كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

فإن قيل : أنكرتْ عائشة وغيرها ذلك ، وقالت لما ذكر لها حديث ابن عمر : يغفر الله لأبي عبد الرَّحمن ، أما إنَّهُ لمْ يكذبْ ولكنَّه نَسِيَ أو أخطأ إنَّما مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إنَّهُمْ لَيبْكُونَ عَليْهَا وإنَّها لتُعذَّبُ في قَبْرهَا » متَّفقٌ عليه .
ولمُسْلم : إنَّما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرِ يهوديٍّ ، فقال : « إنَّه ليُعذَّبُ بِخَطيئَتِه أو بِذنْبهِ ، وإنَّ أهلَهُ ليَبْكُونَ عليْهِ الآنَ » .
وفي رواية متَّفق عليها : إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ الله ليَزيدُ الكافر عذاباً بِبُكاءِ أهْلهِ عليْهِ » وقالت : حسبكمُ القُرآنُ { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الإسراء : 15 ] وقال بعض العلماء : إنَّما هذا فيمن أوصى أن يناح عليه كما كان أهل الجاهليَّة .
والجواب أنه يجب قبول أن الحديث لا يمكن ردُّه؛ لثبوته وإقرار أعيان الصَّحابة له على ظاهره .
وعائشة - رضي الله عنها - لم تخبر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نفى ذلك ، وإنَّما تأوَّلتْ على ظاهر القرآن ، ومن أثبت وسمع حجة على من نفى وأنكر .
وظاهر القرآن لا حجَّة فيه؛ لأنَّ الله - تعالى - نفى أن يحمل أحد من ذنب غيره شيئاً ، والميِّتُ لا يحمل من ذنب النائحة شيئاً ، بل إثمُ النَّوح عليها ، وهو قد يعذَّب من جهة أخرى بطريق نوحها ، كمن سنَّ سنَّة سيئة ، مع من عمل بها ، ومن دعا إلى ضلالة ، مع من أجابه .
والحديث الذي روتهُ حديثٌ آخر لا يجوز أن يردَّ به خبر الصَّادق؛ لأنَّ القوم قد يشهدون كثيراً ممَّا لا تشهد ، مع أنَّ روايتها تحقِّق ذلك الحديث؛ فإنَّ الله - تعالى - إذا جاز أن يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله ، جاز أن يعذِّب الميت ابتداء ببكاء أهله .
ثم في حديث ابن رواحة وغيره ممَّا تقدَّم ما ينصُّ على أن ذلك في المسلم؛ فإنَّ ابن رواحة كان مسلماً ، ولم يوص بذلك ، ثمَّ إنَّ الصحابة الذين رووه ، لو فهموا منه الموصي ، لما عجبوا منه ، وأنكره من أنكره؛ فإنَّ من المعلوم أنَّ من أمر بمنكرٍ ، كان عليه إثمه ، ولو كان ذلك خاصًّا بالموصِي ، لما خص بالنَّوح ، دون غيره من المنكراتِ ، ولا بالنَّوح على نفسه ، دون غيره من الأموات .
وق لبعض العلماء : لمَّا كان الغالب على النَّاس النَّوح على الميِّت ، وهو من أمور الجاهليَّة التي لا يدعونها في الاسلام ، ولا يتناهى عنها أكثر النَّاس خرِّج الحديث على الأعمِّ الأغلب فيمن لم ينه عن النَّائحة ، وهي عادة النَّاس ، فيكون تركهُ للنَّهي مع غلبةِ ظنِّه بأنَّها تفعل إقراراً للمنكرِ وتركاً لإنكاره ، فيعذب على ما تركه من الإنكار ، ورضي به من المنكر ، وأما من نهى عنه ، وعصي أمره ، فالله أكرم من أن يعذِّبه .

قال ابن تيمية : وهذا قريبٌ . وأجود منه ، إن شاء الله - تعالى - أن العذاب على قسمين :
أحدهما : ألمٌ وأذى يلحقُ الميِّت بسبب غيره ، وإن لم يكن من فعله؛ كما يلحق أهل القبُور من الأذى بمجاورة الجارِ السيّئ ، وبالأعمال القبيحة عند القبور ، والجلوس على القبر ، أو التغوُّط عليه ، إلى غير ذلك من الأشياء التي يتألَّم الإنسانُ بها حيًّا وميتاً ، وإن لم تكن من فعله . فهذا الميِّت لما عصي الله بسببه ، ونيح عليه ، لحقهُ عذابٌ وألمٌ من هذه المعصية .
قال القاضي : سُئِلتُ عن ميِّتٍ دفن في داره ، وبقُربِ قبره أولاد يشربون ويستعملون آلة اللَّهْو ، هل يتأذَّى الميِّت؟ .
فأجبت : أنَّه يتأذَّى .
وروى بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ المَيِّتَ يُؤذِيهِ في قَبْرهِ ما يُؤذِيهِ في بَيْتهِ » .
وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : إذا مات لأحدكم الميِّت ، فأحسنوا كفنه ، وعجَّلوا إنفاذ وصيته ، وأعمقوا له في قبره ، وجنِّبُوهُ جار السَّوءِ .
قيل : يا رسُول الله : وهَلْ يَنفَعُ الجَارُ الصَّالحُ في الآخرة؟ قال : وهَلْ يَنْفَعُ في الدُّنيا؟ قالوا : نَعَمْ ، قال : وكَذلِكَ يَنْفَعُهُ في الآخِرَةِ .
الثاني : أنَّ طبع البشر يُحِبُّ في حياته أن يبكى عليه بعد موته؛ لما فيه من الشَّرف والذِّكر ، كما يحبُّ أن يثنى عليه ، ويذكر بما يحبُّ ، وكما يحبُّ أن يكون المالُ والسلطان لعقبه ، وإن أيقن أنَّه لا لذَّة له بذلك بعد الموت ، فعوقب بنقيض هذه الإرادة من عذاب النَّوح والبكاء؛ ليعلم النَّاس بذلك ، فيتناهون عن هذه أو يكرهونه ، فمن لم يكره النَّوح والبكاء ، فهو باقٍ على موجب طبعه ، ومن كرهه ، كانت تلك الكراهةُ مانعة من لُحوقِ الذمِّ به .
الثالث : قال القاضي : دلَّت هذه الآية على أنَّ الوزْرَ والإثم ليس من فعل الله - تعالى - ، وذلك من وجوهٍ :
أحدها : أنه لو كان كذلك ، لامتنع أن يؤاخذ العبد به ، كما لا يؤاخذ بوزْرِ غيره .
وثانيها : أنَّه كان يحبُّ ارتفاع الوِزْرِ أصلاً؛ لأنَّ الوزر إنَّما يصحُّ أن يوصف بذلك ، إذا ك ان مختاراً يمكنه التحرُّز ، ولهذا المعنى لا يوصف الصَّبيُّ بذلك .
الرابع : أن جماعة من الفقهاء المتقدِّمين امتنعوا من ضرب الدِّية على العاقلة ، قالوا : لأنَّ ذلك يفضي إلى مؤاخذة الإنسان بفعل الغير ، وذلك مضادٌ لهذه الآية .
ونجيب عنها بأنَّ المخطئ [ غير مؤاخذٍ ] على ذلك الفعل ، فكيف يصير غيره مؤاخذاً بسبب ذلك الفعل ، بل ذلك تكليفٌ واقعٌ ابتداءً من الله تعالى .

ثم قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } .
إقامة للحجَّة وقطعاً للعذر .
واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّ وجوب شكر النِّعم لا يثبت بالعقل ، بل بالسمع؛ كقوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } .
وذلك لأنَّ الوجوب لا يتقرَّر إلاَّ بترتيب العقاب على التَّرك ، ولا عقاب قبل الشَّرع بهذه الآية ، وبقوله تعالى : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } [ النساء : 165 ] .
وقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى } [ طه : 134 ] .
ولقائل أن يقول : هذا الاستدلالُ ضعيف من وجهين :
الأول : أنه لو لم يثبت الوجوب العقليُّ ، لم يثبت الوجوب الشرعيُّ ألبتة ، وهذا باطل .
فذلك باطل ، وبيان الملازمة من وجوهٍ :
أنه إذا جاء الشَّارع ، وادعى كونه نبيًّا من عند الله - تعالى - وأظهر المعجزة ، فهل يجب على المستمع استماعُ قوله ، والتأمُّل في معجزاته ، أو لا يجب؟ .
فإن وجب بالعقل ، فقد ثبت الوجوب العقليُّ ، وإن وجب بالشَّرع ، فهو باطلٌ؛ لأنَّ ذلك الشارع إمَّا أن يكون هو ذلك المدَّعي أو غيره ، والأول باطلٌ؛ لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أنَّ ذلك الرجل يقول : الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقوله . وهذا إثبات للشيء بنفسه ، وإن كان الشَّارع غيره ، كان الكلام كما في الأول ، ولزم الدَّور والتَّسلسل ، وهما محالان .
وثانيها : أنَّ الشَّارع ، إذا جاء ، وأوجب بعض الأفعال ، وحرَّم بعضها ، فلا معنى للإيجاب أو التَّحريم إلا أن يقول : إن تركت كذا ، أو فعلت كذا ، عاقبتك ، فنقول : إمَّا أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب ، وذلك الاحترازُ إمَّا أن يجب بالعقل ، أو بالسَّمع ، فإن وجب بالعقل ، فهو المقصود ، وإن وجب بالسَّمع ، لم يتقرَّر معنى هذا الوجوب إلاَّ بسبب ترتيب العقاب عليه ، وحينئذٍ يعود التقسيمُ الأول ، ويلزم التسلسل .
وثالثها : أنَّ مذهب أهل السنَّة أنه يجوز من الله - تعالى - أن يعفو عن العقاب على ترك الواجب ، وإذا كان كذلك ماهية الوجوب حاصلة ، مع عدم العقاب ، فلم يبق إلاَّ أن يقال : ماهية الوجوب إنَّما تتقرَّر بسبب حصول الخوف من الذَّم والعاقب؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّ الوجوب العقلي لا يمكن دفعه ، وإذا ثبت هذا فنقول : في الآية قولان :
الأول : أن نجري الآية على ظاهرها ، ونقول : العقل هو رسول الله إلى الخلق ، بل هو الرسول الذي لولاه ، لما تقررت رسالةُ أحدٍ من الرُّسل .
فالعقل هو الرسول الأصليُّ ، فكان معنى الآية : حتى نبعث رسولاً؛ أي رسول العقل .
والثاني : أن نخصِّص عموم الآية ، فنقول : المراد وما كنا معذِّبين حتَّى نبعث رسولاً أي رسول العقل في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلاَّ بالشَّرع لا بعد مجيء الشرع ، وتخصيص العموم وإن كان عدولاً عن الظاهر إلاَّ أنه يجب المصير إليه عند قيام الدَّلالة ، وقد بينا قيام الدلائل الثلثة على أنا لو نفينا الوجوب العقلي ، لزمنا نفي الوجوب الشرعيِّ .
قال ابن الخطيب : والذي نذهبُ إليه : أن مجرَّد العقل يدلُّ على أنه يجب علينا فعل ما ينتفع به ، وتركُ ما يتضرَّر به؛ لأنَّا مجبولون على طلب النفع ، والهرب من الضَّرر ، فلا جرم : كان العقل وحده كافياً في الوجوب في حقِّنا ، أما مجرد العقل فلا يدل على أنه يجب على الله تعالى شيء ، وذلك لأنه منزَّه عن طلب النفع ، والهرب من الضَّرر ، فامتنع أن يحكم العقل عليه بوجوب فعلٍ أو تركه .

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)

قرأ العامَّةُ « أمَرْنَا » بالقصر والتخفيف ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه من الأمرِ الذي هو ضدُّ النهي ، ثم اختلف القائلون بذلك في متعلق هذا لأمر ، فعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - في آخرين : أنه أمرناهم بالطاعة ، ففسقوا ، وقد ردَّ هذا الزمخشريُّ ردًّا شديداً ، وأنكره إنكاراً بليغاً في كلام طويل ، حاصله : أنه حذف ما لا دليل عليه ، وقدَّر هو متعلق الأمر : الفسق ، أي : أمرناهم بالفسق ، قال : « أي : أمرناهم بالفسق ، فعملوا ، لأنه يقال : أمَرْتهُ ، فقام ، وأمرته ، فقرأ ، وهذا لا يفهم منه إلا أنَّ المأمور به قيامٌ أو قراءة ، فكذا هاهنا ، لمَّا قال : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } .
وجب أن يكون المعنى : أمرناهم بالفسق ، ففسقوا ، ولا يقال : هذا يشكل بقوله : أمرتهُ فعصَانِي ، أو فَخالفَنِي؛ فإنَّ هذا لا يفهم منه إلاَّ أنَّ المأمور به قيامٌ أو قراءةٌ ، فكذا هاهنا ، كما قال : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيها ، فَفَسَقُوا فِيهَا } . وجب أن يكون المعنى : أمرناهُمْ بالفسق ، ففسقُوا ، ولا يقال : هذا يُشكل بقوله : أمرتُهُ فعصاني ، أو فخالفني؛ فإنَّ هذا لا يُفهم منه أنِّي امرتُهُ بالمعصية ، والمخالفةِ؛ لأنَّ المعصية مُخَالفةٌ للأمْرِ ، ومُناقِضَةٌ له ، فيكونُ كونها مأموراً بها محالاً .
فلهذا الضرورة تركنا هذا الظَّاهر ، وقلنا : الأمر مجازٌ؛ لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم : افسقوا ، وهذا لا يكون ، فبقي أن يكون مجازاً ، ووجه المجازِ : أنه صبَّ عليهم النعمة صبًّا ، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي ، واتِّباع الشَّهوات ، فكأنَّهم مأمورون بذلك؛ لتسبُّبِ إيلاءِ النِّعمةِ فيه ، وإنما خوَّلهم فيها ليشكروا » .
ثم قال : « فإن قلت : فهلاَّ زعمت أنَّ معناه : أمرناهم بالطَّاعة ففسقوا؟ قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائزٍ ، فكيف حذف ما الدليل قائمٌ على نقيضه؟ وذلك أنَّ المأمور به ، إنَّما حذف لأنَّ » فَفَسقُوا « يدلُّ عليه ، وهو كلامٌ مستفيضٌ؛ يقال : » أمَرْتُه ، فقَامَ « و » أمَرتهُ فَقَرأ « لا يفهم منه إلاَّ أن المأمور به قيامٌ أو قراءةٌ ، ولو ذهبت تقدِّر غيره ، رمت من مخاطبك علم الغيب ، ولا يلزم [ على ] هذا قولهم : أمَرتهُ ، فعصَانِي » أو فَلمْ يَمْتثِلْ « لأنَّ ذلك منافٍ للأمر مناقضٌ له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به ، فكان محالاً أن يقصد أصلاً؛ حتّى يجعل دالاًّ على المأمور به ، فكان المأمور به في هذا الكلام غير منويٍّ ، ولا مراد؛ لأن من يتكلَّم بهذا الكلام لا ينوي لأمره مأموراً به؛ فكأنَّه يقول : كان منِّي أمر ، فكان منه طاعة ، كما أنَّ من يقول : » فلانٌ يأمر وينهى ، ويعطي ويمنع « لا يقصد مفعولاً .
فإن قلت : هلاَّ كان ثبوت العلم بأنَّ الله لا يأمر بالفحشاءِ دليلاً على أن المراد : أمرناهم بالخيرِ؟ .

قلت : لأنَّ قوله « فَفسَقوا » يدافعه؛ فكأنك أظهرت شيئاً ، وأنت تضمر خلافه ، ونظير « أمَرَ » : « شاء » في أن مفعوله استفاض حذف مفعوله؛ لدلالةِ ما بعده عليه؛ تقول : لو شاء ، لأحسن إليك ، ولو شاء ، لأساء إليك ، تريد : لو شاء الإحسان ، ولو شاء الإساءة ، ولو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت ، وقلت : قد دلَّتْ حال من أسندت إليه المشيئةُ أنه من أهلِ الإحسان ، أو من أهل الإساءةِ ، فاتركِ الظاهر المنطوق ، وأضمر ما دلت عليه حالُ المسند إليه المشيئةُ ، لم تكن على سدادٍ « .
وتتَّبعه أبو حيَّان في هذا ، فقال : أمَّا ما ارتكبه من المجاز ، فبعيد جدًّا ، وأما قوله : » لأنَّ حذف ما لا دليل عليه غير جائزْ « فتعليلٌ لا يصح فيما نحن بسبيله ، بل ثمَّ ما يدل على حذفه ، وقوله : » فكيف يحذف ما الدليل على نقيضه قائمٌ « إلى » علم الغيب « فنقول : حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقه عليه ، ومنه ما مثَّل به في قوله » أمَرْتهُ ، فقَامَ « ، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضدِّه ، أو نقيضه؛ كقوله تعالى : { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار } [ الأنعام : 13 ] أي : ما سكن وتحرَّك ، وقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، أي : والبرد ، وقول الشاعر : [ الوافر ]
3391- ومَا أدْرِي إذا يَمَّمْتُ أرْضاً ... أريدُ الخَيْرَ أيُّهُمَا يَلِينِي
أألْخَيْرُ الَّذي أنَا أبْتَغيهِ ... أم الشَّرُّ الذي هُوَ يَبْتَغينِي
أي : وأجْتنِبُ الشَّر ، وتقول : » أمَرتهُ ، فلمْ يُحْسِنْ « فليس المعنى : أمرته بعدم الإحسان ، بل المعنى : أمرته بالإحسانِ ، فلم يحسِن ، والآية من هذا القبيل ، يستدلُّ على حذف النَّقيضِ بنقيضه ، كما يستدلُّ على حذلف النظير بنظيره ، وكذلك : » أمَرْتهُ ، فأسَاءَ إليَّ « ليس المعنى : أمَرْتهُ بالإساءة ، بل أمرته بالإحسان ، وقوله : » ولا يَلزَمُ هذا قولهم :
أمَرْتهُ فعَصانِي « نقول : بل يلزمُ ، وقوله » لأنَّ ذلك منافٍ « أي : لأنَّ العصيانَ منافٍ ، وهو كلامٌ صحيح ، وقوله : » فكان المأمورُ به غير مدلُولٍ عليه ولا مَنْوي « لا يسلَّم بل مدلولٌ عليه ومنويٌّ لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض؛ كما بيَّنا ، وقوله : » لا يَنوِي مأموراً به « لا يلسَّم ، وقوله » لأنَّ « فَفَسقُوا » يدافعه ، إلى آخره « قلنا : نعم ، نوى شيئاً ، ويظهر خلافه؛ لأنَّ نقيضه يدل عليه ، وقوله : ونظير » أمَرَ « » شَاءَ « ليس نظيره؛ لأن مفعول » أمَرَ « كثر التصريح به . قال سبحانه جل ذكره : { إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء } [ الأعراف : 28 ] { أَمَرَ رَبِّي بالقسط } [ الأعراف : 29 ] { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ } [ الطور : 32 ] ، وقال الشاعر : [ البسيط ]
3392- أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أمِرْتَ بِهِ .. . .
قال شهاب الدين رحمه الله : والشيخ ردَّ عليه ردَّ مستريحٍ من النَّظرِ ، ولولا خوفُ السآمةِ على الناظرِ ، لكان للنظر في كلامهما مجالٌ .

قال ابن الخطيب : ولقائلٍ أن يقول : كما أنَّ قوله : « أمَرْتُهُ » ، فَعصَانِي « يدلُّ على أن المأمور به شيءٌ غير المعصية من حيث إنَّ المعصية منافية للأمر مناقضةٌ له ، فكذلك قوله : أمرته ففسق يدلُّ أنَّ المأمور به شيء غير الفسقِ؛ لأن الفسقَ عبارةٌ عن الإتيان
بضدِّ المأمور به ، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به ، كما أنَّ كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها؛ فوجب أن يدلَّ هذا اللفظ على أنَّ المأمور به ليس بفسقٍ ، وهذا في غاية الظهور .
الوجه الثاني : أنَّ » أمَرْنَا « بمعنى كَثَّرْنَا قال الواحديُّ : العرب تقول : أَمِرَ القومُ : إذا أكثروا . ولم يرض به الزمخشريُّ في ظاهر عبارته ، فإنه قال : وفسَّر بعضهم » أمَرْنَا « ب » كَثَّرْنَا « وجعله من باب : » فعَّلتُه ، فَفَعَلَ « ك » ثَبَّرْتُهُ فَثَبَر « . وفي الحديث : » خَيْرُ المَالِ سكَّة مَأبورةٌ ، ومُهرةٌ مَأمُورةٌ « ، أي : كثيرة النِّتاجِ . وقد حكى أبو حاتم هذه اللغة ، يقال : أمِرَ القوم ، وأمرهم الله ، ونقله الواحديُّ عن أهل اللغة ، وقال أبو عليٍّ : » الجيِّدُ في « أمَرْنَا » أن يكون بمعنى « كَثَّرْنَا » واستدلَّ أبو عبيدة بما جاء في الحديث ، فذكره؛ يقال : أمر الله المهرة ، أي : كثَّر ولدها ، قال : « ومَنْ أنكر » أمَرَ الله القومَ « أي : كثَّرهم [ لم يلتفت إليه؛ لثبوت ذلك لغة » ويكونُ ممَّا لزم وتعدى بالحركةِ المختلفة؛ إذ يقال : أمر القوم ، كثروا ، وأمرهم الله : كثَّرهُمْ ] ، وهو من باب المطاوعة : أمرهم الله ، فأتمروا ، كقولك : شَتَرَ اله عينهُ ، فَشتِرَتْ ، وجدعَ أنْفَهُ فجَدِعَ ، وثلمَ سنَّهُ ، فثَلِمَتْ .
وقرأ الحسن ، ويحيى بن يعمر ، وعكرمة « أمِرْنَا » بكسر الميم؛ بمعنى « أمَرْنَا » بالفتح ، حكى أبو حاتم ، عن أبي زيدٍ : أنه يقال : « أمَرَ الله [ مالهُ ، ] وأمِره » بفتح الميم وكسرها ، وقد ردَّ الفراء وهذه القراءة ، ولا يلتفت لردِّه؛ لثبوتها لغة بنقل العدولِ ، وقد نقلها قراءة عن ابن عبَّاس أبو جعفر ، وأبو الفضل الرازيُّ في « لَوامحهِ » فكيف تردُّ؟ .
وقرأ عليُّ بن أبي طالب ، وابن أبي إسحاق وأبو رجاء - رضي الله عنهم - في آخرين « آمَرْنَا » بالمدِّ ، ورُويتْ هذه قراءة عن ابن كثير وأبي عمرو ، وعاصم ونافع ، واختارها يعقوب ، والهمزة فيه للتعدية .
وقرأ عليٌّ أيضاً ، وابن عباس ، وأبو عثمان النهديُّ : « أمَّرْنَا » بالتشديد ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّ التضعيف للتعدية ، عدَّاه تارة بالهمزة ، وأخرى بتضعيف العين ، كأخرجته وخرَّجته .
والثاني : أنه بمعنى جعلناهم أمراء ، واللازم من ذلك « أمِّرَ » ق لالفارسي : « لا وجه لكون » أمَّرنَا « من الإمارة؛ لأنَّ رئاستهم لا تكون إلاَّ لواحد بعد واحد ، والإهلاكُ إنَّما يكون في مدَّة واحدةٍ » . ورُدَّ على الفارسي : بأنَّا لا نسلم أنَّ الأمير هو الملكُ؛ حتى يلزم المترف إذا ملك ، ففسق ، ثم كذلك ، كثر الفساد ، ونزل بهم على الآخر من ملوكهم العذاب ، واختار أبو عبيدة قراءة العامة وقال : فإنَّ المعاني الثلاثة تجتمع فيها ، يعني : المر ، والإمارة ، والكثير .

المترف في اللغة : المُنَعَّم ، والغنيُّ : الَّذي قد أبطرته النِّعمة ، وسعةُ العيش .
قوله تعالى : { فَفَسَقُواْ فِيهَا } أي : خرجوا عمَّا أمرهم الله .
{ فَحَقَّ عَلَيْهَا القول } : أي : وجب عليها العذاب .
{ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } أي : خرَّبناها ، وأهلكنا من فيها ، وهذا كالتقرير ، لقوله - تعالى- : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] . وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً } [ القصص : 59 ] .
فصل في الاحتجاج لأهل السنة
استدلَّ أهل السنة بهذه الآية على صحَّة مذهبهم من وجوه :
الأول : أنَّ ظاهر الآية يدل على أنَّه تعالى أراد إهلاكهم ابتداء ، ثم توسَّل إلى إهلاكهم بهذا الطريق؛ وهذا يدلُّ على أنَّه - تعالى - إنما خصَّ المترفين بذلك الأمر لعلمه بأنَّهم يفسقون ، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى أراد منهم الفسقَ .
الثالث : أنه - تعالى - قال : { فَحَقَّ عَلَيْهَا القول } أي : حقَّ عليها القول بالتَّعذيب والكفر ، ومتى حقَّ عليها القول بذلك ، امتنع صدور الإيمان منهم؛ لأنَّ ذلك لا يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً ، وذلك محالٌ ، والمفضي إلى المحال محالٌ .
قال الكعبيُّ - رحمه الله - إنَّ سائر الآيات دلَّت على أنَّه - تعالى - لا يبتدئ بالتعذي والإهلاك؛ لقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد : 11 ] . وقوله عزَّ وجلَّ : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } [ النساء : 147 ] وقوله - عز ذكره : { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [ القصص : 59 ] .
وكلُّ هذه الآيات تدل على أنَّه لا يبتدئ بالإضرار ، وأيضاً : ما قبل هذه الآية يدلُّ على هذا المعنى ، وهو قوله - تعالى- : { مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الإسراء : 15 ] .
ومن المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض؛ فثبت أنَّ هذه الآيات محكمة ، والآيات التي نحن في تفسيرها مجملة؛ فيجب حمل هذه الآية علىتلك الآيات .
واعلم أنَّ أحسن الناس كلاماً في تأويل هذه الآية على وجه يوافق قول المعتزلة : « القَفَّالُ » - رحمه الله تعالى - فإنه ذكر وجهين :
الأول : أنه - تعالى - أخبر أنَّه لا يعذِّب أحداً بما يعلمه منه ، ما لم يعمل به أي : لا يجعل علمه حجَّة على من علم أنَّه إذا أمره عصاه ، بل يأمره ، فإذا ظهر عصيانه للنَّاس ، فحينئذٍ يعاقبه .
وقوله - تعالى- : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } .
معناه : وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم بظهور معاصيهم ، فحينئذ { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } . أي : أمرنا المنعَّمينَ فيها المتعزّزين الظَّانين أن أموالهم وأولادهم وأنصارهم تردُّ عنهم بأسنا بالإيمان والعمل بشرائع ديني ، على ما يبلّغهم عنّي رسولي ، ففسقوا ، فحينئذ يحقُّ عليهم القضاء السابق بإهلاكهم ، لظهور معاصيهم ، فحينئذ أدمِّرُها .

والحاصل : أن المعنى : وإذا اردنا أن نهلك قرية بسبب علمنا بأنهم لا يقدمون إلا على المعصية لم نكتف [ في تحقيق ] ذلك الإهلاك بمجرَّد ذلك العلم ، بل أمرنا مترفيها ، ففسقوا ، فإذا ظهر منهم ذلك الفسق ، فحينئذ نوقع العذاب الموعود به .
الوجه الثاني : أنَّ التأويل : وإن أردنا أن نهلك قرية بسبب ظهور المعاصي من أهلها ، لم نعاجلهم بالعذاب في أوَّل ظهور المعاصي بينهم ، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي .
وإنَّما خصَّ المترفين بذلك الأمر؛ لأنَّ المترف هو المنعَّم ، ومن كثرت نعمة الله عليه ، كان قيامه بالشُّكر أوجب ، فإذا أمرهم بالتوبة والرجوع عن المعاصي مرة بعد أخرى ، مع أنه لا يقطع عنهم تلك النِّعم ، بل يزيدها حالاً بعد حالٍ ، فحينئذ يظهر عنادهم وتمرُّدهم وبعدهم عن الرجوع عن الباطل إلى الحقِّ ، فحينئذ يصبُّ الله البلاء عليهم صباً . ثم قال القلال - رحمه الله- : وهذان التأويلان راجعان إلى أنَّ الله - تعالى - أخبر عن عباده أنَّه لا يعاجل بالعقوبة أمة ظالمة؛ حتى يعذر إليهم غاية الإعذار ، الذي يقع منه اليأس من إيمانهم ، كما قال - تعالى - في قوم نوح - عليه السلام- : { وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [ نوح : 27 ] ، وقال عزَّ وجلَّ : { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] وقال تعالى في غيرهم : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } [ الأعراف : 101 ] فأخبر الله تعالى عنهم أولاً أنَّه لا يظهر العذاب إلاَّ بعد بعثة الرسل ، ثم أخبر ثانياً في هذه الآية : أنه - تعالى - إذا بعث الرسل أيضاً ، فكذِّبوا ، لم يعاجلهم بالعذاب ، بل يتابع عليهم النصائح والمواعظ ، فإن بقوا مصرِّين ، فهناك ينزل عليهم عذاب الاستئصال .
وأجاب الجبائيُّ فقال : ليس المراد من الآية أنَّه تعالى يريد إهلاكهم قبل أن يعصوا ويستحقُّوا ذلك؛ لأنَّه لا يظلم ، وهو على الله محالٌ ، بل المراد من الإرادة قرب تلك الحالة ، فكان التقدير : وإذا قرب وقت إهلاكِ قريةٍ أمرنا مترفيها ، ففسقوا فيها ، وهو كقول القائل : إذا أراد المريض أن يموت ازدادت أمراضه شدَّة ، وإذا أراد التَّجر أن يفتقر أتاه الخسران من كلِّ جهةٍ ، وليس المراد أنَّ المريض يريدُ أن يموت على الذُّنوب ، والتَّاجر يريد أن يفتقر ، وإنَّما يعنون أنه سيصير كذلك؛ فكذا هاهنا .
واعلم أنَّ هذه الوجوه جواب عن الوجه الأوَّل من الوجوه الثلاثة المتقدمة في التمسُّك بهذه الآية ، وكلها عدول عن ظاهر اللفظ ، وأما الوجه الثاني والثالث فبقي سليماً عن الطَّعن .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)

والمراد منه أنَّ الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون ، ويتمرَّدون فيما تقدم من القرون الذين كانوا بعد نوح؛ حادٍ وثمود ، وغيرهم ، ثم إنه - تعالى - خاطب رسوله - صلوات الله عليه - بما يكون خطاباً وردعاً وزجراً للكُلِّ ، فقال جلَّ ذكره : { وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } وهذا تخويف لكفَّار « مكَّة » .
و « كَمْ » نصب بأهلكنا ، و « مِنَ القُرونِ » تمييزٌ ل « كَمْ » و « مِن بَعدِ نُوح » : « مِنْ » لابتداء الغاية ، والأولى للبيان ، فلذلك اتَّحدَ متعلقهما ، وقال الحوفيُّ : « الثانية بدلٌ من الأولى » ، وليس كذلك؛ لاختلاف معنييهما ، والباء بعد « كَفَى » تقدم الكلام عليها ، وقال ابن عطيَّة : « إنما يجاءُ بهذه الباء في موضع مدحٍ أو ذمٍّ » والباء في « بِذنُوب » متعلقة ب « خَبِيراً » وعلَّقها الحوفيُّ ب « كَفَى » .
قال افراء - رحمه الله- : لو ألغيت الباء؛ من قوله : « بربِّكَ » جاز ، وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدحٌ به أو يذمُّ؛ كقولك : كفاك به ، وأكرم به رجلاً ، وطاب بطعامك طعاماً ، وجاد بثوبك ثوباً .
أما إذا لم يكن مدحاً أو ذمًّا ، لم يجز دخولها ، فلا يجوز أن يقال : « قَامَ بِأخيكَ » وأنت تريد : « قَامَ أخُوكَ » .
فصل في مقدار القرن
قال عبد الله بن أبي أوفى : القرنُ : عشرون ومائة سنة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّل قرنٍ ، وكان آخره يزيد بن معاوية ، وقيل : مائة سنة .
رُوِيَ عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بسرٍ المازنيّ : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه ، وقال : « سَيعيشُ هذا الغُلام قَرْناً » وقال محمد بن القاسم - رضي الله عنه - : فما زلنا نعدُّ له؛ حتَّى تمت له مائة سنة ، ثمَّ مات .
وقال الكلبيُّ : ثمانون سنة .
وقيل : أربعون سنة .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)

قوله - تعالى- : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ } الآية .
« مَنْ » شرطية ، و « عَجَّلنا » جوابها ، و « ما يشاءُ » مفعولها ، و « لِمنْ نُريد » بدل بعضٍ من كلٍّ ، من الضمير في « لَهُ » بإعادة العامل ، و « لِمَنْ نُريد » تقديره : لمن نريد تعجيله له .
[ قوله : ] « ثُمَّ جَعلنَا لهُ جهنَّم » « جَعلَ » هنا تصييرية .
وقوله : « يَصْلاهَا » الجملة حال : إمَّا من الضمير في « لَهُ » وإمَّا من « جَهَنَّم » و « مَذمُوماً » حال من فاعل « يَصْلاها » قيل : وفي الكلام حذف ، وهو حذف المقابل؛ إذ الأصل : من كان يريد العاجلة ، وسعى لها سعيها ، وهو كافرٌ لدلالةِ ما بعده عليه ، وقيل : بل الأصل : من كان يريد العاجلة بعمله للآخرة كالمنافق .
ومعنى « يَصْلاهَا » : يدخلها .
« مَذمُوماً » : مطروداً ، « مَدْحُوراً » : مُبْعَداً .
وقوله : « سَعْيَهَا » : فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به؛ لأنَّ المعنى : وعمل لها عملها .
والثاني : أنه مصدر ، و « لهَا » أي : من أجلها .
والجملة من قوله : « وهو مُؤمِنٌ » هذه الجملة حال من فاعل « سَعَى » .
قوله تعالى : { كُلاًّ نُّمِدُّ } : « كُلاًّ » منصوب ب « نُمِدُّ » و « هؤلاء » بدل ، « وهؤلاءِ : عطف عليه ، أي : كلَّ فريق نمدُّ هؤلاء الساعين بالعاجلة ، وهؤلاء الساعين للآخرة ، وهذا تقدير جيدٌ ، وقال الزمخشري في تقديره : » كلَّ واحدٍ من الفريقين [ نُمِدُّ ] « . قال أبو حيان : » كذا قدَّره الزمخشري ، وأعربوا « هؤلاءِ » بدلاً من « كُلاًّ » ولا يصح أن يكون بدلاً مِنْ « كل » على تقدير : كلَّ واحدٍ؛ لأنَّه إذ ذاك بدل كلٍّ من بعضٍ ، فينبغي أن يكون التقدير : كل الفريقين « .
و » مِنْ عطاءِ « متعلقٌ ب » نُمِدُّ « والعطاء اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول .
والمحظور : الممنوعُ ، وأصله من الحظر ، وهو : جمعُ الشيء في حظيرة ، والحظيرة : ما يعمل من شجرٍ ونحوه؛ لتأوي إليه الغنم ، والمحتظرُ : من يعمل الحظيرة .
فصل
قال القفال - رحمه الله - : هذه الآية داخلة في معنى قوله : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الإسراء : 13 ] : ومعناه : أن العمَّال في الدنيا قسان :
منهم من يريد بعمله الدنيا والرياسة ، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء - عليه الصلاة والسلام- ، والدخول في طاعتهم؛ خوفاً من زوال الرِّياسة عنهم ، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً؛ لأنه في قبضة الله؛ فيؤتيه الله في الدنيا منها قدراً لا كما يشاء ذلك الإنسان ، بل كما يشاء الله .

بل إن عاقبته جهنَّم يدخلها فيصلاها بحرِّها مذموماً ملوماً ، مدحوراً مطروداً من رحمة الله .
وفي لفظ هذه الآية فوائد :
أحدها أنَّ العقاب عبارة عن مضرَّة مقرونةٍ بالإهانة بشرط أن تكون دائمة خالية عن المنفعة .
وثانيها : أن من الجهَّال من إذا ساعدته الدنيا اغترَّ بها ، وظنَّ أن ذلك لأجل كرامته على الله - تعالى - فبيَّن - تعالى - بهذه الآية أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدلَّ بها على رضا الله تعالى لأنَّ الدنيا قد تصلح مع أنَّ عاقبتها المصير إلى العذاب والإهانة ، فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السُّوء في لزومها له ، وكونها سائقة له إلى أشدِّ العذاب .
وثالثها : قوله : { لِمَن نُّرِيدُ } يدلُّ على أنَّه لا يحصل الفوز بالدنيا لكلِّ أحدٍ ، بل كثيرٌ من الكفَّار يعرضون عن الدِّين في طلب الدنيا ، ثم يبقون محرومين عن الدنيا ، وعن الدِّين ، فهؤلاء هم الأخسرون أعمالاً الذي ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .
وأما القسم الثاني : وهو قوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فشرط تعالى فيه ثلاثة شروطٍ «
أحدها : أن يريد بعمله الآخرة أي : ثواب الآخرة ، فإنه إن لم ينو ذلك ، لم ينتفع بذلك العمل؛ لقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 37 ] وقوله - صلوات الله وسلامه عليه- : » إنَّما الأعمَالُ بالنِّيَّاتِ « .
والثاني : قوله جلَّ ذكره : { وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ، وذلك يقتضي أن يكون ذلك العمل من باب القرب والطَّاعات ، وكثير من الضُّلال يتقرَّبون بعبادة الأوثان ، ولهم فيها تأويلان :
أحدهما : أنهم يقولون : إله العالم أجلُّ وأعظم من أن يقدر الواحد منَّا على إظهار عبوديته ، وخدمته ، ولكن غاية قدرتنا أن نشتغل بعبوديَّة بعض المقربين من عباد الله ، مثل أن نشتغل بعبادة الكواكب ، أو ملكٍ من الملائكةِ ، ثمَّ إنَّ الملك أو الكواكب يشتغلون بعبادة الله - تعالى- .
فهؤلاء يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بهذا الطريق ، وهذه طريق فاسدة ، فلا جرم لم ينتفع بها .
والتأويل الثاني : أنَّهم قالوا : اتخذنا هذه التماثيل على صور الأنبياء والأولياء ، والمراد من عبادتها أن يصير أولئك الأنبياء والأولياء شعفاءنا عند الله - تعالى- ، وهذا الطريق أيضاً فاسد؛ فلا جرم لم ينتفع بها .
وأيضاً : نقل عن الجنيد أنَّهم يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بقتل أنفسهم تارة ، وبإحراق أنفسهم أخرى ، وهذا الطريق أيضاص فاسد ، فلا جرم لم ينتفع بها ، وكذا القول في جميع فرق المبطلين الذين يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بمذاهبهم الباطلة .
والشرط الثالث : قوله تعالى : { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } .
وهذا الشرط معتبرٌ؛ لأنَّ الشرط في كون أعمال البرِّ موجبة للثواب هو الإيمان ، فإذا لم يوجد ، لم يحصل المشروط ، ثمَّ إنه - تعالى - أخبر أنَّ عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكوراً ، والعمل مبروراً .

واعلم أن الشُّكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة :
اعتقاد كونه محسناً في تلك الأعمال ، والثناء عليه بالقول ، والإتيان بأفعال تدلُّ على كونه معظماً عند ذلك الشَّاكر ، والله - تعالى - يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة ، فإنَّه تعالى عالمٌ بكونهم محسنين في تلك الأعمال ، وإنه تعالى يثني عليهم بكلامه؛ وإنَّه تعالى يعاملهم بمعاملة دالَّة على كونهم مطيعين عند الله - تعالى - .
وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلاً ، كانوا مشكورين على طاعتهم من قبل الله - تعالى- .
يروى في كتب المعتزلة : أنَّ جعفر من حربٍ حضر عنده رجل من أهل السنَّة ، وقال : الدليل على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى : أنا نشكر على الإيمان ، ولو لم يكن الإيمان حاصلاً بإيجاده ، لامتنع أن نشكره عليه؛ لأنَّ مدح الإنسان وشكره على ما ليس من عمله قبيحٌ . قال الله - تعالى- : { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } [ آل عمران : 188 ] .
فعجز الحاضرون على الجواب ، فدخل ثمامة بن الأشرسِ ، وقال : إنَّا نمدحُ الله - تعالى - ونشكره على ما أعطانا من القدرة ، والعقل ، وإنزال الكتب ، وإيضاح الدلائل ، والله - تعالى - يشكرنا على فعل الإيمان ، قال الله - تعالى- : { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } قالوا : فضحك جعفر بن حربٍ وقال : صعبت المسألة ، فسهلت .
واعلم أن قولنا : مجموع القدرة مع الداعي يوجبُ الفعل كلامٌ واضح؛ لنه « تعالى » هو الذي أعطى الموجب التَّام لحصول الإيمان ، فكان هو المستحقَّ للشُّكر ، ولما حصل الإيمان للعبد ، وكان الإيمان موجباً للسَّعادة التَّامَّة ، صار العبدُ أيضاً مشكوراً ، ولا منافاة بين الأمرين .
فصل
اعلم أنَّ كلَّ من أتى بفعلٍ ، فإمَّا أن يقصد به تحصيل خيراتِ الدنيا ، أو تحصيل الآخِرة ، أو يقصد به مجموعهما ، أو لم يقصد به واحد منهما .
فإن قصد به تحصيل خيراتِ الدنيا فقط ، أو تحصيل الآخرة فقط ، فالله - تعالى - ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية ، وأما القسمُ الثالث فينقسمُ ثلاثة أقسامٍ : إمَّا أن يكون طلب الآخرة راجحاً أو مرجوحاً ، أو يكون الطلبان متعادلين .
فإن كان طلب الآخرة راجحا ، فهل يكون هذا العمل مقبولاً عند الله تعالى بحيث يحتمل أن يقال : إنه غير مقبولٍ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الله - تعالى - أنه قال : « أنَا أغْنَى الأغنِيَاءِ عن الشِّركِ من عَملَ عَملاً أشْركَ فِيهِ غَيْرِي تَركْتهُ وشَريكَهُ
. » وأيضاً : طلب رضوان الله - تعالى - إما أن يكون سبباً مستقلاً بكونه باعثاً على ذلك الفعل ، وداعياً إليه ، وإمَّا ألا يكون . فإن كان الأول امتنع أن يكون لغيره مدخلٌ في ذلك البعث والدعاء؛ لأنَّ الحكم إذا أسند إلى سبب كامل تامٍّ ، امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه ، وإن كان الثاني ، فيكون الدَّاعي إلى ذلك الفعل هو المجموع ، وذلك المجموع ليس هو طلب الرضوان من الله - تعالى-؛ لأنَّ المجموع الحاصل من الشَّيء ومن غيره يجب أن يكون مغايراً لطلب رضوان الله؛ فوجب ألا يكون مقبولاً ، ويحتمل أن يقال : لما كان طلب الآخرة راجحاً على طلب الدنيا تعارض المثلُ بالمثلِ ، فيبقى القدر الزائدُ داعية خالصة لطلب الآخرة؛ فوجب كونه مقبولاً .

وأمَّا إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين ، أو كان طلبُ الدنيا راجحاً ، فقد اتفقوا على أنه غيرُ مقبولٍ ، إلاَّ أنه على كلِّ حالٍ خير مما إذا كان طلب الدنيا خالياً بالكليَّة عن طلب الآخرة .
وأما القسم الرَّابع ، وهو الإقدام على الفعل من غير داع ، فهو مبنيٌّ على أنَّ صدور الفعل من القادر ، هل يتوقَّف على حصول الدَّاعي أم لا؟ .
فالذين يقولون : إنَّه متوقِّف على حصول الداعي ، قالوا : هذا القسم ممتنع الحصول ، والَّذين قالوا : إنَّه لا يتوقَّف ، قالوا : هذا الفعل لا أثر له في الباطن ، وهو محرَّم في الظاهر؛ لأنه عبثٌ .
فصل في معنى الآية
معنى الآية أنه تعالى يمدُّ الفريقين بالأموال ، ويوسِّع عليهما في الرِّزق ، والعزِّ والزينة في الدنيا؛ لأنَّ عطاءه ليس بضيِّقٍ على أحدٍ مؤمناً كان أو كافراً؛ لأنَّ الكلَّ مخلوق في دار العمل؛ فوجب إزاحةُ العذر وإزالة العلَّة عن الكلِّ .
والتنوين في « كُلاًّ » عوضٌ من المضاف إليه ، أي كلَّ واحد من الفريقين .

انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)

« كيف » نصب : إمَّا على التشبيه بالظرف ، وإمَّا على الحال ، وهي معلقة ل « انْظُرْ » بمعنى فكِّر ، أو بمعنى أبصرْ .
والمعنى : أنا أوصلنا إلى مؤمنٍ ، وقبضنا عن مؤمنٍ آخر ، وأوصلنا إلى كافرٍ ، وقبضنا عن كافرٍ آخر ، وقد ببيَّن - تعالى - وجه الحكمة في هذا التفاوت ، فقال جلَّ ذكره : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الزخرف : 32 ] .
وقال تعالى في آخر سورة الأنعام : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الأنعام : 165 ] الآية .
ثم قال تعالى : { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } أي : من درجات الدنيا ، ومن تفضيل الدنيا ، و المعنى : أن الآخرة أعظم وأشرف من الدنيا .
أي : أن المؤمنين يدخلون الجنَّة ، والكافرين يدخلون النَّار ، فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين ، ونظيره قوله - تعالى- : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [ الفرقان : 24 ] .

لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)

لما بيَّن تعالى أن النَّاس فريقان؛ منهم : من يريد بعمله الدنيا فقط ، وهم أهل العذاب ، ومنهم : من يريد طاعة الله ، وهم أهل الثواب ، ثم شرط في ذلك ثلاثة شروط : أن يريد الآخرة ، وأن يعمل عملاً ، ويسعى سعياُ موافقاً لطلب الآخرة ، وأن تكون مؤمناً لا جرم فصَّل في هذه الآية تلك المجملات ، فبدأ أوَّلاً بشرحِ حقيقة الإيمان ، وأشرفُ أجزاء الإيمان هو التوحيد ، ونفي الشِّرك ، فقال عزَّ وعلا : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ } .
ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكونُ المشتغلُ بها ساعياً سعي الآخرة .
قال المفسِّرون : الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره كقوله تعالى : { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء } [ الطلاق : 1 ] وقيل : الخطاب للإنسان ، وهذا أولى؛ لأنَّه تعالى عطف عليه قوله - تعالى- : وقيل : الخطاب للإنسان ، وهذا أولى؛ لأنَّه تعالى عطف عليه قوله تعالى- :
{ وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] إلى قوله تعالى : { إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } [ الإسراء : 23 ] .
وهذا لا يليق بالنبي صلوات الله وسلامه عليه - لأنَّ أبويه ما بلغا الكبر عنده .
الأول : أنَّ المشرك كاذب ، والكاذب يستوجب الذمَّ ، والخذلان .
الثاني : أنَّه لما ثبت بالدَّليل : أنه لا إله ولا مدبِّر إلاَّ الواحد الأحد ، فحينئذ : يكون جميع النِّعم حاصلة من الله - تعالى- ، فمن أشرك بالله ، فقد أضاف بعض تلك النِّعم إلى غير الله ، مع أن الحقَّ أن كلَّها من الله ، فحينئذ يستحقُّ الذمَّ؛ لأنَّ المستحقَّ للشُّكر على تلك النعم هو الخالقُ لها ، فلمَّا جحد كونها من الله - تعالى - فقد قابل إحسان الله - تعالى - بالإساءة والجحود ، فاستوجب الذمَّ ، ويستحقُّ الخذلان؛ لأنَّه لما أثبت لله شريكاً ، استحقَّ أن يفوض أمره إلى ذلك الشَّريك ، ولمَّا كان ذلك الشريكُ معدوماً ، بقي بلا ناصرٍ ولا حافظٍ ولا معينٍ ، وذلك عينُ الخذلان .
الثالث : أنَّ الكمال في الوحدة ، والنقصان في الكثرة ، فمن أثبت الشَّريك ، فقد وقع في جانب النقصان .
قوله تعالى : { فَتَقْعُدَ } : يجوز أن تكون على بابها ، فينتصب ما بعدها على الحال ، ويجوز أن تكون بمعنى « صار » فينتصب على الخبريَّة ، وإليه ذهب الفراء والزمخشريُّ ، وأنشدوا في ذلك .
3393- لا يُقْنِعُ الجَارِيةَ الخِضَابُ ... ولا الوِشَاحَانِ ولا الجِلْبَابُ
مِن دُون أن تَلتَقِيَ الأرْكابُ ... ويَقْعُدَ الأيْرُ لهُ لُعَابُ
أي : ويصير ، و البصريُّون لا يقيسون هذا ، بل يقتصرون به على المثل في قولهم : « شَحَذَ شفرته؛ حتَّى قعَدتْ كأنَّها حَربَةٌ » .
وقال الواحديُّ : « فَتَقْعد » : انتصب؛ لأنَّه وقع بعد الفاء؛ جواباً للنهي ، وانتصابه بإضمار « أن » كقولك : لا تنقطع عنَّا ، فنجفوك ، والتقدير : لا يكن منك انقطاعٌ؛ فيحصل أن نجفوك ، فما بعد الفاء متعلَّق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء ، وإنَّما سمَّاه النحويون جواباً؛ لكونه مشابهاً للجزاءِ في أنَّ الثاني مسبَّب عن الأول؛ ألا ترى أنَّ المعنى : إن انقطعت جفوتك ، كذلك تقدير الآية إن جعلت مع الله إلهاً آخر ، قعدت مذموماً مخذولاً .

فصل في معنى القعود في الآية
ذكروا في هذا القعود وجوهاً :
أحدها : أن معناه المكث أي : فتمكُث في النَّاس مذموماً مخذولاً ، وهذه اللفظة مستعملةٌ في لسان العرب والفرس في هذا المعنى ، إذا سأل الرجلُ غيره : ما يصنعُ فلانٌ في تلك البلدة؟ فيقول المجيب : هو قاعدٌ بأسوأ حالٍ .
معناه : المكث ، سواء كان قائماً أو قاعداً
وثانيها : أنَّ من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً متفكراً على ما فرط منه .
وثالثها : أنَّ المتمكن من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها ، والسَّعي إنما يتأتى بالقيام ، وأما العاجزُ عن تحصيلها ، فإنَّه لا يسعى ، بل يبقى جالساً قاعداً عن الطَّلب ، فلمَّا كان القيام على الرَّجلِ أحد الأمور التي يتمُّ بها الفوز بالخيرات ، وكان القعود والجلوس علامة على عدم تلك المكنة والقدرة ، لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات ، والقعود كناية عن العجز والضعف .

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)

قوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } .
لما ذكر في الآية المتقدمة ما هو الركن الأعظم في اللإيمان ، أتبعه بذكر ماهو من شعائر الإيمان وشرائعه ، وهي أنواع :
الأول : أن يشتغل الإنسان بعبادة الله سبحانه وتعالى ، ويتحرَّز عن عبادة غير الله تعالى .
والقضاءُ : الحكم الجزم البتُّ الذي لا يقبل النسخ؛ لأنَّ الواحد منا ، إذا أمر غيره بشيءٍ لا يقال : قضى عليه ، فإذا أمره أمراً جزماً ، وحكم عليه بذلك على سبيل البتِّ والقطع ، فها هنا يقال : قضى عليه ، وروى ميمون بن مهران عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - أنه قال في هذه الآية : كان الأصلُ : « ووصَّى ربُّكَ » ، فالتصقت إحدى الواوين بالصَّاد ، فصارت قافاً فقرئ « وقَضَى ربُّكَ » .
ثم قال : ولو كان على القضاء ما عصى الله أحدٌ قط؛ لأنَّ خلاف قضاء الله ممتنعٌ ، هذا رواه عنه الضحاك بنُ مزاحم ، وسعيد بن جبيرٍ ، وهو قراءة عليٍّ وعبد الله .
وهذا القول بعيدٌ جدًّا؛ لأنه يفتح باب أنَّ التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن ، ولو جوَّزنا ذلك ، لارتفع الأمانُ عن القرآن ، وذلك يخرجه عن كونه حجَّة ، وذلك طعنُ عظيمٌ في الدِّين .
وقرأ الجمهور « قَضَى » فعلاً ماضياً ، فقيل : هي على موضوعها الأصلي؛ قال ابن عطية : « ويكون الضمير في » تَعْبدُوا « للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة » .
وقال ابن عبَّاس وقتادة والحسن بمعنى : أمَرَ .
وقال مجاهد : بمعنى : أوصى .
وقال الربيع بن أنسٍ : أوجب وألزم .
وقيل بمعنى : حكم .
وقرأ بعض ولد معاذ بن جبل : « وقضاءُ ربِّك » اسماً مصدراً مرفوعاً بالابتداء ، و « ألاَّ تَعْبدُوا » خبره .
قوله تعالى : { أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } : يجوز أن تكون « أنْ » مفسرة؛ لأنها بعد ما هو بمعنى القول ، و « لا » ناهية ، ويجوز أن تكون الناصبة ، و « لا » نافية ، أي : بأن لا ، ويجوز أن تكون المخففة ، واسمها ضمير الشأن ، و « لا » ناهية أيضاً ، والجملة خبرها ، وفيه إشكال؛ من حيث وقوع الطَّلب خبراً لهذا الباب ، ومثله في هذا الإشكال قوله : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } [ النمل : 8 ] ، وقوله : { أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ } [ النور : 9 ] لكونه دعاء ، وهو طلبٌ أيضاً ، ويجوز أن تكون الناصبة ، و « لا » زائدة . [ قال أبو البقاء : « ويجوز أن يكون في موضع نصب ، [ أي : ] ألزم ربُّك عبادته و » لا « زائدة » ] . قال أبو حيَّان : « وهذا وهمٌ؛ لدخول » إلاَّ « على مفعول » تَعْبدُوا « فلزم أن يكون نفياً ، أو نهياً » .
قوله تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } قد تقدم نظيره في البقرة .

وقال الحوفي : « الباء متعلقة ب » قَضَى « ويجوز أن تكون متعلقة بفعلٍ محذوف تقديره : وأوصى بالوالدين إحساناً ، و » إحساناً « مصدر ، أي : يحسنون بالوالدين إحساناً » .
وقال الواحديُّ : « الباءُ من صلة الإحسان ، فقدِّمت عليه؛ كما تقول : بزيدٍ فانزل » وقد منع الزمخشري هذا الوجه؛ قال : « لأنَّ المصدر لا يتقدَّم عليه معموله » . قال شهاب الدين : والذي ينبغي أن يقال : إنَّ هذا المصدر إن عنى به أنَّه ينحلُّ لحرفٍ مصدريٍّ ، وفعلٍ ، فالأمر على ما ذكر الزمخشريُّ ، وإن كان بدلاً من اللفظ بالفعل ، فالأمرُ على ما قال الواحديُّ ، فالجوازُ والمنع بهذين الاعتبارين .
وقال ابن عطية : « قوله { وبالوالدين إِحْسَاناً } عطف على » أنْ « الأولى ، أي : أمر الله ألاَّ تعبدوا إلاَّ إيَّاه ، وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً » . واختا رأبو حيَّان أن يكون « إحْسَاناً » مصدراً واقعاً موقع الفعل ، وأنَّ « أنْ » مفسرة ، و « لا » ناهية ، قال : فيكون قد عطف ما هو بمعنى الأمر على نهيٍ؛ كقوله : [ الطويل ]
3394- . ... يقُولُونَ : لا تهْلِكَ أسًى وتَجمَّلِ
قلت : و « أحْسنَ » و « أسَاءَ » يتعدَّيان ب « إلى » وب « الباء » . قال تعالى : { وَقَدْ أَحْسَنَ بي } [ يوسف : 100 ] وقال كثير عزَّة : [ الطويل ]
3395- أسِيئي بِنَا أو أحْسِنِي لا مَلُومَة ..
وكأنه ضُمِّن « أحْسنَ » لمعنى « لَطُفَ » فتعدَّى تعديته .
فصل في نظم الآية
لماأمر بعبادة نفسه أتبعه ببرِّ الوالدين ، ووجه المناسبة بين الأمرين أمورٌ :
أوَّلها : أنَّ السبب الحقيقيَّ لوجود الإنسان هو تخليق الله وإيجاده ، والسبب الظاهريّ هو الأبوان ، فأمر بتعظيم السبب الحقيقي ، ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري .
وثانيها : أنَّ الموجود : إما قديمٌ ، وإما محدث ، ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الإله القديم بالتعظيم والعبودية ، ومع المحدث بإظهار الشفقة ، وهو المراد من قوله - صلوات الله البرِّ الرَّحيم وسلامه عليه- : « والتعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله » وأحقُّ الخلق بالشفقة الأبوان؛ لكثرة إنعامهما على الإنسان . فقوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } إشارة إلى التَّعظيم لأمر الله تعالى ، وقوله تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } إشارة إلى الشَّفقة على خلق الله .
وثالثها : أنَّ الاشتغال بشكر المنعم واجبٌ ، ثمَّ المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى جلَّ ذكره لا إله إلا هو ، وقد يكون بعض المخلوقين منعماً عليك ، وشكره أيضاً واجبٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ لمْ يشكُر النَّاس ، لمْ يشكُر الله » ، وليس لأحدٍ من الخلائق نعمةٌ على الإنسان مثل ما للوالدين ، وتقريره من وجوه :
أحدها : أن الولد قطعةٌ من الوالدين؛ قال - عليه السلام- : « فَاطِمةُ بضَعةٌ منِّي يُؤذِينِي ما يُؤذيها » .
وأيضاً شفقة الوالدين على الولد عظيمة ، وجدهما في إيصال الخير إلى الولد أمرٌ طبيعيٌّ ، واحترازهما عن إيصال الضرر إليه أمر طبيعيٌّ أيضاً؛ فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة ، بل هي أكثر من كلِّ نعمة تصل من إنسانٍ إلى إنسانٍ .

وأيضاً : حال ما يكون الإنسان في غاية الضَّعفِ ونهاية العجز يكون جميعُ أصناف نعم الأبوين في ذلك الوقت واصلة إلى الولدِ ، وإذا وقع الإنعام على هذا الوجه ، كان موقعه عظيماً .
وأيضاً : فإيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه ، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض ، فكان الإنعام فيه أتمَّ وأكمل ، فثبت بهذه الوجوه أنه ليس لأحدٍ من المخلوقين نعمةٌ على غيره مثل ما للوالدين على الولدِ ، فلهذا بدأ الله بشكر نعمة الخالق؛ فقال تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين ، فقال تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } . فإن قيل : إنَّ الوالدين إنَّما طلبا تحيل اللذَّة لأنفسهما؛ فلزم منه دخول الولد في الوجود ، ودخوله في عالم الآفات والمخافات ، فأيُّ إنعامٍ للأبوين على الولد .
يحكى أن بعض المنتسبين للحكمة كان يضربُ أباه ، ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد ، وعرَّضني للموت ، والفقر ، والعمى ، والزَّمانة .
وقيل لأبي العلاء المعرِّي : ماذا تكتب على قبرك؟ فقال اكتبوا عليه : [ الكامل ]
3396- هَذَا جَناهُ أبِي عَلَيْ ... يَ وما جَنَيْتُ عَلى أحَدْ
3397- وتَركْتُ فِيهِمْ نِعْمةَ الْ ... عدم التي سبقت نعيم العاجل
ولوْ أنَّهُمْ ولَدُوا لعَانَوا شِدَّة ... تَرْمِي بِهمْ في مُوبِقاتِ الآجلِ
وقيل للإسكندر : أستاذك أعظم ملَّة عليك أم والدك؟ فقال : الأستاذ أعظم منَّة؛ لأنَّه تحمَّل أنواع الشَّدائد عند تعليمي وأوقفني في نور العلم ، وأمَّا الوالدُ فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه ، فأخرجني إلى آفاتِ عالمِ الكون والفساد . ومن الكلمات المشهورة المأثورة : « خَيْرُ الآبَاءِ من عَلَّمكَ » والجواب :
هبْ أنَّه في أوَّل الأمر طلب لذة الوقاع ، إلاَّ أن الاهتمام بإيصال الخيراتِ إليه ، ودفع الآفاتِ من أوَّل دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر ، أليس أنَّه أعظم من جميع ما يصل إليه من جهاتِ الخيرات والميرات؟ فسقطت هذه الشبهات .
واعلم أن لفظ الآية يدلُّ على معانٍ كثيرة ، كل واحدٍ منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين ، منها أنه تبارك وتعالى قال في الآية المتقدمة : { وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } [ الإسراء : 19 ] ، ثم أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي يحصل بها الفوز بسعادة الآخرة . وذكر من جملتها البرَّ بالوالدين ، وذلك يدلُّ على أن هذه الطاعة من أصول الطَّاعات التي تفيد سعادة الآخرة .
ومنها أنَّه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتَّوحيد ، وثنَّى بطاعة الله ، وثلَّث ببرِّ الوالدين ، وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطَّاعة .
ومنها : أنه تعالى لم يقل : « وإحْسَاناً بالوَالِديْنِ » ، بل قال : { وبالوالدين إِحْسَاناً } ، فتقديم ذكرهما يدل على شدَّة الاهتمام .

ومنها : أنه تعالى قال : « إحْسَاناً » بلفظ التنكير ، والتنكير يدلُّ على التعظيم ، أي : إحساناً عظيماً كاملاً؛ لأنَّ إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة؛ فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ، وإن لم تحسن إليهما كذلك ، فلا تحصل المكافأة؛ لأنَّ إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداءِ ، وفي الأمثال المشهورة : « إنَّ البَادِئ بالبرِّ لا يُكَافأ » .
قوله تعالى : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ } قرأ الأخوان « يَبْلغانِّ » بألف التثنية قبل نون التوكيد المشددة المكسورةِ ، والباقون دون ألف وبفتحِ النون ، فأمَّا القراءة الأولى ، ففيها أوجه :
أحدها : أن الألف ضمي رالوالدين؛ لتقدُّم ذكرهما ، و « أحَدُهمَا » بدلٌ منه ، و « أو كلاهما » عطف عليه ، وإليه نحا الزمخشريُّ وغيره ، واستشكله بعضهم بأنَّ قوله « أحَدهُمَا » بدل بعضٍ من كلٍّ ، لا كل من كلٍّ؛ لأنه غير وافٍ بمعنى الأول ، وقوله بعد ذلك « أو كلاهما » عطف على البدل ، فيكون بدلاً ، وهو من بدل الكلِّ من الكلِّ؛ لأنه مرادف لألف التثنية ، لكنه لا يجوز أن يكون بدلاً؛ فعروِّه عن الفائدة؛ إذ المستفادُ من ألف التثنية هو المستفاد من « كِلاهمَا » فلم يفد البدل زيادة على المبدل منه .
قال شهاب الدين : هذا معنى قول أبي حيَّان ، وفيه نظر؛ إذ لقائلٍ أن يقول : مسلَّمٌ أنَّه لم يفد البدل زيادة على المبدل منه ، لكنه لا يضرُّ؛ لأنه شأن التأكيد ، ولو أفاد زيادة أخرى غير مفهومة من الأول كان تأسيساً لا تأكيداً ، وعلى تقدير تسليم ذلك ، فقد يجاب عنه بما قال ابن عطيَّة؛ فإنه قال بعد ذكره هذا الوجه : وهو بدلٌ مقسِّم؛ كقول الشاعر : [ الطويل ]
3398- وكُنْتُ كَذِي رجْليْنِ رجٍلٍ صَحِيحَةٍ ... ورِجْلٍ رَمَى فيها الزَّمانُ فشَلَّتِ
إلا أنَّ أبا حيَّان تعقَّب كلامه ، فقال : « أمَّا قوله : بدلٌ مقسم؛ كقوله :
3399- » وكُنْتُ .. . . . «
فليس كذلك؛ لأنَّ شرطه العطف بالواو ، وأيضر فشرطه : ألاَّ يصدق المبدل منه على أحد قسميه ، لكن هنا يصدق على أحد قسميه؛ ألا ترى أنَّ الألف ، وهي المبدل منه يصدق على أحد قسميها ، وهو » كلاهما « فليس من البدلِ المقسِّم » . ومتى سلِّم له الشرطان ، لزم ما قاله .
الثاني : أن الألف ليست ضميراً ، بل علامة تثنية ، و « أحَدُهمَا » فاعل بالفعل قبله ، و « أو كِلاهُمَا » عطف عليه ، وقد ردَّ هذا الوجه : بأنَّ شرط الفعل الملحقِ به علامة تثنية : أن يكون مسنداً لمثنى؛ نحو : قَامَا أخواك ، أو إلى مفرَّق بالعطف بالواو خاصة على خلاف فيه؛ نحو : « قَامَا زيدٌ وعمرٌو » ، لكنَّ الصحيح جوازه؛ لوروده سماعاً كقوله : [ الطويل ]
3400- . . ... وقَدْ أسْلمَاهُ مُبعدٌ وحَمِيمُ

والفعلُ هنا مسندٌ إلى « أحدهما » وليس مثنًّى ، ولا مفرَّقاً بالعطف بالواو .
الثالث : نقل عن الفارسي أن « كلاهما » توكيد ، وهذا لا بد من إصلاحه بزيادة ، وهو أن يجعل « أحدهما » بدل بعضٍ من كلٍّ ، ويضمر بعده فعلٌ رافعٌ لضمير تثنية ، ويقع « كلاهما » توكيداً لذلك الضمير تقديره : أو يبلغا كلاهما ، إلا أنه فيه حذف المؤكد وإبقاء التوكيد ، وفيها خلاف ، أجازها الخليل وسيبويه نحو : « مَررْتُ بزَيْدٍ ، ورَأيْتُ أخَاكَ أنْفُسَهُمَا » بالرفع والنصب ، فالرفع على تقدير : هما أنفسهما ، والنصب على تقدير أعينهما أنفسهما ، ولكن في هذا نظرٌ؛ من حيث إنَّ المنقول عن الفارسي منع حذف المؤكَّد وإبقاء توكيده ، فكيف يخرَّجُ قوله على أصلٍ لا يجيزه؟ .
وقد نصَّ الزمخشريُّ على منع التوكيدِ ، فقال : « فإن قلت : لو قيل : » إمَّا يَبْلغانِّ كلاهما « كان » كِلاهما « توكيداً لا بدلاً ، فما لك زعمْتَ أنه بدلٌ؟ قلت : لأنه معطوفٌ على ما لا يصحُّ أن يكون توكيداً للاثنين ، فانتظم في حكمه؛ فوجب أن يكون مثله » قلت : يعني أنَّ « أحدهما » لا يصلح أن يكون توكيداً للمثنى ، ولا لغيرهما ، فكذا ما عطف عليه؛ لأنه شريكه .
ثم قال : « فإن قلت : ما ضرَّك لو جعلته توكيداً مع كونِ المعطوف عليه بدلاً ، وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت : لو أريد توكيد التثنية ، لقيل : » كِلاهُمَا « فحسب ، فلما قيل : » أحَدهُمَا أو كِلاهُمَا « علم أنَّ التوكيد غير مرادٍ ، فكان بدلاً مثل الأول » .
الرابع : أن يرتفع « كِلاهُمَا » بفعل مقدرٍ تقديره : أو يبلغُ كلاهما ، ويكون « أحدهما » بدلاً من الفالضمير بدل بعضٍ من كلٍّ ، والمعنى : إمَّا يبلغنَّ عندك أحد الوالدين أو يبلغ كلاهما .
قال البغوي - رحمه الله - فعلى قراءة حمزة والكسائي قوله : « أحَدهُمَأ أو كِلاهُمَا » كلام مستأنف؛ كقوله تعالى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } [ المائدة : 71 ] وقوله تعالى : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] فقوله : { الذين ظَلَمُواْ } ابتداء .
وأما القراءة الثانية فواضحة ، و « إمَّا » هي « إنْ » الشرطية زيدتْ عليها « ما » توكيداً ، فأدغم أحد المتقاربين في الآخر بعد أن قلب إليه ، وهو إدغام واجب ، قال الزمخشريُّ : « هي إن الشرطية زيدت عليها » ما « توكيداً لها؛ ولذلك دخلت النون ، ولو أفردت » إنْ « لم يصحَّ دخولها ، لا تقول : إن تُكرمنَّ زيداً ، يُكرمْكَ ، ولكن : إمَّا تُكرِمنَّهُ » .
وهذا الذي قاله الزمخشريُّ نصَّ سيبويه على خلافه ، قال سيبويه :
وإنْ شِئْتَ ، لم تُقْحمِ النون ، كما أنك ، إن شئت ، لم تجئ ب « مَا » قال أبو حيَّان : « يعني مع النون وعدمها » وفي هذا نظر؛ لأنَّ سيبويه ، إنما نصَّ على أنَّ نون التوكيد لا يجب الإتيان بها بعد « أمَّا » وإن كان أبو إسحاق قال بوجوب ذلك ، وقوله بعد ذلك : كما أنَّك إن شِئْتَ لم تجئ ب « مَا » ليس فيه دليلٌ على جواز توكيد الشَّرط مع « إنْ » وحدها .

و « عِندكَ » ظرفٌ ل « يَبْلغَنَّ » و « كِلا » مثناةٌ معنى من غير خلاف ، وإنما اختلفوا في تثنيتها لفظاً : فمذهب البصريِّين : أنها مفردة لفظاً ، ووزنها على فعل؛ ك « مِعَى » وألفها منقلبة عن واوٍ ، بدليل قلبها تاء في « كِلْتَا » مؤنث « كِلا » هذا هو المشهور ، وقيل : ألفها عن ياءٍ ، وليس بشيءٍ ، وقال الكوفيُّون : هي مثناة لفظاً؛ وتبعهم السهيليُّ مستدلِّين على ذلك بقوله : [ الرجز ]
3401- في كِلْتِ رِجْليْهَا سُلامَى وَاحِده .. . .
فنطق بمفردها؛ ولذلك تعربُ بالألف رفعاً والياء نصباً وجراً ، فألفها زائدة على ماهية الكلمة كألف « الزيدان » ÷ ولامها محذوفة عند السهيليِّ ، ولم يأت عن الكوفيين نصٌّ في ذلك ، فاحتمل أن يكون الأمر كما قال السهيليُّ ، وأن تكون موضوعة على حرفين فقط ، لأنَّ مذهبهم جواز ذلك في الأسماءِ المعربة .
قال أبو الهيثن الرَّازيُّ وأبو الفتح الموصليُّ ، وأبو عليٍّ الجرجانيُّ إن « كلا » اسم مفرد يفيد معنى التثنية ، ووزنه فعل ، ولامه معتلٌّ بمنزلة لام « حِجَى ورِضَى » وهي كلمة وضعت على هذه الخلقة يؤكد بها الاثنان خاصة ، ولا تكون إلا مضافة؛ لأنَّها لو كانت تثنية ، لوجب أن يقال في النَّصب والخفض : « مَرَرْتُ بِكلَي الرَّجليْنِ » بكسر الياء ، كما يقال : « بَيْنَ يَدي الرَّجُل : و » مِنْ ثُلُثي اللَّيْلِ « و » يَا صَاحِبَي السِّجْنِ « و » طَرفي النَّهارِ « ، ولما لم يكن كذلك ، علمنا أنَّها ليست تثنية ، بل هي لفظة مفردة ، وضعت للدلالة على التثنية ، كما أنَّ لفظة » كُل « اسمٌ واحدٌ موضوع للجماعة ، فإذن أخبرت عن لفظه ، كما تخبر عن الواحد؛ كقوله تعالى : { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً } [ مريم : 95 ] ، فكذا إن أخبرت عن » كِلاَ « أخبرت عن واحدٍ ، فقلت : كلا أخويك كان قائماً .
قال الله تعالى : { كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا } [ الكهف : 33 ] . ولم يقل : » آتَنَا « .
وحكمها : أنَّها متى أضيفت إلى مضمرٍ أعربت إعراب المثنى ، أو إلى ظاهر ، أعْرِبت إعراب المقصور عند جمهور العرب ، وبنو كنانة يعربونها إعراب المثنى مطلقاً ، فيقولون : رأيت كِلَى أخوَيْكَ ، وكونها جرتْ مجرى المثنى مع المضمر ، دون الظاهر يطول ذكره .
ومن أحكامها : أنَّها لا تضافُ إلاَّ إلى مثنى لفظاً [ ومعنى نحو : » كلا الرَّجليْنِ « ] ، أو معنى لا لفظاً؛ نحو : » كِلانَا « ولا تضاف إلى مفرَّقين بالعطف نحو » كِلا زَيْدٍ وعمرٍو « إلا في ضرورةٍ؛ كقوله : [ الطويل ]

3402- إنَّ للخَيْرِ وللشَّرِّ مَدًى ... وكِلاَ ذلِكَ وجْهُ وقَبَلْ
والأكثر مطابقتها فيفرد خبرها وضميرها؛ نحو : كلاهما قائم ، وكلاهما ضربته ، ويجوز في قليل : قائمان ، وضربتهما؛ اعتباراً بمعناهما ، وقد جمع الشاعر بينهما في قوله : [ البسيط ]
3404- كِلاهُمَأ حِينَ جَدَّ الجَرْيُ بَيْنهُمَا ... قَد أقْلعَا وكِلاَ أنْفَيهِمَا رَابِي
وقد يتعيَّن اعتبارُ اللفظ؛ نحو : كلانا كفيل صاحبه ، وقد يتعيَّن اعتبارُ المعنى ، ويستعمل تابعاً توكيداً ، وقد لا يتبع ، فيقع مبتدأ ، ومفعولاً به ، ومجرورواً ، و « كِلْتَا » في جميع ما ذكر ك « كِلا » وتاؤها بدل عنواو ، وألفها للتأنيث ، ووزنها فعلى؛ كذكرى ، وقال يونس : ألفها أصلٌ ، وتاؤها مزيدة ، ووزنها فعتلٌ ، وقد ردَّ عليه الناس ، والنسب إليها عند سيبويه : « كِلْوِي » كمذكرها ، وعند يونس : كِلْتَوِيّ؛ لئلا تلتبس ، ومعنى الآية أنَّهما يبلغان إلى حالة الضَّعف والعجز ، فيصيران عندك في ىخر العمر ، كما كنت عندهما في أوَّل العمر .
قوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } قوله : أفّ : اسم فعلٍ مضارعٍ بمعنى أتضجَّر ، وهو قليلٌ؛ فإنَّ أكثر باب أسماء الأفعال أوامر ، وأقل منه اسم الماضي ، وأقلُّ منه اسم المضارع؛ ك « أف » وأوَّه ، أي : أتوجَّع ، وويْ ، أي : أعجبُ ، وكان من حقِّها أن تعرب؛ لوقوعها موقع معربٍ ، وفيها لغاتٌ كثيرة ، وصلها الرُّماني إلى تسع وثلاثين ، وذكر ابنُ عطيَّة لفظة ، بها تمَّت الأربعون ، وهي اثنتان وعشرون مع الهمزة المضمومة : أفُّ ، أفَّ ، أفِّ ، بالتشديد مع التنوين وعدمه ، أفُ ، أفَ ، أفِ ، بالتخفيف مع التنوين وعدمه ، أُفْ بالسكون والتخفيف؛ أُفّْ بالسكون والتشديد ، أفُّهْ ، أُفَّهْ ، أفِّهْ ، أفَّا من غير إمالة ، وبالإمالة المحضة ، وبالإمالة بين بين ، أفُّو أفِّ ] : بالواو والباء ، وإحدى عشرة مع كسرِ الهمزة : إفَّ ، إفِّ : بالتشديد مع التنوين وعدمه ، أَفَ ، إفِ بالتخفيف مع التنوين وعدمه ، إفًّا بالإمالة ، وست مع فتح الهمزة : أفَّ أفِّ؛ بالتشديد مع التنوين وعدمه ، أفْ بالسكون ، أفا بالألف ، فهذه تسعٌ وثلاثون لغة ، وتمام الأربعين « » أفاهُ « بهاء السكت ، وفي استخراجها بغير هذا الضَّابط الذي ذكرته عسر ونصب ، يحتاج في استخراجه من كتب اللغة ، ومن كلام أهلها ، إلى تتبُّعٍ كثيرٍ ، وأبو حيان لم يزدْ على أن قال : » ونحنُ نسردها مضبوطة كما رأيناها « ، فذكرها ، والنُّسَّاخ خالفوه في ضبطه ، فمن ثمَّ جاء فيه الخللُ ، فعدلنا إلى هذا الضَّابط المذكور ، ولله الحمد والمنة .
وقد قرئ من هذه اللغات بسبعٍ : ثلاثٍ في المتواتر ، وأربعٍ في الشاذ ، فقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين ، وابن كثيرٍ ، وابن عامرٍ بالفتح دون تنوين ، والباقون بالكسر دون تنوين ، ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء ، وقرأ نافع في رواية : أفٌ بالرفع والتنوين ، وأبو السًّمال بالضمِّ من غير تنوين ، وزيد بن عليِّ بالنصب والتنوين ، وابن عبَّاسٍ : » أفْ « بالسكون .
قال ابن الخطيب : والبحث المشكل ها هنا أنا لما نقلنا أنواعاً من اللغات في هذه اللفظة ، فما السَّبب في أنَّهم تركوا أكثر تلك اللُّغاتِ في قراءةِ هذه اللفظة ، واقتصروا على وجوه قليلة منها؟ .

فصل
في تفسير هذه اللفظة وجوهٌ :
أحدها : قال الفراء : تقول العرب : « لعلَّ فلاناً يَتأفَّفُ من ريحٍ وجدها » معناه : يقول : أفٍّ أفٍّ .
والثاني : قال الأصمعي : الأفُّ : وسخُ الآذانِ ، والتُّفُّ : وسخُ الأظفار ، يقال ذلك عند استقذار الشيء ، ثم كثر ، حتَّى استعملوه عند محلِّ ما يتأذُّون .
الثالث : قال أبو عبيدة - رحمه الله- : أصل الأفِّ والتُّفِّ : الوسخُ على الأصابع إذا فَتلْتَها .
الرابع : الأفُّ : ما يكون في المغابن من الوسخِ ، والتُّفُّ ما يكون في الأصابع من الوسخ .
الخامس : الأفُّ : وسخ الأظافرِ ، والتُّفُّ ما رفعت بيدك من الأرْضِ من شيءٍْ حقيرٍ .
السادس : قيل : أفٍّ : معناه قلًّة ، وهو مأخوذ من الأفيفِ ، وهو الشيء القليل ، وتُفّ : إتباعٌ له؛ كقولهم شيطانٌ ليطانٌ ، خبيثٌ نبيثٌ .
السابع : روى يعلبٌ عن ابن الأعرابيّ : الأفُّ : الضجر .
الثامن : قال القتبيُّ : أصل هذه الكلمة أنَّه إذا سقط عليك ترابٌ أو رمادٌ ، نفخت فيه لتزيله؛ والصَّوْت الحاصل عند تلك النفخةِ هو قولك : أفٍّ ، ثم إنَّهم توسَّعوا ، فذكروا هذه اللفظة عند كلِّ مكروه يصل إليهم .
قال مجاهدٌ : معنى قوله : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } أي : لا تتقذَّرهما : كما أنَّهما لم يتقذَّراك حين كنت تخرى وتبول .
وروي عن مجاهد أيضاً : إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك ، فلا تقل لهما : أفٍّ .
فصل في دلالة الأفّ
قول القائل : « لا تقلْ لفلانٍ : أفٍّ » مثل يضرب للمنعِ من كل مكروهٍ وأذيَّةٍ ، وإن خفَّ وقلَّ .
واختلف الأصوليُّون في أنَّ دلالة هذا اللفظ على المنع من سائر أنواع الإيذاء دلالةٌ لفظيةٌ ، أو دلالة مفهومة بالقياس ، فقيل : إنها دلالة لفظية ، لأنَّ أهل العرف ، إذا قالوا : لا تقل لفلانٍ أفٍّ ، عنوا به أنَّه لا يتعرض له بنوعٍ من أنواع الأذى ، فهو كقوله : فلانٌ لا يملكُ نقيراً ولا قطْمِيراً فهو بحسب العرف يدلُّ على أنه لا يملك شيئاً .
وقيل : إنَّ هذا اللفظ ، إنَّما دلَّ على المنعِ من سائر أنواعِ الأذى بالقياس الجليِّ .
وتقريره : أنَّ الشَّرع ، إذا نصَّ على حكمٍ في صورةٍ ، وسكت عن حكم في صورةٍ أخرى ، فإذا أردنا إلحاق الصُّورة المسكوت عن حكمها بالصورة المذكور حكمها ، فهذا على ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكون ثبوت ذلك الحكم في محلِّ السكوت أولى من ثبوته في محلِّ الذِّكر كهذه الصورة؛ فإنَّ اللفظ إنما دلَّ على المنع من التأفيف ، والضَّرب أولى بالمنع .
وثانيها : أن يكون الحكم ف يمحلِّ السكوت مساوياً للحكم في محلِّ الذِّكر ، وهذا يسمِّيه الأصوليُّون : « القياس في معنى الأصل » كقوله صلوات الله وسلامه عليه : « مَنْ أعْتقَ شِركاً لهُ في عَبْدٍ ، قُوِّمَ عليه البَاقِي » فإنَّ الحكم في الأمَةِ وفي العبد سواء .

وثالثها : أن يكون الحكم في محلِّ السكوت أخفى من الحكم في محلِّ الذِّكرِ ، وهو أكثر القياساتِ .
إذا عرف هذا ، فالمنع من التأفيف ، إنما دلَّ على المنع من الضرب بالقياس الجليِّ من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى؛ لأنَّ التأفيف غير الضرب ، فالمنع من التأفيف لا يكون منعاً من الضرب ، وأيضاً : المنع من التأفيف لا يستلزم المنع من الضرب عقلاً؛ لأنَّ الملك الكبير ، إذا أخذ ملكاً عظيماً ، كان عدُوًّا له ، فقد يقول للجلاَّد : إيَّاك أن تستخفَّ به أو تشافهه بكلمة موحشةٍ ، لكن اضرب رقبته ، وإذا كان هذا معقولاً في الجملة ، علمنا أنَّ المنع من التأفيف يغاير المنع من الضرب ، وغير مستلزم للمنع من الضرب في الجملة إلاَّ أنَّا علمنا في هذه الصورة : أنَّ المقصود من هذا الكلام المبالغة في تعظيم الوالدين ، لقوله تعالى : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } .
فكانت دلالة المنع من التأفيف على المنع من الضرب بالقياس من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى .
قوله : « ولا تَنْهَرْهُمَا » أي : لا تَزْجُرهما ، والنَّهْرُ : الزَّجْرُ بصياحٍ وغلظة وأصله الظهور ، ومنه « النَّهْر » لظهوره ، وقال الزمخشري - رحمه الله تعالى- : « النَّهْيُ والنَّهْرُ والنَّهْمُ أخَواتٌ » .
ويقال نهرهُ وانتهره ، إذا استقبله بكلامٍ يزجره ، قال تعالى : { وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 10 ] .
فإن قيل : المنع من التأفيف يدلُّ على المنع من الانتهار؛ بطريق الأولى ، فلما قدم المنعه من التأفيف ، كان المنع من الانتهار بعده عبثاً ، ولو فرضنا أنه قدَّم المنع من الانتهار على المنع من التأفيف ، كان مفيداً؛ لأنه يلزم من المنع من الانتهار المنع من التأفيف ، فما السَّبب في رعاية هذا التَّرتيب؟ .
فالجواب : أن المراد من قوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } المنع من إظهار الضَّجر بالقليل والكثير ، والمراد من قوله { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الردِّ عليه .
قوله تعالى : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } لمَّا منعه من القول المؤذي ، وذلك لا يكون أمراً بالقول الطَّيب ، فلا جرم : أردفه بأن أمره بالقول الحسن ، فقال : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } .
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- : هو أن يقول له : يا أبتَاهُ يا أمَّاهُ ، وقال عطاء : هو أن تتكلَّم معهما بشرط ألاَّ ترفع إليهما بصرك .
وقال مجاهد : لا تُسمِّهِمَا و لاتكنِّهما ، فهو كقول عمر - رضي الله عنه- .
فإن قيل : إنَّ إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - كان أعظم النَّاس حلماً وكرماً وأدباً ، فكيف قال لأبيه : « يا آزرُ » على قراءة « لأبِيهِ آزَرُ » بالضمِّ { إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 74 ] فخاطبه بالاسم ، وهو إيذاءٌ له ، ثم نسبه ونسب قومه إلى الضلال ، وعو أعظم أنواع الإيذاء .

فالجواب أن قوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَانا } يدلُّ على أنَّ حقَّ الله متقدِّم على حقِّ الأبوين ، فإقدام إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - على ذلك الإيذاء ، إنَّما كان تقديماً لحق الله تعالى على حقِّ الأبوين .
قوله تعالى : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } .
والمقصود المبالغة في التواضع ، وهذه استعارة بليغة .
قال القفَّال - رحمه الله تعالى- : وفي تقريره وجهان :
الأول : أنَّ الطائر ، إذا أراد ضمَّ فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية ، فكأنَّه قال للولد : اكفل والديك؛ بأن تَضمَّهما إلى نفسك ، كما فعلا ذلك بك حال صغرك .
والثاني : أنَّ الطائر ، إذا أراد الطَّيران ، نَشرَ جناحيه ، ورفعهما؛ ليرتفع ، وإذا أراد ترك الطيران ، خفض جناحيه ، فجعل خفض الجناحِ كناية عن التواضع واللِّين .
وقال الزمخشري : « فإن قلت : ما معنى جناح الذلِّ؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون المعنى : واخفض لهما جناحك ، كما قال : { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الحجر : 88 ] فأضافه إلى الذُّلِّ [ أو الذِّلِّ ] ، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى : واخفض لهما جناحك الذَّليل أو الذَّلول .
والثاني : أن تجعل لذُلِّه أو لذِلِّه جناحاً خفيضاً؛ كما جعل لبيد للشَّمال يداً ، وللقرَّة زماماً ، في قوله : [ الكامل ]
3405- وغَداةِ رِيح قد كَشفْتُ وقَرَّةٍ ... إذْ أصَبْحَتْ بِيدِ الشَّمالِ زِمامُهَا
مبالغة في التذلُّل والتواضع لهما » انتهى ، يعني أنه عبَّر عن اللين بالذلِّ ، ثم استعار له جناحاً ، ثم رشَّح هذه الاستعارة بأن أمره بخفض الجناح .
ومن طريف ما يحكى : أن أبا تمامٍ ، لمَّا نظم قوله : [ الكامل ]
3406- لا تَسْقِني مَاءَ المَلامِ فإنَّني ... صبٌّ قد اسْتعذَبْتُ مَاء بُكائِي
جاءه رجل بقصعةٍ ، وقال له : أعطني شيئاً من ماءِ الملامِ ، فقال : حتى تأتيني بريشةٍ من جناح الذلِّ؛ يريد أن هذا مجاز استعارةٍ كذاك ، وقال بعضهم : [ الطويل ]
3407- أرَاشُوا جَناحِي ثُمَّ بلُّوه بالنَّدى ... فلمْ أسْتطِعْ من أرْضهِمْ طَيرانَا
وقرأ العامة « الذُّلِّ » بضم الذال ، وابن عبَّاسٍ في آخرين بكسرها ، وهي استعارةٌ؛ لأن الذلَّ في الدوابِّ؛ لأنَّه ضدُّ الصعوبة ، فاستعير للأناسيِّ ، كما أنَّ الذل بالضم ضدُّ العزِّ .
قوله : « من الرَّحمة » فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنها للتعليل ، فتتعلق ب « اخفِضْ » ، أي : اخفض من أجل الرَّحمة .
والثاني : أنها لبيان الجنس؛ قال ابن عطيَّة : « أي : إنَّ هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنَّة في النَّفس » .
الثالث : أن تكون في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ « جَنَاح » .
الرابع : أنها لابتداء الغاية .
قوله : « كَمَا ربَّيانِي » في هذه الكاف قولان :
أحدهما : أنها نعتٌ لمصدر محذوف ، فقدَّره الحوفيُّ : « ارحمهما رحمة مثل تربيتهما [ لي ] » . وقدَّره أبو البقاء : « رحمة مثل رحمتهما » كأنَّه جعل التربية رحمة .

والثاني : أنها للتعليل ، أي : ارحمهما؛ لأجل تربيتهما؛ كقوله : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] .
قال القرطبيُّ : ولا يختصُّ برُّ الوالدين بأن يكونا مسلمين ، بل إن كانا كافرين يبرُّهما ، ويحسن إليهما .
قال القفال - رحمه الله- : إنَّه لم يقتصر في تعليم البرِّ بالوالدين على تعليم الأفعال ، بل أضاف إليه تعليم الأقوال ، وهو أن يدعو لهما بالرَّحمة ، فيقول : ربِّ ارحمهما ، ولفظة الرحمة جامعة لكلِّ الخيرات في الدِّين والدنيا ، ثم يقول : { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } يعني : ربِّ افعل بهما هذا النوع من الإحسان ، كما أحسنا إليَّ في تربيتهما ، والتربية هي التَّنْميَةُ من قولهم : ربَا الشَّيء ، إذا انتفخ قال تعالى : { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ } [ الحج : 5 ] .
واختلف المفسرون في هذه الآية ، فقا لابن عباس - رضي الله عنهما- : إنها منسوخة بقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 113 ] فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين ، ولا يقول : ربِّ ارحمهما .
وقيل إنها مخصوصة بالمسلمين غير منسوخة ، وهذا أولى من القول الأول؛ لأنَّ التخصيص أولى من النَّسخ .
وقيل : لا نسخ ، ولا تخصيص؛ لأنَّ الوالدين ، إذا كانا كافرين ، فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد ، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان .
فصل في أنّ الأمر يفيد التكرار أم لا؟
قوله جلَّ ذكرهُ : { وَقُل رَّبِّ ارحمهما } أمرٌ ، وظاهر الأمر لا يفيد التَّكرار ، فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرَّة واحدة .
سئل سفيان : كم يدعو الإنسان لوالديه؟ أفي اليوم مرة ، أو في الشهر ، أو في السَّنة؟ فقال : نرجو أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات؛ كما قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 56 ] فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبيِّ - صلوات الله وسلامه عليه- .
وكقوله تعالى : { واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } [ البقرة : 203 ] فهم يكرِّرون في أدبار الصلاة .

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)

قال تعالى : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ } من برِّ الوالدين وعقوقهما { إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ } ، أي : إنَّا قد أمرناكم في هذه الآية بإخلاص العبادة لله ، وبالإحسان بالوالدين ، ولا يخفى على الله ما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص وعدم الإخلاص ، فالله تعالى مطلع على ما في نفوسكم .
{ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ } أي : إن كنتم برآء عن جهة الفساد في أحوال قلوبكم ، وكنتم أوَّابين ، أي : راجعين إلى الله ، فإنَّ حكم الله في الأوَّابين أنَّه غفورٌ لهم ، يكفِّر عنهم سيئاتهم .
والأوَّابُ : على وزن فعَّال ، وهو يفيد المداومة والكثرة؛ كقولهم : قتَّال ، وضرَّاب .
قال سعيد بن المسيِّب - رحمه الله- : الأوَّاب الذي يذنب ، ثم يتوب . وقال سعيد بن جبيرٍ : هو الرجَّاع إلى الخير .
وقال ابن عباس - رضي الله عنه- : هو الرجَّاع إلى الله تعالى فيما ينوبه . وعنه أيضاً قال : هم المسبِّحون؛ لقوله تعالى : { ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ } [ سبأ : 10 ] .
وقال قتادة : المصلُّون .
وقيل : هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه ، لا يريد بذلك الخير ، فإنَّه لا يؤخذ به .
وقال عونٌ العقيلي : هم الذين يصلُّون صلاة الضحى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أهل قباء ، وهُم يُصلُّونَ الضحى ، فقال : صلاةُ الأوَّابين إذا رمضت الفصال من الضحى .
ورُوِيَ عن ابن عبَّاس أنه قال : إنَّ الملائكةَ لتحفُّ بالذين يصلُّون بين المغرب والعشاء ، وهي صلاة الأوَّابين .

