كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

{ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ } [ الإنسان : 29 ] وأُسْرَة الرَّجْل : من يتقوَّى بهم ، والأُسْر : احتباس البَوْل ، ورجل مَأْسُوةر : أصابه ذلك؛ وقالت العربُ : أسَرَ قَتَبَهُ : أي : شَدَّه؛ قال الأعشىك [ المتقارب ]
636 وَقَيَّدَنِي الشِّعْرُ في بَيْتِهِ ... كَمَا قَيَّدَ الآسِرَاتُ الحَمَارَا
يريد : أنه بلغ في الشعر النّهاية؛ حتى صار له كالبيت الذي لا يَبْرَحُ عنه .
قوله : « تُفَادُوهُمْ » قرأ نافع وعاصم والكسائيك « تُفَادُوهُمْ » ، وهو جواب الشرط ، فلذلك حذف نون الرفع ، وقرأ الباقون : « تَفْدُوهُمْ » ، وهل القراءتان بمعنى واحد ، ويكون معنى « فَاعَل » مثل معنى « فَعَل » المجرد مثل : « عاقبت وسَافرت » أو بينهما فرق؟ خلاف مشهور ، ثم اختلف الناس في ذلك الفرق ما هو؟
فقيلك معنى « فَدَاه » أعطى فيه فِدَاء من مال ، و « فَادَاهُ » : أعطى فيه أسيراً مثله؛ وأنشد : [ الطويل ]
637 وَلَكِنَّنِي فَادَيْتُ أُمِّيَ بَعْدَمَا ... عَلاَ الرَّأْسَ مِنْهَا كَبْرَةٌ وَمَشِيبُ
وهذا القول يرده قوله العباس رضي الله عنه : فَادَيْتُ نفسي وفاديت عقيلاً ، ومعلوم أن لم يُعْط أسيره في مقابلة نفسه ولا وَلَدِهِ .
وقيل : تفدوهم بالصّلح ، وتفادوهم بالعنف .
وقيل : تفدوهم تعطوا فديتهم ، وتفادوهم تطلبون من أعدائكم فِدْيَةَ الأسير الذي في أيديكم؛ ومنه : [ الوافر ]
638 قِفِي فَادِي أَسِيرَكِ إنَّ قَوْمِي ... وَقَوْمَكِ مَا أَرَى لَهُمُ اجْتِمَاعَا
والظاهر أن « تفادوهم » على أصله من أثنين ، وذلك أن الأسير يعطى المال والأسير يعطى الإطلاق ، وتفدوهم على بابه من غير مُشَاركة ، وذلك أن الفريقين يَفدي صاحبه من الآخر بمال أو غيره ، فالفعل على الحقيقة من واحد .
و « الفِدَاء » ما يفتدى به ، فإذا كسروا فاءه ، جاز فيه وجهان :
المدُّ والقَصْر ، فمن المَدِّ قول النابغةك [ البسيط ]
639 مَهْلاً فِدَاءَ لَكَ الأَقْوَامُ كُلُّهُمُ ... وَمَا أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ
ومن القصر قوله : [ الطويل ]
640 . ... فِدَى لَكَ مِنْ رَبٍّ طَرِيفِي وتَالِدِي
ومن العرب من يكسر : « فدى » مع لام الجر خاصّة ، نحو : فِدّى لَكَ أَبي وأمي « يريدون الدعاء له بذلك ، وفدى يتعدّيان لاثنين أحدهما بنفسه ، والآخر بحرف جر ، تقول : » فديت أو فاديت الأسير بمال « ، وهومحذوف في الآية الكريمة .
قال ابن عطية : وحَسُنَ لفظ الإتْيَان من حيث هو في مُقابلة الإخراج ، فيظهر التَّضادّ المقبح لفعلهم في الإخراج .
يعني : أنه لايناسب من أسأتم إليه بالإخراج من داره أن تحسنوا إليه بالفداء .
فصل فيما أخذ الله على بني إسرائيل
قال السّدي : إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ألاَّ يقتل بعضهم بعضاً ، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم ، وأيّما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه ، وكانت » قريظة « حلفاء » الأوس « ، » والنضير « حلفاء » الخزرج « ، وكانوا يقتلون في حرب سِنِيْنَ ، فيقاتل » بنو قريظة « مع حلفائهم ، » وبنو النضير « مع حلفائهم ، وإذا غلبوا خربوا ديارهم ، وأخرجوهم منها ، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه ، وإن كان الأسير من عدّوهم ، فتعيّرهم العرب ، ويقولون : كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا : إنا أمرنا أن نفديهم ، فيقولون : فلم تقاتلونهم؟ قالوا : إنا نستحي أن تذلّ حلفاؤنا ، فعيّرهم الله تعالى ، فقال : » ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ « .

وفي الآية تقديم وتأخير ، ونظمها : وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ، وهو محرم عليكم إخراجهم ، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم فكان الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود : ترك القتال ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم ، وفداء أسرائهم ، فأعرضوا عن الكل إلا الفداء ، فقال عز وجل : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [ البقرة : 85 ] .
وقال مجاهد : يقول : إن وجدته في يد غيرك فديته ، وأنت تقتله بيدك .
قوله : « وَهُوَ مُحَرَّمٌ » فيه وجوه .
والظاهر منها : أن يكون « هو » ضمير الشأن والقصّة ، فيكون في محلّ رفع بالابتداء ، و « محارم » خبر مقدم ، وفيه ضمير قائم مقام الفاعل ، و « إخراجهم » مبتدأ مؤخر ، والجملة من هذه المبتدأ والخبر في محل رفع خبراً لضمير الشأن ، ولم تحْتَجْ هنا إلى عائد على المبتدأ؛ لأن الخبر نفس المبتدأ أو عينه .
وهذه الجملة مفسرة لهذا الضمير ، وهو أحد المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده وقد تقدّمت ، ولسي لنا من الضَّمائر ما يفسَّر بجلمة غيرُ هذا الضمير ، ومن شرطه أن يؤتى به في مَوَاضع التَّعْظيم ، وأن يكون معمولاً للابتداء أو نواسخه فقط ، وأن يفسر بجملة مصرح بجزيئها ، ولا يُتبع بتابع من التَّوَابع الخمسة ، ويجوز تذكيره وتأنيثه مطلقاً خلافاً لما فصل ، فتذكيره باعتبار الأمر والشأن ، وتأنيثه باعتبار القصّة فتقول :
« هو زيد قائم » ، ولا يثنى ولا يجمع ، ولا يحذف إلا في مواضع تذكر إن شاء الله تعالى ، والكوفيُّون يسمونه ضمير المَجْهُول ، وله أحكام كثيرة .
الوجه الثاني : أن يكون « هو » ضمير الشأن أيضاً ، و « محرم » خبره ، و « أخراجهم » مرفوع على أنه مفعول لَمْ يسمّ فاعله . وهذا مذهب الكوفيين ، وإنما فَرُّوا من الوجه الأول؛ لأن عندهم أن الخبر المحتمل ضميراً مرفوعاً لا يجوز تقديمه على المبتدأ ، فلا يقال : قائم زيد على أن يكون « قائم » خبراً مقدماً ، وهذا عند البصريين ممنوع لما عرفته أن ضمير الشأن لا يفسّر إلا بجملة ، والاسلا المشتق الرافع لما بعده من قبيل المُفْرَدَات لا الجمل ، فلا يفسر به ضمير الشَّأن .

الثَّالث : أن يكون « هو » كناية عن الإخْرَاج ، وهو مبتدأ ، و « محرم » خبره ، و « إخراجهم » بدل منه ، وهذا على أحد القولين .
وهو جواز إبدال الظَّاهر من المضمر قبله ليفسره ، واستدلّ من أجاز ذلك بقوله : [ الطويل ]
641 عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ ... في الْقَوْمِ حَاتِماً
عَلَى جُودِهِ لَضَنَّّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ ... ف « حَاتم » بَدلٌ عن الضمير في « جُودِهِ » .
الرابع : أن يكون « هو » ضمير الإخراج المَدْلُولَ عليه بقوله : « وَتُخْرِجُونَ » و « مُحَرَّمٌ » خبره ، و « إخْرَاجُهُمْ » بدل من الضمير المستتر في « محرم » .
الخامس : كذلك ، إلا أن « أخراجهم » بدلٌ من « هو » . نقل هذين الوجيهن أبو البقاء ، وفي هذا الأخير نظر ، وذلك أنك إذا جعلت « هو » ضمير الإخراج المدلول عليه بالفعل كان الضمير مفسراً به نحو : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] فإذا أبدلت منه « أخراجهم المَلْفُوظَ به كان مَفسّراً به أيضاً ، فيلزم تفسيره بشيئين ، إِلاَّ أن يقال : هذان الشيئان في الحقيقة شيء واحد فيُحتمل ذلك .
السادس : أجاز الكوفيون أن يكن » هو « عماداً ، وهو الذي يسميه البصريون ضمير الفَصْل قُدّم مع الخبر ، والأصل : وإخراجهم هو محرم عليكم ، و » إخراجهم « مبتدأ ، و » محرم « خبره ، و » هو « عِمَاد ، فلما قدم الخبر قدم معه .
قال الفراء : لأن الواو هنا تطلب الاسم ، وكل موضع نطلب فيه الاسم فالعماد جائز وهذا عند البصريين ممنوع من وجهين :
أحدهما : أنَّ الفصل عندهم من شرطه أن يقع بين معرفتين أو بين معرفة ونكرة قريبة من المعرفة في امتناع دخول ألأ ك » أفعل من « ومثل وأخواتها .
والثاني : أن الفَصْل عندهم لا يجوز تقديمه مع ما اتصل به .
والسابع : قال ا بن عطية : وقيل في » هو « : إنه ضمير الأمر ، والتقدير : والأمر محرم عليكم ، وإخراجهم في هذا القول بدل من » هو « .
وقال أبو حَيَّان : وهذا خطأ من وجهين :
أحدهما : تفسير ضمير الأمر بمفرده ، وذلك لا يجيزه بَصْري ولا كُوفي ، أما البصري فلا شتراطه جملة ، وأما الكوفي فلا بد أن يكون المفرد قد انتظم منه [ نحو » ظننته قائماً الزيدان « .
والثاني : أنه جعل » إخراجهم « ] بدلاً من ضمير الأمر ، وقد تقدم » أَلاَّ يُتْبَع بِتَابعٍ « .
الثامن : قال ابن عطيّة أيضاً : وقيل : هو فاصلة ، وهذا مذهب الكوفيين ، وليست هنا بالتي هي عماد ، و » مُحَرّم « على هذا ابتداء ، و » إخراجهم « خبر .

قال : أبو حيان والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب ، أي : يكون « إخراجهم » متبدأ مؤخراً ، « محرم » خبر مقدم قّدِّم مع الفَصْل كما تقدم ، وهو الموافق للقواعد ، ولا يلزم منه الإخبار بمعرفة عن نكرة من غير ضرورة تدعو إلى ذلك .
التاسع : نقله ابن عطيّة أيضاً عن بعضهم أن « هو » الضمير المقدر في « محرم » قدم وأَظْهِر .
قال الشيخ : وهذا ضعيف جدّاً؛ إذ لا ضرورة تدعو إلى انفصال هذا الضمير بعد اسْتِتَارِهِ وتقديره ، وأيضاً فإنه يلزم خلوّ اسم المفعول من ضمير؛ إذ على هذا القول يكون « محرم » خبراً مقدماً ، و « إخراجهم » متبدأ مؤخراً ولا يوجد اسم فاعل ، ولا مفعول خالياً من الضمير إلاَّ إذا رفع الظَّاهر ، ثم يبقى هذا الضمير لا ندري ما إعرابه ، إذ لا يجوز مبتدأ ، ولا فاعلاً مقدماً وفي قول الشيخ : « يلزم خُلُّوه من ضمير » نظر؛ إذ هو ضمير مرفوع به ، فلم يخل منه غاية ما في الباب أنه انفصل للتقديم .
وقوله : « لا ندري ما إعرابه » ؟ قد دري ، وهو الرفع بالفاعلية .
وقوله : والفاعل لا يقدم « ممنوع » فإن الكوفي يجيز تقديم الفَاعِلِ ، فيحتمل أن يكون هذا القاتل يرى ذلك ، ولا شكّ أن هذا قول رديء منكر لا ينبغي أن يجوز مثله في الكلام ، فكيف في القرآن! فالشيخ معذور ، والعجب من ابن عطية كيف يورد هذه الأشياء حاكياً لها ولم يُعَقِّبْها بنكير؟
وهذه الجملة يجوز أن تكون محذوفةً من الجمل المذكورة قبلها ، وذلك أنه قد تقدم ذكر أربعة أشياء كلها محرمة وهي قوله : تقتلون أنفسكم وتخرجون [ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ ] ، وتظاهرون ، وتفادون فيكون التقدير : تقتلون أنفسكم وهو محرّم عليكم قتلها وكذلك مع البواقي .
ويجوز أن يكون خصّ الإخراج بذكر التحريم ، وإن كانت كلها حراماً ، لما فيه من معرَّة الجلاء والنّفي الذي لا ينقطع شرّه إلا بالموت والقَتْل ، وإن كان أعظمَ منه إلاَّ أن فيه قطعاً للشر ، فالإخراج من الدِّيَار أصعب الأربعة بهذا الاعتبار .
و « المحرم » : الممنوع ، فإن التَّحريم هو المَنْع من كذا ، والحَرَام : الشَّيء الممنوع منه يقال : حَرَامٌ عليك وسيأتي تحقيقه في « الأنبياء » إن شاء الله تعالى .
فصل في المراد بالكفر والإيمان في الآية
اختلف العلماء في قوله : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } قال ابن عباس وقتادة وابن جريج : « أخراجهم كفر ، وفداؤهم إيْمَان؛ لأنه ذمهم على المُنَاقضة ، إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض » .
فإن قيل : هَبْ أن ذلك الأخراج كان معصيةً ، فَلِمَ سماها كفراً؟ مع أنه ثبت أن العاصي لا يكفر .
فالجواب : لعلّهم صرحوا بأن ذلك الإخراج غير واجب مع أنّ صريح التوراة كان دالاً على وجوبه .

الثاني : أن المراد تمسّكهم بنبوة موسى عليه الصلاة والسلام مع التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم مع أن الحُجّة في أمرها سواء .
قوله : { فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ } « ما » يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون نافية ، و « جزاء » متبدأ ، و « إلاَّ خِزْيٌ » خبره وهو استثناء مفرّغ وبَطَلَ علمها عند الحِجَازيين لانتقاض النفي ب « إلاّ » ، وفي ذلك خلاف وتفصيل وتلخيصه : أن خبرها الواقع بعد « إلا » جمهور البصريين على وجوب رفعه مطلقاً سواءً كان هو الأول ، أمر منزلاً منزلته ، أو صفة أو لم يكن ، ويأولون قوله : [ الطويل ]
642 وَمَا الدَّهْرُ إِلاَّ مَنْجَنُوناً بِأَهْلِهِ ... وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إِلاَّ مُعَذَّبَا
على أن الناصب ل « منجنوناً » و « معذباً » محذوف ، أي : يدور دَوَرَان منجنون ، ويعذب مُعَذَّباً تّعْذِيباً .
وأجاز يونس النصب مطلقاً ، وإن كان النَّحَّاس نقل عدم الخلاف في رفع ما زيد إِلاَّ أخوك فإن كان الثَّاني منزلاً منزلة الأوّل نحو : « ما أنت إِلاَّ عمامتك تحسيناً وإلاَّ رداءك تزييناً » .
فأجاز الكوفيون نصبه ، وإنْ كان صفة نحو « ما زيد إلا قائم » فأجاز الفراء أيضاً .
والثانيك أن تكون استفهاميةً في محلّ رفع بالابتداء ، و « جزاء » خبره ، و « إِلاَّ خِزْي » بدل من « جزاء » نقله أبو البَقَاءِ .
و « الجزاء » : المقابلة خَيْراً كان أو شَرَّا .
و « مَنْ » موصولة ، أو نكرة موصوفة ، و « يفعل » لا محلّ لها على الأول ، ومحلها الجر على الثاني .
« مِنْكُم » في محلّ نصب على الحال من فاعل « يفعل » ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : يفعل ذلك حال كونه منكم .
و « الخِزْي » : الهَوَان والذّل والمَقْت ، يقال : أخزاه الله إذا مَقَتَهُ وأبعده ، ويقال : خَزِيَ بالكسر يَخْزى خِزْياً فهو خَزْيَان ، وامرأة خَزْيَا ، والجمع خَزَايَا . وقال ابن السِّكِّيت : الخزي الوقوع في بَليَّةٍ ، وخَزِيَ الرجل في نفسه يخزى خزايةً إذا استحيا .
وإذا قيل : أخْزَاه الله ، كأنه قيل : أوقعه موقعاً يُستحيى منه ، فأصله على هذا الاستحياء .
قوله : « فِي الْحَيَاةِ » يجوز فيه وَجْهَان :
أحدهما : أن يكون محلّه النصب على أنه ظرف ل « خِزْي » ، فهو منصوب به تقديراً .
و « الدُّنْيَا » « فُعْلَى » تأنيث الأدنى من الدَّنو ، وهو القُرْب ، وألفها للتأنيث ، ولا تحذف منها « أل » إلا لضرورة كقوله : [ الرجز ]
643 يَوْمَ تَرَى النُّفُوسُ مَا أَعَدَّتِ ... في سَعْيِ دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مُدَّتِ
وياؤها عن واو ، وهذه قاعدة مطردة ، وهي : كل « فُعْلَى » صفة لامها واو تبدل ياء . نحو « الدنيا والعُلْيَا » .
فأما قولهم : « القُصْوَى » عند غير « تميم » ، و « الحُلْوَى » عند الجميع فَشَاذٌّ .

فلو كانت « فُعْلَى » اسماً صحّت الواو؛ كقوله : [ الطويل ]
644 أَدَارًا بِحُزْوَى هِجْتِ لِلْعَيْنِ عَبْرَةً ... فَمَا الْهَوَى يَرْفَضُّ أَوْ يَتَرَقْرقُ
وقد استعملت استعمال الأسماء ، فلم يذكر [ موصوفها ، قال تعالى : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا } [ الأنفال : 67 ] وقال ابن السّراج في « المقصور والممدود » : و « الدنيا » ] مؤنّثة مقصورة ، تكتب بالألف ، هذه لغة « نجد » و « تميم » ، إلاَّ أن « الحجاز » ، « وبني اسد » يلحقونها ونظائرَهَا بالمَصَادر ذوات الواو ، فيقولون : دَنْوَى مثل شَرْوَى وكذلك يفعلون بكل « فُعْلَى » موضع لامها واو ، ويفتحون أولها ، ويقلبون باءها واواً ، وأما أهل اللغة الأولى ، فيضمون الدال ، ويقلبون من الواو ياء لاستثقالهم الواو مع الضمة .
فصل في المراد بالخِزْي في الآية
اختلفوا في هذا الخِزْي على جوه :
أحدها : قال الحَسَن : وهو الجزية والصَّغَار ، وهو ضعيف؛ لأن الجِزْيَةَ لم تكن ثابتةً ، في شريعتهم ، بل إن حملنا الآية على خطاب الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيصحّ .
الثاني : خِزْي « بني قريظة » بالقَتْل والسَّبي ، وخزي بني النَّضير بالجَلاَء والنفي عن منازلنهم إلى « أَذْرعات » و « أريحا » من « الشام » ، وهذا أيضاً إنما يصحّ إذا حملنا الآية على الحاضرين في زمان صلى الله عليه وسلم .
الثالث : قال ابن الخَطِيْبِ وهو الأولى : إنّ المراد منه الذَّمّ العظيم ولتحقير البالغ من غير تخصيص ذلك ببعض الوجوه دون بعض ، والتنكير في قوله : « خزي » يدلّ على أن الذّم واقع في النهاية العظمى .
[ وقوله ] يُرَدُّونَ [ قرىء ] بالغيبة على المشهور وفيه وجهان .
أحدها : أن يكون التفاتاً ، فيكون راجعاً إلى قوله « أَفَتُؤْمِنُونَ » فخرج من ضمير الخطاب إلى الغيبة .
والثَّاني : أنه لا التفات فيه ، بل هو راجع إلى قوله : « مَنْ يَفْعَلْ » .
وقرأ الحسنك « تُرَدُّون » بالخطاب وفيه الوجهان المتقدمان :
فالالتفات نظراً لقوله : « مَنْ يَفْعَلْ » ، وعدم الالتفات نظراً لقوله : « أَفَتُؤْمِنُونَ » .
وكذلك : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } قرىء في المشهور بالغيبة والخطاب والكلام فيهما كما تقدم .
فإن قيل : عذاب الدّهري الذي ينكر الصَّانع يجب أن يكون أَشدَّ من عذاب اليهود ، فكيف يكون في حقّ اليهود { يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب } ؟
فالجواب : المراد منه أشد من الخِزْي الحاصل في الدنيا ، فلفظ الأشد وإن كان مطلقاً إلاّ أن المراد أشد من هذه الجهة .

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

قد تقدم إعراب نظائرها إلا أنّ بعضهم ذكر وجوهاً مردودة لا بُدّ من التنبيه عليها ، فأجاز أن يكون « أولئك » مبتدأ ، و « الذين اشتروا » خبره ، « فلا يُخَفَّف عنهم العَذَاب » خبراً ثانياً ل « أولئك » .
قال : ودخلت الفاء في جواب الخبر لأجل الموصول المشبه بالشرط وهذا خطأ فإن قوله : « فَلا يُخَفَّفُ » لم يجعله خبراً للموصول حتى تدخل « الفاء » في خبره ، وإنما جعله خبراً عن « أولئك » وأين هذا من ذاك؟
وأجاز أيضاً أن يكون الذين مبتدأ ثانياًن و « فلا يخفف » خبَره ، دخلت لكونه خبراً للموصول ، والجملة خبراً عن « أولئك » .
قال : ولم يَحْتَج هذا إلى عائد؛ لأن « الذين » هم « أولئك » كما تقول : « هذا زيد منطلق » ، وهذا أيضاً خطأ لثلاثة أوجه :
أحدها : خلوّ الجملة من رابط ، وقوله : « لأن الذين » هم « أولئك » لا يفيد ، فإن الجملة المستغنية لا بُدّ وأن تكون نفس المبتدأ .
وأما تنظيره ب « هذا زيد منطلق » فليس بصحيح ، فإن « هذا » مبتدأ و « زيد » خبره ، و « منطلق » خبر ثانٍ ، ولا يجوز أن يكون « زيد » مبتدأ ثانياً ، و « منطلق » خبره ، والجملة خبر عن الأول ، للخلو من الرابط .
الثاني : أن الموصول هنا لقوم معيّنين وليس عامّاً ، فلم يُشبه الشرط ، فلم تدخل « الفاء » في خبره .
الثالث : أن صلته ماضية لفظاً ومعنى ، فلم تشبه فعل الشرط في الاستقبالن فلا يجوز دخول الفاء في الخبر .
فتعيّن أن يكون « أولئك » مبتدأ والموصول بصلته خبَره ، و « فلا يخفف » معطوف على الصِّلَةِ ، ولا يضر تَحَالُف الفعلين في الزمان ، فإنّ الصِّلاتِ من قبيل الجُمَل ، وعطف الجمل لا يشترط فيه اتحاد الزمان ، فيجوز أن تقول : جاء الذي قتل زيداً أمس ، وسيقتل عَمْراً غداً ، وإنما الذي يشترط فيه ذلك حيث كانت الأفعال منزلة منزلة المفردات .
وقيل : دخلت « الفاء » بمعنى جواب الأمر كقوله : أولئك الضّلال انتبه فلا خير فيهم .
فصل في تفسير تخفيف العذاب
حمل بعضهم عدم التخفيف على عدم الانقطاع؛ لأنه لو انقطع لكان قد خفف ، وحمله آخرون على الشدّة لا على الدوام ، أو في كلّ الأوقات ، فإذا عذابهم بأنه لا يخفّف عنهم اقتضى ذلك نَفْيَ جميع ما ذكرناه .
قوله : « وَلاَ هُمْ يَنْصَرُونَ » يجوز في « هو » وجهان :
أحدهما : أ ن يكون محلّ رفع بالابتداء ، وما بعده خبره ، ويكون قد عطف جملة اسمية على جملة فعلية وهي : « فلا يخفف » .

والثاني : أن يكون مرفوعاً بفعل محذوف يفسره هذا الظاهر ، وتكون المساألةُ مِنْ باب الاشتغال ، فما حذف الفعل انفصل الضَّمير؛ ويكون كقوله : [ الطويل ]
645 فإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا ... فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيلُ
وله مرجّح على الأول بكونه قد عطف جملة على مثلها ، وهو من المواضع المرجح فيها الحمل على الفعل في باب الاشْتِغَال . وليس المرجوح كونه تقدمه « لا » النافية ، فإنها ليست من الأدوات المختصة بالفعل ولا الاولى به ، خلافاً لابن السيد حيث زعم أَنَّ « لا » النافية من المرجّحات لإضمار الفِعْل ، وهو قول [ مرغوب عنه ] ولكنه قَوِيَ من حيث البحث . فقوله : « ينصرون » لا محلّ له على هذا؛ لأنه مُفَسِّرٌ ، ومحلّه الرفع على الأولى لوقوعه موقع الخبر .
فصل
حمله بعضهم على نفس النُّصْرة في الآخرة ، والأكثرون حلموه على نفي النُّصْرة في الدنيا .
قال ابن الخطيب : والأول أولى ، لأنه تعالى جاء على صنعهم ولذلك قال : { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب } وهذه الصّفة لا تليق إلا بالآخرة؛ لأنَّ عذاب الدنيا وإن حصل ، فيصير كالحدود؛ لأن الكُفَّار قد يصيرون غالبين للمؤمنين في بعض الأوقات .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)

روي عن ابن عباس أن التَّوراة لما نزلت أمر الله موسى بِحَمْلِهَا فلم يطق ذلك ، فبعث لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حلمها ، فخفّفها الله على موسى عليه الصلاة والسلام فحملها .
[ قوله ] : { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل } التضعيف في « قَفَّيْنَا » ليس للتَّعدية؛ إِذْ لو كان كذلك لتعدّى إلى اثنين؛ لأنه قيل : التضعيف يتعدّى لواحد ، نحو : « قَفَوْتُ زَيْداً » ، ولكنه ضُمِّن معنى « جئنا » كأنه قيلك وجئنا من بعده الرُّسل .
فإن قيل : يجوز أن يكون متعدياً لاثنين على معنى أنَّ الأول محذوف ، والثاني « بالرسل » والباء فيه زائدة تقديره : « وَقَفَّيْنَا من بعده الرسل » .
فالجَوَاب : أن كثرة مجيئه في القرآن كذلك يبعد هذا التَّقْدِير ، وسيأتي لذلك مزيد بيان في « المائدة » [ الآية : 46 ] إن شاء الله تعالى .
و « قَفَّيْنَا » أصله : قَفَّوْنَا/ ولكن لما وقعت « الواو » رابعة قلبت « ياء » ، واشتقاقه من « قَفَوْتَ » ، وقَفَوْتُه إذا اتَّبَعْتُ قَفَاه ، ثم اتُّسِع فيه ، فأطلف على تابع ، وإن بَعُدَ زمان التابع عن زمان المتبوع .
قال أميَّةُ : [ البسيط ]
646 قَالَتْ لأخْتٍ لَهُ قُصِّيهِ عَنْ جُنُبٍ ... وَكَيْفَ تَقْفُو وَلاَ سَهْلٌ وَلاَ جَبَلُ
و « القَفَا » : مؤخّر العُنُق ، ويقال له : القافية أيضاً ، ومنه الحديث : « يعقد الشيطان على قَافِيَة رَأْس أَحَدِكُمْ »
والقَفَاوَة : ما يدّخر من اللّبن وغيره لمن تريد إكرامه ، وقفوت الرجل : قذفته بِفُجُور ، « وفلان قِفْوتِي » : أي تُهْمتي ، وقِفْوتي أي خيرتي .
قال ابن دريد : كأنه من الأضداد .
ومنه قافية الشعر؛ لأنها يتلو بعضها بعضاً ، ومعنى قفّينا : أي أتبعنا ، كقوله : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } [ المؤمنون : 44 ] .
و « مِنْ بَعْدِهِ » متعلق به ، و كذلك : « بالرُّسُل » وهو جمع رسول بمعنى مُرْسَل ، وفُعُل غير مقيس في « فعيل » بمعنى « مفعول » وسكون العين لغة « الحجاز » وبها قرأ الحسن ، والضم لغة « تميم » وبها قرأ السَّبعة إلاَّ أبا عمر ، وفيما أضيف إلى « ن » أو « كم » أو « هم » ، فإنه قرأ بالسكون لتوالي الحركات .
فصل في تعيين الرسل المقفى بهم
هؤلاء الرُّسل : يوشع ، وشمويل ، وداود ، وسليمان ، وشعياء ، وأرمياء ، وعزير ، وحزقيل ، وإلياس ، ويونس ، وزكريا ، ويحيى ، وغيرهم .
وروي أن بعد موسى إلى أيام عيسى كانت الرسل متواترةً ، ويظهر بعضهم في أثر البعض .
والشريعة واحدة في أيام عيسى عليه الصلاة والسلام ت فإنه جاء بشريعة مجدّدة ، والدليل على ذلك قوله : { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل } ؛ لأنه يقتضي أنهم على حدٍّ واحدٍ في الشريعة يتبع بعضهم بعضاً فيها .

وقال القاضي : إنَّ الرسول الثاني لا يجوز أن يكون على شِرْعَةِ الأوّل بحيث لا يؤدي إلا تلك بعينها من غير زيادة ولا نُقْصَان ، مع أنّ تلك الشريعة محفوظةٌ يمكن معرفتها بالتَّواتر عن الأول؛ لأن الرَّسُول إذا كان هذا حاله لم يممكن أن يعلم من جنهة إلاَّ منا كان قد علم من قبل ، أو يمكن أن يعلم من قبل ، فكما لا يجوز أن يبعث الله رسولاً لا شريعة معه أصلاً ، فكذا هاهنا ، فثبت أنه لا بد وأن يكونوا قد بعثوا بشريعة جديدة إن كانت الأولى محفوظةً ، أو محيية لبعض ما اندرس من الشَّريعة الأولى .
والجواب : لم لا يجوز أن يكون المقصود من بعثة هؤلاء الرسل التعبُّد بتلك الشريعة السَّابعة بنوع آخر من الأَلْطَاف لا يعلمه إلا الله؟
فصل في لفظ عيسى
[ قوله ] : « عيسى » : علم أعجمي فلذلك لم ينصرف ، وقد تكلم النحويون في وَزْنِهِ ، واستقاقه على تقدير كونه عَرَبيَّ الوضع فقال سيبويه : وزنه « فِعْلَى » والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة كياء « مِعْزى » بالياء لا الألف ، سمّاها ياء لكتابتها بالياء .
وقال الفارسي : ألفه ليست للتأنيث ك « ذِكْرَى » ، بدلالة صرفهم له في النكرة .
وقال عثمان بن سعيد الصيرفي : وزنه « فِعْللَ » فالألف عنده أصيلة بمعنى أنها مُنْقلبة عن أصل . ورد عليه ذلك ابن البَاذش بأن الياء والواو لا يكونان أصليين في بنات الأربعة ، فمن قال : إن « عيسى » مشتق من « الْعَيْس » : وهو بياض تُخالطه شُقْرة ليس بمصيب ، لأن الأعجمي لا يدخله اشتقاق ولا تصريف .
وقل الزمخشري : « وقيل : عيسى بالسُّريانية يشوع » .
قوله : « ابن مريم » عطف بيان له أو بدل ، ويجوز أن يكون صفة إلا أن الأول أولى؛ لأن « ابن مريم » جرى مجرى العلم له ، وللوصف ب « ابن » أحكام تخصّه ، ستأتي إن شاء الله تعالى مبينة ، وقد تقدم اشتقاق « ابن » وأصله .
و « مريم » أصله بالسّريانية صفة بمعنى الخَادِمِ ، ثم سُمِّيَ به؛ فلذلك لم ينصرف ، وفي لغة العرب : هي المرأة التي تُكْثر مخالطة الرجَال ك « الزِّير » من الرجال ، وهو الذي يكثر مُخالطتَهُن .
قال رؤبة : [ الرجز ]
647 قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ ... و « ياء » الزّير عن واو؛ لأنه من « زار يزور » فقلبت للكسرة قبلها ك « الريح » ، فصار لفظ « مريم » مشتركاً بين اللِّسَانين ، ووزنه عند النحويين « مَفْعَل » لا « فَعْيَل » ، قال الزمخشري : لأن « فَعْيلاً » ، بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو : « عثير وعِلَيْب » وقد أثبت بعضهم « فَعْيلاً » ، وجعل منه نحو : « ضهيد » : اسم مكان و « مَدْين » على القول بأصالة ميمه و « ضهيأ » بالقَصْر ت وهي المرأة التي لا تحيض ، أو لا ثَدْيَ لها ، مشتقّة من « ضَاهَأَت » أي : « شابهت » ؛ لأنها شابهت الرجال في ذلك ، ويجوز مدّها قاله الزَّجَّاج .

وقال ابن جني : وأما « ضهيد وعثير » فمصنوعان فلا دلالة فيهما على ثبوت « فَعْيَل » ، وصحة الياء في « مريم » على خلاف القياس ، إذْ كان من حقّها الإعلال بنقل حركة الياء إلى الراء ، ثم قَلْب الياء ألفاً نحوك « مُبَاع » من البيع ، ولكنه شذّ كما شذ « مَزْيَد ومدين » .
وقال ابو البقاء : ومريم على أعجمي ، ولو كان مشتقّاً من « رام يَرِيم » لكان مَرِيْماً بسكن الياء . وقد جاء في الأعلام فتح الياء نحو : [ مزيد ] وهو على خلاف القياس .
و « البَيِّنَات » قيل : هي المُعْجِزَات المذكورة في سورة « آل عمران » و « المائدة » .
وقيل : الإنجيل .
وقيل : أعم ذلك .
قوله : « وَأَيَّدْنَاهُ » معطوف على قوله : « وَآتيْنَا عِيسَى » .
وقرأ الجمهور : « وَأَيَّدْنَاهُ » على « فَعَّلْنَاهُ » ، وقرأ مجاهد وابن محيصن ويروى عن أبي عمرو : « وَآيَدْنَاهُ » على « أَفْعَلْنَاهُ » ، والأصل فيه : « أَأْيد » بهمزتين ثانيتهما ساكنة ، فوجب إبدال الثانية ألفاً نحو : « أأمن » وبابِه ، وصححت العين كما صحّت في « أغليت وأغميت » وهو تصحيح شاذّ إلا في فعل العجّب نحو : ما أبين أطول .
وحكي عن أبي زيد أن تصحيح « أغليت » مقيس .
فإن قيل : لم لا أعلّ « أَيَّدْنَاه » كما أعلّ نحو : أَبَعْنَاهُ حتى لا يلزم حلمه على الشَّاذ؟ .
فالجواب : أنه لو أعلّ بأن ألقيت حركة العَيْن على الفاء ، فيلتقي ساكنان العين واللام ، فتحذف العين لالتقاء السكانين ، فتجتمع همزتان مَفْتُوحتان ، فيجب قلب الثانية واواً نحو : « أوادم » فتتحرك الواو بعد فتحة ، فتقلب ألفاً فيصير اللفظ : أَأَدْنَاهُ؛ لأدّى إلى إعلال الفاء والعين ، فالأجل ذلك رُفِضَ بخلاف أَبَعْنَاه وأقمناه ، فإنه ليس فيه إلاَّ إعلال العَيْن فقط ، قال أبو البقاء : فإن قلت : فلم لم تحذف الياء التي هي عَيْن كما حذفت من نحو : « أسلناه » من « سال يسيل » ؟ .
قيل : لو فعلوا ذلك لتوالى إِعْلاَلاَن :
أحدهما : قلب الهمزة الثانية ألفاً ، ثم حَذْفُ الألف المبدلة من الياء لسكونها ، وسكون الألف قبلها ، فكان يصير اللَّفظ أدْنَاه ، فتحذف الفاء والعين ، وليس « أَسَلْنَاه » كذلك؛ لأن هناك حذفت العين فقط .
وقال الزمخشري في « المائدة » : « أَيَّدْتُك على أَفْعَلْتُكَ » .
وقال ابن عطية : « على فاعَلْتُكَ » ، ثم قال : « ويظهر أنَّ الأصل في القراءتين : أفعلتك ، ثم اختلف الإعلال ، والذي يظهر أن » أَيَّدَ « » فَعَّلَ لمجيء مضارعه على يُؤَيِّد بالتشديد ، ولو كان أَيَّدّ بالتشديد بزنة « أَفْعَل » لكان مضارعه « يُؤْيِدُ » ك « يُؤْمِنُ » من « آمن » وأما آيَدَ بالمدّ فَيحْتَاج في نقل مُضَارعة إلى سماع ، فإن سُمِع « يُؤايِد » ك « يُقَاتل » فهو « فَاعَلَ » فإن سمع « يُؤْيِد » ك « يكرم » و « آيَد » فهو أَفْعَلَ ، ذكر جميع ذلك أبو حَيّان في « المائدة » ، ثم قال : إنه لم يظهر كلام ابن عطيّة في قوله : اختلف الإعلال « ، وهو صحيح ، إلاَّ أن قوله : والذي يظهر أن » أَيَّد « في قراءة الجمهور » فَعَّل « لا » أَفْعَل « إلى آخره فيه نظر؛ لأنه يُشْعِرُ بجواز شيء آخر متعذّر .

كيف يتوهّم أن « أَيَّدَ » بالتشديد في قراءة الجمهور بزنة « أَفَعْلَ » ، هذا ما لا يقع .
و « الأَيْد » : القوة .
قال عبدالمطّلب : [ الرجز ]
648 أَلْحَمْدُ لِلَّهِ الأعَزِّ الأَكْرَمِ ... أَيَّدَنَا يَوْمَ زُحُوفٍ الأَشْرَمِ
والصحيح أن « فَعَّلَ » و « أفْعَل » هنا بمعنى واحد وهو « قَوَّيْنَاهُ » ، وقد فرق بعضهم بينهما ، فقال : « أما المَدُّ فمعناه : القوة ، وأما القَصْر فمعناه : التأييد والنصر » وهذا في الحقيقة ليس بفرق ، وقد أبدلت بعض العرب في آيَدَ على أَفْعَلَ الياء جميعاً فقالت : آجَدَهُ أي قواه .
قال الزمخشري : « يقال : الحمد لله الذي آجَدَني بعد ضَعْف ، وأوجدني بعد فَقْر » . وهذا كما أبدلوا من يائه جيماً فقالوا : لا أفعل ذلك جَدَ الدَّهْرِ أو مد الدهر ، وهو إبدال لا يطّرد .
ومن إبدال الياء جميعاً قول الراجز : [ الرجز ]
649 خَالِي عُوَيْفٌ وَأَبُو عَلِجِّ ... أَلْمُطْعِمَانِ اللَّحْمَ بِالْعَشِجِّ
يريد : « وأبو علي » و « بالعشي » .
قوله : « بِرُوحِ القُدُسِ » متعلق ب « أيدناه » .
وقرأ ابن كثير : « القُدْس » بإسكان الدال ، والباقون بضمها ، وهما لغتان : الضم ل « الحجاز » والإسكان ل « تميم » ، وقد تقدم ذلك ، وقرأ أبو حيوة : « القُدُّوس » بواو ، فيه لغة فتح القاف والدال معناه : الطَّهارة أو البركة كما [ تقدم عند قوله : { وَنُقَدِّسُ لَكَ } [ البقرة : 30 ] ] و « الروح » في الأصل : اسم للجزء الذي تحصل به الحياة في الحيوان ، قاله الرَّاغب .
فصل في المارد ب ، « روح القدس »
اختلفوا في « روح القُدُس » هنا على وجوه :
أحدها : أنه جبريل عليه السلام؛ لقول حسّان : [ الوافر ]
650 وجبْرِيلٌ رَسولُ اللهِ فِينَا ... ورُوحُ القُدْسِ لَيْسَ بِهِ كِفَاءُ

قال الحسن : القُدُوس هو الله عزّ وجلّ ، وروحه : جبريل ، قال تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس } [ النحل : 102 ] وقيل : سمي جبريل روحاً لِلَطَافته ولمكانته من الوَح ] ي الذي هو سبب حياة القلوب .
قال النحاس : وسمي جبريل روحاً أو أضيف إلى القدس؛ لأنه كان بتكوين الله عزّ وجلّ له روحاً من غير ولادة والد والده [ وقيل : المارد بروح القدس الإنجيل كما قال في القرآن « روحاً من أمرنا » لأنه الذي يوحى به ] ، وكذلك سمي عيسى روحاً لهذا .
وقال ابن عَبَّاس وسعيد بن جُبَيْرٍ : « هو الاسم الأعظم الذي كان يحيي به عيسى الموتى » .
وقيل : هو الروح الذي نفخ فيه .
والقُدُس والقُدُّوس هو الله ، فنسب روح عيسى إلى نفسه تعظيماً وتشريفاً ، كما يقال : بَيْت الله ، ونَاقَة الله؛ قاله الربيع وغيره ، كقوله : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] وعلى هذا المراد به الروح الذي يحيى به الإنسان .
[ واعلم أن إطلاق الروح على « جبريل » وعلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز ] .
قوله : { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ } الهمزة هنا للتوبيخ والتَّقريع ، والفاء للعطف عَطَفَتْ هذه الجملة على ماقَبْلَها ، واعْتُنِيَ بحرف الاستفهام فَقَدِّم ، وتقدم تحقيق ذلك ، وأن الزمخشري يقدر بين الهمزة حرف العطف جملةً ليعطف عليها ، وهذه الجملة يجوز أن تكون معطوفة على ما قبلها من غير حذف شيء كأنه قال : ولقد آتينا يا بني إسرائيل أنبيائكم ما آتيناهم فكلما جاءكم رسول .
ويجوز أن يُقَدَّر قبله محذوف أي : ففعلتم ما فعلتم فكلما جاءكم رسول ، وقد تقدّم الكلام في « كلما » عند قوله « كُلَّمَا أَضَاءَ » ، والناصب لها هنا استكبرتم .
و « جاء » يتعدّى بنفسه تارة كهذه الآية ، وبحرف الجر أخرى ، نحو : « جئت إليه » و « رسول » « فَعُول » بمعنى « مفعول » أي : مُرْسَل ، وكون « فَعُول » بمعنى « المفعول » قليل ، جاء منه : « الرُّكُوب والحَلُوب » ، ويكون مصدراً بمعنى : الرِّسالة قاله الزمخشري؛ وأنشد : [ الطويل ]
651 لَقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ ما فُهْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
أي : برسالة ، ومن عنده : { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] .
قوله : { بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ } متعلّق بقوله : « جاءكم » و « ما » موصولة بمعنى الَّذِي ، والعائد محذوف لاستكمال الشّروط والتقدير : بما لا تَهْوَاه ، و « تهوى » مضارع « هَوِي » بكسر العين ولامه من ياء؛ لأن عينه واو ، وباب « طويت وشويت » أكثر من باب « قُوَّةٌ وحُوةٌ » ولا دليل في « هَوِي » لانكسار العين ، وهو مثل « شَقِي » من الشّقاوة ، وقولهم في تثنية مصدر هوي : هَوَيان أدلُّ على ذلك .
ومعنى تهوى : تحبّ وتختار ، وأصل الهَوَى : الميل ، سمي بذلك؛ لأنه يَهْوي بصاحبه في النار ، ولذلك لا يستعمل غالباً إلاّ فيما لا خير فيه ، وقد يستعمل فيما هو خير ، ففي الحديث الصحيح قول عمر في أسارى « بدر » : فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يَهْو ما قلت « .

