكم .
ويقال : أين تذهب وإلى أين تذهب .
وحكى الفراء عن العرب : ذهبت « الشام » ، وخرجت « العراق » ، وانطلقت السوق ، أي : إليها؛ وأنشد لبعض بني عقيل : [ الوافر ]
5124- تَصِيحُ بِنَا حنيفةُ إذْ رَأتْنَا ... وأيُّ الأرضِ تَذْهَبُ لِلصِّياحِ
يريد : إلى أيِّ أرض تذهب ، فحذف « إلى » .
قوله : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ } ، يعني : القرآن ذكر للعالمين ، أي : موعظة ، وزجر . و « إن » بمعنى : « ما » .
وقيل : ما محمد إلا ذكر .
قوله : { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ } بدل من « للعالمين » بإعادة العامل ، وعلى هذا فقوله : { أَن يَسْتَقِيمَ } : مفعول « شاء » أي : لمن شاء الاستقامة ، ويجوز أن يكون « لمن شاء » خبراً مقدماً ، ومفعول شاء محذوف ، وأن يستقيم مبتدأ ، وتقدم نظيره والمعنى : لمن شاء منكم أن يستقيم .
قال أبو جهل : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم وهذا هو القدر ، وهو رأس القدرية ، فنزلت : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين } ، فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيراً إلا بتوفيق الله تعالى ، ولا شرًّا إلا بخذلانه .
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } ، أي : إلا وقت مشيئة الله تعالى .
وقال مكيٌّ : « أن » في موضع خفض بإضمار « الباء » ، أو في موضع نصب بحذف الخافض .
يعني : أن الأصل « إلا بأن » ، وحينئذ تكون للمصاحبة .
فصل في تفسير الآية
قال الحسن : والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله تعالى لها .
وقال وهب بن منبه - رضي الله عنه - : قرأت في تسعة وثمانين كتاباً مما أنزل الله - تعالى - على الأنبياء : من جعل إلى نفسه شيئاً فقد كفر ، وفي التنزيل : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الأنعام : 111 ] .
وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ يونس : 100 ] .
وقال تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ القصص : 56 ] ، والآيُ في هذا كثيرة وكذلك الأخبار وأن الله - تعالى - هدى بالإسلام ، وأضلَّ بالكفر .

قال ابنُ الخطيب : وهذا عين مذهبنا؛ لأن الأفعال موقوفة على مشيئتنا ، ومشيئتنا موقوفة على مشيئة الله ، والموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء ، فأفعال العباد ثبوتاً ونفياً موقوفة على مشيئة الله تعالى ، وحمل المعتزلة ذلك على أنها مخصوصة بمشيئة الإلجاء والقهر ، وذلك ضعيف؛ لأن المشيئة الاختيارية حادثة ، فلا بد من محذوف ، فيعود الكلام . والله تعالى أعلم .
روى الثعلبي عن أبيّ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ { إِذَا الشمس كُوِّرَتْ } ، أعاذهُ الله أنْ يَفضحَهُ حِينَ تُنشرُ صَحِيفَتُهُ » والله أعلم بالصواب .

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)

قوله تعالى : { إِذَا السمآء انفطرت } ، معناه : إذا وقعت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة يحصل الحشر والنشر ، ومعنى « انْفطَرتْ » : انشقت لنزول الملائكة ، كقوله تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] ، { فَإِذَا انشقت السمآء فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان } [ الرحمن : 37 ] { وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً } [ النبأ : 19 ] ، { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل : 18 ] .
قال الخليل : ولم يأت هذا على الفعل بل هو كقولهم : مُرضِع ، وحَائض ، ولو كان على الفعل لكان « منفطر » .
وقال القرطبيُّ : « تفطرت لهيبة الله تعالى : والفطرُ : الشق ، يقال : فطرته فانفطر ، ومنه : فطر ناب البعير إذا طلع ، فهو بعير فاطر ، وتفطَّر الشيء . تشقَّق ، وسيف فطار ، أي فيه شقوق » . وقد تقدم .
قوله تعالى : { وَإِذَا الكواكب انتثرت } تساقطت؛ لأن عند انتقاض تركيب السماء تنتثر النجوم على الأرض ، يقال : نثرتُ الشيء أنثرهُ نثراً فانتثر . والنُّثار - بالضم - ما تناثر من الشيء .
قوله تعالى : { وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ } .
العامة على بنائه للمفعول مثقلاً .
وقرأ مجاهد : مبنياً للفاعل مخففاً من الفجور ، نظراً إلى قوله تعالى : { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 20 ] ، فلما زال البرزخ بغياً .
وقرأ مجاهد - أيضاً - والربيع بن خيثم ، والزعفراني ، والثوري : مبنياً مخففاً .
ومعنى « فُجِّرت » أي : دخل بعضها في بعض ، واختلط العذبُ بالملحِ ، فصار واحداً بارتفاع الحاجز الذي جعله الله تعالى برزخاً بينهما .
وقيل : إنَّ مياه البحار الآن راكدة مجتمعة ، فإذا انفجرت تفرقت ، وذهب ماؤها .
وقال الحسن : فجرت : يبست .
قوله تعالى : { وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ } . أي : قلبت : يقال : بَعْثَره وبَحْثَره -بالعين والحاء - قال الزمخشري : وهما مركبان من العبث والبحث ، مضموم إليهما راء ، يعني أنهما مما اتفق معناهما؛ لأن الراء مزيدة فيهما ، إذ ليست من حروف الزيادة وهذا ك « دَمَثَ » و « دَمْثَرَ » و « بَسَطَ » و « بَسْطَرَ » .
فصل في المراد ببعثرة القبور
والمعنى : قلب أعلاها وأسفلها ، وقلب ظاهرها وباطنها وخرج ما فيها من الموتى أحياء .
وقيل : التبعثر : إخراج ما في باطنها من الذهب والفضة ثم يخرج الموتى بعد ذلك .
وقوله تعالى : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } : جواب « إذا » ، والمعنى : ما قدمت من عمل صالح ، أو شيء ، أو أخرت من سيئة أو حسنة . وقيل : ما قدمت من الصدقات وأخرت من التركات على ما تقدم في قوله تعالى : { يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] .
والمقصود منه الزجر عن المعصية ، والترغيب في الطاعة .
فإن قيل : أيُّ وقت من القيامة يحصل هذا العلم؟ .
قال ابنُ الخطيب : أمَّا العلم الإجمالي ، فيحصل في أول زمان الحشر؛ لأن المطيع يرى آثار السعادة في أول الأمر والعاصي يرى آثار الشقاوة في أول الأمر ، وأمَّا العلم التفصيلي ، فإنما يحصل عند قراءة الكتب ، والمحاسبة .

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)

قوله تعالى : { ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم } أي : المتجاوز .
والعامة : على « غرَّك » ثلاثياً ، و « ما » الاستفهامية : في محل رفع على الابتداء .
وقرأ ابن جبير ، والأعمش : « ما أغَرَّكَ » ، فاحتمل أن تكون استفهامية ، وأن تكون تعجبية ، ومعنى « أغرّه » : أدخله في الغرَّة ، أو جعله غارًّا .
فصل في مناسبة الآية لما قبلها
لما أخبر في تلك الآية أولى عن وقوع الحشر والنشر ، ذكر هاهنا ما يدل عقلاً ونقلاً على إمكانه ، أو على وقوعه ، وذلك من وجهين
الأول : أن الإله الكريم الذي لا يجوز من كرمه أن يقطع مواد نعمه عن المذنبين ، كيف يجوز في كرمه ألا ينتقم من الظالم؟ .
الثاني : أن القادر على خلق هذه البنية الإنسانية ، ثم سوَّاها ، وعدلها ، إمَّا أن يقال : إنه - تعالى - خلقها لا لحكمةٍ ، وذلك عبث ، وهو على الله تعالى محال؛ لأنه - تعالى - منزَّهٌ عن العبث ، أو خلقها لحكمةٍ ، فتلك الحكمة أن تكون عائدة على الله تعالى ، وذلك باطل؛ لأنه منزَّهٌ عن الاستكمال والانتفاع ، فتعين أن تكون الحكمة عائدة إلى العبد ، وتلك الحكمة أن تظهر في الدنيا ، فذلك باطل؛ لأن الدنيا دار بلاء وامتحان لا دار انتفاع وجزاء ، فثبت أن تلك الحكمة إنما تظهر في دار الجزاء ، فثبت أن الاعتراف بوجود الإله الكريم الذي يقدر على الخلق ، والتسوية ، والتعديل يوجب على العاقل أن يقطع بأنه تعالى يبعث الأموات ويحشرهم .
فصل في نزول الآية
هذا [ خطاب ] لمنكري البعث .
روى عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنها نزلت في الوليد بن المغيرة .
وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في الأشرم بن شريقٍ ، وذلك أنَّه ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه الله تعالى ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
وقيل : يتناول جميع العصاة؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ومعنى « ما غرَّك » : ما خدعك وسوَّل لك الباطل حتى تركت الوجبات ، وأثنيت بالمحرمات .
والمعنى : ما الذي أمَّنك من عقابه ، هذا إذا حملنا الإنسان على جميع العصاة ، فإن حملناه على الكافر ، فالمعنى : ما الذي دعاك إلى الكفر ، وإنكار الحشر والنشر .
فإن قيل : كونه كريماً يقتضي ألا يغتر الإنسان بكرمه؛ لأنه جواد مطلق ، والجواد الكريم يستوي عنده طاعة المطيع ، وعصيان المذنب ، وهذا لا يوجب الاغترار وروي عن عليّ - رضي الله عنه - أنَّه دعا غلامه مرات ، فلم يجبه ، فنظر فإذ هو بالباب ، فقال له : لم لا تجبني؟ فقال : لثقتي بحلمك ، وأمني من عقوبتك ، فاستحسن جوابه وأعتقه .
وقالوا - أيضاً - من كرم الرجل سوء أدب غلمانه ، وإذا ثبت أن كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله - هاهنا - مانعاً من الاغترار؟ .

فالجواب من وجوه :
الأول : أن المعنى لما كنت ترى حلم الله - تعالى - عن خلقه ظننت أن ذلك لا حساب ، ولا دار إلا هذه الدار ، فما الذي دعاك إلى الاغترار وجرَّأك على إنكار الحشر ، والنشر ، فإنَّ ربك كريم ، فهو من كرمه - تعالى - لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدة التوبة ، وتأخيراً للجزاء ، وذلك لا يقتضي الاغترار .
الثاني : أنَّ كرمه تعالى لمَّا بلغ إلى حيث لا يمنع العاصي من أن يطيعه ، فبأن ينتقم للمظلوم من الظالم كان أولى ، فإذاً كان كونه كريماً يقتضي الخوف الشديد من هذا الاعتبار ، وترك الجزاء والاغترار .
الثالث : أنَّ كثرة الكرم توجب الجد والاجتهاد في الخدمة ، والاستحياء من الاغترار .
الرابع : قال بعضهم : إنما قال : « بربِّكَ الكَريمِ » ليكون ذلك جواباً عن ذلك السؤال حتى يقول : غوني كرمُك ، فلولا كرمك لما فعلت؛ لأنك لو رأيت فسترت ، وقدرت فأمهلت .
وهذا الجواب إنما يصح إذا كان المراد بقوله تعالى : { ياأيها الإنسان } ليس هو « الكافر » .
فصل في غرور ابن آدم
قال قتادةُ - رضي الله عنه - : سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان وقال مقاتل : غرَّه عفو الله حين لم يعاقبه أوَّل مرة .
وقال السديُّ : غرَّه عفو الله .
وقال ابن مسعودٍ : ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة ، فيقول تعالى : ما غرَّك يا ابن آدم ، ماذا غرَّك يا ابن آدم ، ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ .
قوله : { الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ } ، يحتمل الإتباع على البدل والبيان ، والنعت ، والقطع إلى الرفع والنصب .
واعلم أنه - تعالى - لما وصف نفسه بالكرم ، ذكر هذه الأمور الثلاثة ، كالدلالة على تحقق ذلك الكرم ، فقوله تعالى : { الذي خَلَقَكَ } لا شكَّ أنَّه كرمٌ؛ لأنه وجود ، والوجود ، خير من العدم ، والحياة خير من الموت ، كما قال تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، وقوله تعالى : « فسوّاك » أي : جعلك سوياً سالم الأعضاءِ ، ونظيره قوله تعالى : { أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } [ الكهف : 37 ] ، أي : معتدل الخلق والأعضاء .
قال ذو النون : أي : سخَّر لك المكونات أجمع ، وما جعلك مسخَّراً لشيء منها ، ثم أنطق لسانك بالذكر ، وقلبك بالعقل ، وروحك بالمعرفة ، ومدك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي ، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلاً .
قوله : « فعدَلَكَ » . قرأ الكوفيون : « عَدلَكَ » مخففاً ، والباقون : مثقَّلاً .
فالتثقيل بمعنى : جعلك مناسب الأطراف ، فلم يجعل إحدى يديك ورجليك أطول ، ولا إحدى عينيك أوسع ، فهو من التعديل ، وهو كقوله تعالى : { بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } [ القيامة : 4 ] .
قال علماء التشريح : إنَّه - تعالى - ركَّب جانبي الجثة على التساوي حتى أنه لا تفاوت بين نصفيه ، لا في العظام ، ولا في أشكالها ، ولا في الأوردة والشرايين ، والأعصاب النافذة فيها والخارجة منها .

وقال عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : جعلك قائماً معتدلاً ، حسن الصُّورةِ ، ولا كالبهيمة المنحنية .
وقال أبو عليٍّ الفارسي : « عَدلَكَ » خلقك ، فأخرجك في أحسن تقويم ، مستوياً على جميع الحيوان والنبات ، وواصلاً في الكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم .
وأمَّا قراءة التخفيف فيحتمل هذا ، أي : عدل بعض أعضائك ببعض ، ويحتمل أن يكون من المعدول ، أي : صرفك إلى ما شاء من الهيئات والأشكال والأشباه ، وهذا قول الفراء .
ثم قال : والتشديد أحسن الوجهين؛ لأنك تقول : عدلتك إلى كذا ، أي : صرفتك إلى كذا وكذا ، ولا يحسن : عدلتك فيه ، ولا صرفتك فيه .
وفي القراءة الأولى : جعل « في » من قوله : « فِي أيِّ صُورةٍ » للتركيب ، وهو حسنٌ .
وفي قراءة الثانية جعل « في » صلة لقوله : « فعدلك » ، وهو ضعيف .
ونقل القفَّال عن بعضهم : أنَّهما لغتان بمعنى واحد .
قوله : « في أيِّ صُورةٍ » ، يجوز فيه أوجه :
أحدها : أن يتعلق ب « ركبك » ، و « ما » : مزيدة على هذا ، و « شاء » صفة ل « صورة » ، ولم يعطف « ركَّبَك » على ما قبله بالفاء ، كما عطف ما قبله بها ، لأنه بيان لقوله : « فَعَدَلَكَ » ، والتقدير : فعدلك ركبك في أيِّ صورةٍ من الصور العجيبة الحسنة التي شاءها - سبحانه وتعالى - والمعنى : وضعك في صورة اقتضتها مشيئته من حسن وقبح وطول ، وقصر ، وذكورة ، وأنوثة .
الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال ، أي : ركبك حاصلاً في بعض الصور .
الثالث : أنه يتعلق بعد ذلك ب « عَدلَكَ » نقله أبو حيان عن بعض المتأولين ، ولم يعترض عليه ، وهو معترض بأن في « أيِّ » معنى الاستفهام ، فلها صدر الكلام ، فكيف يعمل فيها ما تقدمها؟ .
وكأن الزمخشري استشعر هذا فقال : ويكون في « أيِّ » معنى التعجب ، أي : فعَدلَكَ في أي صورة عجيبة ، وهذا لا يحسن أن يكون مجوِّزاً لتقدُّم العامل على اسم الاستفهام ، وإن دخله معنى التعجب ، ألا ترى أن « كيف ، وأي » ، وإن دخلهما معنى التعجب ، لا يتقدم عاملهما عليهما .
وقد اختلف النحويون في اسم الاستفهام إذا قصد به الاستئناف ، هل يجوز تقديم عامله أم لا؟ .
والصحيح أنَّه لا يجوز ، ولذلك لا يجوز أن يتقدَّم عامل « كم » الخبرية عليها لشبهها في اللفظ بالاستفهامية ، فهذا أولى ، وعلى تعلقها ب « عدلك » ، تكون « ما » منصوبة على المصدر .
قال أبو البقاء : يجوز أن تكون « ما » زائدة ، وأن تكون شرطية ، وعلى الأمرين الجملة نعت ل « صورة » ، والعائد محذوف ، أي : ركبك عليها ، و « في » : تتعلق ب « ركَّبك » .
وقيل : لا موضع للجملة؛ لأن « في » تتعلقُ بأحد الفعلين والجميع كلام واحد ، وإنما يتقدم الاستفهام على ما هو حقه . قوله : بأحد الفعلين ، يعني : « شاء وركبك » ، فيحصل في « ما » ثلاثة أوجه ، الزيادة ، وكونها شرطية ، وحينئذ جوابها محذوف ، والنصب على المصدرية ، أي : واقعة موقع مصدر .

كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)

قوله تعالى : { كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين } .
العامة : على « تكذبون » خطاباً ، والحسنُ وأبو جعفر وشيبة : بياء الغيبة .
قال ابن الخطيب : لما بين بالدلائل العقلية صحة القول بالبعث ، والنشور على الجملة فرع عليها شرح تفاصيل الأحوال المتعلقة بذلك ، وهي أنواع :
الأول : أنه - تعالى - زجرهم عن ذلك الاغترار بقوله « كلا » ، و « بل » : حرف وضع في اللغة لنفي شيء قد تقدَّم تحقيق غيره ، فلا جرم ذكروا في تفسير « كلاًّ » وجوهاً :
الأول : قال القاضي : معناه أنكم لا تستقيمون على توجيه نعمي عليكم ، وإرشادي لكم ، بل تكذبون بيوم الدين .
الثاني : « كَلاَّ » ردعٌ ، أي : ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله تعالى ، كأنه قال : وإنهم لا يرتعدون عن ذلك ، بل يكذِّبون بالدين .
الثالث : قال القفال : أي : ليس الأمر كما تقولون من أنه لا بعث ، ولا نشور؛ لأن ذلك يوجب أن الله - تعالى - خلق الخلق عبثاً وحاشاه من ذلك ، ثم كأنه قال : إنهم لا ينتفعون بهذا البيان ، بل يكذبون بالدين .
وقل الفراء : ليس كما غررت به ، والمراد بالدين : الجزاء على الدين والإسلام .
وقيل : المراد من الدين : الحساب ، أي : تكذِّبون بيوم الحساب .
النوع الثاني : قوله { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } : يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل « تكذِّبون » ، والحالة هذه ، ويجوز أن تكون مستأنفة أخبرهم بذلك لينزجروا والمراد بالحافظين : الرُّقباءُ من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم .
« كراماً » على الله « كاتبين » يكتبون أقوالكم وأعمالكم .
قال ابنُ الخطيب : والمعنى : التعجب من حالهم ، كأنَّه - تعالى - قال : إنكم تكذِّبون بيوم الدين وهو يوم الحساب والجزاء ، وملائكة الله - تعالى - موكَّلون بكم ، يكتبون أعمالكم حتى تحاسبوا بها يوم القيامة ، ونظيره : قوله تعالى : { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 17 ، 18 ] وقوله تعالى : { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } [ الأنعام : 61 ] .
فصل في الرد على من طعن في حضور الكرام الكاتبين
قال ابن الخطيب : من الناس من طعن في حضور الكرام الكاتبين من وجوه :
الأول : لو كان الحفظة ، وصحفهم وأقلامهم معنا ، ونحن لا نراهم لجاز أن يكون بحضرتنا جبال ، وأشخاص لا نراهم ، وذلك دخول في الجهالات .
والثاني : هذه الكتابة ، والضبط إن كان لا لفائدةٍ فهو عبثٌ ، وهو غير جائزٍ على الله تعالى ، وإن كان لفائدةٍ ، فلا بد وأن تكون للعبد؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - متعالٍ عن النفع والضر ، وعن تطرق النسيان إليه ، وغاية ذلك أنَّه حُجَّة على الناس وتشديد عليهم لإقامة الحُجَّة ، ولكن هذا ضعيف؛ لأنَّ من علم أنَّ الله تعالى لا يجور ، ولا يظلم ، لا يحتاج في حقه إلى إثبات هذه الحجة ، والذي لا يعلم لا ينتفع بهذه الحجة ، لاحتمال أنَّه تعالى أمرهم بذلك ظلماً .

الثالث : أنَّ أفعال القلوب غير مرئية ، فهي من باب المغيبات ، والله - تعالى - مختص بعلم الغيب ، فلا تكتبوها ، والآية تقتضي ذلك .
والجواب عن الأول : أنَّ البنية عندنا ليست شرطاً في قبول الحياة؛ ولأن عند سلامة الأعضاء ، وحصول جميع الشرائط لا يجب الإدراك ، فيجوز على الأوَّل : أن يكونوا أجراماً لطيفة ، تتمزق ، وتبقى حياتها ذلك ، وعلى الثاني : يجوز أن يكونوا أجراماً كثيفة ، ونحن لا نراهم .
وعن الثاني : أن الله - تعالى - أجرى أموره على عباده على ما يتعارفونه في الدنيا فيما بينهم؛ لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى عندهم في إخراج كتاب ، وشهود في إلزام الحجة ، كما يشهد العدول عند الحاكم على القضاة .
وعن الثالث : أن ذلك مخصوص بأفعال الجوارح ، فهو عام مخصوص ، وفي مدح الحفظة ، ووصفهم بهذه الصفات تعظيم لأمر الجزاء ، وأنَّه من جلائل الأمور .
فصل في عموم الخطاب
هذا الخطاب وإن كان خطاب مشافهة إلاَّ أنَّ الأمَّة أجمعت على عموم هذا الحكم في حقِّ المكلَّفين .
وقوله تعالى : { لَحَافِظِينَ } : جمع يحتملُ أن يكونوا حافظين لجميع بني آدم ، من غير أن يختص واحد من الملائكة بواحد من بني آدم ، ويحتمل أن يكون الموكَّل بكل واحد منهم جمعاً من الملائكة ، كما قيل : اثنان بالليل ، واثنان بالنهار ، أو كما قيل : إنهم خمسة .
فصل في أن الكفَّار ، هل عليهم حفظة؟ .
اختلفوا في الكفَّار هل عليهم حفظة؟ .
فقيل : لا؛ لأن أمرهم ظاهر وعلمهم واحد ، قال تعالى : { يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ } [ الرحمن : 41 ] .
وقيل : بل عليهم حفظة لقوله تعالى : { بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } ، وأمَّا من أوتي كتابه بشماله ، ومن أوتي كتابه وراء ظهره ، فأخبر أنَّ لهم كتاباً وعليهم حفظة .
فإن قيل : أي شيء يكتب الذي عن يمينه ، ولا حسنة له؟ .
فالجواب : أنَّ الذي عن شماله يكتب بإذن صاحبه ، ويكون صاحبه شاهداً على ذلك ، وإن لم يكتب .
فصل في معرفة الملائكة هَمَّ الإنسان
سُئِلَ سفيان : كيف تعرف الملائكة أنَّ العبد همَّ بمعصية ، أو بحسنة؟ قال : إذا همَّ العبد بحسنة وجد منه ريح المسك ، وإن همَّ بسيئة وجد منه ريح منتن .
فصل في أن الشاهد لا يشهد إلا بعد العلم
دلت هذه الآية على أنَّ الشاهد لا يشهد إلاَّ بعد العلم ، لوصف الملائكة بكونهم حافظين كراماً كاتبين ، يعلمون ما تفعلون ، فدلَّ على أنهم يكونون عالمين بها حتى أنَّهم يكتبونها ، فإذا كتبوها يكونون عالمين عند أداء الشهادة .
قال الحسن : لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم .
وقيل : يعلمون ما ظهر منكم دون ما حدثتم به أنفسكم .