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)

قيل : هذا خطاب للرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بأن يؤتي أقاربهُ الحقوق التي وجبت لهم في الفيءِ والغنيمة ، وإخراج حقِّ المساكين وأبناء السَّبيل من هذين المثالين .
وقال الأكثرون : إنه عامٌّ ، لأنه عطفهع لى قوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] والمعنى أنَّك بعد فراغك من برِّ الوالدين يجب عليك أن تشتغل ببرِّ سائر الأقاربِ ، الأقرب فالأقرب ، ثم بإصلاح أحوال المساكين ، وأبناء السَّبيل ، واعلم أنَّ قوله تعالى : { وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ } مجملٌ ، ليس فيه بيان أنَّ ذلك الحقَّ ما هو ، فذهب الشافعيُّ - رضي الله عنه - إلى أنَّه لا يجب الإنفاقُ إلاَّ على الولدِ والوالدين ، وقال غيره : يجب الإنفاق على المحارم بقدر الحاجة ، واتفقوا على أنَّ من لم يكن من المحارم كأبناء العمِّ ، فلا حقَّ لهم إلاَّ الموادَّة والمؤالفة في السَّراء والضَّراء ، وأما المسكين وابن السَّبيل ، فتقدَّم وصفهما في سورة التوبة في آية الزَّكاة .
قوله تعالى : { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } : التَّبذِيرُ : التفريق ومنه « البَذْرُ » لأنه يفرقُ في الأرض للزِّراعة ، قال : [ الوافر ]
3408- تَرائِبُ يَسْتَضِيءُ الحليُ فِيهَا ... كجَمْرِ النَّار بُذِّرَ بالظَّلامِ
ثم غلب في الإسراف في النَّفقة .
قال مجاهد : لو أنفق الإنسان ماله كلَّه في الحقِّ ، ما كان تبذيراً .
وسئل ابن مسعود عن التبذير ، فقال : إنفاقُ المالِ في غير حقِّه وأنشد بعضهم : [ الوافر ]
3409- ذَهابُ المَالِ في حَمْدٍ وأجْرٍ ... ذَهابٌ لا يُقَالُ لهُ ذَهابُ
وقال عثمان بن الأسود : كنت أطوفُ مع مجاهد حول الكعبة ، فرفع رأسه إلى أبي قبيسٍ ، وقال : لو أنَّ رجلاً أنفق مثل هذا في طاعة الله ، لم يكن من المسرفين ، ولو أنفق درهماً واحداً في معصية الله ، كان من المسرفين .
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعدٍ - رضي الله عنه - وهو يتَوضَّأ ، فقال : مَا هَذَا السَّرف يا سعدُ؟ فقال : أفِي الوَضُوءِ سرفٌ؟ قال : « نعم ، وإنْ كُنْتَ على نَهْرٍ جارٍ » .
ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إيَّاه إلى أفعال الشياطين ، فقال - جلَّ ذكره - : { إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين } والمراد من هذه الأخوة التشبيه بهم في هذا الفعل القبيح؛ لأنَّ العرب يسمُّون الملازم للشيء أخاً له ، فيقولون : فلانٌ أخو الكرم والجود ، وأخو السَّفر ، إذا كان مواظباً على هذه الأفعال .
وقيل : قوله : { إِخْوَانَ الشياطين } أي : قرناءهم في الدنيا والآخرة كقوله تعالى { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] .
وقال تعالى : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] أي : قرناءهم من الشياطين ، ثم قال تعالى : { وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُوراً } أي : جحوداً للنِّعمة؛ لأنه يستعمل بدنه في المعاصي والإفساد في الأرض ، والإضلال للنَّاس ، وكذلك من رزقه الله مالاً أو جاهاً ، فصرفه إلى غير مرضاة الله ، كان كفوراً لنعمة الله؛ لأنَّه موافق للشياطين في الصِّفة والفعل ، ثم إن الشياطين كَفُورُونَ بربهم ، فكذلك المبذِّر أيضاً كفورٌ بربه .
قال بعض العلماء : خرجت هذه الآية على وفقِ عادة العرب؛ لأنَّهم كانوا يجمعون الأموال بالنَّهب والغارة ، ثم ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر ، وكان المشركون من قريشٍ وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدُّوا عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه ، فنزلت هذه الآية تنبيهاً على قبح أفعالهم .

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)

نزلت في مهجع ، وبلال ، وصهيب ، وسالم ، وخبَّاب ، وكانوا يسألون النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه ، ولا يجد ، فيعرض عنهم حياء منهم ، ويمسك ن القول ، فنزلت : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ } أي : وإن أعرضت عنهم عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم { ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا } انتظار رزق من الله ترجوه ، أي : يأتيك { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } ليِّناً ، وهو العدةُ ، أي : عدهم وعداً جميلاً .
قوله تعالى : { ابتغآء رَحْمَةٍ } : يجوز أن يكون مفعولاً من أجله ، ناصبه « تُعرضنَّ » وهو من وضع المسبَّب موضع السبب ، وذلك أنَّ الأصل : وإمَّا تعرضنَّ عنهم لإعسارك ، وجعله الزمخشريُّ منصوباً بجواب الشرط ، أي : فقل لهم قولاً سهلاً؛ ابتغاء رحمة ، وردَّ عليه أبو حيَّان : بأنَّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها؛ نحو : « إن يقُم زيدٌ عمراً فاضْرِبْ » فإن حذفت الفاء جاز عند سيبويه والكسائيِّ؛ نحو : « إنْ يقُمْ زيدٌ عمراُ يَضْرِبْ » فإن كان الاسمُ مرفوعاً؛ نحو « إنْ تَقُمْ زيدٌ يَقُمْ » جاز ذلك عند سيبويه على أنَّه مرفوع بفعلٍ مقدَّرٍ يفسِّره الظاهر بعده ، أي : إن تقم ، يَقُم زيدٌ يَقُمْ . ومنع من ذلك الفراء وشيخه .
وفي الردِّ نظر؛ لأنَّه قد ثبت ذلك؛ لقوله تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9 ] الآية؛ لأنَّ « اليتيمَ » وما بعده منصوبان با بعد فاءِ الجوابِ .
وقيل : إنه في موضع الحالِ من فاعل « تُعرِضنَّ » .
قوله تعالى : { مِّن رَّبِكُمْ } يجوز أن يكون صفة ل « رحمةٍ » ، وأن يكون متعلقاً ب « تَرْجُوها » أي : ترجُوهَا « يجوز أن يكون حالاً من فاعل » تُعرِضنَّ « ، وأن يكون صفة ل » رَحمةٍ « .

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)

قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً } الآية .
لمَّا أمره بالإنفاق في الآية المتقدمة ، علَّمه في هذه الآية أدب الإنفاق .
واعلم أنه تعالى وصف عباده المؤمنين ، فقال تعالى { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] .
فها هنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف ، فقال تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } أي لا تمسك عن الإنفاق ، بحيث تضيف على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرَّحم ، أي : لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط ، { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } أي : ولا تتوسَّع في الإنفاق توسُّعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيءٌ .
والحكماءُ ذكروا في كتب الأخلاق أنَّ لكلِّ خلق طرفي إفراطٍ وتفريطٍ ، وهما مذمومان ، والخلق الفاضل هو العدل والوسط ، فالبخل إفراطٌ في الإمساك ، والتبذير إفراطٌ في الإنفاقِ ، وهما مذمومان ، والمعتدل الوسطُ .
روى جابرٌ - رضي الله عنه - قال : « أتى صبي فقال : يا رسول الله ، إنَّ أمِّي تَسْتَكسِيكَ دِرْعاً ، ولم يكُنْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ قميصهُ ، فقال للصبيِّ : من ساعةٍ إلى ساعةٍ يظهرُ كذا فعدِّ وقتاً آخر ، فعاد إلى أمِّه فقالت : قل له : إنَّ أمِّي تَسْتكسِيكَ الدِّرع الذي عليك ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دَارهُ ، ونزعَ قَمِيصهُ ، فأعطاهُ ، فقعد عُرياناً ، فأذَّنَ بلالٌ بالصَّلاةِ ، فانتظره ، فلم يخرج ، فشغل قُلوبَ أصحابه ، فدخل عليه بعضهم فَرآهُ عُرْيَاناً » ، فأنزلَ الله تعالى { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } يعني لا تمسك يدك عن النفقةِ في الحقِّ كالمغلولة يده ، ولا يقدر على مدِّها ، « ولا تَبْسُطهَا » بالعطاء « كُلَّ البَسْطِ » فتعطي جميع ما عندك .
و { كُلَّ البسط } : نصب على المصدر؛ لإضافتها إليه ، و « فَتقْعُدَ » نصب على جواب النهي وتقدَّم الكلام عليه ، و « مَلُوماً » إمَّا حالٌ ، وإمَّا خبر كما تقدَّم؛ ومعنى كونه ملوماً أنه يلومُ نفسه ، وأصحابه أيضاً يلومونه على تضييع المالِ وإبقاءِ الأهل في الضَّرر والمحنة ، أو يلومونه بالإمساك إذا سألوه ولم يعطهم ، وأمَّا كونه محسوراً ، فقال الفراء : العرب تقول للبعير : محسورٌ ، إذا انقطع سيره ، وحسرت الدابَّة ، إذا سيَّرتها حتى ينقطع سيرها ، ومنه قوله تعالى : { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 4 ] .
وقال قتادة - رحمه الله- : محسوراً نادماً على ما فرط منك ويجمع الحسيرُ على حَسْرَى ، مثل : قَتْلَى وصَرْعَى .
قال الشاعرك [ الطويل ]
3410- بِهَا جِيَفُ الحَسْرى ، فأمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وأمَّا جِلدُهَا فَصلِيبُ
وحسر عن كذا ، كشف عنه كقوله [ الطويل ]
3411- . . يَحْسُرِ المَاءَ تَارةً ..
والمحسور : المنقطع السَّير ، ومنه حسرت الدَّابة ، قطعت سيرها ، وحسير أي : كالٌّ : تعبان بمعنى : محسور .
قال القفال : شبَّه حال من أنفق كلَّ ماله بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته؛ لأنَّ ذلك المقدار من المال ، كأنَّه مطيَّة تحمل الإنسان إلى آخر السَّفر ، كما أن ذلك البعير يحمله إلى آخر منزله ، فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطَّريق عاجزاً متحيِّراً ، فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدَّة شهر ، بقي في وسط ذلك الشهر عاجزاً متحيراً ، ومن فعل هذا ، لحقه اللَّوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره ، وترك الحزم في مهمَّات معاشه .

ثم قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق } أي يوسِّعه على البعض « ويَقْدرُ » ، أي : يضيِّق على البعض بحسبِ ما يعلم من المصالح .
قال تعالى : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ } [ الشورى : 27 ] والقدر في اللغة التَّضييقُ . قال تعالى : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] . { وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [ الفجر : 16 ] أي : ضيَّق .

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)

قوله تعالى : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } الآية في تقرير النظم وجوه :
الأول : أنه لما بيَّن في الآية الأولى : أنَّه المتكفِّل بأرزاق العباد؛ حيث قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [ الإسراء : 30 ] قال عزَّ وجلَّ : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } .
الثاني : أنه تعالى ، لمَّا علم كيفية البرِّ بالوالدين في الآية المتقدمة ، علم في هذه الآية كيفية البرِّ بالأولاد ، ولهذا قيل : إنَّ الأبرار إنما سمُّوا بذلك؛ لأنهم برُّوا الآباء والأبناء؛ فوجب برُّ الآباء مكافأة على ما صدر منهم من أنواع البرِّ؛ ووجب برُّ الأولاد ، لأنَّهم في غاية الضعف والاحتياج ولا كافل لهم غير الوالدين .
الثالث : أنَّ امتناع الأولاد من برِّ الآباء يوجب خراب العالم؛ لأنَّ الآباء ، إذا علموا ذلك ، قلت رغبتهم في تربية الأولاد؛ فيلزم خراب العالم ، وامتناع الآباء من البرِّ أيضاً كذلك .
الرابع : أنَّ قتل الأولادِ ، إن كان لخوفِ الفقر ، فهو سوء الظنِّ بالله تعالى ، وإن كان لأجل الغيرة على البناتِ فهو سعيٌ في تخريب العالم ، فالأوَّل ضدُّ التعظيم لأمر الله تعالى ، والثاني ضدُّ الشفقةِ على خلق الله ، وكلاهما مذمومان .
الخامس : أنَّ قرابة الأولاد قرابةُ الجزئيَّة والبعضيَّة ، وهي من أعظم الموجبات للمحبَّة ، فلو لم تحصل المحبَّة دلَّ ذلك على غلظٍ شديد في الرُّوح ، وقسوة في القلب ، وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة ، فرغَّب الله في الإحسان إلى الأولاد؛ إزالة لهذه الخصلة الذميمة .
فصل
قرأ العامة « تَقْتلُوا » بالتخفيف ، وقرأ ابن وثاب والأعمش « تُقتِّلُوا » بالتشديد و « خِشْيَة » بكسر الخاء .
قال المفسِّرون : إنَّ العرب كانوا يقتلون البنات؛ لعجز البنات عن الكسب ، وقدرة البنين عليه؛ بسبب إقدامهم على النَّهب والغارة ، وأيضاً : كانوا يخافون أن ينفر الأكفاء عنها ، وعن الرغبة فيها ، فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء ، وفي ذلك عارٌ شديدٌ .
واعلم أن قوله تعالى : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ } عامٌّ في الذكور والإناث ، أي : أنَّ الموجب للشَّفقة والرحمة هو كونه ولداً ، وهذا الوصف يشترك فيه الذكور والإناث ، وأما ما يخاف من الفقر في البنات ، فقد يخاف أيضاً في العاجز من البنين ، ثم قال تعالى : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } أي أنَّ الأرزاق بيد الله ، فكما يفتحُ أبواب الرِّزق على الرِّجال ، فكذلك يفتح أبواب الرزق على النِّساء .
قوله تعالى : { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } .
قرأ ابن ذكوان : « خَطَأ » بفتح الخاء والطاء من غير مدٍّ ، وابن كثيرٍ بكسرِ الخاءِ والمدِّ ، ويلزم منه فتح الطاء ، والباقون بكسر الخاء وسكون الطاء .
فأمَّا قراءة ابن ذكوان ، فخرَّجها الزجاج على وجهين :
أحدهما : أن يكون اسم مصدر؛ من أخطأ يخطئ خطأً ، أي : إخطاءً ، إذا لم يصبْ .
والثاني : أن يكون مصدر خطئ يَخطأ خطأ ، إذا لم يصب أيضاً ، وأنشد : [ الكامل ]

3412- والنَّاسُ يَلحَوْنَ الأميرَ إذَا هُمُ ... خَطِئُوا الصَّوابَ ولا يُلامُ المُرشِدُ
والمعنى على هذين الوجهين : أنَّ قتلهم كان غير صوابٍ ، واستبعد قوم هذه القراءة قالوا : لأنَّ الخطأ ما لم يتعمَّد ، فلا يصحُّ معناه .
وخفي عنهم : أنه يكون بمعنى أخطأ ، أو أنه يقال : « خَطِئَ » إذا لم يصب .
وأمَّا قراءة ابن كثير ، فهي مصدر : خَاطَأ يُخاطِئُ خطاءً؛ مثل : قاتل يُقاتلُ قتالاً ، قال أبو عليٍّ : « هي مصدر خَاطَأ يُخاطِئُ ، وإن كنَّا لم نجد » خَاطَأ « ولكن وجدنا تخاطأ ، وهو مطاوع » خَاطَأ « فدلَّنا عليه ، ومنه قول الشاعر : [ المتقارب ]
3413- تَخاطَأتِ النَّبلُ أحْشاءَهُ ... وأخَّرَ يَومِي فَلمْ يَعْجلِ
وقال الآخر : [ الطويل ]
3414- تَخاطَأهُ القنَّاصُ حتَّى وجَدتُهُ ... وخُرطُومهُ في مَنْقعِ المَاءِ رَاسِبُ
فكأنَّ هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحقَّ و العدل » .
وقد طعن قومٌ على هذه القراءة حتَّى قال أبو جعفرٍ - رحمه الله- : « لا أعرفُ لهذه القراءة وجهاً » ولذلك جعلها أبو حاتمٍ غلطاً .
قال شهاب الدين : قد عرفهُ غيرهما ، ولله الحمد .
وأما قراءة الباقين فواضحة؛ لأنَّها من قولهم : خَطِئَ يَخطَأ خِطئاً ، كأثِمَ يَأثمُ إثماً ، إذا تعمَّد الكذب .
وقرأ الحسن : « خَطَاء » بفتح الخاء والمدِّ ، وهو اسم مصدر « أخْطَأ » كالعطاءِ اسم للإعطاء .
وقرأ أيضاً « خطَا » بالقصر ، وأصله « خَطَأ » كقراءةِ ابن ذكوان ، إلاَّ أنه سهَّل الهمزة بإبدالها ألفاً ، فحذفت كعصا .
وأبو رجاءٍ والزهريُّ كذلك ، إلاَّ أنهما كسرا الخاء ك « زِنَى » وكلاهما من خَطِئ في الدين ، وأخطأ في الرَّأي ، وقد يقام كلٌّ منهما مقام الآخر .
وقرأ ابن عامرٍ في رواية « خَطْئاً » بالفتح والسكون والهمز ، مصدر « خَطِئ » بالكسر . قال المفسِّرون : معنى الكلِّ واحدٌ ، أي : إثماً كبيراً .

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)

لمَّا أمره بالأشياء الخمسة المتقدِّم ذكرها ، وحاصلها يرجع إلى شيئين : التعظيم لأمر الله تعالت ، والشَّفقة على خلق الله سبحانه - جلَّ ذكره - لا إله إلاَّ هو ، أتبعها بالنَّهي عن أشياء أخر .
أولها : أنه تعالى نهى عن الزّنا .
والعامة على قصره ، وهي اللغة الفاشية ، وقرئ بالمدِّ ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه لغة في المقصور .
والثاني : أنه مصدر زانى يُزانِي؛ كقاتل يقاتل قتالاً؛ لأنه يكون بين اثنين ، وعلى المدِّ قول الفرزدق : [ الطويل ]
3415- أبَا خَالدٍ من يَزْنِ يُعرَفْ زِنَاؤهُ ... ومَنْ يَشرَبِ الخُرطُومَ يُصبِكْ مُسَكَّرا
وقول الآخر : [ الكامل ]
3416- كَانَتْ فَريضَةُ ما تَقُولُ كَمَا ... كَانَ الزِّناءُ فَريضةَ الرَّجْمِ
وليس ذلك على باب الضرورة ، فثبوته قراءة في الجملة .
وقوله تعالى : { وَسَآءَ سَبِيلاً } . قال ابن عطيَّة : « وسبيلاَ : نصبٌ على التمييز ، أي : وسَاءَ سَبِيلاً سَبِيلهُ » . وردَّ أبو حيَّان هذا : بأنَّ قوله نصبٌ على التَّمييز يقتضي أن يكون الفاعل ضميراً مفسَّراص بما بعده من التمييز؛ فلا يصح تقديره : سَاءَ سبيلهُ سَبِيلاً؛ لأنه ليس بمضمرٍ لاسم الجنسِ .
فصل
قال القفال : إذا قيل للإنسان : لا تقرب هذا ، فهو آكد من أن تقول : لا تفعله ، ثم علَّل هذا النَّهي بكنه { فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } .
واعلم أنَّ الزِّنا اشتمل على أنواع من المفاسد .
أولها : اختلاط الأنساب واشتباهها ، فلا يعرف الإنسان أنَّ الولد الذي أتت به الزانية منه أو من غيره ، فلا يقوم بتربيته ، وذلك يوجب ضياع الأولاد ، وانقطاع النَّسل ، وخراب العالم .
وثانيها : أنه إذا لم يوجد سبب شرعيٌّ يوجب اختصاص هذا الرجل بهذه المرأة ، لم يبق إلاَّ التوائب والتقاتل ، وقد وجد وقوع القتل الذَّريع بسبب زنا المرأة الواحدة .
وثالثها : أنَّ المرأة ، إذا زنت وتمرَّنت عليه ، يستقذرها كل ذي عقل سليم ، وحينئذٍ : لا تحصل الألفة والمحبَّة ، ولا يتم السَّكن والازدواج ، وينفر طباعُ أكثر الخلق عن مقاربتها .
ورابعها : أنَّه إذا انفتح باب الزِّنا ، لا يبقى لرجلٍ اختصاص بامرأةٍ ، بل كل رجل يمكنه التوائب على أيِّ امرأة أرادت ، وحينئذ : لا يبقى بين نوع الإنسان وسائر البهائم فرقٌ في هذا .
وخامسها : أنه ليس المقصود من المرأة مجرّد قضاء الشهوة ، بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهمَّاته من المطعوم والمشروب والملبوس ، وحفظ البيت ، والقيام بأمُور الأولاد والخدم ، وهذه المهماتُ لا تتم إلاَّ إذا كانت المرأة مقصورة الهمَّة على هذا الرجل الواحد ، منقطعة الطَّمع عن سائر الرِّجال ، وذلك لا يحصل إلاَّ بتحريم الزِّنا ، وسدّ هذا الباب .
وسادسها : أنَّ الوطس يوجب الذلَّ الشديد ، ويدلُّ على ذلك وجوهٌ :
الأول : أن أعظم أنواع الشَّتم عند النَّاس ذكر ألفاظ الوقاع ، ولولا أن الوطء يوجبُ الذلَّ وإلاَّ لما كان الأمر كذلك .
الثاني : أنَّ جميع العقلاء يستنكفُون من ذكر أزواج بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم ، ولولا أن الوطء ذلٌّ ، وإلاَّ لما كان كذلك .

الثالث : أن جميع العقلاء لا يقدمون على الوطء إلا خفية في الأوقات التي لا يطَّلع عليهم أحدٌ ، ولولا أنه موجبٌ للذلِّ ، وإلا لما كان الأمر كذلك ، فلما كان الوطء ذلاًّ ، كان السَّعي في تقليله موافقاً للعقول ، فاقتصار المرأة الواحدة على الرجل الواحد سعيٌ في تقليل ذلك العمل ، وما فيه ن الذلِّ يجبر بالمنافع الحاصلة .
وأمَّا الزِّنا ، فإنه فتح لباب العمل القبيح ، ولا يجبر بشيءٍ من المنافع ، فيبقى على أصل المنع .
وإذا ثبت ذلك ، فنقول : إنه تعالى وصف الزِّنا بصفاتٍ ثلاثة : كونه { فَاحِشَةً وَمَقْتاً } [ النساء : 22 ] في آية أخرى { وَسَآءَ سَبِيلاً } أما كونه فاحشة؛ فلاشتماله على الأمور المذكورة ، وأمَّا المقت فلأنَّ الزانية تصير ممقوتة مكروهة؛ لما ذكرنا .
وأما كونه ساء سبيلاً : فهو ما ذكرنا من أنَّه لا يبقى فرقٌ بين الإنسان وبين البهائن في عدم اختصاص الذكران بالإناث ، وبقاء الذلِّ والعيب والعارِ على المرأة من غير أن يجبر بشيءٍ من المنافع .

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)

فقوله جلَّ ذكره : { إِلاَّ بالحق } أي : إلا بسبب الحقِّ ، فيتعلق ب « لا تَقْتلُوا » ويجوز أن يكون حالاً من فاعل « لا تَقْتلُوا » أو من مفعوله ، أي : لا تقتلوا إلا ملتبسين بالحقِّ أو إلاَّ ملتبسة بالحقِّ ، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : إلاَّ قتلاً ملتبساً بالحقِّ .
فصل
والحقُّ المبيح للقتل هو قوله - صلوات الله وسلامه عليه- : « لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم إلاَّ بإحدى ثلاثٍ : رجُلٌ كفر باللهِ بعد إيمانه ، أو زنى بعد أحصانهِ ، أو قَتلَ نفساً بِغيْرِ نَفْسٍ » .
فإن قيل : إنَّ أكبر الكبائر بعد الكفر بالله سبحانه وتعالى هو القتل ، فما السبب في أنه تعالى بدأ بالنَّهي عن الزنا ، ثم نهى بعده عن القتل .
فالجواب : أنَّا بيَّنا أنَّ فتح باب الزِّنا يمنعُ دخول الإنسان في الوجود ، والقتل يدلُّ على إعدامه ، ودخوله ف يالوجود مقدَّم على إعدامه بعد وجوده؛ فلهذا ذكر الزِّنا أولاً ، ثم ذكر بعده القتل .
واعلم أنَّ الأصل في القتل هو التحريم ، والحلُّ إنما ثبت بسببٍ عارضٍ؛ فذلك نهى عن القتل بناء على حكم الأصل ، ثم استثنى منه الحالة التي يباح فيها القتل ، وهو عند حصول الأسباب العرضيَّة ، فقال : { إِلاَّ بالحق } ويدل على أنَّ الأصل في القتل التحريم وجوهٌ :
أحدها : أن القتل ضررٌ ، والأصل في المضارِّ الحرمة ، قال - صلوات الله وسلم عليه- : « لا ضَررَ ، ولا ضِرارَ » .
وثانيها : قوله صلى الله عليه وسلم : « الآدَمِيُّ بُنيَانُ الربِّ ، مَلعُونٌ من هَدمَ بُنْيانَ الربِّ » .
وثالثها : أن الآدميَّ خلق للعبادة ، لقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] والعبادة لا تتمُّ إلاَّ بعدم القتل .
ورابعها : أنَّ القتل إفساد ، فحرم؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تُفْسِدُواْ } [ الأعراف : 56 ] .
وخامسها : إذا تعارض دليل تحريم القتل ، ودليل إباحته ، فالإجماع على أنَّ جانب الحرمة راجح ، ولولا أنَّ مقتضى الأصل هو التحريمُ ، وإلاَّ لكان ذلك ترجيحاً لا لمرجحٍ ، وهو محالٌ .
وإذا علم أنَّ الأصل في القتل هو التحريم ، فقوله : « ولا تَقْتلُوا » نهيٌ وتحريمٌ . وقوله : « حَرَّمَ الله » إعادة لذكر التحريم على سبيل التاكيد ، ثم استثنى عنه الأسباب العرضيَّة ، فقال : إلاَّ بالحقِّ ، وها هنا طريقان :
الطريق الأول : أن قوله « إلاَّ بالحقِّ » مجمل ليس فيه بيان أن ذلك الحقَّ ما هو ، ثم قال تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } أي : في حقِّ استيفاء القصاص؛ فوجب أن يكون المراد من الحقِّ هذه الصورة فقط ، فتكون الآية نصًّا صريحاً في تحريم القتل ، إلا بهذا السبب الواحد .
الطريق الثاني : أن نقول : دلَّت السنة على أنَّ ذلك الحقَّ هو أحد الأمور الثلاثة المتقدَّمة في الخبر .

واعلم أن الخبر من باب الآحادِ ، فإن قلنا : إنَّ قوله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } بيان لذلك الحقِّ ، كانت الآية صريحة في أنه لا يحلُّ القتل إلاَّ بهذا السبب الواحد ، وحينئذٍ : يصير الخبر مخصِّصاً للآية ، ويصير فرعاً لقولنا بصحَّة تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، وإن قلنا بأن قوله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } ليس بياناً لذلك الحقِّ ، فحينئذ يصير الخبر مفسِّراً للحقِّ المذكور في الآية ، وعلى هذا لا يصير فرعاً على جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، وهو تنبيهٌ حسنٌ .
فصل في ظاهر الآية
ظاهر الآية يقتضي أنَّه لا سبيل لحلِّ القتل إلاَّ قتلُ المظلوم ، وظاهر الخبر يقتضي ضمَّ شيئين آخرين إليه ، وهو الكفر بعد الإيمان ، والزِّنا بعد الإحصان ، ودلَّت آية أخرى على حصول سبب رابع ، وهو قوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ } [ المائدة : 33 ] ودلَّت آية أخرى على سبب خامسٍ ، وهو الكفر الأصلي ، قال الله تعالى : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } [ التوبة : 29 ] .
وقال تعالى : { واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ النساء : 89 ] .
واختلف الفقهاء في أشياء أخرى :
منها : تاركُ الصلاة ، فعند أبي حنيفة - رضي الله عنه - لا يقتل ، وعند الشافعي وأحمد - رضي الله عنهما- : يقتل .
وثانيها : اللاَّئط : فعند الشافعيِّ : يقتل ، وعند بعضهم : لا يقتل .
وثالثها : السَّاحر ، إذا قال : قتلتُ بسحري فلاناً ، فعند أبي حنيفة : لا يقتل ، وعند بعضهم : يقتل .
ورابعها : القتل بالمثقَّل عند الشافعيِّ : يوجب القصاص ، وعند أبي حنيفة : لا يوجب .
وخامسها : الانتماع من أداء الزَّكاة ، اختلفوا فيه في زمان أبي بكر - رضي الله عنه- .
وسادسها : إتيانُ البهيمة أوجب فيه بعضهم القتل ، ولم يوجبه الباقون ، وحجَّة القائلين بعدم وجوب القتل في هذه الصورة هو أنَّ هذه الآية صريحة في تحريم القتل على الإطلاق إلاَّ لسببٍ واحدٍ ، وهو قتل المظلوم ، ففيما عداه يجب البقاء على أصل التحريم .
وأيضاً : فالخبر المذكور يوجب حصر أسباب الحلِّ في تلك الثلاثة ، ففيما عداها يجبُ البقاء على أصل الحرمة ، ثم قالوا : وبهذا النصِّ قد تأكَّد بالدلائل الكثيرة الموجبة لحرمة الدَّم على الإطلاق ، فترك العمل بهذه الدلائل لا يكون إلا لمعارضٍ ، وذلك المعارض : إمَّا أن يكون نصّاً متواتراً أو نصّاً من باب الآحادِ ، أو قياساً ، والنص المتواترُ مفقودٌ ، وإلاَّ لما بقي الخلافُ .
وأما النصُّ من باب الآحادِ ، فهو مرجوحٌ بالنسبة غلى هذه النصوص الكثيرة؛ لأنَّ الظنَّ المستفاد من النصوصِ الكثيرة أعظم من الظنِّ المستفاد من خيرٍ واحدٍ .
وأما القياسُ : فلا يعارض النصَّ ، فثبت بمقتضى هذا الأصل القويِّ : أنَّ الأصل في الدماءِ الحرمةُ إلاَّ في الصور المعدودة .
قوله سبحانه وتعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } فيه بحثان :
البحث الأول : هذه الآية تدلُّ على أنَّه أثبت لوليِّ الدم سلطاناً .

فأمَّا بيان هذه السلطنة فيماذا ، فليس في قوله : { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } فلا ينبغي أن يسرف ذلك القاتل الظالمُ في ذلك القتل؛ لأنَّ ذلك المقتول منصورٌ؛ لثبوت السَّلطنة لوليه .
والطريق الثاني : أن تلك السلطنة مجملة ، ثم فسِّرت بالآية والخبر .
أما الآية : فقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } [ البقرة : 178 ] إلى قوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } [ البقرة : 178 ] .
وقد بينَّا على أنَّها تدل على أن الواجب تخيير الوليِّ بين القصاص والدية .
وأمَّا الخبر : فقوله - صلوات الله وسلامه عليه - يوم الفتح « مَن قُتِلَ لَهُ قَتيلٌ ، فهو بِخَيْرِ النَّظرينِ : إمَّا أن يُقتلَ ، وإمَّا أن يُفْدَى » .
فعلى هذا : فمعنى قوله : { فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل } أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص ، وسلطنة استيفاء الدِّية ، إن شاء ، قال بعده { فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل } أي أنَّ الأولى ألاَّ يقتصّ ، ويكتفي بأخذ الدية أو يعفو ، كقوله تعالى : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] .
والبحث الثاني : ذكر كونه مظلوماً بصيغة التنكير ، والتنكير يدلُّ على الكمالِ ، فما لم يكن المقتول كاملاً في وصف المظلوميَّة لم يدخل تحت هذا النصِّ ، فالمسلمُ إذا قتل الذميَّ ، لم يدخل تحت هذه الآية؛ لأنَّ الذميَّ مشركٌ ، والمشرك يحلُّ دمه .
ويدلُّ على أن الذمِّي مشركٌ قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ النساء : 116 ] .
حكم بأنَّ ما سوى الشِّرك يغفر في حقِّ البعض ، فلو كان كفر اليهوديِّ والنصرانيِّ مغايراص للشِّرك ، وجب أن يغفر في حقِّ بعض الناس لهذه الآية ، فلما لم يغفر في حقِّ أحد ، دلَّ على أنّ كفرهم شركٌ ، ولأنه تعالى قال : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] فهذا التثليثُ الذي قال به هؤلاء : إمَّا أن يكون تثليثاً في الصفات ، وهو باطلٌ؛ لأنَّ ذلك هو الحق ، وهو مذهب أهل السنة والجماعة ، فلا يمكنُ جعله سبباص للكفر ، وإمَّا أن يكون تثليثاً في الذَّوات ، وذلك هو الشرك ، فثبت أن الذميَّ مشركٌ ، والمشرك يجب قتله؛ لقوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ المشركين } [ التوبة : 36 ] فاقتضى هذا الدليل إباحة دمِ الذميِّ ، فإن لم تثبت الإباحة ، فلا أقلَّ من حصول شبهة الإباحة .
وإذا ثبت هذا ، ثبت أنه ليس كاملاً في المظلوميَّة ، فلم يندرج تحت قوله : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } .
وأما الحرُّ ، إذا قتل عبداً ، فيدخل تحت هذا ، إلاَّ أنَّا بيَّنا أن قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد } [ البقرة : 178 ] يدلُّ على المنع من قتل الحرِّ بالعبد ، وتلك الآية أخص من قوله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } والخاصُّ مقدَّم على العام؛ فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسُّك بها في مسألة أنَّ موج بالعمد هو القصاص ، ولا في وجوب قتل المسلم بالذميِّ ، ولا في وجوب قتل الحرِّ بالعبد .

فصل في المراد بالإسراف
في معنى الإسراف وجوهٌ :
الأول : أن يقتل القاتل وغير القاتل ، وذلك أنَّ أولياء المقتول كانوا إذا قتل واحدٌ من قبيلة شريفةٍ ، قتلوا خلقاً من القبيلة الدنيئة ، فنهى الله عنه وحكم بقتل القاتل وحده .
الثاني : أنَّ الإسراف هو ألا يرضى بقتل القاتل؛ فإنَّ أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشرف القبائل ، ثمَّ يقتلون منه قوماً معيَّنين ، ويتركون القاتل .
والثالث : الإسرافُ هو ألاَّ يكتفي بقتل القاتل ، بل يقتله ثم يمثِّل به ، ويقطع أعضاءه .
قال القفَّال - رحمه الله- : ولا يبعد حمله على الكلِّ ، لأنَّ جملة هذه المعاني مشتركة في كونها إسرافاً .
فصل
قرأ حمزة والكسائي : « تُسْرِفْ » بالخطاب ، وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : الخطاب للوليِّ ، أي : لا تقتل الجماعة بالواحدِ ، أو السلطان ، رجع إلى مخاطبته بعد أن أتى به عامًّا .
والثاني : أن يكون الخطابُ للمبتدئ القتل ، أي : لا تسرف أيُّها الإنسان؛ لأنَّ إقدامه على ذلك القتلِ ظلمٌ محضٌ ، وهو إسرافٌ .
والباقون بالغيبة ، وهي تحتمل ما تقدم في قراءةِ الخطاب .
وقرأ أبو مسلم برفع الفعل على أنَّه خبر في معنى النهي؛ كقوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ } [ البقرة : 197 ] . وقيل : « في » بمعنى الباء ، أي : بسبب القتلِ .
قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } .
قال مجاهدٌ : الهاءُ راجعةٌ إلى المقتول في قوله : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً } أي : أنَّ المقتول منصور في الدنيا بإيجاب القودِ على قاتله ، وفي الآخرة بتكفير خطاياه ، وإيجاب النَّار لقاتله .
وقال قتادة : الهاء راجعةٌ إلى وليِّ المقتول ، أو إلى السلطان ، أي أنَّه منصورٌ على القاتل باستيفاء القصاص ، أو الدِّية ، فلكيتفِ بهذا القدر ، ولا يطمع في الزيادة .
وقيل : الهاءُ راجعة إلى القاتل الظالم ، أي أنَّ القاتل يكتفى منه باستيفاء القصاص ، ولا يطلب منه زيادة؛ لأنَّه منصورٌ من الله تعالى في تحريم طلب الزيادة منه ، أو أنَّه إذا عوقب في الدنيا ، نُصِرَ في الآخرةِ .
وقيل : الهاء راجعةٌ إلى الذَّم ، أو قيل : إلى الحقِّ ، روى ابن عباس - رضي الله عنه - قال : قلت لعليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - : وأيْمُ الله ليَظْهرنَّ عَليْكُم ابنُ أبي سفيان؛ لأنّ الله تعالى يقول : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } فقال الحسنُ : والله ، ما نُصِرَ معاوية على عليٍّ إلاَّ بقولِ الله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } .

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)

قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } الآية .
اعلم أنه تعالى نهى عن الزِّنا ، وقد ذكرنا أنه يوجب اختلاط الأنساب ، وذلك يوجبُ منع تربية الأولاد ، ويوجب انقطاع النَّسل ، وذلك مانع من دخول الناس في الوجود ، فالنَّهيُ عن الزِّنا وعن القتل يرجع حاصله إلى النَّهي عن إتلاف النفوس ، فلمَّا ذكره تعالى أتبعه بالنَّهي عن إتلاف الأموال؛ لأنّ أعزَّ الأشياء بعد النفوس الأموال ، وأحق الناس بالنَّهي عن إتلافِ أموالهم هو اليتيمُ؛ لأنَّه لصغره ، وضعفه ، وكمالِ عجزه يعظم ضرره بغتلاف ماله؛ فلهذا خصَّهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم ، فقال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } نظيرهُ قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 6 ] .
المراد بالأشدّ ها هنا بلوغهُ إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالحِ ماله ، فحينئذ تزولُ ولاية غيره عنه ، فإن بلغ غير كامل العقل ، لم تزل الولاية عنه .
قوله تعالى : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } الآية .
اعلم أنَّه تعالى أمر بخمسة أشياء أوَّلاً ، ثم نهى عن ثلاثةِ أشياء ، وهي الزِّنا ، والقتلُ ، وأكل مالِ اليتيم ، ثمَّ أتبعه بهذه الأوامِرِ الثلاثة ، فالأول قوله تعالى : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } .
واعلم أنَّ كلَّ عقدٍ يعقد لتوثيق أمرٍ وتوكيده ، فهو عهدٌ؛ كعقد البيع والشَّركة ، وعقد اليمين والنَّذر ، وعقد الصلح ، وعقد النِّكاح ، فمقتضى هذه الآية أنَّ كلَّ عهدٍ وعقدٍ يجري بين إنسانين ، فإنَّه يجبُ عليهما الوفاءُ بذلك العقد والعهد ، إلاَّ إذا دلَّ دليل منفصلٌ على أنه لا يجب الوفاء به ، فمقتضاه الحكم بصحَّة كل بيع وقع التراضي عليه ، وتأكَّد هذا النصُّ بسائر الآياتِ الدالة على الوفاء بالعهود والعقود؛ كقوله عزَّ وجلَّ : { والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } [ البقرة : 177 ] { والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } [ المؤمنون : 8 ] { وَأَحَلَّ الله البيع } [ البقرة : 275 ] { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } [ النساء : 29 ] { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] . { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] .
وقوله - صلوات الله وسلامه عليه- : « لا يحلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلاَّ بطيبِ نَفسٍ منهُ » .
وقوله : « إذَا اختلف الجِنْسَانِ ، فَبِيعُوا كيف شِئتُمْ يداً بيدٍ » .
وقوله : « مَن اشْتَرى مَا لَمْ يَرهُ ، فلهُ الخيارُ إذا رَآهُ » .
فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أنَّ الأصل في البياعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام .
فإذا وجدنا نصًّا أخصَّ من هذه النصوصِ يدلُّ على البطلان والفساد ، قضينا به؛ تقديماً للخاصِّ على العام ، وإلا قضينا بالصحة على الكلّ ، وأما تخصيص النصِّ بالقياس ، فباطلٌ ، وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملاتِ جميعها مضبوطة معلومة بهذه الىية الواحدة ، ويكون المكلَّف مطمئن القلب والنَّفس في العمل؛ لأنَّ هذه النصوص دلَّت على الصحَّة ، وليس بعد بيان الله تعالى بيانٌ .

قوله تعالى : { إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً } عن الوفاء بعهده؛ كقوله عزَّ وجلَّ : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] .
والثاني : أنَّ الضمير يعود على العهد ، ونسب السؤال إليه مجازاً؛ كقوله تعالى : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [ التكوير : 8 ، 9 ] .
أي : يقال للعهد عن صاحب العهد : لم نقضت ، وهلاَّ وفَّى بك؛ تبكيتاً للنَّاكث كقوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني } [ المائدة : 116 ] ، فالمخاطبة لعيسى - صلوات الله وسلامه عليه - والإنكار على غيره .
وقال السديُّ : { كَانَ مَسْؤُولاً } ، أي مطلوباً يطلب من المعاهد ألا يضيِّعه ويفي به .
وقيل : المراد بوفاء العهد : الإتيان بما أمر الله - تعالى - به ، والانتهاءُ عمَّا نهى الله عنه .
قوله تعالى : { وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ } الآية ، لما أمر تعالى بإتمام الكيل ، ذكرالوعيد الشديد في نقصانه كما في قوله تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 1-3 ] .
ثم قال تعالى : { وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم } .
وهذا هو النوع الثالث من الأوامر المذكورة ها هنا ، فالآية المتقدمة في إتمام الكيل ، وهذه في إتمام الوزن ، ونظيره قوله عزَّ وجلَّ : { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } [ الرحمن : 9 ] { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ } [ هود : 85 ] .
قرأ الأخوان وحفص بكسر القاف ها هنا وفي سورة الشعراء ، والباقون بضمها فيهما ، وهما لغتان مشهورتان ، فقيل : القسطاس في معنى الميزان ، إلاَّ أنَّه في العرف أكبر منه ، ولهذا اشتهر في ألسنة العامة أنَّه القبَّان ، وقيل : إنه بلسانِ الرُّوم أو السرياني ، والأصح أنه لغة العرب ، وقيل أيضاً القرسطون . وقيل : هو كل ميزان ، صغر أم كبر ، أي : بميزان العدل .
قال ابن عطيَّة - رحمه الله- : هو عربيٌّ مأخوذٌ من القسطِ ، وهو العدل ، أي : زنوا بالعدل المستقيم ، واللفظة للمبالغة من القسط ، وردَّه أبو حيَّان باختلاف المادَّتين ، ثم قال : « إلاَّ أن يدَّعي زيادةَ السِّين آخراً كقدموس ، وليس من مواضع زيادتها » ويقال بالسِّين والصَّاد .
فصل
اعلم أنَّ التفاوت الحاصل بنقصان الكيل والوزن قليل ، والوعيد عليه شديد عظيم ، فيجب على العاقل الاحتراز منه ، وإنَّما عظم الوعيد فيه؛ لأنَّ جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء ، فبالغ الشَّرع في المنع من التطفيف والنقصان؛ لأجل إبقاء الأموال؛ ومنعاً من تلطيخ النفس بسرقةِ ذلك المقدار الحقير ، ثم قال : « ذلك خير » ، أي الإيفاء بالتَّمام والكمال خير من التطفيف بالقليل؛ لأنَّ الإنسان يتخلَّص بالإيفاء عن ذكر القبيح في الدنيا ، والعقاب الشديد في الآخرة .
{ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } منصوب على التفسير ، والتأويل ما يئولُ غليه الأمر؛ كقوله تعالى : { وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } [ مريم : 76 ] ، { وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] { وَخَيْرٌ عُقْباً } [ الكهف : 44 ] ، وإنما حكم الله تعالى بأنَّ عاقبة هذا الأمر أحسنُ العواقب؛ لأنه إذا اشتهر في الدنيا بالاحتراز عن التطفيف ، أحبَّه الناس ، ومالت القلوبُ إليه ، واستغنى في الزَّمنِ القليل .
وأمَّا في الآخرة : فيفوزُ بالجنَّة والثوابِ العظيمِ ، والخلاصِ من العقاب الأليم .