وعن عائشة رضي الله عنها : « والله ما أرى رَبَّك إلا يُسَارع في هواك » . وجمعه « أهواء » .
قال تعالى : { بِأَهْوَائِهِم } [ الأنعام : 119 ] ولا يجمع على « أَهْوِية » ، وإن كان قد جاء « نَدَى » و « أنْدِية » ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
652 فِي لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أَنْدِيَةٍ ... لاَ يُبْصِرُ الكَلْبُ مِن ظَلْمَائِهَا الطُّنُبَا
وأما « هَوَى يَهْوِي » بفتحها في الماضي وكسرها في المضارع فمعناه السُّقوط ، و « الهَوِيُّ » بفتح الهاء ، ذهاب في انْحِدَار .
و « الهُوِيُّ » : ذهاب في صعود وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى .
وأسند الفعل إلى « الأنفس » دون المُخَاطب فلم يقل : « بما لا تَهْوُون » تنبيهاً على أنّ النفس يُسْند إليها الفعل السيّىء غالباً نحو : { إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء } [ يوسف : 53 ] { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ } [ يوسف : 18 ] و « استكبر » بمعنى : « تكبر » .
قوله : « فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ » « الفاء » عاطفة جملة « كذبتم » على « استكبرتم » ، و « فريقاً » مفعول مقدم ، قدم لتتفق رؤوس الآي ، وكذا : « فَرِيقاً تَقْتُلُونَ » ، ولا بُدّ من محذوف ، أي : فريقاً منهم ، والمعنى أنه نشأ عن اسْتِكْبَارهم مُبَادرة فريق من الرسل بالتكذيب ، ومبادرةُ آخرين بالقتل . وقدم التكذيب؛ لأنه أول ما يفعلونه من الشَّر؛ ولأنه مشترك بين المقتول وغيره ، فإنَّ المقتولين قد كذبوهم أيضاً ، وإنما لما يُصَرِّح به؛ لأنه ذكر أقبح منه في الفِعل . وجيء ب « يقتلون » مضارعاً ، إما لكونه مستقبلاً؛ لأنهم كانوا يَرُومُونَ قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك سحروه ، وسَمُّوا له الشاة ، وقال عليه الصلاة والسلام عند موته : « مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي ، فَهَذَا أوان انْقِطَاع أَبْهَرِ » ولما فيه من مُنَاسبة رؤوس الآي والفَوَاصل ، وإما أن يراد به الحال الماضية؛ لأن الأمر فظيع ، فأريد استحضاره في النُّفوس ، وتصويره في القلوب .
وأجاز الرَّاغب أنْ يكون « ففريقاً كَذّبتم » معطوفاً على قوله : « وآتيناه » ، ويكون « أفكلّما » مع ما بعده فصلاً بينهما على سبيل الإنْكَارِ . والأظهر الأول وإن كان ما قاله محتملاً .
فصل في بيان الذي استحق به بنو إسرائيل نهاية الذم
هذا نهاية الذَّم؛ لأن اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما يهوون كذبوه ، وإن تهيأ لهم قتله قتلوه ، لإرادتهم الرّفعة في الدنيا ، وطلب لذاتها ، والتَّرؤس على عامتهم ، وأخذ أموالهم بغير حَقّ ، وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك ، فيكذبونهم ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين ، ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل ، وبعضهم كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم عليه الصلاة والسَّلام ، فلما سمعت اليهود ذكر عيسى عليه الصَّلاة السلام قالوا : يا محمد لا مثل عيسى فعلت كما تزعم ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت فائننا بما أتى به عيسى عليه الصلاة والسَّلام إن كنت صادقاً ، فقال الله عز وجل : أفكلّما جَاءَكم يا معشر اليهود رسول بما لا تهوي أنفسكم استكبرتم ، وتعظّمتم عن الإيمان به ، فطائفة كذبتم مثل عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، وطائفة تقتلون أي : قتلتم مثل : زكريا ويحيى وشعيب ، وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)

« قُلُوبُنَا غُلْفٌ » متبدأ وخبر ، والجملة في محلّ نصب بالقول قبله ، وقرأ الجمهور : « غُلْف » بسكون اللام ، وفيها وجهان : أحدهما : وهوالأظهر أن يكن جمع « أَغْلَف » ك « أحمَر وحُمْر » و « أصفر وصُفْر » ، والمعنى على هذا : أنها خلقت وجعلت مغشَّاة لا يصل إليها الحَقّ ، فلا تفهمه ونظيره : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ } [ فصلت : 5 ] قال مجاهد وقتادة استعارة من الأَغْلَف الذي لم يَخْتَتِنْ . والثاني : أن يكون جمع « غلاف » ، ويكون أصل اللام الضم ، فتخفف نحو : « حمار وحمر » ، و « كتاب وكتب » ، إلاّ أن تخفيف « فُعُل » إنما يكون في المفرد غالباً نحو : « عُنُق » في « عُنْق » وأما « فُعْل » الجمع فقال ابن عطية : « لا يجوز تخفيفه إلاَّ في ضرورة » ، وليس كذلكن بل هو قليل ، وقرأ ابن عَبَّاس والأعرج ويروى عن أبي عمرو بضمّ اللام ، وهو جمع « غلاف » ، ولا يجوز أن يكون « فُعُل » في هذه القراءة جمع أَغْلَف؛ لأن تثقيل « فعل » الصحيح العين ، لا يجوز إلاَّ في شعر ، والمعنى على هذه القراءة : أن قلوبنا أوعية فهي غير محتاجة إلى علم آخر ، وهو قول ابن عباس وعَطَاء .
وقال الكلبي : « معناه » أوعية لكلّ علم فهي لا تسمع حديثاً إلا وَعَتْهُ إلاَّ حديثك لا تعلقه ولا تعيه ، ولو كان فيه خبر لفهمته ووعته « .
وقيل : غلف كالغلاف الذي لا شيء فيه مما يدلّ على صحة قولك : التغليف كالتعمية في المعنى .
فصل في كلام المعتزلة
قالت المعتزلة : هذه الآية تدلّ على أنه ليس في قلوب الكُفَّار مَا لاً يمكنهم معه الإيمان ، لا غلاَف ولا كِنّ ولا سدّ على ما يقوله المجبرة ، لأنه لو كان كذلك لكان هؤلاء اليهود صَاديقين في هذا القول ، فلا يكذبهم الله في قوله : { بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ } وإنما يذمّ الكاذب المبطل لا الصَّادق المحق ، وقالوا : هذا يدل على أن معنى قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } [ الكهف : 57 ] و { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } [ يس : 8 ] { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } [ يس : 9 ] ليس المراد كونهم ممنوعين عن الإيمان ، بل المراد : إما منع الألْطَاف ، أو تشبيه حالهم في إصْرَارهم على الكُفُرِ بمنزلة المجبور على الكفر .
قالوا : ونظير ذم الله تعالى اليهود على هذه المَقَالَةِ ذمه الكافرين على مثل هذه المَقَالة ، وهو قوله تعالى : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] ولو كان الأمر على مايقوله المجبرة لكان هؤلاء القوم صادقين ، وإذا كان الأمر كذلك لم يذمّوا .

قال ابن الخطيبك واعلم أنا بَيْنا في تفسير « الغلف » ثلاثة أوجه ، فلا يجب الجزم بواحد منها من غير دليل .
سلمنا أن المراد منه ذلك الوجه لكن لم قلتم : إن الآية تدل على أن ذلك القول مذموم؟
فإن قيل : إنما لعنهم الله بسبب هذه المقالة .
فالجواب من وجوه :
أحدها : لا نسلم ، بل لعلّه تعالى حكى عن حالهم ، أو عنهم قولاً ، ثم بين أن من حالهم أنهم ملعونون بسبب كفرهم .
وثانيها : لعلّ المراد من قوله تعالى : « قُلُوبُنَا غُلْفٌ » أنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ، يعني : ليس قلوبنا في غلاف ولا في غطاء ، بل أفهامنا قويّة ، وخواطرنا منيرة ، ثم إنا تأملنا في دلائلك فلم نجد شيئاً قويًّا فلما ذكروا هذه الوصف الكاذب لا جَرَمَ لعنهم الله على كفرهم الحاصل بهذا القول .
وثالثها : أن قلوبهم لم تكن في أغْطية ، بل كانوا عالمين بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ] إلاّ أنهم أنكروا تلك المعرفة وادّعوا أن قلوبهم غُلف ، فكان كفرهم عناداً .
قوله : « بَلْ لَعَنَهُمْ اللهُ » « بل » : حرف إضراب ، والإضراب راجع إلى ما تضمَّنه قولهم من أن قلوبهم غُلْف ، فردّ الله عليهم ذلك بأن سببه لعنهم بكفرهم السّابق ، والإضراب على قسمين : إبطال ، وانتقال .
فالأول ، نحو : « ما قام زيد بل عمرو » ، والانتقال كهذه الآية ، ولا تعطف « بل » إلا المفردات ، وتكون في الإيجاب والنفي والنهي ، ويزاد قبلها « لا » تأكيداً .
واللَّعن : الطَّرد والبُعْد ، ومنه : شأو لَعِينٌ ، أي : بعيد؛ قال الشَّمَّاخ : [ الوافر ]
653 ذَعَرْتُ بِهِ القَطَا وَنفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعينِ
أي : الرجل البعيد ، وكان وجه الكلام أن يقول : « مقام الذّئب اللّعين كالرجل » والباء في « بكفرهم » للسبب ، وهي متعلّقة ب « لَعَنَهُم » .
وقال الفارسي : النية به التقدم أي : وقالوا : قلوبنا غلف بسبب كفرهم ، فتكون الباء متعلقة ب « قالوا » ، وتكون « بل لعنهم » جحملة معترضة ، وفيه بُعْد ، ويجوز أن تكون حالاً من المفعول في « لعنهم » أي : لعنهم كافرين ، أي : ملتبسين بالكُفْرِ كقوله { وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر } [ المائدة : 61 ] .
قوله : « فَقَلِيلاً مَا يؤْمِنُونَ » في نصب « قليلاً » ستة أوجه :
أحدها : أنه نَعْت لمصدر محذوف ، أي : فإيماناً قليلاً يؤمنون؛ لأنهم كانوا يؤمنون بالله ، ويكفرون بالرسل .
الثاني : أنه حال من ضمير ذلك [ المصدر ] المحذوف ، أي : فيؤمنونه أي : الإيمان في حال قلّته ، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه ، وتقدّم تقريره .
الثالث : أنه صفة لزمان محذوف ، أي : فزماناً قليلاً يؤمنون ، وهو كقوله : { آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ }

[ آل عمران : 72 ] .
الرابع : أنه على إسقاط الخافض ، والأصل : فبقليل يؤمنون ، فلما حذف حرف الجرّ انتصب ، ويعزى لأبي عبيدة .
الخامس : أن يكون حالاً من فاعل « يؤمنون » أي : فَجَمْعاً قليلاً يؤمنون ، أي : المؤمن فيهم قليلٌ ، قال معناه ابن عباس وقتادة والأصم وأبو مسلم .
قال ابن الخطيب : « وهو الأولى؛ لأن نظيره قوله : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 155 ] ، ولأن الجملة الأولى إذا كان المصرح فيها [ ذكر ] الكقوم فيجب أن يتناول الاستثناء بعض هؤلاء القوم » .
وقال المهدوي : ذهب قتادة إلى أن المعنى : فقليل منهم يؤمن ، وأنكره النحويون ، وقالوا : لو كان كذلك للزم رفع « قليل » .
وأجيب : بأنه لا يلزم الرَّفْع مع القول بالمعنى الذي ذهب إليه قَتَادَةٌ لما تقدم من أنَّ نصبه على الحال وافٍ بهذا المعنى . و « ما » على هذه الأقوال كلها مزيدة للتأكيد .
السادس : أن تكون « ما » نافية ، أي فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً ، ومثله : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [ الأعراف : 10 ] { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 3 ] ، كما يقال : قليلاً ما يغفل أي : لا يعقل ألبتة .
قال الكِسَائي : « تقول العرب : مررنا بأرض قليلاً ما تنبت » ، يريدون : لا تنبت شيئاً ، وهذا قول الوَاقِدِيّ . وهو قوي من جهة المعنى ، وإنما يضعف من جهة تقديم ما في حَيّزها عليها قاله أبو البقاء [ وإليه ذهب ابن الأنباري ] ، إلا أن تقديم ما في حيّزها عليها لم يُجِزْه البصريون ، وأجازه الكوفيون .
قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن تكون » ما « مصدرية؛ لأن » قليلاً « يبقى بلا ناصب » ، يعني : أنك إذا جعلتها مصدرية كان ما بعدها صلتها ، ويكون المصدر مرفوعاً ب « قليلاً » على أنه فاعل به فأين الناصب له؟ وهذا بخلاف قوله تعالى : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } [ الذاريات : 17 ] فإن « ما » هاهنا يجوز أن تكون مصدرية؛ لأن « قليلاً » منصوب ب « كان » وقال الزمخشري : « يجوز أن تكون القلّة بمعنى العدم » .
وقال أبو حَيَّان : وما ذهب إليه من أن « قليلاً » يراد به النَّفي فصحيح ، لكن في غير هذا التركيب ، أعني قوله تعالى : « فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ » لأن « قليلاً » انتصب بالفعل المثبت ، فصار نظير : « قمت قليلاً » أي : قمت قياماً قليلاً ، و لا يَذْهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت ، وجعلت « قليلاً » منصوباً نعتاً لمصدر ذلك الفِعْل يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة ، أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأساً وعدم وقوعه بالكلية ، وإنما الذي نقل النحويون : أنه قد يراد بالقلّة النفي المحض في قولهم : « أقل رجل يقول ذلك وقلّما يقوم زيد » ، وإذا تقرر هذا فحمل القلّة على النفي المحض هنا ليس بصحيح « انتهى .
وأجيب [ بأن ما ] قاله الزمخشري من أن معنى التقليل هنا النَّفي قد قال به الوَاقِدِيّ قبله ، كما تقدم فإنه قال : » أي : لا قليلاً ولا كثيراً « ، كما تقول : قلّما يفعل كذا ، أي : ما يفعله أصلاً .

وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)

اتفقوا على أنّ هذا الكتاب غير ما هو معهم ، وما ذاك إلاَّ القرآن .
قوله : « مِنْ عِنْدِ اللهِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه في محلّ رفع صفة ل « كتاب » ، فيتعلّق بمحذوف ، أي كتاب كائن من عند الله .
والثاني : أن يكون في محلّ نصب لابتداء غاية المجيء قاله أبو البقاء .
وقد رد أبو حيان هذا الوجه فقال لا يقال : إنه يحتمل أن يكون « من عند الله » متعلقاً ب « جَاءَهُمْ » ، فلا يكون صفةً ، للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما يعني أنه ليس معمولاً للموصوف ولا للصفة ، فلا يفتقر الفصل به بينهما .
والجمهور على رفع « مصدق » على أنه صفة ثانية ، وعلى هذا يقال : قد وجد صفتان إحداهما صريحة ، والأخرى مؤولة ، وقد قدّمت المؤولة .
وقد تقدم أن ذلك ممتنع ، وإن زعم بعضهم أنه لا يجوز إلا ضَرُورَةً .
والذي حسن تقديم غير الصريحة أن الوصف بيكنونته من عند الله آكد ، وأن وصفه بالتصديق ناشىء عن كونه من عند الله .
وقرأ ابن أبي عبلة : « مصدقاً » نصباً ، وكذلك هو في مصحف أُبَيّ ، ونصبه على الحال ، وفي صاحبها قولان :
أحدهما : أنه « كتاب » .
فإن قيل : كيف جاءت الحال من النكرة؟
فالجواب : أنها قربت من المعرفة لتخصيصها بالصفة وهو « مِنْ عِنْد اللهِ » كما تقدم .
على أن سيبويه أجاز مجيئها منها بلا شَرْطٍ ، وإلى هذا الوجه أشار الزمخشري .
والثاني : أنه الضَّمير الذي تحمله الجار والمجرور لوقوعه صفةً ، والعامل فيها إما الظرف ، أو ما يتعلق به ، ولهذا اعترض بعضهم على سيبويه في قوله : { مجزوء الوافر ]
654 لِمَيَّةَ مَوحِشاً طَلَلُ ... يَلَوحُ كَأَنَّه خِلَلُ
إن « موحشاً » حال من « طَلَل » ، وساغ ذلك لتقدمه ، فقال : لا حاجة إلى ذلك ، إذ يمكن أن يكون حالاً من الضمير المستكنّ في قوله : « لِمَيَّةَ » الواقع خبراً ل « طَلَل » ، وجوابه في موضع غير هذا . واللام في « لما معهم » وقعت لتعدية « مصدق » لكونه فرعاً . و « ما » موصولة ، والظَّرف صلتها ، ومعنى كون مصدقاً ، أي : موافقاً لما معهم من التوراة في أمر يتعلّق بتكاليفهم بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ، وما يدلّ عليها من العلامات والنعوت ، فإنهم عرفوا أنه ليس بموافق لما مَعَهُمْ في سائر الشَّرائع ، وعلمنا أنه لم ترد الموافقة في أدلّة القرآن؛ لأن جميع كتب الله كذلك ، فلم تبق إلاَّ الموافقة فيما ذكرناه .
قوله : « وَكَانُوا » يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون معطوفاً على « جاءهم » فيكون جوابا « لما » مرتباً على المجيء والكون .

والثاني : أن يكون حالاً ، أي : وقد كانوا ، فيكون جواب « لما » مرتباً على المجيء بقيد في مفعوله ، وهم كونهم يستفتحون .
قال أبو حيان : وظاهر كلام الزمخشري أن « وكانوا » ليست معطوفة على الفعل بعد « لما ، ولا حالاً لأنه قدر جواب » لما « محذوفاً قبل قبل تفسيره يستفتحون ، فدلَّ على أن قوله : » وكانوا « جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله : » ولما « . وهذا هو الثالث .
و » مِنْ قَبْلُ « متعلق ب » يستفتحون « ، والأصل : من قبل ذلك ، فلما قطع بني على الضم .
و » يَسْتَفْتِحُونَ « في محل نصب على أنه خبر » كان « .
واختلف النحويون في جواب » لما « الأولى الثانية .
فذهب الأخفش والزَّجاج إلى أن جواب الأولى محذوف تقديره : ولما جاءهم كتاب كفروا به ، وقدّره الزمخشري : » كذبوا به واستهانوا بمجيئه « . وهو حسن ، ونظيره قوله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال } [ الرعد : 31 ] أي : لكان هذا القرآن .
وذهب الفَرّاء إلى أن جوابها الفاء الداخلة على » لما « ، وهو عنده نظير قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ } [ البقرة : 38 ] قال : لا يجوز أن تكون الفاء ناسقة ، إذ لا يصلح موضعها » الواو « .
و » كَفَرُوا « جواب » لما « الثانية على القولين .
وقال أبو البَقَاءِ : في جواب » لما « الأولى وجهان :
أحدهما : جوابها » لما « الثانية وجوابها ، وهذا ضعيف؛ لأن » الفاء « مع » لما « الثانية ، و » لما « لا تجاب بالفاء إلاَّ أن يعتقد زيادة » الفاء « على مايجيزه الأخفش .
قال شهاب الدين : ولو قيل برأي الأخفش في زيادة » الفاء « من حيث الجملة ، فإنه لا يمكن هاهنا لأن » لما « لا يجاب بمثلها ، لا يقال : » لما جاء زيد لما قعد أكرمتك «
على أن يكون » لما قعد « جواب » لما جاء « والله أعلم .
وذهب المبرد إلى أن » كفروا « جواب » لما « الأولى ، وكررت الثَّانية لطول الكلام ، ويفيد ذلك تقرير الذنب وتأكيده كقوله تعالى : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ } [ المؤمنون : 35 ] إلى قوله : { أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } [ المؤمنون : 35 ] ، وهو حسن لولا أن » الفاء « تمنع من ذلك .
وقال ابو البقاء بعد أن حكى وجهاً أول : والثاني : أن » كفروا « جواب الأولى والثانية؛ لأن مقتضاها واحد .
وقيل : الثانية تكرير ، فلم تحتج إلى جواب .
فقوله : وقيل : الثانية تكرير ، هو قول المبرّد ، وهو في الحقيقة ليس مغايرةً للوجه الذي ذكره قبله من كون » كفروا « جواباً لهما بل هو هو .

فصل في الاستفتاح
اختلفوا في هذا الاستفتاح ، فقال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة والسّدي : نزلت في بني « قريظة » و « النضير » كانوا يستفتحون على « الأوس » و « الخزرج » برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المبعث .
وقال أبو مسلم : كانوا يقولون لمخالفيهم : غداً القتال هذا نبي قد أظلّ زمان مولده ، ويصفونه بأنه نبي ، ومن صفته كذا ، ويتفحّصون عنه على الذين كفروا ، أي : على مشركي العرب .
وقيل : إن اليهود وقبل مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يستفتحون أي : يسألون الفَتْح والنصر ، وكانوا يقولون : اللّهم افتح علينا ، وانصرنا بالنبي الأمّيّ [ المبعوث ] في آخر الزمان الذي نجد صِفَتَهُ في التوراة ، وكانوا يستنصرون ، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظلّ زماننا نبيٌّ يخرج بتصديق ما قلنا ، فنقتلكم معه قَتْلَ عَادٍ وإرَم ، فلما جاءهم ما عرفوا يعني محمداً صلى الله عليه وسلم من غير بني إسرائيل ، وعرفوا نَعْتَهُ وصدقه كفروا به بَغْياً .
[ وقيل : ] نزلت في أَحْبَار اليهود كانوا إذا قرأوا وذكروا محمداً في التوراة ، وأنه مبعوث من العرب سألوا مشركي العرب عن تلك الصِّفات ليعلموا أنه هل ولد فيهم من يوافق حاله حال هذا المبعوث وهذه الآية دلّت على أنهم كانوا عارفين بنبوته .
فإن قيل : التوراة نقلت نقلاً متواتراً ، فإما أن يقال : إنه حصل فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم على سبيل التَّفصيل أعني بيان أن الشَّخص الموصوف بالصُّورة الفلانية ، والسيرة الفلانية سيظهر في السَّنة الفلانية في المكان الفُلاني ، أو لم يوجد هذا الوصف على هذا الوجه ، فإن كان الأول كان القوم مضطرين إلى معرفة شَهَادَةِ التوراة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام فكيف يجوز على أهل التواتر إطباقهم على الكذب؟ وإن لم يكن الوصف على هذه الصفة لم يلزم من الأوصاف المذكورة في التوراة [ كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً فكيف قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } والجواب : أن الوصف المذكور في التوراة ] كان وصفاً إجمالياً ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يعرفوا نبوته بمجرد تلك الأوصاف ، بل كانت كالمؤكدة ، فلهذا ذمهم الله تعالى على الإنكار .
قال ابن الخطيب : وأما كُفْرهم فيحتمل أنهم كانوا يظنّون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة من جاء من الأنبياء من بني إسرائيل ، وكانوا يرغبون النَّاس في دينه ، ويدعونهم إليه ، فلما بعث الله محمداً من العرب من نسل إسماعيل عَظُمَ ذلك عليهم ، فأظهروا التكذيبن وخالفوا طريقهم الأول . وهذا فيه نظر؛ لأنهم كانوا عالمين أنه من العرب .
ويحتمل أنهم لأجل اعترافهم بنوّته كان يوجب عليهم زوال رِيَاسَتِهِمْ وأموالهم ، فَأَبَوْا وأصرُّوا على الإنكار .
ويحتمل أنهم ظنوا أنه مبعوث إلى العرب خاصّة ، فلا جرم كفروا به .
قوله : { فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } جحملة من مبتدأ أو خبر متسببة عمّا تقدم ، والمصدر هنا مضاف للفاعل ، وأتى ب « على » تنبيهاً على أن اللَّعْنة قد استعلت عليهم وشملتهم . وقال : « على الكافرين » ولم يقل : « عليهم » إقامة للظَّاهر مقام المضمر ، لينبّه على السبب المقتضي لذلك وهو الكفر .

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)

« بِئْس » فعل ماض غير متصرِّف ، معناه الذَّمُّ ، فلا يعمل إلاَّ في معرَّف ب « أل » أو فيما أضيف إلى ما هُمَا فيه ، أو في مضمر مفسَّر بنكرة ، أو في « مَا » على قول سيبويه .
وفيه لغات : بَئِسَ بكسر العين وتخفيف هذا الأصل ، وبِئِسَ بكسر الفاء إتباعاً للعين ، وتخفيف هذا الإتباع ، وهو أشهر الاستعمالات ومثلها « نِعْمَ » في جميع ما تقدم من الأحكام واللغات .
قال ابن الخطيب : ما كان ثانية حرفَ حَلْق وهو مكسورٌ يجوز فيه أربع لغات :
الأول : على الأصل أعني : بفتح الأول وكسر الثاني .
والثاني : إتباع الاول للثاني ، وهو أن يكون بكسر النون والعين ، كما يقال : « فِخِذٌ » بكسر الفاء والخاء ، وهم وإن كانوا يفرُّون من الجمع بين الكَسْرتين إلاَّ أنهم جَوّزوه ها هنا؛ لكون الحرف الحَلْقيٍّ مستتبعاً لما يجاوره .
الثالث : إسكان الحرف الحَلْقيِّ المكسور ، وترك ما قبله ما كان ، فيقال : نَعْمَ وَبَأْسَ بفتح الأول وإسكان الثاني؛ كما يقال : « فَخْذٌ » .
الرابع : أن يسكن الحرف الحَلْقِيُّ ، وتنقل كسرته إلى ما قبله فيقال : « نِعْم » بكسر النون وإسكان العين؛ كما يقال : « فِخْذٌ » بكسر الفاء وإسكان الخاء .
واعلم أن هذا التغيير الأخير ، وإن كان في حّدِّ الجواز عند إطلاق هاتين الكلمتين ، إلاّ أنهم جعلوه لازماً لهما؛ لخروجهما عمًّا وضعت له الأفعالُ الماضية من الإخبار عن وجود المصدر في الزمان والماضي ، وصيرورتهما كلمتي مَدْحِ وذَمٍّ ، ويراد بهما المُبَالغة في المدح والذم؛ ليدلّ هذا التَّغيير اللازم في اللَّفظ على التغيير عن الأصل ، وفي المعنى؛ فيقولون : « نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ » ولا يذكرونه على الأصل إلا في ضرورة الشِّعْر؛ كما أنشد المبرِّد : [ الرمل ]
655 فَفِدَاءَ لِبَنِي قَيْسٍ عَلَى ... مَا أَصَابَ النَّاسَ مِنْ شَرَّ وَضُرْ
مَا أَقَلَّتْ قَدَمَايَ إِنَّهُمْ ... نَعِمَ السَّاعُونَ في الأَمْرِ المُبِرْ
وهما فعلان من نَعِمَ يَنْعَمُ وَبئِسَ يَبْأَسُ .
والدليل عليه دخول التاء التي هي علامة التأنيث فيهما ، فيقال : نعمتْ وبئستْ .
وزعم الكوفيون أنهما اسمان؛ مستدلين بدخول حرف الجر عليهما في قول حسان : [ الطويل ]
656 أَلَسْتُ بِنِعْمَ الجَارُ يُؤْلِفُ بَيْتَهُ ... مِنَ النَّاسِ ذّا مَالٍ كَثِيرٍ وَمُعْدِمَا
وبما روي أن أعرابيًّا بشر بمولوده فقيل له : نعم المولودة مولودتك! فقال : « والله ما هي نيعم المولودة : نُصْرتها بكاء ، وبرّها سرقة » و « نِعْمَ السَّيْر على بِئْسَ العِيرِ » . وقوله : [ الرجز ]
657 صَبَّحَكَ اللهُ بِخَيْرٍ بَاكِرِ ... بِنِعْمَ طَيْرٍ وَشَبَابٍ فَاخِرِ
وخرجه البصريون على حذف موصوف ، قامت صفته مقامه ، تقديره : والله ما هي بمولدة مَقُول فيها : نعم المولودة .
فصل في نعم وبئس
اعلم أنَّ « نعم وبئس » أصلان للصّلاح والرَّدَاءة ، ويكون فالعها اسماً يستغرق الجنس إما مظهراً وإما مضمراً ، فالمظهر على وجهين :
الأول : كقولك : « نعم الرجل زيد » لا تريد رجلاً دون رجل ، وإنما تقدص الرَّدل على الإطلاق .

والثاني : نحو قولك : « نعم غلام الرَّجل زيد » .
وأما قوله : [ البسيط ]
658 فَنِعْمَ صَاحِبُ قَوْمٍ لاَ سِلاَحَ لَهُمْ ... وَصَاحِبُ الرَّكْبِ عُثْمَانُ بْنُ عَفانا
فنادر .
وقيل : كان ذلك لأجل أن قوله : « وَصَاحِبُ الرَّكْبِ » قد دل على المقصود؛ إذ المراد واحد ، فإذا أتى بالمركّب بالألف واللام ، فكأنه قد أتى به في القوم ، وأما المضمر فكقولك : « نعم رجلاً زيد » الأصل : نعم الرجل رَجُلاً زيد الأصل ثم ترك ذكر الأول؛ لأن النكرة المنصوبة تدل عليه .
ف « رجلاً نصب على التمييز ، مثله في قولكك عشرون رَجُلاً والمميّز لا يكون إلا نكرة ، ألا ترى أن أحداً لا يقول : » عشرون الدّرهم « ولو أدخلوا الألف واللام على هذا فقالوا : » نعم الرجلُ « بالنصب لكان نقضاً لِلْغَرَضِ ، وإذ لو كانوا يريدون الإتيان بالألف واللام لرفعوا ، وقالوا : : » نعم الرجلُ « وكَفَوْا أنفسهم مؤنة الإضمار ، وإنما أضمروا الفاعل قصداً للاختصار ، إذ كان » نعم رجلاً « يدل على الجنس الذي فضل عليه .
فصل في إعراب المخصوص بالمدح في أسلوب » نِعْمَ «
إذا قلت : » نعم الرجل زيد « فهو على [ وجهين ] :
أحدهما : أن يكون متبدأ مؤخراً ، كأنه قيل : » زيد نعم الرجل « أخرت » زيداً « والنية به التقديم كما تقول : مررت به المسكين تريدك المسكين ممرت به ، فأما الراجع إلى المبتدأ ، فإن الرجل لما كان شائعاً ينتظر فيه الجِنْس كان » زيد « داخلاً تحته ، فصار بمنزلة الذكر الذي يعود إليه .
والوجه الآخر : أن يكون » زيد « في قولك : » نعم الرجل زيد « خبرا مبتدأ محذوف ، كأنه لما قبلك نعم الرجل قيل : من هذا الذي أثنى عليه؟ فقيل : زيد ، أي : هو زيد .
فصل في شرط نعم وبئس
ولا بد بعد هذين الفعلين من خصوصين من المَدْح أو الذم ، وقد يحذف لقرينة وأما » ما « الواقعة بعد » بئس « كهذه الآية ، فاختلف فيها النحاة ، هل لها محلّ من الإعراب أم لا؟
فذهب الفراء : إلى أنها مع » بئس « شيء واحد ركّب تركيب » حَبَّذا « ، نقله ابن عطية عنه نقل عنه المَهْدوي أنه يجوز أن تكون » ما « مع » بئس « بمنزلة » كلما « ، فظاهر هذين النقلين أنها لا محل لها .
وذهب الجمهور أن لها محلاًّ ، ثم اختلفوا في محلّها هل هو رفع أو نصب؟ .
فذهب الأخفش إلى أنها في محلّ نصب على التمييز ، والجملة بعدها في محل نصب صفة لها ، وفاعل » بئس « مضمر تفسره » ما « ، والمخصوص بالذم هو قوله : » أَنُ يَكْفُرُوا « لأنه في تأويل مصدر ، والتقدير : بئس هو شيئاً اشتروا به أنفسهم كُفْرهم ، وبه قال الفارسي [ في أحد قوليه ] ، واختاره الزَّمخشري ، ويجوز على هذا أن يكون المخصوص بالذَّم محذوفاً و » اشتروا « صفة له في محلّ رفع تقديره : بئس شيئاً شيء أو كفر اشتروا به ، كقوله : [ الطويل ]

659 لَنِعْمَ الْفَتَى أَضْحَى بَأكْنَافِ حَائِلٍ ..
أي : فَتًى أَضْحَى .
و « أَنْ يَكْفُرُوا » بدل من ذلك المحذوف أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو أن يكفروا . وذهب الكسائي إلى أ ، « ما » منصوبة المحلً أيضاً ، [ لكنه ] قدر بعدها « ما » موصولة أخرى بمعنى « الذي » ، وجعل الجملة من قوله : « اشْتَرَوا » صلتها ، و « ما » هذه الموصولة هي المخصوص بالذم ، والتقدير : بئس شيئاً الذي اشتروا به أنفسهم ، فلا محلّ ل « اشتروا » على هذا ، أو يكون « أن يكفروا » على هذا القول خبراً لمبتدأ محذوف كما تقدم .
فتلخّص في الجملة الواقعة بعد « ما » على القول بنصبها ثلاثة أقوال :
الأول : أنها صفة لها ، فتكون في محلّ نصب ، أو صلة ل « ما » المحذوفة ، فلا محلّ لها ، أو صفة للمخصوص بالذم فتكون في محل رفع .
وذهب سيبويه : إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل « بئس » ، فقال سيبويه : هي معرفة تامّة ، التقدير : بئس الشيء ، والمخصوص بالذم على هذا محذوف ، أي : شيء اشتروا به أنفسهم وعزي هذا القول أيضاً للكسائي .
وذهب الفراء والكسائي أيضاً إلى أن « ما » موصولة بمعنى « الذي » ، والجملة اشتروا به أنفسهم أن يكفروا ، ف « أن يكفروا » هو المخصوص بالذم .
قال أبو حَيَّان : وما نقله ابن عطية عن سيبويه هم عليه ونقل المَهْدوي وابن عطيّة عن الكسائي أيضاً أن « ما » يجوز أن تكون مصدرية ، والتقدير : بئس اشتراؤهم ، فتكون « ما » وما في حيّزها في محل رفع .
قال ابن عطيية : وهذا معترض؛ لأن « بئس » لا تدخل على اسم معيّن يتعرف بالإضافة إلى الضمير .
قال أبو حَيَّان : وهذا لا يلزم ، إلاَّ إذا نصّ أنه مرفوع « بئس » ؛ أما إذا جعله المخصوص بالذم ، وجعل فاعل « بئس » مضمراً ، والتمييز محذوفاً لفهم المعنى ، والتقدير : بئس اشتراء اشتراؤهم ، فلا يلزم الاعتراض .
قال شهاب الدين : وبهذا أعني : بجعل فاعل « بئس » مضمراً فيها جوز أبو البقاء في « ما » أن تكون مصدرية ، فإنه قال والرابع : أن تكون مصدرية ، أي بئس شراؤهم ، وفاعل « بئس » على هذا مضمر؛ لأن المصدر هنا مخصوص ليس بجنس يعني فلا يكون فاعلاً ، لكن يبطل هذا القول عود الضمير في « به » على « ما » والمصدرية لا يعود عليها؛ لأنه حذف عند الجمهور .

فصل في المراد بالشراء في الآية
في الشراء هنا قولان :
أحدهما : أنه بمعنى البيع ، بيانه أنه تعالى لما مكن المكلّف من الإيمان الذي يفضي به إلى الجنة ، والكفر الذي يؤدّي به إلى النَّار صار اختياره لأحدهما على الآخر بمنزلة اختيار مالك السِّلعة ثمنها على سلعته ، فإذا اختار الإيمان مِلْك بملك صلح أن يوصف كلّ واحد منهما بأنه بائع ومشترٍ لوقوع هذا المعنى من كل واحد منهما .
الوجه الثاني : أن المكلّف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله تعالى يأتي بأعمال ينظن أنها تخلصه من العقاب ، فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال ، فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخصلهم من العقاب ، ويوصّلهم إلى الثواب ، فقد ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم به ، فذمّهم الله تعالى وقال : { بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } .
قوله : « أو يكفروا » قد تقدم فيه أنه يجوز أن يكون هو المخصوص بالذم ، ففيه الأوجه الثلاثة إما متبدأ أو خبره الجملة قبله ، ولا حاجة إلى الرابط؛ لأن العموم قائم مقامه ، إذ الألف واللام في فاعل « نعم وبئس » للجنس ، أو لأن الجملة نفس المبتدأ ، وإما خبر لمبتدأ محذوف وإما مبتدأ أو خبره محذوف ، وتقدم أنه يجوز أن يكون بدلاً أو خبراً لمبتدأ حسبما تقرّر وتحرر .
وأجاز الفراء أن يكون في محلّ جر بدلاً من الضمير في « به » إذا جعلت « ما » تامة .
قوله : « بَمَا أَنْزَلَ اللهُ » متعلّق ب « كفروا » ، وتقدّم أن « كفر » يتعدّى بنفسه تارة ، وبحرف الجر أخرى ، و « ما » موصولة بمعنى « الذي » ، والعائد محذوف تقديره : أنزله ، ويضعف جعلها نكرة موصوفة ، وكذلك جعلها مصدريّة ، والمصدر قائم مقام المفعول ، أي : بإنزاله يعني : بالمنزل .
قوله : « بَغْياً » فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مفعول من أجله وهومستوفٍ لشروط النصب ، وفي الناصب له قولان :
أحدهما وهو الظاهر أنه يكفروا ، أي علة كفرهم البَغْي ، وهذا تنبيه على أن كفرهم [ بَغْي وحَسَد ] ، ولولا هذا القول لجوزنا أن يكون كفرهم جهلاً ، والمراد بذلك : كفرهم بالقرآن ، لأن الخطاب لليهود ، وكانوا مؤمنين بغيره فبيّن تعالى غرضهم من هذا البَغْي بقوله : { أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ البقرة : 90 ] وهذا لا يليق إلا باليهود؛ لأنهم ظنوا أن ذلك الفضل العظيم بالنبوّة المنتظرة تحصل في قومهم ، فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على الحَسَد والبَغْي .

والقول الثاني : أن الناصب لقوله « بَغْياً » « اشْتَروا » ، وإليه ينحو كلام الزمشخري ، فإنه قال : « وهو علّة » اشتروا .
الوجه الثاني : أنه منصوب على المصدر بفعل مَحْذوف يدل عليه ما تقدم ، أي : بَغَوا بغياً .
والثالث : أنه في موضع حالٍ ، وفي صاحبها القَوْلاَن المتقدّمان : إما فاعل « اشتروا » ، وإما فاعل « يكفروا » ، تقديره : اشتروا باغين ، أو يكفروا باغين .
والبَغْي : أصله الفَسَاد ، من قولهم : بغي الجرح أي : فسد ، قاله الأَصْمعي .
وقيل : هو شدة الطلب ، ومنه قوله تعالى : { مَا نَبْغِي } [ يوسف : 65 ] ومنه البّغِيّ للزانية ، لشدة طلبها له وقال القُرْطبي : البغي معناه : الحَسَد ، قاله قتادة والسُّدي ، وهو مفعول من أجله ، وهو في الحقيقة مصدر .
[ وقال الراجز : [ السريع او الرجز ]
660 أنْشُدُوا الْبَاغِي يُحِبُّ الْوِجْدَانْ ... قَلاًئِصاً مُخْتَلِفَاتِ الأَلوَانْ ]
قوله : « أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول من أجله ، والناصب له « بغياً » أي : علّة البغي إنزال الله فَضْله على محمد عليه الصلاة والسلام .
والثاني : أنه على إسقاط الخافض ، والتقدير : بغياً على أن ينزل ، اي : حسداً على أن ينزل ، فجيء فيه الخلاف المَشْهُور ، أهو في موضع نصب أو جر؟
والثالث : أنه في م حل جر بدلاً من « ما » في قوله تعالى : « بِمَا أَنْزَلَ اللهُ » [ بدل اشتمال أي بإنزال الله ] فيكون كقول امرىء القيس : [ الطويل ]
661 أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... فَتَصُرُ عَنْهَا خُطْوَةً أَوْ تُبُوصُ
وقرأ أبو عمرو وابن كثير جميع المضارع مُخَففاً من « أنزل » إلا ما وقع الإجماع
على تشديده في « الحجر » { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ } [ الحجر : 21 ] وقد خالفا هذا الأصل .
أما أبو عمرو فإنه شدد { على أَن يُنَزِّلٍ آيَةً } [ الأنعام : 37 ] في « الأنعام » .
وأما أبن كثير فإنه شدّد في الإسراء { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن } [ الإسراء : 82 ] { حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً } [ الإسراء : 93 ]
والباققون بالتشديد في جميع المضارع إلاّ حمزة والكسائي ، فإنهما خالفا هذا الأصل مخففاً { وَيُنَزِّلُ الغيث } آخر لقمان [ لقمان : 34 ] { وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث } في الشورى [ الآية : 28 ] .
والهمزة والتضعيف للتعدية ، وقد تقدم : هل بينهما فَرْق؟ وتحقيق كلّ من القولين ، وقد ذكر القراء مناسبات الإجماع على الشديد في تلك المواضع ، ومخالفة كلّ واحد أصله؟ لماذا بما يطول ذكره والأظهر من ذلك كله أنه جمع بين اللغات .
قوله : « مِنْ فَضْلِهِ » من لابتداء الغاية ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه صفة لموصوف محذوف هو مفعول « ينزل » أي : ينزل الله شيئاً كائناً من فَضْله ، فيكون في محلّ نصب .
والثاني : أن « من » زائدة ، وهو رأي الأخفش ، وحينئذ فلا تعلق له ، والمجرور بها هو المفعول أي : أن ينزل الله فضله .
قوله : « عَلَى مَنْ يَشَاءُ » متعلّق ب « ينزل » و « من » يجوز أن تكون موصولةً ، أو نكرة موصوفة ، والعائد على الموصول أو الموصوف محذوف لاستكمال الشُّروط المجوزة للحذف ، والتقدير : على الذي يَشَاؤه ، أو على رجل يَشَاؤه .

وقدره أبو البقاء مجروراً فإنه قال بعد تجوزه في « من » أن تكون موصوفة أو موصولة « ومفعول يشاء محذوف ، أي : يشاء نزوله عليه ، ويجوز أن يكونك يشاء يختار ويَصْطفي » انتهى .
وقد عرفت أن العائد المجرور لا يحذف إلاَّ بشروط ، وليست موجودة هنان فلا حاجة إلى هذا التقدير .
قوله : « مِنْ عِبَادِهِ » فيه قولان .
أحدهما : أنه حال من الضَّمير المحذوف الذي هو عائد على الموصوف أو الموصول ، والإضافة تقتضي التشريف .
والثاني : أن يكون صفةً ل « من » بعد صفة على القول بكونها نكرة ، قاله أبو البقاء وهو ضعيف؛ لأن البداية بالجار والمجرور على الجملة في باب النعت عند اجتماعهما أولى لكونه أقرب إلى المفرد فهو في محلّ نصب على الأول وجرّ على الثاني ، وفي كلا القولين متعلّق بمحذوف وجوباً لما تقرر .
قوله : « فَبَاءُوا بِغَضَبٍ » الباء للحال ، أي : رجعوا ملتبسين بغضب ، أي مغضوباً عليهم ، وقد تقدم ذلك .
قوله : « عَلَى غَضَبٍ » في محلّ جر؛ لأنه صفة لقوله : « بِغَضَبٍ » أي : كائن على غضب أي بغضب مترادف .
فصل في تفسير الغضب
في تفسير الغَضَبِ وجوه :
أحدها : لا بد من إثبات سببين للغضبين :
أحدهما : تكذيبهم عيسى عليه الصلاة والسلام وما أنزل عليه ، والآخر تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم قاله الحسن والشَّعبي وعكرمة وأبو العالية وقتادة .
وقال ابن عباس ومجاهد : الغضب الأول تضييعهم التَّوراة وتبديلهم .
والثاني : كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وقال عطاء ، وأبو عبيد : ليس المراد إثبات الغضبين فقط ، بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور مترادفة صدرت عنهم نحو قولهم : { عُزَيْرٌ ابن الله } [ التوبة : 30 ] { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } [ المائدة : 64 ] { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [ آل عمران : 181 ] وغير ذلك من أنواع كفرهم .
وقال أبو مسلم : المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل الكفر ، وإن كان واحداً إلا أنه عظيم .
وقال السدي : الغَضَبُ الأول بعبادتهم العِجْل والثاني بكتمانهم صفة محمد وجَحْدهم نبوّته .
قولهك « مهين » صفة ل « عذاب » . واصله : « مُهْوِن » ؛ لأنه من الهوان ، وهو اسم فاعل من أهان يُهِين إهانة مثل : أقام يقيم إقامة ، فنقلت كسرة « الواو » على الساكن قبلها ، فسكنت « الواو » بعد كسرة ، فقلبت ياء .
والإهانةك الإِذْلالَ والخِزْي . وقال « وَلِلْكَافِرِيْنَ » ولم يقل : « ولهم » تنبيهاً على العلّة المقتضية للعذاب المُهين ، فيدخل فيها أولئك الكفّار وغيرهم .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

« وإذ قيل لهم » : يعني اليهود .
« آمنوا بما أنزل الله » : أي بكل ما أنزل الله ، والقائلون بالعموم احتجّوا بهذه الآية على أن لفظه « ما » بمعنى « الذي » تفيد العموم ، قالوا : لأن الله تعالى أمرهم أن يؤمنوا بما أنزل الله ، فلما آمنوا بالبعض دون البعض ذمهم على ذلك ، ولولا أنَّ لفظة « ما » تفيد العموم لما حسن هذا الذم ، ثم إنه تعالى أمره بذلك { قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } يعني : التوراة وكتب سائر الأنبياء الذي أتوا بتقدير شَرْع موسى عليه السلام ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم يكفرون بما وراءه ، هو الإنجيل والقرآن ، وأورد هذه الحكاية عنهم على سبيل الذَّملهم ، وذلك أنه لا يجوز أن يقال لهم : آمنوا بما أنزل الله إلاَّ ولهم طريق إلى أن يعرفوا كونه منزلاً من عند الله ، وإلاَّ كان ذلك تكليف ما لا يُطَاق ، وإذ أول الدليل على كونه منزلاً من عند الله وجب الإيمان به ، فإيمانهم بالبَعْضِ دون البَعْضِ تناقض ، ويجاب بوجيهن :
أحدهما : أن العموم إنما استفيد من عموم العلّة ، وهو كونه من عند الله؛ لأن كلّ ما أنزله الله يجب الإيمان بكونه منزلاً من عند الله لا لكون « ما » يقتضي العموم .
الثاني : أنا لا نمنع أن « ما » استعمل للعموم؛ لأن ذلك مجال لا خلاف فيه ، وإنما الخلاف في كونها هل هي موضوعة للعموم أو لا؟
فالقائل بأنها ليست موضوعةً للعموم أنها إنما استعملت للعموم مجازاً هاهنا .
فإن قيل : الأصل في الاستعمال الحقيقة .
فالجواب : أنها لو كانت للعموم حقيقةً لما جاز إدخال لفظة « كل » عليها .
فإن قيل : إنما دخلت « كلّ » للتوكيد .
فالجواب : أن أصل المؤكّد يأتي بعد ما يؤكده لا قبله .
قوله : « وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ » يجوز في هذه الجملة وَجْهَان :
أحدهما : أن تكون : استئنافية استؤنفت ] للإخبار بأنهم يكفرون بما عدا التَّوْراة ، فلا محل لها من الإعراب .
والثاني : أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : وهم يكفرون ، والجملة في محلّ نصب على الحال ، والعامل فيها « قالوا » ، أي قالوا : نؤمن حال كونهم كافرين بكذا ، ولا يجوز أن يكون العامل فيها « نؤمن » .
قال أبو البقاء : إذا لو كان كذلك لكان لفظ الحال نكفر ، أي ونحن نكفر . يعني : فكان يجب المُطَابقة .
ولا بد من إضمار هذا المبتدأ لما تقدم من أن المضارع المثبت لا يقترن بالواو ، وهو نظير قوله : [ المتقارب ]
662 ... نَجَوْتُ وَأَرْهَنُنُمْ مَالِكَا
وحُذِفَ الفاعل من قوله تعالى : « بِمَا أُنْزِلَ » وأقيم المفعولُ مقامه للعلم به ، إذ لا يُنَزِّل الكتب السماوية إلا الله ، أو لتقدم ذكره في قوله : « بِمَا أَنْزَل الله » .