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

قوله تعالى : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ } .
الأبرار : الذين بروا ، وصدقوا في إيمانهم بأداء فرائض الله تعالى ، واجتناب معاصيه .
فصل في ذكر أحوال العالمين
لما وصف تعالى الكرام الكاتبين لأعمال العباد ، ذكر أحوال العالمين ، وقسمهم قسمين ، فقال تعالى : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ } وهو نعيم الجنَّة ، { وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ } وهو النَّار ، وهذا تهديد عظيم للعُصاةِ ، وهذا التقسيم كقوله تعالى : { فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير } [ الشورى : 7 ] .
قوله : { يَصْلَوْنَهَا } : يجوز فيه أن يكون حالاً من الضمير في الجار ، لوقوعه خبراً ، وأن يكون مستأنفاً .
وقرأ العامة : « يَصْلونهَا » مخففاً مبنياً للفاعل وتقدم مثله .
ومعنى { يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين } يدخلونها يوم القيامة .
{ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } أي : ليسُوا غائبين عن استحقاق الكون في الجحيم ، ثم عظَّم ذلك اليوم فقال : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين } ثم كرره تعجيباً لشأنه ، فقال : { ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين } .
وقال ابن عباس : كلُّ ما في القرآن من قوله : « وما أدراك » فقد أدراه ، وكل شيء من قوله : « وما يدريك » فقد طوي عنه .
قوله : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ } .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو : برفع « يومُ » على أنَّه خبر مبتدأ مضمر أي : هو يوم .
وجوز الزمخشريُّ : أن يكون بدلاً مما قبله يعني قوله : « يوم الدَِّين » .
وقرأ أبو عمرو في رواية : « يومٌ » : مرفوعاً منوناً على قطعه عن الإضافة ، وجعل الجملة نعتاً له ، والعائد محذوف ، أي : لا تملك فيه .
وقرأ الباقون : « يوم » بالفتح .
فقيل : هي فتحة إعراب ، ونصبه بإضمار أعني ، أو يتجاوزون ، أو بإضمار اذكر ، فيكون مفعولاً به ، وعلى رأي الكوفيين يكون خبراً لمبتدأ مضمر ، وإنَّما بني لإضافته للفعل وإن كان معرباً ، كقوله تعالى : { هذا يَوْمُ يَنفَعُ } [ المائدة : 119 ] .
قال الزجاج : يجوز أن يكون في موضع رفع إلا أنه يبنى على الفتح؛ لإضافته إلى قوله تعالى : { لاَ تَمْلِكُ } ، وما أضيف إلى غير المتمكن ، فقد يبنى على الفتح ، وإن كان في موضع رفع ، أو جرٍّ كما قال : [ المنسرح ]
5125- لَمْ يَمْنَعِ الشُّربَ غير أن نَطقتْ ... حَمامَةٌ ... .. .. ... ... . .
قال الواحدي : والذي ذكره الزجاج من البناء على الفتح ، إنَّما يجوز عند الخليل وسيبويه إذا كانت الإضافة إلى الفعل الماضي؛ نحو قوله : [ الطويل ]
5126- عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ .. . ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
البيت : أمَّا مع الفعل المستقبل ، فلا يجوز البناء عندهم ، ويجوز البناء في قول الكوفيين .
قال ابن الخطيب : وذكر أبو عليٍّ أنَّه منصوبٌ على الظرفية؛ لأن اليوم لما جرى في أكثر الأمر ظرفاً ، فنزل على حالة الأكثرية ، والدليلُ عليه إجماع القراء في قوله تعالى : { مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } [ الأعراف : 168 ] ، ولا يدفع ذلك أحد ، ومما يقوِّي النصب قوله تعالى :

{ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة يَوْمَ يَكُونُ الناس } [ القارعة : 3 ، 4 ] ، وقوله تعالى : { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 12 ، 13 ] ، فالنصب في « يَوْمَ لا تَمْلِكُ » مثل هذا .
فصل فيمن استدل بالآية على نفي الشفاعة عن العصاة .
تمسَّكوا بهذه الآية في نفي الشفاعة للعصاة ، وهو قوله تعالى : { واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [ البقرة : 48 ] وقد تقدم الجواب عنه في سورة البقرة .
قال مقاتلٌ : يعني النفس الكافرة شيئاً من المنفعة .
{ والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } أي : لم يملِّك الله - تعالى - في ذلك اليوم أحداً شيئاً كما ملَّكهم في الدنيا .
ورى الثعلبي عن أبيٍّ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ { إِذَا السمآء انفطرت } أعْطَاهُ الله مِنَ الأجْرِ بعدَدِ كُلِّ قَبْرٍ حَسَنةً ، وبِعددِ كُلِّ قَطْرة مَاءٍ حَسنةً ، وأصْلحَ اللهُ تعالى لَهُ شَأنهُ » ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم .

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

قوله تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } .
« ويلٌ » : ابتداء ، وسوغ الابتداء به كونه دعاء ، ولو نصب لجاز .
وقال مكيٌّ : والمختار في « وَيْل » وشبهه إذا كان غير مضاف الرَّفع ، ويجوز النصب ، فإن كان مضافاً ، أو معرفاً كان الاختيار فيه النَّصب نحو : { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ } [ طه : 61 ] ، و « للمُطففِينَ » خبره .
والمُطفِّف : المُنْقِص ، وحقيقته : الأخذُ في كيل أو وزنٍ شيئاً طفيفاً ، أي : نزراً حقيراً ، ومنه قولهم : دُون التَّطفيف ، أي : الشيء التافه لقلته .
قال الزجاجُ : إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفِّف؛ لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلاَّ الشيء اليسير الطفيف .
فصل في تعلق هذه السورة بما قبلها
قال ابن الخطيب : اتصال أوَّل هذه السورة بالمتقدمة أنَّه تعالى بيَّن في آخر تلك السورة أنَّ من صفة يوم القيامة أنه لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً ، والأمر يومئذٍ لله ، وذلك يقتضي تهديداً عظيماً للعصاة ، فلهذا أتبعه بقوله تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } والمراد منه الزجر على التطفيف ، وهو البَخْس في المكيال والميزان على سبيل الخفية .
واعلم أن الويل كلمة تذكر عند وقوع البلاء ، يقال : ويل لك ، وويل عليك ، وفي اشتقاق لفظ التطفيف قولان :
الأول : قول الزجاج المتقدم .
والثاني : أنَّ طف الشيء ، هو جانبه وحرفه يقال : طفَّ الوادي والإناء إذا بلغ الشيء الذي فيه حرفه ، ولم يمتلئ ، فهو طفافه وطففه ، يقال : هذا طف المكيال وطفافه إذا قارب ملأه ، لكنه بعدُ لم يمتلئ ، ولهذا قيل للذي « ينقص » الكيل ولا يوفيه مطفف . لأنه إنما يبلغ الطفاف .
فصل في نزول الآية
روى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : « لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم » المدينة « ، كانوا من أبْخَس النَّاس كيلاً ، فأنزل الله تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } ، فاجتنبوا الكيل ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم ، وقال : » خَمْسٌ بِخمْسٍ ، ما نقص قومٌ العَهْدَ إلاَّ سلَّط اللهُ عليهم عدُوَّهُم ، ولا حكمُوا بغيرِ مَا أنْزَلَ اللهُ إلاَّ فَشَا فِيِهمُ الفقرُ ، ولا ظَهَرَ فِيهمُ الفَاحِشَةُ إلاَّ ظَهَرَ فِيهمُ المَوْتُ ، ولا طَفَّفُوا المِكْيَالَ إلاَّ مُنِعُوا النَّباتَ وأخذُوا بالسِّنينَ ، ولا مَنَعُوا الزَّكاةَ إلاَّ حُبِسَ عَنْهُم المَطرُ « » .
وقال السديُّ : قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم « المدينة » ، وبها رجل يقال له : أبو جهينة ، ومعه صاعان يكيل بأحدهما ، ويكيل بالآخر فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وروى ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : المطفف الرجل الذي يستأجر المكيال ، وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزن عليه .
قوله : { عَلَى الناس } . فيه أوجه :
أحدها : أنَّه متعلق ب « اكتالوا » ، و « على » و « من » « يتعاقبان » هنا .

قال الفراء : يقال : اكتلتُ على النَّاسِ : اسْتوفَيْتُ مِنهُمْ ، واكْتلتُ مِنهُمْ : أخذتُ مَا عَليْهِمْ .
وقيل : « على » بمعنى اكتل على ومنه بمعنى ، والأول أوضح .
وقيل : « على » يتعلق ب « يستوفون » .
قال الزمخشري « لما كان اكتيالهم لا يضرهم ، ويتحامل فيه عليهم أبدل » على « مكان » من « للدلالة على ذلك ، ويجوز أن يتعلق ب » يستوفون « وقدَّم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية ، أي : يستوفون على الناس خاصَّة ، فأمَّا أنفسهم فيستوفون لها . وهو حسن .
قوله تعالى : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } . رُسمتَا في المصحف بغير ألف بعد الواو في الفعلين ، فمن ثم اختلف الناس في » هم « على وجهين .
أحدهما : هو ضمير نصب فيكون مفعولاً به ، ويعود على الناس ، أي : وإذا كالوا الناس أو وزنوا الناس ، وعلى هذا فالأصل في هذين الفعلين التعدي لاثنين : لأحدهما بنفسه بلا خلاف وللآخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه .
وهل كل منهما أصل بنفسه ، أو أحدهما أصل للآخر؟ فيه خلاف ، والتقدير : وإذا كالوا لهم طعاماً ، أو وزنوه لهم ، فحذف الحرف والمفعول؛ وأنشد : [ الطويل ]
5127- ولقَدْ جَنيتُكَ أكَمُؤاً وعَساقِلاً ... ولقَدْ نَهيتُكَ عَن بَناتِ الأوبَرِ
أي : جنيت لك .
والثاني : أنَّه ضمير رفع مؤكد للواو ، والضمير عائد على » المطففين « ، ويكون على هذا قد حذف المكيل والمكيل له ، والموزون والموزون له .
إلا أن الزمخشري رد هذا فقال : » ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً « للمطففين » ، لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد ، وذلك أن المعنى : إذا أخذوا من الناس ، ، استوفوا ، وإذا أعطوهم أخسروا ، وإن جعلت الضمير « للمطففين » انقلب إلى قولك : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإن تولوا الكيل ، أو الوزن هم على الخصوص أخسروا ، وهو كلام متنافر؛ لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر « .
قال أبو حيان : ولا تنافر فيه بوجه ، ولا رق بين أن يؤكد الضمير ، وألاَّ يؤكد ، والحديث واقع في الفعل ، غاية ما في هذا أن متعلِّق الاستيفاء ، وهو » على الناس « مذكور ، وهو في » كالوهم أو وزنوهم « محذوف للعلم به؛ لأنَّه من المعلوم أنهم لا يخسرُون ذلك لأنفسهم .
قال شهابُ الدين : الزمخشري يريد أن يحافظ على أنَّ المعنى مرتبط بشيئين : إذا أخذوا من غيرهم ، وإذا أعطوا غيرهم ، وهذا إنَّما فهم على تقدير أن يكون الضمير منصوباً عائداً على الناس ، لا على كونه ضمير رفع عائداً على الناس ، لا على كونه رفع عائداً على » المطففين « ، ولا شك أن هذا المعنى الذي ذكره الزمخشري وأراده أتم وأحسن من المعنى الثاني ، ورجَّح الأول سقوط الألف بعد الواو؛ لأنه دال على اتصال الضمير .

إلاَّ أن الزمخشري استدرك فقال : « والتعلق في إبطاله بخط المصحف ، وأن الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه ركيك؛ لأن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الخط على أني رأيت في الكتب المخطوطة بأيدي الأئمة المتقنين هذه الألف مرفوضة ، لكونها غير ثابتة في اللفظ والمعنى جميعاً؛ لأن الواو وحدها معطية معنى الجمع ، وإنما كتبت هذه الألف تفرقة بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك : » هم لم يدعوا ، وهو يدعو « ، فمن لم يثبتها قال : المعنى كافٍ في التفرقة بينهما ، وعن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يرتكبان ذلك ، أي : يجعلان الضميرين » للمطففين « ، ويقفان عند الواوين وقيفة ، يبينان بها ما أرادوا » . ولم يذكر فعل الوزن أوَّلاً ، بل اقتصر على الكيل ، فقال : « إذا اكتالوا » ، ولم يقل : إذا اتزنوا ، كما قال ثانياً : « أوْ وزَنُوهُمْ » .
قال ابن الخطيب : لأن الكيل والوزن بهما البيع والشراء ، فأحدهما يدل على الآخر .
وقال الزمخشري : « كأنَّ المطففين كانوا لا يؤخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين ، لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً » .
قوله : « يُخْسِرُونَ » جوابُ « إذا » ، وهو يتعدَّى بالهمزة ، يقال : خسر الرجل وأخسرته أنا ، فمفعوله محذوف ، أي : يخسرون الناس متاعهم . قال المؤرج : يخسرون أي ينقصون بلغة « قريش » .
فصل في تفسير الآية
قال الزجاج : المعنى : إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل والوزن .
أي : إذا استوفوا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن ، « وإذَا كَالُوهُمْ أو وزَنُوهُمْ » أي : كالوا لهم ، أو وزنوا لهم ، أي : للناس ، ولمَّا كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً فيه إضرارٌ بهم ، وتحاملٌ عليهم أقيمَ « على » مقام « من » للدلالة على ذلك .
وقال الكسائيُّ والفراءُ : حذف الجار وأوصل الفعل ، وهذا من كلام أهل الحجاز ، ومن جاورهم ، يقال : وزنتك حقك ، وكلتك طعامك أي : وزنت لك ، وكلتُ لك ، كما يقال : نصحتك ، ونصحت لك ، وكسيتك ، وكسيت لك .
وقال الفراء : المراد اكتالوا من الناس ، و « على » و « من » يتعاقبان؛ لأنه حق عليه فإذا فلت : اكتلت عليك ، فكأنه قال : أخذت ما عليك ، وإذا قلت : اكتلت منك فهو كقولك : استوفيت منك .
وقيل : على حذف مضاف ، أي : إذا كالوا مكيلهم ، أو وزنوا لهم موزونهم .
قوله : { أَلا يَظُنُّ } : الظَّاهر أنَّها « ألا » التحضيضية ، حضهم على ذلك ، ويكون الظنُّ بمعنى : اليقين .
وقيل : هي « لا » النافية دخلت عليها همزة الاستفهام .
ومعنى الآية : ألا يستيقن أولئك الذي يفعلون ذلك بأنهم مبعوثون ليوم عظيم ، وهو يوم القيامة ، وفي الظن هنا قولان :
أحدهما : أنَّ المراد به : العلمُ ، وعلى هذا التقدير يحتملُ أن يكون المخاطبون بهذا الخطاب من جملة المصدِّقين بالبعث ، ويحتمل ألاَّ يكونوا كذلك لتمكُّنهم من الاستدلال عليه بالفعل .

الثاني : أنَّ المراد بالظن هنا : هو الظن نفسه ، لا العلم ، ويكون المعنى : هؤلاء المطففون هَبْ أنهم لا يجزمون بالبعث ، ولكن لا أقل من الظن لوضوح أدلَّته ، فإنَّ الأليق بحكمة الله - تعالى - ورحمته ، ورعايته مصالح خلقه ألاَّ يهمل أمرهم بعد الموت ، وأن يكون لهم نشر وحشر ، وأن هذا الظَّن كافٍ في حصول الخوف .
قوله : { يَوْمَ } : يجوز نصبه ب « مبعوثون » .
قال الزمخشريُّ : أو ب « يبعثون » مقدراً ، أو على البدل من محل اليوم ، أو بإضمار « أعني » ، أو هو مرفوع المحل لإضافته لفعل وإن كان مضارعاً ، كما هو رأيُ الكوفيين ، ويدل على صحة هذين الوجهين ، قراءة زيد بن عليٍّ : « يَوْمَ يقُومُ » بالرفع ، وما حكاه أبو معاذ القارئ : « يومِ » بالجر على ما تقدَّم .
فصل في المراد بقيام الناس لرب العالمين
قيام الناس لرب العالمين إمَّا للحساب ، وإمَّا قيامهم من القبور .
وقال أبُو مسلم : قيامهم له عبارة عن طاعتهم له وانقيادهم ، كقوله تعالى : { والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] ، وفي الحديث : « إنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ مِقدارَ ثَلاثِمائةِ سَنَة لا يُؤْمَرُ فِيهِمْ بأمْرٍ » .
وعن ابن عباس : وهو في حقِّ المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة . وفي هذه الآيات مبالغات ، منها أنَّ الويل إنما يذكر عند شدة البلاء ، ومنها الإنكار بقوله تعالى : { أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ } ، ومنها استعظامه - تعالى - لليومِ ، ومنها تأكيده بما بعده ، وما يوهم ذلك ، وما يقتضيه من خضوعهم وذلتهم ، وفي هذا نكتة ، وهي كأن قائلاً يقول : هذا التشديد العظيم ، والوعيد البليغ ، كيف يكون على التطفيف مع نزارته ، وزهادته ، وكرم المولى وإحسانه؟ .
فأشار بقوله : { لِرَبِّ العالمين } إلى أنَّه مُربيهم ومسئول عن أمورهم ، فلا يليق أن يهمل من أمورهم شيئاً .
فصل في الكلام على لفظ « المطفف »
قال القشيري : لفظ المطفِّف يتناول التطفيف في الوزن والكيل ، وفي إظهار العيب ، وإخفائه؛ وفي طلب الإنصاف والانتصاف ، ويقال : من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه ، فليس بمنصف ، والمباشرة والصحبة من هذه المادة ، والذي يرى عيب الناس ، ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة ، ومن طلب حقَّ نفسه من الناس ، ولا يعطيهم حقوقهم ، كما يتطلبه .

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)

قوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار } .
« كَلاَّ » حرف ردع ، أي : ليس الأمر على ما هم عليه فَليَرتَدِعُوا ، وها هنا تم الكلام .
وقال الحسنُ : « كَلاَّ » : ابتداء يتصل بما بعده على معنى « حقًّا » إنَّ كتابَ الفجَّار الذي كتب فيه أعمالهم لفي سجين .
اختلفوا في نون « سِجِّين » .
فقيل : هي أصليَّة ، واشتقاقه من السَّجن ، وهو الحبسُ ، وهو بناء مبالغة « فعيلاً » من السجن ، ك « سِكِّير » و « فسِّيق » من السكر والفسق وهو قول أبي عبيدة والمبرد والزجاج .
قال الواحدي : وهذا ضعيف؛ لأن العرب ما كانت تعرف سجيناً .
وقيل : « النون » بدل من « اللام » ، والأصل : « سجيل » مشتقاً من السِّجل ، وهو الكتاب .
واختلفوا فيه أيضاً : هل هو اسم موضع ، أو اسم كتاب مخصوص؟ .
وقيل : هو صفة ، أو علمٌ منقول من وصفٍ ك « خاتم » ، وهو مصروف إذ ليس فيه إلا سبب واحدٌ ، وهو العلمية .
وإذا كان اسم مكان ، فقوله تعالى : { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } إمَّا بدل منه ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، وهو ضمير يعود عليه .
وعلى التقديرين فهو مشكل؛ لأن الكتاب ليس هو المكان .
فقيل : التقدير ، هو محل كتاب ، ثم حذف المضاف .
وقيل : التقدير : وما أدراك ما كتاب سجين ، والحذف إما من الأول وإمّا من الثاني .
وأما إذا قلنا : إنه اسم لكتاب فلا إشكال .
وقال ابن عطية : من قال : إن سجيناً موضع ، فكتاب مرفوع على أنه خبر « إنَّ » ، والظرف الذي هو « لفي سجين » ملغى ، ومن جعله عبارة عن الخسار ، ف « كتاب » خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : هو كتاب ، ويكون هذا الكلام مفسراً لسجين ما هو انتهى .
وهذا لا يصح - ألبتة - إذ دخول اللام يعيّن كونه خبراً ، فلا يكون ملغياً لا يقال : « اللام » تدخل على معمول الخبر ، فهذا منه ، فيكون ملغىً؛ لأنَّه لو فرض الخبر ، وهو « كتاب » عاملاً أو صفته عاملة ، وهو « مَرقُوم » لامتنع ذلك ، أمّا منع عمل « كتاب » ، فلأنه موصوف ، والمصدر الموصوف لا يعمل ، وأمَّا امتناع عمل « مرقوم »؛ فلأنه صفة ، ومعمول الصفة لا يتقدم على موصوفها ، وأيضاً : فاللام إنما تدخل على معمول الخبر بشرطه ، وهذا ليس معمولاً للخبر ، فتعيَّن أن يكون الجار هو الخبر ، وليس بملغى .
وأمَّا قوله ثانياً : ويكون هذا الكلام تفسيراً ل « سجين » ما هو فهو مشكل ، لأن الكتاب ليس هو الخسار الذي جعل الضمير عائداً عليه مخبراً عنه ب « كتاب » .
وقال الزمخشري : فإن قلت : قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجَّار بأنه في سجِّين ، وفسَّر سجيناً ب « كتاب مرقوم » ، فكأنه قيل : إنَّ كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه؟ .

قلت : سجين : كتاب جامع هو : ديوان الشر دون الله فيه أعمال الشياطين ، وأعمال الكفرة والفسقة من الجنِّ والإنسِ ، وهو كتاب مرقومٌ مسطورٌ بين الكتابة ، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه ، فالمعنى : أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان ، وسمي « سجِّيْناً » « فعيلاً » من السجن؛ لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم انتهى .
فصل في تفسير معنى سجين
قال عبدُ اللهِ بن عُمرَ وقتادةُ ومجاهدٌ والضحاكُ : « سِجِّين » هي الأرض السابعة السفلى ، فيها أرواح الكفَّار .
وروى البراء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » سِجِّين « أسفلُ سبْعِ أرضين ، و » عِلِّيُّون « في السماءِ السَّابعة تحت العرشِ » .
وقال الكلبي : هي صخرة تحت الأرض السابعة .
وقال عكرمةُ : « لفي سجِّين » لفي خسارةٍ وضلالٍ .
قال القشيريُّ : « سجين » : موضع في السافلين ، يدفن فيه كتاب هؤلاء ، فلا يظهر ، بل يكون في ذلك الموضع كالمسجون .
قوله تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } ، أي : ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ، ولا قومك .
قال القرطبي : وليس في قوله تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } ما يدل على أن لفظ « سجين » ليس عربياً ، كما لا يدل قوله : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة } [ القارعة : 3 ] ، بل هو تعظيم لأمْرِ سجين .
قوله تعالى : { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } قال المفسرون : ليس هذا تفسيراً ل « سجين » ، بل هو بيان للكتاب المذكور في قوله : « إنَّ كِتابَ الفُجَّار » أي : هو كتاب مرقوم ، أي : مكتوب فيه أعمالهم مثبت عليهم ، كالرقم لا ينسى ولا يمحى حتى يجازى به ، والرقم : الخط؛ قال : [ الطويل ]
5128- سَأرْقمُ فِي المَاءِ القَراحِ إليْكمُ ... عَلَى بُعدكُمْ ، إنْ كَانَ في الماءِ رَاقمُ
وقيل : الرَّقْمُ : الختم بلغة حمير . [ وتقدمت هذه المادة في سورة « الكهف » ] .
وقال قتادةُ ومقاتل : رقم : نشر ، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنَّه كافر .

