كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

ولكنَّ المراد أنَّ الجارَّ مقدَّرُ بالفعل ، وحينئذٍ تؤولُ إلى جملةٍ فعليّة ، أي : كما استقرَّ لهم آلهةٌ .
الثاني : أن تكون « ما » كافَّةً لكاف التَّشبيه عن العمل ، فإنَّهَا حرفُ جر ، وهذا كما تُكَفُّ رُبَّ فيليها الجملُ الاسميَّة ، والفعليَّة ، ولكن ليس ذلك على سبيل الوجوب ، بل يجوزُ في الكافِ وفي « رُبَّ » مع « ما » الزَّائدة بعدهما وجهان : العَمَلُ والإهمالُ ، وعلى ذلك قول الشَّاعر : [ الطويل ]
2567 - وَنَنْصُرُ مَوْلانَا ونَعْلَمُ أنَّهُ ... كَمَا النَّاس مَجْرُومٌ عَليْهِ وجَارِمُ
وقول الآخر : [ الخفيف ]
2568 - رُبَّمَا الجَامِلُ المؤبِّلُ فِيهِمْ ... وعَنَاجِيحُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ
وروي برفع « النَّاس ، والجامل » وجرِّهما ، هذا إذا أمكن الإعمالُ ، إمَّا إذَا لم يمكن تَعَيَّنَ أن تكونَ كافَّةً كهذه الآية ، إذا قيل : بأن « ما » زائدة .
الثالثُ : أن تكون « ما » بمعنى « الذي » ، و « لَهُمْ » صلتها ، وفيه حينئذٍ ضميرٌ مرفوعٌ مستتر ، و « آلهة » بدلٌ من ذلك الضَّمير ، والتَّقديرُ : كالذي استقَرَّ هو لهم آلهة .
وقال أبُو البقاءِ - في هذا الوجه - : والعَائِدُ محذوفٌ ، و « آلهة » بدلٌ منه ، تقديره : كالَّذِي هُوَ لهُم وتَسْميتُهُ هذا حَذْفاً تَسَامحٌ ، لأنَّ ضمائرَ الرفع إذا كانت فاعلةٌ لا تُوسف بالحذف ، بل بالاستتار .
قوله إنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ . هؤلاءِ إشارة لِمَنْ عَكَفُوا على الأصنام ، ومُتَبَّرٌ فيه وجهان : أحدهما : أن يكون خبراً ل « إنَّ » و « مَا » موصولةٌ بمعنى « الَّذي » وهُمْ فِيهِ جملةٌ اسميةٌ صلةٌ وعائده ، وهذا الموصولُ مرفوعٌ باسم المفعول فتكون قد أخْبَرْتَ بمفرد رفعت به سَبَبّاً .
والثاني : أن يكون الموصولُ مبتدأ ، ومُتَبَّرٌ خبره قُدِّم عليه ، والجملةُ خبرٌ ل « إنَّ » .
قال الزخشريُّ : وفي إيقاع « هؤلاء » اسماً ل « إنَّ » ، وتقديمُ خبر المبتدأ من الجملة الواقعةِ خبراً لها وسمٌ لعبدة الأصنام بأنَّهم هم المُعَرَّضُونَ للتَّبَار ، وأنَّهُ لا يَعْدُوهُم ألْبتَّة ، وأنَّهُ لهم ضربةُ لازم ، ليحذِّرهم عاقبة ما طلبوا ، ويبغض إليهم ما أحَبُّوا .
قال أبُو حيَّان : « ولا يتعيَّنُ ما قاله من تقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً ل » إنَّ « ، لأنَّ الأحْسَنَ في إعراب مثل هذا أن يكونُ مُتَبَّرٌ خبراً » إنَّ « وما بعده مرفوعٌ » فذكر ما قرَّرْتُهُ ، ونظَّره بقولك : « إنَّ زَيْداً مضروبٌ غلامُهُ » .
قال : فالأحْسَنُ أن يكون « غلامه » مرفوعاً ب « مضروب » ، ثم ذكر الوجه [ الثاني ] وهو أن يكون « مُتَبَّرٌ » خبراً مقدماً من الجملة ، وجعله مرجوحاً .
وهو كما قال ، لأنَّ الأصلَ في الأخبارِ أن تكون مفردةً ، فما أمكن فيها ذلك لا يُعْدل عنه ، إلا أنَّ الزمخشريَّ لم يذكر ذلك على سبيل التَّعيين ، بل على أحد الوجهين وقد يكونُ هذا عنده أرجحَ من جهة ما ذكر من المعنى ، وإذا دار الأمر بين مُرَجِّح لفظيّ ، ومُرَجِّح معنويٍّ فاعتبارُ المعنويِّ أولى ، ولا أظُنُّ حَمَلَ الزمخشري على ذلك إلا ما ذكرت .

وقوله { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } كقوله { مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } من جواز الوجهين وما ذُكِر فيهما .
والتَتْبيرُ : التَّكسير ، والتَّحطيم . والبطلان قيل : عدم الشَّيءِ إمَّا بعد ذاته ، وإما بعدم فائدته ومقصوده .
قوله : « أغَيْرَ اللَّهِ » الهمزةُ للإنكار ، والتَّوبيخِ ، وفي نَصْبِ غير وجهان : أحدهما : أنَّه مفعولٌ به ل « أبْغِيكُمْ » على حذفِ اللاَّمِ ، تقديره : أبغي لكم غير اللَّهِ ، أي : أطلُبُ لكم فَلَمَّا حذف الحرف ، وصل الفعل بنفسه ، وهو غيرُ منقاص ، وفي إلهاً على هذا وجهان : أظهرهما : أنَّهُ تمييز ل « غير » ، والثاني : أنَّهُ حالٌ ، ذكره أبو حيان وفيه نظر .
والثاني : من وجهي « غير » : أنَّهُ منصوب على الحال من إلهاً وإلهاً هو المفعول به ل « أببْغِيكُمْ » على ما تقرَّرَ صفةُ النَّكرةِ عليها نُصِبتْ حالاً .
وقال ابنُ عطيَّة : و « غير » منصوبة بفعل مضمر ، وهذا هو الظَّاهِرُ ، ويجوزُ أن يكون حالاً . وهذا الذي ذكره من إضمار الفعل لا حاجةَ إليه فإن أرَادَ أنَّهُ على الاشتغال فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ شرطهُ أن يعمل المفسِّر في ضميرِ الأوَّل ، أو سببه .
قوله : « أبْغِيكُمْ » قال الواحديُّ .
يقال : بَغَيْتُ فلاناً شيئاً وبغيتُ له .
قال تعالى : { يَبْغُونَكُمُ الفتنة } [ التوبة : 47 ] أي : يبغون لكم . والمعنى : أطلبُ لكم غير اللَّه معبوداً .
واعلم أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما قالوا له : { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } أجابهم بوجوهٍ كثيرة : أوَّلُهَا : حكم عليهم بالجَهْل فقال : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } .
وثانيها : قوله : { إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } أيْ : بِسَبَبِ الخسران والهلاك .
وثالثها : قوله : { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي هذا العَمَلُ الشَّاقُّ لا يفيدُهم نفعاً في الدُّنْيَا والدِّينِ .
ورابعها : استفهامُهُ منهم على وجه الإنكار والتَّوبيخ ، فقال : { أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين } أي : أن الإله ليس شيئاً يطلب ويتخذ ، بل الإله هو الذي يكون قادراً على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة ، وجميع النِّعم ، وهو المُرَادُ بقوله : { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين } ، فهذا هو الذي يجبُ على الخلق عبادته ، فكيفَ يجوزُ العُدُولُ عن عبادته إلى عبادة غيره .
قوله : { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ } يجوز أنْ يكون في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، إمَّا من اللَّهِ وإمَّا من المخاطبين ، لأنَّ الجملةَ مشتملةٌ على كلٍّ مِنْ ضَميرَيْهِمَا ، ويجوزُ ألاّ يكونَ لها محلٌّ ، لاستئنافها .
وفي هذا التَّفضيل قولان : الأول : أنَّهُ تعالى فضلكم على علامي زمانِكم ، الثاني : أنَّهُ تعالى خَصَّهمْ بتلك الآياتِ القاهرةِ ، ولم يحصل مِثْلُهَا لأحد من العالمين ، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصَال ، مثل : رجل تعلم علماً واحداً ، وآخر تعلم علوماً كثيرة سوى ذلك العلم ، فصاحب العلم الواحدِ يفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحدِ ، إلاَّ أنَّ صاحب العلوم الكثيرة يفضل على صاحب العلم الواحد في الحقيقة .

وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

قوله : { وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم } . قرأ العامة مسنداً إلى المُعَظِّم ، وابْنُ عامر أنْجَاكُمْ مسنداً . إلى ضمير اللَّهِ تعالى جرياً على قوله : « وَهُوَ فَضَّلَكُمْ » ، وقرئ : « نَجَّيْنَاكُمْ » مُشِدّداً ، و [ قد ] تقدَّم الخلافُ في تشديد « يقتلون » وتخفيفها قبل هذه الآية ، وتقدَّم في البقرةِ إعراب هذه الآية وتفسيرها .
فصل
والفائدةُ في ذكرها ههنا : أنَّهُ تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة ، فكيف يليقُ الاشتغالُ بعبادة غير اللَّهِ تعالى .
قوله : { وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ } تقدَّم الخلافُ في « وَعَدْنَا » و « وَاعَدْنَا » وأنَّ الظَّرْفَ بعد مفعول ثاني على حذفِ مضافٍ ، ولا يجوزُ أن يكون ظرفاً لِفسادِ المعنى في البقرة فكذا هنا ، أي : وَعَدْنَاهُ تمامَ ثلاثين ، أو إتيانها ، أو مناجاتها .
قوله : { وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } في هذا الضمير قولان : أحدهما : أنَّهُ يعود على المُواعدةِ المفهومةِ من وَاعَدْنَا أي : وأتممنا مواعدته بعشر .
الثاني : أنَّهُ يعود على ثلاثين قاله الحوفي .
قال أبُو حيَّان : ولا يظهر؛ لأنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً فتتمَّ بعشر ، وحُذِف تمييز عشر لدلالة الكلام عليه أي : وأتْمَمْنَاهَا بعَشْرٍ ليالٍ ، وفي مصحف أبي وَتَمَّمْنَاهَا بالتَّضعيف ، عَدَّاهُ بالتَّضْعِيفِ .
قوله : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ } الفَرْقُ بين الميقاتِ ، والوَقْتِ ، أن الميقاتَ : ما قُدِّرَ فيه عملٌ من الأعمال ، والوقت : وقت الشَّيءِ من غير تقدير عملٍ ، أو تقريره .
وفي نصب « أرْبَعِينَ » أربعةُ أوجُهٍ :
أحدها : أنَّهُ حال .
قال الزَّمخشريُّ : « وأربَعِينَ » نصب على الحَالِ : أي تَمَّ بالغاً هذا العدد .
قال أبو حيان فعلى هذا لا يكون الحال « أربعين » ، بل الحالُ هذا المحذوف فينافي قوله .
قال شهابُ الدِّين : لا تنافي فيه ، لأنَّ النُّحاةَ لم يزالوا ينسبون الحكم للمعمول الباقي بعد حذفِ عامله المنوب عنه ، وله شواهد منها : زيد في الدَّارِ ، أو عندك .
فيقولون : الجارُّ والظَّرْفُ خبر ، والخبرُ في الحقيقة : إنَّمَا هو المحذوفُ المقدَّرُ العاملُ فيهما ، وكذا يقولون : جاء زيدٌ بثيابه ، ف « بثيابه » حال ، والحال إنَّمَا هو العاملُ فيه إلى غير ذلك وقدَّرَهُ الفارسي ب « معدوداً .
قال : كقولك : تَمَّ القوم عشرين رجلاً ، أي : معدودين هذا العدد وهو تقديرٌ حسنٌ .
الثاني : أنَّهُ ينتصبُ أرْبَعِينَ على المفعولِ به .
قال أبُو البقاءِ : » لأنَّ معناه بلغ ، فهو كقولهم : بَلَغَتْ أرْضُكَ جريبين « أي : بتضمين » تَمَّ « معنى » بَلَغَ « .
الثالث : أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرف .
قال ابْنُ عطيَّة : » ويصحُّ أن يكون أربعين ظرفاً من حيث هي عددُ أزمنة « ، وفي هذا نظرٌ ، كيف يكون ظرفاً للتَّمام ، والتَّمامُ إنما هو بآخر جزء من تلك الأزمنة؟ إلا بتجوَّزٍ بعيد ، وهو أنَّ كلَّ جزءٍ من أجزاء الوقت سواء كان أولاً أم آخراً إذا نقص ذهب التَّمامُ .

الرابع : أن يَنْتَصِبَ على التَّمييز
قال أبُو حيَّان : والأصل : فَتَمَّ أربعون ميقاتُ ربّه ، ثمَّ أسند التَّمامَ إلى ميقات وانتصب أربعون على التَّمييز . فهو منقولٌ من الفاعليَّة ، يعني فيكون كقوله : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] وهذا الذي قاله وجعلهُ هو الذي يظهر يشكل بما ذكره هو في الرَّدِّ على الحُوفيِّ؛ حيثُ قال هناك « إنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً ، فَتتمَّ » لذلك ينبغي أن يقال هنا : إن الأربعين لم تكن ناقصة فتتم فكيف يُقدِّر : فتَمَّ أرْبَعُون ميقاتُ ربِّهِ؟ فإن أجاب هنا بجوابٍ ، فَهُوَ جوابٌ هناك لِمَنِ اعترضَ عليه .
وقوله : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } في هذه الجملة قولان :
أظهرهما : أنَّهَا للتأكيد ، لأنَّ قوله قبل ذلك : « وأتْمَمْنَاهَا بعشْرٍ » فُهِمَ أنَّها أربعون ليلةً .
وقيل : بل هي للتَّأسيس ، لاحتمالِ أن يتوهَّم مُتوهِّمٌ بعشر ساعات ، أو غير ذلك ، وهو بعيدٌ .
وقوله رَبِّهِ ولم يقل : مِيَقاتُنَا جَرْياً على « واعَدْنَا » لِمَا في إظهار هذا الاسمِ الشَّريف من الاعترافِ بربوبية اللَّه له وإصلاحه له .
فصل
روي أنَّ موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - وعد بني إسرائيل وهو بمصر : إن أهلك اللَّه عدوَّهم؛ أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلمَّا هلك فرعونُ سأل موسى ربه الكتاب فهذه الآيةُ في بيان كيفية نزول التَّوراةِ .
فصل
فإن قيل : « الأربعون » المذكورة في البقرة : هي هذه الأربعُونَ المفصَّلةُ ههنا ، فما فائدة التَّفصيلِ؟ فالجوابُ من وجوه :
الأأول : أنَّهُ تعالى أمر موسى بصوم ثلاثين يوماً ، وهو شهرُ ذي القعدة فلمَّا تَمَّ الثَّلاثين أنكر خلوف فِيهِ فتسَوَّكَ فقالت الملائكةُ : كنا نشم من فيكَ رائحةَ المِسْكِ؛ فأفسدتهُ بالسِّواك ، فأوْحَى الله إليه أما عَلِمتَ أنَّ خلُوفَ فَم الصَّائِمِ أطْيَبُ عندي من ريح المِسْكِ؟ فأمره اللَّهُ تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحِجَّةِ لهذا السَّبَبِ .
الثاني : أنَّ الله تعالى أمرهُ بصوم ثلاثين يوماً ، وأن يعمل فيها ما يُقرِّبُه إلى اللَّهِ تعالى ، ثم أنزلَ التَّوْراةَ العشر من ذي الحِجَّةِ ، وكلَّمَهُ أيضاً فيه فهذه فائدة تفصيل الأربعين إلى الثَّلاثينَ ، وإلى العشرةِ .
قال ابنُ عبَّاسٍ ومسروق ومجاهد : الثَّلاثين ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله ، وأتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحِجَّةِ ، فعلى هذا يكون كلام ربه له يوم عيدِ النَّحْرِ .
وفي مثله أكمل اللَّهُ عزَّ وجلَّ دين محمد صلى الله عليه وسلم .
الثالث : قال أبُو مسلمٍ في سورة طه : إنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - بادر إلى ميقات ربه قبل قومه ، لقوله تعالى : { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى قَالَ هُمْ أولااء على أَثَرِي } [ طه : 83 ، 84 ] .
فجائز أن يكون موسى أتى الطُّور عند تمام الثلاثين ، فلمَّا أعلمه اللَّهُ خبر قومه مع السَّامرين ، رجع إلى قومه قبل تمامِ ما وعده ، ثمَّ عاد إلى الميقاتِ في عشر أخر ، فتم ميقات ربه أربعين ليلةً .

الرابع : قيل لا يمتنع أن يكون الوعد الأول حضره موسى عليه الصلاة والسلام وحده ، والوعد الثاني حضره المختارون معه لِيسمَعُوا كلامَ اللَّهِ ، فصار الوعدُ مختلفاً لاختلاف الحاضرين .
قوله : { وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني } الجمهور على فتح نون هَارُونَ وفيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه مجرورٌ بدلاً من أخيهِ . الثاني : أنَّه عطفُ بيان له . الثالث : أنه منصوبٌ بإضمار : أعني ، وقُرِئ شاذاً بالضَّمِّ ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ مُنَادَى حُذِفَ منه حرفُ النِّداءِ ، أي : يا هارونُ كقوله : { يُوسُفُ } [ يوسف : 29 ] .
والثاني : أنَّهُ خبر مبتدأ محذوف ، أي : هُو هارونُ . وهذا في المعنى كالوجهِ الذي تقدَّم من أنه منصوبٌ بإضمار : أعني ، فإنَّ كليهما قطع .
وقال أبُو البقاء : « ولو قُرِىءَ بالرَّفْعِ » وذكرهما ، وكأنَّهُ لم يَطَّلِعْ على أنها قراءة .
قال : « ومن دعاك منهم إلى الفَسَادِ؛ فلا تتبعه ، ولا تطعه » وقال اخْلُفْني أي : كن خليفتي في قومي وأصْلِحْ وكُنْ مصلحاً ، أو وَأصْلِحْ ما يجبُ أن يُصْلَحَ من أمور بني إسرائيل .
{ وَقَالَ موسى } عند انطلاقه إلى المناجاة لأخِيهِ هارُونَ .
فإن قيل : إن هارون كان شريك موسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - في النبوَّةِ ، فكيف جعله خليفة لنفسه؛ فإن شريك الإنسانِ أعلى حالاً من خليفته وَرد الإنسان من منصبه الأعلى إلى الأدْنَى يكون إهانة له .
فالجوابُ : أن الأمْرَ ، وإن كان كما ذكرتم ، إلاَّ أنَّ مُوسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان هو الأصل في تلك النبوَّةِ .
فإن قيل : لما كان هارُون نبيّاً ، والنَّبيُّ لا يفعلُ إلاَّ الأصلح فكيف وصَّاهُ بالإصلاح؟
فالجوابُ : أنَّ المقصودَ من هذا الأمْرِ : التَّأكيدُ كقوله تعالى : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] .
قوله : { وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا } اللام في لِمِقَاتِنَا للاختصاص ، وكذا في قوله تعالى { لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] ، وليست بمعنى عند .
قوله : { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } ، هذه الفائدة التي لأجلها حضر موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الميقات واختلفُوا في أنَّهُ تعالى كلَّمَ مُوسَى وحدَه ، أو مع أقوام آخرين . وظاهر الآيةِ أنَّهُ تعالى كَلَّمَهُ وحده؛ لأنَّهُ يدلُّ على تخصيص موصى بهذا التَّشريف .
وقال القَاضِي : « بل السَّبْعُونَ المختارُونَ سمعوا كلام الله؛ لأن الغرضَ بإحضارهم أن يخبرُوا قومَ موسى عمَّا يَجْرِي هَنَاكَ » .
فصل
دَلَّت الآيةُ على أنَّهُ تعالى يجوز أن يُرَى؛ لأنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - سأل الرُّؤية ، ولا شَكَّ أنَّه كان عارفاً بما يجب ويجوز ويمتنع على اللَّهِ ، فلو كانت الرُّؤية ممتنعة على اللَّه تعالى لما سألها ، وأنكرت المعتزلةُ ذلك ، والبحثُ في هذه المسألة مذكورة في كتب أصُولِ الدِّينِ .
فصل
نقل عن ابن عبَّاس أنه قال : جاء موسى ومعه السَّبْعُون ، وصعد موسى الجبلَ وبقي السَّبعون في أسفل الجبل ، وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى ، وكتب له في الألواح كتاباً وقرَّبُه نَجِيّاً ، فلمَّا سمع موسى صرير القلم عظم شوْقُهُ .

فقال : { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } .
قوله : « أرنِي » مفعولُه الثَّانِي محذوفٌ ، تقديره : أرني نَفسكَ ، أو ذاتكَ المقدَّسةَ ، وإنَّما حذفهُ مبالغةً في الأدب ، حيثُ لم يواجِهْهُ بالتَّصريح بالمفعول ، وأصل « أرِني » « أرْإنِي » فنُقِلَتْ حركةُ الهمزة ، وقد تقدَّم تَحْريرُه .
فصل
فإن قيل : النَّظَرُ إمَّا أن يكون عبارة عن الرُّؤية ، أو عن مقدِّمتها ، وهي تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التِمَاساً لرؤيته ، وعلى التَّقديرِ الأولِ : يكون المعنى : أرِنِي حَتَّى اراك ، وهذا فاسدٌ ، وعلى التقدير الثانِي : يكون المعنى : أرِنِي حتى أقلِّبَ الحدقة إلى جانبك وهذا فاسدٌ لوجهين : أحدهما : أنَّهُ يقتضي إثبات الجهة . والثاني : أنَّ تَقْلِيبَ الحدقةِ إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية؛ فجعله كالنَّتِيجَةِ عن الرُّؤيةِ وذلك فاسد .
فالجوابُ : أن معنى أرِنِي : اجعلني متمكناً من رؤيتك حتَّى أنظر إليك وأرَاكَ .
فإن قيل : كيف سأل الرُّؤية وقد علم أنَّهُ لا يرى؟
قال الحسنُ : هاج به الشَّوق؛ فسأل الرؤية .
وقيل : سأل الرُّؤية ظَنّاً منه أنَّهُ يجوز أن يرى في الدُّنيا .
قوله : « لَن تَرَانِي » قد تقدَّم أنَّ « لَنْ » لا يلزم مِنْ نَفْيِهَا التَّأبِيدُ ، وإن كان بعضُهم فهم ذلك ، حتى إنَّ ابن عطيَّة قال « فلو بَقينَا على هذا النَّفي المجرَّد لتضمن أنَّ موسى لا يراه أبَداً ، ولا في الآخرة لكن ورد من جهةٍ أخرى في الحدث المتواتر أنَّ أهلَ الجنَّةِ يَرَوْنَهُ » .
قال شهابُ الدِّينِ : « وعلى تقدير أنّ » لَنْ « ليست مقتضيةً للتَّأبيد ، فكلامُ ابْنِ عطيَّة وغيره مِمَّنْ يقولُ : إنَّ نفيِ المستقبل بعدها يَعُمُّ جميع الأزمنة المستقبلة - صحيح ، لكن لِمَدْرَكٍ آخَرَ ، وهو أنَّ الفعلَ نكرةٌ ، والنكرةُ في سياق النَّفي تَعُمُّ ، وللبحث فيه مجال » .
والدليل على أنَّ « لَنْ » لا تقتضي التَّأبيد قوله تعالى : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } [ البقرة : 95 ] أخبر عن اليهود ، ثم أبخر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرةِ يقولون : { لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] { ياليتها كَانَتِ القاضية } [ الحاقة : 27 ] .
فإن قيل : كيف قال : « لَن تَرَانِي » ولم يقل : لن تنظر إليَّ ، حتَّى يُطابق قوله أنظرْ إليكَ؟ فالجوابُ أنَّ النَّظَرَ لمَّا كان مقدمة للرُّؤية كان المقصودُ هو الرُّؤيةُ لا النَّظرُ الذي لا رؤية معه .
والاستدراكُ في قوله : { ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } واضح ، فإن قلت : كيف اتصل الاستدراك في قوله : { ولكن انظر إلى الجبل } فالجوابُ : المقصودُ من تعظيمُ أمر الرُّؤيةِ ، وأنَّ أحَداً لا يقوى على رؤية الله تعالى إلاَّ إذَا قواه الله بمعونته وتأييده؛ ألا ترى أنَّهُ لما ظهر أثر التَّجلي والرُّؤية للجبل اندكّ؛ فدل ذلك على تعظيم أمر الرُّؤيةِ .
فصل
وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف اتَّصل الاستدراكُ في قوله : ولكِن انظرْ .
قلت : اتَّصَلَ به على معنى أنَّ النَّظر إليَّ محالٌ فلا تطلبه ، ولكن اطلب نظراً آخر ، وهو أن تنظر إلى الجبل .

وهذا على رأيه من أنَّ الرُّؤية محالٌ مطلقاً في الدُّنيا ، والآخرة .
قوله : { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } : عَلَّقَ الرُّؤية على استقرار الجبل ، واسترقار الجبل على التَّجلي غير مستحيل إذا جعل الله له تلك القوة ، والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالاً .
قوله { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } : قال الزَّجَّاجُ : « تَجَلَّى » أي : « ظهر وبان » .
ومنه يقالُ : جلوتُ العروس إذا أبْرَزْتهَا ، وجلوتُ السَّيف والمرآة : إذا أزلت ما عليهما من الصَّدَأ . وهذا البجل أعظم جبل بمدين يقال له : زبير .
قال ابن عباس : ظهر نُور ربِّهِ للجبل .
قوله : « جَعَلهُ دَكّاً » قرأ الأخوان « دَكَّاءَ » بالمدِّ ، غير منوَّن ، على وزن « حمراء » والباقون بالقصر والتَّنوين ، فقراءةُ الأخوين تحتمل وجهين :
أحدهما : أنَّها مأخوذةٌ من قولهم : « ناقةٌ دَكَّاء » أي : منبسطة السَّنَام ، غير مرتفعة ، والمعنى جعله مستوياً . وإما من قولهم : أرض دكاء للناشزة روي أنَّهُ لم يذهب كله ، بل ذهب أعلاه .
وأمَّا قراءةُ الجماعة ف « الدَّكُّ » مصدر واقع موقع المفعول به بمعنى المدكوك ، أي : مَدْكوكاً ، أو من دكَّ ، أو على حذف مضاف أي ذا دَكّ ، والمعنى : جلعه مدقوقاً والدَّك والدَّقّ واحد ، وهو تفتيت الشيء وَسَحْقُهُ .
وقيل : تسويته بالأرض .
في انتصابه على القراءتين وجهان ، أشهرهما : أنَّهُ مفعولٌ ثان ل « جَعَلَ » بمعنى : صَيَّرَ .
والثاني - وهو رأي الأخفش - : أنَّهُ مصدرٌ على المعنى ، إذ التقدير : دَكَّهُ دَكّاً ، وأما على القراءة الأولى فهو مفعول فقط أي صيره مثل ناقة دكاء أو الأرض دكاً .
وقرأ ابنُ وثَّاب دُكّاً بضم الدَّالِ والقصر ، وهو جمع دَكَّاء بالمد ، ك : حُمْر في حمراء ، وغُرّ في غَرَّاء أي : جعله قِطَعاً .
قال الكلبي : كسراً جبالاً صغاراً . ووقع في بعض التَّفاسير أنَّه تكسر سِتَّة أجْبُلِ ، ووقعت ثلاثة بالمدينة : أحد ، وودقان ، ورضوى ، ووقعت ثلاثة بمكة : ثور ، وثبير ، وحِرَاء .
قوله : { وَخَرَّ موسى صَعِقاً } . الخُرورُ : السُّقُوطُ كذا أطلعه أبو حيَّان وقيَّدَهُ الرَّاغب بسقوطٍ يُسمع له خريرٌ ، والخريرُ يقال لصوت الماءِ والريحِ .
ويقال كذلك لما يَسْقُطُ من علوٍّ وصَعِقاً حالٌ مقارنةٌ .
قال اللَّيْثُ : الصَّعْقُ مثل الغَشْي يأخذُ الإنسانَ والصَّعْقَةُ الغشي .
يقال : صُعِقَ الرَّجُلُ يُصْعَقُ ، فهو مصعوق .
قال ابنُ عبَّاس : مَغْشياً عليه .
وقال قتادةُ : ميتاً .
يقال : صَعِقَ إذا مات { فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } [ الزمر : 68 ] فسَّرُوه بالموتِ .
وقال : { يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ } [ الطور : 45 ] أي : يموتون .
قال الزمخشريُّ : « صعق أصله من الصَّاعقة » .
قال الزمخشريُّ : « صعق أصله من الصَّاعقة » .
والقولُ الأوَّلُ أولى؛ لقوله تعالى { فَلَمَّآ أَفَاقَ } .
قال الزَّجَّاجُ : « ولا يقال للميتِ : قد أفاق من موته ، وقال تعالى في الذين ماتوا ثم أحيوا :

{ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ البقرة : 56 ] .
قوله : { فَلَمَّآ أَفَاقَ } الإفاقة : رجوعُ الفهم والعقل إلى الإنسان بعد جنونٍ أو سُكرٍ ومنه إفاقة المريض ، وهي رجوعُ قوته ، وإفاقةُ الحلب ، وهي رجوع الدِّرِّ إلى الضَّرع .
يُقال : اسْتَفِقْ ناقَتَكَ أي : اتركها حتَّى يعود لَبَنُها ، والفُواق : ما بين حَلْبَتَي الحالب . وسيأتي بيانه [ ص15 ] إن شاء الله تعالى .
قوله سُبْحَانَكَ أي : تنزيهاً لك من أن أسألك شيئاً بغير إذنك تُبْتُ إليكَ من سؤال الرُّؤية في الدُّنيا ، أو من سؤال الرُّؤية بغير إذنك . { وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } بأنك لا تُرَى في الدنيا ، أو بأنَّه لا يجوز السُّؤال منك إلاَّ بإذنك .
وقيل : أوَّلُ المؤمنين من قومي .
وقيل : من بني إسرائيل في هذا العصر .

قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)

قوله : { ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس } . الاصطفاء : استخلاص الصَّفْوَةِ أي : اخترتك واتَّخذتك صفوة على النَّاس .
قال ابنُ عبَّاسٍ : « فَضَّتْتُكَ على النَّاسِ » . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو إنِّيَ بفتح الياء ، وكذلك { أَخِي اشدد } [ طه : 30 ، 31 ] .
قوله برسالاتي أي : بسبب .
وقرأ الحرميَّان : برِسالتِي بالإفراد ، والمُرادُ به المصدر ، أي : بإرْسَالي إيَّاك ، ويجوزُ أن يكون على حذفِ مضاف ، أي : بتبليغ رسالتي . والرِّسالةُ : نَفْسُ الشَّيء المرسل به إلى الغير .
وقرأ الباقون بالجمع اعتباراً بالأنواعِ ، وقد تقدَّم ذلك في المائدةِ والأنعام .
قال القرطبيُّ : ومن جمع على أنه أرسل بضروب من الرسالةِ فاختلف أنواعها ، فجمع المصدر لاختلاف أنواعه؛ كقوله : { إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير } [ لقمان : 19 ] واختلاف المصوتين ، ووحَّدَ في قوله : لصوتُ لما أراد به جنساً واحداً من الأصوات .
قوله : « وَبِكلامي » هي قراءة العامَّةِ ، فيحتملُ أن يُرادَ به المصدرُ ، أي : بتكليمي إيَّاكَ ، كقوله : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] وقوله : [ الطويل ]
2569 - ... تُكَلِّمنِي فيها شِفَاءٌ لِمَا بِيَا
أي : بتكليمي إيَّاهَا ، ويحتملُ أن يراد به التَّوراة ، وما أوحاه إليه من قولهم للقرآن « كلام الله » تسميةً للشيء بالمصدر . وقدَّم الرِّسالةَ على الكلام؛ لأنَّها أسبق ، أو ليترقَّى إلى الأشرفِ ، وكرَّر حرف الجرِّ ، تنبيهاً على مغايرة الاصطفاء .
وقرأ الأعمش : « بِرِسَالاتِي وبِكلمِي » جمع « كلمة » وروى عنه المهدويُّ أيضاً « وتكليمي » على وزن التَّفعيل ، وهي تؤيِّدُ أنَّ الكلامَ مصدرٌ .
وقرأ أبو رجاء « بِرِسالتِي » بالإفراد و « بِكَلِمي » بالجمع ، أي : وبسمَاع كلمي .
فصل
لما طلب موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الرؤية ومنعه الله تعالى ، عدد عليه وجوه نعمه العظيمة ، وأمره بشكرها .
كأنَّهُ قال له : إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النِّعَمِ العظيمة كذا وكذا ، فلا يضيقُ صدرُكَ بسبب منع الرُّؤيةِ ، وانظر إلى أنواع النِّعمِ التي خَصَصْتُك بها واشتغل بشكرها ، والمراد : تسليةُ موسى - عليه الصلاة والسلام - عن منع الرؤية .
فإن قيل : كيف اصطفاهُ على النَّاسِ برسالاته مع أنَّ كثيراً من النَّاسِ قد سَاوَاهُ في الرسالةِ؟ فالجوابُ : أنَّهُ تعالى بيَّن أنَّهُ خصَّهُ من دون النَّاسِ بمجموع الأمرين : وهو الرسالة مع الكلام بغير واسطة ، وهذا المجموع لم يحصل لغيره ، وإنَّما قال : « عَلَى النَّاسِ » ولم يقل : على الخلق؛ لأنَّ الملائكة تسمع كلام اللَّهِ من غير واسطة كما سمعه موسى .
قال القرطبيُّ : « وَدَلَّ هذا على أنَّ قومه لم يشاركه أحدٌ منهم في التَّكليم ولا أحد من السَّبعين » .
وقوله : { فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ } أي : اقْنَعْ بما أعيتك . { وَكُنْ مِّنَ الشاكرين } ، أي : المظهرين لإحسانِي إليك ، وفضلي عليك .
يقال : دَابَّةٌ شكورٌ ، إذا ظهر عليها من السِّمن فوق ما تُعْطَى من العَلَف ، والشَّاكِرُ متعرض للمزيد؛ كما قال تعالى :

{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] .
قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً } . قوله : في الألْوَاحِ يجوز أن تكون لتعريف الماهيَّةِ ، وأن تكون للعهد؛ لأنَّهُ يروى في القصَّة أنَّهُ هو الذي قطَّعَهَا وشقَّقَهَا .
وقال ابنُ عطيَّة أل عوض من الضمير ، تقديره : في ألواحه ، وهذا كقوله : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] أي : مأواه . أمَّا كاون أل عوضاً من الضَّمير فلا يعرفه البصريون . وأمَّا قوله : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } فإنَّا نحتاجُ فيه إلى رابطٍ يَرْبِطُ بين الاسم والخبر ، والكوفيون : يجعلون أل عوضاً من الضمير . والبصريون : يُقَدِّرُونَهُ ، أي : هي المأوى له ، وأما في هذه الية فلا ضرورة تدعو إلى ذلك .
وفي مفعول « كتبنا » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّهُ « موعِظَةً » ، أي : كتبنا له مَوْعِظَةٌ وتفْصِيلاً . و { مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } على هذا فيه وجهان ، أحدهما : متعلِّقٌ ب « كَتَبْنَا » والثاني : أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنَّهُ في الأصلِ صفةٌ ل « مَوْعِظَةً » فلمَّا قُدِّم عليها نُصِبَ حالاً ، و « لِكُلِّ شيءٍ » صفة ل « تفصيلاً » .
والثاني : أنَّهُ { مِنْ كُلِّ شَيْءً } .
قال الزمخشريُّ { مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } في محل نصب مفعول « كَتَبْنَا » ، و « مَوعِظَةً وتفْصِيلاً » بدل منه ، والمعنى : كَتَبْنَا له كُلَّ شيءٍ كان بنو إسرائيل يَحْتَاجُونَ إليه في دينهم من المواعظِ ، وتفصيل الأحكامِ وتفصل الحلالِ والحرامِ .
الثالث : أنَّ المفعول محل المجرور .
وقال أبُو حيَّان - بعد ما حكى الوجه الأول عن الحوفي والثَّاني عن الزمخشري - : ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ ثالثٌ ، وهو أن يكونَ مفعولُ « كَتَبْنَا » موضع المجرور ، كما تقولُ : « أكلت من الرغيف » و « مِنْ » للتبعيض ، أي : كتبنا له أشياء من كُلِّ شيء ، وانتصب « مَوْعظَةً وتَفْصِيلاً » على المفعول من أجله ، أي : كتبنا له تلك الأشياءَ للاتِّعاظِ وللتفصيل .
قال شهابُ الدِّينِ : « والظَّاهِرُ أنَّ هذا الوجه هو الذي أراده الزَّمخشري ، فليس وجهاً ثالثاً » .
قوله : « بِقُوَّةٍ » حالٌ : إمَّا من الفاعل ، أي : ملتبساً بقوة ، وإمَّا من المفعول ، أي : ملتبسه بقوة ، أَي : بقوَّةِ دلائلها وبراهينها ، والأول أوضح . والجملةُ من قوله : « فَخُذْهَا » يُحتمل أن تكون بدلاً من قوله { فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ } وعاد الضَّميرُ علىمعنى « ما » لا على لفظها . ويحتمل أن تكونَ منصوبة بقول مضمر ، ذلك القولُ منسوقٌ على جملة « كَتَبْنَا » والتقدرُ : وكتبنا فقلنا : خُذْهَا ، والضَّميرُ على هذا عائدٌ على الألواحِ أو على التَّوراةِ ، أو على الرِّسالاتِ ، أو على كُلِّ شيءٍ؛ لأنَّهُ في معنى الأشياء .
قال القرطبيُّ : « فكأنَّ اللَّوحَ تلوح فيه المعاني . ويقال : رجل عظيم الألواح إذا كان كبيرَ عظم اليدين ، » والرِّجليْنِ « .

فصل
قال الكلبيُّ : خَرَّ مُوسَى صَعِقاً يوم الخميس يوم عرفة ، وأعطي التَّوراة يوم الجمعةِ يوم النَّحر ، واختلفوا في عدد الألواح وجوهرها فقيل : كانت عشرة ، وقيل سبعة .
وقال الواحديُّ : كانت من زُمُردَة .
وقيل : من زبرجدة خضراء ، وقيل : ياقوتة ، وقيل : من خشب سور الجنَّةِ طول كل لوح اثني عشرة ذراعاً .
وقال وهْبٌ : من صخرة صَمَّاء لَيَّنَهَا اللَّهُ لِمُوسَى .
قيل : رفع سبعها وبقيت ستة أسباعها ، وكان في الذي رفع تفصيل كلِّ شيء وفي الذي بقي الهدى والرحمة ، وليس في الآية ما يدلُّ على شيء من ذلك ، ولا على كيفية الكتابة فإن ثبت في ذلك شيء بدليل منفصل قويٍّ وجب القولُ به ، وإلاّ وجب السُّكوت عنه . وأمَّا قوله مِن كُلِّ شيءٍ فليس على العموم ، بل المراد من كلِّ شيء يحتاجُ موسى وقومه إليه في دينهم .
وقوله : { مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } فهو كالبيانِ للجملة التي قدمها بقوله : { مِن كُلِّ شَيْءٍ } ثم قال : « فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ » أي : بعزيمةٍ قويةٍ ونيَّةٍ صادقةٍ .
قوله : { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } . الظَّاهِرُ أنَّ يأخُذُوا مَجْزُومٌ جواباً للأمر في قوله وأمْرُ ولا بدَّ من تأويله ، لأنَّه لا يلزمُ مِنْ أمره إيَّاهم بذلك أن يأخُذُوا ، بدليل عصيانِ بعضهم له في ذلك ، فإنَّ شَرْطَ ذلك انحلال الجملتين إلى شرطٍ وجزاءٍ .
2570 - مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ ... إذَا مَا خِفْتَ مِنْ أمْر تبالاَ
وهو مذهبُ الكسائي .
وابن مالك يرى جوازه إذا كان في جواب « قُلْ » ، وهان لم يُذْكَرْ « قُلْ » ، ولكن ذُكر شيءٌ بمعناه؛ لأنَّ معنى « وأمُرْ » و « قُلْ » واحد .
قوله : « بِأحْسَانِهَا » يجوزُ أن يكونَ حالاً كما تقدَّم في : « بِقُوَّةٍ » ، وعلى هذا فمفعولُ « يَأخُذُوا » محذوفٌ تقديرُه : يَأخُذُوا أنفسهم ، ويجُوزُ أن تكون الباء زائدة ، وأحسنها مفعول به ، والتقديرُ : يأخُذُو أحسنها كقوله : [ البسيط ]
2571 - .. سُودُ المَحَاجِرِ لا يَقْرَأنَ بالسُّوَرِ
وقد تقدَّم تحقيقه في قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] .
و « أحسن » يجوز أن تكون للتَّفضيل على بابها ، وأن لا تكون بل بمعنى « حَسَنَة » .
كقول الفرزدق : [ الكامل ]
2572 - إنَّ الذي سَمَكَ السَّماءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتاً دَعَائِمُهُ أعَزُّ وأطْوَلُ
أي : عزيزةٌ طويلةٌ .
فإن قيل : إنَّه تعالى لمَّا تعهد بكلِّ ما في التَّوراة ، وجب أن يكون الكلُّ حسناً .
وقوله : { يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا
} يقتضي أن يكون فيه ما ليس بأحسن ، وأنَّهُ لا يجوزُ لهم الأخذ به وهو متناقض .
وأجابُوا بوجوه : منها : أنَّ تلك التَّكاليفَ منها ما هو حسن ، ومنها ما هو أحسن كالقصاص والعفو ، والانتصار ، والصبر ، أي : فمرهم أن يأخُذُوا بالأفضل فإنَّه أكثر ثواباً ، لقوله : { واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ } [ الزمر : 55 ] وقوله : { الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }

[ الزمر : 18 ] .
قالوا : فيحمل الأخذ بالأحسن على النَّدب .
ومنها : قال قُطْرُبٌ :
{ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } أي : بحسنها ، وكلها حسن؛ كقوله تعالى : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } [ العنكبوت : 45 ] وأنشد بيت الفرزدق المتقدم . ومنها : أن الحسن يدخلُ تحته الواجب ، والمندوب ، والمباح وأحسن هذه الثلاثة : الواجبُ ، والمندوبُ .
قوله : { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } جَوَّزُوا في الرُّؤية هنا أن تكون بصريَّةً ، وهو الظَّاهِرُ فتتعدَّى لاثنين ، أحدهما : ضمير المخاطبين ، والثاني : دَارَ .
والثاني : أنَّها قلبية ، وهو منقولٌ عن ابن زيد وغيره ، والمعنى : سأعْلِمُكُمْ سَيْرَ الأولين وما حَلَّ بهم من النَّكَالِ : وقيل : « دَارَ الفاسِقِينَ » ما دَارَ إليه أمرهم ، وذلك لا يُعْلم إلا بالإخبار والإعلام .
قال ابءنُ عطيَّة - معترضاً على هذا الوجه - : ولَوْ كَانَ من رؤية القلب ، لتعدَّى بالهمزة إلى ثلاثةِ مفاعيل .
ولو قال قائلك المفعولُ الثالثُ يتضمنه المعنى ، فهو مُقَدَّرٌ أي : مذمومة أو خربة أو مُسَعَّرة - على قول من قال : إنَّهَا جهنم - قيل له : لا يَجُوزُ حذفُ هذا المفعولِ ، ولا الاقتصارُ دُونَهُ ، لأنَّهَا داخلةٌ على الابتداءِ والخبرِ ، ولو جُوِّزَ لكان على قبح في اللِّسان ، لا يليق بكتاب الله تعالى .
قال أبُو حيان : « وحَذْفُ المفعُول الثَّالث في باب » أعْلَمَ « لدلالة المعنى عليه جائزٌ ، فيجوزُ في جواب : هل أعلمتَ زَيْداً عمراً منطلقاً؟ أعلمتُ زيداً عمراً ، وتحذف » منطلقاً « لدلالة الكلام السَّابق عليه » .
فصل
قال شهابُ الدِّين : هذا مُسَلَّمٌ ، لكن أيْنَ الدَّليل عليه في الكلام ، كما في المثال الذي أبرزه الشَّيْخُ؟
ثم قال : « وأمَّا تَعْليلُهُ بأنَّهَا داخلةٌ على الخَبَرِ لا يدلُّ على المنع ، لأنَّ خبر المبتدأ يجوزُ حَذْفُهُ اختصاراً ، والثانِي ، والثَّالِثُ في باب » أعْلَمَ « يَجُوزُ حذفُ كُلٍّ منهما اختصاراً » .
قال شهابُ الدِّين : « حذفُ الاختصار لدليلٍ ، ولا دليلَ هَنَا » .
ثم قال : « وفي قوله لأنَّهَا - أي : » سَأريكُمْ « - داخلةٌ على المبتدأ ، والخبر تجوُّزٌ » ويعني أنَّها قبل النَّقْل بالهمزة داخلة على المبتدأ والخبر . وقرأ الحسن : « سَأوريكُمْ » بواو خالصة بعد الهمزة وفيها تخريجان : أحدهما قاله الزمخشريُّ - : « وهي لغةٌ فاشية بالحجاز يُقَالُ : أوْرَنِي كَذَا وأوْرَيْتُهُ ، فوجهه أن يكون من أوْرَيْتُ الزَّنْدَ ، فإن المعنى : بَيِّنْهُ لي وأنِزْهُ لأستبينَه » .
والثاني : - ذكره ابنُ جنيٍّ - وهو أنَّهُ على الإشباع ، فيتولَّد منها الواو ، قال « وناسَبَ هذا كونُهُ موضعَ تهديدٍ ووعيدٍ فاحتمل الإتيان بالواو » .
قال شهابُ الدِّين : وهذا كقول الشاعر : [ البسيط ]
2573 - اللَّهُ يَعْلَمُ أنَّا فِي تَلَفُّتِنَا ... يَوْمَ اللِّقاءِ إلى أحْبَابِنَا صًورُ
وأنِّنِي حَيْثُمَا يُثْني الهَوَى بَصَرِي ... مِنْ حَيْثُمَا سَلَكُوا أدْنُوا فأنْظُورُ
لكن الإشباعَ بابُهُ الضَّرُورَةُ عند بعضهم . وقرأ ابنُ عبَّاسٍ ، وقسامة بن زيد « سأورثُكُمْ » قال الزمخشريُّ : وهي قراءة حسنةٌ ، يصحِّحُهَا قوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا القوم } [ الأعراف : 137 ] .
فصل
في قوله : { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } وجهان : الأول : أنَّ المُرادَ به التهديدَ والوعيد وعلى هذا ففيه وجهان :
أحدهما : قال ابن عباس والحسنُ ومجاهدٌ : هي : جهنم وهي مصيرهم في الآخرة ، فاحْذَرُوا أن تكونوا منهم .
وثانيهما : قال قتادةُ وغيره : سأدخلكم الشَّام؛ فأريكم منازل القُرُون الماضيةِ مثل الجبابرةِ ، والعمالقةِ ، ومنازل عادٍ وثَمُودَ الذين خالفُوا أمْرَ اللَّهِ لتعتبروا بها .
الوجه الثاني : المُرَادُ به الوعد والبشارة بأنَّ الله تعالى سيوِّرثُهم أرض أعدائهم وديارهم وهي أرض مصر ، قالهُ عطيةُ العوفيُّ؛ ويدلُّ عليه قراءة قسامة .
وقال السُّدِّيُّ : هي مصارع الكفار .