قوله : « بِمَا وَرَاءَهُ » متعلّق ب « يكفرون » و « ما » موصولة ، والظروف صلتها ، فمتعلّقةُ فعل ليس إلا و « الهاء » في « وراءه » تعود على « ما » في قوله : « نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِل » .
و « وَرَاء » من الظروف المتوسّطة التصرف ، وهو ظرف مكان ، والمشهور أنه بمعنى « خلف » وقد يكون بمعنى « أمام » قال تعالى : { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [ الكهف : 79 ] .
وقال : { وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } [ الإنسان : 27 ] فهو من الأضداد ، وفسره الفراء هُنَا بمعنى « سوى » التي بمعنى « غير » .
وفسره أبو عبيدة وقتادة بمعنى « بعد » .
وفي همزة قولان :
أحدهما : أنه أصل بنفسه [ وإليه ذهب ابن جني مستدلاً ] بثبوتها في التصغير في قولهم : « وريئة » .
الثاني : أنها مبدلة من ياء ، لقولهم : تواريت .
قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تكومن الهمز بدلاً من واو؛ لأن ما فاؤه واو ، لا تكون لامه واواً إلاّ ندوراً نحو : « واو » اسم حرف هجاء ، وحكم « وَرَاء » حكم « قَبْلُ » و « بَعْدُ » في كونه إذا أضيف أعرب ، وإذا قطع بني على الضم .
وأنشد الأخفش على ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
663 إِذَا أَنَا لَمْ أُومَنْ عَلَيْكَ وَلَمْ يَكْنُ ... لِقَاؤُكَ إِلاَّ مِنْ وَرَاءُ وَرَاءُ
وفي الحديث عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : « كُنْتُ خَلِيْلاً مِنْ وَرَاءُ وَرَاءُ » .
وثبوت الهاء في تصغيرها شاذّ؛ لأن ما زاد من المؤنث على ثلاثة لا تثبت الهاء في مصغره إلا في لفظتين شذتا وهما : « ورئية » و « قديديمة » : تصغير « وراء » و « قدام » .
وقال ابن عصفور : لأنهما لم يتصرفا فلو لم يُؤنَّثَا في التصغير لتُوُهِّمَ تذكيرهما .
والوراء : ولد الولد أيضاً .
قوله : « وَهُوَ الْحَقُّ » مبتدأ أو خبر ، والجملة في محلّ نصب على الحالن والعامل فيها قوله « يكفرون » [ وصاحبها فاعل يكفرون ] وأجاز أبو البقاء أن يكون العامل الاستقرار الذي في قوله : « بما وراءه » أي بالذي ا ستقرّ وراءه ، وهو الحق .
وهذا إشارة إلى وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لما ثبت نبوّته بالمعجزات التي ظهرت عليه ، ثم إنه عليه الصَّلاة والسَّلام أخر أن هذا القرآن منزّل من عند الله ، وأن فيه أمر المكلفين به ، فكان الإيمان به محقّق لا مَحَالة .
قوله : « مُصَدِّقاً » حال مؤكدة ، لأن قوله : « وَهُوَ الْحَقُّ » قد تضمّن معناها ، والحال المؤكدة : إما أن تؤكد عاملها ، نحو :

{ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } [ البقرة : 60 ] وإما أن تؤكد مضمون جملة ، فإن كان الثاني التزم بإضمار عاملها ، وتأخيرها عن الجملة ، ومثله أنشد سيبويه : [ البسيط ]
664 أَنا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفاً بِهَا نَسَبِي ... وَهَلْ بِدَارَةَ يَا لَلنَّاسِ مِنّ عَارِ
والتقدير : وهو الحق أحُقّه مصدقاً وابنَ دَارَةَ أعْرَف معروفاً ، هذا تقرير كلام النحويين ، وأما أبو البقاء ، فإنه قال : مصدقاً حال مؤكِّدة ، والعامل فيها ما في « الحق » من معنى الفعل ، إذ المعنى : وهو ثابت مصدقاً ، وصاحب الحال الضمير المستتر في « الحَقّ » عند قوم ، وعند آخرين صاحب الحال ضمير دلّ عليه الكلام ، و « الحق » : مصدر لا يتحّمل الضمير على حسب تحمّل اسم الفاعل له عندهمم .
فقوله : « وعند آخرين » هو القول الذي قدّمناه وهو الصواب ، و « ما » في قوله : « لِمَا مَعَهُمْ » في موضع خفض باللام ، و « معهم » صلتها ، و « معهم » نصب بالاستقرار .
فصل في بيان ما تشير إليه الآية
وهذا أيضاً إشارة إلى وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من وَجْهَيْنِ :
الأول : أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يتعلم [ علماً ] ، ولا استفاد من أُسْتاذ ، فلما أخبر بالحكايات والقصص موافقاً لما في التوراة من غير تفاوت أصلاً علمنا أنه عليه الصلاة والسلام إنما استفادها من الوَحْي والتنزيل .
والثاني : أن القرآن يدلّ على نبوته عليه الصَّلاة والسَّلام فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق للتوراة ، وجب اشتمال التَّوْراة على الإخبار عن نبوته ، وإلاَّ لم يكن القرآن مصدقاً للتوراة ، بل مكذباً لها ، وإذا كانت التوراة مشتملةً على نبوته عليه الصَّلاة والسَّلام ، وهم قد اعترفوا بموجوب الإيمان بالتوراة لزمهم من هذه الجهة وجوب الإيمان بالقرآن .
قوله : « فلم تقتلون » الفاء جواب شرط مقدر وتقديره : إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم قتلتم الأنبياء؟ وهذا تكذيب لهم؛ [ لأن الإيمان بالتوراة مناف لتقل أشرف خلقه وذلك ] لأن التوراة دلّت على أن المعجزات تدلّ على الصدق ، وتدل على أنّ من كان صادقاً في ادعاء النبوة كان قتله كفراً ، وإذا كان الأمر كذلك كان السعي في قَتْل يحيى وزكريا وعيسى عليهم السلام كفراً فلم سعيتم في ذلك إن صدقتم في ادّعائكم كونكم مؤمنين بالتوراة؟
و « لم » جار ومجرور ، واللام حرف ، و « ما » استفهامية في محلّ جرن أي : لأي شيء؟ ولكن حذف ألفها فرقاً بينها وبين « ما » الخبرية .
وقد تحمل الاستفهامية على الخبرية فتثبت ألفها؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
665 عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ

وهذا ينبغي أن يُخَصّ بالضرورة ، كما نص عليه بعضهم ، والزمخشري يجيز ذلك ، ويخرج عليه بعض أي القرآن ، كما قد تحمل الخبرية على الاستفهامية في الحَذْف في قولهم : اصنع بم شئت وهذا لمجرد التشبيه اللفظي .
وإذا وُقِفَ على « ما » الاستفهامية المجرورة ، فإن كانت مجرورة باسم وَجَبَ لَحاقُ هاء السَّكْت نحو مجيء « مه » ، وإن كانت مجرورة بحرف فالاختيار اللحاق ، والفرق أن الحرف يمتزج بما يدخل عليه فتقوى به الاستفهامية ، بخلاف الاسم المضاف إليها ، فإنه في نيّة الانفصال ، وهذا الوَقْف إنما يجوز ابتداء ، أو بقطع نفس ، ولا جَرَمَ أن بعضهم منع الوَقْف على هذا النحو قال : « إنه إن وقف بغير هاء كان خطأ؛ لنقصان الحرف ، وإن وقف بها خالف السَّواد » .
لكن البزي قد وقف بالهاء ، ومثل ذلك لا يُعد مخالفة للسَّواد ، ألا ترى إلى إثباتهم بعضَ ياءات الزوائد .
والجار متعلق بقوله : « تقتلون » ، ولكنه قُدِّم عليه وجوباً ، لأن مجروره له صدر الكلام ، والفاء وما بعدها من « تقتلون » في محلّ جزم ، وتقتلون وإن كان بصيغة المضارع ، فهو في معنى الماضي [ لفهم المعنى ] ، وأيضاً فمعه قوله « مِنْ قَبْل » [ وأيضاً فإن الأنبياء عليهم السلام إنما كانوا في ذلك الزمان ، وأيضاً فالحاضرون لم يفعلوا ذلك ولا يتأتى لهم قتل الماضيين ] ، وجاز إسناد القتل إليهم وإن لم يَتَعَاطَوه؛ لأنهم لما كانوا راضين بفعل أَسْلاَفهم جعلوا كأنهم فعلوا هم أنفسهم .
فإن قيل : كيف جاز قوله : « فَلِمَ تَقْتُلُونَ » من قبل ، ولا يجوز أن يقال : أنا أضربك أمس؟
فالجواب من وَجْهَيْن :
الأول : أن ذلك جائز فيما كان بمنزلة الصّفة اللازمة كقولك لمن تعرفه بما سلف من قبح فعله : ويحك لم تكذب؟ كأنك قلت : لم يكن هذا من شأنك .
قال الله تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين } [ البقرة : 102 ] ولم يقل : ماتلت الشياطين؛ لأنه أراد من شأنها التلاوة .
والثاني : كأنه قال : لم ترضون بقتل الأنبياء من قبل إن كنتم مؤمنين بالتوراة؟
قال بعضهم : جاء « تقتلون » بلفظ الاستقبال ، وهو بمعنى المُضِيّ لما ارتفع الإشكال بقوله : « من قبل » وإذا لم يشكل فجائز أن يأتي الماضي بمعنى المستقبل وبالعكس .
قال الحطيئة : [ الكامل ]
666 شَهِدَ الْحُطَيْئَةُ يَوْمَ يَلْقَى رَبَّهُ ... أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ
شهد بمعنى يشهد .
قوله : « إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » .
في : « إنْ » قولان :
أحدهما : أنها شرطية ، وجوابه محذوف تقديره : إن كنتم مؤمنين فلم فعلتم ذلك؟
ويكون الشرط وجوابه قد ذكر مرتين فَحُذِفَ الشَّرْط من الجملة الأولى ، وبقي جوابه وهو : فلم تقتلون ، وحذف الجواب من الثَّانية ، وبقي شرطه ، فقد حذف من كلّ واحدة ما أثبت في الأخرى .
قال ابن عطية رحمه الله : جوابها متقدم ، وهوقوله « فلم » وهذا إنما يتأتى على قول الكُوفيين ، وإبي زيد .
والثاني : أن « إن » نافية بمعنى « ما » أي : ما كنتم مؤمنين لمُنَافَاةِ ما صدر منكم الإيمان .

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)

« بِالبَيِّنَاتِ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون حالاً من « موسى » أي : جاءكم ذا بيِّنات وحُجَج ، أو ومعه البينات .
وثانيهما : أن يكون مفعولاً ، أي : بسبب إقامة البَيّنات ، وهي قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [ الإسراء : 101 ] وهي : العصا والسّنون واليد والدم والطّوفان والجراد والقمل والضفادع وفلق البحر .
وقيل : البينات التوراة وما فيها من الدّلالات .
واللام في « لقد » لام القسم .
« ثم أتَّخَذْتُمُ العِجْل » توبيخ ، وهو أبلغ من « الواو » في التَّقريع بها والنظر في الآيات ، أي بعد النظر في الآيات والإتيان به اتّخذتم ، [ وهذا يدّل على أنهم إنما فلعوا ذلك بعد مُهْلة من النظر في الآيات ، وذلك أعظم لجُرْمهم ] . وما بعده من الجمل قد تقدم مثله ، والسبب في تكريرها أنه تعالى لما حركى طريقة اليَهُودِ في زمان محمد عليه الصَّلاة والسَّلام ، وصفهم بالعِنَادِ والتكذيب ، ومثلهم بسلفهم في [ قتلهم ] الأنبياء الذي يناسب التكذيب؛ بل يزيد عليه إعادة ذكر موسى عليه السلام وما جاء به من البيّنات ، وأنهم مع وضوح ذلك أجازوا أن يتخذو العجل إلهاً وهو مع ذلك صابر ثابت على الدعاء إلى ربه ، والتمسّك بدينه ، فكذلك القول في حالي معكم وإن بالغتم في التَّكذيب والإنكار .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

قوله : « واسمعوا » أي أطيعوا وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط ، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه ، ومنه قولهم : سمع الله لمن حمده ، أي قبل وأجاب؛ قال [ الوافر ]
667 دَعَوْتُ اللهَ حَتَّى خِفْتُ أَلاَّ ... يَكُونَ اللهُ يَسْمَعُ ما أَقُولُ
أي يقبل .
وقال الرَّاجز : [ الرجز ]
668 وَالسَّمْعُ والطَّاعة والتَّسْلِيمْ ... خَيْرٌ وَأَعْفَى لِبَنِي تَمِيمْ
فصل في التكرار
وفي هذا التكرير وجها :
أحدهما : أنه للتأكيد ، وإيجاب الحُجَّة على الخصم .
الثاني : كرره لزيادته على دلالة وهي قولهم : « سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا » [ فرفع الجبل لا شك أنه من أعظم المعجزات ، مع ذلك أصرُّوا على كفرهم ، وصرحوا بقولهم : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } [ النساء : 46 ] ] .
وأكثر المفسرين ذكروا أنهم قالوا هذا القول .
وقال أبو مسلم : يجوز أن يكون المعهنى سمعوه فقتلوه بالعصيان ، فعبر عن ذلك بالقول ، وإن لم يقولوه كقوله تعالى : { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] وكقوله : { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] والأول أولى ، لأن هذا صَرْف للكلام عن ظاهره بغير حاجة .
قوله : « وأُشْربوا » يجوز أن يكون معطوفاً على قوله . « قَالُوا : سَمِعْنَا » ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل « قالوا » أي : قالوا ذلك ، وقد أشربوا . ولا بد من إضمار « قد » ليَقْرُبَ الماضي إلى الحال خلافاً للكوفيين ، حيث قالوا : لا يحتاج إليها ، ويجوز أن يكون مستأنفاً لمجرد الإخبار بذلك .
واستضعفه أبو البقاء رحمه الله تعالى قال : لأنه قال بعد ذلك : « قل بِئْسَمَا يأمركم » فهو جواب قولهم : « سمعنا وعصينا » فالأولى ألا يكون بينهما أجنبي .
و « الواو » في « أشربوا » وهي المفعول الأول قامت مقام الفاعل ، والثاني هو « العِجْل » ؛ لأن « شرب » يتعدّى بنفسه ، فأكسبته الهمزة مفعولاً آخر ، ولا بد من حذف مُضَافين قبل « العِجْل » والتقدير : وأشربوا حُبَّ العِجْل .
وحسن حَذْفُ هذين المضافين للمبالغة في ذلك حتى كأنه تُصُوِّر إشراب ذات العِجْل ، والإشراب مُخَالطة المائع بالجامد ، ثم اتّسع فيه حتى قيل في الألوان نحو : أشرب بياضُه حُمْرةً ، والمعنى : أنهم دَاخَلَهم حُبُّ عبادته ، كما داخلَ الصّبغُ الثوبَ .
ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
669 إذّا ما القَلْبُ أُشْرِبَ حُبَّ شَيْءٍ ... فَلاَ تَأْمَلْ لَهُ الدَّهْرَ انْصِرَافا
وعبر بالشرب دون الأكل؛ لأ ، الشرب يَتَغَلْغَلُ في باطن الشيء ، بخلاف الأكل فإنه مُجَاور؛ ومنه في المعنى : [ الطويل ]
670 جَرَى حُبُّهَا مَجْرَى دَمِي في مَفَاصِلِي ..
وقال بعضهم : [ الوافر ]
671 تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فُؤَادِي ... فَبَادِيهِ مَعَ الخافِي يَسِيرُ
تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ ... وَ حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرورُ
أَكَادُ إِذَا ذكَرْتُ العَهْدَ مِنْهَا ... أَطِيرُ لَوَ أنَّ إِنْسَاناً يَطِيرُ
فهذا وجه الاستعارة .
وقيل : الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض ، فكذلك كانت تلك المحبة مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال .

وقيل : الإشراب هنا حقيقة؛ لأنه يروى أن موسى عليه الصلاة والسلام برد العجل بِالمبْرد ، ثم جعل تلك البُرَادة في الماء ، وأمرهم بشربه ، فمن كان يحب العجل ظهرت البُرَادة على شَفَتَيْهِ .
روي القَشَيْري رحمه الله أنه ما شربه أحد إلا جُنَّ .
قال القرطبي رحمه الله : أما تَذْرِيَتُهُ في الماء فقد دلّ عليه قوله تعالى : { ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً } [ طه : 97 ] ، وأما شرب الماء وظهور البُرَادة على الشِّفاه وهذا وإن كان قال به السّدي وابن جريج وغيرهما فردّه قوله : « في قُلُوبِهِمْ » .
فصل في فاعل الإشراب
قوله : « وأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِم » يدلّ على أن فاعلاً غيرهم بهم ذلك ، ومعلوم أنه لا يقدر عليه سوى الله تعالى .
أجاب المعتزلة بوجهين :
الأول : ما أراد الله تعالى أن غيرهم فعل بهم ذلك ، لكنهم لِفَرْطِ ولوعهم وَإِلْفِهِمْ بعبادته أشربوا قلوبهم حُبّه ، فذكر ذلك على ما لم يسمّ فاعله كما يقال : فلان معجب بنفسه .
والثاني : أن المراد من « أشرب » أي : زيّنه لهم ، ودعاهم إليه كالسَّامري ، وإبليس ، وشياطين الإنس والجن .
وأجابوا : بأن هذا صرف اللَّفظ عن عن ظاهره ، وذلك لا يجوز المصير إليه إلاّ بدليل منفصل ، وقد أقيمت الدلائل العقلية القَطْعية على أن محدث الأشياء هو الله تعالى فلا حاجة لنا إلى ترك هذا الظاهر .
قوله : « بِكُفْرِهِم » فيه وجهان :
أظهرهما : أن « الباء » سببية متعلّقة ب « أُشْرِبُوا » أي : أ شربوا بسبب كفرهم السَّابق .
والثاني : أنها بمعنى « على » يعنون بذلك أنها للحال ، وصاحبها في الحقيقة ذلك للفاعل المحذوف أي : أشربوا حبّ عبادة العِجْل مختلطاً بكفرهم ، والمصدر مضاف للفاعل ، أي : بأن يكفروا .
قوله : « قُلْ » بِئْسَمَا يَأمُرُكُمْ « كقوله : » بِئْسَمَا اشْتَرَوْا « .
والمعنى : فبئسما يأمركم به إيمانكم الذي زعمتم في قولكم : { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ } [ البقرة : 91 ] .
وقيل : إن هذا خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأمر له بأن يوبّخهم أي : قل لهم يا محمد : بئس هذه الأشياء التي فعلتم ، وأمركم بها [ إيمانكم ] أي : بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العِجْل وإضافة الأمر إلى إيمانهم كما قالوا لشعيب صلى الله عليه وسلم : { أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ } [ هود : 87 ] .
قوله : » إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ « يجوز فيها الوجهان السابقين من كونها نافيةً وشرطيً ، وجوابه محذوف تقديره : فبئسما يأمركم .
وقيل : تقديره : فلا تقتلوا أنبياء الله ، وَلاَ تُكَذِّبُوا الرّسل ولا تكتموا الحق؛ وأسند الإيمان إليهم تهكُّماً بهم ، ولا حاجة إلى حذف صفة ، أي إيمانكم الباطل ، أو حذف مُضَاف ، أي : صاحب إيمانكم .
وقرأ الحسن : » بِهُو إيمَانُكُمْ « بضم الهاء مع الواو .
فإن قيل : الإيمان عرض ، ولا يصح الأمر والنهي .
فالجواب : أن الدَّاعي إلى الفعل قد يشبه بالأمر كقوله : { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] .

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)

وهذا نوع آخر من قبائح أفعالهم ، وهو زعمهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون النَّاس ، ويدلّ عليه أنه لايجوز أن يقال للخصمك إن كان كذا أو كذا فافعل كذا ، والأول مذهبه ، ليصحّ إلزام الثاني عليه .
ويدلّ على ذلك أيضاً قولهم : { يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] وقولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] وقولهم : { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] .
وأيضاً اعتقادهم في أنفسهم أنهم همم المحقّون؛ لأن النسخ غير جائز في شرعهم ، وأن سائر الفرق مبطلون ، وأيضاً اعقادهم أن أنتِسَابَهُمْ إلى أكابر الأنبياء علهيم الصلاة والسلام ، أعني : يعقوب وإسماعيل وإسحاق وإبراهيم عليه السلام يخصلهم من [ عقاب ] الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه ، فكذّبهم الله تعالى وألزمهم الحُجّة ، فقال : قل لهم يا محمد : إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الجَنّة خالصة من دون النَّاس ، فتمنوا الموت : فأريدوه وأسألوه؛ لأن من علم أنا لجنة مَأْواه حنّ إليها؛ لأن نعم الدنياعلى قلّتها كانت منغصةً عليهم بسبب ظهور محمد عليه الصلاة والسلام ومنازعته لهم بالجِدَالِ والقتال ، ومن كان في النّعم القليلة المنغصة ، وهو يتيقّن بعد الموت أنه ينتقل إلى تلك النعم العظيمة ، فإنه لا بد وأن يرغب في الموت .
وقيل : إن الله تعالى صرفهم عن إظْهَار التمنِّي ، وقصرهم على الإمساك ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم .
وقيل : فمتنّوا الموت : ادعوا بالموت على الفِرْقَةِ الكاذبة . روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لو تمنوا الموت لشرق كلّ إنسان بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلاَّ مات » .
قوله : { إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً } شرط جوابه « فَتَمَنّوا » .
و « الدار » اسم « كان » وهي الجنة ، والأولى أن يقدّر حذف مضاف ، أي : نعيم الدار الآخرة؛ لأن الدَّار الآخرة في الحقيقة هي انقضاء الدُّنيا ، وهي للفريقين . واختلفوا في خير « كان » على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه « خالصة » ، فيكون « عند » ظرف ل « خالصة » ، أو للاستقرار الذي « لكم » ويجوز أن تكون حالاً من « الدار » ، والعامل فيه « كان » ، أو الاستقرار .
وأما « لكم » فيتعلق ب « كان » ؛ لأنها تعمل في الظرف وشبيهه .
قال أبو البقاء رحمه الله تعالى : ويجوز أن تكون للتبيين ، فيكون موضعها بعد « خالصة » أي : خالصة لكم فتتعلّق بنفس « خالصة » ، وهذا فيه نظر؛ لأنه متى كانت للبيان تعلّقت بمحذوف تقديره : أعني لكم ، نحو : سُقْياً لك ، تقديره : أعني بهذا الدعاء لك ، وقد صرح غيره في هذا الموضع بأنها للبيان ، وأنها متعلّقة حينئذ بمحذوف كما تقدم ، ويجوز أن يكون صفة ل « خالصة » في الأصل قُدْمَ عليها فصار حالاً منها ، فيتعلّق بمحذوف .

الثاني : أن الخبر « لكم » فيتعلّق بمحذوف وينصب خالصة حينئذ على الحال ، والعامل فيها إما « كان » ، أو الاستقرار في « لكم » ، و « عند » منصوب بالاستقرار أيضاً .
الثالث : أن الخبر هو الظَّرف ، و « خالصة » حال أيضاً ، والعامل فيها إما « كان » أو الاستقرار ، وكذلك « لكم » ، وقد منع من هذا الوجه قَوْمٌ فقالوا : لا يجوز أن يكون الظرف خبراً؛ لأن هذا الكلام لا يستقل .
وجوز ذلك المهدوي ، وابن عطية ، وابو البقاء ، واستشعر أبو البقاء هذا الإشكال ، وأجاب عنه بأن قال : وسوغ أن يكون « عند » خبر « كان لكم » يعني لفظ « لكم » سوغ وقوع « عند » خبراً إذ كان فيه تخصيص وَتَبْيِينٌ ، ونظيره قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] ، لولا « له » لم يصحّ أن يكون « كفواً » خبراً .
و « مِنْ دُونِ النَّاسِ » في محلّ نصب ب « خالصة » ؛ لأنك تقول : خَلُصَ كذا من كذا ، والمراد به سوى لا معنى المكان ، كما يقول القائل لمن وهب منه ملكاً : هذا لك دون النّاس .
وقرأ الجمهور : « فتَمَنَّوُا المَوْتَ » بضم الواون ويروى عن أبي عمرو فتحها تخفيفاً واختلاس الضمة ، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها على التقاء السَّاكنين تشبيهاً بواو { لَوِ استطعنا } [ التوبة : 42 ] المراد بها عندية المنزلة .
قال ابن الخطيب : « ولا بعد أيضاً في حمله على [ المكان ] فلعل اليهود كانوا مشبّهة ، فاعقدوا العِنْدِيَة المكانية » .
وقوله تعالى : « فتمنوا الموت » هذا أمر متعلّق على أمر مفقود ، وهو كونهم صادفين ، فلا يكون الأمر موجوداًن أو الغرض إظهار كذبهم في دعواهم ، وفي هذا التمني قولان :
أحدهما : قول ابن عباس : إنهم أمروا بأن يَدْعُوَ الفريقان بالموت على الفرقة الكاذبة .
والثاني : أن يقولوا : ليتنا نموت وهذا أولى؛ لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ .
قال عليه الصلاة والسلام : « لَوْ تَمَنَّوا المَوْتَ لَغَصَّ كُلُّ إنْسَانٍ بِرِيقِهِ وَمَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الأَرضِ يَهُودِيٌّ إلاَّ مَاتَ » وقال عليه الصلاة والسلام : « لَوْ أنَّ اليَهُودَ تَمَنَّوا المَوْتَ لماتُوا ورَأوا مَقَاعِدَهُمْ من النَّارِ وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ [ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ] ، لَرَجَعُوا إلاَ يَجِدُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً » .
قوله تعالى : { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } كقوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 91 ] .
فصل في سؤالات واردة
السؤال الأول : لعلّهم كانوا يعلمون أن نعم الآخرة عظيمة لا سبيل إليها إلاَّ بالموت ، والذي يتوقف عليه المطلوب يجب أن يكون مطلوباً لكونه وسيلةً إلى ذلك المطلوب ، إلاَّ أنه يكون مكروهاً نظراً إلى ذاته ، والموت مما لا يحصل إلا بالآلام العظيمة ، وما كانوا يطيقونها ، فلا جرم ما تمنوا الموت .

السؤال الثاني : أنه كان لهم أن يقلبوا هذا السؤال على محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون إنّك تدَّعي الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر ، فإنْ كان الأمر كذلك فارْض بأن نقتلك ونقتل أمتك ، فإنَّا نراك ونرى أمتك في الضّر الشديد ، والبلاء العظيم بسبب الجدال والقتال ، وبعد الموت فإنكم تتخلّصون إلى نعيم الجنّة ، فوجب أن ترضوا بقتلكم .
السؤال الثالث : لعلّهم كانوا يقولون : الدار الآخرة خالصة لمن كان على دينهم ، لكن بشرط الاحتراز عن الكَبَائر ، فأما صاحب الكبيرة فإنه يبقى مخلداً في النار أبداً؛ لأنهم كانوا وعدوا به ، أو لأنهم جوّزوا في صاحب الكبيرة أن يصير معذباً ، فلأجل هذا ما تمنّوا الموت ، وليس لأحد أن يدفع هذا السُّؤال بأن مذهبهم أنه لا تمسُّهم النار إلاَّ أياماً معدودة؛ لأن كلّ يوم من أيام القيامة كألف سنة ، فكانت هذه الأيام ، وإن كانت قليلة بحسب العدد ، لكنها طويلة بحسب المدة ، فلا جَرَمَ ما تمنّوا الموت بسب الخوف .
السؤال : الرابع : أنه عليه الصلاة والسَّلام نهي عن تمنّي الموت فقال : « لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُم المَوْت لِضُرِّ نَزَلَ بِهِ وَلَكِنْ لِيَقْلْ : اللَّهُمَّ أَحْيِنِي إِنْ كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْراً لِي وتَوَفَّنِي إِنْ كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْراً لِي » وأيضاً قال تعالى : في كتابه : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا } [ الشورى : 18 ] فكيف يجوز أن ينهى عن الاستعجال ، ثم إنه يتحدّى القوم بذلك؟
السؤال الخامس : أنَّ لفظ التمني بين التمنّي الذي هو المعنى القائم بالقلب ، وبين اللفظ الدَّال على ذلك المعنى ، وهو قول القائل : ليتني متّ ، فلليهود أن يقولوا : إنك طلبت منا التمني ، والتمنّي لفظ مشترك ، فإن ذكرناه باللِّسان ، فله أن يقول : ما أردت به هذا اللَّفظ ، وإنما أردت به المعنى الذي في القَلْب ، وإن فعلنا ذلك المعنى القائم بالقَلْب ، فله أن يقول : كذبتم ما أتيتم بذلك في قلوبكم ، ولما علم اليهود أنه أتى بلفظة مشتركة لا يمكن الاعتراض عليها لا جرم لم يلتفتوا إليه .
السؤال السادس : هَبْ أن الدار الآخرة لو كانت لهم لوجب أن يتمنّوا الموت ، فلم قلت : إنهم لم يتمنوا الموت؟ والاستدلال بقوله تعالى : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } ضعيف؛ لأن الاستدلال بهذا إنما يصحّ لو ثبت كون القرآن حقًّا ، والنزاع ليس إلا فيه .
والجواب كون الموت متضمناً للآلام يكون كالصارف عنه تمنّيه .
قلنا : كما أن الألم الحاصل عند الحجَامَةِ لا يصرف عن الحِجَامَةِ للعلم الحاصل؛ لأن المنفعة الحاصلة عن الحِجَامة عظيمة وجب أن يكون الأمر هاهنا كذلك .

وقوله : لو قلبوا الكلام على محمد لزمه أن يرضى بالقتل .
قلنا : الفرق بين محمد عليه الصلاة والسلام وبينهم أن محمداً كان يقول : إني [ مبعوث ] لتبليغ الشَّرَائع إلى أهل التَّوَاتر ، وهذا المقصود لم يحصل بعد فالأجل هذا لا أرضى بالقَتْل ، وأما أنتم فلستم كذلك فظهر الفرق .
وقوله ثالثاً : كانوا خائفين من العقاب .
قلنا : القوم ادعوا أن الآخرة خالصة لهم ، وذلك يؤمنهم من الامتزاج .
وقوله رابعاً : نهي عن تمني الموت .
قلنا : هذا النهي طريقه الشرع ، فيجوز أن يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأوقات .
فصل في بيان متى يُتمنى الموت
روي أن عليًّا رضي الله عنه كان يطوف بين الصَّفَّيْن في [ غِلالَة ] ، فقال له ابنه الحسن رضي الله عنه ما هذا بِزِيِّ المحاربين ، فقال : بابنيَّ ، لا يبالي أبوك أعلى المَوْتِ سقط أم عليه [ بسقط ] .
وقال عمار رضي الله عنه ب « صفين : [ الرجز ]
672 الآن أُلاَقِي الأَحِبَّة ... مُحَمداً وَحِزْبَهُ
وقد ظهر عن الأنبياء في كثر من الحالات تمنّي الموت على أن هذا النهي مختصّ بسبب مخصوص ، فإنه عليه الصلاة والسلام حَرّم أن يتمنّى الإنسان الموت عند الشَّدائد؛ لأن ذلك كالجزع والخروج عن الرضا بما قسم الله تعالى فإين هذا مما نحن فيه؟
وقوله خامساً : » إنهم ما عرفوا المراد التمنّي باللسان أم بالقلب؟ « .
قلنا : التمني في لغة العرب لا يعرف إلا بما يظهر بالقول ، كما أن الخبر لا يعرف إلاَّ بما يظهر بالقول ، ومن المحال أن يقول عليه الصلاة والسلام : » تَمَنَّوا المَوْتَ « ، ويريد بذلك [ ما لا يمكن الوقوف عليه ] ، مع أن الغرض بذلك لا يتمّ إلاَّ بظهوره .
وقوله سادساً : ما الدليل على أنه ما وجد التمنّي؟ قلنا من وجوه :
أحدها : لو حصل ذلك لنقل نقلاً متواتراً؛ لأنه أمر عظيم ، فإنه بتقدير عدمه يثبت القول بصحّة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبتقدير حصول هذا التمنّي يبطل القول بنبوّته ، وما كان كذلك من الوقائع العظيمة ، فوجب أن ينقل نقلاً متواتراً ، ولما لم ينقل علمنا أنه لم يوجد .
وثانيها : أنه عليه الصلاة والسلام مع تقدّمه في الرأي والحزم ، وحسن النَّظر في العاقبة ، والوصول إلى الرياصة العظيمة التي انْقَادَ لها المخالف قَهْراً والموافق طوْعاً ، لا يجوز وهو غير واثقِ من جهة رَبّه بالوحي النازل عليه أن يتحدَّاهم بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه ، ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجّة؛ لأن العاقل الذي لم [ يعرف ] الأمور لم يرض بذلك ، فكيف الحال في أعقل العقلاء؟ فثبت أنه عليه الصلاة والسلام ما أَقْدَمَ على هذه الأدلة إلا بوحي من الله تعالى إليه بأنهم لا يتمنونه .

وثالثها : ماروى ابن عباس رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : « لَوْ تَمَنَّوا المَوْتَ لَشَرِقُوا بهِ وَلَمَاتُوا » وقد نطق القرآن بذلك في قوله : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } أي : ولو تمنّوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم ردًّا على النبي صلى الله عليه وسلم وإبطالاً لحجّته . والحديثان المتقدّمان ، وبالجملة الأخبار الواردة في أنهم ما تمنوا الموت بلغت مبلغ التواتر .
قوله : « وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ » خبر قاطع عن أنّ ذلك لايقع في المستقبل ، وهذا إخبار عن الغيب؛ لأن من توفّر الدواعي على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وسهولة الإتيان بهذه الكلمة أخبر أنهم لا يأتون بذلك ، فهذا إخبار جازم عن أمر قامت الأمارات على ضدّه ، فلا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي .
قوله : « أبداً » منصوب ب « يتمنّوه » ، وهو ظرف زمان يقع للقليل والكثير ، ماضياً كان أو مستقبلاً .
قال القرطبي : كالحين والوقت ، وهو هاهنا من أول العمر إلى الموت تقول : ما فعلته أبداً .
وقال الراغب هو عبارة عن مدّة ا لزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان ، وذلك أنه يقال : زمان كذا ، ولا يقالك أبدُ كذا ، وكان من حقّه على هذا ألاَّ يثنى ولا يجمع ، وقد قالوا : آباد ، فجمعوه لاختلاف أنواعه .
وقيل : آباد لغة مولّدة ، ومجيئه بعد « لن » يدلّ على أن نفيها لا يقتضي التأبيد ، وقد تقدم غير ذلك ، ودعوى التأكيد فيه بعيدة .
فصل في بيان أن بالآية غيبين
واعلم أن هذا أخبار عن غيب آخر ، لأنه أخبر أن ذلك لا يوجد في شيء من الأزمنة ، ولاشك أن الإخبار عن عدمه بالنسبة إلى عموم الأوقات فهما غَيْبان ، وقال هنا : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ } [ البقرة : 95 ] فنفى ل « لن » ، وفي الجمعة ب « لا » [ قال صاحب « المنتخب » : ] وذلك لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك؟ لأن السعادة القُصْوَى فوق مرتبة الولاية؛ لأن الثانية تراد لحصول الأولى ، فإنهم ادعوا هنا أنَّ الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ، وادعوا في سورة « الجمعة » أنهم أولياء لله من دون النَّاس ، والسعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب؛ ومرتبة الولاية وإن كانت شريفة إلا أنها لا تراد ليتوسّل بها إلى الجنة ، فلما كانت الأولى أعظم لا جَرَمَ ورد النفي ب « لن » ؛ لأنه أبلغ من النفي ب « لا » .
قوله : « بما قَدَّمَتْ أيديهم » بيان للعلّة التي لها لا يتمنّون؛ لأنه إذا علموا سوء طرقهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى عدم تمنّي الموت ، وهذه الجملة متعلّقة ب « يتمنّوه » ، والباء للسببية ، أي : بسبب اجْتِرَاجِهِم العظائم ، و « أيديهم » في محلّ رفع حذفت الضمة من الباء لثقلها مع الكسرة .

و « ما » يجو فيها ثلاثة أوجه :
أظهرها : كونها موصولةً بمعنى « الذي » .
والثاني : نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف ، أي : بما قدّمته ، فالجملة لا محلّ لها على الأولى ، ومحلّها الجر على الثاني .
والثالث : أنها مصدرية أي : بِتَقْدِمَةِ أيديهم .
ومفعول « قدمت » محذوف أي : بما قدمت أيديهم الشَّر ، أو التبديل ونحوه .
قوله : « واللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ » ابتداء وخبر ، وهذا كالزَّجْر والتهديد؛ لأنه إذا كان عالماً بالسر والنجوى لا يخفى عليه شيء صار ذلك من أعظم الصَّوَارف للمكلّف عن المعاصي ، وإنما ذكر الظالمين؛ لأن كلّ كافر ظالم ، وليس كلّ ظالم كافراً ، فذكر الأعم؛ لأنه أولى بالذكر .

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)

فأخبر تعالى أولاً بأنهم لا يتمنّون الموت ، ثم أخبر عنهم هنا بأنهم في غاية الحِرْصِ؛ لأن ثم قسماً آخر ، وهو أن يكون الإنسان بحيث لا يتمنّى الموت ، ولا يتمنّى الحياة .
وهذه « اللام » جواب قسم محذوف ، والنون للتوكيد تقديره : والله لتجدنّهم .
و « وجد » هنا متعدية لمفعولين أولهما لضمير ، والثاني « أحرص » ، وإذا تعدّت لاثنين كانت : ك « علم » في المعنى ، نحو : { وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } [ الأعراف : 102 ] .
ويجز أن تكون متعدية لواحد ، ومعناها معنى « لقي وأصاب » ، وينتصب « أحرص » على الحال ، إما على رأي مَنْ لا يشترط التنكير في الحال ، وإما على رأي من يرى أنَّ إضافة « أفعل » إلى معرفة غير مَحْضَةٍ ، و « أحرص » أفعل تفضيل ، ف « مِنْ » مُرادَةٌ معها ، وقد أضيفت لمعرفة ، فجاءت على أحد الجائزين ، أعني عدم المُطَابقة ، وذلك أنها إذا أضيفت معرفة على نيّة من أجاز فيها وجهي المطابقة لما قبلها نحوك « الزَّيدان أفضلا الرجال » ، و « الزيدون أفاضل الرجال » ، و « هند فُضْلى » و « الهنود فُضْليات النِّسَاء » ومن قوله تعالى : { أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا } [ الأنعام : 123 ] وعدمها ، نحو : « الزيدون أفضل الرجال » ، وعليه هذه الآية ، وكلا الوجهين فصيح خلافاً لابن السّراج . وإذا أضيفت لمعرفة لزم أن تكون بعضها ، ولذلك منع النحويون « يُوسُفُ أحسن إخوته » على معنى التفضيل ، وتأولوا ما يوهم غيره نحو : « النَّاقِصُ والأَشَجُّ أَعْدَ لاَبَنِي مَرْوَانَ » بمعنى العَادِلاَنِ فيهم؛ وأما قوله [ الرجز ]
673 يَارَبَّ مُوسَى أَظْلَمِي وَأَظْلَمُهْ ... فَاصْبُبْ عَلَيْهِ مَلكاً لاَ يَرْحَمُهْ
فشاذٌّ ، وسوغ ذلك كون « أظلم » الثاني مقتحماً كأنه قال : « أَظْلَمُنَا » .
وأما إذا أضيف إلى نكرة فقد تقدّم حكمها عند قوله : { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } [ البقرة : 41 ] .
قوله تعالى : { على حَيَاةٍ } متعلّق بت « أَحْرَصَ » ح لأنّ هذا الفعل يتعدّى ب « على » تقول : حرصت عليه .
والتنكير في حياة تنبيه على أنه أراد حياةً مخصوصةً ، وهي الحياة المتطاولة ، ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قرأءة أبيّ « على الحياة » بالتعريف .
وقيل : : إن ذلك على حذف مضاف تقديره : على طول الحياة ، والظّاهر أنه لا يحتاج إلى تقدير صفة ولا مضاف ، بل يكون المعنى : أنهم أحرص النَّاس على مطلق الحياة .
وإن قلت : فيكف وإن كثرت ، فيكون أبلغ من وصفهم بذلك ، وأصل حياةك « حَيَيَة » تحركت الياء ، وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفاً .
قوله : « ومِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا » يجوز أن يكون متصلاً داخلاً تحت « أفعل » التفضيل ويجوز أن يكون منقطعاً عنه وعلى القول باتّصاله به فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه حمل علكى المعنى ، فإن معنى أحرص الناس : أحرص من الناس ، فكأنه قيل : أحرص من النّاس ، ومن الذين أشركوا .

الثاني : أن يكون حذف من الثَّاني لدلالة الأولى عليه ، والتقدير : وأحرص من الذين أشركوا ، وعلى ما تقرر من كون « مِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوا » متّصلاً ب « أفعل » التفضيل ، فلا بد من ذكر « من؛ لأن » أحرص « جرى على اليهود ، فلو عطف بغير » من « لكان معطوفاً على النَّاس ، فيكون المعنى : ولتجدنَّهم أحرص الذين أشركوا ، فيلزم إضافة » أفعل « إلى غير من درج تحته؛ لأن اليهود ليسوا من هؤلاء المشركين الخاصّين؛ لأنهم قالوا في تفسيرهم : إنهم المجوس ، أو عرب يعبدون الأصنام ، اللّهم إلا أن يقال : إنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل ، فحينئذ لو لم يؤت ب » من « لكان جائزاً .
الثالث : أن في الكلام حذفاً وتقديماً وتأخيراً ، والتقدير : ولتجدنّهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس ، فيكون من » مِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوا « صفة لمحذوف ، ذلك المحذوف معطوف على الضمير في » لتجدّنهم « وهذا وإن كان صحيحاً من حيث المعنى ، ولكنه يَنْبُو عنه التركيب لا سيّما على قول من يَخُصُّ التقديم والتأخير بالضرورة .
وعلى القول بانقطاعه من » أفعل « يكون » من الذين أشركوا « خبراً مقدماً ، و » يودّ أحدهم « صفة لمبتدأ محذوف تقديره : ومن الذين أشركوا قوم أو فريق يودّ أحدهم ، وهو من الأماكن المطّرد فيها حذف الموصوف بجملته كقوله : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] ، وقوله : » منَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أقَامَ « .
والظاهر أن الذين أشركوا غير اليهود كما تقدم وأجاز الزَّمخشري أن يكون من اليهود؛ لأنهم قالوا : عزيزٌ ابن الله ، فيكون أخباراً بأن من هذه الطائفة التي اشتدّ حرصها على الحياة من يودّ لو يعمر ألف سنة ، ويكون من وقوع الظَّاهر المشعر بالغَلَبَةِ موقع المضمر ، إذ التقديرك ومنه قوم يودّ أحدهم .
وقد ظهر مما تقدم أن الكلام من باب عطف المفردات على القول بدخول » من الَّذِين أَشْرَكُوا « تحت » أفعل « ومن باب عطف الجمل على القول بالانقطاع .
فصل في المراد بالذين أشركوا
قيل : االمراد بالذين أشركوا المجوس ، لأنهم كانوا يقولون لملكهم : عش ألف نَيْرُوز وأللإ مِهْرَجَان ، قاله أبو العالية والربيع : وسموا مشركين لأنهم يقولون بالنور والظلمة ، وهذه تحية المجوس فيما بينهم : عِشْ ألف سنة ، ولك ألف نَيْرُوز ومِهْرَجان .
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هو قول الأعاجم : زِهً هَزَارْسال .
وقيل : المراد مشركو العرب .
وقيل : كل مشرك لا يؤمن بالمعاد لما تقدم؛ لأن حرص هؤلاء على الدنيا ينبغي أن يكون أكثر ، وليس المراد ذكر ألف سنة قول الأعاجم [ عش ألف سنة ] بل [ خرج مخرج ] التكثير ، وهو معروف في كلام العرب .

