كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة } [ النساء : 176 ] { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله } [ المنافقون : 5 ] و { هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] من باب الإِعمال؛ لأنَّ هذه العوامل مشتركةٌ بوجهٍ ما من وجوهِ الاشتراكِ ، ولم يُحْصَرِ الاشتراكُ في العطفِ ولا العَمَلِ ، فإذا كان على ما نصُّوا ، فليس العاملُ الثاني مُشْتركاً مع الأولِ بحرفِ العطفِ ، ولا بغيره ، ولا هو معمولٌ للأول؛ بل هو معمولٌ لقال ، و « قال » جوابُ « لَمَّا » إِنْ قلنا : إنَّها حرفٌ ، وعاملةٌ في « لَمَّا » إن قلنا : إنها ظرفٌ ، و « تبيَّن » على هذا القول مخفوضٌ بالظرف ، ولم يذكر النحاةُ التنازع في نحو : « لَوْ جَاءَ قَتَلْتُ زيداً » ، ولا « لَمَّا جاء ضربت زيداً » ، ولا « حِينَ جاء قتلْتُ زيداً » ، ولا « إذا جاء قتلتُ زيداً » ، ولذلك حكى النحاةُ أَنَّ العربَ لا تقول : « أَكْرَمْتُ أَهْنتُ زيداً » - يعني لعدم الاشتراكِ بين العاملين - وقد ناقضَ قوله؛ حيثُ جعل الفاعل محذوفاً ، كما تقدَّم في عبارتِهِ ، والحذفُ ينافي الإِضمارَ ، فإنْ كان أرادَ بالإِضمار في قوله : « وفاعِلُ تبيَّن مُضْمَرٌ » الحذفَ فهو قول الكسائيِّ؛ لأنه لا يُجيزُ إضمارَ المرفوع قبل الذكر فيدَّعي فيه الحذف ، ويُنشد : [ الطويل ]
1207- تَعَفَّقَ بِالأَرْطَى لَهَا وَأَرَادَهَا ... رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُمْ وَكَلِيبُ
ولهذا تأويل مذكورٌ؛ ورُدَّ عليه بالسماع قال القائِلُ : [ البسيط ]
1208- هَوَيْنَنِي وَهَوَيْتُ الخُرَّدَ الْعُرُبَا ... أَزْمَانَ كُنْتُ مَنُوطاً بِي هَوًى وَصِبَا
فقال : « هَوَيْنَنِي » فجاءَ في الأَوَّل بضمير الإِناث ، من غير حذفٍ . انتهى ما رُدَّ به عليه ، قال شهاب الدِّين - رحمه الله - وفيه نظرٌ لا يخفى .
وقرأ ابن عبَّاس : « تُبُيِّن » مبنياً للمفعولِ ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ ، الجارُّ والمجرورُ بعدَه . وابنُ السَّمَيْفع « يُبَيِّن » من غير تاء مبنياً للمفعولِ ، والقائمُ مقامه ضميرُ كيفية الإِحياء أو الجارُّ والمجرورُ .
قوله : { قَالَ أَعْلَمُ } الجمهورُ على : « قال » مبنيّاً للفاعلِ . وفي فاعله على قراءة حمزة والكسائي : « اعْلَمْ » أمراً من « عَلِمَ » قولان :
أظهرهما : أنه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى أو على المَلِك ، أي : قال اللهُ تعالى أو الملكُ لذلك المارِّ اعْلَمْ .
الثاني : أنه ضميرٌ يعودُ على المارِّ نفسه ، نزَّل نفسه منزلة الأجنبي ، فخاطبها؛ ومنه : [ البسيط ]
1209- وَدِّعْ أُمَامَة إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ .. .
وقوله : [ المتقارب ]
1210- تَطَاوَلَ لَيْلُكَ . . .. . .
يعني نفسه ، قال أبو البقاء رحمه الله : « كما تقول لنفسك : اعلم يا عبد الله ، ويُسَمَّى هذا التجريدَ » يعني : كأنه جَرَّد من نفسه مُخَاطباً يخاطِبُه .

وأمَّا على قراءةِ « أَعْلَمُ » مضارعاً [ للمتكلم ] وهي قراة الجمهور ففاعل « قال » ضميرُ المارِّ ، أي : قال المارُّ : أعلمُ أنا . وقرأ الأَعمشُ : « قِيل » مبنيّاً للمفعولِ . والقائمُ مقام الفاعل : إمَّا ضميرُ المصدرِ من الفعلِ ، وإمَّا الجملةُ التي بعده ، على حسبِ ما تقدَّم أول السورة .
[ وقرأ حمزةُ ، والكسائيُّ : « اعلمْ » على الأَمر ، والباقون : « أَعْلَمُ » مضارعاً ] وقرأ الجعفيّ عن أبي بكر : « أَعْلِمْ » أَمْراً من « أَعْلَمَ » ، والكلامُ فيها كالكلامِ في قراءةِ حمزة والكسائي بالنسبةِ إلى فاعل « قال » ما هو؟
فصلٌ في معنى قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ }
قال الطبريُّ : معنى قوله : « فلمَّا تبيَّنَ لهُ » أي : لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه ، قال : أَعلمُ . قال ابن عطيَّة : وهذا خطأٌ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ ، وفسر على القول الشاذِّ ، وهذا عندي ليس بإِقرارٍ بما كان قبل ينكره ، كما زعم الطبريُّ ، بل هو قولٌ بعثه الاعتبارُ؛ كما يقول المؤمنُ إذا رأى شيئاً غريباً من قدرة الله تعالى : لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ ، ونحو هذا . وقال أبو عليّ : معناه أعلم هذا الضرب من العلمِ الذي لم أكُن أَعْلَمه .
و « أَنَّ الله » في محلّ نصب ، سادَّةً مسد المفعولين ، أو الأَوَّل والثاني محذوفٌ على ما تقدّم من الخلاف .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

هذه القصة الثالثة الدالَّةُ على صحَّة البعث .
في العامل في « إذْ » ثلاثةُ أوجه :
أظهرها : أنه قال : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } ، أي : قال له ربَّه وقتَ قوله ذلك .
والثاني : أنه « أَلَمْ تَرَ » أي : ألم تر إذ قال إبراهيم .
والثالث : أنه مضمرٌ تقديره : واذكر قاله الزجاح ف « إِذْ » على هذين القولين مفعولٌ به ، لا ظرفٌ . و « ربِّ » منادى مضافٌ لياءِ المتكلم ، حُذفَتْ؛ استغناءً عنها بالكسرةِ قبلَها ، وهي اللغةُ الفصيحةُ ، وحُذِف حرفُ النداءِ .
وقوله : « أَرِنِي » تقدَّم ما فيه من القراءات ، والتوجيه في قوله : { وَأَرِنَا } [ البقرة : 128 ] والرؤية - هنا - بصرية تتعدَّى لواحدٍ ، ولمَّا دخلَتْ همزةُ النقل ، أكسبته مفعولاً ثانياً ، والأولُ ياءُ المتكلم ، والثاني الجملة الاستفهامية ، وهي معلقة للرؤية و « رأى » البصرية تُعَلَّق ، كما تعلق « نَظر » البصرية ، ومن كلامهم : « أَمَا تَرَى أَيُّ بَرْقٍ هَهُنَا » .
و « كَيْفَ » في محلِّ نصب : إمَّا على التشبيه بالظرف ، وإمَّا على التشبيه بالحال ، كما تقدَّم في قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] . والعاملُ فيها « تُحيي » وقدَّره مكي : بأي حالٍ تُحْيي الموتى ، وهو تفسيرُ معنًى ، لا إعرابٍ .
قال القرطبيُّ : الاستفهامُ بكيف ، إنما هو سؤالٌ عن حالةِ شيءٍ موجودٍ متقرر الوجوه عند السائل ، والمسؤول؛ نحو قولك : كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا : ومتى قلت : كيف ثوبُكَ؟ وكيف زيدٌ؟ فإِنَّما للسؤال عن حالٍ من أحواله ، وقد تكون « كَيْفَ » خبراً عن شيءٍ شأنه أَنْ يُسْتفهم عنه بكيف ، نحو قولك : كيف شِئتَ فكُنْ ، ونحو قول البخاريّ : « كَيْفَ كان بَدْءُ الوَحْي » ، و « كَيْفَ » في هذه الآية إِنَّما هي استفهامٌ عن هيئة الإِحياء ، والإحياءُ متقرِّرٌ ، ولكن لمَّا وجدنا بعض المنكرين لوجود شيءٍ ، قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة ذلك الشيء ، يعلم أنها لا تصح؛ فيلزم من ذلك أَنَّ الشيء في نفسه لا يصحُّ؛ مثاله أَنٍْ يقول مُدَّعٍ أنا أرفع هذا الجبل ، فيقول المكذِّب له : أَرِني كيف ترفعه فهذه طريقةُ مجاز في العبارة ، ومعناها تسلِيمٌ جدلي ، كأنه يقول : افرِض أَنَّكَ ترفعه ، فأرني كيف ترفعه فلما كان في عبارة الخليل - عليه الصَّلاة والسَّلام - هذا الاشتراك المجازي ، خلص اللهُ له ذلك ، وحمله على أَنْ بيَّن له الحقيقة ، فقال لله : « أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قال : بَلَى » فكمل الأَمر ، وتخلص من كُلِّ شكٍّ .
فإِن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى لم يُسَمِّ عزيراً ، بل قال : { أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ } [ البقرة : 259 ] ، وها هُنَا سمَّى إبراهيم ، مع أَنَّ المقصُودَ في كِلتا القصَّتين شيءٌ واحِدٌ؟!
فالجواب : قال ابن الخطيب - رحمه الله - : والسببُ فيه : أَنَّ عزيراً لم يحفظِ الأَدَبَ ، بل قال

{ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } [ البقرة : 259 ] ولذلك جعل الإِحياء ، والإِماتة في نفسه ، وإبراهيم - عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام - حفظ الأَدب ، ورَاعاهُ؛ فقال أَوَّلاً « رَبِّ » ثُمَّ دعا فقال : { أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى } ولذلك جعل الإِحياء ، والإِماتة في الطيور .
قوله : { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن } في هذه الواوِ وجهان :
أظهرهما : أنها للعطفِ قُدِّمت عليها همزةُ الاستفهامِ ، لأنها لها صدرُ الكلامِ والهمزةُ هنا للتقريرِ؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي ، قَرَّره؛ كقول القائل : [ الوافر ]
1211- أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا ... وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
و { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] ، المعنى : أنتم خيرُ ، وقد شرحنا .
والثاني : أنها واوُ الحالِ ، دخلت عليها ألفُ التقرير ، قال ابن عطية؛ وفيه نظرٌ من حيث إنها إذا كانَتْ للحالِ ، كانت الجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ ، وإذا كانت كذلك ، استدعَتْ ناصباً ، وليس ثمَّ ناصبٌ في اللفظِ ، فلا بُدَّ من تقديره؛ والتقديرُ « أَسأَلْتَ وَلَمْ تُؤْمِنْ » ، فالهمزةُ في الحقيقة ، إِنما دخَلَتْ على العامل في الحالِ . وهذا ليس بظاهر ، بل الظاهرُ الأَوَّلُ ، ولذلك أُجيبت ببلى ، وعلى ما قال ابنُ عطية يَعْسُر هذا المعنى .
وقوله : { بلى } جوابٌ للجملة المنفيَّة ، وإنْ صار معناه الإِثبات اعتباراً باللفظ لا بالمعنى ، وهذا من قسم ما اعتبر فيه جانبُ اللفظِ دون المعنى ، نحو : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] وقد تقدَّم تحقيقه واللهُ أَعْلَمُ .
قوله : { لِّيَطْمَئِنَّ } اللامُ لامُ كَيْ ، فالفعلُ منصوبٌ بعدها ، بإضمار « أَنْ » ، وهو مبنيٌّ لاتِّصاله بنون التوكيد واللامُ متعلِّقة بمحذوفٍ بعد « لكنْ » تقديرُه « ولكن سألتُكَ كيفية الإِحياء للاطمئنان ، ولا بُدَّ من تقدير حذفٍ آخر ، قبل » لكنْ « ؛ حتَّى يصحَّ معه الاستدراكُ ، والتقديرُ : بلى آمنْتُ ، وما سألتُ غير مؤمنٍ ، ولكنْ سألتُ ليطمئِنَّ قَلْبي ليحصل الفرقُ بين المعلوم بالبرهان وبين المعلوم عياناً .
قال السُّدِّيُّ ، وابن جبير : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } بأَنَّكَ خليلي { قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } بالخُلَّةِ .
والطُّمأنينةُ : السكونُ ، وهي مصدرُ » اطمأنَّ « بوزن : اقْشَعَرَّ ، وهي على غير قياس المصادر ، إذ قياسُ » اطْمَأنَّ « أَن يكون مصدرُه على الاطمئنان . واختلف في » اطْمَأَنَّ « هل هو مقلوبٌ؛ أم لا؟ فمذهب سيبويه - رحمه الله - أنه مقلوبٌ من » طَأْمَنَ « ، فالفاءُ طاءٌ ، والعينُ همزةٌ ، واللامُ ميمٌ ، فقُدِّمت اللامُ على العينِ فوزنه : افْلَعَلَّ بدليل قولهم : طامنتُه ، فتطامَنَ . ومذهبُ الجرمي : أنه غيرُ مقلوب ، وكأَنَّه يقول : إِنَّ اطمَأَنَّ وطَأْمَنَ مادَّتانِ مُسْتَقلَّتانِ ، وهو ظاهرُ كلام أبي البقاء فإنه قال : والهَمزةُ في » لِيَطْمَئِنَّ « أصلٌ ، ووزنه يفعَلِلُّ ، ولذلك جاء { فَإِذَا اطمأننتم } [ النساء : 103 ] مثل : » اقْشَعْرَرْتُمْ « . انتهى . فوزنه على الأصل دونَ القلب ، وهذا غيرُ بعيدٍ؛ ألا ترى أَنَّهم في » جَبَذَ ، وجَذَبَ ، قالوا : ليس أحدهما مقلُوباً من الآخر لاستواءِ المادَّتين في الاستعمال .

ولترجيح كلٍّ من المذهبين موضعٌ غير هذا .
فصلٌ في الداعي على السؤال
ذكروا في سبب سؤال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وجوهاً :
أحدها : قال الحسنُ ، والضحاكُ ، وقتادةُ ، وعطاءٌ ، وابن جريج : أَنَّهُ رأى جيفةً مطروحةً على شطّ البحر ، قال ابن جريج : جيفة حمارٍ ، بساحل البحر وقال عطاءٌ : بحيرة طبريَّة؛ فإذا مَدَّ البحر أكل منها دوابُّ البحر ، وإذا جزر البحر ، جاءت السِّباعُ وأَكلت ، وإذا ذهب السابع ، جاءت الطيورُ ، فأكلت وطارت ، فقال إبراهيم : ربِّ أَرِنِي كيف تجمعُ أجزاءَ الحيوانِ من بطون السباع ، والطيور ، ودوابِّ البحر؟ فقيل : أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قال : بلى ، ولكن المطلُوبُ من السؤال أن يصير العلمُ الاستدلاليُّ ضروريًّا .
الثاني : قال محمد بن إسحاق ، والقاضي إِنَّ سببهُ أَنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في مناظرته مع النُّمروذ ، لما قال : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] قال الملعون { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] فأطلق محبوساً ، وقتل رجلاً ، فقال إبراهيم ليس هذا بإحياءٍ وإماتة ، وإنما الإِحياءُ ، أن [ الله ] يقصد إلى جسد ميِّت فيُحْييه . فقال له نمروذ : أَنتَ عانيته؟ فلم يقدر أن يقول : نعم ، فقال له نمروذ : قُل لربّك حتَّى يحيي ، وإِلاَّ قتلتك ، فسأل اللهَ - تعالى - ذلك .
وقوله : { لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } يعني : بنجاتي من القتل ، أو ليطمئِنَّ قلبي بقوة حُجَّتي ، وإذا قيل لي : أنت عانيته؟ فأقول : نعم ، وأَنَّ عدولي منها إلى غيرها ، ما كان بسبب ضعفِ تلك الحُجَّة ، بل بسبب جهل [ المستمع ] .
الثالث : قال ابن عباسٍ ، وسعيد بن جبير ، والسديُّ : إِنَّ الله تعالى أوحى إليه إِنِّي متَّخذٌ بشراً خليلاً ، فاستعظم إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذلك ، وقال : إِلهي ، ما علامةُ ذلك؟ فقال تعالى : علامتُه : أَنْ يُحْيي الميِّت بدعائه فلمَّا عظُم مقام إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في مقام العُبُودية وأداءِ الرسالة خطر بباله إنّي لعلِّي أكون ذلك الخليل فسأل إحياء الميت ، فقال الله : أَوَ لَمْ تُؤْمِنُ؟ قال : بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بأَنِّي خليلٌ لك .
الرابع : أنه - عليه السلام - إِنَّما سأل ذلك لقومه؛ لأَنَّ أَتْبَاع الأَنبياءِ كانوا يُطالبونهم بأشياء : تارةً باطلةٌ وتارةً حقة ، كقولهم لموسى { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] فسأل إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذلك . والمقصودُ أَنْ يُشاهِدَه قومه فيزول الإنكارُ عنهم .
الخامس : قال ابن الخطيب - رحمه الله - : إِنَّ الأمَّة لا يحتاجون إلى العلم بأَنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - صادق في ادِّعاء الرسالة إلى معجزة تظهر عليه ، فكذلك الرسولُ ، عن وصول الملك إليه ، وإِخباره بأَنَّ اللهَ بعثه رسولاً يحتاج إلى معجزة تظهرُ على يد ذلك الملك؛ ليعلم الرسولُ أَنَّ ذلك الواصل ملكٌ لا شيطانٌ ، فلا يبعد أَن يقال : إنه لمَّا جاء الملك إلى إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأخبره بأن اللهَ بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجزة ، فقال { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } على أَنَّ الآتي ملكٌ كريمٌ لا شيطانٌ رجيمٌ .

[ قال ابن الخطيب : وعلى قول المتكلمين طلب العلم الضروريِّ ، لأَنَّ الاستدلاليَّ مما يتطرقُ إليه الشكوكُ ، والشُّبهاتُ ، ولعلَّه طالع في الصُّحف المتقدمة أَنَّ عيسى يُحيي الموْتَى بدعائه ، ومعنى { لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } على أَني لستُ أَقَلَّ منزلةً من عيسى ، أو أَنَّهُ سارع في الطَّاعة بذبح ولده ، كأنه قال أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح ، ففعلتُ ، فأنا أسألُك أن تجعل غير ذي روح رُوحانيّاً؛ ليطمئن قلبي بإجابتك ، أو أَنَّ المعنى أَرِني كيف يكونُ الحشرُ يوم القيامة؟ أَي : ليطمئِنَّ قلبي بهذا التشريف أو يكون قصَّة سماع الكلام ، لا نفس الإِحياء ] .
قال ابن الخطيب : وها هنا سؤالٌ صعبٌ ، وهو أنَّ الإنسان حال حصول العلم له إمَّا يكون مجوِّزاً لنقيضه أو لا .
فإن جوَّز نقيضه بوجهٍ من الوجوه ، فذلك ظنٌّ قويٌّ لا اعتقاد جازم ، وإن لم يجوّز نقيضه بوجه من الوجوه ، امتنع وقوع التفاوت في المعلوم .
وهذا الإشكال إنما يتوجَّه إذا قلنا : المطلوب هو حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء ، أمَّا إذا قلنا : المقصود شيءٌ آخرن فالسؤال زائلٌ .
روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « نَحْنُ أَوْلَى بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ ، إِذْ قال : رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ورحم اللهُ لوطاً ، لَقَد كَانَ يَأْوِي إلى ركْن شَدِيدٍ ، وَلَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي » وأخرج مسلم بن الحجَّاج هذا الحديث عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب مثله . وقال : نَحْنُ أحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِني كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى « .
حكى محمد بن إسحاق بن خزيمة عن أبي إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى المزني أنه قال على هذا الحديث : لم يشكَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّ الله قادرٌ على أن يحيي الموتى ، وإنَّما شكَّا أنه : هل يجيبهما إلى ما سألاه؟ وقال أبو سليمان الخطَّابي لي في قوله » نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ « اعترافٌ بالشكِّ على نفسه ، ولا على إبراهيم ، ولكن فيه نفي الشَّكِّ عنهما يقول : إذا لم أشُكُّ أنا في قدرة الله ، على إحياء الموتى ، فإبراهيم أولى ألا يشكَّ ، وقال ذلك على سبيل التَّواضع ، وهضم النَّفس ، فكذلك قوله : » لَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي « وفيه إعلامٌ بأنَّ المسألة من إبراهيم لم تعرض من جهة الشك ، لكن من قبل زيادة العلم بالعيان؛ فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال .

وقيل : لما نزلت هذه الآية الكريمة قال قوم : شكَّ إبراهيم ، ولم يشك نبيُّنا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القول تواضعاً منه؛ وتقديماً لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - .
[ قال القرطبيُّ : اختلف النَّاس في هذا السؤال : هل صدر من إبراهيم - عليه الصلاة والسَّلام - عن شكٍّ ، أم لا؟ فقال الجمهور : لم يكن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - شاكّاً في إحياء الله الموتى قطُّ ، وإنَّما طلب المعاينة؛ وذلك أنَّ النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به؛ ولهذا قال - عليه السلام - : « لَيْسَ الخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ » رواه ابن عباس قال أبو عمر : لم يروه غيره ] .
قوله : { مِّنَ الطير } في متعلِّقه قولان :
أحدهما : أنه محذوفٌ لوقوع الجارِّ صفةً لأربعة ، تقديره : أربعةً كائنةً من الطير .
والثاني : أنه متعلقٌ بخذ ، أي : خذ من الطير .
و « الطير » اسم جمع ، كركبٍ وسفر ، وقيل : بل هو جمع طائرٍ ، نحو : تاجر وتجر ، وهذا مذهب أبي الحسن . وقيل : بل هو مخفَّف من « طَيَّر » بتشديد [ الياء ] ، كقولهم : « هَيْن ومَيْت » في « هَيِّن ومَيِّت .
قال أبو البقاء رحمه الله : » هو في الأصل مصدر طارَ يطِير ، ثم سمِّي به هذا الجنسُ « . فتحصَّل فيه أربعة أقوال .
وجاء جرُّه ب » مِنْ « بعد العدد على أفصح الاستعمال ، إذ الأفصح في اسم الجمع في باب العدد أن يفصل بمن كهذه الآية الكريمة ، ويجوز الإضافة كقوله تعالى : { تِسْعَةُ رَهْطٍ } [ النمل : 48 ] ؛ وقال ذلك القائل : [ الوافر ]
1212- ثَلاثَةَ أَنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ ... لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي
وزعم بعضهم : إن إضافته نادرةٌ ، لا يقاس عليها ، وبعضهم : أنَّ اسم الجمع لما يعقل مؤنث ، وكلا الزعمين ليس بصوابٍ؛ لما تقدَّم من الآية الكريمة ، واسم الجمع لما لا يعقل يذكَّر ، ويؤنَّث؛ وهنا جاء مذكراً لثبوت التاء في عدده .
قوله : { فَصُرْهُنَّ } قرأ حمزة ، والكسائي : بكسر الصَّاد ، والباقون : بضمِّها ، وتخفيف الراء . واختلف في ذلك ، فقيل : القراءتان يحتمل أن تكونا بمعنًى واحدٍ ، وذلك أنه يقال : صاره يصوره ويَصِيرُهُ ، بمعنى قطعه ، أو أماله ، فاللغتان لفظٌ مشتركٌ بين هذين المعنيين ، والقراءتان تحتملهما معاً ، وهذا مذهب أبي عليّ .
وقال الفراء : » الضمُّ مشتركٌ بين المعنيين ، وأمَّا الكسر : فمعناه القطع فقط « .
وقال غيره : » الكَسْرُ بمعنى القطع ، والضمُّ بمعنى الإمالة « . يقال رجل أصور ، أي : مائلُ العنق ، ويقال : صار فلان إلى كذا ، إذا قال به ، ومال إليه ، وعلى هذا يصير في الكلام محذوفٌ ، كأنه قيل أملهنَّ إليك ، وقطِّعهنَّ .
وقال ابن عبَّاسٍ ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد : صرهنَّ بالضم : بمعنى قطِّعهنَّ ، يقال صار الشَّيء يصوره صوراً ، إذا قطعه ، قال رؤبة يصف خصماً ألد : [ الرجز ]

1213- صُرْنَاهُ بِالحُكْمِ وَيَبْغِي الحَكَمَا ... أي : قطعناهُ ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار ، وقال عطاء : معناه اجمعهنَّ ، واضممهنَّ إليك ، يقال : صار يصور صوراً ، إذا اجتمع ، ومنه قيل لجماعة النَّحل : صورٌ .
فصل في لفظ « الصِّرِّ » في القرآن
قال أبو العبَّاس المقرئ : ورد لفظ الصِّرِّ في القرآن على ثلاثة أوجهٍ :
الأول : بمعنى القطع؛ كهذه الآية ، أي : قطِّعهنَّ إليك صوراً .
الثاني : بمعنى الريح الباردة ، قال تعالى : { رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } [ آل عمران : 117 ] أي : بردٌ .
الثالث : يعني الإقامة على الشيء؛ قال تعالى { وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ } [ آل عمران : 135 ] ، أي : لم يقيموا ، ومثله : { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم } [ الواقعة : 46 ] .
ونقل عن الفرَّاء أيضاً : أنه قال : « صَارَه » مقلوبٌ من قولهم : « صَرَاهُ عَنْ كَذَا » ، أي : قطعه عنه ، ويقال : صُرْتُ الشيء ، فانصار ، أي : انقطع؛ قالت الخنساء : [ البسيط ]
1214- فَلَوْ يُلاَقِي الَّذي لاَقَيْتُهُ حَضِنٌ ... لَظَلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهْيَ تَنْصَارُ
أي : تنقطع .
قال المبرد : وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ كلَّ واحد من اللفظين أصل بنفسه فرع على الآخر .
واختلف في هذه اللفظة : هل هي عربيةٌ ، أو معرَّبة؟ فعن ابن عباس : أنها معرَّبة من النَّبطية ، وعن أبي الأسود ، أنَّها من السُّريانية ، والجمهور على أنها عربيةٌ ، لا معرَّبةٌ .
و « إِلَيْكَ » إن قلنا : إِنَّ « صُرْهُنَّ » بمعنى أملهنَّ : تعلَّق به ، وإن قلنا : إنه بمعنى : قطِّعهنَّ ، تعلَّق ب « خُذْ » .
ولمَّا فسَّر أبو البقاء « فَصُرْهُنَّ » بمعنى : أَمْلْهُنَّ « قدَّر محذوفاً بعده تقديره : فأملهنَّ إليك ، ثم قطِّعهنَّ ، ولمَّا فسَّره بقطِّعهن - كما تقدم - قدَّر محذوفاً يتعلَّق به » إِلَى « تقديره : قطِّعهنَّ بعد أن تميلهنَّ إليك . ثم قال : » والأجودُ عندي أن يكون « إليك » حالاً من المفعول المضمر تقديره : فقطِّعهنَّ مقرَّبةً إليك ، أو ممالةً ، أو نحو ذلك « .
وقرأ ابن عباس - رضي الله عنه - : » فَصُرْهُنَّ « بتشديد الراء ، مع ضم الصاد وكسرها ، مِنْ : صرَّه يَصُرّه ، إذا جمعه؛ إلاَّ أنَّ مجيء المضعَّف المتعدِّي على يفعل - بكسر العين في المضارع - قليلٌ .
ونقل أبو البقاء رحمه الله تعالى عمَّن شدَّد الراء : أنَّ منهم من يضمُّها ، ومنهم من يفتحها ، ومنهم من يكسرها ، مثل : » مُدَّهُنَّ « فالضمُّ على الإتباع ، والفتح للتخفيف ، والكسر على أصل التقاء الساكنين .
قال القرطبي : قرئ » صَرِّهِنَّ « بفتح الصاد ، وتشديد الراء مكسورة؛ حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة؛ بمعنى فاحبسهنَّ ، من قولهم : » صرَّى يُصَرِّي « : إذا حبس ، ومنه الشاة المصرَّاة ، قال القرطبي : وها هنا اعتراضٌ ذكره الماوردي ، وهو أن يقال : كيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى - عليه السلام - في قوله : { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] ؟
فعنه جوابان :
أحدهما : أن ما سأله موسى لا يصحُّ مع بقاء التكليف ، وما سأله إبراهيم خاصٌّ يصحُّ معه بقاء التكليف .

الثاني : أن الأحوال تختلف ، فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة ، وفي قوتٍ آخر المنع ، فيما لا يتقدَّم فيه إذنٌ .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أمر الله تعالى إبراهيم بهذا ، قبل أن يولد ، وقبل أن ينزل عليه الصُّحف .
فصل في الطير المأخوذة
قال مجاهدٌ ، وعطاءٌ ، وابن جريج : أخذ طاووساً ، وديكاً ، وحمامةً ، وغراباً . ونقل عن ابن عباس : ونسراً بدل الحمامة . وقال عطاء الخراساني : بطَّة خضراء ، وغراباً أسود ، وحمامةً بيضاء ، وديكاً أحمر « فَصُرْهُنَّ » أي : قطِّعهنَّ ، ومزقهن ، وقيل أملهُنَّ على ما تقدَّم .
فصل في الحكمة في نوع الطير وعدده
وها هنا سؤالات :
الأول : ما الحكمة في كونه أمره بأخذ أربعةٍ من الطير ، ولم يأمره بأكثر ، ولا بأقل؟!
الثاني : ما الحكمة في كونها من الطير ، دون غيرها من الحيوان؟!
الثالث : هل كان من حيوان البحر ، ثم الوحش ، والطير وبهم الأنعام؟
الرابع : هل كان الأربعة كلُّ واحدٍ مخلوقٌ من غالب عنصرٍ من العناصر الأربعة ، كالطير ، مخلوق من غالب عنصر الهواء ، والسمك مخلوق من غالب عنصر الماء ، وحيوان البرّ مخلوقٌ من غالب عنصر التراب ، وسراج البحر ، والدرّاج التي هي تطيرُ بالليل كلُّها نارٌ ، والسَّمندل الذي يعيش في النار فإنهم مخلوقون من غالب عنصر النار .
فإن قيل : ما الفائدة في أمره بضمِّها إلى نفسه بعد أخذها؟
فالجواب : فائدته أن يتأمل فيها ، ويعرف أشكالها ، وهيئاتها؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ، ولا يتوهَّم أنَّها غير تلك ، وأجمع المفسِّرون على أن المراد من الآية الكريمة قطعهن ، وأنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قطع أعضاءها ، ولحومها ، وريشها ، ودماءها ، وخطل بعضها ببعضٍ؛ غير أبي مسلم؛ فإنه أنكر ذلك ، وقال : إنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما طلب إحياء الميت من الله تعالى ، أراه مثالاً قرب به الأمر عليه .
والمراد ب { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } الإمالةُ والتمرين على الإجابة ، وتعلمها ، أي : فعوَّد الطير الأربعة ، بحيث تصير إذا دعوتها ، أجابتك . والغرض منه ذكر مثالٍ محسوسٍ في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر القول بأن المراد منه : فقطعهن .
واحتجَّ على ذلك بوجوهٍ :
أحدها : أنَّ المشهور في قوله : « فَصُرْهُنَّ » أي : أملهنَّ ، وأمَّا التقطيع والذبح ، فليس في الآية ما يدل عليه ، فكان إدراجه في الآية الكريمة زيادة بغير دليل ، وهو لا يجوز .
وثانيها : لو كان المراد قطِّعهنَّ ، لم يقل إليك؛ فإنَّ ذلك لا يتعدى بإلى .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديمٌ ، وتأخيرٌ ، تقديره : فخذ إليك أربعةً من الطير ، فصرهن؟
قلنا : التزام التقديم والتَّأخير من غير ضرورة خلاف الظاهر .
وثالثها : أن الضمير في قوله : { ثُمَّ ادعهن } عائدٌ إليها لا إلى أجزائها ، وإذا كانت الأجزاء متفرقةً ، وكان الموضوع على كلِّ جبلٍ بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائداً إلى تلك الأجزاء لا إليها ، وهو خلاف الظاهر ، وأيضاً في قوله : { يَأْتِينَكَ سَعْياً } عائد إليها ، لا إلى أجزائها ، وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض ، كان الضمير في « يَأْتِينَكَ » عائداً إلى أجزائها لا إليها .

واحتجَّ الجمهور بوجوهٍ :
الأول : أنَّ المفسِّرين قبل أبي مسلم أجمعوا على أنه ذبح تلك الطيور ، وقطَّعها أجزاءً ، فيكون إنكار ذلك إنكاراً للإجماع .
الثاني : أنَّ ما ذكره غير مختصٍّ بإبراهيم؛ فلا يكون له فيه مزية على الغير .
الثالث : أن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - إنما أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى ، وظاهر الآية ، يدلُّ على أنه أجيب إلى ذلك ، وعلى قول أبي مسلمٍ لم تحصل الإجابة في الحقيقة .
الرابع : أنَّ قوله { ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا } يدلُّ على أنَّ تلك الطيور جعلت أجزاءً .
قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه : إنَّه أضاف الجزء إلى الأربعة ، فيجب أن يكون المراد بالجزء ، هو الواحد من تلك الأربعة .
وأُجيب بأنَّ ما ذكرتم ، وإن كان محتملاً إلاَّ أنَّ ما ذكرناه أظهر ، والتقدير : فاجعل على كل جبلٍ من كلِّ واحدٍ منهن جزءاً أو بعضاً .
قوله : { ثُمَّ اجعل } « جَعَلَ » يحتمل أن يكون بمعنى الإلقاء ، فيتعدَّى لواحدٍ ، وهو « جُزْءاً » ، فعلى هذا يتعلَّق « عَلَى كُلِّ » و « مِنْهُنَّ » ب « اجعل » ، وأن يكون بمعنى « صَيَّر » ، فيتعدَّى لاثنين ، فيكون « جُزءاً » الأول ، و « عَلَى كُلِّ » هو الثاني ، فيتعلَّق بمحذوفٍ .
و « منهنَّ » يجوز أن يتعلَّق على هذا بمحذوفً على أنَّه حالٌ من « جُزْءاً » ، لأنه في الأصل صفة نكرة ، فلمَّا قُدِّم عليها ، نصب حالاً .
وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً ل « اجْعَلْ » يعني : إذا كانت « اجْعَلْ » بمعنى « صَيَّر » ، فيكون « جُزْءاً » مفعولاً أول ، و « منهنَّ » مفعولاً ثانياً قدِّم على الأول ، ويتعلَّق حينئذٍ بمحذوف . [ ولا بد من حذف صفةٍ مخصِّصة بعد ] قوله : « كُلِّ جَبَلٍ » تقديره : « عَلَى كُلِّ جبلٍ بحضرتك ، أو يليك » حتى يصحَّ المعنى .
وقرأ الجمهور : « جُزْءاً » بسكون الزاي والهمز ، وأبو بكر ضمَّ الزاي ، وأبو جعفر شدَّد الزاي ، من غير همزٍ؛ ووجهها : أنَّه لمَّا حذف الهمزة ، وقف على الزاي ، ثم ضعَّفها ، كما قالوا : « هذا فَرَجّ » ، ثم أُجري الوصل مجرى الوقف . وقد تقدم تقرير ذلك عند قوله : { هُزُواً } [ البقرة : 67 ] . وفيه لغةٌ أخرى وهي : كسر الجيم .
قال أبو البقاء : « وَلاَ أَعْلَمُ أَحَداً قرأ بها » . والجزء : القطعة من الشيء ، وأصل المادَّة يدلُّ على القطع ، والتفرق ، ومنه : التجزئة والأجزاء .