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)

قوله : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ } الآية .
قال ابْنُ عبَّاسٍ : يريد الَّذينَ يتجبَّرون على عبادي ، ويحاربون أوليائي حتَّى لا يؤمنوا سأصرفهم عن قبول آياتي والتَّصْدِيق بها ، عُوقبوا بحرمان الهدايةِ لعنادهم الحَقّ كقوله تعالى : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] . واحْتَجّ أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّهُ تعالى قد يمنع الإيمان .
وقالت المعتزلة : لا يمكنُ حمل الآية على ذلك لوجوه :
الأوّلُ : قال الجُبَّائِيُّ : لا يجوزُ أن يكون المراد منه أنَّه تعالى يصرفهم عن الإيمان؛ لأن قوله : « سَأصْرِفُ » يتناول المستقبلَ ، وقد بيَّن تعالى أنَّهُمْ كفروا وكذَّبُوا من قبل هذا الصرف ، لأنَّهُ وصفهم بكونهم : { يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق } وبأنَّهُم : { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } فدلَّت الآية على أنَّ الكُفْر قد حصل لهم في الزَّمانِ الماضي؛ فدلَّ على أن المراد من هذا الصرف ليس الكفر بالله .
الثاني : أن قوله { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي } مذكورٌ على وجه العقوبة على التَّكَبُّر والكُفْر ، فلو كان المراد من هذا الصَّرْفِ هو كفرهم ، لكان معناه أنَّهُ تعالىخلق فيهم الكفر عقوبة لهم على إقدامهم على الكفر ، والعقوبة على فعل الكفر بمثل ذلك الفِعْل المعاقب عليه لا يجوز؛ فثبت أنَّ المرادَ من هذا الصَّرفِ ليس هو الكفر .
الثالث : أنَّه تعالى لو صَرَفَهُمْ عن اليمان وصدهم عنه ، فكيف يمكن أن يقُول مع ذلك : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الانشقاق : 20 ] { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا } [ الإسراء : 94 ] فثبت أنَّ حمل الآية على هذا الوجه غير ممكن؛ فوجب حملها على وجوه أخرى :
الأول : قال الكلبي وأبو مسلم الأصفهاني : إنَّ هذا الكلام تمام لما وعد اللَّهُ موسى به من إهلاك أعدائه ومعنى صرَفَهُمْ ، أهلكَهُمْ فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ، ولا يمنع المؤمنين من الإيمان بها ، وهو تشبيه بقوله : { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى من إيذائه ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوةِ والرِّسالة .
التَّأويلُ الثَّاني : قال الجُبَّائِيُّ : سأصرفُ المتكبرين عن نَيْل ما في آياتي من العزَّة والكرَامَة المُعَدَّيْن للأنبياء ، والمُؤمنين . وإنَّمَا صرفهم عن ذلك بواسطة إنزال الذل والإذلال بهم ، وذلك يَجْرِي مجرى العقوبة على كُفْرِهِم ، وتكبرهم على اللَّهِ .
التَّأويل الثالثُ : أنَّ من الآيات ما لا يُمْكِنُ الانتفاع بها إلاَّ بعد سبق الإيمان ، فإذا كَفَرُوا فقد صَيَّرُوا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بتلك الآيات ، فحينئذٍ يصرفهم اللَّهُ عنها .
التأويل الرابع : أنَّ اللَّه عز وجل إذا علم من حال بعضهم أنَّهُ إذا شاهد تلك الآيات فإنَّه لا يستدلّ بها بل يستخف بها ، ولا يقومُ بحقِّها ، فإذا علم اللَّهُ ذلك منه ، صَحَّ أن يَصْرِفَهُ عنها .

التأويل الخامس : نقل عن الحسن أنَّه قال : إنَّ من الكفار من بالغ في كُفره ، وانتهى إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه ، فالمراد من قوله : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي } هؤلاء .
فصل
المُرضادُ من الصَّرْفِ المَنْع ، والمُرَادُ بالآيات : الآياتُ التسع الَّتي أعطاها اللَّهُ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - والأكثرون على أنَّ الآية عامَّة . ومعنى « يَتَكَبَّرُونَ » : أي : يَرَوْنَ أنَّهُم أفضل الخَلْقِ ، وأن لهم من الحقِّ ما ليس لغيرهم ، وصفةُ التَّكبر لا تكون إلا للَّهِ تعالى .
وقال بعضهم : التَكَبر : إظهار كبر النَّفْسِ على غيرها ، والتَّكبر صِفَةُ ذمٍّ في جميع العبادِ وصفةُ مدحٍ في حقِّ الله تعالى؛ لأنَّهُ يستحقُّ إظهار الكبر على ما سواه؛ لأنَّ ذلك في حقه حَقٌّ ، وفي حق غيره باطل .
قال عليه الصَّلاةُ والسَّلام يقولُ اللَّهُ تعالى : الطِبْريَاءُ رِدائِي والعظمةُ إزَارِي ، فمنْ نَازَعنِي فيهما حَرَّمْتُ عليه الجنَّة « .
قوله : » بِغَيْرِ الحَقِّ « فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ ، أي : يَتَكَبَّرُونَ ملتبسين بغير الحقِّ .
والثاني : أنه متعلِّق بالفعلِ قبله ، أي : يتكبرون بما ليس بحق ، والتَّكَبُّرُ بالحقِّ لا يكونُ إلاَّ لِلَّهِ تعالى خاصَّة .
قال بعضهم : وقد يكون إظْهَارُ الكبرِ على الغَيْرِ بالحقِّ ، فإنَّ للمحقّ أن يتكبَّرَ على المُبْطِلِ وفي الكلامِ المشهور : التَّكبر على المتكبر صدقةٌ .
قوله : » وإن يَرَوْا الظَّاهرُ أنَّها بصريَّةٌ ، ويجوزُ أن تكون قلبية ، والثَّاني محذوفٌ لِفَهْمِ المعنى : كقول عنترة : [ الكامل ]
2574 - وَلَقَدْ نَزلْتِ فلا تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بِمنْزِلَةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي : فلا تظني غيره واقعاً مني ، وكذا الآية الكريمة ، أي : وإن يَرَوْا هؤلاء المتكبرين كل آية جائية ، أو حادثة . وقرأ مالك بن دينارٍ « وإن يُرَوْا » مبنياً للمفعول من أري المنقول بهمزة التعدية .
قوله : « سَبِيلَ الرُّشْدِ » قرأ حمزة والكسائي هنا وأبُو عمرو في الكهف في قوله : { مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } [ الكهف : 66 ] خاصة دون الأولين فيها بفتحتين ، والباقون بضمة وسكون واختلف النَّاسُ فيهما هل هما بمعنى واحد .
فقال الجمهور نعم لغتان في المصدر كالبُخْلِ والبَخَل ، والسُّقْم والسَّقَم ، والحُزْن والحَزَن .
وقال أبُو عمرو بن العلاءِ : « الرُّشْدُ - بضمة وسكون - الصَّلاحُ في النَّظر ، وبفتحتين الدِّين » ولذلك أجمع على قوله : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً } [ النساء : 6 ] بالضمِّ والسُّكثون ، وعلى قوله { فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً } [ الجن : 14 ] بفتحتين .
ورُوي عن ابن عامر « الرُّشُد » بضمتين وكأنَّهُ من باب الإتباع ، كاليُسُر والعُسُر وقرأ السلمي الرَّشَاد بألف فيكون : الرُّشْد والرَّشَد والرَّشَاد كالسُّقْم والسَّقَم والسَّقَام .
وقرأ ابنُ أبي عَبْلَة لا يتَّخِذُوَها ، ويتَّخِذُوها بتأنيث الضَّمير ، لأنَّ السبيل يَجُوزُ تأنيثُها .
قال تعالى : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] . والمُرادُ بسَبيل الرُّشْدِ سبيل الهدى والدين ، وسَبيلَ الغَيِّ ضد ذلك . ثُمَّ بيَّن العلة لذلك الصَّرف ، وهو كونهم مُكّذِّبينَ بآياتِ اللَّهِ ، وكونهم عنها غافلين أي معرضين ، أي : أنَّهم واظبوا على الإعراضِ حتى صَارُوا بِمَنْزلةِ الغافلينَ عَنْهَا .

قوله : « ذَلِكَ » فيه وجهان : أظهرهما : أنَّهُ مبتدأ ، خبره الجارُّ بعده ، أي : ذلك الصرف بسبب تكذيبهم .
والثني : أنَّه في محلِّ نصبٍ ، ثم اختلفَ في ذلك .
فقال الزَّمخشريُّ : « صَرَفَهُمُ اللَّهُ ذلك الصَّرْفَ بعينه » . فجعله مصدراً .
وقال ابْنُ عطيَّة : فعلنا ذلك فجعله مفعولاً به وعلى الوجهين فالباءُ في بأنَّهُمْ متعلقةٌ بذلك المحذوف .
قوله : { وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } . في هذه الجملة احتمالان :
أحدهما : أنَّهَا نَسَقٌ على خبر أنَّ ، أي : ذلك بأنَّهُمْ كذّبوا ، وبأنَّهُمْ كانوا غافلين عن آياتنا .
والثاني : أنَّها مستأنفةٌ ، أخبر اللَّهُ تعالى عنهم بأنهم من شأنهم الغفلة عن الآيات وتدبرها .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)

قوله : { والذين كَذَّبُواْ } في خبره وجهان ، أحدهما : أنَّهُ الجملةُ من قوله « حَبِطَتْ أعْمالُهُم » و « هل يُجْزَونَ » - خبر ثان ، أو مستأنف والثاني : أنَّ الخبر هَلْ يجزونَ والجملةُ من قوله حَبِطَتْ في محلِّ نصب على الحالِ ، و « قَدْ » مضمرة معه ، عند من يشترط ذلك ، وصاحبُ الحال فاعلُ كَذَّبُوا .
قوله : ولقاء الآخرةِ فيه وجهان ، أحدهما : أنَّهُ من باب إضافة المصدر لمفعوله ، والفاعل محذوف ، والتقديرُ : ولقائهم الآخرة . والثاني : أنَّهُ من باب إضافة المصدر للظرف يعني : ولقاء ما وعد الله في الآخرة . ذكرهما الزمخشريُّ .
قال أبُو حيَّان : « ولا يُجيز جُلَّةُ النَّحويين الإضافة إلى الظَّرف ، لأنَّ الظَّرف على تقدير » في « ، والإضافةُ عندهم على تقدير اللاَّم ، أو » مِنْ « فإن اتُّسِعَ في العَامِل جازَ أن يُنْصبَ الظرفُ نَصْبَ المفعول ، ويجوزُ إذْ ذاك أن يُضافَ مصدرُه إلى ذلك الظَّرف المُتِّسَع في عاملِهِ ، وأجازَ بعضً النَّحويين أن تكون الإضافةُ على تقدر » في « كما يفهِمُ ظاهرُ كلام الزمخشري » .
فصل
لمَّا ذكر ما لأجله صرف المتكبرين عن آياته وأتبعه ببيان العلّة لذلك الصرف وهُو كونُهم مُكَذِّبينَ بالآياتِ غافلين عنها ، فقد كان يَجُوزُ أن يظن أنَّهُمْ يختلفون في باب العقابِ لأنَّ فيهم مَنْ يعمل بعض أعمال البرّ ، بيَّن تعالى أنه حال جميعهم ، سواء كان متكبراً أو متواضعاً ، أو قليل الإحسان ، أو كثير الإحسان ، فقال : { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخرة } يعني ذلك بجحدهم للميعاد وجراءتهم على المعاصي ، فبيَّنَ تعالى أنَّ أعمالهم محيطة .
قوله : هَلْ يَجْزوْنَ هذا الاستفهامُ معناه النَّفي ، لذلك دخلت : « إلاَّ » ولو كان معناه التقرير لكان مُوجباً ، فيبعدُ دخول « إلاَّ » أو يمتنع .
وقال الواحديُّ هنا : « لا بد من تقدير محذوفٍ أي : إلا بِمَا كانُوا أو على ما كانُوا ، أو جزاء ما كانوا » وتقريره : أنَّ نفس ما كانوا يعملونه لا يُجْزونَهُ إنَّمَا يُجْزَوْنَ بمقابلة .
فصل
احْتَجُّوا على فساد قوله أبي هاشم في أنَّ تاركَ الواجب يستحقُّ العقابَ بمجرَّد أن لا يَفْعَل الواجبَ ، وإن لَمْ يَصْدُرْ منه فعلٌ ضدَّ ذلك الواجب بهذه الآية .
قالوا : لأنّها تدلُّ على أنَّه لا جزاء إلاَّ على العملِ ، وترك الواجبِ ليس بعملٍ؛ فوجب أن لا يُجازى عليه؛ فثبت أنَّ الجزاء إنَّمَا حصل على فعل ضده .
وأجاب أبوُ هاشم : بأنِّي لا أسمِّي ذلك العقاب جزاءً ، فسقطَ الاستدلالُ .
وأجَابُوا عن هذا : بأنَّ الجَزاءَ إنَّمَا سُمِّيَ جزاءً؛ لأنَّهُ يجزي ، ويكفي في المَنْعِ عن المَنْهِيِّ ، وفي الحثِّ على المأمُور به ، فإن ترتَّب العِقَابُ على مجرد ترك الواجبِ؛ كان ذلك العقابُ كافياً في الزَّجْرِ عن ذلك التَّرك ، فكان جزاء ، فلا سبيل إلى الامتناع من تسميته جزاء .

قوله تعالى : { واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ } الآية . أي : من بعد مُضيِّة وهذابه إلى الميقات والجارَّان متعلِّقان ب « اتَّخَذَ » ، وجَازَ أن يتعلَّق بعاملٍ حرفا جَرّ متحدَا اللَّفْظِ ، لاختلافِ مَعْنيْهما لأنَّ الأولى لابتداء الغايةِ ، والثَّانية للتَّبعيضِ ، ويجوزُ أن يكون « مِن حُلِيِّهِمْ » متعلٌِّاً بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من عِجْلاً لأنَّهُ لو تأخَّر عنه لكان صفةً فكان يقال عِجْلاً من حليهم .
وقرأ الأخوان مِنْ حِليِّهم بكسر الحاء وَوجْهُهَا الإتباع لكسرة اللاَّم ، وهي قراءة أصحاب عبد الله وطلحة ويحيى بن وثاب والأعمش .
والباقون بضمِّ اللاَّم ، وهي قراءةُ الحسنِ وأبي جعفرٍ وشيبة بن نصاح ، وهو في القراءتين جمع « حَلْيِ » ك « طَيٍّ » ، فجمع على « فُعُول » ك « فَلْس » و « فُلُوس » فأصله ، حُلُويٌّ كثُدِي في « ثُدُوي » ، فاجتمعت الياء والواوُ ، وسبقت إحداهما بالسُّكُون ، فقلبت الواوُ ياء ، وأدغمت ، وكُسرت عين الكلمة ، وإن كانت في الأصل مضمومةً لتصِحَّ الياء ، ثُمَّ لك فيه بعد ذلك وجهانِ : تركُ الفاءِ على ضَمِّهَا ، أو إتباعُها للعين في الكسرةِ ، وهذا مُطَّردٌ في كل جمعٍ على « فُعُول » من المعتلِّ اللاَّم ، سواء كان الاعتلال بالياء ك « حُلِيّ » و « ثُدِي » أم بالواو نحو : « عُصِيّ » ، و « دُلِيّ » جمع عَصَا ودَلْو . وقرأ يعقوبُ « من حَلِيِّهم » بفتح الحاءِ وسكون اللاَّمِ ، وهي محتملةٌ لأن يكون « الحَلْي » مفرداً أريد به الجمعُ ، أو اسمُ جنسٍ مفرده « حَلْيَة » على حدِّ قَمْحٍ وقَمْحَةٍ ، و « عِجْلاً » مفعولُ « اتَّخَذَ » و « مِنْ حُلِيِّهم » تقدَّم حكمه . ويجوزُ أن يكون « اتَّخذَ » متعديةً لاثنين بمعنى « صَيَّرَ » فيكون : « مِنْ حُلِيِّهم » هو المفعول الثاني .
وقال أبُو البقاءِ : « وهو محذوفٌ ، أي : إلهاً » ولا حاجة إليه . والحَلْيُ : اسم لما يُحَسَّن به من الذَّهبِ والفضَّةِ .
و « جَسَداً » فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنَّهُ نعتٌ . الثَّانِي : أنَّهُ عطفُ بيان ، والثالثُ : أنَّهُ بدلٌ قاله الزمخشريُّ ، وهو أحسنُ؛ لأنَّ الجسد ليس مشتقاً ، فلا يُنْعَتُ به إلا بتأوُّلٍ ، وعطفُ البيان في النكراتِ قليلٌ ، أو ممتنع عند الجمهور ، وإنَّما قال : « جَسَداً » لئلاَّ يُتوهَّمَ أنَّهُ كان مخطوطاً ، أو مرقوماً . والجسد : الجثة .
وقيل : ذات لحم ودمٍ .
قوله : « لَهُ خُوَارٌ » في محل النَّصْبِ نعتاً ل « عِجْلاً » ، وهذا يُقَوِّي كون « جَسَداً » نعتاً؛ لأنه إذا اجتمع نعتُ وبدلٌ قُدِّم النَّعْتُ على البدلِ ، والجمهورُ على خُوَارٌ بخاء معجمة وواو صريحة ، وه صوتُ البقرِ خاصّةً ، وقد يُسْتَعَارُ للبعير ، والخَوَرُ : الضَّعْفُ ، ومنهُ أرْضٌ خَوَّارةً وريح خوار والخورانُ : مجرى الرَّوث ، وصوت البهائم أيضاً .

وقرأ عليٌّ - رضي الله عنه - وأبُو السَّمَّال : جُؤار بالجيم والهَمْز ، وهو الصَّوت الشديد .
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ والحسنُ وقتادةُ وجماهيرُ أهل التفسير : كان لبني إسرائيل عبيد يتزيَّنُونَ فيه ويَسْتعِرُونَ من القبط الحلي ، فاستعارُوا حلي القبط لذلك اليوم : فَلَمَّا أغرق اللَّهُ القبط بقي ذلك الحيل في أيدي بني إسرائيل ، فجمع السَّامريّ تلك الحلي ، واسْمُهُ موسى بنُ ظفر ، من قرية يقال لها سامرة ، وكان رجلاً مُطاعاً فيهم ، وكانُوا قد سألوا موسى - عليه السلام - أن يجعل لهم إلهاً يعبدونه ، فصاغَ السَّامري لهم من ذلك الحُلِيِّ عِجْلاً ، وألقى في فَمِهِ من تراب أثر فرس جبريل؛ فتحول عِجْلً جَسداً حَيّاً لَحْماً ودماً له خُوَارٌ .
وقيل : كان جَسَداً مُجَسَّداً من ذهب لا روح فيه ، كان يسمع منه صوتُ الرِّيح يدخل في جوفه ويخرج .
قال أكثرُ المفسِّرينَ من المعتزلة : إنَّهُ جعل ذلك العجلَ مجوفاً ، وجعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص .
وكان قد وضع ذلك التمثال في مهبِّ الرِّيح ، فكانت تدخل في تلك الأنابيبِ فيظهرُ منه صوت مخصوص يشبه خُوار العجل .
وقال آخرون : إنَّهُ جعلَ ذلك التمثال أجوف ، وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيثُ لا يشعر به النَّاس ، فيسمعوا الصوت من جوفه كالخوار ، كما يفعلون الآن في هذه التَّصَاوير التي يجرون فيها الماء كالفوارات وغيرها .
قيل : إنَّهُ ما خار إلاَّ مرة واحدة ، وقيل : كان يخور كثيراً كُلَّمَا خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم . وقال وهب : كان يَخُورُ ولا يتحَرّك .
وقال السدي : كان يخور ويمشي . ثم قال لهم هذا إلهكم وإله مُوسَى .
فإن قيل لِمَ قال : { واتخذ قَوْمُ موسى } والمتّخذ هو السّامريُّ؟
فالجوابُ من وجهين : أحدهما : أنَّ اللَّه نسب الفعل إليهم ، ولأنَّ رجلاً منهم باشره .
كما يقال : بَنُو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا ، والقائِلُ والفاعِلُ واحد ، والثاني : أنَّهُم كانوا مُريدين لاتخاذِهِ راضين به ، فكأنَّهُم اجتمعُوا عليه .
فإن قيل : لم قال : « مِنْ حُلِيِّهم » ولم يكن الحلي لهم ، وإنَّما اسْتَعارُوهَا؟
فالجوابُ : أنَّه لَما اهلك اللَّهُ قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم ملكاً لهم كقوله : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ } [ الدخان : 25 ] - إلى قوله - { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } [ الدخان : 28 ]
فصل
قيل إنَّ الذين عبدُوا العِجْلَ كانوا كل قوم موسى .
قال الحسنُ : كلهم عبدوا العجل غير هارون ، لعموم هذه الآية .
ولقول موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - : { رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي } [ الأعراف : 151 ] ، فتخصيص نفسه وأخيه بالدُّعاءِ يدلُّ على أنَّ غيرهُمَا ما كان أهلاً للدعاءِ ، ولو بَقَوْا على الإيمان لما كان الأمْرُ كذلك . وقيل : بل كان منهم من ثَبَتَ على إيمانه لقوله تعالى : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ }

[ الأعراف : 159 ] .
قوله : « ألَمْ يَرَوْا » إن قلنا : إنَّ اتَّخَذَ متعدية لاثنين ، وإنَّ الثَّاني محذوفٌ ، تقديره : واتَّخَذَ قوم موسى من بعده من حليهم عِجْلاً جَسَداً إلهاً ، فلا حاجة حينئذ إلى ادِّعاءِ حذف جملة يتوجَّه عليها هذا الإنكارُ ، وإن قلنا : إنَّها متعدية لواحد بمعنى : صَنَعَ وعَمِلَ أو متعدية لاثنين ، والثاني هو : مِنْ حُليِّهِمْ فلا بُدَّ مِنْ حذفِ جملة قبل ذلك ، ليتوَجَّه عليها الإنكار ، والتقدير : يعبدوه ، ويَرَوْا يجوز أن تكونَ العِلْمِية ، وهو الظَّاهرُ وأن تكون البصرية ، وهو بيعدٌ .
فصل
اعلم أنَّهُ تعالى احْتَجَّ على فساد هذا المذهب وكون العِجْلِ إلهاً بقوله : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } وتقرير هذا الدَّليل أنَّ هذا العِجْلَ لا يمكنه أن يُكلِّمهم ، ولا يَهْديهم إلى الصَّواب والرُّشْدِ ومَنْ كانَ كذلك كان إمَّا جَماداً ، وإمَّا حيواناً ، وكلاهما لا يصلحُ للإلهيَّةِ .
ثم قال تعالى : { اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } لأنفسهم حيثُ أعرضوا عن عبادة الله واشتغلوا بعبادة العجل .
قوله : { اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } يجُوزُ فيها وجهان : أظهرهما : أنَّهَا استئنافيةٌ ، أخبر عنهُم بهذا الخبر وأنه دَيْدنهُم وشأنهُم في كلِّ شيء فاتَّخاذُهم العجلَ من جملة ذلك ، ويجوزُ أن تكون حالاً ، أي : وقد كانُوا ، أي : اتَّخَذُوه في هذه الحالِ المستقرَّةِ لهُم وعلى هذا التفسير المتقدم .

وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)

قوله تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ } الجارُّ قائم مقام الفاعل .
وقيل القائمُ مقامه ضميرُ المصدر الذي هو السُّقُوط أي سُقِط السقوط في أيديهم ، ونقل أبو حيان عن بعضهم أنه قال : « سقط » تَتضمَّن مَفعُولاً ، وهو ههنا المصدر ، الذي هو الإسقاطُ كقولك : « ذُهِبَ بزيد » .
قال : وصوابه : وهو هنا ضميرُ المصدر الذي هو السُّقُوط؛ لأنَّ « سقط » ليس مصدرُهُ الإسقاط ، ولأن القائمَ مقام الفاعل ضميرُ المصدر ، لا المصدر ، ونقل الواحديُّ عن الأزهريِّ أن قولهم : « سُقِط في يده » ؛ كقوله امرئ القيس : [ الطويل ]
2575 - دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حجراتِهِ ... ولكنْ حَدِيثاً ما حَدِيثُ الرَّواحلِ
في كون الفعل مُسْنداً للجار ، كأنه قيل : صَاحَ المنتهبُ في حجراته ، وكذلك المراد سُقِط في يده ، أي : سقط النَّدمُ في يده .
فقوله : أي سقط النَّدم في يده ، تَصْرِيحٌ بأنَّ القائمَ مقام الفاعل حرفُ الجَرّ ، لا ضمير المصدرِ .
ونقل الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ أنه يقال : سقط في يده وأسقط أيضاً ، إلاَّ أنَّ الفرَّاء قال : سَقَطَ - أي الثلاثي - أكثرُ وأجودُ . وهذه اللَّفظةُ تُسْتعمَلُ في التندُّم والتحير . وقد اضْطربَتْ أقوالُ أهل اللَّغَةِ في أصلها .
فقال أبو مروان بن سراج اللُّغوي : « قولُ العرب سُقِط في يده مِمَّا أعْيَانِي معناهُ » . وقال الواحِدي : قَدْ بَانَ مِنْ أقوالِ المُفسِّرينَ وأهْلِ اللُّغةِ أنَّ « سُقِطَ في يدهِ » نَدم ، وأنَّه يُسْتعملُ في صفة النّادم فأمَّا القولُ في أصلِهِ وما حَدَّه فلمْ أرِ لأحَدٍ من أئَّمةِ اللُّغةِ شَيْئاً أرْتَضِيه إلاَّ ما ذكر الزَّجَّاجي فإنَّه قال : قوله تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ } بمعنى نَدمُوا ، نظمٌ لم يُسمع قبلَ القرآن ، ولمْ تعرفهُ العرب ، ولمْ يُوجَدْ ذلك في أشعارِهِم ، ويدُلُّ على صحَّةِ ذلك أنَّ شعراء الإسلام لما سَمِعُوا هذا النَّظْمَ واستعملُوهُ في كلامهم خَفِي عليهم وجهُ الاستعمال ، لأنَّ عادتَهُم لمْ تَجْرِ بِهِ .
فقال أبو نواس : [ الرجز ]
2576 - ونَشْوَةٌ سُقِطْتُ مِنْهَا فِي يَدِي ... وأبُو نواسٍ هو العالمُ النَّحْرِيرُ ، فأخطأ في استعمال هذا اللفظ ، لأنَّ « فُعِلْتُ » لا يُبْنَى إلاَّ من فعل مُتعَدٍّ ، و « سقط » لازمٌ ، لا يتعدَّى إلاَّ بحرفِ الصفة لا يقالُ : « سُقطت » كما لا يُقال : رُغبتُ وغُضِب ، إنَّما يُقَال : رُغِبَ فيَّ ، وغُضِب عَلَيَّ ، وذكر أبُو حاتمٍ : « سُقِط فلان في يده » بمعنى ندم . وهذا خطأ مثلُ قول أبي نواس ، ولو كان الأمرُ كذلك لكان النَّظْم { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ } و « سُقِطَ القومُ في أيديهم » .
وقال أبُو عُبيدة : « يُقَالُ لِمَنْ على أمْرٍ وعجز عنه : سُقِطَ في يده » .
وقال الواحِدِيُ : « وذِكْرُ اليد ههنا لوجهين أحدهما : أنه يُقال للَّذي يَحْصُلَ وإن كان ذلك مِمَّا لا يكُون في اليد : » قَدْ حصلَ في يده مكروهٌ « يشبه ما يحصُلُ في النَّفس وما يحصُل في القلب بِمَا يُرضى بالعينِ ، وخُصَّت اليدُ بالذِّكْرِ؛ لأنَّ مباشرةَ الذُّنُوبِ بها .

فاللائمةُ ترجع عليها ، لأنَّهَا هي الجارحةِ العُظْمَى ، فيُسْنَدُ إليها ما لم تُباشِرهُ ، كقوله : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] وكثيرٌ من الذُّنُوب لمْ تُقدّمهُ اليد « .
الوجه الثاني : أنَّ النَّدَمَ حدثٌ يَحْصُلُ في القلب ، وأثرُهُ يَظْهَرُ في اليد؛ لأنَّ النَّادِمَ بَعَضُّ يدَهُ ، ويضربُ إحْدَى يديْه على الأخرى كقوله : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } [ الكهف : 42 ] فتَقْلِيبُ الكفِّ عبارةٌ عن النَّدم ، وكقوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } [ الفرقان : 37 ] فلمَّا كان أثرُ النَّدم يحصُل في اليدِ مِن الوجهِ الذي ذَكَرْنَاه أضيف سقوطُ النَّدم إلى اليَدِ؛ لأنَّ الذي يَظْهَرُ للعُيُونِ من فِعْلِ النَّادم هو تَقْلِيبُ الكفِّ وعضُّ الأنامل واليدِ كَمَا أنَّ السُّرُور معنى في القلب يسْتَشْعره الإناسنُ ، والذي يظهرُ منه حالة الاهتزاز والحركةِ والضَّحك وما يَجْرِي مجراه .
وقال الزمخشريُّ : » ولمَّا سُقِطَ في أيديهمْ « أي ولمَّا اشتدَّ ندمهم؛ لأنَّ مِنْ شأن من اشتدَّ ندمُهُ وحَسْرَتُهُ أن يَعَضَّ يدهُ غماً ، فتصير يده مَسْقُوطاً فيها ، لأنَّ فاه قد وقع فيها .
وقيل : مِنْ عادةِ النَّادمِ أن يُطَأطِىءَ رَأسَهُ ، ويضع ذقنه على يده معتمداً عليها ، ويصيرُ على هيئةٍ لو نُزِعت يده لسقط على وجهه ، فكأنَّ اليدَ مَسْقُوطٌ فيها . ومعنى » في « » على « ، فمعنى » في أيديهم « كقوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] .
وقيل : هو مَأخُوذٌ من السَّقاط ، وهو كثرةُ الخَطَأ ، والخَاطِىءُ يَنْدَمُ على فعلهِ .
قال ابنُ أبي كاهل : [ الرمل ]
2577 - كَيْفَ يَرْجُونَ سِقَاطِي بَعْدَمَا ... لَفَّعَ الرَّأسَ بياضٌ وصَلَعْ
وقيل : هو مأخوذٌ من السَّقيط ، وهو ما يُغَشِّي الأرض من الجَليدِ يُشْبِه الثَّلْج .
يقال منه : سَقَطَت الأرْضُ كما يُقَال : ثلجت ، والسَّقْطُ والسَّقِيطُ يذُوبُ بأدْنَى حرارةٍ ولا يبقى . ومنْ وقع في يده السَّقِيط لمْ يَحْصُل من بغيته على طائلٍ . واعْلَمْ أنَّ » سُقِطَ في يده « عدَّهُ بعضُهم في الأفعال الَّتِي لا تتصرَّف ك » نِعْمَ وبِئْسَ « .
وقرأ ابْنُ السَّمَيْفَع سقط في أيديهم مبنياً للفاعل وفاعلُه مَضْمَرٌ ، أي : سَقَطَ النَّدمُ هذا قولُ الزَّجَّاجِ .
وقال الزمخشريُّ : » سَقَطَ العَضُّ « .
وقال ابنُ عطيّة : » سَقَطَ الخسران ، والخيبة « . وكل هذه أمثلةٌ .
وقرأ ابنُ أي عبلة : أسْقِط رباعياً مبنياً للمعفول ، وقد تقدَّم أنَّها لغةٌ نقلها الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ .
فصل
قوله : ورَأوْا أنَّهُمْ هذه قلبيَّة ، ولا حاجةَ في هذا إلى تقديم وتأخير ، كما زعم بعضهم .
قال القاضِي : يجبُ أن يكون المؤخَّرُ مقدماً؛ لأنَّ النَّدَمَ والتَّحسّر إنَّما يقعانِ بعد المعرفة فكأنه تعالى قال : ولما رأوا أنهم قد ضلّوا سقط في أيديهم لما نالهُم من عظيم الحسْرَةِ .

ويمكنُ أن يقال لا حاجة إلى ذلك ، لأنَّ الإنسانَ إذا شكَّ في العملِ الذي يُقْدِمُ عليه هل هو صوابٌ أو خطأ؟ فقد يَنْدَُ عليه من حيثُ أنَّ الإقدامَ على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأ غير جائز .
قوله : { لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } لما ظهر لَهُمْ أنَّ الذي عَمِلُوهُ كان بَاطِلاً ، أظْهَرُوا الانقطاع إلى اللَّهِ تعالى وقالوا : { لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا } .
قرأ الأخوان « تَرْحَمْنَا » و « تَغْفِر » بالخطاب ، « رَبَّنَا » بالنَّصْب ، وهي قرايةُ الشعبي وابن وثَّاب وابن مصرف والجَحْدريّ والأعمش ، وأيُّوب ، وباقي السبعة بياءِ الغيبةِ فيهما ، « رَبُّنَا » رفعاً ، وهي قراءةُ الحسنِ ، ومُجاهدٍ ، والأعرج وشيْبَةَ وأبي جَعْفَرٍ . فالنَّصبُ على أنَّهُ مُنَادى ، وناسَبهُ الخطاب ، والرَّفْعُ على أنَّه فاعلٌ ، فَيَجُوزُ أن يكون هذا الكلام صَدَرَ من جمسعهم على التَّعَاقُبِ ، أو هذا من طائفةٍ ، وهذا من طائفةٍ ، فمن غلب عليه الخوفُ ، وقوي على المُواجهةِ؛ خاطب مستقيلاً من ذنبه ، ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامهُ مُخْرج المُسْتَحِي من الخطاب؛ فأسند الفِعْلَ إلى الغَائِبِ .
قال المُفَسِّرُونَ : وكان هذا النَّدمُ والاستغفارُ منهم بَعْدَ رُجوعِ مُوسى إليهم .
قوله تعالى : { وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } : هذان حالان من « مُوسَى » عند من يُجيزُ تعدُّد الحال ، وعند من لا يُجيزه يجعل « أسِفاً » حالاً من الضَّميرِ المُسْتَتر في « غَضْبانَ » ، فتكون حالاً مُتداخِلةً ، أو يجعلُها بدلاً من الأولى ، وفيه نظرٌ لِعُسْر إدخالِهِ في أقْسَام البدلِ .
وأقربُ ما يقال : إنَّه بدلُ بَعْضٍ من كُل إن فسَّرنا الأسفَ بالشَّديدِ الغضبِ ، وهو قولُ أبِي الدَّرْدَاء وعطاء عن ابنِ عبَّاس ، واختيار الزَّجَّاجِ ، واحْتَجُّوا بقوله : { فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ } [ الزخرف : 55 ] أي : اغْضَبُونَا ، أو بدل اشتمال إن فسَّرناهُ بالحزِينِ .
وهو قول ابن عباس والحسن ، والسُّدِّي ، ومنه قوله : [ المديد ]
2578 - غَيْرُ مأسُوفٍ على زَمَنٍ ... يَنْقَضِي بالهَمِّ والحَزَنِ
وقالت عائشةُ - رضي الله عنها - : إنَّ أبا بكر رَجُلٌّ أسِيفٌ أي : حَزِينٌ .
قال الواحديُّ : « والقولان مُتقاربانِ؛ لأنَّ الغضبَ من الحُزْنِ ، والحُزْن من الغَضَبِ » ؛ قال : [ البسيط ]
2579 - . . ... فَحُزنُ كُلِّ أِي حُزْنٍ أخُو الغَضَبِ
وقال الأعشى : [ الطويل ]
2580 - أرَى رَجْلاً مِنْهُمْ أسِيفاً كأنَّمَا ... يَضُمُّ إلى كَشْحَيْهِ كَفّاً مُخَضَّبَا
فهذا بمعنى : غَضْبَان ، وحديث عائشة يدلُّ على أنَّهُ : الحزين ، فلمَّا كانا مُتقاربَيْنِ في المعنى صَحَّت البدليَّةُ .
ويقال : رَجُلٌ أسِفٌ : إذا قُصِد ثُبُوتُ الوَصْفِ واستقراره ، فإن قُصِد بِهِ الزَّمان جَآءَ على فاعل .
فصل
اختلفُوا في هذه الحال .
فقيل : إنَّهُ عند هجومه عليهم ، عرف ذلك .
وقال أبُو مسلم : بل كان عارفاً بذلك من قبل؛ لقوله تعالى : { وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفا } وإنَّما كان راجعاص قبل وصوله إليهم .
وقال تعالى - لموسى عليه الصَّلاة والسَّلام - في حال المكالمة

{ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ } [ طه : 58 ] .
قوله : قال بِئْسَمَا هذا جوابُ « لَمَّا » وتقدَّم الكلامُ على « بِئْسَمَا » ، ولكنَّ المَخْصُوصَ بالذَّم محذوفٌ ، والفاعلُ مستتر يُفَسِّرُهُ « ما خَلَفْتُمُونِي » والتقديرُ : بِئْسَ خلافة خَلَفتُمُونيهَا خلافَتُكُمْ .
فصل
فإن قيل : ما معنى قوله : « من بعدي » بعد قوله « خلفتموني » ؟
فالجواب : معناه : من بعد ما رأيتم مني من تَوْحيد اللَّهِ ، ونفي الشُّركاءِ ، وإخلاص العبادةِ له ، أو من بعد ما كتب : احمل بني إسرائيل على التَّوحيد ، وامنعهم من عبادة البقرِ حين قالوا : { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] ، ومن حقِّ الخفاء أن يسيرُوا سيرة المُستخلفين .
قوله : { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } : في « أمْرَ » وجهان ، أحدهما : أنَّهُ منصوبٌ على المفعول بعد إسْقاط الخافض ، وتضمينُ الفعل مَعْنَى ما يتعدَّى بنفسه ، والأصلُ : أعجلْتُمْ عن أمْرِ ربِّكم .
قال الزمخشريُّ : يُقال : عَجِل عن الأمرِ : ذا تركه غير تَامٍّ ، ونقيضه تَمَّ عليه ، وأعجله عنه غيره ، ويُضَمَّن معنى « سَبَقَ » فيتعدَّى تَعْديته .
فيقالُ : عَجِلْتُ الأمْرَ ، والمعنى : « أعجلتم عَنْ أمر ربكم » .
والثاني : أنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ غَيْرَ مضمنٍ معنى آخر ، حكى يَعْقُوب عجلتُ الشَّيء سَبَقْتُهُ ، وأعْجلْتُ الرَّجُلَ : اسْتَعْجَلْتُهُ ، أي : حَمَلْتُهُ على العَجَلَةِ .
فصل
قال الواحدي : « معنى العَجَلَة : التقدم بالشَّيءِ قبل وقْتِهِ ، ولذلك صارت مَذْمُومَةً والسُّرعة غر مذمومة ، لأنَّ معناها : عمل الشَّيء في أول أوقاتِهِ » .
ولقائلِ أن يقُولَ : لو كانت العجلةُ مَذْمُومَةٌ فلم قال موسى : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى } [ طه : 84 ] .
قال ابْنُ عبَّاسٍ : معنى { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } يعني : ميعاد ربكم فلمْ تَصْبِرُوا لهُ وقال الحسنُ : وعْدُ رَبكم الذي وَعَدكُم من الأربعين ، وذلك أنَّهُمْ قَدروا أنَّه إن لم يأت على رأس الثَّلاثين ، فقد مات .
وقال عطاءٌ : يريدُ أعَجِلْتُم سَخَطَ رَبّكُم .
وقال الكلبي : أعَجِلْتُم بعبادة العِجْلِ قبل أنْ يأتيكم أمْر ربكُم .
قوله : « وألْقَى الألوَاح » أي الَّتِي فيها التَّوْراةُ على الأرض من شدَّةِ الغضب .
قالت الرُّواةُ : كانتِ التَّوراةُ سبعة أٍباعٍ ، فلمَّا ألْقَاهَا انكسرت ، فرفع منها سِتَّةُ أسباعٍ ، وبقي سبع واحد فرفع ما كان من أخرا الغيب وبقي ما فيه الموعظة والأحكام من الحلا والحرام .
ولقائل أن يقول : ليس في القرآن إلاَّ أنَّه ألقى الألْوَاحَ فأما أنه ألقاها بحيث تكسّرت ، فليس في القُرآنِ وإنَّهُ جُرأة عَظِيمةٌ على كتاب الله تعالى ، ومثله لا يليقُ بالأنبياء ، ويرد هذا قوله تعالى بعد ذلك : { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب أَخَذَ الألواح } [ الأعراف : 154 ] فدلَّ ذلك على أنَّها لم تنكسر ، ولا شيء منها ، وأنَّ القائلينَ بأنَّ ستة أسباعها رفعت إلى السَّماءِ ، ليس الأمر كذلك ، وأنَّهُ أخذها بأعينها .
قوله : { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ } بذُؤابته ولحيتِهِ ، لقوله : { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } [ طه : 94 ] .
قوله : « يَجُرُّهُ إلَيْهِ » فيه ثلاثةُ أوجْهٍ : أحدها : أنَّ الجُمْلَةَ حالٌ من ضمير مُوسَى المستتر في أخَذَا ، أي : أخَذَهُ جَارّاً إليه .

الثاني : أنَّها حَالٌ من رَأس قاله أبُو البقاءِ ، وفيه نظرٌ لعدم الرَّابط .
والثالث : أنَّها حالٌ من أخِيهِ .
قال أبُو البقاءِ : « وهو ضعيفٌ » يعني من حيث إنَّ الحَالَ من المُضافِ إليه يَقِلُّ مجيئُهَا ، أو يمتنعُ عند بعضهم وقد تقدَّم أن بعضهم يُجَوّزهُ في صور ، هذه منها وهو كونُ المضافِ جزءاً من المضافِ إليه .
فصل
الطَّاعنون في عصْمة الأنبياء يقولون : إنه أخذ برأسِ أخيه يجرُّه على سبيل الإهانةِ ، والمُثْبِتُون لعصمة الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - قالوا : إنَّهُ جَرَّ أخَاهُ لِيَسْألَهُ ويستكشف مِنْهُ كيفية تلك الواقعة .
فإن قيل : فَلِمَ قَالَ : { ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي } ؟
فالجوابُ : أنَّ هارون - عليه السَّلامُ - خاف أن يتوَهّمَ جُهَّالُ بني إسرائيل أنَّ موسى غضبان عليه كما غضب على عبدة العِجل .
فقالك قد نيهتهم ، ولم يكن معي من الجمع ما أمنعهم به عن هذا العمل؛ فلا تفعل ما تُشْمِت أعدائي ، فهم أعداؤُك فإنَّ القومَ يحملون هذا الفعل الذي تفعله على الإهانة لا على الإكرام .
قوله : ابْنَ أمَّ قرأ الأخوان ، وأبو بكر ، وابن عامر هُنَا ، وفي طه ، بكسر الميم ، والباقون بفتحها . فأمَّا الفَتْحِ ففيها مذهبان .
مذهبُ البصريين : أنَّهُمَا بُنيا على الفتح ، لتركيبهما تركيب « خَمْسةَ عَشَرَ » ، فعلى هذا ليس « ابْن » مضافاً ل « أمّ » ، بل هو مركَّب معها ، فَحَركتُهَا حركةُ بناء .
والثاني : مذهب الكوفيِّينَ : وهو أنَّ « ابن » مضاف ل « أمّ » و « أمّ » مضافة لياءِ المتكلِّمِ ، وياء المُتكلِّم قد قلبت ألفاً ، كما تُقْلَبُ في المَنَادَى المُضاف إلى ياء المتكلم ، نحو : يَا غلاماً ، ثم حُذفت الألفُ واجتزىءَ عنها بالفَتْحَةِ ، كام يُجْتَزَأ عن الياءِ بالكَسْرَةِ ، فحينئذ حركة « ابْن » حركةُ إعراب ، وهو مضاف ل « أمَّ » فهي في محلِّ خفض بالإضافة .
وأمَّا قراءة الكسر فعلى رأي البصريين هو كسرُ بناءٍ لأجل ياء المتكلم ، بمعنى : أنَّا أضَفْنَا هذا الاسم المركب كلَّه لياء المتكلم ، فَكُسِر ، فَكُسِرَ آخرُه ، ثم اجتُزىء عن الياء بالكسرةِ ، فهو نظير : يا أحَدَ عشرِ ، ثم : يا أحد عشر بالحذفِ ، ولا جائز أن يكُونَا باقيين على الإضافة إذ لم يَجُزْ حذفُ الياء؛ لأنَّ الاسمَ ليس منادى ، ولكنه مضاف إليه المُنادَى ، فلم يَجُزْ حَذْفُ الياء منه .
وعلى رأي الكُوفيين يكون الكَسْرُ كسرَ إعراب ، وحُذِفَت الياءُ مُجْتَزَأ عنها بالكسرةِ كما اجتُزىء عن ألفها بالفتحَةِ ، وهذان الوجهان يَجْرِيَان ، في : « ابن أمّ » ، و « ابْنَ عَمّ » ، و « ابْنَة أمّ » ، و « ابنة عمّ » .
فصل
فاعْلَمْ أنَّهُ يجوزُ في هذه الأمثلةِ الأربعةِ خاصةً خَمْسُ لغات :
فُصْحَاهُنَّ : حذفُ الياءِ مجتزأ عنها بالكسرة ، ثم قلبُ الياءِ ساكنة أو مفتوحة ، وأمَّا غيرُ هذه الأمثلةِ الأربعة ممَّا أُضِيفَ إلى مضاف إلى ياء المتكلِّم في النِّداء ، فإنَّهُ لا يجوز فيه إلاَّ ما يجُوزُ في غير بابِ النِّداءِ ، لأنَّه ليس منادى ، نحوُ : يا غلام أبِي ، ويا غلام أمي ، وإنَّما جَرَتْ هذه الأمثلةُ خاصَّةً هذا المَجْرَى؛ تنزيلاً للكلمتين منزلة كلمةٍ واحدةٍ ، ولكثرة الاستعمالِ .