قوله : « يودّ أحدهم » هذا مبني على ما تقدّم ، فإن قيل بأن « من الذين أشركوا » داخل تحت « أفعل » كان في « يود » خمسة أوجه :
أحدها : أنه حال من الضمير في « لتجدنّهم » أي : لتجدنهم وَادًّا أحدهم .
الثاني : أنه حال من الذين أشركوا ، فيكون العامل فيه « أحرص » المحذوف .
الثالث : أنه حال من فاعل « أشركوا » .
الرابع : أنه مستأنف استؤنف للإخبار بتبيين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة .
الخامس : وهو قول الكوفيين : أنه صلة لموصول محذوف ، ذلك الموصول صفة للذين أشركوا ، والتقدير : ومن الذين أشركوا الذين يودّ أحدهم .
وإن قيل بالانقطاع ، فيكون في محلّ رفع؛ لأنه صفة لمبتدأ محذوف كما تقدّم .
قال القرطبي رحمه الله تعالىك أصل « يَوَدُّ » يَوْدَدُ « ، أدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحركين ونقلت حركة الدال إلى الواو ، ليدل ذلك على أنه يفعل .
وحكى الكسائي : وَدَدْتُ ، فيجوز على هذا يَوِدُّ بكسر الواو و » أحد « هنا بمعنى واحد ، وهمزته بدل من واو ، وليس هو » أحد « المستعمل في النفي ، فإن ذاك همزته أصل بنفسها ، ولا يستعمل في الإيجاب المحض . و » يود « مضارع وَدِدْت بكسر العين في الماضي ، فلذلك لم تحذف الواو في المضارع؛ لأنها لم تقع بين ياء وكسرة ، بخلاف » يعد « وبابه .
وحكى الكسائي فيه » وَدَدْتُ « بالفتح .
قال بعضهم : فعلى هذا يقال : » يودّ « بكسر الواو .
و » الوِدَادُ « : التمني .
قوله : » لو يعمّر « في » لو « هذه ثلاثة أقوال :
أحدها : وهو الجاري على قواعد نحاة » البصرة « أنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف لدلالة » يَوَدُّ « عليه ، وحذف مفعول » يَوَدُّ « لدلالة » لو يعمّر « عليه والتقدير : يود أحدهم طول العمر ، لو يعمر ألف سنة لَسُرَّ بذلك ، فحذف من كلّ واحد ما دلّ عليه الآخر ، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب .
والثاني : وبه قال الكوفيون وأبو علي الفارسي وأبو البقاء ، أنها مصدرية بمنزلة » أن « الناصبة ، فلا يكون لها جوابن [ وينسبك ] منها وما بعدها مصدر يكون مفعولاً ل » يودّ « ، والتقدير : يود أحدهم تعميره ألف سنة .
واستدل أبو البقاء بأن الامتناعية معناها في الماضي ، وهذه يلزمها المستقل ك » أنْ « وبأنّ » يَودّ « يتعدى لمفعول ، وليس مما يُعَلق ، وبأن » أنْ « قد وقعت يعد » يود « في قوله { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ }

[ البقرة : 266 ] وهو كثير ، [ وجوابه في غير هذا الكتاب ] .
الثالث : وإليه نحا الزمخشري : أن يكون معناها التمني ، فلا تحتاج إلى جواب؛ لأنها في قوة : « يا ليتني أُعَمَّرُ » ، وتكون الجملة من « لو » وما حيّزها في محلّ نصب مفعول به على طريق الحكاية ب « يود » إجراء له مجرى القول .
قال الزمخشري رحمه الله تعالى : فإن قلت : كيف اتّصل « لو يعمر » ب « يود أحدهم » ؟
قلت : هي حكاية لودادتهم و « لو » في معنى التمنّي ، وكان القياسك « لو أُعَمَّر » إلا أنه جرى على لفط العينية لقوله : « يود أحدهم » ، كقولك : « حلف بالله تعالى ليفعلن » انتهى وقد تقدّم شرحه ، إلاّ قوله وكان القياس لو أعمر ، يعني بذلك أنه كان من حقّه أن يأتي بالفعل مسنداً للمتكلم وحده ، وإنما أجرى « يود » مجرى القول؛ لأن « يود » فعل قَلْبي ، والقول ينشأ عن الأمور القلبية
و « الف سنة » منصوب على الظرف ب « يعمر » ، و هو متعد لمفعول واحد قد أقيم مقام الفاعل ، وفي « سنة » قولان :
أحدهما : أن أصلها : سنوة لقولهمك سنوات وسُنَيَّة وسَانَيْت .
والثاني : أنها من « سَنَهَة » لقولهم : سَنَهَاتٌ وسُنَيْهَةٌ وسَانَهْتُ ، واللّغتان ثابتتان عن العرب كما ذكرت لك .
قوله تعالى : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب } في هذا الضمير خمسة أقوال :
أحدها : أنه عائد على « أحد » وفيه حينئذ وجهان :
أحدهما : أنه اسم « ما » الحجازية ، و « بمزحزحه » خبر « ما » ن فهو محل نصب والباء زائدة .
و « أن يعمر » فاعل بقوله : « بمزحزحه » والتقدير : وما أحدهم مزحزحهُ تَعْمِيرُه .
الثاني : من الوجهين في « هو » : أن يكون مبتدأ ، و « بمزحزحه » خبره ، و « أن يعمر » فاعل به كما تقدمن وهذا على كون « ما » تميمية ، الوجه الأول أحسن لنزول القرآن بلغة الحجاز ، وظهور النصب في قوله : { مَا هذا بَشَراً } [ يوسف : 31 ] ، { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } [ المجادلة : 2 ] .
الثاني : من الأقوال : أن يعود على المصدر المفهوم من « يُعَمَّر » ، أيك وما تعميره ، ويكون قوله : « أن يعمر » بدلاً منه ، ويكون ارتفاع « هو » على الوجهين المتقدمين أي قوله : اسم « ما » أو متبدأ .
الثالث : أن يكون كناية عن التعمير ، ولا يعود على شيء قبله ، ويكون « أن يعمّر » بدلاً منه مفسراً له ، والفرق بين هذا وبين القول الثاني أن ذاك تفسيره شيء متقدم مفهوم من الفعل ، وهذا مُفَسَّرٌ بالبدل بعده ، وقد تقدم أن في ذلك خلافاً ، وهذا ما عنى الزمخشري بقوله : ويجوز أن كيون « هو » مبهماً ، و « أن يعمر » موضحه .

الرابعك أنه ضمير الأمر والشأن وإليه نحا الفارسي في « الحلبيَّات » موافقة للكوفيين ، فإنّهم يفسرون ضمير الأمر بغير جملة إذا انتظم من ذلك إسناد مَعْنوي ، نحو : ظننته قائماً الزيدان ، وما هو بقائم زيد؛ لأنه في قوة : ظننته يقوم الزيدان ، وما هو يقوم زيد ، والبصريون يأبون تفسيره إلاَّ بجماعة مصرح بجزئيها سالمة من حرف جر ، وقد تقدم تحقيق القولين .
الخامس : أنه عماد ، نعني به الفصل عن البصريين ، نقله ابن عطيّة عن الطَّبري عن طائفة ، وهذا يحتاج إلى إيْضَاحن وذلك أن بعض الكوفيين يجيزون تقديم العِمَاِ مع الخبر المقدم ، يقولون في زيد هو القائم : هو القائم زيد ، وكذلك هنا ، فإن الأصل عند هؤلاء أن يكون « بمزحزحه » خبراً مقدماً و « أن يعمر » مبتدأ مؤخراً ، و « هو » عماد ، والتقدير : وما تعميره وهو بمزحزحه ، فلما قدم الخبر قدم معه العماد .
والبصريون لا يجيزون شيئاً من ذلك .
و « من العذاب » متعلّق بقوله : « بمزحزحه » و « من » لابتداء الغاية والزحزحة : التَّنحية ، تقول : زحزحته فَزَحْزَح ، فيكون قاصراً ومتعدياً فمن مجيئه متعدياً قوله : [ البسيط ]
674 يَا قَابِضَ الرُّوحِ مِنْ نَفْسِي إِذَا احْتَضَرَتْ ... وَغَافِرَ الذَّنْبِ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ
وأنشده ذو الرُّمَّة : [ البسيط ]
675 يَا قَابِضَ الرُّوح مِن جِسْمٍ عَصَى زَمَناً .. . . .
ومن مجيئه قاصراً قول الآخر : [ الطويل ]
676 خَلِيلَيَّ مَا بَالُ الدُّجَى لاَ يُزَحْزَحُ ... وَمَا بَالُ ضَوْءِ الصُّبْحِ لاَ يَتَوَضَّحُ
قوله : « أَنْ يُعَمَّرَ » : إما أن يكون فاعلاً أو بدلاً من « هو » ، أو مبتدأ حسب ما تقدم من الإعراب في « هو » .
{ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } مبتدأ وخبر ، و « بما » يتعلّق ببصير .
و « ما » يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف أي : يعملونه ، ويجوز أن تكون مصدرية أي : بعملهم .
والجمهور « يعملون » بالياء ، نسقاً على ما تقدم ، والحسن وغيره « تعملون » بالتاء ، وللخطاب على الالتفات ، وأتى بصيغة المضارع ، وإن كان علمه محيطاً بأعمالهم السَّالفة مراعاة لرءوس الآي ، وختم الفواصل .
قال ابن الخطيب : « والبصير قد يراد به العليم ، وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها ، وكلا الوصفين يصحّان عليه سبحانه إلاَّ أن من قال : إن في الأعمال ما لا يصحّ أن يرى حمل هذا البصر على العلم لا محالة » [ قال العلماء رحمهم الله تعالى : وصف الله تعالى نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيَّات الأمور ، والبصير في كلام العرب العالم بالشيء الخبير به .
ومنه قولهم : فلان خبير بالطب ، وبصير بالفقه ، وبصير بُمَلاَقاةِ الرجال .
وقيل : وصف تعالى نفسه بأنه بصير على معنى أنه جاعل الأشياء المبصرة ذوات أبصار أي : مدركة للمبصرات بما خلق لها من الآلة المدركة ] .

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)

هذا نوع آخر من قَبَائح اليهود ، ومنكرات أقوالهم ، فلا بد من أمر قد ظهر من اليهود حتى أمره تعالى بمخاطبتهم بذلك؛ لأنه يجري مجرى المُحَاجّة ، والمفسرون ذكروا أموراً :
أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم « المدينة » أتاه عبد الله بن صوريا فقال يا محمد : كيف نومك ، فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يجيء في آخر الزمان؟ فقال عليه الصلاة والسلام : « تَنَامُ عَيْنَايَ وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي » قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة؟ فقال : « أَمَّا العِظَامُ وَالعَصَبُ وَالعُرُوقُ فَمِنَ الرَّجُل ، وأَمَّا اللَّحْمُ واَلدَّمُ وَالظِّفْرُ وَالشَّعْرُ فِمنَ المَرْأَةٍ » فقال : صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه دون أخواله أو يشبه أخواله دون أعمامه؟ فقال : « أَيُّهُمَا غَلَبَ مَاؤُهُ صَاحِبَهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ » ، قال : صدقت فقال : أخبرني أي الطعام حَرَّمَ إسرائيل على نفسه ، وفي التوراة أن النبي الأمي بخبر عنه؟ فقال عليه الصلاة والسلام : « أَنْشُدُكُمْ بَاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيْلَ مَرِضَ مَرضاً شَدِيْداً فطَالَ سَقَمُهُ فَنَذَرَ الله نَذْراً لَئِنْ عَافَاهُ اللهُ مِنْ سَقَمِهِ لُيُحَرِّمَنَّ عَلَى نَفْسِهِ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَهُوَ لُحْمَانُ الإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا » فقالوا : اللهم نعم .
فقال له : بقيت خصلة واحدة إن قلتها آمنت بكل أي ملك يأتيك بما تقول عن الله عز وجل؟ قال : « جِبْريلُ عليه السلام » .
قال : إن ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدّة ، ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرَّخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك فقال عمر رضي الله تعالى عنه : وما مبدأ هذه العداوة؟ فقال ابن صوريا أول هذه العداوة أن الله تعالى أنزل على نبينا أن « بيت المقدس » سيخرب في زمان رجل يقال له : بخت نصرّ ووصفه لنا [ وأخبرنا بالجنّ الذي يخرب فيه ، فلما كان وقته بعثنا رَجُلاً من قوم بني إسرائيل في طلبه ليقتله ، فانطلق حتى لقي ب « بابل » غلاماً مسكيناً فأخذه ليقتله ] . [ فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالاً ] فدفع عنه جبريل وقال : إن سلطكم الله تعالى على قتله فهذا ليس هو ذاك الذي أخبر الله عنه أنه سيخرب « بيت المقدس » فلا فائدة من قتله ، ثم إنه كبر وقوي وملك ، وغزانا وخرّب « بيت المقدس » ، فلذلك نتّخذه عدوّاً [ فأنزل الله تعالى هذه الآية قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وفي هذا القول نظر؛ لأنهم قالوا في هذه الرواية : إن رسولهم ميكائيل ، وهو الذي يأتي بالبِشْر والرخاءن وأنهم يحبونه ، ثم إنه تعالى أثبت عداوتهم لميكائيل أيضاً في الآية التي تليها فقال : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 98 ] وهذا مناقض لهذه الآية المذكورة هاهنا ] .

وثانيها : قال قتادة وعكرمة والسّديكم كان لعمر بن الخَطَّاب رضي الله عنه أرض بأعلى « المدينة » وممرها على مِدْرَاس اليهود ، وكان إذا أتى على أرضه يأتيهم ، وسمع منهم ، فقالوا له ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك ، فإنهم يمرّون علينا فيؤذوننا وأنت لا تؤذينا ، وإنا لنطمع فيك فقال عمر رضي الله عنهك والله ما آتيكم لحيّكم ولا أسألكم لأني شاكّ في ديني ، وإني أدخل علكيم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى لله عليه وسلم وأرى أثاره في كتابكم فقالوا : مَنْ صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة فقال : جبريل فقالوا : ذلك عدونا يُطْلع محمداً على أَسْرَارنا ، وهو صاحب كل عذاب وخَسْف شدّة ، وإن ميكائيل يأتي بالخِصْبِ السّلامة ، فقال لهم عمر رضي الله عنه : تعرفون جبريل ، وتنكرون محمداً عليه الصَّلاة السَّلام فقالوا : نعم قال : فأخبروني عن منزلة جبريل وميكائيل من الله عز وجل قالوا : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره وميكائيل عدوّ لجبريل ، قال فإن كان كما تقولون فماهما بعدوين ، ولأنتم أكفر [ من الحمير ، وإني أشهد أنّ من كان عدوّاً لجبريل فهو عدو لميكائيل ، ومن كان عدواً لميكائيل فهو عدو لجبريل ، ومن كان عدواً لهما فإن الله تعالى عدوّ له ، ثم رجع عمر فوجد جبريل عليه السلام قد سبقه بالوَحْي ، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات وقال : « لقد وافقك ربك يا عمر » ، فقال عمر رضي الله عنه فقد رأيتني بعد ذلك في دين الله تعالى أَصْلَبَ من الحجر ] .
وثالثها : قال مقاتل : زعمت اليهود أن جبريل عليه السلام عدّونا ، أمر أن يجعل النبوة فينا ، فجعلها في غيرنا فأنزل الله تعالى هذه الآيات .
قال ابن الخطيب : والأقرب أن يكون سبب عداوتهم لا أنه كان ينزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم لأن قوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 97 ] مشعر بأن هذا التنزيل [ لا ينبغي أن يكون سبباً للعداوة؛ لأن إنما فعل ذلك بأمر الله ، فلا ينبغي أن يكون سبباً للعداوة ، وتقرير هذا من وجوه :
أولها : أن الذينزل جبريل من ] القرآن { الذي نزل به فيه ] بشارة المطيعين بالثواب ، وإنذار العصاة بالعقاب ، والأمر بالمُحَاربة والمقاتلة لم يكن ذلك باختياره ، بل بأم رالله تعالى الذي يعترفون أنه لا محيص عن أمره ، ولا سبيل إلى مُخَالفته فعداوة مَنْ هذا سبيله توجب عداوة الله تعالى وعداوة الله تعالى كفر ، فيلزم أن معاداة مَنْ هذا سبيله كفر .

ثانيها : أن الله تعالى لو أمر ميكائيل بإنزال مثل هذا الكتاب ، فإما أن يقال : إنه كان [ يتمرد أو يأبى ] عن قبول أمر الله ، وذلك غير لائق بالملائكة المعصومين ، أو كان يقبله وينزل به على وفق أمر الله ، فحئنئذ يتوجه على ميكائيل ما ذكروه على جبريل عليهما السلام فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة؟
وثالثها : أن إنزاال القرآن على محمد عليه السلام كما شق على اليهود ، فإنزال التوراة على موسى عليه السلام شق على قوم آخرين ، فإن اقتضت نَفْرة هؤلاء لإنزال القرآن قُبْحه فلتقتض نَفْرة أولئك المتقدمين قبح إنزال التوراة على موسى عليه السلام قبحه ، ومعلوم أن كل ذلك باطل ، فثبت بهذه الوجوه فساد ما قالوه .
فإن قيل : إنا نرى اليهود في زماننا مُطبقين على إنكار ذلك مصرّين على أن احداً مِنْ سَلَفهم لم يقل بذلك .
فالجواب : أن هذا باطل ، لأن كلام الله أصدق ، ولأن جهلهم كان شديداً ، وهم الذين قالوا : { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] .
قوله تعالى : « مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ } » مَنْ « شرطية في محلّ رفع بالابتداء ، و » كان « خبره على ما هو الصحيح كما تقدم ، وجوابه محذوف تقديره : من كان عدوّاً لجبريل فلا وجه لعداوته ، أو فليمت غيظاً ونحوه .
ولا جائز أن يكون » فَإِنَّهُ نَزَّلهُ « جواباً للشرط لوجهين :
أحدهما : من جهة المعنى .
والثاني : من جهة الصناعة .
أما الأول : فلأن فعل التنزيل متحقّق المضي؛ والجزاء لا يكون إلا مستقبلاً .
ولقاتل أن يقول : هذا محمول على التَّبين ، والمعنى : فقد تبين أنه نزله ، كما قالوا في قوله : { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 27 ] ونحوه .
وأما الثاني : فلأنه لا بد من جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط فلا يجوز : مَنْ يقم فزيد منطلق ، ولا ضمير شفي قوله : » فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ « يعود على » مَنْ « فلا يكون جواباً للشرط ، وقد جاءت ماضع كثيرة من ذلك ، ولكنهم أَوَّلُوهَا على حذف العائدن فمن ذلك قوله : [ الوافر ]
677 فَمَنْ تكُنِ الْحَضَارَةُ أَعْجَبَتْهُ ... فَأَيَّ رِجَالِ بَادِيَةٍ تَرَانَا
وقوله : [ الطويل ]
678 فَمَن يِكُ أَمْسَى بِالْمَدينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بَهَا لَغَرِيبُ
وينبغي أن بينى ذلك على الخلاف ف يخبر اسم الشَّرْط .
فإن قيل : إنَّ الخبر هو الجزاء وحده أو هو الشَّرْط فلا بدّ من الضمير ، وإن قيل بإنه فعل الشَّرْط ، فلا حاجة إلى الضمير ، وقد تقدم قول أبي البقاء وغيره في ذلك عند قوله تعالى : » فَمَنْ تَبعَ هُدَايَ « ، وقد صّرح الزمخشري رحمه الله بأنه جواب الشَّرْط ، وفيه النَّظر المذكور ، وجوابه ما تقدم .

و « عَدُوّاً » خبر « كان » ، ويستوي فيه الواجد غيره ، قال : « هُمُ العَدُوُّ » والعَدَاوَةُ : التجاو قال الرَّاغب : فبالبقلب يقال : العداوة وبالمشي يقال : العدو ، وبالإخلال في العدل يقال : العدوان وبالمكان أو النسب يقال : قوم عِدَي أي غرباء .
و « لِجْبِريلَ » يجوز أن يكون صفة ل « عَدُوّاً » فيتعلّق بمحذوف ، أو تكون اللام مقوية لتعدية « عَدُوّاً » إليه .
و « جبريل » اسم ملك وهو أعجمي ، فلذلك لم ينصرف ، وقول من قال : إنّه مشتقّ من جبروت الله : بعيد؛ لأن الاشتقاق لا يكون في الاسماء الأعجمية ، وكذا قول من قال : إنه مركّب تركيب الإضافة ، وأن « جبر » معناه : عبد ، و « إيل » اسم من أسماء الله تعالى فهو بمنزلة عبد الله؛ لأنه كان ينبغي أن يجرى الأول بوجوه الإعراب وأن ينصرب الثاني [ وهذا القول مَرْوِيّ عن ابن عَبَّاس ، وجماعة من أهل العلم ، فقال أبو علي السّنوي : وهذا لايصحّ لوجهين :
أحدهما : أنه لايعرف من أسماء الله « إيل » .
والثاني : أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجروراً ] . وقال المهدوي : إنه مركّب تركيب مرج نحو : حضرموت وهذا بعيد أيضاً؛ لأنه كان ينبغي أن يبنى الأول على الفتح ليس إلاّ .
وَرَدَّ عليه أبو حَيَّان بأنه لو كان مركباً تركيب مزج لجاز فيه أن يعرب إعراب المُتَضَايفين ، أو يبنى على الفَتْح كأحد عشر ، فإن كلّ ما ركب تركيب المزج [ يجوز فيه هذه الأوجه ، وكونه لم يسمع فيه البناء ، ولا جريانه مجرى المتضايفين دليل على عدم تركيبه تركيب المزج ] وهذا الرد لا يحسن ردَّا؛ لأنه جاء على أحد الجائزين ، واتفق أنه لم يستعمل إلا كذلك .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : والصَّحيح في هذه الألفاظ أنها عربية نزل بها جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام بلسان عربي مبين .
قال النحاس : ويجمع جبريل على التكسير جباريل ، وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في الاسماء الأعجمية ، فجاءت فيه بثلاث عشر لغة .
أشهرها وأفصحها : « جبريل » بزنة قِنْديل ، وهي قراءة أبي عمرو ، ونافع وابنِ عامرِ ومحفْصِ عن عاصم ، وهي لغة « الحجاز » ؛ قال ورقةُ بنُ نَوْفَلِ : [ الطويل ]
679 وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعْهُمَا ... مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ
وقال حَسَّان : [ الوافر ]
680 وَجِبْرِيلٌ رَسُولُ اللهِ فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَه كِفَاءُ
وقال عمران بن حِطَّان : [ البسيط ]
681 وَالرُّوحُ جِبْرِيلُ مِنْهُمْ لاَ كِفَاءَ لَهُ ... وَكَانَ جِبْرِيلُ عِنْدَ اللهِ ماأْمُونَا
الثانية « كذلك إلا أنه فتح الجيم ، وهي قراءة ابن كثير والحسن ، وقال الفَرَّاء : » لا أحبها؛ لأنه ليس في كلامهم فَعْلِيلُ « وما قاله ليس بشيء؛ لأن ما أدخلته العرب في لسانها على قسمين قسم ألحقوه بأبنيتهم ك » لِجَامٍ « ، وقسم يلحقوه ك » إِبْرَيْسَمٍ « ، على أنه قيل : إنه نظير شَمويل اسْمَ طائر .

وعن ابن كثير أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ « جَبْرِيلَ ومِيكَائيلَ » ، قال : فلا أزال أقرؤها كذلك .
الثالثة : جَبْرَئِيل كَعْنتَريس ، وهي لغة قيس وتميم ، وبها قرأ حمزة والكسائيُّ؛ وقال حسَّان : [ الطويل ]
682 شَهِدْنَا فَمَا تَلْقَى لَنَا مِنْ كَتِيبَةٍ ... يَدَ الدَّهْرِ إِلاَّ جَبْرَئِيلُ أمَامَهَا
وقال جريرٌ : [ الكامل ]
683 عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بِمُحَمَّدٍ ... وَبِجَبْرئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيكَالاَ
الرابعة : كذلك إلاَّ أنه لا ياء بعد الهمزة ، وتروى عن عاصم ويحيى بن يعمر
الخامسة : كذلك إلاّ أن اللام مشددة ، وتروى أيضاَ عن صام ويحيى بن يعمر أيضاً قالوا : و « إِلٌّ » بالتشديد اسم الله تعالى .
وفي بعض التفاسير : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } [ التوبة : 10 ] قيل : معناه : الله وروي عن أبي بكر لما سمع بِسَجْع مسيلمة : هذا كلام لم يخرج من إِلَّ .
السادسة : جَبْرَائِل بألف بعد الرَّاء ، وهمزة مكسورة بعد الألف ، وبها قرأ عكرمة .
السابعة : مثلها إلا أنها بياء الهمزة .
الثامنة : جِبْرَائيل بياءين بعد الألف من غير همزة ، وبها قرأ الأعمش ويحيى أيضاً .
التاسعة : جِبْرَال .
العاشرة : جِبْرَايل بالياء والقصر ، وهي قراءة طلحة بن مُصَرِّف .
الحادية عشرة : جَبْرِينَ بفتح الجيم والنون .
والثانية عشرة : كذلك إلا أنه بكسر الجيم .
والثالثة عشرة : جَبْرايين .
والجملة من قوله : « مَنْ كَانَ » في محلّ نصب بالقول ، والضمير في قوله « فإنّه » يعود على جبريل وفي قوله : « نزله » بعود على القرآن ، وهذا موافق لقوله : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] في قراءة من رفع « الروح » ولقوله : « مصدقاً » .
وقيل : الأول يعود على الله ، والثاني يعود على جبريل ، وهو موافق لقراءة من قرأ « نَزَّ بهِ الرُّوح » بالتشديد والنصب ، وأتى ب « التي تقتضي الاستعلاء دون » إلى « التي تقتضي الانتهاء ، وخصّ القلب بالذكر؛ لأنه خزانة الحِفْظ ، بيت الربّ عز وجل [ وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه ، لا على قلبه ، إلاَّ أنه خصّ القلب بالذكر؛ لأن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظاً حتى أدَّاه إلى أمّته ، فلمّا كان سبب تمكّنه من الأداء ثبات حفظه قي قلبه جاز أن يقال : نزله على قلبك ، وإن كان في الحقيقة نزل عليه لا على قلبه ، ولأنه أشرف الأعضاء .
قال عليه الصَّلاة السَّلام : » أَلاَ إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ « ] وأضافه ضمير المخاطب دون ياء المتكلم ، وإن كان ظاهر الكلام يقتضي أن يكون » على قلبي « لأحد الأمرين :

‘إما مراعاة لحال الأمر بالقول فَتَسْرُد لفظة بالخطاب كما هو نحو قولك : قل لقومك : لا يهينوك ، ولو قلت : لا تهينوني لجاز ، ومنه قول الفرزدق : [ الطويل ]
684 أَلَمْ تَرَ أَنِّي يَوْمَ جوِّ سُوَيْقَةٍ ... دَعَوْتُ فَنَادَتْنِي هُنَيْدَةُ : مَاليَا
فأحرز المعنى ونَكَّبَ عن نداء هندية « ما لك » ؟ ، وإما لأن ثَمَّ قولاً آخر مضمراً بعد « قل » والتقدير ، قل يا محمد : قال الله « من كان عدوًّا لجبريل فإنه نزله على قلبك » ، [ وإليه نحا الزمخشري بقوله : جاءت على حكاية كلام الله ، قل : ما تكلمت به من قولي : من كان عدوًّا لجبريل ، فإنه نزله على قلبك ] فعلى هذا الجملة الشرطية معمولة لذلك القول المضمر ، والقول المضمر معمول للفظ « قل » ، والظاهر ما تقدم من كون الجملة معمولة للفظ « قل » بالتأويل المذكور أولاً ، ولا ينافيه قول الزمخشري ، فإنه قصد تفسير المعنى لا تفسير الإعراب . والضمير في « أنه » يحتمل معنيين :
الأول : فإن الله نزل جبريل على قلبك .
الثاني : فإن جبريل نزل القرآن على قلبك ، ودلت الآية على شرف جبريل عليه السلام وذمّ معادية قاله القُرْطبي رحمه الله تعالى .
قوله تعالى : « بإِذْن اللهِ » في محلّ نصب على الحال من فاعل : « نزله » إن قيل : إنهُ ضمير جبريل ، أو من مفعوله إن قيل : إن الضمير المرفوع في « نزل » يعود على الله ، والتقدير : فإنه نزل مأذوناً له أو معه إذن الله ، والإذن في الأصل العلم بالشَّيء ، والإيذان ، كالإعلام ، آذن به : علم به ، وآذنته بكذا : أعلمته به ، ثم يطلق على التمكين ، أذن في كذا : أمكنني منه ، وعلى الاختبار ، فعلته بإذنك : أي باختيارك ، وقول من قال بإذنه أي بتيسّره راجع إلى ذلك .
قال ابن الخطيب : تفسير الإذن هُنا بالأمر أي بأمر الله ، وهو أولى من تفسيره بالعلم لوجوه :
أولها : أنَّ الإذن حقيقة في الأمر ، ومجاز في العلم ، واللَّفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن .
وثانيها : أن إنزاله كان من الواجبات ، والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم .
وثالثها : أن ذلك الإنزال إذا كان من أمر لازم كان أوكد في الحجة .
قوله تعالى : « مُصَدِّقًا » حال من الهاء في « نزّله » إن كان يعود الضمير على القرآن ، وإن عاد على جبريل ففيه احتمالان :
أحدهما : أن يكون من المجرور المحذوف لفهم المعنى ، والتقدير : فإن الله نزّل جبريل بالقرآن مصدقاً .
الثاني : أن يكون من جبريل بمعنى مصدقاً لما بين يديه من الرسل ، وهي حال مؤكدة ، والهاء في « بين يديه » يجوز أن تعود على « القرآن » أو على « جبريل » .
وأكثر المفسرين على أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام لا يخصّ كتاباً دون كتاب ، ومنهم من خصَّه بالتوراة ، وزعم أنه إشارة إلى أن القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

فإن قيل : أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكُتب فلم صار مصدقاً لها؟
فالجواب : أنها كلها متوافقة في الدلالة على التوحيد واصول الدين .
قوله تعالى : « هُدًى وَبُشْرى » حالان معطوفان على الحال قبلهما ، فهما مصدران موضوعان موضع اسم الفاعل ، أو على المبالغة أو على حَذْف مضاف أيك ذا هدى و « بشرى » ألفها للتأنيث ، وجاء هذا التَّرتيب اللفظي في هذه الأحوال مطابقاً للترتيب الوجودي ، وذلك أنه نزل مصدّقاً للكتب؛ لأنها من ينبوع واحد ، وحصلت به الهداية بعد نزوله ، وهو بشرى لمن حصلت له به الهداية ، وخصّ المؤمنين ، لأنهم المنتفعون به دون غيرهم ، كقوله : بشرى للمتقين ، أو لأن البشرى لا تكن إلاَّ للمؤمنين؛ لأن البُشْرَى هي الخبر الدَّال على الخير العظيم ، وهذا لا يحصل إلا للمؤمنين .
قوله تعالى : « مَنْ كَانَ عَدُوًّا » : الكلام في « مَنْ » كما تقدم ، إلاَّ أن الجواب هنا يجوز أن يكون { فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } .
فإن قيل : وأين الرَّابط؟ فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن الاسم الظاهر قام مقام المضمر ، وكان الأصل : فإن الله عَدُوّ لهم ، فأتى بالظَّاهر تنبيهاً على العلة .
والثاني : أن يراد بالكافرين العموم ، والعموم من الرَّوَابط ، لاندراج الأول تحته ، ويجوز أن يكون محذوفاً تقديره : من كان عدوّاً لله فقد كفر ونحوه .
وقال بعضهم : اواو في قوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } بمعنى « أو » ، قال : لأن نم عادى واحداً من هؤلاء المذكورين ، فالحكم فيه كذلك .
وقال بعضهم : هي للتفضيل ، ولا حاجة إلى ذلك ، فإن هذا الحكم معلوم ، وذكر جبريل ميكال بعد اندراجهما أولاً تنبيهٌ على فضلهما على غيرهما من الملائكة ، وهكذا كُلْ ما ذكر خاص بعد عام ، ويحتمل أن يكون أعاد ذكرهما بعد اندراجهما؛ لأن الذي جرى بين الرَّسول وبين اليهود هو ذكرهما ، والآية إنما نزلت بسببهما ، فلا جَرَمَ نصّ على اسميهما ، واعلم أنَّ هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة ، وبعضهم يسمى هذا النوع بالتجريد ، كأنه يعني به أنه جرد من العموم الأول بعض أفراده اختصاصاً له بمزية ، وهذا الحكم أعني ذكر الخاصّ بعد العام مختصّ بالواو و لايجوز في غيرها من حروف العطف .
وجعل بعضهم مثل هذه الآية أعني : في ذكر الخاصّ بعد العام تشريفاً له قوله : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن : 68 ] وهذا فيه نظر ، فإن « فاكهة » من باب المطلق؛ لأنها نكرة في سياق الإثبات ، وليست من العموم في شيء ، فإن عنى أن اسم الفاكهة يطلق عليهما من باب صِدْق اللَّفظ على ما يحتمله ، ثم نص عليه فصحيح ، وأتى باسم الله ظاهراً في قوله : « فإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ » ؛ لأنه لو أُضمر فقيل : « فإنه » لأوهم عوده على اسم الشرط ، فينعكس المعنى ، أو عوده على ميكال؛ لأنه أقرب مذكور .

وميكائيل اسم أعجمي ، والكلام فيه كالكلام في « جبريل » من كونه مشتقّاً من ملكوت الله عز وجل ، أو أن « ميك » بمعنى عبدن و « إيل » اسم الله ، وأن تركيبه تركيب إضافة أو تركيب مزج ، وقد عرف الصحيح من ذلك .
وفيه سبع لغات : « مِيكَال » بزنة « مِفْعَال » وهي لغة « الحجاز » ، وبها قرأ أبو عمر وحفص عن عصام ، وأهل « البصرة » ؛ قالوا : [ البسيط ]
685 وَيَوْمَ بَدْرٍ لَقِينَاكُمْ لَنَا عُدَدٌ ... فِيهِ مَعَ النَّصْرِ مِيكَالٌ وَجِبْرِيلُ
وقال جرير : [ الكامل ]
686 عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَبُوا بمُحَمَّد ... وَبِجَبْرَئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيْكَالاَ
الثانية : كذلك ، إلاَّ أن بعد الألف همزة ، وبها قرأ نافع وأهل « المَدينة » بمهزة واختلاص ميكائيل .
الثالثة : كذلك ، إلا أنه بزيادة ياء بعد الهمزة بوزن « ميكائيل » ، وهي قراءة الباقين .
الرابعة : ميكئيل مثل ميكعيل ، وبها قرأ ابن محيصن .
الخامسة : كذلك ، إلاَّ أنه لا ياء بعد الهمزة ، فهو مثل : مِيكَعِل ، وقرىء بها .
السادسة : ميكاييل بياءين بعد الألف ، وبها قرأ الأعمش .
السابعة : ميكاءَل بهمزة مفتوحة بعد الألف كما يقال : « إسراءَل » ، وحكى المَاوَرْدِيّ عن بان عباس رضي الله تعالى عنهما أن « جَبْر » بمعنى عَبْد بالتكبير ، و « ميكا » بمعنى عُبَيْد بالتصغير ، فمعنى جبريل : عبدالله ، ومعنى ميكائيل : عبيد الله قال : ولا يعلم لابن عباس في هذا مخالف .
وقال القرطبي رحمه الله تعالى : وزاد بعض المفسّرين : وإسرافيل عبدالرحمن .
قال النحاس : ومن قال : « جبر » عبد ، و « إل » الله وجب عليه أن يقول : هذا جَبْرُئِل ، ورأيت جَبْرَئِل ، ومررت بِجَبْرِئِل ، وهذا لا يقال ، فوجب أن يكون مسمى بهذا .
وقال غيره : ولو كان كما قالوا لكان مصروفاً ، فترك الصرف يدلّ على أنه اسم واحد مفرد ليس بمضاف .
قال ابن الخطيب : يجب أن يكون جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام أفضل من ميكائيل لوجوه :
أحدها : أنه قدمه في الذّكر ، وتقديرم المَفْضُول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفاً .
وثانيها : أن جبريل ينزل بالقرآن والوحي والعلم ، وهو مادة بقاء الأرواح ، وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار ، وهي مادة بقاء الأبدان ، ولما كان العلم أشرفل من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل .
وثالثها : قوله تعالى في صفة جبريل عليه الصلاة والسلام : { مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [ التكوير : 21 ] ذكره بوصف المطاع على الإطلاق ، وظاهره يقتضي كونه مطاعاً بالنسبة إلى ميكائيل عليه الصَّلاة والسَّلام فوجب أن يكون أفضل منه .

فإن قيل : حقّ العَدَاوة الإضرار بالعدون وذلك مُحَال على الله تعالى ، فكيف يجوز أن يكونوا أعداء الله؟
فالجواب : أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلاّ فينا؛ لأن العدو للغير هو لذي يريد إنزال المَضَارِّ به ، وذلك مُحَال على الله تَعَالى بل المراد أحد وجهين : إما أن يعادوا أولياء الله ، فيكون ذلك عداوة الله ، كقوله : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } [ المائدة : 33 ] ، وكقوله تعالى : { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } [ الأحزاب : 57 ] ؛ لأن المراد بأولياء الله دونه لاستحالة المحابة والأذيَة عليه ، وإما أن يراد بذلك كراهيتهم القيام بطاعته وعبادته ، وبعدهم عن الطريقةن فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة .

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)

قال ابن عباس رضي الله عنهما : : إن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ، فلما بعث من العرب كفروا به ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل : يا معشر اليهود اتَّقوا الله وأسلموا فقد كتنم تستفتحون علينا بمحمد ، ونحن أهل الشرك ، وتخبروننا أنه مبعوث ، وتصفون لنا صفته .
فقال ابن صوريا : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه من الأيات ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، والمرادة بالآيات البينات : آيات القرآن مع سائر الدَّلائل من المُبَاهلة ، ومن تمني الموت وسائر المعجزات نحو : إشباع الخَلْق الكثير من الطعام القليل [ ونبع ] الماء من بين أصابعه وانشقاق القمر .
وقال بعضهم : الأولى تخصيص ذلك بالقرآن ، لأن الآيات إذا قرنت بالتنزيل كانت أخصّ بالقرآن .
فإن قيل : الإنزال عبارة عن تحريك الشَّيْ من أعلى إلى أسفل ، وذلك محقّق في الأجسام ، ومحال في الكلام .
فجوابه : أن جبريل عليه الصلاة والسلام لما نزل من الأعلى إلى الأسفل وأخبر به سمي ذلك إنزالاً .
قوله تعالى : { وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون } هذا استثناء مفرّغ ، وقد تقدم أن الفراء يجيز فيه النصب .
والكفر بها من وجهين :
الأول : جحودها مع العلم بصحتها .
والثاني : جحودها مع الجهل ، وترك النظر فيها ، والإعراض عن دلائلها ، وليس في الظَّاهر تخصيص ، فيدخل الكل فيه .
قال ابن الخطيب : والفِسْقُ في اللّغة : خروج الإنسان عما حدّ له قال الله تعالى : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] .
وتقول العرب للنواة إذا خرجت من الرّطبة عند سقوطها : فسقت النواة ، وقد يقرب من معناه الفُجُور؛ لأنه مأخوذ من فجور السّد الذي يمنع الماء من أن يسير من الموضع الذي يفسد ، فشبه تعدّي الإنسان ما حدّ له إلى الفساد بالذي فجر السَّد حتى صار إلى حيث يفسد .
فإن قيل : أليس صاحب الصغيرة تجاوز أم رالله ، ولا يوصف بالفسق والفجور؟
قلنا : إنه إنما يسمى بهما كل أمر يعظم من الباب الذي ذكرنا؛ لأن من فتح من النهر نقباً يسيراً لا يوصف بأنه فجر ذلك النهر ، وكذلك الفِسْق إنما يقال إذا عظم التعدّي ، إذا ثبت هذا فنقول : في قوله : « إِلاَّ الْفَاسِقُونَ » وجهان :
أحدهما : أن كل كافر فاسق ، ولا ينعكس ، فكأن ذكر الفاسق يأتي على الكافر وغيره ، فكان أولى .
الثاني : أن يكون المراد ما يكفر بها إلاَّ الكافر المتجاوز على كلّ حدّ في كفره ، والمعنى : أن هذه الآيات لما كانت بيّنة ظاهرة لم يكفر بها إلاَّ الكافر الذي يبلغ في الكفر إلى النهاية القصوى ، والأحسن في الجواب أن يقال : إنه تعالى لما قال : « وَمَا يَكْفُرُ بِهَا » أفهم أن مراده بالفاسق هو الكافر لا عموم الفاسق فزال الإشكال .

أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)

الجمهور على تحريك واو « أَوَكلما » ، واختلف النحويون في ذلك على ثلاثة أقوال : فقال الأخفش : إن الهمزة للاستفهام ، والوو زائدة وهذا على رأيه في جواز زيادتها .
وقال الكسائي هي « أو » العاطفة التي بمعنى « بل » و‘نما حركت الواو .
ويؤيده قراءة من قرأها ساكنة .
وقال البصريون : هي واو العطف قدمت عليها همزة الاستفهام على ما عرف .
قال القرطبي : كما دخلت همزة الاستفهام على « الفاء » في قوله : { أَفَحُكْمَ الجاهلية } [ المائدة : 50 ] ، { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم } [ يونس : 42 ] ، { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ } [ الكهف : 50 ] .
وعلى « ثم » كقوله : « أَثُمَّ إِذَا مَا » .
وقد تقدم أن الزمخشري يقدر بين الهمزة وحرف العطف شيئاً يعطف عليه ما بعده ، لذلك قدره هُنَا : أكفروا بالآيات البينات ، وكلما عاهدوا .
وقرأ أبو السّمَال العدوي : « أوْ كلما » ساكنة ا لواو ، وفيها ثلاثة أقوال : فقال الزمخشري : إنها عاطفة على « الفاسقين » ، وقدره بمعنى إلا الذين فسقوا أو نقضوا ، يعني به : أنه عطف الفعل على الاسم؛ لأنه في تأويله كقوله : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] أي : اصَّدَّقُوا وأقرضوا .
وفي هذا كلام يأتي في سورته إن شاء الله تعالى .
وقال المهدوي : « أو » لانقطاع الكلام بمنزلة « أم » المنقطعةن يعني أنها بمعنى « بل » ، وهذا رأى الكوفيين ، وقد تقدم تحريره وما استدلّوا به من قوله : [ الطويل ]
687 .. . . أَوْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ
في أول السورة .
وقال بعضهم : هي بمعنى « الواو » فتتفق القراءاتان ، وقد وردت « أو » بمنزلة « الواو »
كقوله : [ الكامل ]
688 ... مَا بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ
{ خطيائة أَوْ إِثْماً } [ النساء : 112 ] { آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] فلتكن [ هنا ] كذلكن وهذا أيضاَ رأي الكوفيين .
والناصب ل « كلّما » بعده ، وقد تقدم تحقيق القول فيها ، وانتصاب « عَهْداً » على أحد وجهين : إما على المصدر الجاري على غير المصدر وكان الأصل : « مُعَاهَدَة » أو على المفعول به على أن يضمن عاهدوا معنى « أَعْطوْا » ويكون المفعول الأول محذوفاً ، والتقدير : عاهدوا الله عَهْداً .
وقرىء : « عَهِدُوا » فيكون « عَهْداً » مصدراً جارياً على صدره .
وقرىء أيضاً : « عُوهِدُوا » مبيناً للمفعول .
قال ابن الخطيب : المقصود من هذه الاستفهام ، الإنكار ، وإعظام ما يقدمون عليه ، ودلّ قوله : « أو كلما عاهدوا » على عهد بعد عهد نقضوه ، ونبذوه ، ويدل على أن ذلك كالعادة فيهم ، فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام عن كفرهم بما أنزل عليه من الآيات بأن ذلك ليس ببدع منهم ، بل هو سجيّتهم وعادتهم ، وعادة سَلَفهم على ما بيّنه فيما تقدم من نَقْضهم العهود والمواثيق حالاً بعد حال؛ لأن من يعتاد منه هذه الطريقة ، فلا يصعب على النفس مُخَالفته كصعوفة مَنْ لم تَجْرِ عادته بذلك .

