كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

قوله : « لم يصلوا » الجُمْلة في محلِّ رَفْع؛ لأنها [ صفة ل « طَائِفة » بعد صِفَةٍ ، ويجُوز أن يكُون في مَحَل نَصْب على الحَال؛ لأن النَّكِرَة ] قَبْلَهَا تخصَّصت بالوَصْفِ بِأخْرى . ثم قال { وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } والمعْنَى : أنه - تعالى- جعل الحَذَر : الَّذِي هو التحذُّر والتَّيَقُّظ آلة يِسْتَعْمِلُهَا الغازي؛ فَلِذَلِكَ جمع بينَه وبين الإسْلِحَةِ في الأخْذِ؛ وجُعِلاَ مأخُوذَيْن ، وهذا مَجَازٌ؛ كقوله : { تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] في أحَد الأوْجُه .
قال الوَاحِدِيِ : رحمه الله تعالى : وفيه رُخْصَة للخَائِفِ في الصَّلاة ، بأن يَجْعَل بَعْضَ فكْره في غَيْرِ الصَّلاةِ .
فإن قيل : لِمَ ذَكَرَ في الآيَةِ الأولى : « أسْلِحَتُهم » فقط ، وفي هذه الآيَة ذكر « حِذْرَهُم وأسلحتهم » ؟ فالجوابُ : أن في أوَّل الصلاة قلَّما يَتَنَبِهُ العَدُوُّ : لكون المُسْلِمِين في الصَّلاة ، بل يظُنُّون كونهمُ قَائِمين لأجْل المُحَارَبة ، وأما في الرُّكْعَة الثَّانِيَة ، فقد يَظْهَرُ للعَدُوِّ كونهم في الصَّلاة ، فَهُهُنا يتنهزُون الفُرصة في الهُجُوم عليهم ، فلذلك خَصَّ الله [ -تعالى- ] هذا المَوْضِع بزِيَادَة تَحْذِير .
ثم قال : « ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم » قد تقدم الكلام في [ « لو » ] الواقعة بعد « وَدَّ » في البَقَرَة [ آية : 109 ] .
وقرئ : « وأمتعاتكم » وهو في الشُّذُوذِ من حَيْث إنَّه جَمْع الجَمْعِ ، كقولهم : أسْقِيَات وأعْطِيَات . { فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً } أي : يتمنَّون لو وَجدُوكُم عَافِلِين عن أسْلِحَتِكُم ، فيقْصِدُونكم ويَحْمِلُون عَلَيْكُم حملة وَاحِدَة .
رُوِيَ عن ابْن عَبَّاس : وجابر : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلَّى بأصْحَابِه الظُّهْر ، ورأى المُشْرِكُون ذَلِكَ ، فَقَالُوا بعد ذلك : بِئْسَ ما صَنَعْنا ، حيث ما أقْدَمْنا عليهم ، وعَزَمُوا على ذَلِكَ عند الصَّلاة الأخْرَى ، فأطْلَعَ اللهُ نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم على أسْرَارِهِم بِهَذِهِ الآيَةِ .
فصل
قال الإمامُ أحمد - رحمه الله تعالى- « صحَّ عن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخَوْفِ من خمْسة أوْجُه أوْ سِتَّة [ أوْجُه ] ، كل ذلك جَائِزٌ .
الأول : إذا كان العَدُوُّ من جهة القِبْلَة ، صف الإمَامُ المُسْلِمِين خَلْفَه صَفَّيْن ، فصلّى بهم جميعاً إلى أن يَسْجُد؛ فَيَسْجُد معه الصَّف الذي يَلِيهِ ، ويَحْرُس الآخَر ، فإذا قَامَ الإمَامُ إلى الثَّانِيَةِ سجد الآخَرَ ولَحِقَهُ ، فإذا سَجَدَ لثَّانِيةِ ، سجد معه الصَّفُّ الذي حَرَس ، وحَرَس الأوَّل ، فإذا جَلَس للتَّشَهُّد ، سجد الأوَّل ، ولحقه في التَّشَهُّد ويسلم بهم .
الثاني : إذا كان العَدُوُّ في غَيْرِ جهة طَائِفَة [ تجاه ، العَدُوِّ ، وطائفةً ] تُصَلِّي مَعَهُ رَكْعَة ، فإذا قَامَ إلى الثَّانِيةِ ثَبَت قَائِماً وأتمَّت لأنفُسِها أخْرى ، [ وسلمت ومضت إلى العَدُوِّ ، وجاءت الأخْرَى ، فَصَلَّت معه الثَّانِية ، فإذا جَلَس ، أنهت لأنفُسِهَا أخْرَى ] .

وتشهدت ثم سَلَّم بهم ، وإن كانَت الصَّلاةُ مَغْرباً ، صلّى بالأولى رَكعتين وبالثَّانية ركعة ، وإنْ كانت رُباعيَّة ، صَلَّى بكل طائِفَةً ركْعَتَيْن وأتمَّت الأولَى ، بالحَمْد لله في كل رَكْعَة ، والأخرى تتم بالحَمْد لله وسُورة ، وهل تُفَارِقُه الأولَى في التِّشَهُّدِ ، أوْ في الثَّانِيَة على وَجْهَيْن ، وإن فَرَّقَهُم أرْبَعاً ، فصلى بكلِّ طَائَفَةٍ ركْعَة ، صحَّت صلاة الأولَى وبَطَلَت صَلاَةُ الأمَامِ والآخرين وإن عَلموا بطلان صَلاَة الآخرين؛ فلأنهم ائتمُّوا بمن صلاته بَاطِلَة ، فأمَّا إذَا لم يعلموا ، فهم مَعْذُورُونَ .
الثالث : أن يُصَلِّي بطائِفَةٍ رَكْعَة ، ثم تمْضِي إلى العَدُوِّ ، وتأتي الأخْرَى ، فيُصلي بها رَكْعَةً ويسلم وَحْدَه وتمضي ، ثم تأتي الأخرى فتتم صلاتها وتمْضِي هي : ثم تأتي الأولى فتتم صلاتها .
الرابع : أن يُصَلَّي بِكُلِّ طائفة صَلاَةً ، ويُسَلِّم بِهَا .
الخامس : أن يُصَلِّي [ بكلِّ ] الرُّباعيَّة تامَّة ، وتصلي مَعَهُ كل طَائِفةِ رَكْعَتَيْن ولا يَقْضِي شَيْشاً ، فتكون له تامَّة ولَهُم مَقْصُورَة .
فصل
إذا اشْتَدَّ الخَوْف عند التحام الحَرْب ، يصلي كَيْفَما أمْكَن رِجَالاً ورُكْبَاناً إلى القِبْلَة وإلى غيرها يؤمِنُون إيماءً بالرُّكوع والسُّجود ، وكَذَلِك كلّ خَائِفٍ على نَفْسِه فإن لم يَقْدِ على الإيمَاءِ أخَّروا الصَّلاة إلى انْكِشَاف الحَالَةِ .
قال مَالِكٌ وجماعة : يصلي الطَّالِب والمَطْلُوب كُلُّ واحد منهما على دَابَّتِهِ؛ كالخائف سَوَاء .
وقال الأوْزَاعِيّ ، والشَّافِعي ، وفُقَهَاء المُحَدّثين ، وابن عَبْد الحكم : ولا يصَلِّي الطَّالِب إلاَّ بالأرْضِ .
قال القُرْطُبِي : وهو الصَّحيحُ؛ لأنَّ الطَّلب تَطَوُّعٌ ، والمكْتُوبَة فَرْضٌ ، والفرض إنَّما يُصَلَّى بالأرْض حَيْثُ ما أمْكَن .
[ ثم ] قال - تعالى- : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ } فقوله : « أنْ تَضَعُوا » ؛ كقوله « أنْ تَقْصُرُوا » وقد تقدم ، « وخُذوا حِذْرَكُم » رَخَّصَ في وَضْع السِّلاح في حَالِ المَطَر والمَرَضِ؛ لأن السِّلاح [ يثْقُل حَمْلُه في هَاتين الحَالَتَيْن ، أو لأن حدته تَفْسُد بالبَلَلِ ، ولمّا رَخَّص في وَضْعَ السِّلاح ] حالَ المَطَرِ والمَرَضِ ، أمر بالتَّيَقُّظ والحَذِر؛ لِئَلاَّ يَهْجُم العَدُو عليهم .
روى الكَلْبِيُّ : عن أبي صَالِح ، عن ابن عبَّاس- رضي الله عنهما- نزلت في رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، « وذَلِكَ أنَّه غَزا مُحَارِباً وبني أنمارٍ ، فنزلوا ولا يَرون من العَدُوِّ أحداً ، فوضع النَّاس أسْلِحَتَهُم ، وخرج رسُول الله صلى الله عليه وسلم لِحَاجَة له قد وضع سِلاحه ، حتى قطع الوَادِي والسَّماء تَرُشُّ ، فَحَالَ الوادي بَيْنَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصْحَابَه؛ فجلس رسُول الله صلى الله عليه وسلم في ظلِّ شجرة ، فَبَصُر بِهِ غوْرَث بن الحَارِث بما شئت ، ثم أهْوَى بالسَّيف إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ليضْرِبَه ، فانكب لوجِهِهِ من زَلْخَةٍ زُلخَها بَيْنَ كَتِفَيْه ، وندر سَيْفَه ، فقام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ، ثم قال : يا غَوْرَث ، من يَمْنَعُك مِنِّي الآن؟ قال : لا ولكن أشهد ألا أقاتِلك أبَداً ولا أعينُ عليك عدوّاً ، فأعطاه رسُول الله صلى الله عليه وسلم سَيْفَه ، فقال غَوْرَث : والله أنْتَ خَيْرٌ مِنِّي ، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أجلْ أنا أحَقُّ بذلك مِنْك ، فرجَعَ غَوْرَث إلى أصْحَابِه ، فقالوا : ويْلَكَ ما مَنَعَك مِنْهُ ، قال : لقد أهْوَيتُ إليه بالسَّيْف لأضربه فوالله ما أدْرِي من زَلَخَنِي بين كَتفي فخررت لوجِْهي ، وذكر حَالَه قال : وسكن الوادي ، فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي وأصْحَابه فأخبرهم الخبر »

، وقرأ هذه الآية : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } أي : من عدُوِّكم ، وقال سعيدُ بن جُبَير عن ابن عبَّاس في هذه الآية : كان عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْف جَرِيحاً .
فصل
أمر أولاً بأخذ الحَذَر والأسلحة ، فَدَلَّ على وُجُوبِهِ ، ويؤكِّدُه قوله ههنا : لا جناح عليكم إن كانَ بَكُمْ أذَى من مَطَرٍ أَوْ كنتم مَرْضَى [ أن تضعوا أسلحتكم ] فخصَّ رفع الجُنَاح في وَضْع السِّلاح بهاتين الحَالَتين ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ ما عَدَا هَاتَيْن الحَالَتَيْن ، يكون الأثْم والجناحُ حَاصِلاً بسبب وضع السِّلاحِ . وقال بعضُهم : إنه سُنَّة مؤكَّدة ، ثم الشَّرط : ألاَّ يحمل سِلاحاً نجساً إن أمْكَنة ولا يَحْمِل الرُّمح إلاَّ في طَرَف الصَّفِّ ، بِحَيْثُ لا يَتَأذَّى به أحَد .
فصل
دَلَّت الآيَة على وُجُوب الحَذَر من العَدُوِّ ، فتدلُّ على وُجُوب الحَذَرِ عن جَمِيع المَضَارِّ المظْنُونة؛ كالعِلاَج بالدَّوَاء والاحترازِ عَنِ الوَبَاءِ وعن الجُلُوس تَحْتَ الجِدَارِ المَائِل .
فصل
قالت المُعتَزِلَة : الأمر بالحَذَر يدلُّ على كَوْن العَبْدِ قادراً على الفِعْل والتَّرْكِ ، وعلى جميع وجوه الحَذَر ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ فِعل العَبْد لَيْسَ مَخْلُوقاً لله - تعالى- .
وجوابه : المُعَارَضَة بِمَسْألة العِلْمِ والدَّاعي .
ثم قال- تعالى- : { إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } أخْبر [ -تعالى- ] بأنه يُهِينهم ويَخْذُلهم؛ تقوية لقُلُوب المُسْلِمِين .

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)

أي : وإذا فَرَغْتُم ، قضيتم صلاة الخوف أي : فرغتم من الصَّلاة ، وهذا يَدُلُّ على أن القَضَاء ، يستَعْمَلُ فيما فُعِلَ في وَقْتِهِ ، ومنه قوله : [ -تعالى- ] : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ } [ البقرة : 200 ] ، ثم قال : { فاذكروا الله } أي : صَلُّوا لله « قياماً » في حال الصِّحَّة و « قُعُوداً » في حال المَرَضِ « وعلى جُنُوبِكُ » عند الجروح والزِّمَانَة ، وقيل : قِيَاماً : حال المسايفة ، وقعوداً : حال اشتِغَالكُم بالرَّمي وعلى جُنُوبكم : حالٌ سُقُوطكم على الأرْض مَجْروحين فقوله « قِياماً [ وقعودا ] » حالان من فَاعِل « اذكُرُوا » وكذلك « وعلى جُنُوبِكُم » فإنه في قُوَّة : مُضطَجِعِين؛ فيتعلَّق بِمَحْذُوفٍ .
« فإذا أطْمَأنَنْتُم » أي : أمِنْتُم ، فالطُّمأنينة : سكُون النَّفس من الخَوْفِ حين تضع الحَرْبُ أوزارها ، « فأقِيموا الصَّلاة » أي : أتمُّوها بأرْكَانِها وقد تقدَّم الكَلاَم في البَقرة [ آية : 260 ] على قوله اطمأننتم ، وهل هيَ مَقْلُوبَةٌ أمْ لا؟
وصرح أبو البَقَاءِ هنا بأنَّ الهَمْزَة أصْلٌ وأنَّ وَزْن الطُّمأنينة : فُعَلَّيلية ، وأن « طَأمَن » أصل أخَرَ برأسه ، وهذا مَذْهَبُ الجَرْمِي .
واعلم أنَّه قد تَقَدَّم حُكْمان :
أحدهما : قَصْر صلاة المُسَافِر .
والثَّاني : صَلاة الخَوْفِ؛ فقوله : { فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة } [ يحتمل أنكُم صِرْتم مقمين غير مُسَافِرين من الاطْمئْنَان فأقيموا الصَّلاة ] أي : أتمُّوها أرْبَعاً ، ويحتمل أن يَكُونَ المُراد من الاطْمِئْنَان ألاَّ يَبْقَى الإنْسَان مضْطَرب القَلْب ، بل يَصِير سَاكِن القَلْبِ؛ بسبب زَوَالِ الخَوْفِ ، فعلى هذا فالمراد بإقامَة الصَّلاة : فعلها في حَالَةِ الأمْن .
ثم قال { إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً } أي : فَرْضَاً موقوتاً ، قال مُجَاهِد : وَقَّتَه الله عَلَيْهم ، وقيل : واجِباً مَفْروضاً مقدراً في الحَضَر أرْبَعِ رَكَعَاتٍ ، وفي السَّفَر ركْعَتَيْن ، والمراد بالكتاب هَهُنَا : المكْتُوب؛ كأنه قيل : مكْتُوبَة مؤقتة و « مَوْقُوتاً » : صِفَة ل « كتاباً » بمعنى : مَحْدُوداً بأوقات ، فهو مِن : وَقَتَ مُخَفَّفاً؛ كَمضروبٍ من ضَرَبَ ، ولم يَقُل : « مَوْقُوتَة » بالتَّاء مُرَاعاة ل « كتاب » فإنَّه في الأصْل مَصْدَر ، والمَصْدَر مُذَكَّر ، ومَعْنَى الموْقُوت : أنها كُتِبَت عَلَيْهِم في أوْقَات مؤقتة ، يقال : وقَّته وَوَقَتَه مخففاً ، وقُرِئ : { وَإِذَا الرسل وُقِّتَتْ } [ المرسلات : 11 ] بالتَّخْفِيفِ .
فصل
دلَّت هذه الآيَة على أنَّ وُجُوب الصَّلَواتِ مقدَّر بأوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ ، إلاَّ أنَّه - تعالى - أجْمَل الأوْقَات هَهُنَا وبَيَّنَها في مَوَاضِع أخر ، وهي خَمْسَة .
أحدُها : قوله [ -تعالى- ] { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] فقوله : « الصَلَوَات » يدل على ثَلاثِ صَلَواتٍ ، وقوله : « [ و ] الصَّلاة الوُسْطَى » يَمْنَع أن يَكُون أحد تِلْكَ الثَّلاث ، وإلا يَلْزَم التِّكْرَار ، فلا بُدَّ وأن تَكُون زَائِدَة على الثَّلاث ولا يُمْكِن أن يكونُ الوَاجِبُ أرْبَعَة؛ لعدم حُصُول الوُسْطَى فِيَهَا ، فلا بُدَّ من جَعْلِها خمْسَةً؛ لتحصل الوُسْطَى ، وكما دَلَّت هَذِهِ الآيَة على وُجُوب خمس صلواتٍ ، دلت على عَدَمِ وجُوبِ الوتْر ، وإلا لَصَارَت الصَّلَواتُ الوَاجِبَة سَتَّة ، وحينئذٍ لا تَحْصُل الوُسْطَى ، فهذه الآية دَلَّت على وُجُوب الصَّلَواتِ ، لا على بَيَانِ الأوْقَاتِ ، وأما الآيَات الأرْبَع البَاقِيَة ، فَمَذْكُورة [ في البقرة ] عند قوله : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات } [ البقرة : 238 ] .

وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)

لما ذكر بَعْض الأحْكَام الَّتِي يحتَاج المُجَاهِد إلى مَعْرِفتها ، عاد مَرَّة أخرى إلى الحَثِّ على الجِهَاد ، فقال : « وَلا تَهِنُوا : أي : ولا تَضْعُفُوُا ، ولا تَتَوانَوْا ، الجمهورُ : على كَسْر الهاء ، والحَسن : على فتحها من » وَهِن « بِالكَسْر في الماضِي ، أو من » وهَن « بالفَتْح ، وإنما فُتِحَت العَيْن؛ لكونها حَلْقِيةً ، فهو نحو : يَدَع .
وقرأ عُبَيْد بن عُمَيْر : » تُهَانَوْا « من الإهانة مبنيَّاً للمَفْعُول ، ومعناه : لا تَتَعاطَوا من الجُبْنِ والخَوَر ، ما يكون سَبَباً في إهَانتكم؛ كقولهم : » لا أرَيَنَّك هَهُنَا « .
وقوله : { فِي ابتغآء القوم } أي : في طَلَبِهِم ، وسبب نزولها : أنَّ أبا سُفْيَان وأصْحَابَهُ لمَّا رَجَعُوا يوم أُحُد ، بعث رسُول الله صلى الله عليه وسلم [ طائفة ] في آثارِهِم ، فَشَكُوا ألَم الجِرَاحِ ، فقال- تعالى- : { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم } أي لا تَضْعُفُوا في طلب أبِي سُفْيَان وأصْحَابَهُ ، { إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ } : تتوجَّعُون من الجِرَاح ، » فإنَّهُمْ يَألَمُون « أي : يتوجَّعُونَ كما تألمون ، والمَعْنَى : أنَّ حصُول الألمِ قدر مُشْتَركٌ بينكم وبَيْنَهُم ، فلمَّا لم يَكُن خوف الألَمِ مانِعَاً لَهُم عن قَتَالِكُم ، فكيف يَصير مَانِعاً لكم عن قِتَالِهِم .
قرأ يَحْيَى بن وَثَّاب ، ومنصور بن المُعْتَمِر : » تِئلمون فإنهم يِئلمون كما تِئلمون « بكسر حَرْفِ المُضارَعَةِ ، وابن السَّمَيْفَع : بكسر تَاءِ الخطَاب فقط ، وهذه لُغةٌ ثَابِتَة ، وقد تقدم في الفَاتِحَة أنَّ مَنْ يَكْسِرُ حَرفَ المُضَارعة يَسْتَثْنِي التَّاء ، وتقدم شُذُوذ » تِيجَل « ووجْهه ، وزاد بُو البقاء في قِرَاءة كَسْر حَرْف المُضَارعة قَلْبَ الهَمْزَة ياءً ، وغيرُه أطلق ذلك .
وقرأ الأعْرَج : » أن تَكُونُوا تألَمون « بفتح هَمزة » أنْ « والمعنى : ولا تَهِنُوا لأنْ تَكُونوا تألمون .
وقوله : { فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ } تعليل قوله : { وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ } [ أي : وأنتم مع ذَلِكَ تأمَلُون من الأجْر والثواب في الآخرة ، والنَّصَر في الدُّنْيَا ما لا يَرْجُون ] ، فأنتم أوْلَى بالمُصَابَرةِ على القِتَال من المُشْرِكين؛ لأن المُؤمِنِين مُقِرُّون بالثَّواب والعِقَابِ ، والحَشْر والنَّشر ، والمُشْرِكون لا يقرون بذلِك ، فإذا كانُوا مع إنْكَارِهِم ذلك مُجِدِّين في القِتَال ، فأنتم أيُّهَا المؤمِنُون المُقِرُّون بأنَّ لكم في الجِهَادِ ثَواباً ، وعليكم في تَرْكِهِ عِقَاباً أوْلَى بالجِدَّ في الجَهَادِ .
وقال بَعْض المُفَسَّرين : المراد بالرَّجَاء : الخَوْف؛ لأنَّ كل رَاج خَائِفٌ ألاَّ يُدْرِك مأمُولَة ، ومعنى الآيَة وترجُونَ ، أي : تَخَافُون من عَذَاب اله ما لا يَخَافُون . قال الفرَّاء : ولا يكون الرَّجَاء بمعنى الخَوْف إلا مع الجدّ؛ كقوله - تعالى- : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله } [ الجاثية : 14 ] ، [ أي : لا يَخَافُون ] ، وقال - تعالى- : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] أي : لا تَخَافُون لله عِظَة ، ولا يجُوز : رَجَوْتُك ، يَعْنِي : خِفْتُك ، وأنت تُرِيد : رَجَوْتُك .
قال ابن الخَطِيب : ويُحْتَمَل أنَّكم تَعْبُدون الإله ، العَالِم القَادِر ، السَّمِيع ، البَصِير ، فيصحُّ منكم أنْ تَرْجُوا ثَوَابَه ، وأما المُشْرِكُون : فإنَّهم يَعبدون الأصْنَام وهي جَمَادات؛ فلا يَصِحٌّ منهم أنْ يَرْجُوا منها ثَوَاباً ، أو يَخَافُوا منها عِقَاباً .
ثم قال : { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } أي : لا يُكَلِّفُكُم إلاَّ ما يَعْلَم أنَّه سَبَب لِصَلاحِ دِينكُم ودُنْيَاكُم ، وقد تقدم [ أنَّه إذا ] ذكر » الحَكِيم « بعد قوله : » العَلِيم « فالمرادَ بالحَكيم : أنه العَالِمُ بَعَواقِب الأمُور ، وقالت المُعْتَزِلَةُ : المُرادُ بالحَكِيم : هو الَّذِي يضع الأسْبَاب للمصَالِح .

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)

في كيفية النَّظم وجُوهٌ :
أحدُها : أنَّه - تعالى - لما شَرَح أحْوَال المُنافِقِين وأمْر بالمُحَارَبَة ، وما يتَّصِل بها من الأحْكَام الشَّرْعِيَّة ، مثل قَتْل المسلم خَطَأ وصَلاَة المُسَافِر ، وصلاة الخَوْف ، رجع بَعْد ذَلِك إلى بَيَان أحْوَال المُنَافِقِين؛ لأنَّهم كانوا يُحَاوِلُون [ حَمْل ] الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - على أنْ يَحْكُم بالبَاطِل ويترك الحكمَ بالحَقِّ ، فأمره الله - تعالى - بألاَّ يلتَفِت إليْهِم في هذا البَابِ .
وثانيها : أنه - تعالى - لمَّا بيَّن الأحْكَام الكَثِيرة في هذه السُّورة ، بيَّن أنَّها كلها إنَّما عُرِفَت بإنْزَال الله - تعالى - ، وأنَّه ليس للرَّسُول أن يَحِيد عَنْ شَيْءٍ منها؛ طلباً لِرِضا القَوْمِ .
وثالثها : أنَّه - تعالى - لما أمَر بالمجاهدة مَعَ الكُفَّار ، بَيَّن أن الأمْر وإن كَانَ كَذَلِك ، لكنه لا يَجُوزُ الخِيَانَة مَعَهُم ولا إِلْحَاق ما لَمْ يَفْعَلُوا بهم ، وأنَّ كُفْر الكَافِر لا يصحُّ المُسَامَحة له ، بل الوَاجِبُ في الدِّين : أن يحْكم له وعَلَيْه بِمَا أنْزَل اللَّه على رسُولِهِ ، وإن كان لا يَلْحَق الكَافِر حَيْفٌ؛ لأجْل رِضَى المُنَافِق
[ قول : « بالحَقِّ » : في محلِّ نصبٍ على الحَالِ المُؤكِّدة ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، وصاحبُ الحَالِ هو الكِتَابُ ، أي : أنزلنا مُلْتسباً بالحَقِّ ، و « لتحكمْ » : متعلِّق ب « أنْزلنا » ، و « أراك » متعدٍّ لاثنين : أحدهما : العائدُ المَحْذُوفُ ، والثاني : كافُ الخطَابِ ، أي : بما أراكَهُ الله . والإراءةُ هنا : يجوزُ أن تَكُون من الرَّأي؛ كقولك : « رأيتُ رَأيَ الشَّافِعِي » ، أو من المَعْرِفة ، وعلى كلا التَّقْدِرين؛ فالفعلُ قبل النَّقْل بالهَمْزة متعدٍّ لواحد ، وبعدَه مُتَعَدٍّ لاثنين ] .
وقال أبو عَلِيٍّ الفَارِسِي : [ قوله ] « أرَاكَ اللَّهُ » إمّا أن يَكُون مَنْقُولاً بالهَمْزَة من « رَأيْت » ، الَّتِي يُرَاد بها رُؤْيَةُ البَصَر ، أو من « رَأيْت » [ الَّتِي ] تتعدَّى إلى مَفْعُولَيْن ، أو من « رأيْتُ » الَّتِي يُرَاد بها الاعْتِقَاد .
والأوَّل : بَاطِلٌ؛ لأنَّ الحُكْمَ في الحَادِثَةِ لا يُرَى بالبَصَر .
والثاني : أيضاً بَاطِلٌ؛ لأنَّه يَلْزَم أن يَتَعَدَّى إلى ثَلاَثَة مَفَاعِيل بسبب التعدية ومعلوم : أنَّ هذا اللَّفْظ لم يَتَعَدَّ إلاَّ إلى مَفْعُولين : أحدُهُما : كاف الخِطَابِ ، والآخر المَفْعُول المقدَّر ، وتقديره : بما أرَاكَهُ الله ، ولمَّا بَطَل القِسْمَان ، بقي الثَّالِث ، وهو أنَّ المُرَاد مِنْه : « رأيت » بمعنى : الاعْتِقَاد .
فصل في معنى الآية
معنى الآيَةِ : بما أعْلَمَكَ اللَّه ، وسُمِّي ذلك العِلْم بالرُّؤيَة؛ لأن العِلْم اليَقِينيِّ المُبَرَّأ عن الرَّيْب يكون جَارِياً مُجْرَى الرُّؤية في القُوَّة والظُّهُور ، وكان عُمَر يقُول : لا يَقُولَنَّ أحدُكُم قَضيتُ بما أرَانِي [ اللَّه ] ، فإن اللَّه - تعالى - لم يَجْعَلْ ذلك إلا لِنَبِيِّه صلى الله عليه وسلم ، وأما الوَاحِد منَّا فرأيُهُ يَكُون ظَنّاً ، ولا يكون عِلْماً .

وإذا ثَبَت ذَلِكَ قال المحققون : دَلَّت هذه الآيَةِ على أنَّه - عليه الصلاة والسلام - ما كان يَحْكُم إلا بِالوَحْي والنَّصِّ ، وإذا كان كَذَلِك ، فيتفَرَّعُ عليه مَسْألتانِ :
الأولَى : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يَجُز لَهُ الاجْتِهَاد .
والثانية : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - إذا لم يَجُز له أنْ يحكم إلا بالنَّصِّ ، وجَبَ أن تكُونَ أمَّتُهُ كَذَلِكَ؛ لقوله - تعالى - { واتبعوه } [ الأعراف : 158 ] وإذا كان كَذَلِك ، حَرُمَ العَمَلُ بالقِيَاس .
والجَوَابُ : أنه لما قَامَت الدَّلاَلَة على أنَّ القِيَاس حُجَّة ، كان العَمل بالقِيَاسِ عَمَلاً بالنَّصِّ في الحَقِيقَةِ؛ لأنَّه يَصِير التَّقْدير : أنه - تعالى - قال : مَتَى غَلَب على ظَنِّك أن حكم الصُّورَة المَسْكُوت عنها ، مثل حُكُم الصُّورَة المَنصُوص عَلَيْها ، بسبب أمرٍ جامعٍ [ فاعْلم : أنَّه تكليفي في حَقِّك أن تَعْمَل ] بِمُوجِبِ ذلكِ الظَّنِّ ، وإذا كان كَذَلِك ، كان العَمَل بالقِيَاسِ عَمَلاً بالنَّصِّ .
قوله : « للخائنين » متعلِّق ب « خَصِيماً » واللامُ : للتَّعْلِيل ، على بَابِها ، وقيل : هي بِمَعْنى : « عن » ، ولَيْسَ بشيء؛ لصِحَّة المَعْنَى بدون ذَلِك ، ومفعولُ « خصيماً » : محذوفٌ ، تقدِيرُه : « خَصِيماً البُرَآء » ، وخَصِيمٌ : يجو أن يَكُون مِثَال مبالغةٍ ، كضريبٍ ، وأن يكون بمعنى : مُفاعل ، نحو : خَلِيط وجَلِيس بمعنى : مُخاصِم ومُخالِط ومُجالِس .
قال الوَاحِدِي : خَصْمُك الذي يُخَاصِمُك ، وجمعه : الخُصَمَاء ، وأصْلُه من الخصْم : وهُو ناحية الشَّيْءِ ، والخصْم : طَرْف الزَّاوِيَة ، وطَرَف الأشْفَار ، وقيل للخَصْمَين : خَصْمَان؛ لأنَّ كل واحدٍ منهما في نَاحِيَةٍ من الحُجَّة والدَّعْوى ، وخُصُوم السَّحَابة : جَوَانِبها .
فصل : في سبب نزول الآية
روى الكلبي ، عن أبي صَالح ، عن ابن عبَّاسٍ ، قال : نزلت هذه الآية في رَجُل من الأنْصَار ، يقال له : طعمة بن أبَيْرِق من بني ظَفر بن الحارث ، سرقَ دِرْعاً من جَارٍ له يُقَال له : قتادة بن النُّعْمَان ، وكانت الدِّرْع في جراب له فيه دَقِيقٌ ، فجعل الدَّقِيق يَنْتَثِر من خِرْق في الجِرَاب ، حتى انْتَهَى إلى الدَّار ، ثم خَبَّأها عند رَجُلٍ من اليَهُود ، يُقال له : زَيْد ابن السَّمِين ، فالتُمِسَتِ الدِّرْع عند طعمة ، فحَلَف بالله ما أخَذَها وما لَهُ بها من علم ، فقال أصْحَابُ الدِّرْع : لقد رَأينا أثر الدقيق حتى دخل دَارَه ، فلما حَلَف ، تركوه واتَّبَعُوا أثر الدقيق إلى مَنَزِل اليَهُودِيِّ؛ فأخذوه منه ، فقال اليَهُودِيُّ : دفعها إليّ طعمة بن أبَيْرِق ، فجاء بنو ظفر وهم قوم طُعْمَة إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألُوه أن يُجادل عن صَاحِبِهم ، وقالوا له : إنك إن لم تَفْعَل ، افْتَضَحَ صَاحِبُنا ، فهمَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعاقِب اليَهُودِي .
ويروى عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عَنْهُما في رواية أخْرى : أن طعمة سَرَق الدِّرْع في جِرَابٍ فيه نخالة ، فخرق الجِرَاب حَتَّى كان يَتَنَاثر منه النُّخَالة طُول الطَّرِيق ، فجاء به إلى دَارِ زيْد السَّمِين وتركه على بابه ، وحَمَل الدِّرْع إلى بَيْتِه ، فلما أصْبَح صاحِبُ الدِّرْع ، جاء على أثَر النُّخَالة إلى دار زَيْدٍ السَّمين ، فأخذه وحمله إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، فهم النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يَقْطع يد زَيْد اليَهُودي .

وقال مقاتل : إن زيداً السَّمين أوْدَع درعاً عند طعمة فَجَحَدَها طعمة ، فأنْزَل الله تعالى قوله : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق } بالأمْر ، والنَّهْي ، والفَصْل ، { لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله } : بما علّمَكَ الله وأوْحَى إليْك ، { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ } : طعمة ، « خصيماً » : مُعيناً مُدَافِعاً عنه .
وهذه القِصَّة تَدُلُّ على أن طعمة وقوْمَه كانوا مُنَافِقِين؛ لأنهم طلبوا البَاطِل ، ويؤكِّدُه قوله - تعالى - : { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } [ النساء : 113 ] . ثم رُوي : أن طعمة هَرَب إلى مَكَّة وارتَدَّ ، وثَقَب حَائِطَاً؛ ليَسْرِق ، فسقط الحَائِط عَلَيْه فمات .
فصل
قال الطَّاعِنُون في عِصْمة الأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام - : دلَّت هذه الآيةُ على صُدُور الذَّنْب من الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - فإنَّه لَوْلاَ أن الرسُول - [ عليه الصلاة والسلام ] أراد أن يُخَاصِم لأجْل الخَائِن ويذب عنه ، وإلاّ لما وَرَدَ النَّهْي عَنْه .
والجوابُ : أنه لمَّا ثَبَتَ في الرِّواية : أنَّ قوم طعمة لما التمسُوا من الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - أن يَذُبَّ عن طعمة ، وأنْ يُلْحِق السَّرقة باليَهُودِيِّ توقف وانتظر الوَحْي ، فنزلت الآيَة ، وكان الغَرَضُ من هذا النَّهْي : تَنْبيه النبيّ - عليه الصلاة والسلام - على أنَّ طعمة كَذَّابٌ ، وأن اليَهُودِيَّ بريءٌ من ذَلِك الجُرْمِ .
فإن قيل : الدَّليل على أنَّ الجُرْم قد وَقَعَ من النَّبِي - عليه الصلاة والسلام - قوله بعد ذلك : { واستغفر الله إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } والأمر بالاسْتِغْفَار ، يدل على صُدُور الذَّنْبِ .
فالجواب : من وجوه :
الأوَّل : لعله مَالَ طَبْعُهُ ، إلى نُصْرة طعمة؛ بِسَبَبِ أنه كَانَ في الظَّاهِر من المُسْلِمِين؛ فأمر بالاسْتِغْفَار لهذا القَدْر ، وحَسَنَاتُ الأبْرَار سَيِّئَات المُقَرَّبين .
الثَّاني : أن القَوْم لما شَهِدُوا بِبَراءة طعمة ، وعلى اليَهُودِيِّ بالسَّرِقَة ، ولم يَظْهَر للرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ما يُوجِب القَدْح في شَهَادَتِهم ، هَمَّ بأن يَقْضِي بالسَّرِقة عَلَى اليهودي ، ثمَّ لما أطْلَعَهُ اللَّه على كَذِب أولَئكَ الشُّهُود ، عَرَف أنَّ ذلك القَضَاء لو وَقَعَ ، لكان خَطَأ في نَفْسِه ، وإن كَانَ مَعْذُوراً عند اللَّه [ - تعالى - ] [ فيه ] .
الثالث : قوله : « واستغفر الله » يُحْتَمل أن يكُون المُرادُ : واستغفر الله لأولئك الَّذين يَذُبُّون عن طعمة ، ويُرِيدون أن يُظْهِرُوا بَرَاءَته .
الرابع : قيل : الاسْتِغْفَار في حَقِّ الأنْبِياء بعد النُّبُوَّة على أحَدِ الوُجُوه الثَّلاثة : إما لِذَنْب تَقَدَّم قبل النُّبُوَّة ، أو لِذُنُوب أمَّته وقَرَابتِه ، أو لِمُبَاح جاء الشَّرْع بتحريمِهِ ، فيتركه بالاسْتِغْفَار ، والاسْتَغْفَار يَكُون مَعْناه : السَّمع والطَّاعة لحُكْمِ الشَّرْع .
ثم قال : { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } أي : يَظْلمون أنفُسَهُم بالخِيَانَة والسَّرقة وقِبَلها .

أمر بالاسْتِغْفَار على طَرِيق التَّسْبِيحِ؛ كالرجل يَقُول : أسْتَغْفِر اللَّه ، على وجْه التَّسْبِيح من غَيْر أن يَقْصِد تَوْبةً من ذَنْبٍ .
وقيل : الخِطَاب للنَّبِي صلى الله عليه وسلم ، والمراد : ابن أبَيْرقِ؛ كقوله : { ياا أَيُّهَا النبي اتق الله } [ الأحزاب : 1 ] [ وقوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ } [ يونس : 94 ] والمراد بالذين يختانون طعمة ومن عاوَنَهُ من قَوْمِه ، والاخْتِيَان : كالخِيَانَةِ؛ يقال : خَانَهُ واخْتَانَهُ ، وقد تقدَّم عِنْد قوْله : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 187 ] ، [ وإنما قال لطعمة وللذَّابِّين عنه : إنهم يختَانُون أنفُسَهُم ] ؛ لأن مَنْ قدم على المَعْصِيَة ، فقد حَرَمَ نفسه الثَّوَابَ ، وأوصَلَهَا إلى العِقَاب ، فكان ذلك مِنْهُ خِيَانة لِنَفْسِهِ؛ ولِهَذا المَعْنَى ، قيل لِمَن ظَلَم غيره : إنَّه ظلم نَفْسَه ، وفي الآيَة تهديدٌ شَدِيدٌ على إعانَة الظَّالِم؛ لأن الله - تعالى - عاتب النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم على همِّه بإعَانَة طعمة ، مع أنَّه لم يَكُن عَالِماً بظُلْمِهِ ، فكيف حَالُ من يَعْلم ظلم الظَّالِم ، ويعينُه عَلَيْه .
ثم قال : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ } أي : لا يَرْضى عن { مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } يريد : خَوَّاناً في الدِّرْع ، أثيماً في رَمْيه اليَهُوديَّ .
وقيل : إنَّه خطابٌ مع النَّبِي صلى الله عليه وسلم والمراد به : غيره؛ كقوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } [ يونس : 94 ] .
فإن قيل : قوله - تعالى - : { مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } صيغة مُبالَغَة تَدُلُّ على تَكْرَار ذَلِكَ [ الفِعْل مع أن الصَّادِر عَنْه خِيَانة وَاحِدَة ، وإثمٌ واحدٌ .
فالجواب : أنَّ الله - تعالى - عَلِم أنه ] كَانَ في طَبْعَ ذَلِكَ الرَّجُل الخيانة الكَثِيرة والإثْمِ الكَبِير ، فذكر اللَّفظ الدَّالَّ على المُبَالَغَة؛ بسبَبِ ما كان في طَبْعِهِ من المَيْل إلى ذَلِكَ ، ويدُلُّ عليه : ما ذَكر [ أنَّه ] بعد هذه الوَاقِعَة هَرَبَ إلى مَكَّة ، وارتدّ ونَقَبَ حائِط إنْسَان ، لأجْلِ السرقة ، فسقط الحَائِطُ عليْه ومات ، ومن كانت خَاتِمَتُه كَذَلِك ، لم يُشَكّ في حَالِه ، وأيضاً : فإنَّه طَلَبَ من النبي - عليه الصلاة والسلام - أنْ يرفَعَ السَّرِقَةَ عَنْه ، ويُلْحِقَها باليَهُودِيِّ ، وهذا يُبْطِل رِسَالة الرَّسُول ، ومن حَاوَل إبْطَال رسَالة الرَّسُول وأراد كذبَهُ ، فقد كَفَر؛ فلهذا المَعْنَى وَصَفَهُ اللَّه [ - تعالى - ] بالمُبَالَغَة في الخِيَانة والإثْمِ .
وقد قيل : إذا عَثْرت من رَجُلٍ على سَيِّئَةٍ ، فاعلم أنَّ لها أخَوَاتٍ .
وعن عُمَر - رضي الله عنه - : أنَّه أخذ يَقْطَع يَدَ سَارِق ، فجاءَتُهُ أمُّه تَبْكِي وتقُول هذه أوّل سَرِقة سرقها فاعْفُ عنه ، فقال : كَذَبْت إنّ الله لا يؤاخِذُ عَبْدَه في أوّل الأمْر .

يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)

« يَسْتَخفُون » : وجهان : أظهرُهُمَا : أنها مَستأنفة لمجرد الإخْبَار بأنهم يَطْلُبون التستُّر من الله - تعالى - بجهلهم .
والثاني : أنها في مَحَلِّ نَصبٍ صفة ل « مَنْ » في قوله : { لا يحبُّ مَنْ كان خَواناً } [ النساء : 107 ] وجُمِع الضَّمِير اعتباراً بمعناها إن جعلت « مَنْ » نكرةً موصوفة ، أو في مَحَلِّ نصب على الحَالِ مِنْ « مَنْ » إن جَعَلْتَها مَوصُولة ، وجُمِعَ الضميرُ باعتبار مَعْنَاها أيضاً .
والاستخفاء الاستتار ، يقال استَخْفَيْت من فُلان : أي : توارَيْتُ منه واسْتَتْرتُ؛ قال الله - تعالى - : { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل } [ الرعد : 10 ] أي : مُسْتَتر ، ومعنى الآيَة : يَسْتَتِرُون من النَّاسِ ، ولا يَسْتَتِرُونَ من اللَّه .
قال ابن عبَّاسٍ يَسْتَحْيُون من النَّاس ، ولا يَسْتَحيون من اللَّه . قال الواحِدِي : هذا مَعْنًى وليس بِتَفْسير؛ وذلك أنَّ الاستحْيَاء من النَّاس هو نفس الاسْتِخْفَاء ، فَلَيْس الأمْر كذلك . قوله : « وَهُو مَعَهُم » جملة حالية إمَّا من اللَّه - تعالى - ، أو من المُسْتَخْفِينَ ، وقوله : « معهم » أي : بالعِلْم ، والقُدْرَة ، والرُؤيَة ، وكَفَى هذا زاجراً للإنْسَان ، و « إذْ » منصوبٌ [ بالعامل - في ] الظَّرْفِ - الوَاقِعِ خبراً ، وهو « مَعَهُم » ومعنى : يُبَيِّتُون : يَتَقَوَّلون ، ويُؤلِّفُون ، ويضمرون في أذْهَانِهِم ، والتبييتُ : تدبير الفِعْل لَيْلاً ، والذي لا يَرْضَاه اللَّه من القَوْل؛ هو أنَّ طعمة قال : أرمي اليَهُودي بأنَّه هو الَّذِي سرق الدِّرْع ، وأحْلِفُ أنِّي لمْ أسْرِقْها ، ويَقْبَل الرَّسُول يميني؛ [ لأني ] على دِينهِ ، ولا يَقْبَل يَمين اليَهُودِي .
فإن قيل : لِمَ سَمَّى التَّبْييت قولاً ، وهو مَعْنى في النَّفْسِ؟ .
فالجواب : أن الكلام الحَقِيقي هو المَعْنَى القَائِم بالنَّفْسِ ، وعلى هذا فلا إشْكَال ، ومن أنْكَر كلام النَّفْس ، قال : إن طعمة وأصْحَابه أجْمَعُوا في اللَّيْل ، ورَتَّبُوا كيْفِيَّة الحِيلة والمَكْر؛ فسمَّى الله - تعالى - كلامَهُم ذلك بالقَوْل المُبَيَّت الذي لا يَرْضَاه ، ثم قال : { وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } والمُراد به : الوَعِيد؛ لأنهم وإن كانُوا يُخْفُون كَيْفيَّة المكر والخداع عن النَّاس ، فإنها ظَاهِرَة في عِلْم اللَّه؛ لأنَّه - تعالى - مُحِيطٌ بجميع المَعْلُومات لا يَخْفَى عليه منها شيء .

هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)

« هَا » للتَّنْبِيه في « أنْتُم » ، و « هؤلاءِ » : مُبْتَدأ وخَبَر « جَادَلْتُم » جُمْلَة مبينة لِوُقُوع « أولاء » خبراً؛ كما تَقُول لِبْعضِ الأسْخِيَاءِ : أنْتَ حَاتِمٌ تجود بِمَالِك ، وتُؤثِر على نَفْسك ، ويجُوز أن يكون « أولاء » اسماً مَوْصُولاً ، بمعنى : الَّذِين ، و « جادلْتُم » صلة وتقدَّم الكَلاَم على نَحْو { هَا أنْتُم هؤلاءِ } ، والجِدَال في اللُّغَة [ عبارة ] عَنْ شِدَّة المخَاصَمَةِ من الجَدَل وهو شدة الفتل ، وجَدْل الحَبْل : شدَّة فتله ، ورَجُل مَجْدُول كأنه فُتل ، والأجْدَل : الصَّقر؛ لأنَّه [ من ] أشَدِّ الطُّيُور قُوَّة؛ هذا قَوْل الزَّجَّاج ، والمَعْنَى : أن كل وَاحِدٍ [ من الخَصْمَيْن ] يريد فَتْل خَصْمه عن مَذْهَبه ، وصَرْفَه عن رَأيه بِطَريق الحجاج ، وقيل : الجِدَال من الجِدَالةِ ، وهذا خِطَاب مع قَوْم من المُؤمنين ، كانوا يذبُّون عن طعمة وَعن قوْمِهِ : بسبب أنهم كَانُوا في الظَّاهِرِ مسلِمين ، والمعنى : هَبُوا أنَّكم خَاصَمتُم عن طعمة وقَوْمِهِ في الدُّنْيَا ، فمن يُخَاصِم عَنْهم في الآخِرة إذَا أخَذَهم اللَّه بِعَذَابِه .
وقرأ أبيُّ بن كَعْب ، وعَبْد الله بن مَسْعُود : « وجَادَلْتُم عَنْه » يعني : طعمة .
وقوله : { فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة } : استفهام تَوْبيخٍ وتَقْريعٍ ، و « من » استِفْهَامِيَّة في محلِّ رفع بالابتداء ، و « يُجَادِلُ » : خبره ، وقوله : { أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } أم : مُنقَطِعَة وليست بعاطِفَةِ ، وظاهر عِبَارَة مَكِّي : أنها عاطفة ، فإنَّه قال : و « أمَّنْ يكُونُ » مثلها [ عطف عليها ، أي : مثل « مَنْ » في قوله : « فَمَنْ يُجَادِلُ » وهو في محَلِّ نظرٍ؛ لأن في المنقطعة خِلافاً ، هل تُسمَّى عاطِفَة أم لا ] ، والوكيل الكفيل الذي وُكِّلَ إليه الأمْرُ في الحفظ والحماية و « على » هنا بمعنى اللام والمعنى : أمَّنْ يكون لهم وكيلاً ، أي من النبي يذب عنهم ، ويتولّى أمرهم ، ويحميهم من عَذَاب الله يوم القيامة .

وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)

لما ذكر الوعيد أتبعه بالدعوة إلى التوبة فقال : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا } يعني : السَّرِقَة ، { أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } بِرَمْيه البَرِيء ، وقيل : السُّوء : الشِّرْكُ ، وظلم النَّفْسِ : ما دون الشِّرْكِ ، وقيل : المراد بالسُّوء : ما يَتَعَدَّى إلى الغَيْر ، وظلم النَّفْس : ما يَخْتَصُّ به الإنْسَان؛ كالحَلْف الكَاذِب ، وإنما خَصَّ ما يتعدى إلى الغَيْر باسم السُّوء؛ لأنَّ ذلك يكون في الأكْثَر إيصَالاً للضَّرَر إلى الغَيْر ، والضَّرَرُ سوءٌ حَاضِرٌ .
فأمَّا الذَّنْبُ الذي يَخُصُّ الإنْسَان : فذلك لا يَكُون في الأكثر ضَرَراً حَاضِراً .
وقوله : { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله } أي : يَتُبْ إلى الله ويَستغفرهُ { يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً } وهذه الآيَة دَلَّت على أنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ عن جميع الذُّنُوبِ سواءً كانت كُفْراً ، أو قَتْلاً عَمْداً ، أو غَصْباً للأمْوَال؛ لأن السُّوء [ و ] ظلم النَّفْسِ يَعُمُّ الكلُّ ، وظاهر الآية يَقْتَضِي أنَّ مجرد الاسْتِغْفَار كَافٍ .
وقال بعضهم : إنَّه مقيَّد بالتَّوْبَة؛ لأنَّه لا يَنْفَع الاسْتِغْفَارُ مع الإصرار .
وقوله : { غَفُوراً رَّحِيماً } معناه : غفوراً رحيماً له ، وحُذِفَ هذا القَيْد؛ لدلالة الكَلاَم عَلَيْه .
قال الضَّحَّاك : نَزَلَت هذه الآية في وَحْشي قاتلِ حمْزة ، أشْرك باللَّه ، وقتل حَمْزَة ، ثم جاء إلى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني لَنَادِمٌ ، فهل لي من تَوْبَةٍ؟ . فنزلت هذه الآية .
وروى سُفْيَانُ عن ابن مَسْعُودٍ ، قال : من قرأ هَاتَيْن الآيَتين من سُورة النِّسَاء ، ثم اسْتَغْفَرَ ، غُفِرَ له وقرأ : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] الآية ، { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله } [ النساء : 64 ] الآية .
وعن عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قال : حدَّثَنِي أبُو بكر ، وصدق أبُو بكر قال : ما من عَبْدٍ يُذْنِب ذَنْباً ، ثم يَتَوَضَّأُ ، ويُصَلِّي رَكْعَتَيْن ، ويستغفر الله ، إلا غَفَرَ له ، ثم تَلاَ هذه الآيَة [ { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه } الآية قال ابن عَطيَّة : قوله : « يَجِدِ اللَّه » أي : يجد عِنْدَه المَغْفِرة والرَّحْمَة ، فجعل المَغْفِرَة كالمورد يرده التَّائِب ] المُستْغَفِر .

وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)

والكَسْبَ عِبَارة عمَّا يفيد جرَّ مَنْفَعَةٍ ، أوْ دَفع مَضَرَّة ، ولِذلك لَم يَجُزْ وَصْف البَارِي - تعالى - بذلك ، وقِيلَ : المُرَاد بالإثْم : يعني يَمِين طعمة بالبَاطِل ، أي : ما سَرَقْتَه ، إنَّما سرقه اليَهُودِيُّ ، { فإنَّما يكسبُه على نَفْسِهِ } فإنَّما يضرُّ به نَفْسَه ، { وَكَانَ الله عَلِيماً } بما في قَلْب التَّائِب عند إقْدَامه على التَّوبة [ « حكيماً » ] تقتضي حكْمَتهُ ورَحْمَتُهُ أن يَتَجَاوَزَ عن التَّائِب ، والمَقْصُود منه : تَرْغِيبُ العَاصِي في الاسْتِغْفَار ، وألا يَيْأس من قبول التَّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ .

وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)

قيل : المراد بالخَطِيئَةِ : سَرِقَةُ الدِّرْع ، وبالإثْمِ : يَمينه الكَاذِبَة .
وقيل : الخَطِيئَةُ : الصَّغيرة ، والإثْم : الكَبِيرة .
وقيل : الخَطِيئَة : ما لا يَنْبَغِي فِعْلُه سواءً كان بالعَمْد أو بالخَطَأ ، والإثْم : ما يَحْصُل بسبب العَمْد؛ لقوله في الَّتِي قَبْلَها : { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ } [ النساء : 111 ] فبيَّن أن الإثْم ما يَسْتَحِقُّ به العُقُوبَة .
وقيل : هُما بمَعْنَى وَاحِد ، كرر لاخْتِلاَف اللَّفْظ تَأكِيداً .
وقال الطَّبَرِيّ : الخَطِيئَة تكون عن عَمْد ، وعَنْ غَيْر عمد ، والإثْم لا يكون إلا عن عَمْد ، وقيل : الخَطِيئَة مَا لَمْ يُتَعَمَّد خاصَّة؛ كالقَتْل الخَطَأ .
قوله : { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ } : في هذه الهَاءِ أقوالٌ :
أحدُها : أنها تعود على « إثماً » لأنه الأقْرب ، والمتعاطفان ب « أو » : يجُوز أن يعودَ الضَّمير على المَعْطُوف كهذه الآية ، وعلى المعطوف عليه؛ كقوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا } [ الجمعة : 11 ] .
والثاني : أنها تعودُ على الكَسْبِ المدْلُول عليه بالفعل ، نحو : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] أي العدل .
الثالث : أنها تعودُ على أحد المذكُورَيْن الدَّالِّ عليه العَطْفُ ب « أو » فإنه في قُوَّة « ثم يَرْمِ بأحَدِ المذكُورَيْن » .
الرابع : أنَّ في الكَلاَم حَذْفاً ، والأصْل : { ومن يكسب خطيئة ثم يرم بها } ؛ وهذا كما قيل في قوله : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا } [ التوبة : 34 ] أي : يَكْنزِون الذَّهب ، ولا ينفقونه .
الخامس : أن يعُود على معنى الخَطِيئة ، فكأنَّه قال : ومن يَكْسِب ذَنْباً ثم يَرْم بِهِ ، وقيل : جَعَل الخَطِيئَة والإثْم كالشَّيْء الوَاحِد ، و « أو » هنا لتَفْصِيل المُبْهَمِ ، وتقدَّم له نَظَائرُ .
وقرأ مُعاذُ بن جَبَل : « يَكسِّبْ » بِكسْر الكاف وتَشْدِيد السِّين ، وأصْلُها : يَكْتَسِبْ ، فأدغمت تَاءُ الافْتعال في السِّين ، وكُسِرت الكافُ إتباعاً ، وهذا شَبيهٌ ب « يَخِطِّف » [ البقرة : 20 ] ، وقد تقدَّم تَوْجِيههُ في البقرة ، وقرأ الزهري : « خَطِيَّة » بالتَّشديدِ ، وهو قياسُ تَخْفِيفها .
وقوله : { يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } أي : يقْذِفُ بما جَنَى « بَريئاً » منه كما نُسِبَتِ السَّرِقَة إلى اليَهُودِي . [ قوله ] : { فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً } البهتان : هو البهْت ، وهو الكَذِب الَّذي يتحيَّر في عِظمهِ؛ لأنَّهُ إذا قيل للإنْسَان ، بُهت وتَحَيَّر .
رَوَى مُسْلِمٌ ، عن أبِي هُرَيْرة ، « قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : تَدْرُون ما الغيبة؟ قالُوا : الله ورسُولُه أعْلَم ، قال : » ذِكْرُكَ أخَاكَ بما يَكْرَهُ « . قيل : أفَرَأيْت إن كَانَ في أخي ما أقول؟ قال : » إن كان فيه ما تَقُول ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ، وإن لم يَكُن فِيهِ ، فقد بَهَتَّهُ « ؛ فرمْيُ البَرِيءِ بَهْتٌ له ، يقال : بَهَتَهُ بَهْتاً وَبُهْتَاناً ، إذا قَالَ عَنْه ما لم يَقُل ، وهو بَهَّاتٌ ، والمَفْعُول له : مَبْهُوتٌ ، ويُقَال : بَهِتَ الرَّجُل بالكَسْر ، إذا دُهشَ وتَحَيَّر ، وبَهُتَ بالضَّمِّ مثله ، وأفْصَحُ منها : بُهِتَ؛ كقوله - تعالى - : { فَبُهِتَ الذي كَفَرَ } [ البقرة : 258 ] لأنَّه يُقَال : رَجُل مَبْهُوتٌ ، ولا يُقَال : باهِت ، ولا بَهِيتٌ؛ قال الكسائي ، و » إثْماً مُبِيناً « أي : ذَنباً بَيِّناً .

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)

قال القُرْطُبِي : ما بَعْد « لَوْلاَ » مرفوعٌ بالابْتِدَاء عند سِيبَويْه ، والخَبَر مَحْذُوف لا يَظْهَر ، والمَعْنَى : ولولا فَضْلُ اللَّه عَليكَ ورَحْمَتُه بأن نبَّهك على الحَقِّ ، وقيل : بالنُّبُوءة والعِصْمَة ، { لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ } عن الحق .
قال شهاب الدين : في جواب « لولا » وجهان :
أظهَرُهُمَا : أنه مَذْكُورٌ ، وهو قوله : « لَهَمَّتْ » .
والثاني : أنه مَحْذُوفٌ ، أي : لأضلُّوك ، ثم اسْتأنَفَ جُمْلة فقال : « لَهَمَّتْ » أي : لقد هَمَّتْ .
قال أبو البقاء في هذا الوَجْه ، ومثلُ حذفِ الجَوابِ هنا حَذْفُه في قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ } [ النور : 10 ] وكأنَّ الذي قَدَّر الجوابَ مَحْذُوفاً ، استشكل كَوْنَ قوله : « لهمتْ » جواباً؛ لأنَّ اللَّفْظ يقتضي انْتِفَاء هَمِّهم بذلك ، والغرضُ : أنَّ الواقع كوْنُهم همُّوا على ما يُرْوَى في القصَّة؛ فلذلك قدَّره مَحْذُوفاً ، والذي جَعَلَه مثبتاً ، أجَابَ عن ذلك بأحَدِ وَجْهَيْن :
إمَّا بتَخْصيص الهَمِّ ، أي : لَهَمَّتْ هَمّاً يؤثِّر عندك .
وإمَّا بتخصيص الإضْلال ، أي : يُضِلُّوك عن دينك وشريعتك ، وكلا هذيْن الهمَّيْن لم يقع .
و « أَن يضلُّوك » على حَذْف الباء ، أي : بأن يُضِلُّوك ، ففي مَحَلِّها الخِلافُ المَشْهُور ، و « مِنْ » في « مِنْ شَيء » زائدةٌ ، و « شَيْء » يراد به المَصْدرُ ، أي : وما يَضُرُّونك ضَرَراً قليلاً ، ولا كثيراً .
فصل
هذا قول للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ لَوْلا أن خَصَّكَ الله بالنُّبُوَّة والرَّحمة ، « لهمت طائفة » : لقد هَمَّتْ طائفة ، أي : أضْمَرَت طَائِفَة منهم ، يعني : قَوْم طعمة ، « أَن يضلوك » أي : يُخَطِّئُوك في الحُكْم ، ويُلْبِسُوا عليك الأمْر؛ حَتَّى تدافع عن طعمة ، { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } يعني : يرجع وَبالُهُ عليهم ، { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } فيه وَجْهَان :
الأوَّل : قال القفَّال - رحمه الله تعالى - وما يضُرُّونك في المُسْتَقْبل ، فوعده - تعالى - بإدَامَة العِصْمَة لما يُرِيدُون من إيقَاعِه في البَاطِل .
الثَّاني : المَعْنَى : أنَّهم وإنْ سَعوْا في إلْقَائك فأنْتَ ما وقَعْتَ في البَاطِل : لأنَّك بنيت الأمر على ظَاهِر الحَال ، وأنت ما أمرت إلا بِبِنَاءِ الأحْكَام على الظَّاهِر .
ثم قال : { وأنزل عليك الكتاب والحكمة } وهذا مؤكد لذلك الوَعْد إن فَسَّرْنا قوله : { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } بالوَعْد والعِصْمَة في المُسْتَقْبل ، يعني : لما أنْزَل عليك الكتاب والحكمة ، وأمر بِتَبْلِيغ الشَّريعة إلى الخَلْقِ ، فكيف يَلِيقُ بحكمته ألاَّ يَعْصِمَك عن الوُقُوع في الشُّبُهَات ، وإن فَسَّرْنا الآية بأنَّه - عليه الصلاة والسلام - كان مَعْذُوراً في بناء الحُكْم على الظَّاهر ، كان المَعْنَى : وأنزل عليك الكتاب والحكمة ، وأوْجَبَ فيها بِنَاء أحكام [ الشَّرْع ] على الظَّاهر ، فكيف يَضُرُّك بناء الأمْر على الظَّاهِر .
قال القُرْطُبِي : قوله [ تعالى ] : { وأنزل عليك الكتاب والحكمة } ابْتِداء كلام .

وقيل : « الواو » للحال؛ كقوله « جئتك والشمس طالعة » ، والكلام مُتَّصِلٌ ، أي : [ ما يَضُرُّونك من شَيْء مع إنْزَال اللَّه عليك ] القُرْآن ، « والحِكْمَة » : القَضَاء بالوَحْي .
ثم قال : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } .
قال القَفَّال : هذه الآيَة تَحْتَمِلُ وَجْهَيْن :
أحدهما : أن يكُون المُراد [ ما يتعَلَّق ] بالدِّين؛ كما قال : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } [ الشورى : 52 ] فيكون تَقْدِير الآيَة : أنْزَل عليك الكتاب والحِكْمة ، وأطْلَعَك على أسْرَارِهَا ، مع أنَّك قبل ذَلِك لم تكن عَالِمَاً بشيء منهما ، فكَذَلِكَ يفْعَل بك في مُسْتَأنف أيَّامك ، لا يَقْدِر أحدٌ من المُنَافِقِين على إضلالك .
الثاني : أن المُراد : وعَلَّمك ما لم تكُن تَعْلَم من أخْبَار الأولِين؛ فكذلك يُعَلِّمك من حِيَل المُنَافِقِين وَوُجوه كَيْدِهِم ، ما تَقْدِر [ به ] على الاحتراز عن كَيْدهم ومَكْرِهِم .
{ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً } . وهذا يَدُلُّ على أنَّ العِلْم أشْرَف الفَضَائِلِ والمَنَاقِب؛ لأنَّ الله - تعالى - ما أعْطَى الخَلْق من العِلْم إلا القَلِيل؛ لقوله - تعالى - : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] ثم إنَّه سمَّى ذلك القَلِيل عَظِيماً ، وسمَّى جَمِيع الدُّنْيَا قَلِيلاً ، لقوله [ - تعالى - ] : { أقُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ } [ النساء : 77 ] وذلك يَدُلُّ على شَرَف العِلْم .

لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)

قال الوَاحِدِي : النَّجْوى في اللُّغَة سر بين اثْنَيْن ، يُقَال : ناجَيْت الرَّجل مُنَاجَاة ونِجَاء ، ويقال : نجوت الرَّجُل أنْجُو بِمَعْنَى : نَاجَيْتُه ، والنَّجْوى قد تكون مَصْدراً بمنزلة المُنَاجَاةِ ، قال - تعالى - : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] وقد يُطْلَق على الأشْخَاص مَجَازاً ، قال - تعالى - : { وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإسراء : 47 ] ومَعْنَاها : المُسَارّة ، ولا تكون إلا مِن اثْنَيْن فأكثَر .
وقال الزَّجَّاج : [ النَّجْوى ] ما تفرَّد به الاثْنَان فأكْثر ، سِرًّا كان أو ظَاهِراً .
وقيل : النَّجْوى جمع نَجِيّ؛ نقله الكَرْمَاني ، والنَّجْوى مشتقَّةٌ من نَجَوْتُ الشيء ، أنْجُوه ، إذا خَلَّصْتَه وأفْرَدْتَه ، والنَّجْوة المُرْتَفِعُ من الأرْضِ؛ لانْفِرَاده بارتفاعه عمَّا حَوْله .
فصل فيمن المقصود بالآية؟
والمراد بالآية : قَوْم طعمة .
وقال مُجَاهد : الآية عَامَّة في حَقِّ جميع النَّاسِ ، والنَّجْوى : هي الإسْرَار في التَّدْبِير .
وقيل : النَّجْوى : ما يَنْفَرِدُ بِتَدْبِيرِه قَوْمٌ ، سِرّاً كان أوْ عَلاَنِيَة ، ومَعْنَى الآيَة : لا خَيْر في كَثِيرٍ مما يُدَبِّرُونه بَيْنَهُم ، إلاَّ من أمَرَ بِصَدَقَة ، أوْ معروفٍ ، أو إصلاحٍ بين النَّاسِ فالاستِثْنَاء يكون مُتَّصِلاً ، وقيل : هو استِثْنَاء مُنْقَطِع بمعنى : لكن من أمر بِصَدقَةٍ ، وهذان القَوْلان مبنيّان على أن النَّجْوى يجوز أن يراد بها : المَصْدرُ كالدَّعْوى؛ فتكون بِمعنَى : التناجي ، وأنْ يُرادَ بها : القَوْمُ المتناجُون إطلاقاً للمَصْدرِ على الوَاقِع منه مجازاً ، نحو : « رجلٌ عَدْلٌ وصَوْمٌ » . فعلى الأول يكون مُنْقَطِعاً؛ لأنَّ مَنْ أمَر لَيْس تَنَاجِياً؛ فكأنه قيل : لكنْ مَنْ أمَر بصدَقةٍ ، ففي نَجْوَاه الخيرُ ، والكوفِيُّون يقدِّرون المُنْقَطع ب « بل » ، وجعل بعضهم الاستِثْنَاء متَّصِلاً ، وإنْ أُريد بالنَّجْوى : المصدرُ ، وذلك على حَذْفِ مُضَافٍ؛ كأنه قيل : إلا نَجْوَى مَنْ أمر وعلى هذا يَجُوز في مَحَلٍّ « مِنْ » وجهان :
أحدهما : الخَفْضُ بدل من « نَجْوَاهُم » ؛ كما تقول : « ما مَرَرْتُ بأحد إلا زَيْدٌ » .
والثاني : النَّصْب على الاستِثْناء [ كما تقول : « مَا جَاءني أحَدٌ إلا زَيْدٌ ، على الاستثناء؛ ] لأنَّ هذا استِثْنَاء الجِنْس من الجِنْس وإن جعلنا النَّجْوى بِمَعنى : المُتناجين ، كان مُتَّصِلاً ، وقد عَرَفْتَ مِمَّا تقدَّم أن المنقطع مَنْصُوبٌ أبداً في لغة الحِجاز ، وأنَّ بَنِي تَمِيم يُجرونه مُجْرى المُتَّصِل ، بشرط توجُّه العَامِل عليه ، وأنَّ الكَلاَمَ إذا كان نفياً أو شبهه ، جاز في المُسْتَثْنَى الإتباعُ بدلاً ، وهو المختار ، والنَّصْبُ على أصْل الاستِثْنَاء ، فقوله » إلا مَنْ أمَر « : إما مَنصُوبٌ على الاستِثْنَاء المُنْقَطِع ، إنْ جَعَلْتَه مُنْقطعاً في لغة الحِجَاز ، أو على أصْلِ الاستِثْنَاء إن جعلته مُتَّصلاً ، وإمَّا مَجْرورٌ على البَدَلِ من » كثير « ، أو من » نجواهم « ، أو صِفَةٌ لحدهما؛ كما تقُول : » لا تَمُرُّ بجماعة من القَوْم إلا زيد « إنْ [ شئت ] جَعلْتَ زَيْداً تَابِعاً للجماعةِ أو للقوم ، ولم يجعله الزَّمَخْشَرِي تَابِعاً إلا » لِكَثير « قال : إلا نَجْوَى مَنْ أمَر ، على أنَّه مَجْرورٌ بَدَلٌ من » كَثِيرٍ « ؛ كما تقُولُ : » لا خير في قِيامهم إلا قيام زيدٍ « وفي التَّنْظِير بالمثال نظرٌ لا تَخْفَى مباينته للآية ، هذا كُلُّه إن جعلنا الاستِثْناء مُتصِلاً بالتَّأويلين المَذْكُورين ، أو مُنْقَطِعاً على لغة تميم ، وتلخَّص فيه سِتَّة أوْجُه : النَّصبُ على الانقطاع في لغة الحجاز ، أو على أصْلِ الاستثناءِ ، والجرُّ على البَدَل من » كَثِير « ، أو من » نَجْوَاهُم « ، أو على الصِّفَةِ لأحدهما .

و « مِنْ نَجْوَاهُمْ » متعلقٌ بمحذُوفٍ؛ لأنه صِفَةٌ ل « كثير » في مَحَلِّ جَر .
فصل
إنَّما ذكر - تعالى - هذه الأقْسَام الثَّلاثة؛ لأن عَمَل الخَيْر ، إمَّا أن يكُون بإيصَال المَنْفَعَةِ ، أو بدفع المَضَرَّة ، وإيصال الخَيْر :
إمَّا أن يكُون من الخَيْرَات الجسْمَانِيَّة ، وهو إعْطاء المَالِ ، وإليه الإشارة بقوله : « إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ » .
وإمَّا أن يكُون من الخَيْرَات الرُّوْحَانية ، وإليه الإشارة بقوله : « أَوْ مَعْرُوفٍ » .
وإمَّا إزالة الضَّرَرِ وإليه الإشارة بقوله : { أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس } .
قوله « بَيْن » يجُوز أن يكون مَنْصُوباً بِنَفْس إصْلاح ، تقول : أصْلَحْت بَيْن القَوْم ، قال - تعالى - : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [ الحجرات : 10 ] ، وأن يتعلَّق بِمَحْذُوف على أنَّه صِفَة لإصلاح .
[ و ] قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } أي : هذه الأشْيَاء ، { ابتغآء مَرْضَاتِ الله } أي : طَلَب رِضَاه ، و « ابْتِغَاء » مَفْعُول من أجْله ، وألِفُ « مَرْضَاتِ » عن وَاوٍ ، وقد تقدَّم تَحْقِيقُه .
فإن قِيلَ : كَيْف قال : { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ } ثم قال : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } .
فالجواب : أنَّه ذكر الأمْرَ بالخير ، ليَدُل به على فَاعِلِه؛ لأنَّ الآمِرَ بالخَيْر لما دَخَل في زُمْرَة الخَيِّرين ، فبأن يَدْخل فَاعِل الخَيْر فيهم أوْلى ، ويجوز أن يُرَاد : ومن يأمُر بذلك ، فعبر عن الأمْر بالفعل؛ لأنَّ الأمْر أيضاً فِعْل من الأفعال .
ثم قال : « فسوف يُؤتيه » بالياء نظراً إلى الاسْمِ الظَّاهر في قوله : « مَرْضَات الله » ، وقرئ بالنُّون؛ نظراً لِقَوله بعدُ : « نُولِّه ، ونُصْلِه » وهو أوقعُ للتَّعْظِيم .

وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)

تقدّم في آل عمران أن المُضَارعَ المَجْزُوم ، والأمْرَ من نحو : « لم يَرْدُدْ » و « رَدَّ » يجُوزُ فيه الإدغامُ وتركُه ، على تَفْصيلٍ في ذلك وما فيه من اللُّغَات وتقدم الكلام في المَشَاقَّةِ والشِّقَاقِ في البقرة ، وكذلك حُكمُ الهَاء في قوله : « نُؤته » و « نُصْلِه » .
وهذه الآيَة [ نَزَلَتْ ] في طعمة بن أبَيْرِق ، وذلك أنَّه لمَّا ظهرت عليه السَّرِقَةُ ، خاف على نَفْسِهِ من قَطْع اليد والفضيحة ، فهربَ مرتَدّاً إلى مَكَّة .
فقال - تعالى - : { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول } أي : يُخَالِفُه ، { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى } : من التَّوحيد والحُدُودِ ، { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } أي : غير طَرِيق المُؤمِنِين ، { [ نُوَلِّهِ ] مَا تولى } أي : نَكِلُه [ فِي الآخِرَة ] إلى مَا تولَّى في الدُّنيا { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } فانْتَصب مَصِيراً على التَّمْيِيز؛ كقولهم : « فُلانٌ طَابَ نَفْساً » .
رُوِيَ أن طعمة نَزَل على رَجُل من بني سليم من أهْل مكَّة ، يُقال له : الحجَّاج بْن علاط ، فَنَقب [ بَيْتَ الحَجَّاج ، لِيَسْرِقَه ، ] فسقط عليه حَجَرٌ فلم يَسْتَطِع أن يَدْخُل ، ولا أن يَخْرُج ، فأخذ لِيُقْتَل ، فقال بَعْضُهُم : دَعُوه ، فقد لَجَأ إلَيْكُم ، فتركوه ، وأخْرَجُوه من مكة ، فَخَرَج مع تُجَّار من قُضاعة نَحو الشَّام ، فنزلوا مَنْزِلاً ، فَسَرقَ بَعْضَ مَتَاعِهِم وهرب ، فَطَلَبُوه ، وأخَذُوه ورموه بالحِجَارة؛ حتَّى قتلوه ، فَصَار قبره تِلْك الحِجَارة ، وقيل : إنه رَكِبَ سفينةً إلى جدة ، فسرق فيها كِيساً فيه دَنَانِير فأُخِذَ ، وألْقِي في البَحْر ، وقيل : إنه نزل في حَرَّة بني سَليم ، وكان يَعْبُد صَنَماً لهم إلى أنْ مَاتَ ، فأنزل الله - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } أي : ذَهَب عن الطَّرِيق ، وحُرِمَ الخَيْر كُلَّه .
وقال الضَّحَّاك عن ابْن عبَّاسٍ : إنَّ هذه الآيَة نَزَلت في شَيْخٍ من الأعْراب ، جَاءَ إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا نَبِيَّ الله ، إنِّي شيخٌ مُنْهَمِكٌ في الذُّنُوب ، إلاَّ أني لَمْ أشْرِكْ باللَّه شيئاً منذ عَرَفْتُه وآمنت به ، ولمْ أتَّخِذْ من دُونِه ولِيّاً ، ولَمْ أواقع المَعَاصِي جُرْأة على اللَّه ، وما توهَّمْت طَرْفَة عَيْن أنِّي أعجِزُ اللَّه هَرَباً ، وإنِّي لَنَادِمٌ تَائِبٌ ، مستغفرٌ ، فما حالي؟ فأنزل اللَّه هذه الآية .
فصل في استدلال الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على حجية الاجماع
رُوِيَ أن الشَّافِعِي - رضي الله عنه - سُئِلَ عن آيَة في كِتَاب اللَّه - تعالى - تدلُّ على أنَّ الإجْمَاع حجَّة ، فقرأ القُرآن ثلاثمِائَة مرَّة ، حتَّى وَجَد هذه الآيَة ، وتقرير الاسْتِدْلال ، أن اتِّباع غَيْر سَبِيل المُؤمِنين حَرَامٌ [ فوجب أن يكُون اتِّباع سَبِيل المؤمنين وَاجِباً ] بيان المقدِّمة الأولى : أنه - تعالى - ألحق الوَعِيد بمن يُشَاقِقُ الرَّسُول ، ويتَّبع غير سَبِيل المُؤمنين ، ولو لم يَكُن ذلك مُوجِباً ، لكان ذلك ضمّاً لما لا أثَر لَهُ في الوَعِيد إلى مَا هُو مُسْتَقِلٌّ باقْتِضَاء ذَلِك الوَعِيد ، وإنَّه غير جَائز ، وإذا كان اتِّبَاعُ غير سَبيل المُؤمنين حَرَاماً ، لزم أن يَكُون اتِّباع سَبيلِ المؤمنين وَاجباً ، وإذا كان عَدَم اتِّبَاعهم حَرَاماً ، كان اتِّباعُهُم وَاجباً ، لأنَّه لا خُرُوجَ عن طَرفَي النَّقِيضِ .

فإن قيل : لا نُسَلِّم أنَّ عدم اتِّبَاعِ سَبيل المؤمنين ، يصدق عَليْه أنَّه اتِّباعٌ لغير سَبِيل المُؤمِنين ، فإنه [ لا يَمتنِع ألاَّ ] يتَّبع لا سبيل [ المؤمنين ] ولا غير سَبِيل المُؤمنين .
الجوابُ : أنَّ المتابعة عِبَارةٌ عن الإتْيَان بِمثْل ما فعل الغَيْر ، وإذا كَانَ من شَأن غير المُؤمنين ألاَّ يَتَّبِعُوا سبيل المؤمنين ، فكُلُّ من لَمْ يَتَّبع سَبِيل المؤمنين ، فقد أتَى بِمِثْل ما فعل غَيْر المُؤمنين؛ فوجب كَوْنُه مُتَّبِعاً لهم .
ولقائل أن يَقُول : الاتِّبَاع ليس عِبَارة عن الإتْيَان بِمِثْل فِعْل الغَيْر ، وإلا لزم أن يُقَال : الأنْبِيَاءُ والملائِكةُ يتبعون لآحَاد الخَلْق من حَيْثُ إنَّهُم يوحِّدُون اللَّه [ - تعالى - ] لما أن كُلَّ واحد من آحَاد الأمَّة يوحِّد اللَّه - تعالى - ، ومعلوم أنَّ ذلك لا يُقَال ، بل الاتِّباع عِبَارة عن الإتْيَان بمثل فِعْل الغَيْر ، لأجْل أنه فِعْل ذلك الغَيْر ، ومن كان كذلك فمن تركَ مُتابعَة سبيل المؤمنين؛ لأجل أنَّه ما وَجَد على وُجُوب مُتَابَعَتِهم دَلِيلاً ، فلا جَرَم لم يَتَّبِعْهُم ، فهذا شَخْصٌ لا يكون مُتَّبِعاً لغير سَبِيل المُؤمنين .
وقال ابن الخَطِيب : وهذا سُؤال قَوِيٌّ على هذا الدَّلِيل ، وفيه أبْحَاث أخَر دَقِيقَةٌ ذكرناها في كِتَاب المَحْصُول .
فصل
قوله - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } الآية قد تقدَّم بيان سَبَبِ نُزُولها ، والفائِدَةُ في تكرارها؛ أن اللَّه - تعالى - ما أعَاد آيَةً من آيَاتِ الوعيد بِلَفْظِ واحدٍ مرَّتَيْن ، وقد أعَادَ هذه الآيَة بِلَفْظ واحِدٍ ، وهي من آيات الوَعْد ، فدل ذلك على أنَّه - تعالى - خصَّ جَانِبَ الوَعْد والرَّحْمَة بمزيد التَّأكيد .
فإن قيل : لمَ خَتَم تلك الآية بقوله : « فَقَدِ افْتَرَى » وهذه بقوله : « فَقَدْ ضَلَّ » .
فالجوابُ : أنَّ ذلك في غَاية المُنَاسَبة ، فإن الأولى في شأن أهْل الكِتَاب من أنَّهم عِنْدَهم علمٌ بصِحَّة نبوته - عليه الصلاة والسلام - ، وأن شريعته ناسَخَةٌ لجَمِيع الشَّرائعِ ، ومع ذلك فقد كَابَرُوا في ذلك ، فافْترُوا على الله - تعالى - ، وهذه في شأنِ قَوْمٍ مُشْركين غير أهْلِ كِتَابٍ ولا عِلْمٍ ، فناسَب وَصْفُهم بالضَّلال ، وايضاً : فقد تقدَّم ذكر الهُدَى ، وهو ضدُّ الضلال .

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)

« إن » هُنَا مَعْنَاها : النَّفْي؛ كقوله - تعالى - : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } [ النساء : 159 ] « ويَدْعُون » : بمعنى : يَعْبُدُون ، نزلت في أهْل مَكَّة ، أي : يَعْبُدُون ، كقوله [ - تعالى - ] : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني } [ غافر : 60 ] فإنَّ مَنْ عَبَد شَيْئاً ، فإنَّه يدعوه عِنْد احْتِيَاجِهِ إليْه ، وقوله : « مِن دُونِهِ » أي : من دُونِ اللَّه .
قوله : « إلا إناثاً » : في هذه اللَّفْظَةِ تِسْعُ قراءاتٍ .
المشهُورةُ : وهي جَمْع أنْثى ، نحو : رباب جمعُ رُبَّى .
والثانية : وبها قَرَأ الحسن : « أنْثَى » بالإِفْرَاد ، والمرادُ به الجَمْع .
والثالثة : - وبها قَرَأ ابن عبَّاسٍ ، وأبو حَيْوَة ، وعَطَاء ، والحَسَن أيْضاً ، ومعاذ القَارِئ ، وأبو العَالِيَة ، وأبُو نُهَيْك - : « إلا أنُثاً » كرُسُل ، وفيها ثلاثةُ أوجه :
أحدها : - [ وبه ] قال ابن جَرِيرٍ - أنه جمعُ « إناث » ؛ كثِمار وثُمُر ، وإناثٌ جمع أنْثَى ، فهو جَمْع الجَمْع ، وهو شَاذٌّ عند النحويِّين .
والثاني : أنه جَمْع « أنيثٍ » كَقَلِيب وقُلُب ، وغَدِير وغُدُر ، والأنيثُ من الرِّجَال : المُخَنَّثُ الضَّعِيفُ ، ومنه « سَيْف أنِيثٌ ، ومئنَاث ، ومئنَاثَة » أي : غَيْر قَاطِعٍ قال صخر : [ الوافر ]
1877- فَتُخْبِرهُ بأنَّ العَقْلَ عِنْدِي ... جُرَازٌ لا أفَلُّ وَلاَ أنِيثُ
والثَّالث : أنه مُفْرَدٌ أي : يكون من الصِّفات التي جاءت على فُعُل ، نحو : امرأة حُنُثٌ .
والرابعة : وبها قَرَأ سَعْدُ بن أبِي وقَّاصٍ ، وابْن عُمَر ، وأبو الجَوْزَاء - « وثنا » بفتحِ الواوِ والثَّاء على أنَّه مفردٌ يراد به الجَمْع .
والخامسة - وبها قَرَأ سعيد بن المُسَيب ، ومُسْلم بن جُنْدُب ، وابن عبَّاسٍ أيْضاً - « أثُنا » بضم الهمزة والثاء ، وفيها وجهان :
أظهرهما : أنه جَمْع وثَن ، نحو : « أسَد وأُسُد » ثم قَلَب الوَاوَ همزةً؛ لضمِّها ضمّاً لازماً ، والأصْلُ : « وُثُن » ثم أُثُن .
والثاني : أن « وَثَناً » المُفْردَ جمع على « وِثانٍ » نحو : جَمَل وجمال ، وجَبَل وجِبال ، ثم جُمِع « وثان » على « وُثُن » نحو : حِمَار وحُمُر ، ثم قُلبت الواوُ همزةً لما تقدَّم؛ فهو جمعُ الجَمْعِ . وقد رَدَّ ابن عَطِيَّة هذا الوجه بأنَّ فِعَالاً جمعُ كثرة ، وجُمُوعُ الكَثْرة لا تُجْمَع ثانياً ، إنما يُجْمَعُ من الجُمُوعِ ما كان من جُمُوعِ القِلَّة . وفيه مُنَاقَشَةٌ من حَيْثُ إنَّ الجَمْع لا يُجْمَع إلا شَاذّاً ، سواءً كان من جُمُوعِ القِلَّة ، أم من غيرها .
والسادسة - وبها قَرَأ أيُوب السَّختياني - : « وُثُناً » وهي أصْل القراءة التي قبلها .
والسَّابعة والثَّامنة : « أُثْنا ووُثْنا » بسُكُونِ الثَّاء مع الهَمْزة والوَاوِ ، وهي تَخْفِيفُ فُعُل؛ كسُقُف .
والتاسعة - وبها قرأ أبو السوار ، وكذا وُجِدَتْ في مُصْحَفِ عَائِشة - رضي الله عنها - : « إلا أوْثاناً » جَمْعَ « وَثَن » نَحْو : جَمَل وأجْمال ، وجَبَل وأجْبال .

فصل
وسُمِّيَتْ أصْنَامهم إناثاً؛ لأنهم كانوا يُلْبسُونها أنواع الحُلِيِّ ، ويسمونها بأسْمَاءِ المُؤنثات ، نحو : اللاَّت ، والعُزَّى ، ومناةَ ، وقد ردَّ هذا بَعْضُهم بأنَّهم كانوا يُسَمُّون بأسْمَاء الذُّكُور ، نحو : هُبَل ، وذِي الخَلَصَة ، وفيه نظر؛ لأن الغَالِب تَسميتُهُم بأسماء الإناثِ ، و « مُرِيداً » : فَعِيل من « مَرَدَ » أي : تَجرَّد للشَّرِّ ، ومنه « شَجَرَة مَرْداء » أي : تناثر وَرَقُها ، ومنه : الأمْرَدُ؛ لتجرُّدِ وَجْهِه من الشَّعْر ، والصَّرْحُ الممرَّد : الذي لا يَعْلُوه غُبَارٌ من ذَلِك فاللاَّت : تَأنيث اللَّه والعُزَّى : تأنيث العَزِيز .
قال الحَسَن : لَمْ يكن حَيٌّ من أحْيَاء العَرَب إلا وَلَهُم صَنَمٌ يعبُدُونه ، ويسمى أنْثَى بَنِي فُلان ، ويدُلُّ عليه قِرَاءة عَائِشَة .
وقال الضَّحَّاك : كان بعضهم يَعْبُد الملائِكَة ، وكانوا يقُولُون : المَلاَئكة بَنَاتُ اللَّه ، قال - تعالى - : { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الأنثى } [ النجم : 27 ] .
وقال الحسن : قوله « إلاَّ إناثاً » أي : إلا مَوْتاً ، وفي تسمية الأمْوَات إنَاثاً وجهان :
الأوَّل : إن الإخْبَار عن الموات يكُون على صِيغَة الإخْبَارِ عن الأنْثَى ، تقُول : هذه الأحْجَار تُعْجِبُنِي ، كما تقُول : هذه المَرْأة تُعْجِبُني .
الثَّاني : الأنْثَى أخسّ من الذَّكر ، والمَيِّت أخسُّ من الحَيِّ ، فلهذهِ المُنَاسَبة أطْلَقُوا اسمْ الأنْثَى على الجَمَادَات المَوَاتِ ، والمَقْصُود هل إنسان أجهل ممن أشرك .
قوله : { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } فعيلٌ من مَرَدَ إذا عَتَا ، ومنه : شَجَرةٌ مَرْدَاء ، أي : تَنَاثَر وَرَقُها ، ومنه : الأمْرَد؛ لتجرّد وجهه من الشَّعْر ، والصَّرْح الممرَّدُ : الذي لا يَعْلُوه غُبَار ، وقرأ أبو رَجَاء ويُرْوى عن عاصِمٍ « تَدْعُونَ » بالخِطَاب .
فصل
قال المفُسِّرون : كان [ في ] كُلُّ واحدٍ من تِلْك الأوثَان شَيْطَان يَتراءى للسَّدَنَة والكَهَنَة يُكَلِّمْهُم .
وقل الزَّجَّاج : المُرادُ بالشَّيْطَان هَاهُنَا : إبْلِيس؛ لقوله - تعالى - : بعد ذلك : { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } .
وهذا قول إبْلِيس ، ولا يَبْعُد أنّ الذي يتراءى للسَّدنة ، هو إبْلِيس .
قوله : « لَعَنَهُ الله » فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّ الجُمْلَة صِفَةٌ ل « شيطاناً » ، فهي في مَحَلِّ نَصْب .
والثاني : أنها مُسْتأنفةٌ : إمَّا إخْبَار بذلك ، وإمَّا دُعَاء عليه ، وقوله : « وقال » فيه ثلاثة أوجه :
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : قوله لَعَنَهُ « وقال لأتَّخِذَنَّ » صِفَتَان ، يعني : شيطاناً مَرِيداً جَامِعاً بين لَعْنَة اللَّه ، وهذا القَوْل الشَّنِيع .
الثاني : الحالُ على إضْمَار « قد » أيْ : وقد قَالَ .
الثالث : الاستئناف . و « لأتخِذَنَّ » جوابُ قسم مَحْذُوف ، و « مِنْ عبادك » يجوزُ أن يتعلَّق بالفعل قبله ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حَالٌ من « نَصِيباً » ؛ لأنه في الأصْلِ صِفَةُ نكرةٍ قُدِّم عليها .
فصل
النَّصِيب المَفْرُوض : أي : حظاً مَعْلُوماً ، وهم الذين يَتَّبِعُون خُطُواته ، والفَرْضُ في اللغة ، التَّأثِير ، ومنه : فرض القَوْس للجُزْء الذي يُشَدُّ فيه الوَتَر ، والفريضة : ما فَرَضَهُ اللَّه على عِبَادِهِ حَتْماً عليهم .

رُوِي عنه النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : « من كُلِّ ألْفٍ واحدٌ للَّه ، والبَاقِي للشَّيْطَان » .
فإن قيل : العَقْل والنَّقْل يدلاَّن على أنَّ حِزْب اللَّه أقلُّ من حِزْب الشَّيطان .
أما النَّقْل : فقوله - تعالى - : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 249 ] ، وحُكِيَ عن الشيطان قوله { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] ، وقوله : { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ الحجر : 39 ، 40 ] ، ولا شك أن المُخْلَصِين قليلُون .
وأمَّا العَقْل : فهو أنّ الفُسَّاق والكُفَّار كُلَّهم حِزْب إبليس . إذا ثَبَت هذا ، فلفظ النَّصِيب إنَّما يتناول القِسْم الأوّل .
فالجواب : أنَّ هذا التَّفَاوُت إنَّما يَحْصُل في نَوْع من البَشَر ، أمَّا إذا ضَمَمت زُمْرَة الملائِكَة مع غَاية كَثْرَتِهِم إلى المُؤمنين ، كانت الغَلَبَة للمُؤمِنِين .
وأيضاً : فالمُؤمِنُون وإن كانُوا قَلِيلين في العَدَدِ ، إلاَّ أن مَنْصِبَهُم عَظِيم عند الله ، والكُفَّار ، والفُسَّاق وإن كانُوا أكْثَر في العددِ ، فهم كالعَدَم؛ فلهذا وقع اسم النَّصِب على قَوْم إبْلِيس .
قوله : « ولأضِلَّنَّهُم » يَعْنِي : عن الحَقِّ ، أو عن الهُدَى ، وأراد به : التَّزْيين ، وإلا فليْس إليه من الإضْلال شَيْء .
ولأمَنِّيَنَّهم : بالباطل ، ولآمُرَنَّهم : بالضلال ، كذا قدَّره أبو البقاء ، والأحْسَنُ أن يُقَدَّر المحذُوفُ ، من جنس المَلْفُوظِ به ، أي : ولآمُرَنَّهم بالبَتْكِ ، ولآمُرَنَّهم بالتَّغْيير .
وقرأ أبو عمرو فِيما نَقَل عنه ابْن عَطِيَّة : « ولامُرَنَّهم » بغيرِ ألفٍ ، وهو قصرٌ شاذٌّ لا يُقاسُ عليه ، ويجُوز ألاَّ يُقَدَّر شَيءٌ من ذلك؛ لأنَّ القَصْدَ : الإخْبَارُ بوقوعِ هذه الأفْعَال من غيرِ نَظَرٍ إلى مُتعلَّقاتِها ، نحو : { كُلُواْ واشربوا } [ الطور : 19 ] .
فصل
قالت المُعْتَزِلَة : قوله : « ولأضِلَّنَّهُم » يدل على أصْلَيْن عظيمين :
أحدهما : أن المُضِلَّ هو الشَّيْطَان ، وليس المُضِلُّ هو اللَّه - تعالى -؛ لأنَّ الشيطان ادَّعى ذَلِك ، والله - سبحانه وتعالى - ما كذَّبَهُ فيه ، فَهُو كقوله : { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 39 ] وقوله : { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] وقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } [ الأعراف : 16 ] ، وأيضاً : فإنه - تعالى - وَصَفَه بكونه مُضِلاًّ [ للنَّاسِ ] في معرض الذَّمِّ له ، وذلك يَمْنَع من كون الإله مَوْصُوفاً بذلك .
[ الثاني : أن أهْل السُّنَّة يقُولُون : الإضْلال عِبَارة عن خَلْق الكُفْر والضَّلال ، ونَحْنُ نَقُول : لَيْس الإضلال عِبَارة عن خَلْقِ الكُفْرِ والضَّلال ] ؛ لأن إبْلِيس وَصَفَ نَفْسَه بأنه مُضِلٌّ ، مع أنه بالإجْمَاعِ لا يَقْدِر على خلق الضَّلال .
والجواب : أن هذا كلامُ إبليس ، فلا يكون حُجَّةً ، وأيضاً : فكلامه في هذه المسألة مُضْطَرِبٌ جِدّاً . فتارةً يَمِيل إلى القَدَرِ المَحْض ، وهو قوله : « لأغويَنَّهُم » وأخرى إلى الجبْرِ المَحْضِ ، وهو قوله : { رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } [ الحجر : 39 ] يَعْني : أنه قال هؤلاء الكُفَّار : نحن أغْويْنَا ، فمن الذي أغْوَانا عن الدِّين؟ فلا بُدَّ من انْتِهَاء الكلِّ في الآخِرة إلى اللَّه .
قوله : « ولأمَنِّيَنَّهُم » قيل : أمَنِّينَّهُم ركوب الأهْوَاء .
وقيل : أمَنِّيَنَّهُم إدْرَاك الآخِرَة مع ركوب المَعَاصِي .
قوله : { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام } أي : يَقْطَعُونها ، ويَشقُّونها ، وهي البَحِيرة ، والبتكُ : القَطْعُ والشّقُّ ، والبِتْكَة : القطعة من الشيء ، جَمْعُها : بِتَك ، قال : [ البسيط ]

1878- حَتَّى إذَا مَا هَوَتْ كَفُّ الغُلاَمِ لَهَا ... طَارَتْ وَفِي كَفِّهِ مِنْ رِيشِهَا بِتَكُ
ومعنى ذلك : أنَّ الجاهليَّة كانوا يَشُقُّون أذُن النَّاقَة إذا ولدت خَمْسَة أبْطُن ، آخرُها ذَكَر ، وحرَّمُوا على أنْفُسِهِم الانتفاع بها ، وقال آخرون : كانوا يَقْطَعُون آذَان الأنْعَام نُسُكاً في عِبَادَة الأوْثَان ، ويَظُنُّون أنَّ ذلك عِبَادة ، مع أنَّه في نفسه كُفْرٌ وفِسْقٌ .
قوله : { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله } هذه اللاَّمات كلها للقَسَم .
قال ابن عبَّاسٍ : والحَسَن [ ومُجَاهِدٌ ] وسعيد بن جُبَيْر ، وسَعِيد بن المسيَّب والسُّدِّي ، والضَّحاك ، والنَّخْعِيُ : دِينُ الله ، كقوله { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } [ الروم : 30 ] أي : لدين اللَّه ، وفي تَفْسير هذا القَوْل وَجْهَان :
الأول : أن اللَّه - تعالى - فطر الخَلْقَ على الإسْلام يَوْم أخْرَجَهُم من ظَهْر آدَم كالذَّرِّ ، وأشْهَدَهُم على أنْفُسِهم ، ألَسْتُ بِربِّكم؛ قالوا بَلَى ، فمن كَفَر به ، فقد غيَّر فِطْرَة اللَّه تعالى؛ يؤيده قوله - عليه الصلاة والسلام - « كل مَوْلُود يُولَدُ على الفِطْرَة ، فأبواه يُهوِّدَانه ، ويُنَصِّرانه ، ويُمَجِّسانه » .
والثاني : أن التَّغْيير : تَبْدِيل الحَلالِ حَراماً ، والحرام حَلاَلاً .
وقال الحسن ، وعكرمة ، وجماعة من المُفسِّرين : التَّغْيِير : ما روى عبد اللَّه [ بن مَسْعُود ] عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم [ أنَّه ] قال : « لَعَن اللَّه الوَاشِمَاتِ والمُسْتَوشِمَات » .
قالوا : لأنَّ المرأة تَتَوصَّل بهذه الأفعال إلى الزِّنا ، ولَعَن رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم « النامِصَة والمُتَنَمِّصَة ، والوَاصِلَة والمُتَوَصِّلة ، والوَاشِمة والمُتَوَشِّمَة
» . قال القرطبي ، قال مَالِك ، وجماعة : إن الوَصْل بكل شَيء ، من الصُّوفِ والخِرق وغَيْر ذَلِك في مَعْنَى وصله بالشَّعْر ، وأجازه اللَّيْث بن سَعْد ، وأباح بَعْضُهم وَضْع الشَّعْر على الرَّأس من غير وَصْل ، قالوا : لأن النهي إنما جَاءَ في الوَصْل ، والمُتَنمِّصَةُ : هي التي تَقْطَع الشَّعْر من وَجْهِهَا بالنِّمَاص ، وهو الذي يقلع الشَّعْر .
قال ابن العرَبيِّ : وأهلْ مِصر يَنْتفُون شَعْر العانَة ، وهو منه ، فإن السُّنَّة حَلْق العَانَة ، ونَتْفُ الإبط ، فأما نَتْفُ الفَرْج فإنه يُرخيه ويؤذِيه ويُبْطل كَثِيراً من المَنْفَعَةِ فيه .
وأمَّا الوَاشِمَة والمُسْتَوْشِمَة ، فهي الَّتِي تغرز ظَهْر كَفَّها ومِعْصَمَها ، ووجْههَا بإبْرَةٍ ، ثُمَّ يحشى ذلك المكانُ بالكُحْل أو بالنؤر ، فيخْضَرّ ، وفي بعض الروايات « الواشية ، والمُسْتَوْشِيَة » باليَاء مكان المِيم ، والوَشْي : التَّزَيُّن ، مأخوذ من نَسْج الثَّوْب على لونين ، وثورٌ مُوشَّى : في وَجْهِه وقوائِمِه سوادٌ ، وأما الوشْمٌ فجائز في كل الأعْضَاء غير الوَجْه؛ لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - « نهى عن الضَّرْب في الوَجْه وعن الوَشْم في الوجْهِ » ، ورُوي عن أنس ، وشهر بن حَوْشَب ، وعِكْرِمَة ، وأبِي صالح : التَّغْيير هَهُنَا هو الإخْصَاء ، وقطع الآذان ، وفَقْأ العُيُون؛ لأن فيه تَعْذِيب للحَيَوان ، وتَحْريم وتَحْلِيل بغير دليلٍ ، والآذَان في الأنْعَام جمالٌ ومَنْفَعة ، وكذلِك غيرها من الأعْضَاء ، فَحَرّم عليهم الشَّيْطَان ما أحلَّه اللَّه لهم ، وأمرَهُم أن يشركوا باللَّه ما لم يُنَزِّل به سُلْطَاناً ، ولما كان هذا من فِعْل الشَّيْطَان ، أمرنا رسُول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العَيْن والأذُن ، ولا نُضَحِّي بَعْورَاءَ ، ولا مُقَابَلة ، ولا مُدَابرة؛ ولهذا كان أنَس يكره إخْصَاء الغَنَم ، وحرمه بَعْضُهم .

قال القُرْطُبِي : فأما خِصاء الآدمِيِّ ، فمصيبَةٌ ، فإنَّه إذا خُصِي ، بَطَل قلبه وقُوَّته ، عَكْس الحَيَوان ، وانْقَطع نَسْلُه المأمُور به في قوله - عليه الصلاة والسلام - : « تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا » ثم إن فيه ألَماً عَظِيماً ، ربما يُفْضِي بَصَاحِبهِ إلى الهلاكِ ، فيكون [ فيه ] تضْييع مالٍ ، وإذْهَابُ تَفْسٍ ، وكل ذلك مَنْهِيٌّ عنه ، ثم هذه مُثْلَةٌ ، وقد نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن المُثْلَةِ ، وجوَّز بَعْضُهم في البَهَائِم؛ لأن فيه غَرَضاً ، وكانت العَرَب إذا بَلغَتْ إبلُ أحَدِهِمْ ألْفاً عوَّرُوا عَيْنَ فَحْلِها .
وحكى الزَّجَّاج عن بعضهم : التَّغْيير هو أن اللَّه - تعالى - خلق الأنْعامَ للرُّكُوب والأكْل ، فحربوها ، وخَلَق الشَّمْس ، والقَمَر ، والنُّجُوم ، والأحْجَار لمنفعة العِبَاد ، فعبدوها من دُونِ اللَّه .
وقيل : التَّغْيير هو التَّخَنُّث؛ وهو عِبَارَةٌ عن الذكر يُشْبِهُ الأنْثَى والسُّحْق؛ عِبَارة عن تَشَبُّه الأنْثَى بالذّكر .
ثم قال : { وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مِّن دُونِ الله } أي : ربًّا يطيعه ، { فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } لأن طاعة اللَّه تعالى تُفِيد المَنَافِع العَظِيمة ، الدّائِمة ، الخَالِصَة عن شَوائب الضَّرَر ، وطاعَة الشَّيْطَان تفيد المَنَافِع القَلِيلَة ، المُنْقَطِعة ، المشوبة بالغموم والأحزان ، ويعمها العَذَاب الدَّائِم ، وهذا هُو الخسَار المُطْلَق .
قال أبُو العبَّاس المُقْرِي : ورد لَفْظُ الخُسْرَان [ قي القرآن ] على أربَعَة أوْجُه :
الأوَّل : بمعنى الضَّلالة؛ كهذه الآيَة .
الثَّاني : بمعنى العَجْز؛ قال - تعالى - : { لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } [ يوسف : 14 ] أي : عَاجِزُون ومثله : { لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } [ الأعراف : 90 ] .
الثَّالث : بمعنى الغَبْن؛ قال - تعالى - : { الذين خسروا أَنفُسَهُمْ } [ المؤمنون : 103 ] أي : غبنوا أنْفُسَهم .
الرابع : بمعنى : المُخسِرُون؛ قال - تعالى - : { خَسِرَ الدنيا والآخرة ذلك هُوَ الخسران [ المبين ] } [ الحج : 11 ] .
قوله : « يُعدُهُمْ وَيُمَنِّيهمْ » ، قُرِئَ : « يَعدْهُمْ » بسُكون الدَّال تَخْفِيفاً؛ لتوالي الحَرَكات ، ومَفْعُولُ الوَعْد مَحْذُوفٌ ، أي : يعدُهُم البَاطِل أو السلامة والعافية ووعدُه وتمْنِيَتُهُ : ما يُوقعه في قَلْب الإنْسَان من طُول العمر ، ونَيْل الدُّنْيَا ، وقد يكون بالتَّخْوِيف بالفَقْر ، فيَمْنَعُه من الإنْفَاقِ ، وصِلَة الرَّحِم؛ كما قال - تعالى - : { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر } [ البقرة : 268 ] و « يُمنيهِم » بأنْ لا بَعْثَ ، ولا جنَّةَ ، { وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } أي : بَاطِلاً؛ لأنَّ تلك الأمَانِي لا تُفِيدُ إلا المَغْرُور؛ وهو أن يَظُنَّ الإنْسَان بالشيء أنه نَافِعٌ لدينه ، ثم يَتَبَيَّن اشْتِمَالُه على أعْظَم المَضَارِّ .
قوله « إِلاَّ غُرُوراً » يُحْتمل أن يكونَ مَفْعولاً ثانياً ، وأن يكُون مفعولاً من أجْله ، وأن يكون نعت مَصْدرٍ محذوفٍ ، أي : وعْداً ذا غُرور ، وأنْ يكونَ مَصْدراً على غير الصَّدْرِ؛ لأنَّ « يَعِدُهم » في قوة يَغُرُّهم بوعْدِهِ .
ف { أولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } « أولئك » : مبتدأ ، و « مأواهم » : مبتدأ ثانٍ ، و « جهنم » : خبر الثَّانِي ، [ والجُمْلَة خبر الأوَّل ] وإنما قال : « مأواهُم جَهَنَّم » ؛ لأن الغُرُور عِبَارة عن الحَالَةِ التي يُسْتَحْسَنُ ظَاهِرُهَا ، ويَحْصُل النَّدَم عند انْكِشَاف الحَالِ فيها ، والاستِغَراق في طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا ، وفي مَعَاصِي الله - تعالى - ، وإن كان في الحَالِ لَذِيذٌ ، إلا أن عَاقِبَتَهُ جَهَنَّم ، وسُخْطُ الله [ - تعالى - ] ، وهذا معنى الغُرُور .