وقرىء « يا ابْنَ أمِّي » بإثبات الياءِ ساكنةً؛ ومثله قوله : [ الخفيف ]
ابْنَ أمِّي وَيَا شُقَيِّقَ نَفْسِي ... ْتَ خَلَّيْتَنِي لِدَهْرٍ شَدِيدِ
خر : [ الخفيف ]
يَا ابْنَ أمِّي فَدَتْكَ نَفْسِي ومَالِي .. .
وقرىء أيضاً : « يَا ابْنَ إمْ » بكسر الهمزة والميم وهو إتباعٌ . ومِنْ قلبِ الياءِ ألفاً قوله : [ الرجز ]
2583 - يَا ابْنَةَ عَمَّا لا تَلُومِيَ واهْجَعِي ... وقوله : [ الرجز ]
2584 - كُنْ لِيَ لا عَلَيَّ يَا ابْنَ عَمَّا ... نَدُمْ عَزيزَيْنِ ونُكْفَ الذَّمَّا
فصل
إنَّما قال : « ابْنَ أمْ » وكان هارون أخاه لأبيه ليرققه ويستعطفه .
وقيل : كان أخاه لأمِّه دون أبيه ، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين ، وأحبَّ إلى بني إسرائيل من موسى؛ لأنه كان لين الغضب .
قوله : { إِنَّ القوم استضعفوني } أي لم يلتفتوا إلى كلامي ، يعني : عبدة العجل { وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعدآء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين } أي : شريكاً لهم في عقوبتك على فعلهم .
قوله : { فَلاَ تُشْمِتْ } العَامَّةُ على ضمِّ التاء ، وسكر الميم ، وهو من « أشْمَتَ » رباعياً ، الأعداء مفعول به .
وقرأ ابْنُ محيصن « فلا تَشْمِتْ » بفتح التَّاءِ وكسر الميم ، ومجاهدٌ : بفتح التَّاءِ أيضاً وفتح الميم ، « الأعْدَاءَ » نصب على المفعول به ، وفي هاتين القراءتين تَخْرِيجَان :
أظهرهما : أن « شَمِتَ ، أو شَمَتَ » بكسر الميم أو فتحها مُتَعَدٍّ بنفسه ك : أشْمَتَ الرباعي .
يقال : شَمِتَ بي زيدٌ العَدُوَّ؛ كما يقال : أشْمَت بي العَدُوَّ .
والثاني : أنَّ تَشْمَتْ مُسْندٌ لضمير الباري تعالى أي : فلا تَشْمَتْ يا رب ، وجاز هذا كما جاز : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] ثم أضمر ناصباً للأعْدَاءِ ، كقراءة الجماعة ، قاله ابْنُ جنِّي .
ولا حاجة إلى هذا التَّكلف؛ لأنَّ « شَمِتَ » الثلاثيَّ يكون متعدِّياً بنفسه ، والإضمار على خلاف الأًصل .
وقال أبُو البقاءِ - في هذا التَّخريج - : « فلا تشمت أنت » فجعل الفاعل ضمير « مُوسَى » ، وهو أولى من إسناده إلى ضمير اللَّهِ تعالى ، وأمَّا تَنْظِيرُهُ بقوله { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } فإنَّما جاز ذلك للمقابلة في قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [ البقرة : 14 ] { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] ولا يجُوزُ ذلك في غَيْر المقابلة .
وقرأ حميد بنُ قيس « فلا تَشْمِت » كقراءة ابنِ محيصن ، ومجاهد كقراءته فيه أوَّلاً ، إلاَّ أنَّهُما رفعا « الأعْدَاء » على الفاعلية ، جعلا « شَمِتَ لازماً فرفعا به » الأعداء « على الفاعليَّة ، فالنَّهْيُ في اللَّفْظِ للمخاطب والمُرادُ به غيره كقولهم : لا أرَيَنَّكَ ههنا ، أي : لا يكن منك ما يقتضي أن تُشْمِتَ بي الأعْدَاءَ .

والإشمات والشَّماته : الفَرَحُ بِبَلِيةٍ تنالُ عَدُوَّك؛ قال : [ الكامل ]
2585 - . ... والمَوْتُ دُونَ شَماتَةِ الأعْدَاء
فصل
قيل : واشتقاقُها من شوامِتِ الدَّابة ، وهي قوائِمُهَا؛ لأنَّ الشَّماتة تَقْلِبُ قلب الحاسِد في حالتي الفرَحِ والتَّرحِ كتقلُّب شوامِت الدَّابة . وتشميت العاطس وتسميته ، بالشِّين والسِّين الدعاء له بالخير .
قال أبو عبيد : الشِّينُ أعْلَى اللُّغتين .
وقال ثَعلبٌ : الأصْلُ فيها السِّينُ من السَّمْت ، وهو القصد والهَدْي .
وقيل : معنى تشميت العاطس [ بالمعجمة ] أنْ يُثَبِّتَهُ اللَّه كما يثبت قوائم الدابة .
وقيل : بل التَّفعيل للسَّلب ، أي : أزال الله الشَّماتة به وبالسِّين المهملة ، أي : رَدَّهُ اللَّهُ إلى سَمْتِهِ الأولى ، أي : هيئته ، لأنَّهُ يحصل له انزعاج .
وقال أبُو بَكْرٍ : « يقال : شَمَّتَه وشَمَّتَ عليه » وفي الحديث : وشَمَّت عليهما .
فصل
ولمَّا تبيَّنَ لمُوسَى عُذْرُ أخيه قال : { رَبِّ اغْفِرْ لِي ما صنعت } أي : ما أقدمت عليه من الغضب ، « ولأخِي » إن كان منه في الإنكار على عبدة العجل { وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } .

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

قوله تعالى : { الذين اتخذوا العجل } الآية . المفعول الثاني من مفعولي - الاتِّخاذِ - محذُوف ، والتقديرُ ، اتَّخذوا العجل إلهاً ومَعْبُوداً ، يدلُّ على هذا المحذوف قوله تعالى : { فَقَالُواْ هاذآ إلهكم وإله موسى } [ طه : 88 ] وللمفسرين ههنا طريقان : أحدهما : المراد بالذين اتَّخَذُوا العجل قوم موسى ، وعلى هذا فيه سؤال هو أن أولئك القوم تَابَ اللَّهُ عليهم : بأن قتلوا أنفسهم في معرض التَّوْبَةِ على ذنبهم ، وإذا تاب الله عليهم فكيف قيل في حقِّهم : { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا } ؟ ويُجاب عنه بأن ذلك الغضب إنَّما حصل في الدُّنْيَا لا في الآخرة ، وهو أنَّ اللَّهَ أمرهم بقتل أنفسهم والمُرَادُ بقوله : { وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا } هو أنَّهُمْ قد ضَلُّوا فَذُلُّوا .
فإن قيل : السِّينُ في قوله سَيَنالُهُمْ للاستقبال ، فكيف يحمل هذا على حكم الدُّنيا؟
فالجواب : وأخره في ذلك الوقت أن سَيَنالُهُمْ غضبٌ من ربهم وذلَّةٌ ، فكان هذا الكلامُ سابقاً على وقوعهم في القَتْل وفي الذِّلأَّة فَصَحَّ هذا التَّأويل .
الطريق الثاني : أنَّ المُرادَ بالذين اتَّخَذُوا العجلَ أبناؤهم الذين كانوا في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فيه وجهان : أحدهما : أنَّ العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما يفعل ذلك في المناقبِ؛ يقولون للأبناء فعلتم كذا وكذا ، وإنَّمَا فعل ذلك أسلافهم كذلك ههنا .
قال عطيَّةً العوفيُّ : أراد بهم اليهود الذين كانوا في عصر النَّبي صلى الله عليه وسلم ، عَيَّرهُم بصنع آبائهم ونسبه إليهم ، ثمَّ حكى عليهم بأنَّهُ : { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ } في الآخرةِ : { وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا } أراد : ما أصَابَ بني قريظة والنَّير من القتل والجلاء .
وقال ابنُ عبَّاسٍ : هي الجزية .
الوجه الثانيك أن يكون التقديرُ : « إنَّ الذينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ » أي الذين باشرُوا ذلك سَيَنالُهُمْ أي : سينال أولادهم ، ثم حذف المضاف لدلالة الكلام عليه .
ثمَّ قال : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين } أي : ومثل ذلك النِّيل والغضب والذِّلّة « نَجْزِي المُفْترينَ » الكاذبين .
قال أبُو قلابة : « هو واللَّه جزاء كلِّ مفترٍ إلى يوم القيامة أن يذلَّه اللَّهُ » .
وقال سفيان بنُ عيينة : « هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة » .
وقال مالكُ بْنُ أنسٍ : « ما من مُبْتَدع إلاَّ ويجدُ فوق رأسه ذِلَّة » .
قوله : { والذين عَمِلُواْ السيئات } مبتدأ وخبره قوله إنَّ ربَّكَ إلى آخره . والعائد محذوف ، والتقدير : غفورٌ لهم ورحيم بهم ، كقوله : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] أي منه .
قوله : مِنْ بَعْدِهَا يجوز أن يعود الضمير على السّيِّئاتِ ، وهو الظاهر ، ويجوز أن يكون عائداً على التوبة المدلول عليها بقوله : « ثُمَّ تَابُوا » أي : من بعد التوبة .
قال أبو حيان : « وهذا أوْلَى ، لأنَّ الأوَّلَ يلزُم منه حذفُ مضافٍ ومعطوفه ، إذ التقدير : من بعد عمل السّيئات والتوبة منها » .

قوله : « وَآمَنُوا » يجوزُ أن تكونَ الواوُ للعطفِ ، فإن قيل : التَّوبة بعد الإيمان ، فكيف جاءت قبله؟ فيقال الواو لا تُرتِّبُ ، ويجز أن تكون الواوُ للحال ، أي : تَابُوا ، وقد آمنوا { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قوله : « وَلَمَّا سَكَتَ » السُّكُوتَ والسُّكَاتُ قطعُ الكلامِ ، وهو هنا استعارةٌ بديعة .
قال الزمخشريُّ : هذا مثلٌ كأنَ الغضبُّ كان يُغْريهِ على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا ، وألْقِ الألواحَ وخُذْ برأس أخيك إليك ، فترك النُّطق بذلك ، وترك الإغراء به ، ولم يستحسن هذه الكلمة ، ولمْ يَسْتفصِحْهَا كلُّ ذي طبع سليم وذوق صحيح إلاَّ لذلك ، ولأنَّهُ من قبيل شُعَب البلاغة ، وإلاَّ فما لقراءة معاوية بن قرة : ولمَّا سَكَنَ بالنُّونِ ، لا تجدُ النَّفس عندها شيئاً من تلك الهمزة وطرفاً من تلك الرَّوعة؟
وقيل : شَبَّه جمود الغذب بانقطاع كلام المُتكلِّم .
قال يونسُ : « [ سال ] الوادي ثم سكت فهذا أيضاً استعارةٌ » .
وقال الزَّجَّاجُ : مصدر : سَكَتَ الغَضَبُ : السكتةُ ، ومصدر : سَكَتَ الرَّجلُ : السُّكُوتُ « وهو يقتضي أن يكون » سكت الغضبُ « فعلاً على حدته .
وقيل : هذا من باب القلب ، والأصلُ : ولما سكت موسى عن الغضب ، نحو : أدْخَلْتُ القَلَنْسُوةَ في رَأسِي ، أي : أدخلت رأسي في القلنسوة .
قاله عكرمةُ : وهذا ينبغي أن لا يجوز لعدم الاحتياج إليه ، مع ما في القلب من الخلافِ المُتقدِّم .
وقيل المُرادُ بالسُّكوت : السُّكون والزَّوال ، وعلى هذا جاز سَكَتَ عن مُوسَى الغَضَبُ ولا يجوزُ صمت؛ لأن سَكَتَ بمعنى سكن ، وأما صَمَتَ بمعنى سدَّ فاه عن الكلام ، فلا يجوزُ في الغضب .
فصل
ظاهرُ الآية ثدلُّ على أنَّه - عليه الصلاة والسلام - لمَّا عرف أن أخاه هارون لم يقع منه تقصير وأظهر له صحة عذرة ، فحينئذ سكن غضبهُ ، وهو الوقت الذي قال فيه : { رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي } .
وقوله : » أخَذَ الألوَاحَ « ظاهر هذا يدلُّ على أن شيئاً منها لم ينكسر ، ولم يرفع منها ستة أسباعها كما نقل عن بعضهم .
وقوله : { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى } هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال من الألوَاح ، أو من ضمير مُوسَى والأوَّلُ أحسنُ . وهذا عبارةٌ عن النَّقْلِ والتَّحويل فإذا كتب كتاب عن كتاب حرف بعد حرف قلبت نُسخَةُ ذلك الكتاب ، كأنَّك نقلت ما في الأصل إلى الكتاب الثاني .
قال ابنُ عبَّاسٍ : لمَّا ألقَى موسى الألواح فتكسّرت صام أربعين يوماً ، فأعَادَ اللَّهُ الألواح وفيها نفس ما في الألواح ، فعلى هذا قوله » وفِي نُسْخَتِهَا « أي : » وفيما نسخ منها « وإن قلنا : الألواح لم تنكسر ، وأخذها موسى بأعيانها؛ فلا شك أنَّها مكتوبة من اللَّوح المحفوظ فهي نسخ على هذا التقدير .
وقوله : » هُدىً ورَحْمَةٌ « أي : هدى من الضلالة ، ورحمة من العذاب .

قوله : « لِلَّذِين » متعلق بمحذوف؛ لأنه صفةٌ لرَحْمَة أي : رحمة كائنة للَّذين ، يجوزُ أن تكون اللاَّم لامَ المفعول من أجله ، كأنَّه قيل : هُدىً ورحمةٌ لأجْلِ هؤلاء ، وهُمْ مبتدأ ويَرْهَبُونَ خبره ، والجلمةُ صلة الموصول .
قوله : لِررَبِّهم يَرْهَبُونَ . في هذه اللاَّم أربعةُ أوجُهٍ : أحدها أنَّ اللاَّم مقوية للفعل لأنَّهُ لمَّا تقدَّم معمولُه ضَعُفَ فقوي باللاَّم كقوله : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] وقد تقدَّم أنَّ اللاَّم تكونُ مقويةً حيث كان العاملُ مؤخراً أو فرعاً نحو : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ولا تُزَادُ في غير هذين إلا ضرورةً عند بعضهم؛ كقول الشاعر : [ الوافر ]
2586 - ولمَّا أنْ تَواقَفْنَا قَليلاً ... أنَخْنَا لِلكَلاكِلِ فَارْتَمَيْنَا
أو في قليل عند آخرين؛ كقوله تعالى : { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] .
والثاني : أنَّ اللاَّم لامُ العلَّةِ وعلى هذا فمفعولُ يَرْهَبُونَ محذوفٌ ، تقديره : يرهبون عقابه لأجله ، أي لأجل ربهم لا رياء ولا سمعة وهذا مذهب الأخفش .
الثالث : أنَّها متعلقةٌ بمصدرٍ محذوف ، تقديره : الذين هم رهبتهم لربهم .
وهو قول المُبَرِّدِ وهذا غيرُ جارٍ على قواعد البصريين ، لأنَّهُ يَلْزَمُ منه حذَفُ المصدر ، وإبقاءُ معموله ، وهو ممتنعٌ إلاَّ في شعرٍ ، وأيضاً فهو تقدير مخرج للكلام عن فصاحته .
الرابع : أنَّخا متعلقةٌ بفعلٍ مُقَدِّرٍ أيضاً ، تقديره : يخشعون لربَّه . وذكرهُ أبُوا البقاء ، وهو أولى مِمَّا قبله .
وقال ابْنُ الخطيبِ : قد يزادُ حرفُ الجرِّ في المفعول ، وإن كان الفعل متعدياً ، كقوله : قرأتُ في السُّورة وقرأ السُّورة ، وألْقَى يَدَهُ « وألقى بيده » ، قال تعالى { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى } [ العلق : 4 ] فعلى هذا تكون هذه اللام صلةً وتأكيداً كقوله { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، وقد ذكروا مثل هذا في قوله : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } [ آل عمران : 73 ] .

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)

قوله تعالى : واخْتَارَ مُوسَى . الآية ، « اخْتَار » يتعدَّى لاثنين ، لإى أوَّلهما بنفسه ، وإلى ثانيهما بحرف الجرِّ ، ويجوزُ حذفُهُ .
تقول : اخْتَرْتُ زيداً من الرِّجالِ ثم تتسع فتحذف « من » فتقولُ « زَيْداً الرِّجَالَ » قال : [ البسيط ]
2587 - اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إذْ رَثَّتْ خلائِقُهُمْ ... واعْقَلَّ مَنْ كَانَ يُرْجَى عندهُ السُّؤلُ
وقال الرَّاعي : [ الطويل ]
2588 - فَقُلْتُ لَهُ اخْتَرْهَا قَلُوصاً سَمِينَةً ... وناباً علينا مِثْلَ نَابِكَ فِي الحَيَا
وقال الفرزدق : [ الطويل ]
2589 - مِنَّا الذي اخْتِير الرِّجالَ سَماحَةً ... وجُوداً إذَا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعازعُ
وهذا النوعُ مقصورٌ على السَّماعِ ، حصرهُ النحاة في ألفاظ ، وهي : « اختار » و « أمَرَ » .
كقوله : [ البسيط ]
2590 - أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ مَا أمِرْتَ بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وذَا نَشَبِ
و « اسْتَغْفَرَ » ، كقوله : [ البسيط ]
2591 - سْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ العبادِ إليهِ الوَجْهُ والعملُ
و « سَمَّى » ؛ كقوله : سَمَّيْتُ ابني بِزَيْدٍ ، وإن شِئْتَ : زَيْداً ، و « دَعَا » بمعناه؛ قال : [ الطويل ]
2592 - دَعَتْنِي أخَاهَا أم عَمْرٍو ، ولمْ أكُنْ ... أخَاهَا ولمْ أرْضَعْ لَهَا بِلَبَانِ
و « كَنَى » ؛ تقولُ : كَنَيْتُه بفلانٍ ، وإن شئت : فلاناً .
و « صَدَقَ » قال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } [ آل عمران : 152 ] ، و « زَوَّجَ » ؛ قال تعالى : { زَوَّجْنَاكَهَا } . ولم يزد أبُو حيَّان عليها .
ومنها أيضاً : « حدَّث » و « نَبَّأ » و « أخْبَرَ » و « خَبَّرَ » إذا لم تُضُمَّنْ معنى « أعْلَمَ » .
قال تعالى : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } [ التحريم : 3 ] ؛ وقال : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } [ مريم : 3 ] .
وتقول حدَّثْتُكَ بكذا ، وإن شئت : كذا؛ قال : [ الطويل ]
2593 - لَئِنْ كانَ مَا حُدِّثْتُهُ اليَوْمَ صَادِقَاً ... أصُمْ في نَهَارِ القَيْظِ للشَّمْسِ بَادِيَا
و « قومه » مفعولٌ ثانٍ على أوَّلِهِمَا ، والتقديرُ : واختار موسى سبعين رجلاً من قومه ، ونقل أبُو البقاءِ عن بعضهم أنَّ « قَومَهُ » مفعول أول ، و « سَبْعِينَ » بدلٌ ، أي : بدل بعض من كل ، ثم قال : « وأرى أنَّ البدل جائزٌ على ضَعْفٍ ، وأنَّ التقدير : سَبْعِينَ رجلاً منهم » .
قال شهابُ الدِّين : إنَّما كان ممتنعاً أو ضعيفاً؛ لأنَّ فيه حذف شيئين .
أحدهما : المختار منه؛ فإنَّهُ لا بُدَّ للاختيار من مختارٍ ، ومختار منه ، وعلى البدل إنَّما ذُكِر المختارُ دون المختار منه .
والثاني : أنَّه لا بُدَّ من رابط بين البدل والمبدل منه ، وهو « مِنْهُمْ » كما قدره أبُو البقاء ، وأيضاً فإنَّ البدل في نيَّةِ الطَّرح .
قال ابْنُ الخطيبِ : وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير : واختار موسى قومه لميقاتنا ، وأراد ب « قَوْمَهُ » السبعين المعتبرين منهم؛ إطلاقاً لاسم الجنس على ما هو المقصود منه .

وقوله سَبْعينَ رجلاً عطف بيانٍ؛ وعلى هذا فلا حاجةَ إلى ما ذكروه من التكلُّفات .
فصل
الاختيار : افتعالٌ من لفظ الخير كالمصطفى من الصفوة .
يقال : اختار الشَّيء إذا أخذ خيره وخياره ، وأصل اختارَ : اختير ، فتحرّكت الياءُ وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً نحو : بَاعَ : ولذلك استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما مختار ، والأصل مختيِر ومختَير فقلبت الياء فيهما ألفاً .
فصل
ذكروا أنَّ مُوسَى - عليه الصَّلاة والسَّلام - اختار من قومه اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة؛ فاصرُوا اثنين وسبعين .
فقال : ليتخلف منكم رجلان؛ فتشاجروا .
فقال : إنَّ لمن قعد منكم أجر مَنْ خرج ، فقعد كالب ويوشع .
وروي أنَّهُ لم يجد إلاَّ ستين شيخاً ، فأوْحَى الله إليه أن يختار من الشَّبابِ عشرةً ، فاختارهم ، فأصبحوا شيوخاً فأمرهم اللَّهُ أن يصوموا ، ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ، ثم خرج بهم إلى الميقات .
واختلفوا في هذا الاختيار هل هو الخروج إلى ميقات الكلام ، وسؤال موسى ربَّه عن الرؤيّةِ أو للخروج إلى موضع آخر؟
فقال بعضً المُفَسِّرِينَ : إنَّهُ لميقات الكلامِ وطلب الرُّؤية .
قالوا : إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خرج بهؤلاء السبعين إلى طور سيناء ، فلما دَنَا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى أحاط بالجبل كله ودنا موسى ، ودخل فيه .
وقال للقوم : ادنُوا ، فدنوا فلما دخلوا الغمام وقعوا سجداً ، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه ، ثم انكشف الغمام وأقبلوا إليه .
وقالوا : { ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } [ البقرة : 55 ] وهي الرَّجفة المذكورة ههنا .
فقال موسى : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ } [ الأعراف : 155 ] وهو قولهم { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] .
وقيل : المراد من هذا الميقات غير ميقات الكلام ، وطلب الرُّؤيةِ ، واختلفوا فيه .
فقيل : إنَّ قوم موسى لمَّا عَبَدُوا العجل ثم تَابُوا أمر الله تعالى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أن يجمع السَّبعين ويحضروا موضعاً يظهرون فيه تلك التَّوْبة ، فأوحى اللَّهُ تعالى إلى تلك الأرضِ ، فرجفت بهم فعند ذلك قال موسى : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ } ، وإنَّمَا رجفت بهم الأرض لوجوه .
أولها : أنَّ هؤلاء السبعين وإن كانُوا ما عبدُوا العجل ، إلاَّ أنهم ما فارقُوا عبدة العجل عن اشتغالهم بعبادة العجل .
وثانيها : أنَّهم ما بالغُوا في النهي عن عبادة العجل .
وثالثها : أنَّهُم لمَّا خرجوا إلى الميقاتِ ليتوبوا دعوا ربهم وقالوا : اعْطِنَا ما تُعْطِه أحداً قبلنا ، ولا تعطيه أحداً بعدنا ، فأنكر اللَّهُ عليهم ذلك فأخذتهم الرجفة .
واحتجوا لهذا القول بوجوه : أحدها : أنَّهُ تعالى ذكر قصة ميقات الكلام ، وطلب الرُّؤيَةِ ثم أتبعها بذكر قصة العجل ثم أتبعها بهذه القصة ، وظاهر الحال يقتضي أن هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة ، ويمكن أن يكون عَوْداً إلى تتَّمةِ الكلام في القصة الأولى ، إلاَّ أنَّ الأليق بالفصاح إتمام الكلام في القصَّةِ الواحدة في موضع واحد ، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها ، فأما ذكر بعض القصَّةِ ، ثم الانتقال إلى قصَّة أخرى ، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصَّة الأولى؛ فإنَّه يوجب نوعاً من الخبط والاضطراب ، والأولى صون كلام الله عنه .

وثانيها : أن في ميقات الكلام وطلب الرؤية لم ينكر منهم إلاَّ قولهم { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] فلو كانت الرجفة المذكورة ههنا إنما حصلت بسبب هذا القول لوجب أن يقال : أتهلكنا بما يقول السفهاء مِنَّا؟ فلمَّا لم يقُلْ ذلك بل قال { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ } علمنا أن هذه الرجفة إنما حصلت بإقدامهم على عبادة العجل لا على القول .
وثالثها : أن في ميقات الكلام أو الرؤية خرَّ موسى صعقاً وجعل الجبل دكّاً وأمَّا هذا الميقات فذكر تعالى أن القوم أخذتهم الرَّجفَةُ ، ولم يذكر أن موسى - عليه الصلاة والسلام - أخذته الرَّجفة ، وكيف يقال أخذته الرجفة ، وهو الذي قال : { لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ } [ الأعراف : 155 ] وهذه الخصوصيات تدلُّ على أن هذا الميقات غير ميقات الكلام وطلب الرُّؤية .
وقيل : المراد بهذا الميقات ما رُوي عن علي - رضي الله عنه - قال : « إنَّ موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبلٍ؛ فنام هارون فتوفَّاهُ الله ، فلمَّا رجع موسى قالوا إنَّهُ هو الذي قتل هارون : فاختار موسى سبعين رجلاً وذهبُوا إلى هارونَ فأحياه الله وقال ما قتلني أحدٌ ، فأخذتهم الرَّجفة هناك .
فصل
اختلفُوا في تلك الرَّجفةِ .
فقيل : إنَّهَا رجفة أوْجَبتِ الموتَ .
قال السُّديُّ : قال موسى يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل ، وقد أهلكت خيارهم ولم يبق منهم رجل واحد؟ فما أقول لبني إسرائيل ، وكيف يأمنوني على أخدٍ منهم؟ فأحياهم الله . فمعنى قوله { لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ } أنَّ مُوسى خاف أن يتَّهِمَهُ بنو إسرائيل عن السَّبعين إذا عاد إليهم ، ولم يصدقوا أنهم ماتوا .
فقال لربه : لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات ، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ، ولا يتهموني .
وقيل : إنَّ تلك الرَّجفة ما كانت موتاً ، ولكن القومَ لمَّا رأوا تلك الحالةَ المهيبة أخذتهم الرعدة ، ورجفوا حتى كادت تبين منهم مفاصلهم ، وخاف موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الموت فعند ذلك بكى ، ودعا؛ فكشف الله عنهم الرعدة .
قوله : » لميقاتِنَا « متعلقٌ ب » اختيارَ « أي : لأجل ميقاتنا ، ويجوز أن يكون معناها الاختصاصَ أي : اختارهم مخصصاً بهم الميقات ، كقولك : اختر لك كذا .
قوله » لَوْ شِئْتَ « مفعلوُ المشيئة محذوف ، أي : لو شئت إهلكانا ، و » أهلكْتَهُم « جواب » لَوْ « والأكثر الإتيانُ باللاَّم في هذا النحو ولذلك لم يأتِ مجرداً منها إلاَّ هنا وفي قوله : { أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ } [ الأعراف : 100 ] وفي قوله : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ }

[ الواقعة : 70 ] .
ومعنى من قبل أي قبل الاختيار ، وأخذ الرَّجفة .
وقوله : « وإيَّايَ » قد يتعلَّقُ به من يرى جواز انفصال الضمير مع القُدْرِةِ على اتصاله ، إذ كان يمكن أن يقال : أهلكتنا . وهو تعلُّقٌّ واهٍ جداً ، لأنَّ مقصوده صلى الله عليه وسلم التنصيص على هلاك كُلٍّ على حده تعظيماً للأمر ، وأيضاً فإنَّ موسى لَمْ يتعاط ما يقتضي إهلاكهُ ، بخلاف قومه . وإنَّما قال ذلك تسليماً منه لربِّه ، فعطلف ضميرَه تنبيهاً على ذلك ، وقد تقم نظيرُ ذلك في قوله : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ] وقوله : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] .
قوله : « أتُهْلِكُنَا » يجوزُ فيه أن يكون على بابه أي : أتَعْمُّنَا بالإهلاك أم تخصُّ به السفهاء مِنَّا؟ ويجوز أن يكون بمعنى النَّفي ، أي : ما تُهْلك مَنْ لَمْ يُذْنِبْ بذنب غيره ، قاله ابنُ الأنباري .
قال وهو كقولك : أتهينُ من يكرمك « ؟ وعن المُبرِّدِ هو سؤالُ استعطاف ومِنَّا في محل نصب على الحال من السُّفَهَاء ويجوز أن يكون للبيان .
قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } .
قال الواحديُّ : الكناية في قوله هِيَ عائدة على الفِتْنَةِ كما تقولُ : إن هو إلاَّ زيد ، وإن هي إلاَّ هند ، والمعنى : إنَّ تلك الفتنة التي وقع فيها السُّفهاءُ لم تكن إلاَّ فتنتك أضللت بها قوماً فافتنوا ، وعصمْتَ قوماً فثبتُوا على الحق . ثُمَّ أكَّد بيان أنَّ الكل من الله تعالى ، فقال : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ } .
ثم قال الواحديُّ : وهذه الآية من الحُجَّج الظَّاهرة على القدريَّةِ التي لا يبقى لهم معها عذر .
قالت المعتزلةُ لا تعلق للجبريَّةِ بهذه الآية؛ لأنه لم يقل : تضلُّ بها من تشاء عن الدين؛ ولأنه قال تُضِلُّ بِهَا أي بالرَّجْفة ، والرَّجفة لا يضِلُّ اللَّهُ بها؛ فوجب تأويل الآية .
فمعنى قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } أي : امتحانُك وشدة تعبدك؛ لأنَّهُ لمَّا أظْهَرَ الرَّجْفَة كلَّفهم بالصَّبْرِ عليها ، وأمَّا قوله : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ } ففيه وجوه : أحدها : تَهْدِي بهذا الامتحان إلى الجنَّةِ والثَّوابِ بشرط أن يؤمن ذلك المكلف ، ويبقى على الإيمان ، وتُعاقِب من تشاء بشرط ألا يؤمن ، أو إن آمن لكن لا يصبر عليه ، وثانيها : أن يكون المرادُ بالإضلال الإهلاك ، أي : تُهلك من تشاء بهذه الرَّجفة وتصرفُها عَمَّنْ تشاء ، وثالثها : أنَّهُ لمَّا كان هذا الامتحان كالسَّببِ في هداية من اهتدى ، وضلال من ضَلَّ ، جاز أن يُضافَ إليه .
فصل
واعلم أن هذه تأويلات مُتعَسَّفة ، والدلائل العقليَّة دالةٌ على أنَّ المراد ما ذكرناه ، وتقريره من وجوه :
الأول : أنَّ القدرة الصَّالحة للإيمان والكفر لا يترجحُ تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطَّرَف الآخر ، إلاَّ لداعية مرجحة ، وخالف تلك الداعية هو اللَّهُ تعالى ، وعند حصول الداعية يجب الفعل ، وإذا ثَبَتَتْ هذه المقدمات ثبت أنَّ الهداية والإضلال من الله تعالى .
الثاني : أنَّ العاقل لا يُريدُ إلاَّ الإيمان ، والحقَّ ، والصدقَ ، فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كلُ أحدٍ مؤمناً محقاً ، وحيثُ لم يكن الأمر كذلك؛ ثبت أنَّ الكل من الله تعالى .

الثالث : لو كان حصولُ الهداية بفعل العبد فبما لم يتميز عنده اعتقاد الحق من اعتقاد الباطل؛ امتنع أن يخصّ أحدُ الاعتقادين بالتَّحْصيلِ ، لكن علمه بأنَّ هذا الاعتقاد هو الحق ، وأنَّ الآخر هو الباطل ، يقتضي كونه عالماً بذلك المعتقد أولاً كما هو عليه ، فلزمَ أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد هو الأول ، وأنَّ الآخر مشورطاً بكون ذلك الاعتقاد حاصلاً وذلك يقتضي كون الشَّيء مَشْرُوطاً بنفسه ، وهو محالٌ ، فامتنع أن يكون حصولُ الهداية بتحصيل العبد ، وأمَّا إبطال تأويلاتهم ، فقد تقدَّم مراراً .
قله تُضِلُّ بِهَا يجوزُ فيها وجهان : أحدهما : أن تكون مستأنفةً فلا مَحَلَّ لها ، والثاني أن تكون حالاً من فِتْنَتُكَ أي : حال كونها مُضلاًّ بها ، ويجوزُ أن تكون حالاً من الكاف؛ لأنَّهَا مرفوعةٌ تقديراً بالفاعليَّةِ ، ومنعه أبُو البقاءِ قال : « لعدم العامل فيها » وقد قدم البحث معه مراراً .
قوله : « أنْتَ وَلينَا » يفيد الحَصْرَ ، أي : لا ولي لنا ، ولا ناصر ، ولا هادي إلاَّ أنت ، وهذا من تمام ما تقدَّم من قوله : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ } .
وقوله : { فاغفر لَنَا وارحمنا } المُرادُ منه : أنَّ إقدامه على قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } جراءة عظيمة ، فطلب من الله غفرانها والتَّجاوز عنها .
وقوله : { وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين } أي : أنَّ كلَّ مَنْ سواك فإنَّمَا يتجاوزُ عن الذَّنب إمَّا طلباً للثناء الجميل ، أو للثَّواب الجزيل ، أو دفعاً للرقة الخسيسة عن القلب ، أمَّا أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب غرض وعوض ، بل لمحض الفضل والكرم .
قوله : { وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين } الكتابة تذكر بمعنى الإيجاب . ولمَّا قرَّرَ أنَّه لا ولي له إلاَّ الله ، والمتوقع من الولي والنَّاصر أمران : أحدهما : دفع الضَّرر والثاني : تحصيل النَّفع ، ودفع الضَّرر مقدم على تحصيل النَّفع؛ فلهذا السَّبَبِ بدأ بطلب دفعِ الضَّررِ وهو قوله : { فاغفر لَنَا } [ الأعراف : 155 ] ثُمَّ أتبعه بتحصيل النَّفْعِ ، وهو قوله { واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً } والمُرادُ بالحسنة في الدُّنْيَا ، النَّعمةُ والعافيةُ ، والحسنةُ في الآخرة : المغفرة والجنة .
قوله : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } العامَّةُ على ضم الهاءِ ، من هاد يَهُود بمعنى : مال؛ قال : [ السريع ]
2594 - قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وجَارَاتُهَا ... أنِّي مِنَ اللَّهِ لَهَا هَائِدُ
أو « تَابَ » من قوله : [ الرجز ]
2595 - إنِّي امْرؤ مِمَّا جَنَيْتُ هَائِدُ ... ومن كلام بعضهم : { المجتث ]
2596 - يَا رَاكِبَ الذَّنْبِ هُدْهُدْ ... واسْجُدَ كأنَّكَ هُدْهُدْ
وقرأ زيد بنُ علي ، وأبو وجزة « هِدْنَا » بكسر الهاء مِنْ « هَادَ يَهِيدُ » أي : حَرَّكَ . أجاز الزمخشريُّ في « هُدْنا » ، و « هِدْنا » - بالضمِّ والكسر - أن يكون الفعلُ مبنياً للفاعل أو للمفعول في كُلٍّ منهما بمعنى : مِلْتَا ، أو أمَالَنَا غَيْرُنَا ، أو حَرَّكْنَا نَحْنُ أنفسنَا ، أو حَرَّكَنَا غَيْرُنَا ، وفيه نظر؛ لأنَّ بعض النَّحويين قد نصَّ على أنَّهُ متى ألْبِسَ ، وجبَ أن يُؤتَى بحركةٍ تزيل اللبس .

فيقال في « عقتُ » من العوق إذَا عاقك غَيْرُكَ : « عِقْت » بالكَسْرِ فقط ، أو الإشمام ، وفي : « بعت يا عبد » إذا قصد أن غيره باعه « بُعْت » بالضم فقط أو الإشمام ، ولكن سيبويه جوَّز في « قيل وبيع » ونحوهما الأوجه الثلاثة من غير احتراز .
و « هِيَ » ضميرٌ يُفَسِّره سياقٌ الكلام إذ التقديرُ : إنْ فَتنتُهُمْ إلاَّ فِتنَتُكَ . وقيل يعندُ على مسألة الإرادة من قوله : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] أي : إنَّهُ من مسألة الرُّؤيةِ .
قوله : { عذابي أُصِيبُ بِهِ } مبتدأ وخبر . والعامَّةُ على « مَنْ أشَاءُ » بالشِّينِ المعجمةِ .
وقرأ زيدُ بن علي ، وطاووس ، وعمرو بن فائد « أسَاءُ بالمهملة .
قال الدَّانِي : لا تصحُّ هذه القراءة عن الحسن ، ولا عن طاووس ، وعمرو بن فائد رجل سَوْءَ واختار الشَّافعيُّ هذه القراءة ، وقرأها سفيان بْنُ عيينة ، واستحسنها فقام عبد الرَّحْمنِ المقرىء فصاح به وأسمعه .
فقال سفيانُ : » لَمْ أفطِنْ لِمَا يقولُ أهل البدع « . يعني عبد الرحمن أنَّ المعتزلة تعلَّقُوا بهذه القراءة في أنَّ فعل العَبْدِ مَخْلُوقٌ لهُ ، فاعتذرَ سفيان عن ذلك .
ومعنى الآية : إنِّي أعذبُ مَنْ من أشَاءُ ، وليس لأحدٍ عليَّ اعتراض { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } أي : أنَّ رحمته في الدُّنيا تعُمُّ الكل ، وأمَّا في الآخرةِ فهي مختصة بالمؤمنين لقوله هنا { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } وهذا من العام الذي أريد به الخاص كقوله { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 23 ] .
قال عطيَّةُ العوفي : » وَسِعَتُ كُلَّ شيءٍ « ولكن لا تَجِب إلاَّ للمُتَّقينَ ، وذلك أنَّ الكافر يرزق ويدفع عنه ببركة المؤمن ، لسعة رحمةِ الله للمؤمن ، فإذا صار للآخرة وجبت للمؤمن خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السِّراج بسراجه .
قال ابنُ عباس وقتادة وابن جريج : لما نزلت : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } قال إبليس أنا من ذلك الشيء فقال الله : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } فتمنَّاها اليهودُ والنصارى . وقالوا : نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن فجعلها اللَّهُ لهذه الأمَّة بقوله { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي } [ الأعراف : 157 ] .
واعلم أنَّ جميع التَّكاليف محصورة في نوعين :
الأول : المتروك وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها ، وهو المُرادُ بقوله : » للَّذينَ يتَّقُونَ « .
والثاني : الأفعال ، وهي إمَّا أن تكون في مال الإنسان أو في نفسه ، فالأول : هو الزكاة وهو المراد بقوله » ويُؤتُونَ الزَّكاةِ « والثاني يدخل فيه ما يجب على الإنسان علماً وعملاً أمَّا العلمُ فالمعرفةُ ، وأمَّا العملُ فالإقرارُ باللسان والعمل بالأركان ، فيدخل فيه الصَّلاة وإلى هذا المجموع أشار بقوله : { والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } ونظيره قوله تعالى في أوَّل سورة البقرةِ { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 2 ، 3 ] .

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

قوله { الذين يَتَّبِعُونَ } في محلِّه أوجه :
أحدها : الجر نعتاً لقوله { الذين يَتَّقُونَ } .
الثاني : أنَّهُ بدلٌ منه .
الثالث : أنَّهُ منصوبٌ على القطع .
الرابع : أنَّهُ مرفوع على خبر مبتدأ مضمر وهو معنى القطع أيضاً .
الخامس : أنه مبتدأ وفي الخبر حينئذٍ وجهان : أحدهما الجملةُ الفعليَّةُ من قول : « يأمُرهُمْ بالمَعْرُوفِ » . والثاني : الجملةُ الأسميَّةُ من قوله : { فأولئك هُمُ المفلحون } [ الأعراف : 8 ] ذكر ذلك أبُو البقاءِ ، وفيه ضعف بل مَنْعٌ كيف يجعل : « يَأمْرُهُم » خبراً وهو من تتمسة وَصْفَ الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو على أنَّهُ معمولٌ للوجدان عند بعضهم؟ كيف يجعل { فأولئك هُمُ المفلحون } خبراً لهذا الموصول؟ والموصولُ الثاني وهو قوله : { فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ } يطلبه خبراً ، لا يتبادَرُ الذهن إلى غيره ، ولو تبادر لم يكن مُعتَبراً .
قوله « الأمِّيَّ » العامَّةُ على ضمِّ الهمزة ، نسبةً إمَّا إلى الأمة وهي أمَّةُ العرب؛ وذلك لأن العرب لا تحسب ولا تكتب ، ومنه الحديث « أنَّا أمَّةٌ أمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ » ، وإمَّا نسبةً إلى « الأمّ » وهو مصدر « أمَّ يَؤمُّ » أي : قصد يقصد ، والمعنى على هذا : أن النبيَّ الكريم مقصود لك أحدٍ ، وفيه نظر؛ لأنه كان ينبغي أن يقال : « الأَمِّيّ » بفتح الهمزة .
وقد يقال : إنَّهُ من تغيير النَّسب ، وسيأتيأنَّ هذه قراءةٌ لبعضهم ، وإمَّا نسبةً إلى « أمِّ القرى » وهي مكة وإمَّا نسبةً إلى الأمّ ، فالأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب على حالةِ ولادته من أمه .
وقرأ يعقوب الأَمِّيَّ بفتح الهمزة ، وخَرَّجهَا بعضُهُمْ ، على أنَّهُ من تَغْييرِ النَّسبِ ، كما قالوا في النَّسب إلى أمَيَّة : أموي ، وخرَّجها بعضُهم على أنَّها نسبةٌ إلى « الأَمِّ » وهو القصد ، أي الذي هو على القصْدِ والسَّدادِ ، وقد تقدم ذلك في القراءة الشهيرة ، فكل من القراءتين يحتملُ أن تكون مُغَيَّرَةً من الأخرى .
قوله يَجِدُونَهُ الظَّاهرُ أنَّ هذه متعديةٌ لواحد؛ لأنَّها اللُّقْيَة ، والتقدير : يَلْقونَهُ أي : يلقَوْنَ اسمه ونعته مَكْتُوباً؛ لأنَّهُ بمعنى : وُجْدَانِ الضالَّة ، يكون مَكْتُوباً حالاً من الهاء في يَجِدُونَه .
وقال أبُو عيِّ : « إنَّهَا متعدية لاثنين ، أوَّلهما : الهاءُ » .
والثاني : « مَكْتُوباً » .
قال « ولا بدّ من حذف هذا المضاف ، أعني قوله : ذكره ، أو اسمه » .
قال سيبويه : « تقولُ إذا نظرت في هذا الكتاب : هذا عمرو ، وإنَّما المعنى هذا اسم عمرو ، وهذا ذِكْر عمرو وقال مجاهد وهذا يجوزُ على سعةِ الكلامِ » .
قوله { عِندَهُمْ فِي التوراة } . هذا الظَّرف ، وعديلُه كلاهما متعلِّقٌ ب « يَجِدُونَ » ، ويجوزُ - وهو الأظهر - أن يتعلَّقا ب « مَكْتُوباً » أي : كُتِبَ اسمُهُ ونَعْتُهُ عندهم في توراتهم وإنجيلهم .

قوله يَأمُرُهُم فيه ستة أوجه : أحدها : أنَّهُ مستأنف؛ فلا محلَّ له حينئذ ، وهو قول الزجاج . والثاني : أنَّهُ خبر ل « الّذينَ » قاله أبُو البقاءِ : وقد ذُكِرَ ، أي : وقد ذكره فيه ثمَّة . الثالث : أنَّهُ منصوبٌ على الحال من الهاء في يَجِدُونَهُ ، ولا بدَّ من التَّجوز في ذلك ، بأن يُجْعَلَ حالاً مقدرة ، وقد منع أبو عليِّ أن يكون حالاً من هذا الضَّمير .
قال : لأنَّ الضمير للاسم والذِّكْرِ ، والاسم والذِّكر لا يأمران يعني أن الكلام على حذف مضاف كما مر؛ فإن تقديره : « يجدون اسمه ، أو ذكره » ، والذكر أو الاسم لا يأمران ، إنما يأمر المذكور والمسمَّى .
الرابع : أنه حال من النَّبِيِّ . الخامس : أنَّهُ حال من الضَّمير المُسْتكِن في « مَكْتُوباً » . السادس : أنَّهُ مُفَسِّر لِ « مَكْتُوباً » أي : لِمَا كُتِبَ ، قاله الفارسي . قال : « كَمَا فَسَّرَ قوله { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ } [ المائدة : 9 ] [ النور : 55 ] [ الفتح : 29 ] بقوله : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 9 ] ، وكما فسَّر المثل في قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] بقوله : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] .
وقال الزَّجَّاجُ هنا : ويجوزُ أن يكون المعنى : يجدونه مكتوباً عندهم أنَّهُ يأمرهم بالمعروف وعلى هذا يكون الأمرُ بالمعروف ، وما ذُكِر معه من صفته التي ذُكِرت في الكتابين ، وقد استدرك أبُو علي هذه المقالة ، فقال : لا وجه لقوله : » يجدونه مكتوباً عندهم أنَّهُ يأمرهم بالمعروف « إن كان يعني أنَّ ذلك مرادٌ؛ لأنَّهُ لا شيء يَدُلُّ على حذفه ، ولأنَّا لا نعلمهم أنهم صدقوا في شيء ، وتفسير الآية أنَّ » وجدت « فيها تتعدَّى لمفعولين فذكر نحو ما تقدم عنه .
قال شهابُ الدِّينِ : وهذا الردُّ تحاملٌ منه عليه؛ لأنَّهُ أراد تفسير المعنى وهو تفسير حسن .
فصل
لمَّا بيَّن صفة من تكتب له الرحمة في الدُّنيا والآخرة وهو أن يكون مُتقياً ويؤتي الزكاة ، ويؤمن بالآيات ، ضمّ إلى ذلك أن يكون مُتَّبِعاً للنبي » الأمِّي الذي يجدُونَهُ مكْتُوباً عندهُمْ في التَّوراةِ والإنجيلِ « واختلفوا في ذلك .
فقال بعضهم : المراد باتباعه اعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته ولا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل بعثته .
وقيل في قوله : والإنجيل أن المراد وسيجدونه مكتوباً في الإنجيل؛ لأنَّ من المُحَالِ أن يجدوه فيه قبل ما أنزل اللَّهُ الإنجيل .
وقيل المراد بهم : مَنْ لَحِقَ من بني إسرائيل أيَّام الرسول - عليه الصلاة والسلام - فبيَّنَ تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلاَّ إذا اتبعوا الرسول الأمِّيَّ ، وهذا هو الأقرب ، لأن اتباعه قبل بعثته لا يمكن .
ووصف هذا النبي بتسع صفات :
الأأولى : كونه رسولاً ، وهو في العُرفِ من أرسله اللَّهُ إلى الخلق لتبليغ التَّكاليف .
الثاني : كونه نبيّاً ، وهو الرفيع القدر عند الله تعالى .

والثالثة : كونه أميّاً .
قال الزجاج : وهو الذي على صفة أمة العرب ، كما تقدم في قوله عليه السلام : « إنا أمَّة أمِّيَّةٌ لا نكتب ولا نحسب »
قال المحقِّقُون : وكونه أميّاً بهذا التفسير من جملة معجزاته وبيانه من وجوه :
الأول : أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى مَنْظُوماً مرَّة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ، ولا تغيير كلماته ، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطب ثم أعادها؛ فلا بد أن يزيد فيها ، وأن ينقص عنها بالقليل والكثير ، وهو - عليه الصلاة والسلام - مع أنه ما كان يكتبُ وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير ، فكان ذلك من المعجزات وإيله الإشارة بقوله : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] .
الثاني : لو كان يُحسِن القراءة والخَطَّ لكان مُتَّهما في القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة كلَّما أتى به من غير تعلم ، ولا مطالعة؛ فكان ذلك من المعجزات وهو المرادُ من قوله : { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون } [ النعكبوت : 48 ] الثالث : أن تعلَّم الخط شيء سهل فإن أقلَّ النَّاس ذكاء وفطنة يتعلمون الخطَّ بأهون سعي فعدم تعلمه يدلُّ على نقص عظيم في الهمم ، ثم إنَّهُ تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وما لم يصل إليه أحد من البشر ، ومع تلك القوة العظيمة والفهم جعله بحيثُ لم يتعلم الخط الذي يسهُل تعلمه على أقل الخلق عقلاً وفهماً ، فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جارياً مجرى الجمع بين الضدين ، وذلك من الأمُورِ الخارقة للعادة وجارية مجرى المعجزات .
الصفة الرابعة : قوله : { يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] وهذا يدُلُّ على أن نعته وصحة نبوته مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل؛ لأنَّ ذلك لو لم يكن مكتوباً لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله؛ لأنَّ الإصرار على الكذب من أعظم المنفّرات ، والعاقلُ لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله ، وينفر النَّاس عن قبول قوله وإذا كان مذكوراً في التَّوراة والإنجيلِ كان معجزة له دالةً على صدقهِ .
قال عطاءُ بنُ يسار : لقيتُ عبد الله بن عمرو بن العاصِ ، قلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة .
قال : أجَلْ ، واللَّه إنَّه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن { ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } [ الأحزاب : 45 ] وحِرزاً للأميين ، أنت عبدي ورسولي سمِّيْتُكَ المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخَّاب في الأسواق ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يفعو ، ويغفر ، ولن يقبضه حتى يقيم به الملَّة العَوْجَاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، ويفتح بها أعْيُناً عُمْياً ، وآذاناً صُمّاً ، وقلوباً غُلْفاً .
وعن كعب قالك إني أجدُ في التوراة مكتوباً محمد رسول الله لا فظّ ، ولا غليظ ، ولا سخّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، أمته الحامدون ، يحمدون الله في كل منزل ، وعلى كلِّ نجد ، يأتزرُون على أنصافهم ، ويغضون أطرافهم ، صَفُّهُمْ في الصلاة وصفهم في القتال سواء ، مناديهم ينادي في جوِّ السماءِ ، لهم في جوف الليل دَويٌّ كدويِّ النحل ، مولده بمكَّة ، ومخاهره بطيبة ، ومُلْكُهُ بالشَّام .