فصل في المعنيِّ بالجبل في الآية
ظاهر قوله : { على كُلِّ جَبَلٍ } جميع جبال الدنيا ، فذهب مجاهد ، والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان ، كأنه قيل : فرقها على كلِّ جبلٍ يمكنك التفرقة عليه .
وقال ابن عبَّاس ، والحسن ، وقتادة ، والربيع : أُمر أن يجعل كلَّ طائرٍ أربعة أجزاءٍ ، ويجعلها على أربعة أجبلٍ ، على كل جبلٍ ربعاً من كل طائرٍ .
وقيل : على حسب الجهات الأربع : أعني المشرق ، والمغرب ، والشمال ، والجنوب . وقال السديُّ ، وابن جريج : سبعةٌ من الجبال؛ لأنَّ المراد على كل جبل يشاهده إبراهيم حتى يصح منه دعاء الطائر ، وكانت الجبال التي يشاهدها - عليه الصَّلاة والسَّلام - سبعةٌ .
قوله : { يَأْتِينَكَ } جواب الأمر ، فهو في محلِّ جزمٍ ، ولكنه بُني لاتصاله بنون الإناث .
قوله : { سَعْياً } فيه أوجه :
أحدها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال من ضمير الطير ، أي : يَأتينك ساعياتٍ ، أو ذوات سعي .
والثاني : أن يكون حالاً من المخاطب ، ونقل عن الخليل ما يقوِّي هذا ، فإنه روي عنه : « أن المعنى : يأتينك وأنت تسعى سعياً » فعلى هذا يكون « سعياً » منصوباً على المصدر ، وذلك الناصب لهذا المصدر في محلِّ نصب على الحال من الكاف في « يَأْتِينَكَ » . قال شهاب الدين : والذي حمل الخليل - رحمه الله - على هذا التقدير؛ أنه لا يقال عنده : « سَعَى الطائرُ » فلذلك جعل السَّعي من صفات الخليل - عليه السلام - لا من صفة الطيور .
الثالث : أن يكون « سَعْياً » منصوباً على نوع المصدر؛ لأنه نوعٌ من الإتيان ، إذ هو إتيانٌ بسرعةٍ ، فكأنه قيل : يأتينك إتياناً سريعاً .
وقال أبو البقاء : « ويجوز أن يكون مصدراً مؤكِّداً؛ لأنَّ السعي ، والإتيان يتقاربان » ، وهذا فيه نظرٌ؛ لأن المصدر المؤكِّد لا يزيد على معنى عامله ، إلاَّ أنه تساهل في العبارة .
فصل في معنى « سَعْياً »
قيل : معنى « سَعْياً » عدواً ومشياً على أرجلهنَّ؛ لأن ذلك أبلغ في الحجة .
وقيل : « طَيَراناً » . ولا يصحُّ؛ لأنه لا يقال للطائر إذا طار : سعى ، ومنهم من أجاب عنه : بأن « السَّعْي » هو الاشتداد في الحركة ، فإن كانت الحركة طيراناً ، فالسَّعيُ فيها هو الاشتداد في تلك الحركة .
روي أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذبحها ، ونتف ريشها ، وقطَّعها أجزاءً ، وخلط لحمها ، وريشها ، ودمها ، ووضع على كلِّ جبلٍ جزءاً من ذلك المجموع ، وأمسك رؤوسهن ، ثم دعاهنَّ فقال : تَعَالَيْن بإذن الله تعالى ، فجعلت كلُّ قطرةٍ من دم طائرٍ تطير إلى القطرة الأخرى ، وكل عظم يصير إلى الآخر من جثَّته ، وكل بضعةٍ تصير إلى الأخرى ، وإبراهيم - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - ينظر؛ حتى لقيت كل جثَّة بعضها بعضاً في الهواء بغير رأسٍ ، ثم أقبلن إلى رؤوسهنَّ سعياً : كلّث جثَّةٍ إلى رأسها ، فانضمَّ كلَّ رأسٍ إلى جثَّته ، وصار الكلُّ أحياءً بإذن الله . { واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ } غالبٌ على جميع الممكنات { حَكِيمٌ } عالمٌ بعواقب الأمور ، وغاياتها .

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)

لمَّا بين تعالى أصل العلم بالمبدأ ، والمعاد ، وبيَّن دلائل صحَّتها ، أتبع ذلك ببيان الشرائع ، والأحكام ، فبدأ ببيان التكليف ، بالإنفاق .
قال القاضي في كيفية النَّظم : إنه تعالى لمَّا أجمل قوله تعالى { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] فصل بهذه الآية الكريمة تلك الأضعاف ، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلَّة على قدرته بالإحياء والإماتة ، من حيث : لولا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق ، لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب ، لكان الإنفاق ، وسائر الطاعات عبثاً فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق : قد عرفت أنِّي خلقتك ، وأكملت نعمتي عليك ، بالإحياء ، والإقدار ، وقد علمت قدرتي على المجازاة ، فليكن علمك بهذه الأحوال داعياً إلى إنفاق المال؛ فإنه يجازي القليل بالكثير ، ثمَّ ضرب لذلك الكثير مثلاً .
وقال الأصم : إنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتجّ على الكلِّ بما يوجب تصديق النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ ليرغبوا بالمجاهدة بالنفس ، والمال ، في نصرته ، وإعلاء شريعته .
وقيل : لما بيَّن تعالى أنَّه وليُّ المؤمنين ، وأن الكفَّار أولياؤهم الطاغوت ، بيَّن مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله ، وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت .
فصل في سبب نزول الآية
[ روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفَّان ، وعبد الرحمن بن عوف ] - رضي الله عنهما -؛ « وذلك أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حثَّ الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة » تَبُوك « ، جاءه عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم ، فقال : يا رسول الله ، كان عندي ثمانية آلافٍ ، فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلافٍ ، وأربعة آلافٍ أقرضتها لربِّي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ وَفِيمَا أَعْطَيْتَ « وقال عثمان : يا رسول الله ، عليَّ جهاز من لا جهاز له؛ فنزلت هذه فيهما .
وروى البستي عن ابن عمر ، قال : » لما نزلت هذه الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « رَبِّ ، زِدْ أُمَّتِي » ؛ فنزلت : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] قال صلى الله عليه وسلم : « رَبِّ ، زِدْ أُمَّتِي » ، فنزلت { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] .
قوله « مَثَلُ » مبتدأُ ، و « كَمَثَلِ حَبَّةٍ » خبره . ولا بدَّ من حذفٍ ، حتى يصحَّ التشبيه؛ لأنَّ الذين ينفقون لا يشبَّهون بنفس الحبة .
واختلف في المحذوف ، فقيل : من الأول ، تقديره : ومثل منفق الذين ، أو نفقة الذين .
وقيل : من الثاني ، تقديره : ومثل الذين ينفقون كزارع حبةٍ؛ أو من الأول ، والثاني باختلاف التقدير ، أي : مثل الذين ينفقون ، ونفقتهم كمثل حبَّةٍ وزارعها .
وهذه الأوجه قد تقدَّم تقريرها محررةً عند قوله تعالى :

{ وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ } [ البقرة : 171 ] . والقول بزيادة الكاف ، أو « مِثْلَ » بعيدٌ جدّاً ، فلا يلتفت إليه .
والحبَّة : واحدة الحبِّ ، وهو ما يزرع للاقتيات ، وأكثر إطلاقه على البر ، قال المتلمِّس : [ البسيط ]
1215 - آلَيْتُ حَبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُهُ ... وَالحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ
و « الحِبَّة » بالكسر : بذور البقل ممَّا لا يقتات به ، و « الحُبَّة » بالضَّمِّ : الحُبُّ .
والحُبُّ : المحبة ، وكذلك « الحِبّ » بالكسر ، والحِبُّ أيضاً : الحبيب ، وحبة القلب سويداؤه ، ويقال ثمرته ، وهو ذاك .
قوله : { أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } أي : أخرجت وهذه الجملة في محلِّ جرٍّ؛ لأنها صفةٌ لحبة ، كأن قيل : كمثل حبَّةٍ منبتةٍ .
وأدغم تاء التأنيث في سين « سَبْع » أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وهشامٌ . وأظهر الباقون ، والتاء تقارب السين ، ولذلك أُبدلت منها؛ قالوا : ناسٌ ، وناتُ ، وأكياسٌ ، وأكياتٌ؛ قال : [ الرجز ]
1216- عَمْرو بْنَ يَرْبُوعٍ شِرَارَ النَّاتِ ... لَيْسُوا بَأَجْيَادٍ وَلاَ أَكْيَاتِ
أي : شرار الناس ، ولا أكياسِ .
وجاء التَّمييز هنا على مثال مفاعل ، وفي سورة يوسف مجموعاً بالألف والتَّاء ، فقال الزمخشريُّ : « فإنْ قلتَ : هلاَّ قيل : » سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ « على حقِّه من التمييز بجمع القلَّة ، كما قال : { وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ } [ يوسف : 43 و 46 ] . قلت : هذا لما قدَّمت عند قوله : { ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] من وقوع أمثلة الجمع [ متعاورةً ] مواقعها » .
يعني : أنه من باب الاتساع ، ووقوع أحد الجمعين موقع الآخر ، وهذا الذي قاله ليس بمخلِّص ، [ ولا محَصِّلٍ ] ، فلا بدَّ من ذكر قاعدةٍ مفيدة في ذلك :
قال شهاب الدين - رحمه الله - : اعلم أن جمعي السَّلامة لا يميَّز بهما عددٌ إلا في موضعين :
أحدهما : ألا يكون لذلك المفرد جمعٌ سواه ، نحو : سبع سموات ، وسبع بقرات ، وسبع سنبلات ، وتسع آيات ، وخمس صلوات ، لأنَّ هذه الأشياء لم تجمع إلا جمع السلامة ، فأمَّا قوله : [ الطويل ]
1217- . . .. . . . فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَا
فشاذٌ ، منصوصٌ على قلَّته ، فلا يلتفت إليه .
والثاني : أن يعدل إليه لمجاوزة غيره ، كقوله : { وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ } [ يوسف : 43 و 46 ] عدل من « سَنَابِلَ » إِلى « سُنْبُلاَتٍ » ؛ لأجل مجاورته « سَبْعَ بَقَرات » ، ولذلك إذا لم توجد المجاورة ، ميِّز بجمع التكسير دون جمع السلامة ، وإن كان موجوداً نحو : « سَبْعَ طَرَائِق ، وسَبْعِ لَيَالٍ » مع جواز : طريقات ، وليلات .
والحاصل أنَّ الاسم إذا كان له جمعان : جمع تصحيح ، وجمع تكسيرٍ ، فالتكسير إمَّا للقلة ، أو للكثرة ، فإن كان للكثرة : فإمَّا من باب مفاعل ، أو من غيره ، فإن كان من باب مفاعل ، أُوثر على التصحيح ، تقول : ثلاثة أحَامِدَ ، وثَلاَثُ زَيَانِبَ ، ويجوز قليلاً : أَحْمَدِينَ وَزَيْنَبَات .
وإن كان من غير باب مفاعل : فإمَّا أن يكثر فيه من غير التصحيح ، وغير جمع الكثرة ، أو يقلَّ .
فإن كان الأول : فلا يجوز التصحيح ، ولا جمع الكثرة إلا قليلاً؛ نحو : ثَلاثَةُ زُيُودٍ ، وَثَلاثُ هُنُودٍ ، وثَلاَثَةُ أَفْلُسٍ ، ولا يجوز : ثلاثةُ زيْدِينَ ، ولا ثَلاَثُ هِنْدَات ، ولا ثَلاَثةُ فُلُوسٍ ، إلاَّ قليلاً .

وإن كان الثاني : أُوثر التصحيح وجمع الكثرة ، نحو : ثلاثُ سُعَادَات ، وثلاثة شُسُوع ، وعلى قلّة يجوز : ثَلاثُ سَعَائد ، وثلاثةُ أشْسُع . فإذا تقرَّر هذا ، فقوله : « سَبْعَ سَنَابِلَ » جاء على المختار ، وأمَّا قوله « سَبْعِ سُنْبُلاَتٍ » ؛ فلأجل المجاورة كما تقدَّم .
وقيل : لمَّا كان الكلام - ها هنا - في تضعيف الأجر ، ناسبها جمع الكثرة ، وفي سورة يوسف ذكرت في سياق الكلام في سني الجدب؛ فناسبها التقليل؛ فجمعت جمع القلة .
والسُّنْبُلَةُ فيها قولان :
أحدهما : أنَّ نونها أصليةٌ؛ لقولهم : « سَنْبَلَ الزرعُ » أي : أخرج سنبله .
والثاني : أنها زائدةٌ ، وهذا هو المشهور؛ لقولهم : « أَسْبَلَ الزرعُ » ، فوزنها على الأول : فُعلُلَةٌ ، وعلى الثاني : فُنْعُلَة ، فعلى ما ثبت من حكاية اللُّغتين : سَنْبَلَ الزرعُ ، وأسْبَلَ تكون من باب سَبِط وسِبَطْر .
قال القرطبي : من أسْبَلَ الزرعُ : إذا صار فيه السُّنبل ، كما يسترسل الستر بالإسبال وقيل : معناه : صار فيه حبٌّ مستورٌ ، كما يستر الشيء بإسبال السَّتر عليه .
قوله : { فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ } هذا الجارُّ في محلِّ جر؛ صفةً لسنابل ، أو نصبٍ؛ صفةً لسبع ، نحو : رأيت سبع إماءٍ أحرارٍ ، وأحراراً ، وعلى كلا التقديرين فيتعلَّق بمحذوفٍ .
وفي رفع « مئة » وجهان :
أحدهما : بالفاعلية بالجارِّ؛ لأنه قد اعتمد إذ قد وقع صفةً .
والثاني : أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره ، والجملة صفةٌ ، إمَّا في محلِّ جرٍّ ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم ، إلاَّ أنَّ الوجه [ الأول ] أولى؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات ، دون الجمل . ولا بدَّ من تقدير حذف ضميرٍ ، أي : في كلِّ سنبلة منها ، أي : من السنابل .
والجمهور على رفع : « مِئَة » على ما تقدَّم ، وقرئ : بنصبها .
وجوَّز أبو البقاء في نصبها وجهين :
أحدهما : بإضمار فعلٍ ، أي : أَنْبَتَتْ ، أو أَخْرَجَتْ .
والثاني : أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره ، والجملة صفةٌ ، إمَّا في محلِّ جرٍّ ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم ، إلاَّ أنَّ الوجه [ الأول ] أولى؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات ، دون الجمل . ولا بدَّ من تقدير حذف ضميرٍ ، أي : في كلِّ سنبلة منها ، أي : من السنابل .
والجمهور على رفع : « مِئَة » على ما تقدَّم ، وقرئ : بنصبها .
وجوَّز أبو البقاء في نصبها وجهين :
أحدهما : بإضمار فعلٍ ، أي : أَنْبَتَتْ ، أو أَخْرَجَتْ .
والثاني : أنها بدلٌ من « سَبْعِ » ، وردَّ بأنَّه لا يخلو : إمَّا أن يكون بدل [ كلِّ ] من كلٍّ ، أو بدل بعضٍ من كلٍّ ، أو بدل اشتمالٍ .
فالأول : لا يصحُّ؛ لأنَّ المائة ليست كلَّ السبع سنابل .
والثاني : لا يصحُّ - أيضاً؛ لعدم الضمير الراجع على المبدل منه ، ولو سلِّم عدم اشتراط الضمير ، فالمئة ليست بعض السبع؛ لأنَّ المظروف ليس بعضاً للظرف ، والسنبلة ظرفٌ للحبة ، ألا ترى قوله : { فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } فجعل السُّنْبُلَة وعاءٌ للحَبِّ .

والثالث - أيضاً - لا يصحُّ؛ لعدم الضَّمير ، وإن سُلِّم ، فالمشتمل على « مِئَةِ حَبَّةٍ » هو سنبلة من سبع سنابل ، إلا أن يقال إنَّ المشتمل على المشتمل على الشيء ، هو مشتملٌ على ذلك الشيء ، فالسنبلة مشتملةٌ على مائة والسنبلة مشتمل عليها سبع سنابل ، فلزم أنَّ السبع مشتملةٌ على « مائة حبة » .
وأسهل من هذا كلِّه أن يكون ثمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : حبَّ سَبْع سَنَابِلَ ، فعلى هذا يكون « مِئَةُ حَبَّةٍ » بدل بعضٍ من كل .
فصل في المقصود بسبيل الله
معنى { يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله } يعني : دينه ، قيل : أراد النفقة في الجهاد خاصَّةً ، وقيل : جمع أبواب الخير من الواجب والنَّفل .
قال القرطبيُّ : شبَّه المتصدِّق بالزَّارع ، وشبَّه البذر بالصدقة ، فيعطيه بكل صدقةٍ له سبعمائة حسنة ، ثمَّ قال { والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } يعني على سبعمائة ، فيكون مثل المتصدق مثل الزَّارع ، إن كان حاذقاً في عمله فيكون البذر جيّداً ، وتكون الأرض عامرةً يكون الزرع أكثر ، فكذلك المتصدق إذا كان صالحاً ، والمال طيِّباً ، ويضعه موضعه ، فيصير الثواب أكثر .
فإن قيل : لم نر سُنبُلَةً فيها مائة حبَّةٍ ، فكيف ضرب المثل بها؟
فالجواب : قال القفَّال : المقصود أنه لو علم طالب الزيادة والرِّبح أنَّه إذا بذر حبَّةً واحدةً ، أخرجت له سبعمائة حبةٍ ما كان ينبغي له ترك ذلك ، فكذلك ينبغي لطالب الآخرة والأجر عند الله ألاَّ يتركه إذا علم أنه يحصل له على الواحدة عشرة ومائة وسبعمائة ، وإذا كان المراد منه هذا المعنى فسواء وجدت هذه السنبلة ، أو لم توجد ، فإنَّ المعنى حاصل مستقيم . وقيل : وجد ذلك في الدُّخن .
{ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } .
قيل : معناه يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء .
وقيل يضاعف على هذا ، ويزيد لمن يشاء ، ما بين سبع إلى سبعين ، إلى سبعمائة ، إلى ما شاء الله من الأضعاف ، مما لا يعلمه إلا الله تعالى . { والله وَاسِعٌ } أي : القدرة على سبيل المجازاة على الجود ، والإفضال عليهم بنية من ينفق ماله .
فصل في الاستدلال بالآية على فضل الزراعة
قال القرطبيُّ : دلَّت هذه الآية على أنَّ حرفة الزَّرع من أعلى الحرف ، التي يتخذها الناس ، والمكاسب التي يشتغل بها العمَّال ، ولذلك ضرب الله به المثل وقال - صلى الله عليه وسلم - : « مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً ، أو يَزْرَعُ زَرْعاً فَتأَكْلُ مِنْهُ الطَّيْرُ ، أو إِنْسَانٌ ، أوْ بَهِيمَةٌ ، إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَة » رواه مسلم .
وروى الترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت - : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « الْتَمِسُوا الرِّزْقَ في خَبَايَا الأَرْضِ » ، يعني : الزَّرع ، والزِّراعة من فروض الكفايات ، يجب على الإمام أن يجبر النَّاس عليها ، وما كان في معناها من غرس الأشجار .

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

{ الذين يُنْفِقُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون مرفوعاً بالابتداء ، وخبره الجملة من قوله تعالى : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ } ، ولم يضمَّن المبتدأ هنا معنى الشَّرط ، فلذلك لم تدخل الفاء في خبره ، لأنَّ القصد بهذه الجملة تفسير الجملة التي قبلها؛ لأنَّ الجملة قبلها أخرجت مخرج الشَّيء الثَّابت المفروغ منه ، وهو تشبيه نفقتهم بالحبَّة المذكورة ، فجاءت هذه الجملة كذلك ، والخبر فيها أُخرج مخرج الثَّابت المستقرِّ غير المحتاج إلى تعليق استحقاق بوقوع [ غيره ] ما قبله .
والثاني : أنَّ { الذين } خبرٌ لمبتدأ محذوف ، أي : هم الذين ينفقون ، وفي قوله : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ } على هذا وجهان :
أحدهما : أنَّها في محل نصبٍ على الحال .
والثاني : - وهو الأولى - أن تكون مستأنفةٌ ، لا محلَّ لها من الإعراب ، كأنها جواب سائل قال : هل لهم أجرٌ؟ وعطف ب « ثمّ » جَرْياً على الأغلب؛ لأنَّ المتصدِّق لغير وجه الله لا يحصل منه المنُّ عقيب صدقته ، ولا يؤذي على الفور ، فجرى هذا على الغالب ، وإن كان حكم المنِّ والأذى الواقعين عقيب الصّدقة كذلك .
قال الزَّمخشريُّ : ومعنى « ثُمَّ » : إظهار التَّفاوت بين الإنفاق ، وترك المنِّ والأذى ، وأنَّ تركهما خبرٌ من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدُّخول فيه بقوله : { ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] ، فجعلها للتَّراخي في الرُّتبة ، لا في الزَّمان ، وقد تكرَّر له ذلك غير مرَّةٍ .
و « مَا » في قوله تعالى : { مَآ أَنْفَقُواُ } يجوز أن تكون موصولةً اسميّةً ، فالعائد محذوفٌ ، أي : ما أنفقوه ، وأن تكون مصدريةً ، فلا تحتاج إلى عائدٍ ، أي : لا يتبعون إنفاقهم . ولا بدَّ من حذفٍ بعد « مَناً » ، أي : مناً على المنفق عليه ، ولا أذى له ، فحذف للدّلالة عليه .
والمنُّ : الاعتداد بالإحسان ، وهو في الأصل : القطع ، ولذلك يطلق على النِّعمة؛ لأنَّ المنعم يقطع من ماله قطعةً للمنعم عليه . يقال : قد منَّ الله على فلان ، إذا أنعم عليه ، ولفلان عليَّ منَّةٌ ، أي : نعمة؛ وأنشد ابن الأنباريّ : [ الطويل ]
1218- فَمُنِّي عَلَيْنَا بالسَّلاَمِ فَإِنَّمَا ... كَلاَمُكِ يَاقُوتٌ وَدُرٌّ مُنَظَّمٌ
ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : « ما مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَمَنَّ عَلَيْنَا في صُحْبَتِهِ ، وَلاَ ذَات يَدِهِ مِنْ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ » يريد أكثر إنعاماً بماله ، وأيضاً فالله تعالى يوصف بأنَّه منَّانٌ ، أي : منعمٌ ، و « المنّ » أيضاً النَّقص من الحقّ . قال تبارك وتعالى : { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } [ القلم : 3 ] أي : غير مقطوع وغير ممنوع؛ ومنه سمي الموت منوناص؛ لأنه ينقص الحياة ، ويقطعها ، ومن هذا الباب : المنَّةُ المذمومة؛ لأنَّها تنقص النّعمة ، وتكدّرها ، والعرب يمتدحون بترك المنّ بالنِّعمة قال قائلهم : [ الرمل ]
1219- زَادَ مَعْرُوفُكَ عِنْدِي عِظَماً ... أَنَّهُ عِنْدَكَ مَسْتُورٌ حَقِيرْ
تَتَنَاسَاهُ كَأَنْ لَمْ تَأْتِهِ ... وَهْوَ في العَالَمِ مَشْهُودٌ كَثِيرْ

والمنُّ : الذي يوزن به ، ويقال في هذا : « مَنَا » مثل : عَصَا . وتقدَّم اشتقاق الأذى .
و « مَنّاً » مفعولٌ ثانٍ ، و « لاَ أَذًى عطفٌ عليه ، وأبعد من جعل » وَلاَ أَذًى « مستأنفاً ، فجعله من صفات المتصدِّق ، كأنَّ قال : الذين ينفقون ، ولا يتأذَّون بالإِنفاق ، فيكون » أَذى « اسم لا ، وخبرها محذوفٌ ، أي : ولا أذًى حاصل لهم ، فهي جملةٌ منفيةٌ في معنى النَّهي .
قال شهاب الدِّين : وهذا تكلُّفٌ ، وحقُّ هذا القائل أن يقرأ » وَلاَ أَذَى « بالألف غير منوَّنٍ؛ لأنَّه مبنيٌّ على الفتح على مشهور مذهب النُّحاة .
فصل في سبب النزول
قال الكلبيُّ : نزلت في عثمان بن عفَّان ، وعبد الرَّحمن بن عوف .
أمَّا عثمان فجهّز جيش العسرة في غزوة » تبوك « ، بألف بعيرٍ بأقتابها ، وأحلاسها ، وألف دينارٍ .
» قال عبد الرَّحمن بن سمرة : جاء عثمان بألف دينارٍ في جيش العسرة ، فصبّها في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل فيها يده الكريمة ويقلبها ، ويقول : « مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْم » وقال « يَا رَبِّ؛ عُثْمَانُ رَضِيتُ عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ » فنزلت هذه الآية الكريمة .
« وأمَّا عبد الرحمن بن عوفٍ ، فإنَّه جاء بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : كانت عندي ثمانية آلاف ، فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف ، وأربعة آلافٍ أقرضتها ربّي ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ ، وفِيمَا أَعْطَيْتَ « فنزلت الآية . وقال بعض المفسِّرين : إن الآية المتقدمة مختصّة فيمن أنفق على نفسه وهذه الآية الكريمة فيمن أنفق على غيره ، فبين تعالى أنَّ الإنفاق على الغير ، يوجب الثَّواب المذكور في الآية المتقدِّمة ، إذا لم يتبعه » مَنّ « ، » ولا أَذًى « قال القفَّال : وقد يحتمل أن يكون هذا الشَّرط معتبراً أيضاً فيمن أنفق على نفسه كمن ينفق على نفسه في الجهاد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، ولا يؤذي أحداً من المؤمنين ، مثل أن يقول : لو لم أحضر لما تمَّ هذا الأمر ، ويقول لغيره : أنت ضعيفٌ لا منفعة بك في الجهاد .
وقال بعضهم : » فِي سبيلِ « ، أي : طاعة الله - تعالى -؛ ولا يمنّ بعطائه ، ولا يعدّ عليه نعمه ، فيكدرها عليه ولا يؤذيه بأن يعيره ، فيقول : إلى كم تسأل ، وكم تؤذيني؟ وقيل : الأذى أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه .
وقال سفيان : » مَنّاً وَلاَ أَذًى « : هو أن قول : قد أعطيتك ، فما شكرت . قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان أبي يقول : إذا أعطيت رجلاً شيئاً ، ورأيت أنَّ سلامك يثقل عليه ، فكف سلامك عنه ، فحظر الله على عباده المنَّ بالصَّنيعة ، واختصّ به صفةً لنفسه؛ لأنَّه من العباد تعييرٌ وتكديرٌ ، ومن الله إفضال ، وتذكير ، وإنَّما كان المنُّ ، والأذى مذموماً ، لأنَّ الفقير الآخذ للصَّدقة منكسر القلب ، لأجل حاجته إلى صدقة غيره معترف باليد العليا للمعطي ، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك : إظهار ذلك الإنعام ، زاد ذلك في انكسار قلبه ، فيكون في حكم المضرَّة بعد المنفعة ، وينفّر أهل الحاجة عن الرَّغبة في صدقته إذا اشتهر بتلك الطَّريقة ، وأمَّا » الأذَى « ، فمنهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين ، وليس بظاهرٍ ، بل اختصاصه بما تقدَّم من أذى الفقير أولى .

فإن قيل : ظاهر اللَّفظ : أنَّ مجموع المنّ ، والأذى يبطلان الأجر ، فيلزم منه أنَّه لو وجد أحدهما دون الآخر ، لا يبطل الأجر .
قلنا : بل الشَّرط ألاَّ يوجد واحدٌ منهما؛ لأن قوله : { لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } يقتضي ألاَّ يقع منه ، لا هذا ، ولا ذاك .
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
قالت المعتزلة : الآية الكريمة دلَّت على أنَّ الكبائر تحبط ثواب فاعلها؛ وذلك لأنَّ الله - تعالى - بين أنَّ هذا الثَّواب إنَّما يبقى إذا لم يوجد المنّ والأذى؛ لأنَّه لو ثبت مع فقدهما ، ومع وجودهما؛ لم يكن لهذا الاشتراط فائدة .
وأُجيبوا بأنَّ المراد منها أنَّ حصول المنّ والأذى يخرجان الإنفاق عن أن يكون فيه أجر وثواب أصلاً من حيث يدلاَّن على أنَّه إنَّما أنفق لكي يمنّ ، ولم ينفق ، لطلب رضوان الله ، ولا على وجه القربة والعبادة ، فلا جرم ، بطل الأجر .
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
احتجَّت المعتزلة بقوله تعالى : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } على أنَّ العمل موجبٌ للأجر على الله - تعالى - .
وأجيبوا بأنَّ حصول الأجر بسبب الوعد ، لا بسبب نفس العمل؛ لأن العمل واجبٌ على العبد ، وأداء الواجب لا يوجب الأجر .
فصل
وأجمعت الأمَّة على أنَّ قوله : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } مشروطٌ بعدم الكفر ، وذلك يدلُّ على جواز التَّكلُّم بالعام لإرادة الخاصّ ، ومتى جاز ذلك في الجملة لم تكن دلالة اللَّفظ العام على الاستغراق دلالة قطعية ، وذلك يوجب سقوط دلائل المعتزلة في التَّمسُّك بالعمومات على القطع بالوعيد .
قوله : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } فيه قولان :
أحدهما : أنَّ إنفاقهم في سبيل الله ، لا يضيع ، بل يجدونه يوم القيامة ، فلا يخافون فقده « وَلاَ يَحْزَنُونَ » بسبب ألاَّ يوجد ، ونظيره { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } [ طه : 112 ] .
الثاني : أنهم يوم القيامة ، لا يخافون العذاب ألبتة ، ونظير { وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } [ النمل : 89 ] وقال { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] .

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)

في قوله : { مَّعْرُوفٌ } ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه مبتدأٌ ، وساغ الابتداء بالنَّكرة لوصفها ، وللعطف عليها . و « مَغْفِرةٌ » عطفٌ عليه ، وسوَّغ الابتداء بها العطف ، أو الصِّفة المقدَّرة ، إذ التَّقدير : ومغفرةٌ من السَّائل ، أو من الله . و « خَيْرٌ » خبرٌ عنهما . وقال أبو البقاء في هذا الوجه : « والتَّقدير : وسبب مغفرة ، لأنَّ المغفرة من الله تعالى ، فلا تفاضل بينهما ، وبين فعل العبد ، ويجوز أن تكون المغفرة : مجاوزة المتصدّق ، واحتماله للفقير ، فلا يكون فيه حذف مضافٍ » .
الثاني : أنَّ { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } مبتدأٌ وخبره محذوفٌ ، أي : أمثل ، أو أولى بكم ، و « مَغْفِرَةٌ » مبتدأق ، و « خَيْرٌ » خبرها ، فهما جملتان ، ذكره المهدوي وغيره . قال ابن عطيَّة : « وهذا ذهابٌ برونق المعنى » .
والثالث : أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ تقديره : المأمور به قولٌ معروفٌ .
وقوله : { يَتْبَعُهَآ أَذًى } في محلِّ جرِّ صفةً لصدقةٍ ، فإن قيل لم يعد ذكر المنِّ فيقول : يتبعها منٌّ ، وأذى . فالجواب؛ لأنَّ الأذى يشمل المنَّ ، وغيره ، وإنَّما نصَّ عليه في قوله : { لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } [ البقرة : 262 ] لكثرة وقوعه من المتصدِّقين ، وعسر تحفُّظهم منه ، ولذلك قدِّم على الأذى .
فصل
القول المعروف : هو القول الذي تقبله القلوب ، والمراد منه هنا : ردُّ السَّائل بطريقٍ حسنٍ .
وقال عطاءٌ : عِدَةٌ حسنة .
وقال القرطبيُّ : وروي من حديث عمر - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إِذَا سأَلَ السَّائِلُ فَلاَ تَقْطَعُوا عَلَيْهِ مَسْأَلَتَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ، ثُمَّ رُدّوا عليه بِوَقَارٍ ، وَلِينٍ ، أو ببذل يَسِيرٍ ، أوْ رَدٍّ جميلٍ ، فقد يأْتِيكُم مَنْ لَيْسَ بإِنْسٍ ولا جَانّ يَنْظُرُونَ صَنِيعَكُم فيما خَوَّلَكُمُ اللهُ تعالى » .
وأمَّا المغفرة فقيل : هي العفو عن بذاءة الفقير ، والصَّفح عن إساءته فإنه إذا ردَّ بغير مقصوده؛ شقَّ عليه ذلك ، فربَّما حمله ذلك على بذاءة اللِّسان .
وقيل المراد ونيل مغفرةٍ من الله بسبب الردّ الجميل .
وقال الضَّحَّاك : نزلت في إصلاح ذات البين .
وقيل المراد : أن يستر حاجة الفقير ، فلا يهتك ستره ، ولا يذكر حاله عند من يكره الفقير وقوفه على حاله .
وقيل : إن قوله { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } خطابٌ مع المسؤول بأن يردّ السَّائل بأحسن الطُّرق .
وقوله « مَغْفِرَةٌ » : خطابٌ مع السَّائل بأن يعذر المسؤول في ذلك الرَّدِّ ، فإنَّه ربَّما لم يقدر على ذلك المطلوب في تلك الحالة ، ثمَّ بيَّن تعالى أنَّ فعل الرَّجل لهذين الأمرين خير له من صدقةٍ يتبعها أذى؛ لأنَّه إذا أعطى ، وأَتْبع الإعطاء بالأذى ، فقد جمع بين النفقة والإضرار .
وأمَّا القول المعروف ، فقيه نفعٌ بلا ضررٍ؛ لأنَّه يتضمَّن إيصال السُّرور إلى قلب المسلم ، فكان خيراً من الأوَّل .
قال بعضهم : الآية الكريمة واردة في التَّطوُّع؛ لأنَّ الواجب لا يحلُّ منعه ولا ردّ السّائل منه ، ويحتمل أن يراد به الواجب ، فإنَّه قد يعدِل به عن سائلٍ إلى سائلٍ ، وعن فقيرٍ إلى فقيرٍ . ثم قال : { والله غَنِيٌّ } عن صدقة العباد ، وإنما أمركم بها ليثيبكم عليها { حَلِيمٌ } لم يتعجَّل بالعُقُوبة على من يمنّ ، ويؤذي بصدقته .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)

اعلم أنَّه تعالى ، لم ذكر هذين النَّوعين من الإنفاق ضرب واحداً منهما مثلاً .
قوله : { كالذي } الكاف في محلِّ نصبٍ ، فقيل : نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : لا تبطلوها إبطالاً كإبطال الذي ينفق رئاء النَّاس . وقي : في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المصدر المقدَّر كما هو رأي سيبويه ، وقيل : حالٌ من فاعل « تُبْطِلُوا » ، أي : لا تبطلوها مشبهين الذي ينفق ماله رياء النَّاس .
و { رِئَآءَ } فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ تقديره : إنفاقاً رئاء النَّاس ، كذا ذكره مكي .
والثاني : أنه مفعول من أجله ، أي : لأجل رئاء النَّاس ، واستكمل شروط النَّصب .
الثالث : أنه في محلِّ حالٍ ، أي : ينفق مرائياً .
والمصدر هنا مضافٌ للمفعول ، وهو « النَّاس » ، ورئاء مصدر راءى كقاتل قتالاً ، والأصل : « رِئايا » فالهمزة الأولى عين الكلمة ، والثانية بدلٌ من ياءٍ هي لام الكلمة ، لأنها وقعت طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ . والمفاعلة في « راءَى » على بابها ، لأنَّ المرائي يري النَّاس أعمال؛ حتى يروه الثَّناء عليه ، والتَّعظيم له . وقرأ طلحة - ويروى عن عاصم - : « رِيَاء » بإبدال الهمزة الأولى ياء ، وهو قياس الهمزة تخفيفاً؛ لأنَّها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ .
قوله : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ } مبتدأٌ وخبرٌ ، ودخلت الفاء ، قال أبو البقاء : « لتربط الجُمْلَة بِمَا قَبْلَهَا » كما تقدَّم ، والهاء في « فَمَثَلُهُ » فيها قولان :
أظهرهما : أنها تعود على « الَّذي يُنْفِقُ رِئَاءَ النَّاسِ » ؛ لأنَّه أقرب مذكورٍ فيكون المعنى أنَّ الله شبّه المانَّ المؤذي بالمنافق ، ثم شبَّه المنافق بالحجر .
والثاني : أنها تعود على المانِّ المؤذي ، كأنه تعالى شبَّهه بشيئين : بالذي ينفق رئاء وبصفوان عليه ترابٌ ، فيكون قد عدل من خطاب إلى غيبة ، ومن جمع إلى إفراد .
والصَّفوان : حجرٌ كبيرٌ أملس ، وفيه لغتان :
أشهرهما سكون الفاء ، والثانية فتحها ، وبها قرأ ابن المسيّب والزُّهريُّ ، وهي شاذَّةٌ؛ لأنَّ « فَعَلان » إنَّما يكون في المصادر نحو : النَّزوان ، والغليان ، والصفات نحو : رجلٌ طغيان وتيس عدوان ، وأمَّا في الأسماء فقليلٌ جداً . واختلف في « صَفْوَان » فقيل : هو جمعٌ مفرده : صفا ، قال أبو البقاء : « وجَمْعُ » فَعَلَ « على » فَعْلاَن « قليلٌ » . وقيل : هو اسم جنس .
قال أبو البقاء : « وهو الأجود ، ولذلك عاد الضَّمير عليه مفرداً في قوله : عَلَيْه » .
وقيل : هو مفردٌ ، واحده « صُفيٌّ » قاله الكسائي ، وأنكره المبرَّد . قال : « لأنَّ صُفيّاً جمع صفا نحو : عصيّ في عصا ، وقُفِيّ في قَفَا » . ونقل عن الكسائي أيضاً أنه قال : « صَفْوان مفردٌ ، ويجمع على صِفوان بالكسر » . قال النَّحاس : « ويجوز أن يكون المكسور الصَّاد واحداً أيضاً ، وما قاله الكسائيُّ غير صحيح ، بل صفوان - يعني بالكسر - جمعٌ لصفا ك » وَرَل « وَوِرْلان ، وأخ وإخوان وكرى وكروان » .