ثم قال { وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } ، فقوله « عَنْهَا » : يجُوز أن يَتعلَّق بِمَحْذُوف :
إمَّا على الحَالِ من « مَحِيصاً » لأنَّه في الأصْلِ صِفَةٌ نكرةٍ قُدِّمَتْ عليها ، وإمَّا على التَّبْيين أي : أعني عنها ، ولا يجوزُ تعلُّقُه بمحْذُوفٍ؛ لأنه لا يتعدَّى ب « عَنْ » ولا ب « مَحِيصاً » ، وإنْ كان المَعْنَى عليه لأنَّ المَصْدَر لا يتقدَّمُ معمولُه عليه ، ومَنْ يَجوِّزُ ذلك ، يُجَوِّزُ تعلُّق « عن » به ، والمَحِيصُ : اسمُ مَصْدر من حَاصَ يَحِيص : إذا خَلَص ونَجا ، وقيل : هو الزَّوَغَان بنُفُور ، ومنه قولُه : [ الطويل ]
1879- وَلَمْ نَدْرِ إنْ حِصْنا مِنَ المَوْتِ حَيْصَةً ... كَمِ الْعُمْرُ بَاقٍ والمَدَى مُتَطَاوِلُ
ويروي : « جِضْنا » بالجيم والضَّاد المعجمة ، ومنه : « وَقَعُوا في حَيْصَ بَيْصَ » ، وحَاصَ بَاص ، أي : وقعوا في أمْرٍ يَعْسرُ التَّخلُّص منه ، ويقال : مَحِيص ومَحَاص ، قال : [ الكامل ]
1880- أتَحِيصُ مِنْ حُكْمِ الْمَنِيَّةِ جَاهِداً ... مَا لِلرِّجَالِ عِنِ المَنُونِ مَحَاصُ
ويقال : حاصَ يَحُوص حَوْصاً وحِيَاصاً أي : زَايَل المكانَ الذي كان فيه ، والحَوْصُ : ضِيقُ مُؤخر العين ، ومنه : الأحْوَصُ .
قال الواحِدِي : الآية تَحْتَمِل وَجْهَيْن :
أحدهما : أنه لا بُدَّ لهم من وُرُودِ النَّارِ .
والثَّاني : الخُلُود الذي هو نَصِيبُ الكُفَّار .
ولما فرغ من الوعيد ، أتبعه بذكر الوَعْد .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)

يجوز في { والذين آمَنُواْ } : وجهان :
الرفع على الابتداءِ ، والخبر : « سَنُدْخِلُهم » .
والنَّصْبُ على الاشْتِغَال ، أي : سَنُدْخِل الذين آمَنُوا سَنُدخِلهم ، وقرئ : « سيُدْخِلُهم » بياء الغيبة .
واعلم : أنه - تعالى - في أكْثَر آيَاتِ الوَعْدِ ذَكَرَ { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } ولو كان الخلودُ يفيد التأبيدَ والدوامَ ، لزم التكْرَار وهو خلافُ الأصْل ، فعلمنا أن الخُلُود عبارة عن طول المُكْثِ لا عن الدَّوَام ، وأما في آيات الوَعِيد ، فإنه يذكُر الخُلُودَ ، ولم يذكُرِ التَّأبِيدَ إلاَّ في حَقِّ الكفارِ ، وذلك يَدلُّ على أن عِقابَ الفساقِ منقطعٌ .
قوله : { وَعْدَ الله حَقّاً } هما مَصْدَران ، الأول مُؤكِّد لنفسه؛ كأنه قال وَعَد وَعْداً ، وهو قوله : « سندخلهم » و « حقَّاً » : مصدر مؤكِّد لغيره ، وهو قوله : « وَعْد اللَّه » أي : حُقَّ ذلك حَقّاً .
قوله : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً } وهو توكيد ثَالثٌ ، و « قيلاً » : نَصْبٌ على التَّمْييز ، والقِيلُ ، والقَوْل ، والقَالُ ، مَصَادِرٌ بمعنًى واحدٍ؛ ومنه قوله - تعالى - : { وَقِيلِهِ يارب } [ الزخرف : 88 ] .
وقال ابن السِّكِّيت : القِيلُ والقَالُ : اسمَان لا مَصْدَران ، وفِائِدَة هذه التَّوْكِيدَات : معارضةُ ما ذَكَرَهُ الشَّيْطَان من المواعيد الكَاذِبَة والأماني الباطِلَةِ ، والتنْبِيهُ على أن وَعْدَ اللَّه أولى بالقُبُول ، وأحقُّ بالتَّصْدِيق من قوْلِ الشَّيْطَان .
وقرأ حَمْزة ، والكَسَائِيُّ : بإشْمَام الصَّادِ ، وكل صاد سَاكِنة بَعْدَها دال في القُرْآن .

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)

قرأ أبو جَعْفَر المَدَنِي { [ لَّيْسَ ] بِأَمَانِيِّكُمْ ولاا أَمَانِيِّ } بتخفيف الياء فيهما جميعاً ، واعلم : أن « لَيْسَ » فعْلٌ ، فلا بد من اسْمٍ يكون هو مُسْنداً إليه ، وفيه خلافٌ :
فقيل : يَعُود ضَمِيرُها على مَلْفُوظٍ به ، وقيل : يَعُود على ما دَلَّ عليه اللَّفْظُ من الفِعْل وقيل : يَدُلُّ عليه سَبَبُ الآيَةِ .
فأمَّا عَودْهُ على مَلْفُوظٍ بِهِ فقيل : هو الوَعْدُ المتقدِّم في قوله : « وعد الله » وهذا اختيار الزَّمَخْشَرِي؛ قال : « في لَيْس ضَمِيرُ وعدِ الله أي : لَيْس يُنالُ ما وعد الله من الثَّواب بأمانِيِّكم ولا بأمَاني أهل الكِتَابِ ، والخطابُ للمُسْلِمين؛ لأنَّه لا يُؤمن بوعِد الله إلا مَنْ آمَن بِهِ » .
وأمَّا عَوْدُه على ما يَدُلُّ عليه اللَّفْظ ، فقيل : هو الإيمان المَفْهُومُ من قوله : « والذين آمنوا » وهو قولُ الحسن ، وعنه : « ليس الإيمانُ بالتَّمَنِّي » .
وأمَّا عودُه على ما يَدُلُّ عليه السَببُ ، فقيل : يعودُ على مُجَاوَرةِ المُسْلِمين مع أهلِ الكِتَابِ ، وذلك أنَّ بعضهم قال : « دينُنا قبل دينِكُم ، ونبيُّنَا قبل نَبيِّكم؛ فنحن أفضلُ » ، وقال المُسْلِمُون : « كتابُنا يَقْضِي على كِتابِكم ، ونبينا خَاتَمُ الأنْبِياء » فنزلت .
وقيل : يعودُ على الثَّوابِ والعِقَاب ، أي : ليس الثَّوَابُ على الحَسَنَاتِ ، ولا العقابُ على السيّئات بأمانيكم .
وقيل : قالت اليهودُ { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] ، ونحن أصْحَاب الجَنَّة ، وكذلك النَّصَارى ، وقالت كُفَّار قُرَيْش : لا نُبْعَثُ؛ فنزلت ، أي : ليس ما ادَّعَيْتُمُوه يا كُفَّارَ قريش بأمانيِّكم .
وقرأ الحسن ، وأبُو جَعْفَر ، وشَيْبةُ بن نصاح ، والحَكَم ، والأعْرَج : « أمانيكم » ، « ولا أمَانِي » بالتَّخْفِيف كأنَّهم جَمَعُوه على فَعَالِل دون فَعَالِيل؛ كما قالوا : قَرْقُور وقراقير وقراقِر ، والعرب تُنْقِصُ من فَعَالِيل اليَاء ، كما تزيدُها في فَعَالِل ، نَحْو قوله :
1881- .. تَنْقادَ الصَّيَارِيفِ
فصل
قال مَسْرُوق ، وقتادة ، والضَّحَّاك : أراد : ليس بأمَانِيِّكم أيها المُسْلِمُون ولا أمَانيِّ أهل الكِتَاب ، يعني : اليَهُودَ والنَّصارى؛ وذلك أنَّهم افْتَخَرُوا ، فقال أهْلُ الكتاب : نَبِيُّنَا قَبْل نبِيِّكُم ، وكِتَابُنَا قبل كِتَابِكُم ، فنحن أوْلَى باللَّه مِنْكُم .
وقال المُسْلِمُون : نبينا خاتمُ الأنْبِيَاء ، وكتابُنَا يَقْضِي على الكُتُب وقد آمَنَّا بكتابِكُم ، ولم تُؤمنوا بِكتابِنَا؛ فنحن أولى .
وقال مُجَاهِد : الآية خطاب لِعَبَدَة الأوْثان ، يعني : مُشرِكِي أهل مَكَّة ، وذلك أنَّهم قالوا : لا بَعْث ولا حِسَابَ ، وقال أهل الكِتَاب : { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] ، و { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] ، فأنزل اللَّه الآية ، وإنما الأمْر بالعَمَل الصَّالِح .
قوله : { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } : جملة مُسْتأنفة مؤكِّدةٌ لحكم الجُمْلَة قبلها .
قالت المُعْتَزِلَةُ : هذه الآية دالَّة على أنَّه [ - تعالى - ] لا يعفُو عن شَيْءٍ من السَّيِّئَات .
وليس لِقَائِل أن يقُول : هذا يُشْكِلُ بالصَّغَائِر ، فإنها مَغْفُورَةٌ .

فالجواب عنه من وَجْهَيْن :
الأول : أن العَامَّ بعد التَّخْصِيص حُجَّة .
والثاني : أن صاحب الصَّغِيرة قد حَبَط من ثَوَابِ طَاعته بِمقْدَار عِقَاب تلك المَعْصِيَة ، فههنا قد وَصَل خبر تلك المَعْصِيَة إليه .
وأجابوا بأنه لِمَ لا يجُوز أن يَكُون المُرَادُ من هَذَا الجَزَاء ما يَصل إلى الإنْسَان [ في الدُّنْيَا ] من الهُمُوم والآلاَم والأسْقَام؛ ويَدُلَّ على ذلك قوله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } [ المائدة : 38 ] سمَّى القطع جَزَاءً .
ورُوِي : « أنَّه لما نَزَلت هذه الآيَة قال أبو بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - كيف الصَّلاح بعد هَذِه الآيَة؟ ، فقال - [ عليه الصلاة والسلام ] - غفر اللَّه لكَ يا أبَا بَكْرٍ ، ألست تَمْرَض؟ ألَيْس تُصِيبُكَ الآلام؟ فهو ما تُجْزَوْن به » .
وعن عَائِشَة - رضي الله عنها - « [ أن ] رجلاً لما قَرَأ هذه الآيَة . فقال : [ إن كان ] الجَزَاء بكلِّ ما نَعْمَل ، لقد هَلَكْنا ، فبلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَلاَمُهُ؛ فقال : يُجْزَى المُؤمِنُ في الدنيا بِمُصِيبَةٍ في جَسَدِه وما يُؤذِيه » .
وعن أبي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - : « لمَّا نَزَلَت هذه الآية بَكَيْنَا ، وحِزِنا ، وقلنا : يا رسول الله ، ما أبْقَت هذه [ الآية ] لنا شَيْئاً ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : » أبشروا فإنَّه لا يُصِيبُ أحداً منكم مُصِيبَةٌ في الدُّنْيَا ، إلا جَعَلَهَا الله له كَفَّارة؛ حتَّى الشَّوْكَة التي تَقَع في قَدَمِه « .
وأيضاً : هَبْ أن ذَلِك الجَزَاء إنَّما يصل إلَيْهم يوم القِيَامة ، لكن لم لا يَجُوز أن يَصِل الجَزَاء بتنقِيص ثَوَابِ إيمانِه ، وسائر طَاعَاتِه؛ كقوله - تعالى - : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } [ هود : 114 ] .
ولما رَوَى الكلبي ، عن أبِي صَالح ، عن ابن عبَّاسٍ ، أنَّه قال : » لمّا نَزَلت هَذِه الآيَة شقت على المُؤمِنِين مَشَقَّة شَدِيدة ، قالوا : يا رسُول الله ، وأيُّنَا لم يعمل سُوءاً ، فكيف الجَزَاءُ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - : إنَّه - تعالى - وعد على الطَّاعَةِ عَشْر حَسَناتٍ ، وعلى المَعْصِيَة الوَاحِدة عُقُوبَة واحدة ، فمن جُوزي بالسَّيِّئة ، نَقَصَت وَاحِدة من عَشْرَة ، وبقيت له تِسْع حَسَناتٍ ، فويل لمن غلب آحَادُه أعْشَارَهُ « .
وأيضاً : فَهَذِه الآيَةُ إنَّما نزلت في الكُفَّار؛ لقوله [ - تعالى - ] بعدها : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة } .
فالمؤمن الذي أطَاعَ اللًّه سَبْعِين سَنَةً ، ثم شَرِب قَطْرةً من الخَمْر ، فهو مؤمِنٌ قد عَمِل الصَّالِحَات؛ فوجب القَطْع بأنَّه يدخل الجَنَّةَ .
وقولهم : خرج عن كوْنه مُؤمِناً ، فهو باطل؛ للدلالة الدَّالَّة على أنَّ صَاحِب الكَبِيرة مُؤمِن؛ لقوله - تعالى - : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] إلى قوله : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى } [ الحجرات : 9 ] سَمَّى البَاغِي حَالَ كَوْنه باغياً : مُؤمِناً ، وقوله { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } [ البقرة : 178 ] سَمَّى [ قَاتِل العمد العُدْوَان مُؤمِناً ] ، وقوله { ياأيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً }

[ التحريم : 8 ] سَمَّاه مُؤمِناً حال مَا أمَره بالتَّوْبَة ، وإذا ثَبَت أنَّ صَاحِب الكَبِيرَة مُؤمِنٌن كان قوله [ - تعالى - ] { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } حُجَّةً في أنَّ المُؤمِن صاحب الكَبِيرَة من أهْلِ الجَنَّةِ؛ فوجبَ أن يكُون قوله : { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } مخصوصاً بأهْل الكُفْر .
وأيضاً : فهَبْ أنَّ النَّصَّ يَعُمُّ المؤمِن والكَافِر ، لكن قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] أخص مِنْه ، والخاصُّ مقدَّم على العَامِّ ، والكَلاَمُ على العُمُومات قد تَقدَّم فِي قوله : { بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } [ البقرة : 81 ] .
فصل في دلالة الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة
دلت الآيَة على أنَّ الكُفَّار مخاطبون بفروع الإسْلام؛ لأن قوله - تعالى - : { مَن يَعْمَلْ سواءا } يتناول جَمِيع المُحَرًّماتِ ، فيَدْخل فيه ما صَدَر عن الكُفَّار مما هو مُحَرَّم في دين الإسلام ، وقوله : « يُجْزَ بِهِ » يدلُّ على وُصُولِ جَزَاء كُل ذلك إلَيْهم .
فإن قِيلَ : لم [ لا ] يجُوز أن يَكُون ذَلِكَ الجَزَاء ، عِبَارَة عمَّا يصل إليهم من الهُمُوم والغُمُوم في الدُّنْيَا .
فالجَوَابُ أنَّه لا بُدَّ وأن يَصِل جَزَاء أعْمَالِهم الحَسَنة إليْهِم في الآخِرَة ، وإذا كان كَذَلِك ، اقْتَضَى أن يكُون تَنَعُّمُهم في الدُّنْيَا أكثر؛ ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - « الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤمِن وجَنَّةُ الكَافِرِ » ؛ فامْتَنَع القَوْل بأنَّ جزاء أفْعَالِهِم المَحْظُورة تَصِلُ إليْهِم في الدُّنْيَا؛ فوجب القول بِوُصُول ذلك الجَزَاء [ إليْهِم ] في الآخرة .
فصل في شبهة المعتزلة وردِّها
قالت المُعْتَزِلَة : دلت [ هذه ] الآيَة على أنَّ العَبْد فَاعِلٌ ، وعلى أنَّه بعملِ السُّوء يستحِقُّ الجَزَاء ، وإذا كَانَ كَذَلِك ، دلَّت على أنًّ اللَّه غير خَالِق لأفْعَال العِبَاد من وَجْهَيْن :
أحدُهُما : أنه لما كان عَمَلاً للعبد ، امْتَنَعَ كَوْنه عَمَلاً للَّه؛ لامتناع حُصُول مَقْدُورٍ واحدٍ بِقَادِرَيْن .
والثاني : أنه لَو حَصَل بخلق اللَّه ، لما استَحَقَّ العَبْد جَزَاءً ألْبَتَّة ، وذلك بَاطِل؛ لأن الآيَة دلَّت على أن العَبْد يستحِقُّ الجزَاءَ على عملِهِ ، وقد تقدَّمَ الجوابُ عن هذا الاسْتِدْلالِ .
قوله : { وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } قرأ الجمهور بجزم « يَجِدْ » ، عطفاً على جواب الشرط ، وروي عن ابن عامر رفعه ، وهو على القطع عن النسق . ثم يُحْتمل أن يكون مستأنفاً وأن يكونَ حالاً ، كذا قيل ، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ المضارع المنفي ب « لا » لا يقترن بالواوِ إذا وقع حالاً .
فصل في شبهة المعتزلة بنفي الشفاعة وردها
قالت المُعْتَزِلَة : [ دلت ] الآية على نَفْي الشَّفَاعة ، وأجَابُوا بوجهين :
أحدهما : أنا بيَّنا أن هذه الآيَة في حقِّ الكُفَّار .
والثَّاني : أن شفاعة الأنْبِيَاء والمَلاَئِكَة في حقِّ العُصَاة ، إنَّما تكُون بإذن الله - تعالى - ، وإذا كان كَذلِك ، فلا وَلِيَّ لأحَدٍ ولا نصير ، إلا اللَّه - سبحانه وتعالى - .
قوله : « [ وَمَن يَعْمَلْ ] مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ » « من » الأولَى : للتَّبعيضِ؛ لأنَّ المكلَّف لا يطيق عَمَل كل الصَّالِحَات .

وقال الطَّبَرِي : « هي زائدةٌ عند قَوْم » وفيه ضعفٌ ، لعدم الشَّرْطَيْن ، و « مِنْ » الثانية للتبيين ، وأجاز أبو البقاء أن تكُونَ حالاً ، وفي صَاحِبها وجهان :
أحدهما : أنه الضَّميرُ المَرْفُوع ب « يَعْمَل » .
والثاني : أنه الصَّالحات ، أي : الصالحات كَائِنةً من ذكر أو أنثى ، وقد تقدَّم إيضاح هذا في قوله : { لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } [ آل عمران : 195 ] والكلامُ على « أوْ » أيضاً ، وقوله : « وَهُوَ مُؤْمِنٌ » جملة حَالِيّة من فَاعِل « يَعْمَل » .
[ قوله « يدخلون » ] قرأ أبو عَمْرو ، وابن كَثير ، وأبُو بَكْر عن عَاصِم : « يُدْخَلون » هُنَا ، وفي مَرْيم ، وأوَّل غَافِر بضم حَرْف المُضَارَعة ، وفتح الخَاء مبنياً للمَفْعُول ، وانفردَ ابنُ كَثِيرٍ وأبو بكْرٍ بثانية غَافِر ، وأبو عمرو بالتي في فَاطِر ، والبَاقُون : بفتحِ حَرْفِ المُضَارعة ، وضمِّ الخَاءِ مبنياً للفاعِل ، وذلك للتفنُّنِ في البلاغَةِ . والأوّل أحْسن؛ لأنَّهُ أفْخَم ، ولِكَوْنه مُوافقاً لقوله : { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } .
وأما القِرَاءة الثَّانية : فهي مُطَابِقَةٌ لقوله : { ادخلوا الجنة أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ } [ الزخرف : 70 ] ، ولقوله { ادخلوها بِسَلامٍ } [ الحجر : 46 ] .
والنقير : النَّقْرَة في ظَهْر النَّوَاة ، مِنْها تَنْبُت النَّخْلَة ، والمَعْنَى : أنَّهم لا يُنْقَصُون قدر مَنْبَت النَّوَاة .
فإن قِيلَ : لم خصَّ اللَّه الصالِحينَ بأنَّهم لا يُظْلَمُونَ ، مع أنَّ غيرهم كَذَلِك؛ كما قال : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] ، وقوله { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 108 ] .
فالجواب : من وجهين :
الأول : أن يَكُون الرَّاجع في قوله : « ولا يُظْلَمُونَ » عائداً إلى عُمَّال السُّوءِ ، وعُمَّال الصَّالِحَات جَمِيعاً .
والثَّاني : أن من لا يُنْقِصُ من الثَّواب ، أولى بأن لا يَزِيدَ في العِقَابِ .
روى الأعْمَش ، عن أبي الضُّحَى عن مَسْرُوقٍ ، قال : لمَّا نَزَل { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولاا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } قال أهْل الكِتَاب : نَحْنُ وأنْتُم سَوَاءٌ ، فَنَزَلتْ : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } الآية ، ونزل أيْضاً : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ } [ النساء : 125 ] .
فصل : صاحب الكبيرة لا يخلد في النار
وهذه الآية من أدَلِّ الدَّلائِل على أن صَاحِبَ الكَبِيرَة لا يُخَلَّد [ في النَّارِ ] بل ينقل إلى الجَنَّة؛ لأنَّا بينَّا أن صاحِبَ الكبِيرَة مؤمن ، وإذا ثَبَتَ ذَلِك ، وكان قد عَمِلَ الصَّالِحَات ، وجب أنْ يدْخُل الجَنَّة ، لهذه الآية ، ولزم بِحُكْم الآيَات الدَّالَّة على وَعِيد الفُسَّاق أن يَدْخُل النَّار ، فإمَّا أن يدْخُل النَّار ، ثم يَنْتَقِل إلى النَّارِ ، وذلك بَاطِلٌ بالإجْماع ، أو يَدْخُل النَّار ، ثم ينتقل إلى الجَنَّة ، وذلك هُو المَطْلُوب .

وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)

لما شرط في حُصُول النَّجاة والفَوْزِ بالجنَّة كون الإنْسَان مُؤمِناً ، شَرَح هَهُنَا الإيمَان ، وبَيَّن فَضْلَه من وَجْهَين :
أحدهما : أنَّه الدِّين المشتمل على العُبُودِيَّة والانْقِيَاد لله - تعالى - .
والثاني : أنه دينُ إبْرَاهيم - عليه السَّلام - ، وكل واحدٍ من هَذَيْن الوَجْهَيْن سَبَبٌ مستقِلٌّ في التَّرْغِيب في دِينِ الإسْلاَم .
أما الأوّل : فإن دِين الإسْلام مَبْنيٌّ على الاعْتِقَاد والعَمَل .
أما الاعتقاد : فإليه الإشارَة بقوله : { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } لأن الإسْلام هو الانْقِيَاد ، والاسْتِسْلام ، والخُضُوعُ ، وذكر الوَجْه؛ لأنه أحسن الأعْضَاء الظَّاهِرَة ، فإذا عَرَفَ ربه بِقلبه ، وأقَرَّ بِرُبُوبِيَّتِهِ ، وبعبُودِيَّة نفسه ، فقد أسْلَم وجهه للَّه .
وأمَّا العَمَل فإليه الإشَارةُ بقوله : « وَهُوَ مُحْسنٌ » فيدخل فيه فِعْلُ الحِسَنَات وتَرْكُ السَّيِّئَات ، فاحتوت هذه اللَّفْظَة على جَمِيع الأغْرَاض ، وفيها تَنْبِيهٌ على فَسَادِ طَرِيقَةِ من اسْتَعان بغير اللَّهِ؛ فإن المُشْرِكِين يستعينُونَ بالأصْنَام ، ويَقُولُون : هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْد اللَّه ، والدهرية والطَّبِيعيُّون يَسْتعِينُونَ بالأفْلاكِ ، [ والكَواكِبِ ] ، والطبائع ، وغيرها ، واليَهُود ثَلاَثَة ، وأما المُعْتَزِلَة : فهم في الحَقِيقَةِ ما أسْلَمَت وَجُوهُهم للَّه؛ لأنهم يَرون [ أنَّ ] الطاعة المُوجِبَة لِثَوَابِهِم من أنْفُسِهِم ، والمَعْصِية الموجِبَة لِعِقَابِهم من أنْفُسِهم ، فهم في الحَقِيقَة لا يَرْجُون إلا أنْفُسَهُم ، ولا يَخَافُون إلا أنْفُسَهم ، وأهل السُّنَّة : فَوَّضُوا التَّدْبِير ، والتَّكْوِين والخَلْق ، والإبْدَاع إلى اللَّه - تعالى - ، واعتَقَدُوا أن لا مُوجِدَ ولا مُؤثِّر إلا اللَّه [ تعالى ] فهم الذِين أسْلَمُوا وجوههم للَّه .
وأما الوَجْه الثَّاني : وهو أنَّ محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - إنما دَعَى الخَلْق إلى دين إبْرَاهِيم - [ عليه الصلاة والسلام - ، وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ] إنَّما كان يَدْعُو إلى اللَّه - تعالى - ، لا إلى [ عِبَادة ] فَلَكٍ ولا طاعة كَوْكَب ، ولا سُجُود لِصَنَمٍ ، ولا اسْتِعَانَة بطبيعة؛ بل كانت دَعْوَتُه إلى اللَّه - تعالى - كما قال : { إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 78 ] ودعوة مُحَّمد - عليه الصلاة والسلام - كانت قَرِيبَة من شَرْع إبْرَاهيم - عليه السلام - في الخِتَان ، وفي الأعْمَال المُتَعَلِّقَة بالكَعْبَة؛ كالصَّلاة إليها ، والطَّوَاف [ والسَّعْي ] والرَّمْي ، والوُقُوف ، والحَلْق ، والكَلِمَات العَشْر المَذْكُورة في قوله : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } [ البقرة : 124 ] .
وإذا ثبت أنَّ شَرْع مُحمد - عليه الصلاة والسلام - كان قَريباً من شَرْع إبراهيم [ ثم إنَّ شَرْع إبْرَاهِيم ] مقبولٌ عند الكُلِّ لأن العَرَب لا يَفْتَخرُون بشيءٍ كافتخارهم بالانْتِساب إلى إبْرَاهيم - [ عليه الصلاة والسلام ] - ، وأما اليَهُود والنَّصارى فلا شَكَّ في كَوْنِهِم مُفْتَخِرين بِهِ ، وإذا ثَبَت هذا ، لَزِم أن يكون شَرْع مُحمَّد - [ صلى الله عليه وسلم ] - مَقْبُولاً عند الكُلِّ .
قوله : { مِمَّنْ أَسْلَمَ } : متعلِّقٌ ب « أحْسَنُ » فهي « مِنْ » الجَارَّة للمَفْضُول ، و « لله » متعلِّقٌ ب « أسْلَم » ، وأجَازَ أبُو البقاء أن يَتَعَلَّق بَمَحْذُوف على أنَّه حَالٌ من « وَجْهه » وفيه نظرٌ لا يَخْفَى ، « وهو مُحْسِنٌ » ، حالٌ من فَاعِل « أسْلَم » .

ومعنى { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } : أخْلَصَ عمله للَّه ، وقيل : فَوض أمْرَه إلى اللَّه ، « وهو مُحْسِن » أي : مُوَحِّد . و « اتَّبع » يجُوز أن يكون عَطْفاً على « أسْلَمَ » وهو الظَّاهِر ، وأن يكونَ حالاً ثانية من فَاعِل « أسْلَم » بإضمار « قَدْ » عند مَنْ يشترط ذَلِك ، وقد تقدَّم الكَلاَم على « حَنيفاً » في البَقَرة ، إلا أنَّه يَجُوزُ هنا أن يكُون حالاً من فَاعِل « اتبع » .
فصل
« ملَّة إبْرَاهِيم » دين إبراهيم ، « حَنِيفاً » أي : مسلِماً مُخْلِصاً .
فإن قيل ظَاهِر هذه الآيَة يَقْتَضِي أنَّ شرع مُحمد - عليه الصلاة والسلام - نفس شَرْع إبْرَاهيمَ ، وعلى هَذَا لم يَكُن لمحمد - عليه الصلاة والسلام - شريعة مُسْتقِلَّة ، وأنتم لا تَقُولُون بِذلِك .
فالجوابُ : أن شَريعَة محمد - عليه الصلاة والسلام - تُشْبِه أكثر شَرِيعَة إبْرَاهِيمَ .
قال ابن عبَّاسٍ : ومن دينِ إبراهيم : الصَّلاة إلى الكَعْبَة ، والطَّواف بها ، ومَنَاسِك الحَجِّ ، وإنما خصَّ بها إبْراهيم - [ عليه والصلاة والسلام ] -؛ لأنه كان مَقْبُولاً عند جَمِيع الأمَمِ ، وقيل : إنَّه بُعِثَ على مِلَّة إبْرَاهِيم ، وزِيدَت له أشْيَاء .
قوله : { واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } فيه وجهان وذلك أنَّ « اتَّخذ » إن عَدَّيْناها لاثنين ، كان مَفْعُولاً ثانياً ، وإلا كان حالاً ، وهذه الجُمْلَة عَطْف على الجُمْلَة الاستِفْهَاميةِ التي مَعْنَاها الخَبَرُ ، نَبَّهَتْ على شَرَف المَتْبُوعِ وأنه جَدِيرٌ بأن يُتَّبَع لاصْطِفَاءِ الله له بالخُلّة ، ولا يَجُوز عَطْفُها على ما قَبْلَها لِعدم صلاحيَّتِها صلةً للموصول .
وجعلها الزَّمَخْشَرِي جملة مُعْتَرِضَة ، قال : « فإنْ قلت ما مَحَلُّ هذه الجُمْلةِ؟ قلت : لا محلَّ لها من الإعْرَاب؛ لأنَّها مِنْ جُمل الاعْتِرَاضَاتِ ، نحو ما يجيء في الشِّعر من قَوْلهم : » والحَوَادِثُ جَمَّةٌ « فائدتُها تَأكيدُ وجوب اتِّباع ملّته؛ لأنَّ مَنْ بَلَغَ من الزُّلْفَى عند الله أن اتَّخَذَه خَلِيلاً ، كان جديراً بأن يُتَّبع » فإنْ عنى بالاعْتِرَاضِ المُصْطَلحَ عليه ، فَلَيْس ثَمَّ اعْتِراضٌ؛ إذ الاعْتِرَاضُ بين مُتلازِمِيْن؛ كفِعْل وفَاعِلٍ ، ومُبْتَدأ وخَبَر وشَرْط وجَزَاء ، وقَسَم وَجَواب ، وإن عَنَى غير ذلك احتُمِل ، إلا أنَّ تنظيرَه بقولهم : « والحَوَادِثُ جَمَّةٌ » يُشْعِر بالاعْتِرَاض المُصْطَلح عليه؛ فإن قولهم : « والحَوَادِثُ جَمَّةٌ » وَرَدَ في بَيْتَيْنِ :
أحدهما : بين فِعْل وفَاعِل؛ كقوله : [ الطويل ]
1822- وَقَدْ أدْرَكَتْنِي وَالحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... أسِنَّةُ قَوْمٍ لا ضِعَافٍ ولا عُزْلِ
والآخر يَحْتَمِل ذلك ، على أن تكُونَ الباءُ زائدةً في الفَاعِل؛ كقوله : [ الطويل ]
1883- ألاَ هَلْ أتَاهَا والحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... بأنَّ امْرَأ القَيْس بنَ تَمْلِكَ بَيْقَرا
ويُحْتَمل أن يكونَ الفَاعِلُ ضميراً دلَّ عليه السِّياق ، أي : هل أتاها الخَبَر بان أمْرأ القيس ، فيكون اعْتِرَاضاً بين الفِعْل ومَعْمُوله .

والخليلُ : مشتق من الخَلَّة بالفَتْح ، وهي الحَاجَة ، أو من الخُلَّة بالضَّمِّ ، وهي المودة الخالصة . وسُمِّي إبْرَاهيم عليه الصلاة والسلام خليلاً أي : فَقِيراً إلى اللَّه؛ لأنَّه لم يَجْعَل فَقْره وفَاقَتَه إلاَّ إلى اللَّه .
قال القُرْطُبيُّ : الخَلِيلُ فعيل ، بِمَعنى : فَاعِل؛ كالعَلِيم ، بمعنى : عالم ، وقيل : هو بِمَعْنَى المَفْعُول؛ كالحَبِيب بِمَعْنَى : المَحْبُوب ، وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان مُحبًّا للَّه ، وكان مَحْبُوباً للَّه . أو من الخلل . قال ثَعْلَب : « سُمِّي خليلاً؛ لأن مَوَدَّته تَتَخَلَّلُ القَلْبَ » وأنشد : [ الخفيف ]
1884- قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَبِهِ سُمِّي الْخَلِيلُ خَلِيلا
وقال الرَّاغِب : « الخَلَّة - أي بالفتح - الاختلالُ العَارِضُ للنَّفْس : إمَّا لشَهْوَتِها لِشَيْء ، أو لحاجتهَا إليه ، ولهذا فَسَّر الخَلَّة بالحاَجَة ، والخُلَّة - أي بالضم - : المودة : إما لأنَّها تتَخَلَّل النَّفْس ، أي : تتوسَّطُها ، وإما لأنَّها تُخِلُّ النَّفْسَ؛ فتؤثِّر فيها تأثيرَ السَّهْم في الرَّمِيَّة ، وإمَّا لفَرْطِ الحَاجَة إليْها » .
وقال الزَّجَّاج : معنى الخليل : الذي لَيْس في مَحبَّتِه خَلَل ، وقيل : الخلِيلُ هو الذي يُوافِقُك في خلالِك . قال - عليه الصلاة والسلام - : « تَخَلقوا بأخلاق اللَّه » فلما بلغ إبْرَاهيم - عليه الصلاة والسلام - في هذا البَابِ مبلَغاً لم يَبْلُغْه أحَدٌ ممَّن تقدَّمَه ، لا جَرَم خصَّه اللَّه بهذا الاسْمِ .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : الخَلِيلُ : [ هو ] الذي يُسَايِرُك في طَرِيقك ، من الخَلِّ : وهو الطَّريق في الرَّمْل ، وهذا قَرِيبٌ من الذي قَبْلَه ، وقيل : الخَلِيْلُ : هو الذي يسد خللك كما تسُدُّ خَلَله ، وهذا ضَعِيف؛ لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لا يقال : إنه يَسُدُّ الخَلَلَ .
وأما المُفَسِّرُون : فقال الكلبيُّ : عن أبي صَالحٍ ، عن ابن عبَّاس : كان إبْرَاهيم - عليه الصلاة والسلام - أبا الضِّيفان ، وكان مَنْزِلُه على ظَهْر الطِّرِيق يُضِيفُ من مَرَّ بِه ، فأصاب الناس سنَةٌ فَحشِرُوا إلى بَابِ إبْراهيم يَطْلُبون الطَّعَام ، وكانت الميرة له كل سَنَةٍ من صديقٍ له ب « مصر » ، فبعث غِلْمَانه بالإبل إلى خَلِيلِه ب « مصر » ، فقال خلِيلُه لِغلمانه : لو كان إبراهيم إنَّما يريده لنفْسِه ، لاحْتَمَلْنَا ذلك لهُ؛ فقد دَخَلَ عَلَيْنَا ما دَخَلَ على النَّاس من الشِّدَّة ، فرجع رُسُل إبْراهيم - عليه السلام - فمرُّوا بِبَطْحاء [ سهلة ] فقالوا : لو أنَّا حملنا من هذه البَطْحَاء؛ ليرى النَّاسُ أنا قد جِئْنَا بميرة ، فإنَّا نَسْتَحِي أن نمرّ بِهِم ، وإبلنا فَارِغَةٌ ، فملأوا لتك الغرائر سهلة ثم أتَوْا إبْرَاهِيمَ - عليه الصلاة والسلام - فأعْلَمُوهُ [ بذلك ] و [ سارةُ نَائِمَةٌ ] ، فاهْتَمَّ إبْرَاهيم - عليه الصلاة والسلام - لمكان النَّاسِ بِبَابِه ، فَغَلَبته عَيْنَاه فَنَام ، واستيقظت سَارة و [ قد ] ارتفع النَّهَار ، فقَالَت : سُبْحَان الله! ما جَاءَ الغِلْمَان؟ قالوا : بَلَى ، [ قالت : فما جَاؤُوا بِشَيْءٍ؟ قالوا : بَلَى ، ] فَقَامَت إلى الغَرَائِر . فَفَتَحَتْهَا ، [ فإذا ] هِي مَلأى بأجْودِ دَقِيق حوارٍ يكون ، فأمرت الخَبَّازِين ، فَخَبَزُوا وأطْعَمُوا النَّاسَ ، فاسْتَيْقَظ إبْرَاهِيمُ ، فوجد ريحَ الطَّعَامِ ، فقال : يا سَارة مِنْ أيْن هذا؟ فقالت : من عند خَلِيلِك المصْرِيِّ ، فقال : هذا من عِنْد خَلِيلِيَ اللَّه ، قال : فيومَئِذٍ اتَّخَذَهُ [ الله ] خَلِيلاً .

وقال شَهْر بن حَوْشَب : هبط مَلَكٌ في صورة رَجُلٍ ، وذكر اسْمَ اللَّه بِصَوتٍ رَخيمٍ شَجِيٍّ ، فقال إبْرَاهِيم - عليه السلام - : اذكره مَرَّة أخْرَى ، فقال : لا أذْكُرُه مَجَّاناً ، فقال : لك مَالِي كُلُّه ، فذكره المَلَكُ بِصَوتٍ أشْجَى من الأوَّل ، فقال : اذكره مرَّة ثَالِثَة ولك أوْلاَدِي ، فقال المَلَك : أبْشِر ، فإنِّي ملكٌ لا أحْتَاج إلى مَالِكَ وَوَلَدِكَ ، وإنَّما كان المَقْصُود امتْحَانُك؛ فلما بَذَل المَال والوَلَد على سَمَاعِ ذكر الله [ - تعالى - ] لا جرم اتَّخذه اللَّه خَلِيلاً .
وروى طاوُس ، عن ابن عبَّاس : أن جبريل - عليه السَّلام - والملائِكَة ، لما دَخَلُوا على إبْراهيم - عليه [ الصلاة و ] السلام - في صُورة غِلْمَان حِسَان الوُجُوه ، ظنَّ الخليل - عليه السلام - أنهم أضْيَافُه ، وذَبَح لهم عِجْلاً سَمِيناً ، وقرَّبَهُ إليْهِم ، وقال : كلوا على شَرْطِ أن تُسَمُّوا اللَّه - تعالى - في أوَّلِه ، وتَحْمَدُونَهُ في آخِرِه ، فقال جِبْرِيل : أنت خَلِيلُ اللَّه .
قال ابن الخَطِيب : وعندي فيه وَجْهٌ آخَر ، ومعناه : إنما سُمِّي خَلِيلاً ، لأن مَحَبَّة اللَّه تخلَّلت في جَمِيع قُوَاه؛ فصار بحيث لا يَرَى إلا اللَّه ، ولا يَتَحَّرك إلاَّ للَّه ، [ ولا يَسْكن إلا لِلَّه ] ، ولا يسمع إلا باللَّه ، ولا يَمْشِي إلا للَّه ، فكان نُور [ جلال ] اللَّه قد سرى في جَمِيع قُوَاه الجُسْمَانِيَّة ، وتخلَّلَ وغاصَ في جَوَاهِرِها ، وتوغل في ماهِيَّاتها ، ومثل هذا الإنْسَان يوصَفُ بأنه خَلِيلٌ ، وإليه أشار - عليه الصلاة والسلام - بقوله [ في دعَائِهِ ] : « اللهم اجْعَل في قَلْبِي نُوراً ، [ وفي سَمْعِي نُوراً ] ، وفي بَصَرِي نُوراً ، وفي عَصَبِي نُوراً » .
فصل
قال بَعْض النّصَارى : لما جاز إطلاق اسم الخَلِيل على إنْسَانٍ معيَّنٍ على سبيل الإعْزَازِ والتَّشْرِيف فلم لا يَجُوز إطْلاق الابْن في حَقِّ عيسى - عليه السلام - على سبيل الإعزاز والتشريف؟
وجوابُهم : أن الفَرْق بَيْنَهُما : بأن الخليل عِبَارةٌ عن المَحَبَّة المُفْرِطَةِ ، وذلك لا يَقْتَضِي الجِنْسِيَّة ، وأما الابْنُ : فإنه يُشْعِر بالجِنْسِيَّة ، وجلَّ الإله عن مُجَانَسَة المُمْكِنات ، ومشَابهة المُحْدَثَات .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)

في تعلُّق الآيَة بما قَبْلَها وُجُوه :
أحدها : [ أن المعنى ] أن الله لم يَتَّخِذْ إبْرَاهِيم خليلاً لاحتياجه إلَيْه في شَيْءٍ كخلةِ الآدميِّين ، وكيف يُعْقَل ذلك ، وله مُلْك السَّموات والأرض ، وإنما اتَّخَذَهُ خليلاً لمحض الكَرَم .
وثانيها : أنَّه - تعالى - ذكر من أوَّل السُّورة إلى هذا المَوْضِع أنْواعاً كَثِيرَة من الأمر والنَّهْي ، والوعْد والوَعيد ، وذكر في هَذِه الآيَة أنَّه إلَه المُحْدَثَاتِ ، وموجِدُ الكائِنَاتِ ، ومن كان مَلِكَاً مطاعاً ، وجب على كُلِّ عاقلٍ أنْ يَخْضَعَ لتكاليفه ، ويَنْقَادَ لأمْرِه .
وثالثها : أنه - تعالى - لما ذكر الوَعْدَ والوَعِيدَ ، ولا يمكن الوَفَاءُ بهما إلا بأمْرَيْن :
أحدهما : القُدْرةُ التَّامَّة [ المتعلِّقة ] بجميع الكَائِنَات والمُمْكِنَات .
والثاني : [ العِلْم ] المتعلِّق بجميع الجُزْئِيَّات والكُلِّياتِ؛ حتى لا يَشْتَبِه عليه المُطِيعُ ، والعَاصِي ، والمحسن والمُسِيءُ؛ فدلَّ على كَمَال قُدْرَته بِقَوْله : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } ، وعلى كَمَال عِلْمِهِ بقوله : { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } .
ورابعها : أنه - تعالى - لمّا وصَفَ إبْراهيم - عليه الصلاة والسلام - بأنه خَلِيلُه ، بين أنَّه مع هذه الخُلَّة عَبْدٌ لَهُ ، وذَلِك أنَّ له مَا فِي السَّمواتِ ومَا في الأرْض ، ونَظِيرُه قوله تعالى : { إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً } [ مريم : 93 ] ويجري مُجْرَى قوله : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملاائكة المقربون } [ النساء : 172 ] يعني : أنَّ الملائكة مع كَمَالِهِم في صِفَةِ القُدرةِ ، والقوَّة في صِفَة العِلْم والحِكْمَة ، لم يَسْتَنْكِفُوا عن عِبَادة اللَّه؛ كذا هَهُنا ، يعني : إذا كَانَ كل من في السَّموات والأرْض مِلْكُه في تَسْخِيره ، فكيْفَ يعْقَل أن يُقَالَ : إن اتِّخَاذ اللَّه إبْراهيم خَلِيلاً ، يخرجه عن عُبُودِيَّة اللَّه .
فصل
إنما قال : { مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } ولم يقل « مَنْ » لأنه ذَهَب به مَذْهَبَ الجِنْس ، والذي يُعْقَل إذا ذُكِر وأريد به الجنْسُ ، ذكر ب « مَا » .
قوله : { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } فيه وَجْهَان :
أحدهما : المُرَاد مِنْهُ : الإحاطة في العِلْم .
والثاني : الإحَاطَة بالقُدْرَة؛ كقوله : { وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } [ الفتح : 21 ] .
قال القَائِلُون بهذا القَوْل : وليس لِقَائِلٍ أن يَقُولَ : لمَّا دل قوله : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } على كمال القُدْرَةِ ، لزم التَّكْرَار؛ لأنَّا نقول إنَّ قوله { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ لا يفيد ظاهره ] إلا كونه قَادِراً على ما يَكُون خَارِجَاً عَنْهُمَا ، ومغايراً [ لهما ] ، فلما قال : { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } دلَّ ذلك على كَوْنه قَادِراً على ما لا نهاية له من المَقْدُورَات خَارِج هذه السَّمَواتِ والأرْضِ .

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)

أي : يستَخْبِرُونك في النِّسَاء .
قال الواحدي - رحمه الله - : الاستِفْتَاء : طَلَب الفَتْوَى ، يقال : اسْتَفْتَيْتُ الرَّجل في المَسْألة؛ فأفْتَاني إفتاءاً وفُتْياً وفَتْوًى ، [ وهما ] اسمْان وُضِعَا موضع الإفْتَاء ، ويُقَال : أفْتَيْت فُلاناً في رؤيا رآهَا إذا عَبَّرها ، قال - تعالى - : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ } [ يوسف : 46 ] ، ومعنى : أفتنا : إظْهار المُشْكِل ، وأصْلُه : من الفَتَى : وهو الشَّابُّ القَوِي ، فالمعنى : كأنَّه يَقْوى بِفتيانِه ، والمُشْكِل إذا زَالَ إشْكَالُه بِبيَانِهِ مَا أشْكِل ، يصيرُ قويّاً فَتِيّاً .
واعلم : أنَّ عَادَة اللَّه فِي ترتيب هذا الكِتَابِ الكَرِيمِ ، أنْ يَذكُر الأحْكَام ، ثَمَّ يذْكُرُ عَقِيبه آياتِ الوَعدِ والوَعِيدِ ، والتَّرغِيب والتَّرهيب ، ويخلط بها آياتٍ دَالةً على كِبْرِياء اللَّه - تعالى - وجلالِ قُدْرَتِه ، ثم يَعُود إلى بَيَان الأحْكَام ، وهذا أحْسَن أنواع التَّرْتِيب ، وأقوى تَأثِيراً في القُلُوب؛ لأن التَّكْلِيف بالأعْمَال الشَّاقَّةِ لا يقع مَوْقِعِ القُبُول ، إلا إذا اقْتَرن بالوَعْد والوَعِيد ، وذلك لا يُؤثِّر إلا عند القَطْع بِغَايَةِ كَمَال من صَدَر عنه الوَعْد والوَعِيد .
قوله [ تعالى ] : { قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } الآية اعلم : أن الاستِفْتَاء لا يقع عن ذَوات النِّساء ، وإنَّما يقع عن حَالةٍ من أحْوَالِهِنّ ، وصفة من صِفاتِهِن ، وتلك الحَالَة غير مَذْكُورة في الآية ، فكانت مُجْمَلة غير دَالَّة على الأمْر الذي وقع عَنْه الاستِفْتَاءِ .
فصل في سبب نزول الآية
قال القُرْطُبِي : هذه الآية نَزَلَت بسبب قَوْم من الصَّحَابة ، سألوا عن أمر النِّسَاء وأحْكَامِهِن في المِيرَاث وغير ذَلِك ، فأمَر اللَّه نبيَّه - عليه الصلاة والسلام - أن يَقُول لَهُم : { الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } أي : يبيِّن لكم حُكْم ما سَألْتُم عَنْه ، وهذه الآيَة رُجوعٌ إلى ما افْتُتِحَتْ به السُّورة من أمْر النِّسَاءِ ، وكانَ قد بَقِيتْ لهم أحْكَام لم يَعْرِفُوها ، فسألوا؛ فقيل لهُم : [ إن ] الله يُفْتيكُم فيهنَّ .
[ وروي عن مَالِكٍ قَالَ : كان رسُول الله صلى الله عليه وسلم يسأل فلا يُجيبُ حتى ينزل عليه الوحي ، وذلك في كِتَاب الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى } [ البقرة : 220 ] { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } [ البقرة : 219 ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال } [ طه : 105 ] و { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [ المائدة : 4 ] .
« وما يُتْلى » : فيه سَبْعَة أوْجه ، وذلك أن مَوْضع « ما » يحتمل أن يكُون رفعاً ، أو نصباً ، أو جراً ، فالرَّفْعُ من ثَلاَثة أوْجُه :
أحدها : أن يكون مرفوعاً ، عَطْفاً على الضَّمِير المستكِنِّ في « يُفتيكم » العائد على الله - تعالى - ، وجاز ذلك للفَصْل بالمَفْعُول والجَارِّ والمَجْرُور ، مع أن الفَصْلَ بأحدهما كافٍ .
والثَّانِي : أنه مَعْطُوفٌ على لَفْظِ الجلالة فَقَطَ؛ ذكره أبو البقاء وغيرُه ، وفيه نَظَر؛ لأنه : إمَّا أنْ يُجْعَلَ من عَطْف مفردٍ على مُفْردٍ ، فكان يَجِبُ أن يُثَنَّى الخَبرُ ، وإن توسَّط بين المُتَعَاطفين ، فيقال : « يُفْتِيانِكُم » ، إلاَّ أنَّ ذلك لا يجُوز ، ومَنِ ادَّعى جَوازَه ، يَحْتاج إلى سَمَاع من العَرَب ، فيقال : « زيد قَائِمَان وعَمْرو » ، ومثلُ هذا لا يجُوز ، وإمَّا أن يُجْعَلَ من عَطْف الجُمَل ، بمَعْنَى : أنَّ خبرَ الثَّاني محذوفٌ ، أي : وما يُتْلَى عَلَيْكُم ، يُفْتيكم ، فيكون هذا هو الوَجْه الثَّالث - وقد ذكروه - فَيَلْزَم التَّكْرَار .