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

قوله تعالى : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } .
قيل : إنَّه متصل بقوله تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين } لمن كذَّب بأخبار الله تعالى .
وقيل : إنَّ قوله : « مرقوم » معناه : مرقم أي : يدل على الشَّقاوة يوم القيامة ، ثم قال : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } في ذلك اليوم من ذلك الكتاب .
ثم إنه - تعالى - أخبر عن صفة من يكذِّب بيوم الدين ، فقال تعالى : { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين } ، فقوله تعالى : { الذين يُكَذِّبُونَ } يجوز فيه الإتباع نعتاً وبدلاً وبياناً ، والقطع رفعاً ونصباً .
واعلم أنه - تعالى - وصف المكذب بيوم الدين بثلاث صفاتٍ :
أولها : كونه معتدياً ، والاعتداء هو التجاوز عن المنهج الحقِّ .
وثانيها : الأثيم وهو المبالغة في ارتكاب الإثم والمعاصي .
وثالثها : { إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين } والمراد : الذين ينكرون النبوة ، والمراد بالأساطير : قيل : أكاذيب الأولين . وقيل : أخبار الأولين .
قوله : { إِذَا تتلى عَلَيْهِ } . العامة على الخبر .
والحسن : « أئِذَا؟ » على الاستفهام الإنكاري .
والعامَّة : « تتلى » بتاءين من فوق .
وأبو حيوة وابن مقسم : بالياء من تحت؛ لأن التأنيث مجازي .
فصل في المراد بالمكذب في الآية
قال الكلبيُّ : المراد بالمكذِّب هنا : هو الوليدُ بن المغيرةِ - لعنه الله - لقوله تعالى : { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } [ القلم : 10 ] إلى قوله : { مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } [ القلم : 12 ] وقوله : { إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين } [ القلم : 15 ] .
فقيل : هو الوليد بن المغيرة .
وقيل : هو النَّضر بنُ الحارث .
وقيل : عام في كل موصوف بهذه الصفة .
قوله : { كَلاَّ } . ردعٌ وزجرٌ ، أي : ليس هو أساطير الأولين .
وقال الحسن : معناها « حقًّا » ران على قلوبهم .
وقال مقاتلٌ : معناه : لا يؤمنون ، ثم استأنف : { بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ } قد تقدم وقف حفص على لام « بل » في سورة « الكهف » .
والرَّان : الغشاوة على القلب كالصَّدأ على الشيء الصقيل من سيف ، ومرآة ، ونحوهما .
قال الشاعر : [ الطويل ]
5129- وكَمْ رَانَ من ذَنْبٍ على قَلْبِ فَاجِرٍ ... فَتَابَ منَ الذَّنْبِ الذي رَانَ وانْجَلَى
وأصل الرَّيْنِ : الغلبة ، ومنه رانت الخمر على عقل شاربها .
وقال الزمخشري : « يقال ران عليه الذنب ، وغان عليه ، رَيْناً ، وغَيْناً ، والغَيْنُ : الغَيْمُ » .
والغين أيضاً : شجر متلف ، الواحدة غَيْنَاء ، أي : خضراء كثيرة الورق ملتفة الأغصان .
ويقال : رَانَ رَيْناً ورَيَناً ، فجاء مصدره مفتوح العين وساكنها .
وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر والفضل : « رَانَ » بالإمالة؛ لأن فاء الفعل راء ، وعينه ألف منقلبة عن ياء ، فحسنت الإمالة ، ومن فتح فعلى الأصل مثل : كَالَ وبَاعَ .
فصل في المراد بالرَّين والإقفال والطبع
قال أبُو معاذ النحويُّ : الرَّيْنُ ، والإقفال : [ أن يسود القلب من الذنوب وهو ] أشدّ من الطبع ، وهو أن يقفلُ على القلب ، قال تعالى :

{ أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [ محمد : 24 ] .
قال الزجاجُ : « رَانَ على فُلوبِهمْ » بمعنى غَطَّى على قُلوبِهم .
وقال الحسن ومجاهد : هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب ، ويغشى ، فيموت القلب .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إيَّاكُمْ والمُحقراتِ مِنَ الذنُوبِ ، فإنَّ الذنْبَ على الذَّنْبِ يُوقِدُ على صَاحبهِ [ جحيماً ] ضخمة » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « إنَّ المُؤْمِنَ إذَا أذْنَبَ كَانتْ نُكْتةٌ سَودَاء في قَلْبهِ ، فإنْ تَابَ ونَزعَ واسْتَغفرَ صُقِلَ قَلْبهُ مِنْهَا ، فإذَا زَادَ زَادتْ حتَّى تَعلُو قَلْبهُ ، فَذلِكُمُ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ اللهُ - تعَالَى - في كِتَابِهِ : { كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } » .
قوله : { مَّا كَانُواْ } هو الفاعل ، و « ما » : يحتمل أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى : « الذي » والعائد محذوف ، وأميلت ألف « رَانَ » ، وفخمت ، فأمالها الأخوان وأبو بكرٍ وفخَّمها الباقُون ، وأدغمت لام « بل » في الراء ، وأظهرتْ .
قوله تعالى « { كَلاَّ إِنَّهُمْ } .
قال الزمخشريُّ : » كلاَّ « ردع عن الكسب الرَّائن على قلوبهم .
وقال القفالُ : إنَّ الله - تعالى - حكى في سائر السور عن هذا المعتدي الأثيم ، أنه كان يقول : إن كانت الآخرة حقًّا ، فإن الله - تعالى - يعطيه مالاً وولداً ، ثم كذَّبه الله - تعالى - بقوله : { أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } [ مريم : 78 ] .
وقال أيضاً : { وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } [ الكهف : 36 ] { وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] ، فلمَّا تكرَّر ذكره في القرآن ، ترك الله ذكره - هاهنا - وقال تعالى : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } أي : ليس الأمر كما يقولون من أن لهم في الآخرة الحسنى ، بل هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . وقال ابن عباس أيضاً : » كلاَّ « يريد لا يصدقون ثم أستأنف فقال : { إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } وقيل : قوله تعالى : » كلاَّ « تكرير ، وتكون » كلاَّ « هذه المذكورة في قوله : » كلا ، بل ران على قلوبهم « .
قوله : { عَن رَّبِّهِمْ } . متعلق بالخبر ، وكذلك » يومئذ « ، والتنوين عوض عن جملة ، تقديرها : » يوم إذْ يقوم الناس «؛ لأنه لم يناسب إلا تقديرها .
فصل في حجب الكفار عن رؤية ربهم
قال أكثر المفسرين : محجوبون عن رؤيته ، وهذا يدل على أن المؤمنين يرون ربهم - سبحانه وتعالى - ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة .
وأيضاً فإنه - تعالى - ذكر هذا الحجاب في معرض الوعيد ، والتهديد للكفار ، وما يكون وعيداً وتهديداً للكفَّار لا يجوز حصوله للمؤمنين ، وأجاب المعتزلة عن هذا بوجوه :
أحدها : قال الجبائي : المراد أنهم محجوبون عن رحمة ربهم أي : ممنوعون كما تحجب الأم بالإخوة من الثُّلث إلى السُّدس ، ومن ذلك يقال لمن منع من الدخول : حاجب .

وثانيها : قال أبو مسلم : « لمحجوبون » غير مقربِّين ، والحجاب : الرَّدُ ، وهو ضد القبول ، فالمعنى : أنهم غير مقبولين عند الرؤية ، فإنه يقال : حُجِبَ عن الأمير ، وإن كان قد رآه عن بعدٍ ، بل يجب أن يحمل على المنع من رحمته .
وثالثها : قال الزمخشريُّ : كونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم؛ لأنه لا يرد على الملوك إلا المكرَّمين لديهم ، ولا يُحجب عنهم إلا المبانون عنهم .
والجواب : أن الحجب في استعمالاته مشترك في المنع ، فيكون حقيقة فيه ، ومنع العبد بالنسبة إلى الله تعالى ، إمَّا عن العلم ، وإمَّا عن الرؤية ، والأول : باطل؛ لأن الكفَّار يعلمون الله تعالى ، فوجب حمله على الرؤية .
وأمَّا الوجوه المذكورة فهو عدول عن الظاهر من غير دليل ، ويؤيد ما قلنا : أقوال السَّلف من المفسرين :
قال مقاتلٌ : بل لا يرون ربَّهم بعد الحساب ، والمؤمنون يرون ربهم .
وقال الكلبيُّ : محجوبون عن رؤية ربهم والمؤمن لا يحجبُ ، وسُئلَ مالكُ بنُ أنسٍ - رضي الله عنه - عن هذه الآية ، فقال : كما حجب الله تعالى أعداءه فلم يروهُ ، ولا بد أن يتجلَّى لأوليائه حتى يروه .
وعن الشَّافعيُّ - رحمه الله - كما حجب قومٌ بالسُّخطِ دلَّ على أنهم يرونهُ بالرضا .
قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الجحيم } . أي : إنّ الكفَّار مع كونهم محجوبين من الله يدخلون النار .
{ ثُمَّ يُقَالُ } أي : تقول لهم الخزنةُ : « هذا » أي : هذا العذاب { هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } ، وقوله : يقال يجوز أن يكون القائم مقام الفاعل ما دلَّت عليه جملة قوله : « هَذا الَّذي كُنتُمْ » ، ويجوز أن تكون الجملة نفسها ، ويجوز أن تكون المصدرية . [ وقد تقدم تحريره في أول « البقرة » ] .

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

قوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار } : لمَّا ذكر تعالى حال الكفار والمطففين أتبعه بذكر الأبرار الذين لا يطففون ، فقال : « كلاَّ » أي : ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجَّار من إنكار البعث ، ومن أنَّ كتاب الله أساطير الأولين ، بل كتابهم في سجِّين ، وكتابُ الأبرارِ في علِّيِّين .
وقال مقاتلٌ : « كلاَّ » أي : لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه .
قوله : { لَفِي عِلِّيِّينَ } . هو خبر « إنَّ » .
وقال ابن عطيَّة هنا كما قال هناك ، ويرد عليه بما تقدم ، و « علِّيُّون » : جمع « عِلِّيِّ » ، أو هو اسم مكان في أعْلَى الجنة ، وجرى مجرى جمع العقلاء ، فرفع الواو ، ونصب وجر بالياء ، مع فوات شرط العقل .
وقال أبو البقاء : واحدها « عليّ » وهو الملك .
وقيل : هو صيغة للجمع مثل عشرين ، ثم ذكر نحواً مما ذكره في « سِجِّين » من الحذف المتقدم .
وقال الزمخشري : « عِلِّيُّون » علم لديوان الخير الذي دوِّن فيه كلُّ ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين منقول من جمع « عليّ » « فعيل » من العلو ك « سجين » من السجن ، سمي بذلك؛ إمَّا لأنَّه سبب الارتفاع إلى أعلى الدرجات في الجنة ، وإما لأنَّه مرفوع في السماء السابعة .
وتلك الأقوال الماضية في « سجِّين » كلُّها عائدة هنا .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : أنَّها السماء السابعة .
وقال مقاتلٌ وقتادةُ : هي سدرةُ المنتهى .
وقال الفراء : يعني : ارتفاعها بعد ارتفاع لا غاية له .
وقال الزجاجُ : أعْلَى الأمْكِنَةِ .
وقال آخرون : هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة .
وقال آخرون : عند كتاب أعمال الملائكة ، لقوله تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } وذلك تنبيه على أنَّه معلوم ، وأنه سيعرفه ، ثم قال تعالى : { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ المقربون } فبين أن كتابهم في هذا الكتاب بالمرقوم الذي يشهده المقربون من الملائكة ، فكأنَّه - تعالى - كما وكلَّهم باللوح المحفوظ ، فكذلك وكلَّهُم بحفظ كُتبِ الأبرار في جملة ذلك الكتاب الذي هو أم الكتاب على وجه الإعظام له ، ولا يمنع أن الحفظة إذا صعدت تكتب الأبرار بأنهم يسلمونها إلى هؤلاء المقربين ، فيحفظونها كما يحفظون كتب أنفسهم ، أو ينقلون ما في تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب الذي وُكِّلوا بحفظه ، ويصير علمهم شهادة لهؤلاء الأبرار ، فلذلك يحاسبون حساباً يسيراً .
وقيل : المعنى : ارتفاع بعد ارتفاع .
وقال أبو مسلم : هذا كناية عن العلو والرفعة ، والأول كناية عن الذُّلِّ والإهانةِ .
وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : « عِلِّيُّون » : لوحٌ من زبرجدة خضراء معلَّق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيه .
قال كعب وقتادة : هي قائمة العرش اليمنى .
وقال ابن عباس : هو الجنة .

وقال الضحاكُ : سدرةُ المنتهى .
وقوله تعالى : { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } : ليس فيه تفسير عليِّين ، أي : مكتوب أعمالهم كما تقدم في كتاب الفجار .
وقيل : كتب هناك ما أعد الله لهم من الكرامة .
قوله : { يَشْهَدُهُ } : جملة يجوز أن تكون صفة ثانية ، وأن تكون مستأنفة ، والمعنى : أنَّ الملائكة الذين هم في عليين يشهدون ، ويحضرون ذلك المكتوب وذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين .
قوله تعالى : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ } . لمَّا عظم كتابهم عظم منزلتهم بأنَّهم في النعيم ثم بين ذلك النعيم بأمورٍ ، ثلاثة : أولها : بقوله تعالى : { عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ } .
قال القفَّال : « الأرائك » : الأسِرَّة في الحجال ، ولا تُسَمَّى أريكة فيما زعموا إلا إذا كان كذلك .
وعن الحسن - رضي الله عنه - كُنَّا لا ندري ما الأريكةُ ، حتى لقينا رجلٌ من أهل « اليمن » ، أخبرنا أن الأريكة عندهم ذلك . وقوله : « يَنْظُرون » قيل : إلى أنواع نعيمهم من الحُور والولدان ، وأنواع الأطعمة والأشربة والملابس والمراكب وغيرها .
وقال مقاتلٌ : ينظرون إلى عدوِّهم حين يعذبون .
وقيل : إذا اشتهوا شيئاً نظروا إليه ، فيحضرهم ذلك الشيء في الحال قيل : يحمل على الكل .
قال ابن الخطيب : إنهم ينظرون إلى ربهم بدليل قوله تعالى : { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم } .
قوله تعالى : { تَعْرِفُ } . العامة : على إسناد الفعل إلى المخاطب ، أي : تعرف أنت يا محمد ، أو كل من صح منه المعرفة .
وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وشيبة وطلحة ويعقوب والزعفراني : « تُعْرَفُ » مبنياً للمفعول ، و « نضرةُ » : بالرفع على قيامها مقام الفاعل .
وعلي بن زيد : كذلك إلا أنه بالياء أسفل؛ لأن التأنيث مجازي .
والمعنى : إذا رأيتهم عرفت أنَّهم من أهل النَّعيم مما ترى في وجوههم من النور والحسن والبياض .
وقال الحسن : النضرةُ في الوجه والسُّرور في القلب .
قوله تعالى : { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ } .
قال الليث : الرَّحيقُ : الخمر .
وقيل : الخمر الصافية الطيبة .
وقال مقاتل : الخمر البيضاء .
وقال ابنُ الخطيب : لعله الخمر الموصوف بقوله تعالى : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [ الصافات : 47 ] .
قوله : « مختوم » ، أي : ختم ومنع أن تمسَّهُ يد إلى أن يفكّ ختم الأبرار .
قال القفال : يحتملُ أن يكون ختم عليه تكريماً له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان ، وهناك خمر أخرى تجري أنهاراً ، لقوله : { وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } [ محمد : 15 ] ، إلاَّ أنَّ هذا المختوم أشرف من الجاري .
وقال أبو عبيدة والمبرد والزجاج : « المختوم » : الذي له ختام أي : عاقبة .
وروى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : المختوم أشرف من الجاري الممزوج ختامه ، أي : طعمه وعاقبته مسكٌ ، وختم كلِّ شيء : الفراغ منه ، ومنه يقال : ختمتُ القرآن ، والأعمال بخواتيمها ، ويؤيده قراءة علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - واختاره الكسائي ، فإنه قرأ : « خاتمةُ مِسْك » أي : آخره ، كما يقال : خاتمُ النبيين ، ومعناه واحد .

قال الفراء : وهما متقاربان في المعنى ، إلا أن الخاتم : الاسم ، والخِتَام : المصدر ، كقولهم : هو كريم الطِّباع والطَّابع ، والخِتَام والخَاتم .
وقال قتادة : يمزج لهم بالكافور ، ويختم لهم بالمسك .
وقال مجاهد : مختوم ، أي : مطين .
قوله : { خِتَامُهُ } أي : طينة مسك .
قال ابن زيد : ختامه عند الله مسك ، وختام الدنيا طين .
وقرأ الكسائي : « خَاتَمهُ » بفتح التاء بعد الألف .
والباقون : بتقديمها على الألف .
فوجه قراءة الكسائي : أنه جعله اسماً لما يختم به الكأس ، بدليل قوله : « مَخْتُوم » . ثم بين الخاتم ما هو ، فروي عن الكسائي أيضاً : كسر التاء ، فيكون كقوله تعالى : { وَخَاتَمَ النبيين } [ الأحزاب : 40 ] ، والمعنى : خاتم رائحته مسك ووجه قراءة الجماعة : أن الختام هو الطين الذي يختم به الشيء ، فجعل بدله المسك .
قال الشاعر : [ الوافر ]
... كَأَنَّ مُشعْشَعاً مِنْ خَمْرِ بُصْرَى
نَمَتْهُ البَحْتُ مَشْدُودَ الخِتَامِ ... وقيل : خلطه ومزاجه .
وقيل : خاتمته أي : مقطع شربه يجد الإنسان فيه ريح المسك .
قيل : سُمِّي المسك مسْكاً؛ لأن الغزال يُمسكه في سُرَّته ، والمساكةُ : البُخْلُ وحبس المال ، يقال : رجل مَسِيكٌ لبخله ، والمَسْكُ : الجلد لإمساكه ما فيه ، والمَاسِكَة : التي أخطأت خافضتُها فأصابت من مسكها غير موضع الختان ، والمَسَكة : سوار من قرن أو عاجٍ لتماسكه والمسكة - بضم الميم - : الشَّيء القليل ، يقال : ما له مُسْكَة ، أي : عقل .
قوله تعالى : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون } . التَّنافسُ : المُغالبة في الشيء النفيس ، يقال : نفستُه به نفاسة ، أي : بخلت به ، وأصله من النَّفْسِ لعزتها .
قال الواحديّ : نفستُ الشيء أنفسُه نفاسةً : بَخِلْتُ به .
وقال البغوي : وأصله من الشيء النَّفِيس أي : تحرص عليه نفوس النَّاس ، ويريده كل واحد لنفسه ، وينفس به على غيره أي : يضنّ ، والمعنى : وفي ذلك فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى .
وقال مجاهد : فليعمل العاملون ، كقوله تعالى : { لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون } [ الصافات : 61 ] .
وقال عطاء : فليستبق المستبقون .
وقال مقاتلُ بن سليمان : فليتنازع المتنازعون .
قوله : { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } ، التسنيم : علمٌ لعينٍ في الجنَّة .
فصل في المراد بالتسنيم
قال الزمخشريُّ : « التسنيم » علمٌ لعين بعينها ، سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنَّمه ، إذا رفعه .
قال شهاب الدِّين : وفيه نظر؛ لأنه كان من حقه أن يمنع الصَّرف للعلمية والتأنيث ، وإن كان مجازياً ، ولا يقدح في ذلك كونه مذكر الأصل؛ لأن العبرة بحال العلمية ، ألا ترى أنهم نصّوا على أنَّه لو سمي ب « زيد » امرأة وجب المنع ، وإن كان في « هِنْد » وجهان ، اللهم إلا أن يقول : ذهب بها مذهب النهر ، ونحوه ، فيكون ك « واسط ، ودانق » .
فصل في معنى التسنيم
التسنيم : شرابٌ ينصبُّ عليهم من علوٍّ في غرفهم ومنازلهم .
وقيل : يجري في الهواء منسماً فينصبُّ في أوانيهم فيملأها .

قال قتادة : وأصل الكلمة من العلو ، ويقال للشيء المرتفع سنامٌ ، ومنه سنامُ البعيرِ ، وتسمنتُ الحائط : إذا علوته .
وقال الضحاك : هو شراب اسمه : تسنيمٌ ، وهو من أشرف الشراب .
قال ابنُ مسعودٍ وابن عباسٍ : هو خالص للمقربين يشربونها ، ويمزج لسائر أهل الجنَّة ، وهو قوله تعالى : { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون } .
وعن ابن عباس : أنَّه سُئِلَ عن قوله تعالى : { مِن تَسْنِيمٍ } قال : هذا ما قال الله تعالى : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] .
قوله : { عَيْناً } . فيه أوجه :
أحدها : أنَّه حالٌ .
قال الزجاج : يعني من تسنيم ، لأنه علم لشيء بعينه ، إلا أنه يشكل بكونه جامداً .
الثاني : أنه منصوب على المدح . قاله الزمخشري .
الثالث : أنَّها منصوبة ب « يُسْقونَ » مقدراً . قاله الأخفش .
وقوله : { يَشْرَبُ بِهَا } أي : منها ، والباء زائدة ، أو ضمير « يشرب » بمعنى يروى ، وتقدم هذا مشبعاً في « هل أتى » .
قال البغوي : التقدير : يشربها المقربون صرفاً .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ } ، أي : أشركوا ، يعني : كفَّار قريش أبا جهل ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل من مترفي « مكة » .
{ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ } عمَّار ، وخبَّاب ، وصهيب ، وبلال وأصحابهم من فقراء المؤمنين « يَضْحَكُون » استهزاء بهم .
وقوله : { مِنَ الذين } متعلِّق ب « يضحكون » أي : من أجلهم ، وقدم لأجل الفواصل .
قوله تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ } يعني : المؤمنين بالكفار « يَتَغَامَزُونَ » ، والغَمْز : الإشارة بالجفنِ والحاجبِ ، أي : يشيرون إليهم بالأعين استهزاء .
وقيل : الغمزُ بمعنى : العيب يقال : غمزهُ ، أي : عابه ، وما في فلان غميزٌ ، أي : ما يعابُ به .
قوله تعالى : { وَإِذَا انقلبوا } يعني : الكفار { إلى أَهْلِهِمْ انقلبوا فَكِهِينَ } معجبين بما هم فيه ، يتفكَّهُونَ تذكرهم بالسُّوءِ .
وقرأ حفص : « فكهين » دون ألف .
والباقون : بها .
فقيل : هما بمعنى ، وقيل : « فكهين » أشرين ، و « فاكهين » من التفكه .
وقيل : « فكهين » فرحين و « فاكهين » ناعمين .
وقيل : « فاكهين » أصحاب فاكهة ومزاح .
قوله : { وَإِذَا رَأَوْهُمْ } . يجوز أن يكون المرفوع للكفَّار ، والمنصوب للمؤمنين ، أي : أن الكفار إذا رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : { إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ } أي : يأتون محمداً المختار ، يرون أنهم على شيء ، أي : هم على ضلال في تركهم التنعيم الحاضر بسبب شراب لا يدري هل له وجود أم لا؟ ويجوز العكس ، وكذلك الضميران في { أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ } يعني : المشركين عليهم ، والمعنى : { وَمَآ أُرْسِلُواْ } يعني المشركين « عليهم » يعني المؤمنين « حافظين » أعمالهم ، لم يوكلوا بحفظ أعمالهم .
قوله تعالى : { فاليوم الذين آمَنُواْ } . « فاليوم » : منصوب ب « يَضْحَكُون » ، ولا يضرّ تقديمه على المبتدأ ، لأنه لو تقدم هان العامل لجاز ، إذ لا لبس بخلاف « زيد قائم في الدار » لا يجوز « في الدار زيد قائم » .

ومعنى ، « فاليوم » أي : في الآخرة يضحك المؤمنون من الكافرين ، وفي سبب هذا الضحك وجوه :
منها : أنَّ الكفار كانوا يضحكون على المؤمنين في الدنيا ، بسبب ما هم فيه من التضرر والبؤس ، وفي الآخرة يضحك المؤمنون على الكافرين ، بسبب ما هم فيه من أنواع العذاب والبلاء .
ومنها : أنَّهم علموا أنهم كانوا في الدنيا على غير شيء ، وأنهم باعوا الباقي بالفاني .
ومنها : أنَّهم دخلوا الجنة ، أجلسُوا على الأرائكِ ينظرون إلى الكفَّار كيف يعذبون في النار ، ويرفعون أصواتهم بالويل والثبور ، ويلعن بعضهم بعضاً .
ومنها : قال أبو صالح : يقال لأهل النار - وهم فيها - اخرجوا ، ويفتحُ ، لهم أبوابها ، فإذا رأوها وقد فتحت أبوابها أقبلوا إليها يريدون الخروج والمؤمنون ينظرون إليهم فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم ، فذلك سبب الضحاك .
قوله : { عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ } : الجار متعلقٌ ب « ينظرون » ، و « ينظرون » : حال من « يضحكون » ، أي : يضحكون ناظرين إليهم ، وإلى ما هم فيه من الهوان .
قوله : { هَلْ ثُوِّبَ } . يجوز أن تكون الجملة الاستفهامية معلقة للنظر قبلها ، فتكون في محل نصب بعد إسقاط الخافض ب « ينظرون » .
وقيل : استئناف لا موضع له ، ويجوز أن يكون على إضمار القول : أي : يقولون : هل ثوب ، ومعنى « ثُوِّب » أي : جُوزيَ ، يقال : ثوَّبهُ وأثابهُ .
قال : [ الطويل ]
5131- سَأجزِيكَ أو يَجْزيكَ عنِّي مُثوِّبٌ ... وحَسْبُكَ أنْ يُثْنَى عَليْكَ وتُحْمَدَا
ويدغم أبو عمرو والكسائي وحمزة : لام « هل » في الثناء .
قوله : « ما كانوا » فيه حذف ، أي : ثواب ما كانوا ، أو موصول اسمي أو حرفي .
قال المبرد : « ثوب » فعل من الثواب ، وهو ما ثوب ، يرجع على فاعله جزاء ما علمه من خير ، أو شر ، والثَّوابُ : يستعمل في المكافأة بالشَّر .
وأنشد أبو عبيدة : [ الوافر ]
5132- ألاَ أَبْلِغْ أبَا حَسنٍ رَسُولاً ... فمَا لَكَ لا يَجِيءُ إلَى الثَّوابِ
وثوَّب وأثاب بمعنى واحد ، والأولى أن يحمل على سبيل التَّهكُّم ، كقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ، كأنه - تعالى - يقول للمؤمنين : هل جازينا هؤلاء الكفار على استهزائهم بطريقتكم كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة ، فيكون هذا القول زائداً في سرورهم والله أعلم .
روى الثعلبي عن أبيّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأَ سُورَة » المُطَفِّفِين « سقاهُ اللهُ من الرَّحيقِ المختُومِ يَوْمَ القِيَامَةِ » .