وحكى أبو عبيدٍ عن الأصمعي أن الصَّلإوان ، والصَّفا ، والصَّفو واحد والكلُّ مقصورٌ .
وقال بعضهم : الصَّفوان : جمع صفوانة ، كمرجانٍ ومرجانةٍ وسعدان ، وسعدانة .
وقال بعضهم : الصَّفوان : هو الحجر الأملس ، وهو واحدٌ وجمعٌ .
و { عَلَيْهِ تُرَابٌ } : يجوز أن يكون جملةً من مبتدأ ، وخبرٍ ، وقعت صفةً لصفوان ، ويجوز أن يكون « عَلَيْه » وحده صفةً له ، و « تُرَابٌ » فاعلٌ به ، وهو أولى لما تقدَّم عند قوله { فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ] . والتُّراب معروفٌ وهو اسم جنسٍ ، لا يثنَّى ، ولا يجمع .
وقال المبرِّد : وهو جمع واحدته « ترابة » . وذكر النَّحَّاس له خمسة عشر اسماً : ترابٌ وتَوْرَبٌ ، وتَوْرَابٌ ، وتَيْرَابٌ وإِثْلَب وأَثْلَب وَكَثْكَثٌ وَكِثْكِثٌ ودَقْعَمٌ وَدَقْعَاءُ ورَغام بفتح الراء ، ومنه : أرغم الله أنفه أي : ألصقه بالرَّغام وبَرى ، وقرى بالفتح مقصوراً [ كالعصا وكملح وعثير ] وزاد غيره تربة وصعيد .
ويقال : ترب الرَّجل : افتقر . ومنه : { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [ البلد : 16 ] كأنَّ جلده لصق به لفقره ، وأترب ، أي : استغنى ، كأنَّ الهمزة للسَّلب ، أو صار ماله كالتُّراب .
قوله : { فَأَصَابَهُ } عطفٌ على الفعل الذي تعلَّق به قوله : « عَلَيْهِ » ، أي : استقرَّ عليه ترابٌ ، فأصابه . والضَّمير يعود على الصَّفوان ، وقيل : على التُّراب . وأمَّا الضَّمير في « فَتَرَكَهُ » فعلى الصفوان فقط . وألف « أصَابَه » من واوٍ؛ لأنه من صاب يصوب .
والوابل : المطر الشَّديد ، وبلت السَّماء تبل ، والأرض موبولة ، ويقال أيضاً : أوبل ، فهو موبل ، فيكون ممَّا اتفق فيه فعل ، وأفعل ، وهو من الصِّفات الغالبة كالأبطح ، فلا يحتاج معه إلى ذكر موصوفٍ . قال النَّضر بن شيملٍ :
أولُ ما يَكُونُ المَطَرُ رَشاً ، ثم طشاً ، ثم طَلاًّ ، ورَذاذاً ، ثم نضحاً ، وهو قطرٌ بين قطرين ، ثم هطلاً وتهتاناً ، ثم وابلاً وجوداً . والوبيل : الوخيم ، والوبيلة : حزمة الحطب ، ومنه قيل للغليظة : وبيلةٌ على التَّشبيه بالحزمة .
قوله : { فَتَرَكَهُ صَلْداً } كقوله تعالى : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة : 17 ] . والصَّلد : الأجرد الأملس ، ومنه : « صَلَدَ جبينُ الأصْلَعِ » : أي برق ، والصَّلد أيضاً صفة ، يقال : صلد بكسر اللام يصلد بفتحها ، فهو صلد . قال النَّقَّاش : « الصَّلْدُ بلغة هُذَيل » . وقال أبان بن تغلب : « الصَّلْد : اللَّيِّن من الحجارة » وقال علي بن عيسى : « هو من الحجارة ما لا خير فيه ، وكذلك من الأرضين وغيرها ، ومنه : » قِدْرٌ صَلُود « أي : بطيئة الغَلَيان » ، وصلد الزّند : إذا لم يورد ناراً .
قوله : { لاَّ يَقْدِرُونَ } في هذه الجملة قولان :
أحدهما : أنها استئنافية فلا موضع لها من الإعراب .
والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال من « الَّذِي » في قوله : { كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ } ، وإنما جمع الضَّمير حملاً على المعنى ، لأنَّ المراد بالذي الجنس ، فلذلك جاز الحمل على لفظه مرَّةً في قوله : « مَالَهُ » و « لاَ يُؤْمِنُ » ، « فمثلُه » وعلى معناه أخرى .

وصار هذا نظير قوله : { كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً } [ البقرة : 17 ] ثم قال : { بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ } [ البقرة : 17 ] ، وقد تقدَّم .
وزعم ابن عطيَّة أنَّ مهيع كلام العرب الحمل على اللَّفظ أولاً ، ثم المعنى ثانياً ، وأنَّ العكس قبيحٌ ، وتقدَّم الكلام معه في ذلك . وقيل : الضَّمير في « يَقْدِرُونَ » عائدٌ على المخاطبين بقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم } ويكون من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وفيه بعدٌ .
وقيل : يعود على ما يفهم من السِّياق ، أي : لا يقدر المانُّون ، ولا المؤذون على شيءٍ من نفع صدقاتهم . وسمَّى الصّدقة كسباً .
قال أبو البقاء : « وَلا يَجُوزُ أن يَكُونَ » لاَ يَقْدِرُونَ « حالاً من » الَّذِي « ؛ لأنه قد فصل بينهما بقوله : » فَمَثَلُه « وما بعده » . ولا يلزم ذلك؛ لأنَّ هذا الفصل فيه تأكيدٌ ، وهو كالاعتراض « .
فصل
قال القاضي : إنه تبارك وتعالى أكَّد النَّهي عن إبطال الصَّدقة بالمنّ ، والأذى ، وأزال كلّ شبهة للمرجئة ، وبيَّن أنَّ المنَّ والأذى يبطلان الصَّدقة ، ومعلومٌ أنَّ الصَّدقة قد وقعت ، فلا يصحُّ أن تبطل ، فالمراد إبطال أجرها ، لأنَّ الأجر لم يحصل بعد ، وهو مستقبل ، فيصحُّ إبطاله بما يأتيه من المنّ والأذى .
واعلم أنَّه تعالى ضرب لكيفية إبطال الصَّدقة بالمنّ والأذى مثلين ، فمثله أوَّلاً : بمن ينفق ماله رئاء النَّاس ، وهو مع ذلك لا يؤمن بالله ، واليوم الآخر ، لأنَّ بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر ، أظهر من بطلان أجر صدقة من يُتْبعها بالمنّ ، والأذى . ثم مثَّله ثانياً : ب » الصَّفْوَانِ « الذي وقع عليه تُرابٌ ، وغبارٌ ، ثم أصابه المطر القويُّ ، فيزيل ذلك الغبار عنه حتّى يصير كأنه لم يكن عليه غبار أصلاً ، فالكافر كالصَّفوان ، والتُّراب مثل ذلك الإنفاق ، والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر ، وكالمنّ والأذى اللَّذين يحبطان عمل هذا المنفق .
قال : فكما أنَّ الوابل أزال التُّراب الذي وقع على الصَّفوان ، فكذلك المنّ والأذى ، وجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله ، وذلك صريحٌ في القول بالإحباط .
قال الجبَّائيُّ : وكما دلّ هذا النَّص على صحَّة قولنا فالعقل دلَّ عليه عليه أيضاً؛ لأن من أطاع ، فلو استحقّ ثواب طاعته ، وعقاب معصيته لوجب أن يستحقّ النّقيضين؛ لأنَّ شرط الثَّواب أن يكون منفعة خالصةً دائمةً مقرونةً بالإجلال ، وشرط العقاب أن يكون مضرةً خالصةً دائمةً مقرونةً بالإهانة فلو لم تقع المحابطة ، لحصل استحقاق النّقيضين وذلك محال ، ولأنَّه حين يعاقبه ، فقد منعه الإثابة ، ومنع الإثابة ظلمٌ ، وهذا العقاب عدل ، فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلاً من حيث إنَّه حقّه ، وأن يكون ظلماً من حيث إنَّه منع الإثابة ، فيكون ظلماً بنفس الفعل الذي هو عادلٌ فيه؛ وذلك محال ، فصحّ بهذا النَّصّ ودلالة العقل صحّة قولنا في الإحباط والتَّكفير .

وأجيبوا بأنه ليس المراد بقوله « لاَ تُبْطِلُوا » النَّهي عن إزالة هذا الثَّواب بعد ثبوته ، بل المراد به ألاَّ يأتي بهذا العمل باطلاً؛ لأنَّه إذا قصد به غير وجه الله تعالى ، فقد أتى به من الابتداء موصوفاً بالبطلان .
قال ابن الخطيب : ويدلّ على بطلان قول المعتزلة وجوه :
أولها : أنَّ الباقي والطّارئ إن لم يكن بينهما منافاة ، لم يلزم من طَرَيَانِ الطَّارئ زوال الباقي ، وإن حصلت بينهما منافاة لم يكن زوال الباقي أولى من اندفاع الطَّارئ ، بل ربَّما كان اندفاع الطَّارئ ، أولى؛ لأن الدفع أسهل من الرفع .
وثانيها : أن الطارئ لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي ، وهو محال؛ لأنَّ الماضي قد انقضى ، ولم يبق في الحال ، وإعدام المعدوم محالٌ ، وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضاً محال؛ لأنَّ الموجود في الحال ، لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محالٌ ، وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محالٌ ، لأنَّ الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال ، وإعدام ما لم يوجد بعد محال .
وثالثها : أنَّ شرط طريان الطَّارئ ، زوال الباقي ، فلو جعلنا زوال النافي معلّلاً بطريان الطَّارئ ، لزم الدَّور ، وهو محالٌ .
ورابعها : أنَّ الطَّارئ إذا طرأ وأعدم الثَّواب السَّابق ، فالثَّواب السَّابق إمَّا أن يعدم من هذا الطَّارئ شيئاً ، أو لا يعدم منه شيئاً ، والأول هو الموازنة ، وهو قول أبي هاشم ، وهو باطلٌ ، وذلك لأنَّ الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر ، فلو حصل العدمان معاً اللَّذان هما معلومان ، لزم حصول الموجودين اللَّذين هما علَّتان ، فيلزم أن يكون كلّ واحد منهما موجوداً حال كون كلّ واحد منهما معدوماً وهو محالٌ .
والثاني ، وهو قول أبي علي الجبَّائي : هو أيضاً باطل؛ لأنَّ العقاب الطَّارئ لما أزال الثَّواب السَّابق ، وذلك الثَّواب السَّابق ليس له أثر ألبتة في إزالة الشَّيء من هذا العقاب الطَّارئ؛ فحينئذ لا يحصل له من العلم الذي أوجب الثَّواب السَّابق فائدة أصلاً ، لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب ، وذلك على مضادة النَّصّ الصّريح في قوله تبارك وتعالى { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] ، لأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقّة الطَّاعة ، ولم يظهر له منها أثر ، لا في جلب منفعةٍ ، ولا في دفع مضرةٍ .
خامسها : أنكم تقولون الصَّغيرة تحبط بعض أجزاء الثَّواب دون البعض وذلك محالٌ؛ لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهيَّة ، فالصَّغيرة الطَّارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكلّ في الماهيَّة كان ذلك ترجيحاً للممكن من غير مرجّح ، وهو محالٌ فلم يبق إلاَّ أن يقال بأنَّ الصَّغيرة الطَّارئة تزيل كلَّ تلك الاستحقاقات ، وهو باطلٌ بالاتّفاق ، أو لا تزيل شيئاً منها ، وهو المطلوب .

سادسها : أنَّ عقاب الكبيرة ، إذا كان أكثر من ثواب العَمَل المتقدّم ، فإمَّا أن يقال : بأنَّ المؤثر في إبطال الثَّواب بعض أجزاء العقاب الطَّارئ ، أو كلها ، والأوَّل باطل؛ لأنَّ اختصاص بعض تلك الأجزاء بالمؤثريّة دون البعض مع استواء كلِّها في الماهيَّة ترجيح للمكن من غير مرجّح ، وهو محالٌ . الثاني باطلٌ ، لأنَّه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثَّواب جزآن من العقاب مع أنَّ كلَّ واحد من ذينك الجزأين مستقلٌّ بإبطال ذلك الثَّواب ، فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران كلّ واحدٍ منهما مستقلٌّ وذلك محالٌ؛ لأنَّه يستغني بكلِّ واحدٍ منهما عن كلّ واحد منهما فيكون غنيّاً عنهما معاً ، حال كونه محتاجاً إليهما معاً ، وهو محالٌ .
سابعها : أنَّه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين؛ لأنَّ السَّيِّد إذا قال لعبده : احفظ هذا المتاع لئلاّ يسرقه السَّارق ، ثم في ذلك الوقت جاء العدوّ ، وقصد قتل السّيِّد ، فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدوِّ ، وقتله ، فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح ، والتعظيم حيث دفع القتل عن سيِّده ، ويوجب استحقاقه للذَّمِّ ، حيث عرض ماله للسّرقة ، وكلّ واحدٍ من الاستحقاقين ثابت ، والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى التَّرجيح أو إلى المهايأة ، فأمَّا أن يحكموا بانتفاء الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوعٌ في بداية العقول .
ثامنها : أَنَّ الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المُتقدِّم ، فهذا الطَّارئ إِمَّا أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق ، أو لا يكون . والأوَّل محالٌ؛ لأَنَّ ذلك العل إنَّما يكون موجوداً في الزَّمان الماضي ، فلو كان لهذا الطَّارئ أَثَرٌ في ذلك الفعل لكان هذا إيقاعاً للتَّأثير في الزَّمان الماضي ، وهو محالٌ ، وإن لم يكن لهذا الطَّارئ [ أثر ] في اقتضاءِ ذلك الفعل السَّابق لذلك الاستحقاق ، وجب أَن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وألاَّ يزول .
وتاسعها : أَنَّ المعتزلة يقولون : إِنَّ شُرب جرعةٍ من الخمرِ ، يحبطُ ثواب الإِيمان وطاعة سبعين سنةٍ على سبيل الإِخلاص ، وذلك محالٌ؛ لأنَّا نعلم بالضَّرورة أَنَّ ثواب هذه الطَّاعات أكثر مِنْ عقاب هذه المعصية الواحدة ، والأعظم بالأَقلّ .
قال الجبَّائي : لا يمتنع أَنْ تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كُلِّ طاعةٍ ، لأن معصية الله تعالى تعظم على قدر كثرة نعمه ، وإحسانه ، كما أَنَّ استحقاق قيام الرَّبَّانيَّة ، وقد ربَّاهُ وملكه ، وبلغه إلى النِّهاية [ العظيمة أعظم ] من قيامه بحقِّه لكثرة نعمه ، فإِذا كانت نعم الله على عباده ، بحيث لا تُضبط عظماً ، وكثرةً لم يمتنع أَنْ يستحقَّ على المعصية الواحدة العقاب العظيم الَّذي يعلو على ثواب جملة الطَّاعات .
قال ابن الخطيب : وهذا العُذْرُ ضعيفٌ؛ لأَنَّ المَلِك الَّذِي عظمت نعمُهُ على عبده ، ثمّ إِنَّ ذلك العبدَ قام بحقِّ عبوديَّته خمسين سنةً ، ثم إنّه كسر رأس قلم ذلك الملك قصداً ، فلو أحبط المَلك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكُلُّ أحدٍ يذمُّهُ ، وينسبه إلى ترك الإِنصاف والقسوة ، ومعلومٌ أَنَّ جميع المعاصي بالنِّسبة إلى جلال الله تعالى أقلُّ من كسر رأس القلم ، فظهر أَنَّ قولهم على [ خلاف ] قياس العقول .

عاشرها : أَنَّ إِيمان ساعةٍ يهدم كُفْر سبعين سنة فالإيمان سبعين سنةً كيف يهدمُ بفسق ساعةٍ ، وهذا مِمَّا لا يقبلُهُ العقلُ ، والله أعلمُ .
قوله { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } يحتمل أمرين :
أحدهما : لا تأْتُوا به باطِلاً ، وذلك أَنْ يَنْوي بالصَّدقة الرِّياء والسُّمعة .
[ قال القرطبيُّ : إِنَّ اللهَ تعالى عبَّر عن عدم القبول ، وحرمان الثوب ] بالإبطال ، والمراد الصَّدقة الَّتي يمُنُّ بها ، ويُؤذي لا غيرها ، فالمَنُّ والأَذى في صدقة؛ لا يُبطلُ صدقةً غيرها .
قال جمهور العلماء في هذه الآية : إنَّ الصَّدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ ، أو يُؤذي بها ، فإِنَّها لا تقبل .
وقيل : إِنَّ اللهَ جعل للملك عليها أمارة ، فهو لا يكتبها .
قال القرطبيُّ : وهذا حسنٌ .
والثاني : أن يأتوا بها على وجهٍ يوجب الثَّواب ، ثُمَّ يتبعوها بالمَنِّ والأذى ، فيزيلوا ثوابها ، وضرب لذلك مثلين :
أحدهما : يطابقُ الأَوَّل وهو قوله : { كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله } ، إِذْ من المعلوم [ أَنَّ المراد من كونه عمل ] هذا باطلاً أَنَّه دخل في الوجود باطلاً ، لا أَنَّهُ دخل صحيحاً ، ثم يزول؛ لأَنَّ الكُفر مقارنٌ له فيمتنع دخوله صحيحاً في الوجود .
والمثال الثاني : وهو الصَّفوان الَّذي وقع عليه تراب ، ثمَّ أصابهُ وابلٌ فهذا يشهدُ لتأَويل المعتزلة؛ لأنَّه جعل الوابلَ مُزِيلاً لذلك التُّراب بعد وقُوع التُّراب على الصَّفوان ، فكذا ها هنا : يجب أن يكون المنُّ والأَذى مزيلين للأجر والثَّواب بعد حصول استحقاق الأَجر .
ويمكن أَنْ يجاب عنه : بأَنَّا نُسلِّم أَنَّ المشبه بوقوع التُّراب على الصَّفوان حُصُولُ الأَجر للكافر؛ بل المشبَّه بذلك صُدُورُ هذا العمل الَّذي لولا كونه مقروناً بالنِّيَّة الفاسدة ، لكان موجباً لحصول الأَجر والثواب؛ لأَنَّ التُّراب إذا وقع على الصَّفوان ، لم يكن ملتصقاً به ، ولا غائصاً فيه أَلْبَتَّة ، بل يكون لك الاتِّصال كالانفِصال ، فهو في مرأَى العين متَّصلٌ ، وفي الحقيقة منفصلٌ ، فكذا الإِنفاقُ المقرون بالمَنّ والأَذى ، يُرَى في الظَّاهر أَنَّه عَمَلٌ مِنْ أَعمال البِرّ ، وفي الحقيقة ليس كذلك ، فظهر أَنَّ استدلالهم بهذه ضعف .
فصلٌ
قال ابن عبَّاس قوله : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن } على الله بسب صدقتِكُم ، وبالأذى لذلك السَّائل .
وقال الباقون : بالمَنّ على الفقير وبالأذى للفقير { كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس } ؛ لأنَّ المُنافق ، والمُرائي يأتيان بالصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - ومن يَقْرُنُ الصَّدقة بالمنّ والأَذى ، فقد أتى بتلك الصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - أيضاً ، إذ لو كان غرضه من تلك الصَّدقة طلب مرضاة الله تعالى لما مَنَّ على الفقير ، ولا آذاه ، فثبت اشتراكُ الصُّورتين في كون الصَّدقة لم يأت بها لوجه اللهِ - تعالى - وتقدَّم الكلامُ على الإِلقاء .

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

عاشرها : أَنَّ إِيمان ساعةٍ يهدم كُفْر سبعين سنة فالإيمان سبعين سنةً كيف يهدمُ بفسق ساعةٍ ، وهذا مِمَّا لا يقبلُهُ العقلُ ، والله أعلمُ .
قوله { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } يحتمل أمرين :
أحدهما : لا تأْتُوا به باطِلاً ، وذلك أَنْ يَنْوي بالصَّدقة الرِّياء والسُّمعة .
[ قال القرطبيُّ : إِنَّ اللهَ تعالى عبَّر عن عدم القبول ، وحرمان الثوب ] بالإبطال ، والمراد الصَّدقة الَّتي يمُنُّ بها ، ويُؤذي لا غيرها ، فالمَنُّ والأَذى في صدقة؛ لا يُبطلُ صدقةً غيرها .
قال جمهور العلماء في هذه الآية : إنَّ الصَّدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ ، أو يُؤذي بها ، فإِنَّها لا تقبل .
وقيل : إِنَّ اللهَ جعل للملك عليها أمارة ، فهو لا يكتبها .
قال القرطبيُّ : وهذا حسنٌ .
والثاني : أن يأتوا بها على وجهٍ يوجب الثَّواب ، ثُمَّ يتبعوها بالمَنِّ والأذى ، فيزيلوا ثوابها ، وضرب لذلك مثلين :
أحدهما : يطابقُ الأَوَّل وهو قوله : { كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله } ، إِذْ من المعلوم [ أَنَّ المراد من كونه عمل ] هذا باطلاً أَنَّه دخل في الوجود باطلاً ، لا أَنَّهُ دخل صحيحاً ، ثم يزول؛ لأَنَّ الكُفر مقارنٌ له فيمتنع دخوله صحيحاً في الوجود .
والمثال الثاني : وهو الصَّفوان الَّذي وقع عليه تراب ، ثمَّ أصابهُ وابلٌ فهذا يشهدُ لتأَويل المعتزلة؛ لأنَّه جعل الوابلَ مُزِيلاً لذلك التُّراب بعد وقُوع التُّراب على الصَّفوان ، فكذا ها هنا : يجب أن يكون المنُّ والأَذى مزيلين للأجر والثَّواب بعد حصول استحقاق الأَجر .
ويمكن أَنْ يجاب عنه : بأَنَّا نُسلِّم أَنَّ المشبه بوقوع التُّراب على الصَّفوان حُصُولُ الأَجر للكافر؛ بل المشبَّه بذلك صُدُورُ هذا العمل الَّذي لولا كونه مقروناً بالنِّيَّة الفاسدة ، لكان موجباً لحصول الأَجر والثواب؛ لأَنَّ التُّراب إذا وقع على الصَّفوان ، لم يكن ملتصقاً به ، ولا غائصاً فيه أَلْبَتَّة ، بل يكون لك الاتِّصال كالانفِصال ، فهو في مرأَى العين متَّصلٌ ، وفي الحقيقة منفصلٌ ، فكذا الإِنفاقُ المقرون بالمَنّ والأَذى ، يُرَى في الظَّاهر أَنَّه عَمَلٌ مِنْ أَعمال البِرّ ، وفي الحقيقة ليس كذلك ، فظهر أَنَّ استدلالهم بهذه ضعف .
فصلٌ
قال ابن عبَّاس قوله : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن } على الله بسب صدقتِكُم ، وبالأذى لذلك السَّائل .
وقال الباقون : بالمَنّ على الفقير وبالأذى للفقير { كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس } ؛ لأنَّ المُنافق ، والمُرائي يأتيان بالصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - ومن يَقْرُنُ الصَّدقة بالمنّ والأَذى ، فقد أتى بتلك الصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - أيضاً ، إذ لو كان غرضه من تلك الصَّدقة طلب مرضاة الله تعالى لما مَنَّ على الفقير ، ولا آذاه ، فثبت اشتراكُ الصُّورتين في كون الصَّدقة لم يأت بها لوجه اللهِ - تعالى - وتقدَّم الكلامُ على الإِلقاء .

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

هذا مثالٌ آخر ذكره اللهُ تعالى في حقِّ من يُتبعُ إنفاقه بالمَنِّ والأَذَى ، « الودُّ » : هو المحبةُ الكامِلةُ ، والهمزةُ في « أَيَودُّ » للاستفهام ، وهو بمعنى الإِنكارِ ، وإنما قال : « أَيَوَدُّ » ، ولم يقل أَيُرِيد؛ لأنا ذكرنا أن المودة هي المحبةُ التامةُ ، ومعلومٌ أن محبةَ كُلِّ أحدٍ لعدم هذه الحالة محبةً كاملة ، فلهذا ذكر هذا اللفظ في جانب الثبوت؛ تنبيهاً على الإِنكار التَّام ، والنفرةِ البالغةِ إلى الحد الذي لا مزيد فوقه .
قوله تعالى : { مِّن نَّخِيلٍ } في محلِّ رفعٍ؛ صفةً لجنة ، أي : كائنة من نخيل . و « نَخِيلٍ » فيه قولان :
أحدهما : أنه اسم جمع .
والثاني : أنه جمع « نَخْل » الذي هو اسم الجنسِ ، ونحوه : كلب وكَلِيب ، قال الراغب : « سُمِّي بذلك؛ لأنه منخولُ الأشجارِ ، وصَفِيُّها؛ لأنه أكرمُ ما يَنْبُتُ » وذكر له منافع وشبهاً من الآدميين .
والأعنابُ : جمع عِنَبَة ، ويقال : « عِنَباء » مثل « سِيرَاء » بالمدِّ ، فلا ينصرفُ . وحيثُ جاء في القرآن ذكرُ هذين ، فإنما يَنصُّ على النخلِ دون ثمرتها ، وعلى ثمرةِ الكَرْم دون الكَرْم؛ لأنَّ النخلَ كلَّه منافعُ ، وأعظمُ منافِع الكَرْم ثَمرَتهُ دونَ باقيه .
قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا } هذه الجملة في محلِّها وجهان :
أحدهما : أنَّها في محلِّ رفعٍ؛ صفةً لجنة .
والثاني : أنها في محلِّ نصب ، وفيه أيضاً وجهان ، فقيل : على الحال من « جنَّة » ؛ لأنها قد وُصِفَتْ . وقيل : على أنها خبرُ [ تكون ] نقله مكيّ .
قوله : { لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات } جملة من مبتدإٍ ، وخبرٍ ، فالخبر قوله : « لَهُ » و « مِنْ » كُلِّ الثَّمَراتِ « هو المبتدأُ ، وذلك لا يستقيمُ على الظاهر ، إذ المبتدأُ لا يكونُ جارّاً ومجروراً؛ فلا بُدَّ من تأويله . واختلف في ذلك :
فقيل : المبتدأ في الحقيقة محذوفٌ ، وهذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌ قائمةٌ مقامه ، تقديره : » له فيها رِزقٌ من كلِّ الثمراتِ ، أو فاكهةٌ مِنْ كلِّ الثمرات « فحُذف الموصوفُ ، وبقيت صفتُه؛ ومثله قول النَّابغة : [ الوافر ]
1225- كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ
أي : جملٌ من جمالِ بني أُقَيْشٍ ، وقوله تعالى : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] أي : وما مِنَّا أحدٌ إِلاَّ له مقامٌ .
وقيل : » مِنْ « زائدةٌ تقديره : له فيها كلُّ الثمرات ، وذلك عند الأخفش؛ لأنه لا يَشْتَرِطُ في زيادتها شيئاً .
وأمَّا الكُوفيُّون : فيشترطون التنكير ، والبصريون يَشْتَرطونه وعدم الإِيجاب ، وإذا قُلنا بالزيادة ، فالمرادُ بقوله : » كُلِّ الثَّمَرَاتِ « التكثيرُ لا العموم ، لأنَّ العُمومَ مُتعذِّرٌ .
قال أبو البقاء : ولا يجوزُ أَنْ تكونَ » مِنْ « زائدةً ، لا على قولِ سيبويه ولا قولِ الأخفشِ؛ لأنَّ المعنى يصيرُ : له فيها كُل الثمراتِ ، وليسَ الأمرُ على هذا ، إلاَّ أَنْ يُرادَ به هنا الكثرة لا الاستيعاب ، فيجوزُ عند الأخفش؛ لأنه يُجَوِّزُ زيادةَ » مِنْ « في الواجب .

فإن قيل : كيف عطف « وأَصَابَهُ » على « أيودُّ » ؟ وكيف يجوزُ عطفُ الماضي على المستقبل؟
فالجواب : من وجوه :
أحدها : أَنَّ الواو للحالِ ، والجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ عليها ، و « قد » مقدَّرةٌ أي : وقد أصابه ، وصاحبُ الحال هو « أَحَدُكُمْ » ، والعاملُ فيها « يَودُّ » ، ونظيرُها : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، وقوله تعالى : { وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا } [ آل عمران : 168 ] أي : وقد كُنتم ، وقد قَعَدوا .
والثاني : أَن يكون قد وضع الماضي موضع المضارع ، والتقديرُ « ويُصيبَه الكِبَر » كقوله تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ } [ هود : 98 ] أي : يوردهُم . قال الفراء : يجوزُ ذلك في « يَوَدُّ » ؛ لأنه يُتَلَقَّى مرةً ب « أَنْ » ومرةً ب « لو » فجاز أن يُقَدَّر أحدُهما مكان الآخر .
الثالث : أنه حُمِل في العطفِ على المعنى؛ لأنَّ المعنى : أَيَودُّ أحدُكم أَنْ لو كانَتْ ، فأصابه الكِبَرُ ، وهذا الوجهُ فيه تأويلُ المضارع بالماضي؛ ليصِحَّ عطفُ الماضي عليه ، عكسُ الوجه الذي قبله ، فإنَّ فيه تأويلَ الماضي بالمضارع . واستضعف أبو البقاء هذا الوجه؛ بأنه يُؤدّي إلى تغيير اللفظ مع صحّة المعنى .
والزمخشريُّ نَحَا إلى هذا الوجه - أيضاً - فإنه قال « وقيل : يُقالُ : وَدِدْتُ لو كان كذا؛ فحُمِل العطفُ على المعنى ، كأنه قيل : أَيَودُّ أحدُكم لو كانت له جَنَّةٌ ، وأصابَه الكِبَرُ » .
قال أبو حيان : « وظاهرُ كلامه أَنْ يكونَ » أَصَابَهُ « معطوفاً على متعلِّق » أَيَودُّ « وهو » أَنْ تَكُونَ « ؛ لأنه في معنى » لَوْ كانَتْ « ، إذ يقال : أيودُّ أحدكم لو كانت ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه يمتنع من حيثُ المعنى أَنْ يكونَ معطوفاً على » كانت « التي قبلها » لو « ؛ لأنه متعلَّق الوُدِّ ، وأمَّا » أَصابَه الكِبَرُ « فلا يمكنُ أن يكون متعلَّق الودِّ؛ لأنَّ » أصَابه الكِبَرُ « لا يودُّه أَحَدٌ ولا يتمنَّاه ، لكن يُحْمل قول الزمخشريُّ على أنه لمّا كان » أَيَوَدُّ « استفهاماً معناه الإِنكارُ جُعِلَ متعلَّقُ الودادةِ الجمع بين الشيئين ، وهما : كونُ جنةٍ له ، وإصابةُ الكِبَر إياه ، لا أنَّ كلَّ واحد منهما يكونُ مَوْدُوداً على انفراده ، وإنما أَنكروا ودادة الجمع بينهما » .
قوله تعالى : { وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ } هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ في « وأَصابَه » ، وقد تقدَّم اشتقاقُ الذريَّة . وقُرئ « ضِعافٌ » ، وضُعفاءُ ، وضعاف ، منقاسان في ضعيف ، نحو : ظريف ، وظُرَفَاء ، وظِراف ، وشَريف ، وشُرَفاء وشِراف .
قوله : { فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ } هذه الجملة عطفٌ على صفةِ الجنة قبلها ، قاله أبو البقاء . يعني على قوله تعالى : { مِّن نَّخِيلٍ } وما بعده .