والثالث من أوْجُه الرَّفع : أنه رَفْع بالابْتِدَاء ، وفي الخبَر احْتِمَالان :
أحدهما : أنه الجَارُّ بعده ، وهو « فِي الكِتَابِ » والمرادُ ب « ما يتلى » القرآنُ ، وب « الكتاب » : اللوحُ المحفوظ ، وتكُونُ هذه الجُمْلَة معترضةً بين البدل والمُبْدَل منه ، على ما سيأتي بَيَانُه ، وفائدةُ الإخْبَار بذلك : تَعْظِيمُ المَتْلوِّ ، ورفعُ شأنه؛ كقوله : { وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الزخرف : 4 ] .
والاحتمال الثاني : أن الخبر مَحْذُوفٌ ، أي : والمتلوُّ عَلَيْكم في الكتاب يُفْتيكم ، أو يبيِّن لَكُم أحْكَامَهُن .
وذلك المَتْلُوّ في الكِتَاب هو قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } [ النساء : 3 ] وحَاصِل الكلام : أنَّهم قد سألُوا عن أحْوَال كَثِيرةٍ من أحْوالِ النِّسَاء ، فما كان مِنْهَا غير مُبَيَّن الحُكْم ، ذَكر أن اللَّه يُفْتِيهم فيها ، وما كان فِيهَا مُبَيَّن الحُكْم في الآيات المُتَقَدِّمَةِ ، ذكر أن تِلْك الآيَات المَتْلُوة تُفْتيهم فيها ، وجعل دَلاَلة الكِتَاب على الحُكْم إفتاء من الكتاب؛ كما يُقَال في المَجَازِ المَشْهُور : كِتَاب اللَّه يُبَيِّن لنا هَذَا الحُكْم ، وكلام الزَّمخشري يحتمل جَمِيع الأوْجُه ، فإنه قال : « ما يُتْلى » في مَحَلِّ الرفع ، أي : اللَّهُ يُفْتِيكُم ، والمتلوُّ في الكِتَاب في مَعْنَى : اليتامى ، يعني قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } [ النساء : 3 ] . وهو من قَوْلِك : « أعْجَبَنِي زَيْدٌ وكَرَمُه » انتهى ، يعني : أنَّه من باب التَّجْريد؛ إذ المقصودُ الإخْبَارُ بإعجَاب كَرَم زيدٍ ، وإنما ذُكِر زَيْدٌ؛ ليُفيدَ هذا المَعْنَى الخاصَّ لذلك المَقْصُود أنّ الذي يُفْتيهم هو المَتْلُوُّ في الكِتَابِ ، وذُكِرت الجَلاَلةُ للمعنى المُشَار ، وقد تقدَّم تَحْقِيق التَّجْرِيد في أوَّل البَقَرة ، عند قوله : { يُخَادِعُونَ الله } [ البقرة : 9 ] .
والجَرُّ من وَجْهَيْن :
أحدهما : أن تكُون الواوُ للقَسَم ، وأقسمَ اللَّهُ بالمَتْلُوِّ في شأن النِّساء؛ تَعْظِيماً له ، كأنه قيل : وأقْسِمُ بما يُتْلى عَلَيْكُم في الكِتاب؛ ذكره الزمخشري .
والثاني : أنه عَطْفٌ على الضَّمِير المَجْرُور ب « في » أي : يُفْتِيكُمْ فيهنَّ وفيما يُتْلَى ، وهذا مَنْقُولٌ عن محمَّد بن أبي مُوسَى ، قال : « أفتاهم الله فيما سألُوا عنه ، وفيما لَمْ يَسْألوا » ، إلا أنَّ هذا ضَعِيفٌ من حَيْث الصِّنَاعةُ؛ لأنه عطفٌ على الضمير المَجْرُورِ من غير إعَادَة الجَارِّ؛ وهو رأي الكُوفيِّين ، وقد تقدَّم مذاهب النَّاسِ فيه عند قوله : { وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام } [ البقرة : 217 ] .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « ليس بِسَديدٍ أن يُعْطَفَ على المَجْرُورِ في » فيهنَّ « ؛ لاخْتِلاله من حيث اللَّفْظِ والمَعْنَى » وهذا سَبقَه إليه أبُو إسْحاق .
قال [ الزجاج ] : وهذا بَعِيدٌ بالنِّسْبَة إلى اللَّفْظِ وإلى المَعْنَى : أمَّا اللَّفْظُ؛ فإنه يقتضي عَطْفُ المُظْهَر على المُضْمَرِ ، وأما المَعْنَى : فلأنه ليس المُرادُ أنَّ اللَّهَ يُفْتيكم في شَأنِ ما يُتْلَى عليكم في الكِتَاب ، وذلك غيرُ جَائزٍ؛ كما لم يَجُزْ في قوله

{ تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } [ النساء : 1 ] يعني : من غير إعادةِ الجَارِّ .
وقد أجَابَ أبو حيَّان عما ردَّ به الزَّمَخَشريُّ والزجاج؛ بأن التَّقْدِيرَ : يُفْتيكم في مَتْلُوِّهِنَّ ، وفيما يُتْلَى عليكم في الكِتَاب في يتامى النِّسَاء ، وحُذِف لدلالة قوله : { وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ } ، وإضافةُ « مَتْلُو » إلى ضمير « هُنَّ » سائغةٌ ، إذ الإضافة إليهنَّ ، كقوله : { مَكْرُ الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] لمَّا كان المَكْرُ يقع فيهما ، صَحَّتْ إضافتُه إليْهِمَا ، ومثله قول الآخر : [ الطويل ]
1885- إذَا كَوْكَبُ الخَرْقَاءِ لاَحَ بِسُحْرَةٍ ... سُهَيْلٌ أذَاعَتْ غَزْلَهَا في الغَرَائِبِ
[ قال شهاب الدين : وفي هذا الجواب نظرٌ .
والنَّصْبُ بإضمار فِعْل ، أي : ويبيِّن لَكُم ما يُتْلى [ عليكم ] ؛ لأنَّ « يُفْتيكُم » بمعنى يبيِّن لكم ، واختار أبو حيَّان وجْهَ الجرِّ على العَطْفِ على الضَّمير ، مختاراً لمَذْهَبِ الكوفيِّين قال : لأنّ الأوْجُه كلَّها تؤدِّي إلى التَّأكيد ، وأمَّا وَجْهُ العَطْفِ على الضمير [ المَجْرُور ] ، فيجعلُه تأسِيساً ، قال : « وإذا دار الأمْرُ بينهما؛ فالتَّأسيس أوْلى » ، وفي إفْرَادِ هذا الوَجْهِ بالتَّأسيس دُونَ بَقِيَّةِ الأوْجُه نظرٌ لا يَخْفى .
قوله : « فِي الكِتَابِ » يجوزُ فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ :
أحدها : أنه مُتَعَلِّقٌ ب « يُتْلى » .
والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحْذُوفٍ على أنه حَالٌ من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في « يُتْلى » .
والثالث : أنه خَبَر « مَا يُتْلى » عَلَى الوَجْه الصَّائِر إلى أنَّ « مَا يُتْلى » مبتدأ ، فيتعلق بمَحْذُوف أيضاً ، إلاَّ أنَّ مَحَلَّه على هذا الوجهِ رفعٌ ، وعلى ما قَبْلَه نصبٌ . قوله : « فِي يَتَامَى النسآء » يجوزُ فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ :
أحدُها : أنه بَدلٌ من « الكِتَاب » وهو بدلُ اشْتِمَالٍ ، ولا بد مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ ، أي : في حُكْم يَتَامَى ، ولا شك أن الكِتابَ مشتملٌ على ذِكْرِ أحكامِهِن .
والثاني : أن يتعلَّق ب « يُتْلَى » .
فإن قيل : كيف يجُوزُ تعلُّقُ حَرْفَيْ جرٍّ بلفظ وَاحِدٍ ، ومعنى واحِدٍ؟
فالجوابُ أنَّ مَعْنَاهما مُخْتَلفٌ ، لأن الأولى للظَّرْفية على بابها ، والثانية بمعنى البَاءِ ، للسببية مَجَازاً ، أو حقيقةً عِنْد مَنْ يقولُ بالاشتراك .
وقال أبو البقاء : كما تَقُولُ : « جئتُك في يوم الجُمْعَة في أمْرِ زَيْدٍ » .
والثالث : أنه بَدَل من « فِيهِنَّ » بإعادة العَامِل ، ويكون هذا بَدَل بَعْض من كُلٍّ .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « فإنْ قُلْت : بِمَ تعلَّق قوله : { في يتامى النِّسَاء؟ } قلت : في الوَجْه الأوَّل هو صِلَةُ » يُتْلى « أي : يُتْلى عَلَيْكُم في مَعنَاهُنَّ ، ويجُوز أن يكُون » في يتامى « بَدَلاً من » فيهنَّ « ، وأما في الوَجْهَيْن الأخِيرَيْن فبدلٌ لا غير » انتهى ، يَعْنِي بالوجْه الأول : أن يكون « مَا يُتْلَى » مَرْفُوعَ المَحَلِّ .

قال أبو حيَّان : « أمَّا ما أجازه في وجه الرفع من كونه صلة » يتلى « فلا يجُوزُ إلاَّ أنْ يكونَ بَدَلاً مِنْ » فِي الكِتَابِ « أو تكون » في « للسَّبَبية ، لئلا يتعلّق حَرْفا جر بلفظٍ واحد ، ومعنى واحد ، بعاملٍ واحدٍ ، وهو ممتنعٌ إلاَّ في البَدَل والعَطْفِ ، وأمَّا تجويزُه أنْ يكونَ بَدَلاً من » فيهن « فالظاهرُ أنه لا يجُوز؛ للفَصْلِ بين البَدَلِ والمُبْدَلِ منه بالمَعْطُوف ، ويصير هذا نظير قولك : » زيدٌ يقيمُ في الدَّارِ ، وعمرو في كِسْرٍ مِنْهَا « فَفَصَلْتَ بين » فِي الدَّارِ « وبين » في كِسْرِ « ب » عمرو « ، والمَعْهُودُ في مثل هذا التَّرْكيب : » زيدٌ يقيمُ في الدَّارِ في كِسْرٍ منها وعمرو « .
الرابع : أنْ يتعلَّق بنفس الكِتَاب أي : فيما كَتَب في حُكْم اليَتَامَى .
الخامس : أنه حَالٌ فيتعلَّق بمَحْذوفٍ ، وصاحبُ الحالِ هو المَرْفُوعُ ب » يُتْلى « أي : كائناً في حُكْم يتامَى النِّسَاء ، وإضافةُ » يَتَامى « إلى النِّساء من باب إضافةِ الخاصِّ إلى العَامَّ؛ لأنهن يَنْقَسمْن إلى يتامَى وغَيْرِهِن .
وقال الكُوفيُّون : هو من إضافة الصِّفَة إلى المَوْصُوف؛ إذا الأصلُ : في النِّساء اليتامى كقولك : يوم الجمعة وحق اليقين ، وهذا عند البَصْريِّين لا يجُوزُ ، ويُؤوِّلُون ما وَرَدَ من ذَلِك؛ ولأن الصفة والموصُوف شيء واحدٌ ، وإضافة الشيء إلى نفسه محَالٌ .
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإنْ قُلْت : إضافة اليَتَامَى إلى النِّسَاء ما هِيَ؟ قلت : هي إضافةٌ ، بمَعْنَى : » مِنْ « نحو : سُحْقِ عِمَامةٍ .
قال أبو حيًّان : » والذي ذكره النَّحوِيُّون من ذلك [ إنَّما هُو ] إضافة الشَّيْء إلى جِنْسِه ، نحو : « خاتمُ حَدِيدٍ » ويجوزُ الفَصْل : إمَّا بإتباع ، نحو : « خاتمٌ حديدٌ » ، أو تنصبَه تَمْييزاً ، نحو : « خاتمٌ حديداً » ، أو بجره ب « مِنْ » نَحْو : خاتم من حَديدٍ « ، قال : » والظَّاهِر أن إضافة « سُحْقِ عِمَامةٍ » و « يَتامَى النِّساء » بمعنى : اللام ، ومعنى اللام : الاخْتِصَاص « . وهذا الردُّ لَيْس بشيء ، فإنهم ذَكَروا [ في ] ضَابِط الإضَافة التي بِمَعْنى » مِنْ « أن تكونَ إضَافَة جُزْءٍ إلى كُلٍّ ، بشرطِ صِدْقِ اسمِ الكُلِّ على البعْضِ ، ولا شك أن » يَتَامَى « بَعْض من النِّسَاء ، والنِّسَاء يَصْدُق عَلَيْهِنَّ ، وتحرَّزْنَا بقولنا : » بشرط صِدْقِ الكُلِّ على البَعْض « من نحو : » يَدُ زَيْد « فإنَّ زيداً لا يَصْدُقُ على اليَدِ وحْدَها .
وقال أبو البقاء : { في يتامى النِّساء } [ أي : ] في اليتَامَى مِنْهُنَّ » وهذا تَفْسِيرُ معنى لا إعْرَابٍ .
والجُمْهُور على « يَتَامَى » جمع : يَتيمَة .
وقرأ أبو عَبْد الله المَدَنِي : « ييامى » بياءيْن مِنْ تَحْتُ ، وخرَّجه ابن جِنِّي : على أن الأصْل « أيامَى » فأبْدَلَ من الهَمْزَة ياءً ، كما قَالُوا : « فلانٌ ابنُ أعْصُر ويَعْصُر » ، والهَمْزَةُ أصلٌ ، سُمِّي بذلك لقوله : [ الكامل ]

1886- أبُنَيَّ إنَّ أبَاكَ غَيَّرَ لَوْنَهُ ... كَرُّ اللَّيَالِي واخْتِلاَفُ الأعْصُرِ
وهم يُبْدِلُون الهَمْزة من اليَاء ، كقولهم : « قَطَع الله أدَهُ » يريدون : يدَهُ ، فلذلك يُبْدِلون منها اليَاءَ ، و « أيامى » : جَمْع « أيِّم » بوزن : فَيْعِل ، ثم كُسِّر على أيَايِم ، كسيِّد وسَيَايِد ، ثم قُلِبَتِ اللاَّم إلى مَوْضِع العَيْنِ ، والعَيْن إلى مَوْضِعِ اللاَّم ، فصار اللَّفْظ « أيامى » ثم قُلِبت الكَسْرَةُ فتحةً؛ لِخفَّتِها ، فتحركت الياءُ وانفتح ما قَبْلَها ، فقلبت ألفاً؛ فصار : « أيامى » فوزنه فَيَالِع .
وقال أبو الفَتْحِ أيضاً : ولو قيل إنه كُسِّر أيِّمٌ على فَعْلَى ، كسَكْرَى ، ثم كُسِّر ثانياً على « أيامى » لكان وجهاً حسناً ، وسيأتي تَحْقيق هذه اللَّفْظَةِ [ إن شاءالله تعالى ] عند قوله : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] .
وقرئ : « ما كَتَبَ اللَّهُ لَهُنَّ » بتسمية الفَاعِلِ .
فصل في سبب نزول الآية
ذَكَرُوا في سَبَبِ نُزُول الآية قَوْلَيْن :
الأوّل : أن العَرَب كانت لا تُورثُ النِّساء والصِّبْيَان شيئاً من المِيراثِ؛ كما ذكرنا في أوَّلِ السُّورَةِ ، فنزلت هذه الآية في تَوْريثهم ، قال ابن عبَّاسٍ : يريد ما فَرَضَ لَهُنَّ من المِيرَاثِ .
الثاني : أن الآية نزلت في تَوْفِية الصَّداق لَهُنَّ ، وكانت اليتيمَةُ تكون عند الرَّجُلِ ، فإن كانت جَمِيلةً ومَالَ إلَيْهَا ، تزوَّجَ بها وأكَلَ مالها ، وإن كانت ذَمِيمَةً ، منعها الأزْوَاجَ حتى تَمُوتَ ، فأنزل اللَّه هذه الآية .
قوله : « وتَرْغبون » فيه أوْجُه :
أحدُها : - وهو الظاهر - أنه مَعْطُوفٌ على الصِّلةِ ، عطف جملةٍ مُثْبَتةٍ على جُمْلةٍ منفية ، أي : اللاَّتي لا تُؤتُونَهُنَّ ، واللاًّتي ترغبُون أن تَنْكحوهُنَّ؛ كقولك : « جاء الَّذِي لا يَبْخَلُ ، ويُكْرِم الضِّيفَان » .
والثاني : أنه مَعْطُوفٌ على الفَعْلِ المَنْفِيِّ ب « لا » أي : لا تؤتُونَهُن ولا تَرْغَبُون .
والثالث : أنه حَالٌ من فاعِل « تؤتونهن » أي : لا تؤتُونَهُنَّ ، وأنتم رَاغِبُون فِي نِكاحِهِنَّ ، ذكر هذين الوجْهَيْن أبو البقاء ، وفيهما نَظَر : أمّا الأولُ : فلخلافِ الظَّاهِر ، وأما الثَّانِي : فلأنه مُضَارع فلا تَدْخُل عليه الواوُ إلا بِتَأويلٍ لا حَاجَة لنا بِهِ هَهُنَا .
و « أن تَنْكِحُوهُنَّ » على حَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ ، ففيه الخلاف المَشْهُور : أهي في محل نَصْب أم جر؟ واختُلِفَ في تَقْدير حرف الجَرِّ .
فقيل : هو « في » أي : تَرْغبُون في نِكَاحِهِنَّ؛ لقُبْحهن وفَقْرهنَّ ، وكان الأوْلِيَاء كذلك : إن رَأوها جَمِيلَةً مُوسِرَةً ، تزوجها وَليُّها ، وإلاَّ رغبَ عَنْها ، والقَوْل الأوَّل مَرْوِيٌّ عن عَائِشَة وطَائِفَة كَبِيرةٍ .
قال أبو عُبَيْدَة : هذه الآية [ تَحْتَمِل ] الرَّغْبَة والنَّفْرَة .
فإن حَمَلْته على الرًّغبة ، كان المعنى : وتَرْغَبُون أن تَنْكِحُوهُنَّ .
وإن حملته على النَّفْرة ، كان المَعْنَى : وترغبون عن أن تنكحوهن؛ لدمامتهن .
فإن قيل : إن النحاة ذكروا أن حَرْف الجَرِّ يجوز حذفُه باطِّرادَ مع « أنْ » و « أنَّ » بِشَرْط أمْنِ اللَّبْس ، يعني : أن يكون الحَرْفُ متعيّناً ، نحو : « عَجبْت أن تَقُوم » أي : من أن تَقُوم ، بخلاف « مِلْتُ إلى أنْ تَقُوم » أو « عَنْ أنْ تَقُوم » والآيةُ من هذا القَبِيل .

فالجواب : أن المَعْنَييْن هُنا صَالِحَان؛ يدل عليه ما ذَكَرْت لك من سَبب النُّزُولِ ، فصار كلٌّ من الحَرْفَيْن مراداً على سَبِيل البَدَل .
فصل مذهب الأحْنَاف فيمَن له ولاية الإجبار
استدل الحَنَفِيَّة بهذه الآيَة ، على أنَّه يَجُوز لغير الأب والجَدِّ تزويج الصَّغيرة ، ولا حجَّة لهم فيها؛ لاحْتِمَال أن يكون المُرَادُ : وتَرْغَبُون أن تُنْكِحُوهُن إذا بَلَغْن ، ويدل على صِحَّة قَوْلِنا : إن قُدَامة بن مَظْعُون زَوَّج ابْنَة أخيه عُثْمَان بن مَظْعُون من عَبْد الله بن عُمَر ، فخطبها المُغِيرَة بن شُعْبَة ، ورغَّب أمَّهَا في المَالِ ، فجاءوا إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قُدَامَةُ : أنا عَمُّهَا وَوَصِيُّ أبيهَا ، فقال النَّبِيُّ - عليه الصلاة والسلام - : « إنَّها صَغِيرة ولا تُزَوَّج إلا بإذْنِها » وفرَّق بَيْنَها وبين ابْن عُمر ، وليس في الآيَة أكْثَرُ من رغْبَة الأوْلِيَاء في نِكَاحِ اليَتِيمَةِ ، وذلك لا يَدُلُّ على الجَوَازِ .
[ قوله : « والمستضعفين » فيه ثلاثة أوْجُه :
أظهرُهَا : - أنه مَعْطُوفٌ على « يَتَامَى النِّسَاء » أي : ما يُتْلَى عَلَيْكُم في يَتَامَى النِّسَاء وفي المُسْتَضْعَفِين ، والذي تُلِي عَلَيْهِم فيهم قوله : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] ، وذلك أنَّهُم كانوا يَقُولون : لا نُوَرِّثُ إلا مَنْ يَحْمِي الحَوْزَة ، ويَذُبُّ عن الحَرَمِ ، فيَحْرِمُون المَرْأةَ والصَّغِيرَ؛ فنزلت ] .
{ والمُسْتضعَفِين من الوِلْدَان } وهم الصِّغَار ، أن تُعْطُوهم حُقُوقَهُم؛ لأنَّهم كانوا لا يُورثون الصِّغَار ، يريد ما يُتْلَى عليكم في باب « اليَتَامَى » من قوله : { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 2 ] ، يعني : إعطاء حقوق الصِّغار .
والثَّاني : أنَّه في مَحَلِّ جر ، عَطْفاً على الضَّمِير في « فيهن » ؛ وهذا رأيٌ كوفِيّ .
والثالث : أنه مَنْصُوبٌ عطفاً على مَوْضِع « فيهن » أي : ويبيِّن حال المستضعفين .
قال أبو البقاء : « وهذا التَّقْدِيرُ يَدْخُلُ في مَذْهَب البَصريِّين مِنْ غيرِ كَلَفَةٍ » يعني : أنه خَيْرٌ من مَذْهَب الكُوفيين ، حيث يُعْطَفُ على الضَّمِير المَجْرُور مِنْ غَيْرِ إعادَةِ الجَارِّ .
قوله : « وأنْ تقوموا » فيه خَمْسَةُ أوجه :
الثلاثة المتقدمة قَبْله ، فيكون هو كَذَلِك لِعطْفِه على ما قَبْلَه ، والمتلوُّ عليهم في هذا المَعْنَى قوله : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] .
والرابع : النَّصْبُ بإضمار فعل .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « ويجوزُ أنْ يكون مَنْصُوباً بإضْمار » يأمُرُكُم « ، بمعنى : ويأمركم أن تقُومُوا ، وهو خِطَابٌ للأئمة بأنْ يَنْظُروا إليْهِم ، ويَسْتَوْفُوا لهم حُقُوقَهم ، ولا يَدَعُوا أحداً يَهْتَضِمُ جَانِبَهُم » ، فهذا الوَجْه من النَّصْب غيرُ الوَجْهِ المذْكُور قَبْلَه .
والخامس : أنه مُبْتدأ ، وخبره مَحْذُوفٌ ، أي : وقيامُكم لليتامَى بالقِسْطِ خيرٌ لَكُم ، وأولُ الأوجُهِ أوجَهُ ، والمعنى : أن تقوموا لليتَامَى بالقِسْطِ ، أي : بالعَدْل فِي مُهُورِهِن ، ومواريثهِن .
ثم قال : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً } يجازِيكُم به .

وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)

وقوله : « وَإِنِ امرأة » : « امرأةٌ » فاعلٌ بِفعْلٍ مضمر واجب الإضْمَار ، وهذه من باب الاشْتِغَال ، ولا يجُوز رَفْعُها بالابْتداء ، لأنَّ أداةَ الشَّرْطِ لا يَلِيها إلا الفِعْلُ عند جُمْهُور البَصْرِيِّين ، خلافاً للأخفش ، والكُوفيِّين ، والتقديرُ : « وإنْ خافت امْرأةٌ خَافَتْ » ، ونحوهُ : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك } [ التوبة : 6 ] ، واستدلَّ البَصْرِيُّون على مَذْهَبهم : بأن الفعل قد جَاءَ مَجْزُوماً بعد الاسْمِ الوَاقِع بعد أداة الشَّرْط في قَوْل عديٍّ : [ الخفيف ]
1887- وَمَتَى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو ... هُ وَتُعْطَفْ عَلَيْه كَأسُ السَّاقِي
قال بعضهم : خافت ، أي : عَلِمَت ، وقيل : ظَنَّت . قال ابن الخطِيب : ولا حَاجَة لِتَرْك الظَّاهر؛ لأن الخَوْف إنَّما يكون عند ظُهُور أماراتٍ [ تدلُّ عليه ] من جِهَة الزَّوْجِ ، إمَّا قَوْلِيَّةٌ أو فِعْلِيَّةٌ .
قوله « مِن بَعْلِها » يجوزُ أن يَتَعَلَّق ب « خَافَت » وهو الظَّاهِر ، وأن يتعلَّق بمَحْذُوف على أنه حَالٌ من : « نُشوزاً » إذ هو في الأصْل صِفَةُ نكرةٍ ، فلمَّا قُدِّم عَلَيْها ، تعذَّر جَعْلُه صِفَةً ، فنُصِب حالاً ، و « فلا » جَوَابُ الشَّرْطِ ، والبَعْل : يطلق على الزَّوْج ، وعلى السَّيِّد .
قوله « أَن يُصْلِحَا » قرأ الكوفيون : « يُصْلِحا » من أصْلَح ، وباقي السَّبْعة « يَصَّالحا » بتشديد الصَّاد بعدها ألف ، وقرأ عثمان البتي والجَحْدَري : « يَصَّلِحا » بتشديد الصَّاد من غَيْر ألفٍ ، وعبيدة السَّلَمَانِيّ : « يُصالِحا » بضمِّ الياءِ ، وتخفيفِ الصَّادِ ، وبعدَها ألفٌ من المُفَاعَلَة ، وابن مَسْعُود ، والأعْمش : « أن اصَّالحا » .
فأمّا قراءةُ الكوفيين فَوَاضِحَةٌ .
وقراءةُ باقي السَّبْعَة ، أصلُهَا : « يتصالحا » ، فأُريد الإدْغَام تَخْفِيفاً؛ فأبْدِلت التَّاءُ صاداً وأدْغِمت ، كقوله : « ادّاركوا » . وأمَّا قراءةُ عُثْمَان ، فأصلُها : « يَصْطَلِحا » فَخُفِّفَ بإبْدَالِ الطَّاء المُبْدَلةِ من تاءِ الافْتِعَال صَاداً ، وإدغامها فيما بَعْدَها .
وقال أبو البقاء : « وأصله : » يَصْتَلِحا « فأبْدِلت التاء صَاداً وأدْغِمت فيها الأولَى » وهذا ليس بِجَيِّدٍ ، لأنَّ تاءَ الافْتِعَال يجبُ قَلْبُها طاءً بعد الأحْرُف الأرْبَعَة؛ كما تقدَّم تَحْقِيقُه في البَقرة ، فلا حَاجَة إلى تَقْديرهَا تاءً؛ لأنه لو لُفِظ بالفِعْلِ مظهراً لم يُلْفظ فيه بالتَّاء إلا بَياناً لأصْلِه .
وأمَّا قراءةُ عُبَيْدة فواضحةٌ؛ لأنها من المُصَالَحة .
وأما قِرَاءة : « يَصْطَلِحَا » فأوضحُ ، ولم يُخْتَلَفْ في « صُلْحاً » مع اختلافِهِم في فِعْلِهِ .
وفي نصبه أوجهٌ :
فإنه على قِرَاءة الكوفيين : يَحْتمل أن يكُونَ مَصْدَراً ، وناصبُه : إمَّا الفِعْلُ المتقدِّمُ وهو مَصْدَرٌ على حَذْف الزَّوَائِد ، وبعضُهم يعبِّر عنه بأنه اسْمُ مَصْدرٍ كالعَطَاءِ والنَّبَات ، وإمَّا فِعْلٌ مقدرٌ أي : فيُصْلِحُ حَالَهُما صُلْحاً . وفي المَفْعُولِ على هذين التَّقْدِيرين وَجْهَان :
أحدُهما : أنه « بَيْنَهُمَا » اتُسِّع في الظَّرْف فجُعِل مَفْعُولاً به .
والثاني : أنه مَحْذُوف و « بينهما » ظرفٌ أو حَالٌ مِنْ « صلحاً » فإنه صِفةٌ له في الأصْلِ ، ويُحْتمل أن يكُونَ نصبُ « صُلْحاً » على المَفْعُول به ، إن جَعَلته اسماً للشيء المُصْطَلح عليه؛ كالعَطَاء بِمَعْنَى : المُعْطى ، والثبات بِمَعْنَى : المُثْبَت .

وأمَّا على بقيةِ القِراءاتِ : فيجوزُ أنْ يكونَ مَصْدَراً على أحدِ التَّقْديرين المتقدمين : أعني : كونَه اسمَ المصدرِ ، أو كونَه على حَذْفِ الزَّوَائِد ، فيكون وَاقِعاً موقع « تَصَالَحَا ، أو اصْطِلاَحاً ، أو مصالحةً » حَسْبَ القِرَاءات المتقدِّمة ، ويجوزُ أنْ يكون مَنْصُوباً على إسْقَاطِ حرفِ الجَرِّ ، أي : بصُلْحِ ، أي : بشيء يَقعُ بسببِ المُصَالَحة ، إذا جَعَلْناه اسْماً للشَّيْءِ المُصْطَلَح عليه .
والحاصلُ أنه في بَقِيَّة القراءات يَنْتَفي عنه وَجْهُ المَفْعُولِ به المَذْكُورِ في قِرَاءة الكوفِيِّين ، وتَبْقَى الأوْجُهُ البَاقِيةُ جَائِزةً في سائر القِراءاتِ .
قوله : « والصُّلْحُ خيرٌ » : مبتدأ وخبر ، وهذه الجُمْلَة قال الزمخشري فيها وفي التي بعدها : « إنهما اعْتِرَاضٌ » ولم يبيِّنْ ذلك ، وكأنه يُريد أنَّ قوله : « وإنْ يتفرَّقا » مَعْطُوفٌ على قوله : « فَلاَ جُنَاْحَ » فجاءت الجُمْلَتانَ بينهما اعْتِرَاضاً؛ هكذا قال أبو حيَّان .
قال شهاب الدين : وفيه نظر ، فإن بَعْدهما جُمَلاً أخَرَ ، فكان ينبغي أن يَقُول الزَّمَخْشَرِي في الجَمِيع : إنها اعْتِرَاضٌ ، ولا يَخُص : « والصُّلْح خَيْر » ، وأُحْضِرَت الأنفسُ [ الشُّح ] بذلك ، وإنما يُرِيد الزَّمَخْشَرِيُّ بذلك : الاعتراض بَيْن قوله : « وإن امْرَأةٌ » وقوله : « وَإِن تُحْسِنُواْ » فإنهما شَرْطَان متعاطفانِ ، ويَدُلُّ عليه تَفْسِيرُه له بما يُفِيدُ هذا المَعْنَى ، فإنه قال : « وإن تحسنُوا بالأقَامَة على نِسَائِكُم ، وإن كَرِهْتُموُهن وأحببتم غَيْرَهُن ، وتتقوا النُّشوزَ والإعْرَاض » انتهى .
فصل
والألِف واللاَّم في الصُّلح يَجُوز أن تكون للجِنْس ، وأن تكونَ للعهْد؛ لتقدُّمِ ذكره ، نحو : { فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 16 ] .
فعلى الأوَّل وهو أنه مُفْرَد محلًّى بالألِف واللاَّم فهل يُفيدُ العُمُومَ ، أم لاَ؟ فإن قُلْنَا : يفيد العُمَوم؛ فإذا حصل هُنَاك مَعْهُود سِابِقٌ ، فهل يُحْمَل على العُمُوم ، أم على المَعْهُود السِّابق؟ [ و ] الأوْلى : حَمْله على المَعْهُود السَّابِق ، لأنا إنَّما حَمَلْنَاهُ على الاسْتِغْرَاق ضَرُورَة أنَّا لو لم نَقُل ذلك لخرج عن الإفَادَة ، وصار مُجْمَلاً ، فإذا حَصَل مَعْهُود سَابِقُ ، اندفع هذا المَحْذُور ، فوجب حَمْلُه عليه .
وإذا عَرَفْت هذه المُقَدِّمة : فمن حَمَلَهُ على المَعْهُود السَّابِق ، قال : الصُّلْح بين الزَّوْجَيْن خير من الفُرْقَة ، ومن حَمَلَهُ على الاسْتِغْرَاقِ ، تمسَّك به في أنَّ الصُّلْح على الإنْكَار جَائز ، وهُمُ الحَنفيَّة و « خير » : يُحْتمل أن تَكُون للتَّفْضِيل على بَابِها ، والمفضَّلُ عليه مَحْذُوفٌ ، فقيل : تقديرُه : من النُّشُوز ، والإعْرَاض ، وقيل : خيرٌ من الفُرْقَة ، والتَّقْدِير الأولُ أوْلى؛ للدلالة اللَّفْظِيَّة ، ويُحْتمل أن تَكثون صِفَةً مجرَّدَةً ، أي : والصُّلَحُ خيرٌ من الخُيُور؛ كما أنَّ الخُصُومة شرٌّ من الشُّرُور .
فصل في سبب نزول الآية
هذه الآية نزلت في عمرة ويُقَال : خَولة بِنْت محمَّد بن مَسْلَمة ، وفي زَوْجَها سَعْد ابن الرَّبِيع ، ويقال : رَافِع بن خُدَيْج تزوَّجَهَا وهي شَابَّة ، فلما علاَهَا الكِبَر ، تزوَّجَ عليها امْرَأة شابَّةً ، فآثرها عليها ، وجَفَا ابْنَه محمَّد بن مسلمة ، فأتت رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فشكت ذلك إلَيْه ، فنزلت الآية .

وقيل : نزلت في سَوْدَة بنت زمْعَة ، حين أرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُطَلِّقها ، فالتمست أن يُمْسِكَها وتَجْعَل نَوْبَتَها لِعَائِشَة ، فأجازَه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ولم يطلقها .
وروي عن عَائِشَة ، أنها قَالَت : نزلت في المَرْأة تكون عند الرَّجُل ، ويُرِيد أن يَسْتَبْدِلَ [ بها ] غيرها ، فتقول : أمْسِكْنِي ، وتزوج بِغَيْري ، وأنت في حِلٍّ من النَّفَقَةِ [ والقَسْم ] .
وقال سَعِيد بن جُبَير : نزلت في أبِي السَّائِب ، كان له امْرَأةٌ قد كَبِرت ، وله مِنْهَا أوْلاد ، فأراد أن يُطَلِّقَها ويتزوَّجَ بِغَيْرِها ، فقالت : لا تطلِّقْنِي ، ودعنِي على وَلَدِي ، فاقْسم لي مِنْ كلِّ شَهْرَيْن إن شِئْتَ ، وإن شئِتْ فلا تَقْسِم لي ، فقال : إن كَانَ يصلحُ ذَلِك؛ فهو أحَبُّ إليّ ، فأتَى رسُول الله صلى الله عليه وسلم فذكر لَهُ ذَلِك . فأنزل الله { وإن امْرأةٌ خافت } أي : علمت قيل : وظَنَّتْ ، وقيل : مُجَرَّد الخَوْف عِنْد [ ظُهُور ] أمارات النُّشُوز ، وهو البُغْضُ والشِّقَاق ، من النَّشْز : وهو ما ارتفع عَنِ الأرْض .
قال الكَلْبِيُّ : نشوز الرَّجُل : ترك مُجَامَعَتِها ، وإعراضُهُ بوجْهه عَنْها ، وقلة مُجَالَسَتِها ، { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ } أي : على الزَّوج والمَرْأة أن يتصالَحَا ، والصُّلْحُ إنَّما يحصُلُ في شَيْءٍ يكون حَقًّا له ، وحقُّ المرأة على الزَّوْج : إما المَهْر ، أو النَّفَقَة ، أو القَسْم . فهذه الثلاثة هي التي تَقْدِر المرأة على طلبها من الزَّوْجِ ، شاء أم أبَى ، وأما الوَطءُ فلا يُجبرُ عليه إلاَّ في بعض الصُّوَر ، وإذا كَان كَذَلك ، فإذا كَانَتْ هي المُحْسِنَة ، ولا تُجْبَر على ذلك ، وإن لم تَرْضَ ، كان على الزَّوْج أن يُوَفِّيها حقها من القَسْم والنَّفقة [ أو يُسَرِّحها بإحْسَان ، فإن أمْسَكها ووفَّاها حقَّها مع كَراهِيَّتهِ ، فهو المُحْسِن .
وروى سُليْمَان بن يَسَار ، عن ابن عبَّاسٍ : فإن صَالَحَتْهُ عن بَعْضِ حقها من القَسْم والنَّفَقَةِ ، ] فذلك جائز ما رَضِيت ، فإن أنْكَرَت بعد الصُّلْح ، فذلك لَهَا ، ولها حَقُّهَاِ .
ثم قال : « والصُّلْح خَيْر » [ يعني : إقَامَتَهَا ] بعد تَخْييره إيَّاهَا ، والمُصَالَحة على تَرْك بَعْضِ حَقِّها ، خَيْر من الفُرقَة .
كما رُوِي أن سَوْدة كانت امْرأةً كبِيرةً ، أراد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُفَارِقَهَا ، فقالت : لا تطلِّقْنِي ، وكفاني أن أبْعَث في نِسَائِكَ ، وقد جَعَلْتُ نوبتي لِعَائِشَة ، فأمْسَكَها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يَقْسِمُ لِعائِشَة يَوْمَها ويَوْمَ سَوْدَة .
فصل
قال - تعالى - : { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا } ، وذلك يُوهِمُ أنَّه رخصة ، والغايةُ فيه : ارْتِفَاع الإثْم ، فبين - تعالى - أنَّ هذا الصُّلح كما أنَّه لا جُنَاح فيه ولا إثْم ، ففيه خَيْر عَظِيمٌ .
قوله : { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح } « حَضَر » يتعدى إلى مَفْعُول ، واكتسب بالهمزة مفعُولاً ثانياً ، فلمَّا بُني للمفعُول ، قامَ أحدهما مقام الفاعل ، فانتصب الآخرُ ، والقائمُ مقام الفاعِلِ هنا يَحْتمل وجهين :
أظهرهما - وهو المشهُورُ من مذاهب النُّحَاة - : أنه الأول وهو « الأنْفُسُ » فإنه الفاعِل في الأصْلِ ، إذ الأصْل : « حَضرت الأنْفُسُ الشُحَّ » .

والثاني : أنه المفعُول الثاني ، والأصل : وحضر الشُحُّ الأنْفُسَ ، ثم أحْضَر اللَّهُ الشُحَّ الأنْفُسَ ، فلما بُنِيَ الفِعْل للمفعُول أقيم الثانِي - وهو الأنْفُسُ- مقامَ الفَاعِلِ ، فأخِّر الأوَّل وبقي منصوباً ، وعلى هذا يَجُوز أن يُقَال : « أُعْطِي درهمٌ زَيْداً » و « كُسِي جُبَّة عَمراً » ، والعَكْس هو المشهُورُ كما تقدَّم ، وكلامُ الزَّمَخْشَرِي يَحْتمل كَوْنَ الثاني هو القَائِم مقام الفاعل؛ فإنه قال : « ومعنى إحْضَارِ الأنْفُس الشُحَّ : أنَّ الشُحَّ جُعِل حَاضِراً لها ، لا يَغِيب الفاعل؛ فإنه قال : » ومعنى إحْضَارِ الأنْفُسِ الشُحَّ : أنَّ الشُحَّ جُعِل حَاضِراً لها ، لا يَغِيب عنها أبداً ولا يَنْفَكُّ « يعني : أنها مَطْبُوعةٌ عليه ، فأسْنِد الحضور إلى الشُحِّ كما ترى ، ويحتمل أنه جعله من باب القلْب ، فنسب الحُضُورَ إلى الشُحِّ ، وهو في الحقيقة مَنْسُوبٌ إلى الأنْفس . وقرأ العَدَوِي : » الشِّحَّ « بكسر الشين وهي لُغَة ، والشُّحُّ : البُخْل مع حرص؛ فهو أخَصُّ من البُخْل .
قال القرطبي : وهذه الآية إخبار في كُلِّ أحدٍ ، وأنَّ الإنْسَان لا بُد أن يشح بِحُكْم خِلْقَتِه ، وجبلَّته ، حتى يَحْمِل صَاحِبَه على بَعْض ما يَكْرَه ، ويقال : الشُحُّ : هو البُخْل ، وحقيقته : الحِرْص على مَنْع الخَيْر . والمُرادُ به ههنا : شُح كل واحدٍ من الزَّوْجَيْن بِنَصِيبهِ من الآخَر ، فَتَشِحُّ المرأة : ببذل حقِّها ، ويَشِحُّ الزَّوْج : بأن يَنْقَضِي عمره مَعَهَا مع دَمَامَة وَجْهِها ، وكبر سِنِّها ، وعدم حُصُول اللَّذَّة بِمُجَالَسَتِها .
فصل
قال القرطبي : والشُّحُّ : الضبط على المُعْتَقَدَات والإرادَة ، وفي الهِمَمِ والأمْوال ، ونحو ذلك ، فما أفْرِط منه على الدِّين ، فهو محمود ، وما أفْرِطَ منه في غَيْرِهِ ، ففيه بَعْض المذمَّة . وهو قوله - تعالى - : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } [ التغابن : 16 ] الآية ، وما صَار مِنْه إلى حَيِّز مَنْع الحُقُوقِ [ الشَّرعيَّة ] أو الَّتِي تَقْتَضِيهَا المُرُوءة ، فهو البُخْلُ؛ [ و ] هي رذيلة ، وإذا آلَ البُخْل إلى هَذِه الأخْلاَق المَذْمُومَةِ ، لم يبق [ معه ] خيرٌ ولا صَلاَحٌ .
روى الماوَرْدِيُّ : » أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال للأنْصَار : من سَيِّدُكُم؟ قالوا : الجَدُّ بن قَيْس على بُخْلٍ فيهه؛ فقال النَّبِي صلى الله عليه وسلم : « وأي داء أدْوَى من البُخْل » قالوا : وكيف ذَاكَ يا رسُولَ اللَّه؟ قال : إنَّ قوماً نزلوا بسَاحِل ، فكرهوا لِبُخْلِهِم نُزُولَ الأضْيَافِ بِهِم ، فقالوا : ليَبْعد [ الرِّجَال ] منَّا عن النِّساء؛ حتى يَعْتَذِر الرَّجَال إلى الأضْيَافِ ببعد النِّسَاء ، ويعتَذِر النِّسَاء ببُعْد الرَّجَالِ ، ففعلوا وطال ذَلِكَ فِيهِمْ ، فاشْتَغَل الرَّجَال بالرَّجَال ، والنِّسَاء بالنِّسَاء « .
ثم قال : » وإنْ تُحْسِنُوا « أي : تُصْلِحُوا » وتَتَّقوا « : الجور .
وقيل : هذا خِطَابٌ مع الأزواج ، أي : وإن تُحْسِنُوا بالإقَامَة مَعَها مع الكَرَاهَةِ ، وتتقوا ظُلْمَها بالنُّشُّوزِ والإعْرَاض .
وقيل [ هو ] خِطاب لغيرهما ، أي : تُحْسِنُوا في الصُّلْح بينهما ، وتَتَّقُوا المَيْل إلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فإن اللَّه كان بما تَعْمَلُون خَبِيراً ، فيجزيكم بأعْمَالِكُم .
حكى صَاحِب الكَشَّاف : أن عِمْرَان بن حطَّان الخَارِجيَّ كان من أذَمِّ بني آدَم ، وامرأته من أجْمَلِهِم ، فَنَظَرَت إليه يَوْماً ، ثم قالت : الحَمْدُ للَّهِ ، فقال : مَا لَكِ؟ فقالت حَمَدْتُ اللَّه على أنِّي وإيَّاك من أهْل الجَنَّة؛ لأنك رُزِقْتَ مِثْلِي ، فشكَرْت ، ورُزِقْتُ مِثْلك؛ فَصَبَرْتُ ، وقد وَعَد اللَّه بالجَنَّة الشَّاكرين والصَّابرين .

وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)

وفيه قولان :
الأول : لن تَقْدِرُوا في التَّسْوِية بَيْنَهُنَّ في مَيْل الطِّبَاع ، من الحُبِّ ومَيْل القلب ، وإذا لم تَقْدِرُوا عليه ، لَمْ تكُونوا مكَلَّفين به .
قالت المُعْتَزَلَة : هذا يدلُّ على أن تَكْلِيفَ ما لا يُطَاق ، غيْر وَاقِع ولا جائز الوُقُوع ، وقد تَقَدَّم إلزامهم في العِلْمِ والدَّاعِي ، وقد يُجَاب أيْضاً : بأنه - تعالى - إنما نَفَى الاسْتِطَاعة الَّتي هي من جِهَة المكَلَّفِ ، ولَمْ يَنْفِ التَّكْلِيف الَّذِي هو من جهة الشَّارع ، فالآيَة لا تَدُلُّ على نَفْيِ التَّكْلِيفِ ، وإنما تَدُلُّ على نفي اسْتِطَاعة المكَلَّف .
الثاني : لا يستطيعون التَّسْوِيَةَ بينهن في الأقْوَال والأفْعَال؛ لأن التَّفَاوُت في الحُبِّ ، يوجِبُ التَّفَاوُت في نتائِجِ الحُبِّ؛ لأن الفِعل بدون الدَّاعِي ، [ و ] مع قيام الصَّارف مُحَالٌ .
ثم قال : « فَلاَ تَمِيلُواْ » أي : إلى التي تُحِبُّونها ، « كُلَّ المَيْل » في القِسْمة ، واللَّفْظ والمَعْنَى : أنكم لَسْتُم تَحْتَرِزُون عن حُصُول التَّفَاوُت في المَيْل القَلْبِي؛ لأن ذَلِك خَارِجٌ عن وُسْعكُم ، ولكنكم مَنْهِيُّون عن إظْهَار ذلك [ التفاوت ] في القَوْل والفِعْل .
« روي عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم : [ أنه ] كان يَقْسِم ، ويقول : » هذا قَسَمِي فيما أمْلِكُ ، وأنْت أعْلَم بما لا أمْلِكُ « .
قوله : » كُلَّ المَيْلِ « : نصبٌ على المَصْدرية ، وقد تقرر أن » كل « بحسَبِ ما تُضَاف إليه ، إنْ أضيفَت إلى مَصْدرٍ - كانت مَصْدَراً - أو ظرفٍ ، أو غَيْرِه؛ فكذلك .
قوله : » فَتَذَرُوهَا « فيه وجهان :
أحدهما : أنه مَنْصُوب بإضْمَارِ » أنْ « في جَوابِ النَّهْي .
والثاني : أنه مَجْزُوم عَطْفاً على الفِعْل قبله ، أي : فلا تَذرُوها ، ففي الأوَّل نَهْيٌ عن الجمع بينهما ، وفي الثاني نهيٌ عن كلٍّ على حِدَتِه وهو أبلغُ ، والضَّميرُ في » تَذَرُوها « يعود على المُميلِ عنها؛ لدلالة السِّياق عليها .
قوله : » كالمُعلَّقة « : حال من » ها « في » تَذَروها « فيتعلَّق بمَحْذُوف ، أي : فتذُروها مُشْبِهةً المُعَلَّقة ، ويجُوز عندي : أن يَكُون مفعولاً ثانياً؛ لأن قولك : » تَذَر « بمعنى : تَتْرك ، و » تَرَك « يتعدَّى لاثْنَيْن إذا كان بِمَعْنَى : صيَّر .
والمعنى : لا تَتَّبِعُوا هَوَاكُم ، فَتَدَعُوا الأخْرى كالمُعَلَّقَة لا أيِّماً ، ولا ذَات بَعْل؛ كما أن الشَّيء المُعَلَّق لا [ يَكُون ] على الأرْضِ ، ولا على السَّماءِ ، وفي قِرَاءة أبَيِّ : » فَتَذَرُوها كالمَسْجُونَة « ، وفي الحَدِيث : » من كَانَت له امْرأتَانِ يميلُ مع إحْدَاهُمَا ، جاء يَوْم القِيَامة وأحدُ شِقَّيْه مَائِلٌ « .
قوله : » وإن تُصْلِحُوا « بالعدل في القَسْم ، و » تَتَّقُوا « : الجور { فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } لما حَصَل في القَلْبِ من المَيْلِ إلى بَعْضِهِنَّ دون بَعْضٍ .
وقيل المعنى : وإن تُصْلحوا ما مَضَى من مَيْلِكُم ، وتَتَدَارَكُوه بالتَّوْبَة ، وتَتَّقُوا في المُسْتَقْبَل عن مِثْلِه ، غفر اللَّه لكم ذَلِكَ ، وهذا أوْلَى؛ لأن التَّفَاوُت في المَيْل القَلْبي ليس في الوُسْع ، فلا يحتاج إلى المَغْفِرَة .

قوله « وَإنْ يَتَفَرَّقا » يعني : الزَّوْج والمَرْأة بالطَّلاق ، { يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } : من رزقه ، يعني : المَرْأة بِزَوْج آخر ، والزَّوْج بامرأة أخْرى .
وقيل : يُغْنِي اللَّه كل واحِدٍ منهما عن صَاحِبِه بعد الطَّلاقِ ، { وَكَانَ الله وَاسِعاً حَكِيماً } وصف نفسه بِكَوْنه وَاسِعاً؛ ولم يُضِفْه إلى شَيْء؛ لأنه - تعالى - وَاسِعُ الفَضْل ، واسع الرِّزْقِ ، واسع النِّعْمَةِ ، واسع الرَّحْمَةِ ، واسع القُدْرَةِ ، واسِعُ العِلْمِ ، واسعٌ في جميع الكمالات ، فلو قالَ : واسِعٌ في كذا ، لاخْتَصَّ بذلك المَذْكُور ، وقوله : « حكيماً » قال ابن عبَّاسٍ : يريد فيما أمرَ ونَهَى ، وقال الكلبيُّ : فيما حَكَم على الزَّوْج من إمْسَاكِهَا بمعرُوفٍ ، أوْ تسريحٍ بإحْسَانٍ .
فصل
حُكْم الرَّجلِ إذا كان تَحْتَهُ امْرأتَان أوْ أكْثَر ، يجِبُ عليه التَّسْوِيَة بَيْنَهُنَّ في القَسْم ، فإن ترك التَّسْوِيَة بَيْنَهُنَّ في القَسْم ، عَصَى اللَّه - تعالى - ، وعليه القَضَاءُ للمَظْلُومة ، والتَّسْوِيَة شَرْط في البَيْنُونَةِ أمَّا في الجِمَاع فَلاَ؛ لأنه يَدُور على النَّشَاطِ وليس ذَلِكِ إليه ، ولو كانت تَحْتَه حُرّةٌ وأمَةٌ فإنَّه يَبِيتُ عِنْد الحُرَّة لَيْلَتَيْن ، وعند الأمَة لَيْلَة ، وإذا تَزَوَّج جَدِيدَةً على قَدِيمَة ، يخص الجَدِيدَة بأن يَبِيت عِنْدَهَا سَبْعَ لَيَالٍ على التَّوالِي إن كانت بِكْراً ، وإن كانت ثَيِّباً ، فثلاث لَيَالٍ ، ثم يُسَوِّي بعد ذَلِك بين الكُلِّ ، ولا يجب قَضَاء هذه الثلاث للقَدِيمَات؛ لقول أنسٍ : من السُّنَّةِ إذا تزوَّج البكر على الثَّيِّب أن يُقِيم عِنْدَها سَبْعَةً ، وإذا تزوَّج الثَّيِّب على البِكْرِ ، أن يُقِيم عندها ثلاثاً ، فإن أحبَّت الثَّيِّبُ أن يُقِيم عِنْدَها سبْعاً ، فعل ، ثم قَضَاه للبَوَاقِي؛ لأن « النَّبِي صلى الله عليه وسلم لما تَزَوَّج أمَّ سَلَمَة أقام عِنْدَها سَبْعاً ، ثم قال : لَيْس بك هَوانٌ على أهْلِكِ ، إن شِئْت سَبَّعْت لَكِ ، وإن سَبَّعْت لك سَبَّعْت لِنِسَائي » ، وإذا أرادَ الرَّجُل سفرَ حَاجَةٍ ، فيجُوزُ له أنْ يحمل بَعْضَ نِسَائِه [ معه بالقُرْعَة بَيْنَهُنَّ ] ، ولا يَجِبُ عليه [ أن ] يَقْضِي للبَاقِيَات مُدَّة سَفَرِه وإن طَالَتْ إذا لَمْ يزدْ مَقَامُهُ في بَلْدة على مُدَّة المُسَافِرِين؛ لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سَفَراً ، أقْرَعَ بين نِسَائِه ، فأيّتهن خَرَج سهُمُهَا ، خرج بِهَا مَعَهُ ، أما إذا أرَادَ سَفَرَ نَقْلةٍ ، فَلَيْسَ له تَخْصِيصُ بَعْضِهِن ، لا بِقُرْعَة ولا بِغَيْرها .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)

في تعلُّق هذه الآيَة بما قَبْلَها وجهان :
الأوَّل [ أنه - تعالى - لمّا ] قال : { يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] أشار إلى ما هُو كالتَّفْسير لكونه وَاسِعاً؛ فقال : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } يعني : من كَانَ كَذَلِكَ ، [ فإنه ] يكون وَاسِع العِلْم ، والقُدْرَة ، والجُود ، والفَضْل ، والرَّحمة .
الثاني : أنه - تعالى - لمَّا أمر بالعَدْل ، والإحْسَان إلى اليَتَامي والنِّسَاء ، بَيَّنَ أنه مَا أمر بِهَذِه الأشْيَاء لاحتياجه لأعْمَال العِبَادِ ، لأن من كَانَ لَهُ ما في السَّموات ومَا فِي الأرْض ، كيف يَكُون مُحْتَاجاً إلى عَمَل الإنْسَان مع ضَعْفِهِ وقُصُوره ، وإنما أمَر بِها رِعَاية لما هو الأحْسَن لَهُم في دُنْيَاهم وأخْرَاهُم .
ثم قال { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } يعني : أهْل التَّوْرَاةِ ، والإنْجِيلِ ، وسائر الأمم المُتَقَدِّمَة في كُتُبِهِم ، والكِتَاب : اسم جِنْس يتناول الكُتُب السَّمَاوِيَّة ، « وإيَّاكم » : يا أهل القُرْآن في كتابكم ، { أَنِ اتقوا الله } أي : وَحِّدُوه وأطِيعُوه ، وتَقْوى اللَّه مَطْلُوبَة من جَمِيع الأمَمِ ، في سائر الشَّرَائِعِ لم تُنْسَخ ، وَهِي وَصِيَّة اللَّه في الأوَّلِين والآخِرين .
قوله : « مِنْ قَبْلِكُم » فيه وجهان :
الأول : أنه مُتَعَلِّق ب « وصَّيْنَا » يعني : ولقد وصَّيْنَا من قَبْلكُم [ الذين أُوتُواْ الكتاب .
والثاني : أنه متعلِّق ب « أوتُوا » يَعْني : الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ] ، وصيناهم بذلك ، والأوَّل أظْهَر .
قوله : « وإيَّاكم » : عَطْف على { الذين أُوتُواْ الكتاب } وهو واجبُ الفَصْل هُنَا؛ لتعذُّرِ الاتِّصَال ، واستدلَّ بَعْضُهم على أنَّه إذا قُدِر عَلى الضمير المُتَّصِل يجُوز أَن يُعْدَلَ إلى المُنْفَصِل بهذه الآية؛ لأنه كان يُمْكِنُ أن يُقَال : « ولقد وَصِّيْنَاكُم والَّذِين أوتُوا الكِتاب » ، وكذلك استُدِلَّ بقوله - تعالى - : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] ، إذ يمكن أن يُقَالَ : يخرجُونَكُم والرَّسُولَ ، وهذا ليس يدلّ له :
أمَّا الآيةُ الأولى : فلأنَّ الكَلامَ فيها جَاءَ على التَّرتِيب الوُجُودِي ، فإنَّ وَصِيَّة مَنْ قبلَنا قبلَ وَصيَّتنا ، فلمَّا قَصَدَ هذا المَعْنَى ، استحال - والحالةُ هذه - أن يقُدْرَ عليه مُتَّصِلاً .
وأما الآية الثَّانية : فلأنَّه قصد فيها تَقَدُّمَ ذِكْرِ الرَّسُول؛ تشريفاً له ، وتشنيعاً على مَنْ تَجاسَر على مِثْلِ ذلك الفِعْل الفَظِيع ، فاسْتَحَال - والحالة هذه - أن يُجَاء به مُتَّصِلاً ، و « مِنْ قبلكم » : يَجُوزُ أنْ يتعلَّق ب « أوتُوا » ، ويجُوز أنْ يتعلَّق ب « وَصَّيْنَا » ؛ والأولُ أظهرُ .
قوله : « أن اتَّقُوا » يجوزُ في « أن » وَجْهَان :
أحدُهُمَا : أن تكون مصدرِيّة على حَذْفِ حَرْفِ الخَفْضِ ، تقديرُه : بأن اتَّقوا ، فلما حُذِف الحَرْفُ جَرَى فيها الخِلافُ المَشْهُور .
والثاني : أن تكُون المُفَسِّرة؛ لأنها بَعْد ما هُو بِمَعْنَى القَوْل ، لا حروفه وهو الوصيّة ، والظاهر أن قوله : « وإن تَكْفُرُوا » جملة مُسْتأنفة؛ للإخبار بأن هذه الحَالِ ليست داخلة في مَعْمُول الوصِيّة .