وفي العهد وجوه :
أحدها : أن الله تعالى لما أظهر الدَّلائل الدَّالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صحّة شرعه كان ذلك كالعهد منه سبحانه وتعالى وقبولهم لتلك الدلائل كالمعاهدة منهم لله سبحانه وتعالى .
وثانيها : قولهم قبل مبعثه : لئن خرج النبي لنؤمنن به ، ولنخرجن المشركين من ديارهم [ قال ابن عباس : لما ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخذ الله تعالى عليهم ، وعهد إليهم في مُحَمّد أن يؤمنوا به قال مالك بن الصيف : والله ما عهد إلينا من محمد عهد فنزلت هذه .
قال القرطبي : ويقال فيه : « ابن الصّيف » ويقال : « ابن الضَّيْف » ] .
وثالثها : أنهم كانوا يعاهدون الله كثيراً وينقضونه .
ورابعها : قال عطاء : إن اليهود كَانُوا قد عاهدوا على ألاَّ يعينوا عليه أحداً من الكافرين ، فنقضوا ذلك ، وأعانوا عليه قريشاً يوم « الخندق » [ ودليله قوله تعالى : { الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ } [ الأنفال : 56 ] « ] إنما قال : » نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ « لأن في جملة من عاهد من آمن ، أو يجوز أن يؤمن ، فلما لم يكن ذلك صفة جميعهم خص الفريق بالذكر ، ثم لما كان يجوز أن يظن أن ذلك الفريق هم الأقلّون بين أنهم الأكثر فقال : » بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ « وفيه قولان :
الأول : أن أكثر أولئك الفسّاق لا يصدقون بك أبداً لحسدهم وبغيهم .
[ والثاني : لا يؤمنون ] أي : لا يصدقون بكتابهم ، لأنهم في قومهم كالمُنَافقين مع الرسول عليه الصلاة والسلام يظهرون لهم الإيمان بكتابهم ورسوله ، ثم لا يعلمون بموجبه ومقتضاه .
قوله تعالى : » بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ « فيه قولان :
أحدهما : أنه من باب عَطْف الجمل ، وتكون » بل « لإضراب الانتقال لا الإبطال ، وقد [ علم ] أن » بل « لا تسمَّى عاطفة حقيقية إلا في المفردات .
الثاني : أنه يكون من عطف المفردات ، ويكون » أكثرهم « معطوفاً على » فريق « ، و » لاَ يُؤْمِنُونَ « جملة في محلّ نصب على الحال من » أكثرهم « .
وقال ابن عطيَّة : من الضمير في » أكثرهم « ، وهذا الذي قاله جائز ، لا يقال : إنها حال من المضاف إليه؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه ، وذلك جائز .
وفائدة هذا الإضراب ما تقدم ذكره آنفاً .
والنَّبْذُ : الطرح ومنه النَّبِيذ والمَنْبُوذ ، وهو حقيقة في الأجْرَام وإسناده إلى العَهْد مَجَاز .
وقال بعضهم : النَّبذ والطَّرْح الإلقاء متقاربة ، إلاّ أن النبذ أكثر ما يقال فيما يبس والطَّرح أكثر ما يُقال في المبسوط والجاري مجراه ، والإلقاء فيما يعتبر فيه مُلاَقاة بين شيئين؛ ومن مجيء النبذ بمعنى الطَّرْح قوله : [ الكامل ]
689 إِنَّ الَّذِينَ أَمَرتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا ... نَبَذُوا كِتَابَكَ وَاسْتَحَلُّوا الْمَحْرَما
وقال أبو الأسود : [ الطويل ]
690 وَخَبَّرَنِي مَنْ كُنْتُ أَرْسَلْتُ أَنَّما ... أَخَذْتَ كِتَابِي مُعْرضاً بشِمَالِكا
نَظَرْتَ إِلَى عُنْوَانِهِ فَنبَذْتَهُ ... كَنَبْذِكَ نَعْلاً أَخْلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا

وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)

قال القرطبي : « مصدّق لما معهم » نعت للرَّسول ، ويجوز نصبه على الحال .
والعم أن معنى كون الرسول مصدقاً لما معهم هو أنه كان معترفاً بنبوّة موسى عليه الصَّلاة والسَّلام وبصحة التوراة ، أو مصدقاً لما معهم من حيث إنّ التوراة بشرت بمقدم محمد عليه الصلاة والسلام فإذا جاء محمد كان مجرد مجيئه مصدقاً للتوراة .
وقوله : { مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } فيه وجهان :
أحدهما : أن المراد ممن أوتي علم الكتاب من يدرسه ويحفظه بدليل قوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .
والثاني : المراد من يدعي التمسّك بالكتاب ، سواء علمه أم لم يعلمه ، وهذا كوصف المسلمين بأنهم من أهل [ القرآن ] لا يختص بذلك من يعرف علومه ، بل المراد من يؤمن به .
قوله تعالى : « الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ » : « الكتاب » مفعول ثان ل « أوتوا » ؛ لأنه يتعدى في الأصل إلى اثنين ، فأقيم الأول مقام الفاعل ، وهو « الواو » ، وبقي الثاني منصوباً ، [ وقد تقدم أنه عند السهيلي مفعول أول ] و « كتاب الله » مفعول نبذ ، و « وراء » منصوب على الظرف وناصبه « نَبَذ » ، وهذا مثل لإهمالهم التوراة؛ تقول العرب : « جعل هذا الأمر وَرَاءَ ظَهْرهن ودَبْرَ أُذُنِه » أي : أهمله؛ قال الرزدَقُ : [ الطويل ]
691 تَمِيمُ بَْ مُرِّ لاَ تَكُونَنَّ حَاجَتِي ... بِظَهْرٍ فَلا يَعْيَا عَلَيَّ جَوَابُهَا
والمراد بكتاب الله : القرآن .
وقيل : إنه التوراة لوجهين :
الأول : أن النبذ لا يعقل إلا فيما تمسكوا به أولاً ، وأما إذا لم يلتفتوا إليه فلا يقال : إنهم نبذوه .
والثاني : أنه قال تعالى : { نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } ولو كان المراد به : القرآن لم يكن لتخصيص الفريق معنى؛ لأنَّ جميعهم لا يصدقون بالقرآن .
فإن قيل : كيف يصحّ نَبْذهم التوراة ، وهم متمّسكون بها؟
قلنا : إنها لما كانت تدلّ على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بنعته ، ووجوب الإيمان به ، ثم عدلوا عنه كانوا نابذين للتَّوْرَاة .
قال السّدي رحمه الله تعالى نبذوا التوراة ، وأخذوا بكمتاب « آصف » ، وسحر « هاروت وماروت » .
قوله : « كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ » جلمة في محلّ نصب على الحال ، وصاحبها : فريق ، وإن نكرة لتخصيصه بالوصف ، والعامل فيها « نبذ » ، والتقدير : مُشْبِهِيْنَ للجُهَّال ، ومتعلق العلم محذوف تقديره : أنه كتاب الله لا يُدَاخلهم فيه شكّ ، والمعنى : أنهم كفروا عناداً؛ لأنهم نبذوه عن علم ومعرفة؛ لأنه لا يقال ذلك إلاَّ فيمن يعلم .
قال ابن الخطيب : ودلّت الآية من هذه الجِهَةِ على أن هذا الفريق كانوا عالمين بصحة نبوته إلا أنهم جحدوا ما يعلمون وقد ثبت أن الجمع العظيم لا يصح الجحد عليهم ، فوجب القطع بأن أولئك الجاحدين كانوا في القلّة بحيث تجوز المُكَابرة عليهم .

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

قوله : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين } : هذه الجملة معطوفة على مجموع الجملة السابقة من قوله : « ولما جاءهم » إلى آخرها .
وقال أبو البقاء : إنها معطوفة على « أشربوا » أوع لى « نبذ فريق » ، وهذا ليس بظاهر؛ لأن عطفها على « نبذ » يقتضي كونها جواباً لقوله تعالى : { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ } .
واتِّباعُهُم لما تتلو الشياطين ليس مترتباً على مجيء الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام بل كان اتباعهم لذلك قبله ، فالأولى أن تكون معطوفة على جملة « لما » كما تقدم ، و « ما » موصولة ، وعائدها محذوف ، والتقدير : تتلوه .
وقيل : « ما » نافية ، وهو غلط فاحش لا يقتضيه نظم الكلام ، [ ذكره ] ابن العربي .
و « يتلو » في معنى « تلت » فهو مضارع وقاع موقع الماضي؛ كقوله : [ الكامل ]
692 وَإِذَا مَرَرْتَ بِقَبْرِهِ فَاعْقِرْ بِهِ ... كُومَ الهِجَانِ وَكُلَّ طَرْفٍ سَابِحِ
واتْضَحْ جَوَانِبَ قَبْرِ بِدِمَائِهَا ... فَلَقَدْ يَكُونُ أَخَا دَمٍ وَذَبَائِحِ
أي : فلقد كان .
وقال الكوفيون : الأصل : وما كانت تتلو الشياطين ، ولا يريدون بذلك أن صلة « ما » محذوفة ، وهي « كانت » و « تتلو » في موضع الخبر ، وإنما قصدوا تفسير المعنى ، وهو نظير : « كان زيد يقوم » المعنى على الإخبار ، وبقيامه في الزمن الماضي ، وقرأ الحسن والضحاك « الشياطون » إجراء له مجرى جمع السَّلامة ، قالوا : وهو غلط . وقال بعضهم : لحن فاحش .
وحكى الأصمعي « بُسْتَانُ فُلاَنٍ حَوْلَهُ بساتون » وهو يقوي قراءة الحسن .
قوله تعالى : { على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه على معنى « في » ، أي : في زمن ملكه ، والمُلْكُ هنا شَرْعه .
والثاني : أن يضمن تتلوا معنى تَتقوَّل أي : تقول على ملك سليمانن وتَقَوَّل يتعدى بعلى ، قال تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل } [ الحاقة : 44 ] .
وهذا الثاني أولى ، فإن التجوّز في الأفعال أولى من التجوّز في الحروف ، وهو مذهب البصْريين كما تقدم وإنما أحْوَجَ إلى هذين التأويلين؛ لأن تلا إذا تعدَّى ب « على » كان المجرور ب « على » شيئاً يصحّ أن يتلى عليه نحو : تلوت على زيد القرآن ، والملك ليس كذلك .
قال أبو مسلم : « تتلو » أي : تكذب على ملك سليمان يقال : تلا عليه : إذا كذب وتلا عنه إذا صدق . وإذا أبهم جاز الأمران .
قال ابن الخطيب : أي يكون الذي كانوا يخبرون به عن سليمان مما يتلى ويقرأ فيجتمع فيه كل الأوصاف ، والتلاوة : الاتباع أو القراءة وهو قريب منه .
قال أبو العباس المقرىء : و « على » ترد على ثلاثة أوجه :
الأول : بمعنى « في » كهذه الآية .
وبمعنى « اللام » ، قال تعالى

{ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ } [ الأنعام : 154 ] أي : للذي .
وبمعنى « » من « ، قال تعالى : { الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ } [ المطفيين : 2 ] أي : من الناس يستوفون .
و » سليمان « علم أعجمي ، فلذلك لم ينصرف .
وقال أبو البقاء رحمه الله تعالى : » وفيه ثلاثة أسباب : العُجْمة والتَّعريف والألف والنون « ، وهذا إنما يثبت بعد دخول الاشتقاق فيه ، والتصريف حتى تعرف زيادتها ، وقد تقدَّم أنهما لا يَدْخُلان في الأسماء الأعجميّة ، وكرر قوله : » وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ « بذكره ظاهراً؛ تفخيماً له ، وتعظيماً؛ كقوله : [ الخفيف ]
693 لا أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ .. .
وقد تقدم تحقيق ذلك .
فصل في المراد بقوله تعالى : واتبعوا » المراد بقوله : « وَاتَّبَعُوا » هم اليهود .
فقيل : هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام .
وقيل : هم الذين كانوا في زمن سليمان صلى الله عليه وسلم من السَّحَرة؛ لأن أكثر اليهود ينكرون نبوّة سليمان عليه الصلاة والسلام ويعدونه من جُمْلة الملوك في الدنيا ، وهؤلاء ربما اعتقدوا فيه أنه إنما وجد الملك العظيم بسبب السحر .
وقيل : إنه يتناول الكل وهو أولى .
قال السّدي : لما جاءهم محمد عليه الصلاة والسلام عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والفرقان ، فنبذوا التوراة ، وأخذوا بكتاب « آصف » وسِحْر « هاروت وماروت » فلم يوافق القرآن ، فهذا هو قوله تعالى : { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ . واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أخبر عنهم بأنهم كتب السّحر .
واختلفوا في المراد من الشياطين .
فقال المتكلمون من المعتزلة : هم شياطينُ الإنس ، وهم المتمرِّدون في الضلال؛ كقول جرير : [ البسيط ]
694 أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانُ مِنْ غَزَلِي ... وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانَا
وقيل : هم شياطين الإنس والجن .
قال السدي : إن الشياطين كانوا يسترقون السَّمع ، ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلقونها إلى الكَهَنَةِ ، وقد دوّنها في كتب يقرءونها ويعلمونها الناس ، وفشا ذلك في زمن سليمان عليه الصلاة والسلام وقالوا : إن الجنّ تعلم الغيب ، وكانوا يقولون : هذا علم سليمان ، وما تم له ملكه إلاَّ بهذا العلم ، سخّر الجن والإنس [ والطير ] والريح التي تجري بأمره .
وأما القائلون بأنهم شياطين الإنس فقالواك روي أن سليمان عليه الصلاة والسلام كان قد دفن كثيراً من العلوم التي خصّه الله تعالى بها تحت سرير ملكه حرصاً على أنه إن هلك الظَّاهر منها يبقى ذلك المدفون ، فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السِّحْر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ، ثم بعد موته واطّلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان ، وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه إلاّ بسبب هذه الأشياء .

فصل في الباعث على نسبتهم السحر لسليمان
إنما أضافوا السِّحْر إلى سليمان عليه الصلاة والسلام لوجوه :
أحدها : أضافوه تفخيماً لشأنه ، وتعظيماً لأمره ، وترغيباً للقوم في قبول ذلك منهم .
وثانيها : أن اليهود كانوا يقولون : إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب السّحر .
وثالثها : أنه تعالى لما سخر الجن لسليمان ، فكان يخاطلهم ، ويستفيد منهم أسراراً عجيبة غلب على الظنون أنه عليه الصلاة والسلام استفاد السحر منه فقوله تعالى : « وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ » تنزيه له عليه الصلاة والسلام عن الكفر ، وذلك بدلّ على أن القوم نسبوه إلى الكُفْرِ السحر ، فروي عن بعض أَحْبَار اليهود أنهم قالوا : ألا تعجبون من محمد عليه الصَّلاة والسَّلام يزعم أن سليمان كان نبياً وما كان إلا ساحراً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وروي أن السَّحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان ، فبرأه الله تعالى من ذلك ، وبين أن الذي برأه الله منه لاصق بغيره ، وهو قوله تعالى : « وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ » .
هذه الواو عاطفة جملة الاستدراك على ماقبلها .
وقرأ ابن عامر ، والكسائي وحمزة بتخفيف « لكن » ورفع ما بعدها ، والباقون بالتشديد ، والنصب وهو واضح .
وأما القراءة الأولى ، فتكون « لكن » مخففة من الثقيلة جيء بها لمجرّد الاستدراك ، وإذا خففت لم تعمل عند الجمهور ونٌقِل جواز ذلك عن يونس [ والأخفش . وهل تكون عاطفة؟ الجمهور على أنها تكون عاطفة إذا لم يكن معها « الواو » ، وكان ما بعدها مفرداً وذه يونس ] إلاَّ أنها لا تكون عاطفةً وهو قوي ، فإنه لم يسمع في لسانهم : ما قام زيد لكن عمرو ، وإن وجد ذلك في كتب النحاة فمن تمثيلاتهم ، ولذلك لم يمثل بها سيبويه رحمه الله إلا مع الواو وهذا يدل على نفيه .
وأما إذا وقعت بعدها الجمل فتارة تقترن بالواو ، وتارة لا تقترن .
قال زهير : [ البسيط ]
695 إنَّ ابْنَ وَرْقَاءَ لاَ تُخْشَى بَوَادِرُهُ ... لَكِنْ وَقَائِعُهُ في الحَرْبِ تُنتَظَرُ
وقال الكسائي والفراء : الاختبار تشديدها إذا كان قبلها « واو » وتخفيفها إذا لم يكن ، وهذا جنوح منهما إلى القول بكونها حرف عَطْف ، وأبعد من زعم أنها مركّبة من ثلاثة كلمات : لا النافية ، وكاف الخطابن وإن التي للإثبات ، وإنما حذفت الهمزة تخفيفاً .
قوله : « يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ » « الناس » مفعول أول ، و « السِّحْر » مفعول ثان ، واختلفوا في هذه الجملة على خمسة أقوال :
أحدها : أنها حال من فاعل « كفروا » أي مُعَلِّمين .

الثاني : أنها حال من الشياطين ، وردّه أبو البقاء رحمه الله تعالى بأن « لكن » لا تعمل في الحال ، وليس بشيء فإن « لكن » فيها رائحة الفعل .
الثالث : أنها في محلّ رفع على أنها خبر ثان للشياطين .
الرابع : أنها بَدَلٌ من « كفروا » أبدل الفعل من الفعل .
الخامس : أنها استئنافية ، أَخْبر عنهم بذلك ، وهذا إذا أعدنا الضمير من « يعملون » على الشَّيَاطين .
أما إذا أعدناه على « الذين اتَّبَعُوا ما تتلو الشَّياطين » فتكون حالاص من فاعل « اتبعوا » .
أو استئنافية فقط .
والسِّحْر : كلّ ما لَطف ودَقَّ سِحْرُهُ ، إذا أَبْدَى له أمرأ يدقُّ عليه ويخفى .
قال : [ الطويل ]
696 ... أَدَاءُ عَرَانِي مِنْ حُبَابِكِ أمْ سِحْرُ
ويقال : سَحَرَهُ : أي خَدَعَهُ وعلَّله؛ قال امرؤ القيس : [ الوافر ]
697 أَرَانَا مُوضِعِينَ لأَمْرٍ غَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وبِالشَّرَابِ
أي : نُعَلَّلُ ، وهو في الأصل : مصدر يقال : سَحَرَهُ سِحْراً ، ولم يجىء مصدر ل « فَعَلَ » يَفْعَلُ على فِعْلٍ إلا سِحْراً وَفِعْلاً .
والسَّحر بالنصب هو الغذاء لخائه ولطف مَجَاريه ، والسّحر هو الرئة وما تعلق بالحُلْقُوم [ ومنه قول عائشة رضي الله عنها توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري ] وهذا أيضاً يرجع إلى معنى الخفاء .
ومنه قوله تعالى : { إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين } [ الشعراء : 153 ] { مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [ الشعراء : 154 ] ، ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا .
وقال تعالى : { فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم } [ الأعراف : 116 ] .
وقال تعالى : { وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى } [ طه : 69 ] ، والسّحر في عرف الشرع مختصّ بكل أمر يخفى سببه ، ويتخيل على غير حقيقته ، ويجري مجرى التَّمويه والخداع ، وهو عند الإطلاق يذم فاعله ، ويستعمل مقيداً فيما يمدح وينفع ، فقال رسول الله صلى الله عليه « إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً » .
فسمى النبي صلى الله عليه وسلم بعض البيان سحراً؛ لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه ، ويبلغ عبارته ، فعلى [ هذا ] يكون قوله عليه الصلاة والسلام : « إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً » خرج مخرج المدح .
وقال جماعة من أهل العلم : خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة ، إذ شبهها بالسّحر يدلّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام : « فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ بَعْضٍ » .
وقوله عليه الصلاة والسلام : « إنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ الثَّرْثَارُونَ المُتَفَيْهِقُونَ » .
[ الثرثرة : كثرة الكلام وتردده ، يقال : ثرثر الرجل فهو ثَرْثار مِهْذَار والمتفيهق نحوه ] قال ابن دريد : فلان يتفيهق في كلامه إذا توسّعوتنطَع ، قال : « وأصله الفَهْقُ ، وهو الامتلاء كأنه ملأ به فمه » .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان ، فقالا : أما قوله صلى لله عليه وسلم : « إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً » ، فالرجل عليه الحق وهو ألحن بالحُجَج من صاحب الحقّ [ فيسحر ] القوم ببيانهن فيذهب بالحق ، وهو عليه ، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسان ما لم تخرج إلى جدّ الإسهاب والإطناب ، وتصوير الباطل في صورة الحق .

فإن قيل : كيف يجوز أن يسمى ما يوضح إظهار الحقّ سِحْراً ، وهو إنما قصد إظهار الخفي لا إخفاء الظاهر ، ولفظ السحر إنما يفيد الظاهر؟
فالجواب : إنما سمي السَحر سحراً لوجهين :
الأول : أن ذلك القَدْر لِلُطْفه وحسنه استمال القلوب ، فأشبه السّحر الذي يستميل القلوب من هذا الوجه .
الثاني : أنَّ القادر على البيان يكون قادراً على تحسين ما يكون قبيحاً ، وتقبيح ما يكون حسناً فأشبه السحر من هذا الوجه .
فصل في ماهية السحر
قال بعض العلماء : إن السِّحر تخيُّل لا حقيقة له ، لقوله تعالى : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } [ طه : 66 ] .
وقيل : إنه حقيقة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سحره لبيد بن الأعصم فإن السحر أخرج من بئر ، وحلت عقوده ، وكلما انحلت عقدة خفَّ عنه عليه السلام إلى أن سار كما نشط من عقال .
وذهب ابن عمر إلى « خيبر » ليخرص ثمرها فسحره بعض اليهود فانكشفت يده ، فأجلاهم عمر رضي الله تعالى عنه وجاءت امرأة لعائشة رضي الله عنها فقالت : يا أم المؤمنين ما على المرأة إذا عقلت بيرها ، فقالت عاشئة : ليس عليها شيء ، فقالت : إني عقلت زوجي عن النساء ، فقالت عائشة : أخرجوا عني هذه الساحرة .
وأجابوا عن الآية بأنها لا تمنع بأنَّ من السحر ما هو تخيّل ، وغير تخيل .
فإن قيل : إن الله تعالى قال في حقَّه عليه السَّلام : « واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » فكيف أثر فيه السحرُ؟
فالجواب أن قوله تعالى : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] المراد به عصمة القلب والإيمان لا عصمة الجسد عما يرد عليه من الأمور الحادثة الدنيوية ، فإنه عليه السلام قد سحر وكسرت رباعيته ، ورُمي عليه الكرش والثرب ، وآذاه جماعة من قريش .
قال ابن الخطيب : السِّحر على أقسام :
الأول : سحر الكلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب ، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ، ومنها يصدر الخير والشر والفرح والسرور والسعادة والنحوسة ، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه الصلاة والسلام مبطلاً لمقالتهم ورادًّا عليهم وهم ثلاث فرق :
الاولى : الذين زعموا أن الأفلاك والكواكب واجبة في ذواتها ، وأنه لا حاجة بها إلى موجد ومدبر وخالق ، وهي المدبّرة لعالم الكون والفساد ، وهم الصَّابئة الدهرية .
والفريق الثاني : القائلون بإلاهية الأفلاك ، وقالوا : إنها هي المؤثّرة للحوادث باستدارتها وتحرّكها ، فعبدوها وعظّموها ، اتخذوا لكل واحد منهما هيكلاً مخصوصاً وصنماً معيناً ، واشتغلوا بخدمتها ، فهذا دين عبدة الأصنام والأوثان .
والفريق الثالث : الذين أثبتوا لهذه الأفلاك والنُّجوم فاعلاً مختاراً خلقها وأجدها بعد العدم إلاَّ أنهم قالوا : إن الله تعالى عز وجلّ أعطاهم قوة عالية نافذة في هذا العالم ، وفوض تدبير هذا العالم إليها .

النوع الثاني : سحر أصحاب الأَوْهَام ، والنفوس القوية .
النوع الثالث : الاستعانة بالأرواح الأرضية .
واعلم أن القول بالجنّ مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة .
أما أكابر الفلاسفة فإنهم لم ينكروا القول به إلا أنهم سمّوها بالأرواح الأرضية ، وهي في أنفسها مختلفة منها خيرة ، ومنها شريرة ، فالخيرة هم مؤمنو الجن ، والشريرة هم كفار الجن وشياطينهم .
النوع الرابع : التخيُّلات والأخذ بالعيون ، وذلك أن أغلاط البَصَرِ كثيرة ، فإن راكب السَّفينة ينظر السفينة واقفة والشَّط متحركاً ، وذلك يدلّ على أن السَّاكن متحرك والمتحرك يُرَى ساكناً ، والقطرة النازلة ترى خطّاً مستقيماً ، والذّبالة التى تدار بسرعة ترى دائرة ، والعنبة ترى فى الماء كبيرة كالأجَّاصة ، والشخص الصغير يرى فى الضَّباب عظيماً .
النوع الخامس : الأعمال العجيبة التى تظهر من تركيب الآلات على النُّصُب الهندسية مثل صورة فارس على فرس يده بُوق ، فإذا مضت ساعة من النهار صوت بالبوق من غير أن يسمه أحد ، ومثل تصاوير الروم على اختلاف أحوال الصور من كونها ضاحكة وباكية ، حتى ييفرق فيها بين ضحك السرور ، وضحك الخَجلِ ، وضحك الشَّامت ، وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب ، ومن هذا الباب تركيب صندوق السَّاعات ، ويندرج فى هذا الباب علم جَرَّ الأثقال وهو أن يجر ثقلاً عظيماً بآلة خفيفة سهلة ، وهذا فى الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر؛ لأن لها أسباباً معلومة يقينية من اطّلع عليها قدر عليها .
النوع السادس : الاستعانة بخواصّ الأدوية المبلّدة المزيلة للعقل والدّخن المسكرة .
النوع السابع : تعليق القلب وهو أن يدعي السَّاحر أنه يعرف الاسم الأعظم ، وأن الجن تطيعه ، وينقادون له ، فإذا كان السامع ضعيف العَقْل قليل التمييز اعتقد أنه حق ، وتعلّق قلبه بذلك ، وحصل فى نفسه نوع من الرُّعب والخوف ، فحينئذ يُمكّن الساحر من أن يفعل به حينئذ ما شاء .
فصل فى مذهب الشافعي فى السحر
حكي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : الساحر يخيل ويمرض ويقتل وأوجب القصاص على من يقتل به فهو من عمل الشيطان يتلقَّاه الساحر منه بتعليمه إيَّاه ، فإذا تلقاه منه استعمله فى غيره .
وقيل : إنه يؤثر فى قَلْبِ الأعيان ، والأصح أن ذلك تخييل .
قال : تعالى : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } [ طه : 66 ] ، لكنه يؤثر فى الأبدان بالأمراض والمت والجنون ، وللكلام تأثير فى الطِّباع والنفوس ، كما إذا سمع الإنسان ما يكره فيحمرّ [ وربما يحمّ منه } ويغضب وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العلَل التي تؤثر فى الأبدان .
فصل فى خرق الساحر للعادات
قال القرطبى رحمه الله تعالى : قال علماؤنا : لا ينكر أن يظهر على يد السّاحر خَرْقُ العادات مما ليس فى مقدور البشر من مرض وتفريق ، وزوال عقل وتَعْويج عُضُو ، إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد .

قالوا : ولا يعبد فى السِّحر أن يًسْتَدِقّ جسم السَّاحر حتى [ يلج } فى الكُوَّات والانتصاب على رأس قَصَبَةٍ ، والجري على خيط متسدق ، والطيران فى الهواء ، والمشي على الماء ، وركوب كل وغير ذلك .
ولا يكون السحر علة لذلك ، ولا موجباً له ، وإنما [ يخلق ] الله تعالى هذه الاشياء ، ويحدثها عند وجود السحر ، كما يخلق الشبع عند الأكل ، والرِّي عند شرب الماء [ روى سفيان عن عمار الدهنى أن ساحراً كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل ، ويدخل فى اسْت الحمار ، ويخرج من فيه ، فاستل جندب السيف فقلته .
هذا هو جندب بن كعب الأسدي ويقال : البجلي وهو الذى قال فى حقه النبي صلى الله عليه وسلم « يكُونُ فى أُمَّتي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُنْدب يَضْرِبُ ضَرْبَةً بالسَّيْفِ يَفْرُقُ فيها بَيْنَ الحَقّ والبَاطِلِ » فكانوا يرونه جندباً هذا قاتل السّاحر .
قال علي بن المديني : وروى عنه حراثة من مُضَرَّب ] .
فصل في إمكان السحر
واختلف المسلمون في إمكان السحر ، فأما المعتزلة فقد أنكروه أعنى : الأقسام الثلاثة الأولى ولعلهم كَفّروا من قال بها وبوجودها .
أما أهل السّنة فقد جَوّزوا أ ، يقدر الساحر على أن يطير فى الهواء ، ويقلب الإنسان حماراً ، والحمار إنساناً؛ إلاَّ أنهم قالوا : إن الله تعالى هو الخالق لهذه الأشياء عندما يقرأ الساحر كلماتٍ معينة ، و يدل على ذلك قوله تعالى : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 102 ] .
وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام سُحِرَ ، وأن السحر عمل فيه حتى قال : « إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إلَيَّ أنِّي أقُولُ الشَّيْءَ وَأَفْعَلُهُ وَلَمْ أَفْعَلْهُ » .
وأن امرأة يهودية سحرته ، وجعلت ذلك السحر تحت رَاعُونَةِ البئر ، فلما استخرج ذلك زال عن النبى صلى الله عليه وسلم ذلك العارض ، ونزلت المُعَوِّذَتَان بسببه .
وروي أن امرأة أتت عائشة رضي الله عنها : فقالت لها : إني ساحرة فهل لي من توبة؟ فقالت عائشة : وما سحرك؟ فقالت : صرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ب « بابل » أطلب علم السحر ، فقالا لي : يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت ، فقالا لي : اذهبي فَبُولِي على ذلك الرماد ، فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت لا أفعله وجئت إليهما فقلت قد فعلت ، فقالا لي ما رأيت لما فعلت؟ فقلت : ما رأيت شيئاً فقالا لي : أ ، ت على رأس أمر ، فاتقي الله ولا تفعلي فأبيت فقالا لي : اذهبي فافعلي فذهبت ففعلت ، فرأيت كأن فارساً مقنّعاً بالحديد قد خرج من فرجي ، فصعد إلى السماء فجئتهما فأخبرتهما فقالا : إيمانك قد خرج عنك ، وقد أحسنت السحر .

فقلت : وما هو؟ قالا : ما تريدين شيئاً فَتُصَوّريه فى وَهْمك إلا كان ، فصورت في نفسي حباً من حِنْطة فإذا أنا بحبّ فقلت : ازرع فانزرع ، فخرج من ساعته سُنْبُلاً فقلت : انطحن من ساعته ، فقلت : انخبز فانخبز ، وأنا لا أريد شيئاً أصوره فى نفسي إلا حصل ، فقالت عائشة : ليس لك توبة .
فصل فى أنّ معجزات الله ليست من قبيل السّحر
قال القرطبي رحمه الله تعالى : أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله عند إنزال الجراد والقمل ، والضفادع ، وفلق البحر ، وقلب العصا ، وإحياء الموتى ، وإنطاق العَجْمَاء وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام ، والفرق بين السحر والمعجزة أن السحر يأتي بن الساحر وغيره ، وقد يكون جماعة يعرفونه ، ويمكنهم الإتيان به فى وقت واحد ، والمعجزة لا يمكن الله أحداً أن يأتي بمثلها .
فصل في أن العلم بالسحر ليس بمحظور
قال ابن الخطيب : اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس قبيحاً ولا بمحظور؛ لأن العلم لذاته شريف وأيضاً لقوله تعالى : « هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ » [ الزمر : 9 ] ولأن الساحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بين وبين المُعْجزة ، والعلم بكون المعجز معجزاً واجب ، [ وما يتوقّف الواجب عليه فهو واجب ، فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً ، وما يكون واجباً ] كيف يكون حراماً وقبيحاً . [ ونقل بعضهم وجوب نقله عن المفتي حتى يعلم ما يقتل فيه وما لا يقتل فيفتي به وجوب القصاص ] .
فصل في أمور لا تكون من السرح ألبتة
قد تقدم عن القرطبي قوله : أجمع المسلمون على أنه ليس فى السحر ما يفعل الله عند إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى [ وإنطاق العجاء ] ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ، ولا يفعله الله عند إرادة الساحر .
قال القاضي أبو بكر بن الطيب : وإنما منعنا ذلك بالإجماع ، ولولاه لأجزناه نقله القرطبي رحمه الله تعالى فى تفسيره ، وأورد عليه قوله تعالى عن حبال سحرة فرعون وعصيهم : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } [ 66 ] ، فأخبر عن إقلاب العِصِيّ والحبال بأنها حيّات .
فصل فى أن الساحر كافر أم لا؟
اختلف العلماء فى الساحر هل يكفر أو لا؟
اعلم أنه لا نزاع في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبّرة لهذا العالم ، وهي [ الخالقة ] لما فيه من الحوادث ، فإنه يكون كافراً مطلقاً ، وهو النوع الأول من السحر .
وأما النوع الثاني : وهو أن يعتقد [ أن الإنسان تبلغ روحه ] فى التصفية والقوة إلى حيث يقدر بها على إيجاد الأجسام والحياة والقدرة وتغيير البِنْيَةِ والشكل ، [ فالظاهر ] إجماع الأمة أيضاً على تكفيره .
وإما النوع الثالث : وهو أن يعتقد السَّاحر أنه [ بلغ ] فى التصفية وقراءة الرّقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل خرق العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل ، والمعتزلة كفروه وغيرهم لم يكفروه .

فإن قيل : إن اليهود لما أضافوا السِّحر إلى سليمان عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى تنزيهاً له عنهك { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ } [ البقرة : 102 ] فظاهر الآية يقتضي أنهم كفروا لأجل أنهم كانوا يعلمون السحر؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية ، وتعليم ما لا يكون كفراً لا يوجب الكفر ، وهذا يقتضي أنّ السحر على الإطلاق كفر ، وأيضاً قوله : « عَلَى المَلَكَيْنِ » { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } [ البقرة : 102 ] .
قلنا : حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة ، فيحمل على سحر من يعتقد إلاهية النجوم وأيضاً فلا نسلم أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلّية ، بل المعنى أنهم كفروا ، وهم مع ذلك يعلمون السحر .
فصل فى سؤال الساحر حلّ السحر ع المسحور
قال القرطبي رحمه الله تعالى : هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور؟
اختلفوا : قال سعيد بن المسيّب : يجوز . ذكره « البخاري » ، وإليه مال المزني ، وكرهه الحسن البصري .
وقال الشعبي : لا بأس بِالنُّشْرَةِ .
قال ابن بَطّال : وفى كتاب وهب بن منبه : أن يأخذ سبع ورقات من سِدْرٍ أخضر ويدقه بين حَجَرين ، ثم يضربه بالماء ، ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به ، فإنه يذهب عنه كلّ ما به إن شاء الله تعالى ، وهو جيّد للرجل إذ حُبِسَ عن أهله .
فصل في أن الساحر هل يتقل أم لا؟
هل يجب قتل الساحر أم لا .
أما النوعان الأولان فلا شكّ في [ قتل ] معتقدهما .
قال ابن الخطيب : يكون كالمرتد يُسْتَتَاب فإن أصر قتل .
وروي عن مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما توبته .
لنا أنه إن أسلم فيقبل إسلامه لقوله عليه الصلاة والسلام : « نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ » .
وأما النوع الثالث : فإن اعتقد أن إتيانه به مباح كفر؛ لأن حكم على المحظور بكونه مباحاً ، وإن اعتقد حرمته ، فعند الشَّافعي رضي الله عه حكمه حكم الجِنَاية ، إن قال : إني سحرته وسحري يَقْتُلُ غالباً ، يجب عليه القَوَدُ .
وإن قال : سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل ، فهو شبه عمد .
وإن قال : سحرت غيره فوافق اسمه فهو خطأ يجب عليه الدِّيَةُ مخففة في ماله؛ لأنه ثبت بإقراره إلاّ أن تصدقه العاقلة ، فجينئذ يجب عليهم . هذا تفصيل مذهب الشافعي رضي الله عنه .
وروى الحسن بن زياد عن أبى حنيفة رحمه الله أنه قال يقتل السَّاحر إذا علم أنه ساحر ، ولا يستتاب ولا يبقل قوله : إني أترك السحر وأتوب منه ، فإذا أقر أنه ساحر فقد حلّ دمه ، وإن شهد شاهدان على أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا يُسْتَتَاب ، وإن أقر بأني كنت أسحر مرة ، وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه ، ولم يقتل .

وحكى محمد بن شجاع عن علي الرازي قال : سألت أبا يوسف عن قول أبي حنيفة فى السَّاحر : يقتل ولا يُسْتَتَاب لم يكن ذلك بمنزلة المرتد ، فقال الساحر جمع مع كفره السعي فى الأرض بالفساد ، ومن كان كذلك إذا قَتَل قُتل . واحتج أصحاب الشافعي بأنه لما ثبت أن هذا النوع ليس بكفر ، فهو فسق ، فإن لم يكن جناية على حق الغير كان فيه التفضيل المتقدم .
وأيضاً فإن ساحر اليهود لا يقتل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام سحره رجل من اليهود يقال له : لبيد من أعصم ، وامرأة من يهود « خيبر » يقال لها : زينب فلم يقتلهما ، فوجب أن يكون المؤمن كذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : « لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى المُسْلِمِينَ » .
واحتج أبو حنيفة بما روى نافع عن ابن عمر رضى الله عنه أن جارية لحفصة سرحتها ، وأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبدالرحمن بن زيد ، فقلتها فبلغ ذلك عثمان ، فأنكره فأتاه ابن عمر وأخبره أمرها فكأن عثمان إنما أنكر ذلك ، لأنها قتلت بغير إذن ، وبما روى عمرو بن دينار أن عمر رضي الله عنه قال : « اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سَوَاحر » .
والجواب : لعل السحرة الذين قتلوا كانوا من الكفرة ، فإن حكاية الحال تكفي في صدقها صورة واحدة ، وأما بقية [ أنواع ] السحر من الشَّعْوذة ، والآلات العجيبة المبينةن على النسب الهندسية ، وأنواع التخويف ، والتقريع والوهم ، فكل ذلك ليس بكفر ، ولا يوجب القتل .
قوله : « وَمَا أُنْزِلَ » فيه أربعة أقوال :
أظهرها : أن « ما » موصولة بمعنى « الذي » محلّها النصب عطفاً على « السحر » ، والتقدير : يعلّمون الناس السحر ، واتلنزل على الملكين .
الثاني : أنها موصولة أيضاً ، ومحلها النصب لكن عطفاً على « مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ » ، والتقدير : واتبعوا ما تتلو الشياطين ، وما أنزل على الملكين . وعلى هذا فما بينهما اعتراض ، ولا حاجة إلى القول بأن في الكلام تقديماً وتأخيراً .
الثالث : أن « ما » حرف نفي ، والجملة معطوفة على الجملة المفنية قَبْلَها ، وهي « وما كفر سُلَيْمَان » والمعنى : وما أنزل على الملكين إباحة السحر .
قال القرطبي : و « ما » نافية ، والواو للعطف على قوله : [ « وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ » ، وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل ، وميكائيل بالسحر ، فنفى الله ذلك .
وفي الكلام تقديم وتأخير والتقدير : وما كفر سليمان ] ، وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السِّحر ببابل هَارُوت وماروت ، فهاروت وماروت بدل من الشَّيَاطين فى قوله : « وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَُوا » قال : وهذا أولى ولا يلتفت إلى سواه ، فالسحر استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء ، وخاصة فى حالة طَمْثهن؛ قال الله تعالى :

{ وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد } [ الفلق : 4 ] .
فإن قيل : كيف يكون اثنان بدلاً من الجميع والبدل إنما يكون على حد المبدل منه؟ فالجواب من وجوه ثلاثة :
الاول : أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع؛ كما قال تعالى : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } [ النساء : 11 ] .
الثاني : أنهما لما كانا الرأس في التعليم نصّ عليهما دون اتباعهما كقوله تعالى : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } [ المدثر : 30 ] .
الثالث : إما خُصَّا بالذكر من بينهم لتمرّدهما ، كتخصيصه تعالى النخل [ والرمان ] فى قوله : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن؛68 ] فقد ينص على بعض أشخاص العموم إما لشرفه؛ كقوله تعالى : { إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي } [ آل عمران : 68 ] وإما لطيبه كقوله : { فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } وإما لأكثريته؛ كقوله صلى الله عليه سلم : « جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَتُرَابُهَا طَهُوراً » وإما لتمردهم كهذه الآية .
الرابع : أن محلّها الجر عطفاً على « ملك سليمان » ، والتقدير : افتراء على ملك سليمان وافتراء على ما أنزل على الملكين ، وهو اختيار أبي مسلم .
وقال أبو البقاء : « تقديره » وعلى عهد الّذي أنزل .
واحتج أبو مسلم : بأن السحر لو كان نازلاً عليهما لكان مُنْزله هو الله تعالى ، وذلك غير جائز ، كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا السِّحر ، كذلك في الملائكة بطريق الأولى .
وأيضاً فإن تعليم السحر كفر بقوله تعالى : { ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر } .
وأيضاً فإنما يضاف السحر إلى الكفرة والمردة ، فكيف يضاف إلى الله تعالى ما ينهى عنه؟ والمعنى : أن الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان مع أن ملك سليمان كان مبرأ عنه ، فكذلك نسبوا ما أنزل على الملكين إلى السحر ، مع أن المنزل عليهما كانا مبرّأين عن السحر؛ لأن المنزل عليهما هو الشرع والدين ، وكانا يعلمان الناس ذلك مع قولهما : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } توكيداً لبعثهم على [ قبوله ] والتمسّك به ، فكانت طائفة تتمسّك ، وأخرى تخالف .
قال ابن الخطيب رحمه الله تعالى : والأول أولى؛ لأن عطف « وَمَا أُنْزِلَ » على ما يليه أولى من عطفه على مابعد عنه إلا لدليل ، أما قوله : « لو كان منزلاً عليهما لكان مُنَزِّلهُ هو الله تعالى » .
قلنا : تعريف صفة الشيء قد يكون لأجل الترغيب فى إدخاله في الوجود ، وقد يكون لأجل أن يقع الاحتراز عنه؛ قال : [ الهزج ]
698 عَرَفْتُ الشَّرَّ لا لِلشَّرْرِ ... لَكِنُ لِتَوَقِّيهِ
وقوله : لا يجوز بعثة الأنبياء [ لتعليم السحر ، فكذا الملائكة ] .
قلنا : الغرض من ذلك التعليم التَّنبيه على إبطاله .

وقوله : « تعليم السِّحْر كفر » .
قلنا : إنه واقعة حال فيكفي في صدقها سورة واحدة .
وقوله : يضاف السحر للكفرة والمردة .
قلنا : فرق بين العمل والتعليم ، فيجوز أن يكون العمل منبهاً عنه ، والتعليم لغرض التنبيه على فساده فلا يكون مأموراً به .
والجمهور على فتح لام « المَلَكين » على أنهما من الملائكة .
وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن والضحاك بكسرها على أنهما رجلان من الناس ، وسيأتي تقريره .
قوله : « بِبَابِلَ » متعلق ب « أنزل » ، والباء بمعنى « في » أي : في « بابلط . ويجوز أن يكون فى محلّ نصب على الحال من المَلَكين ، أو من الضمير في » أنزل « فيتعلق بمحذوف . ذكر هذين الوجهين أبو البقاء رحمه الله .
و » بابل « لا ينصرف للعُجْمة والعلمية ، فإنها اسم أرض ، وإن شئت للتأنيث والعلمية وسميت بذلك قيل : لِتَبَلْبُلِ السنة الخلائق بها ، وذلك أن الله تعالى أمر ريحاً ، فحشرتهم بهذه الأرض ، فلم يدر أحد ما يقول الآخر ، ثم فرقتهم الريح في البلاد فتكلم كل واحد بلغة ، والبَلْبَلَة التفرقة .
وقيل : لما أُهْبِط نوح عليه الصلاة والسلام نزل فبنى قرية ، وسماها » ثمانين « ، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة .
وقيل : لتبلبل ألسنة الخلق عند سقوط صرح نمرود .
وهي بابل » العراق « .
وقال ابن مسعود : » بابل « أرض » الكوفة « .
وقيل : » جبل نهاوَند « .
قوله : » هَارُوتَ وَمَارُوتَ « الجمهور على فتح تائها .
واختلف النحاة في إعرابها ، وذلك مبني على القراءتين في » الملكين « ، فمن فتح لام » الملكين « ، وهم الجمهور كان في هاروت وماروت أربعة أوجه :
أظهرها : أنها بدل من » الملكين « ، وجُرَّا بالفتحة لأنهما ينصرفان للعجمة والعلمية .
الثاني : أنهما عطف بيان لهما .
الثالث : أنهما بدل من » الناس « في قوله تعالى : يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ » وهو بدل بعض من كل ، أو لأن أقل الجمع اثنان .
الرابعك أنهما بدل من « الشياطين » في قوله : « ولكن الشياطين كفروا » في قراءة من نصب ، وتتوجيه البدل كما تقدم .
وقيل : هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجن ، فيكون بدل كل من كل ، والفتحة على هذين القولين اللنصب .
وأما من قرأ برفع « الشياطين » ، فلا يكون « هاروت وماروت » بدلاً منهم ، بل يكون منصوباً في هذا القول على الذم أي : أذم هاروت وماروت من بين الشياطين كلها؛ كقوله : [ الطويل ]
699 أقَارعُ عَوْشفٍ لا أُحَاوِلُ غَيْرَهَا ... وُجُوهَ قُرُودٍ تَبْتَغِي مَنْ تُجَادِعُ
أي : أذم وجود قرود ، ومن كسر لامهما ، فيكون بدلاً منهما كالقول الأول إلاَّ إذا فسر الملكان بداود وسليمان عليهما الصلاة والسلام كما ذكره بعض المفسرين ، فلا يكونان بدلاً منهما ، بل يكونان متعلّقين بالشياطين على الوجيهن السَّابقين في رفع الشياطين ونصبه ، أو يكونان بدلاً من « الناس » كما تقدم .