وأتى في هذه الآياتِ كلِّها بلفظ الإِصابة نحو فأصابه وَابِلٌ ، وأَصابَه الكِبَر ، فأصابها إعصارٌ؛ لأنه أبلغُ ، وأَدَلُّ على التأثير بوقوعِ الفعلِ على ذلك الشيء ، من أنه لم يُذكر بلفظ الإِصابة ، حتى لو قيل : « وَبَل » ، و « كَبِر » ، و « أَعْصَرَتْ » لم يكن فيه ما في لفظِ الإِصابة من المبالغةِ .
والإِعصارُ : الريحُ الشديدةُ المُرتفعةُ ، وتُسَمِّيها العامَّةُ : الزَّوبعة . وقيل : هي الريحُ السَّموم ، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تَلُفُّ كما يُلَفُّ الثوبُ المعصورُ ، حكاه المهدوي . وقيل : لأَنها تَعْصِر السَّحابَ ، وتُجمع على أَعَاصير ، قال : [ البسيط ]
1226أ- وَبَيْنَما المَرْءُ فِي الأَحْيَاءِ مُغْتَبِطٌ ... إِذْ هُوَ فِي الرَّمْسِ تَعْفُوهُ الأَعَاصِيرُ
والإعصارُ من بين سائر أسماءِ الريحِ ، مذكرٌ ، ولهذا رجع إليه الضمير مذكَّراً في قوله : « فيه نارٌ » .
و « نَارٌ » يجوز فيه الوجهان : أعني الفاعلية ، والجارُّ قبلها صفةٌ ل « إِعْصار » والابتدائية ، والجارُّ قبلها خبرها ، والجملة صفةُ « إِعْصارٌ » ، والأول أَولى؛ لما تقدَّم من أنَّ الوصف بالمفرد أَولى ، والجارُّ أقربُ إليه من الجملة .
قوله : { فاحترقت } أي : أحرقها ، فاحترَقَتْ ، فهو مطاوعٌ لأَحْرق الرباعي ، وأمَّا « حَرَقَ » من قولهم : « حَرَقَ نابُ الرجُلِ » إذا اشتدَّ غيظهُ ، فيُستعمل لازِماً ، ومتعدِّياً ، قال : [ الطويل ]
1226ب- أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نَابُهُ ... عَلَيْه فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ مَعَاقِلُهْ
رُوي برفع « نَابهُ » ونصبه ، وقوله { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات } إلى آخره قد تقدَّم نظيرُه .
فصل
قال عبيد بن عمير : قال عمر - رضي الله عنه - لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن ترون هذه الآية نزلت { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } ؟ قالوا : الله أعلم ، فغضب عمر - رضي الله عنه - فقال : قولوا : نعلم ، أو لا نعلم ، فقال ابن عباس - رضي الله عنه - : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، فقال عمر - رضي الله عنه - يا ابن أخي ، قل ولا تحقر نفسك ، فقال ابن عباس - رضي الله عنه - : ضُرِبَت مثلاً لعمل فقال عمر : أيُّ عملٍ؟ فقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لعمل منافقٍ ، ومراءٍ ، قال عمر - رضي الله عنه - : لأي رجل؟ قال لرجل غني يعمل بطاعة الله ، بعث الله له الشيطان؛ فعمل بالمعاصي؛ حتى أحرق أعماله .
وقال المفسّرون : هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لعمل المنافق ، والمرائي ، يقول : عمله في حسنه كحسن الجنَّة ، كما ينتفع صاحب الجنَّة بالجنة .
{ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } وإنما خصهما بالذكر؛ لأنهما أشرف الفواكه وأحسنها منظراً حيث تكون باقيةً على الأشجار ، ووصف تلك الجنَّة بأن الأنهار تجري من تحتها ، وذلك زيادةٌ في الحسن ، وأنَّ فيها من كلِّ الثمرات ، وهذا سبب لكمال حال هذه الجنَّة من الرؤية ، والمنظر ، وكثرة النَّفع ، والرَّيع ، ولا يمكن الزيادة على ذلك ، فإذا كبر أو ضعف وصار له أولادٌ ضعافٌ ، أي : بسبب الصِّغر ، والطفوليَّة ، فإنه إذا صار كبيراً؛ عجز عن الاكتساب ، وكثرت جهات حاجاته في مطعمه ، وملبسه ، ومسكنه ، ومن يقوم بخدمته ، وتحصيل مصالحه ، فإذا تزايدت حاجاته ، وتناقصت جهات مكسبه ، أصاب جنَّته إعصار فيه نارٌ فاحترقت ، وهو أحوج ما يكون إليها ، وضعف عن إصلاحها؛ لكبره ، وضعف أولاده عن إصلاحها؛ لصغرهم ، فلم يجد هو ما يعود به على أولاده ، ولا أولاده ما يعودون به عليه ، فبقوا جميعاً متحيرين عجزةً لا حيلة بأيديهم ، كذلك يبطل الله عمل هذا المنافق ، والمرائي حيث لا مغيث لهما ، ولا توبة ، ولا إقالة ، ونظير هذه الآية الكريمة { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } [ الزمر : 47 ] وقوله تعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

اعلم أنه تعالى لما ذكر الانفاق على قسمين ، وبين كل قسم وضرب له مثلاً ، ذكر في هذه الآية كيفية الإِنفاق .
قوله تعالى : { أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } : في مفعول « أَنْفِقُوا » قولان :
أحدهما : أنه المجرور ب « مِنْ » ، و « مِنْ » للتبعيض ، أي : أنفقوا بعض ما رزقناكم .
والثاني : أنه محذوفٌ قامت صفته مقامه ، أي : شيئاً ممَّا رزقناكم ، وتقدَّم له نظائر .
و « ما » يجوز أن تكون موصولةً اسمية ، والعائد محذوفٌ؛ لاستكمال الشروط ، أي : كسبتموه ، وأن تكون مصدريةً أي : من طيِّبات كسبكم ، وحينئذٍ لا بدَّ من تأويل هذا المصدر باسم المفعول ، أي : مكسوبكم ، ولهذا كان الوجه الأول أولى .
و { وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا } عطفٌ على المجرور ب « مِنْ » بإعادة الجار ، لأحد معنيين : إمَّا التأكيد ، وإمَّا للدلالة على عاملٍ آخر مقدرٍ ، أي : وأنفقوا ممَّا أخرجنا . ولا بدَّ من حذف مضافٍ ، أي : ومن طيبات ما أخرجنا . و « لكم » متعلِّقٌ ب « أخرجنا » ، واللام للتعليل . و « مِنَ الأرض » متعلِّقٌ ب « أخرجنا » ، و « مِنْ » لابتداء الغاية .
قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } الجمهور على « تَيَمَّموا » ، والأصل : تتيمموا بتاءين ، فحذفت إحداهما تخفيفاً : إمَّا الأولى ، وإمَّا الثانية ، وقد تقدّم تحريره عند قوله : { تَظَاهَرُونَ } [ البقرة : 85 ] .
وقرأ البزِّيُّ هنا وفي مواضع أُخر بتشديد التاء ، على أنه أدغم التاء الأولى في الثانية ، وجاز ذلك هنا وفي نظائره؛ لأنَّ الساكن الأول حرف لين ، وهذا بخلاف قراءته { نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } [ النور : 15 ] فإنه فيه جمع بين ساكنين ، والأول حرفٌ صحيحٌ ، وفيه كلامٌ لأهل العربية ، يأتي ذكره إن شاء الله تعالى .
قال أبو علي : هذا الإدغام غير جائزٍ؛ لأنَّ المدغم يسكَّن ، وإذا سكِّن ، وجب أن تجلب همزة الوصل عند الابتداء به كما جلبت في أمثلة الماضي ، نحو { فادارأتم } [ البقرة : 72 ] و { ارتبتم } [ المائدة : 106 ] و { اطيرنا } [ النمل : 47 ] .
لكن أجمعوا على أنَّ همزة الوصل لا تدخل على المضارع .
وقرأ ابن عباس ، والزُّهريُّ « تُيَمِّمُوا » بضم التاء ، وكسر الميم الأولى ، وماضيه : يمَّم ، فوزن « تُيَمَّمُوا » على هذه القراءة : تفعِّلوا من غير حذفٍ ، وروي عن عبدالله « تُؤَمِّموا » من أمَّمت ، أي : قصدت .
والتيمم : القصد ، يقال : أمَّ ك « رَدَّ » ، وأمَّم ك « أخَّر » ، ويمَّم ، وتيمَّم بالتاء ، والياء معاً ، وتأمَّم بالتاء والهمزة . وكلُّها بمعنى قصد . وفرَّق الخليل - رحمه الله - بينها بفروقٍ لطيفةٍ ، فقال : « امَّمْتُه أي قصدت أمامه ، ويمَّمْتُه : قصدته من أيِّ جهةٍ كان » .
والخبيث والطيب : صفتان غالبتان ، لا يذكر موصوفهما؛ قال تعالى : { والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ } [ النور : 26 ] ، { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث } [ الأعراف : 157 ] ، قال صلى الله عليه وسلم :

« مِنَ الخُبْثِ ، والخَبائث » .
قوله : { مِنْهُ تُنْفِقُونَ } « منه » متعلِّقٌ بتنفقون ، وتنفقون فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل في « تَيَمَّموا » أي : لا تقصدوا الخبيث منفقين منه ، قالوا : وهي حالٌ مقدَّرة ، لأن الإنفاق منه يعق بعد القصد إليه ، قاله أبو البقاء وغيره .
والثاني : أنها حالٌ من الخبيث؛ لأن في الجملة ضميراً يعود إليه ، أي : لا تقصدوا منفقاً منه .
والثالث : أنه مستأنف منه ابتداء إخبار بذلك ، وتمَّ الكلام عند قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } ثم ابتدأ خبراً آخر ، فقال : تنفقون منه ، وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم ، كأن هذا عتابٌ للناس ، وتقريعٌ .
والتقدير : تنفقون مع أنكم لستم بآخذيه إلا مع الإغماض ، فهو استفهامٌ على سبيل الإنكار . قال شهاب الدِّين : وهذا يردُّه المعنى .
فصل في بيان المراد من النفقة
اختلفوا في المراد بهذه النفقة : فقال الحسن : المراد بها الزكاة المفروضة؛ لأن هذا أمرٌ ، والأمر للواجب .
وقال قومٌ : صدقة التطوع؛ لما روي عن علي ، والحسن ، ومجاهد : أنهم قالوا : كانوا يتصدَّقون بشرار ثمارهم ، ورديء أموالهم؛ فنزلت هذه الآية .
« وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال جاء رجلٌ ذات يوم بعذق خشف فوضعه في الصَّدقة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » بِئْسَ مَا صَنَعَ صاحبُ هذا « فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال آخرون : المراد الفرض ، والنفل؛ لأن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على جانب الترك من غير أن يكون فيه بيان أنه يجوز الترك أو لا يجوز وهذا المفهوم قدرٌ مشتركٌ بين الفرض والنَّفل؛ فوجب أن يدخلا فيه ، فعلى القول بأنَّه الزكاة فنقول : ظاهر الآية يدلُّ على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان ، من الذَّهب ، والفضَّة ، والتجارة ، وزكاة الإبل ، والغنم ، والبقر؛ لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسبٌ .
قال القرطبيُّ : والكسب يكون بتعب بدنٍ ، وهي الإجارة ، أو مقاولة في تجارةٍ ، وهو البيع ، والميراث داخلٌ في هذا؛ لأن غير الوارث قد كسبه .
وقال ابن خويزمنداد : ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : » أَوْلاَدُكُمْ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِ أَوْلاَدِكُمْ هَنِيئاً « .
قوله : { وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض } يدلُّ على وجوب الزَّكاة في كل ما تنبته الأرض ، على ما هو قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وخصَّ مخالفوه هذا العموم بقوله - صلى الله عليه وسلم - : » لَيْسَ في الخُضْرَوَاتِ صَدَقَةٌ « وأستدل أبو حنيفة - رحمه الله - أيضاً بهذه الآية الكريمة على وجوب إخراج الزكاة من كلِّ ما أنبتته الأرض ، قليلاً كان ، أو كثيراً؛ لظاهر الآية وخصَّ مخالفوه هذا العموم بقوله - صلى الله عليه وسلم - :

« لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَة أَوْسُق صَدَقَةٌ » .
أما المعدن والرِّكازُ فقال - صلى الله عليه وسلم - : « العَجْمَاءُ جَرْحُها جُبَارٌ ، والبِئْرُ جُبَارٌ ، والمعْدنُ جُبَارٌ ، وفي الرِّكاز الخمسُ » الجبار : الهدر الذي لا شيء فيه ، والعجماء : الدَّابَّة ، والرِّكاز : هو ما دفنه أهل الجاهلية وعليه علامتهم .
فصل
اختلفوا في الطِّيب : فقيل : هو الجيد ، فعلى هذا يكون الخبيث هو الرديء . وقال ابن مسعودٍ ، ومجاهدٌ ، والسدّي : الطيب هو الحلال ، وعلى هذا ، فالخبيث هو الحرام .
حجة الأول ما ذكرنا في سبب النزول ، ولأن المحرم لا يجوز أخذه؛ لا بإغماضٍ ولا غيره ، والآية تدلُّ على جواز أخذه بالإغماض .
قال القفَّال - رحمه الله - : ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الإغماض : المسامحة ، وترك الاستقصاء ، فيكون المعنى : ولستم بآخذيه ، وأنتم تعلمون أنه محرَّم؛ إلاَّ أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام ، ولا تبالون من أيِّ وجهٍ أخذتم المال أمن حلالٍ ، أم حرام .
واحتجُّوا - أيضاً - بقوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] وذلك يؤكد أنَّ المراد بالطيب هو النَّفيس الذي يستطاب تملكه ، لا الخسيس الذي يرفضه كل أحد واحتجَّ القاضي للقول الثاني : بأنَّا أجمعنا على أن الطِّيب في هذه الآية؛ إمَّا الجيد؛ وإما الحلال ، فإذا بطل الأول ، تعيَّن الثاني .
وإنما قلنا : بطل الأول؛ لأن المراد لو كان هو الجيد ، لكان ذلك أمراً بإنفاق مطلق الجيِّد سواءٌ كان حلالاً أو حراماً ، وذلك غير جائزٍ ، والتزام التخصيص خلاف الأصل؛ فتعين الحلال .
قال ابن الخطيب : ويمكن أن يذكر فيه قولٌ ثالثٌ ، وهو : أن المراد من « الطِّيِّب » - هاهنا - ما يكون طيِّباً من كلِّ الوجوه ، فيكون طيّباً بمعنى : الحلال ، ويكون طيِّباً بمعنى : الجودة ، وليس لقائلٍ أن يقول إنَّ حمل اللفظ المشترك على مفهوميه ، لا يجوز؛ لأنا نقول : الحلال إنما يسمى طيِّباً؛ لأنه يستطيبه العقل ، والدِّين ، والجيد : إنما يسمَّى طيباً؛ لأنه يستطيبه الميل ، والشهوة . فمعنى الاستطابة مفهومٌ واحدٌ مشترك بين القسمين ، فكان اللفظ محمولاً عليه . إذا ثبت أنَّ المراد منه الجيد الحلال؛ فنقول : الأموال الزكاتيَّة إما أن تكون كلُّها شريفةً ، أو كلها خسيسةٌ ، أو تكون متوسطة أو مختلطة ، فإن كان الكل شريفاً ، كان المأخوذ بحساب الزكاة كذلك ، وإن كان الكل خسيساً ، كانت الزكاة كذلك ، أيضاً ، ولا يكون ذلك خلافاً للآية؛ لأن المأخوذ في هذه الحالة لا يكون خسيساً من ذلك المال بل إذا كان في المال جيد ورديء ، فحينئذٍ يقال للإنسان : لا تجعل الزكاة من رديء مالك ، وأمَّا إن كان المال مختلطاً ، فالواجب هو الوسط ، « قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ حين بعثه إلى اليمن : » إِيَّاكَ وكَرَائِمَ أَمْوَالهمْ « وأما إن قلنا : المراد صدقة التطوع أو كلاهما ، فنقول : إنَّ الله تعالى ندبهم إلى التقرُّب إليه بأفضل ما يملكونه ، كمن يتقرب إلى السُّلطان بتحفة ، وهدية ، فلا بدّ وأن تكون تلك التحفة أفضل ما في ملكه ، فكذا - هاهنا - .

قوله : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } هذه الجملة فيها قولان :
أحدهما : أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب ، وإليه ذهب أبو البقاء .
والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ، ويظهر هذا ظهوراً قوياً عند من يرى أن الكلام قد تمَّ عند قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } وما بعده استئنافٌ ، كما تقدَّم .
والهاء في { بِآخِذِيهِ } تعود على « الخَبِيث » وفيها ، وفي نحوها من الضمائر المتصل باسم الفاعل؛ قولان مشهوران :
أحدهما : أنها في محلِّ جر ، وإن كان محلُّها منصوباً؛ لأنها مفعولٌ في المعنى .
والثاني : - وهو رأي الأخفش - أنها في محلِّ نصبٍ ، وإنما حذف التنوين ، والنون في نحو : « ضَارِبُنْكَ » بثبوت التنوين ، وقد يستدلُّ لمذهبه بقوله : [ الطويل ]
1227- هُمُ الفَاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ ..
وقوله الآخر : [ الطويل ]
1228- وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ .. .
فقد جمع بين النون النائبة عن التنوين ، وبين الضمير .
قوله : { إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ } الأصل : إلاَّ بأن ، فحذف حرف الجرِّ مع « أنْ » فيجيء فيها القولان : أهي في محلِّ جرٍّ ، أم نصب؟ وهذه الباء تتعلَّق بقوله : { بِآخذيه } . وأجاز أبو البقاء - رحمه الله - أن تكون « أنْ » وما في حيِّزها في محلِّ نصب على الحال ، والعامل فيها « آخِذيه » . والمعنى : لَسْتُم بآخذِيه في حالٍ من الأحوال إلا في حال الإغماض ، وقد تقدَّم أنَّ سيبويه - رحمه الله - لا يجيز أن تقع « أَنْ » ، وما في حيِّزها موقع الحال . وقال الفراء : المعنى على الشرط والجزاء؛ لأنَّ معناه : إن أغمضتم أخذتم ، ولكن لمَّا وقعت « إلاَّ » على « أَنْ » ، فتحها ، ومثله ، { إِلاَّ أَن يَخَافَآ } [ البقرة : 229 ] { إَلاَّ أَن يَعْفُونَ } [ البقرة : 237 ] . وهذا قول مردودٌ .
والجمهور على : « تُغْمِضُوا » بضمِّ التاء ، وكسر الميم مخففةً؛ من « أَغْمَض » ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه على حذف مفعوله ، تقديره : تغمضوا أبصاركم ، أو بصائركم .
والثاني : في معنى ما لا يتعدَّى ، والمعنى إلاَّ أن تغضوا ، من قولهم : « أَغْضَى عنه » .
وقرأ الزهريُّ : « تُغَمِّضُوا » بضم التاء ، وفتح الغين ، وكسر الميم مشددةً؛ ومعناها كالأولى . وروي عنه أيضاً : « تَغْمَضُوا » بفتح التاء ، وسكون الغين ، وفتح الميم؛ مضارع « غَمِضَ » بكسر الميم ، وهي لغةٌ في « أَغْمض » الرباعي ، فيكون ممَّا اتفق فيه فعل وأفعل .
وروي عن اليزيديّ : « تَغْمُضُوا » بفتح التاء ، وسكون الغين ، وضمِّ الميم .
قال أبو البقاء - رحمه الله - : « وهو مِنْ : يَغْمُضُ ، كظرفُ يظرُفُ ، أي : خَفِيَ عليكم رأيُكم فيه » .
وروي عن الحسن : « تُغَمَّضُوا » بضمِّ التاء ، وفتح الغين ، وفتح الميم مشددةً على ما لم يسمَّ فاعله .

وقتادة كذلك ، إلا أنه خفَّف الميم ، والمعنى : إلاَّ أن تحملوا على التغافل عنه ، والمسامحة فيه . وقال أبو البقاء - رحمه الله - في قراءة قتادة : « ويجوزُ أن يكون مِنْ أغْمَضَ ، أي : صودف على تلك الحال؛ كقولك : أَحْمَدْتُ الرجُلَ ، أي : وجدته مَحْمُوداً » وبه قال أبو الفتح .
وقيل فيها أيضاً : إنَّ معناها إلاَّ أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه .
والإغماض : في اللغة غضُّ البصر ، وإطباق الجفن ، وأصله من الغموض ، وهو الخفاء ، يقال : هذا كلامٌ غامضٌ أي خفي الإدراك .
قال القرطبيُّ : من قول العرب : أغمض الرجل؛ إذا أتى غامضاً من الأمر؛ كما تقول : أعمن الرجل : إذا أتى عمان ، وأعرق : إذا أتى العراق ، وأنجد : إذا أتى نجداً ، وأغار : إذا أتى الغور الذي هو تهامة .
أو من أغمض الرجل في أمر كذا : إذا تساهل فيه ، والغمض : المتطامن الخفيُّ من الأرض ، فقيل المراد به في الآية المساهلة؛ لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه؛ لئلا يرى ذلك ، ثم كثر ذلك؛ حتى جُعِل كل تجاوزٍ ، ومساهلةٍ في البيع ، وغيره إغماضاً ، فتقديره في الآية : لو أُهْدِي إليكم مثل هذه الأشياء ، لما أخذتموها إلاَّ على استحياءٍ ، وإغماضٍ ، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟! قاله البراء .
وقيل معناه : لو كان لأحدكم على رجل حقٌّ ، فجاءه بهذا لم يأخذه إلاَّ وهو يرى أنه قد أغمض له عن حقِّه ، وتركه .
وقال الحسن ، وقتادة : لو وجدتموه يباع في السوق ، ما أخذتموه بسعر الجيد؛ إلاَّ إذا أغمضتم بصر البائع ، يعني أمرتموه بالإغماض ، والحطِّ من الثمن .
ثم قال : { واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } والمعنى أنَّه غنيٌّ عن صدقاتكم ، و « الحميد » أي : محمودٌ على ما أنعم بالبيان .
وقيل : قوله : « غَنِيٌّ » كالتَّهديد على إعطاء الرديء في الصدقات ، و « حَمِيدٌ » : بمعنى حامدٍ ، أي : أنا أحمدكم على ما تفعلونه من الخيرات ، وهو كقوله تعالى : { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [ الإسراء : 19 ] .

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)

قوله تعالى : { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء . . . } الآية : مبتدأٌ وخبرٌ ، وتقدَّم اشتقاق الشيطان ، وما فيه عند الاستعاذة . ووزن يعدكم : يعلكم بحذف الفاء ، وهي الواو؛ لوقوعها بين ياءٍ ، وكسرةٍ ، وقرأ الجمهور : « الفَقْر » بفتح الفاء ، وسكون القاف ، وروى أبو حيوة ، عن بعضهم : « الفُقْر » بضم الفاء وهي لغةٌ ، وقرئ « الفَقَر » بفتحتين .
والوعد : يستعمل في الخير ، والشَّرِّ؛ قال تعالى في الخبر : { وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً } [ الفتح : 20 ] وقال في الشَّرِّ : { النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ } [ الحج : 72 ] ويمكن أن يحمل هذا على التهكم به كقوله تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] فإذا لم يذكر الخير والشر ، قلت في الخير : وعدته ، وفي الشر أوعدته؛ قال : [ الطويل ]
1229- وَإِنِّيَ إِنْ أَوْعَدتُهُ أَوْ وَعَدتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
والفَقْر والفُقْر لغتان؛ وهو الضعيف بسبب قلَّة المال ، وأصله في اللغة : كسر الفقار ، يقال : رجلٌ فقيرٌ وفَقِرٌ ، إذا كان مكسور الفقار؛ قال طرفة : [ الرمل ]
1230- . ... إِنَّنِي لَسْتُ بِمَوْهُونٍ فَقِرْ
وسيأتي له مزيد بيان في قوله : « لِلْفُقَراءِ » .
فصل في المراد من الآية
معنى الآية الكريمة أن الشيطان يخوّفكم الفقر ، ويقول للرجل : أمسك عليك مالك؛ فإنك إذا تصدقت به افتقرت .
وهذه أوجه اتصال هذه الآية بما قبلها .
قيل المراد ب « الشيطان » : إبليس ، وقيل : شياطين الجن ، والإنس .
وقيل : النَّفس الأمَّارة بالسُّوء .
{ وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء } أي : بالبخل ، ومنع الزكاة .
قال الكلبي : كلُّ فحشاء في القرآن فهو الزنا إلاَّ هذا ، والفاحش عند العرب : البخيل ، قال طرفة : [ الطويل ]
1231- أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الفَاحِشِ المُتَشَددِ
« يعتامُ » : منقولٌ من عام فلانٌ إلى اللبن ، إذا اشتهاه ، وقد نبَّه الله تعالى في هذه الآية الكريمة على لطيفةٍ ، وهي أنَّ الشيطان يخوفه أولاً بالفقر ، ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء ، ويغريه على البخل؛ وذلك لأن البخل صفةٌ مذمومةٌ عند كل أحد فالشيطان لا يمكنه تحسين البخل في عينه إلاَّ بتقديم تلك المقدمة ، وهي التخويف من الفقر ، وقيل « الفَحْشَاءُ » : هو أن يقول : لا تنفق الجيد من مالك في طاعة الله تعالى؛ لئلا تصير فقيراً؛ فإذا أطاع الرجل الشيطان في ذلك ، زاد الشيطان فيمنعه من الإنفاق بالكلية؛ حتى لا يعطي الجيد ، ولا الرديء ، وحتى يمنع الحقوق الواجبة ، فلا يؤدِّي الزكاة ، ولا يصل الرحم ، ولا يردُّ الوديعة ، فإذا صار هكذا ، سقط وقع الذنوب عن قلبه ، ويصير غير مبالٍ بارتكابها ، وهناك يتَّسع الخرق ، ويصير مقداماً على كلِّ الذنوب ، وذلك هو الفحشاء ، وتحقيقه : أنَّ لكل خلقٍ طرفين ، ووسطاً ، فالطرف الكامل : هو أن يكون بحيث يبذل كلَّ ما يملكه في سبيل الله : الجيِّد ، والرديء ، والطرف الفاحش النَّاقص لا ينفق شيئاً في سبيل الله : لا الجيد ، ولا الرديء ، والمتوسط بأن يبخل بالجيد ، وينفق الرديء ، فالشيطان إذا أراد نقله من الطرف الفاضل إلى الطرف الفاحش ، لا يمكنه إلاَّ بأن يجره إلى الوسط ، فإن عصى الإنسان الشيطان في هذا المقام ، انقطع طمع الشيطان عنه ، وإن أطاعه فيه ، طمع في أن يجرَّه من الوسط إلى الطرف الفاحش ، فالوسط : هو قوله تعالى : { يَعِدُكُمُ الفقر } والطرف الفاحش قوله تعالى : { وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء } .

وقال القرطبيُّ : « الفَحْشَاءُ » : المعاصي ، قال : ويجوز في غير القرآن : ويأمركم الفحشاء بحذف الباء ، وأنشد سيبويه : [ البسيط ]
1232أ- أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبٍ
فصل في بيان هل الفقر أفضل من الغنى؟!
تمسك بعضهم بهذه الآية في أنَّ الفقر أفضل من الغنى ، لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير ، وهو بتخويفه الفقر يبعد منه .
قال ابن عطية : وليس في الآية حجَّةٌ؛ لقوله تعالى : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين } [ سبأ : 39 ] ثم قال : { والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ } لذنوبكم ، كقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] .
وفي الآية لفظان يدلان على كمال هذه المغفرة :
أحدهما : التنكير في لفظ « المغْفِرَةِ » ، والمعنى : مغفرةٌ وأيُّ مغفرة .
والثاني : قوله : « مَغْفِرَةً مِنْه » يدل على كمال حال هذه المغفرة؛ لأن كمال كرمه ونهاية جوده ، معلومٌ لجميع العقلاء ، فلما خص هذه المغفرة بكونها منه ، علم أنَّ المقصود تعظيم حال هذه المغفرة؛ لأنَّ عظم المعطي يدلُّ على عظم العطيَّة .
قوله : { مِّنْهُ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه نعتٌ لمغفرة .
والثاني : أن يكون مفعولاً متعلقاً بيعد ، أي : يعدكم من تلقاء نفسه .
و { وَفَضْلاً } صفته محذوفةٌ ، أي : وفضلاً منه ، وهذا على الوجه الأول ، وأمَّا الثاني ، فلا حذف فيه .
فصل
يحتمل أن يكون المراد من كمال هذه المغفرة ما قاله في آيةٍ أخرى : { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] ، ويحتمل أن يجعل شفيعاً في غفران ذنوب سائر المذنبين ، ويحتمل أن يكون المقصود أمراً لا يصل إليه عقلنا ما دمنا في دار الدنيا ، فإن تفاصيل أحوال الآخرة أكثرها محجوبة عنا ، ما دمنا في الدنيا .
وأمَّا معنى الفضل ، فهو الرزق ، والخلف المعجَّل في الدنيا .
ثم قال تعالى : { والله وَاسِعٌ } ، أي : واسع المغفرة والقدرة على إغنائكم ، وإخلاف ما تنفقونه { عَلِيمٌ } لا يخفى عليه ما تنفقون؛ فهو يخلفه عليكم .

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)

قال السَّدِّي : هي النبوة .
وقال ابن عباس ، وقتادة : علم القرآن : ناسخه ، ومنسوخه ، ومحكمه ، ومتشابهه ، ومقدّمه ، ومؤخره ، وحلاله ، وحرامه ، وأمثاله .
قال الضحاك : في القرآن مائةٌ وتسع آياتٍ ، ناسخةٌ ومنسوخةٌ ، وألف آية حلالٌ وحرامٌ ، لا يسع المؤمنين تركهن ، حتى يتعلموهنَّ ، ولا يكونوا كأهل النهروان فإنهم تأوَّلوا آيات من القرآن في أهل القبلة ، وإنما أنزلت في أهل الكتاب ، جهلوا علمها ، فسفكوا بها الدماء ، وانتهبوا الأموال ، وشهدوا علينا بالضلال ، فعليكم تعلم القرآن؛ فإنه من علم فيما أُنزل؛ لم يختلف في شيء منه .
وقال مجاهد : هي القرآن ، والعلم ، والفقه ، وروى ابن أبي نجيح عنه هي الإصابة في القول ، والفعل .
وقال إبراهيم النخعيُّ : هي معرفة معاني الأشياء ، وفهمها .
وروي عن مقاتل ، قال : تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه :
أحدها : مواعظ القرآن . قال : { وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ } [ البقرة : 231 ] وفي النساء { وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة } [ النساء : 113 ] يعني المواعظ ومثلها في آل عمران .
وثانيها : الحكمة بمعنى : الفهم ، والعلم قال { وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } [ مريم : 12 ] وفي لقمان : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } [ لقمان : 12 ] يعني الفهم ، والعلم ، وفي الأنعام { أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب والحكم والنبوة } [ الأنعام : 89 ] وفي « ص » { وَآتَيْنَاهُ الحكمة } [ ص : 20 ] .
وثالثها : النبوة .
ورابعها : القرآن بما فيه من عجائب الأسرار ، قال في النحل : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة } [ النحل : 125 ] وفي هذه الآية { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } وعند التحقيق ترجع هذه الوجوه إلى العلم .
قال أبو مسلم : الحكمة : فعلةٌ من الحكم ، وهي كالنَّحلة : من النَّحل ، ورجلٌ حكيمٌ إذا كان ذا حِجًى ، ولُبَّ ، وإصابة رأي وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل ، ويقال : أمر حكيمٌ ، أي : محكمٌ .
قوله تعالى : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ } : الجمهور على « يُؤْتِي » « وَمَنْ يُؤْتَ » بالياء فيهما ، وقرأ الريع بن خيثم : بالتاء على الخطاب فيهما . وهو خطابٌ للباري؛ على الالتفات .
وقرأ الجمهور : « وَمَنْ يُؤْتَ » مبنياً للمفعول ، والقائم مقام الفاعل ضمير « مَنْ » الشرطية ، وهو المفعول الأول فتكون في محل رفع ، و « الحكمة » مفعول ثانٍ .
وقرأ يعقوب : « يُؤْتِ » مبنياً للفاعل ، والفاعلُ ضميرُ الله تعالى ، و « مَنْ » مفعولٌ مقدمٌ ، و « الحكمة » مفعولٌ ثانٍ؛ كقولك : « أَيّاً يُعْطِ زيداً دِرْهماً أُعْطِه درهماً » ويدل لهذه القراءة قراءة الأعمش .
وقال الزمخشريُّ : بمعنى « وَمْن يُؤْتِهِ اللهُ » . قال أبو حيان : « إِن أرادَ تفسير المعنى ، فهو صحيحٌ ، وإن أراد الإعراب ، فليس كذلك؛ إذ ليس ثمَّ ضمير نصب محذوفٌ ، بل مفعول » يُؤْتِ « من الشرطية المتقدمة » . قال شهاب الدين : ويؤيِّد تقدير الزمخشري قراءة الأعمش .
قوله : { فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } جواب الشرط ، والماضي المقترن بقد ، الواقع جواباً للشرط ، تارةً يكون ماضي اللفظ مستقبل المعنى ، كهذه الآية الكريمة ، فهو الجواب حقيقةً ، وتارةً يكون ماضي اللفظ ، والمعنى نحو :

{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ } [ فاطر : 4 ] فهذا ليس جواباً ، بل الجواب محذوفٌ ، أي : فتسلَّ ، فقد كذِّبت رسلٌ ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى .
والتنكير في « خَيْراً » قال الزمخشريُّ : يفيد التعظيم ، كأنه قال : فقد أُوتي [ أيَّ ] خير كَثيرٍ « . قال أبو حيَّان : وتقديره هكذا ، يؤدي إلى حذف الموصوف ب » أَيَّ « وإقامة الصفة مقامه ، فإنَّ التقدير : فقد أُوتِيَ خيراً أي خيرٍ كثيرٍ ، وحذف » أيَّ « الواقعة صفةً ، وإقامة المضاف إليها مقامها ، وكذلك وصف ما يضاف إليه » أيَّ « الواقعة صفةً ، نحو : مررت برجلٍ أيِّ رجلٍ كريم ، وكلُّ هذا يحتاج في إثباته إلى دليلٍ ، والمحفوظ عن العرب : أنَّ » أيّاً « الواقعة صفةً تضاف إلى ما يماثل الموصوف نحو :
1232ب- دَعَوْتُ امْرَأً أَيَّ امْرِئٍ فَأَجَابَنِي ... وَكُنْتُ وَإِيَّاهُ مَلاَذاً وَمَوْئِلاً
وقد يحذف المصوف ب » أي « ؛ كقوله : [ الطويل ]
1233أ- إِذَا حَارَبَ الحَجَّاجُ أَيَّ مُنَافِقٍ ... عَلاَهُ بِسَيْفٍ كُلَّما هُزَّ يَقْطَعُ
تقديره : منافقاً أيَّ منافقٍ ، وهذا نادرٌ ، وقد تقدم أنَّ تقدير الزمخشريِّ كذلك ، أعني كونه حذف موصوف » أيّ « كقراءة الأعمش بإثبات » ها « الضمير و » مَنْ « في قراءته مبتدأٌ ، لاشتغال الفعل بمعموله ، وعند من يجوِّز الاشتغال في أسماء الشَّرط ، والاستفهام ، يجوز في » مَنْ « النصب بإضمار فعلٍ ، وتقديره متأخراً والرفع على الابتداء ، وقد تقدم نظائر هذا .
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
احتجُّوا بهذه الآية الكريمة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى؛ لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم ، لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية؛ لأنها حاصلة للبهائم ، والمجانين ، والأطفال ، وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكمة ، فهي مفسرة بالعلوم النظرية ، وإن فسرناها بالأفعال الحسية فالأمر ظاهرٌ ، وعلى التقديرين : فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية ، والحسية ثابتاً من غيرهم ، وبتقدير مقدِّرٍ من غيرهم ، وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوة أو القرآن ، أو قوة الفهم أو الخشية ، على ما قال الرَّبيع بن أنسٍ؟
فالجواب : إنَّ الدليل الذي ثبت بالتواتر أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء فتكون الحكمة مغايرة للنبوة والقرآن ، بل هي مفسرة : إمَّا بمعرفة حقائق الأشياء ، أو بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة ، وعلى التقديرين ، فالمقصود حاصلٌ فإن حاولت حمل الإيتاء على التوفيق ، والإعانة ، والألطاف ، قلنا : كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين ، فقد فعل مثله في حق الكفَّار ، مع أن هذا المدح العظيم لا يتناولهم ، فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيءٌ آخر سوى فعل الألطاف .
قوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } وأصل » يَذَّكَّرُ « : يتذكر ، فأدغم .
» وأُولُوا الأَلْبَابِ « ذوو العقول ، ومعناه : أن الإنسان إذا تأمَّل ، وتدبر هذه الأشياء ، وعرف أنها لم تصل إلاَّ بإيتاء الله تعالى ، وتيسيره ، كان من أولي الألباب .

وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)

قوله تعالى : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ } كقوله : { مَا نَنسَخْ } [ البقرة : 106 ] { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } [ البقرة : 197 ] وقد تقدَّم . وأيضاً تقدَّم الكلام في مادة « نَذَرَ » في قوله : { أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] ، إلاَّ أنَّ النَّذر له خصوصيَّة : وهو عقد الإنسان ضميره على شيءٍ ، يقال : نذر ناذرٌ؛ قال عنترة : [ الكامل ]
1233ب- الشَّاتِمَيْ عِرْضِي وَلَمْ أَشْتِمْهُمَا ... والنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَم الْقَهُمَا دَمِي
وأصله من التَّخويف تقول أنذرت القوم إنذاراً بالتخويف ، وفي الشرع على ضربين : مفسر : كقوله للهِ عليَّ عَتْق رَقَبةٍ ، ولِلَّهِ عليَّ حجٌّ فهاهنا يلزم الوفاء ، ولا يجزيه غيره ، وغير مفسَّر كقوله : نذرت لله تعالى ألاَّ أفعل كذا ، ثم يفعله ، أو يقول : لله عليَّ نذرٌ ، ولم يسمِّه ، فيلزمه كفارة يمينٍ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « َمَنْ نَذَرَ نَذْراً ، وسَمَّى فَعَلْيهِ ما سمَّى ، ومَنْ نَذَرَ نَذْراً ، ولَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارةُ يَمِينٍ » .
قوله : { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } جواب الشرط؛ إن كانت « ما » شرطيةً ، أو زائدة في الخبر ، إن كانت موصولة .
فإن قيل : لم وحَّد الضمير في « يَعْلَمُه » وقد تقدم شيئان النفقة ، والنذر؟
فالجواب أن العطف هنا ب « أو » ، وهي لأحد الشيئين ، تقول : « إنْ جاء زيدٌ ، أو عمروٌ أكرمتُه » ، ولا يجوز : أكرمتها ، بل يجوز أن تراعي الأول نحو : زيدٌ أو هندٌ منطلقٌ ، أو الثاني ، نحو : زيدٌ أو هندٌ منطلقة ، والآية من هذا ، ولا يجوز أن يقال : منطلقان . ولهذا أوَّل النحاة : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى . ومن مراعاة الأول قوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] ، على هذا لا يحتاج إلى تأويلات ذكرها المفسرون . وروي عن النَّحاس أنه قال : التقدير : وما أنفقتم من نفقةٍ ، فإنَّ الله يعلمها ، أو نذرتم من نذر ، فإنَّ الله يعلمه ، فحذف ، ونظَّره بقوله تعالى : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا } [ التوبة : 34 ] وقوله : [ المنسرح ]
1234- نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وقول الآخر في هذا البيت : [ الطويل ]
1235- رَمَانِي بأَمْرٍ كُنْتُ مِنْه وَوَالِدِي ... بَرِيئاً وَمِنْ أَجْلِ الطَوِيِّ رَمَانِي
وهذا لا يحتاج إليه؛ لأنَّ ذلك إنما هو في الواو المقتضية للجمع بين الشيئين ، وأمَّا « أَوْ » المقتضية لأحد الشيئين ، فلا . وقال الأخفش : الضمير عائدٌ إلى الأخير كقوله : { وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } [ النساء : 112 ] وقيل : يعود إلى « ما » في قوله : « وَمَا أَنْفَقْتُمْ » لأنها اسمٌ كقوله : { وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ } [ البقرة : 231 ] ، ولا حاجة إلى هذا أيضاً؛ لما عرفت من حكم « أو » .
قوله : { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } أفاد : الوعد العظيم للمطيعين ، والوعيد الشديد للمتمردين ، لأنه يعلم ما في قلب المتصدق من الإخلاص فيتقبل منه تلك الطاعة؛ كما قال :

{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } [ المائدة : 27 ] ، وقوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] .
قوله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } اعلم أنَّ الظالم قسمان :
الأول : من ظلم نفسه وهو يشتمل على كل المعاصي .
الثاني : من ظلم غيره بأن لا ينفق أو لا يصرف الإنفاق عن المستحق إلى غ يره ، أو ينفق على المستحقِّ رياءً وسمعةً ، أو يفسدها بالمعاصي وهذان القسمان الأخيران ليسا من باب الظُّلم على الغير ، بل من باب الظلم على النَّفس .
فصل في دحض شبهة للمعتزلة في إنكار الشفاعة
تمسَّك المعتزلة بهذه الآية ، في نفي الشَّفاعة عن أهل الكبائر ، قالوا : لأنَّ ناصر الإنسان من يدفع الضرر عنه ، فلو اندفعت العقوبة عنهم بالشفاعة ، لكان أولئك الشفعاء أنصاراً لهم ، وذلك يضاد الآية .
وأجيبوا بوجوه :
الأول : أن الشفيع لا يسمَّى في العرف ناصراً ، بدليل قوله : { واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [ البقرة : 123 ] ففرَّق تعالى بين الشفيع ، والناصر؛ فلا يلزم من نفي الناصر نفي الشفيع .
الثاني : أن الشفيع إنما يشفع عن المشفوع عنده على سبيل استعطافه ، والناصر ينصره عليه ، والفرق ظاهرٌ .
وأجاب آخرون : بأنه ليس لمجموع الظالمين من أنصارٍ .
فإن قيل : لفظ « الظَّالِمِينَ » ، ولفظ « الأَنْصَارِ » جمعٌ ، والجمع إذا قوبل بالجمع ، توزع الفرد على الفرد ، فكان المعنى : ليس لأحدٍ من الظالمين ، أحدٌ من الأنصار .
قلنا لا نسلّم أن مقابلة الجمع بالجمع توجب توزع الفرد على الفرد؛ لاحتمال أن يكون المراد مقابلة الجمع بالجمع فقط لا مقابلة الفرد بالفرد .
الوجه الثالث : أن هذا الدليل للشفاعة عامٌّ في حقِّ الكلِّ في الأشخاص ، والأوقات ، ودليل إثبات الشفاعة خاصٌّ في بعض الأوقات ، والخاصُّ مقدمٌ على العامِّ .
الوجه الرابع : ما بينا أن اللفظ العامَّ لا يكون قاطعاً في الاستغراق؛ بل ظاهرٌ على سبيل الظن القويِّ ، فصار الدليل ظنياً ، والمسألة ليست ظنيَّة ، فسقط التمسُّك بها .
و « الأَنْصَارُ » جمع نصير؛ كأشرافٍ ، وشريف ، وأحبابٍ ، وحبيب .