الصفة الخامسة : قوله : { يَأْمُرُهُم بالمعروف } أي : بالإيمان ، وقيل : الشَّريعة والسُّنة .
قال عطاءٌ : بمكارم الأخراق ، وخلع الأنداد ، وصلة الأرحام .
السادسة : قوله { وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر } أي : عن الشرك .
وقيل : ما لا يعرف في كل شريعة ولا سنَّةٍ .
وقيل : المنكرُ عبادة الأوثان ، وقطع الأرحام .
السابعة : قوله : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات } .
قيل : ما كانوا يُحَرِّمونه في الجاهليَّة : من البحيرة والسَّائبة والوصيلة والحامِ .
قال ابنُ الخطيب : وهذا بعيد لوجهين :
الأول : أنه على هذا التقدير تصير الآية ويحلُّ لهم المُحللات وهذا محضُ التكرير .
والثاني : أنَّ على هذا التقدير تخرج الآية عن الفائدة ، لأنَّ لا ندري الأشياء التي أحلَّها اللَّهُ ما هي وكم هي؟ .
بل الواجب أن يكون المرادُ بالطَّيبات الأشياء المستطابة بحسب الطبع؛ لأن تناولها يفسد اللَّذة والأصل في المنافع الحل فدلَّت هذه الآية على أنَّ الأصل في كلِّ ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحِلُّ إلاَّ بدليل منفصل .
الصفة الثامنة - قوله { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث } .
قال عطاءٌ عن ابن عباس : يريد الميتة والدَّم وما ذكر في سورة المائدة إلى قوله : { ذلكم فِسْقٌ } [ المائدة : 3 ] .
قال ابنُ الخطيب : وأقول ههنا : كل ما يستخبثه الطَّبع [ وتستقذره النفس كان تناوله سبباً للألم ، والأصل في المضار الحرمة ، فكان مقتضاه أن كل ما يستخبثه الطبع ] فالأصْلُ فيه الحُرمَةُ إلاَّ بدليلٍ منفصل ، وعلى هذا يحرم بيع الكلب ، قوله عليه الصلاة والسلام : « الكلبُ خبيثٌ ، وخَبيثُ ثَمنُهُ » ، فدخل في قوله تعالى : { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث } .
الصفة التاسعة : قوله { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } .
قرأ ابنُ عامر آصارهم بالجمع ، على صفة « أفْعَال » فانقلبت الهمزةُ التي هي فاء الكلمة ألفاً لسبقها بمثلها ، والباقُون بالإفرادِ . فمن جمع فباعتبار متعلِّقاته وأنواعه ، وهي كثيرة ، ومن أفْردَ؛ فلأنه اسمُ جنسٍ .
وقرأ بعضهم أَصْرَهُمْ بفتح الهمزةِ ، وبعضهم أُصْرَهُمْ بضِّمها .
والإصْرُ : الثِّقلُ الذي يأصر صاحبه ، أي يحبسه من الحرَاك لثقله ، أي : إنَّ شريعة موسى كانت شديدةً ، وقد تقدَّم تفسيرُ هذه المادة في قوله تعالى : { وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً } [ البقرة : 286 ] والأغلالُ جمع غُلٍّ ، وهو هنا مثلٌ لِمَا كَلِّفُوهُ كقطع أثر البول ، وقتل النَّفس في التَّوبةِ ، وقطع الأعضاء الخاطئة ، وتتبع العروق من اللَّحم وجعلها الله إلالاً؛ لأنَّ التَّحريمَ يمنع من الفعل كما أنَّ الغل يمنع من الفعل .
فصل
وقيل : كانوا إذَا قاموا إلى الصَّلاة لبسوا المسوح ، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم . وقد تقدم تفسير مادة « الغل » في آل عمران عند قوله :

{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } [ 161 ] وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الأصل في المضار ألا تكون مشروعة؛ لأنَّ كلَّ ما كان ضرراً كان إصْراً وغلاًّ ، وهذا النص يقتضي عدم المشروعية ، كقوله : « لا ضرَرَ ولا ضِرارَ في الإسلامِ » وقول « بُعثِتُ بالحنفيّة السَّمْحَةِ السَّهْلهِ »
فإن قيل : كيف عطف الأغلالَ وهو جمع على الإصْرِ وهو مفرد؟ .
فالجواب : أنَّ الأصل مصدر يقع على الكثير والقليلِ .
قوله : { فالذين آمَنُواْ بِهِ } .
قال ابنُ عبَّاسِ : يعني من اليهود وعَزَّرُوهُ يعني وقَّرره .
قال الزمخشريُّ : أصلُ العزْر المَنْعُ ، ومنه التَّعزير؛ لأنَّهُ يمنع من معاودة القبيح وتقدَّم تفسيرُ التعزير في المائدة ، والعَامَّةُ على التشديد وعَزَّرُوهُ .
وقرأ الجحدريُّ وعيسى بن عمر ، وسليمان التيمي : بتخفيفها ، وجعفر بن محمد وعَزَّرُوهُ بزايين معجمتين . ونَصَرُوهُ أي على عَدُوِّهِ . { واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ } وهو القرآن .
وقيل : الهدى والبينات والرسالة .
فصل
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى أنزلَ مَعَهُ وإنَّما أُنزِلَ مع جبريل؟ .
قلت : معناه أُنزل مع نُبوته؛ لأنَّ استنباءهُ كان مَصْحُوباً بالقرن مَشْفُوعاً به ، ويجوزُ أن يتعلَّق ب « اتَّبَعُوا » أي واتَّبعوا القرآن المنزَّل مع اتِّباع النبي والعمل بسنته ، وبما أمَرَ به ونَهَى عنه أو اتبعُوا القرآن كما اتَّبعه مصاحبين له في اتِّباعه ، يعني بهذا الوجه الأخير أنَّهُ حال من فاعل اتَّبَعُوا .
وقيل : « مَعَ » بمعنى « عَلَى » أي : أُنْزِلَ عليه . وجوَّزَ أبُو حيان أن يكون معه ظَرْفاً في موضع الحال .
قال : العامل فيها محذوفُ تقديره : أنزل كائناً معه ، وهي حالٌ مُقدَّرة كقوله : مَرَرْتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً ، فحالةُ الإنزال لم يكن معه ، لكنَّه صار معه بعدُ ، كما أنَّ الصيدَ لم يكن وقت المرور .
ثُمَّ لمَّا ذكر تعالى هذه الصِّفات ، قال : { أولئك هُمُ المفلحون } أي : الفائزونُ في الدُّنيا والآخرة .

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)

قوله تعالى : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } الآية .
لمَّا بيَّن تعالى أنَّ من شُرُوطِ حُصُولِ الرَّحْمَةِ لأولئك المُتَّقِينَ ، كونهم مُتَّبِعين للرَّسُولِ ، حَقَّقَ في هذه الآية رسالته إلى كلِّ الخلق .
وقوله إلَيْكُمْ مُتعلِّقٌ ب « رَسُولُ » ، وجَمِيعاً حال من المجرورِ ب « إلى » .
فصل
هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى جميع الخَلْقِ .
وقالت طائفة من اليهُودِ يقال لهم العيسوية ، وهم أتباع عيسى الأصفهانيّ : إنَّ محمداً رسول صادق مبعوث إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل وهذه الآية تبطلُ قولهم؛ لأن قوله { ياأيها الناس } خطابٌ يتناولُ كلَّ النَّاسِ ، وقد أقرّوا بكونِهِ رسولاً حقّاً صادقاً وما كان كذلك امتنع الكذب عليه ، ووجب الجزمُ بكونه صادقاً في كلِّ ما يدَّعيه ، وقد ثبت بالتَّواتُرِ وبهذه الآية أنه كان يدَّعي كونه مبعوثاً إلى جميع الخلق؛ فوجب ونُه صادقاً في هذا القول .
فصل
هذه الآيةُ دلَّت على أن محمداً عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مبعوثٌ إلى كل الخلق فهل شاركه في هذه الخصوصيَّةِ أحد من الأنبياء؟ .
فقال بعضهم : نعم كان آدم عليه الصَّلاة والسَّلام مبعوثاً إلى جميع أولاده ، وأنَّ نوحاً لما خرج من السفينة كان مبعوثً إلى الذين كانوا معه ، وهم جميع النَّاسِ في ذلك الوقت ، وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « أعطيتُ خمْساً لَمْ يُعْطَهنَّ أحَدٌ من الأنبياءِ قَبْلِي »
المرَادُ أنَّ مجموعَ الخَمْسَةِ لم يحصل لأحدٍ سواه ، ولم يلزم من كون المجموع من خواصه عدم مشاركة غيره في آحاد أفرادها .
قوله : { الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } . يجوزُ فيه : الرَّفْعُ ، والنَّصْبُ ، والجَرُّ ، فالرَّفْعُ والنَّصْبُ على القطع كما تقدم [ الأعراف : 57 ] ، والجَرُّ من وجهين : إمَّا النَّعْتِ للجلالة ، وإمَّا البدلِ منها .
قال الزمخشريُّ : ويجوزُ أن يكون جَرّاً على الوصفِ ، وإن حيلَ بين الصِّفةِ والموصوف بقوله « إليْكُمْ جَمِيعاً » .
واستضعف أبُو البقاءِ هذا ووجه البدل ، فقال : ويَبْعُدُ أن يكون صفة لله او بدلاً منه ، لما فيه من الفصل بينهما ب « إلَيْكُمْ » وبحالٍ ، وهو مُتعلِّقٌ ب « رَسُولُ » .
قوله { لاا إله إِلاَّ هُوَ } لا محلَّ لهذه الجملةِ من الإعراب ، إذ هي بدل من الصلةِ قبلها وفيها بيان لها؛ لأنَّ من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقةِ ، وكذلك قوله « يُحْيي ويُمِيتُ » هي بيان لقوله لا إله إلاَّ هُوَ سِيقَتْ لبيان اختصاصه بالإلهيَّةِ؛ لأنه يَقْدِرُ على الإحياء والإماتةِ غَيْرُهُ .
قاله الزمخشريُّ : وقال أبُو حيَّان : « وإبدالُ الجُمَلِ من الجُمَلِ غير المشتركة في عاملٍ لا نعرفه » .
فصل
وقال الحُوفيُّ : إن « يُحْيِ ويُمِيتُ » في موضع خبر لا إله .

ق : « لأنَّ الإله » في موضع رفع بالابتداء ، وإلاَّ هُوَ بدلٌ على الموضع .
قال : والجملةُ أيضاً في موضع الحال من اسم اللَّهِ . ويعني بالجملةِ قوله : { لاا إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ } ويعني باسم الله ، أي : الضَّمير في لهُ مُلْكُ أي استقرَّ له الملك في حال انفراده بالإلهيَّةِ .
وقال أبُو حيَّان : والأحْسَنُ أن تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإعراب ، وإن كان متعلقاً بعضها ببعضٍ من حيث المعنى .
وقال في غعراب الحوفي المتقدم إنَّهُ متكلَّفٌ .
قوله : { فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } .
فصل
اعلم أنَّ الإيمان بالله أصل ، والإيمان بالنبوَّةِ والرسالة فرع عليه ، والأصلُ يجب تقديمه فلهذا بدأ بقوله : فأمِنُوا باللَّهِ ثم أتبعه بقوله : { وَرَسُولِهِ النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ } وهذا إشارة إلى ذِكْرِ المعجزاتِ الدالَّة على كونه نبيّاً حقاً؛ لأنَّ معجزاته عليه الصلاة والسلام كانت على نوعين .
الأول : المعجزاتُ التي ظهرت في ذاته المباركة وهو كونه أمِّياً ، وقد تقدم الكلامُ على كون هذه الصِّفَةِ معجزة .
الثانيك المعجزات الَّتي ظهرت من خارج ذاته مثل انشقاق القمر ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وحنين الجذع ونحوها ، وهي تسمى بكلمات الله ، لأنَّهَا أمورٌ عظيمة . ألا ترى أن عيسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لمّضا كان حدوثُه أمراً عظيماً غريباً مخالفاً للعادة ، سمَّاهُ اللَّهُ كلمة ، فكذلك المعجزات لمَّا كانت أموراً غريبة خارقة للعادة لم يبعُد تسميتُها كلمات ، وهذا هو المُرادُ بقوله : { يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ } .
وقرأ مجاهدٌ وعيسى وكلمته بالتَّوحيد ، والمرادُ بها الجِنسُ كقوله - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - : « أصْدَقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمةُ لبيدٍ » ويسمُّون القصيدة كلها كلمةً ، وقد تقدَّم .
قال الزمشريُّ : فإن قلت : هَلاَّ قيل : فآمنوا باللَّه وبِي ، بعد قوله { يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ } ؟ .
قلت : عدل عن الضمير ، إلى الاسم الظاهر ، لتَجْرِي عليه الصفاتُ التي أُجْرِيَتْ عليه ، ولِمَا في طريق الالتفات من البلاغةِ ، وليُعْلِم أنَّ الذي يجبُ الإيمانُ به واتِّباعهُ ، هو هذا الشخص المستقل بأنه النَّبيُّ الأميُّ الذي يؤمنُ بالله وكلماته ، كائناً من كان ، أنا أو غيري إظهاراً للنَّصَفة ، وتفادياً من العصبية لنفسه .
قوله : واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .
وهذا الأمرُ يدلُّ على وجوب متابعةِ الرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلام في كلِّ ما يأتي به قولاً كان أو فعلاً أو تركاً إلا ما خصه الدَّليل .
فصل
فإن قيل : إذا أتى الرَّسسول بشيء فيحتمل أنه أتى به على سبيل الوُجوبِ ، ويحتمل الندب فعلى سبيل أنه أتى مندوباً ، فلو أتينا به على أنَّه واجب علينا ، كان ذلك تركاً لمتابعته والآية تدلُّ على وجوب المتابعةِ ، فثبت أنَّ فعل الرَّسُولِ لا يدُلُّ على الوجوب علينا .
فالجوابُ : أنَّ المتابعةَ في الفعل عبارة عن الإتيان بمثل الفعل الذي أتى به المتبوع؛ لأنَّ من أتى بفعل ثم إنَّ غيرهُ وافقه في ذلك الفعل ، قيل : إنَّهُ تابعهُ عليه ، ولوْ لَمْ يأتِ به ، قيل : إنه خالفه ، وإن كان كذلك ، ودلَّت الآية على وجوب المتابعة؛ لزم أن يجب على الأمة متابعته .

بقي علينا أنَّ لا نعرف هل أتى به - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - قاصداً الوجوب أو النَّدب؟ .
فنقول : حال الدَّوَاعي والعزائم غير معلوم ، وحال الإتيان بالفعل الظاهر معلومٌ؛ فوجب أن لا يُلتفتَ إلى حال العزائم والدَّواعي؛ لأنَّها أمورٌ مخفية عَنَّا ، وأن نحكم بوجوب المتابعة في العمل الظَّاهر؛ لأنَّهُ من الأمور التي يمكن رعايتها .
وقد تقدَّم الكلامُ على لفظ لعلّ وأنَّها للتردي وهو في حق اللَّهِ تعالى محال ، فلا بد من تأويلاها فيلتفت إليه .
قوله تعالى : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } .
لمَّا وصف الرسول ، وذكر أنه يجل على الخلق متابعته ، ذكر أنَّ في قوم موسى من اتَّبَعَ الحق وهُدي إليه ويبن أنهم جماعة ، لأن لفظ « الأمَّة » ينبىء عن الكثرة .
واختلفوا فيهم .
فقيل : هم اليهودُ الذين آمنوا بالرسول - عليه الصلاة والسلام - مثل عبد الله بن سلام ، وابن صوريا .
فإن قيل : إنهم كانوا قليلين في العدد ، ولفظ « الأمة » ينبىء عن الكثرة .
فالجواب : إنهم لمَّا أخلصُوا في الدِّين جاز غطلاق لفظ « الأمَّةِ » عليهم كقوله تعالى { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] .
وقيل : إنَّهم قومٌ بَقوا على الدِّين الحق الذي جاء به موسى ودعوا النَّاسَ إليه وصانوه عن التَّحريف والتَّبديل في زمن تفرٌّ بني إسرائيل فيه وإحداثهم البدع .
وقال الكلبيُّ والضحاكُ والربيعُ والسُّديُّ : لمَّأ كفر بنو إسرائيل وقتلوا الأنبياء ، تبرأ وسبط من الاثني عشر مِمَّا صنعُوا وسألوا اللَّهَ أن يُنقذهم منهم ، ففتح اللَّهُ لهم نفقاً في الأرضِ فَسَارُوا فيه حتَّى خرجوا من وراء الصين بأقصى الشرف على نهري مجرى الرَّمل يسمى نهر الأردن ، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه ، يمطرون باللَّيل ويُصْبِحون بالنَّهار يزرعون ، لا يصل إليهم منا أحدٌ وهم على الحق .
وذكر أنَّ جبريل ذهب بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إليهم وكلَّمهم .
فقالوا : يا رسول الله إنَّ موسى أوصانا أنَّ مَنْ أدرك منا أحْمَدَ؛ فليقرأ عليه منِّي السلام ، فردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على مُوسَى السلام ، ثم أقرأهم عشر سورة من القرآن نزلت بمكة ، وأمرهم بالصَّلاة والزَّكاةِ وأمرهم أنه يقيموا مكانهم ، وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ، ويتركوا السَّبْتَ .
وقوله : { يَهْدُونَ بالحق } يدعُون النَّاس إلى الهداية بالحقِّ وقوله وَبِهِ يَعدِلُونَ؛ قال الزَّجَّاجُ : العدلُ : الحُكْمُ بالحق .
يقال هو يقضي بالحق ، ويعدل وهو حاكم عادلٌ ، ومنه قوله تعالى : { وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء } [ النساء : 129 ] وقوله { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا } أنعام : 152 ]

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)

قوله تعالى : { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ } .
الظَّاهِرُ أن قَطَّعْنَاهُمُ مُتَعدٍّ لواحد؛ لأنه لمْ يُضَمَّنْ معنى ما يتعدَّى لاثنين ، فعلى هذا يكون اثْنَتَيْ حالاً من مفعول : قَطَّعْنَاهُمُ أي : فَرَّقْنَاهم مَعْدُودينَ بهذا العدد .
وجوَّز أبُو البقاءِ أن يكون قَطَّعْنَا بمعنى « صَيَّرْنَا » ، وأن اثْنَتَيْ مفعولٌ ثانٍ وجزم الحُفِيُّ بذلك .
وتمييز : اثْنَتَيْ عَشْرَةَ محذوف ، لفهم المعنى ، تقديره : اثْنَتَيْ عشرة فرقةٌ ، و « اسْبَاطاً » بدلٌ من ذلك التمييز . وإنَّما قلتُ إن التَّمييزَ محذوفٌ ، ولم أجعل أسْبَاطاً هو المُمَيِّز لوجهين ، أحدهما : أنَّ المعدودَ مُذَكَّر؛ لأنَّ أسْبَاطاً جمع « سِبْط » فكان يكون التركيبُ : اثني عشر .
الثاني : أنَّ تمييز العدد المركَّبِ ، وهو من « أحد عشر » إلى « تِسْعَة عَشَرَ » مفردٌ منصوبٌ وهذا - كما رأيت - جمع ، وقد جعله الزمخشريُّ تمييزاً له معتذراً عنه ، فقال : فإن قلت : مُمَيِّزٌ ما عدا العشرة مفردٌ ، فما وجهُ مجيئه جمعاً؟ وهلاَّ قيل : اثني عشر سِبْطاً!؟
قلتُ لو قيل ذلك ، لم يكن تحقيقاً؛ لأن المُرادَ وقطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عشْرَةَ قبيلة ، وكلُّ قبيلة أسباط لا سِبْط ، فوضع « أسْبَاطاً » موضع « قبيلة » ؛ ونظيره قوله : [ الرجز ]
2597 - بَيْنَ رَمَاحَيْ مَالِكِ ونَهْشَلِ ... قال أبُو حيان : وما ذهب إليه من أنَّ كلَّ قبيلةٍ أسباط خلافُ ما ذكره النَّاسُ ، ذكروا أن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب . وقالوا : الأسْبَاطُ جمع وهم الفرق ، والأسباطُ في ولد إسحاق كالقبائل في ولد غسماعيل ، ويكون على زعمه قوله تعالى : { وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط } [ البقرة : 136 ] معناه : والقبيلةُ ، وقوله : « وهو نظير قوله : بين رماحي مالكٍ ونهشَلِ » ليس بنظيره ، لأنَّ هذا من باب تثنية الجمع ، وهو لا يجوزُ إلا في ضرورةٍ ، وكأنَّهُ يشيرُ إلى أنه لوْ لمْ يُلْحَظُ في الجمع كونُه أُريد به نوعق من الرِّمَاحِ لم تَصِحَّ التثنية ، كذلك هنا لُحِظَ في « الأسْبَاط » - وإن كان جمعاً - معنى القبيلة فمُيِّزَ به كَما يُمَيَّزُ بالفرد .
وقال الحُوفِيُّ : يجوز أن يكون على الحذفِ ، والتقديرُ : اثنتي عشرة فرقةً أسبَاطاً ويكون « أسْبَاطاً » نعتاً ل « فرقة » ، ثم حذف الموصوفُ ، وأقيمت الصِّفةُ مقامه و « أمَماً » نعتٌ لأسباط ، وأنَّثَ العدد ، وهو واقعٌ على الأسباطِ وهو مذكَّرٌ ، وهو بمعنى فرقة أو أمة كما قال : [ الوافر ]
2598 - ثَلاثَةُ أنْفُسٍ . . ..
يعني : رجلاً ، وقال : [ الطويل ]
2599 - . عَشْرُ أبْطُنٍ .. .
بالنَّظَرِ إلى القبيلةِ ، ونظيرُ وصف التمييزِ المقرر بالجمعِ مراعاةً للمعنى قول الشَّاعر : [ الكامل ]
2600 - فِيهَا اثْنَتَانِ وأرْبَعُونَ حَلُوبَةً سُوداً كَخَافِيَةِ الغُرابِ الأسْحمِ
فوصف « حَلُوبَةً » وهي مفردة لفظاً ب « سُوداً » وهو جمع مراعاةً لمعناها ، إذ المرادُ الجمع .

وقال الفراء : إنَّما قال : « اثْنَتَيْ عَشْرَةَ » والسِّبْطُ مذكر؛ لأنَّ ما بعده « أمم » فذهب التأنيث إلى الامم ، ولو كان « اثني عشر » لتذكير السبط لكان جائزاً .
واحتج النحويون على هذا بقوله : [ الطويل ]
2601 - وإنْ قريشاً هذه عَشْرُ أبْطُنٍ ... وأنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قَبَائِلهَا العَشْرِ
ذهب بالبطْن إلى القبيلةِ ، والفصيلة ، لذلك أنَّثَ ، والبطن ذَكَرٌ .
وقال الزَّجَّاج : المعنى : وقطَّعْنَاهُمْ اثنتي عشرةَ فرقةً أسْبَاطاً ، من نعتِ فرة كأنَّهُ قال : جَعَلْنَاهُم أسباطاً وفرَّقناهم أسباطاً ، وجوَّز أيضاً أن يكون « أسْبَاطاً » بدلا من اثْنَتَيْ عَشْرَةَ : وتبعه الفارسيُّ في ذلك .
وقال بعضهم : تقديرُ الكلامِ : وقطعناهم فرقاً اثْنَتَيْ عشرَةَ ، فلا يحتاجُ حينئذٍ إلى غيره .
وقال آخرون : جعل كلَّ واحدٍ من الاثنتي عشرةَ أسباطاً ، كما تقولُ : لزيد دراهم ، ولفلانٍ دراهمُ : فهذه عشرون دراهم يعني أن المعنى على عشرينات من الدَّراهِم .
ولو قلت : لفلان ، ولفلان ، ولفلان عشرون درهماً بإفراد « درهم » لأدَّى إلى اشتراك الكُلِّ في عشرين واحدة ، والمعنى على خلافه .
وقال جماعةٌ منهم البَغَوِيُّ : « في الكلامِ تقديمٌ وتأخير تقديره : وقطعناهم أسباطاً أمماً اثنتي عشرة » .
وقوله : أثمماً إمَّا نعتٌ ل « أسْبَاطاً » ، وإمَّأ بدل منها بعد بدلٍ على قولنا : إنَّ « اسْبَاطاً » بدلٌ من ذلك التَّمييز المقدَّر . وجعلهُ الزمخشريُّ أنه بدل من « اثْنَتَيْ عَشْرَة » ؛ قال : بمعنى : « وقطَّعْنَاهم أمَماً » ، لأنَّ كل أسباط كانت أمَّةً عظيمةً وجماعة كثيفة العدد ، وكلُّ واحد تؤمُ خلاف ما تؤمُّهُ الأخرى فلا تكادُ تأتلف « . انتهى .
وقد تقدَّم القولُ في » الأسْبَاط « .
وقرأ أبان بنُ تغلبَ » وقَطَعْنَاهُمْ « بتخفيف العينِ والشَّهيرةُ أحسن؛ لأنَّ المقامَ للتَّكثيرِ ، وهذه تحتمله أيضاً .
وقرأ الأعمش وابن وثَّابِ ، وطلحة بنُ سليمان » عَشِرَة « بكسر الشِّينِ ، وقد رُوي عنهم فَتْحُها أيضاً ، ووافقهم على الكسر فقط أبُو حَيْوَةَ ، ولطحة بن مصرف .
وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرة [ 60 ] ، وأنَّ الكسر لغةُ تميم والسُّكُونَ لغةُ الحجاز .
قوله : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ } . وتقدمت هذه القصَّةُ في البقرةِ .
» أن اضرب « يجوز في » أنْ « أن تكون المفسِّرة للإيحاء ، وأن تكون المصدرية .
قال الحسنُ : ما كان إلاَّ حجراً اعترضه وإلاَّ عصاً أخذها .
وقوله : » فانبجَسَتْ « كقوله : » فانْفَجَرتْ « إعراباً وتقديراً ومعنىً ، وتقدَّم ذلك في البقرة .
وقيل : الانبجَاسَ : العرق .
قال أبو عمرو بنُ العلاءِ : » انبَجَستْ « : عَرِقَتْ ، وانفَجَرَتْ : سالتْ . ففرَّق بينهما بما ذُكر .
قال المفسِّرون : إنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام كان إذا ضرب الحجر ظهر عليه مثلُ ثَدْي المرأة فَيَعْرَقُ ثُمَّ يسيل ، وهُمَا قَرِيبَان من الفرقِ المذكور في النَّضْح والنَّضْخ .

وقال الرَّاغِبُ : بَجَسَ الماءُ وانبَجَسَ انفَجَرَ ، لكنَّ الانبجاسَ أكثرُ ما يقالُ فيما يَخْرج من شيء ضيق ، والانفجار يُستعملُ فيه وفيما يخرج من شيء واسع؛ ولذلك قول تعالى : { فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً } ، وفي موضع آخر { فانفجرت } البقرة : 60 ] ، فاستُعْمِلَ حيث شاق المخرجُ اللفظتان . يعني : ففرَّق بينهما بالعُمُوم والخُصُصِ ، فكلُّ انبجاس انفجارٌ من غير عكس .
وقال الهَرَوِيُّ : يقالُ : انبَجَسَ ، وتَبَجَّسَ ، وتَفَجَّرَ ، وتَفَّتقَ بمعنى واحدٍ . وفي حديث حذيفة ما منا إلا رجلٌ له آمَّةٌ يَبجُسُهَا الظَّفُر غَيْرَ رَجُلَيْنِ يعني : عمر وعليّاً رضي الله عنهما . الآمَّةُ : الشّجَّة تبلغ أمَّ الرأس ، وهذا مثل يعني أَنَّ الآمَّة منا قد امتلأت صديداً بحيث إنه يقدر على استخراج ما فيها بالظفر من غير احتياج إلى آلة حديد كالمبضع فعبَّر عن زَلل الإنسان بذلك ، وأنه تفاقهم إلى أن صار يشبه شَجَّةً هذه صفتها .
قوله : { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } .
قال الزمخشريُّ : « الأناسُ » اسمُ جمع غير تكسير نحو : رخال وثناء وتؤام ، وأخواتٍ لها ، ويجوز أن يقال : إن الأصل : الكَسْرُ ، والتكسيرُ والضَّمة بدلٌ من الكسرةِ لما أبدلت في نحو : سُكَارَى وغُيَارى من الفتحةِ .
قال أبُو حيان : ولا يجوز ما قال لوجهين ، أحدهما : أنَّهُ لم يُنْطَقْ ب « إناس » بكسر الهمزة ، فيكون جمع تكسير ، حتَّى تكون الضمَّةُ بدلاً من الكسرة بخلاف « سُكَارَى » و « غُيَارَى » فإنَّ القياس فيه « فَعَانَى » بفتح فاء الكلمة ، وهو مَسْمُوعٌ فيهما .
والثاني : أنَّ « سُكَارى » و « عُجَالى » و « غُيارى » وما ورد من نحوها ليست الضَّمَّةُ فيه بدلاً من الفتحة ، بل نصَّ سيبويه في كتابه على أنَّه جمعُ تكسيرٍ أصلٌ ، كان أنَّ « فَعَالَى » جمعُ تكسيرٍ أصلٌ وإن كان لا ينقاسُ الضَّمُّ كما ينقاسُ الفتح .
قال سيبويه - في الأبنيةِ أيضاً - : « ويكون » فُعَالى « في الاسم نحو : حُبَارَى ، وسُمَانَى ، ولُبَادَى ، ولا يكون وصفاً إلاَّ وصفاً إلاَّ أن يُكَسَّرَ عليه الواحدُ للجمع نحو : سُكارى وعُجَالى » . فهذا نَصَّان من سيبويه على أنَّهُ جمعُ تكسير ، وإذا كان جمعَ تكسير أصْلاً لم يَسُغْ أن يُدَّعَى أن أصله فَعَلى وأنه أبدلت الحركة فيه . وذهب المُبَرِّدُ إلى أنه اسمُ جمع أعني « فُعَالى » بضم الفاءِ ، وليس بجمع تكسير . فالزمخشريُّ لم يذهبْ إلى ما ذهب إليه سيوبيه ، ولا إلى ما ذهب إليه المُبَرِّدُ؛ لأنَّه عند المبرد اسمُ جمعٍ فالضَّمَّةُ في فائه أصلٌ وليست بدلاً من الفتحة بل أحدث قولاً ثلاثاً .
فصل
قال المفسِّرُون : إنهم احتاجوا في التيه إلى ماءٍ يشربونه ، فأمر اللَّهُ تعالى موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلأامُ - أن يضرب بعصاه الحَجَرَ ، وكانوا يذرءونه مع أنفسهم ، فيأخذون منه قدر الحاجة ، ولمَّا أن ذكر تعالى كيف كان يستقيمُ ، ذكر ثانياً أنَّهُ ظَلَّل الغَمَامَ عليهم في التِّيه تقيهم حرَّ الشَّمْسِ ، وثالثاً : أنَّهُ أنزل عليهم المَنَّ والسَّلْوَى ، ومجموع هذه الأأحوالِ نعمة من اللَّهِ تعالى .

ثُمَّ قال : { ا كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } والمُرادُ قَصْرُ نفوسهم على ذلك المطعُومِ ، وترك غيره .
وقلأ عيسى الهَمانِيُّ مَا رَزَقْتُكُم بالإفراد .
ثمَّ قال ومَا ظَلَمُونَا وفيه حذف؛ لأنَّ هذا الكلامَ إنَّمَا يَحْسُنُ ذكره لو أنَّهم تعدوا ما أمرهم اللَّهُ به ، إمَّا لكونهم ادَّخَرُوا ما منعم اللَّهُ منه ، أو أقدمُوا على الأكل في وقت منعهم اللَّهُ منه؛ أو لأنَّهم سألوا عن ذلك مع أنَّ اللَّهَ منعهم منه والمكلف إذَا ارتكبَ المَحْظُورَ فهو ظالم لنفسه ، ولذلك وصفهم اللَّهُ بقوله : { ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ؛ لأنَّ الملكف إذا أقدم على المعصية فهو ما أضر إلاَّ نَفْسَهُ .

وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)

قوله تعالى : { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية } الآيةُ .
اعلم أنَّ هذه القصة قد تقدَّمت مشروحة في سورة البقرةِ إلاَّ أنَّ بينهما تفاوتاً من وجوه :
أحدها : أنَّهُ عيَّن القائل في سورة البقرة ، فقال وإذْ قُلْنا وههنا أبهمه فقال وَإذْ قيلَ .
وثانيها : قال في سورة لابقرة « ادخلوا » وقال هاهنا « اسكنوا » .
وثالثها : قال في سورة البقرة فَكُلوا بالفاء ، وههنا بالواو .
وارابعها : قال هناك رَغَداً وأسقطها ههنا .
وخامسها : قدَّم هناك قوله { وادخلوا الباب سُجَّداً } على « وقولُوا حِطَّةٌ » وههنا على العكس .
وسادسها : قال في البقرة { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } [ البقرة : 58 ] وههنا « خطِيئَاتِكُمْ » .
وسابعها : قال هنا : « وسَنزِيدُ المُحْسنينَ » بالواو وههنا حذفها .
وثامنهها : قال في البقرة « فأنزلْنَا » وههنا « فأرْسَلْنَا » .
وتاسعها : قال هناك : { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [ البقرة : 58 ] . وقال ههنا « يَظْلِمُونَ » .
وهذه ألفاظٌ لا مناقاةَ بينها ألبتة ، ويمكن ذكر فوائِدهَا .
أما قوله ههنا : { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ } إعلاماً للسَّامع بان هذا القائل هو ذاك ، وأمَّا قوله هنا « ادْخُلُوا » ، وههنا « اسْكُنُوا » فالفرقُ أنَّهُ لا بدَّ من دخول القريَةِ أوَّلاً ، ثم سكونها ثانياً .
وأمَّا قوله هنا « فَكُلُوا » بالفاءِ وههنا بالواوِ ، فالفرق أنَّ الدُّخُولَ حالة مخصوصة ، كما يوجد بعضها ينعدم ، فإنَّهُ إنَّما يكون داخلاً في أوَّل دخوله .
وأمَّا بعد ذلك ، فيكون سكنى لا دخولاً ، وإذا كان كذلك فالدَّخُولُ حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار ، فحسن ذكر فاء التعقيب بعده ، فلهذا قال { ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ } [ البقرة : 58 ] وأمَّا السُّكْنَى فحالة مستمرة باقية فيكون الأكل حاصلاً معها لا عقيبها فحل الفرق .
وأمَّا قوله هناك « رغَداً » ولم يذكره هنا؛ لأنَّ الأكْلَ عقيب دخول القرية يكون ألذ؛ لأنَّهُ وقت الحاجةِ الشديدةِ ، فلذلك ذكر رَغَداً وأما الأكر حالة السُّكنى ، فالظَّاهِرُ أنَّ الحاجة لا تكونُ شديدة .
وأمَّا قوله هناك : { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ } وههنا على العكس ، فالمرادُ التَّنبيهُ على أنَّهُ يحسن تقديم كل واحد منهما على الآخر ، لأنَّ المقصُودَ منهما تعظيم اللَّهِ تعالى وإظهار الخُضُوعِ ، وهذا لا يتفاوتُ الحال فيه بحسب التَّقديم والتَّأخير .
قال الزمخشريُّ : التَّقديمُ والتأخيرُ في وقُولُوا وادخُلُوا سواء قدَّمُوا « الحِطَّة » على دخول الباب ، أو أخَّرُوَاها فهم جامعون في الإيجاد بينهما .
قال أبُو حيَّان : وقوله : سواءٌ قدَّمُوا أو أخَّرُوها تركيب غير عربي ، وإصلاحه سواء أقدَّمُوا أمْ أخَّرُوا ، كما قال تعالى : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا } [ إبراهيم : 21 ] .
فصل قال شهابُ الدِّين : يعني كونه أتى بعد لفظ « سواء » ب « أوْ » دون « أمْ » ، ولم يأتي بهمزة التسوية بعد « سواء » وقد تقدَّم أنَّ ذلك جائز ، وإن كان الكثيرُ ما ذكره وأنه قد قرىء

{ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } [ البقرة : 6 ] والرَّدُ بمثل هذا غير « طائل » .
وأما قوله في البقرة { خَطَايَاكُمْ } وههنا « خَطِيئَاتِكُم » فهو إشارة على أنَّ هذه الذنوب سواء كانت قليلة ، أو كثيرة ، فهي مغفورةٌ عند الإتيان بهذا الدُّعاء .
وأما قوله هناك « وسَنَزِيدُ » بالواوِ ، وههُنَا حذفها ففائدته أنه استئناف ، كأنَّ قائلاً قال : وماذا حصل بعد الغُفْرانِ؟
فقيل لهخ : « سَنَزِيدُ المُحْسنينَ » .
وأام قوله هناك « فأنَزلْنَا » ، وههُنَا « فأرْسَلْنَا » فلأنَّ الإنزالَ لا يشعر بالكَثْرَةِ ، والإرسَال يشعر بها ، فكأنَّهُ تعالى بدأ بإنزال العذابِ القليل ، ثمَّ جعله كثيراً ، وهو نظيرُ الفرقِ بين قوله { فانبجست } [ الأعراف : 160 ] وقوله { فانفجرت } [ البقرة : 60 ] .
وأمَّا قوله هناك { عَلَى الذين ظَلَمُواْ } [ البقرة : 59 ] ، وههُنَا « عَلَيْهِمْ » فهو إيذان بأنَّ هؤلاء المضمرون هم أولئك ، وأمَّا قوله هَهُنَا « يَظْلمُونَ » وهناك « يَفْسُقُونَ » فلأنهم موصوفون بأنهم كانوا ظالمينَ لأنَّهم ظلموا نفسهم ، وبكونهم فاسقين ، لأنَّهُمْ خَرَجُوا عن طاعةِ اللَّهِ .
قوله : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم } قد تقدَّم الخلافُ في « نَغْفِر » وأمَّا « خَطِيئَاتِكُمْ » فقرأها ابن عامر « خَطِيئَتُكُم » بالتَّوحيد ، والرَّفع على ما لم يُسَمَّ فاعله ، والفرض أنه يقرأ « تغفرْ » بالتَّاء من فوق . ونافع قرأ « خَطِيئَاتِكُم » بجمع السَّلأامة ، رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه؛ لأنَّهُ يقرأ « تُغْفرُ لكم » كقراءة ابن عامر .
وأبو عمرو قرأ « خَطَايَاكُم » جمع تكسير ، ويَقْرأ « نَغْفِرْ » بنون العظمة . والباقون « نَغْفِرْ » كأبي عمرو ، « خَطِيئَاتِكُمْ » بجمع السَّلامة منصوباً بالكسرة على القاعدة . وفي سورة نوح قرأ أبو عمرو « خطاياهم » بالتكسير أيضاً ، والباقون بجمع التصحيح .
وقرأ ابنُ هرمز « تُغْفَرْ » بتاءٍ مضمومة مبيناً للمفعول ، كنافع ، « خَطَايَاكُم » كأبي عمرو ، وعنه « يَغْفِرْ » بياء الغيبة ، وعنه « تَغْفِر » بفتح التَّاءِ من فوق ، على معنى أنَّ « الحِطَّة » سببٌ للغفران ، فنسب الغفران إليها .

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)

قوله تعالى : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر } الآية .
المقصود تعرف هذه القصة من قبلهم؛ لأنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - قد علمها من قبل الله تعالى ، والمقصود من ذكر هذا السؤال أحد أشياء :
الأول : المقصود منه تقرير أنهم كانوا قد أقْدَمُوا على هذا الذنب القبيح تَنْبِيهاً لهم على إصرارهم على الكفر بمحمد - عليه الصلاة والسلام - .
والثاني : أنَّ الإنسان قد يقول لغيره هل الأمر كذا وكذا؟ ليعرف ذلك بأنه محيط بمعرفةِ تلك الواقعة وغير غافل عنها . ولمَّا كان النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أمياً لم يعلم علماً ، ولم يطالع كتاباً ، ثمَّ إنَّه يذكر هذه القصص على وجوهها من غير تفاوت ولا زيادة ولا نقصان ، كان ذلك جارياً مجرى المعجزة .
قوله : « عَنِ القَرْيَةِ » لا بُدَّ من مضافٍ محذوفٍ ، أي : عن خبر القرية ، وهذا المحذوفُ هو النَّاصِبُ لهذا الظرف وهو قوله « إذْ يَعْدُون » .
وقيل : هو منصوب ب « حَاطِرَة » .
قال أبُو البقاء : وجوَّزَ ذلك أنها كانت موجودةً في ذلك الوقت ثم خربت .
وقدر الزمخشريُّ : المُضاف « أهل » أي : عن أهل القرية ، وجعل الظرف بدلاً من « أهل » المحذوف فإنَّهُ قال : « إذْ يَعْدُون » بدل من القرية ، والمرادُ بالقرية : أهلُها كأنه قيل : واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في البيت ، وهو من بدل الاشتمال .
قال أبُو حيَّان وهذا لا يجوزُ؛ لأن « إذْ » من الظُّرُوف التي لا تتصرَّفُ ، ولا يدخل عليها حرفُ جر ، وجعلها بدلاً يجَوِّزُ دخول « عن » عليها؛ لأنَّ البدل هو على نِيَّةِ تكرار العامل ولو أَدْخَلْتَ « عن » عليها لم يجز ، وإِنَّما يتصرَّف فيها بأن تُضيف إليها بعض الظُّروف الزَّمانية نحو : يوم إذ كان كذا ، وأمَّا قول من ذهب إلى أنَّها تكونُ مفعولةً ب « اذكر » فقولُ مَنْ عَجَزَ عن عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفاً .
وقال الحوفيُّ : « إذ » متعلقةٌ ب « سَلْهم » .
قال أبُو حيان : وهذا لا يتصوَّر ، لأن « إذْ » لما مضى ، و « سَلْهم » مستقبلٌ ، لو كان ظرفاً مستقبلاً لم يَصِحَّ المعنى؛ لأنَّ العادين - وهم أهل القريةِ - مفقودون فلا يمكن سُؤالهم والمسئول غير أهل القرية العادين .
وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك « يَعَدُّون » بفتح العين وتشديد الدَّالِ ، وهذه تُشبه قراءة نافع في قوله { لاَ تتَعْدُواْ فِي السبت } [ النساء : 154 ] والأصل : تَعْتَدوا ، فأدغم التاء في الدال لمقاربتها لها .
وقُرىء « يُعِدُّونَ » بضمِّ الياء وكسر العين وتشديد الدال من : أعَدَّ يُعِدُّ إعداداً إذ هَيَّأ آلاته ، لما ورد أنهم كانوا مأمورين في السبت بالعبادةِ ، فيتركونها ويُهَيِّئُونَ آلاتِ الصَّيد .

فصل
معنى الآية : واسْأل مُحَمَّد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال توبيخ عن القرية التي كانت حاضرة البحر أي : بقرية ، والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى : { ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام } [ البقرة : 196 ] .
قال ابنُ عباس ، وأكثر المفسرين : هي قرية يقال لها : أيْلَة بين مَدْيَن والطُّورِ على شاطىء البحر .
وقيل : مدين .
وقال الزُّهري : هي طبرية الشَّامِ ، والعرب تسمِّ ] المدينة قرية وعن أبي عمرو بن العلاء مَا رَأيْتُ قرويين أفصَحَ من الحسين والحجَّاج يعني رجلين من أهل المدنِ ، و « يَعْدُون في السَّبتِ » يتجاوزون حد اللَّه فيه ، وهو اصطيادهم في يوم السَّبت وقد نُهُوا عنه ، والسَّبْتُ : مصدر سَبَتَ اليهود إذَا عظَّمت سُنَّتَهَا ، إذا تركوا العمل في سبتهم ، وسُبِتَ الرجل سُباتاً إذا أخذه ذلك ، وهو مثل الخرس ، وأسبت سكن فلم يتحرك والقوم صاروا في السَّبت ، واليهود دخلوا في السبت ، وهو اليوم المعروفُ ، وهو من الرَّاحةِ والقطع ، ويجمع على أسْبُت وسُبُوت وأسبات ، وفي الخبر عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم « من احْتَجَمَ يوْمَ السَّبْتِ فأصَابَهُ مرضٌ لا يلُومنَّ إلاَّ نَفْسَهُ »
قال القرطبي : قال علماؤنا : لأنَّ الدَّمَ يجمد يوم السبت ، فإذا مددته لتستخرجه لم يَجْرِ وعَادَ بَرَصاً .
قوله : « إذْ تَأتيهم » العامل فيه « تَعْجون » أي : إذَا عَدَوا إذ أتَتْهُمْ؛ لأنَّ الظَّرْفَ الماضي يَصْرِفُ المضارع إلى المضيِّ .
وقال الزمخشريُّ : و « إذ تأتيهم » بدلٌ من « إذ يَعْدُونَ » بدل بعد بدل ، يعني : أنه بدلٌ ثانٍ من القريةِ على ما تقدَّم عنه ، وقد تقدَّم ردُّ أبي حيان عليه فيعود هنا .
و « حِيتَان » جمع « حُوت » ، وإنَّما أبدلَت الواوُ يَاءً ، لسكونها وانكِسَارِ ما قبلها ، ومثلُهُ نُون ونِينَان والنُّونُ : الحُوتُ .
قوله « شُرَّعاً » حالٌ من « حِيتَانُهُمْ » وشُرَّعٌ : جمعُ شارع .
وقرأ عمر بن عبد العزيز : « يَوْمَ إسباتهم » وهو مصدر « أسبت » إذا دخل في السَّبْت .
وقرأ عاصم بخلاف عنه وعيسى بن عمر « لا يَسْبُتُونَ » .
وقرأ عليٌّ والحسنُ وعاصمٌ بخلاف عنه « لا يُسْبِتُونَ » بضم الياء وكسر الباء ، من أسْبَت ، أي : دخل في السبت .
وقُرىء : « يُسْبَتُونَ » بضمِّ الياء وفتح الباء مبنياً للمفعول ، نقلها الزمخشريُّ عن الحسن .
قال : أي لا يُدَار عليهم السبت ولا يؤمَرُونَ بن يَسْبِتُوا ، والعاملُ في : « { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ } قوله : » لا تَأتيهمْ « أي : لا تأتيهم يوم لا يَسْبِتُونَ ، وهذا يَدُلُّ على جواز تقديم معمول المنفي ب » لا « عليها وقد تقدم فيه ثلاث مذاهب : الجواز مطلقاً كهذه الآية ، والمنع مطلقاً ، والتفصيل بين أن يكون جواب قسم فيمتنع أوْ لا فيجوز .