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)

قوله تعالى : { إِذَا السمآء انشقت } كقوله تعالى : { إِذَا الشمس كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] في إضمار الفعل وعدمه ، وفي « إذا » هذه احتمالات :
أحدها : أن تكون شرطية .
والثاني : أن تكون غير شرطية .
فعلى الأول في جوابها خمسة أوجه :
أحدها : أنها { َأَذِنَتْ } [ الانشقاق : 2 ، 5 ] والواو مزيدة .
قال ابن الأنباري : وهذا غلط؛ لأن العرب لا تقتحم الواو إلا مع « حتى إذا » كقوله تعالى : { حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] ، أو مع « لمَّا » كقوله تعالى : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ } [ الصافات : 103 ، 104 ] ، أي : ناديناه ، والواو لا تقحم مع غير هذين .
الثاني : أنه « فمُلاقيهِ » أي فأنت ملاقيه وإليه ذهب الأخفش .
والثالث : أنّه « يا أيُّها الإنسانُ » أيضاً ، ولكن على إضمار القول : أي : يقال : « يا أيُّهَا الإنسَانُ » .
والخامس : أنَّه مقدَّرٌ ، تقديره : بعثتم .
وقيل : تقديره : لاقى كل إنسان كدحه وهو قوله : « فمُلاقِيهِ » ويكون قوله : « يا أيُّهَا الإنسَانُ » معترض ، كقولك : إذا كان كذا وكذا - يا أيها الإنسان - ترى عند ذلك ما عملت من خير أو شر .
ونقل القرطبي عن المبردِ ، إنَّه قال : فيه تقديمٌ وتأخير ، أي : يا أيُّها الإنسان إنَّك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه إذا السماء انشقت .
وقيل : هو ما صرَّح به في سورتي « التَّكوير » و « الانفطار » ، وهو قوله تعالى : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [ الانفطار : 5 ] ، قاله الزمخشري ، وهو حسنٌ .
ونقل ابن الخطيب عن الكسائيِّ ، أنه قال : إنَّ الجواب هو قوله : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ } [ الانشقاق : 7 ] ، واعترض في الكلام على قوله : { ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً } [ الانشقاق : 6 ] .
والمعنى : إذا انشقت السماء وكان كذا وكذا فمن أوتي كتابه بيمنه فهو كذا ومن أوتي كتابه وراء ظهره فهو كذا ونظيره قوله تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ } [ البقرة : 38 ] .
قال النحاسُ : وهذا أصحُّ ما قيل فيه وأحسنه .
وعلى الاحتمال الثاني : فيه وجهان :
أحدهما : أنَّها منصوبة مفعولاً بها بإضمار « واذْكُرْ » .
والثاني : أنها مبتدأ ، وخبرها « إذَا » الثانية ، و « الواو » مزيدة ، تقديره : وقت انشقاق السماء وقت مدّ الأرض ، أي : يقع الأمران في وقت . قاله الأخفش أيضاً .
والعامل فيها إذا كانت ظرفاً - عند الجمهور - جوابها ، إمَّا الملفوظ به ، وإمَّا المقدَّر .
وقال مكيٌّ : وقيل : العامل « انشقت » .
وقال ابن عطية : قال بعض النحاة : العامل « انشقت » وأبي ذلك كثير من أئمتهم؛ لأن « إذا » مضافة إلى « انشقت » ، ومن يجيز ذلك تضعف عنده الإضافة ، ويقوى معنى الجزاء .
وقرأ العامة : « انشقتْ » بتاء التأنيث ساكنة ، وكذلك ما بعده .

وقرأ أبو عمرو في رواية عبيد بن عقيل : بإشمام الكسر في الوقف خاصة ، وفي الوصل خاصة بالسكون المحض .
قال أبو الفضلِ : وهذا من التغييرات التي تلحق الروي في القوافي ، وفي هذا الإشمام بيان أن هذه « التاء » من علامة تأنيث الفعل للإناث ، وليست مما ينقلب في الأسماء ، فصار ذلك فارقاً بين الاسم والفعل ، فيمن وقف على باقي الأسماء بالتاء ، وذلك لغة طيّئ ، وقد حمل في المصاحف بعض التاءات على ذلك .
وقال ابن عطية : قال بعض النحاة : وقرأ أبو عمرو « انشقت » يقف على القاف ، كأنه يشمها شيئاً من الجر ، وكذلك في أخواتها .
قال أبو حاتم : سمعت أعرابياً فصيحاً في بلاد قيس يكسر هذه التاءات .
وقال ابن خالويه : « انشقَّت » - بكسر التاء - عبيد عن أبي عمرو .
قال شهاب الدين : كأنه يريد إشمام الكسر ، وأنَّه في الوقف دون الوصل؛ لأنه مطلق ، وغيره مقيد ، والمقيد يقضي على المطلق .
وقال أبو حيَّان : وذلك أن الفواصل تَجْرِي مَجْرَى القوافي ، فكما أن هذه التاء تكسر في القوافي تكسر في الفواصل؛ ومثال كسرها في القوافي؛ قول كثير عزّة : [ الطويل ]
5133- ومَا أنَا بالدَّاعِي لعَزَّةَ بالرَّدَى ... وَلا شَامتٍ إنْ نَعْلُ عَزَّةَ زَلَّتِ
وكذلك في باقي القصيدة؛ وإجراء الفواصل في الوقف مَجْرَى القوافي مهيع معروف كقوله تعالى : { الظنونا } والرسولا ، في سورة « الأحزاب » [ 10و 66 ] ، وحمل الوصل على حالة الوقف موجود في الفواصل أيضاً .
فصل في المراد بانشقاق السماء
انشقاق السماء من علامات القيامة ، وقد تقدَّم شرحه .
وعن علي - رضي الله عنه - أنَّها تنشق من المجرَّة ، وقال : المجرَّة : باب السماء .
قوله : { وَأَذِنَتْ } . عطف على « انشقت » ، وقد تقدَّم أنَّه جواب على زيادة الواو .
ومعنى « وأذنت » : أي : استمعت أمره ، يقال : أذنت لك : استمعت لك ، وفي الحديث : « مَا أذِنَ اللهُ لِشَيءٍ كأذنِهِ لِنَبيِّ يَتغنَّى بالقُرْآنِ » .
وأنشد أبو عبيدة والمبرد والزَّجاج قول قعنب : [ البسيط ]
5134- صُمٌّ إذَا سَمِعُوا خَيْرَاً ذُكِرْتُ بِهِ ... وإنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عندهُمْ أذِنُوا
وقال آخر : [ البسيط ]
5135- إن يأذنُوا ريبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحَاً ... ومَا هُمُ إذِنُوا من صالحٍ دَفنُوا
وقال الجحاف بن حكيم : [ الطويل ]
5136- إذِنْتُ لَكُمْ لمَّا سَمِعْتُ هَرِيركُمْ ... ... ... .. . . .. . .
ومعنى الاستعارة - هاهنا - أنَّه لم يوجد في جِرْمِ السماء ما يمنع من تأثير قدرة الله تعالى في شقها ، وتفريق أجزائها ، فكأنَّها في قبول ذلك التأثير كالعبدِ الطائع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المالك أنصت ، وأذعن ، ولم يمتنع كقوله تعالى : { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] ، وذلك يدل على نفوذ القدرة في الإيجاد والإبداع من غير ممانعة أصلاً . قاله ابن الخطيب .
قوله : « وحُقَّتْ » . الفاعل في الأصل هو الله تعالى ، أي : حقَّ الله عليها ذلك ، أي : بسمعهِ وطاعته ، يقال : هو حقيقٌ بكذا ومحقوق ، والمعنى : وحقَّ لها أن تفعل .

قال الضحاكُ : « حَقَّتْ » أطاعت وحقَّ لها أن تُطِيعَ .
وقال ابن الخطيب : وهو من قولك : محقوقٌ بكذا وحقيقٌ به ، وهي حقيقة بأن تنقاد ، ولا تمتنع .
قوله : { وَإِذَا الأرض مُدَّتْ } مد الأديم .
وقيل : « مُدَّتْ » بمعنى : أمدت وزيد في سعتها وقال مقاتلٌ رضي الله عنه : سُويت كمدّ الأديمِ ، فلا يبقى فيها بناء ولا جبل ، كقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال } [ طه : 105 ] الآية .
قوله : { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا } . أي : أخرجت ما فيها من الموتى والكنوز ، لقوله تعالى : { وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا } [ الزلزلة : 2 ] ، « وتَخَلَّت » أي : خليتْ منها ، ولم يبق في بطنها شيء ، وذلك يؤذنُ بعظم الأمر كما تلقي الحامل ما في بطنها عند الشدة ، ووصفت الأرض بذلك توسعاً وإلا فالتحقيق أنَّ الله تبارك وتعالى هو المخرج لتلك الأشياءِ من بطن الأرض .
قوله تعالى : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } . تقدَّم تفسيره ، وهذا ليس بتكرار؛ لأن الأوَّل في السماء وهذا في الأرض .

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)

قوله : { ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ } .
قيل : المراد جنس الإنسان ، كقولك : يا أيها الرجل ، فكان خطاباً خص به كل واحد من الناس .
قال القفال : وهو أبلغ من العموم؛ لأنه قائم مقام التنصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين ، بخلاف اللفظ العام .
وقيل : المراد منه رجل بعينه ، فقيل : هو محمد - عليه الصلاة والسلام - ، والمعنى : أنك تكدح في إبلاغ رسالات الله - تعالى - وإرشاد عباده ، وتحمل الضرر من الكفَّار ، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل .
وقال ابنُ عبَّاسٍ : هو أبيّ بن خلفٍ ، وكدحه : هو جده واجتهاده في طلب الدنيا ، وإيذاء الرسول - عليه الصلاة والسلام - والإصرار على الكفر .
فصل في المراد بالكدح
الكَدْحُ : قال الزمخشريُّ : جَهْدُ النفس ، والكدْم فيه حتى يؤثر فيها ، ومنه كدح جلدهُ إذا خدشه ، ومعنى « كادح » أي : جاهد إلى لقاء ربك وهو الموت . انتهى . وقال ابن نفيلِ : [ الطويل ]
5137- ومَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أمُوتُ ، وأخرَى أبْتَغِي العَيْشَ أكْدَحُ
وقال آخر : [ الكامل ]
5138- ومَضَتْ بَشَاشَةُ كُلِّ عَيْشٍ صالحٍ ... وبَقِيتُ أكْدَحُ لِلْحياةِ وأنْصَبُ
وقال الراغب : وقد يستعمل الكدح دون الكلام بالأسنان .
وقال الخليل : الكدحُ دون الكدم .
فصل في معنى الآية
معنى « كادحُ إلى ربِّك » أي : ساع إليه في عملك .
والكدحُ : عمل الإنسان وجهده في الخير والشر .
قال قُتَادةُ والكلبيُّ والضحاكُ : عامل لربك عملاً ، وقوله تعالى : { إلى رَبِّكَ } أي : إلى لقاء ربك ، وهو الموت ، أي : هذا الكدح استمر إلى هذا الزمن .
وقال القفال : تقديره : أنك كادح في دنياك مدحاً تصير به إلى ربك .
قوله : « فمُلاقِيهِ » : يجوز أن يكون عطفاً على [ « إنك ] كادح » ، والسبب فيه ظاهر ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : فأنت ملاقيه ، وقد تقدم أنه يجوز أن يكون جواباً للشرط .
وقال ابن عطية : فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها ، والتقدير : فأنت ملاقيه . يعني بقوله : « على هذا » أي : على عود الضَّمير على كدحكَ .
قال أبو حيَّان : « ولا يتعين ما قاله ، بل يجوز أن يكون من عطف المفردات » .
والضميرُ في « فملاقيه » : إمَّا للربِّ ، أي : ملاقي حكمه لا مفر لك منه . قاله الزجاج .
وإمَّا ل « الكدح » إلا أن الكدحَ عمل ، وهو عرض لا يبقى ، فملاقاته ممتنعة ، فالمراد : جزاءُ كدحكَ .
وقال ابنُ الخطيب : المراد : ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال ، ويتأكد هذا بقوله بعده : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } .
قوله : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } ، أي : ديوان أعماله بيمينه .
{ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } ، « سوف » من الله واجب ، كقول القائل : اتبعني فسوف تجد خيراً ، فإنه لا يريد الشك ، وإنما يريد تحقيق الكلام ، والحساب اليسير : هو عرض أعماله ، فيثاب على الطاعة ، ويتجاوزُ عن المعصيَّةِ ، ولا يقال : لم فعلت هذا ، ولا يطالبُ بالحُجَّةِ عليه .

قال صلى الله عليه وسلم : « » مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ « ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : أوَ لَيْسَ يقُولُ تعَالَى : { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } فقال : » إنَّما ذَلِكَ العرضُ ، ولَكِنْ من نُوقِشَ الحسابَ عُذِّب « » .
قوله تعالى : { وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ } في الجنة من الحُورِ العينِ ، والآدميَّات والذريَّات إذا كانوا مؤمنين [ « مَسْرُوراً » أي : مُغْتَبِطَاً قرير العين ] .
قال ابنُ الخطيب : فإن قيل : إنَّ المحاسبة تكون بين اثنين ، وليس في القيامة لأحد مطالبة قبل ربِّه فيحاسبه؟ .
فالجواب : إن العبد يقول : إلهي ، فعلتُ الطاعة الفلانيَّة ، والربُّ - سبحانه وتعالى - يقول : فعلتَ المعصيَّة الفُلانيَّة ، فكان ذلك من الرب - سبحانه وتعالى - ومن العبد محاسبة ، والدليل أنه - تعالى - خصَّ الكفَّار بأنه لا يكلمهم ، فدل ذلك على أنه يكلم المطيعين ، فتلك المكالمة محاسبة .
قوله : « مَسْرُوراً » : حال من فاعل « يَنْقَلِبُ » .
وقرأ زيد بن علي : « يُقْلَبُ » مبنياً للمفعول من « قلبه » ثلاثياً .
قوله : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } .
قيل : نزلت في الأسودِ بن عبدِ الأسودِ . قاله ابنُ عباسٍ . وقيل : عامة .
وقال الكلبيُّ : لأن يمينه مغلولة إلى عنقه ، ويجعل اليسرى ممدودة وراء ظهره .
وقيل : يحوَّلُ وجهه إلى قفاه ، فيقرأ كتابه كذلك .
وقيل : يُؤتَى كتابه بشماله من ورائه؛ لأنه إذا حاول أخذه بيمينه كالمؤمنين مُنِعَ من ذلك ، وأوتي كتابه بشماله .
فإن قيل : أليس أنه تعالى قال في سورة الحاقة : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ } [ الحاقة : 25 ] ، فكيف قال هنا : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } ؟ .
فالجواب : أنَّه يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره .
قوله : { فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً } ، أي : ينادي بالويل ، الهلاك إذا قرأ كتابه يقول : يا ويلاه يا ثُبُورَاهُ ، كقوله تعالى : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] .
قوله : { ويصلى سَعِيراً } ، قرأ أبو عمرو وحمزة وعاصم : بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام .
والباقون : بضم الياء وفتح اللام والتثقيل ، وقد تقدم تخريج القراءتين في سورة النساء عند قوله تعالى : { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] .
وقرأ أبو الأشهب ونافع وعاصمٌ وأبو عمرو في رواية عنهم : « يُصْلَى » بضم الياء وسكون الصاد من أصلاه .
قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً } .
قال القفال : مُنعَّماً مستريحاً من التعب بأداء العبادات ، واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والجهاد ، مقدماً على المعاصي ، آمناً من الحساب والعذاب والعقاب ، لا يخاف الله - تعالى - ولا يرجوه ، فأبدله الله بذلك السرور غماً باقياً لا ينقطع .
وقيل : إن قوله : { إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً } ، كقوله تعالى :

{ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ } [ المطففين : 31 ] ، أي : متنعمين في الدنيا ، معجبين بما هم عليه من الكفر بالله ، والتكذيب بالبعث ، يضحك ممن آمن بالله وصدَّق بالحساب ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤمن وجنَّةُ الكَافِرِ » .
قوله : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } . معنى « يَحُور » أي : يرجع ، يقال : حَارَ يَحُورُ حَوْرَاً؛ قال لبيدٌ : [ الطويل ] .
5139- ومَا المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئِهِ ... يَحُورُ رَمَادَاً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ
ويستعمل بمعنى : « صار » ، فيرفع الاسم وينصب الخبر عند بعضهم مستدلاً بهذا البيت ، وموضع نصب « رماداً » على الحال .
وقال الراغب : « الحَوْرُ : التردد في الأمر ، ومنه : » نعوذ بالله من الحور بعد الكور « ، أي : من التردد في الأمر بعد المضي فيه ، ومحاورة الكلام : مراجعته ، والمحور : العود الذي تجري فيه البكرة لترددها عليه ، والمحار : المرجع والمصير » .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : ما كنت أدري ما معنى : « حَوْر » حتى سمعت أعرابياً يقول لابنته : « حُورِي » أي : ارجعي .
وقال عكرمة وداود بن أبي هند : « يَحُور » : كلمة بالحبشية ، ومعناها : يرجع .
قال القرطبي : « ويجوز أن تتفق الكلمتان ، فإنَّهما كلمة اشتقاق ، ومنه : الخبز الحُوارى ، لأنه يرجع إلى البياض » .
والحُور أيضاً : الهلاك .
قال الراجز : [ الرجز ] .
5140- فِي بِئْرِ لا حُورٍ سَرَى ولا شَعَرْ ... وقوله تعالى : { أَن لَّن يَحُورَ } : « أن لن » هذه « أن » المخففة كالتي في أوَّل سورة القيامة ، وهي سادَّة مسد المفعولين ، أو أحدهما على الخلاف .
وقوله : « بَلَى » جواب للنفي في « لن » ، و « أن » : جواب قسم مقدر ، والمعنى : إنه ظن أن لن يرجع إلينا ولن يبعث ، ثم قال : « بَلَى » أي : ليس كما ظن بلى يحور إلينا ، أي : يبعث .
{ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } [ قال الكلبي : بصيراً به من يوم خلقة إلى أن يبعثه .
وقال عطاء : بصيراً ] بما سبق عليه في أمَّ الكتاب من الشقاوة .

فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

قوله : { فلا أقسم بالشفق } « لا » : صلة : « بالشَّفَقِ » أي : بالحمرة التي تكون عند غروب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة .
قال الراغب : الشَّفَقُ : هو اختلاط ضوء النَّهار بسواد الليل عند غروب الشمس ، والإشفاقُ : عناية مختلطة بخوف؛ لأن المُشفق يحب المشفق عليه ، ويخاف ما يلحقه ، فإذا عُدّي ب « من » فمعنى الخوف فيه أظهر ، وإذا عدي ب « على » فمعنى العناية فيه أظهر .
وقال الزمخشري : « الشفق » الحُمْرة التي ترى في الغروب بعد سقوط الشمس ، وبسقوطه يخرج وقت المغرب ، ويدخل وقت العتمة عند عامة العلماء ، إلا ما روي عن أبي حنيفة في إحدى الروايتين : أنه البياض . وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه ، سمي شفقاً لرقته ، ومنه الشفقة على الإنسان ، رقة القلب عليه انتهى .
والشَّفَقُ : شفقان ، الشَّفَقُ الأحمر ، والآخر : الأبيض ، والشفقُ والشفقةُ : اسمان للإشفاق؛ وقال الشاعر : [ البسيط ]
5141- تَهْوَى حَياتِي وأهْوَى مَوْتَهَا شَفقاً ... والمَوْتُ أكْرَمُ نَزَّالٍ على الحُرمِ
تقدم اختلاف العلماء في القسم بهذه الأشياء ، هل هو قسم بها أو بخالقها؟ وأن المتقدمين ذهبوا إلى أن القسم واقع برب الشفق ، وإن كان محذوفاً؛ لأن ذلك معلوم من ورود الحظر بأن يقسم بغير الله تعالى .
واعلم أن الصحيح في الشفق : أنَّه الحمرة؛ لأن أكثر الصحابة ، والتابعين ، والفقهاء عليه ، وشواهد [ كلام العرب ] ، والاشتقاق ، والسنة تشهد له .
وقال الفراء : « وسمعت بعض العرب يقول : عليه ثوب مصبوغ أحمر كأنه الشفق » .
وقال الشاعر : [ الرجز ]
5142- وأحْمَرُ اللَّوْنِ كحُمَرِّ الشَّفقْ ... وقال آخر : [ البسيط ]
5143- قُمْ يا غُلامُ أعنِّي غَيْرَ مُرتَبِكٍ ... على الزَّمانِ بكأسٍ حَشوُهَا شَفَقُ
ويقال للمغرة : الشَّفقة .
وفي « الصِّحاح » : الشَّفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قرب من العتمة .
وقال الخليل : الشفق : الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة إذا ذهب قيل : غاب الشفق .
وأصل الكلمة من رقّة الشيء ، يقال : شيء شفق ، أي : لا تماسك له لرقته ، وأشفق عليه أي : رق قلبه عليه ، والشفقة : الاسم من الإشفاق ، وهو رقة القلب ، وكذلك الشفق ، فكأن تلك الرقة من ضوء الشمس .
وزعم بعض الحكماء : أن البياض لا يغيب أصلاً .
وقال الخليل : صعدت منارة الإسكندرية ، فرمقت البياض ، فرأيته يتردد من أفق إلى أفق ، ولم أره يغيب .
وقال ابن أبي أويس : رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر ، وكل ما يتجدّد وقته سقط اعتباره .
وروى النعمانُ بن بشيرٍ ، قال : أنا أعلمكم بوقت صلاة العشاء الآخرة ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثالثة . وهذا تحديد .
وقال مجاهد : الشفق النهار كله؛ لأنه عطف عليه { والليل وَمَا وَسَقَ } ، فوجب أن يكون الأول هو النهار ، فعلى هذا يكون القسم واقع بالليل والنهار اللذين أحدهما معاش ، والثاني : سكن ، والشفقُ أيضاً : الرديء من الأشياء ، يقال : عطاء مشفق ، أي : مقلل؛ قال الكميتُ : [ الكامل ]

5144- مَلِكٌ أغَرُّ مِن المُلُوكِ تَحلَّبَتْ ... للسَّائلينَ يَداهُ غَيْرُ مُشفِّقِ
قوله : { والليل وَمَا وَسَقَ } ، أي : جمع وضم ولف ، ومنه : الوسْقُ ، وهو الطعام المجتمع الذي يكال أو يوزن ، وهو ستُّون صاعاً ، ثم صار اسماً ، واستوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت ، والراعي وسقها ، أي : جمعها؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
5145- إنَّ لَنَا قَلائصاً حقَائِقَا ... مُستوسِقَاتٍ لوْ يَجِدْنَ سَائِقَا
والوِسْقُ - بالكسر- : الاسم : وبالفتح : المصدر ، وطعام موسق : أي : مجموع ، ويقال : وسقهُ فاتَّسقَ ، واسْتوسَقَ ، ونظير وقوع « افتعل ، واستفعل » مطاوعين : اتسع واستوسع ، ومنه قولهم : وقيل : وسق ، أي : عمل فيه؛ قال : [ الطويل ]
5146- ويَوْماً تَرَانَا صَالحينَ وتَارَةً ... تَقُومُ بِنَا كالواسِقِ المُتلبِّبِ
فصل في معنى الآية
قال عكرمة - رضي الله عنه - : « ومَا وسقَ » ، أي : وما ساق من شيء إلى حيث يأوي فالوسقُ ، بمعنى الطرد ، ومنه قيل للطَّريد من الإبل والغنم : وسيقه .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : « وما وسق » أي : وما جنَّ وستر .
وعنه أيضاً : وما حمل ، ووسَقَتِ الناقة تَسِقُ وسْقاً : أي : حملت وأغلقت رحمها على الماء فهي ناقة واسق ، ونوق وساق ، مثل : نائم ونيام ، وصاحب وصحاب ، ومواسيق أيضاً ، وأوسقتُ البعير : حملته حمله ، وأوسقت النخلة : كثر حملها .
وقال يمانٌ والضحاك ومقاتلُ بن سليمان : حمل من الظلمة .
وقال مقاتلٌ : حمل من الكواكب .
وقال ابنُ جبيرٍ : « وما وسق » أي : وما حمل فيه من التهجد والاستغفار بالأسحار .
قوله : { والقمر إِذَا اتسق } . أي : امتلأ . قال الفراء : وهو امتلاؤه واستواؤه ليالي البدر . وهو « افتعل » من « الوسق » وهو الضم والجمع كما تقدم ، وأمر فلان متسقٌّ : أي : مجتمع على الصلاح منتظم ، ويقال : اتسق الشيء إذا تتابع .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - « إذا اتَّسَقَ » أي : استوى واجتمع وتكامل وتمَّ واستدار .
قوله : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } هذا جواب القسم .
وقرأ الأخوان ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو العالية ، ومسروق ، وأبو وائل ، ومجاهدٌ والنخعيُّ ، والشعبيُّ ، وابن جبيرٍ : بفتح الباء على الخطاب للواحد .
والباقون : بضمها على خطاب الجمع .
فالقراءة الأولى : رُوعي فيها إمَّا خطاب الإنسان المتقدم ذكره في قوله تعالى : { ياأيها الإنسان } [ الانشقاق : 6 ] ، وإما خطاب غيره .
فقيل : خطابٌ للرسول - عليه الصلاة والسلام - أي : لتركبن يا محمد مع الكفار وجهادهم ، أو لتبدلن أنصاراً مسلمين ، من قولهم : النَّاس طبقات ولتركبن سماء [ بعد سماء ] ، ودرجة بعد درجة ، ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى .
وقيل : التاء للتأنيث ، والفعل مسندٌ لضمير السماء .
قال ابن مسعود : لتركبن السماء حالاً بعد حالٍ تكون كالمهل وكالدخان ، وتنفطر وتنشق .
والقراءة الثانية : رُوي فيها معنى الإنسان؛ إذ المراد به : الجنس ، أي : لتركبنَّ أيُّها الإنسان حالاً بعد حال من كونه نطفة ، ثم مضغة ، ثم حياً ، ثم ميتاً وغنياً وفقيراً .

واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، قال : لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكره قبل هذه الآية فيمن يؤتى كتابه بيمينه ، ومن يؤتى كتابه وراء ظهره ، وقوله بعد ذلك « فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ » أي : لتركبن حالاً بعد حال من شدائد يوم القيامة ، أو لتركبن سُنَّة من كان قبلكم في التكذيب ، والاختلاف على الأنبياء .
وقال مقاتلٌ : يعني الموت ثم الحياة .
وعن ابن عباسٍ : يعني : الشدائد والأهوال والموت ، ثم البعث ، ثم العرض .
وقال عكرمة : رضيع ، ثم فطيم [ ثم غلام ، ] ثم شابٌّ ، ثم شيخ .
قال ابن الخطيب : ويصلح أن يكون هذا خطاباً للمسلمين بتعريف نقل أحوالهم بنصرهم ، ومصيرهم إلى الظفر بعدوهم بعد الشدة التي تلقونها منهم كما قال تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } [ آل عمران : 186 ] .
وقرأ عمرُ - رضي الله عنه - : « ليركبُنَّ » بياء الغيبة وضم الباء على الإخبار عن الكفار .
وقرأ عمر - أيضاً - وابن عباس - رضي الله عنهما - بالغيبة ، وفتح الباء ، أي : ليركبنَّ الإنسان .
وقيل : ليركبنَّ القمر أحوالاً من إسرارٍ والاستهلالِ .
وقرأ عبد الله وابنُ عباسٍ : « لتركبُنَّ » بكسر حرف المضارعة ، وقد تقدم في « الفاتحة » .
وقرأ بعضهم : بفتح المضارعة وكسر الباء ، على إسناد الفعل للنفس ، أي : لتركبن يا نفس .
قوله : « طبقاً » : مفعول به أو حال .
والطبق قال الزمخشريُّ : الطَّبق : ما طابق غيره ، يقال : ما هذا بطبق كذا : أي : لا يطابقه ، ومنه قيل للغطاء : الطَّبقُ ، وأطباقُ الثَّرى ما تطابق منه ، ثم قيل للحال المُطابقَة لغيرها طبق ، ومنه قوله - عز وجل- : { طَبَقاً عَن طَبَقٍ } أي : حالاً بعد حال ، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول ، ويجوز أن يكون جمع طبقة ، وهي المرتبة ، من قولهم : هو على طبقاتٍ ، ومنه طبقات الظهر لفقاره ، الواحدة : طبقة على معنى : لتركبن أحوالاً بعد أحوال ، هي طبقات في الشدة ، بعضها أرفع من بعض وهي الموت ، وما بعده من مواطن القيامة انتهى .
وقيل : المعنى : لتركبن هذه الأحوال أمَّة بعد أمَّة؛ ومنه قول العباس فيه صلى الله عليه وسلم : [ المنسرح ]
5147- تُنقَلُ مِنْ صالبٍ إلى رحِمٍ ... وإذَا مَضَى عالمٌ بَدَا طَبَقُ
فعلى هذا التفسير ، يكون « طبقاً » حالاً ، كأنه قيل : أمة بعد أمة .
وأما قول الأقرع : [ البسيط ]
5148- إنِّي امرؤٌ قَدْ حَلبْتُ الدَّهْرَ أشْطرَهُ ... وسَاقَنِي طَبَقٌ منهُ إلى طَبقٍ
فيحتمل الأمرين ، أي : ساقني من حالة إلى أخرى ، أو ساقني من أمَّة ناس إلى أمَّة ناسٍ آخرين ، ويكون نصب « طبقاً » على المعنيين على التشبيه بالظرف أو الحال ، أي : متنقلاً ، والطبقُ أيضاً : ما طابق الشيء أي : ساواه : [ ومنه دلالة المطابقة .

قال امرؤ القيس :
5149- ديمة هطلاً ... والطبق من الجراد أي الجماعة ] .
قوله : « عَنْ طَبقٍ » : في « عن » هذه وجهان :
أحدهما : أنها في محل نصب على الحال من فاعل « تركبن » .
والثاني : أنَّها صفة ل « طبقاً » .
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما محل « عن طبق »؟ قلت : النصب على أنه صفة ل « طبقاً » ، أي : طبقاً مجاوزاً لطبقٍ ، [ أو حال من الضمير في « لتركبن » ، أي : لتركبن طبقاً مجاوزين لطبقٍ ، أو مجاوراً ] ، أو مجاورة على حسب القراءة .
وقال أبو البقاء : و « عن » بمعنى : « بعد »؛ قال : [ الكامل ]
5150- مَا زِلْتُ أقْطَعُ مُنْهَلاً عَنْ مَنْهَلٍ ... حَتَّى أنَخْتُ بِبَابِ عَبْدِ الوَاحدِ
لأن الإنسان إذا صار من شيء إلى شيء ، يكون الثاني بعد الأول فصلحت « بعد » و « عن » للمجاوزة ، والصحيح أنها على بابها ، وهي صفة ، أي : طبقاً حاصلاً عن طبق ، أي : حالاً عن حالٍ . وقيل : جيلاً عن جيل . انتهى .
يعني الخلاف المتقدم في الطبق ما المراد به ، هل هو الحال ، أو الجيل ، أو الأمة كما تقدم نقله؟ وحينئذ فلا نعرب طبقاً مفعولاً به ، بل حالاً ، كما تقدم ، لكنه لم يذكر في طبق غير المفعول به ، وفيه نظر ، لما تقدم من استحالته ، يعني إذ يصير التقدير : لتركبن طبقة أمَّةٍ عن أمَّةٍ ، فتكون الأمة مركوبة لهم ، وإن كان يصح على تأويل بعيدٍ جداً وهو حذف مضاف ، أي : لتركبن سنن ، أو طريقة طبق بعد طبق .
فصل في حدوث العالم
هذا أدلُّ على « حدوث العالم » وإثبات الصانع .
قالت : الحكماء : من كان اليوم على حاله ، فليعلم أن تدبيره إلى سواه .
وقيل لأبي بكر الوراق : ما الدليل على أنَّ لهذا العالم صانعاً؟ فقال : تحويل الحالات ، وعجز القوَّة ، وضعف الأركان وقهر النية ونسخ العزيمة .
قوله : { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } . يعني : أي شيء يمنعهم من الإيمان بعد ما وضَّحت لهم الآيات والدِّلالات ، وهذا استفهام إنكارٍ .
وقيل : تعجب أي : اعجبوا منهم في ترك الإيمان مع هذه الآيات .
وقوله تعالى : { لاَ يُؤْمِنُونَ } حال .
قال ابنُ الخطيب : فما لهم لا يؤمنون بالبعث والقيامة ، وهو استفهام إنكارٍ ، وإنَّما يحسن عند ظهور الحُجَّة ، وذلك أنه - تعالى - أقسم بتغييرات واقعة في الأفلاك والعناصر ، فإن الشفق حالة مخالفة لما قبلها ، وهو ضوء النهار ، ولما بعدها وهو ظلمة الليل ، وكذا قوله : { والليل وَمَا وَسَقَ } فإنه يدل على حدوث ظلمةٍ بعد نورٍ ، وعلى تغييرات أحوال الحيوانات من اليقظة إلى النَّومِ ، وكذا قوله تعالى : { والقمر إِذَا اتسق } فإنه يدل على حصول كمال القمر بعد نقصانه ثم إنه أقسم - تعالى - بهذه الأحوال المتغيرة على تغيير أحوال الخلق ، وهذا يدل قطعاً على صحة القول بالبعث ، لأن القادر على تغيير الأحوال العلوية والسفلية من حال إلى حال بحسب المصالح ، لا بد وان يكون قادراً ، ومن كان كذلك لا محالة قادر على البعث والقيامة ، فلما كانت هذه الآية كالدلالة العقلية القاطعة بصحة البعث ، لا جرم قال تعالى على سبيل الاستبعاد : { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون } .

فصل في الكلام على الآية
قال القاضي : « لا يجوز أن يقول الحكيم لمن كان عاجزاً عن الإيمان : { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون } ، وهذا يدل على كونهم قادرين ، وهذا يقتضي أن تكون الاستطاعة قبل الفعل ، وأن يكونوا موجدين لأفعالهم ، وأن لا يكون تعالى خالقاً للكفر فيهم فهذه الآية من المحكمات التي لا احتمال فيها ألبتة » . وجوابه تقدم .
قوله : { وَإِذَا قُرِىءَ } شرط ، جوابه { لاَ يَسْجُدُونَ } ، وهذه الجملة الشرطية في محل نصب على الحال نسفاً على ما قبلها ، أي : فما لهم إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ، أي : لا يصلون قاله ابن عباس : وعطاء ، والكلبي ، ومقاتل [ وقال أبو مسلم : المراد الخضوع والاستكانة .
وقيل : المراد نفس السجود لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها .
وقال مالك : إنها ليست من عزائم السجود؛ لأن المعنى لا يدعون ولا يطيعون ] .
قوله تعالى : { بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ } . العامّة : على ضمِّ الياء من « يكذبون » وفتح الكاف وتشديد الذَّال .
والضحاكُ وابنُ أبي عبلة : بالفتح والإسكان والتخفيف [ وتقدمت هاتان القراءتان أول البقرة ] .
والمعنى : يُكذِّبُون بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به .
قال مقاتل : نزلت في بني عمرو بن عمير ، وكانوا أربعة ، فأسلم اثنان منهم .
وقيل : هو في جميع الكفار .
قوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } . هذه هي قراءة العامة ، من أوعى يُوعِي ، أي : بما يضمرون في أنفسهم من التكذيب ، رواه الضحاك عن ابن عباسٍ .
وقال مجاهدٌ : يكتمون من أفعالهم .
وقال ابن زيد : يجمعون من الأعمال الصالحة ، مأخوذ من الوعاء الذي يجمع فيه ، يقال : وعيت الزَّاد والمتاع : إذا جعلته في الوعاء؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
5151- ألخَيْرُ أبْقَى وإنْ طَال الزَّمانُ بِهِ ... والشَّرُّ أخْبَثُ ما أوعَيْتَ مِنْ زَادِ
وقرأ أبو رجاءٍ : « يَعُونَ » من « وَعَى يَعِي » ، يقال : وعاهُ إذا حفظهُ ، يقال : وعيتُ الحديثَ ، أعيهُ ، وعياً ، وأذنٌ واعيةٌ ، وقد تقدم .
قوله تعالى : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ، أي : مُؤلمٍ في جهنَّم على تكذيبهم وكفرهم ، أي : جعل ذلك بمنزلة البشارة .
قوله : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ } : يجوز أن يكون متصلاً ، وأن يكون منقطعاً ، هذا إذا كانت الجملة من قوله : « لَهُمْ أجْرٌ » : مستأنفة أو حالية ، أمَّا إذا كان الموصول مبتدأ والجملة خبره ، فالاستثناء ليس من قبيل استثناء المفردات ، ويكون من قسم المنقطعِ ، أي : لكن الذين آمنوا لهم كيت وكيت .

وتقدم معنى الممنُون في : « حم » السجدة ، وأنَّ معناه : غير منقوص لا مقطوع ، يقال : مننت الحبل : إذا قطعته .
وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس - رضي الله عنهما - عن قوله : { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } فقال : غير مقطوع ، فقال : هل تعرف ذلك العرب؟ قال : نعم ، قد عرفه أخو يشكر؛ حيث يقول : [ الخفيف ]
5152- فَتَرَى خَلفَهُنَّ مِنْ سُرْعَةِ الرَّجْ ... عِ مَنِيناً كأنَّهُ أهْبَاءُ
قال المبرد : المنين : الغبار؛ لأنه يقطعه وراءها ، وكل ضعيف مَنِين ومَمْنُون .
وقال بعضهم : ليس هنا استثناء ، وإنما هو بمعنى الواو ، كأنه قال : والذين آمنوا .
وقد مضى القول فيه في سورة البقرة ، والله تعالى أعلم .
روى الثعلبي عن أبيٍّ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورَة { إِذَا السمآء انشقت } أعاذهُ اللهُ - تَعَالَى- أن يُعْطيهُ كِتابهُ وَراءَ ظَهْرهِ » وحسبنا الله ونعم الوكيل .

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)

قوله تعالى : { والسمآء ذَاتِ البروج } . هذا قسم أقسم الله تعالى به ، وفي البروج أقوال :
قيل : والسَّماء ذات النجوم . قاله الحسنُ ومجاهدٌ وقتادةُ والضحاكُ . وقال ابنُ عباسٍ وعكرمةُ ومجاهدٌ : هي قصور في السماء .
وقال مجاهد أيضاً : هي البروج الاثنا عشر ، وهو قول أبي عبيدة ويحيى بن سلام .
وقيل : هي منازل القمر .
قوله : { واليوم الموعود } : وهو يوم القيامة ، وهذا قسم آخر ، قال ابن عباس - رضي الله عنه - : وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه .
قال القفال : يحتمل أن يكون المراد : اليوم الموعود لانشقاق السماء وبنائها ، وبطلان بروجها ، وقوله تعالى : « الموعود » أي : الموعود به .
وقال مكيٌّ : « الموعود » : نعت لليوم ، وثمَّ ضمير محذوف به تتم الصفة ، تقديره : الموعود به ، ولولا ذلك ما صحَّت الصفة؛ إذ لا ضمير يعود على الموصوف من صفته . انتهى .
وكأنه يعني أن اليوم موعود به غيره من الناس ، فلا بُدَّ من ضمير يرجع إليه؛ لأنه موعود به ، وهذا لا يحتاج إليه ، إذ يجوز أن يكون قد تجوز بأن اليوم قد وعد بكذا ، فيصح ذلك ، ويكون فيه ضمير عائدٌ عليه .
قوله : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } . قال علي ، وابنُ عباسٍ ، وابن عمر ، وأبو هريرة -رضي الله عنهم - : الشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة ، وهو قول الحسن ، ورواه أبو هريرة مرفوعاً -عن النبي صلى الله عليه وسلم : « المَوعُودُ : يومُ القيامة ، واليَوْمُ المشهودُ : يَوْمَ عَرفةَ ، والشَّاهِدُ : يَوْمَ الجُمعةِ » خرَّجه الترمذي في « جامعه » .
قال القشيري : فيوم الجمعة يشهد على عامله بما يعمل فيه .
قال القرطبيُّ : وكذلك سائر الأيام والليالي ، لما روى أبو نعيم الحافظ عن معاوية ابن قرة ، عن معقل بن يسارٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لَيْسَ مِنْ يوْمٍ يَأتِي عَلى العَبْدِ إلا يُنَادي فيه : يا ابْنَ آدمَ أنا خَلقٌ جدِيدٌ ، وأنَا فيمَا تَعْمَلُ علَيْكَ شَهِيدٌ ، فاعْمَلْ فيَّ خيراً أشْهَد لَكَ فيهِ غداً ، فإنِّي لوْ قَدْ مَضيْتُ لَمْ تَرَنِي أبَداً ، ويقُول اللَّيْلُ مِثْلَ ذلِكَ » حديث غريب .
وحكى القشيريُّ عن ابن عمر وابن الزُّبيرِ : أن الشاهد يوم الأضحى .
وقال سعيد بن المسيب الشاهد يوم التروية ، والمشهود : يوم عرفة .
[ وروي عن علي - رضي الله عنه - : الشاهد يوم عرفة ، والمشهود يوم النحر ] وعن ابن عباس والحسين بن علي - رضي الله عنهم - : المشهود : يوم القيامة ، لقوله تعالى : { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [ هود : 103 ] وعلى هذا فقيل : الشاهد هو الله تعالى ، وهو مروي عن ابن عباسٍ ، والحسن ، وسعيد بن جبير لقوله تعالى : { وكفى بالله شَهِيداً } [ النساء : 79 ] وقوله تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ }

[ الأنعام : 19 ] .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : الشاهد : محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } [ الأحزاب : 45 ] ، وقوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] وقوله تعالى : { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] .
وقيل : الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يشهدون على أممهم؛ لقوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] .
وقيل : آدم عليه الصلاة والسلام .
وقيل : عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - لقوله تعالى : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [ المائدة : 117 ] والمشهود أمته .
وعن ابن عباس ومحمد بن كعب : الشاهد : الإنسان ، لقوله تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] .
وقال الحسين بن الفضل : الشاهد هذه الأمة ، لقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] ، والمشهود بنو آدم .
قوله تعالى : { قُتِلَ } . هذا جواب القسم على المختار ، وإنما حذفت اللام ، والأصل : « لقتل »؛ كقوله : [ الطويل ]
5153- حَلفْتُ لَهَا باللهِ حَلفَة فَاجرٍ ... لنَامُوا فمَا إنْ مِنْ حَديثٍ ولا صَالِي
وإنما حسُن حذفها للطول كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - في قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] .
وقيل : تقديره ، لقد قتل ، فحذف « اللام وقد » ، وعلى هذا فقوله « قُتِلَ » خبر ، لا دعاء .
وقيل : هي دعاءٌ ، فلا يكون جواباً .
وفي الجواب حينئذ أوجه :
أحدها : أنه قوله تعالى : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ } [ البروج : 10 ] .
الثاني : قوله : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [ البروج : 12 ] قاله المبرد .
الثالث : أنه مقدر ، فقال الزمخشري ولم يذكر غيره : هو محذوف يدل عليه قوله : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } كأنَّه قيل : أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون ، كما لعن أصحاب الأخدود ثم قال : « قُتِلَ » دعاءٌ عليهم كقوله تعالى : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] .
وقيل : التقدير : لتبعثن .
وقيل : فيه تقديم وتأخير ، قتل أصحاب الأخدود والسَّماء ذات البروج ، قاله أبو حاتم .
قال ابن الأنباري : وهذا غلط؛ لأنه لا يجوز لقائل أن يقول : والله قام زيد ، على معنى : قام زيد والله .
وقرأ الحسن وابن مقسم : « قُتِّل » بتشديد التاء مبالغة أو تكثيراً .
قوله : { أَصْحَابُ الأخدود } ، أي : لعن أصحاب الأخدود .
قال ابن عباس : كل شيء في القرآن « قُتِلَ » فهو : لُعِنَ ، والأخدود الشقُّ العظيم المستطيل الغائص في الأرض .
قال الزمخشريُّ : والأخدود : الخدُّ في الأرض وهو : الشق ، ونحوهما بناء ومعنى : الخق والأخقوق ، ومنه : « فَسَاخَتْ قوائمه في أخاقيق جرذان » انتهى .
فالخَدُّ : في الأصل مصدر ، وقد يقع على المفعول ، وهو الشق نفسه ، وأمَّا الأخدود فاسم له فقط .
وقال الراغب : الخد والأخدود : شق في الأرض مستطيل غائص ، وأصل ذلك من خَدَّي الإنسان ، وهما ما اكتنفا الأنف عن اليمين والشمال ، فالخَدُّ : يستعار للأرض ونحوها كاستعارة الوجه ، وتخدد اللحم بزواله عن وجه الجسم ، ثم يعبر بالمخدود عن المهزول والخداد : وسم في الخد .

وقال غيره : سمي الخدُّ خدَّا؛ لأن الدموع تخُد فيه أخاديدَ ، أي : مجاري ، وجمع الأخدود : أخاديد ، والمخدَّة؛ لأن الخد يوضع عليها ، ويقال : تخدَّد وجه [ الرجل ] إذا صارت فيه أخاديد من جراحٍ .
فصل في نزول السورة
هذه السورة نزلت في تثبيت المؤمنين ، وتصبيرهم على أذى المشركين ، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان حتى يقتدوا بهم ، فيعلموا أنَّ كفارهم عند الله - تعالى - بمنزلة الأمم السابقة .
وكان من حديث أصحاب الأخدود : أنه كان لبعض الملوك ساحرٌ ، فلما كبر ضم إليه غلاماً ليعلمه السحر ، وكان في طريق الغلام راهبٌ ، فمال قلب الغلام إلى ذلك الراهب ، ثم رأى في طريقه ذات يوم حيَّة قد حبست الناس ، فقال : اللَّهم إن كان هذا الراهب أحبَّ إليك من الساحر فقوّني على قتل هذه الحيَّة ، وأخذ حجراً فرماها به فقتلها ، فأعرض الغلام عن تعلم السحر ، واشتغل بطريقة الراهب ، ثم صار إلى حيث يبرئُ الأكمه والأبرص ، ويشفي من الأذى ، فاتفق أن عميَ جليس الملك ، وأتاه بهدايا كثيرة ، وقال له : إن أنت شفيتني ، فهي لك أجمع ، فقال الغلام : إني لا أشفي أحداً ، إنما يشفي الله تعالى ، فإن آمنت بالله - تعالى - دعوته شفاك ، فآمن بالله ، فشفاه الله ، فأبرأه فلما رآه الملك ، قال : من ردَّ عليك بصرك؟ قال : ربَّي ، فغضب الملك وقال : هل لك ربٌّ غيري؟ قال : ربِّي وربُّك الله ، فعذبه حتى دلَّ على الغلام ، فجيء بالغلام ، فقال له الملك : يا بني قد بلغ من سحرك ما يبرئ الأكمه والأبرص ، وتفعل وتفعل؟ فقال : إني لا أشفي أحداً ، إنَّما يشفي الله تعالى ، فأخذه ، فلم يزل يعذبه حتى دلَّ على الراهب ، فجئ بالراهب ، فقيل له : ارجع عن دينك فأبى ، فوضع المنشار في مفرق رأسه ، فشقَّه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام ، فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه ، فقال : اذهبوا به إلى جبلِ كذا وكذا ، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه من ذُروتهِ ، فذهبوا به ، وصعدوا به الجبل ، فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فزَحَفَ بهم الجبلُ ، فسقطوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك؟ قال : كفانيهم الله ، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه ، وقال : احملوه في سفينة وتوغّلوا به في البحر ، فإن رجع عن دينه وإلاَّ فأغرقوه ، فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا ، ونجا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك؟ قال : كفانيهم الله ، وقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيدٍ واحدٍ ، وتصلبني على جذعِ نخلةٍ ، ثم تأخذ سهماً من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبدِ القوس ، ثم قل : بسم الله رب الغلام ، ثم ارم به واضرب ، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، فجمع الناس في صعيدٍ واحدٍ ، وصلبه على جذعٍ ، ثم أخذ سهماً من كنانته ، فوضعه في القوسِ ، ثم قال : بسم الله رب الغلام ، ورماه به فوقع السهم على صدغه ، فمات ، فقال الناس : آمنَّا برب الغلام ، فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر ، فأمر بأخاديد في أفواه السكك أوقدتْ فيها النيران ، وقال : من لم يرجع منهم طرحته فيها ، حتى جاءت امرأة ومعها صبي ، فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الصبي : يا أمَّاه ، اصبري ، فإنَّك على الحق ، فصبرت على ذلك .

وفي رواية : أنَّ الدابة التي حبست الناس كانت أسداً ، وأن الغلام دفن ، قيل : إنه خرج في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : أن النار ارتفعت من الأخدود ، فصارت فوق الملك وأصحابه أربعين ذراعاً فأحرقتهم .
وقال الضحاكُ : هم قوم من النصارى باليمن قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة ، أخذهم يوسفُ بن شراحيل بن تبع الحميري ، وكانوا نيِّفاً وثمانين رجلاً ، وحفر لهم أخدوداً ، وأحرقهم فيه . حكاه الماورديُّ . وروي غير ذلك .
قال مقاتلٌ : أصحاب الأخدود ثلاثة : واحدٌ بنجران ، والآخر : بالشَّام ، والآخر : بفارس ، أما الذي بالشام فأنطنيانوس الرومي ، وأما الذي بفارس فبختنصّر ، والذي بأرض العرب يوسف بن ذي نواس ، فلم ينزل الله في الذي بفارس والشام قرآناً ، وأنزل قرآناً في الذي كان بنجران .
قال الكلبي : هم نصارى نجران ، أخذوا بها قوماً مؤمنين ، فخذوا لهم سبعة أخاديد ، كل أخدود أربعون ذراعاً ، وعرضه اثنا عشر ذراعاً ، ثم طرحوا فيه النفط ، والحطب ، ثم عرضوهم عليها فمن أبى قذفوه فيها .
فصل في المراد بأصحاب الأخدود
قال ابن الخطيب : يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود : القاتلين ، ويمكن أن يكون المراد بهم : المقتولين ، والمشهور أنَّ المقتولين هم : المؤمنون .
وروي أن المقتولين هم الجبابرة ، روي أنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفَّار فأحرقتهم ، ونجَّى الله - تعالى - المؤمنين منها سالمين ، وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنسٍ ، والواحدي ، وتأولوا قوله تعالى : { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } [ البروج : 10 ] أي : في الآخرة ، { وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } [ البروج : 10 ] في الدنيا ، فإن فسَّرنا أصحاب الأخدود بالقاتلين ، فيكون قوله : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } دعاءٌ عليهم أي : لعن أصحاب الأخدود كقوله تعالى : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] ، { قُتِلَ الخراصون } [ الذاريات : 10 ] .
أو يكون المعنى : قتلوا بالنار كما أرادوا قتل المؤمنين بالنار عادت النار عليهم فقتلتهم .
وإن فسَّرنا أصحاب الأخدود بالمقتولين كان المعنى أن المؤمنين قتلوا بالإحراق بالنار ، فيكون ذلك خبراً لا دعاء .
فصل في المقصود من هذه الآية
المقصود من هذ الآية : تثبيت قلوب المؤمنين بإخبارهم بما كان يلقاه من قبلهم من الشدائد ، وذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلقون من أذى الكفار ، ليتأسَّوا بهذا الغلام في صده على الأذى والصلب وبذله نفسه في إظهار دعوته ، ودخول الناس في الدين مع صغر سنه ، وكذلك صبر الراهب على التمسُّك بالحق حتى نشر بالمنشار ، وكذلك أكثر الناس لما آمنوا بالله تعالى .