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)

لمَّا شرح الأوامر الثلاثة ، عاد بعده إلى ذكرِ النَّواهي ، فنهى عن ثلاثةِ أشياء ، أولها : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } العامَّة على هذه القراءة ، أي : لا تتَّبعْ ، من قفاه يقفوه إذا تتبَّع أثره ، قال النابغة : [ الطويل ]
3417- ومِثلُ الدُّمى شمُّ العرانينِ ساكنٌ ... بِهنَّ الحياءُ لا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا
وقال الكميت : [ الوافر ]
3418- فَلا أرْمِي البَرِيءَ بِغيْرِ ذَنبٍ ... ولا أقًفُو الحَواصِنَ إنْ قُفينَا
وقرأ زيد بن عليٍّ : « ولا تَقْفُو » بإثبات الواو ، وقد تقدَّم في قراءة قنبل في قوله تعالى : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ } [ يوسف : 90 ] أن إثبات حرف العلَّة جزماً لغة قومٍ ، وضرورة عند غيرهم ، كقوله :
3419- .. مِنْ هَجْوِ زبَّان لمْ تَهْجُو ولمْ تَدعِ
وقرأ معاذ القارئ « ولا تَقُفْ » بزنةِ تقلْ ، من قاف يقُوفُ ، أي : تتبَّع أيضاً ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه مقلوبٌ؛ من قَفَا يَقْفُو .
والثاني : وهو الأظهر- : أنه لغة مستقلة جيدة؛ كجبذ وجذبَ؛ لكثرة الاستعمالين؛ ومثله : قعا الفحل الناقة وقاعها .
والباء في « به » متعلقةٌ بما تعلَّق به « لَكَ » ولا تتعلق ب « عِلمٌ » لأنه مصدر ، إلا عند من يتوسَّع في الجارِّ .
قوله تعالى : { والفؤاد } قرأ الجرَّاحُ العقيلي بفتح الفاء واوٍ خالصةٍ ، وتوجيهها : أنه أبدل الهمزة واواً بعد الضمة في القراءةِ المشهورة ، ثم فتح فاءَ الكلمة بعد البدل ، لأنَّها لغة في الفؤاد ، يقال : فؤاد وفآدٌ ، وأنكر أبو حاتمٍ هذه القراءة ، وهو معذور .
فصل
يقال : قَفَوْتُ أثر فلانٍ أقْفُو قَفْواً ، إذا تتبَّعتَ أثره ، وسُمِّيت قافية الشِّعر قافية؛ لأنَّ البيت يقفو البيت ، وسمِّيت القبيلة المشهورة بالقافة؛ لأنَّهم يتَّبعون آثار أقدام النَّاسِ ، ويستدلُّون بها على أحوال الإنسان .
وقال تعالى : { ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا } [ الحديد : 27 ] .
وسمِّي القفا قفاً؛ لأنه مؤخر بدنِ الإنسان ووراءه ، كأنه شيء يتبعه ويقفوه .
فقوله : « ولا تَقْفُ » أي : لا تتَّبعْ ما لا علم لك به ، من قول أو فعلٍ ، فهو نهيٌ عن الحكم مبا لا يكون معلوماً ، وهذه قضية كليةٌ يندرجُ تحتها أنواعٌ كثيرةٌ ، وكل واحدٍ من المفسِّرين حمله على واحدٍ من تلك الأنواع ، فقيل : المراد نهي المشركين عن اعتقاداتهم وتقليد أسلافهم؛ لأنَّه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتِّباع الهوى ، فقال تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [ النجم : 23 ] .
وقال في إنكارهم البعث { بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } [ النمل : 66 ] .
وحكى عنهم أنَّهم قالوا : { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [ الجاثية : 32 ] .
وقال : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله } [ القصص : 50 ] .
وقال عزَّ وجلَّ : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] .

وقال : { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } [ الأنعام : 148 ] .
وقال محمد ابن الحنفيَّة : المراد منه شهادة الزُّور .
وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- : لا تشهد إلاَّ بما رأته عيناك ، وسمعته أذناك ، ووعاهُ قلبك .
وقيل : المراد النَّهيُ عن القذف ، وقيل : المراد النهي عن الكذبِ .
قال قتادة : لا تقل : سمعت ، ولم تسمعْ ، ورأيتُ ، ولم تَرَ ، وعلمتُ ، ولم تعلمْ .
وقيل : القَفْوُ : هو البهت ، وأصله من القَفَا؛ كأنه يقال : خلفه ، وهو في معنى الغيبة . واللفظ عامٌّ يتناولُ الكلَّ ، فلا معنى للتقييد .
فصل في الرد على نفاة القياس
احتجَّ نفاةُ القياسِ بهذه الآية ، قالوا : القياسُ لا يفيدُ إلاَّ الظنَّ ، والظَّن مغاير للعلم ، فالحكم في دين الله تعالى بالقياس حكمٌ بغير العلم؛ فوجب ألا يجوز لقوله تعالى { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } .
وأجيب عنه بوجوه :
الأول : أن الحكم في الدِّين بمجرَّد الظنِّ جائزٌ بإجماع الأمَّة في صورٍ كثيرةٍ :
منها : العمل بالفتوى عملٌ بالظنّ .
ومنها : العمل بالشهادة عملٌ بالظَّنِّ .
ومنها : الاجتهاد في القبلة عمل بالظنِّ .
ومنها : قيم المتلفات ، وأروش الجنايات عملٌ بالظنِّ .
ومنها : الفصدُ ، والحجامةُ ، وسائر المعالجات؛ بناءً على الظنِّ .
ومنها : كون هذه الذَّبيحةِ ذبيحة مسلمٍ مظنون .
ومنها : الحكمُ على الشَّخص المعيَّن بكونه مؤمناً مظنونٌ ، ثم يبنى على هذا الظنِّ أحكام كثيرة ، كالتوارث والدفن في مقابر المسلمين وغيرهما .
ومنها : الأعمال المعتبرةُ في الدنيا من الأسفار ، وطلب الأرباح ، والمعاملات إلى الآجالِ المخصوصة ، والاعتماد على صداقةِ الأصدقاء ، وعداوة الأعداء كلِّها مظنونةٌ ، وبناء الأمر على هذه الظنون جائزٌ ، وقال - صلوات الله وسلامه عليه- : « نَحْنُ نَحْكمُ بالظَّاهر والله يتولَّى السَّرائِر »
وذلك تصريح بأنَّ الظنَّ معتبر في هذه الأنواع ، فبطل القول بأنه لا يجوز العمل بالظنِّ .
الثاني : أنَّ الظنَّ قد يسمَّى بالعلم؛ قال تعالى : { إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } [ الممتحنة : 10 ] .
ومن المعلوم أنَّه إنما يمكن العلم بإيمانهنَّ؛ بناء على إقرارهن ، وهذا لا يفيد إلاَّ الظنَّ ، وقد سمَّى الله تعالى الظنَّ ها هنا علماً .
الثالث : أنَّ الدليل القاطع ، لما دلَّ على وجوب العمل بالقياس ، كان ذلك الدليل دليلاً على أنَّه متى حصل ظنُّ أنَّ حكم الله في هذه الصُّورة يساوي حكمه في محلِّ النصِّ ، فأنتم مكلَّفُون بالعمل على وفق ذلك الظنِّ ، فها هنا الظن وقع في طريق الحكم ، فأمَّا الحكم ، فهو معلومٌ متيقَّن .
أجاب نفاةُ القياس عن الأول؛ فقالوا :
قوله عزَّ وعلا : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } دخله التخصيصُ في الصُّور العشرة المذكورة ، فيبقى العموم حجة فيما وراءها ، ثم نقول : الفرق بين هذه الصور وبين محلِّ النِّزاع أنَّ هذه الصور العشر مشتركة في أنَّ تلك الأحكام مختصَّة بأشخاصٍ معينين في أوقات معيَّنة؛ فإنَّ الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعيَّن إلى الفتى المعيَّن واقعة متعلقة بذلك الشخص المعيَّن ، وكذا القول في الشَّهادة وفي طلب القبلة ، وفي سائر الصور؛ والتنصيص على وقائع الأشخاص المعنيين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له ، فلهذه الضرورة؛ اكتفينا بالظنِّ ، أما الأحكام المثبتة ، فهي أحكامٌ كليةٌ معتبرةٌ في وقائعِ كلية ، وهي مضبوطة ، والتنصيص عليها مكنٌ ، ولذلك فإنَّ الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها ، وذكروها في كتبهم .

إذا عرف هذا ، فنقول : التنصيصُ على الأحكام في الصُّور العشر التي ذكرتموها غير ممكنٍ ، فلا جرم : اكتفى الشَّارع فيها بالظنِّ ، أما المسائلُ المثبتة بالطرق القياسيَّة فالتنصيصُ عليها ممكنٌ ، فلا يجوز الاكتفاءُ فيها بالظنِّ ، فظهر الفرقُ .
وقولهم : الظنَّ قد يسمَّى علماً ، فهذا باطلٌ؛ فإنه يصحُّ أن يقال : هذا مظنونٌ ، وغير معلوم ، وهذا معلومٌ ، وغير مظنونٍ ، فدلَّ على حصول المغايرة ، فيدلُّ عليه قوله تعالى : { هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } [ الأنعام : 148 ] نفى العلم ، وأثبت الظنَّ ، وذلك يدلُّ على المغايرة .
وأما قوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [ الممتحنة : 10 ] فالمؤمن هو المقر ، وذلك الإقرار معلوم .
وأمَّا الجوابُ عن الثالث ، فنقول : الكلام إنَّما يتمُّ لو ثبت أن القياس حجَّة بدليل قاطع ، وذلك باطل؛ لأنَّ القياس وهو الذي يفيد الظنَّ لا يجب عقلاً أن يكون حجة؛ لأنه لا نزاع أنَّه يصحُّ من الشَّرع أن يقول : نهيتكم عن الرجوع إلى القياسِ ، ولو كان كونه حجَّة أمراً عقلياً ، لامتنع ذلك .
والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ الدليل النقليَّ في كون القياس حجَّة ، إنما يكون قطعيًّا؛ إذ لو كان منقولاً نقلاً متواتراً ، كانت دلالته على ثبوت هذا المطلوب دلالة قطعيَّة غير محتملة للتخصيص ، ولو حصل مثل هذا الدليل ، لوصل إلى الكلِّ ، ولعرفه الكلُّ ، ولارتفع الخلاف ، وحيث لم يكن كذلك ، علمنا أنَّه لم يحصل في هذه المسألة دليلٌ سمعيٌّ قاطعٌ ، فثبت أنَّه لم يوجد في إثبات كون القياس حجة دليل قاطعٌ ألبتة ، فبطل قولكم : كون الحكم المثبتِ بالقياس حجَّة معلومٌ لا مظنونٌ .
قال ابن الخطيب : وأحسن ما يمكن أن يجاب عنه أن يقال : التمسُّك بهذه الآية الَّتي عولتم عليها تمسُّك بعامٍّ مخصوص ، والتمسُّك بالعامِّ المخصوصِ لا يفيد إلاَّ الظنَّ ، فلو دلَّت هذه الآية على أنَّ التمسُّك بالظنِّ غير جائز ، لدلَّت على أن التمسُّك بهذه الآية غير جائز ، فالقول بكون هذه الآية حجَّة يفضي ثبوته إلى نفيه ، فكان تناقضاً ، فسقط الاستدلال به .
وللمجيب أن يجيب عنه ، فيقول : نعلم بالتواتر الظَّاهر من دين محمد - صلوات الله وسلامه عليه - أنَّ التمسُّك بآياتِ القرآنِ حجَّة في الشريعة ، ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأن كون العامِّ المخصوص حجَّة غير معلومٍ بالتواتر .
قوله تعالى : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } .

قوله تعالى : « أولئك » إشارة إلى ما تقدَّم من السمع ، والبصر ، والفؤاد؛ كقوله : [ الكامل ]
3420- ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنْزلةِ اللِّوَى ... والعَيْشَ بعْدَ أولئِكَ الأيَّامِ
ف « أولئكَ » يشارُ به إلى العقلاء وغيرهم من الجموع ، واعتذر ابن عطيَّة عن الإشارة به لغير العقلاءِ ، فقال : وعبَّر عن السَّمعِ ، والبصرِ ، والفؤاد ب « أولئك » لأنها حواسٌّ لها إدراكٌ ، وجعلها في هذه الآية مسئولة؛ فهي حالة من يعقل؛ ولذلك عبَّر عنها بكناية من يعقل ، وقد قال سيبويه - رحمه الله - في قوله تعالى : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] إنما قال « رَأيْتهُم » في نجوم؛ لأن لمَّا وصفها بالسجود - وهو فعلُ من يعقِلُ - عبَّر عنها بكناية من يعقل ، وحكى الزجاج أنَّ العرب تُعَبِّرُ عمَّن يعقلُ وعمَّن لا يعقل ب « أولئك » وأنشد هو والطبريُّ : [ الكامل ]
3421- ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنْزلةِ اللِّوَى ... والعَيْشَ بعْدَ أولئكَ الأيَّامِ
وأمَّا حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده ، وأمَّا البيت فالرواية فيه « الأقوامِ » ولا حاجة إلى هذا الاعتذار لما عرفت ، وأما قوله : « إنَّ الرواية : الأقوَامِ » فغير معرنوفةٍ والمعروفُ إنما هو « الأيَّامِ » .
قوله : « كُلُّ اولئِكَ » مبتدأ ، و الجملة من « كَانَ » خبره ، وفي اسم « كان » وجهان :
أحدهما : أنه ضمير عائد على « كلُّ » باعتبار لفظها ، وكذا الضمير في « عَنْهُ » و « عَنْهُ » متعلق ب « مَسْئُولاً » و « مَسْئولاً » خبرها .
والثاني : أنَّ اسمها ضمير يعود على القافي ، وفي « عَنْه » يعود على « كُلُّ » وهو من الالتفات؛ إذ لو جرى على ما تقدَّم ، لقيل : كُنْتَ عنه مسئولاً ، وقال الزمخشري : و « عَنْهُ » في موضع الرفعِ بالفاعلية ، أي : كل واحدٍ كان مَسْئولاً عنه ، فَمسئُول مسند إلى الجار والمجرور؛ كالمغضوب في قوله { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] انتهى . وفي تسميته مفعول ما لم يسمَّ فاعله فاعلاً خلاف الاصطلاح .
وقد ردَّ أبو حيَّان عليه قوله : بأنَّ القائم مقام الفاعل حكمه حكمه ، فلا يتقدَّم على رافعه كأصله ، وليس لقائلٍ أن يقول : يجوز على رأي الكوفيِّين؛ فإنهم يجيزون تقديم الفاعل؛ لأن النحَّاس حكى الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل ، إذا كان جارًّا أو مجروراً ، فليس هو نظير وله { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } فحينئذٍ يكون القائم مقام الفاعل الضمير المستكنَّ العائد على « كُلُّ » أو على القافي .
فصل في ظاهر الآية
ظاهر الآية يدلُّ على أنَّ الجوارح مسئولةً ، وفيه وجوهٌ :
الأول : معناه أنَّ صاحب السَّمع ، والبصر ، والفؤاد هو المسئُول؛ لأنَّ السؤال لا يصحُّ إلاَّ من العاقل ، وهذه الجوارح ليست كذلك ، بل العاقل الفاهم هو الإنسان : لم سمعت ما لا يحلُّ سماعه ، ولم نظرت إلى ما لا يحلُّ لك نظره ، ولم عزمت على م الا يحلُّ لك العزم عليه .

والثاني : أن أولئك الأقوام كلهم مسئولون عن السمع ، والبصر ، والفؤاد ، فيقال لهم : استعملتم السمع فيماذا ، أفي الطاعة ، أو في المعصية؟ وكذلك القولُ في بقيَّة الأعضاء ، وذلك؛ لأنَّ الحواسَّ آلاتُ النَّفس ، والنَّفسُ كالأمير لها ، والمستعمل لها في مصالحها ، فإن استعملها في الخيرات ، استوجب الثواب ، وإذا استعملها في المعاصي ، استحقَّ العقاب .
والثالث : أنه تعالى يخلقُ الحياة في الأعضاء ، ثمَّ إنها تسألُ؛ لقوله تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] فكذلك لا يبعد أن يخلق العقل ، والحياة ، و النطق في هذه الأعضاء ، ثمَّ إنَّها تسال .
رُوي عن شكل بن حميدٍ - رحمه الله - قال : « أتَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسُول الله ، علِّمْنِي تعويذاً ، أتعوَّذ به ، فأخذ بيدي ، ثم قال : » قُل اللهُمَّ؛ أعُوذُ بِكَ من شرِّ سمعي ، وشرِّ بصري ، وشرِّ لسَانِي ، وشرِّ قلبي ، وشرِّ مَنِيِّي « قال فحفظتها .
قال سعيد : والمنيُّ ماؤه .

وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)

وهذا هو النهي الثاني .
قوله تعالى : « مَرَحاً » : العامة على فتحِ الراء ، وفيه أوجه :
أحدها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال ، أي : مرحاً بكسر الراء ، ويدل عليه قراءة بعضهم فميا حكاه يعقُوب « مَرِحاً » بالكسرِ .
قال الزجاج : « مرَحاً » مصدر ، ومرِحاً : اسم الفاعل ، وكلاهما جائز ، إلا أن المصدر هنا أحسن وأوكد ، تقول : جاء زيد ركضاً وراكضاً ، وآكد؛ لأنه يدل على توكيد الفعل .
الثاني : أنه على حذف مضافٍ ، أي : ذا مرحٍ .
الثالث : أنه مفعولٌ من أجله .
والمَرحُ : شدَّة السرورِ والفرح؛ مَرِحَ يمْرحُ مرحاً ، فهو مَرحٌ؛ كفَرِحَ يَفْرحُ فرحاً ، فهو فَرِحٌ .
قوله : { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً } الآية .
قرأ أبو الجرَّاح « لن تَخرُق » بضم الراء ، وأنكرها أبو حاتم وقال : لا نعرفها لغة البتَّة .
والمراد من الخرقِ ها هنا نقب الأرض ، وذكروا فيه وجوهاً :
الأول : أنَّ الشيء إنما يتمُّ بالارتفاع والانخفاض ، فكأنه قال إنَّك حال الانخفاض لا تقدر على خرق الأرض ونقبها ، وحال الارتفاع لا تقدر على أن تصل إلى رءوس الجبال ، والمعنى : أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئاً ، كمن يريد خرق الأرض ، ومطاولة الجبال لا يحصل على شيء .
والمراد التنبيهُ على كونه ضعيفاً عاجزاً ، فلا يليقُ به التكبُّر .
الثاني : أنَّ تحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها ، وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها ، فأنت محاطٌ بك من فوقك ، ومن تحتك بنوعين من الجماد ، وأنت أضعف منهما بكثيرٍ ، والضعيف المحصور لا يليق به التكبُّر ، فكأنه قيل له : تواضع ، ولا تتكبَّر؛ فإنَّك خلقٌ ضعيفٌ من خلق الله ، محصورٌ بين حجارةٍ وترابٍ ، فلا تفعل فعل القويِّ المقتدر .
الثالث : أنَّ من يمشي مختالاً يمشي مرَّة على عقبيه ، ومرَّة على صدور قدميه ، فقيل له : إنَّك لن تنقب الأرض ، إن مشيت على عقبيك ، ولن تبلغ الجبال طولاً ، إن مشيت على صدور قدميك .
قال عليٌّ - كرَّم الله وجهه- : كَان رسُول الله صلى الله عليه وسلم إذا مَشَى تَكَفَّأ تَكفُّؤاً؛ كأنَّما ينحطُّ من صَبَبٍ .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : « ما رأيْتُ شَيْئاً أحْسنَ من رسُول الله صلى الله عليه وسلم كأنَّ الشَّمسَ تَجْري في وجْههِ ، وما رأيتُ أحداً أسرعَ مِشْيةً من رسُول الله صلى الله عليه وسلم كَأنَّما الأرضُ تطوى له ، إنَّا لنَجْهدُ أنْفُسنَا وهُو غَيْرُ مُكْترِثٍ » .
قوله تعالى : « طُولاً » يجوز أن يكون حالاً من فاعل « تَبلُغ » أو من مفعوله ، أو مصدراً من معنى « تبلغ » أو تمييزاً ، أو مفعولاً له ، وهذان ضعيفان جدًّا؛ لعدمِ المعنى .

كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)

قرأ ابن عامر والكوفيُّون بضمِّ الهمزة والهاء ، والتذكير ، وتركِ التنوين ، والباقون بفتح الهمزة ، وتاءِ التأنيث منصوبة منونة ، فالقراءة الأولى أشير فيها بذلك غلى جميع ما تقدم ، ومنه السَّيئ والحسنُ ، فأضاف السيِّئ إلى ضمير ما تقدَّم ، ويؤيِّدها ما قرأ به عبد الله : « كلُّ ذلك كان سيِّئاتهُ » بالجمع ، مضافاً للضمير ، وقراءة أبيّ « خَبِيثهُ » والمعنى : كل ما تقدم ذكره ممَّا أمِرتُمْ به ونهيتم عنه كان سيِّئهُ - وهو ما نهيتم عنه خاصة - أمراً مكروهاً ، هذا أحسنُ ما يقدِّر في هذا المكانِ .
وأمَّا ما استشكله بعضهم من أنَّه يصير المعنى : كل ما ذكر كان سيئة ، ومن جملة كلِّ ما ذكر : المأمورُ به ، فيلزمُ أن يكون فيه سيِّئٌ ، فهو استشكالٌ واهْ؛ لما تقدم من تقرير معناه .
و « مَكْرُوهاً » خبر « كان » وحمل الكلامُ كله على لفظ « كلُّ » فلذلك ذكَّر الضمير في « سَيِّئهُ » والخبر ، وهو : مكروهٌ .
وأمَّا قراءة الباقين : فيحتمل أن تقع الإشارة فيها ب « ذلِكَ » إلى مصدري النَّهيينِ المتقدِّمين قريباً ، وهما :
قَفْوُ ما ليس به علمٌ ، والمشيُ في الأرض مرحاً .
والثاني : أنه أشير به إلى جميع ما تقدَّم من المناهي .
و « سيِّئةً » خبر « كان » وأنِّثَ؛ حملاً على معنى « كلُّ » ثم قال « مَكْرُوهاً » حملاً على لفظها .
وقال الزمخشريُّ كلاماً حسناً ، وهو : أنَّ « السَّيِّئة في حكم الأسماءِ : بمنزلة الذَّنبِ والإثم ، زال عنه حكم الصفات ، فلا اعتراب بتأنيثه ، ولا فرق بين من قرأ » سيئة « ومن قرأ » سيِّئاً « ألا ترى أنَّك تقول : الزِّنى سيِّئةٌ ، كما تقول : السَّرقة سيِّئة ، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث » .
وفي نصب « مكروهاً » أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه خبر ثانٍ ل « كان » وتعدادُ خبرها جائز على الصَّحيح .
الثاني : أنه بدلٌ من « سَيِّئةٍ » وضعف هذا؛ بأنَّ البدل بالمشتقِّ قليلٌ .
الثالث : أنه حالٌ من الضمير المستتر في « عند ربِّك » لوقوعه صفة ل « سيئة » .
الرابع : أنه نعتٌ ل « سَيِّئةً » ، وإنما ذكر لأن « سيِّئةً » تأنيث موصوفه مجازي؛ وقد ردَّ هذا؛ بأن ذلك إنًَّما يجوز حيث أسند إلى المؤنث المجازيِّ ، أمَّا إذا أسند إلى ضميره ، فلا؛ نحو : « الشَّمسُ طَالعةٌ » لا يجوز : « طَالعٌ » إلا في ضرورةٍ كقوله :
3422- . ... ولا أرْضَ أبْقلَ إبْقالهَا
وهذا عند غير ابن كيسان ، وأمَّا ابن كيسان فيجيز في الكلام : « الشَّمسُ طَلع ، وطَالعٌ » .
وقيل : إنما ذكَّر سيِّئةً وهي الذنب ، وهو مذكر [ لأن التقدير : كل ذلك كان مكروهاً وسيئة عند ربك ] وقيل فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، أي كل ذلك كان مكروهاً سيئة .

فصل
وأمَّا قراءة عبد الله فهي ممَّا أخبر فيها عن الجمع إخبار الواحد؛ لسدِّ الواحد مسدَّه؛ كقوله :
3423- فَإمَّا تَريْنِي ولِي لمَّةٌ ... فإنَّ الحَوادِثَ أوْدَى بِهَا
لو قال : فإنَّ الحدثان ، لصحَّ من حيثُ المعنى ، فعدل عنه؛ ليصحَّ الوزنُ .
وقرأ عبد الله أيضاً « َان سَيِّئاتٍ » بالجمع من غير إضافةٍ ، وهو خبر « كان » وهي تؤيِّد قراءة الحرميَّين ، وأبي عمرو .
فصل
قال القاضي - رحمه الله- : دلَّت هذه الآية على أنَّ هذه الأعمال مكروهة عند الله تعالى ، والمكروهُ لا يكون مراداً ، فهذه الأعمال غير مرادِ الله ، فبطل قول من يقول : كل ما دخل في الوجود ، فهو مراد الله تعالى ، وإذا ثبت أنها ليست بإرادة الله تعالى ، وجب ألاَّ تكون مخلوقة - لله تعالى-؛ لأنَّها لو كانت مخلوقة لله تعالى ، لكانت مرادة ، لا يقال : المراد من كونها مكروهة : أنَّ الله تعالى نهى عنها .
وأيضاً : معنى كونها مكروهة أن الله تعالى كره وقوعها ، وعلى هذا التقدير : فهذا لا يمنع أنَّ الله تعالى أراد وجودها ، لأنَّ الجواب أنه عدولٌ عن الظاهر .
وأيضاً : فكونها سيِّئة عند ربِّك يدلُّ على كونها منهيًّا عنها ، فلو حملت المكروه على النَّهي ، لزم التَّكرار .
والجواب عن الثاني أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الزجر عن هذه الأفعال ، ولا يليقُ بهذا الموضع أن يقال : إنه تعالى يكرهُ وقوعها .
وأجيب بأنَّ المراد من المكروه المنهيُّ عنه ، ولا باس بالتَّكرير ، لأجل التأكيد .
فصل
قال القاضي دلَّت هذه الآية على أنه تعالى كما أنَّه موصوف بكونه مريداً ، فكذلك أيضاً موصوفٌ بكونه كارهاً .
وأجيب بأنَّ الكراهية في حقِّه تعالى محمولة إمَّا على النهي ، [ وإمَّا هي ] إرادة العدم .

ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)

قوله تعالى : { ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة } : [ مبتدأ أو خبر ] ، اعلم أن قوله « ذلك » إشارةٌ إلى ما تقدَّم من التكاليف ، وهي خمسةٌ وعشرون نوعاً ، أولها قوله تعالى : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الإسراء : 22 ] .
وقوله : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] .
وهذا مشتملٌ على تكليفين :
الأمر بعبادةِ الله تعالى ، والنهي عن عبادة غير الله ، فكان المجموع [ ثلاثة ] .
والرابع : قوله تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] وقوله : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } [ الإسراء : 23 ] وقوله { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَقُل رَّبِّ ارحمهما } [ الإسراء : 23 ، 24 ] { وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } [ الإسراء : 26 ] وقوله : { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } [ الإسراء : 28 ] { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا } [ الإسراء : 29 ] { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ } [ الإسراء : 31 ] { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس } [ الإسراء : 33 ] { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } [ الإسراء : 33 ] { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } [ الإسراء : 34 ] وقوله : { وَأَوْفُوا الكيل } [ الإسراء : 35 ] { وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم } [ الإسراء : 35 ] وقوله : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً } [ الإسراء : 37 ] { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ } فهذه خمسةٌ وعشرون تكليفاً ، بعضها أوامر وبعضها نواهٍ ، جمعها الله تعالى في هذه الآيات ، وجعل فاتحتها قوله : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً } [ الإسراء : 22 ] ، وخاتمتها قوله : { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } وإنَّما سمَّاها حكمة؛ لوجوه :
الأول : أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتَّوحيد ، وأنواع الطَّاعات والخبرات والإعراض عن الدنيا ، والإقبال على الآخرة ، والعقول تدلُّ على صحَّتها ، فالآتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعياً إلى دين الشيطان ، بل الفطرة الأصليَّة تشهد بأنَّه يكون داعياً إلى دبن الرَّحمن .
الثاني : أنَّ هذه الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ، ولا تقبل النَّسخ والإبطال ، فكانت محكمة وحكمة من هذه الاعتبارات .
الثالث : أنَّ الحكمة عبارةٌ عن معرفة الحقِّ لذاته ، والخير لأجلِ العمل به؛ فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأوَّل ، وسائر التكاليف عبارة عن تعلُّم الخيرات؛ لأجل العمل بها .
روي عن ابن عباسٍ - رضي الله عنه - أنَّ هذه التكاليف المذكورة كانت في ألواح موسى - صلوات الله عليه - أولها « لا تَجْعلْ مع الله إلهاً آخر » .
قال تعالى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً } [ الأعراف : 145 ] .
فكلُّ ما أمر الله به أو نهى عنه ، فهو حكمةٌ .
قوله تعالى : « مِنَ الحكمةِ » يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكون حالاً من عائد الموصول المحذوف ، تقديره : من الذي أوحاه حاك كونه من الحكمة ، أو حال من نفس الموصول .
الثاني : أنه متعلق ب « أوْحَى » ، و « مِنْ » إمَّا تبعيضيةٌ؛ لأنَّ ذلك بعض الحكمة ، وإمَّا للابتداء ، وإما للبيان .

وحينئذٍ تتعلق بمحذوفٍ .
الثالث : أنها مع مجرورها بدل من « ممَّا أوْحَى » .
فصل
ذكر في الآية أنَّ المشرك يكون مذموماً مخذولاً .
وذكر ها هنا أنَّ المشرك يلقى في جهنَّم ملوماً مدحوراً ، فاللَّوم والخذلان يحصل في الدنيا ، وإلقاؤهُ في جهنَّم يحصل يوم القيامة ، والفرقُ بين الملوم والمدحُور ، وبين المذموم والمخذول : أنَّ معنى كونه مذموماً : أن يذكر له أنَّ الفعل الذي أقدم عليه قبيحٌ ومنكرٌ ، وإذا ذكر له ذلك ، فعند ذلك يقال له : لم فعلت هذا الفعل؟ وما الذي حملك عليه؟ وما استفدت من هذا العمل ، إلاَّ إلحاق الضَّرر بنفسك؟ وهذا هو اللَّوم .
وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور ، فهو أنَّ المخذول هو الضعيف ، يقال : تخاذلت أعضاؤه ، أي : ضعفت ، والمدحور هو المطرود ، والطَّرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة ، فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته ، وتفويضه إلى نفسه ، وكونه مدحوراً عبارةٌ عن إهانته ، فيصير أوَّل الأمر مخذولاً وآخره يصير مدحوراً .

أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)

قوله تعالى : { أَفَأَصْفَاكُمْ } : ألفُ « أصْفَى » عو واوٍ؛ لأنه من « صَفَا يَصْفُو » وهو استفهام إنكارٍ وتوبيخٍ .
ويقال : أصفاهُ بالشَّيء ، إذا آثرهُ به ، ويقال للضِّياعِ التي يستخصُّها السلطان لخاصَّته الصَّوافِي .
قال أبو عبيدة - رحنه الله - في قوله تعالى : { أَفَأَصْفَاكُمْ } : أفخصّكم وقال المفضل : أخلصكم .
قال النحويون : هذه الهمزة همزة تدلُّ على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهبٍ ظاهر الفساد ، لا جواب لصاحبه ، إلاَّ بما فيه أعظمُ الفضيحةِ .
واعلم أنَّه تعالى ، لما نبَّه على فساد طريقة من أثبت لله شريكاً ، أتبعه بفسادِ طريقة من أثبت الولد لله تعالى ، ثم نبه على كمال جهل هذه الفرقة وهو أنَّ الولد على قسمين ، فأشرف القسمين : البنون ، وأخسُّها : البنات ، ثمَّ إنَّهم أثبتوا البنين لأنفسهم ، مع علمهم بنهاية عجزهم ، وأثبتوا البنات لله تعالى مع علمهم بأنَّ الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له ، وذلك يدلُّ على نهاية جهل القائلين بهذا القول؛ ونظيره قوله تعالى : { أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون } [ الطور : 39 ] وقوله جلَّ ذكرهُ : { وَلَهُ الأنثى } [ النجم : 21 ] .
ومعنى الآية أنه اختاركم ، فجعل لكم الصَّفوة ، ولنفسه ما ليس بصفوة ، يعني اختاركم { بالبنين واتخذ مِنَ الملاائكة إِنَاثاً } ؛ لأنَّهم كانوا يقولون : إنَّ الملائكة بنات الله تعالى .
قوله تعالى : « واتَّخَذَ » يجوز أن تكون المتعدية لاثنين ، فقال أبو البقاء : « إنَّ ثانيهما محذوف ، أي : أولاداً ، والمفعول الأوَّلُ هو إناثاً » وهذا ليس بشيءٍ ، بل المفعول الثاني هو « مِنَ المَلائكةِ » قدِّم على الأوَّل ، ولولا ذلك لزم أن يبتدأ بالنَّكرةِ من غير مسوغٍ؛ لأنَّ ما صلح أن يكون مبتدأ صلح أن يكون مفعولاً أوَّل في هذا الباب ، وما لا ، فلا ، ويجوز أن تكون متعدية لواحدٍ ، كقوله : { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } [ البقرة : 116 ] ، و « مِنَ الملائكة » متعلق ب « اتَّخذ » أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من النَّكرة بعده .
ثم قال تعالى : { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } وهذا خطابٌ لمشركي « مَكَّة » وبيان كون هذا القول عظيماً : أنَّ إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركَّباً من الأجزاء والأبعاض ، وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجوب لذاته ، وذلك عظيم من القول ، وأيضاً : فبتقدير ثبوت الولد ، فقد جعلوا أشرف القسمين لأنفسهم ، وأخسَّ القسمين لله تعالى ، وهذا جهلٌ عظيمٌ .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } : العامة على تشديد الراء ، وفي مفعول « صرَّفنا » وجهان :
أحدهما : أنه مذكورٌ ، و « في » مزيدة فيه ، أي : ولقد صرفنا هذا القرآن؛ كقوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ } [ الفرقان : 50 ] ، ومثله : [ الطويل ]
3424- . ... يَجْرَحُ في عَراقيبها نَصْلِي
وقوله تعالى : { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتيا } [ الأحقاف : 15 ] أي : يجرح عراقيبها ، وأصلح لي ذريتي ، وردَّ هذا بأنَّ « في » لا تزاد ، وما ذكر متأوَّل ، وسيأتي إنْ شاء الله تعالى في الأحقاف .
الثاني : أنه محذوفٌ تقديره : ولقد صرَّفنا أمثاله ، ومواعظه ، وقصصه ، وأخباره ، وأوامره .
وقال الزمخشريُّ في تقدير ذلك : « ويجوز أن يراد ب » هَذَا القرآنِ « إبطال إضافتهم إلى الله البنات؛ لأنه ممَّا صرفه ، وكرَّر ذكره ، والمعنى : ولقد صرَّفنا القول في هذا المعنى ، وأوقعنا التصريف فيه ، وجعلناه مكاناً للتكرير ، ويجوز أن يريد ب » هَذا القُرآنِ « التنزيل ، ويريد : ولقد صرَّفناهُ ، يعني هذا المعنى في مواضعَ من التنزيل ، فترك الضمير؛ لأنَّه معلوم » ، وهذا التقدير الذي قدَّره الزمخشري أحسنُ؛ لأنه مناسب لما دلَّت عليه الآية وسيقت لأجله ، فقدَّر المفعول خاصًّا ، وهو : إمَّا القولُ ، وإمَّا المعنى ، وهو الضمير الذي قدَّره في « صَرَّفناه » بخلاف تقدير غيره ، فإنه جعله عامًّا .
وقيل : المعنى : لم نُنَزِّلهُ مرةً واحدة ، بل نجوماً ، والمعنى : أكثرنا صرف جبريل إليك ، فالمفعول جبريل - عليه السلام- .
وقرأ الحسن بتخفيفِ الرَّاء ، فقيل : هي بمعنى القراءةِ الأولى ، وفعَل وفعَّل قد يشتركان ، وقال ابن عطيَّة : « أي : صرفنا النَّاس فيه إلى الهدى » .
والصَّرْفُ في اللغة : عبارة عن صرف الشيء من جهة إلى جهة؛ نحو : تصريف الرياح ، وتصريف الأمور ، هذا هو الأصل في اللغة ، ثم جعل لفظ التَّصريف كناية عن التَّبيين؛ لأنَّ من حاول بيان شيءٍ ، فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع آخر ، ومن مثالٍ إلى مثالٍ آخر؛ ليكمل الإيضاح ، ويقوي البيان ، فقوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } أي : بيَّنَّا .
قوله : « لِيَذَّكَّرُوا » متعلق ب « صَرَّفْنَا » وقرأ الأخوان هنا ، وفي الفرقان بسكون الذَّال ، وضمِّ الكاف مخففة مضارع « ذكر » من الذّكر أو الذُّكر ، والباقون بفتح الذال ، والكاف مشددة ، والأصل : يتذكَّروا ، فأدغم التاء في الذَّال لقرب المخرج وهو من الاعتبار والتَّدبُّر .
قال الواحديُّ : والتذكُّر هنا أشبه من الذِّكر؛ لأنَّ المراد منه التدبُّر والتفكُّر ، وليس المراد منه الذِّكر الذي يحصل بعد النسيان ، ثم قال : وأمَّا قراءة حمزة والكسائي ، ففيها وجهان :
الأول : أنَّ الذكر قد جاء بمعنى التَّأمُّل والتدبُّر؛ كقوله سبحانه جلَّ ذكره : { خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ } [ البقرة : 63 ] . والمعنى : وافهموا ما فيه .
والثاني : أن يكون المعنى : صرفنا هذه الدلائل في هذا القرآن؛ لتذكروه بألسنتكم؛ فإنَّ الذكر بألسنتكم قد يؤدِّي إلى تأثر القلب بمعناه .

فصل
قال الجبائيُّ - رحمه الله تعالى- : قوله عزَّ وجلَّ : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ } يدل على أنَّه تعالى يفعل أفعاله لأغراضٍ حكميةٍ ، ويدلُّ على أنَّه تعالى أراد الإيمان من الناس ، سواءٌ آمنوا ، أو كفروا .
قوله : { وَمَا يَزِيدُهُمْ } ، أي : التصريفُ ، و « نُفوراً » مفعول ثانٍ وهذه الآية تدلُّ على أنَّه تعالى ما أراد الإيمان من الكفَّار؛ لأنَّه تعالى عالمٌ بأن تصريف القرآن لا يزيدهم إلا نفوراً ، فلو أراد الإيمان منهم ، لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة عنه؛ لأنَّ الحكيم ، إذا أراد تحصيل أمرٍ من الأمور ، وعلمَ أنَّ الفعل تلفلاميَّ يصير سبباً للعسر والتعذُّر والنفرة؛ فإنَّه عند محاولة تحصيل ذلك المقصود يحترزُ عما يوجب النُّفرة ، فلمَّا أخبر تعالى أنَّ هذا التصرُّف يزيدهم نفُوراً ، علمنا أنَّه ما أراد الإيمان منهم .

قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)

قوله تعالى : { كَمَا يَقُولُونَ } : الكافُ في موضع نصبٍ ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنها متعلقة بما تعلَّقت به « مع » من الاستقرار ، قاله الحوفيُّ .
والثاني : أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : كوناً كقولكم؛ قاله أبو البقاء .
وقرأ ابن كثير وحفص « يقولون » بالياء من تحت ، والباقون بالتاء من فوق ، وكذا قوله تعد هذا { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ } [ الإسراء : 43 ] ، قرأه بالخطاب الأخوان ، والباقون بالغيبة فتحصَّل من مجموع الأمر؛ أنَّ ابن كثير وحفصاً يقرآنهما بالغيبة ، وأن الأخوين قرءوا بالخطاب فيهما ، وأن الباقين قرءوا بالغيبة في الأول ، وبالخطاب في الثاني .
فوجه قراءة الغيب فيهما أنه : حمل الأوَّل على قوله : { وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [ الإسراء : 41 ] ، وحمل الثاني عليه ، ووجه الخطاب فيهما : أنه حمل الأوَّل على معنى : قل لهم يا محمد لو كان معه آلهةٌ كما تقولون ، وحمل الثاني عليه .
ووجه الغيب في الأول : أنه حمله على قوله « ومَا يَزِيدهُمْ » والثاني التفت فيه إلى خطابهم .
قوله : « إذَنْ » حرف جوابٍ وجزاءٍ ، قال الزمخشريُّ : وإذن دالَّة على أنَّ ما بعدها ، وهو « لابتَغَوا » جواب لمقالةِ المشركين ، وجزاءٌ ل « لَوْ » .
وأدغم أبو عمرٍو الشين في السين ، واستضعفها النحاة؛ لقوَّة الشَّين .
فصل في معنى الآية
المعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : { لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ } لطلبوا - يعني الآلهة - { إلى ذِي العرش سَبِيلاً } بالمغالبة والقهر؛ ليزيلوا ملكه؛ كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض ، وهذا يرجع إلى دليل التمانع ، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - عند قوله - عزَّ وجلَّ - في سورة الأنبياء - صلوات الله عليهم - { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] وقيل : المعنى : لطلبوا - يعني الآلهة - { إلى ذِي العرش سَبِيلاً } بالتقرُّب إليه ، لأنَّ الكفار كانوا يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] .
فقال تعالى : لو كانت هذه الأصنام تقربكم إلى الله زلفى ، لطلبت لأنفسها أيضاً القرب غلى الله تعالى ، فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله ، ثم نزَّه نفسه فقال : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } .
قوله تعالى : { وتعالى } : عطف على ما تضمَّنه المصدر ، تقديره : تنزَّه وتعالى . و « عن » متعلقة به ، أو ب « سبحان » على الإعمال لأنَّ « عَنْ » تعلقت به في قوله { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ] و « عُلُوًّا » مصدر واقع موقع التعالي؛ لأنَّه كان يجب أن يقال : تعالياً كبيراً ، فهو على غير المصدر كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] [ في كونه على غير الصدر ] . والتَّسبيحُ عبارة عن تنزيه الله تعالى عمَّا لا يليقُ به .
والفائدة في وصف ذلك العلوِّ بالكبر : أن المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصَّاحبة ، والولد ، والشُّركاء ، والأضداد ، والأنداد ، منافاة بلغت في القوَّة والكمال غلى حيث لا تعقل الزيادة عليها؛ لأنَّ المنافاة بين الواجب لذاته ، والممكن لذاته ، وبين القديم والمحدث ، وبين الغنيِّ و المحتاج منافاة لا يعقل الزيادة عليها ، فلهذا السبب وصف الله تعالى ذلك العلو بالكبر .

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)

قوله تعالى : { تُسَبِّحُ } قرأ أبو عمرو والأخوان ، وحفص « تُسَبِّحُ » بالتاء ، والباقون بالياء من تحت ، وهما واضحتان؛ لأن التأنيث مجازي ، ولوجود الفصل أيضاً بين الفعل والتأنيث .
وقال ابن عطيَّة : « ثم أعاد على السَّموات والأرض ضمير من يعقل ، لمَّا أسند إليها فعل العاقل ، وهو التسبيح » وهذا بناءً على أنَّ « هُنَّ » مختصٌّ بالعاقلات ، وليس كما زعم ، وهذا نظيرُ اعتذاره عن الإشارة ب أولئك « في قوله » كُلُّ أولئكَ « وقد تقدَّم . وقرأ عبد الله والأعمش » سَبّضحَتْ « ماضياص بتاء التأنيث .
فصل
قال ابن عطيَّة : يقال : فَقِهَ ، وفَقَهَ ، وفَقُهُ؛ بكسر القاف ، وفتحها ، وضمها ، فالكسر إذا فهم ، وبالفتح إذا سبق غيره للفهم ، وبالضمِّ إذا صار الفقه له سجيَّة ، فيكون على وزن » فَعُلَ « بالضَّم؛ لأنَّه شأنُ أفعال السجايا الماضية نحو : ظَرُفَ فو ظريفٌ ، وشرُف فهو شريفٌ ، وكرُم فهو كريم ، واسم الفاعل من الأوليين فاعل؛ نحو : سَمِعَ ، فهو سَامعٌ ، وغلب فهو غالبٌ ، ومن الثالث : فعيلٌ؛ فلذلك تقول فَقُهَ فهو فَقِيهٌ .
فصل
روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : وإن من شيء حيٍّ إلا يُسبح بحمدهِ
وقال قتادة - رضي الله عنه - يعني الحيوانات والنَّاميات .
وقال عكرمةُ : الشجرة تسبِّح ، والأسطوانة تسبِّح .
وعن المقدام بن معدي كرب ، قال : » إنَّ التُّرابَ يُسَبِّح مَا لمْ يبْتَلَّ ، فإذا ابتلَّ ترك التَّسبيحَ ، وإنَّ الخرزة تُسَبِّحُ ، مَا لَمْ تُرفَعْ من موضعها ، فإذا رفعتْ تركت التَّسبيح ، وإنَّ الورقة تُسبِّح ما دامت على الشَّجرة ، فإذا سقطت ، تركت التَّسبيح ، وإنَّ الماء يسبِّح ما دام جارياً ، فإذا أركد ، ترك التَّسبيح ، وإنَّ الثوب يسبِّح ما دام جديداً ، فإذا وسخ ، ترك التسبيح ، وإن الطير والوحش تسبِّح ، إذا صاحتْ ، فإذا سكنت ، تركت التَّسبيح .
وقال إبراهيم النخعيُّ : وإن من شيءٍ جمادٍ وحيٍّ إلا يسبِّح بحمده ، حتَّى صرير الباب ، ونقيض السقف .
وقال مجاهدٌ : كل الأشياء تسبِّح لله ، حيًّا كان أو ميتاً ، أو جماداً ، وتسبيحها : سبحان الله وبحمده .
قال أهلُ المعاني : تسبيحُ الحيِّ المكلَّف بالقول ، كقول اللسان : سبحان الله ، وتسبيح غير المكلَّف كالبهائم ، ومن لا يكون حيًّا ، كالجمادات ما دلَّت بلطيفِ تركيبها ، وعجي هيئتها على خالقها؛ لأنَّ التسبيح باللسان لا يحصُل إلاَّ مع الفهم ، والعلم ، والإدراك ، والنُّطق ، وكل ذلك في الجمادات محالٌ .
قالوا : فلو جوَّزنا في الجماد أن يكون عالماً متكلِّماً ، لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى قادراً عالماً على كونه حيًّا ، وحينئذٍ : يفسد علينا باب العلم بكونه حيًّا ، وذلك كفر؛ فإنَّه إذا جاز للجمادات أن تكون عالمة بذات الله وصفاته ، وتسبيحه ، مع أنَّها ليست بأحياء؛ فحينئذ : لا يلزم من كون الشيءِ عالماً قادراً متكلماً أن يكون حيًّا ، وذلك كفر؛ فإنَّه إذا جاز للجمادات أن تكون عالمة بذات الله وصفاته ، وتسبيحه ، مع أنَّها ليست بأحياء؛ فحينئذ : لا يلزم من كون الشيءِ عالماً قادراً متكلماً أن يكون حيًّا ، فلم يلزم من كونه تعالى عالماً قادراً كونه حيًّا ، وذلك جهلٌ وكفر ، ومن المعلوم بالضَّرورة أنَّ من ليس بحيٍّ لم يكن عالماً قادراً متكلِّماً .