وقال الزَّمَخْشَرِي : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ } عطفٌ على « اتَّقُوا » لأنَّ المَعْنَى : أمرناهم ، وأمَرْنَاكم بالتَّقْوَى ، وقُلْنا لهم ولكم : « إِن تَكْفُرُواْ » وفي كلامه نظرٌ ، لأنَّ تقديره القَوْلَ ، ينفي كون الجُمْلة الشرطية مُنْدرجةً في حَيِّزِ الوصيَّة بالنِّسْبَة إلى الصِّناعة النَّحْوية ، وهو لم يقصد تفسير المعنى فقط ، بل قصده هو وتفسير الإعراب؛ بدليل قوله : عطف على « اتَّقُوا » ، و « اتَّقُوا » داخلٌ في حيِّز الوصيَّةِ ، سواءً أجعلت « أن » مصدريَّةً أم مُفسِّرة .
فصل
ومعنى [ قوله : ] { أَنِ اتقوا الله } ؛ كقولك : أمَرْتُكَ الخَيْرَ ، قال الكَسَائِيُّ : يقال : أوصَيْتُك أن افْعل كذا ، وأن تَفْعَل كذا ، ويُقال : ألْم آمُرَك أن ائت زيداً ، وأن تأتِي زَيْداً؛ كقوله - تعالى - : [ و ] { أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } [ الأنعام : 14 ] ، وقوله : { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ البلدة } [ النمل : 91 ] وتقدَّم الكلام على « وَإِن تَكْفُرُواْ » .
قوله : { فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي } في تعلُّقِه وجهان :
الأول : أنه - تعالى - خالقُهُم ومالِكُهُم ، والمُنْعِم عليهم بأصْناف النِّعَم كلِّها ، فَحَقَّ على كل عَاقلٍ أن يَنْقَاد لأوَامِرِه ونَوَاهِيهِ ، ويَرْجُوا ثوابه ، ويَخَاف عِقَابَهُ .
والثاني : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } من أصناف المَخْلُوقات من الملائِكَة وغيرها أطوع مِنْكُم يَعْبُدوه ويتَّقُوه ، وهو مع ذَلِكَ غَنِيٌّ عن عِبَادَتِهم ، و « حَمِيداً » مُسْتَحِقٌّ للحَمْد؛ لكثرة نِعمِه ، وإن لم يحمده أحَدٌ منهم؛ لأنه في ذَاتِه مَحْمُود ، سواء حَمَدُوه أوْ لَمْ يَحْمَدُوه .
قوله : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً } ، قال عكرمة ، عن ابن عبَّاسٍ : يعني : شهيداً أنَّ فيها عَبِيداً .
وقيل : دَافِعاً ومُجِيراً .
فإن قيل : ما فَائِدة التَّكْرَار في قوله : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } .
فالجواب : أنَّ لكل منها وجه :
أما الأول : معناه : للَّه مَا فِي السماوات وما فِي الأرض ، وهو يُوصِيكم بالتَّقْوى ، فاقْبَلُوا وصِيَّتَه .
والثاني : [ يقول : ] لله ما في السماوات وما في الأرض ، وكان الله غَنِيّاً ، أي : هو الغَنِيُّ ، وله المُلْكُ ، فاطْلُبَوا منه ما تَطْلُبُون .
والثالث : يقول { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً } ، أي : له المُلْك؛ فاتَّخِذُوه وَكِيلاً ، ولا تتوكَّلُوا على غَيْرِه .
[ و ] قال القُرْطُبِي : وفائدة التَّكْرَار من وجهين :
الأول : أنه كَرَّر تأكيداً؛ لتنبيه العِبَاد ، ولينظروا في مُلْكه ومَلكُوته ، أنه غَنِيٌّ عن خَلقهِ .
والثاني : أنه كرَّر لفوائد : فأخبر في الأوَّل ، أنَّ الله يُغْنِي كُلاًّ من سَعَتهِ؛ لأن لَهُ مَا في السماوات وما في الأرض ، [ فلا تَنْفدُ خَزَائِنُه ، ثم قال : أوْصيْناكُم وأهْلَ الكِتَاب بالتَّقْوى ، وإن تَكْفُروا ، فإنَّه غَنِيٌّ عنكم؛ لأنَّ له ما في السماوات وما في الأرض ] ثم أعْلم في الثَّالث : بحفظ خَلْقِه ، وتدبيره إيَّاهُم بقوله : { وكفى بالله وَكِيلاً } ؛ لأن له ما في السماوات وما في الأرض ، ولم يَقُل : مَنْ في السَّموات؛ لأن في السَّموات والأرض من يَعْقِل ، ومَن لا يَعْقِل .

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)

والمعنى : أنه تعالى قادرٌ على الإفْنَاء والإيجادِ ، فإن عَصَيْتُموه فإنه قادر على إفنائكم [ وإعدامكم ] بالكُلِّيَّة ، وعلى أنْ يوجِدَ قَوْماً آخَرِين ، يشتغلون بِعبَادَته وتَعْظِيمه ، وكان اللَّه على ذَلِك قَدِيراً .
قوله : « بآخرين » : آخرين صِفَةٌ لموصوفٍ محذُوف من جنسِ ما تقدَّمه تقديرُه : بناسٍ آخرين يعبدون الله ، ويجُوز أن يكونَ المَحْذُوف من غير جنس ما تقدَّمه .
قال ابن عطية : « يُحْتَمل أن يكون وَعِيداً لجميع بني آدم ، ويكونُ الآخرُون من غير نَوْعِهم ، كما رُوي : أنه كان ملائكةٌ في الأرْضِ يَعْبدُون الله » .
وقال الزَّمخْشَرِي : « أو خلقاً آخرين غير الإنس » وكذلك قال غيرهما .
وردّ أبو حيان هذا الوجه : بأنَّ مدلولَ آخر ، وأخْرَى ، وتَثْنِيتَهُمَا ، وجَمْعهُمَا ، نحو مدلول « غير » إلا أنه خاصٌّ بجنسِ ما تقدَّمه . فإذا قلت : « اشتريت فرساً وأخرَ ، أو : ثوباً وآخر ، أو : جاريَة وأخْرى ، أو : جاريتين وأخريين ، أو جواري وأُخَرَ » لم يكن ذلك كُلُّه إلا من جِنْس ما تقدم ، حتى لو عنيت « وحماراً آخر » في الأمثلة السابقة لم يَجُزْ ، وهذا بخلاف « غير » فإنَّها تكون من جِنْسِ ما تقدَّم ومن غيره ، تقول « اشتريْتُ ثوباً وغيره » لو عَنَيْت : « وفرساً غيره » جاز .
قال : « وقَلَّ مَنْ يَعْرِف هذا الفرق » . وهذا الفرقُ الذي ذكره وردَّ به على هؤلاء الأكابر غيرُ موافقٍ عليه ، لم يستند فيه إلى نَقْل ، ولكن قد يُرَدُّ عليهم ذلك من طريقٍ أخْرَى ، وهو أنَّ « آخرين » صِفَةٌ لموصوف محذوف ، والصِّفَةُ لا تقوم مقام موصوفها ، إلا إذا كانت خاصَّة بالموصوف ، نحو : « مررت بكاتبٍ » ، أو يدلُّ عليه دَلِيل ، وهنا ليست بِخَاصَّةٍ ، فلا بد وأن تكونَ من جِنْسِ الأوَّلِ؛ لتحصُلَ بذلك الدِّلالةُ على الموصُوفِ المَحْذُوف .
وقال القرطبي : وهذا كقوله في آية أخرى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] وفي الآية تَخويفٌ ، وتنبِيه لمن كان له ولايةٌ وإمَارَةٌ ، أو رياسةٌ فلا يعدل في رعيته ، أو كان عَالِماً فلا يَعْمَل بعلْمهِ ، ولا يَنْصَح النَّاسَ ، { وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً } ، والقُدْرَة : صِفَة أزليَّة لا تَتَنَاهَى مَقْدُوراته ، كما لا تتناهى مَعْلُومَاته ، والمَاضِي والمُسْتقبل في صِفَاتِه بمعنًى واحدٍ ، وإنما خصَّ الماضِي بالذكر؛ لئلا يُتوهَّم أنَّه يحدث في صِفَاتِه وذاته ، والقُدْرَة : هي التي يكُون بها الفِعْل ، ولا يجوزُ وُجُود العَجْزِ مَعها .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)

يجُوز في « مَنْ » وجهان :
أظهرهما : أنها شرطيَّة ، وجوابُها قوله : « فعند الله » ، ولا بد من ضميرٍ مقدَّرٍ في هذا الجواب يعُودُ على اسم الشَّرْطِ؛ لما تقرر قبل ذلك ، والتقدير : فعند الله ثوابُ الدنيا والآخرِة له إن أراده ، وهذا تقدير الزَّمَخْشَرِيِّ ، قال [ الزمخشري ] « حتَّى يتعلقَّ الجزاءُ بالشَّرْطِ » .
وأوردهُ ابن الخِطِيب على وَجْه السُّؤال قال :
فإن قيل : كَيْفَ دخلتِ الفاءُ في جواب الشَّرْط ، وعنده - تعالى - ثوابُ الدُّنْيَا والآخِرِة ، سواءً حصلت هذه الإرادة أم لا .
قلنا : تقدير الكلام : فعند الله ثوابُ الدُّنْيَا والآخِرَة له إن أرَادَهُ ، وعلى هذا التَّقْدِير يتعلَّق الجَزَاءُ بالشَّرْط .
وجَوَّز أبو حيَّان - وجعله الظَّاهر - أنَّ الجواب مَحْذُوفٌ ، تقديره : من كان يريد ثواب الدُّنيا فلا يَقْتَصِر عليه ، وليَطْلُبِ الثَّوابَيْن ، فعند الله ثوابُ الدَّارَيْن .
والثاني : أنها موصولةٌ ودخلت الفاءُ في الخَبَر؛ تشبيهاً له باسم الشَّرْط ، ويُبْعِده مُضِيُّ الفِعْلِ بعده ، والعائدُ مَحْذُوفٌ؛ كما تقرَّر تَمْثِيلُه .
فصل
ومعنى الآية : أن هؤلاء الَّذِين يُريدُون بِجِهَادِهم الغَنِيمَة فقط مُخْطِئون؛ لأنَّ عند اللَّه [ ثَوَابَ ] الدُّنيا والآخِرَة ، فلم اكْتَفَى بطلَبِ ثَوَابِ الدُّنْيا ، مع أنه كَانَ كالعَدَمِ بالنِّسْبَة إلى ثَوَاب الآخِرَة ، ولو كان عَاقِلاً ، لطلب ثواب الآخِرَة؛ حتى يَحْصُل له ذلك ، ويَحْصُل له ثوابُ الدُّنْيَا تَبَعاً .
قال القُرْطُبِيُّ : من عَمِل بما افْتَرَضَهُ [ اللَّه ] عليه طلباً للآخِرَة ، آتاه اللَّه ذلك في الآخِرَة ، ومن عمل طَلَباً للدُّنْيَا ، آتاه ما كُتِب له في الدُّنْيَا ، وليس لَهُ في الآخِرَة من نَصِيبٍ؛ لأنه عَمِل لغير اللَّه لقوله - تعالى - : { أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار } [ هود : 16 ] وهذا على أن يكون المُرَاد بالآية : المُنافِقُون والكُفَّار ، { وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً } : يسمع كَلاَمَهُم أنهم لا يَطْلُبون من الجِهَاد سِوَى الغَنِيمَةِ ، ويرى أنَّهم لا يَسْعوْن في الجِهَاد ، ولا يَجْتَهِدُون فيه ، إلا عِنْد توقُّعِ الفَوْزِ بالغنيمَةِ ، وهذا كالزَّجْرِ عن هَذِه الأعْمَالِ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)

في اتِّصال [ هذه ] الآية وُجُوهٌ :
أحدها : لما تقدَّمَ ذكر النِّساء والنُّشُوز ، والمُصَالحَةِ بينهُنَّ وبين الأزْوَاج عَقبه بقيام أدَاءِ حقوق اللَّه - تعالى- ، وفي الشَّهَادَةِ إحياء حقوقِ اللَّه؛ فكأنه قِيل : وإن اشْتغَلْتَ بتحصيلِ شهواتِكَ ، كنت لِنَفْسِكَ ، لا لِلَّه ، [ وإن اشتغَلْتَ بِتحْصِيل مأمُوراتِ اللَّه كنت للَّه ، لا لِنَفْسِكَ ] ، وهذا المقام أعلَى وأشْرَف ، فكانت هَذِه الآية تأكيداً لِمَا تقدَّم من التَّكَالِيفِ .
الثاني : أن اللَّه - تعالى - لمَّا منَع النَّاس عن اقْتِصَارِهم على ثَوَابِ الدُّنْيَا ، وأمرهُم أنْ يَطْلُبوا ثواب الآخِرَة ، عَقِّبَه بهذه الآيَةِ ، وبَيَّنَّ أنَّ كمال سَعَادَة الإنْسَان ، في أنْ يكون قولُه وفِعْلُه للَّه ، وحركَتهُ للَّه ، وسُكُونهُ للَّه؛ حتى يصير من الَّذِين يكُونُون في آخِر مَرَاتِب الإنْسَانِيّة ، وأوَّل مراتب الملائِكَة ، فإذا عَكَس القضيّة ، كان مِثْل البَهِيمَة الَّتِي مُنْتهَى أمْرِها وُجْدَان عَلَفِها والشَّبَع .
الثالث : أنه تقدَّم في هذه السُّورَة تَكَالِيفُ كَثِيرةٌ ، فِأمرَ النَّاس بالقِسْط بقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } [ النساء : 3 ] ، وأمرهم بالإشْهَاد عِنْد دَفْع أمْوَال اليَتَامَى إليْهِم ، وأمَرَهُم ببَذْلِ النَّفْسِ والمَالِ في سَبيلِ اللَّه ، وذكر قِصَّة طعمة بن الأبَيْرِقِ ، واجتماع قوْمه على الذَّبِّ عنه [ بالكذب ] والشَّهَادة على اليَهُودي بالبَاطِل ، وأمر بالمُصَالَحَة مع الزَّوْجَة ، وكلُّ ذلك أمْر من اللَّه لعبادِه بالقِيَام بالقِسْط ، والشَّهَادَة [ فيه ] [ للَّه ] على كُلِّ أحَدٍ ، فكانت هذه الآية كالمُؤكِّد لما تقدَّم من التَّكَالِيفِ .
القَوَّامُ : مُبَالغة من قَائِم ، والقِسْط : العَدْل ، وهذا أمْر مِنه - تعالى - لجميع المكَلَّفِين ، بأن يُبَالغُوا في العَدْل ، والاحْتِرَازِ عن الجَوْر والمَيْل .
قوله : « شُهَداءَ لِلَّه » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خَبرٌ ثَانٍ لكان ، وفيه خِلاَف تقدَّم ذِكْرهُ .
والثاني : أنه حَالٌ من الضَّمير المُسْتَكِنِّ في : « قوَّامينَ » فالعَامِل فيها : « قوَّامين » .
وقد ردَّ أبو حيَّان [ هذا الوجه : بأنَّه يَلْزَم منه تقييدُ كونهم قوَّامين بحال الشَّهادَةِ ، وهم مأمُورُون بذلك مُطْلَقاً ] .
وهذا الردُّ ليْس بِشَيْءٍ؛ فإن هذا المَعْنَى نَحَا إلَيْه ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال : كُونُوا قوَّامِين بالعَدْل في الشَّهَادَة على من كانت ، وهذا هُو مَعْنَى الوَجْه الصَّائِر إلى جَعْل شُهَداء حالاً .
الثالث : أن يكون صِفَة ل « قوَّامين » ، ومَعْنَى قوله : « للَّه » أي : لِذَات اللَّه ، ولوجْهِه ولمرْضَاتِه ، وثَوَابِه .
قوله : { وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ } « لو » هذه تَحْتَمل أنْ تَكُونَ على بَابِها من كَوْنِها حرفاً لما كان سَيَقعُ لوقُوعِ غَيْرِه ، وجوابُها مَحْذُوفٌ ، أي : ولو كُنْتثم شُهَدَاءَ على أنْفُسكم ، لوجب عَلَيْكُم أن تَشْهدوا عليها .
وأجاز أبو حيَّان أن تَكُونَ بمعنى : « إن » الشَّرطِيّة ، ويتعلَّق قوله : « عَلَى أنْفُسِكُم » بمحذوفٍ ، تقديرُه : وإن كنتم شُهَدَاء على أنْفُسِكم ، فكونوا شُهَدَاءَ لله ، هذا تَقْدِيرُ الكلام ، وحذفُ « كان » بعد « لو » كَثِيرٌ ، تقول : ائتِني بِتَمْر ، ولو حَشَفاً ، أي : وإن كان التَّمْر حشفاً ، فأتني به .

انتهى .
وهذا لا ضرورةَ تدْعُوا إليه ، ومجيءُ « لو » بِمَعْنى : « إنْ » شَيْء أثبته بعضهم على قِلَّة ، فلا يَنْبَغي أن يُحْمَل القُرآنُ عليه .
وقال ابْن عَطِيَّة : « عَلى أنْفُسِكُم » متعلِّقٌ ب « شهداء » .
قال أبو حيان « فإنْ عَنَى ب » شُهَدَاءَ « المَلْفُوظ به ، فلا يَصِحُّ ، وإن عَنَى به ما قَدَّرْناه نَحْن ، فيصِحُّ » يعني : تقديره : « لو » بمعنى : « إنْ » وحَذْفَ « كان » ، واسمِها ، وخبرها بَعْد « لو » ، وقد تقدَّم أن ذَلِك قَلِيلٌ ، فلم يبق إلا انَّ ابن عَطِيّة يريد « شُهَداءَ » مَحْذُوفةً؛ كما قَدَّرْتُه لك أولاً ، نحو : « ولو كُنْتُم شُهَدَاء » على أنفسكم ، لوجَبَ عليْكُم أن تَشْهَدُوا .
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : « ولو كَانَتِ الشَّهَادةُ على أنفسكُم » فجَعَل « كَان » مُقَدَّرةً وهي تَحْتَمِلُ في تَقْدِيره التَّمَام والنُّقْصَان : فإنْ قدَّرْتَها تَامةً ، كان قوله « على أنْفُسِكُم » متعلِّقاً بنفسِ الشَّهَادة ، ويكون المَعْنَى : « ولو وُجِدَتِ الشهادةُ على أنْفُسِكُم » وإن قدَّرْتَها نَاقِصَةً ، فيجوزُ أنْ يكون « على أنْفُسِكُم » متعلِّقاً بمَحْذُوفٍ على أنَّه خَبرُهَا ، ويجُوز أن يكُون متعلِّقاً بنفس الشَّهادة ، وحينئذ يكُون الخَبَر مقدَّراً ، والمَعْنَى : « ولو كَانَتِ الشَّهَادةُ على أنْفُسِكُم موجُودةً » إلا أنَّه يلزمُ مِنْ جَعْلِنا « على أنْفُسِكُم » متعلِّقاً بالشَّهادة ، حذفُ المَصْدرِ وإبقاءُ معْمُولِه ، وهو قليل أو مُمْتَنِع ، وقال أيضاً : « ويجُوز أن يكُون المَعْنَى : وإن كانتِ الشَّهَادة على أنْفُسِكُم » .
ورَدَّ عليه [ أبو حيَّان ] هَذَيْن الوجْهَيْنِ فقال : « وتقديرُه : ولو كانت الشَّهادة على أنْفُسِكُم ليس بجيِّد؛ لأن المحْذُوفَ إنما يكون من جِنْس المَلْفُوظ به؛ ليدلَّ عليه ، فإذا قُلْت : » كن مُحْسِناً ، ولو لمَنْ أساء إليك « ، فالتقدير : ولو كنت مُحْسِناً لمَنْ أساء ، ولو قَدَّرْتَه : » ولو كان إحْسَانُك « لم يكن جَيِّداً؛ لأنك تَحْذِف ما لا دلالة عليه بِلَفْظٍ مُطَابِقٍ » .
وهذا الردُّ لَيْس بشيء ، فإن الدِّلالة اللَّفظِيّة موجودةٌ؛ لاشتراكِ المَحْذُوفِ والمَلْفُوظ به في المَادَّة ، ولا يَضُرُّ اختلافُهما في النَّوْع .
وقال في الوجه الثاني : « وهذا لا يجُوز؛ لأن ما تعلَّق به الظَّرْف كونٌ مقيدٌ ، والكونُ المُقَيَّد لا يجُوز حَذْفُه ، بل المُطْلَقُ ، لو قلت : كَان زَيْد فِيك ، تعني : مُحِبّاً فيك ، لَمْ يَجُز » .
وهذا الرَدُّ أيضاً لَيْس بِشَيْءٍ؛ لأنه قصد تَفْسير المَعْنَى ، ومبادئُ النَّحْو لا تَخْفَى على آحادِ الطَّلبة ، فكيف بِشَيْخِ الصِّنَاعَة .
فصل
شَهَادة الإنْسَان على نَفْسِه لها تَفْسِيران :
أحدُهما : أن يُقِرَّ عَلَى نَفْسه؛ لأن الإقْرَار كالشَّهَادَةِ في كونه مُوجِباً إلْزَام الحَقِّ .
الثاني : أن يكون المُرَادُ : ولو كَانَت الشَّهَادة وبالاً على أنْفُسِكُم ، أو على الوالدين والأقْرَبين ، فأقِيمُوها عليْهم ، ولا تُحابُوا غَنِيّاً لِغِنَاهُ ، ولا ترحموا فقيراً لِفَقْرِهِ ، وهو قوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } أي : أقِيمُوا على المَشْهُود عليه وإن كان غَنِيّاً وللمَشْهُود له وإن كان فقيراً ، فاللَّه أوْلى بِهِمَا منكم ، أي : كِلُوا أمْرَهُم إلى اللَّه - تعالى - .

وقال الحَسَن : اللَّه أعْلَم بهما .
قال القُرْطُبِيُّ : « قَوَّامين » بناء مُبَالَغَة ، أي : ليتكَرَّر منكم القِيَام بالقِسْط وهو العَدْل في شَهَادَتِكُم على أنْفُسِكُم ، وشهادة المَرْء على نفْسِه : إقرَارهُ بالحُقُوق عليها ، ثم ذكر الوالِدَيْن؛ لوجوب بِرِّهِما ، وعظم قَدْرِهمَا ، ثم أتَى بالأقْرَبين؛ إذْ هُم مَظَنَّة المَودَّة والتَّعَصُّب ، وجاءَ الأجْنَبِيُّ الآخر؛ لأنه أحْرَى أن يَقُوم [ عليه ] بالقِسْطِ .
فصل
إنما قدَّم الأمْر بالقِيَام بالقسط على [ الأمْر ] بالشَّهادة لِوُجُوه :
أحدُهَا : أن أكْثَر النَّاس عادتهم أنَّهم يَأمُرُون غَيْرَهُم بالمَعْرُوفِ ، فإذا آل الأمْر إلى أنْفُسِهِم ، تركوه حتى إنَّ قُبْحَ القَبِيحِ إذا صَدَر عنهم ، كان في مَحَلِّ المُسَامَحَة وأحْسَنَ الحُسْن ، إذا صَدَرَ عن غَيْرِهم ، كان في مَحَلِّ المُنَازَعة ، فاللَّه - تعالى - نبّه في هذه الآية على سُوءِ الطَّرِيقَة ، بأنْ أمره بالقِيَام [ بالقِسْطِ ] أوّلاً ، ثم أمَرَهُ بالشَّهَادة على غَيْرِه ثَانِياً ، تنبيهاً عَلَى أن الطَّرِيقَة الحَسَنة هي أن تكُون مُضَايَقَة الإنْسَان مع نَفْسِه [ فَوْق ] مُضايقته مع الغَيْر .
وثانيها : أنَّ القِيام بالقِسْط : هو دَفْع ضَرَر العِقَاب عن النَّفْسِ ، وإقَامَة الشَّهَادة ، سعي في دَفْع ضَرَر العِقَاب عن الغَيْر ، وهو الَّذِي عَلَيْه الحَقُّ ، ودفع الضرر عن النَّفْسِ مُقَدَّم على دَفْع الضَّرَر عن الغَيْرِ .
وثالثها : أن القِيَام بالقِسْطِ فعل ، والشَّهادة قول [ والفِعْل أقْوى من القَوْل ] .
فإن قِيل : فقد قدَّم الشَّهادة على القِيام بالقسْطِ في قوله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] .
فالجواب : أنَّ شهادَةَ الله عبارَةٌ عن كونه مُرَاعِياً للعَدْل ، ومُبَايِناً للجَوْر ، ومعلوم : أنَّه ما لم يكن الإنْسَان كذلك ، لم يُقْبَل شَهَادتُهُ على الغَيْر؛ فلهذا كان الوَاجِبُ في قوله : « شَهِدَ اللَّه » ] أن يقدِّم تلك الشَّهادة على القِيَامِ بالقِسْطِ ، والواجِبُ هُنَا : أن تكُون الشَّهادة متأخِّرَة عن القِيَامِ بالقِسْطِ .
قوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } إذا عُطِف ب « أوْ » كان الحُكْمُ في عَوْدِ الضَّمِير ، والإخْبَارِ ، وغيرهما لأحدِ الشَّيْئَيْن أو الأشياء ، ولا يجُوزُ المُطابَقَةُ ، تقول : « زَيْد أو عَمْروا أكْرمتهُ » ولو قُلْتَ : أكرمتهُمَا ، لم يَجُز ، وعلى هذا يُقال : كيف ثَنَّى الضَّمِير في الآية الكَرِيمَةِ ، والعطف ب « أو » ؟ لا جَرَم أن النَّحْويِّين اختلَفُوا في الجواب عن ذلك على خَمْسَةِ أوْجُه :
أحدُها : أنَّ الضَّمِير في « بهما » ليس عَائِداً على الغَنِيِّ والفقير المَذْكُورين أولاً ، بل على جنْسَي الغني والفَقِير المدلُولِ عليهما بالمَذْكُورَيْن ، تقديرُه : وإنْ يكنِ المشهُودُ عليه غَنِيًّا أو فقيراً ، فليشْهَد عليه ، فاللَّهُ أوْلى بجنْسَي الغنيِّ والفقيرِ؛ ويَدُلُّ على هذا قِراءة أبَيِّ : « فاللَّه أوْلَى بِهِمْ » أي : بالأغنياء والفقراءِ مراعاةً للجِنْسِ على ما قَرَّرته لَك ، ويكون قوله : « فالله أولى بِهِمَا » ليس جواباً للشرط ، بل جَوابُه مَحْذُوفٌ كما قَدْ عَرَفْتَه ، وهذا دالٌّ عليه .

الثاني : أنَّ « أو » بمعنى : الواو؛ ويُعْزى هذا للأخْفش ، وكنت قدَّمْتُ أوّلَ البقرة : أنه قولُ الكوفيين ، وأنه ضعيفٌ .
الثالث : أن « أو » : للتَّفْضِيل أي : لتفصيلِ ما أبْهِم ، وقد أوضح ذلك أبُو البقاء ، فقال : « وذلك أنَّ كلَّ واحدٍ من المَشْهُود عليه والمشهود له ، قد يكُون غنيًّا ، وقد يكُون فقيراً ، وقد يكونان غَنِيَّيْنِ ، وقد يكونان فَقَيرَيْن ، وقد يكون أحَدُهُمَا غنيّاً والآخر فَقِيراً؛ فلما كَانتِ الأقسام عند التَّفْصِيل على ذلك ، أُتِي ب » أو « ، لتَدُلَّ على التَّفْصِيل؛ فعلى هذا يكون الضَّمِير في » بهِما « عائداً على المَشْهُود له والمشهود عليه ، على أيِّ وصفٍ كانا عليه » انتهى؛ إلا أنَّ قوله : « وقد يكون أحَدهُمَا غنيّاً والآخر فَقِيراً » مكرَّرٌ؛ لأنه يُغْني عنه قوله : « وذَلِك أنَّ كلَّ وَاحِد » إلى آخره .
الرابع : أنَّ الضَّمِير يعود على الخَصْمَيْن ، تقديره : إن يكُن الخصمان غنيّاً أو فقيراً ، فالله أوْلى بِذَينك الخصمين .
الخامس : أن الضَّمير يعود على الغَني والفَقير المدْلُول عليهما بلَفْظ الغنّي والفقير ، والتقديرُ : فاللَّهُ أولى بغنى الغني وفقر الفقير ، وقد أساء ابن عصْفُور العِبَارة هنا بما يُوقفُ عليه في كلامه ، وعلى أربعة الأوجهِ الأخيرة يكونُ جوابُ الشَّرط ملفوظاً به ، وهو قوله : { فالله أولى بِهِمَا } بخلاف الأوَّل؛ فإنه مَحْذُوفٌ .
وقرأ عبد الله بن مسعود : « إن يَكُنْ غنيٌّ أو فقيرٌ » برفعهما ، والظَّاهرُ أنَّ « كان » في قراءته تامةٌ ، أي : وإنْ وجِد غِنِيٌّ أو فقير ، نحو : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [ البقرة : 280 ] .
قوله : { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى } أي : اتركُوا متابعة الهَوَى؛ حتى توصَفُوا بالعَدْل؛ لأنَّ العدل عِبارة عن تَرْك مَتَابعة الهَوَى ، ومن تَرَك أحَد النَّقِيضَيْن ، فقد حَصَل له الآخَر .
قوله : « أنْ تَعْدِلُوا » فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدُها : أنه مَفْعُولٌ مِنْ أجله على حَذْفِ مضافٍ ، تقديره : فلا تتَّبِعُوا الهوى محبةَ أنْ تَعْدِلوا ، أو إرادةَ أنْ تَعْدِلوا ، أي : تَعْدِلوا عن الحَقِّ وتجُوروا .
وقال أبو البقاء في المضافِ المحذوف : « تقديره : مخافة أن تَعْدلوا عن الحَقِّ » . وقال ابن عَطِيَّة : « يُحْتمل أن يكُونَ مَعْناه : مخافة أن تَعْدِلوا ، ويكُون العَدْلُ هنا بِمَعْنى : العُدول عن الحَقِّ ، ويُحْتمل أن يكُونَ معناه : مَحَبة أنْ تُقْسِطُوا ، فإنْ جعلْتَ العَامِل » تَتَّبِعُوا « فيحتمل أن يكونَ المَعْنَى : محبةَ أنْ تجُوروا » انتهى؛ فتحصَّل لنا في العَامِل وجهان :
الظاهرُ منهما أنه نَفْسُ « تتبعوا » .

والثاني : أنه مُضْمَر ، وهو فعلٌ من مَعْنَى النهي؛ كما قدَّره ابنُ عطيَّة ، كأنه يزْعمُ أنَّ الكلامَ قد تَمَّ عند قوله : { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى } ثم أضْمَرَ عَامِلاً ، وهذا ما لا حَاجَة إليه .
الثاني : أنه على إسْقَاطِ حرْفِ الجَرِّ ، وحذْفِ « لا » النَّافِية ، والأصْل : فلا تتَّبعوا الهَوَى في ألاَّ تَعْدِلوا ، أي : في تَرْكِ العَدْل ، فحذف « لا » لدلالة المَعْنَى عَلَيْهَا ، ولمَّا حَذَف حَرْفَ الجر من « أنْ » جرى القَوْلان الشَّهِيرَان .
الثَّالث : أنه عَلَى حَذْفِ لام العِلَّة ، تقديرُه : فلا تتبعوا الهوى؛ لأن تَعْدِلوا .
قال صَاحِب هذا القول : « والمعنى : لا تتبعُوا الهوى؛ لتكونوا في اتِّباعِكُمُوه عدُولاً ، تنبيهاً على أن اتباعَ الهوى وتَحَرِّي العدالةِ مُتَنَافيان لا يجتمعان » وهو ضَعِيفٌ في المَعْنَى .
قوله : « وَإِن تَلْوُوا » قرأ ابن عامرٍ ، وحمزة : « تَلُوا » بلامٍ مَضْمُومةٍ وواوٍ ساكنة ، والبَاقُون : بلامٍ ساكنةٍ وواوَيْن بعدهَا ، أولاهُمَا مَضْمُومة .
فأمَّا قراءةُ الوَاوَيْن ، فظاهرةٌ؛ لأنه من لَوَى يَلْوي ، والمعْنَى : وإنْ تَلْووا ألسِنَتِكُم عن شهادةِ الحَقِّ أو حكومَةِ العَدْل ، والأصْلُ : تَلْوِيُون كتَضْرِبون ، فاستُثْقِلَت الضَّمَّةُ على اليَاءِ فحُذفت ، فالتقى سَاكِنَان : الياء وَوَاو الضَّمِير ، فحُذِف أوّلُهما - وهو الياء - وضُمَّت الواوُ المكْسُورةُ التي هِيَ عَيْن لأجْل واوِ الضميرِ ، فصار : تَلْوُون ، وتصريفُه كتصريف « تَرْمُونَ » .
فإن كان عَنِ الشَّهادة ، فالمَعْنَى : يحرِّفُوا الشَّهادة؛ ليُبْطِلُوا الحقَّ ، من قولهم : لوى الشيء ، إذا فتله ، ومنه يُقَال : التَوَى هذا الأمْر ، إذا تَعَقَّد وتعسَّرَ ، تشبيهاً بالشَّيْءِ المُنْفَتِل ، أو تُعْرِضُوا عنها فَتَكْتُمُوهَا ، أو يُقَال : تَلْوُوا في إقامة الشَّهَادة إذا تَدَافَعُوا ، يقال : لَوَيْتُه حَقَّه؛ إذا دَفَعْتَه وأبْطلْتَه .
وإن كان عَنَى الحُكْم بالعَدْل ، فهو خِطَاب للحُكَّام في لَيِّهم الأشداق ، يقول : « وَإِن تَلْوُواْ » أي : تميلُوا إلى أحَدِ الخَصْمَيْن ، أو تُعْرِضُوا عنه .
وأما قراءة حمزة وابنِ عامرٍ ، ففيها ثلاثة أقوال :
أحدُها : وهو قول الزَّجَّاج ، والفراء ، والفارسي في إحدى الرِّوايَتَيْن عنه - أنه من لَوَى يَلْوي؛ كقراءة الجماعة ، إلاَّ أنَّ الوَاوَ المَضْمُومةَ قُلِبَتْ هَمْزةً؛ كقلبها في « أجُوه » و « أُقِّتَتْ » ، ثم نُقِلت حركةُ هذه الهَمْزةِ إلى السَّاكن قَبْلَها وحذفت ، فصار : « تَلُون » كما ترى .
الثاني : أنه من لَوَى يَلْوي أيضاً ، إلا أن الضَّمَّة استُثْقِلَتْ على الواو الأولى فنُقِلت إلى اللام السَّاكِنَة تَخْفِيفاً ، فالتقى ساكِنَان وهما الواوان ، فحُذِف الأوَّل مِنْهُما ، ويُعْزى هذا للنَّحَّاسِ ، وفي هَذَيْن التخريجَيْن نظرٌ؛ وهو أنَّ لامَ الكَلِمَة قد حُذِفَتْ أولاً كما قَرَّرْته ، فصار وَزْنُه : تَفْعُوا ، بحذف اللاَّم ، ثم حُذِفت العَيْنُ ثانياً ، فصار وزنه : تَفُوا ، وذلك إجْحَافٌ بالكلمة .
الثالث : ويُعْزى لجَمَاعةِ منهم الفَارسيُّ - أن هذه القِرَاءة مأخُوذة من الولاية ، بمعنى ، وإنْ وُلِّيتم إقَامة الشَّهَادة أو وُلِّيْتُم الأمرَ ، فتَعْدِلُوا عنه ، والأصل : « تَوْلِيُوا » فحذفت الواوُ الأولى لِوُقُوعِها بين حَرْفِ المُضَارَعَةِ وكسرةٍ ، فصار : « تَلِيُوا » كتَعِدُوا وبَابِه ، فاستثقلت الضَّمَّةُ على الياءِ ، ففُعِل بها ما تَقَدَّم في « تَلْوُوا » ، وقد طَعَنَ قومٌ على قِرَاءة حَمْزة وابن عامرٍ - منهم أبو عُبَيْد - قالوا : لأنَّ معنى الوِلاَية غيرُ لائقٍ بهذا المَوْضِع .

قال أبو عبيد : « القراءةُ عندنا بوَاوَيْن مأخوذةٌ من : » لَوَيْتُ « وتحقيقه في تفسيرِ ابن عبَّاسٍ : هو القَاضِي ، يكُونُ لَيُّه وإعراضُه عن أحد الخَصْمَيْن للآخر » وهذا الطعنُ ليس بِشَيْء؛ لأنها قراءةٌ متَواتِرَةٌ ومعناها صَحيحٌ؛ لأنَّه إن أخَذْناها من الوِلاَية كان المَعْنَى على ما تقدَّم ، وإن أخذناها مِنَ الليِّ ، فالأصلُ : « تَلْوُوا » كالقراءة الأخْرى ، وإنما فُعِل بها ما تَقَدَّم من قَلْبِ الوَاوِ هَمْزةً ونَقْل حركتها ، أو من نَقْلِ حَرَكَتِها من غير قَلْبٍ ، فتتَّفِقُ القراءَتَان في المَعْنَى .
ثم قال : { فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } وهذا تهديدٌ ووعيدٌ للمذنِبِين ، ووعد بالإحْسَان للمُطِيعينَ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)

في اتَّصال هذه الآية بما قَبْلَها وَجْهَان :
أحدُهما : أنَّها مُتِّصِلةٌ بقوله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط } [ النساء : 135 ] لأن الإنْسان لا يكون قَائِماً بالقِسْط ، إلا إذا كان راسخاً في الإيمان بالأشْيَاء المَذْكُورة في هَذِه الآيَة .
الثاني : أنه - تعالى - لمَّا بين الأحْكَام الكَثِيرة في هَذِه السُّورة ، ذكر عَقِيبَهَا الأمر بالإيمانِ ، وفي هذا الأمْر وُجُوه :
أحدُها : قال الكَلْبِيُّ ، عن أبِي صَالح ، عن ابن عبَّاسٍ : نزلت هذه الآيَة في عَبْد اللَّه ابن سلام ، وأسد وأسَيْد ابْنَيْ كَعْب ، وثَعْلَبَة بن قَيْس ، وسلام ابن أُخْت عَبْد الله بن سلام ، وسلَمة ابن أخِيه ، ويامِين بن يَامِين ، فَهُؤلاء مُؤمِنُوا أهْل الكِتَاب أتوا رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنَّا نُؤمِنُ بك ، وبِكتابِك ، وبِمُوسى ، [ والتَّوْرَاة ] وبِعُزَيْر ، ونكفر بما سِوَاه من الكُتُب والرُّسُل ، فقال لهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم : « بل آمِنُوا باللَّه ، ورسُوله محمَّد ، والقُرْآن ، وبكل كِتَابٍ قَبْلَه » فقالوا : لا نَفْعَل « ، فأنزل اللَّه : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } يعني : بمحمّد [ والقُرآن ] وبموسى والتَّوْرَاة ، { آمنوا بالله ورسوله } : محمد { والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ } : من التَّوْراة ، والإنْجِيل ، والزَّبُور ، وسائر الكُتُب؛ لأن المراد بالكِتَاب الجنس .
وقيل : الخِطَاب مع المُنَافِقِين ، والتَّقْدير : يأيُّهَا الذين آمَنُوا باللِّسان ، آمنوا بالقَلْب ، ويؤيده قوله - تعالى - : { مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } [ المائدة : 41 ] .
وقيل : خِطَاب مع الَّذِين آمَنُوا وَجْه النَّهَار ، وكَفَرُوا آخِره ، والتقدير : يأيُّهَا الَّذِين آمَنُوا وجْه النَّهارِ ، آمنوا آخِره .
وقيل : الخطاب للمُشْرِكين ، تقديره : يأيُّها الذين آمَنُوا باللاَّتِ والعُزَّى ، آمِنُوا .
وقيل : المعنى : يأيها الذين آمَنُوا ، دُومُوا على الإيمان ، واثْبُتُوا عليْه ، أي : يأيُّها الذين آمَنُوا في المَاضِي والحَاضِر ، آمِنُوا في المُسْتَقْبَل؛ كقوله : { فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلأ الله } [ محمد : 19 ] مع أنه كان عَالِماً بذلك .
وقيل : المُراد ب » الذين آمَنُوا « : جميع النَّاس ، وذلك يوم أخذ عَلَيْهم المِيثَاق .
وقيل : يا أيُّها الَّذِين آمَنُوا على سبيل التَّقْلِيدِ ، آمِنُوا على سبيل الاسْتِدْلاَل .
وقيل : يا أيها الَّذِين آمَنُوا بِحَسَب الاسْتِدْلاَلات الإجْمَاليَّةِ ، آمِنُوا بحسَبِ الدَّلائل التَّفْصيليَّة .
وقرأ نافعُ والكوفيون : » والكتاب الَّذِي نزَّل على رَسُوله والكِتَاب الذي أنْزل من قبل « على بناء الفِعْليْن للفَاعِل ، وهو الله - تعالى - ، [ وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو : ] على بنائهما للمَفْعُول ، والقائمُ مقامَ الفَاعِل ضَمِير الكِتَاب .
وحُجَّة الأوَّلِين : قوله - تعالى - : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } [ الحجر : 9 ] ، وقوله { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر } [ النحل : 44 ] ، وحجة الضم : قوله - تعالى - : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] ، وقوله : { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ [ مِّن رَّبِّكَ بالحق ] } [ الأنعام : 114 ] .
قال بعض العلماء : كلاهما حَسَن ، إلا أن الضَّمَّ أفْخَمُ ، كقوله : { وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ } [ هود : 44 ] .
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإن قُلْتَ [ لِمَ ] قال : { نَزَّلَ على رَسُولِهِ } ، و { أَنَزلَ مِن قَبْلُ } ؟ .

قلت : « لأنَّ القرآن نَزَل مُنَجَّماً مفرَّقاً في عِشْرِين سَنَة ، بخلاف الكُتُب قَبْله » ، وقد تَقَدَّم البَحْث معه في ذَلِكَ ، عند قوله - تعالى - : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوراة } [ آل عمران : 3 ] وأن التَّضْعِيف في « نزَّلَ » للتَّعْدِية ، مرادفٌ للهَمْزَة لا للتَّكْثِير .
فصل
اعلم : أنه [ تعالى ] أمَرَ في هذه الآيَة بالإيمَانِ بأرْبَعة أشْيَاء :
أوّلها : بالله .
وثانيها : برسوله .
وثالثها : بالكتاب الذي نزَّل على رسُوله .
ورابعها : [ الكتاب الَّذِي أنْزَل من قَبْل . وذكر في الكُفْر أمُوراً خَمْسةً :
أولها : الكُفْر باللَّه .
وثانيها : الكُفْر بملائِكَتِهِ .
وثالثها : الكُفْر بكُتُبِه ] .
ورابعها : الكُفْر برسُله .
وخامسها : الكُفْر باليوم الآخر .
ثم قال : { فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } وهاهنا سُؤالات :
السُّوال الأوَّل : لِمَ قدَّم في مراتب الإيمانِ ذكر الرَّسُول على ذكر الكِتَابِ ، وفي مراتب الكُفْر قَلَب القضيَّة؟ .
والجواب : لأن في مرتبة النُّزُول من الخَالِق إلى الخَلْق كان الكتاب مقدماً على الرسول ، وفي مرتبه العُرُوج من الخَلْق إلى الخَالِقِ ، يكُون الرَّسُول مُقَدَّماً على الكِتَاب .
السُّؤال الثَّاني : لِمَ ذكر في مراتب الإيمان أموراً ثلاثة : الإيمان بالله ، وبالرسل ، وبالكتب ، وذكر في مَرَاتِب الكُفْر [ أموراً خَمْسَة : الكُفْر ] باللَّه ، وبالملائكة ، وبالرُّسُل ، [ وبالكُتُب ] ، وباليَوْم الآخِر؟ .
والجواب : لأنَّ الإيمان [ باللَّه و ] بالرُّسُل ، وبالكُتُب متى حَصَل ، فقد حَصَل الإيمان بالملائِكَة ، وباليوم الآخر لا مَحَالَة ، إذ رُبَّما ادّعى الإنْسَان أنه يُؤمِن باللَّه ، وبالرُّسُل ، وبالكُتُب ، ثم إنَّه يُنْكِرُ الملائكة ، وينكر اليَوْم الآخر ، ويزعم أنَّ الآيات الوَارِدَة في المَلائكة وفي اليوم الآخر ، مَحْمُولَة على التَّأوِيل .
فلما احتمل هذا؛ لا جرم نصَّ على أن مُنْكِر المَلاَئِكَة ، ومنكر اليَوْم الآخِر ، كافرٌ باللَّه .
السؤال الثالث : كيف قِيلَ لأهلِ الكِتَاب : { والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ } مع أنهم كانوا مُؤمنين بالتوراة والإنجيل؟ .
والجواب : ما تقدَّم من أن المراد بالكِتَاب : الجنس ، فأمِرُوا أن يُؤمِنُوا بكل الكُتُب؛ لأنَّهم لم يُؤمِنُوا بكُلِّها؛ كما قالوا : نُؤمِنُ بِبَعْضٍ ونكْفُر ببعضٍ ، وأما قوله : { فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } ليس جواباً للأشياء المَذْكُورة ، بل المعنى : ومنْ يكْفُرْ بواحدٍ مِنْهَا .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)

لما أمر بالإيمان ، ورغَّب فيه ، بَيَّن فساد طَرِيقة من يَكْفُر بعد الإيمَان .
قال قتادة : هم اليَهُود؛ آمَنُوا بِمُوسى ، ثم كفروا من بعد بعبادتهم العجل ، [ ثم آمَنُوا بالتَّوْراة ] ، ثم كَفَرُوا بعيسى - عليه السلام - ، ثم ازدادُوا كُفْراً بمحمَّد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : هو في جَمِيع أهْل الكِتَاب آمَنُوا بِنَبِيِّهم ، ثم كَفَرُوا به ، وآمَنُوا بالكِتَاب الذي نُزِّل عليه ، ثم كَفَرُوا به ، وكفرهم به : تركهم إيَّاه ، أي : ثم ازْدَادُوا كفراً بمحمَّد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : هذا في قَوْم مُرْتَدِّين ، آمَنُوا ثم ارتَدُّوا ، ومثل هذا هل تقبل تَوْبتهُ؟ حُكِي عن عَلِيٍّ : أنه لا تُقْبَل تَوْبَته ، بل يُقْتَل؛ لقوله - تعالى - : { لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ } وذلك لأن تَكْرَار الكُفْر منهم بعد الإيمان مراتٍ ، يدلُّ على أنَّه لا وَقْع للإيمَانِ في قُلُوبهم ، إذ لو كان للإيمان وَقْعٌ في قُلُوبهم ، لما تركُوهُ بأدْنى سَبَب ، ومن كان كَذَلِك ، فالظَّاهر أنَّه لا يُؤمِن إيماناً صَحِيحاً ، فهذا هُو المُرادُ بقوله : { لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ } وليس المُرَادُ ، أنه لو أتى بالإيمَان الصَّحِيح ، لم يكُن مُعْتَبَراً ، بل المراد مِنْهُ : الاستِبْعَاد ، وأكثر أهْل العِلْم على قُبُول تَوْبَتِه .
وقال مُجَاهِدٌ : { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } أي : مَاتُوا عليه ، { لم يكن الله ليغفر لهم } : ما أقامُوا على ذلك ، { ولا ليهديهم سبيلا } أي : طريقاً إلى الحَقِّ .
وقيل : المُراد طائِفَة من أهل الكِتَاب ، قَصَدوا تَشْكِيك المُسْلِمينَ ، فكانوا يُظْهِرونَ الإيمانَ تارةً والكُفْر تارةً أخْرى ، على ما أخْبَر اللَّه - تعالى - عنهم قولهم : { آمِنُواْ [ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ ] وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ آل عمران : 72 ] وقوله : { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } أن بَلَغُوا في ذلك إلى حدِّ الاسْتِهْزَاء ، والسُّخْرية بالإسْلامِ .
فصل
دلَّت الآية على أنَّ الكُفْر يقبل الزِّيادة والنُّقْصَان؛ فوجَب أنْ يَكُونَ الإيمان كَذلك؛ لأنهما ضِدَّان متنافِيَانِ؛ فإذا قَبِلَ أحدُهُما التَّفَاوُت ، فكذلك الآخَر .
فإن قيل : الحُكْم المَذْكُور في هذه الآية : إمَّا أن يكون مَشْرُوطاً بما قبل التَّوبة ، أو بما بَعْدَها .
والأوَّل : باطِلٌ؛ لأن الكُفْر قبل التَّوْبَة غير مَغْفُور على الإطْلاق ، وحينئذٍ تضيع الشُّروطُ المَذْكُورَة .
والثاني : باطل؛ لأن الكُفْر [ يُغْفَر ] بعد التَّوْبَة ، ولو كَانَ بعد ألْفِ مَرَّة ، فعلى التَّقْديرين يلزم السُّؤالُ .
والجوابُ من وُجُوه :
أحدها : ألا نَحْمِل قوله : « إنَّ الَّذين » على الاسْتِغْرَاق ، بل على المَعْهُود السَّابق ، وهم أقْوام مُعَيَّنُون علم الله أنَّهم يَمُوتون على الكُفْر ، ولا يَتُوبون عَنْه ، فقوله : { لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ } إخبار عن مَوْتِهِم على الكُفْر .
وثانيها : أن الكلام خَرَج على الغَالِب المُعْتَاد ، فإن كان كَثِير الانْتِقَال من الإِسْلاَم إلى الكُفْر ، لم يكن للإيمان في قَلْبِه وَقْع ، ولا وَجَد حلاوَةَ الإيمان كما تقدَّم ، والظَّاهِر ممن حاله هذا أنَّه يمُوت كَافراً .