ومعنى شُرَّعاً أي ظاهرة على الماء كثيرة . من شرع فهو شارع ، ودار شارعة أي : قريبة من الطريق ، ونجوم شارعة أي : دنت من المغيب ، وعلى هذا فالحيتان كانت تَدْنُوا من القرية بحيث يمكنهم صيدها .
وقال الضَّحَّاكُ : متتابعة .
فصل
قال ابنُ عباس ومجاهد : إنَّ اليهود أمرةوا باليوم الذي أمرتم به يوم الجمعة فتركوه ، واختاروا السبت ، فابتلاهم الله به ، وحرم عليهم الصَّيْدَ ، وأمروا بتعظيمه ، فإذا كان يوم السَّبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها ، فإذا انقضى السَّبت ذهبت عنهم ، ولم تعد إلاَّ في السبت المقبل ، وذلك بلاء ابتلاهم اللَّه به .
فقوله { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } أي لا يَفْعَلُونَ السبت ، يقال : سَبَتَ يَسْبِتُ إذا عظم السبت . والمعنى : يَدْخُلُونَ في السَّبْتِ ، كما يقالك أجْمَعْنَا وأظهرنَا وأشْهَرْنَا ، أي : دخلنا في الجمعة ، والظهر ، والشهر .
كما يقال : أصبحنا أي : دخلنا في الصباح .
قوله : « كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ » . ذكر الزجاجُ ، وابن الأنباريِّ في هذه الكافر ومجرورها وجهين :
أحدهما : قال الزَّجَّاج : أي : مثل هذا الاختبار الشَّديد نختبرهم ، فموضع الكاف نصبٌ ب « نَبْلُوهُم » .
قال ابن الأنباري : ذلك إشارةٌ إلى ما بعده ، يريد : نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ كذلك البلاء الذي وقع بهم في أمر الحيتان ، وينقطع الكلام عند قوله « لا تَأتيهمْ » .
الوجه الثاني : قال الزجاج ويحتمل أن يكون - على بُعْدٍ - أن يكون : ويَوْمَ لا يَسبتُون لا تأتيهم كذلك أي لا تأتيهم شُرَّاعاً ، ويكون « نَبْلُوهُم » مستأنفاً .
قال أبو بكر : وعلى هذا الوجه كذلك راجعةٌُ إلى الشُّرُوع في قوله تعالى : { يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً } والتقدير : ويَوْمَ لا يسبتُونَ لا تأتيهم كذلك الإتيانِ بالشّروع ، وموضعُ الكاف على هذا نَصْبٌ بالإتيان على الحالِ ، أي : لا تأتي مثل ذلك الإتيان .
قوله : « بِمَا كَانُوا » الباءُ سببيةٌ و « ما » مصدريةٌ ، أي : نَبْلُوهم بسبب فسقهم ، ويضعُفُ أن تكون بمعنى « الذي » لتكَلُّفِ حذفِ العائد على التدريج .
فقالك وأفصحُ اللغات أن ينتصبَ الظرف مع السبت والجمعة فتقول : اليوم السَّبْتُ ، واليوم الجُمعَةُ فتنصب اليوم على الظَّرْلإِ ، وترفع مع سائر الأيام فتقول : اليومُ الأحدُ واليومُ الأربعاءُ لأنَّهُ لا معنى للفعل فيهما فالمبتدأ هو الخبر فترفع .
قال شهابُ الدِّين : هذه المسألة فيها خلافٌ بين النَّحويين ، فالجمهورُ كما ذكر يوجبون الرفع؛ لأنَّه بمنزلة قولك : اليومُ الأولُ ، اليومُ الثاني . وأجاز الفراء وهشام النَّصبَ ، قالا : لأنَّ اليوم بمنزلة : الآن وليست هذه المسألةُ مختصَّةً بالجمعة والسبت بل الضابطُ فيها : أنه إذا ذُكر « اليوم » مع ما يتضمن عملاً أو حدثاً جاز الرفع والنصب نحو قولك : اليوم العيد ، اليوم الفطر ، اليوم الأضحى .
كأنك قلت : اليوم يحدث اجتماع وفطر وأضحية .
فصل
قال المفسِّرُون : وسْوَسَ لهم الشَّيطان وقال : إنَّ الله لم ينهكم عن الاصطياد وإنَّما نهاكم عن الأكْلِ فاصطَادُوا .

وقيل : وسوس إليهم أنَّكُمْ إنَّمَا نُهِيتُم عن الأخذ فاتَّخِذُوا حِيَاضاً على شاطىء البَحْرِ ، تسوقون الحيتان إليها يوم السبت ، ثم تأخذونها يوم الأحدش ، ففعلوا ذلك زماناً ، ثمَّ تَجَرَّءُوا على السبت وقالوا ما نرى السبت إلاَّ قد أحِلَّ لنا ، فأحذوا ، وأكلوا وباعوا فنهاهم بعضهم ، وبعضهم فعل ، ولم ينته ، وبعضهم سكت وقالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ } [ الأعراف : 164 ] فلمَّا لم يَنْتَهُوا قال النَّأهُونَ لا نُسَاكِنُكُمْ ، فقسموا القرية بجدارٍ ، للمسلمين باب ، وللمعتدين بابٌ ، ولعنهم داودُ ، فأصبح النَّاهُونَ ذات يوم ، ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن لهم شأناً ، لعلّ الخمر غلبتهمن فعلوا الجدار ، فإذا هم قِرَدَةٌ .
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ الحيل في تحليل الأمور الَّتي حرمها الشارع محرمةٌ؛ كالغيبة ، ونكاح المحلِّل ، وما أشبههما من الحيلِ ، ودلَّت على أنَّه تعالى لا يجب عليه رعايةُ الصَّلاح والإصلاح لا في الدِّين ولا في الدنيا؛ لأنَّهُ تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السَّبْتِ مما يحملهم على المعصية والكفر ، فلو وجب عليه رعاية الصَّلاح لوجب أن لا يكثر الحيتان في ذكل اليوم صوناً لهم عن الكفر والمعصية ، فلمَّا فعل علمنا أن رعاية الصَّلاح لا تجب على الله تعالى .
قوله : { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } .
اختلفوا في الذين قالوا هذا القول .
فقيل : كانوا من الفرقة الهالكة؛ لأنَّهُم لمَّا قيل لهم : انتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم العذاب؛ فإنكم إن لم تنتهوا فإنَّ اللَّهَ ينزل بكم بأسه فأجابوا بقولهم : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ } .
فقال النَّاهُونَ { مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ } أي موعظتنا { مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ } ، والأصحُّ أنها من قول الفرقة السَّاكتة جواباً للنَّاهية ، قالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ . . . مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ } .
ومعناه : أنَّ الأمر بالمعروف واجبٌ علينا ، فعلينا موعظة هؤلاء عُذراً إلى اللَّهِ . « ولَعلَّهُم يتَّقُون » أي : يتَّقُوا اللَّهَ ويتركوا المعصية ، ولو كان الخطاب مع المعتدين لقال : « ولعلَّكُم تتَّقُونَ » .
« مَعْذِرَةً » قرأ العامَّةُ : « مَعْذِرَةٌ » رفعاً على أنه خبر ابتداء مضمر ، أي : موعظتنا معذرة .
وقرأ حفصٌ عن عاصم ، وزيد بن علي ، وعيسى بنُ عمر ، وطلحةُ بنُ مصرف : « مَعْذِرَةٌ » نصباً وفيها ثلاثةُ أوجه :
أظهرها : أنَّهَا منصوبةٌ على المفعول من أجله ، أي : « وعَظْنَاهُم لأجل المعذرة » .
وقال سيبويه : ولو قال رجلٌ لرجلٍ : معذرةً إلى الله وإليك من كذا ، لنصب .
الثَّاني : أنَّها منصوبةٌ على المصدر بفعل مقدر من لفظها ، تقديره : نَعْتَذِرُ مَعْذرةً .
الثالث : ان ينصب انتصابَ المفعول به؛ لأن المعذرةَ تتضمَّنُ كلاماً ، والمفردُ الثالث : والمفردُ المتضمِّنُ لكلام إذا وقع بعد القولِ نُصِبَ نصب المفعول به ، ك « قلت خطبة » .

وسيبويه يختارُ الرَّفْعَ .
قال : لأنَّهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً .
ولكنهم قيل لهم : لِمَ تَعِظُونَ؟
« فَقَالُوا » موعظتنا معذرةً .
والمَعْذِرَةُ : اسمُ مصدر وهو العذر .
وقال الأزهري : إنَّها بمعنى الاعتذارِ ، والعذرُ : التَّنصلُ من الذَّنبِ .
قوله : { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } الضَّميرُ في نَسُوا للْمنهيِّينَ و « ما » موصولةٌ بمعنى « الذي » أي : فلمَّا نسُوا الوعظ الذي ذكَّرَهُم به الصَّالحون .
قال ابنُ عطيَّة : ويحتمل أن يُرادَ به الذِّكرُ نفسه ، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر .
قال أبُو حيان : ولا يظهرُ لي هذان الاحتمالان .
قال شهابُ الدِّين : يعني ابنُ عطية بقوله : « الذِّكرُ نفسُهُ » أي : نفسُ الموصول مُرادٌ به المصدر كأنه قال : فلمَّا نسُوا الذِّكْرَ الذي ذُكِّروا به ، وبقوله : « مَا كان فيه الذِّكر » نَفَسُ الشيء المذكَّر به الذي هو متعلِّق الذكر؛ لأن ابن عطيَّة لمَّا جعل « ما » بمعنى « الذي » قال : إنَّها تحتملُ الوقوع على هذين الشيئن المتغايرين .
فصل
النِّسيان يطلق على السَّاهي ، والعامد التَّارك لقوله : { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } أي : تركوه عن قصد ، ومنه قوله تعالى : { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] .
فصل
المعنى : فلمَّا تركوا ما وعظوا به ، { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ } أي الذين أقدموا على المعصية .
واختلف المفسِّرون في الفرقة السَّاكتة . فقنل عن ابن عبَّاسٍ : أنَّهُ توقَّف فيهم ، ونقل عنه : هلكت الفرقتان ونجت النَّاهية ، وكان ابنُ عباس إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : إنَّ هؤلاء الذين سكتوا عن النَّهي عن المنكر هلكوا ، ونحن نرى أشياء ننكرها ، ثم نسكت ، ولا نقول شيئاً .
وقال الحسنُ : نجت الفرقتانِ ، وهلكت العاصية ، لأنهم لما قالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ } دلَّ على أنَّهُمْ أنكروا أشد الإنكار ، وأنَّهُمْ إنَّما تركوا وعظهم؛ لأنه غلب على ظنهم أنهم لا يلفتون إلى ذلك الوعظِ .
فإن قيل : إن ترك الوعظِ معصية ، والنَّهي عنه أيضاً معصية؛ فوجب دخول هؤلاء التَّاركين للوعظ النَّاهين عنه تحت قوله : { وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } .
فالجوابُ : هذا غير لازمٍ؛ لأنَّ النَّهي عن المنكر إنَّمَا يجب على الكفاية ، ولو قام به البعضص سقط عن الباقين .
وروي عن ابن عبَّاس أنه قال : أسمعُ الله يقول : { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } ، فلا أدري ما فعلت الفرقة السَّاكتة؟
قال عكرمةُ : قلت له : جعلني اللَّهُ فداك ، ألا تراهم قد أنكروا ، وكرهوا ما هم عليه وقالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ } ، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل : أهلكتهم ، فأعجبه قولي ورضي به ، وأمر لي ببردين فكسانيهما؛ وقال : نَجتِ السَّاكتةُ ، وهذا قول يمان بن رباب ، والحسن ، وابن زيد .
قوله : « بعذابٍ بئيسٍ » . أي : شديد .
قرا نافعٌ ، وأبو جعفر ، وشيبةٌ بيْسٍ بياء ساكنة ، وابن عامر بهمزة ساكنة .

وفيهما أربعة أوجه :
أحدها : أنَّ هذا في الأصْلِ فعلٌ ماضٍ سُمِّيَ به فأعربَ كقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « أنهاكم عن قيل وقال » بالإعراب والحكاية ، وكذا قولهم : « مُذ شبَّ إلى دبَّ ومُذ شبٍّ إلى دَبٍّ » ، فلما نُقل إلى الاسميَّة صار وصفاً ك : نِضْوا ونِقْض .
والثاني : أنَّهُ وصف وضع على فعل ك : حِلْف .
الثالث : أن أصله بَئيس كالقراءةِ المشهورة ، فخفَّفَ الهمزة؛ فالتقت ياءان ، ثم كسر الياء إتباعاً ، كرغيف وشهيد فاستثقل توالي ياءين بعد كسرةٍ ، فحذفت الياء المكسورة؛ فصار اللَّفظُ « بِيْسٍ » وهو تخريج الكسائيِّ .
الرابع : أن أصله بَئِس بوزن « كَتِف » ثم أتبعت الياءُ للهمزة في الكسر ثم سُكِّنت الهمزة ، ثمَّ أبدلت يا ك : بِيرٍ وذِيبٍ .
وأمَّا قراءة ابن عامر فتحتمل أن تكون فعلاً منقولاً ، وأن تكون وصفاً ك : حِلْف .
وقرأ أبو بكر عن عاصم بَيْئَسٍ بياء ساكنة بين باء ، وهمزة مفتوحتين ، وهو صفةٌ على فَيْعَل ك : ضَيْغَم ، وصَيْرَف ، وصَيْقَل ، وهي كثيرةٌ في الأوصافِ .
وقرأ امرؤُ القيسِ : [ الرجز ]
2602 - كِلاهُمَا كَأنَ رَئِيساً بَيْئَسا ... يَضْرِبُ في يومِ الهِيَاجِ القَوْنَسَا
وقرأ باقي السبعة « بَئِيسٍ » بزنه « رَئِيسٍ » وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ وصفٌ على « فَعِيلٍ » ك : شَدِيدٍ ، وهو للمبالغة وأصله فاعل .
والثاني : أنه مصدرٌ وصف به أي : بعذابٍ ذي بأس بَئِيس ، ف « بَئِيسٍ » مصدر مثل : النكثير والقدير ، ومثر ذلك في احتمالِ الوجهين قول أبي الأصبع العدواني : [ مجزوء الكامل ]
2603 - حَنَقاً عليَّ ولا أرَى ... لِيَ مِنْهُمَا شَرّاً بَئِيساً
وهي أيضاً قراءةُ عليٍّ وأبي رجاء .
وقرأ يعقوبُ القارئ « بَئِسَ » بوزن « شَهِدَ » ، وقرأها أيضاً عيسى بنُ عُمَرَ ، وزيد بن علي .
وقرأ نصرُ بنُ عاصم « بَأسَ » بوزن « ضَرَبَ » فعلاً ماضياً .
وقرأ الأعمش ومالك بنُ دينار « بَأس » فعلاً ماضياً ، وأصله « بَئِس » بكسر الهمزة ، فسكَّنَهَا تخفيفاً ك : شَهْدَ في قوله : [ الرجز ]
2604- لَوْ شَهْدَ عَاد فِيَ زَمَانِ تُبَّعِ ... وقرأ ابنُ كثير وأهل مكة بِئِسٍ بكسر البَاءِ ، والهمز همزاً خفيفاً ، ولم يُبَيِّن هل الهمزة مكسورةٌ أو ساكنةٌ؟
وقرأ طلحة وخارجة عن نافع « بَيْسٍ » بفتح الباء ، وسكون الياء مثل : كَيْلٍ ، وأصله « بَيْئَس » مثل : ضَيْغَم فخفَّف الهمزة بقلبها ياءً ، وإدغام الياء فيها ثم خفَّفهُ بالحذف ك : مَيْت في : مَيِّت .
وقرأ عيسى بن عمر والأعمش وعاصم في رواية « بَيْئٍسٍ » كقراءة أبي بكر عنه ، إلاَّ أنَّهُ كسر الهمزة ، وهذه قد ردَّها النَّاسُ؛ لأن « فَيْعِلاً » بكسر العين في المعتلِّ ، كما أن « فَيْعَلاً » بفتحها في الصحيح ك : سَيِّد وضَيْغَم ، على أنه قد شذّ « صَيْقِل » بالكسر ، و « عَيَّل » بالفتح .

وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عن « بَأسٍ » بفتح الباء والهمزة وجر السِّين ، بزنة « جَبَلٍ » .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف « بَئِسٍ » مثل كبد وحذر .
قال عبيد الله بن قيس : [ المديد ]
2605 - لَيْتَنِي ألْقَى رُقَيَّةَ فِي ... خَلْوَةٍ مِنْ غَيْرِ مَا بَئِسِ
وقرأ نصر بنُ عاصم في رواية بَيِّسٍ بهمزةٍ مشددة .
قالوا : قلب الياء همةً وأدغمها في مثلها . ورويت هذه عن الأعمش أيضاً .
وقرأت طائفة بَأسَ بفتح الثلاثة ، والهمزة مشددة ، فعلاً ماضياً ، ك « شَمَّرَ » ، وطائفة أخرى بَأسَ كالتي قبلها إلاَّ أنَّ الهمزة خفيفةٌ ، وطائفة بَائسٍ بألف صريحة بين الباءِ والسِّينِ المجرورة ، وقرأ أهل المدينة بِئيسٍ ك : « رَئِيسٍ » ، غلاَّ أنهم كسروا الباء ، وهذه لغةُ تميم في فعيل الحلقيِّ العين نحو : بِعِير ، وشِعِير ، وشِهيد ، سواء أكان اسماً أم صفة .
وقرأ الحسن والأعمس « بِئْيَسٍ » بياء مكسورة ، ثم همزة ساكنة ، ثم يا مفتوحة ، بزنة « حِذْيَم » ، و « عِثْيَر » .
وقرأ الحسنُ بِئْسَ بكسر الباءِ ، وسكون الهمزة وفتح السِّينِ ، جعلها التي للذَّمِّ في نحو : بِئْسَ الرجل زيدٌ .
ورُويت عن أبي بكر .
وقرأ الحسن أيضاً كذلك ، إلاَّ أنه بياءٍ صريحة ، وتخريجها كالتي قبلها ، وهي مرويةً عن نافع وقد ردَّ أبو حاتم هذه القراءةَ والتي قبلها بأنَّهُ لا يقالُ : مررت برجلٍ بِئْسَ ، حتَّى يقال بِئْسَ الرجل ، أو بئس رجلاً .
قال النَّحَّاس : وهذا مردودٌ - يعني قول أبي حاتم - حكى النحويون : إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت ، أي : ونعمت الخصلة ، والتقدير : بِئْسَ العذابُ .
قال شهابُ الدِّينِ : أبو حاتم معذورٌ في القراءة ، فإنَّ الفاعل ظاهراً غير مذكور ، والفاعل عمدةٌ لا يجوز حذفه ، ولكنه قد ورد في الحديث مَنْ تَوضَّأ فبها ونعْمتُ ، ومن اغتسَلَ فالغُسْلُ أفضلُ ففاعل « نِعْمَتْ » هنا مضمرٌ يفسِّرُهُ سياقُ الكلام .
قال أبُو حيَّان : فهذه اثنتان وعشرون قراءةً ، وضبطُها بالتَّلخيص : أنَّها قُرِئتْ ثلاثية اللَّفْظِ ، ورباعَّيتَهُ ، فالثُّلاثي اسماً : بِئْسٍ ، وَبِيْسٍ ، وبَيْسٍ ، وبَأْسٍ ، وبَأَسٍ ، وبَئِسٍ ، وفعلاً بِيْسَ وبِئْسَ ، وبَئِسَ ، وبَأَسَ ، وبَأْسَ ، وبَيِسَ .
والرباعية اسماً : بَيْئَسٍ ، وبِيْئِسٍ ، وبَيْئِسٍ ، وبَيِّسٍ ، وبَئِيْسٍ ، وبِئَيْسٍ ، وبِئْيِسٍ ، وبِئْيَسٍ ، وفعلاً : بَأَّسَ « .
وقد زا أبو البقاء أربع قراءات أخر : بَيِس بباء مفتوحة وياء مكسورة .
قال : وأصلها همزة مكسورة فأبدلت ياء ، وبَيَس بفتحهما .
قال : وأصلها ياء ساكنة وهمزة مفتوحة إلاَّ أنَّ حركة الهمزة ألقيت على الياء وحذفت ، ولم تقلب الياء ألفاً ، لأنَّ حركتها عارضةٌ . وبَأْيَسٍ بفتح الباء ، وسكون الهمزة وفتح الياء .
قال : وهو بعيد إذ ليس في الكلام » فَعْيَل « وبَيْآس على فَيْعَال . وهو غريب .
قوله تعالى : { فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ } الآية .

قال ابنُ عباسٍ « أبَوْا أن يرجعوا عن المعصية » والعُتو : هو الإباء والعصيان .
فإن قيل : إذا عتوا عمَّا نُهُوا عنه فقد أطاعوا؛ لأنَّهُم أبوا عمَّا نُهُوا عنه ، وليس المراد ذلك .
فالجواب : ليس المراد أنهم أبوا عن النهي ، بل أبوا عن امثتال ما أمروا به .
وقوله : { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } .
قال بعضهم ليس المراد منه القول؛ بل المراد منه أنه تعالى فعل ذلك .
قال : وفيه دلالة على أن قوله : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] هو بمعنى الفعل لا الكلام .
وقال الزجاج أمِرُوا بأن يكُونُوا كذلك بقول سمع ، فيكون أبلغ .
قال ابنُ الخطيب : وحمل هذا الكلام على الأمر بعيد؛ لأنَّ المأمور بالفعل يجبُ أن يكون قادراً عليه ، والقوم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم قردة .
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ : أصبح القوم قردةً خاسئين؛ فمكثوا كذلك ثلاثة أيَّام تراهم النَّاس
ثمَّ هلكوا ، ونقل عن ابن عبَّاسٍ : أن شباب القوم صاروا قردة ، والشُّيُوخ خنازير ، وهذا خلاف الظَّاهر .

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)

قوله تعالى : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } الآية .
لمَّا شرح قبائح أعمال اليهود ذكر هنا حكمه عليهم بالذل والصَّغارِ إلى يوم القيامة ، و « تَأذَّنَ » فيه اوجه ، أحدها : أنَّهُ بمعنى : « آذَنَ » أي : أعْلَمَ .
قال الواحديُّ : وأكثر أهل اللغة على أنَّ : « التَّأذَُّ » بمعنى الإيذان ، وهو الإعلامُ .
قال الفارسي : « آذَنَ » أعْلَمَ ، و « أذَّنَ » نادى وصاح للإعلام ، ومنه قوله { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } [ الأعراف : 44 ] .
قال : وبعض العرب يُجْرِي « آذَنْتُ » مجرى « تَأذَّنْتُ » فيجعل « آذَانَ وتَأذَّنَ » بمعنى فإذا كان « أذَّنَ » أعلم في لغة بعضهم ، ف « أذَّنَ » تفعَّل من هذا .
وقيل : معناه : حَتَّمَ وأوْجبَ وهو معنى قول مجاهد : أمر ربك ، وقول عطاء : حكم ربّك .
وقال الزمخشري : « تأذَّن » عزم ربك ، وهو تفعَّل من الإيذانِ وهو الإعلامُ؛ لأنَّ العازمَ على الأمر يُحدِّثُ به نفسه ويؤذنها بفعله ، وأجري مُجْرَى فعل القسم ك : عَلِمَ الله ، وشَهِدَ الله ، ولذلك أجيب بما يجابُ به القسم وهو : « لَيَبْعَثَنَّ » .
وقال الطبريُّ وغيره « تَأذَّنَ » معناه « أعْلَمَ » ، وهو قلقٌ من جهة التصريف ، إذ نسبةُ « تأذَّنَ » إلى الفاعل غيرُ نسبة « أعْلَمَ » ، وبين ذلك فرقٌ من التعدي وغيره .
وقال ابن عباس : تأذَّنَ ربُّك قال ربُّكَ .
قوله : { إلى يَوْمِ القيامة } فيه وجها : أصحهما : أنَّهُ متعلقٌ ب : لِيَبَعْثَنَّ .
والثاني : أنَّهُ متعلقٌ ب : تَأذَّنَ نقله أبو البقاء ، ولا جائزٌ أن يتلعق ب : يَسُومُهُمْ؛ لأن « مَنْ » إمَّا موصولةٌ ، وإمَّا موصوفةٌ ، والصلةُ والصفة لا يعملان فيما قبل الموصول والموصوف .
فصل
الضمير في عليهم يقتضي رجوعه إلى الذين : { َتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ } { الأعراف : 166 ] ، لكنَّهم قد مسخوا ، فلم يستمر عليهم التَّكليف؛ فلذلك اختلفوا :
فقيل : المراد نسلهم .
وقيل : المراد سائر اليهود ، فإنَّ أهل القرية كانوا فرقتينن فالمتعدِّي مسخ ، وألْحَقَ الذُّلَّ بالبقيَّةِ .
وقال الأكثرون : هُمُ اليهُودَ الذين كانُوا في زمن الرسول - صلى عليه الصَّلاة والسَّلامُ -؛ لأن المقصودَ من الية تخويفهم وزجرهم ، وهذا العذابُ في الدُّنْيَا ، لأنه نص على أنَّ ذلك العذاب ممدود إلى يوم القيامة ثمَّ اختلفوا فيه :
فقيل : هو أخذ الجزيةِ .
وقييل : الاستخفافُ والإهانةُ لقوله تعالى { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا } [ آل عمران : 112 ] وقيل : القتل والجلاء الذي وقع بأهل خيبر وبين قريظة والنضير .
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ اليهود لا دولة لهم ولا عزَّ ، ون الذُّلَّ والصغار لا يفارقهم ، وقد ورد في الحديث : أن أتباع الدَّجَّالِ هم اليهود فإن صحَّ فمعناه ، أنهم كانوا قبل خروجه يهوداً ، ثم دانوا بإلهيته؛ فذكروا بالاسم الأول ، ولوا ذلك لكانوا في وقت اتباعهم الدَّجَّال قد خرجوا عن الذلةِ والقهرِ ، وهو خلاف الآيةِ .
ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب } والمراد التَّحذيرُ من عذابه في الآخرة مع الذِّلةِ في الدُّنيا { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن تاب من الكُفْرِ ، واليهوديَّةِ ، وآمن باللَّهِ وبرسوله .

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)

قوله تعالى : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً } الآية .
هذه الآية تدلُّ على أن المراد بقوله : { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } [ الأعراف : 167 ] جملة اليهود ، ومعنى « قَطَّعناهُم » أي : فرقناهم في الأرض ، وهذا يدلُّ على أنَّهُ لا أرض مسكونة إلاَّ وفيها منهم أمة ، وهذا هو الغالبُ .
وقوله : « أمَماً » إمَّا حالٌ من مفعول « قطَّعْنَاهُم » ، وإمَّا مفعولٌ ثانٍ على ما تقدَّم من أنَّ « قطَّع » تضمَّن معنى : صَيَّر . و « مِنْهُمُ الصَّالحُون » صفة ل « أمم » .
وقال أبو البقاء : « أو بدل منه ، أي : من أمم » . يعني : أنَّهُ حالٌ من مفعول : « قطَّعناهُمْ » أي : فرَّقناهُم حال كونهم منهم الصَّالحون .
قيل : المرادُ ب « الصَّالحينَ » الذين كانوا في زمن موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ لأنَّهُ كان فيهم قوم يهدون بالحق .
وقال قتادةُ : هم الذين وراء نهر وداف من وراء الصِّين .
وقال ابنُ عباس ومجاهد : هم الذين آمنوا بالنَّبيِّ صلى الله الله عليه وسلم ك : عبد الله بن سلام وغيره . وقوله : { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } أي : من أقام على اليهوديِّةِ .
فإن قيل : لم لا يجُوزُ أن يكون قوله : { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } من يكون صالحاً إلاَّ أنَّ صلاحَهُ دون صلاح الأولين؛ لأنَّهُ أقرب إلى الظاهرِ؟
فالجوابُ : أن قوله بعد ذلك : « لَعَلَّهُمْ يرجعُونَ » يدُل على أنَّ المراد من ثَبَتَ على اليَهُوديَّةِ .
قوله : { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } « منهم » خبرٌ مقدم ، و « دُون ذلك » : نَعْتٌ لِمنعُوتٍ محذوف هو المبتدأ ، والتقدير : ومنهم ناسٌ أو قومٌ دون ذلك .
قال الزمخشري : معناه : ومنهم ناسٌ منحطُّون عن الصَّلاح ، ونحوه : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] . بمعنى : مَا منَّا أحدٌ إلاَّ له مقامٌ معلومٌ . يعني في كونه حذف الموصوفُ وأقيم الجملة الوصفية مقامهُ ، كما قام مقامه الظرفُ الوصفيُّ ، والتفصيل ب « مِنْ » يجوزُ فيه حذفُ الموصوف وإقامةُ الصِّفة مقامه كقولهم : منَّ ظَعَنَ ومنَّا أقَامَ . ؟
وقال ابنُ عطيَّة : فإن أريدَ بالصَّلاح الإيمانُ ف « دُونَ » بمعنى « غير » يُراد به الكفرة .
قال أبُو حيان : إن أراد أنَّ دُونَ ترادفُ « غيراً » ، فليس بصحيحٍ ، وإن أراد أنَّهُ يلزم أنَّ من كان دون شيء أن يكون غيراً له فصحيح ، وذلك إمَّا أن يُشارَ به إلى الصَّلاح وإمَّا أن يُشار به إلى الجماعة ، فإن أشير به إلى الصلاح؛ فلا بد من حذفِ مضاف ، ليصحَّ المعنى ، تقديره : ومنهم دُون أهل ذلك الصلاح ، ليعتدلَ التقسيم ، وإن أُشير به إلى الجماعة ، أي : ومنهم دون أولئك الصالحين ، فلا حاجة إلى تقدير مضافٍ؛ لاعتدار التقسيم بدونه .
وقال أبو البقاء : دُون ذلِكَ ظرفٌ أو خبر على ما ذكرنا في قوله :

{ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] وفيه نظر من حيث إن « دُونَ » ليس بخبر .
قوله : { وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات } أي : عاملناهم معاملة المبتلى المختبر بالحسناتِ ، وهي : النِّعمُ والخصبُ ، والعافيةُ ، والسَّيِّئاتِ وهي الجدب ، والشَّدائدُ .
قال أهل المعاني : وكُلُّ واحدةٍ من الحسناتِ والسيئاتِ تدعُو إلى الطَّاعة ، أمَّا النعم فللترغيب ، وأمَّا النِّقَمُ فللترهيب .
{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } : لكي يندموا ويتوبوا ويرجعوا إلى طاعة ربِّهم .
قوله : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب } الآية .
الخَلَف والخَلْف - بفتح اللام وإسكانها - هل هما بمعنىً واحد؟ أي : يُطلقُ منهما على القرن الذي يَخْلُف غيره صالحاً أو طالحاً ، أو أنَّ السَّاكن اللام في الطَّالح ، اولمفتوح في الصَّالح؟ خلافٌ مشهور بين اللُّغويين .
قال الفرَّاءُ : يُقال للقرنِ « خَلْف » يعني ساكناً ولمن استخلفته : خَلَفاً ، يعني : متحرك اللاَّم .
وقال الزجاج : الخلفُ ما أخلْفَ عليك بدلاً مِمَّا أخذ منك؛ فلهذا السبب يقالُ للقرنِ يجيء بعد القرنِ « خَلْفٌ » .
وقال ثعلبُ : النَّاسُ كلُّهم يقولون « خَلَفُ صدْقٍ » للصَّالح ، و « خَلْفُ سوء » للطَّالح؛ وأنشد : [ الكامل ]
2626- خَلَّفْتَ خَلْفاً ولمْ تدعْ خَلَفَا ... لَيْتَ بِهِمْ كانَ لا بِكَ التَّلَفَا
وقال بعضهم : قد يجيء في الرَّديء « خَلَفَ » بالفتح ، وفي الجيد « خَلْف » بالسُّكُون ، فمن مجيء الأول قوله : [ المتقارب ]
2608 - . . ... إلى ذلِك الخَلَفِ الأعوَرِ
_@_ومن مجيء الثاني قول حسان : [ الطويل ]
2609 - لَنَا القدَمُ الأولى عليْهِمْ وخَلْفُنَا ... لأوَّلِنَا في طاعةِ اللَّهِ تَابِعُ
وقد جمع بينهما الشَّاعِرُ في قوله : [ الرجز ]
2610 - إنَّا وَجدْنَا خَلْفنَا بِئْسَ الخَلَفْ ... عَبْداً إذا ما نَاءَ بالحِمْلِ خَضَفْ
فاستعمل السَّاكن والمتحرك في الرَّديء .
ولهذا قال النَّضْرُ : يجوزُ التَّحريم والسُّكونُ في الرَّديء ، فأمَّا الجيدُ فبالتحريك فقط ووافقه جماعةٌ من أهْلِ اللُّغة ، إلاَّ الفرَّاء وأبا عبيدٍ ، فإنَّهُمَا أجازا السكون في الخلف المراد به الصالح ، و « الخَلْف » بالسُّكون فيه وجهان ، أحدهما : أنَّهُ مصدر ، ولذلك لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤنَّث ، وعليه ما تقدَّم من قوله :
2611 - إنَّا وَجَدُنَا خَلْفَنَا بئس الخَلَفْ ... وإمَّا اسم جمع « خالفِ » ك : رَكْب لراكب ، وتَجْر لِتَاجِرٍ .
وإمَّا اسم جمع « خالِف » ك : رَكْب لراكب ، وتَجْر لِتَاجِرٍ .
قاله ابنُ الأنباري : ورَدُّه عليه ، بأنَّهُ لو كان اسمَ جمع لم يَجْرِ على المفرد ، وقد جرى عليه واشتقاقه إمَّا من الخلافةِ ، أي كُلُّ خلفٍ يَخْلُفُ من قبله ، وإمَّا من خلفَ النبيذ يَخْلُفُ أي : فَسَدَ .
يقال : خَلَفَ النَّبيذُ يَخْلُفُ خَلْفاً وخُلُوفاً ، وكذلك الفَمُ إذا تغيَّرت رائحتُهُ ومن ذلك الحديث « لَخُلُوفُ فمِ الصَّائم » .
وقوله : « وَرِثُوا » في محل رفع نعتاً ل « خَلْف » ويَأخُذُونَ حال من فاعل وَرِثُوا .
وقرأ الحسنَ البصري : وُرِّثُوا بضمِّ الواو وتشديد الرَّاءِ مبنيّاً لما لم يُسَمَّ فاعله ، والمعنى انتقل إليهم الكتابُ من آبائهم وهو التَّوراةُ ، ويجوز أن يكون : يَأخُذُونَ مستأنفاً أخبر عنهم بذلك .

وقوله : عَرَضَ هذَا الأدْنَى .
قال أبُو عبيدٍ : جميع متاعِ الدُّنْيَا عرض بفتح الرَّاء .
يقال : « الدُّنيا عرضٌ حاضرٌ يأكل منها البرُّ والفاجِرُ » . وأما العَرَْ بسكون الرَّاء فما خالف الثَّمين ، أعني الدَّراهم والدَّنانير وجمعه عروض ، فكان العَرْضُ من العَرَض وليس كل عَرَضٍ عَرْضاً . والمعنى : حُطَامُ هذا الشَّيء الأدْنَى يريد الدُّنْيَا ، والمرادُ منه : التَّخسيس والتَّحقير ، والأدْنَى إمَّا من الدُّنوِّ بمعنى القرب؛ لأنَّهُ عاجل قريب ، وإمَّا من دنوِّ الحالِ وسقوطها . وتقدَّم الكلامُ عليه .
قوله ويَقُولُونَ نسقٌ على يَأخذُونَ بوجهيه ، وسَيُغْفَرُ معموله ، وفي القائم مَقَام فاعله وجهان : أحدهما الجَاُّ بعده وهو « لَنَا » والثاني : أنَّهُ ضمير الأخْذِ المدلول عليه بقوله يَأخُذُونَ أي : سيغفرُ لنا أخذُ العرض الأدْنَى .
قوله : { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ } هذه الجملة الشَّرطية فيها وجهان :
أظهرهما : أنَّها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب .
والثاني : أنَّ الواوَ للحال ، وما بعدها منصوبٌ عليها .
قال الزمخشري : الواو للحال ، أي : يَرْجُون المغفرة وهم مُصِرُّون عائدون إلى فعلهم غير تائبين ، وغفرانُ الذُّنُوب لا يصحُّ إلاَّ بالتَّوبةِ ، والمُصِرُّ لا غفران له انتهى . وإنَّما جعل الواو للحال لهذا الغرض الذي ذكره من أن الغُفران شرطه التَّوبة ، وهو رأي المعتزلة وأمَّا أهْلُ السُّنَّة : فيجوز مع عدم التوبة ، لأنَّ الفاعل مختار .
والعَرَض - بفتح الراء - ما لا ثبات له ، ومنه استعار المتكلمون : العَرَض المقابل للجوهر .
وقال أبو عبيدة : العَرَضُ - بالفتح - جميعُ متاعِ الدُّنيا غير النقدين . كما تقدَّم .
قال المفسِّرون : المراد بالكلامِ : الإخبارُ عن إصرارهم على الذُّنُوبِ .
وقال الحسنُ : هذا إخبارٌ عن حِرصِهِمْ على الدُّنْيا ، وأنهم « يستمتعون » منها .
ثم قال تعالى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب } أي : التَّوراة : { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } والمرادُ منعهم عن تحريف الكتاب ، وتغيير الشَّرائع ، لأجل أخذ الرشوةِ .
قوله : { أَن لاَّ يِقُولُواْ } فيه أربعةُ أوجه : أحدها : أنَّ محله رفع على البدل من « مِيثَاقُ » ؛ لأن قول الحقّ هو ميثاق الكتاب .
والثاني : أنَّهُ عطفُ بيان له وهو قريب من الأوَّلِ .
والثالث : أنه منصوبٌ على المفعول من أجله .
قال الزمخشريُّ : وإنْ فُسِّرَ ميثاق الكتاب بما تقدَّم ذكره كان : « ألاَّ يقُولُوا » مفعولاً من أجله ومعناه : لئلا يقولوا وكان قد فسَّر ميثاق الكتاب بقوله في التوراة : « من ارتكب ذَنْباً عَظِيماً فإنَّه لا يُغفر له إلا بالتَّوبة » ، و « أنْ » على هذه الأقوالِ الثلاثة مصدرية .
الرابع : أنَّ « أنْ » مفسرة ل « مِيثَاقُ الكتابِ » ؛ لنَّهُ بمعنى القولِ ، و « لا » ناهية ، وما بعدها مجزوم بها ، وعلى الأقوال المتقدِّمة « لا » نافية ، والفعلُ منصوبٌ ب « أنْ » المصدرية و « الحَقَّ » يجوز أن يكون مفعولاً به ، وأن يكون مصدراً ، وأضيفَ الميثاقُ للكتابِ؛ لأنَّهُ مذكورٌ فيه .

قوله : « ودَرَسُوا » فيه ثلاثةُ أوجه ، أظهرُها ما قاله الزمخشريُّ : وهو كونُه معطوفاً على قوله : « ألَمْ يُؤخَذْ » ؛ لأنَّهُ تقرير .
فكأنه قيل : أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ، نظيره قوله تعالى : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [ الشعراء : 18 ] معناه : قد رَبَّيْنَاك ولَبِثْتَ .
والثاني : أنَّهُ معطوف على « وَرِثُوا » .
قال أبُو البقاءِ : ويكونُ قوله ألَمْ يُؤخَذْ معترضاً بينهما وهذا الوجه سبقه إليه الطَّبري وغيره .
الثالث : أنه على إضمار « قَدْ » والتقدير : وقد درسوا . فهو على هذا منصوب على الحال نسقاً على الجملة الشرطية ، أي : يقولون : سَيُغْفَرُ لنا في هذه الحال ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل : « يَأخُذُوهُ » أي يأخذون العرضَ في حال دَرْسِهم ما في الكتاب المانع من أخذ الرِّشَا وعلى كلا التقديرين فالاستفهامُ اعتراض .
وقرأ الجحدري : أن لا تقُولُوا بتاء الخطابِ ، وهو التفاتٌ حسنٌ .
وقرأ علي - رضي الله عنه - وأبو عبد الرحمن السلمي وادَّارَسُوا بتشديد الدَّالِ ، والأصلُ : تَدَارَسُوا وتصريفه كتصريف { فادارأتم فِيهَا } [ البقرة : 72 ] وقد تقدم .
ثم قال تعالى : { والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي : من تلك الرَشوة الخبيثة المحقرة « فلا تَعْقِلُونَ » . وقد تقدَّم الكلام على هذه الهمزة والفاء غير مرة .
وقرأ ابنُ عامرٍ ونافعٌ وحفصٌ تَعْقِلُونَ بالخطابِ ، والباقون بالغيبة ، فالخطابُ يحتمل وجهين : أحدهما : أنه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب ، والمرادُ بالضَّمائر حينئذٍ شيءٌ واحد .
والثاني : أنَّ الخطابَ لهذه الأمَّةِ ، أي : أفلا تعلقون أنتم حال هؤلاء وما هم عليه وتتعَجَّبُونَ من حالهم . وأمَّا الغيبةُ فجرى على ما تقدَّم من الضَّمائر ، ونقل أبو حيان أنَّ قراءة الغيبة لأبي عمرو وأهل مكَّة ، وقراءة الخطاب للبقاقين .
قوله : « والَّذينَ يُمَسِّكُون » : فيه وجهان : أظهرهما : أنَّهُ مبتدأ ، وفي خبره حينئذ وجهان : أحدهما : الجملة من قوله { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } وفي الرَّابط حينئذ أقوال :
أحدها : أنَّهُ ضميرٌ محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : المُصْلحين منهم ، وهذا على قواعد جمهور البصريين ، وقواعد الكوفيين تقتضي أنَّ « ألْ » قائمةٌ مقام الضمير ، تقديره : أجْرَ مَصْلحيهمْ؛ كقوله : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] أي : مَأواهُ ، وقوله { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب } [ ص : 50 ] أي : أبوابُها ، وقوله : { في أَدْنَى الأرض } [ الروم : 3 ] أي : أرضهم ، إلى غير ذلك .
والثاني : أنَّ الرَّابطَ تكرُّرُ المبتدأ بمعناه ، نحو : زيد قام أبو عبد الله ، وهو رأي الأخفش ، وهذا كما يُجيزه في الموصول ، نحو : أبُو سعيدٍ الذي رويتُ عنه الخُدريُّ ، والحجَّاجُ الذي رأيْتُ ابنُ يُوسُفَ ، وقد تقدَّم من ذلك شواهدُ .
الثالث : أنَّ الرَّابط هو العموم في « المُصْلحينَ » قاله أبُو البقاء .
قال : « وإن شئْتَ قلت : لمَّا كان المصلحون جنساً والمبتدأ واحد منه استغنيت عن ضمير » .

قال شهاب الدين : العمومُ ربطٌ من الروابط الخمسة؛ وعليه قول الشاعر : [ الطويل ]
2612 - ألاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ إلَى أمِّ سالمٍ ... سَبِيلٌ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فَلاَ صَبْرا
ومنه : نعم الرجُ زيدٌ ، على أحد الأوجه :
والوجه الثاني - من وجهي الخبر - : أنَّهُ محذوف ، تقديره : والذين يمسكون مأجورون ، أو مثابُونَ ونحوه .
وقوله تعالى : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } جملة اعتراضية ، قاله الحوفيُّ . ولا ضرورة تدعو إليه .
الثاني من وجْهَيْ « الذينَ يُمَسِّكُون » : أنَّه محل جر نسقاً على : « الَّذين يَتَّقُونَ » أي : والدّار الآخرةُ خير للمتقين ، وللمتمسكين ، قاله الزمخشريُّ .
إلاَّ انه قال : ويكون قوله : { إنَّا لا نُضيعُ } اعتراضاً سيق لتأكيد ما قبله . وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لَمْ يقعْ بين شيئين متلازمين ولا بين شيئين بينهما تعلُّقٌ معنويُّ ، فكان ينبغي أن يقول : ويكون على هذا مستأنفاص .
وقرأ العامَّةُ « يُمَسِّكُونَ » بالتشديد مِنْ « مَسَّك » بمعنى « تَمَسَّكَ » حكاه أهلُ التصريف أي : إنَّ : « فَعَّلَ » بمعنى « تفَعَّل » ، وعلى هذا فالباءُ للآلة ، كهي في « تَمَسَّكْتُ بالحبل » .
يقال : مَسَّكْتُ بالشَّيء ، وتَمَسَّكْتُ ، واسْتَمْسَكْتُ به ، وامتسَكْتُ به .
وقرأ أبو بكر عن عاصم ، ورويت عن أبي عمرو وأبي العالية « يُمْسِكُونَ » بسكون الميم وتخفيف السين من « أمْسَكَ » وهما لغتان يقال : مَسَكْتُ ، وأمْسَكْتُ .
وقد جمع كعبُ بنُ زهير بينهما في قوله : [ البسيط ]
2613 - ولا تُمَسِّكُ بالعهدِ الذي زَعَمَتْ ... إلاَّ كَمَا تُمْسِكُ الماءَ الغَرَابِيلُ
ولكن « أمْسَك » مُتعدٍّ .
قال تعالى : { وَيُمْسِكُ السمآء } [ الحج : 65 ] فعلى هذا مفعوله محذوف ، تقديره : يُمسِكون دينهم وأعمالهم باكتاب ، فالباء يجوزُ أن تكون للحال وأن تكون للآلة أي مصاحبين للكتابِ ، أي : لأوامره ونواهيه .
وحجة عاصم قوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } [ البقرة : 229 ] ، وقوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [ الأحزاب : 37 ] ، وقوله : { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] .
قال الواحديُّ : والتشديدُ أقوى؛ لأنَّ التشديد للكثرة ، وههنا أريد به الكثرة؛ ولأنَّهُ يقال : أمسكته ، وقَلَّمَا يقال : أمسكت به .
وقرأ عبد الله والأعمش : « اسْتَمْسَكُوا » ، وأبي : « تَمَسَّكُوا » على الماضي ، وهو جيّد لقوله تعالى : { وَأَقَامُواْ الصلاة } إذ قل ما يعطف على مستقبل إلاَّ في المعنى .
فصل
أراد والذين يعملون بما في الكتاب .
قال مجاهدٌ : هم المؤمنون من أهل الكتاب ك : عبد الله بن سلام وأصحابه تمسَّكوا بالكتاب الذي جاء به موسى ، فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مكلةً .
وقال عطاء : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وَأَقَامُواْ الصلاة إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } أي : لا نضيع أجرهم ، كقوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] .
فإن قيل : التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة ، ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردها بالذِّكر؟ فالجوابُ : أفردها لعلو مرتبتها ، فإنَّهَا أعظم العبادات بعد الإيمان .