وقرأ الحسن « هَارُوتُ وماروتُ » برفعهما ، وهما خبر لمبتدأ محذوف أي : هما هاروت وماروت ، ويجوز أن يكون بدلاً من « الشياطين » الأولى وهو قوله : « ما تَتْلُو الشياطين » ، أو الثاني على قراءة من رفعه .
ويُجْمَعَان على هَوَاريت ومَوَاريت ، وهَوَارتة ومَوَارتة ، وليس من زعم اشتقاقهما من الهَرْتِ والمَرْتِ وهو الكسر بمصيب لعدم انصرافهما ، ولو كانا مشتقّين كما ذكر لانصرفا .
فصل في توجيه قراءة فتح اللام
أما القرءاة بفتح لام « الملكين » ، فقيل : هما ملكان من السماء اسمهما هاروت وماروت .
وقيل : هما جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام .
وقيل غيرهما .
وأما من كسر اللام فقيل : إنهما اسم لقبيلتين من الجن .
وقيل : هما داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام .
وقيل : هما رجلان صالحان .
وقيل : كانا رجلين ساحرين .
وقيل : كانا علجين أقنعين ب « بابل » يعلمان الناس السحر .
قوله : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } هذه الجملة عطلف على ما قبلها ، والجمهور على « يُعَلِّمَان » مضعفاً .
واختلف فيه على قولين :
أحدهما : أنه على بابه من التعليم .
والثاني : أنه بمعنى يعلمان من « أعلم » ، فالتضعيف والهمزة متعاقبان .
قالوا : لأن المَلَكين لا يعلمان الناس السحر ، إنما يُعْلِمانِهِمْ به ، ويَنْهَيَانِهِم عنه ، وإليه ذهب طحلة بن مصرف ، وكان يقرأ « يُعْلِمَان » من الأعلام .
ومن حكى أن تَعَلَّمْ بمعنى « اعْلَم » ابنُ الأعرابي ، وابن الأنباريِّ؛ وأنشدوا قول زُهَيْر : [ البسيط ]
700 تَعَلَّمَنْ هما لَعَمْرُ اللهِ ذا قَسَماً ... فَاقْدِرْ بِذَرْعِكَ وَانْظُرْ أَيْنَ تَنْسَلِكُ؟
وقول القُطَامِيُّ : [ الوافر ]
701 تَعَلَّمْ أَنَّ بَِعْدَ الْغَيِّ رُشْداً ... وَأَنَّ لِذَلِكَ الغَيِّ انْقِشَاعَا
وقول كعب بن مالك : [ الطويل ]
702 تَعَلَّمْ رَسُولَ اللهِ أَنَّكَ مُدْرِكِي ... وَأَنَّ وَعِيداً مِنْكَ كَالأَخْذِ بِالْيَدِ
وقول الآخر : [ الوافر ]
703 تَعَلَّمْ أَنَّهُ لاَ طَيْرَ إِلاَّ ... عَلَى مُتَطَيِّرٍ وَهُوَ الثُّبُورُ
والضيمر في « يعلمان » فيه قولان :
أحدهما : أنه يعود على هاروت وماروت .
والثانيى : أنه عائد على [ الملكين ، ويؤيده قراءة أُبَيّ بإظهار الفاعل : « وَمَا يُعَلِّم الملكان » .
والأول هو الأصح؛ لأن الاعتماد إنما هو على البدل ] دون المبدل منه ، فإنه في حكم المطَّرح ، فمراعاته أولى؛ تقول : « هِنْدٌ حُسْنُهَا فَاتِنٌ » ولا تقول : « فَاتِنَةٌ » مراعاة لِهِنْد ، إلاّ في قليل من الكلام؛ كقوله : [ الكامل ]
704 إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّهَا ورَواحَهَا ... تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأَعْضَبِ
وقال الآخر : [ الكامل ]
705 فَكَأَنَّهُ لَهِقُ السَّراة كَأَنَّهُ ... مَا حَاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ
فراعى المُبْدَلَ منه في قوله : « تَرَكَتْ » ، وفي قوله : « مُعَيَّن » ، ولو راعى البَدَل ، وهو الكثير ، لقال « تَرَكَا » و « مُعَيَّنَان » ؛ كقول الآخر : [ الطويل ]

706 فَمَا كَانَ قَيْسُ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
ولو لم يراع البدل للزم الإخبار بالمعنى عن الجُثَّة .
وأجاب أبو حيان عن البيتين بأن « رَوَاحها وغدوها » منصوب على الظرف ، وأن قوله : « مُعَيَّن » خبر عن « حَاجِبَيْهِ » ، وجاز ذلك؛ لأن كل اثنين لا يغني أحدهما عن الآخر ، يجوز فيهما ذلك؛ قال : [ الهزج ]
707 .. بِهَا الَيْنَان تَنْهَلُّ
وقال : [ الكامل ]
708 لَكَأَنَّ فِي الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أَوْ سُنْبُلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ
ويجوز عكسه؛ قال : [ الطويل ]
709 إِذَا ذَكَرَتْ عَيْنِي الزَّمَانَ الّّذِي مَضَى ... بِصَحْرَاءَ فَلْجٍ ظَلَّتَا تِكِفَانِ
و « من » زائدة لتأكيد الاستغراق لا للاستغراق؛ لأن « أحداً » يفيده بخلاف : « ما جاء من رجل » فإنها زائدة للاستغراق .
و « أحد » هنا الظاهر أنه الملازم للنفي ، وأنه الذي همزته أصل بنفسها .
وأجاز أبو القاء أن يكو بمعنى واحد ، فتكون همزته بدلاً من الواو .
فصل فيمن قال بأنهما ليسا من الملائكة
القائلون بأنهما ليسا من الملائكة احتجوا بأن الملائكة عليهم السلام لا يليق بهم تعليم السحر ، وقالوا : كيف يجوز إنزال الملكين مع قوله : { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر } [ الأنعام : 8 ] .
وأيضاً لو أنزل الملكين ، فإما أن يجعلهما فى صورة الرجلين ، أو لا يجعلهما كذلك ، فإن جعلهما في صورة الرجلين مع أنهما ليسا برجلين كان ذلك تجهيلاً وتلبيساً على الناس وهو لا يجوز ، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن كل واحد من الناس الذي تشاهدهم أنه لا يكون الحقيقة إنساناً ، بل يكون ملكاً ن الملائكةن؟ وإن لم يجعلهما في صورة الرجلين قدح ذلك في قوله تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } [ الأنعام : 9 ] .
وأجاب القائلون بأنهما من الملائكة عن الأول بأنا سنبين وجه الحكمة في إنزال [ الملكين ] لتعليم السحر وعن الثاني : بأن هذه الآية عامة ، [ وقراءة المَلَكين بفتح اللام متواتورة وتلك ] خاصة والخاص مقدم على العام .
وعن الثالث : أن الله تعالى أنزلهما في صورة رَجُلين ، كان الواجب على الملكين في زمان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أن يقطعوا على من صروته صورة الإنسان بكونه إنساناً ، كما أنه في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام كانالواجب على من شاهد حية الكَلْبي ألاَّ يقطع بكونه من البشر ، بل الواجب التوقف فيه .
فصل في فساد رواية الزهرة
رووا قصة الزُّهَرة وما جرى لها الملكين .
ولهم في الزهرة قولان :
أحدهما : أنها الكوكب المعروف .
والثاني : أنها من بنات آدم ومسخت إلى هذا الكوكب .
وقيل : مسخت بها .
قال ابن الخطيب : وهذه الرواية فاسدة مردودة؛ لأنه ليس في كتاب الله تعالى مايدل عليها ، بل فيه ما يبطلها من وجوه :
الأول : الدلائل الدالة على عِصْمَةِ الملائكة عليهم السلام من كل المعاصي .

الثاني : أن قولهم : إنهما خُيِّرا بَيْن عذاب الدنيا ، وبين عذاب الآخرة فاسد ، بل كان الأولى أن يُخَيَّرا بَيْنَ التوبة والعذاب؛ لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره ، فكيف يبخل عليهما بذلك؟
الثالث : أن من أعجب الأمور قوله : أنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين ، ويدعوان إليه ، وهما يعاقبان [ ولما ظهر فساد هذا القول فنقول : السبب ] في إنزالهما وجوه :
أحدها : أن السحرة كثرت في ذلك الزمان ، واستنبطت أبواباً غريبة من السحر ، وكانوا يَدَّعُون النبوة ، ويتحَدَّون الناس بها ، فبعث الله تعالى هذين الملكين لأَجْلِ أن يعلّما الناس أبواب السِّحر حتى يتمكّنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذباً ، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد .
وثانيها : أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسّحر متوقّف على العلم بماهية المعجزة ، وبماهية السحر ، والناس كانوا جاهلين بماهية السِّحر ، فلا جرم تعذّرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة ، فبعث الله تعالى هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض .
وثالثها : لا يمتنع أن يقال : السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله ، والألفة بين أولياء الله كان مباحاً عندهم ، أو مندوباً ، فالله تعالى بعث مَلَكين لتعليم السِّحر لهذا الغرض ، ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما ، واستعملوه في الشر ، وإيقاع الفُرْقة بين أولياء الله ، والألفة بين أعداء الله .
ورابعها : أن تحصيل العلم بكل شيء حسن ، ولما كان السِّحر منهياً عنه وجب أن يكون متصوراً معلوماً؟ لأن الذي لا يكون متصوراً يمتنع النهي عنه .
وخامسها : لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها ، فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أموراً يقدرون بها على معارضة الجن .
وسادسها : يجز أن يكون ذلك تشديداً في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصّل به إلى اللَّذات العاجلة ، ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقّة ، فيستوجب به الثواب الزائد ، كما ابتلي قوم طالةوت بانلهر على ما قال : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } [ البقرة : 249 ] فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السّحر ، والله أعلم .
فصل في زمن وقوع هذه القصة .
قال بعضهم : هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس عليه الصَّلاة والسلام .
قوله : { حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } .
« حتى » : حرف غاية ونصب ، وهي هنا بمعنى « إلى » ، والفعل بعدها منصوب بإضمار « أن » ولا يجوز إظهارها ، وعلامة النصب حذف النوت ، والتقدير : إلى أن يقولا وهي متعلقة بقوله : « وَمَا يُعَلِّمَانِ » ، والمعنى أنه ينتفي تعليمهما أو إعلامهما على ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية ، وهي قولهم : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } .

وأجاز أبو البقاء رحمه الله أن تكون « حتى » بمعنى « إلا » قال : والمعنى : وما يعلمان من أحد إلاّ أن يقولا وهذا الذي أجاز لا يعرف عن أكثر المتقدمين ، وإنما قاله ابن مالك؛ وأنشد : [ الكامل ]
710 لَيْسَ الْعَطَاءُ مِنَ الْفُضُولِ سَمَاحَةً ... حَتَّى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ
قال : تقديره : إلا أن تجُودَ .
و « حتى » تكون حرف جر بمعنى « إلى » كهذه الآية ، وكقوله : { حتى مَطْلَعِ الفجر } [ القدر : 5 ] ، وتكون حرف عطف ، وتكون حرف ابتداء فتقع بعدها الجمل؛ كقوله : [ الطويل ]
711 فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا ... بِدَجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ
والغاية معنى لا يفارقها في هذه الأحوال الثلاثة ، فلذلك لا يكون ما بعدها إلا غاية لما قبلها : إما في القوة ، أو الضعف ، أو غيرهما ، ولها أحكام أُخر ستأتي إن شاء الله تعالى .
و « إنما » مكفوفة ب « ما » الزائدة ، فلذلك وقع بعدها الجملة ، وقد تقدم أن بعضهم يجيز إعمالها ، والجملة في محلّ نصب بالقول ، وكذلك : « فَلاَ تَكْفُر » .
فصل في المراد بالفتننة
المراد هاهنا بالفتنة المحنة التي بها يتيمز المطيع عن العاصي ، كقولهم : فتنت الذهب بالنار أذا عرض على النار ليتميز الخاصّ عن المشوب ، وقد بَيّنا الحكمة في بعثة الملكين لتعليم السحر .
فالمراد أنهما لا يعلمان أحداً السحر ولا يصفانه عن المشوب ، وقد بَيْنا الحكمة في بعثة الملكين لتلعيم السحر .
فالمراد أنهما لا يعلمان أحداً السحر ولا يصفانه لأحد ، ولا يكشفان له وجوه الاحتيال حتى يبذلا له النَّصيحة فيقولا له : « إِنَّمَا نَحْنُ فَتْنَةٌ » أي : هذا الذي نصفه لك ، وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر عن المعجزة ، ولكنه يمكنك أن تتوصّل به إلى المفاسد والمعاصي ، فإياك أن تستعمله فيما نهيت عنه ، أو تتوصل به إلى شيء من الأعراض العاجلة .
قوله تعالى : « فَيَتَعَلَّمُونَ » في هذه الجملة سبعة أقوال :
أظهرها : أنها معطوفة على قوله تعالى : « وما يعلمان » والضمير في « فيتعلّمون » عائد على « أحد » ، وجمع حملاً على المعنى ، كقوله تعالى : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] .
فإن قيل : المعطوف عليه منفي ، فيلزم أن يكون « فيتعلّمون » منفياً أيضاً لعطفه علبيه ، وحينئذ ينعكس المعنى . فالجواب ما قالوه ، وهو أن قوله : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ } ، وإن كان منفياً لفظاً فهو موجب معنى؛ لأن المعنى : يعلمان الناس السحر بعد قولهما : إنما نحن فتنة ، وهذا الوجه ذكره الزجاج وغيره .
الثَّاني : أنه معطوف على « يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السَّحْر » قاله الفراء .

وقد اعترض الزجاج هذا القول بسبب لفظ الجمع في « يعلمون » مع إتيانه بضمير التثنية في « منهما » يعنى : فكان حقه أن يقال : « منهم » لأجل « يعلمون » وأجازه [ أبو علي ] وغيره ، وقالوا : لا يمتنع عطف « فيتعلمون » على « يعلِّمون » ، وإن كان التعليم من الملكين خاصّة ، والضمير في « منهما » راجع إليهما ، فإن قوله : « منهما » إنما جاء بعدم تقدّم ذكر المَلَكَيْنِ .
وقد اعترض على قول الفراء من وجه آخر : وهو أنه يلزم منه الإضمار قبل الذكر ، وذلك أن الضمير في « منهما » عائد على الملكين ، وقد فرضتم أن « فيتعلمون منهما » عطف على « يعلمون » ، [ فيكن التقدير : « يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فَيَتَعَلَّمُونَ منهما » ] فيلزم الإضمار في « منهما » قبل ذكر المَلَكيْن ، وهو اعتراض وَاهٍ فإنهما متقدمان لفظاً ، وتقدير تأخرهما لا يضرّ؛ إذ المحذور عَوْدُ الضمير على غير مذكور في اللفظ .
الثالث : وهو أحد قولي سيبويه أه عطف على « كفروا » ، فعل في موضع رفع ، فلذلك عطف عليه فعل مرفوع .
قال سيبويه : [ وارتفع ] « فيتعلمون » ؛ لأنه لم يُخْبِرْ عن الملكين أنهما قالا : لا تكفر فيتعلموا ليَجْعَلا كفره سبباً لتعلم غيره ، ولكنه على : كفروا فيتعلمون ، وشَرْحُ ما قاله هو أنه يريد أن ليس « فيتعلمون » جواباً لقوله : فلا تكفر فيتنصب في جواب النهي ، كما النصب : { فَيُسْحِتَكُم } [ طه : 61 ] ، بعد قوله : « لاَ تَفْتَرُوا » لأن كُفْرَ من نهياه أن يكفر ليس سبباً لتعلّم من يتعلم . واعترض على هذا بما تقدّم من لزوم الإضمار قبل الذكر ، وتقدم جوابه .
الرابع : وهو القول الثاني ل « سيبويه » أنه خبر مبتدأ محذوف ، والتقديرك « فهم يتعلمون » ، فعطف جلمة اسمية على فعلية .
الخامس : قال الزَّجَّاج أيضاً : والأجود أن يكون معطوفاً على « يعلّمان فيتعلّمون » فاستغني عن ذكر « يعلمون » على ما في الكلام من الدليل عليه [ واعتراض أبو علي قول الزجاج؛ فقال : « لا وجه لقوله : اسغني عن ذلكر » يعلمان « ؛ لأنه موجود في النص » . وهذا الاعتراض من أبي علي ت حامل عليه لسبب وقع بينهما؛ فإن الزجاج لم يرد أن « فيتعلمون » عطف على « يعلمان » المنفي ب « ما » في قوله : « وما يعلمان » حتى يكون مذكوراً في النص ، و إنما أراد أن ثم فعلاً مضمراً يدل عليه قوة الكلام وهو : « يعلمان فيتعلمون » ] .
السَّادس : أنه عطف على معنى ما دلّ عليه أول الكلام ، والتقدير : فيأتون فيتعلّمون ، ذكره الفراء والزجاج أيضاً .
السَّابع : قال أبو البقاء : وقيل : هو مستأنف ، وهذا يحتمل أن يريد أنه خبر مبتدأ مضمر كقول سيبويه رحمه الله وأن يكون مستقلاً بنفسه غير محمل على شيء قبله ، وهو ظاهر كلامه .

قوله : « مِنْهُمَا » متعلّق ب « يعلمون » .
و « من » لابتداء الغاية ، وفي الضمير ثلاثة أقوال : أظهرها : عوده إلى المَلَكين ، سواء قرىء بكسر اللام أو فتحها .
والثاني : يعود على السّحر وعلى المنزل على الملكين .
والثالث : أنه يعود على الفتنة ، وعلى الكفر المفهوم من قوله : « فلا تكفر » ، وهو قول أبى مسلم .
قوله : « مَا يُفَرِّقُونَ به » الظَّاهر في « ما » أنها موصولة اسمية .
وأجاز أبو البقاء أن تكن نكرة موصوفة ، وليس بواضح ، ولا يجوز أن تكن مصدرية لعود الضمير في « به » عليها ، والمصدرية حرف عند جمهور النحويين كما تقدم غير مَرّة .
و « بَيْنَ الْمَرْءِ » ظرف ل « يُقَرّقُونَ » .
والجمهور على فتح ميم « المَرْءِ » مهموزاً ، وهي اللغة العالية .
وقرأ أين أبي أسحاق : « المُرْء » بضم الميم مهموزاً .
وقرأ الأشهب العقيلي والحسن : « المِرْءُ » بكسر الميم مهموزاً .
فأما الضم فلغة محكية .
وأما الكسر فيحتمل أن يكون لغة مطلقاً ، ويحتمل أن يكون للإتباع ، وذلك أن في « المرء » لغة وهي أن « فاءه » تَتْبَعُ « لامه » ، فإن ضم ضمت ، وإن فتح فتحت ، وإن كسر كسرت ، تقول : « ما قام المُرْءُ » بضم الميم و « رأيت المَرْءَ » بفتحها ، و « مررت بالمِرْءِ » بكسرها ، وقد يجمع بالواو والنون ، وهو شاذ .
قال الحسن في بعض مواعظه : « أحْسِنُوا مَلأَكُمْ أَيُّهَا المَرْؤون » أي : أخلاقكم .
وقرأ الحسن ، والزهري « المَرِ » بفتح الميم وكسر الراء خفيفة ، ووجهها أنه نقل حركة الهمزة على « الواو » وحذف الهمزة تخفيفاً وهو قياس مطّرد .
وقرأ الزهري أيضاً : « المَرِّ » بتشديد الرَّاء من غير همز ، ووجهها أنه نقل حرة الهمزة إلى الرَّاء ، ثم رأى الوقف عليها مشدّداً ، كما روي عن عصام { مُّسْتَطَرٌ } [ القمر : 53 ] بتشديد الراء ثم أجرى الوَصْل مجرى الوقف .
فصيل في تفسير التفريق
ذكروا في تفسير التفريق هاهنا وجهين :
الأول : أن هذا التفريق إنما يكون بأن يعتقد بأن ذلك السرح مؤثر في هذا التفريق ، فيصير كافراً ، وإذا صار كافراً بَانَتْ منه امرأته ، فيحصل تفريق بينهما .
الثاني : أنه يفرق بينهما بالتمويه والحِيَل ، والتَّضْريب وسائر الوجوه المذكورة . و ذكره التفريق دون سائر الصُّور التي يتعلّمونها تنبيهاً على الباقي ، فإن ركون الإنسان إلى زوجته معروف زائد على مودّة قريبة ، فإذا وصل بالسحر إلى هذا الأمر مع شدّته فغيره أولى ، يدلّ عليه قوله تعالى : « وَما هُمْ بِضَارِّينَ بهِ مِنْ أَحَدِ » يجوز في « ماء » وجهان .

أحدهما : أن تكون الحجازية ، فيكون « هم » اسمها ، و « بِضَارين » خبرها ، و « الباء » زائدة ، فهو في محل نصب .
والثاني : أن تكون التميمية ، فيكون « هم » مبتدأ ، و « بِضَارِّينَ » خبره ، و « الباء » زائدة أيضاً فهو في محل رفع .
والضمير فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه عائد على السَّحرة العائد عليهم ضمير « فَيَتَعَلَّمُونَ » .
الثاني : يعود على اليهود العائد عليهم ضمير « واتبعوا » .
الثالث : يعود على الشياطين والضمير في « به » يعود على « ما » في قوله : « وَمَا يُفَرِّقُونَ بِهِ » .
والجمهور على « بَضَارِّينَ » بإثبات النون و « مِنْ أَحَدٍ » مفعول به ، وقرأ الأعمش : « بِضَرِّي » من غير نون ، وفي توجيه ذلك قولان :
أظهرهما : أنه أسقط النون تخفيفاً ، وإن لم يقع اسم الفاعل صلةً ل « أل » ؛ مثل قوله : [ الطويل ]
712 وَلَسْنَا إِذَا تَأْبَوْنَ سِلْماً بِمُذْعِنِي ... لَكُمْ غَيْرَ أَنَّا إِنْ نُسَالَمْ نُسَالمِ
أي : بمذعنين ونظيره في التَّثْنية : « قَطَا قَطَا بَيْضُك ثِنْتَا ، وَبِيْضِي مِائَتَا » يريدون ثِنْتَانِ وَمِائَتَانِ .
والثاني وبه قال الزَّمخشري ، وأبن عطية أن النُّونَ حذفت للإضافة إلى « أحدٍ » ، وفصل بين المضاف والضاف إليه بالجار والمجرور ، وهو « به » ؛ كما فصل به في قوله الآخر : [ الطويل ]
713 هُمَا أَخَوَا فِي الْحَرْبِ مَنْ لاَ أَخَا لَهُ ... إِذَا خَافَ يَوْماً نَبْوةً فَدَعَاهُمَا
وفي قوله : [ الوافر ]
714 كَمَا خُطَّ الْكِتَابُ بِكَفِّ يَوْماً ... يَهُودِيِّ يُقارِبُ أَوْ يُزِيلُ
ثم استشكل الزمخشري ذلك فقال : فإن [ قلت ] كيف يضاف إلى « أحد » هو مجرور؟ قلت : جعل الجار جزءاً من المجرور .
قال أبو حيان : وهذا التخريج ليس يجوز؛ لأن الفصل بين المتضايفين بالظَّرف والمجرور من ضَرَائر الشعر ، وأقبح من ذلك ألا يكون ثم مضاف إليه؛ لأنه مشغول يعامل جَرّ ، فهو المؤثر فيه لا الإضافة .
وأما جعله حرف الجر جزءاً من المجرور فليس بشيء؛ لأن هذا مؤثر فيه ، وجزء الشيء لا يؤثر فيه .
وأجيب بأن الفصل من ضرائر الشعر فليس كما قال ، لأنه قد فصل بالمفعول به في قراءة ابن عامر ، فالباظرف وشبهه أولى ، وسيأتي تحقيق ذلك في الأنعام . وأما قوله : « لأن جزء الشيء لا يؤثر فيه .
فإنما ذلك في الجزء الحقيقي ، وهذا إنما قال : ننزله منزلة الجزء ، ويدلّ على ذلك قول [ النجاة ] الفعل كالجزء من الفاعل ، ولذلك آنّث لتأنيثه ، ومع ذلك فهو مؤثِّر فيه .
و » من « في » من أحد « زائدة لتأكيد الاستغراق كما تقدم في : » وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ « .
وينبغي أن يجيء قول أبي البقاء : إن » أحداً « يجوز أن يكون بمعنى واحد ، والمعهود زيادة » من « في المفعول به المعمول لفعل منفي نحو : ما ضربت من أحد ، إلا أنه حملت الجملة الاسمية الدَّاخل عليها حرف النفي على الفعليّة المنفية في ذلك؛ لأن المعنى : وما يضرون من أحد ، إلا أنه عدل إلى هذه الجملة المصدرة بالمبتدأ المخبر عه باسم الفاعل الدّال على الثبوت ، والاستقرار المزيد فيه باء الجر للتوكيد االمراد الذي لم تفده الجملة الفعلية .

قوله : « إِلاَّ بإِذْنِ اللهِ » هذا استثناء مفرّغ من الأحوال ، فهو في محل نَصْب على الحال ، فيتعلّق بمحذوف ، وفي صاحب هذه الحال أربعة أوجه :
أحدها : أنه الفاعل المستكن في « بضارين » .
الثاني : أنه المفعول هو « أحد » وجاءت الحال من النكرة؛ لاعتمادها على النفي .
والثالث : أن الهاء في « به » أي بالسحر ، والتقدير : وما يضرون أحداً بالسحر إلا ومعه علم الله ، أو مقروناً بإذن الله ونحو ذلك .
والرابع : أنه المصدر المعروف وهو الضرر ، إلا أنه حذف للدلالة عليه .
فصل في تأويل الإذن
قال ابن الخطيب : الإذن حقيقة في الأمر والله لا يأمر بالسحر ، لأنه تعالى أراد عيبهم وذمهم عليه ، ولو كان قد أمرهم به لما جاز أن يذمهم عليه ، فلا بد من التأويل ، وفيه وجوه :
أحدها : قال الحسن : المراد منه التَّخْلية يعنى الساحر إذا سحر إنساناً ، فإن شاء الله تعالى منعه منه ، وإن شاء خَلَّى بينه وبين ضرر السحر .
وثانيها : قال الأصم : المراد : « إِلاَّ يعلم الله » ، وإنما سمي الأذان أذاناً ، لأنه إعلام للناس بدخول وقت الصلاة ، وسمي الإيذان إيذاناً؛ لأن بالحاسة به تدرك الإذن ، وكذلك قوله تعالى : { وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج } [ التوبة : 3 ] أي : إعلام ، وقوله تعالى { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 279 ] معناه : فاعلموا ، وقوله : { آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ } [ الأنبياء : 109 ] يعنى : أعلمتكم .
وثالثها : أن الضرر الحاصل عند فعل السِّحر إنما يحصل بخلق الله ، وإيجاده وإبداعه ، وما كان كذلك فإنه يصح أن يضاف إلى الله تعالى كما قال : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] .
ورابعها : أن يكون المراد بالإذن الأمر ، وهذا الوجه لا يليق إلاَّ بأن يُفَسّر التفريق بين المرء وزوجه بأن يصير كافراً ، والكفر يقتضي التفريق ، فإنَّ هذا حكم شرعي ، وذلك لا يكون إلا بأمر الله تعالى .
قوله : « وَلاَ يَنْفَعُهُمْ » في هذه الجملة وجهان .
أحدهما : وهو الظاهر أنها عطف على « يضرهم » فتكون صلة ل « ما » أيضاً ، فلا محلّ لها من الإعراب .
والثاني ، وأجازه أبو البقاء : أن تكون خبراً لمبتدأ مضمر تقديره : وهو لا ينفعهم ، وعلى هذا فتكون « الواو » للحال ، والحملة من المبتدأ والخبر في محلّ نصب على الحال ، وهذه الحال تكون مؤكّدة؛ لأن قوله : « ما يضرهم » يفهم منه عدم النفع .

قال أبو البقاء : ولا يصح عطفه على « ما » ؛ لأن الفعل لا يعطف على الاسم .
وهذا من المواضع المستغنى عن النصّ على منعها لوضوحها ، وإنما ينص على منع شيء يتوهم جوازه .
وأتى هنا ب « لا » لأنها ينفى بها الحال والاستقبال ، وإن كان بعضهم خصّها بالاستقبال ، والضُّرُّ والنفع معروفان ، يقال ضَرَّهُ يَضُرُّهُ بضم الضاد ، وهو قياس المضاعف المتعدِّي ، والمصدر : الضَّر والضَّر بالضم والفتح ، والضَّرَر بالفك أيضاً ، ويقال : ضَارَةُ يَضِيرُهُ بمعناه ضَيراً؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
715 تَثُولُ أُنَاسٌ لاَ يَضِيرُكَ نَأْيُهَا ... بَلَى كُلُّ ما شَفَّ النُّفُوسَ يَضِيْرُهَا
وليس حرف العلة مبدلاً من التضعيف .
ونقل بعضهم : أنه لا يبنى من نفع اسم مفعول فيقال : منفوع ، والقياس لا يأباه .
قوله : « وقد علموا » تقدم أن هذه اللاَّم جواب قسم محذوف .
و « علم » يجوز أن تكون متعدية إلى اثنين أو إلى واحد ، وعلى كلا التقديرين فهي مُعَلَّقة عن العمل فيما بعدها لأجل اللام ، فالجملة بعدها في محل نصب؛ إما سادّة مسدَّ مفعولين ، أو مفعول واحد على حسب ما تقدم ، ويظهر أثر ذلك في العطف عليها ، فإن اعتقدنا تعديها لاثنين عطفنا على الجملة بعدها مفعولين ، وإلا عطفنا واحداً ، ونظيره في الكلام : علمت لزيد قائم وعمراً ذاهباً ، أو علمت لزيد قائم وذهاب عمرو .
والذي يدل على أن الجملة المعلقة بعد علم في محل نصب وعَطْفَ المنصوب على محلها قولُ الشاعر : [ الطويل ]
716 وَمَا كُنْتُ أَدْرِي قَبْلَ عَزَّةَ مَا الْهَوَى ... وَلاَ مُوجِعَاتِ القَلْبِ حَتَّى تَوَلَّتِ
روي بنصب « موجعاتِ » على أنه عطف على محل « ما الهَوَى » ، وفي البيت كلام إذ يحتمل أن تكون « ما » زائدة ، « والهوى » مفعول به ، فعطف « موجعاتِ » عليه ، ويحتمل أن تكون « لا » نافية للجنس و « موجعاتِ » اسمها ، والخبر محذوفٌ كأنه قال : ولا موجعاتِ القلبِ عنْدِي حتى تولَّتِ .
ةوالضمير في « علموا » فيه خمسة أقوال :
أحدها : ضمير الهيود الذين بحضرة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو ضمير من بحضرة سليمان ، أو ضمير جميع اليهود ، أو ضمير الشياطين أو ضمير الملكين عند من يرى أن الاثنين جمع .
قوله : « لَمَنِ اشْتَرَاهُ » في هذه اللام قولان :
أحدهما : وهو ظاهر قول النحاة أنها لام الابتداء المُعَلَّقة ل « عَلِمَ » عن العمل كما تقدم ، و « مَنْ موصولة في محلّ رفع بالابتداء ، و » اشتراه « صلتها وعائدها .
و { مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } جلمة من مبتدأ وخبر ، و » من « زائدة في المبتدأ ، والتقدير : ماله خلاق في الآخرة .
وهذه الجملة في محل رفع خبر ل » من « الموصولة ، فالجملة من قوله : » ولقد علموا « مقسم عليها كما تقدم ، و » لَمَن اشْتَرَاهُ « غير مقسم عليها ، هذا مذهب سيبويه رحمه الله تعالى والجمهور .

الثاني : وهو قول الفراء ، وبتبعه أبو البقاء : أن تكونه هذه اللام هي الموطّئة للقسم ، و « مَنٍ » شرطية في محل رفع بالابتداء ، و { مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } جواب القسم ، ف « اشترااه » على القول الأول صلة ، وعلى الثاني خبر لاسم الشرط ، ويكون جواب الشرط محذوفاً؛ لأنه إذا اجتمع شرط وقسم ، و لم يتقدمهما ذو خبر أجيب سابقهما غالباً ، وقد يجاب الشرط مطلقاً كقوله : [ الطويل ]
717 لَئِنْ كَانَ مَا حُدِّثْتُهُ الْيَوْمَ صَادِقاً ... أَصُمْ فِي نَهَارِ الْقَيْظِ لِلشَّمْسِ بَادِيَا
ولا يحذف جواب الشرط إلا وفعله ماض ، وقد يكون مضارعاً كقوله : [ الطويل ]
718 لَئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ رَبِّي أَنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ
فعلى قول الفَرَّاء تكون الجملتان من قوله : « وَلَقَدْ عَلِمُوا » ، و « لَمَنِ اشْتَرَاهُ » مُقْسَماً عليهما ونقل عن الزجاج منع قول الفراء فإنه قال : هذا ليس موضع شرط ولم يوجه منع ذلك ، والذي يظهر في منعه ، أن الفعل بعد « مَنْ » وهو « اشْتَرَاهُ » ماض لفظاً ومعنى ، فإن الاشتراء قد وقع وانفصل ، فجعله شرطاً لا يصح؛ لأن فعل الشرط وإن كان ماضياً لفظاً ، فلا بد أن يكون مستقبلاً معنى .
فصل في أوجه استعارة لفظ الشراء
واستعير لفظ الشراء لوجوه :
أحدها : أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظُهُورهم ، وأقبلوا على التمسُّك بما تتلو الشَّياطين ، فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله تعالى .
وثانيها : أن المَلَكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة ، فلما استعمل السحر ، فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا .
وثالثها : أنهم تحملوا مشقة تعليمه ليستعملوه ، فكأنهم أبدلوا الراحة في مقالبة التعليم لأجل الاستعمال . والخَلاَق : النصيب .
قال الزّجاج : أكثر استعماله في الخير .
فأما قول أميّة بن أي الصلت : [ البسيط ]
719 يَدْعُونَ بالْوَيْلِ فِيهَا لاَ خَلاَقَ لَهُمْ ... إِلاَّ سَرَابِيلُ مِنْ قَطْرٍ وَأَغْلاَلُ
فيحتمل ثلاثة أوجه .
أحدها : أنه على سبيل التهكُّم بهم؛ كقوله : [ الوافر ]
720 . . ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ َجِيعُ
والثاني : أنه استثناء منقطع ، أي : لكن لهم السَّرَابيل من كذا .
الثالث : أنه استعمل في الشر على قلة .
والخلاق : القَدْر؛ قال : [ المتقارب ]
721 فَمَا لَكَ بَيْتٌ لَدَى الشَّامِخَاتِ ... وَمَا لَكَ فِي غَالِبٍ مِنْ خَلاَقْ
أي : من قَدر ورتبة ، وهو قريب من الأول .
قال القَفَّال رحمه الله تعالى : يشبه أن يكون أصل الكلمة من الخلق ، ومعناه التقدير ، ومنه : خلق الأديم ، ومنه يقال : قدر للرجل كذا درهماً رزقاً على عمل كذا . والضمير المنصوب في « اشتراه » فيه أربعة أقوال : يعود على السحر ، أو الكفر ، أو كَيْلهم الذى باعوا به السحر ، أو القرآن لتعويضهم كتب السحر عنه .

وتقدم الكلام على قوله : « وَلَبْئْسَ مَا » وما ذكر الناس فيها ، واللام في « لبئسما » جواب قسم محذوف تقديره : والله لبئسما ، والمخصوص بالذّّم محذوف أي : السحر أو الكفر .
قوله : « لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ » جواب « لو » محذوف تقديره : لو كانوا يعلمون ذم ذلك لما باعوا به أنفسهم ، وهذا أحسن من تقدير أبي البقاء : لو كانوا ينتفعون بعلمهم لامتنعوا من شراء السحر؛ لأن المقدر كلما كان مُتصَيَّداً من اللفظ كان أَوْلَى . والضمير في « به » يعود على السحر ، أو الكفر ، وفي « يعلمون » يعود على اليَهُودِ باتفاق .
قال الزمخشري : فإن قلت كيف أثبت لهم العلم أولاً في : « وَلَقَدْ عَلِمُوا » على سبيل التوكيد القسمي ، ثم نفاه عنهم في قوله : « لوْ كانُوا يَعْلَمُونَ » .
قلت : معناه : لو كانوا يعملون بعلمهم ، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه ، وهذا بناء منه على أن الضميرين في « عَلِمُوا » و « يَعْلَمُونَ » لشيء واحد .
وأجاب غيره على هذا التقدير بأن المراد بالعلم الثاني العَقْل؛ لأن العلم من ثمرته ، فلما انتفى الأصل انتفى ثمرته ، فصار وجود العلم كعدمه حيث لم ينتفعوا به كما سمى الله تعالى ، الكفار « صُمّاً وبُكْماً وعُمْياً » إذ لم ينتفعوا [ بهذه الحواس ] أو يغاير بين متعلّق العلمين أي : علموا ضرره في الآخرة ، ولم يعلما نفعه في الدنيا .
وأما إذا أعدت الضمير في « علموا » على الشياطين ، أو على مَنْ بحضرة سليمان ، أو على الملكين ، فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم حينئذ .

وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)

قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ } « لو » هنا فيها قولان :
أحدهما : أنها على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، وسيأتي الكلام في جوابها ، وأجاز الزمخشري رحمه الله تعالى أن تكون للتمني أي : لَيْتَهُمْ آمنوا على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم ، واختيارهم له ، فعلى هذا لا يلتزم أن يكون لها جواب ، لأنها قد تجاب بالفاء حينئذ ، وفي كلامه اعتزال .
و « أنهم آمنوا » مؤول بمصدر ، وهو في محل رفع ، [ وفيه قولان ] أحدهما وهو قول سيبوبيه : أنه في محلّ رفع بالابتداء ، وخيره محذوف تقديره : ولو كاان إيمانهم ثابت ، وشذّ وقوع الاسم بعد « لو » ، وإن كانت مختصة بالأفعال ، كما شذ نصب « غدوة » بعد « لدن » .
وقيل : لا يحتاج هذا المبتدأ إلى خبر لجريان الفظ المسند والمسند إليه في صلة « أنَّ » .
وصحح أبو حَيَّان هذا فى سورة « النساء » وهذا يشبه الخلاف في « أن » الواقعة بعد « ظنّ وأخواتها » ، وتقدم تحقيقه .
والثاني : وهو قول المبرد أنه في محلّ رفع بالفاعلية ، رافعه محذوف تقديره : ولو ثبت إيمانهم؛ لأنها لا يليها إلاَّ الفعل ظاهراً أو مضمراً ، وقد ردّ بعضهم هذا بأنه لا يضمر بعدها الفعل إلا مفسَّراً بفعل مثله ، ودليل كلا القولين مذكور في كتب النحو . والضمير في « أنهم » فيه قولان :
أحدهما : عائد على اليهود ،
والثاني : على الذين يعلمون [ الناس ] السحر .
قال ابن الخطيب : إنَّ الله تعالى لما قال : { نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [ البقرة : 101 ] ثم وصفهم بأنهم { اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ } ، وأنهم تسّكوا بالسحر قال بعد : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ } يعنى بما بنذوه من كتاب الله .
فإن حملت ذلك على القرآن جاز ، وإن حملته على كتابهم المصدق للقرآن جاز ، وإن حملته على الأمرين جاز ، والمراد بالتقوى الاحتراز عن فعل المنهيات ، وترك المأمورات .
قوله تعالى : { لَمَثُوبَةٌ مِنْ اللهِ } .
في هذه اللام قولان :
أحدهما : أنها لام الابتداء ، وأن مابعدها استئناف إخبار بذلك ، وليس متعلقاً بإيمانهم وتقواهم ، ولا مترتباً عليه ، وعلى هذا فجواب « لو » محذوف إذا قيل بأنها ليست للتمني ، أو قيل بأنها للتمني ، ويكون لها جواب تقديره : لأثيبوا .
والثاني : أنها جواب « لو » ، فإن « لو » تجاب بالجملة الاسمية .
قال الزمخشري رحمه الله تعالى : أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب « لو » لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المَثُوبَةِ واستقراراها ، كما عَدَلَ عن النصب إلى الرفع في { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ] لذلك . [ وفي ] وقوع جواب « لو » جملة إسمية نظر يحتاج إلى دليل غير مَحلّ النزاع .

قال أبو حيان رحمه الله تعالى : لم يعهد في كلام العرب وقوع الجملة الابتدائية جواباً ل « لو » ، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه ، ولا تَثْبُت القواعد الكلية بالمحتمل .
والمثوبة فيها قولان :
أحدهما : أن وزنها « فعولة » ، والأصل مَثْوُوبَة ، فَثَقُلَت الضَّمة على « الواو » ، فنقلت إلى الساكن قبلها ، فالتقى ساكنان فحذف أحدهما مثل : مَقُولة ومجوزة ومصونة ومشوبة وقد جاءت مصادر على مفعول كالمعقول ، فهي مصدر نقل ذلك الواحدي .
والثاني : أنها « مَفْعُلَة » من الثواب بضم العين ، وإنما نقلت الضّمّة إلى الثاء ، ويقال : « مَثْوبَة » بسكون الثاء وفتح الواو ، وكان من حَقّها الإعلال فيقال : « مثابة » ك « مقامة » ، إلا أنهم صححوها كما صححوا في الإعلال « مَكْرَزَة » ، وبذلك قرأ أبو السمال وقتادة كمشورة . ومعنى « المثوبة » أي : ثواب وجزاء من الله .
وقيل : لرجعة إلى الله تعالى خير .
قوله : { مِنْ عِنْدِ اللهِ ] في محلّ رفع صفة « لمثوبة » ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : لمثوبة كائنة من عند الله تعالى .
والعندية هنا مجاز تقدم في نظائره .
قال أبو حيان : وهذا الوصف هو المسوغ لجواز الاتبداء بالنكرة .
قلت : ولا حاجة إلى هذا؛ لأن المسوغ هنا شيء آخر ، وهو الاعتماد على لام الابتداء ، حتى لو قيل في الكلام : { لَمَثُوبَةٌ خَيْرٌ ] من غير وصف لصح .
والتنكير في « لمثوبة » يفيد أن شيئاً من الثواب وإن قلّ خير ، فذلك لا يقال له قليل ، ونظيره : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] .
وقوله : « خَيْرٌ » خبرٌ « لِمَثُوبَة » ، وليست هنا بمعنى « أفعل » التفضيل ، بل هي لبيان أنها فاضلة ، كقوله تعالى : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] { أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ } [ فصلت : 40 ] .
قوله تعالى : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } جوابها محذوف تقيدره : لكان تحصيل المثوبة خيراً ، أي : تحصيل أسبابها من الإيمان والتقوى ، وكذلك قَدّره بعضهم : لآمنوا .
وفي مفعول « يعلمون » وجهان :
أحدهما : أنه محذوف اقتصاراً أي : لو كانا من ذوي العلم .
والثاني : أنه محذوف اختصاراً تقيدره : لو كانوا يعلمون التفضيل في ذلك ، أو يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)

اعلم أن الله تعالى لما شرح قبائح أفعالهم قبل مبعث محمد عليه الصلاة والسلام أراد أن يشرح قبائح أفعالهم عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم وجدّهم واجتهادهم في القَدْحِ فيه والطعن في دينه .
واعلم أنّ الله تعالى خاطب المؤمنين بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن .
قال ابن عباس رضي الله عنه : « وكان يخاطب في التوراة بقوله : يا أيها المَسَاكين » .
فصل في لفظ راعنا
روي أن المسلمين كانوا يقولون : راعنا يا رسول الله من المُرَاعاة ، أيك راعنا سمعك أي فَرّغ سمعك لكلامنا ، يقال : رعى إلى الشيء وَرَعَاه ، أي : أَصْغى إليه وأسمعه ، وكانت هذه اللفظة شيئاً قبيحاً بلغة اليهود .
وقيل : معناه عندهم اسمع لا سمعت .
وقيل : هو من الرُّوعنة ، وإذا أرادوا أن يحمقوا إنساناً قالوا : راعنا بمعنى يا أحمق ، فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين قالوا فيما بينهمك كنا نسبُّ محمداً سرًّا ، فأعلنوا به الآن ، فكانوا يأتونه ويقولون : راعنا يا محمد ، ويضحكون فيما بينهم ، فسمعها سعد بن مُعَاذٍ ، ففطن لها ، وكان يعرف لغتهم ، فقال لليهود : لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه سولم لأضربن عُنُقه قالوا : أو لستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى : { يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولوا : رَاعِنَا } لكي لا يتخذ اليهود ذلك سبيلاً إلى شَتْم رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَقُولُوا أنْظُرْنَا } ويدلّ على هذا قوله تعالى في سورة « النساء » : { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين } [ النساء : 46 ] .
قال قُطْرب : هذه الكليمة وإن كانت صحيحة المعنى ، إلاّ أن أهل « الحجاز » ما كنةوا يقولونها إلاّ عند الهَزْل والسخرية ، فلا جرم نهى الله عنها .
وقيل : إن اليهود كانوا يقولونك راعنا أيك أنت راعي غنمنا فنهاهم الله عنها .
وقيل : قوله : « راعنا » خطاب مع الاستعلاء كأنه يقول : راعِ كلامي فلا تغفل عنه ، ولا تشتغل بغيره ، وليس في قوله : « انظرنا » إلا سؤال الانتظار إلى مقدار ما يصل إلى فهم كلامه .
والجمهور على أن « راعنا » أمر من المُرَاعاة ، وهيى النظر في مصالح الإنسان ، وتدبر أموره ، و « راعنا » يقتضي المشاركة؛ لأن معناه : ليكن منك رعاية لنا ، وليكن منا رعاية لك ، فنهوا عن ذلك؛ لأن فيه مساواتهم به عليه الصلاة والسلام .
وبين أنه لا بد من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم في المُخَاطبة كما قال تعالى : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } [ النور : 63 ] .
وقرأ الحسن وابو حيوة : « رَاعِناً » بالتنوين ، ووجهه أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : قولاً راعناً ، وهو على طريق النسب ك « لابنٍ ] و » تامِرٍ « ، والمعنى : لا تقولوا قولاً ذا رُعونَةٍ .