وثالثها : أن الحُكْم على المَذْكُورِ في الآية مَشْرُوطٌ بعدم التَّوْبة عن الكُفْر ، وقول السائل إنَّه على هذا التَّقْدير تَضْييعُ الصِّفات المَذْكُورَة .
قلنا : إنَّ إفْرادَهُ بالذِّكْر يدلُّ على أن كُفْرَهُم أفْحَش ، وخيانتهم أعْظَم ، وعُقُوبتهم في القِيَامَة أوْلَى ، فجرى مُجْرَى قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] خصَّهُما بالذِّكر لأجل التشريف ، وكقوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
فإن قيل : اللاَّم في قوله : « لِيَغْفِرَ لَهُم » : للتأكيد ، وهو غَيْر لائقٍ بهذا المَوْضِع ، وإنَّما اللائِق به تَأكيد النَّفْي .
فالجواب : إن نفي التَّأكيد على سَبِيل التَّهَكُم مُبَالَغَة في تَأكِيد النَّفْي ، وهذه اللاَّم تُشْبِه اللاَّم في قوله : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين } [ آل عمران : 179 ] ، تقدَّم الكلام فيه ، ومَذَاهب النَّاس ، وأن لاَمَ الجحود تُفِيد التَّوْكِيد ، والفرق بَيْن قَوْلك : « مَا كَانَ زَيْد يَقُوم » ، و « ما كانَ لِيَقُوم » .
قوله : { ولا ليهديهم سبيلاً } يدلُّ على أنه - تعالى - لم [ يَهْدِ ] الكافرين إلى الإيمَانِ .
وقالت المُعْتَزِلَةُ : هذا مَحْمُول على زِيَادة الألْطَاف ، أو عَلَى أنَّه لا يَهْدِيهم إلى الجَنَّة في الآخِرة .
قوله { بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً } البشارة : كل خبرٍ تتغيَّرُ به بشرَةُ الوجْهِ ، سارّاً كان أو غَيْر سَارٍّ .
وقال الزَّجَّاج : مَعْنَاه : اجعل في مَوْضع بِشَارتك لَهُم العَذَاب ، كما تقول العرب : « تحيتك الضَّرْبُ وعِتَابُكَ السَّيْفُ » ، أي : بَدَلاً لكُم من التَّحِيَّةِ ، ثم وصَفَ المُنَافِقِين ، فقال : { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } يعني : يتَّخذون اليَهُود والنَّصَارى أولياء ، وأنْصاراً ، وبِطَانة من دُون المُؤمنين ، كان المُنَافقُون يوادُّونَهُم ، ويقول بَعْضهم لبَعْضٍ : إن أمر محمَّد لا يَتِمُّ .
قوله : « الَّذِين » يجُوز فيه النَّصْب والرَّفْع ، فالنصب من وَجْهَيْن :
أحدهما : كونه نعتاً للمُنَافِقِين .
والثاني : أنه نَصْب بفعلٍ مُضْمَر ، أي أذمُّ الَّذِين ، والرَّفْع على خَبر مُبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : هم الَّذِين .
فصل
قال القُرْطُبِيُّ : وفي الآيَة دَلِيلٌ على أنَّ من عَمِل مَعْصِيَةً من الموحّدين ، ليس بمنافِقٍ؛ لأنَّه لا يتولّى الكُفَّار ، وتضمنت المَنْع من مُوالاة الكُفَّار ، وأنْ يتَّخِذُوا أعْواناً على الأعْمال المُتَعَلِّقة بالدِّين ، وفي الصَّحيح عن عَائِشَة - رضي الله عنها - : « أنّ رجلاً من المُشْرِكين لحق بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَاتِل مَعَه ، فقال : ارجعْ ، فإنَّنا لا نَسْتَعِين بِمُشْرِكٍ » .
قوله : { أيبتغون عندهم العزة } أي : المَعُونة ، والظُّهور على محمَّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقيل : أيطلبون عندهُم القُوَّة ، والغَلَبة ، والقُدْرة .
قال الواحدي : أصَلُ العِزَّة في اللُّغَة : الشِّدَّة ، ومنه : قيل : للأرْضِ [ الصَّلْبَة ] الشَّديدة : عزَاز ويقال : قد استَعَزَّ المرضُ على المَرِيضِ : إذا اشتدَّ مَرَضُه وكاد أن يَهْلَكَ وعَزَّ الهَمُّ إذا اشْتَدَّ ، ومنه : [ عَزَّ ] عليَّ أن يكُون كذا بِمَعْنَى : اشتَدَّ ، وعز الشَّيْء : إذا قلَّ حتى لا يَكُادُ يُوجَد؛ لأنه اشتدَّ مطلبُهُ ، واعتز فلانٌ بفلان : إذا اشتَدَّ ظَهْرُه به ، وشاةٌ عَزُوزٌ : إذا اشتَدَّ حَلْبُها ، والعِزَّة : القُوَّة ، منقولة عن الشِّدَّة؛ لتقارب مَعْنَيْهما ، والعَزِيز : القوي المَنِيع بخلاف الذَّلِيل ، فالمُنَافِقُون كانوا يَطْلبون العِزَّة والقُوَّة ، بسبب اتِّصالهم باليَهُود ، فأبطل اللَّه عَلَيْهم هذا الرَّأي بقوله : { فإن العزة لله جميعاً } .

والثاني : قوله : « فإن العزة » لِما في الكلام من معنى الشَّرْط ، إذ المَعْنَى : إن إن تَبْتَغُوا من هَؤلاء عِزَّةً { فإن العزة لله جميعاً } ، « جَمِيعاً » : حال من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في قوله : « لِلَّه » لوُقُوعهِ خَبَراً ، [ والمعنى : أنَّ العِزَّة ثبتَتْ لِلَّه - تعالى - حالة كونها جَمِيعاً ] .
فإن قيل : هذا كالمُنَاقض لقوله : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] .
فالجواب : أن القُدْرة الكامِلَة للَّه ، وكل من سِوَاه فبإقداره صَار قادراً ، وبإعْزَازه صارَ عَزِيزاً ، فالعِزَّة الحَاصِلة للرسُول وللمُؤمنين لم تحصل إلا من اللَّه - تعالى - ، فكان الأمْر عند التَّحْقِيقِ : أنَّ العِزَّة للَّه جَمِيعاً .

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)

قرأ الجماعة : « نُزِّل » مبنياً للمفعول ، وعاصم ويعقوب قَرَآه « نَزَّلَ » مبنياً للفاعِل ، وأبو حَيْوة وحُميد : « نَزَل » مخففاً مَبْنياً للفاعِل ، والنخعي : « أُنْزِل » بالهَمْزَة مبنياً للمفعُول .
والقائمُ مقامَ الفاعِل في قراءة الجَمَاعة والنَّخعي ، هو « أنْ » وما في حيِّزها ، أي : وقد نَزَّل عليْكُم المَنْعَ من مُجَالستِهِم عند سَماعِكم الكُفْر بالآيَات ، والاسْتِهْزَاء بها .
وأمّا في قراءة عاصمٍ : ف « أنْ » مع ما بعدها في مَحَلِّ نصبٍ مفعولاً به ب « نزَّل » ، والفاعل ضميرُ الله - تعالى - كما تقدَّم .
وأما في قِرَاءة أبي حَيْوة وحمَيد : فمحَلُّها رفعٌ بالفاعِليّة ل « نزل » مخففاً ، فمحَلُّها : إمّا نَصْب على قِرَاءة عَاصِمٍ ، أو رَفْع على قِراءة غيره ، ولكن الرَّفْع مختلف .
فصل
قال المفسِّرون : المَعْنَى : وقد نَزَّل عليكم يا معشر المُؤمنين ، { أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله } يعني : القُرْآن { يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم } يعني : مع المُسْتَهْزِئين { حتى يخوضوا في حديث غيره } ، وذلك أنَّ المُشركِينَ كانُوا يخوضُونَ في مُجَالَسَتِهم في ذِكْر القُرْآن ، يستَهْزِئُون به ، فأنْزَل الله - تعالى - { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [ الأنعام : 68 ] وهذه الآية نَزَلَتْ في مَكَّة .
ثم إن أحْبَار اليهُود بالمدينَة ، كانوا يَفْعَلُون فعل المُشْرِكِين ، وكان المُنافِقُون يَقْعُدون معهُم ، ويُوافِقُونهم على ذلك ، فقال - تعالى - مُخَاطِباً لَهُم : « أنه قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها » والمعنى : إذا سَمِعْتُم الكُفْر بآيَات اللَّه والاستهزاء بِهَا ، لكنَّه أوْقع فعل السماع على الآية ، والمُراد بها : سَمَاع الاسْتِهْزَاء .
قال الكسَائِيُّ : هو كما يُقَال : سَمِعْت عَبْد اللَّه يُلاَم .
قال ابن الخطِيب : وعندي فيه وَجْه آخَر : وهو أنْ يَكُون المَعْنَى : إذا سَمِعْتُم آيَاتِ اللَّه حَالَ ما يُكْفَر بها ويستهزأ بها ، وعلى هذا فلا حَاجَة لما قاله الكسَائيُّ .
قوله : « أنْ إذَا » « أن » هذه هي المُخَفَّفةُ من الثَّقيلة ، واسمُهَا : ضِمِير الأمْر والشَّأن ، أي : أنَّ الأمْر والشأن إذا سَمعْتُم الكُفْر والاسْتهْزَاء ، فلا تَقْعُدُوا .
قال أبو حيان : وما قَدَّره أبو البقاء من قوله : « أنَّكُم إذا سَمِعْتُم » ليس بجَيِّد ، لأن « أن » المخففة لا تَعْمَل إلاَّ في ضِمِير الشَّأن ، إلا في ضرورةٍ؛ كقوله : [ الطويل ]
1888- فَلَوْ أنْكِ فِي يَوْمِ الرَّخَاءِ سألْتِني ... طَلاَقَكِ لَمْ أبْخَلْ وَأنْتِ صَدِيق
قال شهاب الدين : هكذا قال ، ولم أره أنا في إعراب أبِي البَقَاءِ إلا أنَّه بالهَاءِ دون الكَافِ والمَيم ، والجملةُ الشَّرْطِية المُنْعَقدةُ من « إذا » وجوابها في مَحَلِّ رَفْع ، خَبَراً ل « أنْ » ، ومن مَجِيء الجُمْلة الشرطيَّة خبراً ل « أنْ » المُخَفَّفَة : قوله : [ الكامل ]

1889- فَعَلِمْتُ أنْ مَا تَتَّقُوهُ فَإنَّهُ ... جَزْرٌ لِخَامِعَةٍ وفَرْخ عُقَابِ
ف « مَا » شَرْطيةٌ ، و « فإنه » جَوابُها ، والجُمْلَةُ خبرٌ ل « أنْ » المخفَّفَةِ .
قوله : « يُكَفَرُ بِهَا » في محلِّ نَصْب على الحَالِ من الآيات ، و « بها » في محلِّ رفع؛ لقيامِه مقامَ الفاعلِ ، وكذلِك في قوله : « يُسْتَهْزَأُ بِهَا » والأصل : يكفر بها أحدٌ ، فلمَّا حُذِف الفاعلُ ، قام الجارُّ والمَجْرُورُ مقامَه ، ولذلك رُوعِي هذا الفَاعِلُ المَحْذُوف ، فعاد عليه الضَّمِيرُ من قوله : { مَعَهُمْ حتى يخوضوا } كأنه قِيل : إذا سَمِعْتُم آياتِ الله يَكْفرُ بها المُشْرِكُون ، ويَسْتَهزِئُ بها المُنَافِقُون ، فلا تَقْعدوا مَعَهُم حتى يخُوضُوا في حَديثٍ غيره ، أي : غير حَدِيث الكُفْر والاستهزاء ، فعاد الضَّمير في « غيره » على ما دَلَّ عليه المَعْنَى .
وقيل : الضَّمير في « غيره » يجُوزُ أنْ يعودَ على الكُفْر والاستِهْزَاء المفهُومَيْن من قوله : « يُكَفَر بِهَا » و « وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا » ، [ وإنما أفْرَد الضَّمِير وإن كان المُرَاد به شَيْئين؛ لأحد أمرين : ]
إمَّا لأنَّ الكُفر والاستِهْزَاء شيءٌ واحدٌ في المعْنَى :
وإمَّا لإجراءِ الضَّميرِ مُجْرى اسم الإشَارةِ ، نحو : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] . وقوله : [ الرجز ]
1890- كَأنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَق ... وقد تقدَّم تَحْقِيقُه في البقرة ، و « حتى » : غايةٌ للنَّهْي ، والمعنى : أنه يجُوز مُجَالستهم عند خَوْضِهم في غير الكُفْر والاستِهْزَاء .
قال الضَّحاك : عن ابن عبَّاسٍ : دخل في هذه الآية كل مُحْدِث في الدِّين ، وكل مُبْتَدِع إلى يَوْم القِيَامَةِ .
قوله : { إنكم إذاً مثلهم } « إذاً » هنا : مُلغَاةٌ؛ لوقوعها بين مُبْتَدأ وخبر ، والجمهور على رفعِ اللام في « مثلُهم » على خَبَرِ الابتداء ، وقرئ شاذاً بفتحها ، وفيها تَخْريجَان :
أحدهما : - وهو قولُ البصْريِّين - أنه خبر أيضاً ، وإنما فُتِح لإضافته إلى غير مُتَمَكِّن؛ كقوله - تعالى - : { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] بفتح اللاَّم ، وقول الفرَزْدَق : [ البسيط ]
1891- . .. . . وإذْ مَا مِثْلَهُمْ بَشَرُ
في أحدِ الأوجه .
والثَّاني : - وهو قولُ الكُوفيِّين - إن « مِثْل » يَجُوز نصبها على المَحَلِّ ، أي : الظرف ، ويُجيزُون : « زيد مِثْلَك » بالنَّصب على المحلِّ أي : زيدٌ في مثل حالك ، وأفرد « مثل » هُنَا ، وإن أخْبَرَ به عن جَمْع ولم يُطابق به كما طابق ما قبله في قوله : { ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] ، وقوله : { وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ } [ الواقعة : 22 ، 23 ] .
قال أبُو البقاء وغيره : لأنه قصد به هُنَا المصدر ، فوحَّد كما وحَّد في قوله : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } [ المؤمنون : 47 ] . وتحرير المَعْنَى : أن التقدير : إنَّ عصيانكم مثل عصيانهم ، إلا أنَّ تقدير المصدريّة في قوله : « لِبَشَريْنِ مِثْلِنَا » قلق .
فصل في معنى الآية
والمعنى : أنكم إذاً مِثْلُهُم ، إن قعدْتُم عندهم وهُم يَخُوضُون ويَسْتهزِئُون ، ورضيتم بِهِ ، فأنتم كُفَّار مِثْلُهم ، وإن خَاضُوا في حَدِيث غَيْرِه ، فلا بأس بالقُعُود مَعَهم مع الكَرَاهَة .

قال الحَسَن : لا يجوز القُعُود معهم وإن خَاضُوا في حَدِيث غَيْره؛ لقوله - تعالى - : { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين } [ الأنعام : 68 ] والأكثرون على الأوَّل ، وآية الأنعام مَكِّية وهذه مَدَنِيَّة ، والمتأخِّر أوْلَى .
فصل
قال بعض العُلَمَاء : هذا يدل على أنَّ من رَضِي بالكُفْرِ ، فهو كافِرٌ ، ومن رَضِيَ بمنكر يَرَاه ، وخالط أهْلَه وإن لَمْ يُبَاشِر ذلك ، كان في الإثْمِ بمَنْزِلة المُبَاشِر لهذه الآية ، وإن لم يَرْض وحَضَر خَوْفاً وتقية ، فلا .
قوله : { إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } أي : كما اجتمعوا على الاسْتِهْزَاء بآيَاتِ اللَّه في الدُّنْيا ، فكذلك يَجْتِمَعُون في العَذَاب يوم القِيَامَةِ ، وأراد : جامعٌ بالتنوين؛ لأنَّه بعدما جَمَعَهُم حذف التَّنْوِين؛ استخفافاً من اللَّفْظ ، وهو مرادٌ في الحَقِيقَةِ .

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)

في : « الذين يتربَّصُون » : ستَّة أوجه :
أحدُها : أنه بدلٌ من قوله : « الذين يتَّخِذُون » ، فيجيء فيه الأوْجُه المذْكُورة هناك .
الثاني : أنه نَعْتٌ للمنافِقِين على اللَّفْظِ ، فيكون مَجْرورَ المَحَلِّ .
الثالث : أنه تابعٌ لهم على المَوْضِع ، فيكونُ مَنْصُوبَ المَحَلِّ ، وقد تقرَّر أنَّ اسم الفاعل العامِل إذا أُضيفَ إلى مَعْمُوله ، جاز أن يُتْبَعَ مَعْمُولُه لفظاً وموضعاً ، تقول : « هذا ضاربُ هندٍ العاقلةِ والعاقلةَ » بجرِّ العاقلة ونصبها .
الرابع : أنه منصوبٌ على الشَّتْم .
الخامس : أنه خَبَر مبتدأ مُضْمَر ، أي : هُمُ الذين .
السادس : - وذكره أبو البقاء - أنه مُبْتَدأ ، والخبرُ قوله : { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ } ، وهذا ضَعِيفٌ؛ لنبوِّ المَعْنَى عنه ولزيادةِ الفاءِ في غير مَحَلِّها؛ لأنّ هذا الموصُولَ غيرُ ظاهر الشَّبهِ باسْمِ الشرط .
فصل في معنى الآية
ومعنى « يتربَّصُون بِكُم » : ينتظرون بكُم الدَّوَائِر ، يعنى : المُنَافِقِين ، ينتظرون ما يَحْدُث من خَيْر وشَرٍّ ، { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله } أي : ظهورٌ على اليَهُود ، وظَفر ، وغَنَيِمة ، { قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ } على دينكُم وفي الجِهَاد كنَّا معَكُم ، فأعْطُونا قِسْماً من الغَنِيمَةِ ، { وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ } يعني : ظَفرٌ على المُسْلِمِين ، « قَالُوا » : يعني : المُنَافِقِين للكافرين : { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } والاستحواذ : الاستيلاء والغَلَبة على الشَّيْء ، ومنه : { استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان } [ المجادلة : 19 ] ، ويقال : حَاذَ وأحَاذَ بِمَعْنًى؛ والمصدر : الحَوْذ ، وفي المَعْنَى وُجُوهٌ :
الأول : أن المَعْنَى : ألم نَغْلِبكُم ، ونتمكَّن من قَتْلِكُم وأسركُم ، ثم لم نَفْعَل شَيْئاً من ذَلِك ، { وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين } أي : نَدْفَع عَنْكُم صولة المُؤمِنين بِتَخْذِيلهم ، وتوانينا في مُظاهَرَتِهم ، فأعطونا نَصِيباً ممَّا أصَبْتُم .
الثاني : قال المُبَرِّد : يقول المُنَافِقُون للكفَّار : ألم نَغْلِبْكُم؛ فإن المُنَافِقِين بالغُوا في تَنْفِير الكَافِرِين ، وأطْمَعُوهم أنه سَيضْعُفُ أمر محمَّدٍ ، وسَيَقْوى أمركم ، فإذا اتَّفَقَتْ للكفَّار دَوْلةٌ على المُسْلِمين ، قال المُنَافِقُون : ألَسْنَا غلبناكم على رَأيِكُم في الدُّخُول في الإسْلام ، ومَنَعْنَاكُم منه ، فلمَّا شاهَدْتُم صِدْق قَوْلِنا ، فأعْطُونا نَصِيبَنَا ممَّا أخَذْتُمْ ، ومرادُ المُنافقين : إظْهَار المِنَّة على الكَافِرِين بهذا الكلامِ .
الثالث : ألم نُخْبِرْكم بِعَزِيمَةِ محمَّدٍ وأصحابه ، ونُطْلِعْكُم على سِرِّهِم .
فإن قيل : لِمَ سَمَّى ظَفر المُسْلِمين فتحاً ، وظفر الكُفَّار نَصِيباً .
فالجواب : أنه تعظيم لشأن المُؤمنين ، وتحقير لحظِّ الكَافِرِين؛ لأن ظَفر المُسْلِمين أمر عظيم ، يفتح الله لَهُ أبْوَاب السَّمَاء؛ حتى تَنْزل الرَّحْمَة على أوْلِيَاء اللَّه ، وأما ظَفر الكَافِرِين : فما هُوَ إلا حَظٌّ دنيويٌّ يَنْقَضِي ، ولا يَبْقَى منه إلا اللَّوْم في الدُّنْيَا ، والعُقُوبة في الأخْرَى .
قوله : « ونمنعكم » الجمهورُ على جَزْمه ، عطفاً على ما قبله .
وقرأ ابن بي عَبْلَة بنصب العَيْن وهي ظَاهِرَةٌ؛ فإنه على إضْمَار « أنْ » بعد الوَاوِ المقتَضِيَة للجَمْع في جواب الاستفهامِ؛ كقول الحُطيْئَة : [ الوافر ]
1892- ألَمْ أكُ جَارَكُم ويَكُونَ بَيْنِي ... وَبَيْنَكُمُ الْمَوَدَّةُ والإخَاءُ

وعَبَّر ابنُ عَطِيَّة بعبارة الكوفيين ، فقال : « بفتحِ العَيْن على الصَّرْف » ويعنون بالصَّرْف : عدمَ تَشْريكِ الفِعْلِ مع ما قَبْلَه في الإعْرَاب .
وقرأ أبيّ : « ومنعناكم » فعلاً ماضياً ، وهي ظاهرةٌ أيضاً؛ لأنه حُمِلَ على المَعْنَى ، فإنَّ معنى « أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ » : إنَّا قد اسْتَحْوَذْنا ، لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على نَفْي قَرَّره ، ومثلُه : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا } [ الشرح : 1 ، 2 ] لَمَّا كان « أَلم نَشْرَحْ » في معنى : « قد شَرحْنَا » عُطِفَ عليه « ووضَعْنا » .
ونَسْتَحْوِذُ واستحوذ مِمَّا شَذَّ قياساً ، وفَصُحَ استعمالاً؛ لأنَّه مِنْ حقِّه نَقْلُ حركةِ حَرْفِ علَّتِه إلى السَّاكِن قبلها ، وقَلْبها ألفاً؛ كاسْتَقَام واسْتَبَان وبابه ، وقد قدمت تَحْقِيق هذا في قوله - تعالى - في الفاتحة : « نَسْتَعين » ، وقد شذَّت معه ألفاظٌ أخَرُ ، نحو : « أغْيَمَتْ وأغيلت المرأة وأخيَلت السَّماء » قصرها النَّحْوِيُّون على السَّماع ، وقاسها أبُو زَيْد .
قوله : { فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } قيل : هنا مَعْطوفٌ مَحْذُوف ، أي : وبينهم؛ كقوله : [ الطويل ]
1893- فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً ... أبُو حُجُرٍ إلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
أي : وبيني ، والظَّاهرُ أنه لا يحتاج لذلك؛ لأن الخِطَاب في « بَيْنَكُم » شاملٌ للجَميع ، والمرادُ : المُخَاطَبُون والغَائِبُون ، وإنما غَلَّبَ الخطاب؛ لما عَرَفْتَ من لُغَة العرب .
فالمعنى : أنَّ الله يَحْكُم بين المُؤمنين والمُنَافقين يوم القيامةِ ، ولم يَضِع السَّيْف في الدُّنْيَا عن المُنَافِقِين ، بَلْ أخّر عِقَابِهِم إلى يَوْم القِيَامَةِ .
قوله : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } .
قال عَلِيٌّ - رضي الله عنه - : في الآخِرة ، قال يُسَيْع الحضرمِيّ : كُنْتُ عند عَلِيٍّ - رضي الله عنه - ، فقال [ له ] رجُلٌ يا أمير المُؤمنين : أرأيْت قوله - تبارك وتعالى - : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } . كيف ذَلِك ، وهم يُقَاتِلُوننَا ويَظْهَرُون علينا أحْيَاناً .
فقال عَلِيٌّ - رضي الله عنه - : معنى ذلك : يَوْم القيامة؛ وهو مَرْوِيٌّ عن ابن عبَّاسٍ ، وقيل : لا يجعل الله للكافرين على المُؤمنين سَبِيلاً ، إلا أنْ يتواصوا بالبَاطِل ، ولا يَتَنَاهَوْا عن المُنْكَر ، ويتقاعَدُوا عن التَّوْبة ، فيكون تَسْلِيطُ العدُوِّ من قبلهم؛ كما قال : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] .
قال ابن العَرَبِيِّ : وهذا نَفِيسٌ .
وقيل : ولَنْ يَجْعَل اللَّه للكَافِرِين على المُؤمنين سَبِيلاً شَرْعاً ، فإنْ وُجِد ، فَبِخلاف الشَّرْع .
وقال عِكْرمة ، عن ابن عبَّاسٍ : حُجَّة في الدُّنْيَا ، وقيل : ظُهُوراً على أصْحَاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقيل : عَامٌّ في الكُلِّ ، إلا ما خصَّه الدَّلِيلُ .
قوله : على المُؤمنين يَجُوز أن يتعلَّق بالجَعْلِ ، ويجُوز أن يتعلَّق بِمَحذُوفٍ ، ؛ لأنه في الأصْل صِفَة ل « سَبِيلاً » ، فلما قُدِّم عليه ، انْتَصَبَ حالاً عَنْهُ .
فصل
استدّلُّوا بهذه الآية على مَسَائِلَ :
منها : استيلاء الكَافِر على مال المُسْلِمِ بدَارِ الحَرْب ، لم يَمْلِكْه .
ومنها : أن الكَافِر ليس لَهُ أن يَشْتَرِي عَبْداً مسلماً .
ومنها : أنَّ المُسْلِم لا يُقْتَل بالذِّمِّيِّ .

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)

قد تقدَّم تفسير الخِدَاع واشتقاقه أوّل البقرة ، ومعنى المُفَاعَلة فيه .
قال الزَّجَّاج : مَعْنَاه : يُخَادِعُون الرَّسُول ، أي : يظهرون لَهُ الإيمَان ويبطنون الكُفْرَ؛ كقوله : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] ، وسمّي المُنَافِق مُنَافِقاً؛ أخذاً من : نَافِقَاء اليَرْبُوع؛ وهي جُحْره؛ فإنه يَجْعَلُ له بَابَيْن ، يَدْخُلُ من أحدهما ويَخْرُجُ من الآخَر؛ كذلك المُنَافِق ، يَدْخُل مع المؤمنين بقوله : أنا مُؤمِنٌ ، [ ويدخل مع الكَافِر بقوله : أنا كَافِر ] ، وجُحْرُ اليَرْبُوعِ يُسَمَّى النَّافِقَاء ، والسَّاميَاء والدَّامياء ، [ فالسَّامِيَاء ] : هو الجحر الذي تلد فيه الأنْثَى ، [ والدامياء : هو الذي يَكُون ] فيه .
قوله : « وَهُوَ خَادِعُهُمْ » فيه ثلاثة أقْوَالٍ :
أحدها : ذكرَه أبُو البقاء : أنه نَصْبٌ على الحَالِ .
والثاني : أنَّها في مَحَلِّ رفعٍ عطْفاً على خَبَر « إنَّ » .
الثالث : أنَّها استِئْنَاف إخْبَار بِذَلك .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « وخادعٌ : اسم فاعِل من خَادعْتُه ، فَخَدَعْتهُ إذا غَلَبْتهُ ، وكنت أخْدَع مِنْه » . قوله : « وَهُوَ خَادِعُهُم » أي : مُجَازيهم بالعِقَاب على خِدَاعِهم .
قال ابن عبَّاس : إنهمَ يُعْطَوْن نوراً يَوْم القِيَامةِ كالمؤمنين ، فيَمْضِي المُؤمِنُون بنورهم على الصِّراطِ ، ويُطْفَأ نور المُنَافِقِين ، يدلُّ عليه قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [ البقرة : 17 ] .
قوله : « وإذا قَامُوا » عطفٌ على خَبَر « إنَّ » أخبر عَنْهم بِهَذِه الصِّفَاتِ الذَّميمة ، و « كُسَالى » : نصبٌ على الحَالِ من ضَمِير « قَامُوا » الواقع جواباً ، والجُمهورُ على ضمِّ الكاف ، وهي لُغة أهل الحِجاز [ جمع كَسْلان : كسَكَارَى ] ، وقرأ الأعرج بفتحها ، وهي لُغَةُ تميم وأسَدٍ ، وقرأ ابن السَّمَيْفع : « كَسْلى » وصَفَهم بِمَا تُوصف به المُؤنَّثَة المفردةُ ، اعْتِبَاراً بمعنى الجماعة؛ كقوله : « وتَرَى الناسَ سَكْرى » ، والكسلُ : الفُتُورُ والتواني ، وأكْسَل : إذا جَامَعَ وفَتَر ولم يُنْزل . والمعنى : أن المُنَافِقِين إذا قامُوا إلى الصَّلاةِ ، قاموا مُتَثَاقِلِين ، لا يُرِيدُون بها الله - تعالى- ، فإن رَآهم أحَدٌ ، صلَّوا ، وإلا انْصَرَفُوا فَلَمْ يُصَلُّوا .
قوله : « يُراؤون [ النَّاسَ ] » في هذه الجُمْلَةِ ثلاثةُ أوجه :
أحدُها : أنها حَالٌ من الضَّمير المُسْتَتر في « كُسَالى » .
الثاني : أنها بَدَلٌ من « كُسَالَى » ؛ ذكره أبو البقاء ، فيكونُ حالاً من فاعل « قَامُوا » وفيه نظر ، لأنَّ الثَّاني ليس الأوَل ولا بَعْضَه ولا مُشْتَمِلاً عليه .
الثالث : أنها مُستأنفةٌ أخْبر عَنْهم بذلك ، وأصلُ يُراؤون : يُرائِيُون ، فأعِلَّ كَنَظائره ، والجمهور على : « يُراؤون » من المُفاعلةِ .
قال الزَّمْخْشَرِيُّ : فإنْ قلت : ما مَعْنَى المراءاة ، وهي مُفاعَلَة من الرُّؤيَة؟ قلت : لها وجهان :
أحدهما : أنَّ المُرَائِيَ يُريهم عَمَلَه ، وهم يُرُونه الاسْتحْسَانَ .
والثاني : أن تكُونَ من المُفاعلة بمعنى : التَّفْعِيل ، يقال : نعَّمه وناعَمَهُ ، وفَنَّقه وفَانَقَه ، وعيش مُفَانِق ، وروى أبو زَيْد : « رأَّت المَرْأةُ المِرْآة [ الرَّجُل ] » إذا أمْسكَتْها له ليرى وَجهَه؛ ويدل عليه قراءةُ ابن أبي إسحاق : « يُرَؤّونَهُم » بهمزةٍ مُشَدَّدةٍ مثل : يُدَعُّونهم ، أي : يُبَصِّرونهم ويُرَاؤونهم كذلك ، يعني : أن قراءةَ : « يُرَؤُّنهم » من غير ألفٍ ، بل بهمزةٍ مَضْمُومةٍ مشدَّدَةٍ توضِّح أنَّ المُفاعَلَة هنا بِمَعْنَى التفعيل .

قال ابن عَطِيَّة : « وهي - يعني هذه القراءة - أقْوَى من » يُرَاؤُونَ « في المعنى؛ لأنَّ مَعْنَاها يَحْمِلُون النَّاسَ على أنْ يَرَوْهم ، ويتظاهَرُون لهم بالصَّلاة ويُبْطنُون النِّفَاقَ » وهذا منه ليس بجيِّد؛ لأنَّ المُفَاعَلة إنْ كَانَت عَلَى بابها ، فهي أبْلَغُ لِما عُرِفَ غيرَ مرَّة ، وإنْ كانت بِمَعْنَى التفعيل ، فهي وَافِيةٌ بالمَعْنَى الذي أرَادَه ، وكأنه لم يَعْرِف أنَّ المفاعلة قد تَجِيءُ بمعنى التَّفْعِيل . ومتعلَّقُ المُرَاءاةِ محذُوفٌ؛ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُراءى به ، والأحْسَن أن تُقَدِّر : يُراؤون النَّاسَ بأعْمَالِهم .
قوله : { وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } « ولا يَذْكُرُون » ، يجوز أن يكون عَطْفاً على « يُرَاؤُون » ، وأن يكون حالاً من فاعِل « يُراؤُون » وهو ضعيفٌ؛ لأن المُضارع المَنْفِيَّ ب « لا » كالمُثْبَتِ ، والمُثْبَتُ إذا وَقَع حالاً ، لا يَقْترِنُ بالوَاوِ ، فإنْ جَعَلها عَاطِفَةً ، جَازَ .
وقوله : « قليلاً » : نعتٌ لمصدرٍ محذُوفٍ ، أو لزمان مَحْذوفٍ ، أي : ذكْراً قليلاً أو زمناً قليلاً ، والقلةُ هُنَا على بابها ، وجَوَّز الزَّمَخْشَرِيُّ وابن عطِيَّة : أن تكون بِمَعْنَى العَدَم ، ويأباه كَوْنُه مُسْتَثْنى ، وقد تقدَّم الردُّ عليهمَا في ذَلِكَ .
فصل
قال ابنْ عبَّاسٍ ، والحسن : إنَّما قال ذَلِك؛ لأنَّهمُ يَفْعَلُونها رِيَاءً وسُمْعَة ، ولو أرَادُوا بذلك القَلِيل وَجْهَ اللَّه ، لكان كَثِيراً ، وقال قتادة : إنَّما قلَّ ذكرُ المُنَافِقِين؛ لأنَّ الله لم يَقْبله ، وكلّ ما قَبِلَ اللَّه ، فهو كَثِيرٌ .
وقيل : المعنى : لا يصلّون إلا قَليلاً ، [ والمُرادُ ب « الذكر » الصَّلاة ] ، وقيل : لا يَذْكُرُون اللَّه في جَمِيع الأوقات ، سواءً كان وَقْت الصَّلاة أوْ لَمْ يكُن إلاَّ قَلِيلاً نادراً .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : [ وترى ] كثيراً من المُتَظَاهِرِين بالإسْلام ، لو صِحِبْتَهُ الأيَّام واللَّيَالي ، لَمْ تسمع منه تَهْلِيلَةً ، ولكن حَدِيث الدُّنْيَا يَسْتَغْرِقُ به أوْقاته ، لا يَفْترُ عَنْه .
قوله : « مُذَبْذَبِينَ » : فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه [ حالٌ ] من فاعل « يراءون » .
الثاني : أنه حالٌ من فاعل « وَلاَ يَذْكُرُون » .
الثالث : أنه منصوبٌ على الذَّمِّ ، والجمهور على « مُذَبْذَبينَ » بميم مضمومة وذَالَيْن معجمتَيْن ، ثانيتهما مفتوحةٌ على أنه اسم مفعول ، من ذَبْذَبْتُهُ ، فَهُوَ مُذَبْذَبٌ ، أي : مُتَحَيِّرٌ ، وقرأ ابن عبَّاس وعمرو بنُ فائدٍ بكَسْر الذال الثانيةِ اسمَ فاعلٍ ، وفيه احتمالان :
أحدهما : أنه من « ذَبْذَب » متعدِّياً ، فيكونُ مفعولُه محذوفاً ، أي : مُذَبْذَبينَ أنْفُسَهُمْ أو دينهُمْ ، أو نحو ذلك .
الثاني : أنه بمعنى تَفَعْلَل ، نحو : « صَلْصَلَ » فيكون قاصراً؛ ويَدُلُّ على هذا الثاني قراءةُ أبَيٍّ ، وما في مصحف عبد الله « مُتَذَبْذِبِينَ » فلذلك يُحْتَمَلُ أن تكونَ قراءةُ ابن عبَّاس بمعنى مُتَذَبْذبين ، وقرأ الحَسَنُ البصريُّ « مَذَبْذَبِين » بفتح الميم .

قال ابن عطيَّة : « وهي مردودةٌ » وقال غيره : لا ينبغي أن تَصِحَّ عنه ، واعتذر أبو حيان عنها لأجْلِ فصاحة الحَسَن ، واحتجاجِ الناس بكلامه بأنَّ فتْح الميم لأجل إتباعها بحركة الذال؛ قال : « وإذا كانُوا قد أتبعوا في » مِنْتِنٍ « حركة الميم بحركة التاء ، مع الحاجز بينهما ، وفي نحو » مُنْحَدُر « أتبعوا حركة الدال بحركة الراء حالة الرفع ، مع أنَّ حركة الإعراب غيرُ لازمة؛ فلأنْ يُتْبِعُوا في نحو » مَذَبْذَبِينَ « أوْلَى » . [ قال شهاب الدين : ] وهذا فاسدٌ؛ لأن الإتباع في الأمثلة التي أوردها ونظائِرَها إنما هو إذا كانت الحركةُ قويةً ، وهي الضمةُ والكسرةُ ، وأمَّا الفتحةُ فخفيفةٌ ، فلم يُتْبِعُوا لأجْلها ، وقرأ ابن القعقاع بدَالَيْن مُهْملتَيْنِ من الدُّبَّة ، وهي الطريقة [ الَّتي يُدَبُّ فيها ] يقال : « خَلِّني وَدُبَّتِي » أي : طريقَتِي؛ قال : [ الطويل ]
1894- طَهَا هُذْرُبَانٌ قَلَّ تَغْمِيضُ عَيْنِهِ ... عَلَى دُبَّةٍ مِثْلِ الْخَنِيفِ المُرَعْبَلِ
وفي حديث ابن عبَّاس : « اتَّبِعُوا دُبَّةَ قُرَيْشٍ » ، أي : طَريقَهَا ، فالمعنى على هذه القراءة : أن يأخُذَ بهم تارةً دُبَّةً ، وتارة دُبَّةً أخرى ، فَيَتْبَعُونَ متحيِّرين غيرَ ماضينَ على طريقٍ واحدٍ .
ومُذَبْذَبٌ وشبهُه نحْوُ : مُكَبْكَبٍ ومُكَفْكَفٍ؛ مِمَّا ضُعِّفَ أولُه وثانيه ، وصَحَّ المعنى بإسقاط ثالثه - فيه مذاهبٌ :
أحدها : - وهو قولُ جمهور البصريين - : أنَّ الكلَّ أصولٌ؛ لأنَّ أقلَّ البنية ثلاثةُ أصولٍ ، وليس أحدُ المكرَّرين أوْلَى بالزيادةِ من الآخر .
الثاني - ويُعْزَى للزجَّاج - : أنَّ ما صَحَّ إسقاطُه زائدٌ .
الثالث - وهو قول الكوفيين - : أن الثالث بدلٌ من تضعيف الثاني ، ويزعُمُون أن أصل كَفْكَفَ : كَفَّفَ بثلاث فاءات ، وذَبْذَبَ : ذَبَّبَ بثلاث ياءات ، فاستُثْقِل توالي ثلاثةِ أمثالٍ ، فأبْدَلُوا الثالثَ من جنْس الأوَّل ، أمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بحذفِ الثالث ، نحو : سِمْسِم وَيُؤيُو وَوَعْوَعٍ؛ فإنَّ الكلَّ يزعمون أصالةَ الجميعِ ، والذَّبْذَبَةُ في الأصل : الاضطرَابُ والحركة ومنه سُمِّي الذُّباب؛ لكَثْرة حركَتِه .
قال - عليه السلام - : « من وُقي شر قَبْقَبه وذبذبه ولَقْلَقِه وجبت له الجَنَّة » يعني : الذكر يُسَمَّى بذلك لتَذَبْذُبِه ، أي : حركته ، وقيل التَّذَبْذُب : التَّرَدُّد بين حَالَيْن .
قال النابغة : [ الطويل ]
1895- ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
وقال آخر : [ الطويل ]
1896- خَيَالٌ لأمِّ السَّلْسَبِيلِ وَدُونَهَا ... مَسِيرَةُ شَهْرٍ للْبَعيرِ المُذَبْذِبِ
بكسر الذال الثانية ، قال ابنُ جنِّي : « أي : القَلق الذي لا يستقرُّ » ؛ قال الزمخشريُّ : « وحقيقةُ المذبذب الذي يُذَبُّ عن كلا الجانبين ، أي : يُذاد ويُدْفع ، فلا يقرُّ في جانبٍ واحدٍ ، كما يقال : » فُلانٌ يُرْمَى به الرَّحَوانِ « ، إلا أنَّ الذبذبة فيها تكريرٌ ليْسَ في الذَّبِّ ، كأنَّ المعنى : كلَّما مالَ إلى جانبٍ ذَبَّ عنه » .

قال ابن الأثير في « النهاية » وأصْلُه من الذَّبِّ وهو الطَّرْدُ؛ ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام : « تزوَّجْ وإلاَّ فأنْتَ مِنَ المُذَبْذَبِينَ » أي : المَطْرُودين عن المؤمنين لأنَّكَ لم تَقْتَدِ بهم ، وعن الرُّهْبَانِ؛ لأنك تَرَكْتَ طَريقَتَهُم ، ويجُوز أن يكُونَ من الأوّل .
و « بَيْنَ » معمولٌ لقوله : « مُذَبْذَبِينَ » و « ذَلِكَ » إشارةٌ إلى الكُفْر والإيمانِ المدلولِ عليهما بذكْرِ الكافرين والمؤمنين ، ونحو : [ الوافر ]
1897- إذا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إليه .. .
أي : إلى السَّفَهِ؛ لدلالة لفظ السفيه عليه ، وقال ابن عطية : « أشر إليه ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ؛ لتضمُّن الكلام له؛ نحو : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] يعني توارتِ الشمسُ ، وكُلُّ من على الأرْضِ؛ قال أبو حيان » وليس كذلك ، بل تقدَّم ما يدُلُّ عليه « وذكر ما قدَّمْتُه ، وأشير ب » ذَلِكَ « وهو مفردٌ لاثنين؛ لما تقدَّم في قوله { وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] .
قوله : { لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } » إِلَى « في الموضعيْنِ متعلقةٌ بمحْذُوف ، وذلك المحذوف هو حالٌ حُذِفَ؛ لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : مُذَبْذَبينَ لا مَنْسُوبينَ إلى هؤلاء ولا منسوبين إلى هؤلاء ، فالعاملُ في الحال نَفْسُ » مُذَبْذَبينَ « ، قال أبو البقاء : » وموضعُ { لا إلى هؤلاءِ } نصبٌ على الحالِ من الضمير في مذبذبين ، أي : يتذبذبون مُتَلَوِّنينَ « وهذا تفسير معنًى ، لا إعراب .
فصل
قال قتادة : معنى الآيَة : ليْسُوا مُؤمِنين مُخْلصِينَ ، فَيَجِبُ لَهُم مَا يجِبُ للمُؤمنين ، ولا مُشْرِكين مُصَرِّحِين بالشِّرْكِ .
وروى نَافعٌ عن ابن عمر ، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال : » مثَلُ المُنَافِقِ كمثلِ [ الشَّاةِ ] العَائِرَةِ بين الغَنَمَيْن تَعِيرُ إلى هذه مَرَّةً وإلى هَذِه مَرَّة « .
فصل في أن الحيرة في الدين بإيجاد الله تعالى
استدلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ الحِيرَة في الدِّينِ إنَّما تَحْصُل بإيجَادِ اللَّه - تعالى -؛ لأن قوله : » مُذَبْذَبِينَ « يقتضي فَاعِلاً قد ذَبْذَبَهُم ، وصَيَّرَهُم مُتَردِّدِين ، وذلك ليس باخْتِيَار العَبْدِ ، فإن الإنْسَان إذا وَقَع في قلبه الدَّوَاعِي المُتعَارِضَة ، المُوجِبَة للتَّحَيُّر والتَّرَدُّد ، فلو أرَادَ أن يَدْفَع ذلك التَّرَدُّد عن نَفْسِه ، لم يَقْدِر عليه أصْلاً ، ومن تأمَّل في أحْوَالِهِ عَلِمَ ذلك ، وإذا ثَبَت أنَّ تِلْكَ الذَّبْذَبَة لا بُدَّ لها من فاعلٍ ، وأن فاعِلَها لَيْس هو العَبْدُ؛ ثبت أنَّ فَاعِلَهَا هو اللَّه - تعالى - .
فإن قيل : قوله - تعالى - : { لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } يقتضي ذَمَّهُم على تَرْكِ طَريقَةِ المُؤمنين ، وطريقَة الكُفَّار؛ والذَّمُّ على تَرْكِ طريقِ الكُفَّارِ غير جَائِزٍ .
فالجواب : أنَّ طريقة الكُفَّار وإن كانت خَبِيثَةً ، إلا أن طريقَةَ النِّفَاقِ أخْبَثُ منها؛ ولذلك فإن الله - تعالى - ذم الكُفَّار في أوَّل سُورَةِ البَقَرَةِ في آيتين ، وذمَّ المُنافِقِين في تِسْعَ عَشْرَة آية ، وما ذَلِك إلا لأن طَرِيقَة النِّفَاقِ أخْبَثُ من طَرِيقَةِ الكُفَّارِ ، فهو - تعالى - لم يَذُمَّهم على تَرْكِ الكُفْرِ ، بل لأنَّهُم عَدَلُوا عن الكُفْرِ إلى مَا هُو أخْبَثُ من الكُفْرِ .

قوله : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي : طَرِيقاً إلى الهُدَى .
واسْتَدَلوا بهذه الآيَة على مَسْألتيْنِ :
الأولَى : أن تلك الذَّبْذَبَة من اللَّه - تعالى - ، وإلا لَمْ يتَّصِلْ هذا الكلام بما قَبْلَهُ .
الثانية : أنه صَريحٌ في أن اللَّه - تعالى - أضَلَّهُم عن الدِّينِ .
قالت المعتزلة : فمعنى هذا الإضلالِ : أنه عِبَارةٌ عن حُكْم اللَّه - تعالى - عَلَيْهِ بالضَّلالِ ، أو أنَّه - تعالى - يُضِلُّه يوم القيامة عن طريق الجَنَّة ، وقد تقدَّم مثل ذَلِك .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)

لما ذَمَّ المُنَافِقِين بأنَّهُم لم يَسْتقِرُّوا مع أحَد الطَّريقَين ، نَهَى المُسْلِمِين أن يَفْعَلُوا فِعْل المُنَافِقِين؛ فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين } والسبب فيه : « أن الأنْصَار بالمدينَةِ كانت لَهُمْ [ في قُرَيْظَة ] رِضَاع وحِلْفٌ ومَوَدَّة ، فقالُوا : يا رسول الله ، مَنْ نَتَولَّى؟ فقال : » المُهَاجِرِين « ، فَنَزَلَتْ هذه الآية .
وقال القَفَّال - رحمه الله تعالى - : هذا نَهْيٌ للمُسلِمِين عن مُوالاةِ المُنافِقِين ، يقول : قد بَيَّنْتُ لكم أحْوَال هؤلاء المُنَافِقِين ومَذَاهِبهم ، فلا تَتَّخِذُوا مِنْهُم أوْلِيَاء .
ثم قال : { أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } ، [ فإن حَمَلْنَاه على الأوَّلِ وهو نَهْي المُؤمنين عن مُوالاَةِ الكُفَّارِ ، كان المَعْنَى : أتُرِيدُونَ أن تَجْعَلُوا للَّه عليكم سُلْطَاناً مُبِيناً ] على كَوْنِكُم مُنَافِقِين ، المُرَاد أتُرِيدُون أن تجعلُوا لأهْلِ دين اللَّه وهم الرَّسُول وأمته ، وإن حَملْناهُ على المُنَافِقِين ، كان المَعْنَى : أتريدُون أن تَجْعَلُوا للَّه عليكم في عقَابِكُم حُجَّة؛ بِسببِ مُوالاتِكُم مع المُنافِقِين .
قوله : » سُلْطَاناً « : السلطان يُذكَّرُ ويؤنث ، فتذكيرُه باعتبار البرهان ، وتأنيثه باعتبار الحُجَّة ، إلا أن التأنيثَ أكثرُ عند الفُصَحاء ، كذا قاله الفرَّاء ، وحكى : » قَضت عليْكَ السُّلطَانُ « و » أخذتْ فلاناً السُّلْطَانُ « وعلى هذا فكيف ذُكِّرت صفته ، فقيل : مبيناً دون : مبينة؟ والجوابُ : أن الصفة هنا رأسُ فاصلة ، فلذلك عدلَ إلى التذكير ، دون التأنيث ، وقال ابن عطية ما يخالِفُ ما حكاه الفراء؛ فإنه قال : » والتذكيرُ أشهرُ ، وهي لغةُ القرآنِ؛ حيث وقع « . و » عَلَيْكُمْ « يجوزُ تعلُّقه بالجَعْلِ ، أو بمحذوفٍ على أنه حال من » سُلْطَاناً « لأنه صفة له في الأصل ، وقد تقدَّم نظيره .