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

قوله تعالى : { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل } الآية .
قال أبو عبيدة : النَّتْقُ : قلعُ الشيء من موضعه ، والرَّمْيُ به ، ومنه : نَتَقَ ما في الجراب إذا نفضه فرمى ما فيه ، وامرأة ناتِقٌ ، ومِنْتَاقٌ : إذا كانت كثيرة الولادة ، وفي الحديث : « عليْكُمْ بزواج الأبْكارِ ، فإنَّهُنَّ أطْيَبُ أفواهاً ، وأنْتَقُ أرْحاماً ، وأرضى باليسَيرِ » .
وقيل : النتَّق : الجَذْبُ بشدة . ومنه : نتقْتُ السِّقَاءِ إذا جذبْتَهُ لتقتلعَ الزُّبدْةَ من فم القرية .
قال الفرَّاءُ : « هو الرفعُ » وقال ابن قتيبة : الزَّعْزَعَةُ ، وبه فَسَّرَهُ مجاهد .
وقال النَّابغة : [ الكامل ]
2614 - لَمْ يُحْرَمُوا حُسنَ الغذَاءِ وأمَّهُمْ ... طَفَحَتْ عليْكَ بِنَاتِقٍ مِذْكَارِ
وكلُّها معانٍ متقاربة .
قوله : « فَوقَهُمْ » فيه وجهان :
أحدهما : هو متعلِّقٌ بمحذوف ، على أنَّه حال من الجَبَل وهي حالٌ مقدرة؛ لأنَّ حالةَ النَّتْق لم تكن فوقهم ، لكن بالنَّتْق صار فوقهم .
والثاني : أنه ظرفٌ ل : نَتَقْنَا قاله الحوفيُّ وأبو البقاءِ .
قال أبو حيان : ولا يمكن ذلك ، إلاَّ أن يُضَمَّن معنى فِعْلِ يمكن أن يعمل في فَوقَهُمْأي : رفعنا بالنَّتْقِ الجبل فوقهم ، فيكون كقوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور } [ النساء : 154 ] . فعلى هذا يكون فَوقَهُمْ منصوباً ب « نتق » لا بمعنى رفع .
قوله : « كأنَّهُ ظُلَّةٌ » في محل نصبٍ على الحالِ من « الجَبَل » أيضاً فتتعدَّد الحال .
وقال مكيٌّ : هي خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو كأنه ظُلَّة وفيه بُعد . والظُّلَّة : كل ما أظلك . قال عطاءٌ : سقيفة .
قوله وَظَنُّوا فيه أوجه :
أحدها : أنَّهُ في محل جرٍّ نسقاً على نَتَقْنَا المخفوض بالظَّرف تقديراً .
والثاني : أنه حال و « قد » مقدرةٌ عند بعضهم ، وصاحبُ الحالِ إمَّا : الجبل أي : كأنَّهُ ظُلَّةٌ في حال كونه مظنوناً وقوعه بهم ، ويضعف أن يكون صاحبُ الحال : هُمْ في : فَوْقَهُمْ .
الثالث : أنه مستأنف ، فلا محلَّ له ، والظنُّ هنا على بابه .
قال أهل المعاني : قوي في نفوسهم ويجوز أن يكون بمعنى اليقين .
قال المفسِّرُون : علموا وأيقنوا أنَّهُ واقع بهم والباء على بابها أيضاً .
قيل : ويجوز أن تكون بمعنى « على » .
قوله : { خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ } أي :
وقلنا لهم خذوا ما أتيناكم بقوة بجد واجتهاد .
روي أنهم لمَّا أبوا قبول أحكام التوراة لثقلها رفع الله الطور على رءوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ .
وقيل لهم إن قبلتموها بما فيها وإلاَّ ليقعن عليكم ، فلمَّا نظروا إلى الجبل خَرَّ كل واحد منهم ساجداً على جانبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى خوفاً من صوطه ، فلذلك لا ترى يهوديّاً سجد إلا على جانبه الأيسر ، ويقولون : هي السَّجدة التي رفعت نَّ بها العقوبة .
قوله واذكُرُوا العامَّةُ على التخفيف أمْراً من : ذَكَرَ يَذْكُرَ : والأعمش واذَّكَرُوا بتشديد الذال من الأذّكار ، والأصل : اذتكرُوا ، والاذتكار ، تقدم تصريفه .

وقرأ ابن مسعود تذكَّرُوا من : « تذكَّر » بتشديد الكاف .
وقرىء وتذَّكَّرُوا بتشديد الذال والكاف والأصل : ولتتذكَّرُوا فأدغمت التاء في الذال ، وحُذِفِتْ لامُ الجزم كقوله : [ الوافر ]
2615 - مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ .. . . .
فصل
قال ابنُ عبَّاس وغيره : لمَّا أخذ موسى الألواح وأتى بها إلى بني إسرائيل ، وفيها التوراة أمرهم بقبولها ، والأخذ بها بوة .
فقالوا : انشرها علينا ، فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها .
فقال : بل اقبلوها بما فيها فراجعوه مراراً ، فأمر اللَّهُ الملائكة ، فرفعوا الجبل على رءوسهم حتى صار كأنَّهُ ظُلَّةٌ أي : غمامة فوق رءوسهم .
وقيل لهم إن لم تقبلوها بما فيها وإلاَّ سقط هذا الجبلُ عليكم؛ فقبلوها ، وأمروا بالسُّجود؛ فسجدوا وهم ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم فصارت سنة اليهودِ إلى اليوم .
ويقولون : لا سَجْدَةَ أعظم من سجدةٍ رفعت عنا العذاب .

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني آدَمَ } الآية .
قال المفسِّرون : روى مسلم بنُ يسار الجهني أن عمر - رضي الله عنه - سُئِلَ عن هذه الآية ، فقال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسألُ عنها ، فقال : إنَّ الله تعالى خلق آدَم ثُمَّ مَسحَ ظهرَهُ؛ فاستخرَجَ منهُ ذُرِّيَةً فقال : خَلقْتُ هؤلاء للجنَّةِ وبعمل أهْلِ الجنَّةِ يَعْمَلُونَ ، ثُمَّ مَسَحَ
ظهرَهُ واستَخرَجَ منه ذرِّيَّةً ، فقال : هؤلاء للنَّارِ وبعمل أهلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ .
فقال رجل : يا رسول الله : ففيم العمل؟
فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : » إنَّ اللَّه بتارَكَ وتعَالَى إذا خَلقَ العبْدَ للجنَّةِ استعملَهُ بعملِ أهْلِ الجنَّةِ حتَّى يمُوتَ على عملٍ مِنْ أعْمالِ أهْلِ الجنَّةِ فيدخله الله الجنَّة ، وإذا خلق اللَّهُ العبدَ للنَّارِ استعملهُ بعملِ أهْلِ النَّارِ حتَّى يمُوتَ على عملِ أهلِ النَّارِ ، فيدخلهُ اللَّهُ النَّار « وهذا حديثٌ حسن ، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر ، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم وعمر رجلاً .
وقال مقاتل وغيره : إنَّ الله مسحَ صفحةَ ظهر آدمَ اليمنى فأخرج منه ذريةً بيضاء كهيئة الذر ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذريةً سوداء كهيئة الذَّرِّ ، فقال يا آدم هؤلاء ذريتك . ثم قال لهم ألسْتُ بربكُمْ قالُوا بلى . فقال للبيض هؤلاء للجنَّة برحمتي ، وهم أصحاب اليمين . وقال للسود هؤلاء للنَّار ، ولا أبالي ، وهم أصحاب الشِّمالِ ، ثمَّ أعادهم جميعاً في صلب آدم فأهلُ القبورِ محبوسون حتَّى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلابِ الرجالِ ، وأرحام النِّساءِ .
قال تعالى يمن نقض العهد : { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } [ الأعراف : 102 ] الآية . وإلى هذا القول ذهب سعيدُ بنُ المسيب ، وسعيد بن جبير ، والضَّحَّاكُ ، وعكرمة والكلبي .
وقال بعض أهل التفسير : إن أهل السَّعادَةِ أقَّرُّوا طوعاً وقالوا » بَلَى « ، وأهل الشقاوة قالُوه تقيةً وكرهاً . وذلك معنى قوله : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } [ آل عمران : 83 ] .
واختلفوا في موضع الميقاق .
قال ابن عباس : ببطن نعمان ، وهو وادٍ إلى جنب عرفة وروي عنه أنه بدَهْنا في أرض الهندِ ، وهو الموضعُ الذي هبط آدم عليه .
وقال الكلبيُّ : بين مكة والطائف .
وروى السُّدي : أن الله أخرجهم جميعاً ، وصورهم وجعل لهم عقولاً يعلمون بها ، وألسناً ينطقون بها ، ثمَّ كلمهم قبلاً أي : عياناً ، وقال » ألسْتُ بِرِبِّكُمْ « ؟ .
وقال الزَّجَّاجُ : وجائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال الذّر فَهْماً تعقل به كما قال تعالى : { قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ } [ النمل : 18 ] .
قال القرطبيُّ : قال ابنُ العربيُّ : فإن قيل : فكيف يجوز أن يُعذِّبَ الله الخلق قبل أن يذنبوا ، أو يعاقبهم على ما أراده منهم وكتبه عليهم؟
قلنا : ومن أيْنَ يمتنع ذلك ، عقلاً أو شرعاً؟
فإن قيل : إن الرحيم الحكيم مِنَّا لا يجوز أن يفعل ذلك .

قلنا : لأن فوقه آمراً يأمره وناهياً ينهاه ، وربنا تعالى لا يسألُ عمَّا يفعل وهم يُسألُونَ ، ولا يجوز أن يقاس الخلق بالخَالقِ ، وبالحقيقة فإن الأفعال كلها لله تعالى ، والخلقُ بأجمعهم له ، يصرفهم كيف يشاء ويحكُم فيهم بما أراد ، وهذا الذي يجدُهُ الآدميّ فإنَّما هو من رقة الجبلَّةِ ، وشفقة الجنسيَّةِ وحُبِّ الثَّناءِ والمدح ، والباري تعالى منزَّهٌ من ذلك .
وأطبقت المعتزلةُ على أنَّهُ لا يجوزُ تفسير هذه الآية بهذا الوجه ، واحْتَجُّوا على فساده بوجوه :
الأول : قالوا إن قوله : { مِن بني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ } [ الأعراف : 172 ] ف « مِنْ ظُهُورهمْ » بدلٌ من قوله « بَنِي آدمَ » فيكون المعنى : وإذْ أخذ ربُّكَ من ظُهورِ بَنِي آدَمَ ، وعلى هذا التقدير : فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً .
الثاني : لو كان المراد أنه تعالى أخرج من ظهر آدم ذرية لما قال : « مِنْ ظُهورِهمْ » بل قال : من ظهره؛ لأنَّ آدم ليس له إلا ظهر واحد ، وكذلك قوله : « ذُريَّتَهُمْ » ولو كان المرادُ آدم لقال : ذُرّيته .
الثالث : أنَّهُ تعالى حكى عن أولئك الذُّريَّةِ أنهم قالوا : { إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ } [ الأعراف : 173 ] وهذا لا يليق بأولاد آدم؛ لأنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام ما كان مشركاً .
الرابع : أنَّ أخذ الميثاق لا يمكن إلاَّ من العاقِلِ ، ولو كان أولئك الذر عقلاء ، وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم؛ لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة فإنَّهُ لا يجوزُ مع كونه عاقلاً أن ينساها نسياناً كليّاً لا يتذكر منها قليلاً ولا كثيراً ، وبهذا الدليل يبطلُ القول بالتَّناسخ؛ لأنَّا نقولُ لو كانت أرواحنا قد جعلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى ، لوجب أن نتذكَّرَ الآن أنا كنا قبل هذا الجسد في جسد آخر ، وحيثُ لم نتذكر كان القول بالتَّناسخ باطلاً .
وهذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة فوجب القول بمقتضاه ، فلو جاز أن يقال : إنَّا كنا في وقت الميثاق أعطينا العهد مع أنَّا في هذا الوقت لا نتذكر شيئاً منه ، فلمَ لا يجوز أيضاً أن يقال : إنَّا كنَّا قبل هذا البدن في بدن آخر مع أنا في هذا البدن لا نتذكر شيئاً من تلك الأحوال .
الخامس : أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم ، إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرَّة من ذرات الهباء أن تكون عاقلاً فاهماً مصنفاً للتَّصانيف الكثيرة في العلوم الدَّقيقة ، وفتح هذا الباب يؤدِّي إلى التزام الجماداتِ ، وإذا ثبت أن هذه البنية شرط لحصول الحياة ، فكل واحد من تلك الذّرات لا يمكن أن يكون عاقلاً عالماً فاهماً إلاَّ إذا حصلت له بنية وحمية ، وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجودِ من أول تخليق آدم إلى قيام القيامة لا تحويهم عرصة الدنيا ، فكيف يمكن أن يقال إنَّهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - .

السادس : قالوا باطلٌ لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من المثاق لا يصيرون مستحقّين للثواب والعقاب ، ولا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في الدنيا ، لأنهم لمَّا لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير عليهم حجة في التمسك بالإيمان .
السابع : قال الكعبيُّ : إن حال أولئك الذّر لا يكونُ أعلى في الفهم والعلم من حال الأطفال ، فلمَّا لم يمكن توجيه التَّكاليف على الطِّفل ، فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذّرِّ؟
وأجاب الزَّجَّاج عنه بما تقدَّم من تشبيهه بقصة النَّملة ، وأيضاً لا يبعدُ أن يعطي اللَّهُ الجبل الفهم حتى يسبح ، كما قال : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ } [ الأنبياء : 79 ] وكما أعطى اللَّهُ العقل للبعير حتَّى سجد للرَّسُول ، وللنَّخْلَةِ حتى سمعت وانقادت حين دعيت فكذا هَهُنَا .
الثامن : أن أولئك الذّر في ذلك الوقت إمّا أن يكون كاملي العقول أم لا ، فإن كان الأوَّلُ كانوا مكلفين لا محالة ، وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله تعالى بالاستدلال ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت على أحوالهم في هذه الحياة الدُّنْيَا ، فلو افتقر التكليف في الدُّنيا إلى سبق ذلك الميثاق؛ لافتقر التكليف في وقت ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولم التَّسلسل وهو محال .
وإن قيل : إنَّهُمْ ما كانوا كاملي العقول في ذلك الوقت ، فيمتنع توجيه الخطاب والتَّكليف عليهم .
التاسع : قوله تعالى : { فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ } [ الطارق : 5 - 6 ] ولو كانت تلك الذَّرات عقلاء فاهمين لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدَّافق ، ولا معنى للإنسان إلاَّ ذلك الشيء فحينئذٍ لا يكون الإنسان مخلوقاً من الماء الدَّافق وذلك رد لنصِّ القرآن .
فإن قالوا : لِمَ لا يجُوزُ أن يقال إنَّهُ تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته؟ ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الأم وأخرجه إلى الحياةِ؟
قلنا : هذا باطل؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقاً على سبيل الابتداء بل يجب أن يكون خلقاً على سبيل الإعادة ، وأجمع المسلمون على أنَّ خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ ، فبطل ما ذكرتموه .
العاشر : أن تلك الذَّرات إمَّا أن تكون عين هؤلاء الناس أو غيرهم ، والثاني باطل بالإجماع بقي الأول .
فنقولُ : إمَّا أن يُقالَ إنَّهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفه وعلقة ومضغة أو ما بقوا كذلك ، والأوَّلُ باطلٌ ببديهة العقل .

والثاني : يقتضي أن يقال إن الإنسان حصلت له الحياة أربع مرات : وقت الميثاق ، وفي الدُّنْيَا ، وفي القبر ، وفي القيامةِ وأنه حصل له الموت ثلاث مرات : بعد الحياة الحاصلة من الميثاق الأولِ ، وموت في الدُّنيا وموت في القبر ، وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى : { رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } [ غافر : 11 ] .
الحادي عشر : لو كان القولُ بهذا الذَّرِّ صحيحاً لكان ذلك الذَّر هو الإنسان؛ لأنَّهُ هو المكلَّف المخاطب المثاب المعاقب ، وذلك باطلٌ؛ لأنَّ ذلك الذّر غير مخلوق من النطفة والعلقة ، والمضغة ، والقرآن يدلُّ على أنَّ الإنسان خلق من النُّطفةِ ، والعلقة . قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] الآيات .
وقوله : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [ عبس : 17 - 19 ] فهذه الوجوه دلَّتْ على ضعف هذا القول .
وقال أربابُ المعقولات : إنَّ الله تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من صلب آبائهم ، وذلك الإخراج حال كونهم نطفاً ، فأخرجها الله تعالى فأودعها أرحام الأمهَّات ، وجعلها علقة ثم مضغة حتى جعله بشراً سويّاً وخلقا كاملاً ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيَّته ، وغرائب صنعته ، فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا : بلى ، وإن لم يكن هناك قول باللِّسانِ ، ولذلك نظائر منها قوله تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] .
وقال تعالى : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] .
قول العرب : قال الجدار للوتدِ لِمَ تَشقُّنِي قال : سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي .
وقال الشاعر : [ الرجز ]
2617 - امتلأ الحَوْضً وقَالَ قَطْنِي ... مَهْلاً رُوَيْداً قَدْ مَلأتَ بَطْنِي
فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في الكلام ، فوجب حمل الكلام عليه ، وهذا القول لا طعن فيه ألبتة ، وليس منافياً لصحة القول الأول .
فصل
قال القرطبيُّ : استدلَّ بهذه الآية على أنَّ مَنْ مات صغيراً دخل الجنَّة لإقراره في الميثاق الأول ومنْ بلغ لمْ يُغنِهِ الميثاق الأول .
قوله « مِنْ ظُهُورهِمْ » بدل من قوله : « مِن بَنِي آدَمَ » بإعادةِ الجارِّ ، كقوله : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] وهل هو بدلُ اشتمال أو بدلُ بعض من كل؟ قولان :
الأول لأبي البقاء ، والثاني للزمخشري ، وهو الظاهر كقولك : ضربتُ زيداً ظهره وقطعتُه يده ، لا يُعْرِب هذا أحد بدل اشتمالٍ ، و « ذُرِّيَتَهُمْ » مفعول به .
وقرأ الكوفيون وابن كثير ذُرِّيتهُمْ بالإفراد ، والباقون « ذُرِّيَّاتهم » بالجمع .
قال أبو حيان : ويحتمل في قراءة الجمع أن يكون مفعولُ « أخذ » محذوفاً لفهم المعنى وذُرِّيَّاتهم بدلٌ من ضمير « ظُهُورِهِمْ » كما أنَّ من ظُهُورِهِمْ بدلٌ من بَنِي آدَمَ والمفعولُ المحذوفُ هو الميثاق كقوله : { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء : 154 ] .
قال : وتقديرُ الكلامِ : وإذ أخذ ربُّكَ من ظهور ذُرِّيات بني آدم ميثاق التوحيد لله ، واستعارَ أن يكون أخذ الميثاق من الظهر كأن الميثاق لصعوبته والارتباط به شيءٌ ثقيلٌ يحمل على الظَّهْرِ .

وكذلك قرأ الكوفيُّون وابن كثير في سورة يس ، وفي الطُّورِ في الموضعين ذُرِّيَّتَهُم بالإفراد؛ وافقهم أبو عمرو على ما في يس ، وناف وافقهم في أول الطور ، وهي ذُرِّيَّتَهُم بإيمانٍ دون الثانية ، وابن عامر على الجمع ، وأبو عمرو ونافع جمعوا بين الأمرين .
قال أبو حيان في قراءة الإفراد في هذه السُّورةِ : ويتعيَّن أن يكون مفعولاً ب « أخذ » وهو على حذف مضاف ، أي : ميثق ذريتهم . يعني أنه لم يَجُزْ فيه ما جازَ في ذُرِّيَاتهم من أنَّه بدل ، والمفعولُ محذوف وذلك واضحٌ؛ لأنَّ من قرأ : « ذُرِّيَّتَهُمْ » بالإفراد لم يَقْرَأهُ إلاَّ منصوباً ، ولو كان بدلاً من هُمْ في ظُهُورِهِمْ لكان مجرورً ، بخلاف ذُرِّيَّاتهم بالجمع فإنَّ الكسرة تَصْلُح أن تكون علامة للجر وللنصب في جمع المُؤنَّثِ السَّالمِ .
قال الواحديُّ : الذرية تقع على الواحِدِ والجمع ، فمنْ أفردَ فقد استغنى عن جمعه بوقوعه على الجمع كالبشر فإنه يقع على الواحد ، كقوله : { مَا هَذَا بَشَرًا } [ يوسف : 31 ] وعلى الجمع ، كقوله : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن : 6 ] { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا } [ إبراهيم : 10 ] فكما لم يجمع « بشر » جمع تصحيح ، ولا تكسير كذلك لا يجمع « الذريَّة » .
ومن جمع قال : إنَّ الذرية وإن كان واحداً فلا إشكال في جواز الجمع فيه ، وإن كان جمعاً فجمعه حسن ، لأنَّ الجموع المكسرة قد معت نحو : الطرقات والجدرات .
قوله : { وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ } .
أمَّا على قولِ مَنْ أثْبَتَ الميثاق الأوَّل فكل هذه الأشياء محمولة على ظواهرها ، وأمَّا من أنكره ، قال : إنَّهَا محمولة على التَّمثيل ، أي : أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ، وشهدت بها عقولهم ، فصار ذلك جارياً مجرى ما إذَا أشهدهم على أنفسهم ، وقال لهم : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } . وكأنهم قالوا بلى أنت ربُّنَا .
قوله : « بَلَى » جواب : « ألَسْتُ » .
قال ابنُ عبَّاس : لو قالوا « نَعَمْ » لكفروا ، يريد أنَّ النَّفيَ إذا أجيب ب « نعم » كان تصديقاً له ، فكأنهم أقَرُّوا بأنه ليس بربهم ، هكذا ينقلونه عن ابن عباس .
وفيه نظرٌ - إن صحَّ عنه - وذلك أن هذا النفي صار مُقرَّراً ، فكيف يكفرون بتصديق التقرير؟ وإنَّما المانعُ من جهةِ اللغة ، وهو أنَّ النفيَ مطلقاً إذا قُصدَ إيجابه أجيب ب « بَلَى » وإن كان مقرراً بسبب دخول الاستفهام عليه ، وإنَّما كان ذلك تغليباً لجانب اللفظ ، ولا يجوز مراعاةُ جانب المعنى إلاَّ في شعر ، كقوله : [ الوافر ]
2618 - ألَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أمَّ عَمْرٍو ... وإيَّانَا فَذاكَ بِنَا تَدَأنِي
نَعَمْ وأرَى الهلالَ كما تَرَاهُ ... ويَعْلُوهَا النَّهارُ كَمَا عَلانِي
فأجاب قوله ألَيْسَ ب « نَعَمْ » ، مراعاةً للمعنى؛ لأنه إيجاب .

قوله شَهِدْنضا هذا من كلامِ اللَّهِ تعالى ، وقيل : من كلام الملائكة ، لأنهم لمَّا قالوا بَلَى ، قال الله للملائكة : اشهدوا فقال : شهدنا ، وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله : « قالوا بَلَى » لأن كلامَ الذرية قد انقطع ههنا .
وقوله : « أنْ تقُولُوا » أي : لئلا تقولوا { إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } تقريره : أنَّ الملائكة قالوا شهدنا عليهم بالإقرارِ؛ يقولوا ما أقررنا ، فأسقط كلمة « لِئَلاَّ » كقوله { وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] ، أي : لئلاَّ تميد بكم . قاله الكوفيون ، وعند البصريين تقديره : شَهِدْنَا كراهة أن تقولوا .
وقيل : من كلام الله تعالى والملائكة .
وقيل : من كلام الذُّريَّةِ ، وعلى هذا فقوله : { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } تقديره : وأشهدهم على نفسهم بكذا وكذا لئلاَّ يقولوا يوم القيامة : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } أو كراهية أن يقولوا ذلك .
قال الواحديُّ : وعلى هذا لا يحسن الوقفُ على قوله : بَلَى ولا يتعلَّقُ أن تقوُلُوا ب « شَهِدْنَا » ولكن بقوله : « وأشهدَهُمْ » فلم يجز قطعه عنه .
قوله « أنْ تقُولُوا » مفعولٌ من أجله ، والعامِلُ فيه إمَّا شَهِدْنَا أي : شهدنا كراهة أن تقولوا . هذا تأويل البصريين ، وأما الكوفيون : فقاعدتهم تقدير « لا » النافية ، أي : لئلاَّ تقولوا : كقوله { وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] .
كما تقدم .
وقول القطامي : [ الوافر ]
2619 - رَأيْنَا مَا يَرَى البُصَرَاءُ فِيهَا ... فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أنْ تُبَاعَا
أي : أن لا تُباع ، وأما : « وأشهدَهُمْ » أي : وأشهدهم لئلا يقولوا أو كراهة أن يقولوا ، وقد تقدم أن الواحدي قد قالك إنّ شَهِدْنا إذا كان من قول الذُّريَّةِ يتعيَّنُ أن يتعلَّق أن تقولوا ب « أشْهَدَهُمْ » كأنَّه رأى أن التركيب يصير : شَهِدْنَا أن تقولوا ، سواءً قرىء بالغيبة أو الخطاب ، والشَّاهدُون هم القائلون في المعنى ، فكان ينبغي أن يكون التركيب : شهدنا أن نقول نحن ، وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّ المعنى : شهد بعضهم على بعض ، فبعضُ الذرية قال شهدنا أان يقول البعضُ الآخر كذلك .
وذكر الجرجانيُّ عن بعضهم وجهاً آخر : وهو أن يكون قوله : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } إلى قوله « قَالُوا بَلَى » تمام قصة الميثاق ، ثم ابتدأ عزَّ وجلَّ خبراً آخر بذكر ما يقوله المشركون يوم القيمة ، فقال : « شَهِدْنَا » بمعنى : نشهد؛ كقوله الحطيئة : [ الكامل ]
2620 - شَهِدَ الحُطَيئَةُ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ .. . . .
أي : يشهد ، فيكون تأويله : يَشْهَدُ أن يقولوا .
وقرأ أبو عمرو : « يَقُولُوا » في الموضعين بالغيبةِ ، جرياًعلى الأسماء المتقدمة ، والباقون بالخطاب ، وهذا واضحٌ على قولنا : إنّ شَهِدْنَا مُسْنَدٌ لضمير الله تعالى .
وقيل : على قراءة الغيبة يتعلَّق أن يقولوا ب « أشهدهم » ، ويكون قالوا شِهِدْنَا معترضاً بين الفعل وعلَّته ، والخطابُ على الالتفات ، فتكون الضَّمائر لشيء واحد .

فإن قيل : كيف يلزم الحجة وأحدٌ لا يذكر الميثاقَ؟
فالجوابُ : أن الله تعالى قد أوضح الدَّلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا ، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ، ولزمته الحجة ، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة .
قوله : { أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ } .
قال المفسرون : المعنى أنَّ المقصود من هذا الإِهاد ألاَّ يقول الكفار إنما أشركنا لأنَّ آباءنا أشركوا فقلَّدناهم فكان الذَّنب لآبائنان فكيف تعذبنا على هذا الشرك ، وهو المراد من قوله { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون } والحاصل : أنه تعالى لمَّا أخذ عليهم الميثاق ، امتنع عليهم التسمك بهذا العذر ، وأمَّا الذين حملوا الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل ، قالوا : معنى الآية : إنَّ نصبنا الدلائل وأظهرنا للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } ما نبَّهنا عليه مُنبِّهٌ ، أو كراهة أنْ يقولوا : إنَّما أشركنا على سبيل التَّقليد لأسلافنا؛ لأنَّ نصب الأدلَّةِ على التَّوحيد قائمٌ مقام منعهم .
ثم قال : { وكذلك نُفَصِّلُ الآيات } أي : أن مثل ما فصَّلنا وبينَّا في هذه الآية بين سائر الآيات ليتدبَّرُوا فيرجعوا إلى الحقّ .
وقرأ فرقة يُفَصِّل بياء الغيبة ، وهو الله تعالى .

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)

قوله تعالى : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا } الآية .
قال ابنُ عبَّاسٍ وابن مسعود : نزلت هذه الآيةُ في « بلعم بن باعوراء » .
وقال مجاهدٌ : بَلعَامُ ابن باعر .
وقال عطيَّةُ عن ابن عبَّاس : كان من بني إسرائيل .
وروي عن ابن أبي طلحة : أنَّه كان من الكنعانيين من مدينة الجبَّارين .
قال مقاتل : هو من مدينة البَلْقَاءِ ، وذلك أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وقومه ، قصد بلده ، وغزا أهله وكانوا كفاراً ، فطلبوا منه أن يدعو على موسى وقومه وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم فامتنع منه ، فما زالوا يطلبونه حتى دعا عليه ، فاستجيب له ووقع موسى وبنوا إسرائيل في التّيهِ بدعائه ، فقال موسى : يا رب بأيِّ ذنبٍ وقعنا في التيهِ؟
فقال : بدعاء بلعم ، فقال : كما سمعت دُعاءَهُ عليَّ ، فاسمع دعائي عليه ، ثم دعا موسى عليه الصلاة والسلام أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان ، فسلخه اللَّهُ مِمَّا كان عليه ، ونزع منه المعرفة ، فخرجت من صدره حمامة بيضاء .
وقيل : إنَّه كان نبيّاً من أنبياء الله ، دعا عليه موسى ، فنزع اللَّهُ تعالى منه الإيمان ، فصار كافراً وهذا بعيدٌ؛ لقوله تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] فدلَّ على أنَّهُ تعالى لا يخصُّ عبداً بالرِّسالة إلاَّ إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد المناقب العظيمة ، ومن كانت هذه حالهُ ، كيف يليق به الكفر؟
وقال عبد الله بن عمرو وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم : نزلت في أميَّة بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب ، وعلم أنَّ الله تعالى مرسل رسولاً في ذلك الوقت ورجا أن يكون هو ، فلمَّا أرسل الله تعالى ، محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، حسدهُ ، ثم مات كافراً ، وكان قد قصد بعض الملوك ، فلمَّا رجع مرَّ على قتلى بدر ، فسأل عنهم ، فقيل له : قتلهم محمد . فقال : لو كان نبيّاً ما قتل أقرباءه ، فلما مات أمية ، أتت أخته فازعةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن وفاة أخيها فقالت : بينما هو راقدٌ ، أتاه اثنانِ ، فكشفنا سقف البيت ونزلا ، فقعد أحدهما عند رجليه ، والآخر عند رأسه . فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه أوعى؟ قال : وعى . قال : أزكى؟ قال : أبَى ، فسألته عن ذلك فقال : خيرٌ أريد بي؛ فصرف عني ثم غشي عليه ، فلما أفاق قال : [ الخفيف ]
2621 - كُلُّ عَيْشٍ وإنْ تَطاوَلَ دَهْراً ... صَائِرٌ مَرَّةً إلى أنْ يَزُولا
لَيْتَنِي كُنْتُ قَبْلَ ما قَدْ بَدَا لِي ... فِي قلالِ الجِبالِ أرْعَى الوُعُولاَ
إنَّ يَوْمَ الحسابِ يَوْمٌ عظيمٌ ... شَابَ فِيهِ الصَّغيرُ يَوْماً ثَقِيْلاً
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنشديني شعر أخيك ، فأنشدته بعض قصائده .
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : آمن شعره وكفر قلبه »

وأنزل اللَّه فيه هذه الآية .
وروي عن ابن عباس نزلت في البسوس رجل من بني إسرائيل ، وكان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات ، وكانت له امرأة له منها ولد ، فقالت : اجعل لي منها دعوة واحدة ، فقال لها : لَكِ منها واحدةٌ ، فما تريدين؟ قالت : ادْعُ اللَّهَ أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا لها؛ فجلعت أجمل امرأة في بني إسرائيل؛ فلمَّا علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه فغضب الزَّوْجُ فدعا عليها فصارت كلبة نباحة [ فذهبت فيها دعوتان ، فجاء بنوها وقالوا : ليس لنا على هذا إقرار قد صارت أمنا كلبة نباحة ] ، فصار النَّاس يعيروننا بها ، فادع الله أن يردَّهَا إلى حالها الأول ، فدعا الله فعادت كما كانت فذهبت فيها الدَّعوات كلها .
وقيل : نزلت في أبي عامر الرَّاهبِ الذي سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالفاسق كان يتزهد في الجاهليَّة فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام ، وأمر المنافقين باتَّخاذهم مسجد الضِّرار وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وسلم فمات هناك طريداً وحيداً .
وقال الحسنُ ، وابن كيسان ، والأصم نزلت في منافقي أهل الكتاب ، كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم .
وقال عكرمةُ ، وقادة ، وأبو مسلم : هذا عام فيمن عرض عليه الحق فأعرض عنه .
وقوله : « فانسَلَخَ مِنْهَا » .
قال ابن عباس : « آتيْنَاهُ آياتِنَا » أوتي كتاباً من كُتبِ اللَّهِ « فانسَلَخَ مِنْهَا » أي : خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها .
قوله : { فَأَتْبَعَهُ الشيطان } الجمهور على أتبعَهُ رباعياً ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه متعدٍّ لواحد بمعنى أدركه ولحقه ، وهو بمالغةٌ في حقه حيث جُعل إماماً للشياطين . ويحتمل أن يكون متعدِّياً لاثنين؛ لأنَّهُ منقولٌ بالهمزة من « تَبع » ، والمفعولُ الثَّاني محذوفٌ تقديره : أتبعه الشيطان خطواتِهِ ، أي : جعله تابعاً لها ، ومِنْ تعدِّيه لاثنين قوله تعالى : { واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ } [ الطور : 21 ] .
وقرأ الحسنُ وطلحةُ بخلاف عنه : فاتَّبَعَهُ بتشديد التاء ، فهل « تبعه » واتبعَهُ بمعنى أو بينهم فرق؟
قيل بكل منهما ، وأبدى بعضهم الفرق بأن « تَبِعه » مشى في أُره ، و « اتَّبعَهُ » إذا وازَاهُ في المشي .
وقيل : « اتَّبعه » بمعنى : استتبعه .
ومعنى الآية : أتبعه الشيطان كفار الإنس وغواتهم أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعاً له .
وقال عبد الله بن مسلم : « فأتبعه الشيطان » . أي : أدركه .
ويقال : تبعت القوم ، إذا لحقتهم .
قال أبو عبيد : يقال : أتبعت القوم مثل : أفعلتُ إذا كانوا قد سبقُوكَ فلحقْتُهُم وقوله { فَكَانَ مِنَ الغاوين } أي : أطاع الشيطان فكان من الضالين .
قوله : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } الضمير في : رَفَعْنَاهُ الظَّاهر عودُه على الذي أوتي الآيات ، والمجرور عائد على الآيات والتقديرُ : ولو شئنا رفعناه للعمل بها ، أي : رفعناه درجة بتلك الآيات .

قال ابن عباس : لرفعناه بعمله .
وقيل : المنصوب يعودُ على الكفر المفهوم ممَّا سبق ، والمجرور على الآيات ، أي : لرفعنا الكفر بما ترى من الآيات .
قال مجاهد وعطاء .
وقيل : الضمير المجرور يعود على المعصية والمنصوب على « الذي » والمراد بالرفع : الأخذُ ، كما تقول : رُفِعَ الظَّالمُ ، أي قُلِعَ وأهْلِكَ أي : لأهلكناه بسبب المعصية .
وهذه أقوال بعيدة ، ولا يظهر الاستدراك إلاَّ على الوجه الأوَّلِ .
قوله { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ } « أخْلَدَ » أي : ترامى بنفسه . أي : ركن إلى الدنيا ومال إليها .
قال أهل العربيَّةِ : أصله من الإخلاد ، وهو الدوامُ واللُّزوم ، فالمعنى : لَزِمَ المَيْلَ إلى الأرْضِ قال مالك بنُ نُويرةَ : [ الطويل ]
2622 - بِأبْنَاءِ حَيٍّ مِنْ قبائِلِ مالكٍ ... وعمْرو بنِ يَرْبُوعٍ أقامُوا فأخْلَدُوا
ومنه يقال : أخلد فلان بالمكان ، إذا لزم الإقامة به .
قال ابنُ عبَّاس : يريد مال إلى الدُّنيا .
وقال مقاتل : رَضِيَ بالدُّنيا .
وقال الزجاج : ركن إلى الدُّنيا .
قال الواحديُّ فهؤلاء فَسَّرُوا « الأرض » في هذه الآية بالدنيا؛ وذلك لأنَّ الدنيا هي الأرض؛ لأن ما فيها من القفار والضياع كلها أرض ، وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان يستخرج من الأرض وإنَّما يقوى ويكمل بها ، فالدنيا كلُّها هي الأرض فصلح أن يعبر عن الدُّنْيا بالأرض .
وقوله : « وَاتَّبَعَ هَوَاهُ » أي : أعرض عن التَّمسك بما آتاه اللَّهُ من الآيات واتَّبع الهَوَى ، فلام جرم وقع في هاوية الرَّدَى ، وهذه أشد آية على العلماء؛ لأنه تعالى بعد أن خصَّ هذا الرَّجل بآياته وبيناته وعلمه الاسم الأعظم ، وخصه بالدَّعوات المستجابة ، لما اتبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة الكلب ، وذلك يدلُّ على أن من كانت نعم الله عليه أكثر ، فإذا أعرض عن متابعة الهدى ، واتَّبع الهوى ، كان بعدهُ عن الله أعظمَ ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام « من ازدادَ من اللَّهِ عِلْماً ولمْ يزددْ هُدىً لم يَزْددْ مِنَ اللَّهِ إلاَّ بُعْداً »
وقال عليه الصَّلاة والسَّلام « مَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ أرْسِلاَ فِي غنمٍ فأفسَد لَهَا مِنْ حرصِ المرءِ على المالِ والسَّرفِ لدينهِ »
قوله : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } ، الجملة الشَّرطيَّةُ في محلِّ نصبٍ على الحال ، أي : لاهثاً في الحالتين .
قال بعضهم : وأمَّا الجملةُ الشَّرطيَّةُ فلا تكادُ تقع بتمامها موضع الحال .
فلا يقال : جاء زيدٌ إن يسأل يُعْط . على الحالِ ، بل لو أريد ذلك لجُعِلت الجملة فلا يقال : جاء زيدٌ إن يسأل يُعط فتكون الجملة الاسمية هي الحال .
نعم قد أوقعو الشَّرطيَّة موقع الجحال ، ولكن بعد أن أخروجُها عن حقيقة الشرط .
وتلك الجملة لا تخلُو من أن يُعطفَ عليها ما ينقاضها ، أو لم يُعْطف ، فالأوَّلُ : يستمرُّ فيه تركُ الواو ، نحو : أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني ، إذ لا يَخْفَى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط ، بل يتحوَّلان إلى معنى التسوية ، كالاستفهامين المتناقضين في قوله :

{ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } [ البقرة : 6 - يس : 10 ] .
والثاني : لا بدَّ فيه من الواو نحو : أتَيْتُكَ ، وإن لم تأتني؛ لأنَّهُ لو تركت الواو فقيل : أتيتُكَ إن لم تأتني لالتبس ، إذا عُرِفَ هذا فقوله : { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } من قبيل النوع الأول؛ لأنَّ الحمل عليه ، والتَّرك نقيضان .
والكلبُ يُجْمَعُ في القلَّةِ « أكْلُبٍ » ، وفي الكثرةِ على « كلاتٍ » ، وشذُّوا فجمعوا « أكْلُباً » على « أكَالِب » ، و « كِلاباً » على « كِلابَاتٍ » ، وأمَّا « كَلِيبٌ » فاسم جمعٍ؛ ك « فريق » ، لا جمع ، قال طرفة : [ الطويل ]
2623 - تَعَفَّقَ بالأرْطَى لَهَا وأرَادَهَا ... رِجَالٌ فبذَّتْ نَبْلَهُمْ وكَلِيبُ
وتقدَّمَتْ هذه المادة في المائدة .
ويقال : لَهَثَ يَلْهَثُ بفتح العين في الماضي والمُضارع « لَهَثَاً » ، و « لُهْثاً » بفتح اللام وضمها ، وهو خروج لسانه في حالة راحته وإعيائه ، وأمَّا غيره من الحيوان ، فلا يَلْهَثُ إلاَّ إذا أعيا ، أو عطش ، والذي يظهر أن هذه الجملة الشرطية لا محلَّ لها من الأإعراب ، لأنَّها مفسِّرة للمثل المذكور ، وهذا معنى واضحٌ لقولهم في قوله تعالى : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] أنَّ الجملة من قوله من تُرابٍ مفِّرة لقوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] .
واعلم أنَّ هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلابِ ، وإنَّما وقع بالكلبِ اللاَّهِثِ ، وذلك من وجهين : الأول : أنَّهُ شبهه بأخس الحيوانات ، وأخس الحيوانات الكلب ، وأخسَ الكلاب الكلبُ اللاَّهث ، فمن آتاه اللَّهُ العِلْمَ والدِّين فمالَ إلى الدُّنْيا ، وأخْلَدَ في الأرض ، كان مشبهاً بأخس الحيوانات وهُوا الكلبُ اللاَّهثُ ، فإنَّهُ يلهثُ في حال الإعياء ، وفي حالِ الرَّاحةِ ، وفي حال العطش ، وفي حال الرّي ، وذلك عادته الأصليَّة وطبيعته الخسيسة لا لضرورة وحاجة تَدْعُو إلى ذلك فكذلك من آتاه اللَّهُ العلم والدين ، وأغناه عن التَّعرُّض لأوساخ النَّاسِ ، ثم إنَّه يميل في طلب الدُّنْيَا ، ويلقي نفسه فيها ، فحالُهُ كحالِ ذلك اللاَّهث ، حيثُ واظب على الفعل الخسيس القبيح ، بمجرَّد نفسه الخبيثة وطبيعة الخسيسة لا لحاجة وضرورة .
الثاني : أنَّ العالم إذا توسَّل بعلمه إلى طلب الدَّنيا ، فذلك إنَّمَا يكون لأجل أن يورد عليهم أنواع علومه ، ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها ، فهُوا عند ذكر تلك العلوم يدلع لسانه ويخرجه لأجل ما تمكَّن في قلبه من حرارة الحرصِ وشدَّة العطشِ إلى الفوز بالدُّنْيَا ، فكانت حاله شبيهةً بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه دائماً من غير حاجة ، ولا ضرورة ، بل لمجرَّدِ الطبيعة الخسيسة .
والثالث : أنَّ الكلبَ اللاَّهث لا يزولُ لهثه ألْبتةَ ، فكذلك الإنسان الحريص لا يزول حرصه ألبتة .

قوله : { ذَّلِكَ مَثَلُ القوم } يجوز أن يُشارَ ب : ذَلِكَ إلى صفة « الكَلْبِ » ، ويجوز أن يشار به إلى المنسلخ من الآيات ، أو إلى الكلب ، وأداةُ التَّشبيه محذوفةٌ من ذلك أي : صفة المنسلخ ، أو صفة الكلبِ مثل الَّذين كَذَّبُوا ، ويجوزُ أن يكون المحذوفُ من : « مثلُ القومِ » أي : ذلك الوصف ، وهو وصف المنسلخ ، أو وصف الكلب كمثل القوم .
فصل
واعلمْ أنَّهُ تعالى عمَّ بهذا التَّمثيل جميع المكذبين بآيات الله .
قال ابنُ عبَّاسٍ : يريد أهل مكَّة لأنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم ، ويدعوهم إلى طاعة الله ، فلمَّا جاءهم نبيٌّ لا يشكُّونَ في صدقه كذَّبوه ، فلم يهتدوا ، وبقُوا على الضَّلالِ في كل الأحوالِ ، إن وعظته فهو ضالٌّ ، وإن تركتهُ فهو ضالٌّ ، مثل الكلب ، إن تحمل عليه يلهث ، وإن تركته على حاله يلهث فهو لاهث في كل الأحوال .
ثم قال : « فاقْصُصِ القَصَصَ » أي : قصص الذين كَفَرُوا ، وكذَّبُوا بآياتنا : « لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون » أي : يتَّعِظُون .
قوله : « سَاءَ مثلاً » « سَاءَ » بمعنى : بِئْسَ « ، وفاعلها مضمرٌ فيها ، ومثلاً تمييزٌ مفسِّر له ، وقد تقدم [ النساء 38 ] أنَّ فاعل هذا الباب إذا كان ضميراً يُفَسَّر بما بعده ويُسْتَغْنَى عن تثنيته وجمعه وتأنيثه بتثنية التمييز وجمعة وتأنيثه عند البصريين ، وتقدَّم أنَّ » سَاءَ « أصلها التَّعدِّي لمفعولٍ ، والمخصوصُ بالذم لا يكون إلا من جنسِ التمييز ، والتمييز مُفَسِّر للفاعل فهوهو ، فلزم أن يصدق الفاعلُ والتمييزُ والمخصوص على شيءٍ واحدٍ ، إذا عُرِف هذا فقوله : » القَوْمُ « يرُ صادقٍ على التمييز والفاعل فلا جرم أنَّه لا بدَّ من تقدير محذوف إمَّا من التَّمييز ، وإمَّا من المخصوص .
فالأوَّلُ يقدَّر : ساء أصحابُ مثل أو أهلُ مثل القوم ، والثاني يقدر : ساء مثلاً مثل القوم ، ثم حذف المضاف في التقديرين ، وأقيم المضافُ إليه مُقامه ، وهذه الجملةُ تأكيدٌ للَّتي قبلها .
وقرأ الحسنُ والأعمشُ وعيسى بن عمر : » سَاءَ مثلُ القَوْمِ « برفع » مثل « مضافاً للقوم .
وروي عن الجحدري كذلك ، وروي عنه كسر الميم وسكون الثاء ورفع اللاَّم وجرُّ » القوم « وهذه القراءةُ المنسوبةُ لهؤلاء الجماعة تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون » سَاءَ « للتَّعَجُّب ، مبنيَّةٌ تقديراً على » فَعُلَ « بضمِّ العين كقولهم : لَقَضُوا الرجلُ ، و » مَثَل القوْم « فاعل بها ، والتقدير : ما أسوأ مثل القومِ ، والموصولُ على هذا في محل جر ، نعتاً ل » قَوم « .
والثاني : أنَّها بمعنى » بِئْسَ « و » مثلُ القوم « فاعل ، والموصولُ على هذا في محلِّ رفعٍ؛ لأنه المخصوصُ بالذَّمِّ ، وعلى هذا لا بد مِنْ حذف مضاف ، ليتصادقَ الفاعلُ والمخصوصُ على شيءٍ واحدٍ ، والتقدير : ساءَ مثلُ القومِ مثل الذين ، وقدَّر أبو حيان تمييزاً في هذه القراءة وفيه نظر؛ إذْ لا يحتاج إلى تمييز ، إذا كان الفاعلُ ظاهراً ، حتَّى جعلُوا الجمع بينهما ضرورةً ، كقول الشَّاعر : [ الوافر ]

2624 - تَزَوَّدْ مِثْلَ زَادِ أبيكَ فِينَا ... فَنِعْمَ الزَّادُ زَادُ أبيكَ زَادَا
وفي المسألة ثلاثة مذاهب : الجوازُ مطلقاً ، والمَنْعُ مطلقاً ، والتَّفصيلُ ، فإن كان مغايراً في اللَّفظ ومفيداً فائدة جديدة جاز نحو : نعم الرَّجُلُ شجاعاً زيدٌ؛ وعليه قوله : [ الوافر ]
2625 - تَخَيَّرَهُ ولَمْ يَعْدِلْ سِوَاهُ ... فَنِعْمَ المَرْءُ مِن رَجُلٍ تِهَامِي
فصل
قال اللَّيْثُ : سَاءَ يَسُوءُ : فعلٌ لازمٌ ومتعد ، يقالك ساء الشَّيءُ يَسُوء فهو سيّىءٌ وسَاءَه يَسُوءُهُ مَسَاءَةً ، إذا قبح .
فإن قيل : ظاهر قوله : « سَاءَ مَثَلاً » يقتضي كون ذلك المثل موصوفاً بالسُّوء ، وذلك غير جائز؛ لأن هذا المثل ذكره الله تعالى ، فكيف يكون موصوفاً بالسُّوء؟ وأيضاً فهو يفيد الزجر عن الكُفرِ والدَّعوة إلى الإيمان ، فكيف يكون موصوفاً بالسُّوءِ؟
فالجوابُ : أنَّ الموصوف بالسُّوءِ ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عنها ، حتَّى صارُوا في التمثيل بذلك بمنزلة الكلبِ اللاَّهِث .
قوله : { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } « أنْفُسَهُمْ » مفعول ل « يَظْلِمُونَ » وفيه دليلٌ على تقديم خبر « كان » عليها؛ لأنَّ تقديم المعمول يؤذنُ بتقديم العامل غالباً ، لأنَّ ثمَّ مواضع يمتنع فيها ذلك نحو : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9 ] ف « اليتيمَ » مفعول ب « تقهر » ولا يجوز تقديم « تَقْهَرْ » على جازمه ، وهو محتملٌ للبحث .
وهذه الجملةُ الكونيةُ تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون نسقاً على الصلة وهي « كذَّبُوا بآيَاتِنَا » والمعنى : الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله ، وظلم أنفسهم .
والثاني : أن تكون مستأنفة ، أي : وما ظلموا إلا أنفسهم بالتَّكذيب ، وعلى كلا القولين فلا محلَّ لها ، وقُدِّم المفعولُ ، ليفيدَ الاختصاص وهذا على طريق الزمخشريِّ وأنظاره كأنَّهُ قيل : وخصوا أنفسهم بالظُّلْمِ ، وما تعدى أثر ذلك الظُّلم عنهم إلى غيرهم .
قوله : { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي } راعى لفظ « مَنْ » فأفرد ، وراعى معناها في قوله { فأولئك هُمُ الخاسرون } فجمع ، وياء « المُهْتَدِي » ثابتةٌ عند جميع القُرَّاءِ ، لثبوتها في الرسم ، وسيأتي الخلاف في التي في الإسراء .
وقال الواحديُّ : فهُو المُهْتَدِي يجوز إثبات الياء فيه على الأصلِ ، ويجوزُ حذفها استخافاً؛ كما قيل في بيت الكتاب : [ الوافر ]
فَطِرْتُ بِمْنْصُلِي فِي يَعْمَلاتٍ ... دَوَامِي الأيْدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا
وعنه : [ الكامل ]
2627 - كَنَوَاحِ ريشِ حَمَامَةٍ نَجْديَّةٍ ... ومَسَحْتِ باللِّثَتَيْنِ عَصْفَ الإثْمِدِ
قال ابن جني : شبَّه المضاف إليه بالتنوين فحذف له الياء .
فصل
لمَّا وصف الظَّالمين وعرَّف حالهم بالمثل المذكور بيَّن في هذه الآية أنَّ الهداية من اللَّهِ ، وأنَّ الضَّلال من اللَّهِ ، وذكر المعتزلةُ ههنا وجوهاً من التأويل : أحدها :
قال الجُبائيُّ والقاضي : المرادُ من يهده اللَّهُ إلى الجنَّةِ والثَّواب في الآخرة ، فهو المهتدي في الدُّنْيَا السالك طريقة الرشد فيما كلف ، فبيَّن تعالى أنَّهُ لا يهدي إلى الثَّوابِ في الآخرة إلا مَنْ هذه صِفَتُهُ ، ومن يضلله عن طريق الجنَّةِ : { فأولئك هُمُ الخاسرون } .