واحتج القائلون بأنَّ الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلُّها تسبِّح لله تعالى بهذه الآية ، ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته؛ لأنَّه تعالى قال : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } وهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا ، ودلالتها على وجود قدرة الله تعالى وحكمته معلومةٌ لنا ، فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايراً لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته سبحانه .
فأجاب أهل المعاني بوجوه :
أولها : أنَّك إذا أخذت تفاحة واحدة ، فتلك التفاحة مركبة من أشياء كثيرة ، لا تتجزَّأ ، وكلُّ واحدٍ من تلك الاجزاء دليلٌ تامٌّ مستقلٌّ على وجودِ الإله ، ولكلِّ واحد من تلك الأجزاء صفات مخصوصة من الطَّبع ، والطَّعم ، واللَّون ، و الرائحة ، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات ، ولا يحصل ذلك إلا بتخصيص مخصِّص قادر حكيم .
إذا عرف هذا ظهر أنَّ كلَّ واحدٍ من أجزاء تلك التفاحة دليل تامٌّ على وجود الإله ، وكل صفة من تلك الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد أيضاً دليل تامٌّ على وجود الإله ، ثم عدد تلك الأجزاء غي رمعلومٍ ، وأحوال تلك الصفات غير معلومة ، فلهذا قال تعالى : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } .
وثانيها : أن الكفَّار ، وإن كانوا يقرُّون بإثبات إله العالم إلاَّ أنهم ما كانوا يتفكَّرون في أنواع الدَّلائلِ ، كما قال تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] .
فكان المراد من قوله : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } هذا المعنى .
وثالثها : أنَّ القوم ، وإن كانوا مقرِّين بألسنتهم بإثبات إله العالم ، إلاَّ أنَّهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته ، ولذلك استبعدوا كونه قادراً على الحشر والنشر ، فكان المراد ذلكز
ورابعها : قوله لمحمدٍ : « قُلْ » لهم : { لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] ، فهم ما كانوا عالمين بهذه الدلائل ، فلما قال : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ } بصحَّة هذا الدليل وقوَّته ، وأنتم لا تفقهون هذا الدليل ، ولا تعرفونه ، بل القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والنبوَّة والمعاد ، فقال تعالى : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } ، فذكر الحليم الغفور ها هنا يدلُّ على كونهم لا يفقهون ذلك التَّسبيح ، وذلك جرم عظيمٌ صدر عنهم ، وهذا إنما يكن جرماً ، إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالَّة على كمال قدرة الله وحكمته ، ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم ، ما عرفوا وجه تلك الدلائل ، ولو حملنا هذا التسبيح على تسبيح الجمادات بأنواعها ، لم يكن عدم الفقه لذلك التسبيح جرماً ، ولا ذنباً ، وإذا لم يكن جرماً ، ولا ذنباً ، لم يكن قوله : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } لائقاً بهذا الموضع .

واعلم أنَّ القائلين بأن الجمادات والحيوانات غير الناطقة تسبِّح بألفاظها ، أضافوا إلى كلِّ حيوانٍ نوعاً من التسبيح ، وقالوا : إنَّها غذا ذبحتْ لم تسبِّح ، مع قولهم بأنَّ الجماداتِ تسبِّح ، فإذا كان كونه جماداً لا يمنع من كونه مسبِّحاً ، فكيف صار ذبح الحيوان مانعاً له من التَّسبيح؟! .
وقالوا : إن عصا الشَّجرة إذا كسرت ، لم تسبِّح ، وإذا كان كونه جماداً ، لم يمتنع من كونه مسبِّحاً ، فكيف يمنع ذلك من تسبيحها بعد الكسر؟ وهذه كلمات ضعيفة .
فصل في تسبيح السماوات والأرض
دلَّت هذه الآية على أنَّ السماوات والأرض ومن فيهن يسبِّح الله تعالى ، فتسبيح السماوات والأرض ليس إلاَّ بمعنى تنزيه الله ، وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجازٌ ، وأما تسبيح المكلَّفين فهو قول : « سُبحَانَ الله » ، وهذا حقيقة ، فيلزم أن يكون قوله « تُسبِّحُ » لفظاً واحداً قد استعمل في الحقيقة والمجاز معاً ، وهو باطل لم يثبت في أصول الفقه ، فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على المجاز في حقِّ العقلاء وغيرهم؛ لئلاَّ يلزم هذا المحذورُ .

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)

لمَّا تكلَّم في الآية المتقدمة في إثبات الإلهيَّة ، تكلَّم في هذه الآية في تقرير النبوَّة ، وفيها قولان :
الأول : أنَّ هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن على الناس . روي أنه - عليه السلام - كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه وعن يساره أحزاب من ولد قصيٍّ يصفقون ، ويصفِّرون ، ويخلطون عليه بالأشعار .
وروى سعيد بن جبير عن أسماء رضي الله عنها قالت : « كَانَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ، ومعه أبُو بكرٍ - رضي الله عنه- ، فنزلت سورة { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } [ المسد : 1 ] فجاءت امرأة أبي لهبٍ ، ومعها حجرٌ ، تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول : [ الرجز ]
3425_@_- مُذمَّماً أبَيْنَا _@_ ودِينَهُ قَلَيْنَا_@_ _@_وأَمْرَهُ عَصَيْنَا_@_ ولم تَرهُ فقال أبو بكرٍ - رضي الله عنه - يا رسول الله معها حجرٌ ، أخشى عليك ، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، فقالت لأبي بكرٍ : قد علمت أنِّي ابنة سيِّد قريش ، وأنَّ صاحبك هجاني ، فقال ابو بكرٍ - رضي الله عنه- : والله ، ما ينطق بالشِّعر ، ولا يقوله ، فرجعت ، وهي تقول : قد كنتُ جئت بهذا الحجر؛ لأرضخ رأسه . فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : ما رأتك يا رسول الله؟ قال : لا ، لم يزل ملك بيني وبينها يسترني » .
وروى ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - أنَّ أبا سفيان والنضر بن الحارث وأبا جهل وغيرهم ، كانوا يجالسون النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون إلى حديثه ، فقال النَّضر يوماً : ما أدري ما يقول محمجٌ ، غير أنِّي أرى شَفَتيْهِ تتحركان بشيءٍ ، فقال أبو سفيان : إنِّي أرى بعض ما يقوله حقًّا .
وقال أبو جهلٍ : هو مجنونٌ .
وقال أبو لهبٍ : كاهنٌ ، وقال حويطب بن عبدِ العزَّى : هو شاعرٌ ، فنزلت هذه الآية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تلاوة القرآن ، قرأ قبلها ثلاث آياتٍ ، وهي قوله في سورة الكهف { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } [ الأنعام : 25 ] .
وفي النحل : { أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ } [ النحل : 108 ] .
وفي الجاثية : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } [ الجاثية : 23 ] .
فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات ، عن عيون المشركين ، فكانوا يمرُّون به ، ولا يرونه .
قوله تعالى : { مَّسْتُوراً } أنَّ الله تعالى يخلق حجاباً في عيونهم يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وهو شيء لا يرى ، فكان مستوراً من هذا الوجه .
واحتجُّوا بهذه الآية على أنَّه يجوز أن تكون الحاسَّة سليمة ، ويكون المرثيُّ حاضراً ، مع أنَّه لا يراه الإنسان؛ لنَّ الله تعالى يخلق في عينه مانعاً يمنعه عن رؤيته ، قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حاضراً ، وكانت حواس الكفَّار سليمة ، ثمَّ إنهم كانوا لا يرونه ، وأخبر الله تعالى أن ذلك إنما كان لأجل أن جعل بينه وبينهم حجاباً مستوراً ، ولا معنى للحجاب المستور إلاَّ ما يخلقه الله في عيونهم بمنعهم من رؤيتهز
وقيل : مستور على النسب ، أي : ذو سترٍ ، كقولهم : مكانٌ مهولٌ ، وجارية مغنوجة ، أي : ذو هولٍ ، وذات غنج ، ولا يقال فيهما : هلت المكان ، ولا غنجت الجارية .

وقيل : وكذلك قولهم : رجُلٌ مرطوبٌ : أي ذو رطوبةٍ ، ولا يقال : رطبة ، هو وصف على جهة المبالغة؛ كقولهم : « شعرٌ شاعرٌ » ورد هذا : بأنَّ ذلك إنَّما يكون في اسم الفاعل ، ومن لفظ الأول .
وقال الأخفش وآخرون : المستورُ ها هنا بمعنى السَّاتر والمفعول قد يرد بمعنى الفاعل؛ كقولهم : مشئوم وميمون بمعنى : شائم ويامن ، وهذا كما جاء اسم الفاعل بمعنى مفعول كماءٍ دافقٍ .
القول الثاني : أنَّ الحجاب هو الطَّبع الذي على قلوبهم والطبع المنع الذي منعهم عن أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه وفوائده ، فالمراد من الحجاب المستورِ ذلك الطبع الذي خلقه في قلوبهم .
ثم قال تعالى : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً } وهذه الآية مذكورة بعيناه في سورة الأنعام .
قوله : « وحدهُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الحال ، وإن كان معرفة لفظاً ، لأنه في قوة النكرة غذ هو ف يمعنى منفرداً ، وهل هو مصدر ، أو اسم موضوع موضع المصدر الموضوع موضع الحال ، فوحده وضِعَ مَوْضِعَ إيحَادٍ ، وإيحادٌ وضعَ مَوْضِعَ موحدٍ . وهو مذهب سيبويه ، أو هو مصدر على حذف الزوائد ، إذ يقال : أوْحدهُ يُوحِدهُ إيحَاداً ، أو هو مصدر بنفسه ل « وَحَد » ثُلاثِياً « .
قال الزمخشري : » وحَدَ يَحِدُ وحْداً وحِدَة ، نحو : وعَدَ يَعِدُ وعْداً وعِدَة ، و « وحْدَهُ » من باب « رَجَعَ عودهُ على بَدْئهِ » ، و « افعله جهدك وطاقتك » في أنه مصدر سادٌّ مسدَّ الحال ، أصله : يَحِدُ وحْدَهُ ، بمعنى واحِداً « . قلت : وقد عرفت أنَّ هذا ليس مذهب سيبويه .
والثاني : أنه منصوب على الظرف وهو قول يونس ، واعلم أن هذه الحال بخصوصها ، أعني لفظة » وحْدهُ « ، إذا وقعت بعد فاعل ومفعول ، نحو : » ضَربَ زيدٌ عمراً وحْدَهُ « ، فمذهب سيبويه أنه حال من الفاعل ، أي : موحداً له بالضرب ، ومذهب المبرد أنه يجوز أن يكون حالاً من المفعول . قال أبو حيان : » فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير : وإذا ذكرت ربك موحداً لله تعالى .
قال المفسرون : معناه : إذا قلت : لا إله إلا الله في القرآن وأنت تتلوه . وعلى مذهب المبرد يجوز أن يكون التقدير : موحداً بالذكر « .
ثم قال : » ولَّوا على أدبارهم نفوراً « وفي » نفوراً « وجهان :
أحدهما : أنه مصدر على غير المصدر ، لأن التولّي والنفور بمعنى .

قال الزجاج رحمه الله : بمعنى ولوا كافرين نفوراً .
والثاني : أنه حال من فاعل « ولَّوا » وهو حينئذ جمع نافرٍ ، ك « قَاعدٍ » ، وقُعودٍ ، وجَالسٍ ، وجُلوسٍ . والضمير في « ولَّوا » الظاهر عوده على الكفار ، وقيل : يعود على الشَّياطين ، وإن لم يجْرِ لهُم ذِكرٌ .
قال المفسرون : إن القوم كانوا في استماع القرآن على حالتين ، سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر لله تعالى فبقوا مبهوتين متحيرين؛ لا يفهمون منه شيئاص وإذا سمعوا آيات فيها ذكر لله تعالى ، وذم المشركين ولوا نفوراً وتركوا ذلك المجلس .

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)

قوله تعالى : { بِمَا يَسْتَمِعُونَ } : الباء في « بما » متعلق ب « أعْلَمُ » . وما كان من باب العلم والجهل في أفعل التفضيل ، وأفعل في التعجب تعدَّى بالباء؛ نحو : أنت أعلمُ به ، وما أَعلمك به!! وهو أجهل به ، وما أجهله به!! ومن غيرهما يتعدَّى في البابين باللام؛ نحو : أنت أكسى للفقراء ، و « مَا » بمعنى الذي ، وهي عبارةٌ عن الاستخفاف والإعراض ، فكأنه قال : نحن أعلم بالاستخفاف ، والاستهزاءِ الذي يستمعون به ، قاله ابن عطيَّة .
قوله : « به » فيه أوجه :
أحدها : أنه حال ، فيتعلق بمحذوف .
قال الزمخشري : « وبه في موضع الحالِ ، كما تقول : يستمعون بالهزءِ ، أي : هازئين » .
الثاني : أنها بمعنى اللامِ ، أي : بما يستمعون له .
الثالث : أنها على بابها ، أي : يستمعون بقلوبهم أو بظاهر أسماعهم ، قالهما أبو البقاء .
الرابع : قال الحوفيُّ : « لم يقلْ يستمعونه ، ولا يستمعونك؛ لمَّا كان الغرضُ ليس الإخبار عن الاستماعِ فقط ، وكان مضمَّناً أنَّ الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا : مجنونٌ أو مسحورٌ ، جاء الاستماع بالباء وإلى ، ليعلم أنَّ الاستماع ليس المراد به تفهُّم المسموعِ دون هذا المقصد » فعلى هذا ايضاً تتعلَّق الباء ب « يَسْتمِعُونَ » .
قوله تعالى : { إِذْ يَسْتَمِعُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه معمولٌ ل « أعْلَمُ » . قال الزمخشري : « إذ يستمعون نصب ب » أعْلَمُ « أي : أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون ، وبما يتناجون؛ إذ هم ذوو نجوى » .
والثاني : أنه منصوبٌ ب « يَسْتمِعُونَ » الأولى .
قال ابن عطيَّة - رحمه الله - : « والعامل في » إذ « الأولى ، وفي المعطوف » يَسْتمِعُونَ « الأولى » .
وقال الحوفيُّ : و « إذ » الأولى تتعلق ب « يَسْتمِعُونَ » وكذا « وإذْ هُمْ نجْوَى » لأن المعنى : نحن أعلم بالذي يستمعون إليك ، وإلى قراءتك وكلامك ، إنما يستمعون لسقطك ، وتتبُّع عيبك ، والتماسِ ما يطعنون به عليك ، يعني في زعمهم؛ ولهذا ذكر تعديتهُ بالباء و « إلى » . قوله - عز وجل- : « نَجْوَى » يجوز أن يكون مصدراً ، فيكون من إطلاق المصدر على العين مبالغة ، أو على حذف مضاف ، أي : ذوو نجوى ، كما قاله الزمخشري ، ويجوز أن يكون جمع نجيِّ ، كقتيلٍ وقتلى ، قاله أبو البقاء .
قوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ } بدل من « إذ » الأولى في أحد القولين ، والقول لآخر : أنَّها معمولة ل « اذْكُرْ » مقدَّراً .
قوله تعالى : « مَسْحُوراً » الظاهر أنَّه اسم مفعول من « السِّحرِ » بكسر السين ، أي : مخبول العقل ، أو مخدوعه ، وقال أبو عبيدة : معناه أنَّ له سَحْراً ، أي : رئة بمعنى أنه لا يستغني عن الطَّعام والشَّراب ، فهو بشرٌ مثلكم ، وتقول العرب للجبان : « قد انتفخَ سَحرهُ » بفتح السين ، ولكلِّ من أكل وشرب : مسحورٌ ، ومسحرٌ ، فمن الأول قول امرئ القيس : [ الوافر ]

3426- أرَانَا مُوضَعِينَ لأمْرِ غَيْبٍ ... ونُسْحِرُ بالطَّعامِ وبالشَّرابِ
أي : نُغذَّى ونُعَلَّلُ ، ومن الثاني قول لبيدٍ : [ الطويل ]
3427- فَإنْ تَسْألِينَا فيمَ نَحْنُ فَإنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هذا الأنَامِ المُسحَّرِ
وردَّ الناس على أبي عبيدة قوله؛ لبعده لفظاً ومعنًى . قال ابن قتيبة : « لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التَّفسير المستكرهِ مع ما فسَّره السَّلف بالوجوهِ الواضحة » .
قال شهاب الدين : وأيضاً فإن « السَّحْر » الذي هو الرِّئة لم يضرب له فيه مثلٌ؛ بخلاف « السِّحْر » فإنهم ضربوا له فيه المثل ، فما بعد الآية من قوله { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } [ الإسراء : 48 ] لا يناسب إلا « السِّحْر » بالكسرِ .
فصل في معنى قوله : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } .
قال المفسرون : معنى الآية { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } أي يطلبون سماعه ، { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } وأنت تقرأ القرآن ، { وَإِذْ هُمْ نجوى } يتناجون في أمرك ، فبعضهم يقول : هذا مجنونٌ ، وبعضهم يقول : شاعرٌ { إِذْ يَقُولُ الظالمون } يعني الوليد بن المغيرة وأصحابه : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } مطبوباً .
وقال مجاهد - رحمه الله- : مخدوعاً؛ لأنَّ السِّحر حيلة وخديعة ، وذلك لأنَّ المشركين حانوا يقولون : إنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم يتعلَّم من بعض النَّاس هذه الكلمات ، وأولئك النَّاس يخدعونه بهذه الكلمات ، فلذلك قالوا : « مَسْحُوراً » أي : مخدوعاً .
وأيضاً : كانوا يقولون : إنَّ الشيطان يتخيَّل له ، فيظنُّ أنه ملكٌ ، فقالوا : إنه مخدوع من قبل الشَّيطان .
وقيل : مصروفاً عن الحقِّ ، يقال : ما سحرك عن كذا ، اي : ما صرفك ، وقيل : المسحور هو الشَّيء المفسود ، يقال : طعام مسحور ، إذا فسد ، وأرض مسحورة ، إذا أصابها من المطر أكثر ممَّا ينبغي فأفسدها .
فإن قيل : إنَّهم لم يتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يصحُّ أن يقولوا : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } .
فالجواب أنَّ معناه : إن اتَّبعْتُموهُ ، فقد اتَّبعْتُمْ رجلاً مسحوراً . ثم قال تعالى : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } ، أي : كلُّ أحد شبَّهك بشيءٍ ، فقالوا : كاهنٌ ، وساحرٌ ، وشاعرٌ ، ومعلَّمٌ ، ومجنونٌ ، فضلُّوا عن الحقِّ ، فلا يستطيعون سبيلاً ، اي : وصولاً إلى طريق الحقِّ .

وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)

قوله تعالى : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً } الآيات .
لما تكلَّم أوَّلاً في الإلهيَّاتِ ، ثمًَّ أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوَّات ، ذكر في هذه الآيات شبهاتهم في إنكار المعاد ، والبعث ، والقيامة ، وقد تقدَّم أنَّ مدار القرآن على هذه الأربعة ، وهي الإلهيَّات ، والنبوّات ، والمعاد ، والقضاء والقدر ، وأيضاً فالقوم وصفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونه مسحوراً فاسد العقل ، فذكروا أن من جملة ما يدلُّ على فساد عقله : أن يدعي أنَّ الإنسان بعدما يصير عظاماً ورفاتاً يعود حيًّا ، كما كان .
قوله تعالى : { أَإِذَا كُنَّا } : قد تقدم خلاف القرَّاء في مثل هذين الاستفهامين في سورة الرعد ، والعامل في « إذَا » محذوفٌ [ تقديره : ] أنبعثُ أو أنحشر ، إذا كُنَّا ، دلَّ عليه « المَبْعُوثُونَ » ولا يعمل فيها « مَبعُوثُونَ » هذا؛ لأنَّ ما بعد « إنَّ » لا يعمل فيما قبلها ، وكذا ما بعد الاستفهام ، لا يعمل فيما قبله ، وقد اجتمعا هنا ، وعلى هذا التقدير : تكون « إذَا » متمحِّضة للظرفية ، ويجوز أن تكون شرطية ، فيقدَّر العامل فيها جوابها ، تقديره : أإذا كنَّا عظاماً ورفاتاً نبعث أو نعاد ، ونحو ذلك ، فهذا المحذوف جواب الشَّرط عند سيبويه ، والذي انصبَّ عليه الاستفهام عند يونس .
والرُّفات : ما بولغَ في دقِّه ، وتفْتِيتِه ، وهو اسمٌ لأجزاءِ ذلك الشيء المفتت ، وقال الفراء : « هو التُّرَابُ » وهو قول مجاهدٍ ويؤيِّده أنه قد تكرَّر في القرآن « تراباً وعظاماً » . يقال : رَفَتَهُ يَرْفِتُهُ بالكسرِ [ أي : كسره ] .
وقيل : حطاماً قال الواحدي : الرفت : كسر الشيء بيدك؛ كما يرفت المدر والعظم البالي ، يقال : رفت عظام الجَزُورِ رفتاً ، إذا كسرها ، ويقال للتبن : الرفت؛ لأنَّه دقاق الزَّرْع .
قال الأخفش : رفت رفتاً ، فهو مَرفُوتٌ ، نحو حطم حَطْماً ، فهو مَحْطُوم .
والفعال يغلب في التفريق كالرُّفات والحطامِ والعظام والدقاق والفتات ، والجذاذَ والرضاض .
قوله تعالى : « خَلْقاً » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدرٌ من معنى الفعل ، لا من لفظه ، أي : نبعثُ بعثاً جديداً .
والثاني : أنه في موضع الحال ، أي : مخلوقين .
فصل
تقرير شبهة القوم : هو أنَّ الإنسان ، إذا جفَّت أعضاؤه ، وتناثرت وتفرَّقت في جوانب العالم ، واختلطت تلك الأجزاء بسائر أجزاء العالم ، فالأجزاء المائيَّة تختلط بمياه العالم ، والأجزاء الترابيَّة تختلط بالتُّراب ، والأجزاء الهوائيَّة تختلط بالهواء ، وإذا كان كذلك ، فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرَّة أخرى ، وكيف يعقل عود الحياة إليها بأعيانها مرة أخرى؟! هذا تقرير شبهتهم .
والجواب عنها : أن هذا الإشكال لا يتمُّ إلاَّ بالقدح في كمال علم الله تعالى ، وفي كمال قدرته .
أمَّا إذا سلَّمنا كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات ، فحينئذٍ ، هذه الأجزاء ، وإن اختلطت بأجزاء العالم ، إلاَّ أنها متميِّزة في علم الله تعالى ، ولما سلَّم كونه - تعالى - قادراً على كلِّ الممكنات ، كان قادراً على إعادة التأليف والتركيب ، والحياة ، والعقل ، إلى تلك الأجزاء بأعيانها ، فمتى سلم كمال علم الله تعالى ، وكمال قدرته ، زالت هذه الشبهة بالكليَّة .

ثم قال تعالى : { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } وذلك أنَّهم استبعدوا أن يردَّهم أحياءً بعد أن صاروا عظاماً ورفاتاً ، فإنَّها صفة منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر ، فقال : ولقد قدرتم أنَّ هذه الأجسام بعد الموت تصير إلى صفة أخرى أشدَّ منافاة لقبول الحياة من كونها عظاماً ورفاتاً؛ مثل أن تصير حجارة أو حديداً؛ فإنَّ المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة اشدُّ من المنافاة بين العظميَّة وبين قبول الحياة؛ لأنَّ العظم كان جزءاً من بدن الحيِّ ، وأمَّا الحجارة والحديد ، فما كانا ألبتَّة موصوفين بالحياة ، فبتقدير أن تصير أبدان الناس حجارة أو حديداً بعد الموت ، فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها ، ويجعلها حية عاقلة ، كما كان ، والجليل على صحَّة ذلك أن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل؛ إذ لو لم يكن القبول حاصلاً ، لما حصل العقل والحياة لها في أوَّل الأمر ، وإله العالم عالمٌ بجميع الجزئيَّات ، فلا يشتبه عليه أجزاء بدنِ زيد المطيع بأجزاء بدن عمرو العاصي ، وقادرٌ على كل الممكنات .
وإذا ثبت أنَّ عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكنٌ في نفسه ، وثبت أنَّ إله العالم عالمٌ بجميع المعلومات ، قادرٌ على كلِّ الممكنات ، كان عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكناً قطعاً سواءٌ صارت عظاماً ورفاتاً أو أشياء أبعد من العظم في قبول الحياة ، مثل أن تصير حجارة أو حديداً ، وهذا ليس المراد منه الأمر ، بل المراد أنَّكم لو كنتم كذلك ، لما أعجزتم الله تعالى عن الإعادة؛ كقول القائل للرجل : أتطمع فيَّ ، وأنا ابنُ فلانٍ؟!! فيقول : كُنْ من شئت كن ابن الخليفة فسأطلب منك حقِّي . ثم قال تعالى : { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } أي : لو فرضتم شيئاً آخر أبعد من قبولِ الحجر والحديد للحياة ، بحيث يستبعد عقلكم قبوله للحياة ، ولا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء؛ لأنَّ المراد أنَّ أبدان النَّاس ، وإن انتهت بعد موتها إلى أيِّ صفة فرضت ، وإن كانت في غاية البعد عن قبول الحياة ، فإنَّ الله قادرٌ على إعادة الحياة إليها .
قال ابن عبَّاس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأكثر المفسِّرين - رضي الله عنهم - : إنَّه الموت؛ فإنَّه ليس في نفس ابن آدم شيء أكبر من الموت ، أي : لو كنتم الموت بعينه ، لأميتنَّكم ، ولأبعثنكم ، وهذا إنَّما يحسنُ ذكره على سبيل المبالغة ، أما نفس الأمر بهذا ، فهو محالٌ؛ لأن أبدان النَّاس أجسامٌ ، والموت عرضٌ ، والجسم لا ينقلب عرضا ، وبتقدير أن ينقلب عرضاً ، فالموت لا يقبل الحياة؛ لأن أحد الضِّدين يمتنع اتصافه بالضدِّ الآخر .
وقال بعضهم : يعني السَّماء والأرض .
ثم قال تعالى : { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا } ، أي : من الذي يقدر على إعادة الحياة ، فقال تعالى : { قُلْ } يا محمد : { الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : خلقكم أوَّل مرة ، ومن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة .

قوله تعالى : { الذي فَطَرَكُمْ } : فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : الذي فطركم يعيدكم ، وهذا التقدير فيه مطابقة بين السؤال والجواب .
والثاني : أنه خير مبتدأ محذوف ، أي : معيدكم الذي فطركم .
الثالث : أنه فاعل بفعل مقدَّر ، أي : يعيدكم الذي فطركم ، ولهذا صرِّح بالفعل في نظيره عند قوله : { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم } [ الزخرف : 9 ] .
و « أوَّل مرَّةٍ » ظرف زمانٍ ناصبه « فَطرَكُمْ » .
قوله تعالى : { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ } ، أي : يحرِّكونها استهزاء ، يقال : أنغض رأسه ينغضها ، أي : يحركها إلى فوق ، وإلى أسفل إنغاضاً ، فهو منغضٌ ، قال : [ الرجز ]
3428- أنْغضَ نَحْوي رَاسهُ وأقْنَعا ... كَأنَّهُ يَطلبُ شيئاً أطْمعَا
وقال آخر : [ الرجز ]
3429- لمَّا رَأتْنِي أنغضَتْ لِي الرَّأسَا ... وسمي الظليم نغضاً لأنه يحرك رأسه وقال أبو الهيثم : « إذا أخبر الرجلُ بشيءٍ ، فحرَّك رأسه؛ إنكاراً له ، فقد أنغضَ » .
قال ذو الرُّمَّة :
3430- ظَعائِنُ لمْ يَسْكُنَّ أكْنافَ قَرْيةٍ ... بِسيفٍ ولَمْ تَنْغُضْ بهنَّ القَناطِرُ
أي : لم تحرَّك ، وأمَّا نغض ثلاثيًّا ، ينغَض وينغُض بالفتح والضمِّ ، فبمعنى تحرَّك ، لا يتعدَّى يقال : نغضتْ سنُّه ، أي : تحرَّكتْ ، تَنغِضُ نغضاً ، ونغوضاً . قال : [ الرجز ]
3431- ونَغَضتْ مِنْ هَرمٍ أسْنانُهَا ... ثم قال تعالى : { وَيَقُولُونَ متى هُوَ } ، أي : البعث والقيامة ، وهذا سؤالٌ فاسدٌ؛ لأنَّهم منعوا الحشر والنشر كما تقدَّم؛ ثمَّ بين تعالى بالبرهان القاطع كونه ممكناً في نفسه ، فقولهم « مَتَى هُوَ » كلام لا يتعلق بالبعث؛ فإنَّه لما ثبت بالدليل العقليِّ كونه ممكن الوجود في نفسه ، وجب الاعتراف بإمكانه ، فإنه متى يوجد ، فذاك لا يمكن إثباته بالعقل ، بل إنما يمكن إثباته بالدَّليل السمعي ، فإن أخبر الله تعالى عن ذلك الوقت المعيَّن ، عرف ، وإلا فلا سبيل إلى معرفته .
وقد بين الله تبارك وتعالى في القرآن؛ أنَّه لا يطلع أحداً من الخلق على وقته المعيَّن ، فقال جلَّ ذكره : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ] وقال : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } [ الأعراف : 187 ] وقال تعالى : { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] فلا جرم قال تعالى : { عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً } .
قال المفسِّرون : « عَسَى » من الله واجبٌ ، معناه : أنه قريبٌ ، فإن قيل : كيف يكون قريباً ، وقد انقرض سبعمائة سنة ، ولم يظهر .
فالجواب : قال ابن الخطيب : إن كان معنى : « أكثر مَّا بَقِيَ » كان الباقي قليلاً ، ويحتمل أن يريد بالقرب أن إتيان السَّاعة متناهٍ ، وكل ما كان متناهياً من الزَّمان فهو قليلٌ ، بل أقلُّ من القليل بالنسبة إلى الزَّمان الذي بعده؛ لأنَّه غير متناهٍ؛ كنسبة العدد المتناهي إلى العدد المطلقِ؛ فإنَّه لا ينسب إليه بجزءٍ من الأجزاء ، ولو قلَّ .
ويقال في المثل « كل آت قريب » .

قوله تعالى : { عسى أَن يَكُونَ } يجوز أن تكون الناقصة ، واسمها مستتر فيها يعود على البعث والحشر المدلول عليهما بقوَّة الكلام ، أو لتضمُّنه في قوله « مَبُْعُوثُونَ » و « أنْ يَكُونَ » خبرها ، ويجوز أن تكون التامة مسندة إلى « أنّ » وما في حيزها ، واسم « يكون » ضمير البعث؛ كما تقدَّم .
وفي « قريباً » وجهان :
أحدهما : أنه خبر « كَانَ » وهو وصفٌ على بابه .
والثاني : أنه ظرف ، أي : زماناً قريباً ، و « أنْ يَكُونَ » على هذا تامة ، أي : عسى أن يقع العود في زمانٍ قريبٍ .
قوله تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } : فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من « قريباً » ، إذا أعربنا « قريباً » ظرف زمان ، كما تقدَّم .
والمعنى : عَسَى أن يكون يوم البعث يوم يدعوكم ، أي بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة ، كقوله تعالى : { يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } [ ق : 41 ] .
الثاني : أنه منصوب ب « يكُونَ » قاله أبو البقاء . وهذا عند من يجيز إعمال الناقصة في الظرف ، وإذا جعلناها تامة ، فهو معمولٌ لها عند الجميع .
الثالث : أنه منصوب بضمير المصدر الذي هو اسم « يكُون » أي : عسى أن يكون العود يوم يدعوكم ، وقد منعه أبو البقاء قال : « لأنَّ الضمير لا يعملُ » يعني عند البصريِّين ، وأمَّا الكوفيون ، فيعملون ضمير المصدر ، كمظهره ، فيقولون : « مُرُوري بزيدٍ حسنٌ ، وهو بعمرٍو قبيحٌ » ف « بِعَمْرٍو » عندهم متعلق ب « هُوَ » لأنه ضمير المرور ، وأنشدوا قول زهير على ذلك : [ الطويل ]
3432- ومَا الحَرْبُ إلاَّ ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُم ... ومَا هُو عَنْهَا بالحدِيثِ المُرجَّمِ
ف « هُوَ » ضمير المصدرِ ، وقد تعلق به الجار بعده ، والبصريُّون يؤوِّلونه .
الرابع : أنه منصوب بفعل مقدَّر ، أي : اذكر يوم يدعوكم .
الخامس : أنه منصوبٌ بالبعث المقدر ، قالهما أبو البقاء .
قوله تعالى : « بِحَمدِه » فيه قولان :
أحدهما : أنها حالٌ ، أي : تستجيبون حامدين ، أي : منقادين طائعين .
وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث؛ كقولك لمن تأمرهُ بعمل يشقُّ عليه : ستأتي به ، وأنت حامدٌ شاكرٌ ، أي : ستأتي إلى حالة تحمدُ الله وتشكر على أن اكتفى منك بذلك العمل ، وهذا يذكر في معرض التهديد .
والثاني : أنها متعلقة ب « يَدْعُوكُم » قاله أبو البقاء ، وفيه قلقٌ .
قوله تعالى : { إِن لَّبِثْتُمْ } « إنْ » نافية ، وهي معلقة للظنِّ عن العمل ، وقلَّ من يذكر « إن » النافية ، في أدواتِ تعليق هذا الباب ، و « قليلاً » يجوز أن يكون نعت زمانٍ أو مصدرٍ محذوفٍ ، أي : إلا زماناً قليلاً ، أو لبثاً قليلاً .
فصل في معنى النداء والإجابة
المعنى : « يَوْمَ يَدْعوكم » بالنِّداء من قبوركم إلى موقف القيامة ، « فتَسْتَجِيبُونَ » أي : تجيبون ، والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه ، وهي الإجابة ، إلاَّ أنَّ الاستجابة تقتضي طلب الموافقةِ ، فهي أوكد من الإجابة .

وقوله « بِحَمْدهِ » قال ابن عباس : بأمره .
وقال قتادة : بطاعته؛ لأنَّهم لما أجابوه بالتَّسبيح والتَّحميد ، كان ذلك معرفة منهم وطاعة ، ولكنَّهم لا ينفعنم ذلك في ذلك اليوم .
وقيل : يُقِرُّون بأنَّه خالقهم وباعثهم ، ويحمدونه حين لا ينفعهم الحمد ، وهذا خطاب للكفّار .
وقيل : هذا خطابٌ للمؤمنين .
قال سعيد بن جبير : يخرجون من قبورهم ، وينفضون التُّرابَ عن رءوسهم ، ويقولون : سبحانك وبحمدك ، وهو قوله : { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } .
وقال أهل المعاني : أي تستجيبون حامدين؛ كما تقول : جاء بغضبه ، أي : جاء غضبان ، وركب الأمير بسيفه ، أي : وسيفه معه ، ثم قال : { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي : إن لبثتم في الدنيا ، أو في القبور { إِلاَّ قَلِيلاً } لأنَّ الإنسان لو مكث ألوفاً من السِّنين في الدنيا أو في القبور ، عُدَّ ذلك قليلاً في مدَّة القيامة والخلود .
وقال ابن عباسٍ : يريد بين النفختين الأولى والثانية ، فإنه يزال عنهم العذاب في هذا الوقت ، ويدلُّ عليه قوله تعالى في سورة يس { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [ يس : 52 ] وذلك ظنُّهم بأنَّ هذا اللبث قليل ، أي : لبثهم فيما بين النَّفختين .
وقيل : المراد استقلال لبثهم في عرصة القيامة؛ لأنَّه لما كان عاقبة أمرهم الدُّخول في النَّار ، استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة .

وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)

تقدم إعراب قوله تعالى { وَقُل لِّعِبَادِي } في سورة إبراهيم [ 31 ] . وفي العباد ها هنا قولان :
الأول : المراد به المؤمنون؛ لأنَّ لفظ العباد في أكثر آيات القرآن مختصٌّ بالمؤمنين . قال تعالى : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول } [ الزمر : 17 ، 18 ] { فادخلي فِي عِبَادِي } [ الفجر : 29 ] { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } [ الإنسان : 6 ] .
وإذا عرف هذا ، فإنه تعالى لمَّا ذكر الحجج القطعيَّة في صحَّة المعاد ، وهو قوله تعالى : { قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الإسراء : 51 ] قال ها هنا : قل ، يا محمد لعبادي : إذا أردتم الاستدلال على المخالفين ، فاذكروا تلك الدلائل بطريق الأحسن من غير شتم ، ولا سبٍّ ، ونظيره قوله تعالى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] وقوله تعالى : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ العنكبوت : 46 ] وذلك لأنَّ ذكر الحجَّة ، إذا اختلط به سبٌّ أو شتمٌ ، لقابلوكم بمثله ، كما قال تعالى : { وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 108 ] ويزداد الغضب ، وتكمل النُّفرة ، ويمتنع المقصود ، وإذا ذكرت الحجة بالطَّريق الأحسن ، أثَّر في القلب تأثيراً شديداً ، ثم نبَّه تعالى على وجه المنفعة ، فقال تعالى : { إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } أي : يفسد بينهم ، ويغري بينهم .
قال الكلبي : كان المشركون يؤذون المسلمين ، فشكوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { وَقُل لِّعِبَادِي } المؤمنين يقولوا للمشركين التي هي أحسنُ ، ولا يكافئوهم بسفههم .
قال الحسن : يقول له : يهديك الله ، وكان هذا قبل الإذن في الجهاد .
وقيل : نزلت في عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شتمة بعض الكفَّار ، فأمره الله تعالى بالعفو .
وقيل : أمر المؤمنين بأن يقولوا ، ويفعلوا الخلَّة التي هي أحسن .
وقيل : الأحسن قول : لا إله إلا الله .
قوله تعالى : { إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } يجوز أن تكون هذه الجملة اعتراضاً بين المفسَّر والمفسِّر؛ وذلك أن قوله تعالى : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } [ الإسراء : 54 ] وقع تفسيراً لقوله { بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ الإسراء : 34 ] وبياناً لها ، ويجوز ألاَّ تكون معترضة ، بل مستأنفة .
وقرأ طلحة « ينْزغُ » بكسر الزاي ، وهما لغتان ، كيَعْرِشُون ويَعرُشُونَ ، قاله الزمخشري . قال أبو حيان : ولو مثَّل ب « يَنطَحُ » و « يَنْطِحُ » كأنَّه يعني من حيث إنَّ لامَ كلِّ منهما حرف حلقٍ ، وليس بطائلٍ .
والمعنى : أنَّ الشيطان يلقي العداوة بينهم { إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً } ظاهر العداوة .

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)

قوله تعالى : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } يوفِّقكُمْ ، فتؤمنوا { أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ } يميتكم على الكفر ، فيعذِّبكم ، قاله ابن جريح .
وقال الكلبيُّ : إن يشأ يرحمكم ، فينجيكم من أهل مكَّة ، وإن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم .
{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } حفيظاً ، وكفيلاً ، والمقصود إظهار اللِّين والرِّفقِ لهم عند الدَّعوة؛ فإنَّ ذلك هو المؤثِّرُ في القلبِ قيل : نسختها آية القتالِ .

وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)

قوله تعالى : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض } : في هذه الباءِ قولان :
أشهرهما : أنها تتعلق ب « أعْلَمُ » كما تعلَّقت الباء ب « أعْلَمُ » قبلها ، ولا يلزمُ من ذلك تخصيص علمه بمن في السماوات والأرض فقط .
والثاني : أنها متعلقة ب « يَعْلَمُ » مقدَّراً ، قاله الفارسيُّ ، محتجًّا بأنَّه يلزمُ من ذلك تخصيصُ علمه بمن في السماوات والأرض ، وهو وهمٌ؛ لأنَّه لا يلزمُ من ذكر الشيء نفيُ الحكم عمَّا عداه ، وهذا هو الذي يقول الأصوليُّون : إنه مفهوم اللَّقبِ ، ولم يقل به إلاَّ أبو بكرٍ الدَّقَّاق في طائفة قليلة .
فصل
معنى الآية أنَّ علمه غير مقصورٍ عليكم ، ولا على أحوالكم ، بل علمه متعلِّق بجميع الموجودات والمعدودات ، وبجميع ذرَّات الأرضين ، والسَّموات ، فيعلم حال كلِّ أحد ، ويعلم ما يليقُ به من المصالح والمفاسد ، ولهذا جعلهم مختلفين في صورهم ، وأحوالهم ، وأخلاقهم ، وفضَّل بعض النبيين على بعضٍ ، وآتى موسى التوراة ، وداود الزَّبُور ، وعيسى الإنجيل ، ولم يبعد أيضاً أن يؤتي محمَّداً صلى الله عليه وسلم القرآن مع تفضيله على الخلق .
فإن قيل : ما السَّبب في تخصيص داود بالذكر هاهنا؟ .
فالجواب من وجوهٍ :
الأول : أنَّه تعالى ذكر أنَّه فضَّل بعض النَّبيِّينَ على بعض ، ثم قال : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } يعني أنَّ داود آتاه ملكاً عظيماً ، ثم إنَّه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك ، وذكر ما آتاه من الكتب؛ تنبيهاً على أنَّ التفضيل الذي ذكره قبل ذلك المراد منه التفضيل بالعلم والدِّين ، لا بالمال .
والثاني : أنَّ تخصيصه بالذِّكر أنَّه تعالى كتب في الزَّبور أن محمَّداً خاتم الأنبياء ، وأنَّ امَّة محمد خيرُ الأمم - صلوات الله وسلامه عليه- .
قال تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] وهم محمد وأمته .
فإن قيل : هلا عرفه كقوله : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور } .
فالجواب أن التنكير ها هنا يدل على تعظيم حاله؛ لأن الزبور عبارة عن المزبور ، فكان معناه الكتاب ، وكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتاباً .
ويجوز أن يكون « زبور » علماً ، فإذا دخلت عليه « أل » كقوله : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور } كانت للمْحِ الأصل كعبَّاس والعباس ، وفضل والفضل .
وقيل : نكَّره هنا دلالة على التبعيض ، أي : زبُوراً من الزُّبر ، أو زبوراً فيه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق على القطعة منه زبورٌ ، كما يطلق على بعض القرآن ، قرآن .
الثالث : أنَّ السَّبب في تخصيص داود - صلوات الله عليه - أنَّ كفار قريش ما كانوا أهل نظرٍ وجدلٍ ، بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشُّبهات ، واليهود كانوا يقولون : لا نبيَّ بعد موسى ، ولا كتاب بعد التَّوراة ، فنقض الله عليهم كلامهم بإنزالِ الزَّبور على داود ، وتقدَّم خلافُ القراء في الزبور في آخر سورة النساء .