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

قوله : { إِن تُبْدُواْ الصدقات } أي تُظهرونها { فَنِعِمَّا هِيَ } .
الفاء جواب الشرط ، و « نِعْمَط فعلٌ ماضٍ للمدح ، نقيض بئس ، وحكمها في عدم التصرف ، والفاعل ، واللغات حكم بئس ، كما تقدَّم .
و » مَا « في محلِّ الرفع . و » هِيَ « في محل النصب ، كما تقول : نِعْمَ الرجل رجلاً ، فإذا عرَّفت ، رفعت فقلت : نِعْمَ الرجلُ زَيْدٌ .
قال الزجاج : » ما « في تأويل الشيء ، أي : نعم الشيء هو .
قال أبو علي : الجيد في تمثيل هذا أن يقال : » ما « في تأويل شيءٍ؛ لأن » مَا « ها هنا نكرةٌ فتمثيله بالنكرة أبين ، والدليل على أن » ما « ها هنا نكرةٌ أنها لو كانت معرفةً ، فلا بد لها من صلة ، وليس ها هنا ما يوصل به؛ لأن الموجود بعد » ما « هو » هي « وكلمة » هِيَ « مفردةٌ ، والمفرد لا يكون صلةً ل » مَا « وإذا بطل هذا ، فنقول » مَا « نصبٌ على التمييز ، والتقدير : نِعْمَ شيئاً هي إبداء الصدقات ، فحذف المضاف؛ لدلالة الكلام عليه .
وقرأ ابن عامرٍ ، وحمزة ، والكسائيُّ ، هنا وفي النساء : » فَنَعِما « بفتح النون ، وكسر العين ، وهذه على الأصل؛ لأنَّ الأصل على » فَعِلط كعلم ، وقرى ابن كثير ، وورش ، وحفص : بكسر النون والعين ، وإنما كسر النون إتباعاً لكسرة العين ، وهي لغة هذيل .
قيل : وتحتمل قراءة كسر العين أن يكون أصل العين السكون ، فلمّا وقعت بعدها « ما » وأدغم ميم « نِعْم » فيها ، كسرت العين؛ لالتقاء الساكنين ، وهو محتملٌ .
وقرأ أبو عمرو ، وقالون ، وأبو بكر : بكسر النون ، وإخفاء حركة العين .
وروي عنهم الإسكان أيضاً ، واختاره أبو عبيد ، وحكاه لغةً للنبي - صلى الله عليه وسلم - في [ نحو ] قوله : « نِعْمَّا المالُ الصالح مع الرجلِ الصالحِ » .
والجمهور على اختيار الاختلاس على الإِسكان ، بل بعضهم يجعله من وهم الرواة عن أبي عمرو ، وممَّن أنكره المبرد ، والزجاج والفارسي ، قالوا : لأنَّ فيه جمعاً بين ساكنين على غير حدِّهما . قال المبرد : « لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يَنْطِقَ به ، وإنما يَرُومُ الجمعَ بين ساكنين فيحرِّك ، ولا يَشْعُر » وقال الفارشي : « لعل أبا عمرو أخفى فظنَّه الراوي سُكُوناً » .
وقد تقدَّم الكلام على « مَا » اللاحقة لنعم ، وبئس . و « هي » مبتدأٌ ضميرٌ عائدٌ على الصدقات على حذف مضاف ، أي : فنعم إبداؤها ، ويجوز ألاَّ يقدَّر مضافٌ ، بل يعود الضمير على « الصَّدَقَاتِ » بقصد صفة الإبداء ، تقديره : فنعمَّا هي ، أي : الصدقات المبداة . وجملة المدح خبرٌ عن « هي » ، والرابط العموم ، وهذا أولى الوجوه ، وقد تقدَّم تحقيقها .

والضمير في { وَإِن تُخْفُوهَا } يعود على الصدقات . قيل : يعود عليها لفظاً ومعنًى ، وقيل : يعود عليها لفظاً لا معنًى؛ لأنَّ المراد بالصدقات المبداة : الواجبة ، وبالمخفاة : المتطوَّع بها ، فيكون من باب « عِنْدِي دِرْهمٌ ، ونصفُه » ، أي : ونصف درهمٍ آخر؛ وكقول القائل : [ الوافر ]
1236- كَأَنَّ ثِيَابَ رَاكِبِهِ بِرِيحٍ ... خَرِيقٌ وَهْيَ سَاكِنَةُ الهُبُوبِ
أي : وريحٌ أخرى ساكنة الهبوب ، ولا حاجة إلى هذا في الآية .
والفاء في قوله : « فهو » جواب الشرط ، والضمير يعود على المصدر المفهوم من « تُخْفُوهَا » أي : فالإخفاء ، كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] و « لكم » صفةٌ لخير ، فيتعلَّق بمحذوفٍ . و « خَيْر » يجوز أن يكون للتفضيل ، فالمفضَّل عليه محذوف ، أي : خيرٌ من إبدائها ، ويجوز أن يراد به الوصف بالخيريَّة ، أي : خيرٌ لكم من الخيور .
وفي قوله : « إِن تُبْدُواْ ، وَإِن تُخْفُوهَا » نوعٌ من البديع ، وهو الطِّباق اللَّفظيّ . وفي قوله : { وَتُؤْتُوهَا الفقرآء } طباق معنوي؛ لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء ، فكأنه قيل : إن يبد الأغنياء الصدقات ، وإن يخف الأغنياء الصدقات ، ويؤتوها الفقراء ، فقابل الإبداء بالإخفاء لفظاً ، والأغنياء بالفقراء معنًى .
والصَّدقة : قال أهل اللغة : موضوع : « صَ دَ قَ » على هذا الترتيب للصحة ، والكمال ومنه قولهم : رجلٌ صدقُ النَّظر ، وصدقُ اللقاء ، وصدقُوهم القتال ، وفلانٌ صادق المودَّة ، وهذا خلٌّ صادق الحموضة ، وشيءٌ صادق الحلاوة ، وصدق فلانٌ في خبره ، إذا أخبر به على وجه الصِّحة كاملاً ، والصَّديق يسمى صديقاً؛ لصدقه في المودَّة ، وسمِّي [ الصَّداق صداقاً لأن ] مقصود العقد يتمُّ به ويكمل ، وسميت الزكاة صدقةً؛ لأن المال بها يصحُّ ويكمل ، فهي إمَّا سببٌ لكمال المال ، وبقائه ، وإما أنها يستدلُّ بها على صدق إيمان العبد ، وكماله فيه .
فصل في بيان فضيلة صدقة السِّر
سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صدقة السرِّ أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت هذه الآية .
« وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » سَبْعَةٌ يُظْلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ . . . « إلى أن قال : » . . . ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعلم شِمَالُه ما تُنْفِقُ يَمِينُه « .
وقيل : الآية في صدقة التطوُّع؛ أما الزكاة المفروضة ، فالإظهار فيها أفضل؛ حتى يقتدي الناس به؛ كالصلاة المكتوبة في الجماعة ، والنافلة في البيت أفضل .
وقيل : الزكاة المفروضة كان الإخفاء فيها خيراً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمَّا في زماننا ، فالإظهار فيها أفضل؛ حتى لا يساء به الظن .
واعلم أنَّ الصدقة تطلق على الفرض والنَّفل؛ قال تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } [ التوبة : 103 ] وقال : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين } [ التوبة : 60 ] ، » وقال - صلى الله عليه وسلم - : « نَفَقَةُ المرْءِ عَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ » والزكاة لا تطلق إلاَّ على الفرض .

قوله : { وَيُكَفِّرُ } بالواو ، والأعمش : بإسقاطها ، والياء ، وجزم الراء؛ وفيها تخريجان :
أحدهما : أنه بدلٌ من موضع قوله : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } ؛ لأنه جواب الشرط ، كأنَّ التقدير : وإن تخفوها ، يكن خيراً لكم ، ويُكَفِّرْ .
والثاني : أنه حذف حرف العطف ، فتكون كالقراءة المشهورة ، والتقدير : « ويُكَفِّرُ » وهذا ضعيفٌ جداً .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر : بالنون ورفع الراء ، وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي : بالنون وجزم الراء ، وابن عامرٍ ، وحفصٌ عن عاصم : بالياء ورفع الراء ، والحسن : بالياء وجزم الراء ، وروي عن الأعمش أيضاً : بالياء ونصب الراء ، وابن عباس : « وتُكَفِّرْ » بتاء التأنيث وجزم الراء ، وعكرمة : كذلك؛ إلا أنه فتح الفاء؛ على ما لم يسمَّ فاعله ، وابن هرمز : بالتاء ورفع الراء ، وشهر بن حوشب - ورويت عن عكرمة أيضاً - : بالتاء ونصب الراء ، وعن الأعمش إحدى عشرة قراءةً ، والمشهور منها ثلاثٌ .
فمن قرأ بالياء ، ففيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه أضمر في الفعل ضمير الله تعالى؛ لأنه هو المكفِّر حقيقةً ، وتعضده قراءة النون؛ فإنها متعيِّنةٌ له .
والثاني : أنه يعود على الصَّرف المدلول عليه بقوة الكلام ، أي : ويكفِّر صرف الصدقات .
والثالث : أنه يعود على الإخفاء المفهوم من قوله : { وَإِن تُخْفُوهَا } ، ونسب التكفير للصَّرف ، والإخفاء مجازاً؛ لأنَّهما سببٌ للتكفير ، وكما يجوز إسناد الفعل إلى فاعله ، يجوز إسناده إلى سببه .
ومن قرأ بالتاء ففي الفعل ضميرُ الصَّدقات ، ونُسب التكفير إليها مجازاً كما تقدَّم ، ومن بناه للمفعول؛ فالفاعل هو الله تعالى ، أو ما تقدَّم .
ومن قرأ بالنون ، فهي نون المتكلِّم المعظِّم نفسه .
ومن جزم الراء؛ فللعطف على محلِّ الجملة الواقعة جواباً للشرط؛ ونظيره قوله تعالى : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] في قراءة من جزم « وَيَذَرُهُمْ » .
ومن رفع ، فعلى ثلاثة أوجهٍ : .
أحدها : أن يكون مستأنفاً لا موضع له من الإعراب ، وتكون الواو عاطفةً جملة كلام على جملة كلام آخر .
والثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمر ، وذلك المبتدأ : إمَّا ضمير الله تعالى ، أو الإخفاء ، أي : وهو يُكفِّر؛ فيمن قرأ بالياء ، ونحن نكفِّر؛ فيمن قرأ بالنون ، أو وهي تُكَفِّر؛ فيمن قرأ بتاء التأنيث .
والثالث : أنه عطفٌ على محلِّ ما بعد الفاء ، إذ لو وقع مضارعٌ بعدها ، لكان مرفوعاً؛ كقوله تبارك وتعالى : { ومعناه وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] ، ونظيره { وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] في قراءة من رفع .
ومن نصب ، فعلى إضمار « أَنْ » ؛ عطفاً على مصدر متوهَّم ، مأخوذ من قوله : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } ، والتقدير : وإن تخفوها يكن ، أو يوجد خيرٌ لكم وتكفيرٌ . ونظيرها قراءة من نصب : « فيغفر » بعد قوله : { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله } [ البقرة : 284 ] ، إلاَّ أنَّ تقدير المصدر في قوله : « يُحَاسِبْكُمْ » ثَمَّ أسهل منه هنا؛ لأنَّ ثمَّة فعلاً مصرَّحاً به ، وهو « يُحَاسِبْكُمْ » ، والتقدير : يقع محاسبةً فغفرانٌ ، بخلاف هنا ، إذ لا فعل ملفوظٌ به ، وإنما قدَّرنا المصدر من مجموع قوله : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } .

وقال الزمخشريُّ : « ومعناه : وإِنْ تُخْفُوها ، يكُنْ خَيْراً لكم ، وأَنْ يُكَفِّرَ » قال أبو حيَّان : « وظاهِرُ كَلاَمِهِ هذا أنَّ تقديره : » وأَنْ يُكَفِّرَ « يكون مقدَّراً بمصدر ، ويكون معطوفاً على » خَيْراً « الذي هو خبر » يَكُنْ « التي قدَّرها ، كأن قال : يكنِ الإخفاء خيراً لكم وتكفيراً ، فيكون » أَنْ يُكَفِّرَ « في موضع نصبٍ ، والذي تقرَّر عند البصريِّين : أنَّ هذا المصدر المنسبك من : » أنْ « المضمرة مع الفعل المنصوب بها ، هو معطوفٌ على مصدر متوهَّم مرفوع ، تقديره من المعنى . فإذا قلت : » مَا تَأْتِينَا فتحدثنا « فالتقدير : ما يكون منك إتيانٌ فحديثٌ ، وكذلك : » إِنْ تَجِىءْ وتُحْسِنَ إليَّ ، أُحْسِنْ إليك « التقدير : إن يكن منك مجيءٌ ، وإحسانٌ أُحْسن إليك ، فعلى هذا يكون التقدير : وإن تخفوها ، وتؤتوها الفقراء ، فيكون زيادة خير للإخفاء على خير الإبداء وتكفيرٌ » . انتهى . قال شهاب الدين : ولم أدر ما حمل الشيخ على العدول عن تقدير أبي القاسم ، إلى تقديره وتطويل الكلام في ذلك؛ مع ظهور ما بين التقديرين؟
وقال المهدويُّ : « هو مُشَبَّهٌ بالنصب في جواب الاستفهام ، إذ الجزاء يجب به الشيء ، لوجوب غيره كالاستفهام » . وقال ابن عطيَّة : « الجزمُ في الراء أفصحُ هذه القراءات؛ لأنها تُؤْذِنُ بِدُخُولِ التكفير في الجزاء ، وكونه مَشْرُوطاً إن وقع الإخفاء ، وأمَّا رفع الراء ، فليس فيه هذا المَعْنَى » قال أبو حيان : « ونقولُ إنَّ الرفع أبلغُ وأعمُّ؛ لأنَّ الجزم يكون على أنَّه معطوفٌ على جواب الشرط الثاني ، والرفع يدلُّ على أنَّ التكفير مترتِّبٌ من جهة المعنى على بذل الصدقات أُبْدِيَتْ ، أو أُخْفيت ، لأنَّا نعلم أنَّ هذا التكفير متعلِّقٌ بما قبله ، ولا يختصُّ التكفير بالإخفاء فقط ، والجزم يخصِّصه به ، ولا يمكن أن يقال إن الذي يبدي الصدقات ، لا يُكَفِّرْ مِنْ سيئاتِهِن فقد صار التكفيرُ شاملاً للنوعَيْن : من إبداء الصدقاتِ ، وإخفائها؛ وإن كان الإخفاء خيراً » .
قوله تعالى : { مِّن سَيِّئَاتِكُمْ } في « مِنْ » ثلاثة أقوالٍ :
أحدها : أنها للتَّبعيض ، أي : بعض سيئاتكم ، لأن الصدقات لا تكفر جميع السيئات ، وعلى هذا فالمفعول في الحقيقة [ محذوفٌ ] ، أي : شيئاً من سيئاتكم ، كذا قدَّره أبو البقاء .
والثاني : أنها زائدة وهو جارٍ على مذهب الأخفش ، وحكاه ابن عطية عن الطبري عن جماعةٍ ، وجعله خطأً؛ يعني من حيث المعنى .
والثالث : أنها للسببية ، أي : من أجل ذنوبكم؛ وهذا ضعيفٌ .
والسيئات : جمع سيِّئة ، ووزنها : فيعلة ، وعينها واوٌ ، والأصل : سيوءة ، ففعل بها ما فعل بميِّت ، كما تقدَّم .
قوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } إشارةٌ إلى تفضيل صدقة السرِّ على العلانية؛ كأنه يقول : أنتم إنما تريدون بالصدقة طلب مرضاة الله ، وقد حصل مقصودكم في السر؛ فما معنى الإبداء؛ فكأَنَّهم ندبوا بهذا الكلام إلى الإخفاء؛ ليكون أبعد من الرياء ، وكسر قلب الفقير .

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)

هذا الكلام متصلٌ بما قبله من ذكر الصدقات ، كأنه بيَّن فيه جواز الصدقة على المشركين .
قوله : « هُداهُمْ » : اسم ليس ، وخبرها الجارُّ والمجرور . و « الهُدَى » مصدرٌ مضافٌ إلى المفعول ، أي : ليس عليك أن تهديهم ، ويجوز أن يكون مضافاً لفاعله ، أي : ليس عليك أن يهتدوا ، يعني : ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء .
وفيه طباقٌ معنويٌّ ، إذ التقدير : هَدْيُ الضَّالِّين ، وفي قوله : { ولكن الله يَهْدِي } مع قوله تعالى : { هُدَاهُمْ } جناسٌ مغاير؛ لأنَّ إحدى الكلمتين اسمٌ ، والأخرى فعلٌ ، ومفعول { يَشَآءُ } محذوفٌ ، أي : هدايته .
فصل في بيان سبب النزول
روي في سبب النزول وجوه :
أحدها : أن قُتَيْلَةَ أمَّ أسماء بنت أبي بكر ، أتت إليها؛ تسألها شيئاً ، وكذلك جدَّتها ، وهما مشركتان؛ فقالت : لا أُعطيكما حتى أستأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنَّكما لستما على ديني ، فاستأمرته في ذلك؛ فنزلت هذه الآية؛ فأمرها رسول الله - صلى الله لعيه وسلم - أن تتصدق عليهما .
الثاني : كان أُناسٌ من الأنصار ، لهم قرابةٌ من قريظة والنَّضير ، وكانوا لا يتصدقون عليهم ، ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئاً؛ فنزلت هذه الآية الكريمة .
الثالث : قال سعيد بن جبير : كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة ، فلما كثر فقراء المسلمين ، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التصدق على المشركين؛ كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام؛ فنزلت الآية الكريمة فتصدق عليهم والمعنى على جميع الروايات : ليس عليك هدى من خالفك؛ حتى تمنعهم الصدقة؛ لأجل أن يدخلوا في الإسلام ، فتصدقْ عليهم ، لوجه الله ، ولا توقف ذلك على إسلامهم ، والمراد بهذه الهداية هداية التوفيق ، وأما هداية البيان ، والدعوة ، فكان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وظاهر هذه الآية أنها خطابٌ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن المراد به هو ، وأُمَّته؛ ألا تراه قال : { إِن تُبْدُواْ الصدقات } [ البقرة : 271 ] وهذا عامٌّ ، ثم قال : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } وظاهره خاصٌّ ، ثم قال بعده { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ } وهذا عامٌّ ، فيفهم من عموم ما قبل الآية الكريمة ، وعموم ما بعدها : عمومها أيضاً .
فَصْلٌ في بَيان هدايةِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ
دلَّت هذه الآية الكريمة على أن هداية الله تبارك وتعالى غير عامَّةٍ ، بل هي مخصوصة بالمؤمنين ، لأن قوله تعالى : { ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } إثباتٌ للهداية المنفيَّة بقوله : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } ولكنَّ المنفي بقوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } هو حصول الاهتداء ، على سبيل الاختيار ، فكان قوله : { ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } عبارةٌ عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار ، وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعاً بتقدير الله تعالى ، وتخليقه وتكوينه؛ وهو المطلوب .

وحمله المعتزلة على أنه يهدي بالإثابة ، والألطاف ، وزيادة الهدى؛ وهو مردودٌ بما قررناه .
قوله : { فَلأَنْفُسِكُمْ } خبرٌ لمبتدأ محذوف ، أي : فهو لأنفسكم شرط وجوابه ، « والخَيْرُ » في هذه الآية المال؛ لأنه اقترن بذكر الإنفاق ، فهذه القرينة تدل على أنه المال ، ومتى لم يقترن بما يدلُّ على أنه المال ، فلا يلزم أن يكون بمعنى المال؛ نحو قوله : { خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] وقوله : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] ونحوه .
وقوله : { إِلاَّ ابتغآء } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعولٌ من أجله ، أي : لأجل ابتغاء وجه الله ، والشروط هنا موجودةٌ .
والثاني : أنه مصدرٌ في محلّ الحال ، أي : إلاَّ مبتغين ، وهو في الحالين استثناءٌ مفرَّغٌ ، والمعنى : وما تنفقون نفقة معتداً بقبولها؛ إلاَّ ابتغاء وجه [ الله ] ، أو يكون المخاطبون بهذا ناساً مخصوصين ، وهم الصحابة ، لأنهم كانوا كذلك ، وإنما احتجنا إلى هذين التأويلين؛ لأنَّ كثيراً ينفق لابتغاء غير وجه الله .
قال بعض المفسرين : هذا جحدٌ لفظه نفيٌ ، ومعناه نفيٌ ، أي : لا تنفقوا إلاَّ ابتغاء وجه .
قوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } تأكيدٌ وبيان؛ كقوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ } .
وقوله : { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } جواب الشرط ، وقد تقدَّم أنه يقال : « وَفَّى » بالتشديد و « وَفَى » بالتخفيف و « أَوْفَى » رباعياً .
وإنما حسن قوله : « إِلَيْكُمْ » مع التوفيه؛ لأنها تضمَّنت معنى التَّأدية ، ومعناه يوفّ لكم جزاؤه في الآخرة .
وقوله : { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } جملةٌ من مبتدأ ، وخبرٍ : في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في « إِلَيْكُمْ » ، والعامل فيها « يُوَفَّ » ، وهي تشبه الحال المؤكَّدة؛ لأنَّ معناها مفهومٌ من قوله : « يُوَفَّ إِلَيْكُم » ؛ لأنهم إذا وفُّوا حقوقهم ، لم يظلموا . ويجوز أن تكون مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب ، أخبرهم فيها أنه لا يقع عليهم ظلمٌ ، فيندرج فيه توفية أجورهم؛ بسبب إنفاقهم في طاعة الله تعالى ، اندراجاً أوَّلياً .
فصل في المراد من الآية
في معنى الآية وجوه :
الأول : أن معناه : ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين لا تقصدون إلاَّ وجه الله تعالى ، وقد علم الله هذا من قلوبكم ، فأنفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله تعالى في صلة رحم ، وسدِّ خلَّة مضطر ، وليس عليكم اهتداؤهم ، حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم .
الثاني : أن هذا وإن كان ظاهره خبراً ، إلاَّ أن معناه النهي ، أي : ولا تنفقوا إلاَّ ابتغاء وجه الله وورود الخبر بمعنى الأمر ، والنهي كثير؛ قال تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } [ البقرة : 233 ] { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } [ البقرة : 228 ] .
الثالث : معناه لا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح؛ حتى تبتغوا بذلك وجه الله .
فصل في ذكر الوجه في قوله { إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله }
إذا قلت : فعلته : لوجه زيدٍ ، فهو أشرف في الذكر من قولك : فعلته له؛ لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ، وإذا قلت : فعلت هذا الفعل له ، فيحتمل أن يقال فعلته له ولغيره ، أما إذا قلت : فعلت هذا الفعل لوجهه ، فهذا يدل على أنَّك فعلت هذا الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركةٌ .
فصل في بيان عدم صرف الزكاة لغير المسلم
أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير مسلم؛ فتكون هذه الآية مختصةً بصدقة التطوع ، وجوّز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة ، وأباه غيره؛ وعن بعض العلماء : لو كان شر خلق الله ، لكان لك ثواب نفقتك .

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ } الآية : في تعلُّق هذا الجارِّ خمسة أوجهٍ :
أحدها : - وهو الظاهر - أنه متعلِّق بفعل مقدرٍ ، يدلُّ عليه سياق الكلام ، واختلفت عبارات المعربين فيه ، فقال مكي - ولم يذكر غيره - : « أَعْطُوا لِلْفقراءِ » ، وفي هذا نظرٌ؛ لأنه يلزم زيادة اللام في أحد مفعولي أعطى ، ولا تزاد اللام إلا لضعف العامل : إمَّا بتقدُّم معموله كقوله تعالى : { لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] ، وإمَّا لكونه فرعاً؛ نحو قوله تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ويبعد أن يقال : لمَّا أُضمر العاملن ضعف؛ فقوي باللام ، على أنَّ بعضهم يجيز ذلك ، وإن لم يضعف العامل ، وجعل منه { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى . وقدَّره أبو البقاء : « اعْجَبُوا لِلْفُقَرَاءِ » وفيه نظرٌ ، لأنه لا دلالة من سياق الكلام على العجب . وقدَّره الزمخشريُّ : « اعْمدُوا ، أو اجعلوا ما تُنْفقون للفقراء » والأحسن من ذلك ما قدَّره مكي ، لكن فيه ما تقدَّم .
الثاني : أنَّ هذا الجارَّ خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : الصدقات أو النفقات التي تنفقونها للفقراء ، وهو في المعنى جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر ، كأنهم لما حثُّوا على الصدقات ، قالوا : فلمن هي؟ فأجيبوا بأنها لهؤلاء ، وفيها بيان مصرف الصَّدقات . وهذا اختيار ابن الأنباري .
قال ابن الخطيب : لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الإنفاق ، قال بعدها « لِلْفُقَرَاءِ » أي : ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء وهذا كما إذا تقدم ذكر رجل ، فتقول : عاقلٌ لبيبٌ ، والمعنى : أن ذلك الذي مرَّ وصفه عاقلٌ لبيبٌ ، وكذلك الناس يكتبون على الكيس يجعلون فيه الذهب ، والفضَّة : ألفان ، أو مائتان ، أي : ذلك الذي في الكيس ألفان ، أو مائتان .
وأنشد ابن الأنباري : [ الرجز ]
1237- تَسْأَلُنِي عَنْ زَوْجِهَا أَيُّ فَتَى ... خبٌّ جَرُوزٌ وَإِذَا جَاعَ بَكَى
يريد : هو خبٌّ .
الثالث : أنَّ اللام تتعلَّق بقوله تعالى : { إِن تُبْدُواْ الصدقات } [ البقرة : 271 ] وهو مذهب القفَّال ، واستبعده الناس؛ لكثرة الفواصل .
الرابع : أنه متعلِّقٌ بقوله تعالى : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } وفي هذا نظرٌ؛ من حيث إنه يلزم فيه الفصل بين فعل الشرط وبين معموله بجملة الجواب ، فيصير نظير قولك : مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إليه زيداً . وقد صرَّح الواحديُّ بالمنع من ذلك ، معلِّلاً بما ذكرناه ، فقال : وَلاَ يجوزُ أن يكون العاملُ في هذه اللام « تنفقوا » الأخير في الآية المتقدمة الكريمة؛ لأنه لا يفصل بين العامل ، والمعمول بما ليس منه ، كما لا يجوز : « كانَتْ زَيْداً الحُمَّى تأخُذُ » .
الخامس : أنَّ « للفقراء » بدلٌ من قوله : « فلأَنْفُسِكُمْ » ، وهذا مردودٌ؛ قال الواحدي ، وغيره : « لأنَّ الإنفاق من حيث هو واصلٌ إليهم ، وليس من باب { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] ؛ لأنَّ الأمر لازمٌ للمستطيع خاصةً » قال شهاب الدين رحمه الله تعالى : يعني أنَّ الفقراء ليست هي الأنفس ، ولا جزاءً منها ، ولا مشتملةً عليها ، وكأن القائل بذلك توهَّم أنه من باب قوله تعالى :

{ وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] في أحد التأويلين .
والفقير : قيل : أصله من « فَقَرَتْه الفَاقِرَةُ » ، أي : كسرت فقارات ظهره الداهية . قال الراغب : وأصل الفقير : هو المكسُورُ الفقار ، يقال : « فَقَرَتْه الفاقرةُ » أي : الداهية تكسر الفقار ، و « أَفْقَرَكَ الصَّيْدُ [ فَارْمِهِ » ] أي أمكنك من فقاره ، وقيل : هو من الفُقرة ، أي : الحفرة ، ومنه قيل لكلِّ حفرةٍ يجتمع فيها الماء ، فقيرٌ : وفقرت للفسيل : حفرت له حفرة؛ غرسته فيها؛ قال : [ السريع أو الرجز ]
1238- مَا لَيْلَةُ الفَقِيرِ إِلاَّ شَيْطَانْ ... قيل : هو اسم بئر ، وفقرت الخرز : ثقبته .
وقال الهروي : يقال « فَقَره » إذا أصاب فقار ظهره ، نحو : رَأَسَه ، أي : أصاب رأسه ، وبَطَنَهُ ، أي : أصاب بطنه . وقال الأصمعي : « الفقر : أن يحزَّ أنف البعير ، حتى يخلص الحزُّ إلى العظم ، ثم يلوي عليه جريراً يذلَّل به الصَّعب من الإبل ، ومنه قيل : عمل به الفاقرة » . والفقرات - بكسر الفاء ، وفتح القاف - : جمع فقرة : الأمور العظام ، ومنه حديث السَّعي : « فِقَراتُ ابن آدَم ثلاثٌ : يَوْمَ وُلِد ، ويومَ يَمُوتُ ، ويومَ يُبْعَثُ » . والفقر - بضم الفاء ، وفتح القاف - : جمع فقرة؛ وهي الحزُّ ، وخرم الخطم ، ومنه قول أبي زيادٍ : « يُفْقَرُ الصَّعْبُ ثلاثَ فُقَرٍ في خطْمِه » ومنه حديث سعدٍ : « فَأَشَارَ إلى فُقَرٍ في أنْفِهِ » ، أي : شقٍّ ، وحزِّ . وقد تقدَّم الكلام في الإحصار عندق وله : « فإن أحصرتم » .
قوله : { فِي سَبِيلِ } في هذا الجار وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بالفعل قبله؛ فيكون ظرفاً له .
والثاني : أن يكون متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من مرفوع « أُحصروا » ، أي : مستقرين في سبيل الله . وقدَّره أبو البقاء بمجاهدين في سبيل الله ، فهو تفسير معنًى لا إعراب؛ لأنَّ الجارَّ لا يتعلَّق إلا بالكون المطلق .
فصل في بيان سبب النزول
نزلت في فقراء المهاجرين ، وكانوا نحو أربعمائةٍ ، وهم أصحاب الصُّفَّة ، لم يكن لهم مساكن ولا عشائر بالمدينة ، وكانوا ملازمين المسجد؛ يتعلمون القرآن الكريم ، ويرضخون النوى بالنهار ويخرجون في كل سريَّةٍ يبعثها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحث الله عليهم الناس؛ فكان من عنده فضلٌ أتاهم به ، إذا أمسى .
« عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً على أصحاب الصفة ، فرأى فقرهم ، وجهدهم؛ فطيَّب قلوبهم ، فقال : » أَبْشِرُوا يَا أَصْحَابَ الصُّفَّةِ فإنَّهُ مَنْ لَقِيَ اللهَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى النَّعْتِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ رَاضِياً بِمَا فِيهِ فَإِنَّهُ مِنْ رُفَقَائِي « واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الفقراء بخمس صفاتٍ :
الأولى : قوله : { الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله } والإحصار : أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين سفره من مرضٍ ، أو كسرٍ ، أو عدوٍّ ، أو ذهاب نفقةٍ ، أو ما يجري مجرى هذه الأشياء ، يقال : أحصر الرجل : فهو محصرٌ ، وفي معنى هذا الإحصار ، وجوه :
الأول : أنَّهم حصروا أنفسهم ، ووقفوها على الجهاد؛ لأن قوله : { فِي سَبِيلِ الله } مختصٌّ بالجهاد في عرف القرآن .

الثاني : قال قتادة - رحمه الله - وابن زيد : منعو أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش؛ خوف العدوِّ؛ لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة ، وكانوا متى وجدوهم ، قتلوهم .
الثالث : قال سعيد بن جبير؛ وهو اختيار الكسائي : إنَّ هؤلاء القوم أصابتهم جراحاتٌ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاروا زمنى ، فأحصرهم المرض ، والزمانة عن الضَّرب في الأرض .
الرابع : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هؤلاء القوم من المهجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله ، فعذرهم الله .
الصفة الثانية : قوله تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض } في هذه الجملة احتمالان :
أظهرهما : أنها حالٌ ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنه « الفقراء » ، وثانيهما : أنه مرفوع « أُحْصِرُوا » .
والاحتمال الثاني : أن تكون مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب؛ و « ضَرْباً » مفعولٌ به ، وهو هنا السفر للتجارة؛ قال : [ الوافر ]
1239- لَحِفْظُ المَالِ أَيْسَرُ مِنْ بَقَاهُ ... وَضَرْبٌ في البِلاَدِ بِغَيْرِ زَادِ
ويقال : ضَرَبْتُ في الأَرْضِ ضَرْباً ، ومَضْرِباً ، أي : سرتُ .
فصل في بيان عدم الاستطاعة في الآية
عدم استطاعتهم : إمَّا أن يكون لاشتغالهم بصلاح الدِّين ، بأمر الجهاد؛ فيمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة ، وإمَّا لخوفهم من الأعداء ، وإمَّا لمرضهم ، وعجزهم؛ وعلى جميع الوجوه فلا شكَّ في احتياجهم إلى من يعينهم .
الصفة الثالثة : قوله : { يَحْسَبُهُمُ } يجوز في هذه الجملة ما جاز فيما قبلها من الحالية والاستئناف ، وكذلك ما بعدها .
« يَحْسَبُهُمْ » هو الظَّنُّ ، أي : إنّهم من الانقباض ، وترك المسألة ، والتوكل على الله ، بحيث يظنهم الجاهل أغنياء .
وقرأ ابن عامرٍ ، وعاصمٌ ، وحمزة : « يَحْسَبُ » - حيث ورد - بفتح السين ، والباقون : بكسرها . فأمَّا القراءة الأولى؛ فجاءت على القياس؛ لأنَّ قياس فعل - بكسر العين - يفعل بفتحها لتتخالف الحركتان فيخفَّ اللفظ ، وهي لغة تميم ، والكسر لغة الحجاز ، وبها قرأ رسول الله - صلى الله عيه وسلم - ، وقد شذَّت ألفاظٌ أخر؛ جاءت في الماضي ، والمضارع بكسر العين منها : نَعِم يَنْعِم ، وبَئِس يَبْئِسُ ، ويَئِسَ يَيْئِس ، ويَبِس يَيْبِس من اليُبوسة ، وعَمِد يَعْمِد ، وقياسها كلُّها الفتح ، واللغتان فصيحتان في الاستعمال ، والقارئ بلغة الكسر اثنان من كبار النحاة : أبو عمرٍو - وكفى به - ، والكسائي ، وقارئا الحرمين : نافع ، وابن كثير .
والجاهل هنا : اسم جنس لا يراد به واحدٌ بعينه .