وثانيها : قال بعضهم : إنَّ في الآية حذفاً ، والتَّقديرُ : من يهده اللَّهُ فيقبل ، ويهتدي بهداه؛ فهو المهتدي ، ومن يُضللْ فلم يقبل فهو الخَاسِرُ .
وثالثها : أنَّ المراد من يهده اللَّهُ أي : وصفه بكونه مُهتدياً فهو المهتدي؛ لأنَّ ذلك كالمدح ومدح الله لا يجعل إلاَّ لمن اتَّصَفَ بذلك الوصف المَمْدُوحِ ، ومن يضلل أي : وصفه اللَّهُ بكونه ضالاً : { فأولئك هُمُ الخاسرون } .
ورابعها : من يهده اللَّهُ بالإلطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي ، ومن يضلل عن تلك الألطاف بسوء اختياره ، ولم يُؤثِّر فيه فهو الخَاسِرُ .
والجواب من وجوه : الأولُ : أن الفعل يتوقَّفُ على حصول الدَّاعي وحصول الدَّاعي ليس إلّض من اللَّهِ فالفعلُ ليس إلاَّ من اللَّهِ تعالى .
الثاني : أنَّ خلاف معلوم الله تعالى ممتنع الوقوع ، فمن علم الله منه الإيمان لم يقدر على الكفر وبالضّد .
الثالث : أنَّ كل أحد يقصد حصول الإيمان والمعرفة فإذا حصل الكفر عقيبه عَلِمْنَا أنَّهُ ليس منه بل من غيره .
وأما التأويل الأول : فضعيف لانه حمل قوله { فأولئك هُمُ الخاسرون } على الهداية في الآخرة إلى الجنة وقوله « فَهُوَ المُهْتَدِي » على الاهتداء إلى الحق في الدنيا ، وذلك يوجب ركاكة النظم ، بل يجب أن تكون الهداية والاهتداء راجعين إلى شيء واحد حتى يحسن النظم .
وأما الثاني : فإنه التزام لإضمار زائد ، وهو خلاف اللَّفظ ، ولو جاز فتح باب أمثال هذه الإضمارات لانقلب النفي إثباتاً والإثبات نفياً ، ويخرج كلام الله عن أن يكون حجة ، فإنَّ لكل أحد أن يضمر في الآية ما شاء ، وحينئذ يخرج الكلام عن الإفادة .
وأما الثالث : فضعيف؛ لأنقول القائلنك فلان هدى فلاناً لا يفيدُ في اللغة ألبتَّة أنَّهُ وصفه بكونه مهتدياً ، وقياس هذا على قوه : فلان ضلل فلان وكفره ، قياس في اللغةِ ، وهو في نهاية الفسادِ .
والرابع : باطل؛ لأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف ، فقد فعله عند المعتزلةِ في حق جميع الكُفَّارِ؛ فحمل الآية على هذا التَّأويل بعيد .

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } الآية .
اللام في [ قوله ] لجهنَّمَ يجوزُ فيها وجهان :
أحدهما : أنَّها لامُ الصيرورة والعاقبة ، وإنَّما احتاج هذا القائلُ إلى كونها لام العاقبة كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فهذه علةٌ معتبرةٌ محصولة ، فكيف تكون هذه العلة أيضاً؟ وأورد من ذلك أيضاً قول الشاعر : [ الوافر ]
2628 - لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرابِ .. . . .
وقول الآخر : [ الطويل ]
2629 - ألاَ كُلُّ مَوْلُودٍ فَلِلْموتِ يُولَدُ ... ولَسْتُ أرَى حيّاً لِحَيٍّ يُخَلَّدُ
وقول الآخر : [ الطويل ]
2630 - فَلِلْمَوتِ تَغْذُو الوَالِداتُ سخَالَهَا ... كَمَا لِخرابِ الدُّور تُبْنَى المَسَاكِن
الثاني : أنها للعلة ، وذلك أنَّهُم لمَّا كان مآلهم إليها ، جعل ذلك سبباً على طريق المجاز . وقد ردَّ ابنُ عطيَّة على من جعلها لامَ العاقبة ، فقال : وليس هذا بصحيح ولام العاقبة إنَّما تُتَصَوَّرُ إذا كان فعل الفاعل لم يُقْصَدْ مصيرُ الأمر إليه ، وأمَّا هنا فالفعلُ قُصِد به ما يصير الأمر إليه من سُكْناهم لجهنم واللاَّم على هذا متعلقة بذَرَأنَا ، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال من كَثِيراً؛ لأنه في الأصل صفة لها ، لو تأخَّرَ ، ولا حاجة إلى ادِّعاءِ قلب ، وأنَّ الأصل : { ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً } ؛ لأنَّهُ ضرورةٌ أو قليلٌ ، و « مِنَ الجِنِّ » صفة ل « كَثِيراً » .
فصل
ومعنى { ذَرَأْنَا } خلقنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، أخبر الله تعالى أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار ، وهم الذينَ حقت عليهم الْكلمة الأزليَّة بالشّقاوة ، ومن خلقه الله لجهنَّمَ ، فلا حيلة له في الخَلاصِ منها .
قالت عائشةُ : « أدرك النّبيُّ صلى الله عليه وسلم جنازة صبيٍّ من صبيان الأنْصَارِ ، فقالت عائشةُ له : طُوبى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الجَنَّةِ . فقال صلى الله عليه وسلم : وما يدريكِ؟ إنَّ الله خَلَقَ الجَنَّةَ وَخلَقَ لَهَا أَهْلاً وَهُمْ في أصْلابِ آبَائِهِمْ وخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلاً وهُمْ في أَصْلابِ آبائِهِمْ »
فصل
هذه الآية أيضاً تَدُلُّ على مسألة خلق الأعمالِ لأنَّهُ تعالى صرَّحَ بأنَّهُ خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد على بيان كلام اللَّهِ ، وأيضاً انه لمَّا أخبر عنهم أنَّهُم من أهل النَّارِ ، فلو لم يكونوا من أهل النَّارِ انقلب علم اللَّهِ جهلاً ، وخبره الصِّدق كذباً ، وكل ذلك محال ومن علم كون الشَّيءِ محالاً امتنع أن يريدهُ ، فامتنع أن الله تعالى يريد أن لا يدخلهم النار بل يجب أن يريد أن يدخلهم النار ، وذلك هو الذي دَلَّ عليه لفظ الآية ، وأيضاً إنَّ القادرَ على الكُفْرِ إن لم يقدر على الإيمان ، فالذي خلق فيه القدرة على الكُفْرِ فقد أرادَ أن يدخله النار ، وإن كان قادراً على الكفر والإيمان معاً؛ امتنع رجحان أحد الطَّرفين على الآخر لا لمرجح وذلك المرجح إن حصل من قبله لزم التسلسل ، وإن حصل من قبل اللَّهِ تعالى ، فهو المرادُ .

فلمَّا كان هو الخالقُ للدَّاعية الموجبة للكفر فقد خلقه للنَّارِ قطعاً ، وأيضاً : لو خلقه اللَّهُ تعالى للجنَّةِ وأعانه على اكتساب ما يوجب دخول الجنَّةِ ، ثم قدرنا أنَّ العبد سعى في تحصيل الكُفْرِ الموجب لدُخُولِ النَّارِ ، فحينئذٍ حصل مُرَادُ العبدِ ، ولم يحصل مرادُ اللَّهِ تعالى فلزمَ كون العبد أقدر وأقوى من اللَّهِ ، وذلك لا يقوله عاقلٌ ، وأيضاً : إنَّ العاقلَ لا يريدُ الكُفْرَ والجهل الموجب لاستحقاق النار ، وإنما يريدُ الإيمان والمعرفة الموجبة لاستحقاق الجنَّةِ فلما حصل الكفر ، والجهل على خلاف قصد العبد وضد جدّه واجتهاده؛ وجب أن لا يكون حصوله من قبل العبد ، بل يجبُ أن يكون حصوله من الله تعالى .
فإن قيل : العبْدُ إنَّما سعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الفَاسِد؛ لأنَّهُ اشتبه عليه الأمر وظن أنه الحقُّ الصَّحيحُ .
فنقولُ : فعلى هذا التقدير إنَّما وقع في هذا الجَهْلِ لأجل ذلك الجَهْلِ المتقدِّم ، فإن كان إقدامه على ذلك الجهل السَّابق لجهل آخر سابق ، لزم التسلسل ، وهو محال ، وإن انتهى إلى جهل حصل ابتداء لا لسابقة جهل آخر ، فقد توجه الإلزام .
قالت المعتزلة : لا يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ، لأن كثيراً من الآيات دلت على أنه تعالى أراد من الكل الطاعة والعبادة .
قال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله } [ النساء : 64 ] وقال : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ } [ الفرقان : 50 ] وقال : { هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } [ الحديد : 9 ] .
وقال : { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط } [ الحديد : 25 ] .
وقال { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } [ إبراهيم : 10 ] .
وقال : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] وأمثال هذه الآيات كثيرة . ونحن نعلم بالضَّرورة أنه لا يجوز وقوع التناقض في القرآن ، فعلمنا أنَّه لا يُمْكنُ حَمْلُ قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس } على ظاهره .
الثاني : أنه تعالى قال بعدها : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } ذكر ذلك في معرض الذم لهم ، ولو كانوا مخلوقين للنَّارِ ما كانُوا قادرين على الإيمان ألبتة وعلى هذا : فيقبح ذمُّهُم على تركِ الإيمان .
الثالث : أنَّه تعالى لو خلقهم للنَّارِ لما كان له على أحد من الكُفَّارِ نعمة أصلاً؛ لأنَّ منافع الدُّنيا بالنسبة إلى العذاب الدائم ، كالقطرة في البحر ، وكان كمن دفع إلى إنسان حلوى مسمومة فإنَّه لا يكون منعماً عليه ، فكذا ههنا ، ولمَّا كان القرآن مملُوءاً من كثرة نعم الله على كل الخَلْق علمنا أنَّ الأمر ليس كما ذكرتم .
الرابع : أنَّ المَدْحَ والذَّمَّ ، والثَّواب والعقاب ، والترغيب والترهيب ، يبطل هذا المذهب الذي ينصرونه .
الخامس : لو خلقهم للنَّارِ ، لوجب أن يخلقهم ابتداء في النَّارِ؛ لأنَّه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم .

السادس : أن قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } متروك الظَّاهر ، لأنَّ جهنَّم اسم للموضع المعين ، ولا يجوز أن يكون الموضع المعيَّن مراداً منه ، فثبت أنه لا بد وأن يقال : إن ما أراد الله لخلقه منهم محذوف . وكأنَّهُ قال : وقد ذَرَأنَا لكي يكفروا ، فيدخلوا جهنم ، فصارت الآية متروكة الظَّاهر ، فيجب بناؤها على قوله : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس } [ الذاريات : 56 ] لأن ظاهرها يصح بدون حذف .
السابع : أنه إذا كان المرادُ أنَّهُ ذرأهم لكي يكفروا ، فيصيروا إلى جهنم ، عاد الأمر في تأويلهم إلى أن هذه اللاَّم لام العاقبة ، لكنهم يجعلونها للعاقبة مع أنَّهُ لا استحقاق للنَّار ونحن قد تأولناها على عاقبة حاصلة مع استحقاق النار . فكان قولنا أولى .
فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها ، فوجب المصير إلى التأويلن ، وتقريره : أنه لما كانت عاقبة كثيرة من الجن والإنس هي دخول النَّارِ . جاز ذكر هذه اللاَّم بمعنى العاقبة .
ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والشِّعر .
أمَّا القرآنُ فقوله تعالى : { وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } [ الأنعام : 105 ] .
ومعلوم أنه تعالى ما صرفها ليقولوا ذلك؛ لكنَّهم لمَّا قالُوا ذلك حسن ورود هذا اللفظ .
وقال تعالى : { رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } [ يونس : 88 ] .
وقال : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] . ولم يلتقط لهذا الغرض ، إلاَّ أنه لمَّا كانت عاقبة أمرهم ذلك حسن هذا اللفظ .
وأما الشعر فقوله : [ الطويل ]
2631 - ولِلْمَوْتِ تَغْذُوا الوالِدَاتُ سِخَالَهَا ... كَمَا لِخَرابِ الدُّور تُبْنَى المَسَاكِنُ
وقال : [ البسيط ]
2632 - أمْوالُنَا لِذَوي الميراثِ نَجْمَعُهَا ... ودُورنا لِخرابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا
وقال : [ الوافر ]
2633 - لَه مَلكٌ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ ... لِدُوا للْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرَابِ
وقال : [ المتقارب ]
2634 - فأُمَّ سِمَاكٍ فلا تَجْزَعِي ... فَلِلموتِ ما تَلِدُ الوالِدَة
هذا منتهى كلام المعتزلة .
واعلم أنَّ المصير إلى التَّأويل إنَّما يَحْسُنُ إذا ثبت بالدَّليلِ العقليِّ امتناع حمل هذا اللَّفْظِ على ظاهره ، وقد بيَّنَّا بالدليل العقليِّ أن الحقِّ ما دل عليه ظاهر اللفظ ، فصار التَّأويل ههنا عبثاً ، وأمَّ الآياتُ التي تمسكوا بها فمعارضة بالبحار الزاخرة من الآيات الدالة على مذهب أهل السُّنَّةِ ، ومن جملتها ما قبل هذه الآية : { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون } [ الأعراف : 178 ] وما بعدها ، وهو قوله : { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ولمَّا كان ما قبل هذه الآية وما بعدها ليس إلاَّ ما يُقوى قولنا كان تأويل المعتزلة في هذه الآية ضعيفاً جداً .
قوله : « لَهُمْ قُلُوبٌ » جملة في محلِّ نصب إمَّا صفةً ل « كِثيراً » أيضاً ، وإمَّا حالاً من : « كثيراً » وإن كان نكرة لتخَصُّصه بالوصفِ ، أو من الضمير المستكن في مِنَ الجِنِّ؛ لأنَّهُ تحمل ضميراً ، لوقوعه صفة ، ويجوز أن يكون لَهُمْ على حدته هو الوَصْفُ ، أو الحالُ ، وقُلُوبٌ فاعل به فيكون من باب الوصف بالمفرد ، وهو أولى .

وقوله : « لا يَفْقَهُونَ بِهَا » وكذلك الجملةُ المنفيَّة في محلِّ النَّعْتِ لما قبلهان وهذا الوصفُ يكادُ يكونُ لازماً ، لوروده في غير القرآن؛ لأنَّهُ لا فائدة بدونه؛ لو قلت : لزيد قَلْبٌ وله عَيْنٌ ، وسَكَتَّ لم يظهر لذلك كبير فائدة .
فصل
المعنى : لَهُمْ قلوبٌ لا يعلمون بها الخير والهدى ، ولهُم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بها طريق الحق ، ولهُمْ آذانٌ لا يسمعُون بها مواعظ القرآن فيتفكرون فيها ويعتبرون . ثم ضرب لهم مثلاً في الجَهْلِ والاقتصار على الأكل والشرب ، فقال : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } أي : أنَّ همتهم الأكل واشُّرب والتمتع بالشَّهواتِ { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } ؛ لأنَّ الأنعام تُميز بين المضار والمنافع فلا تقدمُ على المضار ، وهؤلاء يقدمون بالشهوات على النَّار معاندةً مع العلم بالهلاك .
وقيل : لأنَّ الأنعام مطيعة للَّهِ تعالى والكافر غير مطيع .
وقال مقاتلٌ : هم أخطأ طريقاً من الأنعام؛ لأنَّ الأنعام تعرفُ ربَّها ، وهم لا يعرفون ربُّهم ولا يذكرونه .
وقيل : لأنَّها تفر إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها ، والكافِرُ يهرب عن ربِّه الذي أنعم عليه .
وقيل : لأنَّهَا تضل إذا لم يكن معها مرشد ، فإن كان معها مرشد فقلما تضلُّ ، وهؤلاء الكفار قد جاءهم الأنبياء وهم يزدادون في الضلال : { أولئك هُمُ الغافلون } .
فصل
دلَّت اليةُ على أنَّهُ تعالى كلَّفهم مع أن قلوبهم ، وأبصارهم ، وأسماعهم ما كانت صالحةً لذلك ، وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصَّد عنه مع الأمر به .
قالت المعتزلةُ : لو كانوا كذلك لقبح من الله تكليفهم؛ لأن تكليف من لا قُدْرَةَ له على الفعل قبيحٌ لا يليق بالحكيم؛ فوجب حمل الآية على أنَّ المرادَ منه كثرة الإعراض عن الدَّلائلِ وعدم الالتفات إليها ، فأشْبَهُوا من لا قَلْبَ له فاهم ولا عين باصرة ولا أذن سامعة .
وأجيبُوا بأنَّ الإنسان إذا تأكدت نُفْرتُهُ عن شيء صارت تلك النُّفرة المتأكدة الراسخةمانعة له عن فهم الكلام الدَّال على صحَّة الشيء ، ومانعة عن إبصار محاسنه وفضائله وهذه حالة وجدانية ضرورة يجدُها كلُّ أحدٍ من نفسه . ولهذا قالوا في المثل : حُبُّكَ للشَّيءِ يُعْمِي ويُصِمُّ .
وإذا ثبت هذا فنقول : إن أقواماً من الكُفَّارِ بلغوا في عداوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - وفي بغضِهِ وشدَّةِ النُّفرةِ عن قبول دينه والاعتراف برسالته هذا المبلغ وأوقى منه والعلمُ الضروريُّ حاصلٌ بأنَّ حصول الحُبِّ والبُغْض في القلب ليس باختيارِ أحدٍ .
وإذا ثبت أنَّهُ متى حصلت هذه النُّفرة والعداوةُ في القلب ، فإنَّ الإنسان لا يمكنه مع تلك النُّفرة الراسخة والعداوة الشديدة تحصيل الفهم والعلم ، فإذا كان كذلك كان القول بالجبر لا محيص عنهُ .
فصل
وقد أورد الغزالي في الإحياء سؤالاً ، فقال : فإن قيل : إني أجد من نفسي أنَّي إن شئت الفعل فعلت ، وإن شئت الترك تركت ، فيكون فعلي حاصلاً بي لا بغيري .

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)

قوله : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ } .
يجوزُ في « ما » أوجه :
أحدها : أن تكون استفهامية في محلِّ رفع بالابتداء ، والخبرُ « بصَاحبهم » أي : أيُّ شيء استقرَّ بصاحبهم من الجُنُونِ؟ ف : الجِنَّة : مصدرٌ يراد بها الهيئة ، ك : الرِّكْبَةِ ، والجلسة .
وقيل : المراد بالجِنَّة : الجِنُّ ، كقوله { مِنَ الجنة والناس } [ الناس : 6 ] ولا بدَّ حينئذٍ من حذف مضافٍ . أي : مَسِّ جنة ، أو تخبيط جنَّة .
والثاني : أنَّ « ما » نافية ، أي : ليس بصاحبهم جنون ، ولا مسُّ جِنّ . وفي هاتين الجملتين أعني الاستفهامية أو المنفية ، فيهما وجهان :
أظهرهما : أنَّهما في محلِّ نصب بعد إسقاط الخافض؛ لأنَّهُمَا علَّقا « التَّفكُّر » ؛ لأنَّهُ من أفعال القلوب .
والثاني : أنَّ الكلام تمَّ عند قوله : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ } ، ثمَّ ابتدأ كلاماً آخر ، إمَّا استفهام إنكار ، وإمَّا نفياً .
وقال الحوفيُّ إنَّ « مَا بِصَاحبِهِم » معلقةٌ لفعلٍ محذوف ، دلَّ عليه الكلامُ ، والتقديرُ : أو لم يتفكروا فيعلمُوا ما بصاحبهم .
قال : و « تفكَّر » لا يعلَّقُ؛ لأنَّهُ لم يدخل على جملة . وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أن فعل القَلْبِ المتعدِّي بحرف جرٍّ أو إلى واحد إذا عُلِّقَ هل يبقى على حاله أو يُضَمَّن ما يتعدَّى لاثنينِ؟
الثالث : أن تكون « ما » موصولة بمعنى « الذي » ، تقديره : أو لم يتفكَّرُوا في الذي بصاحبهم وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم ، وعلى قولنا : إنَّهَا نافيةٌ يكونُ « مِن جِنَّةٍ » مبتدأ ، ومِنْ مزيدةٌ فيه ، وبِصَاحِبِهم خبره ، أي : مَا جِنَّةٌ بِصَاحِبِهم .
فصل
دخول « مِنْ » في قوله من جنَّةٍ يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون .
قال الحسنُ وقتادةُ : إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قام ليلةًعلى الصَّفَا يدعو قريشاً فخذاً فخذاً ، يا بني فلان ، يا بني فلان ، يُحذرُهم بأسَ الله وعقابه .
فقال قَائِلُهُمْ : إنَّ صاحبكم هذا المجنون ، بات يُصوِّت إلى الصَّباحِ ، فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية .
وقيل : إنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام كان يَغْشَاهُ حالة عجيبة عند نزولِ الوحي فيتغيَّر وجهه ويصفر لونه ، وتعرض له حالة شبيهة بالغشي ، والجهال كانوا يقولون : إنَّهُ جُنُونٌ ، فبيَّنَ اللَّهُ تعالى في هذه الآية أنَّه ليس بمجنون إنَّمَا هُو نذير مبينٌ من ربِّ العالمين .
قوله : { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض } الآية .
لمَّا كانَ النَّظرُ في أمر النُّبُوَّةِ مفرعاً على تقرير دلائل التَّوحيد ، لا جرم ذكر عقيبهُ ما يدلُّ على التَّوحيد ، فقال : { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض } واعلم أنَّ دلائل ملكوت السَّمواتِ والأرض على وجود الصَّانع الحكيم كثيرة وقد تقدَّمت .
ثم قال : { وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ } أي : أن الدَّلائل على التَّوحيد غير مقصورةٍ على السَّموات والأرض ، بل كلُّ ذرَّة من ذرات العالم ، فهي برهان قاهرٌ على التَّوحيد ، وتقريره أن الشَّمس إذا وقعت على كوة البيت ظهرت ذرَّت ، فيفرض الكلامُ في ذرَّةٍ واحدةٍ من تلك الذرات .

فنقول : إنَّها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية؛ لأنَّها مختصة بحيِّز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له ، فكلُّ حَيِّزٍ من تلك الأحياز الغيرِ متناهية فرضنا وقوع تلك الذَّرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيِّز من الممكنات والجائزات ، والممكن لابدَّ له من مُخَصّص ومرجح ، وذلك المخصص إن كان جسماً عادَ السُّؤالُ فيه ، وإن لم يكن جسماً كان هو اللَّهُ تعالى .
وأيضاً فتلك الذَّرَّةُ لا تخلو من الحركةِ والسُّكُونِ ، وكلُّ ما كان كذلك فهو محدثٌ ، وكل محدث فإنَّ حدوثه لا بد وأن يكون مختصّاً بوقتٍ معيَّنٍ مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده واختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه ، لا بُد وأن يكون بتخصيص مخصصٍ قديم ثمَّ إن كان ذلك المُخَصَّص جسماً عاد السُّؤالُ فيه ، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى وأيضاً فتلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجميَّة ، ومخالفة لها في اللَّون والشَّكل والطبع والطعم وسائر الصِّفاتِ ، فاختصاصها بكلِّ تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام ، لا بد وأن يكون من الجائزات ، والجائزُ لا بد له من مرجح ، وذلك المرجح إن كان جسماً عاد البَحْثُ الأوَّلُ فيه ، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى ، فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصَّانع من جهات تتناهى ، واعتبارات غير متناهية ، وكذا القولُ في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني بمفرداته ومركَّباته ، وعند هذا ظهر صدْقُ القائل : [ المتقارب ] .
2638 - وَفِي كُلِّ شيءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ على أنَّهُ وَاحِدٌ
ولمَّا نبَّه تعالى على هذه الأسرار العجيبة بقوله : { وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ } أردفه بما يوجب التَّرغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكُّر فقال : « وأنْ عَسَى » ، و « أنْ » فيها وجهان :
أصحهما : أنَّهَا المخففةُ من الثقيلة ، واسمُها ضمير الأمر والشأن ، والمعنى : لعل آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيرُوا إلى النَّارِ ، وإذا كان هذا الاحتمالُ قائماً؛ وجب على العاقل المُسارعة إلى هذا الفكر ، ليسعى في تخليص نصفه من هذا الخوف الشَّديد ، و « عسى » وما حيَّزها في محلِّ الرفع خبراً لها ، ولم يفصل بَيْنَ « أنْ » والخبر وإن كان فعلاً؛ لأنَّ الفعل الجامد الذي لا يتصرَّف يشبهُ الأسماء ، ومثله { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] { والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ } [ النور : 9 ] في قراءة نافع لأنَّهُ دعاء .
فصل
وقد وقع خبرُ « أنْ » جملةً طلبية في هاتين الآيتين الأخيرتين ، فإنَّ عَسَى للإنشاء و « غَضَبَ اللَّه » دعاء .
والثاني : أنَّها المصدرية؛ قاله أبُو البقاءِ ، يعني التي تنصب المضارع ، الثنائية الوضع ، وهذا ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ النُّحاة نَصُّوا على أنَّ المصدرية لا تُوصَل غلاَّ بالفعل المتصرف مطلقاً ، أي : ماضٍ ، ومضارع وأمر ، و « عَسَى » لا يتصرف فكيف يقع صلة لها؟ وأنْ على كلا الوجهين في محل جر نسقاً على « ملكوت » ، أي : أو لم ينظروا في أنَّ الأمر والشأن عسى أن يكون ، و « أن يكُون » فاعل « عَسَى » وهي حينئذٍ تامَّةٌ؛ لأنَّها متى رفعت « أنْ » وما في حيَّزها كانت تامةً ، ومثلها في ذلك : أوشك ، واخلولق .

وفي اسم : « يَكُون » قولان :
أحدهما : هو ضميرُ الشَّأنِ ، ويكونُ : { قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } خبراً لها .
والثاني : أنه : « أجْلُهُمْ » ، و « قَدِ اقتربَ » جملةٌ من فعلٍ وفاعلٍ هو ضمير « أجَلُهُم » ولكن قدّضم الخبر وهو جملة فعليَّة على اسمها .
وقد تقدَّم أن ابن مالك يجيزه وابن عصفور يمنعه عند قوله : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } [ الأعراف : 137 ] .
قوله : « فَبِأيِّ » مُتعلّق ب « يُؤمِنُونَ » وهي جملةٌ استفهامية سيقتْ للتَّعجب ، أي : إذَا لم يُؤمِنُوا بهذا الحديث فكيف يُؤمِنُونَ بغيره؟ والهاءُ في : « بَعْدَهُ » تحتملُ العَوْدَ على القرآن وأن تعُود على الرَّسُولِ ، ويكون الكلامُ على حذف مضافٍ ، أي : بعد خبره وقصته ، وأن تعود على : « أجَلُهُمْ » ، أي : إنَّهم إذا ماتوا وانقضى أجلهم؛ فكيف يُؤمنُون بعد انقضاءِ أجلهم؟
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بم تُعلِّق قوله : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ؟ قلت : بقوله : { عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } ؛ كأنه قيل : لعلَّ أجلهم قجد اقترب فما لهُم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الموت ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقّ؟ وبأيَّ حديثٍ أحقُّ منه يرون أن يؤمنوا؟ يعني التعلُّق المعنويَّ المرتبطَ بما قبله لا الصناعي وهو واضح .
قوله تعالى : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ } الآية .
لمَّا ذكر إعراضهُم عن الإيمان ، بيَّن ههنا علَّة إعراضهم .
فقال : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } وهذه الآيةُ تدلُ على أنَّ الهُدى والضلال من الله تعالى كما سبق في الآيةِ المُتقدمة وتأويلات المعتزلة والأجوبة عنها .
قوله : « ويَذَرْهُمْ » قرأ الأخوان بالياء وجزم الفعل ، وعاصم وأبو عمرو بالياء أيضاً ، ورفع الفعل ، ونافع وابن كثير وابن عامر بالنُّون ورفع الفعل أيضاً ، وقد رُوي الجزمُ أيضاً عن نافع ، وأبي عمرو في الشواذ .
فالرفعُ من وجهٍ واحدٍ ، وهو الاستئناف ، أي : وهو يذرهم ، ونحن نذرهم ، على حسب القراءتين ، وأمَّا السُّكونُ فيحتمل وجهين :
أحدهما : أنه جزم نسقاً على محلِّ قوله : { فَلاَ هَادِيَ لَهُ } ؛ لأنَّ الجملةَ المنفيَّة جوابٌ للشرط فهي في محلِّ جزم فعطف على محلِّها وهو كقوله تعالى : { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ } [ البقرة : 271 ] بجزم « يُكَفّر » ؛ وكقول الشاعر : [ الكامل ]
2639 - أنَّى سَلَكْتَ فإنَّنِي لَكَ كَاشِحٌ ... وعَلى انتقِاصِكَ في الحياةِ وأزْدَدِ
وأنشد الواحديُّ أيضاً قول الآخر : [ الوافر ]
2640 - فأبْلُونِي بَلِيَّتَكُمكْ لَعَلِّي ... أصَالِحُكُمْ وأستدرج نَوَيَّا
قال : حمل « أسْتَدرِجْ » على موضع الفاء المحذوفة ، من قوله : لَعَلِّي أصَالِحُكُمْ .
والثانيك أنه سكونُ تخفيف ، كقراءة أبي عمرو { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] و { يُشْعِرْكُمْ } [ الأنعام : 109 ] ونحوه ، وأمَّا الغيبة فجرياً على اسم الله تعالى ، والتَّكلم على الالتفات من الغيبة إلى التَّكلم تعظيماً ويَعْمَهُونَ مترددون متحيرون .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة } الآية .
في كيفية النَّظْمِ وجهان :
الأول : لمَّا تكلم في التَّوحيد ، والنُّبَّوةِ ، والقشاء ، القدر أتبعه بالكلام في المعاد لما تقدَّم من أن المطالب الكلية في القرآن ليست إلاَّ هذه الأربعة .
الثاني : لمَّا قال في الآية المتقدمة : { وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } [ الأعراف : 185 ] باعثاً بذلك عن المبادرة إلى التَّوبة قال بعده : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة } ليتحقَّقَ في القلوب أنَّ وقت الساعة مكتوم عن الخلق ليصير المكلف مسارعاً إلى التوبة وأداء الواجبات .
فصل
قال ابنُ عباس : إنَّ قوماً من اليهود قالوا : يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت هذه الآية .
وقال الحسن وقتادة : إن قريشاً قالوا يا محمد : بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة؟
قال الزمخشريُّ : السَّاعة من الأسماءِ الغالبة كالنجم للثريَّا ، وسُمِّيت القيامة بالسَّاعة لوقوعها بغتة؛ ولأنَّ حساب الخَلْقِ يقضي فيها في ساعة واحدة ، فلهذا سُمِّيت بالسَّاعة أو لأنها على طُولها كساعةٍ واحدةٍ على الخَلْقِ .
قوله : { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } فيه وجهان : أحدهما : أنَّ أيَّانَ خبر مقدم ، ومُرْسَاهَا مبتدأ مؤخر ، والثاني : أن أيَّان منصوب على الظَّرْفِ بفعل مضمر ، ذلك الفعل رافع ل « مُرْسَاهَا » بالفاعليَّةِ ، وهو مذهب أبي العباس ، وهذه الجملة في محلِّ نصب بدل من السَّاعة بدل اشتمال ، وحينئذٍ كان ينبغي أن لا تكون في محل جرٍّ؛ لأنها بدل [ من ] مجرور وقد صرَّح بذلك أبُو البقاءِ فقال : والجملةُ في موضع جرٍّ بدلاً من السَّاعة تقديره : يسألونك عن زمان حلول الساعة . إلاَّ أنَّهُ مَنَعَ من كونها مجرورة المحلأنَّ البدل في نيَّة تكرار العامل ، والعامل هو يَسْألُونَكَ والسُّؤالُ تعلق بالاستفهام وهو مُتَعَدٍّ ب « عَنْ » فتكون الجملة الاستفهامية في محلِّ نصبٍ بعد إسقاط الخافض ، كأنَّهُ قيل : يَسْألُونَكَ أيَّان مُرْسَى السَّاعةِ ، فهو في الحقيقة بدلٌ من موضع عن السَّاعةِ لأن موضع المجرور نصب ، ونظيرهُ في البدل على أحسن الوجوهِ فيه : عَرَفْتُ زيداً أبُو مَنْ هُو .
و « أيَّانَ » ظرفُ زمانٍ لتضمُّنه معنى الاستفهام ، ولا يتصرَّفُ ، ويليه المبتدأ والفعل المضارع دون الماضي ، بخلاف « متى » فإنَّها يليها النَّوعان ، وأكثرُ ما يكون [ أيَّان ] استفهاماً ، كقول الشاعر : [ الرجز ]
2641 - إيَّانَ تَقْضِيَ حَاجَتِي أيَّانَا ... أمَا تَرَى لِفعْلِهَا أبَّانَا
وقد تأتي شرطيةً جازمة لفعلين .
قال الشاعرُ : [ البسيط ]
2642 - أيَّانَ نُؤمِنْكَ تأمَنْ غَيْرنَا وإذَا ... لَمْ تُدْرِك الأمْنَ مِنَّا لَمْ تَزَلْ حَذِراً
وقال آخر : [ الطويل ]
2643 - إذَا النَّعْجَةُ الأذْنَاءُ كَانَتْ بِقَفْرَةٍ ... فأيَّان ما تَعْدِلْ بها الرِّيحُ تَنْزِلِ
والفَصِيحُ فتح همزتها ، وهي قراءة العامَّة .
وقرأ السُّلمي بِكسْرِهَا ، وهيلغة سُلَيْم .
فصل
واختلف النحويون في أيَّانَ هل هي بسيطة أم مركبة؟ فذهب بعضهم إلى أنَّ أصلها أي أوانٍ فحذفت الهمزة على غير قياس ، ولم يُعَوَّضْ منها شيءٌ ، وقُلبت الواوُ ياءً على غير قياسٍ؛ فاجتمع ثلاثُ ياءات فاستُثْقِلَ ذلك فحُذفت إحداهن وبُنيت الكلمةُ على الفتحِ فصارت أيَّانَ .

واختلفوا فيها أيضاً هل هي مشتقةٌ أم لا؟ فذهب أبُو الفتح إلى أنَّها مشتقةٌ من « أوَيْتُ إليه » ؛ لأنَّ البضع آوٍ إلى الكل ، والمعنى : أي وقت ، وأي فعلٍ؟ ووزنه فَعْلان أو فِعْلان بحسب اللُّغتين ومنع أن يكون ومنه فَعَّالاَ مشتقةً من : « أين » ؛ لأنَّ « أيْنَ » ظرف مكان ، وأيَّان ظرفُ زمانٍ . ومُرْسَاهَا يجوزُ أن يكون اسم مصدر ، وأن يكون اسم زمان .
وقال الزمخشريُّ : مُرْسَاهَا إرساؤُهَا ، أو وقت إرسائها : أي : إثباتها وإقرارها .
قال أبو حيَّان : وتقديره : وقت إرسائها ليس بجيدٍ؛ لأنَّ أيَّانَ استفهام عن الزمان فلا يصحُّ أن يكون خبراً عن الوقت إلاَّ بمجازٍ ، لأنه يكون التقدير : في أي وقتٍ وقتُ إرسائها وهو حسنٌ .
ويقال : رَسَا يَرْسُو : أي ثبت ، ولا يقال إلاَّ في الشيء الثقيل ، نحو : رَسَت السفينةُ تَرْسُوا وأرْسَيْتها ، قال تعالى : { والجبال أَرْسَاهَا } [ النازعات : 32 ] ولما كان أثقل الأشياء على الخلق هو الساعة؛ لقوله { ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } لا جرم سمَّى الله وقوعها وثبوتها بالإرساء .
قوله : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } عِلْمُهَا مصدرٌ مضاف للمفعول ، والظَّرف خبره أي : أنَّ الله استأثر بعلمها لا يعلمها غيره .
وقوله لا يُجَلِّيها أي لا يكشفها ولا يظهرها . والتَّجَلّي هو الظهور .
وقال مجاهد : لا يأتي بها لوقتها إلاَّ هُوَ نظيره قوله تعالى : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ] وقوله { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] ولمَّا سأل جبريل - عليه السلام - رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « متى السَّاعةُ .
فقال : » ما المَسْئُولُ عنها بأعْلَم من السَّائِلِ «
قال المحققون : والسَّببُ في إخفاء السَّاعةِ عن العبادِ ليكونوا على حذر ، فكيون ذلك أوعى للطَّاعةِ وأزجر عن المعصية؛ فإنَّهُ متى علمها المكلف تقاعس عن التَّوبة ، وأخرها ، وكذلك إخفاء ليلة القدر؛ ليجتهد المكلف كل ليالي الشَّهْرِ في العبادة ، وكذلك إخفاءُ ساعة الإجابةِ في يومِ الجمعةِ؛ ليكون المكلف مُجِدّاً في الدُّعاءِ في كل اليوم .
قوله : » فِي السَّمواتِ « يجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أن تكون » في « بمعنى » على « أي : على أهل السموات أو هي ثقيلةٌ على نفس السموات والأرض ، لانشقاقِ هذه وزلزال ذي ، وهو قولُ الحسنِ .
والثاني : أنَّها على بابها من الظَّرفيَّةِ ، والمعنى : حصل ثقلها ، وهو شدَّتها ، أو المبالغة في إخفائها في هذين الظرفين .
قال الأصَمُّ : إن هذا اليوم ثقيل جدّاً على السمواتِ والأرض؛ لأنَّ فيه فناءَهم وذلك ثقيل على القلوب .
وقيل : ثقيلٌ بسبب أنَّهُم يصيرون بعده إلى البعث ، والحساب ، والسُّؤال ، والخوف .
وقال السُّديُّ : ثقل علمها ، فلم يعلم أحد من الملائكة المقربين ، والأنبياء المرسلين متى يكون حدوثها ووقوعها .

قوله : { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } أي فجأة على غفلة ، وهذا تأكيدٌ وتقرير لما تقدَّم من إخفائها .
روى أبو هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لَتَقُومنَّ السَّاعةُ وقد نشر الرَّجُلانِ ثوبَهُما بيْنَهُما ، فلا يتبايَعانِه ، ولا طْويانِهِ ، ولتقُومنَّ السَّاعةَ وقد انْصرفَ الرَّجُلُ بلبنِ لقْحتِهِ فلا يَطْعَمُهُ ، ولتقُومَنَّ السَّاعَةُ هُو يُلِيطُ فِي حوضِهِ فلا يَسْقى فيه ، ولتقُومنَّ السَّاعَةُ والرَّجُلُ قَدْ رفعَ أكْلَتَهُ إلى فيهِ فلا يَطْعَمُهَا »
قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } هذه الجملة التَّشبيهيَّة في محلِّ نصب على الحالِ من مفعول : « يَسْألُونكَ » وفي عَنْهَا وجهان :
أحدهما : أنَّها متعلقة بيَسْألُونَكَ و : « كأنَّكَ حَفِيٌّ » معترض ، وصلتها محذوفةٌ تقديره : خَفِيّ بها .
وقال أبُو البقاءِ : في الكلام تَقْدِيمٌ وتأخير ، ولا حاجة إلى ذلك ، لأنَّ هذه كلَّها متعلقاتٌ للفعل ، فإنَّ قوله { كأنَّكَ حَفِيٌّ } حال كما تقدَّم .
والثاني : أنَّ « عَنَ » بمعنى الباء كما تكون الباءِ بمعنى عن كقوله : { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 259 ] { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] ؛ لأن حَفِيَ لا يتعدَّى ب « عن » بل بالباء كقوله : { كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] أو يُضَمَّن معنى شيء يتعدَّى ب « عن » أي كأنك كاشف بحفاوتك عنها .
والحَفِيُّ : المستقصي عن الشَّيء ، المهتبلُ به ، المعني بأمره؛ قال : [ الطويل ]
2644- سُؤالَ حَفِيٍّ عَنْ أخِيهِ كأنَّهُ ... بِذكْرتِهِ وسْنَانُ أوْ مُتواسِنُ
وقال آخر : [ الطويل ]
2645 - فَلَمَّا التَقَيْنَا بيَّن السَّيْفُ بَيْنَنَا ... لِسائِلَةٍ عنَّا حَفِيٍّ سُؤالُهَا
وقال الأعشى : [ الطويل ]
2646 - فَإنْ تَسْألِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سائلٍ ... حَفِيٍّ عن الأعْشَى بِهِ حَيْثُ أصْعَدَا
والإحْفَاءُ : الاستقصاء؛ ومنه إحفاء الشَّوارب ، والحافي؛ لأنَّهُ حَفِيَتْ قدمُه في استقصاء السَّيْر .
قال الزمخشريُّ : وهذا التركيب يفيدُ المُبالغةَ .
قال أبو عبيدة : وهو من قولهم : تحفى بالمسألةِ أي : استَقْصَى ، والمعنى : فإنَّكَ أكثرت السُّؤال عنها وبالغت في طلب علمها ، وقيل الحفاوةُ : البرُّ واللُّطْفُ .
قال ابن الأعْرابِي : يقال حفي بي حَفَاوةً وتحفَّى بي تَحَفِّياً . والتَّحفي : الكلام واللِّقاء الحسن ، قال تعالى : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] أي بارّاً لطيفاً يجيب دعائي . ومعنى الآية على هذا : [ يسألونك ] كأنَّك بارّق بهم لطيف العشرة معهم ، قاله الحسنُ وقتادةُ والسُّديُّ ويؤيدُهُ ما روي في تفسيره : إنَّ قريشاً قالوا لمُحمَّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام - : إنَّ بَيْنَنَا وبينك قرابة فاذكر لنا متى السَّاعة؟ فقال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } [ الأعراف : 187 ] أي : كأنك صديق لهم بارّ ، بمعنى أنك لا تكون حفياً بهم ما دَامُوا على كفرهم .
وقرأ عبدُ الله حَفِيٌّ بها وهي تَدُلُّ لمن ادَّعَى أنَّ « عَنْ » بمعنى الباء ، وحَفِيٌّ فعيل بمعنى : مفعول أي : مَحْفُوٌّ .
وقيل : بمعنى فعل ، أي كأنَّ مبالغٌ في السؤال عنها ومتطلع إلى علم مجيئها .
قوله : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } .
اعلم أن قوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا } سؤال عن وقت قيام السَّاعةِ .

وقوله ثانياً : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } سؤالُ عن كيفيَّةِ ثقل السَّاعة وشدتها فلم يلزم التكرار ، وأجاب عن الأوَّلِ بقوله : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } وأجاب عن الثَّانِي بقوله : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } والفرق بين الصورتين : أن السؤال الأول كان واقعاً عن وقت السَّاعة . والسؤال الثَّاني كان واقعاً عن مقدار شدتها ومهابتها .
وأعظم أسماء اللَّهِ مهابة وعظمة هو قولنا : الله .
فأجاب عند السُّؤالِ عند مقدار شدَّةِ القيامة بالاسم الدَّالِّ على غاية المهابة ، وهو قولنا : اللَّهُ ، ثم ختم الآية بقوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أي : لا يعلمون أن القيامة حقٌّ؛ لأنَّ أكثر الخلقِ ينكرون المعاد .
وقيل : لا يَعْلَمُونَ بأنِّ أخبرتك بأَّ وقت قيام السَّاعةِ لا يعلمها إلاَّ اللَّهُ .
وقيل : لا يَعْلَمُون السَّبَبَ الذي لأجله أخفيت معرفة وقتها المعين عن الخَلْقِ .
قوله تعالى : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله } الآية .
وجه تعلُّق هذه الآية بما قبلها : أنَّهم لمَّا سألوه عن علم السَّاعةِ فقال : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } أي أنا لا أدري عِلْمَ الغيب ، ولا أملك لنفْسِي نفعاً ، ولا ضرّاً إنْ أنا إلاَّ نذير ، ونظيره قوله في سورة يونس : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله } [ يونس : 48 ، 49 ] .
قال ابنُ عبَّاسِ : إنَّ أهل مكة قالوا : يا مُحمَّدُ ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فنشتري به ، ونربح فيه عند الغلاء ، وبالأرض التي تريد أن تجدب ، فنرحل عنها إلى ما قد أخْصَبَتْ؛ فأنزل اللَّهُ هذه الآية .
وقيل : لمَّا رجع عليه الصَّلاة والسَّلام من غزوة بني المصطلق جاءتْ ريح في الطَّريق ففرت الدوابُّ فأخبر عليه الصلاة والسلام بموت رفاعة بالمدينة ، وكان فيه غيظ للمنافقين ، وقال انظروا أين ناقتي؟ فقال عبدُ الله بن أبي : ألا تعجبون من هذا الرَّجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ، ولا يعرف أين ناقته! فقال - عليه الصلاة والسلام - إنَّ ناساً من المُنافقينَ قالوا كيت وكيت ، وناقتي في هذا الشعب قد تعلَّق زمامها بشجرةٍ ، فوجدوها على ما قال؛ فأنزل الله عز وجل { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } .
قوله : « لِنَفْسِي » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّها متعلقة ب « أمْلِكُ » .
والثاني : أنَّها متعلقةٌ بمحذوف على أنَّها حالٌ من نَفْعاً؛ لأنه في الأصْلِ صفةٌ له لو تأخر ، ويجوزُ أن يكون لِنَفْسِي معمولاً ب « نَفْعاً » واللاَّم زائدةٌ في المفعول به تقويةٌ للعامل؛ لأنَّهُ فرع إذ التَّقديرُ : لا أملك أن أنفع نفسي ولا أن أضُرَّهَا ، وهو وجهٌ حسنٌ .
قوله { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } في هذا الاستثناء وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ متَّصلٌ ، أي إلاَّ ما شاء الله تمكيني منه فإني أملكه .