والرعونة : الجهل والحُمقُ والهَوَج ، وأصل الرعونة : التفرُّق ، ومنه : « جيشٌ أرْعَنُ » أي : متفرِّق في كل ناحية ، ورجلٌ أَرْعَنُ : أي ليس له عَقْل مجتمع ، وامرأة رَعْنَاء .
وقيل للبَصْرَة : الرعْنَاء؛ قال : [ البسيط ]
722 لَوْلاَ ابْنُ عُتْبَةَ عضْرٌو والرَّجَاءُ لَهُ ... مَا كَانَتِ البَصْرَةُ الرَّعْنَاءُ لِي وَطَنا
قيل : سميت بذلك لأنها أشبهت « رَعُنَ الجَبَل » وهو النَّاتيىء منه .
وقال ابن فارس : يقال : « رَعُنَ الرجل يَرْعُنَ رَعْناَ » .
وقرأ أُبيّ ، وزرُّ حُبَيش ، والإعمش ذكرها القرطبي « راعونا » ، وفي مصحف عبد الله كذلك ، خاطبوه بلفظ الجمع تعظيماً ، وفي مصحف عبدالله أيضاً « ارعونا » لما تقدم .
والجملة في محل نصب بالقول ، وقدم النهي على الأمر؛ لأنه من باب التروك فهو أسهل .
فإن قيل : أفكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجل عليهم حتَّى يوقلوا هذا؟ فالجَوَاب من وجهين :
أحدهماك أن هذه اللفظة قد تقال في خلال الكلام ، وإن لم تكن هناك عجلة تحوج إلى ذلك كقول الرجل في خلال حديثة : اسمع أو سمعت .
الثاني : أنهم فسروا قوله تعالى : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } { القيامة : 16 ] أنه عليه السلام كان يعجل قول ما يلقيه إليه جبريل عليه السلام حرصاً على تحصيل الوَحْي ، وأخذ القرآ ، ، فقيل له : لا تحرّك به لسانك لتعجل به ، فلا يبعد أن يجعل فيما يحدث به أصحابه من أمر الدين حرصاً على تعجيل أفهامهم ، فكانوا يسألونه في هذه الحالة أن يمهلهم فيما يخاطبهم به إلى أن يفهموا كل ذلك الكلام .
قوله : « انْظُرْنَا » الجملة أيضاً في محلّ نصب بالقول ، والجمهور على انظرنا [ بالوصل ] الهمزة ، وضم الظاء أمراً من الثلاثي ، وهو نَظَر من النَّظِرَة ، وهي التأخير ، أي : أخرنا وتأَنَّ عَلْينا؛ قال امرؤ القَيْسِ : [ الطويل ]
723 فَإنّكُمَا إنْ تَنْظُرَانِيَ سَاعَةً ... مِنَ الدَّهْرِ يَنْفَعْنِي لَدَي أُمِّ جُنْدَبِ
وقيل : هو من نظر أي : أَبْصَرَ ، ثم اتُّسع فيه ، فعدّي بنفسه؛ لأنه في الأصل يتعدى ب « إلَى » ؛ ومنه : [ الخفيف ]
724 ظَاهِرَاتُ الجَمَالِ وَالحُسْنِ يَنْظُرْنَ ... كَمَا يَنْظُرُ الأَرَاكَ الظِّبَاءُ
أي : إلى الأراك .
وقيل : من نظر أي : تفكر ثم اتسع فيه أيضاًن فإن أصله أن يتعدّى ب « في » ، ولا بد من حذف مضاف على هذا أي : انظر في أمرنا ، وقرأ أبيّ والأعمش : « أنْظِرْنَا » بفتح الهمزة وكسر الظاء أمراً من الرباعي يمعنى : أَمْهِلْنَا وأَخِّرْنَا؛ قال : [ الوافر ]
725 أَبَا هِنْدٍ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْنَا وأنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ اليَقِينَا
أي : أمهل علينا ، وهذه القراءة تؤيد أن الأول من النَّظِرَةِ بمعنى التأخير ، لا من البَصَر ، ولا من البَصِيرَة ، وهذه الآية نظير [ آية ] الحديد

{ انظرونا نَقْتَبِسْ } [ الحديد : 13 ] فإنها قرئت بالوجيهن .
قوله : « وَاسْمَعُوا » حصول السماع عند سلامة الحاسّة أمر ضروري خارج عن قدرة البشر ، فلا يجوز وقوع الأمر به ، فإذن المراد منه أحد أمور ثلاثة :
أحدها : فرغوا أسماعكم لما يقول النبي عليه الصلاة والسلام حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة .
[ وثانيها : اسمعوا سماع قبول وطاعة ، ولا يكن سماعكم كسماع اليهود حيث قالوا : سمعنا وعصينا ] .
وثالثها : اسمعوا ما أمرتكم به حتى لا ترجعوا إلى مانهيتم عنه تأكيداً عليهم ، ثم إنه تعالى بين ما للكافرين من العذاب الأليم إذا لم يسلكوا مع الرسول هذه الطيقة من الإعظام والتبجيل والإصْغَاء إلى ما يقول .
وقتدم الكلام على معنى « العذاب الأليم » .

مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

لما بين حال اليهود والكفار في العَدَاوة والمعاندة وصفهم بما يوجب الحّذَر منهم فقال : { ما يُوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا « فنفى عن قلوبهم الودّ والمحبة لكلّ ما يظهر به فضل المؤمنين .
قوله : { مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ } : في » من « قولان :
أحدهما : أنها للتعبيض ، فتكون هي ومجرورها في محلّ نصب على الحال ، وتعلّق بمحذوف أي : ما يودّ الذين كفروا كائنين من أهل الكتاب .
والثاني : أنها لبيان الجنس ، وبه قال الزمخشري؛ لأن » الذين كفروا « جنس تحته نوعان أهل الكتاب والمشركون بدليل قوله تعالى : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين } [ البينة : 1 ] .
قوله : { وَلاَ المُشْرِكِينَ } عطف على » أهل « المجرور ب » من « و » لا « زائدة للتوكيد؛ لأن المعنى : { ما يود الذين كفورا من أهل الكتاب والمشركين } كقوله : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين } [ البينة : 1 ] بغير زيادة » لا « .
وزعم بعضهم أنه مخفوض على الجوار ، وأن الأصل ولا المشركون ، عطفاً على الذين ، وإنما خفض للمجاورة ، نحو { بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } [ المائدة : 6 ] فى قراءة الجر ، وليس بواضح .
وقال النحاس : ويجوز : ولا المشركون بعطفه على » الذين « وقال أبو البقاء رحمه الله : وإن كان قد قرىء : » وَلاَ المُشْرِكُونَ « بالرفع فهو عطف على الفاعل ، والظاهر أنه لم يقرأ بذلك وهذان القولان يؤيدان ادّعاء الخفش على الجوار .
قوله : » أنْ يُنَزّلَ « ناصب ومنصوب في تأويل مصدر مفعول ب » يؤدّ « أيى : ما يود إنزاله من خير ، وبني الفعل للفعول للعمل بالفاعل؛ وللتصيح به في قوله : » مِنْ ربِّكُمْ « ، وأتي ب » ما « في النفي دون غيرها؛ لأنها لنفي الحال ، وهم كانوا متلبّسين بذلك .
قال القُرْطبي : و » أن « في موضع نصب ، أي بأن ينزل .
قوله : » مِنْ خَيْرٍ « هذا هو القائم مقام الفاعل ، و » من « زائدة ، أي : أن ينزل خير من ربكم .
وحسن زيادتها هنا ، وإن كان » ينزل « لم يباشره حرف النفي؛ لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى؛ لأنه إذا نفيت الوَدَادَة انتفى متعلّقها ، وهذا له نظائر في كلامهم نحو : » ما أظن أحداً يقول ذلك إلاّّ زيد « برفع » زيد « بدلاً من فاعل » يقول « وإن لم يباشر النفي ، لكنه قوة : » ما يقول أحد ذلك إلاَّ زيد في ظني « .
وقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ } [ الأحقاف : 33 ] زيدت » الباء « ؛ لأنه في معنى : أو ليس الله بقادر ، وهذا على رأي سيبويه وأتباعه .
وأما الكوفيّون والأخفش فلا يحتاجون إلى شيء من هذا .

وقيل « من » للتبعيض ، أي : ما يودون أن يُنَزَّل من الخير قليل ولا كثير ، فعلى هذا يكون القائم مقام الفاعل : « عليكم » ، والمعنى : أن ينزل عليكم بخير من الخُيُور .
والمراد بالخير هنا الوَحْي .
والمعنى : أنهم يرون أنفسهم أحقّ بأن يوحى إليهم فيحسدونكم ، فبيّن سبحانه وتعالى أن حسدهم لا يؤثّر في زوال ذلك بقوله : { اللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } .
قوله : « مِنْ رَبِّكُمْ » في « من » أيضاً قولان :
أحدهما : أنها لابتداء الغاية ، فتتعلّق ب « ينزّل » .
والثاني : أنها للتبعيض ، ولا بد حينئذ من حّذْف مضاف تقديره : من خُيُور ربّكم ، وتتعلق حينئذ بمحذوف ، لأنها ومجرورها صفة لقولهك « من خير » أي : من خير كائن من خُيُور ربكم ، ويكون في محلّها وجهان :
الجر على اللفظ ، والرفع على الموضع ، لأن « من » زائدة في « خير » ، فهو مرفوع تقديراً لقيامه مقام الفاعل كما تقدم .
وتلخص مما تقدم أن في كل واحدة من لفظ « ممن » قولين :
الأول : قيل : إنها للتبعيض ، وقيل : أو لبيان الجنس .
وفي الثانية قولان : زائدة أو للتعبيض .
وفي الثالثة : أيضاً قولان : لابتداء الغاية ، أو التبعيض .
قوله : { واللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } هذه جملة ابتدائية تضمنت ردّ وَدادَتهم ذلك .
و « يختص » يحتمل أن يكون متعدياً ، وأن يكون لازماًن فإن كانت متعدياً كان فيه ضمير يعود على الله تعالى ، وتكن « من » مفعولاً به أي يختص الله الذي يشاؤه برحْمته ، ويكون معنى « افتعل » هنا معنى المجرد نحو : كسب مالاً واكتسبه ، وإن كان لازماً لم يكن فيه ضمير ، ويكون فاعله « من » أي : والله يختصّ برحمته الشَّخً الذي يشاؤه ، ويكون « افتعل » بمعنى الفاعل بنفسه نحو : اضطراب ، والاختصاص ضد الاشتراك ، وبهذا [ يتبين فساد ] قول من زعم أنه هنا متعدّ ليس غلاّ .
و « مَنْ » يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة ، وعلى كلا التقديرين فلا بد من تقدير عائد ، أي : يشاء اختصاصه .
ويجوز أن يمضن « يشاء » معنى يختار ، فحينئذ لا حاجة إلى حَذْف مضاف ، بل تقدره ضميراً فقط أي : يشاؤه ، و « يشاء » على القول الأول لا محلّ له لكونه صلةً ، وعلى الثاني محلّه النَّصب ، أو الرفع على [ حسب ] ما ذكر في موصوفه من كونه فاعلاً أو مفعولاً .
فصل في تفسير الرحمة في الآية
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : « يختصّ برحمته » أي بنبوّته ، خص بها محمداً صلى الله عليه وسلم .
وقيل : الرحمة القرآن .
وقيل : هنا عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديماً وحديثاُ .

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)

اعلم أن المشركين طعنوا في الإسلام قالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمرن ثم ينهاهم عنه ، ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً ، وغداً يرجع عنه ، كما قال تعالى { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ } [ النحل : 101 ] فنزلت هذه الآية .
فى « ما » قولان :
أحدهما وهو الظاهر أنها مفعول مقدم لأ « ننسخ » ، وهي شرطية أيضاً جازمة ل « ننسخ » ولكنها واقعة موصع المصدر ، و « من آية » هو المفعول به ، والتقدير : أي شؤء ننسخ كقوله : { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } [ الإسراء : 110 ] ، أو : أيَّ نَسْخ نَنْسَخ من آية ، قاله ابو البقاء وغيره ، وقالوا : مجيء « ما » مصدراً جائز؛ وأنشدوا : [ الكامل ]
726 نَعَبَ الغُرَابُ فَقُلْتُ بَيْنٌ عَاجِلٌ ... ما شئْتَ إذْ ظَعَنُوا لِبَيْنٍ فَانْعَبِ
ورد هذا القول بشيئين :
أحدهما : أنه يلزم خلوّ جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط ، وهو غير جائز ، لما تقدم عند قوله : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] .
والثاني : أن « مِنْ » لا تزاد في الموجب ، والشرط موجب ، [ وهذا فيه خلاف لبعض ] البصريين أجاز زيادتها في الشرط؛ لأنه يشبه النفي ، ولكنه خلاف ضعيف .
وقرأ ابن عامر : « نُنْسِخْ » بضم النون ، وكسر السين من « أنسخ » .
قال ابو حاتم : « هو غلط » وهذه جُرْأة منه على عادته .
وقال أبو علي : « ليست لغة » ؛ لأنه لا يقال : نسخ وأنسخ بمعنى ، ولا هي للتعدية؛ لأن المعنى يجيْ : ما نكتب من آية ، وما ننزل من آية ، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً ، وليس الأمر كذلك ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى : ما نَجِده منسوخاً كما يقال : أحمدته وأبخلته ، أي : وجدته كذلكن ثم قالك « وليس نجده منسوخاً إلاّ بأن ننسخه ، فتتفق القراءتان في المعنى ، وإن اختلفتا في اللفظ » .
فالهمزة عنده ليست للتعدية . وجعل الزمخشري ، وابن عطية الهمزة للتعدية ، إلا أنهما اختلفا في تقدير المفعول الأول المحذوف ، وفي معنى الإنساخ ، فجعل الزمخشري المفعول المحذوف جبريل عليه السّلام ، الإنساخ هو الأمر بنسخها ، أي : الإعلام به .
وجعل ابن عطية المعفول ضمير النبي عليه السلام ، والإنساخ إباحة النَّسْخ لنبيه ، كأنه لما نسخها أباح له تركها ، فسمى تلك الإباحة إنساخاً .
وخرج ابن عطية القراءة على كون الهمزة للتعدية من وجه آخر ، وهو من نسخ الكتاب ، وهو نقله من غير إزالة له .
قال : ويكون المعنى : ما نكتب وننزل من اللَّوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ، ونتركه فلا ننزله ، أي ذلك فعلنا فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله ، فيجيء الضميران في « منها » و « بمثلها » عائدين على الضمير في « نَنسَأْهَا » .

قال ابو حيان : وذهل عن القاعدة ، هي أنه لابد من ضمير يعود من الجزاء على اسم الشرط ، و « ما » في قوله : « ما ننسخ » شرطية ، وقوله : « أو ننسأها » عائد على الآية ، وإن كان المعنى ليس عائداً عليهها من حيث اللفظ والمعنى ، بل إ‘نما يعود عليها من حيث اللفظ فقط نحو : عندي درهم ونصفه ، فهو في الحقيقة على إضمار « ما » الشرطية ، التقدير : أو ما ننسأ من آية ضرورة أن المنسوخ غير المنسوء ، ولكن يبقى قوله : ما ننسخ من آية مفلتاً من الجواب؛ إذ لا رابط يعود منه إليه ، فبطل هذا المعنى الذى قاله .
والنسخ في اللغة هو الإزالة من غير بدل يعقبه ، يقال : نسخت الكتاب : إذا نقلته ، وتناسخ الأرواح ، وتناسخت القرون .
وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلاً من الاول .
دليل الاول أنه إذا نسخه الأثر والظّل ، فهو إعدامه؛ لأنه قد لا يصحل الظل في مكان آخر حتى يظن أنه انتقل إليه .
وقال تعالى : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان } [ الحج : 52 ] أي : فيزيله ويبطله ، والأصل في الكلام الحقيقة . وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب ألاَّ يكون حقيقة في النقل دفعاً للاشتراك .
فإن قيل : الريح والشمس ليسا مزيلين للأُر والظل في الحقيقة ، وإنما المزيل في الحقيقة هو الله تعالى وإذا كان ذلك مجازاً امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ، ثم نعارض ما ذكرتموه ، [ ويقال ] : النسخ هو النقل والتحويل ، [ ومنه نسخه الكتاب إلى كتاب آخر ، كأنه ينقله إليه ، أو ينقل حكياته ] كما قلنا في نسخ الكتاب والأرواح والقُرون والمواريث ، فإنه تحويل من واحد إلى آخر .
وإذا كان كذلك فيكون حقيقة في النقل مَجَاز في الإبطال دفعاً للشتراك .
[ وأجيب ] عن الأول من وجهين :
أحدهما : أنه لا يتمنع أن يكون الله تعالى ، هو الناسخ لذلك من حيث إنه فعل التشمس والريح والمؤثرتين في تلك الإزالة ، ويكونان ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير .
والثانيك أن أ÷ل اللغة إنما أخطئوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح ، فَهَبْ أنه لكن تمسكنا بإطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لإسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس .
وعن الثاني : أن النقل أخصّ من الإبطال ، لأنه حيث وجد النقل ، فقد عدمت صفة ، وحصل عقيبها صفة أخرى ، فإن مطلق العدم أهم من عدمه يحصل عقيبه شيء آخر ، وإذا دار اللَّفظ بين الخاص والعام كان جعله حقيقة في العام أولى . وقال آخر : [ والنسخ : الإزالة ، وهو في الغة على ضربين :
ضرب فيه إزالة شيء وإقامة غيره مقامه نحه : نسخت الشمس الظل ، إذا أزالته وقامت مقامه .
والثاني : أن يزيله كما تزيل الريح الأثر ] .

قوله : « مِنْ آيةٍ » « من » للتبعيض ، فهي متعلقة بمحذوف؛ لأنها صفة لاسم الشرط ، ويضعف جعلها حالاً ، والمعنى : أي شيء ننسخ من الآيات ، ف « آية : » مفرد وقع موقع الجمع ، وكذلك تخريج كل ما جاء من هذا التركيب : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله } [ النحل : 53 ] ، هذا المجرور هو المخصص والمبين لاسم الشرط؛ وذلك أن فيه إبْهَاماً من جهة عمومه ، ألا ترى أنك لو قلتك « من يكرم أكرم » تناول النساء والرجال . فإذا قلت : « من الرحال » بيّنت وخصّصت ما تناوله اسم الشرط .
وأجاز أبو البقاء رحمه الله تعالى فيها وجهين آخرين :
أحدهما : أنها في موضع نصب على التمييز ، والمُمَيَّز « ما » ولتقدير : أيَّ شيء ننسخ ، قال : ولا يحسن أن تقدر : أي آية ننسخ ، لأنك لا تجمع بين « آية » ، وبين المميز بآية ، لا تقول : أي آية ننسخ من آية ، يعنى أنك لو قدرت ذلك لا ستغنيت عن التمييز .
والثاني : أنها زائدة و « آية » حال ، والمعنى : أي شيء ننسخ قليلاً أو كثيراً ، وقد جاءت « آية » حالاً في قوله : { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً } [ الاعراف : 73 ] أي : « علامة » وهذا فاسد؛ لأن الحال لا تجر ب « من » ، وقد تقدم أنه مفعول بها ، و « من » زائدة على القول يجعل « ما » واقعة موقع المصدر ، فهذه أربعة أوجه .
قوله تعالى : « أوْ نُنْسِهَا » « أو » [ هنا للتقسيم ] ، و « نُنْسِهَا » مجزوم عطفاً على فعل الشرط قبله .
وفيها ثلاث عشرة قراءة : « نَنْسَأَهَا » بفتح حرف المضارعةن وسكون النون ، وفتح السين مع الهمزة ، وبها قرأ أبو عمرو وابن ك ثير .
الثانية : كذلك إلا أنه بغير همزن ذكرها أبو عبيد البكري عن سعد بن أبي وَقّاص رضي الله عنه .
قال ابن عطية : « وأرواه وهم » .
الثالثة : « تَنْسَها » بفتح التاس التي للخطاب ، بعدها نون ساكنة وسين مفتوحة من غير همز ، وهي قراءة الحسن ، وتروى عن ابن أبي وقاص ، فقيل لسعد بن أبي وقاص : « إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال : إن القرآن لم ينزل على المسيب ، ولا على ابن المسيب » وتلا : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [ الكهف : 24 ] يعني سعد بذلك أن نسبة النسيان إليه عليه الصلاة والسلام موجودة في كتاب الله ، فهذا مثله .
الرابعة : كذلك إلا أنه بالهمز .
الخامسة : كذلك إلا أنه بضم التاء ، وهي قراءة أبي حيوة .
السادسة : كذلك إلا أنه بغير همز ، وهيى قراءة سعيد ابن المسيب .
السابعة : « نُنْسِهَا » بضم حرف المضارعة وسكون النون وكسر السين من غير همز ، وهي قراءة باقي السبعة .

الثامنة : كذلك إلا أنه بالهمزة .
التاسعة : نُنَسِّها بضم احرف المضارعة وفتح النون وكسر السين [ مشددة ، وهي قراءة الضَّحاك ، وأبي رجاء .
العاشرة : « نُنْسِك » ، بضمّ حرف المضارعة ، وسكون النون ، وكسر السين ، وكاف بعدها للخطاب .
الحادية عشرة : ] كذلك إلا أنه بفتح النون الثانية ، وتشديد السين مكسورة ، وتروى ع الضحاك ، و أبى رجاء أيضاً .
الثانية عشرة : كذلك إلاَّ أنه بزيادة ضمير الآية بعد الكاف « نُنَسِّكَها » وهي قراءة حذيفة ، وكذلك هي في مصحف سالم مولاه .
الثالثة عشرة : « ما نُنْسِك من آية أو نَنْسخْها فَجِيءْ بمثلها » وهي قراءة الأعمش ، وهكذا ثبت في مصحف عبدالله .
فأما قراءة الهَمْز على اختلاف وجوهها ، فمعناها التأخير من قولهم : نَنَسأَ الله ، وأنسأ الله في أَجَلك أي : أَخَّرَهُ ، وبِعْتُه نَسِيئَةً أي متأخراً .
وتقول العرب : نَسَأْت الإبل عن الحوض أنْسَؤُهَا نَسْئاً ، وأنسأ الإبل : إذا أخرها عن ورودها يومين فأكثرن فمعنى الآية على هذا فيه ثلاثة أقوال :
أحدهاك نؤخر نسخها ، ونزولها ، وهو قول عطاء .
الثاني : نمحها لفظاً وحكماً ، وهو قول ابن زيد .
الثالث : نُمضها فلا نَنْسَخْها ، وهو قول أبي عبيد ، [ قال الشاعر : [ الطويل ]
727 أَمُونٍ كَألوَاحِ الإِرَانِ نَسَأْتُهَا ... عَلَى لاَحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ ]
وهو ضعيف لقوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } ؛ لأن ما أُمْضِي وأُقِرَّ لا يقال فيه : فَأْت بخير منه .
وأما قراءة غير الهمز على اختلاف وجوهها أيضاً ففيها احتمالان :
أظهرهما : أنها من النِّسْيَان ، وحينئذ يحتمل أن يكون المراد به في بعض القراءات ضدّ الذكر ، وفي بعضها الترك .
فإن قيل : وقوع هذا النيسيان [ يتمنع ] عقلاً ونقلاً .
أما العقل فلأن القرآن لا بدّ من انتقاله إلى أهل التواتر ، والنيسان على أهل التواةتر بأجمعهم ممتنع .
وأما النقل فلقوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
والجواب عن الأول من وجهين :
الأول : أن النسيان يصح بأن يأمر الله تعالى بطرحه من القرآن ، وإخراجه من جلمة ما يلتى ، ويؤتى به في الصَّلاة ويحتج به ، فإذا زال حكم التعبُّد به قال : العهد نسي ، وإن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد ، فيصير لهذا الوجه منسياً من الدصورن وأيضاً روى : أنهم كانوا يقرءون السور ، فيصبحون وقد نسوها . وعن الثاني أنه معارض بقوله تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى إِلاَّ مَا شَآءَ الله } [ الأعلى : 6 ، 7 ] وبقوله : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [ الكهف : 24 ] .
والثاني : أن أصله الهمز من النَّسِيء ، وهو التأخير ، إلا أنه أبدل من الهمز ألف فحينئذ تتحد القراءتان .
ثم من قرأ من القراء : « ننساها » من الثلاثي فواضح .
وأما من قرأ منهم من « أَفْعَل » ، وهم نافع وابن عامر والكوفيون ، فمعناه عندهم : « نُنْسِكها » ، أي : نجعلك ناسياً لها ، أو يكون المعنى نأمر بتركهان يقال : أنسيته الشيء ، أي : أمرته بتركه ، ونَسِيتُهُك تَرَكْتُهُ؛ وأنشدوا : [ الرجز ]

728 إنَّ عَلَيَّ عُقْبَةً أَقْضِيهَا ... لَسْتُ بِنَاسِيهَا وَلاَ مُنْسِيهَا
أي : لا تاركها ولا آمراً بتركها .
وقال الزجاج : « هذه القراءة لا يتوجّه فيها معنى الترك ، لا يقال : أنسى بمعنى ترك » .
قال الفارسي وغيره : « ذلك متّجه؛ لأنه بمعنى نجحعلك تتركها » ، وضعف الزجاج أيضاً تحمل الآية على معنى النسيان ضد الذكر وقال : إن هذا لم يكن له عليه السلام ولا نسي قرآناً .
[ بدليل ] قوله تعالى : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ الإسراء : 86 ] ، أي : لم نفعل شيئاً من ذلك .
وأجاب الفارسي بأن معناه لم نذهب بالجميع .
قوله تعالى : « نَأتِ » هو جواب الشرط ، ودجاء فعل الشرط والجزاء مضارعين ، وهذا التركيب أفضح التراكيب ، أعن : مجيئها مضارعين .
قوله : « بِخَيْرٍ مِنْهَا » متعلّق ب « نَأْتِ » ، وفي « خير » هنا قولان :
الظاهر منهما : أنها على بابها من كونها للتفضيل ، وذلك أن الآتي به إن كان أخفّ من المنسوخ ، أو المسنوء ، فخيريته بالنسبة إلى سقوط أعباء التكليف ، وإن كان أثقل فخيرته بالنسبة إلى زيادة الثواب . وقوله تعالى : « أو مثلها » أي : في التكليف والثواب ، وهذا واضح .
والثاني : أن « خيراً » هنا مصدراً ، وليس من التفضيل في شيء ، وإنما هو خير من الخُيُور ، كخير في قوله : { أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 105 ] و « من » لابتداء الغاية ، والجار والمجرور صفة لقوله « خير » أي : خير صادر من جهتها ، والمعنى عند هؤلاء : ما ننسخ من آية أو نؤخّرها نَأْت بخير من الخيور من جهة المَنْسوخ أو المنسوء .
وهذا بعد جدّاً لقوله بعد ذلك : « أوْ مِثْلِهَا » فإنه لا يصح عظفه على « بخير » على هذا المعنى ، اللَّهم إلا أن يقصد الخير عد التكليف ، فيكون المعنى : نأت بخير من الخُيُور ، وهو عدم التكليف ، أو نأت بمثل المنسوخ أو المنسوء . وأما عطف « مثلها » على الضمير في « منها » ، فلا يجوز إلأَ عند الحكوفيين لعدم أعادة الخافض . وقوله : « مَا نَنْسَخْ » فيه التفات من غَيْبة إلى تكلم ، ألا ترى أن قبلة « وَاللهُ يَخْتَصُّ » « واللهُ ذُو الفَضْلِ » .
فصل في بيان معنى النسخ
قال ابن الخطيب : الناسخ عبارة عن طريق شرعي يدلّ على إزالة الحكم الذى كان ثابتاً بطريق شرعي .
والنسخ جائز عقلاً واقع سمعاً ، ومن الهيود من أنكره عقلاً ، منهم من جَوّزه عقلاً ، ومنع منه سمعاً .
ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ .
واحتد الجمهور من المسلمين على جواز ووقوعه؛ لأن الدلائل دلّت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته لا تصحّ غلا م القول بنسخ شرع من قبله ، فوجب القط بالنَّسْخِ .

على اليهود إلزامان .
الأول : جاء فى التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه الصلاة والسلام ، عند خروجه من الفلك : « إني جعلت كل دابة مأكلاً لك ، ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب وما خلا الدّم فلا تأكلوه » .
ثم إنه تعالى حرم على موسى ، وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان .
الثاني : كان آدم عليه الصلاة والسلام يزوج الأخت من الأخ ، وقد حرمه بعد ذلك على موسى عليه الصلاة والسلام وعلى غيره .
قال منكر النَّسخ : لا نسلم أن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا تصح إلاَّ مع القول بالنسخ ، لأن من الجائز أن يقال : إن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام [ أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام ثم بعد ذلك أمر النَّاس باتّباع محمد عليه الصلاة السلام ، فعند ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام زل التكليف بشرعهما ، وحصل التكليف بشرع محمد عليه الصلاة السلام لكنه ] لا يكون ذلك نَسْخاً ، بل جارياً مجرى قوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } [ البقرة : 187 ] ومن أنكر وقوع النسخ من المسلمين بنوا مذهبهم على هذا الحرف ، وقالوا : قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قد بشرا في التَّوْرَاة والإنجيل بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام وأن عند ظهوره يجب الرُّجُوع إلى شرعه ، وإذا كان الأمر كذلك فمع قيام هذا الاحتمال امتنع الجزم بقوع النسخ .
فصل فى حجج منكرى النسخ
احتج مكرو النَّسْخ بأن قالوا : إن الله تعالى لما بيّن شرع عيسى عليه الصلاة والسلام ، فاللفظ الدال على تلك الشريعة ، إما أن يقال : إنها دالة على دوامها ، أو لا يدل على دوامها ، أو [ لم يكن ] فيها دلالة على الدوام ، ولا على [ عدم الدوام ] ، فإن بيّن فيها ثبوتها على الدوام ، ثم تبين أنها ما دامت كان الخبر الأول كذباً؛ لأنه غير جائز على الشرع ، وأيضاً فلو جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق غلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخاً في شرع موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام مع أنهما لم يدوما ، زال الوثوق عنه في كل الصور .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : ذرك اللفظ الدَّال على الدوام ، ثم قرن به ما يدلّ على أنه سينسخه أو ما قرب به إلا أنه نصّ على ذلك ، إلا أنه لم ينقل إلينا في الجملة؟
قلت : هذا ضعيف لوجوه :
أحدها : أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جميع بين كلامين متناقضين .
وثانيها : على هذا التقدير قد بين الله تعالى أن شرعهما سيصير منسوخاً ، فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية أيضاًح لأنه لو جاز أن ينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية لجاز مثله في شرعنا أيضاً ، وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ؛ لأن ذلك من الوقائع العظيمة التى تتوفّر فيها الدواعي على نقله ، وما كان كذلك وجب ا شتهاره ، وبلوغه إلى حَدّ التواتر ، وإلا فلعلّ القرآن عورض ، ولم تنقل معارضته ، ولعلّ محمداً صلى الله عليه وسلم غير هذا الشرع من هذا الوضع ، ولم ينقلن [ وإذا كان ذلك غير جائز وجب ] أن تنقل هذه الكيفية على سبيل التواتر ، فنقول : لو أن الله تعالى نصّ في زمان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام على أن شرعيهما سيصيران منسوخين لكان ذلك مشهوراً لأهل التواتر ، وكان معلوماً لهم بالضرورة ، ولو كان كذلك لاستحال مُنَازعة الجمع العظيم فيه ، فحيث رأينا اليهود والنصارى مطبقين على إنكار ذلك علمان أنه لم يوجد التنصيص على أن شرعيهما يصيران منسوخيني .

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : [ إن الله تعالى نص على شرع موسى عليه الصلاة والسلام وقرن به ما يدل به على أنه منقطع غير دائم ] .
فهذا باطل لما بت أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذلك معلوماً بالضرورة لأهل التواتر .
وأيضاً فبتقدير صحته لا يكون ذلك نسخاً ، بل يكون ذلك انتهاء للغاية .
وأما القسم الثالث : وهو أنه [ تعالى نص على شرع موسى عليه الصلاة السلام ولم يبيّن فيه كونه دائماً ، أو كونه غير دائم ] فنقول : إنه ثبت في أصول الفقة أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار ، وإ‘نما يفيد المرة الواحدة ، فإذا أتى المكلف بالمرة الواحدة ، فقد خرج عن عُهْدة الأمر ، فورود أمر آخر بعد ذلك لايكون نَسْخاً للأمر الأول ، فثبت بهذا التقيسم أن القول بالنسخ مُحَال .
فصل في تحرير محلّ الاستدلال بالآية
قال ابن الخطيبك والاستدلال بهذه الآية على وقوع النَّسخ ضعيف؛ لأن « ما » هاهنا تفيد الشرط والجزاء ، وكما أن قولك : « من جائك فأكرمه » لا يدعل على حصول المجيء ، بل على أنه متى جاء وَجَبَ الإكرام ، ، فكذا هذه الآية لا تدلّ على حصول النسخ ، بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه ، فالأقوى أن تعوّل في الإثبات على قوله تعالى { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } [ النحل : 101 ] وقوله : { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } [ الرعد : 39 ] .
فصل في فوائد معرفة النسخ
قال القرطبي رحمه الله تعالى : معرفة هذا الباب أكيدةٌ عظيمة ، لا يستغنى عن معرفته العلماءن ولا ينكره إلا الجَهَلة؛ لما يترتب عليه من الأحكام ، ومعرفة الحلال من الحرام .

روى أبو البختي قالك دخل علي رضي الله عنه المسجد ، فإذا رجل يخوف الناس؛ فقال : ما هذا؟ قالوا : رجل يذكر الناس؛ فقال : ليس برجل يذكر الناس! لكنه يقول : أنا فلان ابن فلان فاعرفوني ، فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟! فقال : لا؛ قال : فأخرج من مسجدنا ولا تُذكِّر فيه .
وفي رواية أخرى : أَعَلِمْتَ الناسخ والمنسووخ؟ قال : لا؛ قال : قد هلكت وأهلكت! .
ومثله عن ابن عباس رضى الله عنهما .
فصل في أن للناسخ حقيقة هو الله
اعلم أن الناسخ في الحققية هو الله تعالى ، وسمي الخطاب الشرعي ناسخاً تجوزاً واحتجوا على وقوع النسخ في القرآن بوجوه :
أحدها : هذه الآية .
وأجاب عنها أبو مسلم بوجوه :
الأول : أن المراد بالآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل ، كالسَّبْت ، والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله تعالى وتعبّدنا بغيره ، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون : لا تأمنوا إلا لمن تبع دينكم ، فأبطل الله عليهم ذلك بهذه الآية .
الوجه الثاني : المراد من النسخ نَقْلهُ من اللوح المحفوظ ، [ وتحويله عنه ] إلى سائر الكتب اوهو كما يقال : نسخت الكتاب .
الوجه الثالث : أنا بينا أن هذه الآية لا تدلّ على وقوع النسخ ، بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خير .
[ ومن الناس من أجاب عن الاعتراض ] الأول بأن الآية إذا أطلقت ، فالمراد بها آيات القرآن؛ لأنه هو المعهود عندنا .
وعن الثاني بأن نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختصّ ببعض القرآن ، وهذا النسخ مختص ببعضه .
ولقائل أن يقول على الأول : لا نسلم أن لفظ الآية مختص بالقرآن ، بل هو عام في جميع الدلائل .
وعلى الثاني لا نسلم أن النسخ المذكور في الآية مختص ببعض القرآن ، بل التقدير والله أعلم : ما ننسخ من اللوح المحفوظ ، فإنا نأتي بعده بما هو خير منه .
الحجة الثانيك [ للقائلين بوقوع النسخ في القرآن ] أن الله تعالى أمر المرأة المتوفى عنها زوجها بالاعتدداد حولاً كاملاً ، وذلك في قوله : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول } [ البقرة : 240 ] ثم نسخ ذلك بأربعة أشره وعشر ، كما قال { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ البقرة : 234 ] .
قال أبو مسلمك الاعتداد بالحَوْل ما زال بالكلية؛ لأنها لو كانت حاملاً ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولاً كاملاً ، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصاً لا ناسخاً .
والجواب أن مدة عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل ، سواء حصل وضع الحمل بِسَنَةٍ أو أقل أو أكثر ، فجعل السّنة العدة يكون زائلاً بالكلية .
الحجة الثالثةك أمر الله بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً }

[ المجادلة : 12 ] ، ثم نسخ ذلك .
قال أبو مسلم : إنما زال ذلك لزوال سببه؛ لأن سبب التعبّد بها أن يتماز المنافقون من حيث إنهم لا يتصدقون عن المؤمنين ، فلما حصل هذا العرض سقط التعبد .
والجواب : لو كان كذلك لكان من لم يتصدق منافقاً وهو باطل؛ لأنه روي أنه لم يتصدق غير علي رضي الله عنه ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } [ المجادلة : 13 ] ٍ .
الحجة الرابعة : أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 65 ] ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 66 ] .
الحجة الخامسة : قوله تعالى : { سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] ثم أزالهم عنها بقوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] قال أبو مسلم : « حكم تلك القبلة مازال بالكلية جواز التوجيه إليها عند الإشكال ، أو مع العلم إذا كان هناك عذر » .
الجواب : أن على ما ذكرته لا فرق بين « بيت المقدس » ، وسائر الجهات ، فالخصوصية التي امتاز بها « بيت المقدس » عن سائر الجهات قد زالت بالكلية ، فكان نسخاً .
الحجة السادسةك قوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } [ النحل : 101 ] والتبديل يشتمل على رفع إثبات ، والمرفوع : إما التلاوة ، وإما الحكم فكيف كان فهو رفع ونسخ .
واحتجّ أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل .
والجواب : أن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله ، ولا يأتيه من بعده أيضاً ما يبطله .
فصل في أنواع النسخ
تراة ينسخ الحكم ، وتارة التلاوة ، وتارة هما معاً ، فأما نسخ الحكم دون التلاوة فكهذه الآيات .
وأما نسخ التلاوة دو الحكم ، فكما يروى عن عمر رضي الله عنه قال : كنا نقرأ « الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيا فَارُجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَلااً مِنَ اللهِ واللهُ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ » .
وروي : « لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ واديَان مِنْ مالٍ لاَبْتَغَى إِلَيْهمَا ثَالِثاً ، وَلاَ يَمْلاًُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ ، وَيتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ » .
وأما نسخ الحكم والتلاوة معاً ، فكما روت عائشة رضي الله عنها قالت : « أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنُسِخْن بخمس معلومات » ، فالعشر مرفوع التلاوة والحكم جميعاً ، والخمس مرفوع التلاوة ثابت الحكم .
ويروى أيضاً أن سورة « الأحزاب » كانت بمنزلة السبع الطوال ، أو أزيد ، ثم انتقص منها .
[ وروى ابن شهاب ، قال : حدثني أبو أمامة في مجلس سعيد بن المسيب أن رجلاً قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن ، فلم يقدر على شيء منها ، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أحدهم : قمت الليل يا رسول الله لأقرا سورة من القرآن فلم أقدر على شيء ، فقام الآخر ، فقال : وأنا كذلك يا رسول الله ، فقال الآخر : فإنا والله كذلك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« إِنَّهَا مِمَّا نَسَخَ اللهُ البَارِحَةً » وسعيد بن المسيّب يسمع ما يحدث به أبو أمامة ، فلا ينكره .
فصل في بيان أنه ليس شرطاً البدل في النسخ
قال قومك لا يجوز نسخ الحكم إلاَّ بدل واحتجوا بهذه الآية .
وأجيبوا بأن نفي الحكم ، وإسقاط التعبُّد به خير من ثبوته في ذلك الوقت ، وقد نُسِخَ تقديم الصدقة بين يدي الرسول لا إلى بدل ] .
فصل في جواز النسخ بالأثقل
قال قوم : لا يجوز نسخ الشيء إلى ماهو أثقل منه ، واحتجوا بأن قوله : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ينافي كونه أيقلح لأن الأثقل لا يكون خيراً منه ولا مثله .
وأجيب : بأن المراد بالخير ما يكون أكثر ثواباً في الآخرة ، ثم إن الذي يدلّ على وقوعه أن الله سبحانه نسخه في حقّ الزناة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم ، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ، و كانت الصَّلاة ركعتين عند قوم ، فنخست بأربع فى الحضر .
وأما نسخه إلى الأخف ، فكنسخ العدّة من حَوْل إلى أربعة أشهر وعشرة ، وكنسخ صلاة اللَّيل إلى التخيير فيها .
وأما نسخ الشيء إلى المثل فتحويل القِبْلَة .
فصل : الكتاب لا ينسخ بالسُّنَّة المتواترة
قال الشافعي رضي الله عنه : الكتاب لا ينسخ بالسُّنة المتواترة ، واستدل بهذه الآية قال : لأنه قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } يفيد أنه يأتي بما هو من جنسه خير منه ، كما إذا قال الإنسان : ما أخذ منك من ثواب آتيك بخير منه ، وجنس القرآن قرآن ، وأيضاً المنفرد بالإتيان بذلك الخير ، وهو القرآ ، الذي هو كلام الله تَعَالى .
وأيضاً فإن [ السُّنة لا تكون خيراً من القرآن ] .
وروى الدَّارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « القُرْآنُ يَنْسَخُ حَدِيُثِي وحَديْثِي لا يَنْسَخُ القُرْآنَ » .
وأجيب عن قوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } [ النجم : 3-4 ] وقوله : { وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] وإذا ثبت أن الكل من عند الله ، فالناسخ في الحقيقة هو الله تعالى [ أقصى ما فيه أنَّ الوحي ينقسم إلى قسمين متلوّ ، وغير متلو ] وقد نسخت الوصية للأقربين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لاَ وَصِيَّة لِوَارِثِ » .
ونسخ حبس الزَّاني في البيوت بخبر الرجم .
والجواب : استدل به الشافعي رضي الله عنه من الآية ، وأما الوصية فإنها نسخت بأية المواريث قاله عمر وابن عباس رضي الله عنهما وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله :

« إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقًّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّة لِوَارِثٍ » .
وأما حبس الزاني ، فإنما هو أمر بإمساكهن إلى غاية ، وهي إلى { أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } [ النساء : 15 ] فبيّن صلى الله عليه وسلم ما هو وليس بنسخ .
وروي أيضاً أن قوله : « الشَّيخ والشيخة إذا زينا ، فارجموهما ألبتة » كان قرآناً ، فلعل الناسخ إما وقع به .
فصل هل يدخل النسخ في الأخبار؟
اختلفوا في الأخبار هل يدخلها النسخ؟
فالجمهور على أن النسخ لا يدخل الخبر ، لاستحالة الكذب على الله تعالى .
وقيل : إن الخخبر إذا تضمّن حكماً شرعيّاً جاز نسخه ، كقوله تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً } [ النحل : 67 ] .
فصل هل يجوز حمل الجنب للقرآن الكريم؟
القرآن المنسوخ التلاوة يجوز للجنب حمله ، ولو صلى به لم تصح صلاته .
فصل في استدلال المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن
استدلت المعتزلة بهذه الآية على [ خلق القرآن ] من وجوه :
أحدها : أن كلام الله تعالى لو كان قديماً لكان الناسخ والمنسوخ قديمين وذلك مُحَال؛ لأن الناسخ يجب أن يكون متأخراً عن المَنْسُوخ ، والمتأخر يستحيل قدمه ، والمنسوخ يجب زوااله وارتفاعه ، ما ثبت زواله استحل قدمه .
وثانيها : أن الآية دلّت على أن بعض الآيات خير من بعض ، وما كان كذلك لا يكون قديماً .
وثالثها : قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } يدل على أنه القادر على نسخ بعضها ، وإتيانه بشيء آخر بدلاً من الأولن وما كان داخلاً تحت القدرة ، وكان فعلاً كان محدثاُ .
وأجيب عنه : بأن كونه ناسخاً ومنسوخاً إنما هو من وعوارض الأَلْفَاظ ، ولا نزاع في حدوثها ، فلما قلتم : إن المعنى الحقيقي الذي هو مدلول العبارات والاصطلاحات محدث بها .
قالت المعتزلة : لا شكّ أن تعلقه الأول قد زال ، وحدث له تعلق آخر ، فالتعلق الأول محدث؛ لأنه زال ، والقديم لا يزول ، والتعلق الثاني حادث ، لأنه حصل بعد أن لم يكن ، والكلام الحقيقي لا ينفك عن هذه التعلقات ، وما لا ينفك [ عن الحدث ] محدث .
والجواب : أن قدرة الله تعالى كانت في الأَزَلِ متعلّقة بإيجاد العالم ، فعند دخول العالم في الوجود ، هل يبقى ذلك التعلّق أو لم يبق؟
فإن بقي يلزم أن يكون القادر قادراً على إيجاد الموجود وهو محال ، وإن لم يبق فقد زال ذلك التعلق ، فألزمكم حدوث قدرة الله تعالى على ما ذكرتم ، وكذلك علم الله تعالى كان متعلقاً بأن العالم سيوجد ، فعند دخول هذا العالم في الوجود إن بقي التعلّق الأول كان جَهْلاً ، وإن لم يَبْقَ يلزمكم كون التعلق الأول حادثاً؛ لأنه لو كان قديماً لما زال ، ووكون التعلّق الذي حصل بعد ذلك حدثاً فإِذاً عالمية الله تعالى لا تنفكّ عن التعلّقات الحادثة ، وما لا ينفك عن المحدث [ محدث ] فعالمية الله محدثة ، فكل ما تجعلونه جواباً عن العالمية والقادرية هو جوابنا عن الكلام .