قوله : { النار } . العامة : على جرها ، وفيها أوجه :
أحدها : أنه بدل من « الأخدود » بدل اشتمال؛ لأن « الأخدود » مشتمل عليها ، وحينئذ فلا بد من الضمير .
فقال البصريون : مقدرٌ ، تقديره : النار .
وقال الكوفيون : « أل » قائمةٌ مقام الضمير ، تقديره : ناره ، ثم حذف الضمير ، وعوِّض عنه « أل » [ وتقدم البحث معه في ذلك ] .
الثاني : أنَّه بدل من كل ، ولا بد حينئذ من حذف مضاف ، تقديره : أخدود النار .
الثالث : أن التقدير : ذي النَّار؛ لأنَّ الأخدود هو الشق في الأرض ، حكاه أبو البقاء .
وهذا يفهم أنَّ النَّار خفض بالإضافة لتلك الصفة المحذوفة ، فما حذف المضاف قام المضاف إليه مقامه في الإعراب ، واتفق أن المحذوف كان مجروراً ، وقوله : إن الأخدود هو الشق ، تعليل بصحة كونه صاحب نار .
الرابع : أن النار خفض على الجوار ، نقله مكيٌّ عن الكوفيين .
وهذا يقتضي أن النار كانت مستحقة لغير الجر ، فعدل عنه إلى الجر للجوار ، والذي يقتضي الحال أنه عدل عن الرفع ، ويدل على ذلك أنه قد قرئ في الشاذ : « النَّارُ » رفعاً ، والرفع على أنه خبر ابتداء مضمر ، تقديره : هي النار وقيل : بل هي مرفوعة على الفاعلية تقديره قتلهم : أي : أحرقتهم ، والمراد حينئذ بأصحاب الأخدود : المؤمنون .
وقرأ العامة : « الوَقُودِ » بفتح الواو ، والحسنُ ، وأبو رجاء ، وأبو حيوة ، وعيسى : بضمها ، وتقدمت القراءتان في أول « البقرة » .
قوله تعالى : { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } . العامل في « إذ » إما : « قُتِلَ أصحاب » ، أي : قتلوا في هذا الوقت .
وقيل : اذكر ، مقدراً ، فيكون مفعولاً به ، ومعنى قعودهم عليها أي : على ما يقرب منها كحافتها؛ ومنه قول الأعشى : [ الطويل ]
5154- تُشَبُّ لِمقْرُورَيْنِ يَصْطلِيانِهَا ... وبَاتَ على النَّارِ النَّدَى والمُحلقُ
وقال القرطبيُّ : ومعنى « عليها » أي : « عندها » و « على » بمعنى : « عند » ، والضمير في « هم » يجوز أن يكون للمؤمنين ، وأن يكون للكافرين .
قوله : { وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ } . أي : حضور ، يعني : الكفَّار كانوا يعرضون الكفر على المؤمنين ، فمن أبي ألقوهُ في النار .
وقيل : « على » بمعنى : « مع » أي : وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود .
قال ابن الخطيب : و « على » بمعنى : « عند » كقوله تعالى : { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ } [ الشعراء : 14 ] أي : عندي .
[ وقوله : « شهودٌ » إما حضور قاسية قلوبهم لا يرقون على المؤمنين ، أو هم مجدون في ذلك لا يخطر لهم أنه حق .

أو يكون المراد وصف المؤمنين بالتصلُّب في دينهم ، والثبات عليه ، وإن لم يؤثر فيهم حضور هؤلاء ، ولا استحيوا من مخالطتهم .
وإما أن يكون المراد بشهودهم شهادة الدعوة؛ أي : يشهد بعضهم لبعض عند الملك بما فعلوا بالمؤمنين .
وإما أنهم متثبّتون في فعلهم متبصرون فيه كما يفعل الشهود ، ثم لا يرحمونهم مع ذلك ] .
قوله : { وَمَا نَقَمُواْ } ، العامة ، على فتح القاف .
وزيدُ بن عليٍّ ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : بكسرها ، والفصيح : الفتح . وقد تقدم ذلك في سورة « المائدة » و « براءة » .
والمعنى : ما نقم الملك وأصحابه من الذين حرَّقوهم { إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ } إلاَّ أن صدقوا بالله؛ كقوله : [ الطويل ]
5155- ولا عَيْبَ فِيهَا غَيْرَ شُكلةِ عَيْنهَا ... كَذاكَ عِتاقُ الطَّيْرِ شُكلٌ عُيونُهَا
وكقول ابن الرقيَّات : [ المنسرح ]
5156- ما نَقَمُوا من بَنِي أميَّة إلْ ... لا أنَّهُم يَحْلمُونَ إنْ غَضِبُوا
يعني أنهم جعلوا أحسن الأشياء قبيحاً وتقدم الكلام على محل « أن » أيضاً في سورة « المائدة » .
وقوله تعالى : { أَن يُؤْمِنُواْ } أتى بالفعل المستقبل تنبيهاً على أنَّ التعذيب إنما كان لأجل إيمانهم في المستقبل ، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى من الإيمان ، فكأنه قيل : أن يدوموا على إيمانهم ، و « العَزِيز » هو الغالب المنيع ، « الحميد » : المحمود في كل حال .
{ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } : لا شريك له فيهما .
{ والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي : عالم بأعمال خلقه لا يخفى عليه خافية ، وهذا وعد عظيم للمطيعين ، ووعيد للمجرمين .

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)

قوله : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات } : لما ذكر قصة أصحاب الأخدود ، أتبعها بما يتفرع من أحكام الثواب والعقاب ، فقال تعالى : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات } أي : حرقوهم بالنار ، والعرب يقولون : فتن فلان الدرهم والدينار إذا أدخله الكور لينظر جودته ، ودينار مفتون ، ويسمى الصائغ : فتّان ، وكذلك الشيطان ، وورق فتين ، أي : فضة محرقة ، ويقال للحرة : فتين وهي الأرض التي تركبها حجارة سوداء ، كأنما أحرقت حجارتها بالنار لسوادها .
وقال ابن الخطيب : يحتمل أن يكون المراد بالذين فتنوا : كل من فعل ذلك؛ لأن اللفظ والحكم عام .
وقوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } أي : من قبيح صنيعهم ، وهذا يدل على أنهم لو تابوا لخرجوا من هذا الوعيد ، وذلك يدلّ على القطع بأن الله يقبل التوبة ، فدلَّ على أن توبة القاتل عمداً مقبولة .
قوله : { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } . هو خبر « إنَّ الذينَ » دخلت الفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط ، ولا يضر نسخه ب « إن » خرفاً للأخفش .
وارتفاع « عذاب » يجوز على الفاعلية بالجار قبله لوقوعه خبراً ، وهو الأحسن ، وأن يرتفع بالابتداء ، والمعنى : لهم عذاب جهنَّم لكفرهم .
وقيل : ولهم عذاب الحريق أي : ولهم في الآخرة عذابُ الحريق ، والحريق : اسم من أسماء جهنم كالسعير ، والنَّار دركات وأنواع ، ولها أسماء ، وكانوا يعذبون بالزَّمهرير في جهنم ، ثم يعذبون بعذاب الحريق .
والأول : عذاب ببردها .
والثاني : عذاب بحرِّها .
قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } . أي : هؤلاء الذين آمنوا بالله ، أي : صدقوا به وبرسوله { وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جَنَّاتٌ } أي : بساتين .
{ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } لما ذكر تعالى وعيد المجرمين ، ذكر وعد المؤمنين ، { ذَلِكَ الفوز الكبير } أي : العظيم الذي لا فوز يشبهه ، وقال : « ذلِكَ الفوزُ » ولم يقل : تلك؛ لأن ذلك إشارة إلى إخبار الله تعالى بحضور الجنات ، وتلك إشارة إلى الجنَّة الواحدة ، وإخبار الله - تعالى - يدل على كونه راضياً . والفوز الكبير : هو رضا الله تعالى ، لا دخول الجنة .
قوله : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } ؛ أي : أخذه الجبابرة والظلمة ، كقوله تعالى : { وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] .
وقال المبرد : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ } جواب القسم وقد تقدم ذلك .
والبطش : هو الأخذ بعنف ، فإذا وصف بالشدة ، فقد تضاعف .
قوله : { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ } ، يعني : الخلق عند أكثر العلماء يخلقهم ابتداء ، ثم يعيدهم عند البعث ، وروى عكرمةُ ، قال : عجب الكفَّار من إحيائه تعالى الأموات .
وقال ابن عباس - رضي الله عنه - يبدئ لهم عذاب الحريق في الدنيا ، ثم يعيده عليهم في الآخرة ، وهذا اختيار الطبري .
قوله : { وَهُوَ الغفور الودود } : « الغَفُور » : أي : الستور لعباده المؤمنين ، والودود : مبالغة في الوداد .

قال ابن عباسٍ : هو المتودّد لعباده المؤمنين بالمغفرة .
وعن المبرد ، هو الذي لا ولد له ، وأنشد : [ المتقارب ]
5157- وأركَبُ في الرَّوعِ عُريانَةً ... ذَلُولَ الجَناحِ لَقَاحاً ودُودَا
أي : لا ولد لها تحنّ إليه .
وقيل : هو « فعول » بمعنى : « مفعول » ، كالرَّكُوب والحلُوب أي : يوده عباده الصالحون .
قوله : { ذُو العرش المجيد } قرأ الكوفيون إلاَّ عاصماً : « المجيد » بالجر .
فقيل : نعت للعرش .
وقيل : ل « ربك » في قوله : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } ، قاله مكيٌّ . وقيل : لا يجوز أن يكون نعتاً للعرش؛ لأنه من صفات الله تعالى .
وقرأ الباقون : بالرفع ، على أنه خبر بعد خبر .
وقيل : هو نعت ل « ذو » ، واستدلَّ بعضهم على تعدد الخبر بهذه الآية ، ومن منع قال : لأنها في معنى واحد ، أي : جامع بين هذه الأوصاف الشريفة ، أو كل منها خبر لمبتدأ مضمر .
والمجيد : هو النهاية في الكرم والفضل ، والله - تبارك وتعالى - هو المنعوت بذلك ، وإن كان قد وصف عرشه بالكريم في آخر المؤمنين .
ومعنى « ذو العرش » أي : ذو الملك والسلطان ، كما يقال : فلان على سرير ملكه وإن لم يكن على سرير ، ويقال : بلي عرشه ، أي : ذهب سلطانه .
قوله : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } أي : لا يمتنع عليه شيء يريده .
قال الزمخشريُّ : « فعالٌ » خبر مبتدأ محذوف ، وإنما قيل : « فعال »؛ لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة .
وقال الفراء : هو رفع على التكرير والاستئناف؛ لأنه نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب الغفور الودود .
وعن أبي السفر قال : دخل ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر - رضي الله عنه - يعودونه ، فقالوا : ألا نأتيك بطبيبٍ؟ قال رضي الله عنه : قد رآنِي ، قالوا : فَمَا قَال لَك؟ قال : قال : إنِّي فعَّالٌ لما أريدُ .
فصل في أن الآية دلت على خلق الأفعال
دلَّت هذه الآية على خلق الأفعال؛ لأنه تعالى يريد الإيمان ، فوجب أن يكون فاعلاً للإيمان ، وإذا كان فاعلاً للإيمان وجب أن يكون فاعلاً للكفر ضرورة؛ لأنه لا قائل بالفرق .
فصل في تفسير الآية
قال القفال : « فعَّالٌ لما يُرِيدُ » أي : يفعل ما يريد على ما يراه ، لا يعترض عليه ولا يغلبه غالب ، فيدخل أولياءه الجنة ، لا يمنعه مانع ، ويدخل أعداءه النار ، لا ينصرهم منه ناصر ، ويمهمل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم ، ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء ، فهو يفعل ما يريد .

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

قوله : { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود } ، أي : قد أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم [ تَسْلِيَةً له بذلك ] .
قوله تعالى : { فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } . يجوز أن يكون بدلاً من الجنود ، وحينئذ فكان ينبغي أن يأتي البدل مطابقاً للمبدل منه في الجمعية .
فقيل : هو على حذف مضاف ، أي : جنود فرعون .
وقيل : المراد فرعون وقومه ، واستغني بذكره عن ذكرهم؛ لأنهم أتباعه .
ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار : أعني؛ لأنه لما لم يطابق ما قبله وجب قطعه .
والمعنى : أنك قد عرفت ما فعل بهم حين كذبوا بأنبيائهم ورسلهم .
قوله : { بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ } ، أي : هؤلاء الذين لا يؤمنون بك في تكذيب لك كدأب من قبلهم ، وإنما خُصَّ فرعون وثمود؛ لأن ثموداً في بلاد العرب ، وقصتهم عندهم مشهورة ، وإن كانوا من المتقدِّمين ، وأمر فرعون كان مشهوراً عند أهل الكتاب وغيرهم ، وكان من المتأخرين في الهلاك فدلَّ بهما على أمثالهما ، والله أعلم .
قوله : { والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ } ، أي : يقدر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون ، والمحاط به المحصور .
وقيل : والله أعلم بهم فيجازيهم .
قوله : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ } العامة : على تبعية مجيد ل « قرآن » ، وقرأ ابن السميفع بإضافة « قرآن » ل « مجيد » .
فقيل : هو على حذف مضاف ، أي : قرآن رب مجيد .
كقوله : [ الوافر ]
5158- ولَكِنَّ الغِنَى ربّ غَفُور ... أي : غنى رب غفور .
وقيل : بل هو من إضافة الموصوف إلى صفته ، فتتحد القراءتان ، ولكن البصريين لا يجيزون هذا لئلا يلزم إضافة الشيء إلى نفسه ، ويتأولون ما ورد .
ومعنى « مَجِيدٌ » أي : متناهٍ في الشرف والكرم والبركة .
وقيل : « مَجِيدٌ » أي : غير مخلوق .
قوله : { فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } ، قرأ نافع : برفع « محفوظ » : نعتاً ل « قرآن » .
والباقون : بالجر؛ نعتاً للوح .
والعامة : على فتح اللام ، وقرأ ابن السميفع وابن يعمر : بضمها .
قال الزمخشري : يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح ، « محفوظ » من وصول الشياطين إليه .
وقال أبو الفضل : « اللّوح » : الهواء ، وتفسير الزمخشري بالمعنى ، وهو الذي أراده ابن خالويه .
قال القرطبي : « فِي لوحٍ محفُوظٍ » أي : مكتوب في لوح ، وهو محفوظ عند الله - تعالى - من وصول الشياطين إليه .
وقيل : هو أم الكتاب ، ومنه انتسخ القرآن والكتب .
وقال بعض المفسرين : « اللوح » شيء يلوح للملائكة فيقرءونه .
وفي « الصِّحاح » : لاح الشيء يلوح لوحاً ولواحاً : عطش ، وكل عظم عريض ، واللوح : الذي يكتب فيه ، واللُّوح : بالضم ، الهواء بين السماء والأرض . وأنشد دريد : [ الرجز ]
5159- عقابُ لُوحِ الجَوِّ أعْلَى مَتْنَا ... قال ابن الخطيب : قال - هاهنا - : « فِي لَوْحٍ مَحفُوظٍ » ، وقال في آية أخرى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } [ الواقعة : 77 ، 78 ] فيحتمل أن يكون الكتاب المكنون ، هو اللوح المحفوظ ، ثم كونه محفوظاً يحتمل أن يكون محفوظاً عن اطلاع الخلق عليه سوى الملائكة المقربين ، ويحتمل أن يكون المراد : ألاَّ يتغيَّر ولا يتبدل . والله أعلم .
روى الثعلبي عن أبيٍّ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورةَ { والسمآء ذَاتِ البروج } أعْطَاهُ اللهُ تعَالَى بعددِ كُلِّ يوم جُمعةٍ ، وكُلُّ يَوْم عَرفة ، يكُونُ في دَارِ الدُّنْيَا عَشْرَ حسَناتٍ » .

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)

قوله تعالى : { والسمآء والطارق } ، « السَّماءِ » : قسم ، و « الطَّارقِ » : قسم ، والطَّارقُ : هو النَّجم الثاقب ، كما بينهُ الله تعالى بقوله : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطارق النجم الثاقب } .
والطارق في الأصل : اسم فاعل من : طرق يطرق طروقاً : أي : جاء ليلاً؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
5160- فَمِثْلكِ حُبْلَى قَدْ طَرقتُ ومُرضعٍ ... فألْهَيْتُهَا عَنِ ذِي تَمائِمَ مُحْولِ
وأصله من الضرب ، والطَّارقُ بالحصى : الضارب به؛ قال : [ الطويل ]
5161- لعَمْرُكَ ، ما تَدْرِي الطَّوارِقُ بالحَصَى ... ولا زَاجِراتُ الطَّيْرِ ما اللهُ صَانِعُ
ثم اتُّسعَ فقيل لكل من أتى ليلاً : طارق ، سواء كان كوكباً ، أو غيره ، ولا يكون الطارقُ نهاراً .
وروي أنه صلى الله عليه وسلم : « نهى أن يأتي الرجل أهله طروقاً » .
وقوله : { النجم الثاقب } ، قال محمد بن الحسين : هو زُحَل .
وقال ابن زيد : هو الثُّريَّا - أيضاً - : أنه زُحَل .
وعن ابن عباس : هو الجديُ ، وعن عليٍّ بن أبي طالب والفرَّاء ، « النَّجْمُ الثَّاقبُ » : نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم ، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط ، فكان معها ، ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة ، وهو زحل ، فهو طارق حين ينزل ، وحين يهبط .
وفي « الصحاح » : « الطَّارقُ : النجم الذي يقال له : كوكب الصبح » .
ومنه قول هند : [ الرجز ]
5162- نَحْنُ بَناتُ طَارق ... نَمْشِي عَلى النَمارِق
وقيل : هو اسم جنس ، فيدخل فيه سائر الكواكب ، وسمي ثاقباً؛ لأنه يثقب الظَّلام بضوئه ، أي : ينفذ فيه . أي يرمي الشيطان فيحرقه .
قال الماورديُّ : وأصل الطرقِ ، الدَّق ، ومنه سميت المطرقة ، فسمي قاصد الليل : طارقاً ، لاحتياجه في الوصول إلى الدق .
ورُوِيَ « أنَّ أبا طالبٍ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بخبز ولبن ، فبينما هو جالس يأكل إذ انحطَّ نجم فامتلأت الأرض نوراً ، ففزع أبو طالب ، وقال : أيُّ شيءٍ هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هَذَا نجمٌ رُمِي بِهِ ، وإنَّهُ مِنْ آياتِ اللهِ « فعجب أبو طالب ، ونزلت السورة » .
وقال مجاهد : « الثاقب » : المتوهِّج .
قوله تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ } تفخيم لشأن هذا المقسم به .
قوله : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } . قد تقدم في سورة « هود » : التخفيف والتشديد في « لما » ، فمن خففها - هنا - كانت « إنْ » : مخففة من الثقيلة ، و « كل » : مبتدأ ، و « عليها » : خبر مقدم ، و « حافظ » : مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر « كل » ، و « ما » : مزيدة بعد اللام الفارقة ، ويجوز أن يكون « عليها » : هو الخبر وحده ، و « حافظ » : فاعل به ، وهو أحسن ، ويجوز أن يكون « كل » : مبتدأ ، و « حافظ » : خبره ، و « عليها » متعلق به ، و « ما » : مزيدة أيضاً ، هذا كله تفريع على قول البصريين .

وقال الكوفيون : « إنْ » هنا : نافية ، واللام بمعنى « إلاّ » إيجاباً بعد النفي ، و « ما » : مزيدة وتقدم الكلام في هذا مستوفى .
قال الفارسي : ويستعمل « لما » بمعنى : « إلاَّ » في موضعين :
أحدهما : هذا ، والآخر : في باب القسم ، تقول : سألتك لما فعلت .
ورُوِيَ عن الكسائيِّ والخفش وأبو عبيدة أنهم قالوا : لم نجد « لما » بمعنى : « إلا » في كلام العرب .
وأما قراءة التشديد : ف « إن » نافية ، و « لمَّا » بمعنى : « إلا » وتقدمت شواهد ذلك في سورة « هود » .
وحكى هارون : أنه قرئ « إنَّ » بالتشديد ، « كُلَّ » بالنصب على أنه اسمها ، واللام : هي الدالخة في الخبر ، و « ما » : مزيدة ، و « حافظ » : خبرها .
وعلى كل تقدير ف « إن » وما في خبرها : جواب القسم سواء جعلها مخففة أو نافية .
وقيل : الجواب : { إِنَّهُ على رَجْعِهِ } [ الطارق : 8 ] وما بينهما اعتراض؛ وفيه بعد .
فصل في المراد بالحافظ
قال قتادةُ : « حافظ » أي : حفظة يحفظون عليك رزقك وعملك وأجلك ، قال تعالى : { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } [ الأنعام : 61 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ } [ الانفطار : 10 ، 11 ] ، وقال تعالى : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } [ الرعد : 11 ] .
وقيل : الحافظ : هو الله تعالى .
وقيل : الحافظ : هو العقل يرشد الإنسان إلى مصالحه ، ويكفّه عن مضارِّه .
قال القرطبي : العقل وغيره وسائط ، والحافظ في الحقيقة هو الله تعالى ، قال الله تعالى : { فالله خَيْرٌ حَافِظاً } [ يوسف : 64 ] ، وقال تعالى : { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمن } [ الأنبياء : 42 ] وما كان مثله .
قال ابن الخطيب : المعنى : لما كانت كل نفس عليها حافظ ، وجب أن يجتهد كل واحد ، ويشتغل بالمهم ، وأهم الأشياء معرفة المبدأ والمعاد والمبدأ يقدم .

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)

قوله : { فَلْيَنظُرِ الإنسان } ، أي : ابن آدم ، « مَمَّ خُلِقَ » ، وجه الاتصال بما قبله وصية الإنسان بالنظر في أول أمره حتى يعلم أنَّ من أنشأه قادر على إعادته وجزائه ، فليعمل ليوم الإعادة والحشر والجزاء ، ولا يملي على الحافظ إلا ما يسرُّه في عاقبه أمره .
وقوله تعالى : { مِمَّ خُلِقَ } ، استفهام ، أي : من أيِّ شيء خلق ، وهو جواب الاستفهام .
قوله : { مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } . فاعل بمعنى مفعول [ كعكسه في قولهم : سيل مفعم ] ، كقوله تعالى : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] على وجه .
وقيل : « دافِق » على النسب ، أي : ذو دفق أو اندفاقٍ .
وقال ابنُ عطية : يصح أن يكون الماء دافقاً؛ لأن بعضه يدفق بعضاً ، أي : يدفقه ، فمنه دافق ، ومنه مدفوق انتهى .
والدَّفقُ : الصَّبُّ ، ففعله متعدٍّ .
وقرأ زيد بن علي : « مَدْفُوقٍ » وكأنَّه فسر المعنى .
قال القرطبيُّ : الصبُّ : دفقُ الماء ، دفقت الماء ، أدفقُه دفقاً ، أي : صببته فهو ماء دافق ، أي : مدفوق ، كما قالوا : سرٌّ كاتم ، أي : مكتوم؛ لأنه من قولك : دُفق الماء على ما لم يسم فاعله ، ولا يقال : دَفق الماء ، ويقال : دفق الله روحه : إذا دعى عليه بالموت .
قال الفرَّاء والأخفش : « ماءٍ دافقٍ » : أي مصبوب في الرَّحمِ .
وقال الزجاج : « مِن ماءٍ ذي انْدفاقٍ » ، يقال : دَارع ، وفَارِس ، ونَابِل ، أي ذو فَرسٍ ودِرعٍ ونَبلٍ ، وهذا مذهب سيبويه .
والدَّافق : هو المندفق بشدة قوته ، وأراد ماءين : ماء الرجل وماء المرأة؛ لأن الإنسان مخلوق منهما ، لكن جعلهما ماءً واحداً لامتزاجهما .
وقال ابن عباس : « دافق » لزج .
قوله : { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب } ، أي : هذا الماء من بين الصلب ، أي : الظَّهر وقرأ العامة : « يَخْرجُ » مبنياً للفاعل ، وابنُ أبي عبلة وابن مقسم : مبنياً للمفعول . وقرأ - أيضاً - : وأهل « مكة » : « الصُّلُبِ » بضم الصاد واللام .
وقرأ اليماني : بفتحها؛ ومنه قول العجَّاج : [ الرجز ]
5163- فِي صَلبٍ مِثلِ العِنانِ المُؤدَمِ ... [ وفيه أربع لغات : « صُلْب ، وصُلُبٌ ، وصَلَبٌ ، وصَالب ، ومنه قوله ] : [ المنسرح ]
5164- تُنْقَلُ من صَالَبٍ إلى رحِمٍ .. . . .
والترائب : جميع تريبة ، وهي موضع القلادة من عظام الصَّدر؛ لأن الولدَ مخلوق من مائهما؛ فماء الرجل في صلبه ، وماء المرأة في ترائبها ، وهو معنى قوله تعالى : { مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } [ الإنسان : 2 ] ؛ وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
5165- مُهْفَهَفةٌ بَيْضاءُ غَيْرُ مُفاضَةٍ ... تَرَائِبُها مَصْقُولةٌ كالسَّجَنْجَلِ
وقال آخر : [ الكامل ]
5166- والزَّعْفرَانُ على تَرائِبهَا ... شَرِقٌ بِهِ اللّبَّاتُ والنَّحرُ
وقال المثقب العبديُّ : [ الوافر ]
5167- ومنْ ذَهَبٍ يَلوحُ عَلى تَريبٍ ... كَلوْنِ العَاجِ لَيْسَ لَهُ غُضُونُ
وقال الشاعر : [ الرجز ]
5168- أشْرَفَ ثَدْيَاهَا على التَّريبِ ... وعن ابن عباسٍ وعكرمة : الترائب : ما بين ثدييها .
وقيل : التَّرائب : التراقي .
وقيل : أضلاع الرجل التي أسفل الصلب .
وحكى الزجاجُ : أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر ، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر .

وعن ابن عبَّاسٍ : أطراف المرء ، يداه ورجلاه وعيناه ، وهو قول الضحاك .
وقيل : عصارة القلب ، وهو قول معمر بن أبي حبيبة .
قال ابنُ عطية : وفي هذه الأقوال تحكم على اللغة .
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ : هو الجيد .
وقال مجاهد : ما بين المنكبين والصدر .
وقال القرطبيُّ : والمشهور من كلام العرب أنها عظام الصَّدْر والنَّحْر .
جاء في الحديث : أن الولد يخلقُ من ماء الرجل ، يخرج من صلبه العظم والعصب ، وماء المرأة التي يخرج من ترائبها اللحم والدم .
حكى القرطبيُّ : أنَّ ماء الرجل يخرج من الدِّماغ ، ثم يجتمع في الأنثيين ، وهذا لا يعارض : « مِنْ بَيْنِ الصُّلبِ والتَّرائبِ »؛ لأنه إن نزل من الدِّماغ ، فإنما يمرُّ بين الصلب والترائب .
قال قتادةُ : المعنى : يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة .
وحكى الفراء : أنَّ مثل هذا يأتي عن العرب ، فيكون معنى ما بين الصلب : من الصلب .
والمعنى من صلب الرجل وترائب المرأة ، ثم إنَّا نعلم أن النطفة من جميع أجزاء البدن ، ولذلك يشبه الرجل والديه كثيراً ، وهذه الحكمة في غسل جميع الجسد من خروج المني ، وأيضاً فالمكثر من الجماع يجد وجعاً في صلبه وظهره ، وليس ذلك إلا لخلو صلبه عما كان محتبساً من الماء .
قال المهدويُّ : من جعل المنيَّ يخرج من بين صلب الرجل وترائبه ، فالضمير في « يخرج » للماء ، ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، فالضمير للإنسان .
قوله : { إِنَّهُ } . الضمير للخالق المدلول عليه بقوله تعالى : { خُلِقَ } ؛ لأنه معلوم أن لا خالق سواه سبحانه .
قوله : { على رَجْعِهِ } ، في الهاء وجهان :
أحدهما : أنه ضمير الإنسان أي على بعثه بعد موته ، وهو قول ابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة ، وهو اختيار الطبري ، لقوله تعالى : { يَوْمَ تبلى السرآئر } .
والثاني : أنه ضمير الماء ، أي : يرجع المنيّ في الإحْليل أو الصلب .
قاله الضحاكُ ومجاهدٌ ، والأول قول الضحاك أيضاً وعكرمة .
[ وعن الضحاك أيضاً أن المعنى أنه رد الإنسان من الكِبَرِ إلى الشباب ، ومن الشباب إإلى الكبر . حكاه المهدوي .
وفي الماوردي والثعلبي : إلى الصِّبا ومن الصِّبا إلى النُّطفة .
وقال ابن زيد : إنه على حبس ذلك الماء حتى يخرج لقادر .
وقال الماوردي : يحتمل أنه على أن يعيده إلى الدنيا بعثه إلى الآخرة؛ لأن الكفار يسألون فيها الرجعة ، والرجع مصدر رجعت الشيء أي : رددته ] .
قوله : { يَوْمَ تبلى السرآئر } . فيه أوجه ، وقد رتبها أبو البقاءِ على الخلاف في الضمير ، فقال : على القول بكون الضمير للإنسان ، فيه أوجه :
أحدها : أنه معمول ل « قادر » .
إلاَّ أنَّ ابن عطية قال - بعد أن حكى أوجهاً عن النحاة - : « وكل هذه الفرق فرَّت من أن يكون العامل » لقادر « ، لئلاَّ يظهر من ذلك تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحدهُ » .

ثم قال : « وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون العامل » لقادر « ، وذلك أنه قال : » إنَّه على رجعهِ لقادرٌ «؛ لأنه إذا قدر على ذلك في هذا الوقت كان في غيره أقدر بطريق الأولى .
الثاني : أن يكون العامل مضمر على التبيين ، أي : يرجعه يوم تبلى .
الثالث : تقديره : اذكر ، فيكون مفعولاً به ، وعلى عوده على الماء يكون العامل فيه : اذكر » انتهى ملخصاً .
وجوَّز بعضهم أن يكون العامل فيه « نَاصِرٍ » ، وهو فاسد؛ لأن ما بعد « ما » النافية وما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلهما .
وقيل : العامل « رَجْعِهِ » وهو فاسدٌ؛ لأنه قد فصل بين المصدر ومعموله بأجنبي ، وهو خبر « إنَّ » . وبعضهم يقتصره في الظرف .
قوله : « تُبلَى » تختبر وتعرف؛ قال الراجز : [ الرجز ]
5169- قَدْ كُنْتَ قَبْلَ اليَوْم تَزْدَرينِي ... فاليَومَ أبْلُوكَ وتَبْتَلِينِي
أي : أعرفك وتعرفني .
وقيل : { تبلى السرآئر } تخرج من مخبآتها وتظهر ، وهو كل ما استسرّه الإنسان من خير ، أو شر ، وأضمره من إيمان ، أو كفر .
قال ابن الخطيب : والسرائرُ : ما أسر في القلوب ، والمراد هنا : عرض الأعمال ، ونشر الصحف ، أو المعنى : اختبارها ، وتمييز الحسن منها من القبيح لترتيب الثواب والعقاب .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ائْتَمَنَ اللهُ - تعَالَى - خَلقهُ على أرْبَع : الصَّلاةِ ، والزَّكاةِ والصِّيام ، والغُسْلِ ، وهُنَّ السَّرائِرُ الَّتي يَختبِرُهَا اللهُ - عزَّ وجلَّ - يَوْمَ القِيَامَةِ » ذكره المهدوي .
وروى الماورديُّ عن زيدٍ بن أسلم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الأمَانَةُ ثلاثٌ : الصَّلاةُ ، والصَّومُ ، والجنَابةُ ، اسْتأمَنَ اللهُ - تعالى - ابْنَ آدمَ على الصَّلاةِ ، فإن شاء قال : صلَّيْتُ ، ولمْ يُصَلِّ ، واسْتأمنَ اللهُ تعالى ابْنَ آدَم على الصَّوم ، فإنْ شَاءَ قَالَ : [ صُمْتُ ولَمْ يَصُمْ واسْتَأمنَ اللهُ تعالى ابْن آدمَ على الجَنابةِ فإنْ شَاءَ قَال : ] اغْتسَلت ولمْ يَغْتسِلْ ، اقْرَأوا إن شِئْتُم : { يَوْمَ تبلى السرآئر } » .
[ وقال مالك - رضي الله عنه - : الوضوء من السرائر ، والسرائر ما في القلوب يجزي الله به العباد ] .
وقال ابن العربيِّ : قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : يغفر للشهيد إلاَّ الأمانة ، والوضوء من الأمانة ، والصلاة والزكاة من الأمانة ، والوديعة من الأمانة ، وأشد ذلك الوديعة ، تمثل له على هيئتها يوم أخذها ، فيرمى بها في قعر جهنم ، فيقال له : أخرجها ، فيتبعها ، فيجعلها في عنقه ، وإذا أراد ان يخرج بها زلت ، فيتبعها ، فيجعلها في عنقه ، فهو كذلك دهر الداهرين .
وقال أبي بن كعب : من الأمانة أن ائتمنت المرآة على فرجها .
وقال سفيان : الحيضة والحمل من الأمانة ، إن قالت : لم أحضْ وأنا حامل صدقت ما لم يأت ما يعرف فيه أنها كاذبة .
قوله : { فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ } ، أي : فما الإنسان من قوَّة ، أي : منعةٍ تمنعه ، ولا ناصرٍ ينصره عن ما نزل به .
قال ابن الخطيب : ويمكن أن يتمسك بهذه الآية على نفي الشفاعة ، لقوله تعالى : { واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [ البقرة : 48 ] الآية .
والجواب ما تقدم .

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)

قوله : { والسمآء ذَاتِ الرجع } .
قيل : الرَّجْعُ : مصدر ، بمعنى رجوع الشمس والقمر إليها ، والنجوم تطلع من ناحيته ، وتغيب في أخرى .
وقيل : الرَّجْعُ : المطر؛ قال : المتنخِّل ، يصف سيفاً يشبههُ بالماء : [ السريع ]
5170- أبْيَضُ كالرَّجْعِ رَسُوبٌ إذَا ... ما ثَاخَ في مُحْتفلٍ يَخْتَلِي
وقال : [ البسيط ]
5171- رَبَّاءُ شَمَّاءُ لا يَأوِي لقُلَّتِهَا ... إلاَّ السَّحَابُ وإلاَّ الأوبُ والسَّبلُ
وقال الخليل : المطر نفسه ، وهذا قول الزجاج .
قال ابن الخطيب : واعلم أن كلام الزجاج ، وسائر علماء اللغة « صريح » في أن الرجع ليس اسماً موضوعاً للمطر ، بل سمي رجعاً مجازاً ، وحسن هذا المجاز وجوه :
أحدها : قال القفال : كأنه من ترجيع الصوت وهو إعادته ، ووصل الحروف به ، وكذا المطر ، لكونه يعود مرة بعد أخرى سمِّي رجعاً .
وثانيها : أن العرب كانوا يزعمون أنَّ السَّحاب يحمل الماء من بحار الأرض ، ثم يرجعه إلى الأرض .
والرجع - أيضاً - نبات الربيع .
وقيل : « ذَاتِ الرَّجْعِ » أي : ذات النفع .
وقيل : ذات الملائكة ، لرجوعهم فيها بأعمال العباد ، وهذا قسم .
{ والأرض ذَاتِ الصدع } قسمٌ آخر ، أي : تتصدع عن النبات ، والشجر ، والثمار ، والأنهار ، نظيره : { ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً } [ عبس : 26 ] .
والصَّدعُ : بمعنى الشق؛ لأنه يصدع الأرض ، فتصدع به ، وكأنَّه قال : والأرض ذات النبات الصادع للأرض .
وقال مجاهد : الأرض ذات الطريق التي تصدعها المشاة .
وقيل : ذات الحرث لأنه يصدعها .
وقيل : ذات الأموات لانصداعها للنشور .
وقيل : هما الجبلان بينهما شق وطريق نافذ لقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } [ الأنبياء : 31 ] .
قال ابن الخطيب : واعلم أنَّه تعالى ، كما جعل كيفية خلقه الحيوان دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد ، ذكر في هذا القسم كيفية خلقه النبات .
فقال تعالى : { والسمآء ذَاتِ الرجع } أي : كالأب ، « والأرض ذات الصدع » كالأم ، وكلاهما من النعم العظام؛ لأن نعم الدنيا موقوفة على ما ينزل من السماء متكرراً ، وعلى ما ينبت من الأرض كذلك ، ثم أردف هذا القسم بالمقسم عليه ، وهو قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } . وهذا جواب القسم ، والضمير في « إنَّه » للقرآن ، أي : إن القرآن يفصل بين الحق والباطل .
وقال القفالُ : يعود إلى الكلام المتقدم والمعنى : ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم يوم تبلى سرائركم قول فصل ، وحق ، والفصل : الحكم الذي ينفصل به الحق عن الباطل ، ومنه فصل الخصومات ، وهو قطعها بالحكم الجزم ، [ ويقال : هذا قول فصل قاطع للشر والنزاع .
وقيل : معناه جد ] لقوله : { وَمَا هوَ بالهزل } . أي : باللعب ، والهزل : ضد الجد والتشمير في الأمر ، يقال : هزل يهزل .
قال الكميتُ : [ الطويل ]
5172- تَجُدُّ بِنَا فِي كُلِّ يَومٍ وتهْزِلُ ... قوله : { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً } ، أي : أنَّ أعداء الله يكيدون كيداً ، أي : يمكرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكراً .
قيل : الكَيْدُ : إلقاء الشبهات ، كقولهم : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا }

[ المؤمنون : 37 ] { مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً } [ ص : 5 ] { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] { فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] .
وقيل : الطعن فيه بكونه ساحراً ، أو شاعراً ، او مجنوناً ، حاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم .
وقيل : قصدهم قتله ، لقوله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } [ الأنفال : 30 ] الآية .
وأما قوله : { وَأَكِيدُ كَيْداً } . أي : أجازيهم جزاء كيدهم .
وقيل : هو ما أوقع الله - تعالى - بهم يوم « بدر » من القتل ، والأسر .
وقيل : استدراجهم من حيث لا يعلمون .
وقيل : كيد الله تعالى ، بنصره وإعلاء درجته صلى الله عليه وسلم تسمية لأحد المقتابلين باسم الآخر ، كقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ؛ وقول الشاعر : [ الوافر ]
5173- ألاَ لاَ يجْهلَنْ أحَدٌ عليْنَا ... فَنجهَلَ فوْقَ جَهْلِ الجَاهِلينَا
وقوله تعالى : { نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } [ الحشر : 19 ] { يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] . قوله : { فَمَهِّلِ الكافرين } . أي : لا تدع بهلاكهم ، ولا تستعجل ، وارض بما تريده في أمورهم ، ثم نسخت بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] .
قوله : { أَمْهِلْهُمْ } . هذه قراءة العامة ، لما كرر الأمر توكيداً خالف بين اللفظين .
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما : « مَهِّلهُمْ » كالأول ، ومهَّل وأمْهَل بمعنى مثل : نزل وأنزل ، والإمهال والتَّمهيل : الانتظار ، يقال : أمهلتك كذا ، أي : انتظرتك لتفعله ، والاسم : المهلة والاستمهال : الانتظار ، والمَهْل : الرِّفقُ والتُّؤدةُ ، وتمهل في أمره : أي : أتاه ، وتمهَّلَ تمهيلاً : اعتدل وانتصب ، والامتهال : سكون وفتور ، ويقال : مهلاً يا فلان ، اي رفقاً وسكوناً .
قوله : { رُوَيْداً } . مصدر مؤكد لمعنى العامل ، وهو تصغير إرواد على الترخيم ، وقيل : بل هو تصغير « رود » كذا قال أبو عبيد .
وأنشد : [ البسيط ]
5174- كَأنَّهُ ثَمِلٌ يَمْشِي على رَوَدِ ... أي : على مهل . واعلم أن « رويداً » : يستعمل مصدراً بدلاً من اللفظ بفعله ، فيضاف تارة ، كقوله تعالى : { فَضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] ، ولا يضاف أخرى ، نحو : رويداً زيداً ويقع حالاً ، نجو : ساروا رويداً ، أي : متمهلين ، ونعت المصدر ، نحو : « ساروا رويداً » ، أي : سيراً رويداً ، وتفسير « رويداً » مهلاً ، وتفسير « رويدك » أمهل؛ لأن الكاف إنمت تدخله إذا كان بمعنى : « افعل » دون غيره ، وإنَّما حُرِّكت الدال لالتقاء الساكنين ، ونصب نصب المصادر ، وهو مصغَّر مأمور به؛ لأنه تصغير الترخيم من « إرواد » : وهو مصدر : « أرود ، يرود » وله أربعة أوجه : اسماً للفعل ، وصفة ، وحالاً ، ومصدراً ، وقد تقدم ذكرها .
قال ابن عباس : - رضي الله عنهما - : « رويداً » أي : قريباً .
وقال قتادةُ : قليلاً .
وقيل : { أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } إلى يوم القيامة ، وإنما صغِّر ذلك من حيث إن كل آت قريب .
وقيل : « أمهلهم رويداً » إلى يوم يرد .
روى الثعلبي عن أبي بن كعبٍ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ { والسمآء والطارق } اعطاهُ اللهُ تعَالى مِنَ الأجْرِ بعَددِ كُلِّ نجمٍ في السَّماءِ عَشْرَ حَسَناتٍ » والله تعالى أعلم .

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)

قوله تعالى : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } . يستحب للقارئ إذا قرأ : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } أن يقول عقيبه : « سبحان ربي الأعلى » كذا جاء في الحديث ، وقال جماعة من الصحابة والتابعين وقال ابنُ عباسٍ والسديُّ : معنى « سبح اسم ربك الأعلى » أي : عظِّم ربك الأعلى ، والاسم صلة ، قصد بها تعظيم المسمى .
كقول لبيد : [ الطويل ]
5175- إلَى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَليْكُمَا .. . .
[ وقيل : نزه ربك عن السوء ، وعما يقوله الملحدون ، وذكره الطبري أن المعنى : نزه اسم ربك الأعلى على أن تسمي به أحداً سواه .
وقيل : المعنى : نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظّم لذكره ، وجعلوا الاسم بمعنى التسمية ] .
قال ابن الخطيب : معنى { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } أي : نزهه عن كل ما لا يليق به في ذاته ، وفي صفاته ، وفي أفعاله ، وفي أسمائه ، وفي أحكامه .
أمَّا في ذاته ، فأن تعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض .
وأما في صفاته ، فأن تعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهية ولا ناقصة .
وأمَّا في أفعاله ، فأن تعتقد أنه سبحانه مالك مطلق لا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور .
وقالت المعتزلة : هو أن تعتقد أن كل ما فعله صواب حسن ، وأنه سبحانه لا يفعل القبيح ، ولا يرضى به ، وأما في أسمائه : فأن لا تذكره - سبحانه وتعالى - إلاَّ بالأسماء التي لا توهم نقصاً بوجه من الوجوه ، سواء ورد الإذن فيها أو لم يرد .
وأمَّا في أحكامه : فهو أن تعلم أن ما كلفنا به ليس لنفعٍ يعود إليه ، بل لمحض المالكية على قولنا ، او لرعاية مصالح العباد على قول المعتزلة .
فصل فيمن استدل بالآية على أن الاسم نفس المسمى
قال ابن الخطيب : تُمسِّك بهذه الآية في أن الاسم نفس المسمى .
وأقول : الخوض في هذه المسألة لا يمكن إلا بعد الكشف عن محل النزاع ، فنقول : إن كان الاسم عبارة عن اللفظ؛ والمسمى عبارة عن الذات ، فليس الاسم المسمى بالضرورة ، فكيف يمكن الاستدلال على ما علم بالضرورة؟ نعم هنا نكتة ، وهي أن الاسم هو اللفظ الدَّال على معنى في نفسه من غير زمن ، والاسم كذلك ، فيكون اسماً لنفسه ، فالاسم هنا نفس المسمى ، فعلى هذا يَرِدُ من أطلق ذلك؛ لأن الحكم بالتعميم خطأ ، والمراد : الذي يدل على أن الاسم نفس المسمى هو أن أحداً لا يقول : سبحان الله وسبحان اسم ربنا ، فمعنى « سبح اسم ربك » سبح ربك ، والربُّ أيضاً اسم ، فلو كان غير المسمى لم يجز أن يقع التسبيح عليه .
وهذا الاستدلال ضعيف ، لما بيَّنا أنه يمكن أن يكون وارداً بتسبيح الاسم ، ويمكن أن يكون المراد : سبح المسمى ، وذكر الاسم صلة فيه ، ويكون المراد : سبح باسم ربك ، كما قال تعالى :

{ فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } [ الواقعة : 74 ] ، ويكون المعنى : سبح بذكر أسمائه .
فصل في تفسير الآية
روى أبو صالحٍ عن ابن عباس - رضي الله عنه - : صلِّ بأمر ربك الأعلى قال : وهو أن يقول : « سُبحانَ ربيّ الأعْلَى » وروي عن عليّ - رضي الله عنه - وابن عباسٍ ، وابن عمر وابن الزبيرِ ، وأبي موسى ، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - كانوا إذا افتتحوا قراءة هذه السورة ، قالوا : « سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلَى » وامتثالاً لأمره في ابتدائها ، فيختار الاقتداء بهم في قراءتهم ، لا أن سبحان ربيّ الأعلى من القرآن ، كما قاله بعض أهل الزَّيْغ .
وقيل : إنَّها في قراءة أبيّ : « سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلَى » .
وروى ابن الأنباري بإسناده إلى عيسى بن عمر عن أبيهِ ، قال : قرأ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في الصلاة : « سَبِّح اسْمَ رَبِّك الأعْلَى » ، ثم قال : سبحان ربي الأعلى ، فلما انقضت الصلاة ، قيل له : يا أمير المؤمنين ، أتزيد هذا في القرآن؟ قال : ما هو؟ قالوا : سبحان ربي الأعلى ، قال : لا ، إنما أمرنا بشيء فقلته .
وعن عقبى بن عامرٍ الجهنيِّ ، قال : « لما نزلت { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » اجْعَلُوهَا في سُجودِكُمْ « .
قال القرطبيُّ : » هذا كله يدل على أن الاسم هو المسمى؛ لأنهم لم يقولوا : سبحان اسم ربي الأعلى « .
وقيل : معناه : ارفع صوتك بذكر ربك؛ قال جرير : [ الكامل ]
5276- قَبَحَ الإلهُ وجُوهَ تَغْلبَ كُلَّمَا ... سَبحَ الحَجيجُ وكبَّرُوا تَكْبِيرَا
قوله : » الأعلى « : يجوز جره : » صفة « ل » ربك « ، ونصبه صفة ل » اسم « ، إلا أن هذا يمنع أن يكون » الذي « صفة ل » ربك « ، بل يتعين جعله نعتاً ل » اسم « ، أو مقطوعاً لئلا يلزم الفصل بين الصفة والموصوف بصفة غيره؛ إذ يصير التركيب ، مثل قولك : جاءني غلامُ هندٍ العاقلُ الحسنة ، فيفصل ب » العاقل « بين » هند « وبين صفتها . وتقدم الكلام في إضافة الاسم إلى المسمى .
قوله : { الذي خَلَقَ فسوى } .
قال ابن الخطيب : يحتمل أن يريد النَّاس خاصة ، ويحتمل أن يريد الحيوان ، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه الله تعالى ، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوهاً :
أحدها : اعتدال قامته ، وحسن خلقته على ما قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه بقوله تعالى : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] .
وثانيها : أن كل حيوان مستعد لنوعٍ واحدٍ من الأعمال فقط ، وأما الإنسان ، فإنه خلقه بحيثُ يمكنه أن يأتي بجميع الأعمال بواسطة الآلات .