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)

الدَّرْك : قرأ الكوفيُّون - بخلاف عن عاصمٍ - بسكون الراء ، والباقون بفتحها ، وفي ذلك قولان :
أحدهما : أنَّ الدَّرْك والدَّرَكِ لغتان بمعنى واحدٍ ، كالشَّمْعِ ، والقَدْرِ والقَدَرِ .
والثاني : أن الدَّرَكَ بالفتح جمعُ « دَرَكَة » على حدِّ بَقَر وبَقَرة .
وقال أبو حاتم : جَمْع الدَّرْكِ : أدْرَاك؛ مثل حَمْل وأحْمَال ، وفَرْس وأفراس وجمع الدرك : أدْرُك؛ مثل أفْلُس وأكْلُب .
واختار أبو عُبيد الفتح ، قال : لأنه لم يَجِئْ في الآثار ذكرُ « الدَّرَك » إلا بالفتح ، وهذا غيرُ لازمٍ مجيء الأحاديثِ بإحدى اللغتين ، واختار بعضهم الفتح؛ لجمعه علَى أفعال قال الزمخشريُّ : « والوجهُ التحريكُ؛ لقولهم : أدْرَاكُ جَهَنَّمَ » ، يعني أنَّ أفْعَالاً منقاسٌ في « فَعَلٍ » بالفتحِ ، دونَ فَعْل بالسكون ، على أنه قد جاء أفعالٌ في فعْلٍ بالسكون؛ نحو : فَرْخٍ وأفراخ ، وزنْدٍ وأزنَادٍ ، وفَرْدٍ وأفْرَادٍ ، وقال أبو عبد الله الفاسيُّ في شرحِ القصيدِ : « وقال غيرُه - يعني غيرَ عاصم -؛ محتجاً لقراءة الفتحِ؛ قولهم في جمعه : » أدْرَاك « يدُلُّ على أنه » دَرَكٌ « بالفتح ، ولا يلزمُ ما قال أيضاً؛ لأن فعلاً بالتحريك قد جُمِعَ فعلٌ بالسكون على أفعالٍ نحو : فَرْخٍ وأفْرَاخٍ ، كما ذكرته لك ، وحُكِيَ عن عاصم أنه قال : » لو كان « الدَّرَكُ » بالفتح ، لكان ينبغي أن يقال السُّفْلى لا الأسفل « قال بعض النحويِّين : يعني أنَّ الدَّرَك بالفتح جمع » دَرَكَة « ؛ كبَقَرٍ جمع بقَرَةٍ ، والجمعُ يُعامَلُ معاملةَ المؤنثة ، وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّ اسم الجنس الفارقُ بين واحده وجمعه تاءُ التأنيث يجوز تذكيرُه وتأنيثه ، إلا ما استُثني وجوبُ تذكيره أو تأنيثه ، والدَّرَكُ ليس منه ، فيجوزُ فيه الوجهان ، هذا بعد تسليم كون » الدَّرْكِ « جمع » دَرَكَةٍ « بالسكون كما تقدم ، والدَّرَكُ مأخوذٌ من المُداركة ، وهي المتابعةُ ، وسُمِّيَتْ طبقاتُ النارِ » دَرَكَاتٍ « ؛ لأنَّ بعضها مَدَارِكُ لبعض ، أي : متتابعة .
قوله : » من النَّارِ « في محلَّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنه » الدَّرْك « ، والعامل فيها الاستقرار .
والثاني : أنه الضميرُ المستتر في » الأسْفَل « ؛ لأنه صفةُ ، فيتحمل ضميراً .
قال الليث : الدَّرْكُ أقْصَى قعْر الشيء؛ كالبَحْر ونحوه ، فعلى هذا المُرَاد بالدَّرْكِ الأسْفَل : أقْصَى قعر جَهَنَّم ، وأصْلُ هذا من الإدْرَاكِ بمعنى اللُّحُوق ، ومنه إدراكُ الطَّعَام وإدْراكُ الغُلاَمِ ، قال الضحاك : [ الدَّرج ] إذا كان بَعْضُها فوقَ بَعْضٍ ، والدَّرك إذا كانَ بعضها أسْفَل مِنْ بَعْضٍ .
فصل في معنى الدرك
قال ابن مَسْعُود : الدَّرْكُ الأسْفَل من النَّارِ : توابِيت من حديدٍ مُقْفَلَة في النَّارِ ، وقال أبُو هُرَيْرَة : بَيْتٌ يُقْفَل عليهم ، تتوَقَّد فيه النَّارُ من فوقهم ومن تَحْتِهِم .
فصل
قال ابن الأنْبَارِيّ : قال - تعالى - في صِفَةِ المُنَافِقِين : إنَّهُم في الدَّرْكِ الأسْفَلِ من النَّارِ ، وقال في آلِ فِرْعَوْن :

{ أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } [ غافر : 46 ] فأيُّهُمَا أشَدُّ عَذَاباً : المُنَافِقُون ، أم آل فِرْعوْن؟
وأجَابَ : بأنَّهُ يحتمل أنَّ أشَدَّ العذاب إنَّما يكُون في الدَّرْكِ الأسْفَلِ ، وقد اجْتَمَع فيه الفَريقَانِ .
فصل لماذا كان المنافقون أشد عذاباً من الكفار؟
إنَّما كان المُنَافِقُون أشَدّ عَذَاباً من الكُفَّارِ؛ لأنَّهم مِثْلهم في الكُفْر ، وضَمُّوا إليه نَوْعاً آخَرَ من الكُفْرِ ، وهو الاسْتِهْزَاء بالإسْلامِ [ وأهْلِه أيضاً فإنّهم يُظْهِرُون الإسْلاَم ] ؛ ليَتَمَكَّنُوا من الاطِّلاعِ على أسْرَار المُسْلِمِين ثُمَّ يُخْبِرُون الكُفَّار بذلك فتتضاعف المِحْنَة .
قوله : { وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } مانعاً من العذاب .
واحْتَجُّوا بهَذِهِ الآيَةِ على إثْبَات الشَّفَاعةِ للفُسَّاقِ من المُسْلِمِين؛ لأنه - تعالى - خَصَّ المُنَافِقِين بهذا التَّهْدِيدِ ، ولو كَانَ ذلك حَاصِلاً لِغَيْر المُنَافِقِين ، لم يَكُنْ ذلك زَجْراً عن النِّفَاقِ من حَيْثُ إنَّه نِفَاقٌ ، ولَيْس هذا اسْتِدْلاَلاً بِدَلِيلِ الخِطَابِ ، بل وجْه الاستدلالِ فيه؛ أنه - تعالى - ذَكَرَهُ في مَعْرِضِ الزَّجْرِ عن النِّفَاقِ ، فلو حَصَل ذلك مع عَدَمِهِ ، لم يَبْقَ زَجْراً عَنْه من حَيْث إنَّه نِفَاقٌ .
قوله : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } : فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوبٌ على الاستثناء من قوله : « إِنَّ المُنَافِقِينَ » .
الثاني : أنه مستثنىً من الضمير المجْرُورِ في « لَهُمْ » .
الثالث : أنه مبتدأ ، وخبرُه الجملةُ من قوله : { فأولئك مَعَ المؤمنين } ، قيل : ودَخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ؛ لشبه المبتدأ باسم الشرط ، قال أبو البقاء ومكي وغيرُهما : « مَعَ المُؤمنينَ » خبرُ « أولَئِكَ » ، والجملةُ خبر « إِلاَّ الَّذِينَ » ، والتقدير : فأولئك مؤمنون مع المُؤمِنِينَ ، وهذا التقديرُ لا تقتضيه الصناعةُ ، بل الذي تقتضيه الصناعةُ : أن يُقَدَّر الخبرُ الذي يتعلَّق به هذا الظرف شيئاً يليقُ به ، وهو « فأولئِكَ مُصَاحِبُونَ أو كائِنونَ أو مستقرُّون » ونحوه ، فتقدِّرُه كوناً مطلقاً ، أو ما يقاربه .
فصل
معنى الآية { إِلاَّ الذين تَابُواْ } : من النِّفَاقِ وآمَنُوا ، « وأَصْلَحُوا » أعْمَالَهُم ، « واعْتَصَمُوا باللَّهِ » ووثِقُوا باللَّهِ ، { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } وأراد الإخلاَصِ بالقَلْبِ؛ لأن النِّفَاقَ كُفْر القَلْبِ ، فَزَوالُهُ يكُونُ بإخلاصِ القَلْبِ ، فإذا حَصَلَت هذه الشُّروط ، فِعنْدَها قال : { فأولئك مَعَ المؤمنين } ، ولم يَقُلْ : فأولئَك مُؤمِنُون .
قال الفَرَّاء : معناه : فَأولَئِك من المُؤمِنِين .
قوله : « وَسَوْفَ يُؤْتِ الله [ المؤمنين أَجْراً عَظِيماً » ] رُسِمَتْ « يُؤتِ » دون « يَاءٍ » وهو مضارعٌ مرفوع ، فحقُّ يائه أن تثبت لفظاً وخَطَّاً ، إلا أنها حذفتْ لفظاً في الوصل؛ لالتقاء الساكنين [ وهما اليَاءُ في اللفظ واللام في الجلالة ] فجاءُ الرسمُ تابعاً للفظ ، وله نظائرُ تقدَّم بعضها ، والقراءُ يقفون عليه دون ياءٍ اتِّباعاً للرسْمِ ، إلا يعقوب ، فإنه يقف بالياء؛ نظراً إلى الأصل ، ورُوي ذلك أيضاً عن الكسَائيِّ وحمزة ، وقال أبو عَمْرو : « ينبغي ألاَّ يُوقفَ عليها؛ لأنَّه إنْ وُقِفَ عليها كما في الرسْمِ دون ياء خالَفَ النحويين ، وإن وقف بالياء خالَفَ رسْم المصْحَف » ، ولا بأسَ بما قالَ؛ لأن الوقْفَ ليس ضروريًّا ، فإن اضْطُرَّ إليه واقفٌ؛ لقَطْعِ نفس ونحوه ، فينبغي أن يُتابعَ الرسمُ؛ لأنَّ الأطرافَ قد كَثُر حَذفُهَا ، ومِمَّا يشبه هذا الموضع قوله :

{ وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ } [ غافر : 9 ] فإنه رسم « تَقِ » بقافٍ ، دون هاءِ سكت ، وعند النحويين : أنه أنه إذا حُذِفَ من الفعل شيءٌ؛ حتى لم يَبْقَ منه إلا حرفٌ واحدٌ ، ووُقِفَ عليه ، وجَبَ الإتيانُ بهاء السكت في آخره؛ جَبْراً له؛ نحو : « قِهْ » و « لَمْ يَقِهْ » و « عِهْ » و « لَمْ يَعِهْ » ، ولا يُعتَدُّ بحرف المضارعة؛ لزيادته على بنية الكلمة ، فإذا تقرَّر هذا ، فنقول : ينبغي ألاَّ يُوقَفَ عليه؛ لأنه إن وُقِفَ بغير هاءِ سكتٍ ، خالف الصناعةَ النحويةَ ، وإنْ وُقِفَ بهاء خالف رَسْمَ المُصْحف .
والمراد : « يؤتي الله المؤمنين » في الآخِرَةِ ، « أَجْراً عَظِيماً » [ يعني : الجَنَّة ] .

مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)

في « مَا » وجهان :
أحدهما : أنها استفهامية ، فتكون في محل نصب ب « يَفْعَل » وإنما قُدِّم؛ لكونه له صدر الكلام ، والباءُ على هذا سببيةٌ متعلقةٌ ب « يَفْعَلُ » ، والاستفهام هنا معناه النفيُ ، والمعنى : أن الله لا يفعلُ بعذابِكُمْ شيئاً؛ لأنه لا يجلبُ لنفسِه بعذابكم نفعاً ، ولا يدْفَعُ عنها به ضُرًّا ، فأيُّ حاجة له في عذابكُمْ؟ [ والمقصودُ منه حمل المكلَّفين على فعل الحَسَن والاحتراز عن القبيح ] .
والثاني : أن « مَا » نافية؛ كأنه قيل : لا يُعذِّبُكُمُ الله ، وعلى هذا : فالباء زائدة ، ولا تتعلَّق بشيءٍ . [ قال شهاب الدين : ] وعندي أن هذين الوجهين في المعنى شيءٌ واحدٌ ، فينبغي أن تكون سبييةٌ في الموضعين أو زائدة فيهما؛ لأن الاستفهام بمعنى النفْيِ ، فلا فرق .
وقال البَغَوِي : هذا اسْتِفْهَام بمعْنَى التَّقْرير معناه : إنه لا يُعَذِّبُ المؤمِنَ الشَّاكِر ، فإن تَعْذِيبَهُ عِبَادهُ لا يَزِيدُ في مُلْكِهِ ، وتَرْكَهُ عُقُوبَتَهُم على فعلهم لا يُنْقصُ من سُلطانِه [ والشُّكْرُ ضد الكُفر ، والكُفْر سَتْر النِّعْمَة والشُّكْرُ إظهَارُهَا ] ، والمصدر هُنا مُضَاف لمفْعُولِهِ .
وقوله « إِن شَكَرْتُمْ » جوابُهُ مَحْذُوفٌ؛ لدلالةِ ما قبله عليه ، أي : إن شَكَرْتُم وآمَنْتُم فما يَفْعَلُ بعَذابكُم .
فصل لِمَ قدَّم الشُّكر على الإيمان في الآية؟
وفي تَقْدِيم الشُّكْرِ على الإيمانِ وُجُوه :
الأول : على التَّقْدِيم والتَّأخير ، أي : آمَنْتُم وشكرْتُم؛ لأن الإيمان مقدَّمٌ على سَائِر الطَّاعَاتِ ، ولا يَنْفَعُ الشكْرُ مع عَدَمِ الإيمَانِ .
الثاني : أن الوَاوَ لا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ .
الثالث : أن الإنْسَانَ إذا نَظَر إلى نَفْسِهِ ، رَأى النِّعْمَة العَظيمَة في تَخْلِيقهَا وتَرْتيبها ، فيْشكُر شُكْراً مُجْمَلاً بِهَا ، ثُمَّ إذا تَمَّمَ النَّظَر في مَعْرِفَة المُنْعِم ، آمَنَ به ثُمَّ شكَر شُكْراً مُفَصَّلاً ، فكان ذلك الشكْرُ المُجْمَل مُقَدَّماً على الإيمانِ؛ فَلِهذَا قُدِّمَ عليه في الذِّكْرِ .
فصل
اسْتَدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّهُ لا يُعَذَّبُ أصْحَاب الكَبَائِرِ؛ لأنا نفرض الكلام فيمن شَكَر وآمن ، ثم أقْدَم على الشُّرْبِ أو الزِّنَا ، فهذا يَجِبُ ألاَّ يُعَاقَبَ؛ لقوله - تعالى - : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } وقد تقدَّم الاسْتِدْلاَل على أنَّ صَاحِب الكَبِيرَةِ مُؤمِنٌ .
فصل
قالت المُعْتَزِلَة : دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّه - سبحانه [ وتعالى ] - ما خَلَق خَلْقاً ابْتِدَاءً لأجْلِ التَّعْذِيب والعِقَابِ؛ لأن قوله : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } صريحٌ في أنَّه - تعالى - لَمْ يَخْلُق أحْداً لِغَرَضِ التَّعْذِيبِ .
ودلَّت أيضاً على أنَّ فاعل الشُّكْرِ والإيمانِ هو العَبْد ، وليس ذلك فِعْلاً للَّه تعالى وإلا لَصَار التَّقْدِير : ما يَفْعَلُ اللَّه بعذَابِكُم بعد أن خَلَقَ الشُّكْرَ والإيمَانَ فِيكُم ، وذلك غير مُنْتَظِم .
وتقدَّم الجوابُ عن مِثْلِ ذلك . ثم قال { وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً } أمرَهُمْ بالشُّكْرِ ، وسَمَّى الجَزَاءَ شُكْراً ، على سَبيلِ الاسْتِعَارةِ ، فالشُّكْرُ من اللَّهِ هو الرِّضَا بالقَلِيلِ من عِبَادِهِ ، وإضْعَافِ الثَّوَابِ عَلَيْه ، والشُّكْر من العَبْدِ الطَّاعَة ، والمُراد من كونه عَلِيماً : أنَّهُ عَالِمٌ بِجَميع الجُزْئيَّات ، فلا يَقَعُ لَهُ الغَلَطُ ألْبَتَّة ، فلا جَرَمَ يُوصلُ الثَّوَابَ إلى الشَّاكِرِ ، والعِقَابَ إلى المُعرِضِ .

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)

في كيفيَّة النَّظْمِ وجهانِ :
أحدهما : أنه - تعالى - لمَّا فَضَح المُنَافِقِين وهَتَك سِتْرَهُم ، وكان هَتْكُ السِّتْر غَيْرَ لائقٍ بالرَّحِيم الكريم ، ذكر - تعالى - ما يَجْري مَجْرَى العُذْرِ من ذَلِك؛ فقال : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ } يعني : لا يُحبُّ إظهارَ الفَضَائِحِ ، إلاَّ في حقِّ من عَظُمَ ضَرَرُه وكَثُر كَيْدُه ومَكْرُه ، فَعِنْد ذلك يَجُوز إظْهَار فَضَائِحِه؛ ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - : « اذْكُرُوا الفَاسِقَ بِمَا فِيهِ كَيْ يَحْذَرَهُ النَّاسُ » والمُنافِقُون قد كَثُر كيْدهُم ومَكْرهُم وظُلْمهُم ، وضَرَرهُم على المُسْلمِين؛ فلهذا ذَكَر اللَّه فَضَائِحَهُم وكَشَفَ أسْرَارَهُم .
وثانيهما : أنَّه - تعالى - قال في الآية الأولى : أن المُنافِقِين إذا تَابُوا وأخْلَصُوا ، صارُوا من المُؤمنين ، فيُحْتَمَلُ أن يتُوبَ بَعْضُهم ويُخْلصَ تَوْبَته ، ثم لا يَسْلمُ من التَّغير والذَّمِّ من بَعْضِ المُسْلِمِين؛ بسبب ما صَدَر عَنْهُ في المَاضِي من النِّفَاقِ ، فبين - تعالى - في هذه الآية أنَّه لا يُحِبُّ الجَهْرَ بالسُّوءِ مِنَ القول ، إلا مَنْ ظَلَم نَفْسَه وأقَامَ على نِفَاقِهِ ، فإنه لا يُكْرَه .
قوله : « بالسُّوء » متعلق ب « الجَهْر » ، وهو مصدر معرف ب « أل » استدلَّ به الفارسيُّ على جواز إعمالِ المصدر المعرَّف ب « أل » . قيل : ولا دليلَ فيه؛ لأنَّ الظرفَ والجارَّ يعمل فيهما روائحُ الأفعال ، وفاعل هذا المصدر محذوفٌ ، أي : الجَهْر أحد ، وقد تقدم أن الفاعل يَطَّردُ حذفُه في صُورٍ منها المصْدرُ ، ويجوز أن يكون الجهرُ مأخوذاً من فعلٍ مبنيٍّ للمفعول على خلافٍ في ذلك ، فيكون الجارُّ بعده في محلِّ رفعٍ لقيامه مقام الفاعل؛ لأنك لو قلْتَ : لا يحبُّ الله أن يُجْهَرَ بالسوء ، كان « بِالسُّوءِ » قائماً مقام الفاعل ، ولا تعلُّقَ له حينئذٍ به ، و « مِنَ القَوْلِ » حال من « السُّوء » .
قوله : { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } في هذا الاستثناء قولان :
أحدهما : أنه متصل .
والثاني : أنه منقطع ، وإذا قيل بأنه متصل ، فقيل : هو مستثنى من « أحَد » المقدَّرِ الذي هو فاعلٌ للمصدر ، فيجوز أن تكون « مَنْ » في محلِّ نصبٍ على أصل الاستثناء ، أو رفعٍ على البدل من « أحَد » ، وهو المختار ، ولو صُرِّح به ، لقيل : لا يُحِبُّ الله أنْ يَجْهَرُ أحَدٌ بالسُّوء إلا المَظْلومُ ، أو المظلومَ رفعاً ونصباً ، ذكر ذلك مكي وأبو البقاء وغيرُهما ، قال أبو حيان : « وهذا مذهبُ الفراء ، أجاز في » مَا قَامَ إلاَّ زيدٌ « أن يكون » زَيْد « بدلاً من » أحَد « ، وأمَّا على مذهب الجمهور ، فإنه يكون من المستثنى الذي فُرِّغ له العاملُ ، فيكون مرفوعاً على الفاعليَّة بالمصدر ، وحسَّن ذلك كونُ الجَهْر في حيِّز النفي ، كأنه قيل : لا يَجْهَرُ بالسُّوءِ من القولِ إلا المظلومُ » انتهى ، والفرقُ ظاهرٌ بين مذهب الفراء وبين هذه الآية؛ فإن النحويِّين إنما لم يَرَوْا بمذهب الفراءِ ، قالوا : لأن المحذوف صار نَسْياً مَنْسِيًّا ، وأما فاعل المصْدر هنا ، فإنه كالمنطوقِ به ليس منسياً ، فلا يلزمُ من تجويزهم الاستثناء من هذا الفاعل المقدَّر أن يكونوا تابعين لمذْهَب الفرَّاء؛ لما ظهر من الفرق ، وقيل : هو مستثنى مفرَّغٌ ، فتكون « مَنْ » في محلِّ رفع بالفاعلية؛ كما تقدَّم في كلام أبي حيان ، والتفريغُ لا يكون إلا في نفي أو شبهه ، ولكنْ لَمَّا وقع الجهْرُ متعلَّقاً للحُبِّ الواقعِ في حيِّز النفْي ساغ ذلك ، وقيل : هو مستثنىً من الجَهْر؛ على حذف مضافٍ ، تقديرُه : إلا جَهْرَ من ظُلِمَ ، فهذه ثلاثة أوجه على تقدير كونه متَّصِلاً ، تحصَّل منها في محل « مَنْ » أربعةُ أوجه : الرفع من وجهين ، وهما البدلُ من « أحَد » المقدَّر ، أو الفاعليَّة؛ على كونه مفرَّغاً ، والنصبُ؛ على أصلِ الاستثناء من « أحد » المقدَّر ، أو من الجهر؛ على حَذْفِ مضاف .

والثاني : أنه استثناءٌ منقطعٌ ، تقديرُه : لكنْ مَنْ ظُلِمَ له أن ينتصفَ من ظالمه بما يوازِي ظُلامته ، فتكون « مَنْ » في محلِّ نصب فقط على الاستثناء المنقطع .
والجمهورُ على { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } مبنياً للمفعول قال القرطبي : ويجوز إسْكان اللاَّم ، وقرأ جماعة كثيرة منهم ابن عبَّاس وابن عمر وابن جبير والضحاك وزيد بن أسلم والحسن : « ظَلَمَ » مبنيًّا للفاعل ، وهو استثناء منقطعٌ ، فهو في محلِّ نصب على أصْل الاستثناء المنقطع ، واختلفتْ عبارات العلماء في تقدير هذا الاستثناء ، وحاصلُ ذلك يرجعُ إلى أحد تقديرات ثلاثة : إمَّا أن يكون راجعاً إلى [ الجملة الأولى؛ كأنه قيل : لا يحبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بالسوء ، لكنَّ الظالمَ يُحِبُّهُ ، فهو يَفعلُهُ ، وإما أنْ يكون راجعاً ] إلى فاعل الجَهْر ، أي : لا يحبُّ اللَّهُ أن يَجْهَرَ أحدٌ بالسُّوء [ لأحَدٍ ] ، لكن الظالِمَ يَجْهَرُ به ، [ وإمَّا أن يُجْهَرَ بالسُّوء لأحدٍ ، لكن الظَّالِمَ يُجْهَرُ لَهُ به ] ، أي : يُذكر ما فيه من المساوئ في وجهه ، لعلَّه أن يرتدع ، وكونُ هذا المستثنى في هذه القراءة منصوبَ المحلِّ على الانقطاع هو الصحيحُ ، وأجاز ابن عطية والزمخشريُّ أن يكون في محلِّ رفع على البدلية ، ولكن اختلف مدركهما .
فقال ابن عطية : « وإعرابُ » مَنْ « يحتملُ في بعض هذه التأويلاتِ النَّصْبَ ، ويحتملُ الرفع على البدل من » أحَد « المقدَّر » يعني أحداً المقدَّر في المصدر؛ كما تقدَّم تحقيقه .
وقال الزمخشريُّ : ويجوز أن يكون « مَنْ » مرفوعاً؛ كأنه قيل : لا يحبُّ اللَّهُ الجهرَ بالسُّوء إلا الظالِمُ ، على لغةِ من يقولُ : « مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إلاَّ عَمْرو » بمعنى : ما جَاءني إلاَّ عَمْرو « بمعنى : ما جَاءني إلاَّ عَمرٌو ، ومنه

{ لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } [ النمل : 65 ] ، ورد أبو حيان عليهما فقال : « وما ذكره - يعني ابن عطية - من جواز الرفع على البدل لا يَصِحُّ؛ وذلك أن المنقطع قسمان : قسمٌ يتوجَّه إليه العامل؛ نحو : » ما فِيهَا أحَدٌ إلاَّ حِمَارٌ « فهذا فيه لغتان : لغة الحجاز وجوبُ النصب ، ولغةُ تميم جوازُ البدل ، وإن لم يتوجه عليه العامل ، وجب نصبُه عند الجميع؛ نحو : » المالُ ما زَادَ إلاَّ النَّقْصَ « ، أي : لكن حصل له النقصُ ، ولا يجوز فيه البدل؛ لأنك لو وجهت إليه العامل ، لم يصحَّ » ، قال : والآيةُ من هذا القسم؛ لأنك لو قلت : « لا يُحِبُّ اللَّهُ أن يَجْهَرَ بالسُّوءِ إلا الظالمُ » - فتسلطُ « يَجْهَر » على « الظَّالِمَ » [ فتسليط يجهر على الظالم يصح ] . قال : « وهذا الذي جَوَّزه - يعني الزمخشريَّ - لا يجوز؛ لأنه لا يمكن أن يكون الفاعلُ لَغْواً ، ولا يمكنُ أن يكون الظالمُ بدلاً من » الله « ، ولا » عَمْرو « بدلاً من » زَيْد « ؛ لأنَّ البدلَ في هذا البابِ يَرْجِع إلى بدل بعضٍ من كلٍّ حقيقة؛ نحو : » مَا قَامَ القَوْمُ إلاَّ زَيدٌ « ، أو مجازاً؛ نحو : » مَا فِيهَا أحدٌ إلاَّ حِمَارٌ « ، والآيةُ لا يجوز فيها البدلُ حقيقةً ، ولا مجازاً ، وكذا المثالُ المذكور؛ لأن الله تعالى عَلَمٌ ، وكذا زيدٌ ، فلا عموم فيهما؛ ليتوَهَّمَ دخولُ شيءٍ فيهما فيُستثنى ، وأمَّا ما يجوزُ فيه البدلُ من الاستثناء المنقطع؛ فلأنَّ ما قبله عامٌّ يُتوهَّم دخولُه فيه ، فيُبْدلُ ما قبله مجازاً ، وأمَّا قوله على لغة من يقول : » مَا جَاءنِي زَيْدٌ إلا عمرٌو « ، فلا نعلم هذه لغة إلا في كتاب سيبويه ، بعد أن أنشد أبياتاً في الاستثناء المنقطع آخرها : [ الطويل ]
1898- عَشِيَّةَ مَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا ... ولا النَّبْلُ إلاَّ المَشْرِفِيُّ المُصَمِّمُ
[ ما نصُّه : ] » وهذا يُقَوِّي : « ما أتَانِي زَيْدٌ إلا عَمرٌو ، ومَا أعانهُ إخْوَانكُم إلاَّ إخْوانُه » ؛ لأنها معارفُ ليست الأسماء الآخرة بها ولا بعضها « ولم يصرِّح ، ولا لَوَّحَ أن » مَا أتَانِي زَيدٌ إلاَّ عمرٌو « من كلام العرب ، قال من شرح كلام سيبويه : فهذا يُقَوِّي » مَا أتَانِي زَيْدٌ إلا عمرٌو « ، أي : ينبغي أن يَثْبُتَ هذا من كلام العرب؛ لأن النبل معرفةٌ ليس بالمشرفيِّ ، كما أن زيداً ليس بعمرو ، كما أنَّ إخوة زيدٍ ليسوا إخوتَكَ ، قال أبو حيان : » وليس « مَا أتَانِي زَيدٌ إلاَّ عمرٌو » نظير البيت؛ لأنَّه قد يُتَخَيَّلُ عمومٌ في البيت؛ إذ المعنى : لا يُغْنِي السلاح ، وأمَّا « زَيْد » فلا يتوهَّم فيه عمومٌ؛ على أنه لو ورد من كلامهم : « مَا أتَانِي زَيدٌ إلاَّ عمرٌو » ، لأمكن أن يصحَّ على « مَا أتَانِي زَيدٌ ولا غَيرُهُ إلاَّ عمرٌو » ، فحذف المعطوفُ؛ لدلالة الاستثناء عليه ، أمَّا أن يكون على إلغاء الفاعل ، أو على كون « عَمْرو » بدلاً من « زَيْد » ، فإنه لا يجوز ، وأمَّا الآية فليست ممَّا ذكر؛ لأنه يحتمل أن تكون « مَنْ » مفعولاً بها ، و « الغَيْبَ » بدلٌ منها بدلُ اشتمال ، والتقديرُ : لا يعلم غيب من في السماوات والأرض إلاَّ اللَّهُ ، أي : سِرَّهُمْ وعلانيتَهُمْ لا يَعْلَمُهُم إلا الله ، ولو سُلِّم أن « مَنْ » مرفوعةُ المحلِّ ، فيتخيلَّ فيها عمومٌ ، فيُبدل منها « الله » مجازاً؛ كأنه قيل : لا يعلمُ المَوْجُودُونَ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ ، أو يكونُ على سبيل المجازِ في الظرفيَّة بالنسبة إلى الله تعالى؛ إذ جاء ذلك عنه في القرآن والسنة نحو :

{ وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض } [ الأنعام : 3 ] { وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله } [ الزخرف : 84 ] ، قال « أيْنَ الله » قالت : « فِي السَّماءِ » ، ومن كلام العرب : « لا وَذُو في السَّمَاءِ بَيْتُهُ » يعنون اللَّه ، وإذ احتملت الآيةُ هذه الوجوه ، لم يتعيَّنْ حملُها على ما ذكره « انتهى ما رَدَّ به عليهما .
[ وقال شهاب الدين : ] أمَّا ردُّه على ابن عطية ، فواضحٌ ، وأمَّا ردُّه على الزمخشريِّ ، ففي بعضه نَظَرٌ ، أما قوله : » لا نعلمُهَا لغة إلا في كتاب سيبويه « ، فكفى به دليلاً على صحة استعمال مثله ، ولذلك شَرَح الشُّرَّاحُ لكتاب سيبويه هذا الكلام؛ بأنه قياسُ كلام العرب لما أنشد من الأبيات ، وأمَّا تأويله » مَا أتَانِي زَيْدٌ إلاَّ عمرٌو « ب » مَأ أتَانِي ولا غَيْرُهُ « ، فلا يتعيَّنُ ما قاله ، وتصحيحُ الاستثناء فيه أنَّ قول القائل : » مَا أتَانِي زَيْدٌ « قد يوهِمُ أن عمراً ايضاً لم يَجِئْهُ ، فنفى هذا التوهُّمَ ، وهذا القدْر كافٍ في الاستثناء المنقطع ، ولو كان تأويلُ » مَا أتَانِي زَيْدٌ إلاَّ عَمْرٌو « على ما قال ، لم يكن استثناءً منقطعاً بل متصلاً ، وقد اتفق النحويُّون على أن ذلك من المنقطِعِ ، وأمَّا تأويلُ الآية بما ذكره ، فالتجوُّزُ في ذلك أمرٌ خَطِرٌ ، فلا ينبغي أن يُقْدَمَ على مِثْله .
فصل
قال المفسرون : معنى { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء } : القَوْل القَبِيح ، { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } فيجوز للمَظْلُوم أن يُخْبِر عن ظُلْمِ الظَّالِمِ ، وأن يَدْعُو عليه؛ قال - [ تعالى ] - : { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } [ الشورى : 41 ] .
قال الحسن دُعَاؤه عليه أن يقول : » اللهُمَّ أعِنِّي عليه ، اللَّهُمَّ استَخْرِج حَقِّي [ اللهم حُل بَيْنِي وبَيْن ما يُرِيد ونحوه من الدعاء ] .
وقيل : إن شُتم جَازَ أن يَشْتُمَ بمثلِهِ ، ولا يَزِيد عَلَيْه .

قال ابن عبَّاس وقتادة : لا يُحِبُّ الله رفْعَ الصَّوْتِ بما يَسُوء غيْرَه ، إلا المَظْلُوم فإنَّ له أنْ يَرْفَع صوْتَهُ بالدُّعَاءِ على ظَالمِهِ .
وقال مُجَاهِد : إلا أنْ يَجْهَرَ بِظُلْمِ ظالِمِه لَهُ .
وقال الأصَمُّ : لا يَجُوزُ إظهَار الأحْوَال المستُورَة؛ لأن ذَلِكَ يصير سَبَباً لِوُقُوع النَّاسِ في الغيبَةِ؛ ووُقُوع ذلك الإنْسَان في الرِّيبَةِ ، ولكن من ظَلَمَ فيجوز إظْهَارُ ظُلْمِهِ؛ بأن يُذْكَر أنَّه سَرَق أوْ غَصَب .
وقيل : نزلت في أبِي بكرٍ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - « فإنَّ رَجُلاً شَتَمَهُ ، فسَكَت مِرَاراً ثُمّ رَدّ عليه ، فقام النَّبِي صلى الله عليه وسلم . فقال أبُو بَكْر : شَتَمَنِي وأنت جَالِسٌ ، فلَّما رَدَدْتُ عليه قُمْتَ . قال : إن ملكاً كان يَرُدُّ عَنْك ، فلما رَدَدْتَ [ عليه ] ذهَبَ المَلَكُ وجاء الشَّيْطَانُ ، فلم أجْلِسْ عند مَجِيء الشَّيْطَانِ » ، فنزلَت الآية .
وقيل : نَزَلَتْ في الضيفِ؛ روى عُقْبَة بن عَامِرٍ قال : « قُلْنَا يا رسُول الله : إنك تَبْعَثُنا فَنَنْزِلُ على قومٍ لا يُقرُونا فما تَرَى؟ فقال النَّبِي صلى الله عليه وسلم : » إن نَزَلْتُمْ بِقَومٍ فأمَرُوا لَكُم بما ينْبَغِي للضَّيْفِ ، فاقْبَلُوهُ ، فإنْ لَمْ يَفْعَلُوا ، فَخُذُوا مِنْهُم حَقَّ الضَّيْف الذي يَنْبَغِي لَهُم « .
وقيل : معنى الآيةِ إلا من أكْرِهَ [ على ] أنْ يَجْهَر بسُوءٍ من القولِ كُفْراً كان أو نحوه ، فذلك مُبَاحٌ فالآيَةُ على ذَلِك في الإكْرَاه .
قال قُطْرب : { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } يريد : المُكْرَه؛ لأنه مَظْلُومٌ ، قال : ويجُوز أنْ يكون المَعْنَى إلا من ظُلِمَ على البَدَلِ؛ كأنه قال : لا يُحِبُّ الله إلا مَنْ ظُلِمَ ، أي : لا يُحِبُّ الظَّالِمَ؛ كأنه يقُول : يُحِبُّ من ظُلِم [ أي : يَأجُرُ من ظُلِمَ ] ، والتقدير على هذا القَوْلِ : لا يُحِبُّ الله ذَا الجَهْرِ بالسُّوءِ إلا مَنْ ظُلِمَ على البَدَلِ .
قال القُرْطُبِيُّ : وظاهر الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ للمَظْلُومِ أن يَنْتَصِر من ظَالمِهِ ولكن مع اقْتِصَادٍ إن كان مُؤمِناً ، كما قال الحسن ، فأمَّا أن يُقَابِلَ القَذْفَ بالقذف ونحوه فلا ، وإن كان كَافِراً فأرْسِلْ لِسَانَك وادْعُ بِمَا شِئْتَ؛ كما فعل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حيث قال : » اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأتَكَ على مُضَر ، واجْعَلْهَا عَلَيْهِم سنين كَسِني يُوسُف « .
فصل : لا يحب الله الجهر بالسوء ولا غير الجهر
قال العُلَمَاء : إنه - تعالى - لا يُحِبُّ الجَهْرَ بالسُّوءِ من القَوْلِ ولا غَيْر الجَهْر ، وإنما ذكر هذا الوصف؛ لأن كيفيَّة الواقِعَة أوْجَبَتْ ذلك؛ كقوله - تعالى - : { إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ } [ النساء : 94 ] والتَّبَيُّن واجِبٌ في الظَّعْنِ والإقَامَة ، فكذا هَهُنَا .
فصل شبهة المعتزلة وردها
قالت المعتزلةُ : دلت الآيةُ على أنَّهُ لا يُرِيدُ من عِبَادِهِ فِعْلَ القَبَائِحِ ولا يَخْلُقُها؛ لأن مَحَبَّة الله عِبَارةٌ عن إرادته ، فلما قال : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول } . علمنا أنه لا يُرِيدُ ذلك ، وأيْضاً لو كَانَ خَالِقاً لأفْعَالِ العِبَادِ ، لكان مُرِيداً لَهَا؛ ولو كان مُريداً لَهَا ، لكان قَدْ أحَبَّ إيجَادَ الجَهْرِ بالسُّوءِ من القَوْلِ ، وهو خِلاَفُ الآيَةِ .
والجواب : المَحبَّة عِبَارَةٌ عن إعْطَاء الثَّوَابِ على القَوْلِ ، وعلى هذا يَصِحُّ أن يُقال : إنَّه - تعالى - أرادَهُ ولكِنَّهُ ما أحَبَّهُ .
ثم قال : { وَكَانَ الله سَمِيعاً عَلِيماً } وهو تَحْذِيرٌ من التَّعَدِّي في الجَهْرِ المأذُونِ فيه ، يعني : فَلْيتَّقِ اللَّه ولا يَقُل إلاَّ الحقَّ ، فإنه سَمِيعٌ لما تقوله ، عليم بما تُضْمِرُه ، وقيل : سَمِيعٌ لِدُعَاءِ المَظْلُوم ، عَلِيمٌ بعِقَابِ الظَّالِمِ .

إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)

قيل : « تُبْدُواْ خَيْراً » أي : حَسَنَةً فيَعْمَل بها ، كُتِبَتْ عَشْرَةٌ ، وإن هَمَّ بِهَا ولم يَعْمَلْهَا ، كُتِبَتْ له حَسَنةٌ واحدةٌ ، وهو قوله : « أَوْ تُخْفُوهْ » .
وقيل : المُراد مِنَ الخَيْرِ : المَال؛ لقوله : { إِن تُبْدُواْ خَيْراً } والمَعْنَى : إن تُبْدُوا صَدَقَةً تُعطُونَها جَهْراً ، أو تُخْفُوها فتُعْطُوها سِرّاً ، { أَوْ تَعْفُواْ عَن سواء } أي : عن مَظْلَمةٍ والظاهر أن الضَّمِير المَنْصُوب في « تُخْفُوه » عائِدٌ على « خَيْراً » ، والمُراد به : أعْمَالُ البرِّ كُلُّها ، وأجَازَ بَعْضُهم أن يعُودَ على « السُّوءِ » أي : أو تُخْفُوا السُّوءَ ، وهو بَعِيد .
ثم قال : { فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } .
قال الحسن : يَعْفُو عن الجَانِبَيْن مع قُدرَتِهِ على الانْتِقَامِ ، فعَلَيْكُم أن تَقْتَدُوا بِسُنَّةِ اللَّهِ ، وقال الكْلَبِي : اللَّهُ أقْدَرُ على عَفْوِ ذُنُوبكُم مِنْكَ على عَفْوِ صَاحِبِك ، وقيل : عَفُوًّا لمن عَفَى ، قَدِيراً على إيصَالِ الثَّوَابِ إليْه .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)

لما تكلم على طَرِيقَة المُنَافِقِين ، أخَذَ يتكَلَّم على مَذَاهَب اليَهُودِ والنَّصَارى ومناقضاتهم ، وذكر في آخِرِ هذه السُّورَةِ من هذا الجِنْسِ أنْوَاعاً :
أولها : إيمَانهم ببعْضِ الأنبياءِ دون بعضٍ؛ لأنهم كَفَرُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، فبيَّن أن الكُفْرَ به كُفْرٌ بالكُلِّ؛ لأن ما مِنْ نَبِيٍّ إلا وقد أمَر قَوْمَه بالإيمانِ بمُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - وبجميع الأنْبِيَاء .
قال المُفَسِّرون : نزلت هذه الآيةٌ في اليَهُودِ ، وذلِك أنَّهُم آمَنُوا بمُوسَى ، والتَّوْرَاة ، وعُزَيْر ، وكَفَرُوا بعيسى ، والإنْجِيل ، وبمُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - ، والقرآن ، { وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } أي : بين الإيمانِ بالكُلِّ وبَيْن الكُفْرِ بالكُلِّ سَبِيلاً ، أي : وَاسِطَة ، وهي الإيمانُ بالبَعْضِ دُون البَعْضِ ، وأشير ب « ذلك » وهو للمُفْرَد ، والمُرَادُ به : البَيِّنَة ، أي : بين الكُفْرِ والإيمانِ ، وقد تَقَدَّم نظيرها في البَقَرَة ، وفي خَبَرِ « إنَّ » قولان :
الأول : أنه مَحْذُوف ، تقديره : جمعوا المخازي .
والثاني : هو قوله : { أولئك هُمُ الكافرون } والأوَّل أحْسَن لوجهين :
أحدهما : أنه أبْلَغُ؛ لأن الجواب إذا حُذِفَ ذهب الوَهْمُ كُلَّ مَذْهَبٍ ، فإذا ذكر بَقِي مُقْتَصِراً على المَذْكُورِ .
والثاني : أنه رأسُ آيةٍ ، والأحْسَن ألا يكون الخَبَرُ مُنْفَصِلاً عن المُبْتَدأ ، و « بَيْنَ » يجوزُ أن يكونَ مَنْصُوباً ب « يَتَّخِذُوا » ، وأن يكُون مَنْصُوباً بمحْذُوفٍ؛ إذ هو حَالٌ من « سَبيلاً » .
قوله : « حَقّاً » فيه أوجه :
أحدها : أنه مصدر مؤكِّد لمضْمُون الجُمْلَة [ قَبْلَه ] ، فيَجِبُ إضْمَارُ عَامِلِه وتأخيرُه عن الجُمْلَة المؤكِّد لَهَا ، والتقدير : أحُقُّ ذلك حَقاً ، وهكذا كُلُّ مَصْدَر مؤكِّدٍ لِغَيْره أو لِنَفْسِهِ .
قال بعضهم : انْتَصَبَ « حَقّاً » على مِثْلِ قولك : « زَيْدٌ أخُوك حَقّاً » ، تقديره : أخْبَرْتُك بهذا المَعْنَى إخْبَاراً حَقّاً .
والثاني : أنه حالٌ من قوله : « هُمُ الكَافِرُونَ » قال أبو البقاء : أي : « كَافِرُون غير شَكٍّ » وهذا يشبه أن يكونَ تفسيراً للمصْدر المؤكد ، وقد طعن الواحديُّ على هذا التوجيه؛ فقال : « الكُفْرُ لا يكُونُ حَقًّا بوجْهٍ من الوجوه » ، والجوابُ : أنَّ الحقَّ هنا ليس يرادُ به ما يقابلُ الباطلَ ، بل المرادُ به أنه ثابتٌ لا محالةَ ، وأنَّ كفرهم مقطوعٌ به .
الثالث : أنه نعتٌ لمصدر محذوف ، أي : الكافرون كُفْراً حَقًّا ، وهو أيضاً مصدر مؤكِّد ، ولكن الفرق بينه وبين الوجه الأول ، أنَّ هذا عاملُه مذكورٌ ، وهو اسمُ الفاعل ، وذاك عاملُه محذوف .
فصل
أي : كانوا كَافِرين حَقّاً لوجْهَيْن :
الأول : أن الدَّليلَ الذي يدُلُّ على نُبُوَّة البَعْضِ ، ألزم مِنْه القطع بأنَّه حَيْث حصلت المُعْجِزَة حصلت النُّبُوَّة ، فإن جَوَّزْنَا في بَعْضِ المواضِع حُصُول المُعْجِز بدُون الصِّدْق ، تعذَّر الاستدلال بالمُعْجِزِ على الصِّدْق ، وحينئذٍ يَلْزَم الكُفْرُ بِجَميعِ الأنْبِيَاءِ ، فَثَبت أنَّ من لَمْ يَقْبَل نُبُّوة أحدٍ من الأنْبِيَاء ، لَزِمَهُ الكُفْرُ بجَميعِ الأنْبِيَاءِ .

فإن قيل : هَبْ أنه يَلْزَم الكُفْرُ بكل الأنْبِيَاءِ ، ولكن لَيْسَ إذا توجَّه بَعْضُ الإلْزَامَاتِ على إنسانٍ ، لزِمَ أن يكُون ذَلِك الإنْسَان قَائِلاً به ، فإلْزَامُ الكُفْرِ غَيْر [ والتزام الكفر غير ] فالقَوْمُ لمَّا لمْ يَلْتَزِمُوا ذلك ، فكَيْفَ يَقْضِي عَلَيْهم بالكُفْرِ .
فالجواب : [ الإلْزَامُ ] إذا كان خَفِيّاً بحَيْث يُحْتَاج فيه إلى فِكْرٍ وتأمُّلٍ ، كان الأمْرُ كما ذَكَرْتم ، أمَّا إذا كان جَلِيّاً وَاضِحاً ، لم يَبْقَ بَيْن الإلْزَامِ والالْتِزَام فَرْقٌ .
الوجه الثاني : هو أنّ قَبُولَ البَعْضِ دون الكُلِّ إن كان لِطَلَبِ الرِّيَاسَة ، كان ذلك في الحقيقة كُفْراً بكل الأنبياء [ عليهم السلام ] .
{ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } [ « وأعتدنا » أي : هَيَّأنَا ] { لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِينا } ولمَّا ذكر الوعيد ، أتْبَعَهُ بذِكْرِ الوَعْدِ؛ فقال : { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } الآية .
قد تقدَّم الكلامُ على دخول « بَيْنَ » على « أحَد » في البقرة فأغنَى عن إعادته ، وقرأ الجمهور : « سَوْفَ نُؤتيهم » بنونِ العظمة؛ على الالتفات ، ولموافقةِ قوله : « وأعْتَدْنَا » ، وقرأ حفصٌ عن عاصمٍ بالياء ، أعاد الضمير على اسْمِ الله تعالى في قوله : { والذين آمَنُواْ بالله } . وقول بعضهم : قراءة النون أولى؛ لأنها أفْخَمُ ، ولمقابلة « وأعْتَدْنَا » ليس بجيِّد لتواتُرِ القراءتَيْنِ .
والمعنى : آمَنُوا باللَّه ورَسُلِهِ كُلِّهِم ، ولَمْ يُفَرِّقُوا بين أحد من الرُّسُلِ ، يقولون : لا نُفَرِّق بين أحدٍ من رُسُلِه ، { أولئك سوف نؤتيهم أجورهم } بإيمانِهِم باللَّهِ وكُتُبِهِ ورسُلِهِ ، { وَكَانَ الله غَفُوراً } : يغفر سَيِّئاتهم ، « رحيماً » بهم .

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)

وذلك أن كَعْبَ بنَ الأشْرَف ، وفنحَاصَ بن عَازُورَاء من اليَهُودِ قالا لِرَسُول الله صلى الله عليه وسلم : إن كُنْتَ نَبِيّاً فأتِنَا بكِتَابٍ جُمْلةً من السَّماءِ؛ كما أتَى [ به ] مُوسى - عليه السلام - ، فأنزل الله - تعالى - : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء } . وكان هذا السُّؤال مِنْهُم تَحَكُّماً واقْتِرَاحاً ، لا سُؤال انْقِيَادٍ ، واللَّه - تعالى - لا يُنَزِّل الآيَاتِ على اقْتِرَاحِ العِبَادِ ، والمَقْصُود من الآيَةِ : بيان ما جَبِلوا عليه من التَّعنَّتِ؛ كأنه قِيلَ : إن مُوسَى لمَّا نزلَ عليه كِتَابٌ من السَّمَاءِ ، لم يكْتَفُوا بِذلكَ القَدْر ، بل طَلَبُوا مِنْهُ الرُّؤيَة على سَبِيلِ المُعَايَنَةِ ، فكان طَلَبُ هؤلاءِ الكِتَاب لَيْس لأجْلِ الاسْتِرْشَادِ ، بل لمَحْضِ العِنَادِ .
قوله : « فَقَدْ سَأَلُوا » : في هذه الفاءِ قولان : أحدهما : أنها عاطفةٌ على جملة محذوفة ، قال ابن عطيَّة : « تقديره : فلا تبال ، يا محمَّد ، بسؤالِهِم ، وتشطيطهم ، فإنها عادُتُهمْ ، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك .
والثاني : أنها جوابُ شرطٍ مقدَّر ، قاله الزمخشريُّ أي : إن استكْبَرْتَ ما سألوه منْكَ ، فقد سَألُوا » ، و « أكْبَرَ » صفةٌ لمحذوف ، أي : سؤالاً أكْبَرَ من ذَلِكَ ، والجمهور : « أكبرَ » بالباء الموحدة ، والحسن « أكْثَرَ » بالثاء المثلثة .
ومعنى « أكْبَر » أي : أعْظَم من ذَلِك ، يعني : السَّبْعِين الَّذِين خَرَجَ بِهِمْ [ مُوسَى ] إلى الجَبَلِ ، { فقالوا : أَرِنَا الله جَهْرَةً } أي : عِياناً ، فقولهم : « أرِنَا » جُمْلَة مفَسِّرة لِكبَرِ السُّؤال ، وعِظَمِه . [ و « جَهْرَةَ » تقدَّم الكلام عليها ، إلا أنه هنا يجوز أن تكون « جَهْرَةً » من صفةِ القوْلِ ، أو السؤالِ ، أو مِنْ صفةِ السائلين ، أي : فقالوا مجاهِرِين ، أو : سألوا مجاهرينَ ، فيكونُ في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، أو على المَصْدر ، وقرأ الجمهور « الصَّاعِقَةُ » . وقرأ النَّخَعِيُّ : « الصَّعْقَةُ » وقد تقدَّم تحقيقه في البقرة والباء في « بِظُلْمِهِمْ » سببيةٌ ، وتتعلَّق بالأخْذ ] .
قوله : { ثُمَّ اتخذوا العجل } يعنى : إلهاً ، { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } وهي الصَّاعِقَة ، وسمَّاها بَيِّنَاتٍ - وإن كَانَتْ شَيْئاً وَاحِداً؛ لأنها دالَّةٌ على قُدْرَة الله - تعالى - ، وعلى عِلْمهِ وعلى قدمِهِ ، وعلى كَوْنهِ مُخَالِفاً للأجْسَامِ والأعْرَاضِ ، وعلى صِدْق مُوسَى . وقيل : « البَيِّنَات » إنْزَال الصَّاعِقَةِ وإحْيَاؤُهُم بعد إمَاتِتِهم . وقيل : المُعْجِزَاتُ التي أظْهَرَها لِفِرْعَوْن ، وهي العَصَا ، واليَدُ البَيْضَاءُ ، وفَلْقُ البَحْرِ ، وغيرها من المُعْجِزَات القاهرة .
ثم قال : { فَعَفَوْنَا عَن ذلك } ولم نَسْتَأصِلْهُم . قيل : هذا اسْتِدْعَاءٌ إلى التَّوْبَة ، مَعْنَاه : أن أولئك الَّذِين أجْرَمُوا تَابُوا ، فَعَفَوْنَا عَنْهُم ، فتُوبوا أنْتُم حتى نَعْفُوا عَنْكُم . وقيل : مَعْنَاه : أن قَوْم مُوسَى - وإن كَانُوا قَدْ بَالَغُوا في اللِّجَاجِ والعِنَادِ ، لكنا نَصَرْنَاهُ وقَرَّبْنَاهُ فعَظم أمْرُه وضَعُفَ خَصْمُه ، وفيه بِشَارَةٌ للرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - على سبيلِ التَّنْبِيهِ والرَّمْزِ ، وهو أنَّ هؤلاء الكُفارِ وإن كانوا يُعَانِدُونه - فإنَّه بالآخِرَة يَسْتَوْلي عَلَيْهم ويَقْهَرُهُم .

ثم قال [ - تعالى - ] : { وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً } أي : حُجَّة بَيِّنَة ، وهي الآيات السَّبْع . قوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بِمِيثَاقِهِمْ } [ في « فوقهم » : وجهان : أظهرهما أنه متعلق ب « رَفَعْنا » ، وأجاز أبو البقاء وجهاً ثانياً وهو أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ لأنه حالٌ من الطور . و « بميثاقهم » متعلقٌ أيضاً بالرفع ، والباءُ للسببية ، قالوا : وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ تقديرُه : بنقض ميثاقهم ] . [ و ] قال بَعْضُ المفَسِّرين : إنهم امْتَنَعُوا من قُبُول شَرِيعَة التَّوْرَاةِ ، ورفع الله الجَبَل فَوْقَهُم حَتَّى قَبِلُوا ، والمعنَى : ورفَعْنَا فَوْقَهُم الطُّورَ؛ لأجْلِ أن يُعْطُوا المِيثَاقَ بقُبُول الدِّين .
وقال الزمخشريُّ : « بِمِيثَاقِهِمْ : بسبب ميثاقهم؛ ليخافوا فلا ينقضُوه » وظاهر هذه العبارة : أنه لا يُحْتَاجُ إلى حذْفِ مضاف ، بَلْ أقول : لا يجُوزُ تقدير هذا المضافِ؛ لأنه يقتضي أنهم نقضوا الميثاق ، فرَفَعَ اللَّهُ الطُّورَ عليهم؛ عقوبةً على فعلِهِمُ النقضَ ، والقصةُ تقتضي أنَّهم هَمُّوا بنقضِ الميثاق ، فرفعَ اللَّهُ عليهم الطُور ، فخافُوا فلم يَنْقُضُوهُ ، [ وإن كانوا قد نَقَضُوه ] بعد ذلك ، وقد صَرَّحَ أبو البقاء بأنهم نقضوا الميثاقَ ، وأنه تعالى رفع الطُّور عقوبةً لهم فقال : « تقديرُه : بنَقْضِ ميثاقِهِمْ ، والمعنى : ورَفَعْنَا فوقَهُمُ الطُّور؛ تخْويفاً لَهُمْ بسبب نقْضِهِم الميثاق » ، وفيه ذلك النظرُ المتقدِّم ، ولقائلٍ أن يقول : لمَّا هَمُّوا بنقْضه وقاربوه ، صحَّ أن يقال : رَفَعْنَا الطُّورَ فوقهم؛ لنقضهم الميثاق ، أي : لمقاربتهم نقضَهُ ، لأنَّ ما قارب الشيء أعْطِيَ حكمَه؛ فتصِحُّ عبارةُ مَنْ قدَّر مضافاً؛ كأبي البقاء وغيره .
وقال بَعْضُ المُفَسِّرين : إنَّهُم أعْطوا المِيثَاقَ على أنهم إن هَمُّوا بالرُّجُوع عن الدِّينِ ، فاللَّهُ - تعالى - يُعَذِّبهم بأيِّ أنْواعِ العذابِ ، أراد : فَلَمَّا هَمُّوا بَتَرْكِ الدِّينِ ، أظَلَّ اللَّهُ الطُّورَ عَلَيْهِم . والميثاق مصدر مضاف لمفعوله ، وقد تقدَّم في البقرة الكلام على قوله { ادخلوا الباب سُجَّداً } ، و « سُجَّداً » حالٌ من فاعل « ادْخُلُوا » .
قوله : « لاَ تَعْدُوا » قرأ الجمهور : « تَعْدُوا » بسكون العين ، وتخفيف الدال مِنْ عَدَا يَعْدُو ، كَغَزَا يَغْزُو ، والأصل : « تَعْدُوُوا » بواوين : الأولى لام الكلمة والثانية ضمير الفاعلين ، فاستثقلتِ الضمة على لام الكلمة ، فحُذِفَتْ ، فالتقى بِحَذْفِها ساكنان ، فحُذِفَ الأوَّل ، وهو الواو الأولى ، وبقيتْ واو الفاعلين ، فوزنه : تَفْعُوا ومعناه : لا تعْتَدُوا ولا تَظْلِمُوا باصْطِيَاد الحِيتانِ فيه .
قال الوَاحِدِي : يُقال : عَدَا عليه أشَدَّ العَدَاءِ [ والعَدْو ] والعُدْوَان ، أي : ظَلَمَه ، وجَاوَز الحَدَّ؛ ومنه قوله : { فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 108 ] وقيل : { لاَ تَعْدُواْ فِي السبت } من العَدْوِ بمعْنَى الحُضْرِ ، والمُرَادُ به النَّهْي عن العَمَل والكَسْبِ يَوْم السَّبْتِ؛ كأنه قِيل : اسْكُنُوا عَنِ العَمَلِ في هَذَا اليَوْم واقْعُدوا في مَنَازِلِكُم [ فأنا الرَزَّاق ] .