قوله : « أَلَم تَعْلَمْ » هذا استفهام معناه التقرير ، فلذلك لم يحتج إلى معادل يعطف عليه ب « أم » ، و « أم » في قوله : « أَمْ تُرِيْدُونَ » منقطعة هذا هو الصحيح في الآية . قال ابن عطية : ظاهره الاستفهام المَحْضُ ، فالمعادل هنا على قول جماعة : « أم تريدون » ، وقال قوم : « أم » منقطعة ، فالمعادل محذوف تقديره : أم علمتم ، هذا إذا أريد بالخطاب أمته عليه السلام .
أما إذا أريد هو به ، فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مروي انتهى .
وهذا فيه نظر؛ لما مرَّ أن المراد به التقرير ، فهو كقوله : { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] .
والاستفهام بمعنى التقرير كثير جدّاً لا سيما إذا دخل على نفي كما مثلته لك .
وفي قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله } التفاتان .
أحدهما : خروج من خطاب جماعة ، وهو « خير من ربكم » .
والثاني : خروج من ضمير المتكلّم المعظم نفسه إلى الغيبة بالاسم الظاهر ، فلم يقل : ألم تعلموا أننا ، وذلك لما لا يخفى من التعظيم والتَّفخْيم . و { أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } « أن » وما في حَيِّزها ، إما سادة مسدّ مفعولين كما هو مذهب الجمهور ، أو واحد ، والثاني محذوف كما هو مذهب الأخفش .

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)

قال ابن الخطيب : لما حكم بجواز النسخ عَقّبه ببيان أن ملك السموات والأرض له لا لغيره ، وهذا هو التنيه على أنه سبحانه وتعالى إنما حين [ منه الأمر والنهي لكونه مالكاً للخلق ، وهذا هو مذهب اصحابنا ، وأنه ] إنما حسن التكليف منه لمحض كونه مالكاً للخلق مستولياً عليهم لا لثواب يحصل ، أو لعقاب يندفع .
فقال القفال رحمه الله تعالىك ويحتمل أن يكون هذا إشارة إلى أمْمر القِبْلَة ، فإنه تعالى أخبرهم بأنه ملك السموات والأرض ، وأن الأمكنة والجهات كلها له ، وأنه ليس بعض الجهات أكبر حرمة من البعض ، إلاَّ من حيث يجعلها هو تعالى له ، وإذا كان كذلك وكان الأمر باستدلال القِبْلَة إنما هو مَحْضُ التخصيص بالتشريف ، فلا مانع يمنع من تغييره من جهة إلى جهة .
قوله : « أَلَمْ تعْلَمْ » جزم ب « لم » ، وحروف الاستفهام لا تغير عمل العامل ، وقوله : « أَلَمْ تَعْلَمْ » خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم و والمراد أمته ، لقوله : { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } .
وفي قوله : « مُلْك » وجهان :
أحدهما : أنه مبتدأ ، وخبره مقدم عليه ، والجملة في محلّ رفع خبر ل « أن » .
والثاني : أنه مرفوع بالفاعلية ، رَفَعَهُ الجار قبله عند الأخفش ، لا يقال : إن الجار هنا قد اعتمد لوقوعه خبراً ل « أن » ، فيرفع الفاعل عند الجميع؛ لأن الفائدة لم تتم به ، فلا يجعل خبراً .
والمُلْك بالضم الشيء المملوك ، وكذلك هو بالكسر ، إلا أنَّ المضموم لا يستعمل إلا فى مواضع السّعة وبسط السلطان .
وتقدم الكلام في حقيقة الملك في قوله : { مالك يَوْمِ الدين } [ الفاتحة : 4 ] .
قوله : « وَمَا لَكُمْ » يجوز في « ما » وجهان .
أحدهما : أن تكون تميمة ، فلا عمل لها ، فيكون « لكم » خبراً مقدماً ، و « من ولِيّ » مبتدأ مؤخراً زيدت فيه « من » ن فلا تعلّق لها بشيء .
والثاني : أن تكون حجازية ، وذلك عند من يجيز تقديم خبرها ظرفاً أةو حرف جر ، فيكون « لكم » في محلّ نصب خبراً مقدماً ، و « مِنْ وَلِيّ » اسمها مؤخراً ، و « من » فيه زائدة أيضاً .
و « من دون الله » يه وجهان :
أحدهما : أنه متعلّق بما تعلق به « لكم » من الاستقرار المقدر ، و « من » لا بتداء الغاية .
والثاني : أنه في محلّ نصب على الحال من قوله : « من ولي أو نصير » ؛ لأنه في الأصل صفة للنكرة ، فلما قدم عليها انتصب حالاً قاله أبو البقاء رحمه الله تعالى .
فعلى هذا يتعلّق بمحذوف غير الذي تعلّق به « لَكُمْ » ، ومعنى « مِنْ دُونِ اللهِ » سِوَى الله؛ كما قال أمية بن أبي الصلت [ البسيط ]

729 يَا نَفْسُ مَالَكِ دُونَ اللهِ مِنْ واقِ ... [ وَمَا عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ مِنْ بَاقِ ]
والولي : من وليت أمر فلان ، أي قمت به ، ومنهك وليّ العهد أيك المقيم بما عهد إليه من أمر المسلمين .
« وَلاَ نَصِيرٍ » عطل على لفظ « وليّ » ولو قرىء برفعه على الموضع لكان جائزاً ، وأتى بصيغة « فعيل » في « ولي » و « نصير » ؛ لأنها أبلغ من فاعل ، ولأن « ولياً » أكثر استعمالاً من « وَالٍ » ولهذا لم يجىء في القرآن إلا في سورة « الرعد » .
وأيضاً لتواخي الفواصل وأواخر الآي .
وفي قوله : « لكم » التفاوتٌ من خطاب الواحد لخطاب الجماعة ، وفيه مناسبة ، وهو أن المَنْفِيَّ صار نصّاَ في العموم بزيادة « من » فناسب كون المنفي عنه كذلك فَجُمِعَ لذلك .
فصل في أن الملك غير القدرة
استدل بعضهم بهذه الآية على أن الملك غير القدرة .
فقال : إنه تعالى قال أولاً : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 106 ] ثم قال بعده : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } .
فلو كان المُلْك عبارة عن القدرة لكان هذا تكريراً من غير فائدة ، والكلام في حقيقة الملك .

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)

ذكروا في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوها :
أحدها : أنه تعالى لما حكم بجواز النسخ في الشرائع ، فلعلّهم كانوا يطالبونه بتفاصيل ذلك الحكم ، فمنعهم الله تعالى عنها ، وبين أنَّهم ليس لهم أن يشتغلوا بهذه الأسئلة الفاسدة [ كسؤالات قوم موسى عليه الصلاة ولسلام ] .
وثانيها : لما تقدم من الاوامر والنواهي قال لهم : إن لم تقبلوا ما أمرتكم به وتمرّدتم عن الطاعة كنتم كمن سأل موسى عليه السلام ما ليس له أن يسأله . عن أبي مسلم .
وثالثها : لما أمر ونهى قال : أتفعلون ما أمرتم أم تفعلون كما فعل من قبلكم من قوم موسى؟ و « أم » هذه يجوز أن تكون متّصلة معادلة [ لقوله تعال : « ألم تعلم » وهي مفرقة لما جمعته أي : كما أن « أو » مفرقة لما جمعته تقول : اضرب أيهم شئت زيداً أم عمراً ، فإذا قلت : أضرب أحدهم .
قلت : اضرب زيداً أو عمراً .
أو تكون منقطعة ، فقتدم ب « بل » والهمز ، ولا تكون إِلاَّ بعد كلام تام كقوله : نما الإبل أم شاء؛ كأنه قال : بل هي شاء ، ومنه قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } [ هود : 35 ] أي : يقولون .
قال الأخْطَلُ : [ الكامل ]
730 كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلاَمِ مِنَ الرَّبابِ خَيَالاً
ويكون إضراباً للالتفات من قصة إلَى قصة ] .
قال أبو البقاء : أم هنا منقطعة ، إذ ليس في الكلام همزة تقع موقعها ومع أم أَيّهُما ، والهمزة من قوله : « ألم تعلم » ليست من « أم » في شيء ، والمعنى : بل أتريدون فخرج من كلام إلى كلام .
وأصل تريدون : « تُرْوِدُون » ؛ لأنه من رَادَ يَرُودُ ، وقد تقدّم ، فنقلت حركة « الواو » على « الراء » ، فسكنت « الواو » بعد كسرة فقلبت ياء .
وقيل : « أم » للاستفهام ، وهذه الجملة منقطعة عما قبلها .
وقيل : هي بمعنى « بل » وحدجها ، وهذان قولان ضعيفان .
قوله تعالى : « أَنْ تَسْأَلُوا » نصب ومنصوب في محل نصب مفعولاً به بقوله : « تريدون » أي : أتريدون سؤال رسولكم .
قوله : « كَمَا سُئِلَ » متعلق ب « تسألوا » و « الكاف » في محلّ نصب ، وفيها التقديران المشهوران : فتقدير سيبويه ورحمه الله تعالى أنها حال من ضمير المصدر المحذوف .
أي : إن تسألوه أي : السؤال حال كونه مُشَبَّهاً بسؤال قوم موسى له ، وتقيدر جمهور النجاة : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : إن تسألوا رسولكم سؤالاً مشبهاً كذا . و « ما » مصدرية ، أي : كسؤال موسى . [ وأجاز الحوفي كونهنا بمعنى الذي فلا بد من تقدير عائد أي كالسؤال الذي سأله موسى ] و « موسى » مفعول لم يسمّ فاعله ، حذف الفاعل للعم به ، أي كما سأل قوم موسى .

والمشهور : « سئل » بضم السين وكسر الهمزة ، وقرأ الحسنك « سِيلَ » بكسر السين وياء بعدها من : سال يسال نحوك خفت أخاف ، وهل هذه الألف في « سال » أصلها الهمز أو لا؟ تقدم خلاف فيه ، وسيأتي تحقيقه في « سأل » وقرىء بتسهيل الهمزة بَيْنَ بَيْنَ و « من قبل » متعلّق ب « سئل » ، و « قبل » مبينة على الضم؛ لأن المضاف إليه معرفة أي : من قبل سؤالكم ، وهذا توكيد ، وإلا فمعلوم أن سؤال موسى كان متقدماً على سؤالهم .
قوله : « بالإيمان » فيه وجهان :
أحدهما : أنها ياء العِوَضية ، وقد تقدم تحقيق ذلك .
والثاني : أنها للسببية .
قال أبو البقاء : يجوز أن يكون مفعولاً يتبدّل ، وتكون الباء للسبب ، كقولك : اشترتيت الثوب بدرهم ، وفي مصاله هذا نظر .
وقوله تعالى : { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } قرىء بإدغام الدَّال في الضاد وإظهارها .
و « سواء » قال أبو البقاء : سواء السبيل ضرف بمعنى وسط السبيل وأعدله ، وهذا صحيح فإن « سواء » جاء بمعنى وسط .
قال تعالى : { فِي سَوَآءِ الجحيم } [ الصافات : 55 ] .
وقال عيسى بن عمر : ما زلتُ أكتب حتى انقطع سَوَائِي؛ وقال حَسَّان : [ الكامل ]
731 يَا وَيْحَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ورَهْطِهِ ... بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ المْلْحَدِ
ومن مجيئه بمعنى العدل قول زهير : [ الوافر ]
732 أَرُنَا خُطَّةً لاَ عَيْبَ فِيهَا ... يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيْهَا السَّوَاءُ
والغرض من هذه الآية التشبيه دون نفس الحقيقة ، ووجه التشبيه في ذلك أن من سلك طريقة الإيمان ، فهو جَارٍ على الاستقامة المؤدية إلبى الفوز والظّفر بالطلبة من الثواب والنعيم ، فالمُبَدِّل لذلك بالكفر عادل عن الاستقامة فقيل فيه : إنه ضل سواء السبيل .
والسبيل يذكر ويؤنث : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] .
والجملة من قوله : « فقد ضَلَّ » في محل جزم؛ لأنها جزاء الشرط ، والفاء واجبة هنا لعدم صلاحيته شرطاً .
فصل في المخاطب بهذا
في المخاطب بهذا ثلاثة أوجه :
أحدها : [ أنهم المسلمون قاله الأصم ، والجُبَّائي ، وأبو مسلم ، ويدل عليه وجوه :
أحدها : أن قوله تعالى ] : « أَمْ تُرِيدُونَ » يقتضي معطوفاً عليه وهو قوله : « لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا » فكأنه قال : وقولوا : انظرنا واسمعوا فهل تفعلون ذلك كما أمرتم أم تريدون أن تسألوا رسولكم؟
وثانيها : أن المسلمين كان يسألون محمداً صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم عن أمور لا خير لهم في البَحْثِ عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى عليه الصلاة والسلام مالم يَكُنْ لهم فيه خير عن البحث عنه .
وثالثها : سأل قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أَنْواطٍ كما كان للمشركين ذات أنواط ، وهي شجرة كانوا يعبدونهان ويعلقون عليها المأكول والمشروب ، كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة .

القول الثاني : أنه خطاب لأهل « مكة » ، وهو قول ابن عباس ومجاهد رضي الله تعالى عنهم؛ لأنه يروى أنّ عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من قريش فقال : يا محمد والله ما أومن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء بأن تصعدن ولن نؤمن لرقيّك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتاباً [ من عند الله إلى عبدالله بن أمية أن محمداً رسول الله فأتبعوه . وقال له بقية الرَّهْطك فإن لم تستطع ذلك فائتنا بكتاب من ] عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض ، كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله فيها كلّ ذلك ، فنؤمن لك عند ذلك .
فأنزل الله تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ } محمداً أن يأتيكم بالآيات من عند الله كما سأل السبعون فقالوا : { نَرَى الله جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] . وعن مجاهد رحمه الله تعالى أنّ قريشاً سألت محمداً عليه الصلاة والسلام أن يجعل لهم الصَّشفا ذهباً وفضّة ، فقال : نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا .
القول الثالث : المراد بهم اليهود ، [ وهذا القول أصح ، لأن هذه السورة من أول قوله ] : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي } [ البقرة : 47 ] حكاية ومحاجّة معهم؛ ولأن الآية مدنية ، ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم .
فصل في سؤالهم
[ قال ابن الخطيب رحمه الله تعالى : ليس في الآية أنهم أتوا بالسؤال فضلاً عن كيفيته ، وإنما المرجع فيه إلى الروايات المذكورة .
فإن قيل : إن كان ذلك السؤال طلباً للمعجزة فليس بكفر؛ لأن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفراً ، وإن كان طلباً لوجه الحكمة في نسخ الأحكام فهذا أيضاً لا يكون كفراًح لأن الملائكة عليهم السلام طلبوا الحكمة في خَلْق البشر ، ولم يكن ذلك كفراً . والجواب أن يُحملأ على أنهم طلبوا أن يُجعل لهم إله كما لهم آلهة ، أو طلبوا المعجزة على سبيل التعنُّت ، أو اللَّحَاج ، فهذا كفر ، والسبب هذا السؤال ، والله أعلم ] .

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)

سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان ، وعمار بن ياسر بعد وقعة « أحد » ألم تروا ما أصابكم ، ولو كنتم على الحق ما هزمتم ، فارجعوا إلى ديننا ، فهو خير لكم وأفضل ، ونحن أهدى منكم سبيلاً .
فقال عمار : كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا : شديد ، قال : فإني قد عاهدت أني لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم ما عشت .
فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ ، وقال حذيفة : وأما أنا فقد رضيت بالله ربّاً ، وبالإسلام ديناً ، وبالقرآن إماماً ، وبالكعبة قِبْلَةً ، وبالمؤمنين إخواناً ، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال : أصبتما خيراً وأفلحتما فنزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { لَوْ يَردُّنَكُمٍ } الكلام في « لو » كالكلام فيها عند قوله : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ } [ البقرة : 96 ] ، فمن جعلها مصدرية هناك جعلها كذلك هنا ، وقال : هي مفعول « يود » أي : ودّ كثير ردَّكم .
ومن أبي جعل جوابها محذوفاً تقديره : لو يردونكم كفاراً لسُرُّوا أو فرحوا بذلك .
وقال بعضهمك تقديره : لو يردونكم كفاراً لودّوا ذلك ، ف « وَدَّ » دَالَّى على الجواب ، وليست بجواب؛ لأن « لو » لا يتقدمها جوابها كالشرط .
وهذا التقدير الذي قدره هذا القائل فاسد ، وذلك أن « لو » حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، فيلزم من تقديره ذلك أن وَدَادتهم ذلك لم تقع؛ لأن الموجب لظفاً منفي معنى ، والغرض من وَدَادَتهم ذلك واقعة باتفاق ، فتقدير لسروا ونحوه هو الصحيح .
و « يرد » هنا فيه قولان .
أحدهما وهو الواضح أنها المتعدّية لمفعولين بمعنى « صَيَّر » ، فضمير المخاطبين مفعولً أول ، و « كفاراً » مفعول ثان؛ ومن مجيء « رَدَّ » بمعنى « صَيَّر » قوله : [ الوافر ]
733 رَمَى الْحَدَثانُ نِسْوَةَ آلِ حَرْبٍ ... بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُودَا
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً ... وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ البِيضَ سُودَا
وجعل أبو البقاء كفاراً حالاً من ضمير المفعول على أنها المتعدية لواحد ، وهو ضعيف ، فأن الحال يستغنى عنها غالباً ، وهذا لابد منه .
و « مِنْ بَعد » متعلق ب « يردُّونكم » و « من » لابتداء الغاية .
قوله تعالى : « حسداً » نصب على المفعول له ، وفيه الشروط المجوّزة لنصبه ، والعامل فيه « ود » أي : الحامل على ودادتهم رَدُّكم كُفََاراً حَسَدُهُم لكم .
وجوزوا فيه وجهين آخرين :
أحدهما : أنه مصدر في موضع الحال ، وإنما لم يجمع لكوه مصدراً ، أي : حاسدين ، وهذا ضعيف ، لأن مجيء المصدر حالاً لا يطّرد .
الثاني : أنه منصوب على المصدرية بفعل من لفظه أي يحسدونكم حسداً [ والأول أظهر الثلاثة ] .
قوله تعالى : { مِنْ عِنَدِ أَنْفُسِهِمْ } في هذا الجار ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلّق ب « ود » أي : ودوا ذلك من قبل شهواتهم لا من قبل التدين [ والميل مع الحق؛ لأنهم ودّوا ذلك من بعد ما تبيّن لهم أنكم على الحق ] و « من » لابتداء الغاية .

الثاني : أنه صفة ل « حسداً » فهو في محلّ نصب ، ويتعلّق بمحذوف أي : حسداً كائناً من قبلهم وشهوتهم ، ومعناه قريب من الأول .
[ الثالث : أنه متعلّق ب « يردّونكم » ، و « من » للسببية . أي : يكون الردّ من تلقائهم وجهتهم وبإغوائهم ] .
قوله تعالى : « من بعد ما » متعلّق ب « وَدَّ » ، و « من » للابتداء ، أي : أنَّ ودادتهم ذلك ابتدأت من حيث وضوح الحق ، وتبيّنه لهم ، فكفرهم عُنَادٌ ، و « ما » مصدرية أي : من بعد تبيين الحَقّ .
والحسد : تمنِّي زوال نعمة الإنسان . والمصدر حَسَدٌ .
فإن قيل : إنّ النَّفْرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه ، فكيف يعاقب عليه؟
فالجواب : أن الذي هو في وصعه أمران :
أحدهما : كونه راضياً بتلك النَّفْرَة .
والثاني : إظهار آثار تلك النَّفْرَة من القَدْح فيه ، والقَصْد إلى إزالة تلك النعمة عنه وجدّ أسباب المحبة إليه ، فهذا هو الداخل تحت التكليف .
والحمد نوعان : مذموم ومحمود ، فالمذموم أن يتمنّى زوال نعمة الله عن المسلم ، سواء تمينت مع ذلك أتعود إليك أم لا؛ لأنه فيه تسفيه الحق سبحانه وتعالى وأنه أنعم على مَنْ لا يستحقّ .
والمحمود كقوله صلى الله عليه وسلم : « لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْن : رَجُل آتاهُ اللهُ تعالى القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَار ، وَرَجُلٍ آتاهُ اللهُ مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُ آناءَ اللَّيْلَ وَآناء النَّهَارِ » . وهذا الحديث معناه « الغِبْطة » كذا ترجم عليه البُخَاري رحمه الله تعالى .
والصَّفْحُ قريب من العفو ، مأخوذ من الإعراض بصفحة العُنْق .
وقيل : معناه التجاوز ، من تصفّحت الكتاب أي : جَاوَزْتُ وَرَقَهُن والصَّفُوح من أسماء الله ، والصَّفُوح أيضاً : المرأة تستر وجْهَها إعراضاً؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
734 صَفُوحٌ فَمَا تَلْقَاكَ إلاَّ بِحِيلَةٍ ... فَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الوَصْلَ مَلَّتِ
قال القرطبي رحمه الله تعالى : العفو : ترك المُؤَاخَذَة بالذَّنب .
والصّفح : أزالة أثرِه من النفس . يقال : صَفَحْتُ عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه ، وقد ضربت عنه صَفْحاً إذا أعرضت عنه وتركته ، ومنه قوله تعالى : { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً } [ الزخرف : 5 ] .
فصل في المراد بهذه الآية
[ المراد بهذه الآية أنهم كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعد ما تبيّن لهم أن الإيمان صواب وحقّ ، والعالم بأن غيره على حقّ لا يجوز أن يريد ردّه عنه إلاَّ بشبهة يلقيها إليه ، لأن المحق لا يعدل عن الحق إلاَّ بشبهة ، والشبهة ضربان :
أحدها : ما يتّصل بالدنيا ، وهو أن يقال لهم : قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم ، وضيق الأمر عليكم ، واستمرار المخافة بكم ، فاتركوا الإيمان الذي ساقكم إلى هذه الأشياء .

والثاني : في باب الدين : بطرح الشبه في المُعْجزات ، أو تحريف ما في التوراة .
فصل في المقصود بأمر الله
قوله : { فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } يحتمل أمرين :
الأول : أن المراد ترك المقابلة والإعراض عن الجوابح لأن ذلك أقرب إلى تَسْكين الثائرة في الوقت ، فكأنه تعالى أمر الرسول بالعَفْو والصفح عن اليهود ، فكذا أمره بالعفو والصفح عن مشركي العرب بقوله تعالى : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله } [ الجاثية : 14 ] وقوله : { واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً } [ المزمل : 10 ] ولذلك لم يأمر بذلك على الدوام ، بل علّقه بغاية فقال { حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } .
وذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : أنه المُجَازاة يوم القيامة عن الحسن .
وثانيه : أنه ] قوة الرسول صولات الله وسلامه عليه وكثرة أمته .
وثالثها : وهو قول أكثر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ، أنه الأمر بالقتال؛ لأن عنده يتعين أحد أمرين :
إما الإسلام ، وإما الخضوع لدفع الجزية ، وتحمل الذل والصَّغار ، فلهذا قال العلماء : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } [ التوبة : 29 ] .
ورُويَ أنَّه لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال حتى نزل جبريل عليه الصلاة والسلام بقوله : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } [ الحج : 39 ] وقلّده سيفاً فكان أول قتال قاتل أصحاب عبدالله بن جَحْش ب « بطن نخل » ، وبعده غزوة « بدر » .
فإن قيل : كيف يكون منسوخاً وهو معلق بغاية كقوله : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } [ البقرة : 187 ] . وإن لم يكن ورود الليل ناسخاً ، فكذا هاهنا .
فالجواب : أن الغاية التي تعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعاً لم يخرج ذلك الوارد شرعاً عن أن يكون ناسخاً ، ويحلّ محل قوله تعالى : « فَاعفُوا واصْفَحُوا » إلى أن أنسخه عنكم .
فإن قيل : كيف يعفون ويصفحون ، والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة ، والصفح لا يكون إلا عن قدرة؟ فالجواب : أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى ، فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عداوتهم عن نفسه وأن يستعين بأصحابه ، فأمر الله سبحانه تعالى عند ذلك بالعَفوِ والصفح كي لا يهيّجوا شراً وقتالاً .
قال القرطبي رحمه الله : [ قال أبو عبيدة : ] كل آية فيها ترك للقتال فهي مكّية منسوخة بالقتال .
قال ابن عطية : [ الحكم ] بأن هذه الآية مكّية ضعيف : لأن مُعَاندات اليهود إنما كانت ب « بالمدينة » .
قال القرطبي : « وهو الصحيح » .
[ التفسير الثاني : العفو والصفح ] أنه حسن الاستدعاء ، واستعمال ما يلزم فيهم من النصح والإشْفَاق والتشدّد فيه ، وهذا لا يجوز نسخه .
وقوله : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تحذير لهم بالوعيد ، سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره .

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

لما أمرنا بالعفو والصفح عن اليهود عقبه بقوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة } تنبيهاً لهما على ما أعد لهما من الواجبات وقوله بعده : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ } [ المزمل : 20 ] . الأظهر أن المراد به التطوّعات من الصلوات والزكواتن وبيّن تَعَالى أنهم يجدونه ، وليس المراد أنهم يجدون عين تلك الأعمال؛ لأنها لا تبقى ، ولأن وِجْدَان عين تلك الإشياء ، ولا يرغب فيه ، فبقي أن المراد وِجْدَان ثوابه وجزائه .
قوله تعالى : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ } كقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 601 ] .
فيجوز في « ما » أن تكون مفعولاً بها ، وأن تكون واقعةً موقع المصدر ، ويجوز في « مِنْ خَيْرٍ » الأربعة أوجه التي في « من آيّةٍ » : من كونه مفعولاً به ، أو حالاًن أو تمييزاً ، أو متعلّقاً بمحذوف .
و « مِنْ » تبعيضية ، وقد تقدم تحقيقها ، فليراجع ثَمَّة .
و « لأَنْفُسِكُمْ » متعلّق بت « تقدمُّوا » ، أي : لحياة أنفسكمن وحذف ، و « تجدوه » جواب الشرط ، وهي متعدّية لواحد؛ لأنها بمعنى الإصابة ، ومصدرها الوِجْدَان يكسر الواو كما تقدم ، ولا بد من حذف مضاف أي : تجدوا ثوابه ، وقد جعل الزمخشري رحمه الله تعالى الهاء عائدة على « ما » ، وهو يريد ذلك؛ لأنَّ الخير المتقدم سبب منقض لا يوجد ، إما يوجد ثوابه .
[ فصل فيما بعد الموت
جاء في الحديث أن العبد إذا مات قال الناس : مَا خَلَّشفَ؟ وقالت الملائكة عليهم السلام : ما قَدَّمَ؟
وجاء عن عُمَرَ رضي الله تعالى عَنْهُ أنه مَرَّ ببقيع « الغَرْقَد » فقال : السلامُ عليكمُ يا أهل القبور ، أخبارُنَا عنْدَنا أنَّ نِسَاءكم قد تزوَّجْن ، ودُروكُم قد سُكِنَتْ ، وأموالكم قد قُسَّمَتْ ، فأجابه هاتفٌ : يا بان الخطاب ، أخبارُ ما عندنا أنَّ ما قدَّمْنَاه وجَدْنَاه ، وما أنفقْنَاه فقد ربِحْنَاه ، وما خلَّفناه فقد خَسِرْناه؛ وقد أحسن القائلُ حيثُ قال : [ الكامل ]
735 قَدِّمْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ صَالِحاً ... وَاعْمَلْ فَلَيْسَ إلى الخُلُودِ سَبِيلُ
وقال آخر : [ الكامل ]
736 قَدِّمْ لِنَفْسِكَ تَوْبَةً مَرْجُوَّةً ... قَبْلَ المَمَاتِ وَقَبْلَ حَبْسِ الأَلْسُنِ
وقال آخر : [ السريع ]
737 وَقَدِّمِ الخَيْرَ فَكُلُّ امْرِىءٍ ... عَلَى الَّذِي قَدَّمَهُ يَقْدَمُ ]
فصل في إعراب الآية
قوله : « عِنْدَ اللهِ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلّق ب « تَجِدُوهُ » .
والثاني : أنه متعلّق بمحذوف على أنه حال من المفعول أي : تجدوا ثوابه مدّخراً معدّاً عند الله تعالى ، والظَّرفية هنا مجاز نحو : « لك عند فلان يد » .
قوله تعالى : { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الأعمال فهو ترغيب وتحذير .

وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)

اعلم أن هذا نوع آخر من تخليط اليهود ، وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين .
قوله تعالى : { لاَّ مَن كَانَ هُوداً } .
« من » فاعل بقوله : « يَدْخُلَ » وهو استثناء مفرغ ، فإن ما قبل « إلاَّ » مفتقر لما بعدها ، والتقدير : لن يدخل الجنّة أحد ، وعلى مذهب الفرَّاء يجوز في « مَنْ » وجهان آخران ، وهما النَّصْب على الاستثناء والرفع على البدل من « أحد » المحذوف ، فإن الفراء رحمه الله تعالى يراعي المحذوف ، وهو لو صرّح به لجاز في المستثنى الوجهان المذكوران ، فكذلك جاز مع التقدير عنده ، وقد تقدّم تحقيق المذهبين .
والجملة من قوله تعالى : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن } في محلّ نصب بالقولنوحمل أولاً على لفظ « من » فأفرد الضمير في قوله : « كان » ، وعلى معناها ثانياً فجمع في خبرها وهو « هوداً » ، وفي مثل هاتين الجملتين خلاف ، أعني أن يكون الخبر غير فعل ، بل وصفاً يفصل بين مذكره ومؤنثه تاء التأنيث .
فمذهب جمهور البصريين والكوفيين جوازه ، ومذهب غيرهم منعه ، منهم أبو العَبَّاس ، وهم محجوجون بسماعه من العرب كهذه الآية ، فإن هوداً جمع « هائد » على أظهر القولين ، نحو : بازل وبُزْل ، وعَائد وعُوْد ، وحَائِل وحُوْل ، وبائِر وبُوْر .
و « هائد » من الأوصاف ، الفارقُ بين مذكَّرها ومؤنثها « تاء » التأنيث؛ قال الشاعر : [ المتقارب ]
738 وَأَيْقَظَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ نِيَامَا ... و « نايم » جمع نائم ، وهو كالأول .
وفي « هود » ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه جمع هائد كما تقدم .
والثاني : أنه مصدر على « فُعَل » نحو حزن وشرب يوصف به الواحد وغيره نحو : عدل وصوم .
والثالث : وهو قول الفراء أن أصله « يهود » ، فحذفت الياء من أوله ، وهذا بعيد .
و « أول » هنا للتَّفْصيل والتنويع؛ لأنه لما لَفَّ الضمييرَ في قوله تعالى : « وقالوا » : فَصَّل القائلين ، وذلك لفهم المعنى ، وأمن الإلباس ، والتقدير : [ وقال اليَهُودُ : لن يدخل الجَنَّة إلاَّ من كان هوداً .
وقال الأنصاري : لن يدخل إلاَّ من كان نصارى ] ؛ لأن من المعلوم أنَّ اليهود لا تقول : لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً ، وكذلك النصارى لا تقول : [ لا يدخل الجنة إلا من كان نصرانياص ] .
ونظيره قوله : { وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 135 ] إذ معلوم أن اليهود لا تقول : كونوا نصارى ، ولا النَّصارى تقول : كونوا هوداً .
صدرت الجملة بالنفي ب « لن » ؛ لأنها تخلص المضارع للاستقبالن ودخول الجنة مستقبل . وقدمت اليهود على النصارى لَفْظاً لتقدمهم زماناً .
وقرأ أُبيّ بن كعب « إلاَّ مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا » .
قوله تعالى : { تِلْكَ أَمَانِيُّهمْ } « تلك » مبتدأ ، و « أَمَانِيُّهُمْ » خبره ، ولا محلّ لهذه الجملة من الإعراب لكونها وقعت اعتراضاً بين قوله : « وَقَالُوا » ، وبين قوله تعالى : { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } ، فهي اعتراض بين الدعوى ودليلها .

والمشار إليه ب « تلك » فيه ثلاثة احتمالات :
أحدها : أنه المقالة المفهومة من : « قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجنة » ، أي : تلك المقالة أمانيهم .
فإن قيل : كيف أفرد المبتدأ وجمع الخبر؟
فالجواب : أن تلك كناية عن المَقَالة ، والمقالة في الأصل مصدر ، والمصدر يقع بلفظ الإفراد للمفرد المثنى والمجموع ، فالمراد ب « تِلْكَ » الجمع من حيث المعنى .
وأجاب الزمخشري رحمه الله أن « تِلْكَ » يشار بها إلى الأماني المذكورة ، وهي أمنيتهم [ ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً أي ] ألاَّ يدخل الجنة غيرهم .
قال أبو حيان رحمه الله تعالى : وهذا ليس بظاهر؛ لأن كل جملة ذكر فيها ودّهم لشيء قد كملت وانفصلت ، وانفصلت ، واستقلت بالنزول ، فيبعد أن يشار إليها .
وأجاب الزمخشري أيضاً أن يكون على حذف مضاف أي : أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، يريد أن أمانيهم جميعاً في البُطْلاَن مثل أمنيتهم هذه يعني أنه أشير بها إلى واحد .
قال أبو حيان : وفيه قلب الوَضْع ، إذ الأصل أن يكون « تِلْك » مبتدأ ، و « أَمَانِيُّهُمْ » خبر ، فقلب هذا الوضع ، إذ قال : إن أمانيهم في البطلان مثل أمنتيهم هذه ، وفيه أنه متى كان الخبر مشبهاً به المبتدأ ، فلا يتقدم الخبر نحو : زيد زهير ، فإن تقدم كان ذلك من عكس التشبيه كقولك : الأسد زيد شجاعة [ قال عليه الصلاة والسلام : « العَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ تَعَالَى » وقال علي رضي الله عنه : « لا تتكل على المُنَى ، فإنها تضيع المتكل » ] .
قوله : « هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ » هذه الجملة في محلّ نصب بالقول .
واختلف في « هات » على ثلاثة أقوال :
أصحها : أنه فعل ، [ وهذا هول صحيح لا تَّصَاله بالضمائر المرفوعة البارزة نحو : هاتوا ، هاتي ، هاتيا ، هاتين .
الثاني : أنه اسم فعل بمعنى أحضر .
الثالث : وبه قال الزمخشري : أنه اسم صوت بمعنى « ها » التي بمعنى : رَامى يُرَامي مُرَامَاة ، فوزنه « فاعل » فتقول : هات يا زيد ، وهاتي يا هند ، وهاتوا وهاتين يا هندات ، كما تقول : رَام رَامِي رَامِيا رَامُوا رَامِينَ . وزعم ابن عطية رحمه الله أن تصريفه مُهْجُور لا يقال فيه إلاّ الأمر ، وليس كذلك .
الثاني : أن « الهاء » بدل من الهمزة ، وأن الأصل « آتى » وزنه : أفعل مثل أكرم .
وهذا ليس بجيد لوجهين :
أحدهما : أن « آتى » يتعدى لاثنين ، وهاتي يتعدى لواحد فقط .
[ وثانيهما ] : أنه كان ينبغي أن تعود الألف المبدلة من الهمزة إلى أصلها [ الزوال ] موجب قلبها ، وهو الهمزة الأولى ، ولم يسمع ذلك .

الثالث : أن هذه « ها » التي للتنبيه دخلت على « أتى » ولزمتها ، وحذفت همزة أتى لزوماً ، وهذا مردود ، فإن معنى « هات » أحضر كذا ، ومعني ائت : احضر أنت ، فاختلاف المعنى يدلّ على اختلاف المادة .
فتحصل في « هَاتُوا » سعبة أقوال :
فعل ، أو اسم فعل ، أو اسم صوت ، والفعل هل ينصرف أو لا ينصرف؟ وهل هاؤه أصلية ، أو بدل من همزة ، أو هي هاء التنبيه زيدت وحذفت همزته؟
وأصل « هاتو » : « هاتيوا » ، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى سكنان فحذف أولهما ، وضم ما قبله لمُجَانسة « الواو » فصار « هاتوا » .
قوله تعالى : « بُرْهَانكُمْ » مفعول به .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : « البرهان » الدَّليل الذي يوقع اليقين ، وجمعه بَرَاهين ، مثل قُرْبَان وقرابين ، وسُلْطَان وسلآطين « .
واختلفوا فيه على قولين :
أحدهما : أنه مشتقّ من » البُرْهِ « وهو القطع ، وذلك أنه دليل يفيد العلم القطعي ، ومنه : بُرْهَة الزمان أي : القطعه منه ، فوزنه » فُعْلاَن « .
والثاني : أن نونه أصلية لثبوتها في بَرْهَنَ يُبَرْهِنُ بَرْهَنَةً ، والبَرْهَنَةُ البَيَانُ ، فبرهن فَعْلَلَ لا فَعْلَنَ ، لأن فَعْلَنَ غير موجود في أبنيتهمن فوزنه » فَعْلالَ « ؛ [ وعلى هذين القولين يترتب الخلاف في صَرْف » بُرْهَان « وعدمه ، إذا سُمَّيَ به .
ودلَّت الآية على أن الدَّليلَ على المدَّعِي ، سواءٌ ادَّعَى نفياً ، أو إثباتاً ، ودلَّتْ على بطلان القول بالتقليد؛ قال الشاعر : [ السريع ]
739 مَنِ ادَّعَى شَيْئاً بِلاَ شَاهِدِهْ ... لاَ بُدَّ أَنْ تَبْطُلَ دَعْوَاهُ ]
وقوله تعالى : { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } يعنى : في إيمانمم أي في قولكم : إنكم تدخلون الجنة ، أي : بينوا ما قلتم ببرهان .
قوله تعالى : » بَلَى « فيه وجوه :
الاول : أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة .
الثاني : أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهناً .
الثالث : كأنه قيل لهم : أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنَّة ، بل إن غيّرتم طريقتكم ، وأسلمتم وجهكم لله ، وأحسنتم فلكم الجنة ، فيكون ذلك تَرْغيباً لهم في الإسلام ، وبَيَاناً لمُفَارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يُقْلعوا عما هم عليه ، ويعدلوا إلى هذه الطريقة .
قوله تعالى : { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ } هو إسلام الفنس لطاعة الله تعالى ، وإنما خصّ الوجه بالذكر لوجوه :
أحدها : لأنه أشرف الأعظاء من حيث إنه مَعْدن الحواس والفكر والتخيّل [ ولذلك يقال : وَجْهُ الأَمْر ، أي معظمه؛ قال الأعشَى : [ السريع ]
740 أُؤَوِّلُ الحُكْمَ عَلَى وَجْهِهِ ... لَيْسَ قَضَائِي بِالهَوَى الجَائِرِ ]
فإذا تواضع الأشارف كان غير أولى .
وثانيها : أن الوجه قد يكنى به عن النفس ، قال الله تعالى

{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ، { إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى } [ الليل : 20 ] .
وثالثها : أن أعظم العبادات السجدة ، وهي إنما تحصل بالوجه ، فلا جرم خصّ الوجه بالذكر . [ ومعنى « أسلم » : خضع قال زيد بن عمرو بْن نُفَيْلٍ : [ المتقارب ]
741أ وَأَسْلَمُتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثِثالاً
741ب وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ المُزْنُ تَحْمِلُ عَذْباً زُلاَلاً
فيكون المراد هنا نفسه ، والأمر بإذلالها ، وأراد به نفس الشيء ، وذلك لايكون إلاَّ بانقياد الخضوع ، وبإذلال النَّفْس في طاعة الله عز وجل وتجنبها عن معاصيه ] .
ومعنى « لله » أي : خالصاً لله لا يشوبه شِرْك .
قوله تعالى : « وَهُوَ مُحْسِنٌ » جملة في محلّ نصب على حال [ والعامل فيها « أسلم » وهذه الحال حال مؤكدة لأن من « أسلم وجهه لله فهو محسن » ] .
وقال الزمخشري رحمه الله تعالى وهو مُحْسن له في عمله فتكون على رأيه مبيّنة؛ لأن من أسلم وجهه قسمان : محسن في عمله وغير محسن أنتهى .
قوله تعالى : « فله أجره » الفاء جواب الشرط إن قيل بأن « مَنْ » شرطية ، أو زائدة في الخبر إن قيل بأنها موصولة ، وقد تقدم تحقيق القولين عند قوله سبحانه وتعالى : { بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } [ البقرة : 81 ] وهذه نظير تلك فليلتفت إليها .
وهنا وجه آخر زائد ذكره الزمخشري ، وهو أن تكون « مَنْ » فعله بفعل محذوف أي : بلى يدخلها من أسلم ، و « فَلَهُ أَجْرُهُ » كلام معطوف على يدخلها هذا نصه .
و « لَهُ أَجْرُهُ » مبتدأ وخبره ، إما في محلّ جزم ، أو رفع على حسب ما تقدّم من الخلاف في « مَنْ » . وحمل على لفظ « مَنْ » فأفرد الضمير في قوله تعالى : { فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ } وعلى معناها ، فجمع في قوله : { عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ، وهذا أحسن التركيبين ، أعني البداءة بالحمل على اللفظ ثم الحمل على المعنى والحامل في « عند » ما تعلق به « له » من الاستقرار ، ولما أحال أجره عليه أضاف الظرف إلى لفظة « الرّب » لما فيها من الإشعار بالإصلاح والتدبير ، ولم يضفه إلى الضمير ، ولا إلى الجلالة ، فيقول : فله أجره عنده أو عند الله ، لما ذكرت لك ، وقد تقدم الكلام في قوله تعالى : { فَلاَ خَوْفٌ } [ البقرة : 38 ] بما فيه من القراءات .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

اليهودُ ملَّة معروفة ، والياء فيه أصلية لثبوتها في التَّصريف ، وليست من مادّة « هود » من قوله تعالى : { هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] وقد تقدم أن الفراء رحمه الله يدعي أن « هُوداً » أصله : يَهُود ، فحذفه ياؤه ، وتقدم أيضاً عند قوله تعالى : { والذين هَادُواْ } [ البقرة : 62 ] أن اليهود نسبة ل « يهوذا بن يَعْقُوب » .
وقال الشَّلَوبِينُ : يهود فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون جمع يَهُودِيّ ، فتكون نكرة مصروفةً .
والثاني : أن تكون عَلَماً لهذه القبيلة ، فتكون ممنوعةً من الصرف . انتهى . ، وعلى الأول دخلت الألف واللام ، وعلى الثاني قوله : [ الطويل ]
742 أُولَئِكَ أَوْلَى مِنْ بِمِدْحَةٍ ... إِذَا أَنْتَ يَوْماً قُلْتَهَا لَمْ تُؤَنَّبِ
وقال آخر : [ الكامل ]
743 فَرّت يَهُودُ وَأَسْلَمَتْ حِيرَانُهَا .. . .
ولو قيل بأن « يهود » منقول من الفعل المُضَارع نحو : يزيد ويشكر الكان قَوْلاً حسناً . ويؤيده قولهم : سمّوا يهوداً لاشتقاقهم من هَادَ يَهُودُ إذا تحرك .
قوله تعالى : « لَيْسَت النَّصَارَى » « ليس » فعل ناقص أبداً من أخوات « كان » ولا يتصرف ، ووزنه على « فَعِل » بكسر الين ، كان من حق فائه أن تكسر إذا أسند إلى تاء المتكلم ونحوها على الياء مثل : شئت ، إلا أنه لما لم ينصرف بقيت « الفاء » على حالها .
وقال بعضهم : « ليست » بضم الفاء ، ووزنه على هذه اللغة : فَعُل بضم العين ، ومجيء فَعُل بضمّ العين فيما عينه ياء نادر ، لم يجىء منه إلاَّ « هيؤ الرجل » ، إذا حسنت هيئته .
وكون « ليس » فعلاً هو الصحيح خلافاً للفارسي في أحد قوليه ، ومن تابعه في جعلها حرفاً ك « ما » كما قيل ويدلّ على فعليتها اتصال ضمائر الرَّفْع البارزة بها ، ولها أحكام كثيرة ، و « النَّصَارى » اسمها ، و « عَلَى شَيْءٍ » خبرها ، وهذا يحتمل أن يكون مما حذفت فيه الصفة ، أي على شيء معتدّ به كقوله سبحانه وتعالى : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 46 ] أي : أهلك الناجين ، وقوله : [ الطويل ]
744 .. لَقَدْ وَقَعْتِ عَلَى لَحْمِ
أي : لحم عظيم ، وأن يكون نفياً على سبيل المُبَالغة ، فإذا نفى إطلاق الشيء على ما هم عليه ، مع أن الشيء يُطْلق على المعدوم عند بعضهم كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد به ، وصار كقوله : « أقل من لا شيء » .
فصل في سبب نزول هذه الآية
روي أن وقد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهودن فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم ، فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدين ، وكفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل .
وقالت النصارى لهم نحوه ، كفروا بموسى عليه السَّلام والتوراة ، فأنزل الله هذه الآية .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75