والثاني : أنَّهُ منفصل - وبه قال ابنُ عطيَّة - ، وسبقة إليه مكيٌّ ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك .
فصل
دلَّت هذه الآيةُ على مسألة خلق الأعمالِ؛ لأنَّ الإيمانَ نفع والكفر ضرٌّ؛ فوجب أن لا يحصلان لاَّ بمشيئةِ اللَّهِ تعالى؛ لأنَّ القدرة على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان فخالق تلك الدَّاعية الجازمةِ يكونُ مريداً للكفر ، فعلى جميع التقديرات : لا يملكُ العبدُ لنفسه نفعاً ، ولا ضرّاً إلا ما شاء اللَّهُ .
أجاب القاضي عنه بوجوه :
أحدها : أن ظاهر الآية ، وإن كان عاماً بحب اللَّفْظِ إلاّ أنَّا ذكرنا أنَّ سبب النُّزُولِ قولُ الكُفَّارِ : « يا مُحمَّدُ ألا يخبرك ربك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو » فيُحمل اللفظُ العام على سبب نزوله ، فيكُونُ المرادُ بالنفع : تملك الأموال وغيرها ، والمراد بالضرّ وقت القحط وغيره .
وثانيها : أنَّ المُرادَ بالنَّفْع والضر ما يتَّصلُ بعلم الغيبِ لقوله : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير } [ الأعراف : 188 ] .
وثالثها : أن التقدير : لا أملكُ لنفسي من النَّفع والضر إلاَّ قدر ما شاء اللَّهُ أن يقدرني عليه ويمكنني فيه ، وهذه الوجوه كُلُّهَا عدول عن الظَّاهر ، فلا يُصار إليها مع قيام البُرهانِ القاطع العقلي على أن الحق ليس إلاَّ ما دل عليه ظاهر الآية .
فصل
احتج الرَّسُولُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - على عدم علمه بالغيب بقوله : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير } واختلفوا في المراد بهذا الخيرِ وقوله { وَمَا مَسَّنِيَ السواء } قال ابنُ جريجٍ :
قل لا أملك لنفسي نفعاً ، ولا ضرّاً من الهدى والضلالة ، ولو كنت أعلمُ متى أموت لاستكثرت من الخير ، أي : من العمل الصَّالح وما مَسَّنِيَ السُّوءُ ، واجتنبت ما يكون من الشَّر واتَّقَيْتُهُ .
وقيل : لو كنت أعلم الغيب أي : متى تقوم السَّاعةُ لأخبرتكم حتَّى تُؤمنُوا وما مَسَّني السُّوءُ بتكذيبكم .
وقيل : ما مسني السُّوء ابتداء يريد : وما مسَّنيَ الجنونُ؛ لأنَّهُم كانوا ينسبونه إلى الجُنُونِ ، وقال ابنُ زيدٍ : المرادُ بالسُّوءِ : الضرُّ ، والفقرُ ، والجوعُ .
قوله { وَمَا مَسَّنِيَ السواء } عطف على جواب « لو » وجاء هنا على أحسن الاستعمال من حيث أثبت اللاَّم في جواب « لَوْ » المثبت ، وإن كان يجوزُ غيره ، كما تقدَّم ، وحذفَ اللاَّم من المنفيّ ، لأنه يمتنع ذلك فيه .
وقال أبُو حيَّان : ولم تصحب « مَا » النَّافية - أي : اللام - وإن كان الفصيحُ إلاَّ تصحبها ، كقوله : { وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ } [ فاطر : 14 ] . وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نَضُّوا على أنَّ جوابها المنفيَّ لا يجوز دخولُ اللاَّم عليه .
قوله : { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } نذير لمن لا يُصدق بما جئت به ، وبشير بالجنَّةِ لقوم يصدقون .
وذكر إحدى الطائفتين؛ لأنَّ ذكر إحداهما يفيد ذكر الأخرى ، كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] .
وقد يقال : إنه كان نذيراً وبشيراً للكل إلاَّ أنَّ المنتفع بالنذارة والبشارة هم المؤمنون كما تقدَّم في قوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .
واللاَّمُ في قوله [ القوم ] من باب التَّنازُعِ ، فعند البصريين تتعلقُ ب « بَشِير » لأنه الثَّاني ، وعند الكوفيين بالأول لسبقه .
ويجوز أن تكون المتعلٌّق بالنذارة محذوفاً ، أي : نذير للكافرين ودلَّ عليه ذكرُ مقابله كما تقدم .

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)

قوله تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } الآية .
اعلم أنَّهُ تعالى رجع هنا إلى تقرير التَّوحيدِ ، وإبطال الشرك .
قال ابنُ عبَّاسٍ : المرادُ بالنفس الواحدة آدم - عليه الصلاة والسلام - { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] أي حواء خلقها اللَّهُ من ضلع آدم - عليه الصلاة والسلام - من غير أذَى ليسكن إليها أي : ليأنس بها ويأوي إليها قالوا : والحكمة في كونها مخلوقة من نفس آدم : أنَّ الجنسَ أميل إلى جِنْسهِ .
قال ابنُ الخطيبِ : وهذا مشكل؛ لأنَّهُ تعالى لمَّا كان قادراً على خلق آدم ابتداء فما الذي يحملنا على أن نقُولَ خلق حواء من جزء من أجزاء آدم؟ ولِمَ لم نقل إنَّهُ تعالى خلق حواء أيضاً ابتداء؟ وأيضاً فالقادرُ على خلق الإنسان من عظم واحد لِمَ لا يقدر على خلقه ابتداء؟ وأيضاً فقولهم إنَّ عدد أضلاع الجانب الأيسرِ من الذَّكرِ أنقص من عدد أضلاع الجانب الأيمن بشيء واحد ، على خلاف الحسن والتَّشريح . وإذا عرف ذلك فنقول : المرادُ من كلمة مِنْ في قوله : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أنَّ الإشارة إلى شيءٍ تكون تارة بحسب شخصه ، وتارة بحسب نوعه .
قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ « هَذَا وضُوءٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصلاة إلاَّ بِهِ »
والمرادُ نوعه لا ذلك الفرد المعين ، وقال - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - « في يوم عاشوراء هَذَا هُو اليومُ الذي أظهر اللَّهُ فيه موسى على فِرعون » والمُرادُ : نوعه .
وقال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } [ البقرة : 35 ] والمرادُ نوعها لا شخصها فكذا ههنا .
{ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي : وخلق من نوع الإنسان زوجٍ آدم ، أي : جعل زوج آدم إنساناً مثله ، « فلمَّا تَغشَّاهَا » أي واقعها وجامعها : { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً } وهو أوَّلُ ما تحمل المرأة من النُّطفةِ يكون خفيفاً عليها : « فَمَرَّتْ بِهِ » أي : استمرَّت به ، وقامت وقعدت به لم يثقلها .
قوله حَمْلاً المشهورُ أنَّ الحَمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة ، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس غير شجرة . وحكى أبُو عُبيدٍ في حمل المرأةِ : حَمْل وحِمْل .
وحكى يعقبوُ في حمل النَّخْلةِ : الكسر ، والحمل في الية يجوزُ أن يُرادَ به المصدرُ فينتصب انتصابهُ ، وأن يُرادَ به نفسُ الجنين ، وهو الظَّاهِرُ ، فينتصب انتصابَ المفعُولِ به ، كقولك : حَمَلْتُ زيداً .
قوله : « فَمَرَّتْ » الجمهور على تشديد الراء ، أي : استمرت به ، أي : قامت وقعدت .
وقيل : هو على القلب أي : فمَرَّ بها أي : استمرَّ ودام .
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ : وأبو العالية ويحيى بن يعمر ، وأيوب : فَمَرَتْ خفيفه الرَّاءِ ، وفيها تخريجان :
أحدهما : أنَّ أصلها التشديد ، ولكنهم كرهوا التضعيف في حرف مُكرر فتركوه ، وهذه كقراءة : { وَقَرْنَ } [ الأحزاب : 33 ] بفتح القاف إذَا جعلناهُ من القرارِ .

والثاني : أنه من المرية وهو الشَّكُ ، أي : فشكَّت بسببه أهو حَمْلٌ أم مرض؟
وقرأ عبدُ الله بن عمرو بن العاص ، والجحدريُّ : فَمَارَتْ بألف وتخفيف الرَّاءِ ، وفيها أيضاً وجهان ، أحدهما : أنَّها من : « مَارَ ، يمُورُ » إذا جاء وذهب ، ومَارتِ الرِّيحُ ، أي : جاءت وذهَبَتْ وتصرَّفَتْ في كُلِّ وجهٍ ، ووزنه حينئذٍ « فَعَلَتْ » والأصلُ « مَوَرَتْ » ثم قلبت الواو ألفاً فهو ك : طَافَتْ ، تَطُوفُ .
والثاني : أنَّها من المريةِ أيضاً قاله الزمخشريُّ ، وعلى هذا فوزنه « فَاعلَتْ » .
والأصْلُ « مَارَيتْ » ك « ضَارَبَتْ » فتحرَّك حرفُ العلَّةِ وانفتح ما قبله فقُلِبَ ألفاً ، ثمَّ حُذفتْ لالتقاء الساكنين ، فهو ك : بَارَتْ ، ورَامَتْ . وقرأ سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ ، وابنُ عبَّاسٍ أيضاً والضحَّاكُ : فاسْتَمَرَّتْ بِهِ وهي واضحة .
وقرأ أبيّ فَاسْتمَارَتْ وفيها الوجهان المتقدمان في « فَمَارَتْ » أي : أنَّهُ يجوز أن يكون من « المِرْيَة » ، والأصلُ : اسْتَمْريَتْ وأن يكون من « المَوْرِ » ، والأصلُ : اسْتَمْورَتْ .
قوله : « فَلمَّا أثقَلَتْ » أي : صَارتْ ذات ثقل ودنت ولادتها كقولِهِمْ ألبَنَ الرَّجُلُ ، وأتْمَرَ أي : صار ذَا لبَنٍ وتَمْرٍ .
وقيل : دخلت في الثقل؛ كقولهم : أصبح وأمسى ، أي : دخل في الصَّباح والمساءِ ، وقرئ أثْقِلَتْ مبنيّاً للمفعُولِ .
قوله : « دَعَوا اللَّهَ » متعلَّقُ الدُّعاء محذوفٌ لدلالة الجملة القسميَّةِ عليه ، أي : دعواهُ في أن يُؤتيهُمَا ولداً صالحاً .
قوله : « لَئِنْ آتيْتَنَا » هذا القسمُ وجوابه فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ مُفَسِّرٌ لجملة الدُّعاءِ كأنه قيل :
فما كان دعاؤهما؟
فقيل : كان دعاؤهما كيت وكيت؛ ولذلك قلنا إنَّ هذه الجملة دالةٌ على متعلق الدُّعاءِ .
والثاني : أنَّهُ معمولٌ لقولٍ مضمرٍ ، تقديره : فقالا لئن آتيتنا ، ولنكُوننَّ جوابُ القسم ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ على ما تقرَّر .
وصَالِحاً فيه قولان أظهرهما : أنه مفعولٌ ثان ، أي : ولداً صالحاً .
والثاني : قال مكي إنه نعتُ مصدر محذوف ، أي : إيتاءً صالحاً ، وهذا لا حاجة إليه ، لأنه لا بد من تقدير المؤتى لهما .
فصل
قال المفسِّرون : المعنى لَئِنْ آتيتنا صالحاً بشراً سويّاً مثلنا لنكوننَّ من الشَّاكرين .
وكانت القصةُ أنَّهُ لمَّا حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها : ما الذي في بطنكِ؟
قالت : ما أدْرِي ، قال : إني أخافُ أن يكُون بهيمةً ، أو كلباً ، أو خنزيراً ، وما يُدريك من أين يَخْرُجُ؟ أمن دبرك فيقتلك ، أو من فيك أو ينشق بطنك؟ فخافت حوَّاءُ من ذلك وذكرته لآدم ، فلم يزالاَ في هُمّ من ذلك ، ثمَّ عاد إليها فقال : إني من اللَّهِ بمنزلةٍ فإن دعوتُ الله أن يجعله خلقاً سويّاً مثلك ، ويُسهِّل عليك خروجه تسميه عبد الحارثِ .
وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث ، فذكرت ذلك لآدم .
فقال : لعلَّهُ صاحبنا الذي قد علمت؛ فعاودها إبليس ، فلم يزل بها حتَّى غرَّها؛ فلمَّا ولدْتهُ سمَّيَاهُ عبد الحارثِ .

وروي عن ابن عباسٍ ، قال : كانت حوَّاءُ تلدُ فتسميه عبد الله ، وعبيد الله ، وعبد الرحمن فيصيبهم الموتُ ، فأتاهما إبليسُ ، وقال : إن سَرَّكُمَا أن يعيش لكما ولدٌ فسمياه عبد الحارث؛ فولدت فسمياهُ عبد الحارث فعاش ، وجاء في الحديث خدعهما إبليس مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض .
واعلم أن هذا التأويل فاسدٌ لوجوه :
أحدها : قوله تعالى : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } فدلَّ على أن الذين أتوا بهذا الشركِ جماعةٌ .
وثانيها : قال بعدهُ : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } وهذا يدلُّ على أن المقصود من الآية : الرَّد على من جعل الأصنام شركاء للَّهِ تعالى ، ولم يجر لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر .
وثالثها : لو كان المراد إبليس لقال : أيشركُون من لا يخلُقُ؛ لأن العاقلَ إنَّما يُذْكَرُ بصيغة من .
ورابعها : أنَّ آدم - عليه السَّلام - كان من أشدّ النَّاس معرفة بإبليس ، وكان عالماً بجميع الأسماءِ كما قال تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] فلا بد وأن يكُون قد علم أن اسم إبليس هو الحارثُ ، فمع العداوة الشَّديدة التي بينهُمَا ومع علمه بأنَّ اسم إبليس الحارث كيف يسمِّي ولدهُ بعبد الحارث؟ وكيف ضاقت عليه الأسماءُ بحيث لم يجد سوى هذا الاسم؟
وخامسها : أنَّ أحدنا لو حصل له ولد فجاءهُ إنسان ، ودعاه إلى أن يسمي ولده بهذا الاسم لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار ، فآدم - عليه السلام - مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا } وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة لأجل وسوسة إبليس ، كيف لم يتنبه لهذا القدر المنكر؟
وسادسها : أن بتقدير أن آدم عليه الصلاة والسلام ، سماه بعبد الحارث ، فلا يخلو إمَّا أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له أو جعله صفة له ، بمعنى أنَّهُ أخبر بهذا اللفظ أنَّهُ عبد الحارثِ ، فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة ، فلا يلزم من هذه التسمية حصول الإشراك ، وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم - عليه الصلاة والسلام - اعتقد أنَّ لله شريكاً في الخلق والإيجاد ، وذلك يُوجبُ الجزم بكُفْر آدم ، وذلك لا يقوله عاقل؛ فثبت فساد هذا القول .
وإذا عُرِفَ ذلك لنقُولُ في تأويل الآية وجوه :
الأول : قال القفالُ - رحمه الله - إنَّه تعالى ذكر هذه القصة على سبيل ضَرْب
المثل وبيان أنَّ هذه الحالة صورة حال هؤلاء المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك ، كأنَّهُ تعالى يقولُ : هو الذي خلق كُلَّ واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية ، فلمَّا تغشَّى الزَّوج زوجته وظهر الحمل دعا الزَّوج والزَّوجة ربهما إن أتانا ولداً صالحاً سويّاً لنكونن من الشَّاكرين لآلائك ونعمائك ، فلمَّا آتاهُمَا اللَّهُ ولداً صالحاً سويّاً جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما؛ لأنَّهُم تارة ينسبون ذلك الولد غلى الطَّبائعِ كما يقولُ الطبيعيون ، وتارة ينسبونه إلى الكواكب كقول المُنجمين ، وتارة إلى الأصنامِ والأوثان كقول عبدة الأصنام .

ثم قال تعالى : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تنزَّه الله تعالى عن ذلك الشِّرْكِ . وهذا قول عكرمة .
والثاني : أن يكون الخطابُ لقريش الذين كانُوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم « وهم آل أقصى » .
والمرادُ من قوله : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ } قصي وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها ، فلمَّا آتاهما ما طلبا من الولد الصَّالح السَّوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولاهما الأربعة : عبد منافٍ ، وعبد العزَّى ، وعبد قُصيٍّ وبعد اللاَّتِ وعبد الدَّار ، وجعل الضمير في يُشركُونَ لهما ، ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك .
الثالث : إن سلَّمنا أن هذه الآية وردت في شرح قصَّةِ آدم - عليه السَّلام - .
وعلى هذا ففي دفع هذا الإشكال وجوه :
أحدها : أن المشركين كانوا يقولون : أنَّ آدم - عليه الصلاة والسلام - كان يعبد الأصنام ، ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها ، فذكر تعالى قصة آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - وحكى عنهما أنهما قالا : { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } أي : ذكر تعالى أنه لو آتاهما ولداً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النِّعمة .
ثم قال { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ } .
فقوله : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكآءَ } ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتَّبعيد تقديره : فلما آتاهما صالحاً أجعلاً له شركاء فيما آتاهما؟ : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذي يقولون بالشِّرك وينسبونه إلى آدم - عليه الصلاة والسلام - ، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام ، ثم قيل ذلك المُنْعِم إن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك . فيقول المُنْعِمُ : فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ، ثم يقابلني بالشَّرِّ؟ إنه بريء عن ذلك .
فقوله : يقابلني بالشَّرِّ المراد منه : النفي والتبعيد فكذا ههنا .
ثانيها : إن سلمنا أن القصَّة في آدم وحواء فلا إشكال في ألفاظها إلا قوله { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ } ، أي : جعلا أولادهما شركاء على حذف المضافِ وإقامة المضاف إليه مقامه وكذا فيما : « آتاهُما » أي أولادهما ، كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف 82 ] أي أهل القريةِ .
فن قيل : فعلى هذا التأويل ما الفائدة في تثنية قوله « جَعَلا لَهُ » ؟
قلنا : لأنَّ ولدهُ قسمان ذكر وأنثى فقوله « جَعَلا » المراد منه الذكر والأنثى فمرة عبّر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين ، ومرَّة عبَّرَ عنهم بلفظ الجمع ، وهو قوله : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
وثالثها : سلَّمْنَا أن الضمير في قوله : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ } عائد إلى آدم وحواء - عليهما السَّلام - إلاَّ أنه قيل : إنَّهُ تعالى لما آتاهما ذلك الولد الصَّالح عزما أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديَّتِهِ على الإطلاق ، ثُمَّ بدا لهُمَا في ذلك ، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدُّنيا ومنافعها ، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله تعالى وطاعته ، وهذا العملُ ، وإن كان مِنَّا طاعة وقربة ، إلاَّ أنَّ حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين ، فلهذا قال اللَّهُ تعالى : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .

وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حاكياً عن اللَّهِ تعالى : « أنَا أغْنَى الأغنِيَاءِ عن الشِّركِ من عملَ عملاً أشْركَ فيهِ غَيْرِي تركْتُه وشِرْكُه »
التأويل الرابع : سلَّمنا أنَّ القصَّة في آدم وحواء ، إلاَّ أنَّا نقولُ : إنَّما سموه بعيد الحارث لأنَّهُم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفَةِ والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المُسَمَّى بالحارث .
وقد يُسمى المُنْعَم عليه عبداً للمنعمِ ، كما يقالُ في المثل : أنا عبدُ من تعلَّمتُ منه حرفاً فآدم وحوَّاء إنما سمياهُ بعبد الحارث لاعتقادهم أنَّ سلامته من الآفات ببركة دعائه ، ولا يخرجه ذلك عن كونه عَبْداً لِلَّهِ من جهة أنَّهُ مملوكه ومخلوقه ، وقد ذكرنا أنَّ حسنات الأبرار سيئا المقربين فلمَّا حصل الاشتراك في لفظ العبدِ لا جرم عُوتب آدم عليه الصَّلاة والسَّلام في هذا العمل بسبب الاشتراك في مجرد لفظ العبد .
قوله : « جَعَلا لَهُ » قيل : ثمَّ مضاف ، أي : جعل له أولادهما شركاء ، كما تقدَّم في التَّأويلِ السَّابق ، وإلاَّ فحاشا آدم وحواء من ذلك ، وإن جُعِل الضَّمير ليس لآدم وحواء ، فلا حاجة إلى تقديره كما مرَّ تقريره .
وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم شِرْكاً بكسر الشِّينِ وسكون الرَّاءِ وتنوين الكاف .
والباقون بضمِّ الشين ، وفتح الرَّاء ، ومدِّ الكاف مهموزةً ، من غير تنوين ، جمع « شَريك » .
فالشِّركُ مصدرٌ ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : ذوي شركٍ ، يعني : إشراك ، فهو في الحقيقةِ اسمُ مصدر ، ويكون المعنى : أحْدَثَا لَهُ إشراكاً في الولد ، وقيلك المرادْ بالشِّركِ : النصيبُ وهو ما جعلاه من رزقهما له يأكله معهما ، وكانا يأكلان ويشربان وحدهما ، فالضَّميرُ في لَهُ يعود على الولدِ الصَّالحِ .
وقيل : الضمير في لَهُ لإبليس ولم يَجرِ لهُ ذكر ، وهذان الوجهان لا معنى لهما .
وقال مكيٌّ وأبُو البقاءِ وغيرهما : إنَّ التقدير يجوز أن يكون : جعلا لغيره شِرْكاً .
قال شهابُ الدِّين : هذا الذي قدَّره هؤلاء قد قال فيه أبُو الحسن : كان ينبغي لمن قرأ شِرْكاً أن يقول المعنى : جعلا لغيره شِرْكاً؛ لأنَّهُمَا لا يُنْكرانِ أنَّ الأصلَ للَّه فالشرك إنَّما يجعله لغيره .
قوله : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } قيل : هذه جملةٌ استئنافيةٌ ، والضمير في : يُشْرِكُونَ يعودُ على الكُفَّارِ ، وأراد به إشراك أهلِ مكَّة والكلامُ قد تمَّ قبله ، وقيل : يعودُ على آدم وحواء وإبليس ، والمرادُ بالإشراكِ تَسْميتُهُمَا الولد الثالث ب « عبد الحارث » وكان أشَارَ بذلك إبليس ، فالإشراكُ في التَّسْمية فقط ، وقيل : راجع إلى جميع المشركين من ذريَّةِ آدم ، وهو قولُ الحسنِ ، وعكرمة ، أي : جعل أولادهما له شركاء فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما أضاف فعل الآباء إلى الأبْنَاءِ في تعييرهم بفعل الآباء فقال :

{ ثُمَّ اتخذتم العجل } [ البقرة : 51 ] { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً } [ البقرة : 72 ] خاطب به اليهُود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك الفعل من آبائهم .
وقيل : لم يكن آدم عَلِمَ ، ويُؤيدُ الوجه الأول قراءة السّلمي : « عَمَّا تُشرِكُون » بتاء الخطاب وكذلك « أتُشْركُونَ » بالخطابِ أيضاً ، وهو التفات .
قوله : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً } .
هذه الآيةُ من أقوى الدَّلائل على أنَّهُ ليس المراد بقوله تعالى : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } ما ذكره في قصَّة إبليس إذ لو كان المرادُ ذلك لكانت هذه الآية أجنبية عنها بالكليَّة ، وكان ذلك النَّظْمُ في غاية الفسادِ ، بل المرادُ ما ذكرناه في الأجوبة من أنَّ المقصود من الآية السابقة الرَّدُّ على عبدة الأوثان؛ لأنه أراد ههنا إقامة الحجَّة على أنَّ الأوثان لا تصلحُ للإلهيَّةِ فقوله : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي : أيعبدون ما لا يقدرُ على أن يخلق شيئاً؟ وهم يُخلقون ، يعني الأصنام .
قوله : « وهُمْ يُخْلقُونَ » يجوزُ أن يعود الضميرُ على ما من حيث المعنى وعبَّر عن ما وهو مفرد بضمير الجمع؛ لأنَّ لفظة ما تقع على الواحدِ والاثنينِ والجمع فهي من صيغ الواحد بحسب لفظها ، ومحتملة للجميع فاللَّهُ تعالى اعتبر الجهتين؛ فوحَّد قوله يَخْلُقُ لظاهر اللفظ وجمع قوله : « وهُمْ يُخْلَقُونَ » للمعنى ، والمرادُ بها الأصنام وعبر عنهم ب « هُم » وجمعهم بالواو والنون ، لاعتقاد الكفار فيها ما يعتقدونه في العقلاء أو لأنهم مختلطون بمن عُبد من العقلاء كالمسيح وعزير ، أو يعودُ على الكُفَّارِ ، أي : والكفار مخلوقون فلو تفكَّروا في ذلك لآمنوا
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ العبد لا يخلق أفعاله؛ لأنَّهُ تعالى طعن في إلاهية الأصنام لكونها لا تخلق شيئاً وهذا الطَّعن لا يتمُّ إلاَّ إذا قلنا بأنَّها لو كانت خالقة لشيء لم يتوجه الطعن في إلاهيتها ، وهذا يقتضي أنَّ من كان خالقاً كان إلهاً ، فلو كان العبدُ خالقاً لأفعال نفسه كان إلهاً ، ولمَّا كان ذلك باطلاً علمنا فساد هذا القول .
قوله : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً } أي : أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ، ولا تضرُّ من عصاها ، وهو المراد بقوله : { وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } .
قوله : { وَإِن تَدْعُوهُمْ } الظاهرُ أنَّ الخطاب للكفَّار ، وضمير النَّصْبِ للأصنام ، أي : وإن تدعوا آلهتكم إلى طلب هدى ورشاد - كما تطلبونه من الله - لا يتعابعوكم على مُرادكُم ، ويجُوزُ أن يكون الضميرُ للرسُولِ والمؤمنين ، والمنصوب للكفَّارِ ، أي وإن تدعوا أنتم هؤلاء الكفار إلى الإيمان ، ولا يجوزُ أن يكون تَدعُوا مسنداً إلى ضميرِ الرسُولِ فقط ، والمنصوبُ للكُفَّارِ أيضاً؛ لأنَّه كان ينبغي أن تحذف الواو ، لأجل الجازم ، ولا يجوزُ أن يقال : قدَّر حذف الحركة وثبت حرف العلَّة؛ كقوله : [ البسيط ]

2647 - هَجَوْتَ زبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِراً ... مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُوا ولمْ تَدَعِ
ويكون مثل قوله تعالى : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ } [ يوسف : 90 ] ، { فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى } [ طه : 77 ] لأنَّه ضرورةٌ ، وأمَّا الآيات فمؤولة وسيأتي ذلك .
قوله : « لا يَتَّبِعُوكُم » قرأ نافع بالتخفيف ، وكذا في الشعراء { يَتْبَعُهُمْ } [ 244 ] .
والباقون بالتشديد ، فقيل : هما لغتان ، ولهذا جاء في قصة آدم : { فَمَن تَبِعَ } [ البقرة : 385 ] وفي موضع { أَفَمَنِ اتبع } [ طه : 132 ] .
وقيل : تَبع اقتفى أثره ، واتَّبعه بالتشديد : اقتدى به والأول أظهر .
ثُمَّ أكَّد الكلام فقال : { سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } والمعنى : سواء عليكم أدعوتموهم إلى الدِّين أم أنتم صامتون عن دعائهم ، لا يؤمنون ، كقوله : { عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] وعطف قوله : { أَمْ أنْتُمْ صَامِتُونَ } وهي جملةٌ اسمية على أخرى فعلية؛ لأنَّها في معنى الفعليَّة ، والتقدير : أمْ صَمَتُّم؟
وقال أبُو البقاءِ : جملة اسميَّة في موضع الفعليَّة ، والتقديرُ : أدعوتموهم أم صَمَتُّم؟
وقال ابنُ عطيَّة : عطف الاسم على الفعل؛ إذ التقدير : أمْ صَمَتُّم؛ ومثله قول الشاعر : [ الطويل ]
2648 - سَوَاءٌ عَليْكَ النَّفْرُ أم بِتَّ لَيْلَةً ... بأهْلِ القبابِ مِنْ نُمَيْرِ بنِ عامرِ
قال أبُو حيَّان : وليس هذا من عطفِ الفعل على الاسم ، إنَّما هو من عطف الاسميَّة على الفعليَّة ، وأمَّا البيتُ فليس فيه عطف فعلٍ على اسم ، بل هو من عطف الفعلية على اسم مُقدَّرٍ بالفعلية ، إذ الأصل : سواءٌ عليك أنفرت أم بتَّ ، وإنما أتى في الآية بالجملة الثانية اسمية؛ لأنَّ الفعل يُشْعِر بالحدوث ولأنها رأسُ فاصلة . والصَّمْتُ : السُّكوت ، يقال صَمَتَ يَصْمُتُ بالفَتْحِ ، في الماضي ، والضم في المضارع .
ويقال : صَمِتَ ، بالكسرِ ، يَصْمَتُ بالفتح والمصدر الصَّمْتُ والصُّمات ، وإصمت ، بكسر الهمزة والميم : اسمُ فلاة معروفة ، وهو منقولٌ من فعل الأمر من هذه المادة ، وقد ردَّ بعضهم هذا بأنَّه لو كان منقولاً من الأمر لكان ينبغي أن تكون همزته همزة وصل ، ولكان ينبغي أن تكون ميمه مضمومة ، إن كان من « يَصْمُتُ » أو مفتوحة إن كان من « يَصْمَتُ » ؛ ولأنَّهُ ينبغي ألاَّ يؤنث بالتَّاءِ ، وقد قالوا : إصْمِتَة .
والجوابُ أنَّ فعل الأمر يجبُ قطعُ همزته إذا سُمِّيَ به نحو : اسْرُب؛ لأنَّهُ ليس لنا من الأسماءِ ما همزته للوصل إلاَّ أسماءٌ عشرة ، ونوع الانطلاق من كل مصدر زاد على الخمسة وهو قليلٌ ، فالإلحاقُ بالكثير أولَى ، وأمَّا كَسْرُ الميم فلأنَّ التغيير يُؤنِسُ بالتَّغيير وكذلك الجوابُ عن تأنيثه بالتَّاءِ .

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)

قوله : « إنَّ الذينَ » العامَّةُ على تشديدِ إنَّ والموصولُ اسمها ، وعبادٌ خبرها ، وقرأ سعيدُ بنُ جبيرٍ بتخفيف إنْ ونصب عباد وأمثالكم ، وخرَّجها ابن جني وغيره أنها إنْ النَّافيةُ وهي عاملةُ عمل ما الحجازية وهو مذهب الكسائي وأكثر الكوفيين غير الفراء ، وقال به من البصريين : ابن السراج والفارسي وابن جنِّي ، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد ، والصحيحُ أنَّ إعمالها لغةٌ ثاتبة نظماً ونثراً؛ وأنشدوا : [ المنسرح ]
2649 - إنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً على أحِدٍ ... إلاَّ على أضْعَفِ المجانينِ
ولكن قد استشكلوا هذه القراءة من حيث إنها تنفي كونهم عباداً أمثالهم ، والقراءة الشهيرة تُثْبِتُ ذلك ولا يجوزُ التَّناقض في كلام اللَّهِ تعالى .
وقد أجَابُوا عن ذلك بأنَّ هذه القراءة تُفْهِمُ تحقير أمرِ المعبودِ من دون اللَّهِ وعبادة عابِدِه .
وذلك أنَّ العابدين أتَمَّ حَالاً وأقدرُ على الضرِّ والنَّفْعِ من آلهتهم فإنَّهَا جمادٌ لا تفعل شيئاً من ذلك ، فكيف يَعْبُدُ الكاملُ من هُو دُونَه؟ فهي موافقةٌ للقراءة المتواترة بطريق الأولى .
وقد ردَّ أبو جعفرٍ هذه القراءة بثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهَا مخالفةٌ لسواد المصحفِ .
والثاني : أن سيبويه يختار الرفع في خبر إنْ المخففة فيقول : « إنْ زيدٌ منطلقٌ » ؛ لأنَّ عمل ما ضعيف وإنْ بمعناها ، فهي أضعف منها .
الثالث : أنَّ الكسائي لا يرى أنَّهَا تكون بمعنى ما إلاَّ أن يكون بعدها إيجاب ، وما ردَّ به النَّحَّاس ليس بشيءٍ؛ لأنَّهَا مخالفةٌ يسيرة .
قال أبُو حيان : يجوزُ أن يكون كتب المنصوب على للة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف ، فلا تكون مخالفةٍ للسَّواد .
وأمَّا سيبويه فاختلف النَّاسُ في الفهم عنه في ذلك .
وأمَّا الكسائيُّ فهذا القيد غير معروف له .
وخرَّج ابو حيَّان القراءة على أنَّها إنْ المخففة .
قال : وإنْ المخففة تعمل في القراءة المتواترة كقراءة { وَإِنَّ كُلاًّ } [ هود : 111 ] ثُمَّ إنَّها قد ثبت لها نصبُ الجُزأين؛ وأنشد : [ الطويل ]
2650 - .. إنَّ حُرَّاسنَا أُسْدَا
قال : وهي لغة ثابتة ثم قال : فإن تأوَّلثوا ما ورد من ذلك؛ نحو : [ الرجز ]
2651 - يَا لَيْتَ أيَّامَ الصِّبَا رَوَاجِعا ... أي : تُرَى رواجعاً ، فكذلك هذه يكون تأويلها : إن الذين تدعون من دون الله خلقناهم عباداً أمثالكم .
قال شهابُ الدِّين : فيكون هذا التَّخريج مبنياً على مذهبين .
أحدهما : إعمالُ المخففَّة .
وقد نصَّ جماعة من النحويين على أنَّه أقل من الإهمال ، وعبارة بعضهم أنَّهُ قليل ، ولا أرتضيه قليلاً لوروده في المتواتر .
الثاني : أنَّ إنَّ وأخواتها تنصب الجزأين ، وهو مذهبٌ مرجوح ، وقد تحصَّل في تخريج هذه القراءة ثلاثةُ أوجه : كون إنْ نافية عاملة ، والمخففة الناصبة للجزءين ، أو النصب بفعل مقدر هو خبر لها في المعنى .
وقرأ بعضهم إنْ مخففة ، عباداً نصباً أمثالكم رفعاً ، وتخريجها على أن تكونَ المخففة وقد أهملت والذين مبتدأ ، و « تَدْعُونَ » صلتها والعائدُ محذوف ، وعباداً حال من ذلك العائد المحذوفِ ، أمثالكُم خبره ، والتقدير : إنَّ الذين تدعونهم حال كونهم عباداً أمثالكم في كونهم مخلوقين مملوكين ، فكيف يُعْبَدُون؟
ويضعفُ أن يكون الموصول اسماً منصوب المحل؛ لأن إعمال المخففة كما تقدَّم قليلٌ .

وحكى أبُو البقاءِ أيضاً قراءةُ رابعةً وهي بتشديدِ إنَّ ونصب عباد ورفع أمثالكم وتخريجها على ما تقدم قبلها .
فصل
في الآية سؤال : وهو أنه كيف يحسن وصف الأصنام بأنَّها عباد مع أنها جمادات؟
والجواب : من وجوه :
أحدها : أن المشركينَ لمَّا ادعوا أنَّها تضر وتنفعُ؛ وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة ، فلهذا وردت هذه الألفاظ وفق اعتقادهم؛ ولهذا قال : { فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } [ الأعراف : 194 ] .
وقال : « إنَّ الذينَ » ولم يقل : « إنَّ الَّتي » .
وثانيها : أن هذا اللَّفظ ورد في معرض الاستهزاء بهم أي : أمرهم أن يكونُوا أحياءً عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عبادٌ أمثالكم ، ولا فضل لهم عليكم ، فَلِمَ جعلتُم أنفسكم عبيداً وجعلتموها آلهة وأرباباً؟
ثم أبطل أن يكونوا عباداً فقال : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } ثم أكَّد البيان بقوله { فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } . ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم واللام ي قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } لام الأمر على معنى التَّعجيزِ ، ثمَّ لمَّا ظهر لكلِّ عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنَّها لا تصلح للعبادة ، ونظيره قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] وقوله : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } في أنَّها آلهة ومستحقَّة للعبادة .
وثالثها : قال مقاتل : الخطابُ مع قوم كانوا يعبدون الملائكة .
قوله : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } قرأ العامَّةُ بكسر الطاء ، من بطش يبطش ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ، ونافع في رواية عنه : يَبْطُشُونَ بضمها ، وهما لغتان ، وهما لغتان ، والبَطْشُ ، الأخْذُ بقوة .
واعلم أنَّهُ تعالى ذكر هذا الدَّليل لبيان أنه يقبح من الإنسان العاقل أن يعبد هذه الأصنام؛ لأنَّ هذه الأعضاء الأربعة إذا كان فيها القوى المحركة والمدركة كانت أفضل منها إذا كانت خالية عن هذه القوى ، فالرِّجلُ القادرةُ على المشي ، واليد القادرةُ على البَطْشِ أفضل من اليد والرجل الخاليتين عن قوة الحركة والحياة ، والعينُ البَاصرةُ والأذنُ السَّامعة أفضل من العين والأذن الخاليتين عن القوة السَّامعة ، والباصرة ، وعن قوَّةِ الحياة .
وإذا ثبت ذلك ظهر أن الإنسان أفضل بكثير من الأصنام بل لا نسبة لفضيلة الإنسانه إلى فضيلة الأصنام ألبتة .
وإذا كان كذلك فكيف يليقُ بالأفضل والأكل الأشرف أن يعبد الأخسّ الأدون الذي لا يحصل منه فائدة ألبتَّة ، لا في جلب منفعة ولا في دفع مضرَّة .

قوله : { قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ } قرأ أبُو عمرو كِيدُونِي بإثبات الياءِ وصلاً ، وحذفها وقفاً وهشام بإثباتها في الحالين ، والباقون بحذفها في الحالين ، وعن هشامٍ . خلاف مشهور قال أبُو حيان : وقرأ أبُو عمرو وهشام بخلاف عنه فكيدُونِي بإثبات الياءِ وصلاً ووقفاً .
قال شهابُ الدِّينِ : أبو عمرو لا يثبتها وقفاً ألبتَّة ، فإنَّ قاعدته في الياءاتِ الزائدة ما ذكرته ، وفي قراءة فَكِيدثونِي ثلاثةُ ألفاظٍ ، هذه وقد عُرف حكمُهَا ، وفي هود : « فكيدوني جميعاً » أثبتها القراء كلهم في الحالين .
وفي المُرسلاتِ : { فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ } [ الآية : 39 ] حذفها الجميعُ في الحالين وهذا نظيرُ ما تقدَّم في قوله { واخشوني } [ البقرة : 150 ] فإنَّها في البقرة ثابتةٌ للكلّ وصلاً ووقفاً ، ومحذوفةٌ في أوَّل المائدة ، ومختلف في ثانيتها .
فصل
والمعنى : ادعُوا شركاءكم يا معشر المشركين ثمَّ كيدوني أنتم وهم فلا تُنظِرُون أي لا تمهلون واعجلوا في كيدي ليظهر لكم أنَّ لا قدرة لها على إيصار المضار بوجه من الوجوه .

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)

قوله : { إِنَّ وَلِيِّيَ الله } العامة على تشديد وَلِيِّيَ مضافاً لياء المتكلم المفتوحة ، وهي قراءة واضحة أضاف الوليَّ إلى نفسه .
وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه « إنَّ وليَّ » بياء واحدة مشددة مفتوحة ، وفيها تخريجان :
أحدهما : قال أبُو عليٍّ : إن ياء « فعيل » مدغمةٌ في ياء المتكلم ، وإنَّ الياء التي هي لام الكلمة محذوفةٌ ، ومنع من العكس .
والثاني : أن يكون وليَّ اسمها ، وهو اسمُ نكرة غيرُ مضافِ لياء المتكلم ، والأصلُ : إنَّ وليّاً الله ف « وليّاً » اسمها والله خبرها ، ثم حذف التنوين؛ لالتقاء الساكنين؛ كقوله : [ المتقارب ]
2652 - فأَلْفَيْتُه غَيْر مُسْتَعْتبٍ ... ولا ذَاكِر اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا
وكقراءة من قرأ { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد } [ الإخلاص : 1 - 2 ] ولم يبق إلاَّ الإخبارُ عن نكرةٍ بمرعفة ، وهو واردٌ .
قال الشاعر : [ الطويل ]
2653 - وإنْ حَرَاماً أن أسُبَّ مُجَاشِعاً ... بآبَائِي الشمِّ الكِرَامِ الخَضَارِمِ
وقرأ الجحدريُّ في رواية إنَّ وليِّ الله بكسر الياءِ مشددة ، وأصلها أنَّهُ سكن ياء المتكلم ، فالتقت مع لام التعريف فحذفت ، لالتقاء الساكنين ، وبقيت الكسرة تدلُّ عليها نحو : إنَّ غلام الرَّجلُ .
وقرأ في رواية أخرى إنَّ وليَّ اللَّهِ بياء مشددة مفتوحة ، والجلالة بالجرِّ ، نقلهما عنه أبو عمرو الدَّاني أضاف الولي إلى الجلالةِ .
وذكر الأخفشُ وأبو حاتم هذه القراءة عنه ، ولمْ يذكرا نَصْبَ الياء ، وخرَّجها النَّاسُ على ثلاثة أوجه : الأولُ : قولُ الأخفش - وهو أن يكون وَليّ الله اسمُها والَّذي نزَّلَ الكتاب خبرها ، والمراد ب « الذين نزّل الكتابَ » جبريل ، لقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس } [ النحل : 102 ] إلاَّ أنَّ الأخفش قال في قوله { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } هو من صفة الله قطعاً لا من صفة جبريل ، وفي تحتم ذلك نظرٌ .
والثاني : أن يكون الموصوف بتنزيل الكتاب هو الله تعالى ، والمراد بالموصول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ويكون ثمَّ عائدٌ محذوفٌ لفهم المعنى والتقدير إنَّ وليَّ الله النبيُّ الذي نزَّ الله الكتاب عليه ، فحذف عليه وإن لم يكن مشتملاً على شروط الحذف ، لكنَّه قد جاء قليلاً ، كقوله : [ الطويل ]
2654 - وإنَّ لِسَانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا ... وهُوَّ على مَنْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلْقَمُ
أي : صبة اللَّهُ عليه ، وقال آخر : [ الطويل ]
2655 - فأصْبَحَ مِنْ أسْمَاءَ قَيْسٌ كقَابضٍ ... عَلى المَاءِ لا يَدْرِي بِمَا هُوَ قَابِضُ
أي بما هو قابض عليه . وقال آخر : [ الطويل ]
1656- لَعَلَّ الَّذي أصْعَدْتني أنْ يَرُدَّنِي ... إلى الأرْضِ إنْ لَمْ يَقْدرِ الخَيْرَ قَادِرُه
أي : أصعدتني به .
وقال آخر : [ الوافر ]
2657- ومِنْ حَسَدٍ يَجُوزُ عَليَّ قَوْمِي ... وأيُّ الدَّهْر ذُو لم يَحْسُدُونِي
أي يحسدوني فيه .
وقال آخر : [ الطويل ]
2658 - فَقُلْتُ لهَا لاَ والَّذي حَجَّ حَاتِمٌ ... أخُونُكِ عَهْداً إنَّنِي غَيْرُ خَوَّانِ

أي : حج إليه ، وقال آخر : [ الرجز ]
2659 - فأبْلِغَنَّ خَالدَ بنَ نَضْلَةٍ ... والمَرْءُ مَعْنِيٌّ بِلوْمِ مَنْ يَثقْ
أي : يثقُ به .
وإذا ثبت أنَّ الضمير يُحْذَف في مثل هذه الأماكن ، وإن لم يكمل شرطُ الحذف فلهذه القراءة الشاذة في التخريج المذكور أسوةٌ بها .
والثالث : أن يكون الخبر محذوفاً تقديره : إنَّ وليَّ الله الصَّالحُ ، أو من هو صالح وحذف ، لدلالة قوله : { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } وكقوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر } [ فصلت : 41 ] أي : معذبون ، وكقوله { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ } [ الحج : 25 ] .
فصل
المعنى { إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب } يعني القرآن ، أي : يتولاّني وينصرني كما أيَّدني بإنزال الكتاب { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } قال ابنُ عباسٍ : « يريد الذين لا يعدلُون بالله شيئاً ، فاللَّهُ يتولاهم بنصره ولا يضرهم عداوة من عاداهم » .
قوله : { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ولاا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } .
وفيه قولان :
الأول : أن المراد منه وصف الأصنام .
فإن قيل : هذه الأشياءُ مذكورة في الآيات المتقدمة ، فما الفائدةُ في تكريرها؟
فالجوابُ : قال الواحديُّ : إنَّما أعيد؛ لأنَّ الأول مذكوررٌ للتَّقريع ، وهذا مذكورٌ للفرق بين من تجوز له العبادة ومن لا تجوز ، كأنَّهُ قيل : الإله المعبودُ يجبُ أن يكون بحيثُ يتولّى الصَّالحين ، وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تكن صالحة للإلهية .
القول الثانيك أنَّ هذه الأحوال المذكورة صفات لهؤلاء المشركين الذين يدعون غير اللَّهِ يعني أنَّ الكفار كانُوا يخوفون رسول الله وأصحابه ، فقال تعالى : إنهم لا يقدرون على شيء بل إنهم قد بلغوا في الجهل والحماقة إلى أنك لو دعوتهم وأظهرت أعظم أنواع الحجة والبرهان لم يسمعوا ذلك بعقولهم ألبتة .
فإن قيل : لَمْ يتقدَّم ذكر المشركين ، وإنما تقدَّم ذكر الأصنام فكيف يصح ذلك؟
والجوابُ : أن ذكرهم تقدم في قوله تعالى : { قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ } [ الأعراف : 195 ] .
قوله : { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } فإن حملنا هذه الصفات على الأصنام فالمرادُ من كونها ناظرة كونها مقابلة بوجهها وجوه القوم من قولهم : جبلان متناظاران أي : مُتقابلان ، وإن حملناها على المُشركين أي إنهم وإن كانُوا ينظرون إلى النَّاسِ إلاَّ أنهم لشدَّةِ إعراضهم عن الحقِّ لم ينتقعوا بذلك النَّظِر ، والرُّؤيةِ؛ فصاروا كأنَّهُمْ عمي .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75