قوله تعالى : { الذين زَعَمْتُم } : مفعولا الزَّعم محذوفان؛ لفهم المعنى ، أي : زعمتموهم ىلهة ، وحذفهما اختصاراً جائزاٌ ، واقتصاراً فيه خلاف .
فصل في سبب نزول الآية
قال المفسرون : إن المشركين أصابهم قحطٌ شديدٌ؛ حتَّى أكلوا الكلاب والجيفَ واستغاثوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم ، قال الله تعالى { قُلِ } للمشركين { ادعوا الذين زَعَمْتُم } أنها آلهة من دونه .
واعلم أنه ليس المراد الأصنام؛ لأنَّه تعالى قال في صفتهم :
{ أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } [ الإسراء : 57 ]
وابتغاءُ الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتَّة ، وإذا ثبت هذا ، فنقول : إنَّ قوماً عبدوا الملائكة ، فنزلت هذه الآية فيهم .
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه ومجاهدٌ : إنَّها نزلت في الذين عبدوا المسيح ، وعزيراً ، والملائكة ، و الشمس ، والقمر ، والنجوم .
وقيل : إنَّ قوماً عبدوا نفراً من الجنِّ ، فأسلم النَّفر ، وبقي أولئك الناس متمسِّكين بعبادتهم ، فنزلت فيهم الآية .
قال ابن عباس : كل موضعٍ في كتاب الله ورد فيه لفظ الزعم ، فهو كذبٌ . ثم إنَّه تعالى احتجَّ على فساد مذهب هؤلاء بأنَّ الإله المعبود هو القادر على إزالةِ الضرر ، وإيصال النفع وهذه الأشياء التي يعبدونها ، وهي الملائكة ، والجنُّ ، والمسيحُ ، وعزيرٌ لا يقدرون على كشف الضرِّ ، ولا على تحصيل النَّفع ، فما الدليل على أنَّ الأمر كذلك؟ فإن قلتم : لأنَّا نرى أولئك الكفَّار يتضرَّعون إليها ، ولا تحصل الإجابة . قلنا : ونرى أيضاً المسلمين يتضرَّعون إلى الله تعالى ، ولا تحصل الإجابة والمسلمون يقولون بأجمعهم : إنَّ القدرة على كشف الضرِّ ، وتحصيل النفع ليست إلاَّ لله تعالى ، وعلى هذا التقدير ، فالدليل غير تامٍّ .
فالجواب : أنَّ الدليل تامٌّ كاملٌ؛ لأنَّ الكفار كانوا مقرِّين بأنَّ الملائكة عباد الله تعالى ، وخالق الملائكة ، وخالق العالم لا بدَّ وأن يكون أقدر من الملائكة ، وأقوى منهم ، وأكمل حالاً منهم .
وإذا ثبت هذا ، فنقول : كمال قدرة الله معلوم متفقٌ عليه ، وكمال قدرة غير الله غير معلوم ، ولا متفقٍ عليه ، بل المتَّفق عليه أنَّ قدرتهم بالنِّسبة إلى قدرة الله تعالى قليلة حقيرةٌ ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الله أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة؛ لأنَّ استحقاق الله العبادة معلومٌ ، وكون الملك كذلك مجهولٌ؛ والأخذ بالمعلوم أولى ، وسلك المتكلِّمون من أهل السنَّة طريقة أخرى ، وهو أنَّهم أقاموا الحجة العقليَّة على أنَّه لا موجد إلاَّ الله تعالى ، ولا يخرج الشيء من العدم إلى الوجود إلا الله ، وإذا ثبت ذلك ثبت أنه لا ضارّ ولا نافع إلا الله تعالى ، فوجب القطع بأنه لا معبود إلا الله تعالى ، وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة ، لأنهم لما جوزوا كون العبد موجداً لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة - عليهم السلام - لا قدرة لها على الإحياء والإماتة ، وخلق الجسم ، وإذا عجزوا عن ذلك ، لا يتمُّ لهم هذا الدليلُ ، فهذا هو الدليل القاطع على صحَّة قوله : { فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } ، والتحويلُ عبارة عن النَّقل من حالٍ إلى حالٍ ، ومن مكانٍ إلى مكانٍ ، يقال : حوَّله ، فتحوَّل .

قوله تعالى : { أولئك الذين يَدْعُونَ } : « أولئك » مبتدأ ، وفي خبره وجهان :
أظهرهما : أنّه الجملة من « يَبْتَغُونَ » ويكون الموصولُ نعتاً ، أو بياناً أو بدلاً ، والمراد باسم الإشارة الأنبياء أو الملائكة الذين عبدوا من دون الله ، والمراد بالواو العبَّاد لهم ، ويكون العائدُ على « الَّذينَ » محذوفاً ، والمعنى : أولئك الأنبياء الذين يدعونهم المشركون ، لكشف ضرِّهم - أو يدعونهم آلهة ، فمفعولها أو مفعولاها محذوفان - يبتغون .
ويجوز أن يكون المراد بالواو ما أريد بأولئك ، أي : أولئك الأنبياء الذين يدعون ربَّهم أو النَّاس إلى الهدى يبتغون ، فمفعول « يَدْعُونَ » محذوف .
والثاني : أن الخبر نفسُ الموصول ، و « يَبْتَغُون » على هذا حالٌ من فاعل « يَدْعُون » أو بدلٌ منه . وقرأ العامة « يَدعُونَ » بالغيب ، وقد تقدَّم الخلاف في الواو؛ هل تعود على الأنبياء أو على عابديهم ، وزيد بن عليٍّ بالغيبة أيضاً ، إلا أنه بناه للمفعول ، وقتادة ، وابن مسعود بتاء الخطاب ، وهاتان القراءتان تقوِّيان أنَّ الواو للمشركين ، لا للأنبياء في قراءة العامة .
فسل
إذا أعدنا « يَدْعُونَ » للعابدين ، و « يَبْتَغُونَ » للمعبودين ، فالمعنى : أولئك المعبودون يبتغون إلى ربِّهم الوسيلة؛ لأنَّ الملائكة يرجعون غلى الله في طلب المنافع ، ودفع المضارِّ ، يرجون رحمته ، ويخافون عذابه ، وإذا كانوا كذلك ، كانوا عاجزين محتاجين ، والله - تعالى أغنى الأغنياء ، فكان الاشتغال [ بعبادته ] أولى .
فإن قيل : لا نسلِّم أنَّ الملائكة محتاجون إلى رحمة الله تعالى ، وخائفون من عذابه .
فالجواب : أنَّ الملائكة : إمَّا أن يقال : إنَّها واجبة الوجود لذواتها ، أو يقال : إنَّها ممكنة الوجود لذواتها ، والأول باطلٌ؛ لأن جميع الكفَّار كانوا معترفين بأن الملائكة عبادُ الله ، ومحتاجون إليه .
وأما الثاني : فهو يوجب القول بأنَّ الملائكة محتاجون في ذواتها ، وفي كمالاتها إلى الله تعالى ، فكان الاشتغالُ بعبادة الله تعالى أولى من الاشتغال بعبادةِ الملائكة .
وإن أعدنا « يَدْعُونَ » إلى الأنبياء - عليهم السلام - المذكورين في قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ } فالمعنى هو أنَّ الذي عظمت منزلتهم - وهم الأنبياء - لا يعبدون إلا الله تعالى ، ولا يبتغون الوسيلة إلاَّ إليه ، فأنتم بالاقتداءِ بهم أحق ، فلا تعبدوا غير الله - عزَّ وجلَّ - والمراد بالوسيلةِ : الدَّرجة العليا .
وقيل : كل ما يتقرَّب إلى الله تعالى .
واحتجُّوا على صحَّة هذا القول بأنَّ الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ، فلا يخافون عذابه ، فثبت أنَّ هذا غير لائقٍ بالملائكةِ ، وإنما هو لائقٌ بالأنبياء - صلوات الله عليهم- .

وأجيب بأنَّ الملائكة يخافون من عذاب الله ، لو اقدموا على الذنب ، قال تعالى : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 29 ] وقال تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 50 ] ثم قال عزَّ وجلَّ : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } أي من حقِّه أن يحذر ، فإن لم يحذره بعض الناس لجهله ، فإنَّه لا يخرج عن كونه يجب الحذر عنه .
قوله تعالى : { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } في « أيُّ » هذه وجها :
أحدهما : أنها التفهامية .
والثاني : أنها موصولة بمعنى « الَّذي » وإنما كثر كلام المعربين فيها من حيث التقدير ، فقال الزمخشريُّ : « وأيُّهم بدلٌ من واو » يَبْتَغُونَ « و » أيُّ « موصولة ، أي : يبتغي من هو أقربُ منهم وأزلفُ ، أو ضمِّن » يَبْتغُونَ الوسيلة « معنى يحرصون ، فكأنه قيل : يحرصون أيهم يكون أقرب » . فجعلها في الوجه الأول موصولة ، وصلتها جملة من مبتدأ وخبر ، حذف المبتدأ ، وهو عائدها ، و « أقْرَبُ » خبرٌ . واحتملت « أيُّ » حينئذٍ أن تكون مبنية ، وهو الأكثر فيها ، وأن تكون معربة ، وسيأتي موضعه في مريم : [ 69 ] إن شاء الله تعالى وفي الثاني جعلها استفهامية؛ بدليل أنه ضمَّن الابتغاء معنى شيء تعلق ، وهو يحرصون ، فيكون « أيُّهُمْ » مبتدأ و « أقربُ » خبره ، والجملة في محلِّ نصب على إسقاط الخافض؛ لأنَّ « تحْرِصُ » يتعدَّى ب « على » قال تعالى : { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ } [ النحل : 37 ] ، { أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] .
وقال أبو البقاء : « أيُّهُمْ » مبتدأ ، و « أقْرَبُ » خبره ، وهو استفهامُ في موضع نصبٍ ب « يَدْعُونَ » ، ويجوز أن يكون « أيُّهُمْ » بمعنى الذي ، وهو بدلٌ من الضمير في « يَدعُونَ » .
قال أبو حيان : « علَّق » يَدْعُونَ « وهو ليس فعلاً قلبيًّا ، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحاليَّة ، ولا يضرُّ ذلك ، لأنَّها معمولة للصِّلة » . قال شهاب الدين : أمَّا كون « يَدْعُونَ » لا يعلق ، هو مذهب الجمهور ، وقال يونس : يجوز تعليق الأفعال مطلقاً ، القلبية وغيرها ، وأمَّا قوله « فصل بالجملة الحالية » يعني بها « يَبْتَغُونَ » فصل بها بين « يَدْعُونَ » الذي هو صلة « الَّذينَ » وبين معموله ، وهو « أيُّهم أقْرَبُ » لأنه معلَّقٌ عنه ، كما عرفته ، إلا أنَّ الشيخ لم يتقدَّم في كلامه إعرابُ « يَبْتغُونَ » حالاً ، بل لم يعربها إلاَّ خبراً للموصول ، وهذا قريبٌ .
وجعل أبو البقاء أيًّا الموصولة بدلاً من واو « يَدْعُونَ » ، ولم أرَ أحداً وافقه على ذلك ، بل كلُّهم يجعلونها من واو « يَبْتَغُونَ » وهو الظاهر .

وقال الحوفي- رحمه الله- : « أيُّهم أقربُ » ابتداء وخبر ، والمعنى : ينظرون أيُّهم أقرب ، فيتوسَّلون به ، ويجوز أن يكون « أيهم أقرب » بدلاً من واو « يَبْتَغُون » .
قال شهاب الدين : فقد أضمر فعلاً معلقاً ، وهو ينظرون فإن كان من نظر البصرِ ، تعدَّى ب « إلى » وإن كان من نظر الفكر ، تعدَّى ب « في » فعلى التقديرين : الجملة الاستفهامية في موضع نصبٍ بإسقاطِ الخافض ، وهذا إضمارُ ما لا حاجة إليه .
وقال ابن عطية : « وأيُّهُمْ ابتداء ، و » أقْرَبُ « خبره ، والتقدير : نظرهم ووكدهم أيهم أقرب ، ومنه قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- : » فبات النَّاس يدُوكُونَ أيُّهمْ يُعطَاهَا « ، أي : يتبارون في القرب » . قال أبو حيان : « فَجَعلَ المحذوف » نظرُهمْ ووكْدهُمْ « وهذا مبتدأ ، فإن جعلت » أيُّهمْ أقربُ « في موضع نصب ب » نَظرُهُمْ « بقي المبتدأ بلا خبر ، فيحتاج إلى إضمار خبر ، وإن جعلت » أيُّهم أقربُ « الخبر ، لم يصحَّ؛ لأنَّ نظرهم ليس هو » أيُّهم أقربُ « وإن جعلت التقدير : » نَظرهُمْ في أيهم أقربُ « أي : كائنٌ أو حاصلٌ ، لم يصحَّ ذلك؛ لأنَّ كائناً وحاصلاً ليس ممَّا يعلَّق » .
فقد تحصَّل في الآية الكريمة ستَّة أوجه :
أربعة حال جعل « أيّ » استفهاماً :
الأول : أنها معلِّقة للوسيلة ، كما قرَّره الزمخشريُّ .
الثاني : أنها معلّقة ل « يَدعُونَ » كما قاله أبو البقاء .
الثالث : أنها معلقة ل « يَنْظُرونَ » مقدراً ، كما قاله الحوفيُّ .
الرابع : أنها معلقة ل « نَظرُهمْ » كما قدَّره ابن عطيَّة .
واثنان حال جعلها موصولة :
الأول : البدل من واو « يَدعُونَ » كما قاله أبو البقاء .
الثاني : أنها بدلٌ من واو « يَبْتغُونَ » كما قاله الجمهور .

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)

قوله تعالى : { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ } الآية .
فلمَّا قال : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } [ الإسراء : 57 ] بيَّن أنَّ كلَّ قرية مع أهلها ، فلا بدَّ وأن يرجع حالها إلى أحد أمرين : إمَّا الإهلاك ، وإمَّا التَّعذيب .
قال مقاتلٌ : أما الصالحة فبالموت ، وأما الطالحة ، فبالعذاب .
وقيل : المعنى : وإن من قريةٍ من قرى الكفَّار ، فلا بدَّ وأن يكون عاقبتها إمَّا بالاستئصال بالكلِّيَّة ، وهو الهلاك ، أو بعذاب شديدٍ من قتل كبرائهم ، وتسليط المسلمين عليهم بالسَّبي ، واغتنام الأموالِ ، وأخذ الجزية { كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً } في اللَّوح المحفوظ .
قال صلوات الله وسلامه عليه : « أوَّل ما خلق الله تعالى القلم قال : أكتُبْ ، قال : ما أكْتبُ؟ قال : القَدَر ، وما هُو كَائِنٌ إلى الأبدِ » .
و « إنْ » نافية و « مِنْ » مزيدة في المبتدأ ، لاستغراق الجنس . وقال ابن عطيَّة : هي لبيان الجنس ، وفيه نظر من وجهين :
أحدهما : قال أبو حيَّان : « لأنَّ التي للبيان ، لا بدَّ أن يتقدَّمها مبهم ما ، تفسِّره؛ كقوله تعالى : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] ، وهنا لم يتقدم شيء مبهم » ثم قال « ولعلَّ قوله » لبيان الجنس « من الناسخ ، ويكون هو قد قال : لاستغراقِ الجنس؛ ألا ترى أنه قال بعد ذلك : » وقيل : المراد الخصوص « .
وخبر المبتدأ الجملة المحصورة من قوله : { إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا } .
والثاني : أنَّ شرط ذلك أن يسبقها محلَّى بأل الجنسيَّة ، وأن يقع موقعها » الذي « كقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] .

وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)

لما استدلَّ على فساد قول المشركين ، وأتبعه بالوعيد ، أتبعه بذكر مسألة النبوة ، واعلم أنَّ الكفَّار كانوا يقترحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم إظهار المعجزات ، كما حكى الله تعالى عنهم ذلك في قولهم : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون } [ الأنبياء : 5 ] .
وقال آخرون : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآيات .
وقال سعيد بن جبيرٍ : إنَّهم قالوا إنَّك تزعمُ أنَّه كان قبلك أنبياءُ منهم من سخِّرت له الريحُ ، ومنهم من أحيا الموتى ، فأتنا بشيءٍ من هذه المعجزات ، فأجابهم الله تعالى بهذه الآية .
وفي تفسير هذا الجواب وجوهٌ :
الأول : أن المعنى أنِّي إن أظهرتُ تلك المعجزاتِ ، ثم لم يؤمنوا بها ، بل بقوا مصرِّين على الكفر ، فحينئذ : يصيرون مستحقين لعذاب الاستئصال ، لكنَّ إنزال عذاب الاستئصال على هذه الأمَّة غير جائزٍ؛ لأن الله تعالى علم [ أن ] فيهم من سيؤمن أو يؤمن من أولادهم ، فلهذا لم يظهر تلك المعجزات .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - إنَّ أهل مكَّة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصَّفا ذهباً ، وأن يزيل عنهم الجبال ، حتَّى يزرعوا تلك الأرض ، فطلب الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ذلك من الله تعالى ، فقال سبحانه جلَّ ذكره : إن شئت أن أستأني فعلت وإن شئت أن أوتيهم ما شاءوا فعلت لكن بشرط؛ أنهم إن لم يؤمنوا ، أهلكتهم ، قال : لا أريد ذلك ، فنزلت هذه الآية .
الثاني في تفسير هذا الجواب : أنَّا لا نظهر المعجزاتِ؛ لأن آباءكم رأوها ، ولم يؤمنوا بها ، وأنتم مقتدون بهم ، فلو رأيتموها ، لم تؤمنوا بها أيضاً .
الثالث : أنَّ الأوَّلين رأوا هذه المعجزات ، وكذَّبوا بها ، فعلم الله منكم أيضاً : أنَّكم لو شاهدتموها ، لكذَّبتم بها ، فكن إظهارها عبثاً ، والحكيم لا يفعل العبث .
قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ } : « أن » الأولى وما في حيزها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على اختلاف القولين؛ لأنها على حذف الجارِّ ، أي : من أن نرسلَ ، والثانية وما في حيِّزها في محلِّ رفع بالفاعليَّة ، أي : وما منعنا من إرسال الرسل بالآيات إلا تكذيب الأوَّلين ، أي : لو أرسلنا الآيات المقترحة لقريشٍ ، لأهلكوا عند تكذيبهم؛ كعادة من قبلهم ، لكن علم الله سبحانه أنَّه يؤمن بعضهم ، ويكذِّبُ بعضهم من يؤمنُ ، فلذلك لم يرسل الآيات لهذه المصلحة .
وقدَّر أبو البقاء رحمة الله مضافاً قبل الفاعل ، فقال : « تقديره : إلاَّ إهلاكُ التكذيب » . كأنَّه يعني أنَّ التكذيب نفسه لم يمنع من ذلك ، وإنَّما منع منه ما يترتَّب على التَّكذيب ، وهو الإهلاك ، ولا حاجة إلى ذلك؛ لاستقلالِ المعنى بدونه .
قوله تعالى : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً } .

قرأ العامة بنصب « مُبْصِرةً » على الحال ، وزيدُ بن عليٍّ يرفعها على إضمار مبتدأ ، أي : هي ، وهو إسناد مجازي ، إذ المراد إبصار أهلها ، ولكنها لمَّا كانت سبباص في الإبصار ، نسب إليها ، وقرأ قومٌ بفتح الصَّاد ، مفعولٌ على الإسناد الحقيقيِّ ، وقتادة بفتح الميم والصَّاد ، أي : محل إبصارٍ ، كقوله - عليه السلام- : « الولدُ مَبْخَلةٌ مَجْبَنةٌ » ، وكقوله : [ الكامل ]
3433- . ... والكُفْرُ مَخْبَثَةٌ لنَفْسِ المُنْعمِ
أجرى هذه الأشياء مجرى الأمكنة؛ نحو : أرضٌ مسبعةٌ ومذأبةٌ .
قوله تعالى : { إِلاَّ تَخْوِيفاً } يجوز أن يكون مفعولاً له ، وأن يكون مصدراً في موضع الحال : إمَّا من الفاعل ، أي : مخوِّفين أو من المفعول ، اي : مخوَّفاً [ بها ] .
فصل
المعنى أنَّ الآية التي التمسوها مثل آية ثمود ، وقد آتينا ثمود النَّاقة مبصرة ، اي : واضحة بيِّنة ، ثم كفروا بها ، فاستحقُّوا بها عذاب الاستئصال ، فكيف يتمنَّاها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتَّحكُّم .
قال الفراء : مبصرة : مضيئة .
قال تعالى : { والنهار مُبْصِراً } [ يونس : 67 ] أي : مضيئاً ، وقيل : مبصرة أي : ذات إبصار ، أي : فيها إبصارٌ لمن تأمَّلها ببصر بها رشده ، ويستدلُّ بها على صدق ذلك الرسول - صلوات الله عليه- .
{ فَظَلَمُواْ بِهَا } أي : ظلموا أنفسهم بتكذيبها ، أي : فعاجلناهم بالعقوبة .
وقال ابن قتيبة : ظلموا بها ، أي : جحدوا بأنَّها من الله تعالى ، ثم قال تعالى { وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً } قيل : لأنه لا آية إلاَّ وتتضمَّن التخويف عند التكذيب ، إمَّا من العذاب المعجَّل ، أو من العذاب المؤجَّل عذاب الآخرة .
فإن قيل : المقصود الأعظم من إظهار الآياتِ أن يستدلَّ بها على صدق المدَّعى؛ فكيف حصر المقصود من إظهارها في التَّخويف؟ .
فالجواب : أن مدَّعي النبوّة ، إذا أظهر الآية ، فإذا سمع الخلق منه ذلك ، فهم لا يعلمون أنَّ تلك الآية معجزةٌ ، أو غير معجزةٍ ، إلاَّ أنَّهم يجوزون كونها معجزة ، وبتقدير أن تكون معجزة ، فلو لم يتفكَّروا فيها ، ولم يستدلُّوا على الصِّدق ، لاستحقوا العذاب الشديد ، فهذا الخوف هو الذي يحملهم على التفكُّر والتأمل في تلك المعجزات ، فهذا هو المراد من قوله : { وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً } .

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)

قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس } الآية .
اعلم أنَّ القوم ، لمَّا طالبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعجزاتِ القاهرة ، وأجاب الله بأنَّ إظهارها ليس بمصلحةٍ ، صار ذلك سبباً لجرأة أولئك الكفار بالطَّعن فيه ، وأن يقولوا له : لو كنت رسُولاً حقًّا من عند الله تعالى ، لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها ، كما أتى به موسى وغيره من الأنبياء - صلوات الله عليهم- ، فعند هذا قوَّى الله قلبه ، وبيَّن له أنَّه ينصرهُ ، ويؤيِّده ، فقال تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس } أي : هم في قبضته لا يقدرون على الخروج عن مشيئته ، فهو حافظك منهم ، فلا تهبهم ، وامضِ لما أمرك به من تبليغ الرِّسالة ، كقوله تعالى : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] .
وقيل : المراد بالنَّاسِ أهلُ مكَّة ، وإحاطة الله بهم هو أنَّه تعالى يفتحها للمؤمنين؛ فيكون المعنى : وإذ بشَّرناكَ بأنَّ الله أحَاطَ بأهل مكَّة؛ بمعنى أنَّه ينصرك ، ويظهر دولتك عليهم؛ كقوله تعالى : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] وقوله : { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ } [ آل عمران : 12 ] ، ولما كان كلّ ما أخبر الله عنه وقوعه ، فهو واجبُ الوقوع ، فكان من هذا الاعتبار كالواقع ، فلا جرم قال : { أَحَاطَ بالناس } .
وروي أنَّه لما تزاحف الفريقانِ يوم بدرٍ ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريشِ ، مع أبي بكرٍ - رضي الله عنه - كان يدعُو ، ويقول : اللَّهُمَّ ، إنِّي أسألك عهدك ووعدك لي ، ثمَّ خرج ، وعليه الدِّرْع يحرضُ النَّاس ويقول : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] .
ثم قال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } .
والأكثرون على أنَّ المراد منه ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراجِ من العجائب والآيات .
قال ابن عباسٍ : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولُ سعيد بن جبيرٍ ، والحسن ، ومسروقٍ ، وقتادة ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن جريحٍ والأكثرين .
ولا فرق بين الرُّؤية والرُّؤيا في اللغة ، يقال : رأيتُ بعيني رؤية ورُؤيا .
وقال بعضهم : هذا يدلُّ على أن قصَّة الإسراء إنما حصلت في المنامِ ، وتقدَّم بيان ضعف هذا في أوَّل السورة ، وقيل : إنَّه تعالى اراه في المنام مصارعَ قريشٍ ، فحين ورد ماء بدر ، قال : والله ، لكَأنِّي أنظر غلى مصارع القومِ ، ثمَّ أخَذ يقول : هذا مصرعُ فلانٍ ، هذا مصرعُ فلانٍ ، فلما سمعوا قريش ذلك ، جعلوا رؤياه سخرية ، وكانوا يستعجلون بما وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقيل : المراد رؤياه التي رآها؛ أنَّه يدخل مكَّة ، وأخبر بذلك أصحابه ، وعجل السَّير قبل الأجل إلى مكة فصدَّه المشركون ، فرجع إلى المجينة ، فلما منع عن البيت الحرام عام الحديبية ، ورجع ، كان ذلك فتنة لبعض القوم ، وق لعمر لأبي بكرٍ - رضي الله عنهما- : أليس قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّا ندخلُ البيت ونطوف به؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنهما - : أليس قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّا ندخلُ البيت ونطوف به؟ فقال أبو بكرٍ - رضي الله عنهما- : أليس قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّا ندخلُ البيت ونطوف به؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنه- : إنَّه لم يخبر بأنّا نفعل ذلك في هذه السَّنة ، فسنفعل ذلك في سنةٍ أخرى ، فلمَّا جاء العام المقبل ، دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى :

{ لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق } [ الفتح : 27 ] واعترضُوا على هذين القولين بأنَّ هذه السورة مكيَّة ، وهاتان الواقعتان مدنيتان ، وهو اعتراضٌ ضعيفٌ؛ لأن هاتين الوقعتين ، وإن كانتا مدنيتين ، فرؤيتهما في المنام لا تبعد أن تكون مكيَّة .
وقال سعيد بن المسيَّب : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أميَّة ينزون على منبره ، [ نَزْوَ القردة ] ، فساءه ذلك ، وهو قول ابن عبَّاس في رواية عطاء ، وفيه الاعتراض المذكور؛ لأنَّ هذه الآية مكيَّة ، وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة منبرٌ .
ويمكنُ أن يجاب عنه بأنَّه لا يبعد أن يرى بمكة أنَّ له بالمدينة منبراً يتداوله بنُو أميَّة .
قوله : « والشَّجرةَ » : العامة على نصبها نسقاً على « الرُّؤيا » و « المَلعُونَة » نعتٌ ، قيل هو مجازٌ؛ إذ المراد : الملعون طاعموها؛ لأن الشجرة لا ذنب لها ، وهي شجرةُ الزقُّوم ، وقيل : بل على الحقيقة ، ولعنها : إبعادها من رحمة الله؛ لأنَّها تخرج في أصلِ الجحيم ، وقرأ زيد بن عليٍّ برفعها على الابتداء ، وفي الخبر احتمالان :
أحدهما : هو محذوفٌ ، أي : فتنة .
والثاني : - قاله أبو البقاء - أنه قوله « في القُرآنِ » وليس بذاك .
فصل
قال المفسِّرون : هذا على التَّقديم والتَّأخير ، والتقدير : وما جعلنا الرؤيا الَّتي أريناك والشَّجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للنَّاس .
وقيل : المعنى : والشجرة الملعُونة في القرآن كذلكن وهي شجرة الزقُّوم ، والفتنة في الشجرة الملعونة من وجهين :
الأول : أن ابا جهلٍ ، قال : زعم صاحبكم أنَّ نار جهنَّم تحرق الحجر ، حيث قال تعالى : { وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ البقرة : 24 ] ثم يقول : إنَّ في النَّار شجراً ، والنَّار تأكلُ الشَّجر ، فكيف تولَّد فيها الشَّجر .
والثاني : قال ابنُ الزبعرى : إن محمداً يخوفنا بالزقُّوم ، وما نعلم الزقُّوم إلاَّ التَّمر والزُّبد ، فتزقَّموا منه ، فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر { إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ } [ الصافات : 63 ] .
فإن قيل : ليس في القرآنِ لعن هذه الشجرة .
فالجواب من وجوهٍ :
الأول : المراد لعن الكفَّار الذين يأكلونها .
الثاني : أنَّ العرب تقول لكلِّ طعام ضارٍّ : إنَّه ملعونٌ .
الثالث : أنَّ اللَّعن في اللغة : هو الإبعاد ، فلما ك انت هذه الشجرةُ مبعدة عن صفات الخير ، سمِّيت ملعونة .

وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- : الشجرة الملعونةُ في القرآن : بنو أميَّة ، يعني : الحكم بن أبي العاص ، قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنامِ أنَّ ولد مروان يتداولون منبرهُ ، فقصَّ رؤياه على أبي بكرٍ وعمر - رضي الله عنهما - في خلوة من مجلسه ، فلمَّا تفرَّقُوا ، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم يخبر برؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتدَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم واتَّهم عمر في إفشاء سرِّه ، ثم ظهر لهُ أنَّ الحكم كان يستمعُ إليهم ، فنفاهُ صلى الله عليه وسلم .
قال الواحديُّ - رحمه الله- : هذه القصَّة كانت في المدينة ، والسورة [ مكية ] ، فيبعد هذا التفسير ، إلاَّ أن يقال : هذه الآية مدنية ، ولم يقل به أح\ٌ ، ويؤكِّد هذا التَّأويل قول عائشة - رضي الله تعالى عنها - لمروان : لعن الله أباك ، وأنت في صلبه ، فأنت بعض من لعنة الله .
وقيل : الشجرة الملعونة في القرآن هم اليهود؛ لقوله تعالى : { لُعِنَ الذين كَفَرُواْ } [ المائدة : 78 ] .
وقيل : الشَّجرة الملعونة هي الَّتي تلتوي على الشَّجر ، فتخنقه ، يعني « الكشوث » .
فإن قيل : إنَّ القوم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإتيان بالمعجزاتِ القاهرة ، فأجاب بأنَّه لا مصلحة في إظهارها؛ لأنَّها لو ظهرت ، ولم يؤمنوا ، نزل عليهم عذاب الاستئصال ، وذلك غير جائزٍ ، فأيُّ تعلقٍ لهذا الكلام بذكرِ الرؤيا التي صارت فتنة للنَّاس وبذكر الشجرة [ التي صارت فتنة للنَّاس ] .
فالجواب : أنَّ التقدير كأنَّه قيل : إنَّهم لما طلبوا هذه المعجزات ، ثم إنَّك لم تظهرها ، صار عدم ظهورها شبهة لهم في أنَّك لست بصادق في دعوى النبوَّة ، إلاَّ أنَّ وقوع هذه الشبهة لا يضيق صدرك ، ولا يوهنُ أمرك ، ولا يصير سبباً لضعف حالك؛ ألا ترى أنَّ تلك الرؤيا صارت سبباً لوقوع الشبهة العظيمة عندهم ، ثم إنَّ قوة تلك الشبهات ما أوجبت ضعفاً في أمرك ، فكذلك هذه الشبهة الحاصلة بسبب عدم ظهور هذه المعجزات لا يوجبُ فتوراً في حالك ، ولا ضعفاً في أمرك .
ثم قال تعالى : { وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ } أي التخويف { إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } ، أي : تمرُّداً وعتُواً عظيماً ، والمقصود من ذلك وجهٌ آخر في أنَّه ما أظهر المعجزات التي اقترحوها؛ لأنَّ هؤلاء خوفوا بأشياء كثيرة من الدنيا والآخرة ، وبشجرة الزَّقوم ، فما زادهم هذا التخويفُ إلاَّ طغياناً كببيراً؛ وذلك يدلُّ على قسوة قلوبهم ، وتماديهم في الغيِّ والطُّغيان .
وإذا كان كذلك فبتقدير أن يظهر الله لهم تلك المعجزات التي اقترحوها ، لم ينتفعوا بها ، ولم يزدادوا إلاَّ تمادياً ف يالجهل والعناد ، وإذا كان كذلك ، وجب في الحكمة ألاَّ يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات .
قرأ العامة « ونُخوِّفهُم » بنون العظمة ، والأعمش بياء الغيبة .

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)

في النظم وجوهٌ :
أولها : أنه تعالى ، لمَّا ذكر أنَّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - كان في محنةٍ عظيمة من قومه ، بيَّن أنَّ حال جميع الأنبياءِ مع أهل زمانهم كذلك؛ ألا ترى أنَّ الأول منهم آدمُ - صلوات الله وسلامه عليه - ثمَّ إنه كان في محنة من إبليس .
وثانيها : أنَّ القوم ، إنَّما نازعُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاندوه ، واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين : الكبر والحسد ، فبيَّن سبحانه وتعالى أنَّ هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الكفر ، و الخروج من الإيمان ، فهذه بليَّةٌ عظيمةٌ قديمةٌ .
وثالثها : أنَّهم لما وصفهم الله تعالى بقوله : { فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } [ الإسراء : 60 ] بيَّن ما هو السبب لحصُول هذا الطُّغيان ، وهو قول إبليس « لأحتنكنَّ ذريته إلا قليلاً » فلهذا المقصود ذكر الله تعالى قصَّة آدم وإبليس .
واعلم أنَّ هذه القصَّة ذكرها الله تعالى في سبع سورٍ؛ البقرةِ ، والأعراف ، والحجر ، وهذه السورة ، والكهف ، وطه ، وص ، وقد تقدم الاستقصاء عليها في البقرة ، فليلتفت إليه . وقوله : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } استفهامٌ بمعنى الإنكار ، معناه : أنَّ أصلي أشرفُ من أصله؛ فوجب أن أكون أشرف منه ، والأشرف لا يخدم الأدنى .
قوله تعالى : « طيناً » : فيه أوجه :
أحدها : أنه حال من « لِمَنْ » فالعامل فيها « أأسجدُ » أو من عائد هذا الموصول ، أي : خلقتهُ طيناً ، فالعامل فيها « خَلقْتَ » وجاز وقوع طينٍ حالاً ، وإن كان جامداً ، لدلالته على الأصالة؛ كأنه قال : متأصِّلاً من طين .
الثاني : أنه منصوبٌ على إسقاطِ الخافض ، أي : من طينٍ ، كما صرَّح به في الآية الأخرى : { وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] .
الثالث : أنه منتصبٌ على التمييز ، قاله الزَّجَّاجِ ، وتبعه ابن عطيَّة ، ولا يظهر ذلك؛ إذ لم يتقدَّم إبهامُ ذاتٍ ولا نسبةٍ .

قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)

قوله تعالى : { أَرَأَيْتَكَ } : قد تقدم مستوفى في الأنعام [ الآية : 40 ] . وقال الزمخشريُّ : « الكافُ للخطاب ، و » هذا « مفعولٌ به ، والمعنى : أخبرني عن هذا الذي كرَّمته عليَّ ، أي : فضَّلته ، لِمَ كرَّمتهُ ، وأنا خيرٌ منه؟ فاختصر الكلام » . وهذا قريبٌ من كلام الحوفيِّ - رحمه الله - .
قال ابن عطيَّة : « والكاف في » أرَايْتَكَ « حرف خطابٍ ، لا موضع لها من الإعراب ، ومعنى » أرَأيْت « أتأمَّلت ونحوه ، كأنَّ المخاطب يُنبِّه المخاطب؛ ليستجمع لما ينصُّ عليه بعد . وقال سيبويه : » هي بمعنى أخبرني « ، ومثل بقوله : » أرَأيْتكَ زيداً ، أبو من هُوَ؟ « وقول سيبويه صحيحٌ؛ حيث يكون بعدها استفهام كمثاله ، وأمَّا في الآية فهو كما قلت ، وليست التي ذكر سيبويه » قلت : وهذا الذي ذكره ليس بمسلَّم ، بل الآية كمثاله ، غاية ما في الباب : أنَّ المفعول الثاني محذوفٌ ، وهو الجملة الاستفهامية المقدَّرة؛ لانعقادِ الكلام من مبتدأ وخبر ، لو قلت : هذا الذي كرَّمته عليَّ ، لم كرَّمته؟ .
وقال الفرَّاء : « الكاف في محلِّ نصبٍ ، أي : أرَأيْتَ نفسك؛ كقولك : أتدبَّرْتَ آخِرَ أمرك ، فإني صانعٌ فيه كذا ، ثم ابتدأ : هذا الذي كرَّمت عليَّ » .
وقال ابن الخطيب : يمكن أن يقال : « هذا » مبتدأ محذوف عنه حرفُ الاستفهام ، و « الَّذي » مع صلته خبره ، تقديره : أخبرني ، أهذا الذي كرَّمتهُ عليَّ؛ وهذا على وجه الاستصغار ، والاستحقار ، وإنَّما حذف حرف الاستفهام؛ لأنَّه حصل في قوله : « أرَأيْتكَ » . فأغنى عن تكريره .
وقال أبو البقاء : « والمفعول الثاني محذوفٌ ، تقديره : تفضيله أو تكريمه » . قال شهاب الدين : وهذا لا يجوز؛ لنَّ المفعول الثاني في هذا الباب لا يكون إلا جملة مشتملة على استفهام .
قال أبو حيَّان : « ولو ذهب ذاهبٌ غلى أنَّ الجملة القسميَّة هي المفعول الثاني ، لكان حسناً » . قال شهاب الدين : يردُّ ذلك التزامُ كون المفعولِ الثاني جملة مشتملة على استفهامٍ ، وقد تقرَّر جميع ذلك في الأنعام ، فعليك باعتباره ههنا .
قوله : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } قرأ ابن كثيرٍ بإثبات ياءِ المتكلِّم وصلاً ووقفاً ، ونافعٌ وأبو عمرو بإثباتها وصلاً ، وحذفها وقفاً ، وهذه قاعدةُ من ذكر في الياءاتِ الزائدةِ على الرَّسم ، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً ، وكل هذا في حرف هذه السورة ، أمَّا الذي في المنافقين [ الآية : 10 ] في قوله { لولاا أخرتنيا } فأثبته الكلُّ؛ لثبوتها في الرسم الكريم .
قوله « لأحْتَنِكَنَّ » جواب القسم الموطَّأ له باللام ، ومعنى « لأحْتَنِكَنَّ » لأستولينَّ عليهم استيلاء من جعل في حنكِ الدَّابة حبلاً يقودها به ، فلا تأبى ولا [ تشمسُ ] عليه ، يقال : حَنكَ فلانٌ الدَّابة ، واحتنكها ، أي : فعل بها ذلك ، واحْتَنكَ الجرادُ الأرض : أكل نباتها ، قال : [ الرجز ]

3434- نَشْكُو إليْكَ سَنةً قَدْ أجْحَفتْ ... جَهْداً إلى جَهْدٍ بِنَا فأضْعَفتْ
واحْتَنكَتْ أمَوالنَا وجلَّفَتْ
وحكى سيبويه - رحمه الله- : « أحْنَكُ الشَّاتينِ » ، أي : آكلهما ، أي : أكثرهما [ أكْلاً ] .
وذكر المفسرون في الاحتناك قولين :
أحدهما : أنه عبارةٌ عن الأخذِ بالكليَّة ، يقال : احتنك فلانٌ مال فلانٍ : إذا استقصاه ، فأخذهُ الكلِّيَّة ، واحتنك الجراد الزَّرع : إذا أكلهُ بالكليَّة .
والثاني : أنه من قول العرب : حنَّك الدابَّة يحنكها ، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به .
فعلى الأوَّل معناه : لأستأصلنهم بالإغواء .
وعلى الثاني : لأقُودنَّهم إلى المعاصي ، كما تقادُ الدَّابة بحبلها .
ثم قال : « إلاَّ قليلاً » وهم المعصومون الذين استثناهم الله تعالى في قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] .
فإن قيل : كيف ظنَّ إبليسُ اللَّعين هذا الظنَّ الصَّادق بذريَّة آدم - صلوات الله عليه-؟ .
قيل : فيه وجهان :
الأول : أنه سمع الملائكة يقولون : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } [ البقرة : 30 ] فعرف ذلك .
والثاني : أنه وسوس إلى آدم - صلوات الله عليه - فلم يجدْ له عزماً ، فقال : الظاهر أنَّ أولاده يكونون مثله في ضعف العزم .
وقيل : لأنه عرف أنه مركب من قوَّة بهيمية شهوانية ، وقوَّة وهميَّة شيطانية ، وقوة عقليَّة ملكيَّة ، وقوَّة سبعيَّة غضبيَّة ، وعرف أنَّ بعض تلك القوى تكون هي المستولية في أوَّل الخلقة ، ثم غنَّ القوَّة العقلية إنما تكمل في ىخر الأمر ، ومتى كان الأمر كذلك ، كان ما ذكره إبليس لازماً .

قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)

قوله تعالى : { اذهب فَمَن } : تقدَّم أن الباء تدغم في الفاء في ألفاظٍ منها هذه ، عند أبي عمرو ، والكسائي ، وحمزة في رواية خلادٍ عنه؛ بخلاف في قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك } [ الحجرات : 11 ] .
وهذا ليس من الذَّهاب الذي هو ضدُّ المجيء ، وإنما معناه : امضِ لشأنك الذي اخترته ، و المقصود التخلية ، وتفويض المر إليه ، كقول موسى - صلوات الله عليه- : { فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } [ طه : 97 ] ثم قال عزَّ وجلَّ : { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } .
فإن قيل : الأولى أن يقال : فإن جهنَّم جزاؤهم؛ ليعود الضمير إلى قوله : { فَمَن تَبِعَكَ } ؟ فالجواب من وجوهٍ :
الأول : تقديره : جزاؤهم وجزاؤكم؛ لأنه تقدَّم غائب ومخاطب في قوله : { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } فغلَّب المخاطب على الغائب ، فقيل : جزاؤكم .
والثاني : يجوز أن يكون الخطاب مراداً به « مَنْ » خاصة ، ويكون ذلك على طريق الالتفات .
والثالث : أنه - صلوات الله وسلامه عليه - قال : « مَنْ سَنَّ سُنَّةً سيِّئةً فَعليْهِ وِزْرُهَا ووِزْرُ مِنْ عَمِلَ بِهَا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ » فكل معصية توجد فيحصل لإبليس مثل وزْرِ ذلك العامل ، فلما كان إبليس هو الأصل في كلِّ المعاصي ، صار المخاطب بالوعيد هو إبليس .
قوله تعالى : « جَزَاءً » في نصبه أوجهٌ :
أحدها : أنّه منصوبٌ على المصدر ، الناصب له المصدر قبله ، وهو مصدر مبين لنوع المصدر الأول .
الثاني : أنه منصوب على المصدر ايضاً ، لكن بمضمرٍ ، أي : يجازون جزاء .
الثالث : أنه حالٌ موطئة ك « جَاءَ زيدٌ رجُلاً صَالحاً » .
الرابع : أنه تمييزٌ ، وهو غير متعقَّل .
و « مَوفُوراً » اسم مفعولٍ ، من وفرته ، ووفر يستعمل متعدِّياً ، ومنه قول زهير : [ الطويل ]
3435- ومَنْ يَجْعَلِ المعرُوفَ من دُونِ عِرْضهِ ... يَفِرهُ ومَنْ لا يتَّقِ الشَّتمَ يُشتمِ
والآية الكريمة من هذا ، ويستعمل لازماً ، يقال : وفرَ المالُ يَفِرُ وفُوراً ، فهو وَافِرٌ ، فعلى الأول : يكون المعنى جزاء موفَّراً ، وعلى الثاني : يكون المعنى جزاء وافراً مكمَّلاً يقال : وفرتهُ أفرهُ وفْراً .

وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)

قوله تعالى : { واستفزز } : جملة أمرية عطفت على مثلها من قوله « اذهَبْ » . و « من اسْتطَعْتَ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنها موصولة في محلِّ نصب مفعولاً للاستفزاز ، أي : استفزز الذي استطعت استفزازه منهم .
والثاني : أنها استفهامية منصوبة المحلِّ ب « استطعت » قاله أبو البقاء ، وليس بظاهرٍ؛ لأن « اسْتفْزِزْ » يطلبه مفعولاً به ، فلا يقطع عنه ، ولو جعلناه استفهاماً ، لكان معلقاً له ، وليس هو بفعلٍ قلبيٍّ [ فيعلقُ ] .
والاسْتِفْزازُ : الاستخفاف ، واستفزَّني فلانٌ : استخفَّني حتى خدعني لما يريده . قال : [ الطويل ]
3436- يُطِيعُ سَفيهَ القَومِ إذ يَسْتفِزُّهُ ... ويَعْصِي حَليماً شَيَّبتهُ الهَزاهِزُ
ومنه سمِّي ولد البقرة « فزًّا » . قال الشاعر : [ البسيط ]
3437- كَمَا اسْتغَاثَ بسَيْءٍ فَزُّ غَيْطلةٍ ... خَافَ العُيونَ ولمْ يُنْظرْ بِهِ الحَشَكُ
وأصل الفزِّ : القطعُ ، يقال : تفزَّز الثَّوب ، أي : تقطَّع .
ويقال : أفزَّه الخوف ، واستفزَّه ، أي : أزعجه ، واستخفَّه .
واعلم أنَّ إبليس ، لمَّا طلب من الله تعالى الإمهال إلى يوم القيامة؛ لأجل أن يحتنك ذريَّة آدم - صلوات الله وسلامه عليه - ذكر الله تعالى أشياء :
أولها : قوله عزَّ وجلَّ : { اذْهَبْ } أي : أمهلتك هذه المدَّة .
وثانيها : قوله تعالى : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ } .
وتقدَّم أن الاستفزاز : الاستخفاف ، وقيل : اسْتَنْزَلَ واستجهد .
وقوله : « بِصَوْتِكَ » .
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - وقتادة : بدعائك غلى معصية الله .
وقال الأزهريُّ : ادعهم دعاء تستخفُّهم به إلى إجابتك .
وقال مجاهدٌ : بصوتك ، أي : بالغناءِ واللَّهو .
وهذا أمرُ تهديد ، كما يقال : اجتهد جهدك؛ فسترى ما ينزل به :
وثالثها : قوله : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم } أي : اجمع عليهم الجموع من جندك ، يقال أجلب عليه وجلب ، أي : جمع عليه الجموع .
قال الفرَّاء : هو من الجَلبةِ ، وهو الصِّياح .
وقال أبو عبيدة : أجْلبُوا وجَلبُوا : من الصِّياح .
وقال الزجاج في « فَعَل ، وأفْعَلَ » : أجلب على العدوِّ وجلب ، إذا جمع عليه الخيل .
وقال ابن السِّكيت : يقال : هم يجلبون عليه؛ لمعنى أنهم يعينون عليه .
وروى ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ : أجلب الرجل على الرجل ، إذا توعَّده بالشرِّ ، وجمع عليه الجمع ، فعلى قول الفرَّاء معنى الآية : صح عليهم بخيلك ورجلك ، وعلى قول الزجاج : اجمع عليهم كلَّ ما تقدر عليه من مكائدك ، وعلى هذا تكون الباء في قوله : « بخيلك » زائدة .
وعلى قول ابن السِّكيت : معناه : أعن عليهم بخيلك ورجلك ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف ، تقديره : استعن على إغوائهم بخيلك ورجلك ، وهو يقرب من قول ابن الأعرابيِّ .
والمراد بالخيل والرجل : قال ابن عباس : كلُّ راكبٍ أو راجلٍ في معصية الله ، فهو من خيل إبليس وجنوده .
وقال مجاهدٌ وقتادة : إن لإبليس جنداً من الشياطين بعضهم راكبٌ ، وبعضهم راجلٌ .
وقيل : المراد ضرب المثل؛ كما يقال للرجل المجدِّ في الأمر : جئت بالخيل والرجل ، وهذا الوجه أقرب ، والخيل يقع على الفرسان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« يا خَيْلَ الله ، اركبي » .
وقد يقع على الأفراس خاصة .
قوله : « ورجلك » قرأ حفص بكسر الجيم والباقون بسكونها ، فقراءة حفص « رَجِل » فيها بمعنى « رَجُل » بالضم بمعنى : راجل ، يقال : رَجِل يَرْجِل : إذا صار راجلاً ، مثل : حَذِر وحَذْر ، ونَدِس ونَدْس ، وهو مفرد أريد به الجمع .
وقال ابن عطية : هي صفة ، يقال : فلان يمشي راجلاً ، إذا كان غير راكب ، ومنه قول الشاعر :
3438- . . .. رجلاً إلا بأصحاب
يشير إلى البيت المشهور ، وهو : [ البسيط ]
أما أقاتل عن ديني على فرس ... ولا كذا رجلاً إلا بأصحابِ
اراد فارساً ولا راجلاً .
وقال الزمخشري : إن « فَعِلاً » بمعنى « فاعل » ، نحو : تَعِب وتاعب ، ومعناه : جمعك الرجل ، وبضم جيمه أيضاص فيكون مثل : حَذِرَ وحَذُرَ ونَدِسَ ونَدُسَ ، وأخوات لهما .
وأما قراءة الباقين ، فتحتمل أن تكون تخفيفاً من « رَجُل » بكسر الجيم أو ضمها ، والمشهور : أنه اسم جمع لراجلٍ ، كرَكْبٍ وصَحْبٍ في راكبٍ وصاحبٍ ، والأخفش يجعل هذا النحو جمعاً صريحاً .
وقرأ عكرمة « ورِجَالِكَ » جمع رجلٍ بمعنى راجل ، أو جمع راجل كقائم وقيام . وقرئ « ورُجَّالِكَ » بضم الراء وتشديد الجيم ، وهو جمع راجل ، كضاربٍ وضُرَّاب .
وقال ابن الأنباري - رحمه الله - : أخبرنا ثعلبٌ عن الفراء ، قال : يقال : راجلٌ ورَجِلٌ ورَجْلٌ ورَجْلان بمعنى واحد .
والباء في « بخَيْلِكَ » يجوز أن تكون الحالية ، أي : مصاحباص بخيلك ، وأن تكون مزيدة كما تقدم ، قال :
3439- . لا يَقْرَأنَ بالسُّورِ
ورابعها : قوله تعالى : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد } والمشاركة في الأنوال ، قال مجاهدٌ ، والحسن ، وسعيد بن جبيرٍ : كل ما أصيب من حرامٍ ، أو أنفق في حرامٍ .
وقال قتادة : هو جعلهم البحيرة والسَّائبة والوَصِيلةَ والحَامَ .
وقال الضحاك : هو ما يذبحونه لآلهتهم .
وقال عكرمة : هو تبكيتهم آذان الأنعام .
وقيل : هو جعلهم من أموالهم شيئاً لغير الله ، كقولهم : { هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا } [ الأنعام : 136 ] والأوَّل أظهر ، قاله القاضي . وأما المشاركة في الأولاد ، فقال عطاء عن ابن عباسٍ : هو تسمية الأولاد ب « عَبدِ شمسٍ ، وعَبْدِ العُزَّى ، وعَبْدِ الحَارثِ ، وعَبْد الدَّار ونحوها » .
وقال الحسن وقتادة : هو أنَّهم هوَّدُوا أولادهم ، ونصَّروهم ومجّسُوهم .
وقيل : هو إقدامهم على قتل الأولاد .
وروي عن جعفر بن محمدٍ ، أن الشَّيطان يقعد على ذكر الرَّجل فإذا لم يقل : بسم الله ، أصاب معه امرأته ، وأنزل في فرجها كما ينزل الرَّجل وروي في بعض الأخبار « إنَّ فيكم مُغربِينَ ، قيل : وما المُغرِبُونَ؟ قال : الذين يشارك فيهم الجنّ » . وروي أنَّ رجلاً قال لابن عبَّاس : إنَّ امراتِي استيقظت وفي فرجها شعلةُ نَارٍ ، اقل : ذلِكَ من وطْءِ الجِنِّ .

وفي الآثار : إنَّ إبليس ، لمَّا أخرج إلى الأرض ، قال : يا ربِّ ، أخْرَجتَنِي من الجنَّة؛ لأجل آدم فسلِّطنِي عليه ، وعلى ذُرِّيته ، قال : أنت مسلَّطٌ ، قال : لا أستطيعه إلا بكا فزدني ، قال : استفزز من استطعت منهم بصوتك .
قال آجم : يا ربِّ ، اسلَّطت إبليس عليَّ ، وعلى ذُريَّتي ، وإنَّني لا أستطيعهُ إلاَّ بك ، قال : لا يُولَدُ لك ولدٌ إلاَّ وكَّلتُ بِهِ مَنْ يَحْفظونهُ .
قال : زِدْنِي! قال : الحسنةُ بعشرِ أمثالها ، والسَّيئةُ بمثلها ، قال : زدْنِي ، قال : التَّوبةُ معروضةٌ ما دَامَ الرُّوحُ في الجسدِ ، قال : زدْنِي ، فقال : { قُلْ ياعبادي الَّذِينَ أَسْرَفُواْ } [ الزمر : 53 ] .
وخامسها : قوله تعالى { وَعِدْهُمْ } .
قيل : معناه : قل لهم : لا جنَّة ، ولا نار ، ولا بعث .
وقيل : [ خذ ] منهم الجميل في طاعتك ، أي بالأمانِي الباطلة؛ كقوله لآدم - صلوات الله عليه- : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } [ الأعراف : 20 ] .
وقيل : عدهم بشفاعةِ الأصنامِ عند الله ، والأنساب الشريفة ، وإيثار العاجل على الآجل .
واعلم أنَّ مقصود الشيطان الترغيب في اعتقاد الباطل ، وعمله ، والتَّنفير عن اعتقاد الحقِّ ، ومعلومٌ أنَّ الترغيب في الشيء لا يمكن إلاَّ بأن يقرر عنده ألاَّ بأن يقرَّر عنده أنه لا فائدة في فعله ، ومع ذلك يفيد المضارَّ العظيمة ، وإذا ثبت هذا ، فالشيطان إذا دعا إلى معصيةٍ ، فلا بدَّ وأن يتقرَّر أولاً : أنَّه لا مضرَّة في فعله ألبتَّة ، وذلك لا يمكن إلا إذا قال : لا معاد ، ولا جنَّة ولا نار ، ولا حياة غير هذه الحياة الدنيا ، فإذا فرغ من هذا المقام ، قرَّر عنده أنَّ هذا الفعل يفيد أنواعاً من اللَّذة والسُّرور ، ولا حياة للإنسان في هذه الحياة الدنيا إلاَّ به ، فتفويتها غبنٌ وخسران؛ كقوله : [ الطويل ]
3440- خُذُوا بِنَصِيبٍ مِنْ نَعيمٍ ولَذَّةٍ ... فَكُلٌّ وإنْ طَالَ المَدَى يَتَصَرَّمُ
فهذا هو طريقُ الدَّعوة إلى المعصية ، وأمَّا طريقُ التنفير من الطاعات ، فهو أن يقرِّر عنده أوَّلاً أنه لا فائدة فيها للعبادِ والمعبود ، فكانت عبثاً ، وأنَّها توجبُ التَّعب والمحنة ، وذلك أعظم المضارِّ .
فقوله : { وَعِدْهُمْ } يتناول جميع هذه الأقسام .
قوله تعالى : { وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان } من باب الالتفات ، وإقامة الظاهر مقام المضمر؛ إذ لو جرى على سننِ الكلامِ الأوَّل ، لقال : وما تعدهم ، بالتاء من فوق .
قوله تعالى : { إِلاَّ غُرُوراً } فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه نعت مصدر محذوف وهو نفسه [ مصدر ] ، الأصل : إلا وعداً غروراً ، فيجيء فيه ما في « رجلٌ عدلٌ » [ أي ] : إلاَّ وعداً ذا غرورٍ ، أو على المبالغةِ ، أو على : وعداً غارًّا ، ونسب الغرور إليه مجازاً .
الثاني : أنه مفعول من أجله ، أي : ما يعدهم ممَّا يعدهم من الأماني الكاذبة إلاَّ لأجل الغرور .
الثالث : أنه مفعولٌ به على الاتِّساعِ ، أي : ما يعدهم إلا الغرور نفسه .
والغرورُ : تزيينُ الباطل مما يظنُّ أنه حقٌّ .

فإن قيل : كيف ذكر الله هذه الأشياء ، وهو يقول : إنَّ الله لا يأمر بالفحشاء .
قيل : هذا على طريق التهديد؛ كقوله : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] وكقول القائل : اعمل ما شئت؛ فسترى .
ولما قال تعالى له : افعل ما تقدر عليه ، قال سبحانه : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } .
قال الجبائي - رحمه الله تعالى - : المراد كلُّ عباد الله تعالى من المكلَّفين؛ [ لأن الله ] تعالى استثنى منه في آياتٍ كثيرةٍ من تبعه بقوله : { إِلاَّ مَنِ اتبعك } [ الحجر : 42 ] ثم استدلَّ بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع النَّاس ، وتخبيط عقولهم ، وأنه لا قدرة له إلاَّ على الوسوسة ، وأكَّد ذلك بقوله : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ } [ إبراهيم : 22 ] .
وأيضاً : لو قدر على هذه الأفعال ، لكان يجب أن يخبط أهل الفضل والعلم ، دون سائر النَّاس؛ ليكون ضرره أتمَّ ، ثم قال : وإنَّما يزولُ عقله؛ لأنَّ الشيطان يقدم عليه ، فيغلب الخوف عليه ، فيحدثُ ذلك المرض .
وقيل : المراد بقوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي } أهل الفضل والإيمان؛ لما تقدَّم من أنَّ لفظة العباد في القرآن مخصوصةٌ بالمؤمنين؛ لقوله تعالى : { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ } [ النحل : 100 ] .
ثم قال : { وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } أي : حافظاً ، ومن توكل الأمور إليه ، وذلك أنَّه تعالى ، لمَّا وكل إبليس بأن يأتي بأقصى ما يقدر عليه من الوسوسةِ ، وكان ذلك سبباً لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان ، قال : { وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } ، أي أنَّ الشيطان ، وإن كان قادراً؛ فإنَّ الله تعالى أقدر منه ، وأرحم بعباده ، فهو يدفع عنهم كيد الشيطان .
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ المعصوم من عصمه الله تعالى ، وأنَّ الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الإضلال لأنَّه لو كان الإقدامُ على الحقِّ ، والإحجام عن الباطلا إنما يحصل للإنسان من نفسه ، لوجب أن يقال : وكفى للإنسان بنفسه في الاحتراز عن الشَّيطان ، فلمَّا لم يقل ذلك ، بل قال : { وكفى بِرَبِّكَ } علمنا أنَّ الكل من الله تعالى ، ولهذا قال المحققون : لا حول عن معصية الله إلاَّ بعصمته ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيقه .
فصل
قال ابن الخطيب : في الآية سؤالان :
الأول : أن إبليس ، هل كان عالماً بأن الذي تكلم معه بقوله : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ } هو إله العالم ، أو لم يعلم ذلك؟ فإن علم ذلك ، ثم إنه تعالى قال : { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] فكيف لم يصر هذا الوعيد الشديد مانعاً له من المعصية ، مع أنَّه سمعه من الله تعالى من غير واسطة؟ وإن لم يعلم أنَّ هذا القائل هو إله العالم ، فكيف قال : « أرأيتك هذا الذي كرمت علي » ؟! .
والجواب : لعلَّه كان شاكًّا في الكلِّ أو كان يقول في كلِّ قسم ما يخطر بباله على سبيل الظنِّ .

والسؤال الثاني : ما الحكمة في كونه أنظره إلى يوم القيامة ، ومكَّنه من الوسوسة ، والحكيمُ إذا أراد أمراً ، وعلم أنَّ شيئاً من الأشياء يمنع من حصوله ، فإنَّه لا يسعى في تحصيل ذلك المانع؟ .
والجوابُ : أمَّا مذهبنا ، فظاهر في هذا الباب ، وأمَّا المعتزلة ، فقال الجبائيُّ : علم الله أن الذين كفروا عند وسوسته يكفرون ، بتقدير ألا يوجد إبليس ، وإذا كان كذلك ، لم يكن في وجوده مزيد مفسدة .
وقال أبو هاشم : لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة ، إلاَّ أنه تعالى أبقاه تشديداً للتَّكليف على الخلق؛ ليستحقُّوا بسبب ذلك التشديد مزيد الثَّواب ، وقد تقدَّم الكلام على ذلك في الأعراف والحجر .

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)

قوله : تعالى : { رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك فِي البحر } الآية .
اعلم أنه تعالى عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على قدرته وحكمته ورحمته ، وقد تقدم أن المقصود في هذا الكتاب الكريم تقرير دلائل التوحيد ، فإذا امتدَّ الكلام في فصل من الفصول عاد الكلام بعده إلى ذكر دلائل التوحيد ، فذكر ها هنا وجوه الإنعامات في أحوال ركوب البحر ، فأوَّل كيفية حركة الفلك على وجه البحر ، فقال جلَّ ذكره : { رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك فِي البحر } والإزجاء سوق الشيء حالاً بعد حالٍ ، وقد تقدَّم في تفسير قوله تعالى : { بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } [ يوسف : 88 ] أي : ربكم الذي يسير لكم الفلك على وجه البحر؛ { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } في طلب التجارة { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } ، و الخطاب في قوله : « ربُّكُمْ » وفي قوله « بِكُمْ » للكلِّ ، والمراد من الرحمة : منافع الدنيا ومصالحها .
والثاني : قوله : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر } أي : خوف الغرق « ضَلَّ » ، بطل { مَن تَدْعُونَ } من الآلهة { إِلاَّ إِيَّاهُ } إلا الله ، فلم تجدوا مغيثاً سواه ، { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ } من الغرق ، والشدة ، وأهوال البحر ، وأخرجكم { إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ } عن الإيمان ، والإخلاص ، والطاعة؛ كفراً منكم لنعمه ، { وَكَانَ الإنسان كَفُوراً } .
قوله تعالى : { إِلاَّ إِيَّاهُ } : فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنه لم يندرج فيما ذكر ، إذ المراد به آلهتهم من دون الله .
والثاني : متصلٌ؛ لأنهم كانوا يلْجَئُونَ إلى آلهتهم ، وإلى الله تعالى .
والثالث : { أَفَأَمِنْتُمْ } بعد ذلك { أَن يَخْسِفَ بِكُم } ربُّكم يغوِّر بكم [ جانب ] البرِّ .
قال الليث - رحمه الله- : الخسفُ والخسوف دخُولُ الشيءِ في الشَّيء ، يقال عينٌ خاسفةٌ التي غابت حدقتها في الرَّأس ، وعينٌ من الماس خاسفةٌ ، أي : غائرة الماءِ ، وخسفتِ الشَّمس أي : احتجبت ، وكأنَّها وقعت تحت حجابٍ ، أو دخلت في جحر ، فقوله : { يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر } أي : يغيبكم في جانب البرِّ ، وهو الأرض ، وإنما قال : جانب البرِّ؛ لأنَّه ذكر البحر أولاً ، فهو جانب ، والبر جانبٌ ، فأخبر الله سبحانه وتعالى؛ أنه كما كان قادراً على أن يغيبهم في الماءِ ، فهو قادر على أن يغيبهم في الأرض ، فالغرق تغييبٌ تحت الماء ، كما أنَّ الخسف تغييبٌ تحت التُّراب .
وتقرير الكلام أنَّه تعالى ذكر أولاً أنَّهم كانوا خائفين من هول البحر ، فلمَّا نجَّاهم منه آمنوا ، فقال : هَبْ أنَّكم نجوتم من هول البحر ، فكيف أمنتم من هو البرِّ؛ فإنَّه قادرٌ على أن يسلِّط عليكم آفاتِ البرِّ من جانب التَّحتِ ، أو من جانب الفوق ، فأما من جانب التَّحت ، فالخسف ، وأما من جانب الفوق ، فإمطاركم الحجارة ، وهو المراد من قوله { أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } فكما يتضرعون إلى الله تعالى عند ركوب البحر فكذا يتضرَّعون إليه في كل الأحوال ، والحَصَبُ في اللغة : المرمى ، يقال : خصبته أحصبه ، إذا رميته والحَصْبُ : الرَّميُ ومنه قوله تعالى :

{ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] ، أي : يُلقَوْنَ فيها ، ومعنى قوله « حَاصِباً » أي عذاباً يحصبهم ، أي : يرميهم بحجارةٍ .
قال أبو عبيدة والقتيبيُّ : الحاصبُ : الرِّيحُ التي ترمي بالحصباء ، وهي الحصى الصِّغار؛ قال الفرزدق :
3441- مُسْتَقْبِلينَ شَمالَ الشَّامِ تَضْرِبُهمْ ... حَصْبَاءُ مِيْلُ نَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
ويسمَّى السَّحاب الذي يرمي بالبرد والثَّلج حاصباً ، لأنه يرمي بهما رمياً ، ولم يؤنثه : إمَّا لأنه مجازيٌّ ، أو على النسب ، أي : ذات حصبٍ .
وقال الزجاج : الحاصب التُّراب الذي فيه الحصباء ، فالحاصب على هذا هو ذُو الحصباء ، مثل اللاَّبن والتَّامر .
{ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } قال قتادة : مَانِعاً .
قوله تعالى : { أَفَأَمِنْتُمْ } : استفهام توبيخ وتقريع ، وقدَّر الزمخشريُّ على قاعدته معطوفاً عليه ، أي : أنجوتم ، فأمنتم .
وقوله تعالى جلَّ ذكره ولا إله إلا هو : { جَانِبَ البر } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه منصوبٌ على الظرف . و « بِكُمْ » [ يجوز ] أن [ تكون ] حالية ، أي مصحوباً بكم ، وأن تكون للسببية .
قيل : ولا يلزم من خسفه بسببهم أن يهلكوا .
وأجيب بأنَّ المعنى : جانب البرِّ الذي أنتم فيه ، فيلزم بخسفه هلاكهم ، ولولا هذا التقدير ، لم يكن في التوعُّد به فائدة .
قوله : « أن نخسف » « أو نُرسِلَ » « أو نُعِيدكم » « فَنُرْسِلَ » [ « فنُغْرِقكم » ] قرأها بنون العظمة ابن كثير ، وأبو عمرو ، والباقون بالياء فيها على الغيبة ، فالقراءة الأولى على سبيل الالتفات من الغائب في قوله « ربُّكم » إلى آخره ، والقراءة الثانية على سننِ ما تقدَّم من الغيبة .

أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)

قوله تعالى : { أَمْ أَمِنْتُمْ } : يجوز أن تكون المتصلة ، أي : أيُّ الأمرين كائن؟ ويجوز أن تكون المنقطعة ، و « أن يعيدكم » مفعول به .
قوله « تَارةً » بمعنى مرَّة ، وكرَّة ، فهي مصدرٌ ، ويجمع على تيرٍ وتاراتٍ ، قال الشاعر : [ الطويل ]
3442- وإنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ المَاءُ تَارةً فَيَبْدُو ، وتَاراتٍ يَجُمُّ فيَغْرَقُ
وألفها تحتمل أن تكون عن واوٍ أو ياءٍ ، وقال الراغب : « وهو فيما قيل : [ مِنْ ] تار الجرحُ : التأمَ » .
قوله تعالى : « قَاصِفاً » القاصِفُ يحتمل أن يكون من « قَصَفَ » متعدِّياً ، يقال : قصفت الرِّيحُ الشجر تقصفها قصفاً؛ قال أبو تمَّام : [ البسيط ]
3443- إنَّ الرِّياحَ إذَا مَا أعْصفَتْ قَصفَتْ ... عَيْدانَ نَجْدٍ ولمْ يَعْبَأنَ بالرَّتمِ
فالمعنى : أناه لا تلفي شيئاً إلا قصفته ، وكسرته .
والثاني : أن يكون من « قَصِفَ » قاصراً ، أي : صار له قصيفٌ ، ياقل : قَصِفتِ الرِّيحُ ، تقصفُ ، أي : صوَّتتْ ، و « مِنَ الرِّيحِ » نعتٌ .
قوله تعالى : « قَاصِفاً » القاصِفُ يحتمل أن يكون من « قَصَفَ » متعدِّياً ، ياقل : قصفت الرِّيحُ الشجر تقصفها قصفاً؛ قال أبو تمَّام : [ البسيط ]
3443- إنَّ الرِّيَاحَ إذَا مَا أعْصفَتْ قَصفَتْ ... عَيْدانَ نَجْدٍ ولمْ يَعْبَأنَ بالرَّتمِ
فالمعنى : أنها لا تلفي شيئاً إلا قصفته ، وكسرته .
والثاني : أن يكون من « قَصِفَ » قاصراً ، أي : صار له قصيفٌ ، يقال : قَصِفتِ الرِّيحُ ، تقصفُ ، أي : صوَّتتْ ، و « مِنَ الرِّيحِ » نعتٌ .
قوله تعالى : { بِمَا كَفَرْتُمْ } يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى « الذي » والباء للسببية ، أي : بسبب كفركم ، أو بسبب الذي كفرتم به ، ثم اتُّسعَ فيه ، فحذفت الباءُ ، فوصل الفعل إلى الضمير ، وإنَّما احتيج إلى ذلك؛ لاختلافِ المتعلق .
وقرأ أبو جعفرٍ ، ومجاهدٌ : « فتُغْرِقَكُم » بالتاء من فوق أسند الفعل لضمير الرِّيح ، وفي كتاب أبي حيَّان : « فتُغْرِقَكُمْ » بتاء الخطاب مسنداً إلى « الرِّيح » والحسن وأبو رجاء بياء الغيبة ، وفتح الغين ، وتشديد الراء ، عدَّاه بالتضعيف ، والمقرئ لأبي جعفر كذلك إلاَّ أنه بتاء الخطاب . قال شهاب الدين : هو إمَّا سهوٌ ، وإمَّا تصحيفٌ من النساخ عليه؛ كيف يستقيم أن يقول بتاءِ الخطاب ، وهو مسندٌ إلى ضمير الرِّيحِ ، وكأنه أراد بتاء التأنيث ، فسبقه قلمه أو صحَّف عليه غيره .
وقرأ العامة « الرِّيحِ » بالإفراد ، وأبو جعفرٍ : « الرِّياح » بالجمع .
قوله : « به تَبِيعاً » يجوز في « بِهِ » أن يتعلَّق ب « تَجِدُوا » وأن يتعلق ب « تَبِيعاً » ، وأن يتعلق بمحذوفٍ؛ لنه حالٌ من « تبيعًا » والتَّبِيعُ : المطالب بحقِّ الملازمُ ، قال الشَّماخ : [ الوافر ]
3444- كمَا لاذَ ... الغَريمُ مِنَ التَّبيعِ
وقال آخر : [ الطويل ]
3445- غَدَوْا وغَدتْ غِزلانُهمْ فَكأنَّهَا ... ضَوَامِنُ مِنْ غُرْمٍ لهُنَّ تَبِيعُ
فصل
ومعنى الآية { أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ } ، يعني في البحر { تَارَةً أخرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً } .
قال ابن عباس - رضي الله عنه- : أي عاصفاً ، وهي الرِّيح الشديدة وقال أبو عبيدة : هي الرِّيح التي تقصف كلَّ شيءٍ ، أي : تدقٌّه وتحطمه { فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } ناصراً ولا ثائراً ، وتبيع بمعنى تابعٍ ، أن تابعاً مطالباً بالثَّأر .
وقال الزجاج - رضي الله عنه - : من يتبعنا بإنكارِ ما نزل بكم ، ولا من يتتبّعنا بأن نصرفه عنكم .

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)

وهذه نعمة أخرى عظيمة من نعم الله - تعالى - على الإنسان ، وهي تفضيل الإنسان على غيره .
واعلم أنه ليس المراد من الكرمِ في المالِ . وعدَّاه بالتضعيف ، وهو من كرم بالضَّم ك « شَرُفَ » ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما- : كلُّ شيءٍ يأكل بفيه إلاَّ ابن آدم يأكل بيديه .
وروي عنه أنه قال : بالعقل .
وقال الضحاك : بالنُّطق والتَّمييز .
وقال عطاء : بتعديل القامة ، وامتدادخا .
وينبغي أن يشترط مع هذا شرطٌ ، وهو طول العمر ، مع استكمال القوَّة العقليَّة والحسيَّة والحركيَّة ، وإلاَّ فالأشجار أطول قامة من الإنسانِ ، والدَّوابُّ منكبَّة على وجوهها .
وقيل : بحسنِ الصورة؛ كقوله تعالى : { فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [ غافر : 64 ] ولما ذكر خلقه للإنسان ، قال : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] وقال جلَّ ذكره { صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } [ البقرة : 138 ] .
وتأمَّل عضواً واحداً من أعضاء الإنسان ، وهو العين ، فخلق الحدقة سوداء ، ثم أحاط بذلك السَّواد بياض العين ، ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ، ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ، ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين ، ثم خلق فوق سواد الحاجببين بياض الجبهة ، ثمَّ خلق فوق بياض الجبهة سواد الشَّعر .
وقيل : الرِّجال باللحى ، والنِّساء بالذَّوائب .
وقيل : بأن سخَّر لهم سائر الأشياء .
وقال بعضهم : من كرامات الآدميِّ أن آتاه الله الخطَّ .
وتحقيق الكلام : أن العلم الذي يقدر الإنسانُ على استنباطه يكون قليلاً ، فإذا أودعه في كتابٍ ، جاء الإنسان الثاني ، واستعان بذلك الكتاب ، ضمَّ إليه من عند نفسه آخر ، ثم لا يزالون يتعاقبون ، ويضمُّ كلُّ متأخرٍ مباحث كثيرة إلى علم المتقدِّمين ، فكثرت العلومُ ، وانتهتِ المباحثُ العقليَّة ، والمطالب الشرعيَّة إلى أقصى الغايات ، وأكمل النهايات ، وهذا لا يتأتَّى إلا بواسطةِ الخطِّ ، ولهذه الفضيلة؛ قال تعالى : { اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 3-5 ] .
وقال بعضهم : إنَّ المخلوقاتِ أربعة أقسامٍ :
قسم حصلت له القوَّة العقليَّة الحكميَّة ، ولم تحصل له القوَّة الشهواتيَّة ، وهم الملائكة - صلوات الله عليهم - وقسمٌ بالعكس ، وهم البهائم ، وقسم خلا عن القسمين ، وهم النباتُ والجمادات ، وقسم حصل النوعان فيه ، وهو الإنسان ، ولا شكَّ أنَّ الإنسان؛ لكونه مستجمعاً للقوَّة العقلية ، والقوى الشهوانيَّة ، والبهيميَّة والنفسيَّة والسبعيَّة يكون أفضل من البهيمة والسَّبع ، وهو أيضاً أفضل من الخالي عن القوتين؛ كالنبات والجمادات ، وإذا ثبت ذلك ، ظهر أنَّ الله تعالى فضَّل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات .
وأيضاً : الموجود : إمَّا أن يكون أزليًّا وأبدياً معاً ، وهو الله تبارك وتعالى .
وإمَّا ألاَّ يكون أزليًّا ولا أبديًّا ، وهم عالم الدنيا مع ما فيه من المعادن ، والنبات ، والحيوان ، وهذا أخسُّ الأقسام ، وإمَّا أن يكون أزليًّا ، ولا يكون أبديًّا ، وهو الممتنعُ الوجود؛ لأنَّ ما ثبت قدمه ، امتنع عدمهُ ، وإمَّا ألاَّ يكون أزليًّا ، ولكنَّه يكون أبديًّا ، وهو الإنسان ، والملك ، وهذا القسمُ أشرف من الثاني والثالث ، وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر المخلوقات .

ثمَّ قال تعالى : { وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر } .
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه- : في البرِّ على الخيل والبغالِ والحميرِ والإبلِ ، وفي البحر على السُّفُن .
{ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات } يعني لذيذ الطَّعام والمشارب ، { وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } .
واعلم أنَّه قال في أوَّل الآية { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } .
وقال في آخرها : { وَفَضَّلْنَاهُمْ } ولا بدَّ من الفرق بين التكريم والتفضيل ، وإلا لزم التَّكرار ، والأقرب أن يقال : إنه تعالى فضَّل الإنسان على سائرِ الحيوانات بأمور خلقيَّة طبعيَّة ذاتيَّة؛ كالعقل ، والنطق ، والخطِّ ، والصورة الحسنة ، و القامة المديدة ، ثم إنه تعالى عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقَّة ، والأخلاق الفاضلة ، فالأول : هو التكريم ، والثاني : هو التفضيل .
فصل
ظاهرُ الآية يدلُّ على أنَّه فضَّلهم على كثيرٍ من خلقه ، لا على الكلِّ ، فقال قومٌ : فضِّلوا على جميع الخلق ، لا على الملائكة ، وهذا قول ابن عباس ، واختيارُ الزجاج على ما رواهُ الواحديُّ في « البسيط » .
وقال الكلبيُّ : فضِّلوا على جميع الخلائف كلِّهم ، إلاَّ على طائفةٍ من الملائكة : جبريل ، ميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت - صلوات الله عليهم أجمعين - وأشباههم .
وقال قوم : فضِّلوا على جميع الخلق ، وعلى الملائكةِ كلِّهم ، وقد يوضع الأكثر موضع الكلِّ؛ كقوله سبحانه { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين } [ الشعراء : 221 ] إلى قوله : { وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [ الشعراء : 223 ] أي : كلُّهم .
وروى جابرٌ يرفعه : قال « لمَّا خلق الله - عزَّ وجلَّ - آدم ، وذريَّته ، قالت الملائكة : يا ربُّ ، خلقتهم يَأكلُونَ ، ويَشْرَبُونَ ، ويَنكِحُونَ ، فاجعلْ لهمُ الدُّنْيَا ، ولنَا الآخِرةَ ، فقال تعالى : لا أجعل من خلقته بيدي ، ونفخت فيه من روحي ، كمن قلت له : كن فكان » .
والأولى أن يقال : عوامُّ الملائكة أفضل من عوامِّ المؤمنين ، وخواصُّ المؤمنين أفضل من خواصِّ الملائكة ، قال تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية } [ البينة : 7 ] .
ورُوِيَ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « المُؤمِنُ أكْرَمُ على الله مِنَ المَلائِكَةِ الَّذينَ عِندَهُ » رواه البغويُّ وأورده الواحدي في « البسيط » .
واحتجَّ القائلون بتفضيل الملائكة على البشر على الإطلاق بهذه الآية .
قال ابن الخطيب : وهو في الحقيقة تمسُّكٌ بدليل الخطاب ، وتقريره أن يقال : تخصيص الكثير بالذكر يدلُّ على أنَّ الحال في القليل بالضدِّ ، وذلك تمسُّك بدليل الخطاب .

يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)

لما ذكر كرامات الإنسان في الدُّنيا ، شرح درجات أحواله في الآخرة .
قوله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ } : فيه أوجه :
أحدها : أنه منصوبٌ على الظرفية ، والعامل « فضَّلنَاهُمْ » أي : فضَّلناهم بالثواب يوم ندعُو ، قال ابن عطيَّة في تقريره : وذلك أنَّ فضل البشر على سائر الحيوان يوم القيامة بيِّنٌ ، إذ هم المكلَّفون المنعَّمون المحاسبون الذين لهم القدرُ؛ إلا أنَّ هذا يردُّه أنَّ الكفار [ يومئذٍ ] أخسرُ مِنْ كلِّ حيوانٍ؛ لقولهم : { ياليتني كُنتُ تُرَاباً } [ النبأ : 40 ] .
الثاني : أنه منصوبٌ على الظرف ، والعامل فيه « اذكُرْ » قاله الحوفيُّ وابن عطيَّة ، وهذا سهوٌ؛ كيف يعمل فيه ظرفاً؟ بل هو مفعولٌ .
الثالث : أنه مرفوعُ المحلِّ على الابتداء ، وإنما بُنِيَ لإضافته إلى الجملة الفعلية ، والخبر الجملة بعده ، قال ابن عطيَّة في تقريره : ويصحُّ أن يكون « يوم » منصوباً على البناء ، لمَّا أضيف إلى غير متمكِّنٍ ، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء ، وخبره في التقسيم الذي أتى بعده في قوله « فَمنْ أوتِي كِتابَهُ » إلى قوله « ومَنْ كَانَ » قال أبو حيان : قولهُ « منصوبٌ على البناء » كان ينبغي أن يقول : مبنياً على الفتح ، وقوله « لمَّا أضيف إلى غير متمكِّن » ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ المتمكِّن وغير المتمكِّن ، إنما يكون في الأسماءِ ، لا في الأفعالِ ، وهذا أضيف إلى فعلٍ مضارع ، ومذهبُ البصريين فيه أنه معربٌ ، والكوفيون يجيزون بناءه ، وقوله : « [ والخبر ] في التقسيم » إلى آخره ، التقسيم عارٍ من رابطٍ يربط جملة التقسيم بالابتداء . قال شهاب الدين : الرابط محذوفٌ للعلم به ، أي : فمن أوتي كتابه فيه .
الرابع : أنه منصوب بقوله « ثُمَّ لا تجِدُوا » قاله الزجاج .
الخامس : أنه منصوب ب « يُعِيدكُمْ » مضمرة ، أي : يعيدكم يوم ندعو .
السادس : أنه منصوبٌ بما دلَّ عليه « ولا يُظلَمُونَ » بعده ، أي : لا يظلمون يوم ندعو ، قاله ابن عطية وأبو البقاء .
السابع : أنه منصوب بما دلَّ عليه « متى هو » .
الثامن : أنه منصوبٌ بما تقدَّمه من قوله تعالى : { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 52 ] .
التاسع : أنه بدلٌ من « يَوْمَ يَدْعُوكُمْ » . وهذان القولان ضعيفان جدًّا؛ لكثرة الفواصل .
العاشر : أنه مفعول به بإضمار « اذكر » وهذا - وإن كان أسهل التقادير - أظهر ممَّا تقدَّم؛ إذ لا بعد فيه ولا إضمار كثيرٌ .
وقرأ العامة « نَدْعُو » بنون العظمة ، ومجاهدٌ « يَدعُو » بياء الغيبة ، أي : الله تعالى أو الملك ، و « كُلَّ » نصْبٌ مفعولاً به على القراءتين .
وقرأ الحسن فميا نقله الدَّانيُّ عنه « يُدعَى » مبنيًّا للمفعول « كُلُّ » مرفوعٌ؛ لقيامه مقام الفاعل ، وفيما نقله عنه غيره « يُدْعَوْ » بضم الياء ، وفتح العين ، بعدها واوٌ ، وخرجت على وجهين :
أحدهما : أن الأصل : « يُدْعَوْنَ » فحذفت نون الرفع ، كما حذفت في قوله - صلوات الله وسلامه عليه- :

« لا تَدْخُلُوا الجَنَّة حتَّى تُؤمِنُوا ، ولا تُؤمِنُوا حتَّى تَحابُّوا » وقوله : [ الرجز ]
3446- أبِيتُ أسْرِي وتَبِيتِي تَدْلُكِي ... وجْهَكِ بالعَنْبَرِ والمِسْكِ الذَّكِي
و « كلُّ » مرفوع بالبدلِ من الواو التي هي ضميرٌ ، أو بالفاعلية ، والواو علامة على لغة « يَتعاقَبُون فِيكُمْ مَلائِكةٌ » .
والتخريج الثاني : أنَّ الأصل « يُدْعَى » كما نقله عنه الدَّاني ، إلاَّ أنه قلب الألف واواً وقفاً ، وهي لغة قومٍ ، يقولون : هذه أفْعَوْ وعَصَوْ ، يريدون : أفْعى وعَصَا ، ثم أجري الوصل مجرى الوقفِ . و « كُلُّ » مرفوعٌ لقيامه مقام الفاعل على هذا ، ليس إلا .
قوله تعالى : { بِإِمَامِهِمْ } يجوز أن تكون الباء متعلقة بالدعاء ، أي : باسم إمامهم ، قال مجاهدٌ : بِنَبِيِّهِمْ .
ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً ، فيقال : يا أمَّة فلانٍ ، وقال أبو صالحٍ والضحاك : بِكتَابهمْ .
وقال الحسنُ وأبو العاليةِ : بأعمَالِهمْ .
وقال قتادة : بكتابهم الذي فيه أعمالهم؛ بدليل سياق الآية . وقوله تعالى : { أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ } [ يس : 12 ] .
وعن انب عباس - رضي الله عنه - وسعيد بن جبيرٍ : بإمام زمانهم الذي دعاهم في الدنيا إلى ضلالٍ أو هدًى .
قال تعالى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [ الأنبياء : 73 ] وقال تعالى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار } [ القصص : 41 ] .
وقيل : بمعبودهم .
وأن تكون للحالِ ، فيتعلق بمحذوفٍ ، أي : ندعوهم مصاحبين لكتابهم ، والإمامُ : من يقتدى به ، وقال الزمخشريُّ : « ومن بدعِ التفاسير : أن الإمام جمع » أمٍّ « وأنّ الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم ، وأن الحكمة فيه رعايةُ حقِّ عيسى - صلوات الله عليه- ، وإظهار شرف الحسن والحسين ، وألاَّ يفضح أولادُ الزِّنى » قال : وليت شعري أيُّهما أبدعُ : أصحَّة لفظه ، أم بهاءُ حكمته؟ « .
وهو معذورٌ لأنَّ » أم « لا يجمع على » إمام « هذا قول من لا يعرف الصناعة ، ولا لغة العرب ، وأمَّا ما ذكروه من المعنى ، فإنَّ الله تعالى نادى عيسى - صلوات الله عليه - باسمه مضافاً لأمِّه في عدَّة مواضع من قوله { ياعيسى ابن مَرْيَمَ } [ المائدة : 110 ] ، وأخبر عنه عليّ رضي الله عنه وكرَّم وجهه .
قوله تعالى : { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ } يجوز أن تكون شرطية ، وأن تكون موصولة ، والفاء لشبهه بالشرط ، وحمل على اللفظ أولاً في قوله { أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } فأفرد ، وعلى المعنى ثانياً في قوله : » فأولَئِكَ « فجمع . لأن من أوتي كتابه في معنى الجمع .
ثن قال : { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } .
الفَتِيلُ : القشرة التي في شقِّ النَّواة ، وسمِّي بذلك؛ لأنَّه إذا رام الإنسان إخراجهُ انفتل ، وهذا مثلٌ يضرب للشَّيء الحقير التَّافهِ ، ومثله : القطميرُ والنَّقير .
والمعنى : لا ينقصون من الثواب بمقدار فتيلٍ ونظيره { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } [ مريم : 60 ] وروى مجاهدٌ عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : الفتيلُ هو الوسخُ الذي يفتلهُ الإنسانُ بين سبَّابته وإبهامه .
وهو فعيلٌ بمعنى مفعولٍ .
فإن قيل : لم خصَّ أصحاب اليمين بقراءة كتابهم ، مع أنَّ أهل الشِّمال يقرءونه؟! فالجواب : الفرق بينهما أنَّ أهل الشِّمال ، إذا طالعوا كتابهم ، وجدوه مشتملاً على المهلكاتِ العظيمة ، والقبائح الكاملة ، والمخازِي الشديدة ، فيستولي الخوف والدهشة على قلبهم ، ويثقل لسانهم ، فيعجزوا عن القراءةِ الكاملة ، وأما أصحاب اليمين ، فعلى العكس ، فلا جرم أنَّهم يقرءون كتابهم على أحسن الوجوه ، ثم لا يكتفون بقراءتهم وحدهم ، بل يقولون لأهل المحشر : { هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] فظهر الفرق .

وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)

قوله تعالى : { وَمَن كَانَ فِي هذه } : يجوز في « مَنْ » ما جاز في « مَنْ » قبلها ، وأمال الأخوان وأبو بكر « أعْمَى » في الموضعين من هذه السورة ، وأبو عمرو أمال الأول ، دون الثاني ، والباقون فتحوهما ، فالإمالة؛ لكونهما من ذوات الياء ، والتفخيمُ؛ لأنه الأصل ، وأمَّا أبو عمرو ، فأمال الأول؛ لأنه ليس أفعل تفضيلٍ ، فألفه متطرفةٌ لفظاً وتقديراً ، والأطرافُ محل التغيير غالباً ، وأمَّا الثاني ، فإنه للتفضيلِ ، ولذلك عطف عليه « وأضلُّ » فألفه في حكم المتوسطة؛ لأنَّ « مِن » الجارَّة للمفضولِ ، كالملفوظ بها ، وهي شديدة الاتصال بأفعلِ التفضيلِ ، فكأنَّ الألف وقعت حشواً ، فتحصَّنتْ عن التغيير .
كذا قرَّره الفارسي والزمخشري ، وقد ردَّ هذا بأنهم أمالوا { وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ } [ المجادلة : 7 ] مع التصريح ب « مِنْ » فلأن يميلوا « أعْمَى » مقدراً معه « مِنْ » أولى وأحرى .
وأمَّا « أعْمَى » في طه [ الآية : 124 ] فأماله الأخوان ، وأبو عمرو ، ولم يمله أبو بكر ، وإن كان يميله هنا ، وكأنه جمع بين الأمرين ، وهو مقيَّد باتِّباع الأثر ، وقد فرَّق بعضهم : بأنَّ « أعمى » في طه من عَمَى البصر ، وفي الإسراء من عمى البصيرة؛ ولذلك فسَّروه هنا بالجهل فأميل هنا ، ولم يملْ هناك؛ للفرق بين المعنيين ، والسؤال باقٍ؛ إذ لقائلٍ أن يقول : فَلِمَ خُصِّصَتْ هذه بالإمالةِ ، ولو عكسَ الأمر ، لكان الفارقُ قائماً .
ونقل ابن الخطيب - رحمه الله - عن أبي عليٍّ الفارسيِّ ، قال : الوجه في تصحيح قراءة أبي عمرو أنَّ المراد بالأعمى في الكلمة الأولى كونه في نفسه أعمى ، وبهذا التفسير تكون هذه الكلمة تامَّة ، فتقبل الإمالة ، وأما في الكلمة الثانية ، فالمراد من الأعمى أفعل التفضيل ، وبهذا التقدير : لا تكونُ تامة؛ فلم تقبل الإمالة .
فصل
قال عكرمة : جاء نفرٌ من أهل اليمن إلى ابن عبَّاس ، فسأله رجلٌ عن هذه الآية ، فقال : اقْرَأ ما قبلها ، فقرأ { رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ } [ الإسراء : 66 ] إلى قوله { تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 70 ] .
فقال ابن عباس : من كان أعمى في هذه النِّعمِ المذكورة في الآيات المتقدمة .
روى الضحاك عن ابن عباس : من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرة الله تعالى ، وعن رؤية الحقِّ ، فهو في الآخرة أعمى أشدُّ عمًى { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } ، أي : أخطأ طريقاً وعلى هذا؛ فالإشارة ب « هذه » إلى الدنيا .
وعلى هذين القولين : فالمراد من كان أعمى عن معرفة الدلائل ، والنِّعمِ ، فبأن يكون في الآخرة أعمى القلب عن معرفة أحوال الآخرة أولى .
وقال الحسن : من كان في الدنيا ضالاً كافراً ، فهو في الآخرة أعمى ، وأضلُّ سبيلاً؛ لأنَّه في الدنيا؛ تقبل توبته ، وفي الآخرة ، لا تقبل توبته ، وحمل بعضهم العمى الثاني على عمى العين والبصر ، ويكون التقدير : فمن كان في هذه الدنيا أعمى القلب حشر يوم القيامة أعمى العين و البصر ، كما قال تعالى : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى } [ طه : 124-126 ] .
وقال جلَّ ذكره : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [ الإسراء : 97 ] .
وهذا العمى زيادة في عقوبتهم .

وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)

لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على خلقه ، وأتبعها بذكر درجاتِ الخلق في الآخرة ، أردفه بما يجري مجرى تحذير الناس عن الاغترار بوساوس أرباب الضلال والانخداع بكلماتهم المشتملة على المكرِ والتَّلبِيس ، فقال عزَّ وجلَّ : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } .
روى عطاءٌ عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في وفد ثقيفٍ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصالٍ ، قال : وما هُنَّ؟ قالوا : ألاَّ نَحني في الصَّلاة أيْ لا نَنْحَنِي ولا نكسر أصنامنا بأيدينا ، وأن تُمتِّعنا باللاَّت سنة ، من غير أن نعبدها ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : « لا خَيْرَ في دينِ لا رُكوعَ فيه ولا سُجودَ ، وأمّا أن تَكسِرُوا أصْنامَكُم بأيْدِيكُمْ فذلك لَكُم ، وأمَّا الطَّاغيةُ يعني اللاَّت فإنَّني غير ممتِّعكُمْ بها » وفي رواية : « وحرِّم وادينا ، كما حرَّمت مكَّة شَجرهَا ، وطَيْرهَا ، ووَحْشهَا ، فأبى ذلكَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ولَمْ يُجبْهُم ، فقالوا : يا رسول الله إنَّا نُحِبُّ أنْ تَسْمعَ العربُ أنَّك أعْطَيتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ غَيْرنَا ، وإنّي خَشِيتُ أن تقُول العربُ : أعْطَيتَهُم ما لَمْ تُعْطِنا ، فقل : الله أمَرنِي بذلكَ ، فَسكتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فطمع القومُ في سُكوتهِ أنْ يُعْطِيَهُمْ ، فَصاحَ عليهم عليٌّ وعمرُ - رضي الله عنهما - وقالوا : أما تَروْنَ أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ أمْسََ عَنِ الكلامِ؛ كَراهِيَةً لما تَذْكرُونَه ، فأنْزلَ الله تعالى هذه الآية » .
وقال سعيد بن جبيرٍ : كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود ، فمنعته قريشٌ ، وقالوا : لا نَدعُكَ ، حتَّى تلم بآلهتنا وتمسَّها ، فحدَّث نفسه؛ ما عليَّ إذا فعلتُ ذلك ، والله يعلم أنِّي لها كارهٌ ، بعد أن يدعوني ، حتَّى أستلمَ الحجر ، فأنزل الله هذه .
وروى الزمخشريُّ أنَّهم جاءُوا بكتابهم ، فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كِتَابٌ مِنْ محمَّد رسول الله إلى ثقيفٍ : لا يعشرون ، ولا يحشرون ، فسكت رسُول الله ، ثم قالوا للكاتب : اكْتُبْ ولا يُجْبَون والكَاتبُ ينظرُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامَ عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وسلَّ سيفه ، وقال : أسعرتم قَلْبَ نَبيِّنا يا ثقيفُ ، أسْعَر الله قُلوبَكُمْ ناراً ، فقالوا : لَسْنَا نُكلِّمُك ، إنَّما نكلِّم محمداً ، فنزلت الآية ، وهذه القصَّة إنما وقعت بالمدينة؛ فلهذا قيل : إنَّ هذه الآيات مدنيةٌ .
وروي أنَّ قريشاً قالت : اجْعَلْ آية رحمةٍ آية عذابٍ ، وآية عذابٍ ىية رحمة؛ حتَّى نُؤمِنَ بك ، فنزلت الآية .
قال القفال : ويمكن تأويل الآية من غير تقييد بسبب يضاف إلى نزولها فيه؛ لأنَّ من المعلوم أنَّ المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر الرسول- صلوات الله وسلامه عليه - بأقصى ما يقدرون عليه ، فتارة كانوا يقولون : إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك ، فأنزل الله تعالى :

{ قُلْ ياأيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [ الكافرون : 1 ، 2 ] . { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] .
وعرضوا عليه الأموال الكثيرة ، والنِّسوان الجميلة؛ ليترك غدِّعاء النبوة ، فأنزل الله - تعالى - : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ } [ طه : 131 ] .
ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } [ الأنعام : 52 ] .
ودعوه إلى طرد الذين يدعون ربَّهم ، فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب ، وذلك أنَّهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه ، وأن يزيلوه عن منهجه ، فبيَّن الله - تعالى - أنَّه يثبته على الدِّين القويمِ ، والمنهج المستقيم ، وعلى هذا الطريق ، فلا حاجة في تفسير هذه الآيات إلى شيءٍ من تلك الرِّوايات .
قوله تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } : « إنْ » هذه فيها لمذهبان المشهوران : مذهب البصريين : أنها مخففة ، واللام فارقة بينها وبين طإن « النافية ، ولهذا دخلت على فعلٍ ناسخٍ ، ومذهب الكوفيين أنها بمعنى » ما « النافية ، واللام بمعنى » إلاَّ « وضمِّن » يَفْتِنُونَكَ « معنى » يَصْرفُونكَ « فلهذا عدِّي ب » عَنْ « تقديره : ليصرفونك بفتتنتهم ، و » لِتَفْترِي « متعلق بالفتنة .
قوله : { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ } » إذَنْ « حرف جواب وجزاء؛ ولهذا تقع أداةُ الشرط موقعها ، و » لاتَّخذُوكَ « جواب قسمٍ محذوفٍ ، تقديره : إذن ، والله لاتخذوك ، وهو مستقبل في المعنى؛ لأنَّ » إذَنْ « تقتضي الاستقبال؛ إذ معناها المجازاة ، وهو كقوله : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ } [ الروم : 51 ] أي : ليظلنَّ ، وقول الزمخشريِّ : » أي : ولو اتَّبعتَ مرادهم ، لاتَّخذوكَ « تفسير معنى ، لا إعرابٍ ، لا يريد بذلك أنَّ » لاتَّخَذُوك « جوابٌ ل » لو « محذوفة؛ إذ لا حاجة إليه .
فصل في معنى الآية
قال الزجاج : معنى الكلام : كادوا يفتنونك ، ودخلت » إنْ « و » اللام « للتأكيد ، و » إنْ « مخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية .
والمعنى : الشَّأن أنَّهم قاربوا أن يفتنوك ، أي : يخدعوك فاتنين ، وأصل الفتنة : الاختبار .
يقال : فتن الصَّائغُ الذَّهب ، إذا أدخلهُ النَّار ، وأذابهُ؛ ليميِّز جيِّده من رديِّيه ، ثم استعمل في كلِّ ما أزال الشيء عن حدِّه وجهته ، فقالوا : فتنة ، فقوله تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } . أي : يزيلونك ، ويصرفونك عن الذي أوحينا إليك ، وهو القرآن ، أي : عن حكمه؛ وذلك لأنَّ في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن .
وقوله : { لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } أي غير ما أوحينا إليك ، وقوله : { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } أي لو فعلت ذلك ما أرادوا لاتخذوك خليلا ، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم وراضٍ بشركهم ، ثم قال : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } يعني على الحق ، بعصمتنا إياك { لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } أي تميل إليهم شيئاً قليلاً .

قرأ العامة بفتح كاد تركن مضارع رَكِن بالكسر ، وقتادة ، وابن مصرف ، وابن أبي إسحاق « تَرْكُن » بالضم مضارع « رَكَن » بالفتح ، وهذا من التداخل ، وقد تقدم تحقيقه في أواخر « هود » و « شيئاً » منصوب على المصدر ، وصفته محذوفة ، أي شيئاً قليلاً من الركون ، أو ركوناً قليلاً .
قال ابن عباس : يريد حيث سكوتك عن جوابهم .
قال قتادة : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين » .
ثم توعد في ذلك أشد التوعد ، فقال : { إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة } أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات ، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت : أصله لأذقناك عذاب الحياة ، وعذاب الممات ، لأن العذاب عذابان عذاب في الممات ، وهو عذاب القبر وعذاب في الحياة الآخرة ، وهو عذاب النار ، والضعف يوصف به نحو قوله تعالى : { فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار } [ الأعراف : 38 ] يعني عذاباً مضاعفاً ، فكان أصل الكلام : لأذقناك عذاباً ضعفاً عذاباً ضعفاً في الحياة ، وعذاباً ضعفاً في الممات ثم حذف الموصوف ، فأثبت الصفة مقامه وو الضعف ، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف ، فقيل : ضعف الحياة ، وضعف الممات ، لما تقدم في القرآن من وصف العذاب بالضعف في قوله : { مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار } [ ص : 61 ] وحاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك ، وعقدت على الركون إليه لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا وفي الآخرة ، وصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة ، والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله في حق الأنبياء عليهم السلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم ، وكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ، ونظيره قوله تعالى : { يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] .
فإن قيل : قال عليه السلام : « من سن سنة سيئة فعلية وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » فموجب هذا الحديث أنه عليه السلام لو عمل بما قالوه ، لكان وزره مثل وزر كل واحد من أولئك الكفار ، وعلى هذا التقدير فكان عقابه زائداً على الضعف .
فالجواب : إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه إلا بالبناء على دليل الخطاب ، وهو دليل ضعيف ، ثم قال تعالى : { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً } يعني : إذا أذقناك العذاب المضاعف لم تجد أحداً يخلصك من عذابنا .
فإن قيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوماً ، فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه ، وما طلبوه كفر؟ .
قيل : كان ذلك خاطر قلب لم يكن عزماً ، وقد عفا الله عز وجل عن حديث النفس .
والجواب الصحيح هو أن الله تعالى قال : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } .

وقد ثبته الله ، فلم يركن إليهم ، وهذا مثل قوله تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان } [ النساء : 83 ] وقد تفضل فلم يتبعوا .
فصل
احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء - عليهم السلام - بهذه الآية ، فقالوا : هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم منهم من وجوه :
الأول : أن الآية دلت على أنه - عليه السلام - قرب من أن يفتري على الله الكذب ، وذلك من أعظم الذنوب .
الثاني : تدلُّ على أنَّه لولا أنَّ الله - تعالى - ثبَّته وعمه؛ لقرب من أن يركن إلى دينهم .
الثالث : لولا أنَّه سبق جرمٍ وجناية ، وإلاَّ فلا حاجة إلى ذكر هذا الوعيد الشَّديد .
والجواب عن الأوَّل : أنَّ « كاد » معناه المقاربة ، أي : أنه قرب وقوعه في الفتنة ، وهذا لا يدلُّ على الوقوع في تلك الفتنة ، بل يدلُّ على عدم الوقوع؛ كقولك : « كادَ الأميرُ أن يَضْربَ فُلاناً » لا يدلُّ على أنَّه ضربه .
والجواب عن الثاني : أنَّ « لَوْلاَ » تفيد انتفاء الشيء؛ لثبوت غيره؛ تقول : لولا عليٌّ ، لهلك مرٌو؛ إذ وجود عليٍّ منع من حصول الهلاك لعمرو ، فكذلك ها هنا .
فقوله : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } .
معناه : أنَّه لولا حصل تثبيتُ الله لمحمد صلى الله عليه وسلم فكان حصول ذلك التَّثْبِيت معانعاً من حصول ذلك الرُّكون .
والجواب عن الثالث : أنَّ التهديد على المعصية لا يدلُّ على الإقدام عليها؛ لقوله - تعالى - { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } [ الحاقة : 44-46 ] .
وقوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] .
وقوله : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } [ الأحزاب : 1 ] .
فصل في ألا عصمة من المعاصي إلا بتوفيق الله تعالى
احتجَّ أهلُ السنة على أنه لا عصمة من المعاصي إلاَّ بتوفيقِ الله تعالى؛ بقوله تعالى : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } الآية ، فبيَّن أنَّه لولا تثبيت الله تعالى له ، لمال إلى طريقةِ الكفَّار ، ولا شكَّ أنَّ محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - كان أقوى من غيره في قوة الدِّين ، وصفاء القلب واليقين ، فلما بيَّن الله تعالى له أنَّ بقاءهُ معصوماً عن الكفر والضلال ، لم يحصل إلاَّ بإعانة الله تعالى وتوفيقه ، كان حصول هذا المعنى في حقِّ غيره أولى .
قالت المعتزلة : المراد بهذا التَّثبيتِ : الألطاف الصَّارفة عن ذلك ، وهي ما أخطر الله بباله من ذكر وعده ووعيده ، ومن ذكر أنَّ كونه نبيًّا من عند الله يمنع من ذلك .
والجواب : لا شكَّ أنَّ التثبيت عبارة عن فعل فعلهُ الله تعالى ، يمنع الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك الوقوع في ذلك المحذور ، فنقول : لم يوجد المقتضي للإقدام على ذلك العمل المحذور في حقِّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ملا كان لإيجاد هذا المنع حاجةٌ ، وحيث وقعت الحاجة إلى تحصيل هذا المانع علمنا أنَّ ذلك المقتضي قد حصل في حقِّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - وأنَّ هذا المانع الذي فعله الله تعالى لمنع ذلك المقتضي من العمل ، وهذا لا يتمُّ إلاَّ إذا قلنا : إنَّ القدرة مع الدَّاعي توجب الفعل ، فإذا حصلت داعية أخرى معارضةٌ للداعي الأوَّل ، اختلَّ المؤثِّر ، فامتنع الفعل ، ونحن لا نريدُ إلاَّ إثبات هذا المعنى .

وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)

قال مجاهد ، وقتادة : الأرض : أرض مكة ، والآية مكيَّةٌ . هَمَّ المشركون في أن يخرجوه منها ، فكفَّهم الله عنه؛ حتَّ أمره بالهجرة ، فخرج بنفسه ، وهذا أليق بالآية؛ لأنَّ ما قبلها خبر عن أهل مكَّة ، وهذا اختيار الزجاج .
وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : لمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حسدته اليهود ، وكرهوا قربه منهم ، ومقامه بالمدينة ، فأتوهُ ، وقالوا : يا أبا القاسم ، لقد علمت ما هذه بدارِ الأنبياءِ ، وأنَّ أرض الأنبياء بالشَّام ، وهي الأرض المقدسة ، وبها كان إبراهيم والأنبياء - صلوات الله عليهم - فإن كنت نبيًّا مثلهم ، فأت الشَّام ، وإنما يمنعك من الخروج إليها مخافتك الروم ، وإنَّ الله يمنعك من الرُّوم ، إن كنت نبيًّا ، فعسكر النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أميالٍ من المدينة ، وقيل : بذي الحليفة؛ حتَّى يجتمع إليه أصحابه ، ويراه النَّاس عازماً على الخُروج إلى الشَّام ، فيدخلون في دين الله - سبحانه وتعالى - فأنزلت هذه الآية ، وهذا قول الكلبيِّ ، وعلى هذا ، فالآية مدنية ، والمراد بالأرض : أرض المدينة ، وكثر في التنزيل ذكر الأرض ، والمراد منها مكانٌ مخصوصٌ؛ كقوله تعالى : { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } [ المائدة : 33 ] أي : من مواضعهم .
وقوله تعالى : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض } [ يوسف : 80 ] .
يعني : التي كان يقصدها؛ لطلب الميرة .
فإن قيل : قال الله تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ } [ محمد : 13 ] . يعني : « مكَّة » ؟! .
فالجواب : أنَّهم همُّوا بإخراجه ، وهو - صلوات الله وسلامه عليه - ما خرج بسبب إخراجهم ، وإنَّما خرج بأمر الله تعالى؛ فزال التَّناقضُ ، والاستفزازُ : هو الإزعاج بسرعة .
{ وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ } : قرأ العامة برفع الفعل بعد « إذَنْ » ثابت النون ، وهي مرسومةٌ في مصاحف العامة ، ورفعه وعدم إعمال « إذن » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها توسَّطت بين المعطوف ، والمعطوف عليه ، قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : ما وجهُ القراءتين؟ قلت : أمَّا الشائعة - يعني برفع الفعل - فقد عطف فيها الفعل على الفعل ، وهو مرفوع لوقوعه خبر » كاد « وخبر » كاد « واقعٌ موقع الاسم » قلت : فيكون « لا يَلْبَثُونَ » عطفاً على قوله « ليَيْتَفِزُّونكَ » .
الثاني : أنها متوسطة بين قسم محذوف وجوابه ، فألغيت لذلك ، والتقدير : وواللهِ ، إذن لا يلبثون .
الثالث : أنها متوسطة بين مبتدأ محذوف وخبره ، فألغيت لذلك ، والتقدير : وهم إذن لا يلبثون .
وقرأ أبيٌّ بحذف النون ، فنصبه ب « إذَنْ » عند الجمهور ، وب « أنْ » مضمرة بعدها عند غيرهم ، وفي مصحف عبد الله « لا يَلبَثُوا » بحذفها ، ووجه النصب : أنه لم يجعل الفعلُ معطوفاً على ما تقدَّم ، ولا جواباً ، ولا خبراً ، قال الزمخشريُّ : وأمَّا قراءة أبيِّ ، ففيها الجملة برأسها التي هي : إذن لا يلبثوا ، عطجف على جملة قوله « وإنْ كادُوا ليَسْتفزُّونكَ » .

وقرأ عطاء « لا يُلبَّثُونَ » بضمِّ الياء ، وفتح اللام والباء ، مشددة مبنيًّا للمفعول ، من « لبَّثَهُ » بالتشديد ، وقرأها يعقوب كذلك ، إلا أنه كسر الباء ، جعله مبنياً للفاعل .
قوله تعالى : « خِلافَكَ » قرأ الأخوان ، وابن عامرٍ ، وخفص : « خِلافكَ » بكسر الخاء ، وألف بعد اللام ، والباقون بفتح الخاءِ ، وسكون اللام ، والقراءتان بمعنى واحدٍ .
قال الأخفش : خلافك : بمعنى : خلفك .
وروى ذلك يونس عن عيسى ، وهذا كقوله : { بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله } [ التوبة : 81 ] .
وأنشدوا في ذلك : [ الكامل ]
3447- عَفتِ الدِّيارُ خِلافَهُم فكأنَّما ... بَسطَ الشَّواطِبُ بَينهُنَّ حَصِيرا
والمعنى : بعد خروجك ، وكثر إضافة « قَبْل » و « بَعْدُ » ونحوهما إلى أسماء الأعيان؛ على حذف مضاف ، فيقدَّرُ من قولك : جاء زيدٌ قبل عمرو ، أي : قبل مجيئه .
قوله تعالى : { إِلاَّ قَلِيلاً } يجوز أن تكون صفة لمصدر ، أو لزمانٍ محذوف ، أي : إلا لبثاً قليلاً ، أو إلاَّ زماناً قليلاً؛ أي : حتَّى يهلكوا ، فالمراد بالقليل : إمَّا مدَّة حياتهم ، وإما ما بين خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إلى حين قتلهم ببدرٍ .

سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)

قوله تعالى : { سُنَّةَ } : فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن ينتصب على المصدر المؤكِّد ، أي : سنَّ الله ذلك سنة ، أو سننَّا ذلك سُنَّة .
الثاني : - قاله الفراء - رحمه الله - أنه على إسقاط الخافض ، أي : كسُنَّةِ الله تعالى ، وعلى هذا لا يوقف على قوله « إلاَّ قليلاً » .
الثالث : أن ينتصبَ على المفعول به ، أي : اتَّبعْ سُنَّة .
فصل في سنة الله في رسله
سنة الله في الرُّسل ، إذا كذَّبتهم الأممُ : ألا يعذِّبهم ، ما دام نبيُّهم بين أظهرهم ، فإذا خرج نبيهم من بين أظهرهم ، عذَّبهم { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } أي : إَّ ما أجرى الله به العادة ، لم يتهيَّأ لأحدٍ أن يقلب تلك العادة؛ لأنَّ اختصاص كلِّ حادثٍ بوقته المعيَّن ، وصفته المعينة ليس أمراً ثابتاً له لذاته ، وإلا لزم أن يدوم أبداً على تلك الحالة ، وألاَّ يتميَّز الشيء عمَّا يماثلهُ في تلك الصِّفات ، بل إنَّما يحصل ذلك التخصيص بتخصيص المخصِّص ، وهو الله تعالى يريد تحصيله في ذلك الوقتِ ، ثم تتعلق قدرته بتحصيله في ذلك الوقت ، فنقول : هذه الصفات الثلاث المؤثرة في حصول ذلك الاختصاص ، إن كانت حادثة ، افتقر حدوثها إلى مخصِّصٍ آخر ، وتسلسل؛ وهو محالٌ ، وإن كانت قديمة ، فالقديم يمتنع تغيُّره؛ لأنَّ ما ثبت قدمه ، امتنع عدمه ، ولمَّا كان التغيُّر على تلك الصِّفات المؤثِّرة في ذلك الاختصاص ممتنعاً ، كان التغيُّر في تلك الأشياء المقدرة ممتنعاً ، فثبت بهذا البرهان صحَّة قوله تعالى : { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } .

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)

في النظم وجوهٌ :
أولها : أنه تعالى لمَّا قرَّر الإلهيَّات والمعاد ، والنبوة ، أردفها بذكر الآية بالطَّاعات ، وأشرفُ الطَّاعات بعد الإيمان الصلاة ، فلهذا أمر بها .
وثانيها : أنه تعالى ، لمَّا قال : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض } [ الإسراء : 76 ] .
أمره تعالى بالإقبال على عبادته؛ لكي ينصره الله ، فكأنَّه قيل : لا تبالِ بسعيهم في إخراجك من بلدك ، ولا تلتفت إليهم ، واشتغل بعبادة الله ، والدوام على الصلاة؛ فإنه تعالى يدفع مكرهم وشرَّهم عنك ، ويجعل يدك فوق أيديهم ، ودينك عالياً على أديانهم .
نظيره قوله تعالى : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار لَعَلَّكَ ترضى } [ طه : 130 ] .
وقال تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين } [ الحجر : 97-99 ] .
وثالثها : أنَّ اليهود ، لمَّا قالوا له : اذهب إلى الشَّام ، فإنه مسكن الأنبياء ، وعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذَّهاب إليه ، فكأنَّه قيل له : المعبودُ واحدٌ في كلِّ البلاد ، وما النصر والقوَّة والدولة إلا بتأييده ونصرته ، فدوام على الصَّلوات ، وارجع إلى مقرِّك ومسكنك ، فقل : { رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } [ الإسراء : 80 ] في تقرير دينك ، وإظهار شريعتك .
قوله تعالى : { لِدُلُوكِ } : في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أنها بمعنى « بَعْدَ » أي : بعد دلوكِ الشمسِ ، ومثله قولُ متمِّم بن نويرة : [ الطويل ]
3448- فَلمَّا تَفرَّقْنَا كأنِّي ومَالِكاً ... لطُولِ اجتِماعٍ لمْ نَبِتْ لَيْلةً مَعَا
ومثله قولهم : « كَتبْتُه لثلاثٍ خَلوْنَ » .
والثاني : أنها على بابها ، أي : لأجل دلوك ، قال الواحديُّ : « لأنَّها إنَّما تجبُ بزوالِ الشَّمسِ » .
والدُّلُوك : مصدر دلكتِ الشمس ، وفيه ثلاثة أقوالٍ :
أشهرها : أنه الزَّوالُ ، وهو نصفُ النَّهار . وهو قول ابن عباس - رضي الله عنه - وابن عمر ، وجابر ، وعطاء ، وقتادة ، ومجاهدٍ ، والحسنِ ، وأكثر التَّابعين - رضي الله عنهم- .
روى الواحديُّ في « البسيط » عن جابر - رضي الله عنه - قال : طَعِمَ عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم خرجوا حين زالتِ الشمس؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « هذا حين دلكت الشَّمسُ » .
ورُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أتَانِي جِبْريلُ صلوات الله عليه لدُلوكِ الشَّمسِ ، حينَ زَالتِ الشَّمْسُ؛ فصّلَّى بِي الظُّهْرَ » .
وقال أهل اللغة : الدُّلوكُ في كلام العرب : الزَّوال ، ولذلك قيل للشمس ، إذا زالت نصف النهار : دالكة ، وقيل لها ، إذا أفلت : دالكة؛ لأنها في الحالتين زائلة ، قاله الأزهريُّ .
وقال القفال : أصلُ الدُّلُوك : الميل؛ يقال : مالتِ الشمس للزَّوال ، ويقال : مالت للغُروب .
وإذا ثبت ذلك ، وجب أن يكون المراد من الدلوك ها هنا الزَّوال عن كبد السماء ، لأنَّه تعالى علَّق إقامة الصلاة بالدُّلوك ، والدُّلوك عبارة عن الميل والزَّوال؛ فوجب أن يقال : إنه أوَّل ما حصل الميل والزَّوال ، تعلق به هذا الحكم .

وقال الأزهريُّ : الأولى حمل الدلوك على الزوال في نصف النَّهار؛ لأنَّا إذا حملناه عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلِّها؛ فدلوك الشمس يتناول صلاة الظُّهر والعصر إلى غسق الليل ، ثم قال : « وقُرْآن الفَجْرِ » وعلى هذا التقدير : يتناول المغرب والعشاء ، وقرآن الفجر صلاة الفجر إذا حملناه على الغروب لم يدخل فيه إلا ثلاث صلوات ، وهي المغرب والعشاء والفجر ، وحمل كلام الله - تعالى - على ما يكون أكثر فائدة أولى ، وأيضاً ، فالقائلون به أكثر .
القول الثاني : أنَّ الدُّلُوك : هو الغروب ، وهو قول ابن مسعود ، وبه قال إبراهيم النخعيُّ ، ومقاتل بن حيَّان ، والضحاك والسديُّ ، وهو اختيار الفراء واحتج له بقول الشاعر : [ الرجز ]
3449- هَذا مُقامُ قَدمَيْ رَباحِ ... ذبَّبَ حتَّى دَلكَتْ بِرَاحِ
أي : غربت براحِ ، وهي الشمسُ ، وأنشد ابن قتيبة على ذلك قول ذي الرمَّة : [ الطويل ]
3450- مَصابِيحُ ليسَتْ باللَّواتِي تقُودهَا ... نُجومٌ ولا بالآفلاتِ الدَّوالكِ
أي : الغاربات .
وهذا استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الدُّلوك عبارة عن الميل والتغيُّر ، وهو حاصل في الغروب ، فكان الغروب نوعاً من أنواع الدُّلوك ، فكان وقوعُ لفظ الدُّلوك على الغروب لا ينافي وقوعه على الزَّوال ، كما أنَّ وقوع لفظ الحيوان على الإنسان لا ينافي وقوعه على الفرس .
القول الثالث : أنه من الزَّوال إلى الغروب ، قال الزمخشريُّ : « واشتقاقه من الدَّلكِ » لأنَّ الإنسانَ يدلكُ عينه عند النَّظر إليها « وهذا يفهم أنه ليس بمصدرٍ؛ لأنه جعله مشتقًّا من المصدرِ؛ واستدلُّوا بهذا على أنَّ الدُّلُوك هو الغروب ، قالوا : وهذا إنما يصحُّ في الوقت الذي يمكن النَّظر إليها ، أما عند كونها في وسط السَّماء ، ففي ذلك الوقت لا يمكن النَّظر إليها ، فثبت أن الدلوك هو الغروب .
والجواب : أنَّ الحاجة إلى ذلك التبيين عند كونها في وسط السَّماءِ أتمُّ ، فالذي ذكرتم يدلُّ على أنَّ الدُّلوك عبارةٌ عن الزَّوال من وسط السَّماء؛ بطريق الأولى .
وقال الراغب : » دُلوكُ الشمسِ : ميلها للغروب ، وهو من قولهم : دَلكْتُ الشَّمسَ : دفعتها بالرَّاح ، ومنه : دَلكتُ الشيء في الرَّاحةِ ، ودلكتُ الرَّجلَ : ماطلته ، والدَّلوكُ : ما دلكته من طيبٍ ، والدَّليكُ : طعامٌ يتَّخذُ من زبدٍ وتمرٍ « .
قوله : { إلى غَسَقِ الليل } في هذا الجارُ وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ ب » أقِمْ « فهي لانتهاءِ غاية الإقامة ، وكذلك اللام في » لِدُلوكِ « متعلقة به أيضاً .
والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من » الصَّلاة « أي : أقمها ممدودة إلى غسق الليل ، قاله أبو البقاء ، وفيه نظر : من حيث إنه قدَّر المتعلق كوناً مقيداً ، إلا أن يريد تفسير المعنى ، لا الإعراب .
والغسقُ : دخول أوَّل الليل ، قاله ابن شميلٍ ، وأنشد : [ الرجز ]

3451- إنَّ هذا اللَّيلَ قد غَسقَا ... واشْتكيتُ الهَمَّ والأرقَا
وقيل : هو سواد الليل ، وظلمتهُ ، وأصله من السَّيلان : غسقتِ العينُ ، أي : سال دمعُها ، فكأنَّ الظُّلمَة تنصبُّ على العالم ، وتسيلُ عليهم؛ قال : [ البسيط ]
34352- ظَلَّتْ تَجودُ يَداهَا وهي لاهِيَةٌ ... حتَّى إذَا هَجَمَ الإظلامُ والغَسقُ
ويقال : غَسقتِ العينُ : امتلأتْ دمعاً ، وغسق الجرحُ : امتلأ دماً؛ فكأنَّ الظُّلمةَ ملأتِ الوجود .
وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : الغَسقُ : بُدُوُّ اللُّيْل
وقال قتادة : وقتُ صلاة المغرب .
وقال مجاهدٌ : غروب الشَّمس .
والغاسقُ في قوله : { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } [ الفلق : 3 ] قيل : المراد به : القمر ، إذا كسف ، واسودَّ .
قال - صلوات الله وسلامه عليه - لعائشة - رضي الله عنها - حين رأتْ كسوف القمر : « اسْتعِيذِي مِنْ شرِّ الغَاسقِ إذَا وَقبَ » .
وقيل : اللَّيل ، والغساقُ ، بالتخفيف ، والتشديد : ما يسيلُ من صديد أهل النار ، ويقال : غَسقَ اللَّيلُ ، وأغسقَ ، وظَلمَ ، وأظْلمَ ، ودَجَى ، وغَبشَ ، وأغْبشَ ، نقله الفراءُ .
فصل في معنى الغسق
قال الأزهريُّ : غسق الليل عندي : غيبوبة الشفق عند تراكم الظلمة ، واشتدادها ، يقال : غسقتِ العين ، إذا امتلأت دمعاً ، وغسقت الجراحة : إذا امتلأت دماً .
قال : لأنَّا إذا حملنا الشَّفق على هذا المعنى ، دخلت الصَّلوات الأربعة فيه ، وهي الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، ولو حملنا الغسق على ظهور أوَّل الظُّلمة ، لم يدخل فيه الظهر والعصر؛ فوجب أن يكون الأولى أولى .
واعلم أنَّه يتفرَّع على هذين الوجهين بحثٌ حسنٌ؛ فإن فسَّرنا الغسق بظهور أوَّل الظلمة ، كان الغسق عبارة عن أوَّل المغرب ، وعلى هذا : يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقاتٍ : وقت الزَّوال ، ووقت أوَّل المغرب ، ووقت الفجر ، وهذا يقتضي أن يكون الزوال : وقتاً للظُّهر والعصر ، فيكون هذا الوقت مشتركاً بين هاتين الصلاتين ، وأن يكون أوَّل وقت المغرب وقتاً للمغرب والعشاء ، فيكن هذا الوقت مشتركاً أيضاً بين هاتين الصلاتين ، فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء مطلقاً ، إلا أنَّه دلَّ الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذرٍ لا يجوز؛ فوجب أن يكون الجمع جائزاً مع العذر .
وإذا فسَّرنا الغسق بالتراكم ، فنقول : الظلمة المتراكمة ، إنَّما تحصل عند غيبوبة الشَّفق الأبيض ، وكلمة « إلى » لانتهاءِ الغاية ، والحكم الممدود إلى غاية يكون مشروعاً قبل حصول تلك الغاية؛ فوجب إقامةُ الصلوات كلِّها قبل غيبوبة الشَّفق الأبيض ، وهذا إنَّما يصحُّ إذا قلنا : إنَّها تجبُ عند غيبوبة الشَّفق الأحمر .
قوله تعالى : { وَقُرْآنَ الفجر } فيه أوجه :
أحدها : أنه عطف على « الصَّلاة » أي : وأقم قرآن الفجرِ ، والمراد به صلاة الصبح ، عبَّر عنها ببعض أركانهاز
والثاني : أنه منصوبٌ على الإغراء ، أي : وعليك قرآن الفجرِ ، كذا قدَّره الأخفش وتبعه أبو البقاء ، وأصول البصريِّين تأبى هذا؛ لأن أسماء الأفعال لا تعمل مضمرة .
الثالث : انه منصوب بإضمار فعلٍ ، أي : كثِّر قرآن ، أو الزم قرآن الفجرِ .

فصل في دلالة الآية
دلَّت هذه الآية على أمور :
منها : أنَّ الصلاة لا تكون إلا بقراءة؛ لقوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة } .
ومنها : أنه تعالى أضاف القرآن إلى الفجر ، و التقدير : وأقم الفجرِ .
ومنها : أنه علَّق القراءة بحصول الفجر ، وفي أوَّل طلوعه ، إلاَّ أنَّ الإجماع على أنَّ هذا الوجور غير حاصل؛ فوجب أن يبقى على النَّدب؛ لأنَّ الوجوب عبارةٌ عن رجحانٍ مانعٍ من التَّرك ، فإذا منع مانع من تحقُّق الوجوب ، وجب أن يرتفع المنع من التَّرك ، وأن يبقى أصل الرُّجحان؛ حتَّى تنقل مخالفة الدليل؛ فثبت أنَّ هذه الآية تقتضي أنَّ إقامة الفجر في أوَّل الوقت أفضل؛ وهذا يدلُّ على أن التغليس أفضل من التَّنوير .
ومنها أن القراءة تكون في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات؛ لأنَّ المقصود من قوله تعالى : { وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } الحثُّ على طول القراءة في هذه الصلاة؛ لأن التخصيص بالذِّكر يدلُّ على أنه أكملُ من غيره .
ومنها : قوله تعالى : { إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } .
ومعناه : أنَّ ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصُّبح خلف الإمام ، تنزلُ ملائكة النَّهارعليهم ، وهم في الصَّلاة؛ قبل أن تعرج ملائكة اللَّيل ، وإذا فرغ الإمام من الصلاة ، عرجت ملائكة الليل ، ومكثت ملائكة النَّهار ، ثمَّ إن ملائكة الليل إذا صعدت ، قالت : يا ربِّ ، إنَّا تركنا عبادك يصلُّون لك ، وتقول ملائكة النَّهارِ : ربَّنا ، أتينا عبادك يصلُّون لك ، فيقول الله تعالى لملائكته : اشهدوا أنِّي قد غفرت لهم .
وهذا يدل على أنَّ التغليس أفضل من التنوير ، لأنَّ الإنسان ، إذا شرع فيها من [ أوَّل ] الصُّبح ، ففي ذلك الوقت : الظلمة باقية ، فتكون ملائكة الليل حاضرين ، ثمَّ إذا امتدَّت الصلاة بسبب ترتيل القراءة ، وتكثيرها ، زالت الظلمة ، وظهر الضوء ، وحضرت ملائكةُ النهار ، وأمَّا إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التَّنوير ، فهناك لم يبق أحدٌ من ملائكة الليل؛ فلا يحصل المعنى المذكور ، فقوله جلَّ ذكره : { كَانَ مَشْهُوداً } . يدلُّ على أنَّ التغليس أفضلُ .
قوله تعالى : { وَمِنَ الليل } : في « مِنْ » هذه وجهان :
أحدهما : أنها متعلقة ب « تَهجَّد » أي : تهجَّد بالقرآن بعض الليل .
والثاني : أنها متعلقة بمحذوفٍ ، تقديره : وقم قومة من الليل ، أو : واسهر من الليل ، ذكرهما الحوفيُّ ، وقال الزمخشريُّ : « وعليك بعض الليل ، فتهجَّد به » فإن كان أراد تفسير المعنى ، فقريبٌ ، وإن أراد تفسير الإعراب ، فلا يصحُّ؛ لأنَّ المغرى به لا يكون حرفاً ، وعله « مِنْ » بمعنى « بعضٍ » لا يقتضي اسميَّتها؛ بدليل أنَّ واو « مََ » ليست اسماً بإجماع ، وإن كانت بمعنى اسمٍ صريحٍ وهو « مَعَ » .
والضمير في « به » :
الظاهر : عوده على القرآن؛ من حيث هو ، لا بقيد إضافته إلى الفجر .

والثاني : أنها تعود على الوقت المقدر ، أي : وقُم وقتاً من الليل ، فتهجَّد بذلك الوقت ، فتكونُ الباء بمعنى « في » .
قوله « نَافِلةً » فيها أوجه :
أحدها : أنها مصدرٌ ، أي : تنفَّل نافلة لك على الصَّلوات المفروضة .
والثاني : أنها منصوبة ب « تهجَّد » لأنه في معنى « تنفَّل » فكأنه قيل : تنفَّل نافلة ، والنَّافلةُ ، مصدر؛ كالعاقبة ، والعافية .
الثالث : أنها منصوبة على الحال ، أي : صلاة نافلةٍ ، قاله أبو البقاء ، وتكون حالاً من الهاء في « به » إذا جعلتها عائدة على القرآن ، لا على وقتٍ مقدر .
الرابع : أنها منصوبة على المفعول بها ، وهو ظاهر قولِ الحوفيِّ ، فإنه قال : « ويجوز أن ينتصب » نَافلةً « بتهجَّد ، إذا ذهبت بذلك إلى معنى : صلِّ به نافلة ، أي : صلِّ نافلة لك » .
والتهَجُّدُ : ترك الهجود ، وهو النُّومُ ، « وتفَعَّل » يأتي للسَّلب ، نحو : تحرَّج ، وتأثَّم ، وفي الحديث : « كَان يتحَنَّثُ بغارِ حراءٍ » وفي الهجود خلافٌ بين أهل اللغة ، فقيل : هو النَّومُ؛ قال : [ الطويل ]
3453- وبَرْك هُجودٍ قد أثَارتْ مَخافتِي .. . .
وقال الآخر : [ الطويل ]
3454- ألا طَرقَتْنَا والرِّفاقُ هُجودُ ..
وقال آخر : [ الوافر ]
3455- ألا زَارتْ وأهْلُ منًى هجودُ ... وليْتَ خَيالهَا بِمِنًى يَعودُ
فَهجودٌ : نيامٌ ، جمع « هاجدٍ » كساجد ، وسجُودٍ ، وقيل : الهجود : مشتركٌ بين النَّائم والمصلِّي ، قال ابن الأعرابي : « تهجَّد : صلَّى من الليل ، وتهجد : نام » وهو قول أبي عبيدة والليث - رحمهما الله تعالى- .
قال الواحديُّ : الهُجودُ في اللغة : النومُ ، وهو كثيرٌ في الشِّعر .
يقال : أهجدتُّه وهجدتُّه ، أي : أنَمْتهُ ومنه قول لبيد [ الرمل ]
3456- قَالَ : هَجِّدْنَا فَقدْ طَالَ السُّرَى .. . . .
كأنه قال : نوِّمنا؛ فقد طال السُّرى؛ حتى غلب علينا النَّوم ، وقال الأزهري : المعروف في كلام العرب : أنَّ الهاجد هو النَّائم ، ثم رأينا في الشَّرع أنَّ من قام إلى الصَّلاة من النَّوم يسمَّى هاجداً أي متهجِّداً؛ فيحمل هذا على أنَّه سمِّي متهجّداً؛ لإلقائه الهُجُود عن نفسه؛ كما ياقل للعابد : « مُتحَنِّثٌ » ؛ لإلقائه الحنث عن نفسه ، وروي أن الحجَّاج بن عمرو المازنيَّ قال : أيَحسبُ أحدكم ، إذا قام من اللَّيلِ ، فصلَّى حتَّى يصبح أنَّه قد تهجَّد ، إنَّما التهجُّد الصلاة بعد الرقاد ، ثم صلاة أخرى بعد رقدة ، ثم صلاة أخرى بعد رقدة ، هكذا كتنت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً عليه .
والنافلةُ في اللغة : الزيادة على الأصل ، وقد تقدَّم في الأنفال ، وفي تفسير كونها زيادة ها هنا قولان مبنيَّان على أنَّ صلاة الليل ، هل كانت واجبة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أم لا؟ .
فقيل : إنَّها واجبة عليه؛ لقوله سبحانه وتعالى : { ياأيها المزمل قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً } [ المزمل : 1 ، 2 ] ثم نسخت ، فصارت نافلة ، أي : تطوُّعاً وزيادة على الفرائض .
وذكر مجاهد والسدي في تفسير كونها نافلة وجهاً حسناً ، قالا : إنَّ الله قد غفر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ما تقدَّم من ذنبه ، وما تأخَّر ، فكلُّ طاعةٍ يأتي بها صلى الله عليه وسلم سوى المكتوبةِ لا تؤثر في كفَّارة الذنب ، بل تؤثر في زيادة الدَّرجاتِ ، وكثرة الثَّواب؛ فكان المقصود من تلك العبادة زيادة الثواب ، فلهذا سمِّي نافلة؛ بخلاف الأمة؛ فإنَّ لهم ذنوباً محتاجة إلى التكفير ، فهذه الطاعة يحتاجون إليها؛ لتكفير السَّيئات عنهم؛ فثبت أنَّ هذه الطاعات إنَّما تكون زوائد ونوافل في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم لا في حقِّ غيره ، فلهذا قال : « نَافلةً لكَ » ، فهذا معنى يخصِّصهُ .

وأمَّا من قال : إنَّ صلاة الليل كانت واجبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : معنى كونها نافلة له على التخصيص ، يعني : أنَّها فريضةٌ لك ، زائدة على الصَّلوات الخمس ، خصِّصت بها من دون أمَّتك؛ ويدلُّ على هذا القولِ قوله تعالى : { فَتَهَجَّدْ } والأمر للوجوب ، ويرد هنا قوله : { نَافِلَةً لَّكَ ] ، لأنَّه لو كان المراد الوجوب ، لاقل : « نَافِلةً عليك » .
واعلم أنَّ قوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل وَقُرْآنَ الفجر } وإن كان ظاهر الأمر فيه مختصًّا بالرسول - صلوات الله عليه وسلامه - إلا أنَّه في المعنى عامٌّ في حقِّ الأمَّة؛ ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } بيَّن أن الأمر بالتهجد يختصُّ بالرسول - صلوات الله وسلامه عليه - والأمر بالصَّلوات الخمس غير مخصوصٍ بالرسول - صلوات عليه - وإلاَّ لم يكن لتقييد المر بالتهجُّد بهذا القيد فائدةٌ .
قوله تعالى : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } في نصب « مقاماً » أربعة أوجه :
أحدها : أنه منصوبٌ على الظرف ، أي : يبعثك في مقام .
الثاني : أن ينتصب بمعنى « يَبْعثكَ » ؛ لأنه في معنى « يُقِيمكَ » ؛ يقال : أقيم من قبره ، وبعث منه ، بمعنًى ، فهو نحو : قعد جلوساً .
الثالث : أنه منصوبٌ على الحال ، أي : يبعثك ذا مقامٍ محمود .
الرابع : أنه مصدر مؤكد ، وناصبه مقدر ، أي : فيقوم مقاماً .
و « عَسَى » على الأوجه الثلاثة دون الرابع يتعيَّن فيها أن تكون التامة؛ فتكون مسندة إلى « أنْ » وما في حيِّزها؛ إذ لو كانت ناقصة على أن يكون « أنْ يَبْعثكَ » خبراً مقدَّماً ، و « ربُّكَ » اسماً مؤخراً؛ لزمَ من ذلك محذورٌ : وهو الفصل بأجنبي بين صلة الموصول ومعمولها ، فإنَّ « مَقاماً » على الأوجه الثلاثة الأول : منصوبٌ ب « يَبْعثكَ » ، وهو صلة ل « أنْ » ، فإذا جعلت « ربُّكَ » اسمها ، كان أجنبيًّا من الصلة ، فلا يفصل به ، وإذا جعلته فاعلاً ، لم يكن أجنبيًّا ، فلا يبالي بالفصل به .

وأمَّا على الوجه الرابع : فيجوز أن تكون التامة والناقصة بالتقديم والتأخير؛ لعدم المحذور؛ لأنَّ « مقاماً » معمولٌ لغير الصلة .
وقوله : « محموداً » في انتصابه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الحال من قوله : يَبْعثكَ ، أي : يبعثك محموداً .
والثاني : أن يكون نعتاً للمقام .
فصل في معنى « عسى » من الله
اتفق المفسرون على أنَّ كلمة « عسى » من الله واجبٌ .
قال أهل المعاني : لأنه لفظ يفيد الإطماع ، ومن أطمع إنساناً في شيء ، ثم حرمه ، كان عاراً ، والله تعالى أكرم من أن يطمع واحداً في شيء ، ثم لا يعطيه .
وفي تفسير المقام المحمود أربعة أقوالٍ :
الأول : أنه الشَّفاعة .
قال الواحدي : أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : « هو المقام الذي أشفعُ لأمَّتِي فيه » .
قال ابن الخطيب : واللفظ مشعر به؛ لأنَّ الإنسان إنما يصير محموداً إذا حمده حامدٌ ، والحمد ، إنما يكون على الإنعام ، فهذا المقام المحموج يجب أن يكون مقاماً أنعم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم ، فحمدوه على ذلك الإنعام ، وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون تبليغ الدِّين ، وتعليم الشرائع؛ لأنَّ ذلك كان حاصلاً في الحال ، وقوله : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ } تطميعٌ ، وتطميع الإنسان في الشيء الذي حصل له وعده محالٌ؛ فوجب أن يكون ذلك الإنعام الذي لأجله يصير محموداً إنعاماً يصل منه بعد ذلك إلى النَّاس ، وما ذاك إلاَّ شفاعته عند الله تعالى .
وأيضاً : التنكيرُ في قوله : { مَقَاماً مَّحْمُوداً } يدل على أنه يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقامِ حمدٌ بالغٌ عظيمٌ كاملٌ ، ومن المعلوم أنَّ حمد الإنسان على سعيه في التخليص من العذاب أعظم من حمده في السَّعي في زيادة الثَّواب؛ لأنَّه لا حاجة به إليها؛ لأنَّ حاجة الإنسان في رفع الآلام العظيمة عن النَّفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها ، وإذا ثبت هذا ، وجب أن يكون المراد من قوله تعالى : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } هو الشَّفاعة في إسقاط العقاب؛ على ما هو مذهب أهل السنة .
ولمَّا ثبت أن لفظ الآية مشعرٌ بهذا المعنى إشعاراً قويًّا ، ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى ، وجب حمل اللفظ عليه ، ومما يؤكِّد ذلك الدعاء المشهور عنه في إجابة المؤذِّن : « وابعثه المقام المحمود الذي وعدته » .
واتَّفق النَّاس على أنَّ المراد منه الشَّفاعة .
والقول الثاني : قال حذيفة : يجمع الناس في صعيدٍ ، فلا تتكلَّم نفسٌ ، فأوَّل من يتكلَّم محمدٌ - صلوات الله وسلامه عليه - فيقول : لَبَّيكَ ، وسَعْديْكَ ، والشَّرُّ ليس إليك ، والمهديُّ من هَديْتَ ، والعَبْدُ بين يَديْكَ ، وبِكَ وإلَيْكَ ، لا مَنْجَى ولا مَلْجَأ مِنْكَ إلاَّ إليكَ ، تَباركتَ ، وتَعاليْتَ ، سُبحانَكَ ربَّ البيتِ « .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75