وقرأ نافع بفتح العين وتشديد الدال ، إلا أن الرواة اختلفوا عن قالون عن نافع : فرَوَوْا عنه تارةً بسكون العين سكوناً محضاً ، وتارةً إخفاء فتحة العين ، فأما قراءة نافع ، فأصلها : تَعْتَدُوا ، ويدلُّ على ذلك إجماعُهُمْ على : { اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت } [ البقرة : 65 ] كونه من الاعتداء ، وهو افتعالٌ من العدوان ، فأُريد إدغامُ تاء الافتعال في الدالِ ، فنُقِلتْ حركتُها إلى العين ، وقُلبت دالاً وأدغمت . وهذه قراءةٌ واضحةٌ ، وأما ما يُروَى عن قالون من السكُون المحْضِ ، فشيءٌ لا يراه النحْويُّون؛ لأنه جَمْعٌ بين ساكنينِ على غير حَدِّهما ، وأمَّا الاختلاسُ فهو قريب للإتيان بحركة ما ، وإن كانت خفيَّةً ، إلا أنَّ الفتحة ضعيفةٌ في نَفْسِهَا ، فلا ينبغي أن تُخْفَى لِتُزادَ ضعفاً؛ ولذلك لم يُجز القراءُ رَوْمَهَا وقْفاً لضعفِها ، وقرأ الأعمش : « تَعْتَدُوا » بالأصل الذي أدغَمُه نافع .
ثم قال { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } قال القفال : المِيثَاقُ الغَلِيظُ : هو العَهْدُ المؤكَّدُ غَايَة التَّوْكِيدِ .
قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } : في « مَا » هذه وجهان :
أحدهما : أنها زائدةٌ بين الجارِّ ومجروره تأكيداً .
والثاني : أنها نكرة تامَّة ، و « نَقْضِهِمْ » بدلٌ منه ، وهذا كما تقدَّم في [ قوله ] { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله } [ آل عمران : 159 ] . و « نَقْضِ » مصدرٌ مضاف لفاعله ، و « مِيثَاقَهُمْ » مفعوله ، وفي متعلَّق الباءِ الجارةِ ل « مَا » هذه وجهان :
أحدهما : أنه « حَرَّمْنَا » المتأخِّر في قوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا } [ النساء : 160 ] وعلى هذا ، فيقال : « فَبِظُلْمٍ » متعلِّق ب « حَرَّمْنَا » أيضاً ، فيلزم أن يتعلق حرفاً جَرٍّ متحدانِ لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ؛ وذلك لا يجوز إلا مع العطف أو البدل ، وأجابوا عنه بأن قوله « فَبِظُلْمٍ » بدل من قوله « فبمَا » بإعادة العامل ، فيقال : لو كان بدلاً لما دخلَتْ عليه فاءُ العطف؛ لأن البدل تابعٌ بنفسه من غير توسُّطِ حرفِ عطفٍ ، وأُجيبَ عنه بأنه لمَّا طالَ الكلام بين البدل والمبدلِ منه ، أعادَ الفاءَ للطُّولِ ، ذكر ذلك أبو البقاء والزَّجَّاج والزمخشريُّ وأبو بَكْرٍ وغيرهم .
ورَدَّه أبو حيان بما معناه أنَّ ذلك لا يجوز لطُول الفصْل بين المبدَلِ والبدل ، وبأنَّ المعطوفَ على السببِ سببٌ ، فيلزمُ تأخُّرُ بعضِ أجزاءِ السبب الذي للتحريم في الوقتِ عن وقت التحريم؛ فلا يمكنُ أن يكون سبباً أو جزء سببٍ إلا بتأويلٍ بعيدٍ ، وذلك أن قولهم : { إِنَّا قَتَلْنَا المسيح } وقولهم على مريم البهتان إنما كان بعد تحْريم الطيبات ، قال : « فالأوْلَى أن يكونَ التقدير : لَعَنَّاهُمْ ، وقد جاء مصرَّحاً به في قوله : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم » .
والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوف ، فقدَّره ابنُ عطيَّة : لعنَّاهُمْ وأذْلَلْنَاهُمْ وختمنا على قلُوبهم ، قال : « وحَذْفُ جواب مثْلِ هذا الكلام بليغٌ » ، وتسميةُ مثل هذا « جَوَاب » غيرُ معروف لغةً وصناعةً ، وقدَّره أبو البقاء : « فَبِمَا نَقْضِهِمْ ميثاقَهُمْ طُبعَ على قُلُوبِهِمْ ، أوْ لُعِنُوا ، وقيل : تقديرُه : فبما نقضهِمْ لا يُؤمِنُونَ ، والفاءُ زائدةٌ » .

[ أي : في قوله تعالى { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } ] . انتهى . وهذا الذي أجازه أبو البقاء تَعَرَّضَ له الزمخشريُّ ، وردَّه ، فقال : « فإن قلْتَ : فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ المحذوفَ الذي تعلَّقَتْ به الباء ما دَلَّ عليه قوله » بَلْ طَبَعَ اللَّهُ ، فيكون التقديرُ : فبمَا نقضِهِمْ طَبَعَ اللَّهُ على قُلُوبِهِمْ ، بل طَبَعَ الله عَلَيْهَا بكُفْرهِمْ قلت : لم يصحَّ لأن قوله : { بل طبع الله عليها بكفرهم } ردٌّ وإنكارٌ لقولهم : « قُلُوبُنَا غُلْفٌ » ، « فكانَ متعلِّقاً به » ، قال أبو حيان : « وهو جوابٌ حسنٌ ، ويمتنعُ من وجهٍ آخر ، وهو أنَّ العطفَ ب » بَلْ « للإضرابِ ، والإضرابُ إبطالٌ ، أو انتقالٌ ، وفي كتاب الله في الإخبار لا يكون إلا للانتقالِ ، ويُسْتفادُ من الجملةِ الثانية ما لا يُسْتفاد من الأولى ، والذي قَدَّره الزمخشريُّ لا يَسُوغُ فيه الذي قرَّرناه؛ لأنَّ قوله : فَبِمَا نَقْضِهِم ميثَاقَهُمْ وَكُفْرهِمْ بآياتِ الله وقوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا [ هو مدلولُ الجمْلة التي صَحبتها » بَلْ « ، فأفادت الثانِيَة ما أفَادَتِ الأولَى ، ولو قُلْت : مرَّ زَيْد بِعَمْرو ، بل مَرَّ زَيْدٍ بعمرو ، لم يَجُزْ » . وقَدَّرَهُ الزمَخْشَرِي : فَعَلْنَا بِهِم ما فَعَلْنَا ، وتقدَّم الكَلاَم على الكُفْرِ بآيَاتِ اللَّهِ ، وقَتْلِهِم الأنْبِياءَ بغَيْرِ حَقٍّ في البَقَرة .
وأمَّا قولُهم : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } جمع غِلاَفٍ ، والأصل « غُلُفٌ » بتحريك اللاَّم ، وخُفِّفَ كما قِيلَ بالتَّسْكِين؛ ككُتْب وَرُسْل بتَسْكِين التاءِ والسِّين والمَعْنَى على هذا : أنهم قالوا : قُلُوبُنَا غُلْف ، أي : أوْعِيَةٌ للعِلْمِ ، فلا حَاجَة بِنَا إلى عِلْمٍ سِوَى ما عِنْدَنَا ، فكَذَّبُوا الأنْبِيَاء بهَذَا القَوْلِ .
وقيل : إن غُلْفاً جَمْع أغْلَف وهو المغَطَّى بالغلافِ ، أي : بالغِطَاءِ ، والمَعْنَى على هذا : أنَّهمُ قالُوا : قُلُوبُنَا في أغْطِيَةٍ ، [ فَهي ] لا تَفْقَهُ ما تَقُولُون؛ نظيره قولُهُم : { قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] .
قوله : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا } هذا إضرابٌ عن الكلام المتقدِّم ، أي : ليس الأمرُ كما قالوا من قولهم : « قُلُوبُنَا غُلْفٌ » ، وأظهرَ القرَّاءُ لامَ بَلْ في « طَبَعَ » إلا الكسائي ، فأدغم من غيرِ خلاف ، وعن حمزة خلاف ، والباء في « بِكُفرهِمْ » يُحتمل أن تكون للسببية ، وأن تكون للآلة؛ كالباء في « طَبَعْتُ بالطِّينِ على الْكِيسِ » يعني أنه جعل الكُفْر كالشيء المطْبُوع به ، أي : مُغَطِّياً عليها ، فيكونُ كالطابع ، وقوله : « إِلاَّ قَلِيلاً » يحتملُ النصبَ على نعت مصدر محذوف ، أي : إلا إيماناً قليلاً وهو إيمانُهُم بمُوسَى والتَّوراة فقط ، وقد تقدم أن الإيمَانَ بالبَعْضِ دُونَ البَعْضِ كُفْرٌ ، ويُحْتَمل كَوْنُه نَعْتاً لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ ، أي : زَمَاناً قَلِيلاً ، ولا يجُوزُ أن يكُون مَنْصُوباً على الاسْتِثْنَاءِ من فَاعِل « يؤمنُونَ » أي : إلاَّ قَلِيلاً مِنْهُم فإنَّهُم يُؤمِنُون؛ لأنَّ الضَّمِير في « لاَ يُؤْمِنُونَ » عائدٌ على المَطْبُوعِ على قُلُوبهم ، ومن طُبعَ على قَلْبِه بالكُفْرِ ، فلا يَقَعُ مِنْهُ الإيمانُ .

[ والجواب أنَّه مِنْ إسنادِ مَا للبعض للكُلِّ ، أي : في قوله : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } فتأمّل ] .
وقال البغوي : « إِلاَّ قَلِيلاً » يعني : ممَّن كَذَّب الرُّسُل [ لا ] من طُبِعَ على قَلْبِهِ؛ لأنَّ من طَبَعَ الله على قَلْبِه ، لا يُؤمِنُ أبَداً ، وأرَادَ بالقَلِيلِ : عَبْد الله بن سَلاَم وأصْحَابه .
قوله : « وبكُفْرهِمْ » : فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوفٌ على « مَا » في قوله : « فَبِمَا نَقْضهِمْ » فيكونُ متعلِّقاً بما تعلَّق به الأول .
الثاني : أنه عطفٌ على « بِكُفرِهِمْ » الذي بعد « طَبَعَ » ، وقد أوضح الزمخشريُّ ذلك غايةَ الإيضاح ، واعترضَ وأجابَ بأحسنِ جواب ، فقال : « فإنْ قلْتَ : علامَ عَطَفَ قوله » وَبكُفْرِهِمْ « ؟ قلتُ : الوجهُ أن يُعْطَفَ على » فَبِمَا نَقْضِهمْ « ، ويُجْعَلَ قولُه : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } كلاماً يَتْبَع قوله : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } على وجه الاستطراد ، ويجوزُ عطفه على ما يليه من قوله » بِكُفْرِهِمْ « ، فإن قلت : فما معنى المجيءِ بالكُفْر معطوفاً على ما فيه ذِكْرُهُ؟ سواءٌ عطف على ما قبل الإضْراب ، أو على ما بعده ، وهو قوله : { وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله } ، وقوله » بِكُفْرِهمْ « ؟ قُلْتُ : قد تكرر منهم الكُفْر؛ لأنهم كفروا بموسَى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمدٍ ، فعطف بعض كُفْرِهِمْ على بعض ، أو عَطَفَ مجموعَ المعطوفِ على مجموعِ المعطوف عليه؛ كأنه قيل : فبجمْعِهِمْ بين نقضِ الميثاقِ ، والكُفْرِ بآيات الله ، وقتلِ الأنبياء ، وقولهم : قُلُوبُنَا غُلْفٌ ، وجمعهم بين كفرِهمْ وبَهْتِهِمْ مريم وافتخارهم بقتلِ عيسى؛ عاقبناهم ، أو بلْ طَبَع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم كذا وكذا » .
قوله : [ { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ } ] « بُهْتَاناً [ عظيماً ] » في نصب [ « بُهْتَاناً » ] خمسةُ أوجه :
أظهرُها : أنه مفعولٌ به؛ فإنه مُضَمَّنٌ معنى « كَلاَم » ؛ نحو : قُلْتُ خُطْبَةٌ وشِعْراً .
الثاني : أنه منصوبٌ على نوع المصدر ، كقولهم : « قَعَدَ القُرْفُصَاءَ » يعني : أن القول يكون بُهتاناً وغير بهتان .
الثالث : أن ينتصبَ نعتاً لمصدر محذوف ، أي : قولاً بُهْتَاناً ، وهو قريبٌ من معنى الأول .
الرابع : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ من لفظه ، أي : بَهَتُوا بُهْتَاناً .
الخامس : أنه حال من الضميرِ المجْرور في قولهم ، أي : مُبَاهِتينَ ، وجازَ مجيءُ الحال من المضاف إليه؛ لأنه فاعلٌ معنًى ، والتقديرُ : وبأن قالوا ذلك مباهتين .
فصل في المقصود بالبهتان
والمراد بالبُهْتَانِ : أنَّهُم رموا مَرْيَم بالزِّنَا ، لأنَّهم أنكَرُوا قُدْرَة الله - تعالى - على خَلْقِ الوَلَدِ من غير أبٍ ، ومُنْكِرُ قُدْرَةِ الله على ذلك كَافِرٌ؛ لأنه يَلْزَمُ أن يقُول : كُلُّ ولَدٍ مَسْبُوقٍ بوَالِدٍ لا إلى أوَّل ، وذَلِك يُوجِبُ القَوْل بِقِدَم العَالَمِ والدَّهْرِ ، والقَدْحُ في وجُود الصَّانِعِ المُخْتَار ، فالقَوْمُ أولاً أنكَرُوا قُدْرَة الله - تعالى - علَى خَلْقِ الوَلَدِ من غَيْر أبٍ ، وثانياً : نَسَبُوا مَرْيَم إلى الزِّنَا .

فالمراد بقوله : « وَبِكُفْرِهِم » هو إنْكَارُهُم قُدْرَة الله - تعالى - ، وبقوله : { وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } نِسْبَتُهُم إيّاهَا إلى الزِّنَا ، ولمَّا حَصَل التغَيُّر حسن العَطْف ، وإنما صار هذا الطَّعْنُ بُهْتاناً عَظِيماً؛ لأنه ظَهَر عند ولادَةَ عِيسَى - عليه السلام - [ من ] الكَرَامَاتِ والمُعْجِزَاتِ ، ما دَلَّ على بَرَاءَتِها من كُلِّ عَيْبٍ ، نحو قوله : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } [ مريم : 25 ] وكلام عيسى - [ عليه السلام ] - طفْلاً مُنْفصِلاً عن أمِّهِ ، فإنَّ كُلَّ ذلك دَلاَئِل قاطِعَةٌ على بَراءة مَرْيَم - [ عليها السلام ] - من كل رِيبَةٍ ، فلا جَرَم وَصَف اللَّهُ - [ تعالى ] - [ طَعْنَ ] اليهُود فيها بأنَّهُ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ .
واعلم أنَّه لما وَصَفَ طَعْن اليَهُود في مَرْيم بأنَّه بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ، ووصَفَ طَعْن المُنَافِقِين في عَائِشَةَ بأنَّهُ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ، حَيْثُ قال : { سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ النور : 16 ] ؛ دلَّ ذلك على أنَّ الرَّوَافِضَ الَّذِين يَطْعَنُون في عَائِشَةَ ، بمَنْزِلَة اليَهُودِ الَّذِين يَطْعَنُون في مَرْيم - عليها السلام - .
قوله : « وَقَوْلُهُم » عَطْف على « وَكُفْرِهِم » ، وكُسِرت « إنَّ » لأنَّها مُبْتَدأ بعد القَوْلِ وفَتْحهَا لُغَة .
و « عِيسَى » بدلٌ من « المَسِيح » ، أو عطفُ بيان ، وكذلك « ابن مَرْيَم » ، ويجوز أن يكونَ صفةً أيضاً ، وأجاز أبو البقاء في « رَسُول الله » هذه الأوجه الثلاثة ، إلا أنَّ البدل بالمشتقات قليلٌ ، وقد يُقال : إنَّ « رَسُول الله » جرَى مَجْرَى الجوامدِ ، وأجاز فيه أن يَنْتصبَ بإضمار « أعني » ، ولا حاجةَ إليه . قوله « شُبِّهَ لَهُمْ » : « شُبِّهَ » مبني للمفعول ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مسند للجارِّ بعده؛ كقولك : « خُيِّلَ إليه ، ولُبِّسَ علَيْهِ » [ كأنَّه قيل : ولكن وقع لهم التشبيه ] .
والثاني : أنه مسندٌ لضمير المقْتُول الَّذِي دَلَّ عليه قولهم : « إِنَّا قَتَلْنَا » أي : ولكن شُبِّه لهم من قتلُوه ، فإن قيل : لِمَ لا يَجُوز أن يعودَ على المسيحِ؟ فالجوابُ : أن المسيحَ مشبَّه به [ لا مشبَّه ] .
فصل
وهذا القَوْلُ مِنْهُم يَدُلُّ على كُفْرٍ عَظِيمٍ مِنْهُم؛ لأن قَولَهُم ، فَعَلْنَا ذَلِك ، يدل على رَغْبَتِهِم في قَتْلِهِ [ بجدٍّ واجْتِهَادٍ ] ، وهذا القَدْرُ كُفْر عَظِيمٌ .
فإن قِيلَ : اليَهُود كَانُوا كَافِرِين بِعيسَى - عليه السلام - أعداء لَهُ ، عَامِدِين لِقَتْلِه ، يسَمُّونَهُ السَّاحِرَ ابن السَّاحِرَة؛ والفاعِل ابْنَ الفاعِلة ، فكيف قَالُوا : إنّا قَتلْنَا المَسيح [ عيسى ] ابن مَرْيَم رسُول الله؟ .
فالجوابُ من وَجْهَيْن :
الأول : أنهم قَالُوهُ على وَجْه الاسْتِهْزَاءِ؛ كقول فِرْعَوْن :

{ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] وقول كُفَّار قُرَيْش لمحمد - عليه السلام - : { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] .
الثاني : أنه يجُوزُ أن يَضَعَ الله الذِّكْرَ الحَسَنَ مَكَانَ ذِكْرِهم القَبِيح في الحِكَايَةِ عَنْهُم؛ رفعاً لعِيسى ابن مَرْيَمِ - عليه السلام - عمَّا كَانُوا يَذْكُرُونَه به .
ثم قال - تعالى - : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } .
واعلم أن اليَهُودَ لمَّا زعموا أنَّهُم قتلوا المسيحَ ، كذَّبَهم الله في هَذِه الدَّعْوَى ، فقال . . . الآية .
فإن قيل : إذا جَازَ أن يُلقي الله - تعالى - شِبْه إنْسَانٍ على إنْسَانٍ آخر ، فهذا يَفْتَحُ بابَ السَّفْسَطَة ، فإذا رَأيْنَا زَيْداً فَلَعَلَّهُ لَيْس بِزَيْدٍ ، ولَكِنَّه ألْقَى شِبْهَ زيْد عليه ، وعِنْد ذلك لا يَبْقَى الطَّلاقُ والنِّكَاحُ والمِلْكُ مَوْثُوقاً بِهِ ، وأيضاً يُفْضِي إلى القَدْحِ في التَّوَاتُرِ؛ لأن خَبَر التَّواتُر إنَّما يُفِيد العِلْمَ بِشَرطِ انْتِهائِهِ إلى المَحْسُوسِ ، فإذا جَوَّزْنَا حُصُول مِثْل هَذَا الشِّبْهِ في المَحْسُوسَاتِ ، يُوَجَّهُ الطَّعْن في التَّوَاترُ ، وذلكِ يُوجِبُ القَدْح في جَمِيع الشَّرَائع ، ولَيْسَ لمُجِيبٍ أن يُجِيبَ عَنْهُ؛ بأن ذَلِك مُخْتَصٌّ بزمان الأنْبِياء - [ عليهم الصلاة والسلام ] -؛ لأنا نَقُول : لو صَحَّ ما ذَكَرْتُم ، فذلِكَ إنَّما يُعْرَفُ بالدَّليلِ والبُرْهَانِ ، فمن لَمْ يَعْلَمْ ذلك الدَّلِيلَ وذلِك البُرْهَان ، وجَبَ ألاَّ يَقْطَع بِشَيءٍ من المَحْسُوسَاتٍ ، فَتوَجَّه الطَّعْن في التَّوَاتُر ، ووَجَبَ ألاَّ يُعْتَمدُ على شَيءٍ مِنَ الأخْبَارِ المُتَوَاتِرَة .
وأيضاً : ففي زَمانِنا إن انْسَدَّتِ المُعْجِزَات ، فطَريقُ الكَرَامَاتِ مَفْتُوحٌ ، وحينئذٍ يعُود الاحْتِمَال المَذْكُور في جَمِيعِ الأزْمِنَةِ ، وبالجُمْلَة فَفَتْحُ هذا الباب يُوجِبُ الطَّعْنَ في التَّواتُر ، والطَّعْنُ في التَّوَاتُرِ يوجب الطَّعْنَ في نُبُوَّة [ جميع ] الأنْبِياء - عليهم الصلاة والسلام - ، وإذَا كان هذا يُوجِبُ الطَّعْنَ في الأصُولِ ، كان مَرْدُوداً .
فالجوابُ : قال كَثِيرٌ من المتَكَلِّمين : إن اليَهُود لمَّا قَصَدُوا قَتْلَه ، رفَعَهُ الله على السَّمَاءِ ، فخَافَ رُؤسَاءُ اليَهُودِ من وُقُوعِ الفِتْنَةِ بَيْن عَوامِّهِم ، فأخَذُوا إنْسَاناً وقَتَلُوه وصَلَبُوهُ ، وألْبَسُوا على النَّاسِ أنَّه هُوَ المَسِيحُ ، والنَّاسُ ما كَانُوا يَعْرِفُون المسيح إلا بالاسْمِ؛ لأنه كَانَ قَلِيلَ المُخَالطَةِ للنَّاسِ ، وإذا كان اليَهُود هُم الَّذِين ألْبَسُوا على النَّاسِ ، زال السُّؤالُ ، ولا يُقالُ : إن النَّصَارى يَنْقُلُون عن أسْلافِهِم أنهم شَاهَدُوهُ مَقْتُولاً؛ لأن تَوَاتُرَ النَّصَارى يَنْتَهِي إلى أقْوَام قَلِيلين ، لا يبْعُد اتِّفَاقُهُم على الكَذِب ، وقيل غَيْر ذلِكَ ، وقد تقدَّم بَقِيَّة الكلام على الأسئِلَة الوارِدَة هُنَا عِنْد قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } في سورة آل عمران [ الآية : 55 ] .
ثم قال : { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } هذا الاختلافُ فيه قولان :
الأول : أنَّهم هم النصَارى كُلُّهُم مُتَّفِقُون على أنَّ اليَهُودَ قَتَلُوهُ ، إلا أنهم ثلاث فِرقٍ : نَسْطُورِيَّة ، ومَلْكَانِية ، ويعقوبية :
فالنَّسْطُوريَّة : زعموا أن المَسِيحَ صُلِبَ من جِهَةِ ناسُوتهِ ، لا مِنْ جهة لاهُوتِه ، وهو قَوْل أكْثَر الحُكَمَاء؛ لأن الإنْسَان لَيْس عِبَارَةٌ عن هذا الهَيْكَل ، بل هُوَ إمَّا جِسْمٌ شَرِيفٌ في هذا البَدَنِ ، وإمَّا جَوْهَرٌ رَوْحَانِيٌّ مُجَرَّدٌ في ذاتِهِ ، وهُو مُدَبِّر لهَذَا البَدَن ، والقَتْلُ إنَّما وَرَدَ هلى هذا الهَيْكَل ، وأمَّا حَقيقَةُ نَفْس عِيسَى ، فالقَتْلُ ما وَرَدَ عَليْهَا ، ولا يُقَال : كُلُّ إنْسَانٍ كَذَلِك ، فما وَجْه هَذَا التَّخْصِيص؟ لأنَّا نَقُول إن نَفْسَه كَانَت قُدِسيَّةً عُلْوِيَّة سَمَاوِيَّة ، شديدة الإشْرَاقِ بالأنْوَارِ الإلهِيَّة ، وإذا كانت كَذَلِكَ ، لَمْ يَعْظُم تَألُّمُهَا بِسَبَبِ القَتْلِ وتَخْرِيب البدن ، ثم إنَّها بعد الانْفِصَالِ عن ظُلْمَةِ البَدَنِ ، تَتَخَلَّصُ إلى فُسْحَة السَّمواتِ وأنوار عَالَم الجلالِ ، فَتَعْظُم بَهْجَتُهَا وسَعَادَتُها هُنَاكَ ، وهذه الأحْوَال غَيْرُ حَاصِلةٍ لكُلِّ النَّاسِ ، وإنما حَصَلَت لأشْخَاصٍ قَلِيلِين من مَبْدَإ خَلْق آدَمَ إلى قِيَامِ القِيَامَةِ ، فهذا فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ .

وأما الملْكَانِيَّة فَقَالُوا : القَتْل والصَّلْبُ وصَلاَ إلى اللاَّهُوت بالإحْسَاسِ والشُّعُور ، لا بالمُبَاشَرَةِ .
وقالت اليعقوبية : القَتْلَ والصَّلْبُ وقعا بالمسيح الذي هو جَوْهرٌ مُتَوَلِّدٌ من جَوْهَرَيْن .
فهذا شرح مَذَاهِب النَّصَارَى في هذا البَابِ ، وهو المُرَاد من قوله : { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } .
والمنزل الثاني : أن المُراد ب { الذين اختلفوا فِيه } اليَهُود ، وفيه وجهان :
الأوَّل : أنهم لمَّا قَتَلُوا الشَّخْص المُشَبَّه به ، كان المُشَبَّهُ قد ألْقِي على وَجْهِه ، ولم يُلْقَ على جَسَدِهِ شِبْه جَسَد عِيسَى ، فلما قَتَلُوه ونَظَرُوا إلى بَدَنِهِ ، قالوا : الوجْهُ وجْهُ عِيسَى والجَسَدُ جسد غَيْرِه .
والثاني : قال السُّدِّي : إن اليَهُود حَبَسُوا عِيسى - عليه السلام - مع عَشَرَةٍ من الحَوَارِييّن في بَيْتٍ ، فَدَخَلَ عَلَيْه رَجُلٌ من اليَهُودِ ليُخْرِجَهُ ويَقْتلهُ ، فألقى الله شِبْه عِيسَى - عليه السلام - على ذَلِك الرَّجُلِ ، ورَفَع عيسى إلى السَّماء ، فأخذوا ذلك الرَّجُل فَقَتَلُوهُ على أنَّه عيسى - عليه السلام - ، ثم قالوا [ إن كان هذا عِيسَى فأيْن صَاحِبُنَا ، وإن كان صَاحِبُنَا فأيْن عيسى ] ، فَذَلِكَ اخْتِلافُهُم فِيه .
قوله : « لَفِي شَكٍّ مِّنْه » : « مِنْهُ » في محلِّ جرِ صفة ل « شَكٍّ » يتعلَّقُ بمحذوف ، ولا يجوز أن تتعلَّق فَضْلةٌ بنفس « شَكٍّ » ؛ لأن الشكَّ إنما يتعدَّى ب « في » لا ب « مِنْ » ، ولا يقال : إنَّ « مِنْ » بمعنى « في » ؛ فإن ذلك قولٌ مرجوحٌ ، ولا ضرورة لنا به هنا .
وقوله : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } يجوز في « مِنْ عِلْمٍ » وجهان :
أحدهما : أنه مرفوع بالفاعليَّة ، والعاملُ أحد الجارَّيْنِ : إمَّا « لَهُمْ » وإما « به » ، وإذا جُعِلَ أحدُهما رافعاً له ، تعلَّق الآخرُ بما تعلَّق به الرافِعُ من الاستقرار المقدَّر ، و « مِنْ » زائدةٌ لوجودِ شرطي الزيادة .
والوجه الثاني : أن يكون « مِنْ عِلْمٍ » مبتدأ زيدت فيه « مِنْ » أيضاً وفي الخبر احتمالان :
أحدهما : أن يكونَ « لَهُم » فيكون : « به » : إمَّا حالاً من الضمير المستكنِّ في الخبر ، والعاملُ فيها الاستقرارُ المقدَّر ، وإمَّا حالاً من « عِلْمٍ » ، وإنْ كان نكرةً؛ لتقدُّمها عليه ، ولاعتمادِه على نَفْي ، فإن قيل : يلزمُ تقدُّمُ حالِ المجرورِ بالحرفِ عليه ، وهو ضرورةٌ ، لا يجوزُ في سَعة الكَلاَم .

فالجوابُ : أنَّا لا نُسَلِّم ذلك ، بل نقل أبو البقاء وغيره؛ أنَّ مذْهَب أكثر البصريين جوازُ ذلك ، ولئِنْ سلَّمْنَا أنه لا يجوز إلا ضرورةً ، لكن المجرور هنا مجرورٌ بحرف جرٍّ زائدٍ ، والزائدٌ في حكْم المُطَّرَح ، وأمَّا أن يتعلَّق بمحذوفٍ على سبيل البيانِ ، أي : أعْني به ، ذكره أبو البقاء ، ولا حاجةَ إليه ، ولا يجوزُ أن يتعلق بنفس « عِلْم » ؛ لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه .
والاحتمال الثاني : أن يكون « به » هو الخبر ، و « لَهُمْ » متعلق بالاستقرار؛ كما تقدم ، ويجوز أن تكون اللام مبيِّنةً مخصَّصة كالتي في قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] . وهذه الجملةُ المنفية تحتمل ثلاثة أوجه : الجرّ على أنها صفةٌ ثانية ل « شَكٍّ » أي : غير معلوم .
الثاني : النصب على الحال من « شَكٍّ » ، وجازَ ذلك ، وإنْ كان نكرةً لتخصُّصِه بالوصف بقوله « مِنْه » .
الثالث : الاستئنافُ ، ذكره أبو البقاء ، وهو بعيدٌ .
قوله : { إِلاَّ اتباع الظن } في هذا الاستثناء قولان :
أصحهما : ولم يذكر الجمهورُ غيره : أنه منقطع؛ لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم ، [ قال شهاب الدين : ] ، ولم يُقْرأ فيما علمتُ إلا بنصبِ « اتِّباع » على أصل الاستثناء المنقطِعِ ، وهي لغةُ الحجاز ، ويجوزُ في تميم الإبدالُ من « عِلْم » لفظاً ، فيجرُّ ، أو على الموضع ، فيُرفَعُ؛ لأنه مرفوع المحلِّ؛ كما قدَّمته لك ، و « مِنْ » زائدةٌ فيه .
والثاني - قال ابن عطية - : أنه متصِلٌ ، قال : « إذ العلْمُ والظنُّ يضمهما جنسُ أنهما من معتقدات اليقين ، يقول الظانُّ على طريق التجوُّز : » عِلْمِي في هذا الأمْرِ كَذَا « إنما يريدُ ظَنِّي » انتهى ، وهذا غيرُ موافقٍ عليه؛ لأن الظنَّ ما ترجَّحَ فيه أحد الطرفَيْن ، واليقينُ ما جُزِم فيه بأحدهما ، وعلى تقدير التسليم فاتباعُ الظنِّ ليس من جنس العلم ، بل هو غيره ، فهو منقطع أيضاً ، أي : ولكنَّ اتباع الظنِّ حاصلٌ لهم .
ويُمْكِنُ أن يُجَابَ شهاب الدِّين عما رَدَّ به عَلَى ابن عَطِيَّة : بأن العِلْمَ قد يُطْلَقُ على الظَّنِّ ، فيكون من جِنْسِهِ؛ كقوله - تعالى - { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] وأراد : يَعْلَمُون ، وقوله : { حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } [ يوسف : 110 ] أي : تَيَقَّنُوا ، وقوله : { وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } [ الكهف : 53 ] وإذا كان يَصِحُّ إطلاقُهُ عليه ، صار الاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلاً .
فصل في دفع شبهة لمنكري القياس
احتَجَّ نُفَاةُ القِيَاسِ بهذه الآيَةِ ، وقالوا : العَمَلُ بالقياسِ من اتِّبَاع الظَّنِّ ، وهو مَذْمُومٌ؛ لأن الله - تعالى - ذكر اتِّبَاعَ الظَّنِّ في مَعْرِضِ الذَّمِّ هَهُنَا ، وذَمِّ الكُفَّار في سُورَةِ الأنْعَامِ بقوله :

{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [ الأنعام : 116 ] وقال : { إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً } [ يونس : 36 ] فدَلَّ ذلك على أنَّ اتِّبَاع الظَّنِّ مَذْمُومٌ .
والجوابُ : لا نُسَلِّمُ أن العَمَلَ بالقِيَاسِ [ من اتِّبَاع الظَّنَّ؛ فإن الدَّلِيلَ القَاطِعَ لمَّا دَلَّ على العَمَلِ بالقِيَاسِ ] ، كان الحُكْمُ المُسْتَفَاد من القِياسِ مَعْلُوماً لا مَظْنُوناً .
قوله : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } الضمير في « قَتَلُوهُ » فيه أقوال :
أظهرها : أنه ل « عيسى » ، وعليه جمهور المفسرين .
والثاني - وبه قال ابن قتيبة والفراء - : أنه يعودُ على العلم ، أي : ما قتلوا العلم يقيناً ، على حدِّ قولهم : « قَتَلْتُ العِلْمَ والرأي يقييناً » و « قَتَلتهُ عِلْماً » ، ووجْه المجاز فيه : أن القتلَ للشيء يكون عن قَهْرٍ واستعلاءٍ؛ فكأنه قيل : وما كان علْمُهُم علْماً أُحيطَ به ، إنما كان عن ظن وتخمين .
الثالث - وبه قال ابن عباس والسُّدِّيُّ وطائفة كبيرة - : أنه يعود للظنِّ تقول : « قَتَلْتُ هَذَا عِلْماً وَيَقِيناً » ، أي : تحقَّقت ، فكأنه قيل : وما صَحَّ ظنُّهم عندهم وما تحقَّقوه يقيناً ، ولا قطعوا الظنَّ باليقين .
قوله : « يَقيناً » فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : قتلاً يقيناً .
الثاني : أنه مصدر من معنى العامل قبله؛ كما تقدم مجازه؛ لأنه في معناه ، أي : وما تيقَّنوه يقيناً .
الثالث : أنه حال من فاعل « قَتَلُوهُ » ، أي : وما قتلوه متيقنين لقتله .
الرابع : أنه منصوبٌ بفعلٍ من لفظه حُذِفَ للدلالة عليه ، أي : ما تيقَّنوه يقيناً ، ويكون مؤكِّداً لمضمون الجملةِ المنفيَّة قبله ، وقدَّر أبو البقاء العامل على هذا الوجه مثبتاً ، فقال : « تقديره : تيقَّنوا ذلك يَقِيناً » ، وفيه نظر .
الخامس - ويُنْقَل عن أبي بَكْر بن الأنباريِّ - : أنه منصوبٌ بما بعد « بَلْ » من قوله : « رَفَعَهُ الله » ، وأن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، أي : بَلْ رفعه الله إليه يقيناً ، وهذا قد نَصَّ الخليلُ ، فمَنْ دونه على منعه ، أي : أن « بَلْ » لا يعمل ما بعدها فيما قبلها؛ فينبغي ألا يَصِحَّ عنه ، وقوله : { بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ } رَدٌّ لما ادَّعَوْهُ مِنْ قتله وصلبه ، والضمير في « إلَيْه » عائدٌ على « الله » على حَذْفِ مضاف ، أي : إلى أسمائه ومحلِّ أمره ونهيه .
فصل : إثبات المشبهة للجهة ودفع ذلك
احتَجَّ المُشَبِّهَةُ بقوله - تعالى - : { بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ } في إثْبَات الجِهَةِ .
والجوابُ : أن المُراد الرَّفْعُ إلى موضعٍ لا يَجْرِي فِيهِ حُكْمُ غير الله - تعالى -؛ كقوله تعالى { وإلى الله تُرْجَعُ الأمور } [ آل عمران : 109 ] وقوله - تعالى - : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ } [ النساء : 100 ] ، وكانت الهِجْرَة في ذلك الوَقْت ، إلى المَدِينَةِ .

وقال إبراهيمُ : { إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] .
فصل : دلالة الآية على رفع عيسى عليه السلام
دلت [ هذه ] الآيةُ على رفع عيسى - عليه السلام - إلى السَّمَاءِ ، وكذلك قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } [ آل عمران : 55 ] .
ثم قال : { وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً } ، والمراد بالعِزَّة : كَمَال القُدْرَة ، ومن الحِكْمَة : كمال العلم ، نَبَّه بهذا على أنَّ رَفْعَ عيسى - عليه السلام - إلى السَّموات وإن [ كَانَ ] كالمتَعَذِّر على البَشَرِ ، لَكِنَّه لا بُدَّ فيه من النِّسْبَةِ إلى قُدْرَتِي وحِكْمَتِي؛ كقوله - تعالى - : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [ الإسراء : 1 ] فإنّ الإسْرَاء وإن كان مُتَعذِّراً بالنِّسْبَةِ إلى قُدْرَةِ مُحَمَّدٍ ، إلا أنَّه سهل بالنسْبَة إلى قُدْرة الله - تعالى .

وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)

لما ذكر فَضَائِح اليَهُود وقبحَ أفْعَالِهِم ، وأنَّهم قَصَدُوا قَتْل عِيسَى عليه الصلاة والسلام ، وأنَّه لم يَحْصُل لهم ذَلِكَ المَقْصُود ، وأنَّ عيسى - عليه السلام - حَصَل له أعْظَمُ المَنَاصِبِ ، بَيَّن أن هؤلاء اليهُود الذين بَالَغُوا في عَدَاوَتِهِ ، لا يَخْرُجُ أحَدٌ مِنْهُم من الدُّنْيَا إلا بَعْدَ أن يُؤمِنَ به ، فقال : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } ، « إنْ » هنا نافيةٌ بمعنى « مَا » ، و « مِنْ أهْلِ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه صفة لمبتدأ محذوف ، والخبرُ الجملةُ القسمية المحذوفة وجوابها ، والتقدير : وما أحدٌ من أهل الكتاب إلاَّ واللَّهِ ليُؤمِننَّ به ، فهو كقوله : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] ، أي : ما أحدٌ مِنَّا ، وكقوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] أي : مَا أحَدٌ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُها ، هذا هو الظاهر .
والثاني - وبه قال الزمخشري وأبو البقاء - : أنه في محلِّ الخبر ، قال الزمخشري : « وجملة » لَيُؤْمِنَنَّ به « جملةٌ قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف ، تقديره : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتاب أحَدٌ إلاَّ ليُؤمِنَنَّ بِهِ ، ونحوه : { وما منا إلا له مقام معلوم } { وإن منكم إلا واردها } ، والمعنى : » وما من اليهود أحَدٌ إلاَّ ليُؤمنَنَّ « ، قال أبو حيان : » وهو غلطٌ فاحشٌ؛ إذ زعم أن « لَيُؤْمِنَنَّ بِه » جملة قسمية واقعةٌ صفةً لموصوف محذوف إلى آخره ، وصفة « أحَد » المحذوف إنما الجار والمجرور؛ كما قَدَّرناه ، وأمَّا قوله : « لَيُؤْمِنَنَّ بِه » ، فليستْ صفةً لموصوف ، ولا هي جملة قسمية ، إنما هي جملة جواب القَسَم ، والقسم محذوفٌ ، والقسمُ وجوابُه خبر للمبتدأ ، إذ لا ينتظم من « أحَد » ، والمجرور إسناد؛ لأنه لا يفيد ، وإنما ينتظم الإسنادُ بالجملة القسمية وجوابها ، فذلك هو مَحَطُّ الفائدةِ ، وكذلك أيضاً الخبرُ هو { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ } ، وكذلك « إِلاَّ وَارِدُهَا » ؛ إذ لا ينتظم مما قبل « إلاَّ » تركيب إسناديٌّ « . [ قال شهاب الدين ] وهذا - كما تَرَى - قد أساء العبارة في حق الزمخشريِّ؛ بما زعم أنه غلط ، وهو صحيح مستقيم ، وليت شعري كيف لا ينتظم الإسنادُ من » أحَد « الموصوفِ بالجملة التي بعده ، ومن الجارِّ قبله؟ ونظيرُه أن تقول : » مَا فِي الدَّارِ رَجُلٌ إلاَّ صَالِحٌ « فكما أن » فِي الدَّار « خبر مقدَّم ، و » رَجُلٌ « مبتدأ مؤخر ، و » إلاَّ صَالِحٌ « صفته ، وهو كلامٌ مفيد مستقيمٌ ، فكذلك هذا ، غايةُ ما في الباب أنَّ » إلاَّ « دخلت على الصفة؛ لتفيدَ الحصْر ، وأما ردُّه عليه حيث قال : جملةٌ قسميَّة ، وإنما هي جوابُ القسَم ، فلا يَحْتاجُ إلى الاعتذار عنه ، ويكفيه مثلُ هذه الاعتراضاتِ .

واللام في « ليُؤمِنَنَّ » جوابٌ قسمٍ محذوف ، كما تقدَّم . وقال أبو البقاء : « ليُؤمِنَنَّ جواب قسم محذوفٍ ، وقيل : أكَّدَ بها في غير القسَم؛ كما جاء في النفي والاستفهام » ، فقوله : « وقيل . . . إلى آخره » إنما يستقيم ذلك ، إذا أعَدْنا الخلاف إلى نونِ التوكيد؛ لأنَّ نون التوكيد قد عُهِد التأكيدُ بها في الاستفهام باطِّرادٍ ، وفي النفي على خلاف فيه ، وأما التأكيدُ بلام الابتداء في النفي والاستفهام ، فلم يُعْهَد ألبتة ، وقال أيضاً قبل ذلك : وما مِنْ أَهْلِ الكتاب أحدٌ ، وقيل : المحذوفُ « مَنْ » وقد مرَّ نظيره ، إلا أنَّ تقديرَ « مَنْ » هنا بعيدٌ ، لأن الاستثناء يكون بعد تمام الاسْمِ ، و « مَنْ » الموصولة والموصوفةُ غيرُ تامَّة « ، يعني أن بعضهم جعل ذلك المحذوفَ لفظَ » مَنْ « ، فيقدِّر : وإنْ مِنْ أهْلِ مَنْ إلاَّ ليُؤمِنَنَّ ، فجعلَ موضع » أحَد « لفظ » مَنْ « ، وقوله : » وقَدْ مرَّ نظيره « ، يعني قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله } [ آل عمران : 199 ] ومعنى التنظير فيه أنه قد صرَّح بلفظ » من « المقدَّرةِ ههنا .
وقرأ أبَيٌّ : » ليُؤمِنُنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ « بضم النون الأولى مراعاة لمعنى » أحَد « المحذوف ، وهو وإن كان لفظه مفرداً ، فمعناه جمع ، والضمير في » به « لعيسى - عليه السلام - ، وقيل : لله تعالى ، وقيل : لمحمَّد - عليه السلام - ، وفي » مَوْته « لعيسى ، ويُروى في التفسير؛ أنه حين ينزل إلى الأرض يُؤمِنُ به كلُّ أحدٍ ، حتى تصيرَ المِلّةُ كلُّها إسلامية وهو قَوْلُ قَتادَة ، وابن زَيْدٍ وغيرِهِما ، وهو اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ .
وقيل : يَعُود على » أحَد « المُقدَّر ، أي : لا يَمُوت كِتَابِيٌّ حتى يُؤمن بعيسى قبل مَوْتِهِ عند المُعَايَنَةِ حين لا يَنْفَعُهُ .
ونُقِل عن ابن عَبَّاسٍ ذلك ، فقال له عِكْرِمة ، أفَرأيْتَ إن خَرَّ بَيْتٌ أو احْتَرَق أو أكَلَهُ سَبُعٌ؟ قال : لا يمُوتُ حَتَّى يُحَرِّكَ بها شَفَتَيْهِ ، أي : بالإيمَانِ بعيسى .
وروى شَهْر بن حَوْشب [ عن الحَجَّاج؛ أنه ] قال يا شهر آية في كتاب الله ما قَرأتُهَا إلاَّ في نفسي مِنْهَا شَيْءٌ ، يعني : هذه الآيَةَ؛ فإني أضْرِبُ عُنُقَ اليَهُودِي ، ولا أسْمَعُ منه ذلِك ، فقُلْتُ : إن اليَهُودِي إذا حَضَرَهُ المَوْتُ ضَرَبَت الملائِكَة وَجْهَهُ وَدبُرَهُ ، وقالوا : يا عَدُوَّ اللَّهِ ، أتاك عِيسَى نَبِيّاً فكَذَّبْت [ به ، فيقُولُ : ] آمنْتُ أنه عَبْدُ الله ، فأهْلُ الكِتَابِ [ يؤمِنُون ] به ، ولكن حَيْثُ لا يَنْفَعُهُم ذَلِك الإيمانُ ، فاسْتَوَى الحَجَّاج جَالِساً فقال : مِمَّن نَقَلْتَ هذا؟ فقال : حَدَّثَنِي [ به ] محمد بن عَلِيّ ابن الحَنفِيَّة ، فأخذ يَنْكُتُ في الأرْضِ بِقَضيبٍ ، ثم قال : أخَذْتهَا من عَيْنٍ صَافِيَةٍ .
وقرأ الفَيَّاض بن غزوان » وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب « بتشديد » إنَّ « ، وهي قِرَاءةٌ مَرْدُودَةٌ لإشْكَالِهَا .

فصل
رَوَى أبُو هُرَيْرَة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « يُوشِكُ أنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابن مَرْيَمَ حَكَماً عَدْلاً ، يَكْسِرُ الصَّلِيبَ ، ويَقْتُلُ الخِنْزِيرَ ، ويَضَعُ الجزْيَةَ ، ويَفِيضُ المَالُ حَتَّى لا يَقْبَلُه أحَدٌ ، وتميلُ في زَمَانِهِ المِلَلُ كُلُّهَا إلى الإسْلامِ ، ويَقْتل الدَّجَّال ، فيمْكُثُ في الأرْضِ أرْبَعين سَنَةً ، ثم يُتَوَفَّى فيُصَلّى عليه المُسْلِمُون » وقال أبو هريرة اقْرَءُوا إن شِئْتُم : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } أي : قبل مَوْتِ عيسى ابن مريم - [ عليه السلام ] - ثم ليعيدها أبو هُرَيْرَة ثلاث مَرَّاتٍ .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : والفَائِدَةُ في إخْبَارِ الله - تعالى - بإيمانِهِم بعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِم - أنَّهُم متى عَلِمُوا أنه لا بُدَّ لهم من الإيمَانِ به لا مَحَالَة ، مع كَوْنِه لا يَنْفَعُهُم الإيمانُ في ذَلِك الوَقْتِ ، فلا يُؤمِنُوا به حَالَ ما يَنْفَعُهُم ذلك الإيمَانُ .
قوله سبحانه { وَيَوْمَ القيامة } العالم فيه « شَهِيداً » وفيه دليلٌ على جوازِ تقدُّم خبر « كان » عليها؛ لأنَّ تقديمَ المعمولِ يُؤذِن بتقديمِ العامل ، وأجاز أبو البقاء أن يكون منصوباً ب « يكُون » وهذا على رأي مَنْ يجيز ل « كَان » أن تعمل في الظرفِ وشبهه ، والضميرُ في « يكُون » لعيسى يعني : يكُون عيسى عليهم شَهيداً : أنه قد بَلَّغَهُم رِسَالة رَبِّه ، وأقَرَّ بالعُبُودِيَّة على نفْسِهِ مُخْبِراً عنهم { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [ المائدة : 117 ] وكل نَبِيٍّ شَاهِدٌ على أمَّتِهِ ، وقيل : الضَّميرُ في « يكُونُ » لمحمَّدٍ - عليه السلام - .

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)

قوله - تعالى - : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ } الآية لمَّا ذكر قَبَائِح أفْعَالِ اليَهُودِ ، ذكر عَقِيبَهُ تشديدَهُ - تعالى - عليْهِم في الدُّنْيَا والآخِرَةِ ، أما تَشْدِيدُه في الدُّنْيَا ، فهو تَحْرِيمُ الطَّيِّبَاتِ عليهم وكانتْ مُحَلَّلَةً لهم قَبْل ذلك؛ لقوله - تعالى - : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] إلى قوله [ - تعالى - ] : { ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ } [ الأنعام : 146 ] وقيل : لمحمد عليه السلام .
قوله سبحانه : « فَبِظُلمٍ » : هذا الجارُّ متعلِّق ب « حَرَّمْنَا » والباء سببية ، وإنما قُدِّم على عاملِه؛ تنبيهاً على قبح سبب التحريمِ ، وقد تقدَّم أنَّ قوله : « فَبِظُلْمٍ » بدلٌ من قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } ، وتقدَّم الردُّ على قائله أيضاً فأغْنَى عن إعادته ، و « مِنَ الذِينَ » صفة ل « ظُلْم » أي : ظُلْمٍ صادر عن الذين هادُوا ، وقيل : ثَمَّ صفةٌ للظلم محذوفةٌ للعلْمِ بها ، أي : فبظُلْمٍ أيِّ ظُلْمٍ ، أو فبِظُلْمٍ عَظِيمٍ؛ كقوله : [ الطويل ]
1900- فَلاَ وَأبِي الطَّيْرِ المُرِبَّةِ بِالضُّحَى ... عَلَى خَالِدٍ لَقَدْ وَقَعْتِ عَلَى لَحْمِ
أي : لَحْمٍ عظيمٍ .
قوله جلَّ وعلا : « أُحِلَّتْ لَهُمْ » هذه الجملةُ صفةٌ ل « طَيِّبَات » فمحلُّها نصبٌ ، ومعنى وصفها بذلك ، أي : بما كانَتْ عليه مِنَ الحِلِّ ، ويوضِّحه قراءة ابن عباس : « كانَتْ أُحِلَّتْ لَهُم » والمُرَادُ من ظُلْمِهِم : ما تقدَّم ذِكْرُه من نَقْضِ الميثاقِ ، وكُفْرِهِم بآيَاتِ اللَّهِ ، وبُهْتَانِهِم على مَرْيَمَ ، وقولهم : « إنا قتلنا المسيح » { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ } وهو ما ذُكِرَ في سُورَةِ الأنْعَامِ [ الأنعام : 146 ] « وبصَدِّهِمْ » وبصرْفِهِم أنْفُسهم وغيرهم { عَن سَبِيلِ الله } عن دين اللَّهِ .
قوله : « كثيراً » فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مفعول به ، أي : بصدِّهم ناساً ، أو فريقاً ، أو جمعاً كثيراً ، وقيل : نصبُه على المصدرية ، أي : صَدّاً كثيراً ، وقيل : على ظرفية الزمان ، أي : زماناً كثيراً ، والأوَّل أوْلَى؛ لأنَّ المصادر بَعْدها ناصبةٌ لمفاعليها ، فيجري البابُ على سَنَنٍ واحدٍ ، وإنما أعيدتِ الباءُ في قوله : « وَبِصَدِّهِمْ » ولم تَعُدْ في قوله : « وأخْذِهِمْ » وما بعده؛ لأنه قد فُصِلَ بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولاً للمعطوف عليه ، بل بالعامل فيه وهو « حَرَّمْنَا » وما تعلَّق به ، فلمَّا بَعُد المعطوف من المعطوف عليه بالفصْلِ بما ليس معمولاً للمعطُوف عليه ، أعيدت الباءُ لذلك ، وأمَّا ما بعده ، فلم يُفْصَلْ فيه إلا بما هو معمولٌ للمعطُوفِ عليه وهو « الرِّبَا » . { وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } في التوراة .
والجملةُ من قوله تعالى : { وَقَدْ نُهُواْ عَنْه } : في محلِّ نصب؛ لأنها حاليةٌ ، ونظيرُ ذلك في إعادة الحرفِ وعدمِ إعادته ما تقدَّم في قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } [ الآية 155 ] الآية . [ وبِالبَاطِلِ « يجوز أن يتعلق ب » أكْلِهِم « على أنها سببيةٌ أو بمحذوفٍ على أنها حال من » همْ « في » أكْلِهِمْ « ، أي : ملتبسين بالباطل .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75