وثالثها : أنه - تعالى - هيأه للتكليف ، والقيام بأداء العبادات .
قال بعضهم : خلق في أصلاب الآباء ، وسوَّى في أرحام الأمهات ، ومن حمله على جميع الحيوانات ، فمعناه : أنه أعطى كلَّ حيوان ما يحتاج إليه من آلاتٍ ، وأعضاء ، ومن حمله على جميع المخلوقات كان المراد من التسوية هو أنه - تعالى - قادر على كل الممكنات ، علم بجميع المعلومات ، يخلق ما أراد على وفق إرادته موصوفاً بالإحكام والإتقان ، مبرأ عن النقص والاضطراب .
قوله : { والذي قَدَّرَ فهدى } ؛ قرأ الكسائيُّ وعليٌّ - رضي الله عنه - والسلميُّ : « قدر » بتخفيف الدال ، والباقون : بالتشديد .
والمعنى : قدر كل شيء بمقدار معلوم .
ومن خفف ، قال القفَّال : معناه : ملك فهدى ، وتأويله : انه تعالى خلق كل شيء ، فسوى ، وملك ما خلق ، أي تصرف فيه كيف شاء وأراد هذا هو الملك ، فهداه لمنافعه ومصالحه .
ومنهم من قال : إنهما لغتان بمعنى واحدٍ ، وعليه قوله تعالى : { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون } [ المرسلات : 23 ] بالتشديد والتخفيف ، وقد تقدم .
فصل في معنى الآية
قال مجاهدٌ : قدَّر الشقاوة والسعادة ، وهدى للرشد والضلالة ، وعنه : هدى الإنسان للسعادة والشقاوة ، وهدى الأنعام لمراعيها .
وقيل : قدَّر أقواتهم وأرزاقهم ، وهداهم لمعاشهم وإن كانوا أناساً ، ولمراعيهم إن كانوا وحوشاً .
وعن ابن عبَّاسٍ والسديِّ ومقاتلٍ والكلبيِّ في قوله تعالى : « فَهدَى » : عرف خلقه كيف يأتي الذكرُ الأنثى ، كما قال تعالى في سورة « طه » : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] ، أي : الذكر للأنثى .
وقال عطاء : جعل لكل دابَّة ما يصلحها ، وهداها له .
وقيل : « قدَّر فَهَدى » أي : قدّر لكل حيوانٍ ما يصلحه ، فهداهُ إليه ، وعرفه وجه الانتفاع به ، يقال : إن الأفعى إذا أتت عليها ألفُ سنة عميت ، وقد ألهمها الله تعالى ، أن مسح العينين بورق الرازيانج الغض ، يرد إليها بصرها ، فربما كانت في بريَّة بينها وبين الريف مسيرة أيام ، فتطوى تلك المسافة على طولها ، وعماها ، حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرَّازيانج ، لا تخطئها ، فتحك بها عينها ، فترجع باصرة بإذن الله تعالى .
[ وهدايات الإنسان إلى أن مصالحه من أغذيته وأدويته ، وأمور دنياه ودينه وإلهامات البهائم والطيور ، وهوام الأرض باب ثابت واسع ، فسبحان ربي الأعلى ] .
وقال السديُّ : قدَّر مدة الجنين في الرحم ، ثم هداه إلى الخروج من الرحم .
وقال الفراء : « قدَّى فهَدى » أي : وأضل ، فاكتفى بذكر أحدهما ، كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، ويحتمل أن يكون بمعنى « دَعَا » إلى الإيمان كقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] أي لتدعو وقد دعا الكل إلى الإيمان ] .
وقيل : « فَهَدَى » أي : دلَّهم بأفعاله على توحيده وكونه عالماً قادراً .
واعلم أن الاستدلال بالخلق وبالهدى ، هي معتمد الأنبياء .
قال إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - : { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ }

[ الشعراء : 78 ] .
وقال موسى - عليه الصلاة والسلام - لفرعون : { رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] ، وقال هنا ذلك ، وإنما خصت هذه الطريقة لوضوحها وكثرة عجائبها .
قوله : { والذي أَخْرَجَ المرعى } ، أي : النبات ، لما ذكر سبحانه ما يختص بالناس ، أتبعه بما يختص بسائر الحيوان من النعم ، أي : هو القادر على إنبات العشب ، لا كلأصنام التي عبدتها الكفرةُ ، والمرعى : ما تخرجه الأرض من النبات ، والثمار ، والزروع ، والحشيش .
قال ابنُ عبَّاسٍ : « المرعى » : الكلأ الأخضر .
قوله : { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى } . « غثاء » : إما مفعول ثانٍ : وإما حال .
« والغُثَّاء » : - بتشديد الثاء وتخفيفها - وهو الصحيح ، ما يغترفه السيل على جوانب الوادي من النبات ونحوه؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
5177- كَأنَّ طَميَّاتِ المُجيمِرِ غُدوَةً ... مِن السَّيْلِ والأغْثَاءِ فلكةُ مِغْزَلِ
ورواه الفراء : « والأغثاء » على الجمع ، وفيه غرابة من حيث جمع « فعالاً » على « أفعال » .
قوله تعالى : { أحوى } . فيه وجهان :
أظهرهما : أنه نعت ل « غثاء » .
والثاني : أنه حال من المرعى .
قال أبو البقاء : « فقدَّم بعض الصلة » ، يعني : ان الأصل أخرج المرعى أحوى ، فجعله غثاء .
قال شهابُ الدِّين : ولا يسمى هذا تقديماً لبعض الصلة .
والأحْوَى : « أفعل » من الحُوَّة ، وهي سوادٌ يضرب إلى الخُضْرَة؛ قال ذو الرُّمَّة : [ البسيط ]
5178- لمْيَاءُ فِي شَفتيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وفِي اللِّثاتِ وفي أنْيَابِهَا شَنَبُ
وقد استدلَّ بعض النحاة على وجود بدل الغلط بهذا البيت .
وقيل : خضرة عليها سواد ، والأحْوَى « الظبي؛ لأن في ظهره خطَّين؛ قال : [ الطويل ]
5179- وفِي الحيِّ أحْوَى يَنفضُ المَرْدَ شَادِنٌ ... مُظَاهِرُ سِمْطَيْ لُؤلؤٍ وزَبَرْجَدِ
ويقال : رجل أحْوَى ، وامرأة حوَّاءُ ، وجمعهما » حُوٌّ « نحو : أحْمَر وحَمْراء وحُمْر ، قال القرطبيُّ : » وفي الصِّحاح « : » والحُوَّةُ : حمرة الشفة ، يقال : رجل أحْوَى وامرأة حوَّاء وقد حويتُ ، وبعير أحْوَى : إذا خالط خضرته سواد وصُفْرَة ، قال : وتصغير أحْوَى : أحَيْوٍ في لغة من قال : أسَيْود « .
قال عبد الرحمن بن زيدٍ : هذا مثلٌ ضربه الله تعالى للكُفَّار لذهاب الدنيا بعد نضارتها ، والمعنى : أنه صار كذلك بعد خضرته .
وقال أبو عبيدة : فجعله أسود من احتراقه وقدمه ، والرطب إذا يبس اسود .

سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)

قوله « { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } ، قال الواحدي : » سَنُقْرِئُكَ « : أي : سنجعلك قارئاً ، أي : نؤهلك للقراءة فلا تنسى ما تقرأه ، أي : نجعلك قارئاً للقرآن فتحفظه ، فهو نفي ، أخبر الله - تعالى - أن نبيه صلى الله عليه وسلم لا ينسى .
وقيل : نهي والألف للإشباع [ وقد تقدم نحو من هذا في سورة يوسف وطه ] .
ومنع مكيٌّ أن يكون نهياً؛ لأنه لا ينهى عما ليس باختياره ، وهذا غير لازم ، إذ المعنى : النهي عن تعاطي أسباب النسيان ، وهو الشائع : وقيل : هذا بشري من الله تعالى ، بشره تعالى بأن جبريل - عليه الصلاة والسلام - لا يفرغ من آخر الوحي ، حين يتكلم هو بأوله لمخافة النسيان ، فنزلت هذه الآية؛ فلا تنسى بعد ذلك شيئاً .
قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } فيه أوجه :
أحدها : أنه مفرَّغ ، أي : إلا ما شاء الله أن ينسيكه ، فإنك تنساه ، والمراد رفع تلاوته ، وفي الحديث : » أنَّهُ كَانَ يُصبحُ فِيَنْسَى الآيَاتِ « ، لقوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ] .
وقيل : إن المعنى بذلك النُّدْرة والقلَّة .
قال ابن الخطيب : يشترط أن لا يكون ذلك القليل من الواجبات بل من الآداب والسنن ، فإنَّه لو نسي من الواجبات ، فلم يتذكره أدى ذلك إلى الخلل في الشرع ، وهو غير جائز ، كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم أسقط آية في صلاته ، فحسب أبيٌّ أنها نُسختْ ، فسأله ، فقال صلى الله عليه وسلم : نَسِيتُها .
وقال الزمخشريُّ : والغرض نفي النسيان رأساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله ، ولم يقصد أستثني شيئاً ، وهواستعمال القلة في معنى النفي » انتهى .
وهذا القول سبقه إليه الفراء ومكي .
قال الفراء ، وجماعة معه : هذا الاستثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى ، وليس شيى أبيح استثناؤه .
قال أبو حيان : « وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله تعالى ، ولا في كلام فصيح ، وكذلك القول بأن » لا « للنفي ، والألف فاصلة » انتهى .
وهذا الذي قاله أبو حيان : لم يقصده القائل بكونه زائداً محضاً ، بل المعنى الذي ذكره ، وهو المبالغة في نفي النسيان ، أو النهي عنه .
وقال مكيٌّ : « وقيل : معنى ذلك إلا ما شاء الله ، وليس يشاء الله أن تنسى منه شيئاً ، فهو بمنزلة قوله تعالى ، في سورة » هود « في الموضعين : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } [ هود : 107 ، 108 ] وليس يشاء جلَّ ذكره ترك شيء من الخلود ، لتقدم مشيئته لهم بالخلود » .
وروي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات صلى الله عليه وسلم .

وقيل : هو استثناء من قوله تعالى : { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى } [ الأعلى : 5 ] . نقله مكي .
والمعنى : ما شاء الله أن يناله بنو آدم ، والبهائم ، فإنه لا يضير ذلك .
قال شهابُ الدين : وهذا ينبغي ألاَّ يجوز ألبتَّة .
قال القرطبيُّ : « قيل : إلا ما شاء الله أن ينسى ، ثم يذكر بعد ذلك ، فإذا قد ينسى ، ولكنه يتذكر ولا ينسى نسياناً كلياً » .
[ وقيل هذا النسيان بمعنى النسخ إلا ما شاء الله ينسخه ، والاستثناء نوع من النسخ .
وقيل : النسيان بمعنى الترك أي : يعصمك من أن تترك العمل إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه إياه ، فهذا في نسخ العمل ، والأول في نسخ القراءة ، ولا للنفي لا للنهي وقيل للنهي ، وإنما أثبتت الياء لرؤوس الآي ، والمعنى : لا تغفل قراءته وتكراره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة ، والأوَّل هوالمختار؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتاً معلوماً .
وأيضاً فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف وعليها القراءات .
وقيل : معناه : إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله ] .
فصل في كيفية تعليم القرآن
ذكر في كيفية هذا التعليم والإقراء وجوهاً :
الأول : أن جبريل - عليه الصلاة والسلام - سيقرأ عليك القرآن مراتٍ ، حتى تحفظه حفظاً لا تنساه .
وثانيها : أنَّا نشرحُ صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظه بالمرة الواحدة حفظاً لا تنساه .
وثالثها : أنه تعالى لما أمره صلى الله عليه وسلم في أول السورة بالتسبيح ، فكأنه تعالى قال : واظب على ذلك ، ودُمْ عليه ، فإنَّا سنقرئك القرآن الجامع لعلوم الأوَّلين ، والآخرين ، ويكون فيه ذكرك ، وذكر قومك ، وتجمعه في قلبك .
{ وَنُيَسِّرُكَ لليسرى } وهوالعمل به .
فصل في الدلالة على المعجزة
هذه الآية تدل على المعجزة من وجهين :
الأول : أنه صلى الله عليه وسلم كان رَجُلاً أميًّا ، فحفظه هذا الكتاب المطول من غير دراسة ، ولا تكرار ، ولا كتابة ، خارقة للعادة .
والثاني : أنه إخبار عن الوقوع في المستقبل ، وقد وقع ، فكان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً .
فصل في المراد بالآية
قال بعضهم : المراد بقوله تعالى : { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } أمور :
أولها : التبرك بهذه الكلمة لقوله تعالى : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الكهف : 23 ، 24 ] ، فكأنه تعالى يقول : إني عالم بجميع المعلومات ، ثم بعواقب الأمور على التفصيل ، ومع ذلك لا أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة ، فأنت وأمتك يا محمد أولى بها ، وهذا بناء على أن الاستثناء غير حاصل في الحقيقة ، وأنه صلى الله عليه وسلم لم ينس ذلك شيئاً ، كما قاله ابن عبَّاس والكلبي وغيرهما .
وثانيها : قال الفراء : إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا أنَّ المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسياً كذلك لقدر عليه ، كقوله تعالى :

{ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ الإسراء : 86 ] ، ثم إنا نقطع أنه تعالى ما شاء ذلك ، ونظيره قوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 6 ] مع أنه صلى الله عليه وسلم ما أشرك ألبتَّة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى ، بعرفه قدرته ، حتى يعلم أنَّ عدم النِّسيان من فضل الله ، وإحسانه ، لا من قوته .
وثالثها : أن الله تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما ينزل عليه من الوحي ، أن يكون ذلك هو المستثنى ، فلا جرم كان يبالغ في التثبُّت ، والتحفُّظ في جميع المواضع ، وكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه صلى الله عليه وسلم عى التيقُّظ في جميع الأحوال .
قوله : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى } الجَهْرُ : هو الإعلان من القول والعمل ، « وَمَا يَخْفَى » من السرّ .
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما في قلبك ونفسك .
وقال محمد بن حاتمٍ : يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها .
وقيل : الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك ، « ومَا يَخْفَى » هو ما نسخ في صدرك .
فصل في الكلام على « ما »
« ما » اسمية ، ولا يجوز أن تكون مصدرية ، لئلا يلزم خلو الفعل من فاعل ، ولولا ذلك لكان المصدرية أحسن ليعطف مصدر مؤول على مصدر صريح .
قوله : { وَنُيَسِّرُكَ لليسرى } : عطف على « سنُقْرِئُكَ فلا تَنْسَى » ، فهو داخل في حيز التنفيس ، وما بينهما من الجملة اعتراض .
واليسرى : هي الطَّريقة اليسرى ، وهي أعمال الخير ، والتقدير : سنقرئك فلا تنسى ، ونوفقك للطريقة التي هي أسهل وأيسر ، يعني في حفظ القرآن .
[ قال ابن مسعود : اليسرى الجنة أي نيسرك للعمل المؤدي إلى الجنة وقيل نهوّن عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به وقيل نوفقك للشريعة لليسرى وهي الحنيفية السهلة السمحة ، قال الضحاك : ] فإن قيل : المعهود في الكلام أن يقال : يسر الأمر لفلان ، ولا يقال : يسر فلان للأمر .
فالجواب أن هذه العبارة كأنها اختيار القرآن هنا وفي سورة « والليل » ، فكذا هي اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : « اعمَلُوا فكُلٌّ ميسَّرٌ لمَا خُلقَ لهُ » ، وفيه لطيفة : وهي أن الفاعل لا يترجح عند الفعل عن الترك ، ولا عكسه ، وإلاَّ لمرجح ، وعند ذلك المرجح يجب الفعل ، فالفاعل إذن ميسر للفعل ، إلاَّ أن الفعل ميسر للفاعل ، فذلك الرجحان هو المسمى ب « التيسير » .

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)

قوله : { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى } . أي : فعظ قومك يا محمد بالقرآن { إِن نَّفَعَتِ الذكرى } أي : الموعظة ، و « إن » شرطية ، وفيه استبعاد لتذكرهم؛ ومنه قوله : [ الوافر ]
5180- لَقدْ أسْمعْتَ لوْ نَاديْتَ حَيًّا ... ولكِنْ لا حَياةَ لِمَنْ تُنَادِي
وقيل : « إن » بمعنى : « إذا » كقوله : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] أي : إذا كنتم مؤمنين .
وقيل : هي بمعنى : « قد » ذكره ابن خالويه وهو بعيد .
وقيل : بعده شيء محذوف ، تقديره : إن نفعت الذكرى ، وإن لم تنفع ، كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، قاله الفراء والنحاس والجرجاني والزهراوي .
وقيل : إنه مخصوصٌ في قوم بأعيانهم .
وقيل : « إن » بمعنى : « ما » أي : فذكر ما نفعت الذِّكرى ، فتكون « إن » بمعنى : « ما » لا بمعنى : الشرط؛ لأن الذكرى نافعة بكل حال . قاله ابن شجرة .
فصل في فائدة هذا الشرط
قال ابنُ الخطيب : إنه صلى الله كان مبعوثاً إلى الكل ، فيجب عليه تذكيرهم سواء إن نفعت الذكرى ، أو لم تنفعهم ، فما فائدة هذا الشرط ، وهو قوله : { إِن نَّفَعَتِ الذكرى } والجواب من وجوه : إمَّا أن يكون المراد : التنبيه على أشرف الحالين ، وهو وجود النفع الذي لأجله شرعت الذكرى ، قال : والمعلق ب « إن » على الشيء لا يلزمُ أن يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء ، ويدل عليه آيات منها هذه الآية ، ومنها قوله تعالى : { واشكروا للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ البقرة : 172 ] ، ومنها قوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ } [ النساء : 101 ] ، فإن القصر جائز عند الخوف وعدمه ، ومنها قوله تعالى : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله وَتِلْكَ حُدُودُ الله } [ البقرة : 230 ] ، والمراجعة جائزة بدون هذا الظنِّ ، وإن كان كذلك ، فهذا الشرط فيه فوائد منها ما تقدم ، ومنها : تعقل ، وهو تنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم على أنهم لا تنفعهم الذكرى ، أو يكون هذا في تكرير الدعوة ، فأما الدعاء الأول فعام .
فإن قيل : الله - تعالى - عالم بعواقب الأمور بمن يؤمن ، ومن لا يؤمن ، والتعليق بالشرط ، إنما يحسن في حق من ليس بعالم .
فالجواب : أن أمر البعثة والدعوة شيء ، وعلمه تعالى بالمغيبات ، وعواقب الأمور غيره ، ولا يمكن بناء أحدهما على الآخر ، كقوله تعالى لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] ، وهو تعالى عالم بأنه لا يتذكر ولا يخشى .
فإن قيل : التذكير المأمور به ، هل هو مضبوط بعدد أو لا؟ وكيف يكون الخروج عن عهدة التذكير؟ .
والجواب أن المعتبر في التذكير والتكرير هو العرف .
قوله : { سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى } ، أي : يتّقي الله ويخافه . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - نزلت في ابن أم مكتوم .

وقيل : في عثمان بن عفان قال الماوردي : وقد يذكره من يرجوه إلا أنَّ تذكرة الخاشي أبلغ من تذكرة الراجي؛ فلذلك علقها بالخشية والرجاء قيل المعنى : عَمِّمْ أنْتَ التذكير والوعظ وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى ، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء . حكاه القشيري ، ولذلك علقها بالخشية دون الرجاء ، وإن تعلَّقت بالخشية والرجاء .
فإن قيل : التذكير إنما يكون بشيء قد علم ، وهؤلاء لم يزالوا كفاراً معاندين؟ .
فالجواب : أن ذلك لظهوره وقوة دليله ، كأنه معلوم ، لكنه يزول بسبب التقليد والعناد ، فلذلك سمي بالتذكير ، والسين في قوله : « سيذكر » يحتمل أن تكون بمعنى : « سوف » ، و « سوف » من الله تعالى واجب ، كقوله تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] ، ويحتمل أن يكون المعنى : أن من خشي ، فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التذكير والنَّظر .
قوله : { وَيَتَجَنَّبُهَا } أي : الذِّكرى ، يبعد عنها الأشقى ، أي : الشقي في علم الله تعالى ، لمَّّا بيَّن من ينتفع بالذكرى بيَّن بعده من لا ينتفع بها وهو الكافر الأشقى .
قيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة .
{ الذى يَصْلَى النار الكبرى } أي : العظمى ، وهي السفلى من طباق النَّار ، قاله الفراء .
وعن الحسن : « الكُبْرَى » : نَارُ جهنَّم ، والصُّغرى : نارُ الدُّنْيَا .
وقيل : في الاخرة نيران ودركات متفاضلة ، كما في الدنيا ذُنُوبٌ ومعاصي متفاضلة ، فكما أنَّ الكافر أشقى العصاة ، فكذلك يصلى أعظم النيران .
فإن قيل : لفظ الأشقى لا يستدعي وجود الشقي فكيف حال هذا القسم؟ .
فالجواب ان لفظ « الأشقى » لا يستدعي وجود الشقي إذ قد يرد هذا اللفظ من غير مشاركة ، كقوله : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [ الفرقان : 24 ] ، « ويتَجنَّبُهَا الأشْقَى » ، كقوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] .
وقال ابن الخطيب : الفرق ثلاث : العارف ، والمتوقف ، والمعاند ، فالسعيد : هوالعارف ، والمتوقف له بعض الشقاء ، والأشقى : هو المعاند .
قوله : { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } ؛ لا يموت فيستريح ، ولا يحيى حياة تنفعه ، كقوله تعالى : { لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا } [ فاطر : 36 ] .
فإن قيل : هذه الآية تقتضي أن ثمَّة حالة غير الحياة والموت ، وذلك غير معقول؟ .
فالجواب : قال بعضهم : هذا كقول العرب للمبتلى بالبلاء الشديد : لا هو حي ، ولا هو ميت .
وقيل : إن نفس أحدهم في النار تمرُّ في حلقه ، فلا تخرج للموت ، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم ، فيحيى .
وقيل : حياتهم كحياة المذبوح وحركته قبل مفارقة الروح ، فلا هو حي؛ لأن الروح لم تفارقه بعد ، ولا هو ميت؛ لأن الميت هو الذي تفارق روحه جسده . و « ثمّ » للتراخي بين الرتب في الشدة .
قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } أي : صادف البقاء في الجنة ، أي : من تطهَّر من الشِّركِ بالإيمان قاله ابن عباسٍ وعطاءٌ وعكرمةُ .

وقال الربيعُ والحسنُ : من كان عمله زاكياً نامياً وهو قول الزجاج .
وقال قتادةُ : « تزكَّى » ، أي : عمل صالحاً .
وعن عطاءٍ ، وأبي العالية : نزلت في صدقة الفطر .
قال ابن سيرين : { قد أفلح من تزكَّى ، وذكر اسم ربه فصلَّى } قال : خرج فصلَّى بعد ما أدى .
والأول أظهر؛ لأن اللفظ المعتاد أن « يقال » في المال : زكَّى ، ولا يقال : تزكَّى ، قال تعالى : { وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ } [ فاطر : 18 ] .
وقال أبو الأحوصِ وعطاءٌ : المراد بالآية؛ زكاة الأموال كلها .
قال بعضهم : لا أدري ما وجه هذا التأويل؛ لأن هذه السورة مكية ، ولم يكن ب « مكة » عيد ، ولا زكاة فطر .
قال البغويُّ : يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحكم ، كقوله تعالى : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } [ البلد : 2 ] ، والسورة مكية ، وظهر أثر الحل يوم الفتح ، قال صلى الله عليه وسلم : « أحِلَّتْ لِي ساعةً مِنْ نَهارٍ » .
وقيل : هذا في زكاة الأعمال ، لا زكاة الأموال ، أي : زكى أعماله من الرياء [ والتقصير ] وروى جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « قَدْ افْلحَ مَنْ تَزَكَّى؛ أي : شهد أن لا إله إلا الله ، وخلع الأنداد ، وشهد أنِّي رسُول اللهِ » وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وروى عطاءٌ عن ابن عباسٍ ، قال : نزلت في عثمان - رضي الله عنه - قال : كان ب « المدينة » منافق كانت له نخلة ب « المدينة » ، مائلة في دار رجل من الأنصار ، إذا هبت الرياح أسقطت البُسْر والرطب في دار الأنصاري ، فيأكل هو وعياله ، فخاصمه المنافق ، فشكاه الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى المنافق ، وهو لا يعلم بنفاقه ، فقال : إنَّ أخاك الأنصاريَّ ذكر أنَّ بُسركَ ورُطبَكَ يقعُ إلى منزله ، فيَأكلُ هُوَ وعِيالهُ ، فهل لَكَ أنْ أعْطيكَ نَخْلَةً في الجنَّة بدلها؟ فقال : أبيع عاجلاً بآجلٍ؟ لا أفعلُ ، فذكروا أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أعطاه حائطاً من نخل بدل نخلته ، ففيه نزلت : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } ، ونزلت في المنافق : { وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى } .
وقال الضحاكُ : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
قوله : { وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى } .
قال ابن عباس والضحاكُ : وذكر اسم ربه في طريق المصلى ، فصلى صلاة العيد .
قال القرطبيُّ : « والسورة مكية في قول الجمهور ، ولم يكن ب » مكة « عيد » .
قل القشيريُّ : ولا يبعد أن يكون أنثى على من يمتثل أمره في صدقة الفطر ، وصلاة العيد فيما يأمر به في المستقبل .
قوله : { وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ } ، أي : وذكر ربه .
وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما : معناه ذكر معاده وموقفه بين يدي الله تعالى ، فعبده وصلى له .
وقيل : ذكر اسم ربه : التكبير في أوَّل الصلاة؛ لأنها لا تنعقد إلا بذكره ، وهو قوله : « اللهُ أكبر » ، وبه يحتجُّ على وجوب تكبيرة الإحرام وعلى أنَّها ليست من الصلاة؛ لأنَّ الصلاة معطوفة عليها ، وفيه حُجَّةٌ لمن قال : الافتتاح جائز بكل اسم من أسماء الله تعالى .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : « هذا في الصلوات المفروضة » .
روى عبد الله رضي الله عنه : « من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له » .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75