ولم يرد - هنا - به الجهل الذي هو ضدّ العلم ، وإنما أراد الجهل الذي هو ضدُّ الاختيار ، يقول : يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء ، و « أغنياءَ » هو المفعول الثاني .
قوله : { مِنَ التعفف } في « مِنْ » هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها سببيةٌ ، أيك سَبَبُ حُسْبَانِهم أغنياء تعفُّفهم ، فهو مفعولٌ من أجله ، وجرُّه بحرف السبب هنا واجبٌ ، لفقد شرطٍ من شروط النصب ، وهو اتحاد الفاعل ، وذلك أنَّ فاعل الحسبان الجاهل ، وفاعل التعفُّف هم الفقراء ، ولو كان هذا المفعول له مستكملاً لشروط النصب ، لكان الأحسن جرَّه بالحرف؛ لأنه معرَّفٌ بأل ، وقد تقدَّم أنَّ جرَّ هذا النوع أحسن من نصبه؛ نحو : جئت للإكرام ، وقد جاء نصبه؛ قال القائل : [ الرجز ]
1240- لاَ أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ ... وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرَ الأَعْدَاءِ
والثاني : أنها لابتداء الغاية ، والمعنى أنَّ محسبة الجاهل غناهم ، نشأت من تعفُّفهم؛ لأنه لا يحسب غناهم غنى تعففٍ ، إنما يحسبه غنى مالٍ ، فقد نشأت محسبته من تفُّفهم ، وهذا على أنَّ تعفُّفهم تعففٌ تام .
والثالث : أنها لبيان الجنس ، وإليه نحا ابن عطية ، قال : يكون التعففُ داخلاً في المحسبة ، أي : إنه لا يظهر لهم سؤالٌ ، بل هو قليلٌ ، فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عنه ، ف « مِنْ » لبيان الجنس على هذا التأويل .
قال أبو حيَّان : « وليس ما قالَه مِنْ أنَّ » مِنْ « هذه في هذا المعنى وهو أن تتقدَّر » مِنْ بموصولٍ ، وما دخلت عليه يجعل خبر مبتدأ محذوف؛ كقوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] يصح أن يقال : الذي هو الأوثان ، ولو قلت هنا : « يَحْسَبُهُم الجَاهِلُ أغنياء الَّذِي هُوَ التَّعفف » لم يصحَّ هذا التقدير؛ وكأنه سمَّى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس ، أي : بيَّنت بأيِّ جنسٍ وقع غناهم ، أي : غناهم بالتعفف لا غنى بالمال ، فسمَّى « مِنْ » الداخلة على ما يبيِّن جهة الغنى ببيان الجنس ، وليس المصطلح عليه كما قدَّمناه ، وهذا المعنى يؤول إلى أنَّ « مِنْ » سببية ، لكنها تتعلق بأغنياء ، لا بيحسبهم « . انتهى .
وتتعلَّق » مِنْ « على الوجهين الأولين بيحسبهم . قال أبو البقاء رحمه الله : » ولا يجوزُ أن تتعلَّق بمعنى « أغْنِياء » ؛ لأنَّ المعنى يصير إلى ضد المقصود ، وذلك أنَّ معنى الآية : أنَّ حالهم يخفى على الجاهل بهم؛ فيظنُّهم أغنياء ، ولو علِّقت بأغنياء ، صار المعنى ، أنَّ الجاهل يظنُّ أنهم أغنياء ، ولكن بالتعفف ، والغنيُّ بالتعفف فقيرٌ من المال « . انتهى ، وما قاله أبو البقاء يحتمل بحثاً .
وأما على الوجه الثالث - وهو كونه لبيان الجنس - فقد صرَّح أبو حيان بتعلُّقها بأغنياء؛ لأن المعنى يعود إليه ، ولا يجوز تعلُّقها في هذا الوجه بالحسبان ، وعلى الجملة : فكونها لبيان [ الجنس ، قلق المعنى ] .

والتعفُّف : تفعُّل من العفَّة : وهو ترك الشيء ، والإعراض عنه ، مع القدرة على تعاطيه؛ قال رؤبة : [ الرجز ]
1241- فعَفَّ عَنْ أَسْرَارِهَا بَعْدَ الغَسَقْ ... وَلَمْ يَدَعْهَا بَعْدَ فَرْكٍ وَعَشَقْ
وقال عنترة : [ الكامل ]
1242- يُخْبِرْكِ مَنْ شَهِدَ الوَقِيعَةَ أَنَّنِي ... أَغْشَى الوَغَى وَأَعِفُّ عِنْدَ المَغْنَمِ
ومنه : « عَفِيفُ الإِزَارِ » كنايةٌ على حصانته ، وعرَّف التعفف ، لأنه سبق منهم مراراً فصار كالمعهود ، ومتعلَّق التعفف ، محذوفٌ؛ اختصاراً ، أي : عن السؤال ، والأحسن ألاَّ يقدَّر .
الصفة الرابعة : قوله : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } السِّيما : العلامة بالقصر ويجوز مدُّها ، وإذا مدَّت ، فالهمزة فيها منقلبةٌ عن حرف زائدٍ ، للإلحاق : إمَّا واوٌ ، وإمَّا ياء ، فهي كعلباء ملحقة بسرداح ، فالهمزة فيه للإلحاق ، لا للتأنيث؛ وهي منصرفةٌ لذلك .
و « سيما » مقلوبة ، قدِّمت عينها على فائها؛ لأنها مشتقةٌ من الوسم فهي بمعنى السِّمة ، أي : العلامة ، فلما وقعت الواو بعد كسرةٍ قلبت ياءً ، فوزن سيما : عِفْلا ، كما يقال اضمحلَّ ، وامضحلَّ ، [ و ] « وَخِيمَة » ، و « خامة » وله جاهٌ ، ووجه ، أي : وجاهَةٌ .
وفي الآية الكريمة طباقٌ في موضعين :
أحدهما : « أُحْصِروا » مع قوله : { ضَرْباً فِي الأرض } .
والثاني : قوله تعالى : { أَغْنِيَآءَ } ، مع قوله : { لِلْفُقَرَآءِ } نحو : { أَضْحَكَ وأبكى } [ النجم : 43 ] و { أَمَاتَ وَأَحْيَا } [ النجم : 44 ] . ويقال « سِيمِيَا » بياء بعد الميم ، وتمدُّ كالكيمياء؛ وأنشد : [ الطويل ]
1243- غُلاَمٌ رَمَاهُ اللهُ بِالْحُسْنِ يَافِعاً ... لَهُ سِيمِيَاءُ لاَ تَشُقُّ عَلَى الْبَصَرْ
والباء تتعلَّق ب « تَعْرِفُهُمْ » ومعناها السببية ، أي : إنَّ سبب معرفتك إياهم هي سيماهم . والسِّيما : العلامة ، وقال قومٌ : السِّيما : الارتفاع ، لأنَّها علامةٌ وضعت للظُّهور .
فصل
قال القرطبيُّ : هذه الآية تدلُّ على أن للسِّيما أثرٌ في اعتبار من يظهر عليه ذلك ، حتى إذا رأينا ميتاً في دار الإسلام ، وعليه زنَّارٌ ، وهو غير مختونٍ؛ لا يدفن في مقابر المسلمين ، ويقدَّم ذلك على حكم الدار؛ في قول أكثر العلماء ، ومنه قوله تعالى : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول } [ محمد : 30 ] فدلَّت هذه الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثيابٌ ، وكسوة وزيٌّ في التجمل .
فصل في تفسير « السِّيما »
قال مجاهد : هو التخشع ، والتواضع .
وقال الربيع ، والسديُّ : أثر الجهد من الفقر ، والحاجة .
وقال الضحاك : صفرة ألوانهم من الجوع ، والضر .
وقال ابن زيدٍ : رثاثة ثيابهم .
قال ابن الخطيب : وعندي أنَّ الكلَّ فيه نظرٌ؛ لأن كل ما ذكروه علاماتٌ دالَّةق على حصول الفقر ، وذلك يناقض قوله : { يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف } بل المراد شيء آخر ، وهو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعاً في قلوب الخلق ، كل من رآهم تأثر منهم ، وتواضع لهم؛ وذلك إدراكاتٌ روحانيةٌ ، لا علاتٌ جسمانيةٌ؛ ألا ترى أنَّ الأسد إذا مرَّ هابته جميع السباع بطباعها ، لا بالتجربة؛ لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت ، وكذلك البازي ، إذا طار فرّت منه الطيور الضَّعيفة ، وكل ذلك إدراكاتٌ روحانية ، لا جسمانية فكذا ها هنا ، روي أنهم كانوا يقومون الليل ، للتهجّد ، ويحتطبون بالنهار؛ للتعفف .

الصفة الخامسة : قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } في نصبه « إلحافاً » ثلاثة أوجه :
أحدها : نصبه على المصدر بفعلٍ مقدَّر ، أي : يلحفون إلحافاً ، والجملة المقدرة حالٌ من فاعل « يَسْألون » .
والثاني : أن يكون مفعولاً من أجله ، أي : لا يسألون؛ [ لأجل الإلحاف .
والثالث : أن يكون مصدراً في موضع الحال ، تقديره : لا يسألون ] ملحفين .
فصل في تفسير الإلحاف
الإلحاف : هو الإلحاح؛ قال عطاءٌ : إذا كان عنده غداءٌ لا يسأل عشاءً ، وإذا كان عنده عشاءٌ لا يسأ غداءً .
وعن ابن مسعودٍ إن الله يحب العفيف المتعفف ، ويبغض الفاحش البذيء السَّائل الملحف ، الذي إن أعطي كثيراً ، أفرط في المدح ، وإن أعطي قليلاً أفرط في الذَّمِّ .
وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ يَفْتَحُ أَحَدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتح الله عليه بَابَ فَقْرٍ ، ومَنْ يَسْتَغْنِ ، يُغْنِه اللهُ ، ومَنْ يَسْتَعْفِفْ ، يُعِفَّهُ الله ، لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلاً يَحْتِطِبُ فِيهِ فَيَبِيعَهُ بمُدٍّ مِنْ تَمْرٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَل النَّاسَ » .
فصل
اعلم : أنَّ العرب إذا نفت الحكم عن محكوم عليه ، فالأكثر في لسانهم نفي ذلك القيد؛ نحو : « مَا رَأَيْتُ رَجُلاً صَالِحاً » ، الأكثر على أنك رأيت رجلاً ، ولكن ليس بصالح ، ويجوز أنَّك لم تر رجلاً ألبتة؛ لا صالحاً ولا طالحاً ، فقوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } المفهوم أنهم يسألون ، لكن لا بإلحاف ، ويجوز أن يكون المعنى : أنهم لا يسألون ، ولا يلحفون؛ والمعنيان منقولان في التفسير ، والأرجح الأول عندهم ، ومثله في المعنى : « مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا » يجوز أنه يأتيهم ، ولا يحدِّثهم ، ويجوز أنه لا يأتيهم ولا يحدِّثهم ، انتفى السبب ، وهو الإتيان ، فانتفى المسبِّب ، وهو الحديث .
وقد شبَّه الزجاج - رحمه الله تعالى - معنى هذه الآية الكريمة بمعنى بيت امرئ القيس؛ وهو قوله : [ الطويل ]
1244- عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ ... إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا
قال أبو حيَّان : « تَشْبيهُ الزجاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين ، أي : لا سؤال ولا إلحاف ، وكذلك هذا : لا منار ولا هداية ، لا أنه مثله في خصوصيَّة النفي ، إذ كان يلزم أن يكون المعنى : لا إلحاف ، فلا سؤال ، وليس تركيب الآية على هذا المعنى ، ولا يصحُّ : لا إلحاف ، فلا سؤال؛ لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام ، كما لزم من نفي المنار ، نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه ، وإنما يؤدِّي معنى النفي على طريقة النَّفي في البيت أن لو كان التركيب : » لا يُلْحِفُونَ الناسَ سُؤالاً « لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف ، إذ نفي العامِّ يدلُّ على نفي الخاص؛ فتلخَّص من هذا : أنَّ نفي الشيئين : تارة يدخل حرف النفي على شيءٍ ، فتنتفي جميع عوارضه ، وينبِّه على بعضها بالذكر لغرض ما ، وتارةً يدخل حرف النفي على عارضٍ من عوارضه ، والمقصود نفيه ، فتنتفي لنفيه عوارضه » .

قال شهاب الدين : قد سبق الشيخ إلى هذا ابن عطية فقال : « تَشْبيهه ليس مثله في خصوصية النفي؛ لأنَّ انتفاء المنار في البيت يدلُّ على نفي الهداية ، وليس انتفاء الإلحاح ، يدلُّ على انتفاء السؤال في الآية » . وأطال ابن عطية في تقرير هذا ، وجوابه ما تقدم : من أنَّ المراد نفي الشيئين ، لا بالطريق المذكور في البيت ، وكان الشيخ قد قال قبل ما حكيته عنه آنفاً : « ونظير هذا : ما تَأْتِينَا فتحدِّثَنا » فعلى الوجه الأول : يعني نفي القيد وحده : ما تأتينا محدِّثاً ، إنما تأتي ولا تحدِّث .
وعلى الوجه الثاني : يعني نفي الحكم بقيده ب « ما يكُونُ مِنْكَ إتيانٌ ، فلا يكونُ حديثٌ » ، وكذلك هذا : لا يقع منهم سؤالٌ ألبتَّة ، فلا يقع إلحاحٌ ، ونبَّه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح؛ لقبح هذا الوصف ، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده ، ووجود غيره؛ لأنه كان يصير المعنى الأول ، وإنما يراد بنفي هذا الوصف ، نفي المترتبات على المنفيِّ الأول؛ لأنه نفى الأولى على سبيل العموم ، فتنتفي مترتِّباته ، كما أنك إذا نفيت الإتيان ، فانتفى الحديث ، انتفى جميع مترتِّبات الإِتيان : من المجالسة ، والمشاهدة ، والكينونة في محلٍّ واحد ، ولكن نبَّه بذكر مترتِّب واحدٍ؛ لغرضٍ ما على ذكر سائر المترتِّبات « وهذا يقرر ما تقدَّم .
وأمَّا الزمخشريُّ : فكأنه لم يرتض تشبيه الزجاج ، فإنه قال : » وقيل : هو نفيٌ للسؤال والإلحاف جميعاً؛ كقوله : [ الطويل ]
1245- عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمنَارِهِ .. .
يريد نفي المنار والاهتداء به « .
قال شهاب الدين : وطريق أبي إسحاق الزجاج هذه ، قد قبلها الناس ، ونصروها ، واستحسنوا تنظيرها بالبيت؛ كالفارسيِّ ، وأبي بكر بن الأنباريِّ ، قال أبو عليٍّ : لم يُثْبِتْ في قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } مسألةً فيهم؛ لأن المعنى : ليس منهم مسألةٌ ، فيكون منهم إلحافٌ ، ومثل ذلك قول الشاعر : [ السريع ]
1246- لاَ يَفْزَعُ الأَرْنَبُ أَهْوَالَهَا ... وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ
أي : ليس فيها أرنبٌ؛ فيفزع لهولها ، ولا ضبٌّ فينجحر ، وليس المعنى : أنه ينفي الفزع عن الأرنب ، والانجحار عن الضب .
وقال أبو بكرٍ : تأويل الآية : لاَ يَسْأَلُونَ أَلْبَتةَ ، فيخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف؛ فجرى هذا مجرى قولك : فلانٌ لا يُرْجى خيره ، أي : لا خير عنده ألبتة فيرجى؛ وأنشد قول امرئ القيس : [ الطويل ]
1247- وَصُمٌّ صِلاَبٌ مَا يَقِينَ مِنَ الوَجَى ... كَأَنَّ مَكَانَ الرَّدْفِ مِنْهُ عَلَى رَالِ
أي : ليس بهن وجًى ، فيشتكين من أجله؛ وقال الأعشى : [ البسيط ]
1248- لاَ يَغْمِزُ السَّاقَ مِنْ أَيْنٍ وَلاَ وَصَبٍ ... وَلاَ يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ
معناه : ليس بساقه أينٌ ، ولا وصبٌ؛ فيغمزها .
وقال الفراء قريباً منه ، فإنه قال : » نفى الإلحاف عنهم ، وهو يريد جميع وجوه السؤال؛ كما تقول في الكلام : « قَلَّ ما رَأَيْتُ مِثْلَ هذا الرجل » ولعلك لم تر قليلاً ، ولا كثيراً من أشباهه « .

وجعل أبو بكر الآية الكريمة عند بعضهم من باب حذف المعطوف ، وأن التقدير : لاَ يَسْأَلُونَ الناسَ إلحافاً ، ولا غير إلحاف ، كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، أي : والبرد .
وقال بعضهم : إنَّ السائل الملحف الملح ، هو الذي يستخرج المال بكثرة تَلَطُّفِهِ ، فقوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } أي : لا يسألون الناس بالرِّفق ، والتَّلطُّف ، وإذا لم يوجد السؤال على هذا الوجه ، فبأن لا يوجد على وجه العنف أولى .
وذكر ابن الخطيب - رحمه الله - فيها ثلاثة أوجه أخر :
أحدها : أنه ليس المقصود منق لوه : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } وصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافاً؛ لأنه تعالى وصفهم قبل ذلك بالتعفُّف ، وإذا علم أنهم لا يسألون ألبتة ، قد علم - أيضاً - أنهم لا يسألون الناس إلحافاً ، بل المراد التَّنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً ، مثاله : إذا حضر عندك رجلان : أحدهما عاقلٌ ، وقورٌ ثابتٌ ، والآخر طيَّاش مهذارٌ سفيهٌ ، فإذا أردت أن تمدح أحدهما ، وتعرض بالآخر ، قلت : فلانٌ ، رجل عاقلٌ وقُورٌ قليل الكلام ، لا يخوض في الترّهات ، ولا يشرع في السفاهات ، ولم يكن غرضك من قولك : لا يخوض في التّرّهات ، والسفاهات ، وصفه بذلك؛ لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك؛ بل غرضك التنبيه على مذمَّة الثاني؛ فكذا هاهنا قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } بعد قوله : { يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف } الغرض منه التنبيه على مذمَّة من يسأل الناس إلحافاً .
وثانيها : أنه تعالى بيَّن فيما تقدَّم شدَّة حاجة هؤلاء الفقراء ومن اشتدت حاجته ، فإنه لا يمكنه ترك السؤال؛ إلاَّ بإلحاحٍ شديد منه على نفسه ، فقوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } أي : لا يسألون الناس ، وإنَّما أمكنهم ترك السؤال عندما ألحُّوا على النفس ، ومنعوها بالتكليف الشَّديد عن ذلك السؤال ، ومنه قول عمر بن الخطَّاب : [ الوافر ]
1249- وَلِي نَفْسٌ أَقُولُ لَهَا إِذَا مَا ... تُنَازِعُنِي : لَعَلِّي أَوْ عَسَانِي
وثالثها : أنَّ من أظهر من نفسه آثار الفقر ، والمذلَّة ، والمسكنة؛ ثم سكت عن السؤال ، فكأنَّه أتى بالسؤال الملحِّ الملحف؛ لأن ظهور أمارات الحاجة ، تدلُّ على الحاجة ، وسكوته يدل على أنه ليس عنده ما يدفع تلك الحاجة ، ومتى تصوَّر الإنسان من غيره ذلك ، رقَّ له قلبه جدّاً ، وصار حاملاً له على أن يدفع إليه شيئاً ، فكان إظهار هذه الحالة هو السؤال على سبيل الإلحاف ، فقوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } معناه : أنهم سكتوا عن السؤال ، لكنَّهم لا يضمُّون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال ، وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف ، بل يزيّنون أنفسهم عند الناس ، ويتجملون عند الخلق ، ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليها إلاَّ الخالق .

فصل
قال ابن عبد البرِّ : من أحسن ما روي من أجوبة الفقهاء في معاني السُّؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه . ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل ، وقد سئل عن المسألة ، متى تحل؟ قال : إذا لم يكن عنده ما يغدِّيه ويعشيه ، قيل لأبي عبد الله : فإن اضطرَّ إلى المسألة؟ قال : هي مباحةٌ إذا اضطر .
قيل له : فإن تعفَّف؟ قال : ذلك خيرٌ له ، وقال : ما أظن أنَّ أحداً يموت من الجوع؛ الله يأتيه برزقه ، ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدريّ : « مَنْ اسْتَعْفَفَ أَعَفَّهُ الله » .
قال أبو بكر : وسمعته يسأل عن الرجل الذي لا يجد شيئاً؛ أيسأل الناس ، أم يأكل الميتة؟ فقال : أيأكل الميتة ، وهو يجد من يسأله؟ هذا شنيعٌ .
قال القرطبيُّ : فإن جاءه شيءٌ من غير سؤالٍ ، فله أن يقبله ولا يرده؛ إذ هو رزقٌ رزقه الله ، لما روي « أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى عمر بن الخطَّاب بعطاءٍ ، فردَّه؛ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » لِمَ رَدَدْتَه؟ « فقال : يا رسول الله ، أليس أخبرتنا أنَّ خيراً لأحدنا ألاَّ يأخذ شيئاً؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » إنَّما ذَاكَ عَنِ المَسْأَلَةِ ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ ، فَإِنَّمَا هو رزقٌ رَزَقَكَهُ الله « فقال عُمَر بن الخطَّاب : » والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لاَ أَسْأَلُ شَيْئاً ، وَلاَ يَأْتِيني شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ أَخَذتُه « .
والإلحاف ، والإلحاح ، واللُّجاج ، والإحفاء ، كلُّه بمعنًى ، يقال : أَلحف ، وألحَّ في المسألة : إذا لجَّ فيها .
وفي الحديث : » مَنْ سَألَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ ، فَقَدْ أَلْحَفَ « ، واشتقاقه من اللِّحاف؛ لأنه يشتمل الناس بمسألته ، ويعمُّهم؛ كما يشتمل اللِّحاف من تحته ويغطِّيه؛ ومنه قول ابن أحمر يصف ذكر نعامٍ ، يحضن بيضه بجناحيه ، ويجعل جناحه لها كاللِّحاف : [ الوافر ]
1250- يَظَلُّ يُحُفُّهُنَّ بِقَقْقَفَيْهِ ... وَيَلْحَفُهُنَّ هَفْهَافاً ثَخِينَا
وقال آخر في المعنى : [ الرمل ]
1251- ثُمَّ رَاحُوا عَبَقُ المِسْكِ بِهِمْ ... يُلْحِفُونَ الأَرْضَ هُدَّابَ الأُزُرْ
أي : يلبسونها الأرض ، كإلباس اللِّحاف للشيء . وقيل : بل اشتقاق اللفظة من » لَحْفِ الجَبَلِ « وهو المكان الخشن ، ومجازه أنَّ السائل لكثرة سؤاله كأنه استعمل الخشونة في مسألته ، وقيل : بل هي من » لَحَفني فُلاَنٌ « ، أي : أعطاني فضل ما عنده ، وهو قريبٌ من معنى الأوَّل .
قوله : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } هو نظير قوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة : 272 ] ، وليس بتكرارٍ؛ لأنه لمَّا قال في الآية الأولى : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } فهم منه التوفية من غير بخسٍ؛ ولا نقصان ، وذلك لا يمكن إلاَّ بالعلم بمقدار العمل ، وكيفية جهاته المؤثرة في استحقاق الثواب .

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

قوله : { الذين يُنْفِقُونَ } : مبتدأٌ ، وخبره الجملة من قوله : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } ودخلت الفاء؛ لما تضمَّنه الموصول من معنى الشرط . وقال ابن عطية رحمه الله : « وإنما يوجد الشَّبه - يعني بين الموصول ، واسم الشرط - إذا كان الموصول موصولاً بفعل ، وإذا لم يدخل على الموصول عاملٌ يغيِّر معناه » . قال أبو حيَّان - رحمه الله - : « فَحَصر الشَّبه فيما إذا كان » الَّذِي « موصولاً بفعل ، وهذا كلامٌ غير محرَّرٍ ، أمَّا قوله : » الَّذِي « فلا يختصُّ ذلك ب » الذي « ، بل كلُّ ما كان موصولاً غير الألف واللام ، حكمه حكم الذي » بلا خلافٍ ، وفي الألف واللام خلاف ، ومذهب سيبويه المنع من دخول الفاء .
الثاني : قوله « مَوْصولاً بفعل » فأطلق الفعل واقتصر عليه ، وليس كذلك ، بل شرط الفعل أن يصلح لمباشرة أداة الشرط ، فلو قلت : الذي سَيَأْتِيني ، أو لمَّا يأتيني ، أو ما يأتيني ، أو ليس يأتيني - فله درهمٌ لم يجز شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ أداة الشرط لا يصلح أن تدخل على شيءٍ من ذلك ، وأمَّا الاقتصار على الفعل ، فليس كذلك؛ بل الظرف والجارُّ والمجرور في الوصل كذلك ، متى كان شيءٌ منهما صلةً لموصول ، جاز دخول الفاء .
وقوله : « وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ على » الَّذي « عاملٌ يغيِّر معناه » عبارةٌ غير ملخَّصةٍ؛ لأن العامل لا يغيِّر معنى الموصول ، إنما يغيِّر معنى الابتداء ، بأن يصيِّره تمنِّياً ، أو ترجِّياً ، أو ظناً ، نحو : لعل الذي يأتضيني ، أو ليت الذي يأتيني ، أو ظننت الذي يأتيني - فله درهمٌ ، لا يجوز دخول الفاء لتغيُّر معنى الابتداء .
وكان ينبغي له - أيضاً - أن يقول : « بِشَرْطِ أَنْ يكونَ الخبرُ مستحِقاً بالصلةِ؛ كالآية الكريمة؛ لأنَّ ترتُّبَ الأجرِ إنما هو على الإِنْفاقِ » .
وقول الشيخ أيضاً : « بل كلُّ مَوْصُولٍ » ليس الحكم - أيضاً - مقتصراً على كلِّ موصولٍ ، بل كلُّ نكرةٍ موصوفةٍ بما يجوز أن يكون صلةً مجوِّزةً لدخول الفاء ، أو ما أُضيف إلى تلك النكرة ، أو إلى ذلك الموصول ، أو الموصوف بالموصول - حكمه كذلك . وقد تقدمت المسألة .
فصل في بيان سبب النُّزول
في سبب النزول وجوه :
الأول : لما نزل قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله } [ البقرة : 273 ] ، بعث عبد الرَّحمن بن عوف بدنانير كثيرةٍ إلى أصحاب الصُّفة ، وبعث عليٌّ - كرم الله وجهه - بوسق تمرٍ ليلاً؛ فكان أحبَّ الصَّدقتين إلى الله تعالى ، صدقه عليٍّ؛ فنزلت الآية .
وقدَّم الله تعالى ذكر الليل؛ ليعرف أنَّ صدقة اللَّيل كانت أكمل ، رواه الضَّحَّاك ، عن ابن عبَّاسٍ .
الثاني : روى مجاهدٌ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال :

« نزلت هذه الآية في عليٍّ - رضي الله عنه - كان عنده أربعة دراهم ، لا يملك غيرها ، فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً ، وبدرهم سرّاً وبدرهم علانيةً؛ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : » مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ « فقال : أن أستوجب ما وعدني ربِّي ، فقال : » لَكَ ذَلِكَ « .
الثالث : قال الزَّمخشريُّ نزلن في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حين تصدَّق بأربعين ألف دينار : عشرةٌ باللَّيل ، وعشرةٌ بالنهار ، وعشرةٌ في السِّرِّ ، وعشرة في العلانية .
الرابع : قال أبو أمامة ، وأبو الدَّرداء ، ومكحولٌ ، والأوزاعي : نزلت هذه الآية الكريمة في الذين يربطون الخيل للجهاد؛ فإنها تعتلف ليلاً ونهاراً ، وسراً وعلانية ، فكان أبو هريرة - رضي الله عنه - إذا مرَّ بفرسٍ سمين ، قرأ هذه الآية .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » مَنِ احْتَبَسَ فَرَساً فِي سَبِيلِ اللهِ إيمَاناً ، وتَصْدِيقاً بوعدِهِ ، فإنَّ شِبَعَهُ وريَّه ورَوْثَهُ ، وبَوْلَهُ في ميزانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ « .
الخامس : أن الآية الكريمة عامةٌ في الذين يعمون الأوقات ، والأحوال بالصدقة ، تحريضاً لهم على الخير .
وفي الآية إشارة إلى أن صدقة السِّرِّ أفضل؛ لأنه قدم اللَّيل على النهار ، والسر على العلانية في الذكر ، وتقدم نظير هذه الآية؛ ومدلولها ، وهو مشروطٌ عند الكل بألاَّ يحصل عقيبه الكفر ، وعند المعتزلة ألاَّ يحصل عقيبه كبيرةٌ محبطةٌ .

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)

« الرِّبَا » في اللُّغة : عبارةٌ عن الزِّيادة؛ يقال ربا الشيء يربو ربواً ، ومنه قوله { اهتزت وَرَبَتْ } [ الحج : 5 ] ، أي زادت ، وأربى الرَّجل : إذا عامل في الربا ، ومنه الحديث « مَنْ أَجْبَى فَقَدْ أَرْبَى » ، أي : عامل بالرِّبا ، والإجباء : بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه .
والمادة تدلُّ على الزيادة والارتفاع ، ومنه الرَّبوة . وقال حاتم الطائيُّ يصف رمحاً : [ الطويل ]
1252- وَأَسْمَرَ خَطِّيًّا كَأَنَّ كُعُوبَهُ ... نَوَى القَسْبِ قَدْ أَرْبَى ذِرَاعاً عَلَى العُشْرِ
والرِّبا : لامه واوٌ؛ لقولهم : ربا يربو؛ فلذلك يثنَّى بالواو ، ويكتب بالألف . وجوَّز الكوفيُّون تثنيته بالياء ، وكذلك كتابته ، قالوا : لكسر أوَّله ، ولذلك أمالوه ، وليس هذا مختصّاً بمكسور الأول ، بل الثُّلاثيُّ من ذوات الواو ، المكسور الأول ، أو المضمومه؛ نحو : « رِبا » ، و « عُلا » حكمه ما ذكرته عنهم ، فأمَّا المفتوح الأول نحو : عصا ، وقفا ، فلم يخالفوا البصريين ، وكتب في القرآن بخطِّ الصحابة بواوٍ بعدها ألفٌ .
وقيل : إنما بالواو؛ لأنَّ أهل الحجاز تعلَّموا الخطَّ من أهل الحيرة ، وأهل الحيرة يقولون : « الرِّبَوا » بالواو ، فكتبوها كذلك ، ونقلها أهل الحجاز كذلك؛ خطّاً لا لفظاً .
قرأ العدويُّ : « الرِّبَو » كذلك بواوٍ خالصةٍ بعد فتحة الباء . فقيل : هذا القارئ أَجرى الوصل مجرى الوقف ، وذلك أنَّ من العرب من يقلب ألف المقصور واواً؛ فيقول : هذه أفعو ، وهذا من ذاك ، إلاَّ أنه أجْرَى الوصل مُجْرى الوقف .
وقد حكى أبو زيدٍ ما هو أغرب من ذلك ، فقال : « قرأ بعضهم بكسر الراء ، وضمِّ الباء ، و واو بعدها » ، ونسب هذه للغلط؛ وذلك لأنَّ العرب لا يبقى واواً بعد ضمة في الأسماء المعربة ، بل إذا وجد ذلك ، لم يقرَّ على حاله ، بل تقلب الضَّمَّة كسرةً ، والواو ياءٌ ، نحو : دلوٍ وأدلٍ ، وجروٍ؛ وأنشد أبو عليّ : [ البسيط ]
1253- لَيْثٌ هِزَبْرٌ مُدِلٌّ عِنْدَ خِيسَتِهِ ... بِالرَّقْمَتَيْنِ لَهُ أَجْرٍ وأَعْرَاسُ
ونهاية ما قبل فيها : أنَّ قارئها قلب الألف واواً؛ كقولهم في الوقف : أَفْعَو ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك ، قيل : ولم يضبط الرَّاوي عنه ما سمع؛ فظنَّه بضمِّ الباء؛ لأجل الواو؛ فنقلها كذلك ، وليت الناس أخلو تصانيفهم من مثل هذه القراءات التي لو سمعها العامة لمجُّوها ، ومن تعاليلها ، ولكن صار التارك لها ، يعده بعضهم جاهلاً بالاطِّلاع عليها .
ويقال : رِبا ورِما ، بإبدال بائه ميماً؛ كما قالوا : كثم في كثب . والألف واللام في « الرِّبا » : يجوز أن تكون للعهد ، إذ المراد الرِّبا الشرعيُّ ، ويجوز أن تكون لتعريف الجنس .
فصل في وجه تعلق هذه الآية بالتي قبلها
اعلم أنَّ بين الصدقة ، والرِّبا مناسبةٌ من جهة التضادِّ؛ لأن الصدقة عبارةٌ عن تنقيص المال بسبب أمر الله تبارك وتعالى بذلك؛ والرِّبا عبارةٌ عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله - سبحانه وتعالى - عنه ، فكانا كالمتضادَّين ، ولهذا قال تعالى :

{ يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات } [ البقرة : 276 ] فلما حصلت المناسبة بينهما من هذا النوع ، ذكر حكم الربا عقيب حكم الصدقات ، وخصَّ الأكل؛ لأنه معظم الأمر؛ كقوله : { الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] فنبَّه بالأَكل على ما سواه من وجوه الإتلافات ، ولأنَّ نفس الرِّبا الذي هو الزيادة لا يؤكل ، وإنما يصرف في المأكول ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : « لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا ، ومُوكِلَه وشاهده وكَاتِبَهُ ، والمحلِّلَ لَهُ » فعلمنا أنَّ الحرمة غير مختصة بالأكل .
فصل في تقسيم الرِّبا
الرِّبا قسمان : ربا النَّسيئة ، وربا الفضل .
أمَّا ربا النسيئة ، فهو الذي كان مشهوراً متعارفاً في الجاهليَّة ، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كلَّ شهرٍ قدراً معيناً ، ويكون رأس المال باقياً ، ثم إذا حلَّ الدَّين طالبوا المدينون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحقِّ والأجل ، فهذا هو الرِّبا الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية .
وأمَّا « ربا الفضل » فهو أن يباع منٌّ من الحنطة بمنوين منها ، أو ما أشبه ذلك .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه كان لا يحرِّم إلاَّ القسم الأول ، فكان يقول لا ربا إلاَّ في النَّسيئة ، وكان يجوِّز ربا الفضل؛ فقال له أبو سعيدٍ الخدريِّ : أشهدت ما لم تشهد ، أو سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم نسمع! ثمَّ روى له الحديث المشهور في هذا الباب ، ثم قال أبو سعيدٍ : لا أواني وإيَّاك ظلُّ بيتٍ ، ما دمت على هذا .
ثمَّ روي أنه رجع عنه .
قال محمد بن سيرين : كنَّا في بيتٍ ، ومعنا عكرمة ، فقال رجلٌ : يا عكرمة ، أما تذكر ونحن في بيت فلانٍ ، ومعنا ابن عباس فقال : إنما كنت استحللت الصرف برأيي ، ثم بلغني أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرَّمه ، فاشهدوا أنِّي حرمته ، وبرئت منه إلى الله .
وحجَّة ابن عباس أنَّ قوله : { وَأَحَلَّ الله البيع } يتناول بيع الدرهم بالدِّرهمين نقداً؛ وقوله : { وَحَرَّمَ الربا } ] إنما يتناول العقد المخصوص المسمَّى فيما بينهم رباً ، وذلك هو ربا النَّسيئة ، فكان ذلك مخصوصاً بالنَّسيئة؛ فثبت أنَّ قوله { وَأَحَلَّ الله البيع } يتناول ربا الفضل ، وقوله : { وَحَرَّمَ الربا } لا يتناوله؛ فوجب أن يبقى على الحلِّ ولا يمكنه أن يقال إنما يحرمه بالحديث؛ لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن بخبر الواحد ، وهو غير جائزٍ وهذا هو عرف ابن عباسٍ ، وحقيقته راجعةٌ إلى أنَّ تخصيص القرآن بخبر الواحد : هل يجوز أم لا؟
وأمَّا جمهور العلماء ، فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين ، أمَّا القسم الأوَّل ، ربا النَّسيئة فبالقرآن ، وأمَّا ربا الفضل ، فبالخبر ، ثم إن الخبر دلَّ على حرمة ربا الفضل في الأشياء الستة ، ثم اختلفوا .

فقال جمهور الفقهاء : حرمة ربا الفضل غير مقصورةٍ على هذه النسيئة؛ بل ثابتةٌ في غيرها بالعلَّة الجامعة وقال نفاةُ القياس : بل الحرمة مقصورة عليها .
فصل في سبب تحريم الربا
ذكروا في سبب تحريم الرِّبا وجوهاً :
أحدها : أنه يُفضي إلى أخد الإنسان مال غيره من غير عوضٍ؛ لأنه إذا باع الدِّرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئةً ، فقد حصل له زيادة درهم من غير عوض ومال الإنسان له حرمةٌ عظيمةٌ ، قال - صلى الله عليه وسلم - : « حُرْمَةُ مَالِ المسلمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ » ؛ فكان أخذ ماله بغير عوض محرَّماً .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكونَ لبقاء رأس المال في يده مدَّةٌ مديدةٌ عوضاً عن الدِّرهم الزَّائد؟ لأنَّ رأس المال لو بقي في يد مالكه ، لتمكَّن من التجارة به ، والربح ، فلمَّا تركه في يد المديون ، وانتفع المديون به ، لم يبعد أن يدفع إلى ربِّ المال ذلك الدرهم الزَّائد؛ عوضاً عن انتفاعه بماله .
فالجواب أنَّ هذا الانتفاع المذكور أمرٌ موهومٌ قد يحصل له منه كسبٌ ، وقد لا يحصل ، وأخذ الدرهم الزائد أمرٌ متيقنٌ فتفويت المتيقن لأجل أمر موهوم ، لا ينفكُّ عن نوع ضرر .
وثانيها : أنَّ الرِّبا يمنع النَّاس عن الاشتغال بالمكاسب؛ لأنه إذا حصَّل الدرهم بالربا ، فلا يكاد يحتمل مشقَّة التَّكسُّب بالتجارة ، والصناعة ، فيفضي إلى انقطاع منافع الخلق ، ومن المعلوم أنَّ [ مصالح العالم ] لا تنتظم إلاَّ بالتجارات ، والعمارات ، والحرف ، والصِّناعات .
وثالثها : أنَّ الربا يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض؛ لأن الرِّبا إذا حرم ، طابت النفوس بقرض الدرهم ، واسترجاع مثله ، ولو حلَّ الربا ، لكانت حاجة المحتاج تحمله حاجته على أخذ الدرهم بالدرهمين ، فيفضي ذلك إلى قطع المواساة ، والمعروف ، والإحسان .
ورابعها : أنَّ الغالب أنَّ المقرض يكون غنيّاً ، والمستقرض يكون فقيراً ، فالقول بتجويز الرِّبا تمكينٌ للغني من أن يأخذ من الفقير الضَّعيف مالاً زائداً ، وهو غير جائزٍ برحمة الرَّحيم .
وخامسها : أنَّه غير معقولٍ المعنى .
قوله : { لاَ يَقُومُونَ } الظَّاهر أنَّها خبر الموصول المتقدِّم ، وقال بعضهم : إنها حالٌ ، وهو سهوٌ ، وقد يتكلَّف تصحيحه بأن يضمر الخبر؛ كقراءة من قرأ { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [ يوسف : 8 ] ؛ وقوله : [ الطويل ]
1254- . لاَ أَنَا بَاغِيَا .. . .
في أحد الوجهين .
والمراد القيام يوم القيامة أو من القبور .
قوله : { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ } فيه الوجهان المشهوران وهما :
النصب على النعب؛ لمصدر محذوف ، أي : لا يقومون إلا قياماً مثل قيام الذي يتخبطه الشيطان ، وهو المشهور عند المعربين .
أو النصب على الحال من ضمير ذلك المصدر المقدَّر ، أي : لا يقومونه ، أي : القيام إلاَّ مبشهاً قيام الذي يتخطبه الشيطان ، وهو رأي سيبويه ، وقد قدَّمت تحقيقهما .
و « ما » الظاهر أنها مصدريةٌ ، أي : كقيام . وجوَّز بعضهم أن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوفٌ ، والتقدير : إلا كالقيام الذي يقومه الذي يتخبَّطه الشيطان ، وهو بعيدٌ .

و « يتخبَّطه » يتفعَّله ، وهو بمعنى المجرد أي يخبطه؛ فهو مثل : تعدَّى الشيء وعداه فهو تفعَّل بمعنى فعل ، نحو تقسَّمه : بمعنى قسمه ، وتقطَّعه : بمعنى قطعه . ومعنى ذلك مأخوذٌ من خبط البعير بأخفافه : إذا ضرب بها الأرض . ويقال : فلانٌ يخبط خبط عشواء؛ قال علقمة : [ الطويل ]
1255- وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ ... فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ
وقال زهير : [ الطويل ]
1256- رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ ... تُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِئ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ
والتخبط معناه : الضَّرب على غير استواء ، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه ، إنه يخبط خبط عشواء ، وخبط البعير الأرض بأخفافه ، وتخبطه الشيطان ، إذا مسَّه بخبلٍ ، أو جنونٍ؛ لأنه كالضَّرب على غير استواء في الإدهاش .
قوله : { مِنَ المس } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلقٌ بيتخبَّطه من جهة الجنون ، فيكون في موضع نصبٍ ، قاله أبو البقاء .
الثاني : أنه يتعلَّق بقوله تبارك وتعالى : { لاَ يَقُومُونَ } ، أي : لا يقومون من المسِّ الذي بهم ، إلا كما يقوم المصروع .
الثالث : أنه يتعلَّق بقوله : « يَقومُ » ، أي : كما يقوم المصروع من جنونه؛ ذكر هذين الوجهين الأخيرين الزمخشريُّ .
قال أبو حيَّان : وكان قدَّم في شرح المسِّ أنه الجنون ، وهذا الذي ذهب إليه في تعلُّق « مِنَ المَسِّ » بقوله : « لاَ يَقُومُونَ » ضعيفٌ؛ لوجهين :
أحدهما : أنه قد شرح المسَّ بالجنون ، قلت : وهو بابٌ في البلاغة مشهورٌ ، وهو أعلى رتب التشبيه؛ ومنه قوله : [ الطويل ]
1257- وَرَمْلٍ كَأَوْرَاكِ العَذَارَى قَطَعْتُهُ .. . . .
فصل في دفع شبهة في تحليل الرِّبا
القوم كانوا في تحليل الرِّبا على هذه الشُّبهة ، وهي أنَّ من اشترى ثوباً بعشرة ، ثمَّ باعه بأحد عشر ، فهذا حلالٌ؛ فكذا إذا باع العشرة بأحد عشر ، يجب أن يكون حلالاً؛ لأنه لا فرق في العقل بين الصُّورتين ، فهذا في ربا الفضل ، وكذلك - أيضاً - في ربا النَّسيئة؛ لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهرٍ ، جاز ، فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهرٍ ، وجب أن يجوز؛ لأنه لا فرق في العقل بينهما ، وإنما جاز ذلك ، لحصول التراضي من الجانبين ، فكذا هاهنا ، لما حصل التراضي من الجانبين ، وجب أن يجوز أيضاً ، والبياعات إنَّما شرعت لدفع الحاجة ، ولعل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال ، شديد الحاجة ، ويكون له في المستقبل من الزمان أموالٌ كثيرةٌ ، فإذا لم يجز الرِّبا ، لم يعطه ربُّ المال مجاناً ، فيبقى الإنسان في الشدة ، والحاجة ، وبتقدير جواز الربا فيعطيه ربُّ المال؛ طمعاً في الزيادة ، والمديون يردُّه عند وجدان المال ، وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال ، أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال ، فهذا يقتضي حلَّ الرِّبا ، كما قلنا في سائر البياعات أنَّها إنما شرعت؛ لدفع الحاجة ، فهذه شبهة القوم .

فأجابهم الله تعالى بقوله : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } ، وتوجيه هذا الجواب أنَّ ما ذكرتم معارضةٌ للنَّصِّ بالقياس؛ وهو لا يجوز .
فصل في دفع شبهة لنفاة القياس
تمسَّك نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : لو كان الدِّين بالقياس ، لكانت هذه الشبهة لازمةً ، فلمَّا بطلت ، علمنا أن الدين بالنَّصّ لا بالقياس .
وفرَّق القفَّال بينهما ، فقال : من باع ثوباً يساوي عشرةً بعشرين ، فقد جعل ذات الثَّوب مقابلةً بالعشرين ، فلمَّا حصل التراضي على هذا التقابل ، صار كلُّ واحدٍ منهما مقابلاً للآخر في المالية عندهما ، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئاً بغير عوض . أمَّا إذا باع العشرة بالعشرة ، فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوضٍ ، ولا يمكن أن يقال : إنَّ غرضه هو الإمهال في الأجل؛ لأن الإمهال ليس إلاَّ مالاً أو شيئاً يشار إليه ، حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة؛ فافترقا .
فإن قيل : ما الحكمة في قلب هذه القضية؟ ومن حقّ القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق؛ لأن حلَّ البيع متفقٌ عليه ، وهم أرادوا قياس الربا عليه؛ فكان نظم الكلام أن يقال : إنما الرِّبا مثل البيع ، فقلبه ، وقال : { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } ؟
فالجواب أنّه لم يكن مقصود القوم أن يتمسَّكوا بنظم القياس ، بل كان غرضهم أنَّ البيع والرِّبا متماثلان في جميع الوجوه المطلوبة ، فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحلِّ ، والآخر بالحرمة ، وعلى هذا التقدير : فأيُّهما قدِّم ، أو أخِّر جاز .
قوله : { وَأَحَلَّ الله البيع } الظاهر أنه من كلام الله تعالى ، أخبر بأنه أحلَّ هذا ، وحرَّم ذاك ، وعلى هذا؛ فلا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب . وقال بعضهم : « هذه الجملة من تَتِمَّة قول الذين يأكلون الربا ، فتكون في محلِّ نصبٍ بالقول؛ عطفاً على المَقُولِ » وهو بعيدٌ جداً ، لأنَّ القائل بأنَّ هذا من كلام الكفَّار ، لا يتمُّ إلاَّ بإضمار زيادةٍ ، إمَّا بأن يحمل ذلك على الاستفهام؛ على سبيل الإنكار ، أو يحمل ذلك على الرِّواية من قول المسلمين ، والإضمار خلاف الأصل ، وعلى الأول لا يحتاج إلى الإضمار ، فكان أولى أيضاً فإنَّ المسلمين - أبداً - يتمسَّكون في جميع مسائل البيع بهذه الآية ، ولو كان ذلك من كلام الكفَّار ، لما جاز لهم الاستدلال به . وأيضاً ، فقوله بعده : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ . . . } إلى قوله : { . . . خَالِدُونَ } يقتضي أنَّهم لما تمسَّكوا بقولهم : { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } فالله تعالى قد كشَفَ عن فساد تلك الشُّبهة ، وبيَّن ضعفها ، فلو لم يكن قوله { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } من كلام الله تعالى ، لم يكن أجاب عن تلك الشبهة ، فلم يكن قوله { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } - لائقاً بهذا الموضع .

فصل
ذهب بعض العلماء إلى أنَّ قوله تعالى : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } من المجملات التي لا يجوز التمسك بها .
قال ابن الخطيب : وهو المختار عندي لوجوه :
الأول : أنه ثبت في « أصول الفِقْهِ » أنَّ الاسم المفرد المحلَّى ب « لام » التَّعريف ، لا يفيد العموم ألبتَّة ، بل ليس فيه إلاَّ تعريف الماهيَّة ، ومتى كان كذلك ، كفى في العمل ثبوت حكمه في الصورة الواحدة .
الثاني : سلَّمنا أنه يفيد العموم ، ولكنا لا نشكُّ في أنَّ إفادته أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم ، مثلاً قوله : { وَأَحَلَّ الله البيع } وإن أفاد الاستغراق إلاَّ أن قوله : « وأحل الله البيعات » أقوى في إفادة الاستغراق فثبت أن قوله : « وأحل الله البيع » لا يفيد الاستغراق إلاَّ إفادة ضعيفة ، ثم بتقدير العموم لا بدَّ أن يتطرق إليها تخصيصاتٌ كثيرةٌ خارجةٌ عن الحصر والضبط ، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى ، وكلام رسوله؛ لأنه كذبٌ ، والكذب على الله محالٌ .
فأما العامُّ الذي يكون موضع التخصيص منه قليلاً جدّاً ، فذلك جائزٌ؛ لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرفٌ مشهورٌ في كلام العرب .
الثالث : روي عن عمر - رضي الله عنه - قال : خرج رسول - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ، وما سألناه عن الربا . ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم ، لما قال ذلك؛ فعلمنا أنَّ هذه الآية من المجملات .
الرابع : أن قوله : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً ، وكل ربا حراماً؛ والرِّبا : هو الزيادة ، فأول الآية أباح جميع البيوع ، وآخرها حرَّم الجميع؛ فلا يعرف الحلال من الحلال بهذه الآية؛ فكانت مجملةً ، ووجب الرجوع في معرفة الحلال ، والحرام إلى بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : { فَمَن جَآءَهُ } يحتمل أن تكون شرطيةً وهو الظاهر ، وأن تكون موصولةً ، وعلى كلا التقديرين فهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء .
وقوله : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } هو الخبر ، فإن كانت شرطيةً ، فالفاء واجبةٌ ، وإن كانت موصولةٌ ، فهي جائزةٌ ، وسبب زيادتها ما تقدَّم من شبه الموصول لاسم الشرط . ويجوز حال كونها شرطيةً وجهٌ آخر ، وهو أن تكون منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره ما بعده ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، ويقدَّر الفعل بعدها؛ لأنَّ لها صدر الكلام ، والتقدير : فأيُّ شخصٍ جاءت الموعظة جاءته ، ولا يجوز ذلك فيها موصولةً؛ لأنَّ الصلة لا تفسِّر عاملاً؛ إذ لا يصحُّ تسلُّطها على ما قبلها ، وشرط التفسير صحة التسلُّط . وسقطت علامة التأنيث من فعل الموعظة لأن ثانيها غير حقيقي ولأنها في معنى الوعظ وأيضاً للفصل بين الفعل ، وفاعله بالمفعول . وقرأ أبيّ والحسن : « جاءَتْه » على الأصل .
قوله : { مِّنْ رَّبِّهِ } يجوز أن تكون متعلقةً بجاءته ، وتكون لابتداء الغاية؛ مجازاً ، وأن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لموعظةٍ ، أي : موعظةٌ من موعظات ربه ، أي : بعض مواعظه .

وقوله : { فانتهى } نسقٌ على « جاءَتْه » عطفه بفاء التعقيب ، أي : لم يتراخ انتهاؤه عن مجيء الموعظة .
وقوله : { وَمَنْ عَادَ } الكلام على « مَنْ » هذه في احتمال الشرط ، والموصول ، كالكلام على التي قبلها .
« عاد » أي : رجع ، يقال : عاد يعود عوداً ، ومعاداً ، وعن بعضهم : أنها تكون بمعنى « صار » ؛ وأنشد [ الطويل ]
1258- وَبِالمَحْضِ حَتَّى عَادَ عَنَطْنَطاً ... إِذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ
وأنشد : [ الطويل ]
1259- تُعِدُّ لَكُمْ جَزْرَ الجَزُورِ رِمَاحُنَا ... وَيَرْجِعْنَ بالأَسْيَافِ مُنْكَسِرَاتِ
والضمير في قوله « فَأمْرُه » يعود على « مَا سَلَف » ، أي : وأمر ما سلف إلى الله ، أي : في العفو عنه وإسقاط التِّبعة منه . وقيل : يعود على المنتهي المدلول عليه بانتهى ، أي : فأمر المنتهي عن الربا إلى الله؛ في العفو؛ والعقوبة .
وقيل : يعود على ذي الرِّبا في أن ينتبه على الانتهاء ، أو يعيده إلى المعصية .
وقيل : يعود على الرِّبا ، أي : في عفو الله عمَّا شاء منه ، أو في استمرار تحريمه .
قال الواحديُّ « السُّلُوفُ » : التقدم ، وكلُّ شيءٍ قدمته أمامك فهو سلفٌ ، ومنه الأمم السَّالفة ، وسالف الذكر ، وله سلفٌ صالحٌ : آباءٌ متقدِّمون ، ومنه { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً } [ الزخرف : 56 ] أي : أمةً متقدمةً تعتبر بهم من بعدهم ، وتجمع السَّلف على : أسلافٍ وسلوفٍ ، والسالفة والسُّلاف : المتقدِّمون في حرب أو سفرٍ ، والسالفة من الوجه؛ لتقدُّمها؛ قال : [ الوافر ]
1260- وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ جِيداً ... وَسَالِفَةٌ وأَحْسَنُهُ قَذَالاَ
والسُّلفة : ما يقدَّم من الطعام للضَّيف . يقال : « سَلِّفُوا ضَيْفَكُمْ ، ولَهِّنُوهُ » أي : بادروه بشيءٍ مَّا ، ومنه : السَّلف في الدَّين؛ لأنه تقدَّمه مالٌ .
والسَّالفة : العنق؛ لتقدُّمه في جهة العلو ، والسلفة : ما قدم قبل الطعام ، وسلافة الخمر : صفوتها؛ لأنه أوَّل ما يخرج من عصيرها .
فصل في تأويل ما سلف
قال الزجاج : أي صفح له عمَّا مضى من ذنبه ، قبل نزول الآية؛ كقوله : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] ، وضعِّف؛ بأن قبل نزول الآية في التحريم ، لم يكن ذلك حراماً ، ولا ذنباً؛ فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع أنه ما كان هناك ذنبٌ؟ والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم! ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك ، وهو قوله : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي : كلُّ ما أكل من الرِّبا ، وليس عليه ردُّه ، فأمَّا ما لم يقضَ بعد ، فلا يجوز له أخذه ، وإنما له رأس ماله فقط؛ كما بيَّنه تعالى في قوله تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ } [ البقرة : 279 ] .
فصل
قال ابن الخطيب - رحمه الله - : في قوله تعالى : { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } وجوهٌ للمفسرين ، والذي أقوله : إنَّ هذه الآية مختصةٌ بمن ترك استحلال الرِّبا من غير بيان أنه ترك أكل الربا ، أو لم يترك؛ ويدلُّ عليه مقدمة الآية ومؤخِّرتها .

أمَّا مقدمة الآية؛ فلأن قوله { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى } ليس فيه بيان أنه انتهى عماذا ، فلا بدَّ وأن يصرف ذلك إلى المدلول السابق ، وأقرب المذكورات إلى هذه الكلمة قولهم : { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } فكان قوله : { فانتهى } عائداً إليه فيكون المعنى : فانتهى عن هذا القول .
وأما مؤخرة الآية فقوله : { وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } معناه عاد إلى الكلام المتقدم ، وهو استحلال الربا « فَأَمْرهُ إلى اللهِ » ثم هذا الإنسان إمَّا أن يقال : إنه كما انتهى عن استحلال الربا ، انتهى - أيضاً - عن أكل الربا ، وليس كذلك؛ فإن كان الأول كان هذا الشخص مقراً بدين الله عالماً بتكليف الله تعالى؛ فحينئذٍ يستحق المدح والتعظيم ، لكنَّ قوله « فَأَمْرُهُ إِلى اللهِ » ليس كذلك؛ لأنه يدلُّ على أنه تعالى إن شاء عذَّبه ، وإن شاء غفر له ، فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر ، ولا بالمؤمن المطيع ، فلم يبق إلاَّ أنها تختصُّ بمن أقرَّ بحرمة الرِّبا ، ثم أكل الربا؛ فهذا أمره إلى الله إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له ، فهو كقوله { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] . ثم قال : { وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي ومن عاد إلى استحلال الربا ، حتى يصير كافراً ، وفيها دليلٌ على أنَّ الخلود لا يكون إلاَّ للكافر .

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)

قوله تعالى : { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي } : الجمهور على التخفيف في الفعلين من : مَحَقَ ، وأربى . وقرأ ابن الزبير : ورويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « يُمْحِّقُ ، ويُرَبِّي » بالتشديد فيهما .
والمحق : النقص ، يقال : محقته فانمحق ، وامتحق؛ ومنه المحاق في القمر؛ قال : [ البسيط ]
1261- يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبَهُ ... كَرُّ الجَدِيدَيْنِ نَقْصاً ثُمَّ يَنْمَحِقُ
وأنشد ابن السِّكِّيتِ : [ الطويل ]
1262- وَأَمْصَلْتُ مَالِي كُلَّهُ بِحَيَاتِهِ ... وَمَا سُسْتَ مِنْ شَيْءٍ فَرَبُّكَ مَاحِقُهْ
ويقال : هجيرٌ ماحقٌ : إذا نقص كلُّ شيءٍ بحرِّه .
وقد اشتملت هذه الآية على نوعين من البديع :
أحدهما : الطِّباق في قوله : « يَمْحَقُ ، ويُرْبِي » فإنهما ضدَّان ، نحو : { أَضْحَكَ وأبكى } [ النجم : 43 ] .
والثاني : تجنيس التغاير في قوله : « الرِّبا ، ويُرْبي » إذ أحدهما اسم والآخر فعل .
فصل في بيان وجه النَّظم
لما كان الداعي إلى فعل الرِّبا ، تحصيل الزيادة ، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقص الخيرات - بيَّن تعالى - ها هنا - أنَّ الربا وإن كان زيادةً ، فهو نقصانٌ في الحقيقة ، وأن الصدقة وإن كانت نقصاً في الصورة ، فهي زيادةٌ في المعنى ، فلا يليق بالعاقل أن يلتفت إلى ما يقضي به الطبع ، والحسُّ من الدواعي والصَّوارف؛ بل يعوِّل على ما ندبه الشرع إليه؛ فهذا وجه النظم .
فصل
اعلم أن محق الربا ، وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا ، وأن يكون في الآخرة .
أما محق الربا في الدنيا فمن وجوه :
أحدها : أنَّ الغالب في المربي - وإن كثر ماله - أن تؤول عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن مالح؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : « الرِّبا وَإِنْ كَثُرَ فإنَّ عَاقِبتَهُ تَصِيرُ إِلى قلٍّ » .
وثانيها : أنه وإن لم ينتقص ماله ، فإن عاقبته الذَّمُّ والنقص ، وسقوط العدالة ، وزوال الأمانة ، وحصول اسم الفسق ، والقسوة ، والغلظة .
ثالثها : أنَّ الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا ، يلعنونه ، ويبغضونه ، ويدعون عليه؛ وذلك يكون سبباً لزوال الخير ، والبركة عنه في نفسه وماله .
الرابع : أنه متى اشتهر بين الناس بأنه إنما جمع ماله من الرِّبا ، توجهت إليه الأطماع ، وقصده كلُّ ظالمٍ ، ومارقٍ وطمَّاعٍ ، ويقولون : إنَّ ذلك المال ليس له في الحقيقة ، فلا يترك في يده .
وأمَّ أن الربا سبب للمحق في الآخرة فمن وجوهٍ :
أحدها : قال ابن عباس : معنى هذا المحق : أن الله تعالى لا يقبل منه صدقةً ، ولا جهاداً ولا حجّاً ، ولا صلة رحم .
ثانيها : أن مال الدنيا لا يبقى عند الموت ، ويبقى عليه التبعة ، والعقوبة ، وذلك هو الخسار الأكبر .
وثالثها : ثبت في الحديث : أنَّ الأغنياء يدخلون الجنَّة بعد الفقراء بخمسمائة عامٍ ، فإذا كان الغِنَى من الحلال كذلك ، فما ظنُّك بالغنى من الحرام المقطوع به فذلك هو المحق والنقصان!
وأمَّا « إِرْبَاءُ الصدقاتِ » فيحتمل - أيضاً - أن يكون في الدنيا ، وأن يكون في الآخرة .

أما في الدنيا : فمن وجوهٍ :
أحدها : أن من كان لله كان الله له ، فإذا كان الإنسان يحسن إلى عبيد الله ، فالله تعالى لا يتركه ضائعاً ، ولا جائعاً في الدنيا ، وقد ورد في الحديث أنَّ ملكاً ينادي كلَّ يومٍ : « اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِكُلِّ مُنْفِقٍ خَلَفاً ، ولكل مُمْسِكٍ تَلَفاً » .
وثانيها : أنه يزداد كلَّ يومٍ في جاهه ، وذكره الجميل ، وميل القلوب إليه .
وثالثها : أن الفقراء يعينونه بالدعاء الخالص من قلوبهم .
ورابعها : أنَّ الأطماع تنقطع عنه ، فإنه متى اشتهر بإصلاح مهمَّات الفقراء ، والضعفاء؛ فكلُّ أحدٍ يحترز عن منازعته ، وكلُّ ظالم ، وطمَّاع يتخوف من التعرض إليه ، اللهم إلاَّ نادراً ، فهذا هو المراد بإرباء الصدقات في الدنيا .
وأما إرباؤها في الآخرة ، فروى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقبلُ الصَّدَقَاتِ وَلاَ يَقْبَلُ مِنْهَا إِلاَّ الطَّيِّبَ ويَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُربِّيها كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مَهرَةُ أَوْ فَلُوَّهُ حتى إنَّ اللقمةَ تَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ » وتصديق ذلك بيِّنٌ في كتاب الله تعالى { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات } [ التوبة : 104 ] .
وقال ابن الخطيب : ونظير قوله : { يَمْحَقُ الله الربا } المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوانٍ عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلداً ونظير قوله : { وَيُرْبِي الصدقات } المثل الذي ضربه الله بحبةٍ أنبتت سبع سنابل في كلِّ سنبلةٍ مائة حبَّةٍ .
قوله : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } اعلم أن الكفَّار فعَّالٌ من الكفر ، ومعناه : أن ذلك عادته ، والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا فتقول : فلان فعَّالٌ للخير أمَّارٌ به و « الأَثِيم » فعيل بمعنى فاعلٍ ، وهو الآثم ، وهو - أيضاً - مبالغةٌ في الاستمرار على اكتساب الإثم والتمادي فيه ، وذلك لا يليق إلاَّ بمن ينكر تحريم الربا ، فيكون جاحداً .
وفيه وجه آخر وهو أن يكون « الكَفَّارُ » راجعاً إلى المستحلّ « والأَثيم » يكون راجعاً إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم؛ فتكون الآية الكريمة جامعةً للفريقين .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)

اعلم أنَّ من عادته تعالى في القرآن الكريم مهما ذكر وعيداً ، ذكر بعده وعداً فلما بلغ ها هنا في وعيد المرابي ، أتبعه بهذا الوعد ، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية .
واحتجّ من قال بأن العمل الصالح خارجٌ عن مسمى الإيمان بهذه الآية ، فإنه عطف عمل الصالحات على الإيمان؛ والمعطوف يغاير المعطوف عليه .
وأجيب عنه بأنه قال : { وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة } ولا نزاع في أن إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، داخلان تحت عمل الصالحات ، فكذا ما ذكرتُم ، وأيضاً قال تبارك وتعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } [ النحل : 88 ] وقال : { والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } [ البقرة : 39 ] ويمكن أن يجاب بأن الأصل حمل كل لفظةٍ على فائدةٍ جديدة ، تُرِكَ العملُ به عند التَّعذُّر ، فيبقى في غير موضع التعذر على الأصل .
فإن قيل إنَّ الإنسان إذا بلغ عارفاً بالله تعالى وقبل وجوب الصلاة والزكاة عليه ، ثم مات ، فهو من أهل الثواب بالاتفاق ، فدلَّ على أن استحقاق الثواب لا يتوقَّف على حصول العمل .
وأيضاً فقد يثيب الله تعالى المؤمن الفاسق الخالي عن جميع الأعمال ، وإذا كان كذلك فكيف وقف الله ها هنا حصول الأجر على حصول العمل؟
فالجواب : أنه تبارك وتعالى إنما ذكر هذه الخصال؛ لا لأجل أنَّ استحقاق الثواب مشروطٌ بهذا ، بل لأجل أنَّ لكل واحد منهما أثراً في جلب الثواب ، كما قال في ضدِّ هذا { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] ثم قال : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان : 68 ] ومعلومٌ أنَّ من ادعى مع الله إلهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر ، وإنما جمع اللهُ الزِّنا ، وقتل النَّفس ، مع دعاء غير الله إلهاً ، لبيان أنَّ كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)

اعلم أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية المتقدمة أنَّ من انتهى عن الربا ، فله ما سلف؛ فقد يظنُّ أنه لا فرق بين المقبوض منه ، وبين الباقي في ذمَّة الغريم ، فبين في هذه الآية الكريمة بقوله : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا } أي : الذي لم يقبض فالزيادة حرامٌ ، وليس لهم أن يأخذوا إلاَّ رؤوس أموالهم ، فقال : { اتقوا الله } والاتقاء إنما يكون باتقاء ما نهى عنه ، { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا } يعني : إن كنتم قد قبضتم منه شيئاً ، فيعفو عنه ، وإن لم تقبضوه أو لم تقبضوا بعضه ، فالذي لم يقبض حرامٌ قبضه ، وهذه الآية دليلٌ على أحكام الكفَّار إذا أسلموا؛ لأن ما مضى في زمن الكفر ، فإنه لا ينقض ، ولا يفسخ ، وما لم يوجد منه شيء في حال الكفر ، فحكمه الإسلام ، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ، ولا يجوز في الإسلام فمعفوٌّ عنه ، وإن وقع على مهرٍ حرامٍ ، وقبضته المرأة ، فقد مضى ، وليس لها شيءٌ ، وإن لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المسمى .
قوله تعالى : { وَذَرُواْ } : فتحت العين من « ذَرْ » حملاً على « دَعْ » ، إذ هو بمعناه ، وفتحت في « دَعْ » ؛ لأنه أمرٌ من « يَدَعُ » ، وفتحت من « يَدَعُ » ، وإن كان قياسها الكسر؛ لكون الفاء واواً؛ [ كيَعِدُ ] لكون لامه حرف حلقٍ .
ووزن « ذَرُوا » : علوا؛ لأنَّ المحذوف الفاء لا يستعمل منه ماضٍ إلاَّ في لغيَّة ، وكذلك « دَعْ » .
وقرأ الحسن : « مَا بَقَى » بقلب الكسر فتحةً ، والياء ألفاً ، وهي لغةٌ لطَيِّىءٍ ، ولغيرهم؛ ومنه قول علقمة : [ الطويل ]
1263- زَهَا الشَّوْقُ حَتَّى ظَلَّ إِنْسَانُ عَيْنِهِ ... يَفِيضُ بِمَغْمُورٍ مِنَ الدَّمْعِ مُتْأَقِ
وقال آخر : [ الوافرٍ ] .
1264- وَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةس عَلَيْنَا ... وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ
ويقولون في الناصية : ناصاةٌ . وقرأ الحسن أيضاً : « بَقِيْ » بتسكين الياء ، قال المبرد : « تسكين ياء المنقوص في النصب من أحسن الضرورة ، هذا مع أنَّه معربٌ ، فهو في الفعل الماضي أحسنُ » قال شهاب الدين : وإذا كانوا قد حذفوها من الماضي صحيح الآخرن فأولى من حرف العلة ، قال : [ مجزوء الرمل ]
1265- إِنَّمَا شِعْرِيَ قَيْدٌ ... قَدْ خُلِطْ بِجُلْجُلانِ
وقال جرير في تسكين الياء : [ البسيط ]
1266- هُوَ الخَلِيفَةُ فَارْضُوا مَا رَضِيْ لَكُمُ ... مَاضِي العَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفُ
وقال آخر : [ الطويل ]
1267- لَعَمْرُكَ لاَ أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقِيْ ... عَلَى الأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الأَبَاعِرَا
قوله : { مِنَ الربا } متعلِّقٌ ببقي ، كقولهم : « بَقِيَتْ منه بقيةٌ » ، والذي يظهر أنه متعلقٌ بمحذوفٍ؛ على أنه حال من فاعل « بقَى » ، أي : الذي بقي حال كونه بعض الربا ، فهي تبعيضيةٌ .

ونقل ابن عطية هنا أنَّ العدويَّ - وهو أبو السَّمَّال - قرأ « مِنَ الرِّبُو » بتشديد الراء مكسورة ، وضمِّ الباء بعدها واوٌ . قال شهاب الدين : قد تقدم أنَّ أبا السَّمَّال إنما قرأ « الرِّبَا » في أول الآية الكريمة بواوٍ بعد فتحة الباء ، وأنَّ أبا زيدٍ حكى عن بعضهم : أنه ضمَّ الباء ، وقدَّمت تخريجهما على ضعفه .
وقال ابن جنِّي : « شَذَّ هَذَا الحَرْفُ في أمرين :
أحدهما : الخروج من الكسر إلى الضم بناءَ لازماً .
والآخر : وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم ، وهذا شيء لم يأت إلاَّ في الفعل؛ نحو : يغزو ويدعو ، وأمَّا » ذو « الطائية بمعنى الذي فشاذةٌ جداً ، ومنهم من يغيِّر واوها ، إذا فارق الرفع ، فيقول : » رأيتُ ذَا قَامَ « .
ووجه القراءة أنه لمَّا فخَّم الألف انتحى بها الواو التي الألف بدل منها ، على حدِّ قولهم : الصَّلاة والزكاة ، وهي بالجملة قراءة شاذةٌ » . قال شهاب الدين : غيره يقيِّد هذه العبارة ، فيقول : « ليس في الأسماء المعربة واو قبلها ضمة » حتى يخرج عنه « ذُو » بمعنى الذي ، و « هو » من الضمائر ، وابن جنِّي لم يذكر القيد استثناء « ذو الطائية » ويرد عليه نحو « هو » ، ويرد على العبارة « ذُو » بمعنى صاحب؛ فإنَّها معربةٌ في آخرها واوٌ بعد ضمةٍ .
وقد أجيب عنه بأنها تتغيَّر إلى الألف والياء فلم يبال بها ، وأيضاً فإنَّ ضمة الدَّال عارضةٌ ، إذ أصلها الفتح ، وإنما ضمَّت؛ إتباعاً على ما تقرر في إعراب الأسماء الستة في كتب النحو .
وقله : « بناءً لازماً » تحرُّزٌ من وجود الخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ ، بطريق العرض؛ نحو : الحِبُك؛ فإنه من التداخل ، ونحو : الرِّدُءْ « موقوفاً عليه ، فالخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ في هاتين الكلمتين ، ليس بلازمٍ .
وقوله : » مِنْهُمْ مَنْ يغيِّرُ واوَها « المشهور بناؤها على الواو مطلقاً ، وقد تعرب؛ كالتي بمعنى صاحب؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
1268- فَإِمَّا كِرَامٌ مُوسِرُونَ لَقِيتُهُمْ ... فَحَسْبِيَ مِنْ ذِي عِنْدَهُمْ مَا كَفَانِيَا
ويروى : » مِنْ ذُو « على الأصل .
فصل
قوله : { إِن كُنْتُمْ } شرطٌ ، وجوابه محذوفٌ عند الجمهور ، أي : فاتَّقوا ، وذروا ، ومتقدِّم عند جماعةٍ ، وقيل : » إِنْ « هنا بمعنى إذ؛ وهذا مردودٌ .
فإن قيل : كيف قال { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله } ثم قال { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } فالجواب من وجوهٍ :
الأول : أن هذا كما يقال إن كنت أخي فأكرمني ، معناه : إِنَّ من كان أخاً ، أكرم أخاه .
الثاني : أنَّ معناه إن كنتم مؤمنين قبله ، أي : معترفين بتحريم الرِّبا .
الثالث : إن كنتم تريدون استدامة حكم الإيمان .
الرابع : يا أيُّها الذين آمنوا ، بلسانهم ، ذروا ما بقي من الرِّبا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم .
الخامس : ما تقدم أنَّ » إن « بمعنى » إذْ « .

فصل في سبب النزول
في سبب النزول رواياتٌ :
الأولى : أن أهل مكة كانوا يرابون ، فلما أسلموا عند فتح مكة ، أمرهم الله تعالى بهذه الآية ، أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة .
الثانية : قال مقاتلٌ : نزلت في أربعة إخوةٍ من ثقيف : مسعودٍ ، وعبد [ ياليل ] ، وحبيبٍ ، وربيعة ، وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي ، كانوا يداينون بنى المغيرة بن عبدالله بن عمير بن مخزوم وكانوا يرابون . فلما ظهر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على لاطائف ، أسلم هؤلاء الإخوة ، فطلبوا رباهم من بنى المغيرة . فقال بنو المغيرة : والله ما نعطي الرِّبا في الإسلام ، وقد وضعه الله تعالى عن المؤمنين ، فاختصموا إلى عتَّاب بن أسيد ، فكتب عتَّابٌ - وكان عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصة الفريقين ، وكان ذلك مالاً عظيماً؛ فنزلت الآية .
الثالثة : قال عطاء ، وعكرمة : نزلت في العباس بن عبد المطَّلب ، وعثمان بن عفَّان - رضي الله عنهما - وكانا قد أسلفا في التمر ، فلما حضر الجذاذ ، قال لهما صاحب التمر : إن أنتما أخذتما حقكما ، لا يبقى لي ما يكفي عيالي! فهل لكما أن تأخذا النصف ، وتؤخِّرا النّصف؛ وأضعف لكما؟ ففعلا ، فلما جاء الأجل ، طلبا الزيادة ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهاهما فأنزل الله هذه الآية؛ فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما .
الرابعة : قال السُّدِّيُّ : نزلت في العباس ، وخالد بن الوليد ، وكانا شريكين في الجاهلية ، يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عميرٍ ، وناسٍ من ثقيف ، فجاء الإسلام ولهما أموالٌ عظيمةٌ في الربا؛ فأنزل الله هذه الآية . فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في « حجةِ الوَدَاعِ » في خطبته يوم عرفة « أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ ، ودِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ ، وإنَّ أَوَّلَ دَم أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابنِ رَبِيعَةَ بن الحَارِثِ ، كان مُسْتَرْضِعاً في بني سعدٍ؛ فقَتَلَه هُذيْلٌ ، وَرِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، وأَوَلُّ رِباً أَضَعُ رِبَا العباسِ بنِ عَبْد المطلبِ؛ فإنه مَوْضُوعٌ كُلُّه » .
فصل
القاضي قوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } يدلُّ على أنَّ الإيمان لا يتكامل إذا أصرَّ الإنسان على الكبائر ، ولا يصير الإنسان مؤمناً على الإطلاق ، إلاَّ إذا اجتنب كل الكبائر .
والجواب : لمَّا دلَّت الدلائل الكثيرة المذكورة في قوله تعالى : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } [ البقرة : 3 ] على أنَّ العمل خارج عن مسمَّى الإيمان ، كانت هذه الآية محمولةً على كمال الإِيمان وشرائعه ، فكان التقدير : إن كنتم عاملين بمقتضى شرائع الإيمان ، وهذا وإن كان تركاً للظاهر لكنا ذهبنا إليه؛ لتلك الدلائل .
فإن قيل : كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين؟
قلنا : هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر

« مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً ، فَقَدْ بَارَزَنِي بالمُحَارَبَةِ » ، وعن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ لم يَدَع المخابرة ، فليأذَن بحرب من اللهِ ورسُوله » وقد جعل كثيرٌ من المفسرين والفقهاء قوله : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } [ المائدة : 33 ] أصلاً في قطع الطريق من المسلمين ، فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب وسنة رسوله .
وفي الجواب عن السؤال وجهان :
الأول : أن المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب .
الثاني : أن المراد منه نفس الحرب ، وفيه تفضيلٌ؛ فنقول : إنّ المصرَّ على فعل الربا ، إذا كان من شخص ، وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التَّعزير ، والحبس إلى أن تظهر منه التوبة ، وإن كان المصر ممن له عسكرٌ وشوكة ، حاربه الإمام ، كما يحارب الفئة الباغية ، وكما حارب أبو بكرٍ - رضي الله عنه - مانعي الزكاة ، وكذا القول لو اجتمعوا على ترك الأذان ، وترك دفن الموتى ، فإنه يفعل بهم ما ذكرناه .
وقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - من عامل بالربا ، يستتاب ، فإن تاب ، وإلاّض ضرب عنقه .
والقول الثاني : أنه خطابٌ للكفار ، وأن معنى قوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي : معترفين بتحريم الربا { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } أي : فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } ومن ذهب إلى هذا القول ، قال : إنَّ فيه دليلاً على أنّض من كفر بشريعة واحدةٍ من شرائع الإسلام ، فهو خارجٌ من ملة الإسلام ، كافرٌ كما لو كفر بجميع شرائعه .
قوله : { وَإِنْ تُبْتُمْ } فالمعنى على القول الأول : وإن تبتم عن معاملة الربا ، وعلى الثاني : من استحلال الربا { فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } أي : لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال { وَلاَ تُظْلَمُونَ } أي : بنقصان رأس المال .
قوله : { لاَ تَظْلِمُونَ } فيها وجهان :
أظهرهما : أنها لا محلَّ لها؛ لاستئنافها ، أخبرهم تعالى بذلك ، أي : لا تظلمون غيركم بأخذكم الزيادة منه ، ولا تظلمون أنتم - أيضاً - بضياع رؤوس أموالكم .
والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في « لَكُمْ » والعامل ما تضمَّنه الجارُّ من الاستقرار؛ لوقوعه خبراً وهو رأي الأخفش .
وقرأ الجمهور الأول مبنيّاً للفاعل ، والثاني مبنياً للمفعول . وروى أبانٌ ، والمفضَّل ، عن عاصم بالعكس . ورجَّح الفارسي قراءة العامة؛ بأنها تناسب قوله : « وإن تُبْتُمْ » في إسناد الفعلين إلى الفاعل ، فتظلمون مبنياً للفاعل أشكل بما قبله . وقال أبو البقاء رحمه الله : يُقْرَأُ بتسميةِ الفَاعِلِ في الأوَّلِ ، وترْكِ التسمية في الثاني؛ ووجهه : أنَّ منعهم من الظلم أهمُّ؛ فبدئ به ، ويقرأ بالعكس ، والوجه فيه : أنه قدَّم ما تطمئن به نفوسهم من نفي الظلم عنهم ، ثم منعهم من الظلم ، ويجوز أن تكون القراءتان بمعنى واحدٍ؛ لأنَّ الواو لا ترتِّب .

وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)

قوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } : في « كان » هذه وجهان :
أحدهما : - وهو الأظهر - أنها تامةٌ بمعنى حدث ، ووجد ، أي : وإن حدث ذو عسرةٍ ، فتكتفي بفاعلها كسائر الأفعال ، قيل : وأكثر ما تكون كذلك إذا كان مرفوعها نكرةٌ ، نحو : « قد كان مِنْ مَطَرٍ » .
والثاني : أنها الناقصة والخبر محذوفٌ . قال أبو البقاء : « تقديره : وإن كان ذو عسرة لكم عليه حقٌّ ، أو نحو ذلك » وهذا مذهب بعض الكوفيين في الآية ، وقدَّر الخبر : وإن كان من غرمائكم ذو عسرةٍ . وقدَّره بعضهم : وإن كان ذو عسرةٍ غريماً .
قال أبو حيَّان : « وَحَذْفُ خبرِ كَانَ لا يجيزه أصحابنا؛ لا اختصاراً؛ ولا اقتصاراً ، لعلَّةٍ ذكروها في كتبهم . وهي أنَّ الخبر تأكّد طلبه من وجهين :
أحدهما : كونه خبراً عن مخبر عنه .
والثاني : كونه معمولاً للفعل قبله ، فلما تأكدت مطلوبيته ، امتنع حذفه .
فإن قيل : أليس أن البصريين لمَّا استدلَّ عليهم الكوفيون في أنَّ » ليس « تكون عاطفةً بقوله : [ الرمل ]
1269- .. إِنَّمَا يَجْزِي الفَتَى لَيْسَ الجَمَلْ
تأوَّلُوهَا على حَذْفِ الخَبَرِ؛ وأَنْشدوا شَاهِداً على حَذْفِ الخبرِ قولَه : [ الكامل ]
1270- ... يَبْغِي جِوَارَكِ حِينَ لَيْسَ مُجِيرُ
وإذا ثبت هذا ، ثبت في سائر الباب .
فالجواب أن هذا مختصٌّ بليس؛ لأنها تشبه لا النافية ، و » لا « يجوز حذف خبرها ، فكذا ما أشبهها » .
وتقوَّى الكوفيُّون بقراءة عبد الله ، وأُبيّ؛ وعثمان : « وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ » أي : وإن كان الغريم ذا عُسْرَةٍ . قال أبو عليّ : في « كان » اسمها ضميراً تقديره : هو ، أي : الغريم ، يدلُّ على إضماره ما تقدَّم من الكلام؛ لأنَّ المرابي لا بدَّ له ممَّن يرابيه .
وقرأ الأعمش : « وإِنْ كان مُعْسِراً » قال الدَّاني ، عن أحمد بن موسى : « إنها في مُصْحَفِ عبد الله كذلك » .
ولكنَّ الجمهور على ترجيح قراءة العامة وتخريجهم القراءة المشهورة . قال مكي : وَإِنْ وقع ذُو عُسْرَةٍ ، وهو سائغٌ في كلِّ الناس ، ولو نصبت « ذا » على خبر « كان » ، لصار مخصوصاً في ناس بأعيانهم؛ فلهذه العلة أجمع القرَّاء المشهورون على رفع « ذو » .
وقد أوضح الواحديُّ هذا ، فقال : « أي : وإنْ وقع ذو عسرةٍ ، والمعنى على هذا يصحُّ ، وذلك أنه لو نصب ، فقيل : وإن كان ذا عسرة ، لكان المعنى : وإن كان المشتري ذا عُسْرةٍ ، فنظرةٌ؛ فتكون النظرة مقصورةً عليه ، وليس الأمر كذلك؛ لأن المشتري ، وغيره إذا كان ذا عسرةٍ ، فله النظرة إلى الميسرة » .
وقال أبو حيَّان : مَنْ نصب « ذَا عُسْرَةٍ » ، أو قرأ « مُعْسِراً » فقيل : يختصُّ بأهل الرِّبا ، ومن رفع ، فهو عامٌّ في جميع من عليه دينٌ ، قال : « وليس بلازمٍ ، لأنَّ الآية إنما سِيقَتْ في أهل الربا ، وفيهم نزلت » قال شهاب الدين : وهذا الجواب لا يجدي؛ لأنه وإن كان السياق كذا ، فالحكم ليس خاصاً بهم .

وقرئ « وَمَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ » ، وقرأ أبو جعفرٍ « عُسْرَةٍ » بضم السين .
فصل
قال ابن الخطيب : لما كنتُ ب « خَوَارِزْم » ، وكان هناك جمعٌ من أكابر الأدباء ، فأوردت عليهم إشكالاً في هذا الباب؛ فقلت : إنكم تقولون : إنَّ « كان » إذا كانت ناقصةً ، أنها تكون فعلاً؛ وهذا محالٌ؛ لأن الفعل ما دلَّ على اقتران حدثٍ بزمان ، فقولك « كان » يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي ، وإذا أفاد هذا المعنى ، كانت تامةً ، لا ناقصةً ، فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلاً ، كانت تامةً لا ناقصة ، وإن لم تكن تامةً لم تكن فعلاً ألبتة؛ بل كانت حرفاً ، وأنتم تنكرون ذلك؛ فبقوا في هذا الإشكال زماناً طويلاً ، وصنَّفوا في الجواب عنه كتباً ، وما أفلحوا فيه ، ثم انكشف لي فيه سرٌّ أذكره - ها هنا - وهو : أنَّ « كانَ » لا معنى له إلاَّ أنه حدث ، ووقع ، ووجد إلاَّ أن قولك وجد ، وحدث على قسمين :
أحدهما : أن يكون المعنى وجد ، وحدث الشيء؛ كقولك : وجد الجوهر ، وحدث العرض .
والثاني : أن يكون المعنى وجد ، وحدث موصوفية الشيء بالشيء ، فإذا قلت : كان زيدٌ عالماً ، فمعناه : حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم .
والقسم الأول هو المسمَّى ب « كان » التامة .
والقسم الثاني : هو المسمَّى ب « الناقصة » وفي الحقيقة : فالمفهوم من « كان » في الموضعين هو الحدوث ، والوقوع إلاَّ أنه في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه فلا جرم كان الاسم الواحد كافياً والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر ، فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافياً ، بل لا بدَّ فيه من ذكر الاسمين حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر ، وهذا من لطائف الأبحاث .
فأما إن قلنا إنه فعل ، كان دالاًّ على وقوع المصدر في الزمان الماضي فحينئذٍ تكون تامةً لا ناقصةً ، وإن قلنا إنه ليس بفعل بل حرفٌ ، فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل ، والأمر ، وجميع خواصِّ الأفعال؟ وإذا حمل الأمر على ما قلناه ، تبيَّن أنه فعلٌ وزال الإشكال بالكلية .
المفهوم الثالث ل « كان » أن تكون بمعنى « صَارَ » ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
1271- بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
وعندي أنَّ هذا اللفظ - ها هنا - محمولٌ على ما ذكرناه ، فإنَّ معنى « صار » أنَّها حدثت موصوفية الذات بهذه الصفة ، بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك؛ فتكون « كان » هنا أيضاً بمعنى حدث ، ووقع؛ إلاَّ أنه حدوثٌ مخصوصٌ وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة ، بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى .

المفهوم الرابع : أن تكون زائدة؛ وأنشدوا : [ الوافر ]
1272- سَرَاةُ بَنِي أبي بَكْرٍ تَسَامَى ... عَلَى كَانَ المُسَوَّمَةِ الجِيَادِ
و « العُسْرَةِ » اسم من الإعسار ، ومن العسر ، وهو تعذُّر الموجود من المال؛ يقال : أعسر الرجل ، إذا صار إلى حالة العسرة ، وهي الحالة التي يتعسَّر فيها وجود المال .
قوله : { فَنَظِرَةٌ } الفاء جواب الشرط ، و « نَظِرَةٌ » خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالأمر أو فالواجب ، أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ ، أي : فعليكم نظرةٌ .
وقرأ العامَّة : « نَظِرَةٌ » بزنة « نَبَقَة » . وقرأ الحسن ، ومجاهدٌ ، وأبو رجاء : « فَنَظِرةٌ » بتسكين العين ، وهي لغةٌ تميمةٌ يقولون : « كَبْد » في « كَبِد » و « كَتْف » في « كَتِف » .
وقرأ عطاء « فَنَاظِرَةٌ » على فاعلة ، وقد خرَّجها أبو إسحاق على أنها مصدر نحو : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } [ الواقعة : 2 ] { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين } [ غافر : 19 ] { أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة : 25 ] . وقال الزمخشري : « فناظِرُهُ ، أي : فصاحب الحقّ ناظره ، أي : منتظره ، أو صاحب نظرته على طريقة النسب؛ كقولهم : مَكَانٌ عَاشِبٌ ، وبَاقِلٌ؛ بمعنى ذو عشبٍ ، وذو بقلٍ ، وعنه : » فناظِرْهُ « على الأمر بمعنى : فسامحه بالنظرة ، وباشره بها » فنقله عنه القراءة الأولى يقتضي أن تكون قراءته « ناظِر » اسم فاعل مضافاً لضمير ذي العسرة ، بخلاف القراءة التي قدمها عن عطاء ، فإنها « نَاظِرَةٌ » بتاء التأنيث ، ولذلك خرَّجها الزَّجَّاج على المصدر . وقرأ عبد الله : « فناظِرُوه » أمراً للجماعة بالنظرة ، فهذه ستُّ قراءات مشهورها واحدةٌ .
وهذه الجملة لفظها خبرٌ ، ومعناها الأمر؛ كقوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } [ البقرة : 233 ] وقد تقدَّم . والنظرة : من الانتظار ، وهو الصبر والإمهال .
تقول : بعته الشيء بنظرة ، وبإنظار . قال : { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } [ الأعراف : 14-15 ] { إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } [ الحجر : 38 ] .
قوله : { إلى مَيْسَرَةٍ } قرأ نافع وحده : « مَيْسَرَة » بضمِّ السِّين ، والباقون بفتحها . والفتح هو المشهور؛ إذ مفعل ، ومفعلة بالفتح كثيرٌ ، ومفعُلٌ بالضم ، معدومٌ؛ إلا عند الكسائي ، فإنه أورد منه ألفاظاً ، وأمَّا مفعلةٌ ، فقالوا : قليلٌ جدّاً وهي لغة الحجاز ، وقد جاءت منها ألفاظٌ ، نحو : المسرُقة ، والمقبرة ، والمشربة ، والمسربة ، والمقدرة ، والمأدبة ، والمفخرة ، والمزرعة ، ومعربة ، ومكرمة ، ومألكة .
وقد ردَّ النحاس الضمَّ؛ تجرؤاً منه ، وقال : « لم تَأْتِ مَفْعُلَةٌ إِلاَّ في حُرُوفٍ معدودةٍ ليس هذه منها ، وأيضاً فإنَّ الهاء زائدةٌ ، ولم يَأْتِ في كلامِهِم مَفْعُل أَلْبتةَ » انتهى .
وقال سيبويه : « لَيْسَ في الكَلاَمِ مَفْعُل » قال أبو عليّ : « يَعْنِي في الآحاد » . وقد حكى سيبويه « مَهْلك » مثلَّث اللاَّم ، وقال الكسائيُّ : « مَفْعُل » في الآحاد ، وأورد منه مكرُماً في قول الشاعر : [ الرجز ]

1273- لِيَوْمِ رَوْعٍ أَوْ فَعَالِ مَكْرُمِ ... ومَعْوُن في قول الآخر - هو جميلٌ - : [ الطويل ]
1274- بُثَيْنُ ، ألْزَمِي « لاَ » ؛ إنَّ « لاَ » إِنْ لَزِمْتِهِ ... عَلَى كَثْرَةِ الوَاشِينَ أَيُّ مَعْوُنِ
ومألكاً في قول عديّ : [ الرمل ]
1275- أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلُكاً ... أَنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي
وهذا لا يرد على سيبويه لوجهين :
أحدهما : أنَّ هذا جمعٌ لمكرمةٍ ، ومعونة ، مألكة ، وإليه ذهب البصريون ، والكوفيون خلا الكسائي ، ونقل عن الفراء أيضاً .
والثاني : أن سيبويه لا يعتدُّ بالقليل ، فيقول : « لم يَرِدْ كذا » وإن كان قد ورد منه الحرف والحرفان ، لعدم اعتداده بالنادر القليل .
وإذا تقرَّر هذا ، فقد خطَّأ النحويون مجاهداً ، وعطاءً في قراءتهما : « إلى مَيْسُرِهِ » بإضافة « مَيْسُر » مضموم السين إلى ضمير الغريم؛ لأنهم بنوه على أنه ليس في الآحاد مفعل ، ولا ينبغي أن يكون هذا خطأً؛ لأنه على تقدير تسليم أنَّ مفعلاً ليس في الآحاد ، فميسر هنا ليس واحداً ، إنما هو جمع ميسرة ، كما قلتم أنتم : إنَّ مكرماً جمع مكرمةٍ ، ونحوه ، أو يكون قد حذف تاء التأنيث للإضافة؛ كقوله : [ البسيط ]
1276- إِنَّ الخَلِيطَ أَجَدُّوا البَيْنَ فَانْجَرَدُوا ... وأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا
أي : عدة الأمر؛ ويدلُّ على ذلك أنهم نقلوا عنهما ، أنهما قرآ أيضاً : « إِلَى مَيْسَرِهِ » بفتح السين ، مضافاً لضمير الغريم ، وهذه القراءة نصٌّ فيما ذكرته لك من حذف تاء التأنيث للإضافة؛ لتوافق قراءة العامَّة : « إلى مَيْسَرَةٍ » بتاء التأنيث .
وقد خرَّجها أبو البقاء على وجهٍ آخر ، وهو أن يكون الأصل : « مَيْسُورِه » فخفِّف بحذف الواو؛ اكتفاءً بدلالة الضمة عليها ، وقد يتأيَّد ما ذكره على ضعفه ، بقراءة عبد الله ، فإنه قرأ : إلى « مَيْسُورِه » بإضافة « مَيْسورٍ » للضمير ، وهو مصدرٌ على مفعول؛ كالمجلود والمعقول ، وهذا إنما يتمشَّى على رأي الأخفش؛ إذ أثبت من المصادر زنة مفعول ، ولم يثبته سيبويه .
« والمَيْسَرَةُ » : مفعلةٌ من اليسر ، واليسار الذي هو ضدُّ الإعسار ، وهو تيسر الموجود من المال ومنه يقال أيسر الرجل ، فهو موسرٌ ، أي : صار إلى حالة وجود المال فالميسرة ، واليسر ، والميسور : الغنى .
فصل في سبب نزول « وإن كان ذو عسرة »
لما نزل قوله : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة : 279 ] قال بنو عمرو الثَّقفي : بل نتوب إلى الله ، فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله ، فرضوا برأس المال ، فشكى بنو المغيرة العسرة ، وقالوا : أخِّرونا إلى أن تدرك الغلاَّت ، فأبوا أن يؤخروا؛ فأنزل الله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } يعني وإن كان الذي عليه الدَّين معسراً ، { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } ، يعن : أَنْظِرُوه إلى اليسار ، والسَّعة .

فصل في بيان حكم الإنظار
اختلفوا في حكم الإنظار : هل هو مختصٌّ بالربا ، أو عامٌّ في كل دين؟ فقال ابن عباس ، وشريح ، والضحاك ، والسدي ، وإبراهيم : الآية في الربا ، وذكر عن شريح أنَّه أمر بحبس الخصم ، فقيل له : إنه معسرٌ ، فقال شريح إنما ذلك في الربا ، والله تعالى قال في كتابه العزيز { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا } [ النساء : 58 ] .
وقال جماعة منهم مجاهد : إنها عامَّة في كل دين؛ لعموم قوله تعالى : { ذُو عُسْرَةٍ } ولم يقل ذا عسرة .
فصل
والإعسار : هو ألاَّ يجد في ملكه ما يؤدِّيه بعينه ، ولا يكون له ما لو باعه ، لأمكنه أداء الدَّين من ثمنه خارجاً عن مسكنه وثيابه ، ولا يجوز أن يحبس من لم يجد إلاَّ قوت يوم لنفسه وعياله ، وما لا بدَّ لهم من كسوةٍ لصلاتهم ودفع البرد والحرِّ عنهم .
واختلفوا : إذا كان قويّاً ، هل يلزمه أن يؤاجر نفسه من صاحب الدَّين ، أو غيره؟
فقال بعضهم : يلزمه ذلك ، كما يلزمه إذا احتاج لنفسه ، أو لعياله .
وقال بعضهم : لا يلزمه ذلك ، واختلفوا أيضاً إذا بذل للمعسر ما يؤدِّي به الدَّين ، هل يلزمه قبوله والأداء ، أو لا يلزمه؟ فأما من له بضاعة كسدت عليه فواجبٌ عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يكن إلاَّ ذلك ، ويؤدِّيه في الدَّين .
فصل في تحريم حبس المعسر
إذا علم الإنسان أنَّ غريمة معسرٌ - حرم عليه حبسه ، وأن يطالبه بما له عليه ووجب عليه إنظاره إلى يساره ، فإن ارتاب في إعساره ، جاز له حبسه إلى أن يظهر إعساره ، فإذا ادَّعى الإعسار وكذَّبه الغريم ، فإن كان الدَّين عن عوضٍ ، كالبيع ، والقرض ، فلا بدَّ له من إقامة البيِّنة على أنَّ ذلك العوض قد هلك ، وإن كان الدَّين عن غير عوض كالإتلاف ، والصَّداق ، والضَّمان؛ فالقول قول المعسر؛ لأن الأصل الفقر وعلى الغريم إقامة البينة .
فصل
قال المهدويُّ : قال بعض العلماء : هذه الآية ناسخةٌ لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر .
قال القرطبيُّ : وحكى مكيٌّ : أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به في صدر الإسلام .
قال ابنُ عطية : فإن ثبت فِعْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو نسخٌ ، وإلاَّ فليس بنسخ .
قال الطَّحاوي : كان الحرُّ يباع في الدَّين أول الإسلام ، إذا لم يكن له مالٌ يقضيه عن نفسه؛ حتى نسخ الله ذلك بقوله : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } .
واحتجُّوا بما رواه الدَّارقطنيُّ من حديث مسلم بن خالد الزَّنجي ، قال : حدثنا زيد ابن أسلم عن ابن البيلمانيّ ، عن سرَّقٍ ، قال : كان لرجلٍ عليّ مالٌ - أو قال - دينٌ فذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يصب لي مالاً ، فباعني منه ، أو باعني له؛ أخرجه البزَّار بإسناد طويل ، ومسلم بن خالد الزنجي ، وعبد الرحمن البيلماني لا يحتجُّ بهما .

قوله : { وَأَن تَصَدَّقُواْ } مبتدأ وخبره « خير » وقرأ عاصم : بتخفيف الصاد ، والباقون : بتثقيلها . وأصل القراءتين واحدٌ؛ إذ الأصل : تتصدَّقوا ، فحذف عاصمٌ إحدى التاءين : إمَّا الأولى ، وإمَّا الثانية ، وتقدَّم تحقيق الخلاف فيه ، وغيره أدغم التاء في الصاد ، وبهذا الأصل قرأ عبد الله : « تَتَصَدَّقوا » . وحذف مفعول التصدُّق للعلم به ، أي : بالإنظار؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ يَحِلُّ دَيْنُ رَجلٍ مُسْلم ، فيؤخره؛ إلاَّ كان له بِكُلِّ يَوْمٍ صدقةٌ » وهذا ضعيفٌ؛ لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية ، فلا بد من حمل هذه الآية على فائدةٍ جديدةٍ ، ولأن قوله « خَيْرٌ لكُمْ » إنما يليق بالمندوب ، لا بالواجب . وقيل : برأس المال على الغريم ، إذ لا يصحُّ التصدق به على غيره؛ كقوله تعالى : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] .
قوله : { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جوابه محذوفٌ ، و « اَنْ تَصَدَّقُوا » بتأويل مصدرٍ مبتدأ ، و « خيرٌ لكم » خبره .
فصل في تقدير مفعول « تعلمون » ونصب « يوماً »
وتقدير مفعول « تَعْلَمُونَ » فيه وجوه :
أحدها : إن كنتم تعلمون أنَّ هذا التصدُّق خير لكم إن عملتموه .
الثاني : إن كنتم تعلمون فضل التصدُّق على الإنظار والقبض .
الثالث : إن كنتم تعلمون أنَّ ما يأمركم به ربُّكم أصلح لكم .

وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)

قوله : { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } الآية انتصب قوله « يَوْماً » على المفعول به ، لا على الظرف؛ لأنه ليس المعنى واتَّقوا في هذا اليوم ، لكن المعنى تأهَّبوا للقائه ، بما تقدِّمون من العمل الصالح ، ومثله : { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } [ المزمل : 17 ] أي : كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا وصفه ، مع الكفر بالله تعالى .
فصل في آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هذه آخر آيةٍ نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك لأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما حجَّ نزلت { وَيَسْتَفْتُونَكَ } [ النساء : 172 ] وهي آية الكلالة ثم نزلت ، وهو واقفٌ بعرفة { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] ثم نزل { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } فقال جبريل - عليه السلام - يا محمد ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة ، وعاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدها أحداً وثمانين يوماً ، وقيل أحداً وعشرين يوماً .
وقال ابن جريجٍ : تسع ليالٍ .
وقال سعيد بن جبير : سبع ليالٍ ، وقيل : ثلاث ساعاتٍ ، ومات يوم الاثنين ، لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول ، حين زاغت الشمس ، سنة إحدى عشرة من الهجرة .
وقال الشعبي ، عن ابن عباس : آخر آيةٍ نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أية الرِّبا .
قوله تعالى : { تُرْجَعُونَ فِيهِ } : هذه الجملة في محلِّ نصبٍ؛ صفةً للظرف . وقرأ أبو عمرو : « تَرْجِعُونَ » بفتح التاء؛ مبنياً للفاعل ، والباقون بضَمِّ التَّاءِ مبنياً للمفعُولِ . وقرأ الحسنُ : « يَرْجِعُون » بياء الغيبة؛ على الالتفات . قال ابن جنِّي : « كأنَّ اللهَ تعالى رَفَقَ بالمؤمنينَ عن أنْ يواجِهَهُم بذكر الرَّجْعَة ، إذ هي ممَّا تتفطَّر لها القلوب ، فقال لهم : » واتَّقُوا « ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة ، فقال : يَرْجِعُون » .
واعلم أنَّ الرجوع لازمٌ ومتعدٍّ ، وعليه خرِّجت القراءتان .
فصل في المراد باليوم
قال القاضي : اليوم : عبارةٌ عن زمانٍ مخصوصٍ ، وذلك لا يتَّقى؛ إنَّما يتقى ما يحدث فيه من الشِّدة ، والأهوال ، واتقاء تلك الأهوال لا يمكن إلاَّ في دار الدُّنيا بمجانبة المعاصي ، وفعل الواجبات؛ فصار قوله : { واتقوا يَوْماً } يتضمن الأمر بجميع أنواع التكليف .
قال جمهور العلماء : المراد بهذا اليوم المحذَّر منه هو يوم القيامة .
وقيل يوم الموت ، قال ابن عطية : والأول أصحُّ .
فصل
اعلم أنَّ الرجوع إلى الله ليس المراد منه ، ما يتعلق بالمكان والجهة؛ فإن ذلك محالٌ على الله تعالى ، وليس المراد الرجوع إلى علمه ، وحفظه؛ فإنه معهم أينما كانوا ، لكن كل ما في القرآن من الرجوع إلى الله ، فله معنيان :
الأول : أن الإنسان له ثلاثة أحوالٍ مرتَّبين ، فالأولى : كونهم في بطون أمَّهاتهم لا يملكون نفعهم ، ولا ضرَّهم؛ بل المتصرف فيهم ليس إلاَّ الله تعالى .

والثانية : بعد خروجهم من البطون ، فالمتكفل بإصلاح أحوالهم في أوَّل الأمر الأبوان ، ثم بعد ذلك ، يتصرف بعضهم في بعض ، في حكم الظاهر .
الثالثة : بعد الموت وهناك لا يتصرف فيهم إلاَّ الله تعالى ، فكأنه بعد الخروج عن الدنيا عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل الدخول في الدنيا ، فهذا معنى الرجوع إلى الله .
المعنى الثاني : أن المراد يرجعون إلى ما أعدَّ الله لهم من ثوابٍ ، وعقابٍ .
قوله : { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } معناه : أنَّ المكلف يصل إليه جزاء عمله بالتمام ، كما قال : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] ، وقال : { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] .
وفي تأويل قوله : { مَّا كَسَبَتْ } وجهان :
أحدهما : فيه حذفٌ تقديره : جزاء ما كسبت .
والثاني : أنَّ المكتسب إنَّما هو الجزاء في الأصل ، فقوله { مَّا كَسَبَتْ } معناه : ذلك الجزاء وهذا أولى؛ لأنه لا يحتاج إلى الإضمار .
قوله : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } جملة حالية من « كلِّ نَفْسٍ » وجمع اعتباراً بالمعنى ، وأعاد الضمير عليها أولاً مفرداً في « كَسَبَتْ » اعتباراً باللفظ ، وقدِّم اعتبار اللفظ؛ لأنه الأصل ، ولأنَّ اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة؛ فكان تأخيره أحسن .
قال أبو البقاء : وَيَجُوزُ أن يكون حالاً من الضمير في : « يُرْجَعُون » على القراءة بالياء ، ويجوز أن يكون حالاً منه - أيضاً - على القراءة بالتاء ، على أنَّه خروج من الخطاب إلى الغيبة؛ كقوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] ، قال شهاب الدين : ولا ضرورة تدعو إلى ذلك .
فإن قيل : لما قال { توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } فهم منه عدم الظلم ، فيكون قوله : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } من باب التكرير .
فالجواب : أنه تعالى لما قال { توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } دلَّ على إيصال العذاب إلى الكفار والفسَّاق ، فكان لقائلٍ أن يقول : كيف يليق بأكرم الأكرمين تعذيب عبيده؟ فأجاب بقوله : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } والمعنى : أن العبد هو الذي ورط نفسه؛ لأن الله تعالى مكَّنه ، وأزاح عذره ، فهو الذي أساء إلى نفسه .
وهذا الجواب إنَّما يستقيم على أصول المعتزلة ، وأمَّا على أصولنا ، فالله سبحانه مالك الخلق ، يتصرف في ملكه كيف شاء ، وأراد؛ فلا يكون ظلماً .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

في كيفية النظم وجهان :
الأول : أنَّ تعالى لمَّا ذكر الإنفاق في سبيل الله ، وهو يوجب تنقيص المال ، وذكر الرِّبا ، وهو - أيضاً - سبب تنقيص المال ، وختم هذين الحكمين بالتهديد بقوله { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } [ البقرة : 281 ] والتقوى تسدُّ على الإنسان أكثر أبواب المكاسب ، والمنافع - أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال ، وصونه عن الفساد ، فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله ، وعلى ترك الرِّبا ، وعلى ملازمة التقوى ، لا يتم إلاَّ عند حصول المال؛ فلأجل هذا بالغ في الوصيَّة بحفظ المال ، ونظيره { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً } [ النساء : 5 ] فحثَّ على الاحتياط في أمر الأموال؛ لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد .
قال القفَّال - رحمه الله تعالى - ويدلُّ على ذلك : أنَّ ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار ، وفي هذه الآية بسطٌ شديدٌ؛ ألاَّ ترى أنَّه قال تعالى { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه } ، ثم قال ثانياً : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } ، ثم قال ثالثاً : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله } ، فكان هذا كالتِّكرار لقوله : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } ؛ لأنَّ العدل هو ما علَّمه الله ، ثم قال رابعاً : { فَلْيَكْتُبْ } وهذا إعادةٌ للأمر الأول؛ ثم قال خامساً : { وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق } وفي قوله : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } كفاية عن قوله : { وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق } ؛ لأنَّ الكاتب بالعدل إنَّما يكتب ما يملُّ عليه ، ثم قال سادساً : { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } ، وهذا تأكيدٌ ، ثم قال سابعاً : { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } ، وهذا كالمستفاد من قوله : { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } ، ثم قال ثامناً : { وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ } ، وهو أيضاً تأكيد لما مضى ، ثم قال تاسعاً : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا } ، فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التَّأكيدات السَّالفة ، وكلُّ ذلك يدلُّ على المبالغة في التَّوصية بحفظ المال الحلال ، وصونه عن الهلاك؛ ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله ، والإعراض عن مساخط الله : من الرِّبا ، وغيره ، والمواظبة على تقوى الله .
الوجه الثاني : قال بعض المفسرين : إنَّ المراد بهذه المداينة « السَّلَمُ » فإن الله تبارك وتعالى لما منع من الرِّبا في الآية المتقدِّمة؛ أذن في السَّلم في هذه الآية ، مع أنَّ جميع المنافع المطلوبة من الرِّبا حاصلة في السَّلم ، وبهذا قال بعض العلماء : لا لذَّة ، ولا منفعة يوصل إيها بالطَّريق الحرام ، إلا والله - صلى الله عليه وسلم - سبحانه وتعالى - وضع لتحصيل تلك اللَّذَّة طريقاً حلالاً ، وسبيلاً مشروعاً .
فصل
قال سعيد بن المسيَّب : بلغني أنَّ أحدث القرآن بالعرش آية الدَّين .
التداين تفاعل من الدَّين كتبايع من البيع ، ومعناه : داين بعضكم بعضاً ، وتداينتم : تبايعتم بدين .

يقال : داينت الرجل أي : عاملته بدينٍ ، وسواء كنت معطياً ، أم آخذاً؛ قال رؤبة : [ الرجز ]
1277- دَايَنْتُ أَرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى ... فَمَطلَتْ بَعْضاً وَأَدَّتْ بَعْضَا
ويقال : دنت الرجل : إذا بعته بدينٍ ، وأدنته أنا : أخذت منه بدين ففرَّقوا بين فعل وأفعل .
قال ابن الخطيب : قال أهل اللغة القرض غير الدين؛ لأنَّ القرض أن يقرض الرجل الإنسان دراهم أو دنانير أو حباً أو تمراً وما أشبه ذلك ، ولا يجوز فيه الأجل ، والدَّين يجوز فيه الأجل ويقال من الدّين : أدَّان إذا باع سلعته بثمن إلى أجلٍ ، ودان يدين إذا أقرض ودان إذا استقرض؛ وأنشد الأحمر : [ الطويل ]
1278- نَدِينُ وَيَقْضِي اللهُ عنَّا وَقَدْ نَرَى ... مَصَارعَ قَوْمٍ لاَ يَدِينُونَ ضُيَّعِ
فصل في بيان إباحة السلف
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لما حرم الله تعالى الرِّبا؛ أباح السَّلف ، وقال : أشهد أن السَّلف المضمون إلى أجل مسمّى ، قد أحلَّه الله في كتابه ، وأذن فيه ثمَّ قال : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه } .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : نزلت في السَّلف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة وهم يسلفون الثِّمار السَّنتين ، والثَّلاث؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ أَسْلَفَ؛ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ ، إلى أَجَلٍ مَعْلُومٍ » .
وقال آخرون : المراد القرض ، وهو ضعيف؛ لأن القرض لا يشترط فيه الأجل والآية فيها اشتراط الأجل ، وقال أكثر المفسِّرين البياعات على أربعة أوجه :
أحدها : بيع العين بالعين ، وذلك ليس بمداينة ألبتة .
والثاني : بيع الدَّين بالدَّين ، وهو باطلٌ ، فلا يدخل تحت الآية . بقي قسمان ، وهما بيع العين بالدَّين ، وهو بيع الشَّيء بثمن مؤجَّل ، وبيع الدَّين بالعين ، وهو المسمَّى ب « السّلم » وكلاهما داخلان تحت هذه الآية الكريمة .
فإن قيل : المداينة : مفاعلة ، وحقيقتها أن يحصل من كلّ واحدٍ منهما دين ، وذلك هو بيع الدَّين بالدَّين ، وهو باطلٌ بالاتفاق .
فالجواب : أنَّ المراد من « تَدَايَنْتُمْ » : تعاملتم ، والتَّقدير تعاملتم بما فيه دين .
فإن قيل : قوله « تَدَايَنْتُمْ » يدلُّ على الدّين ، فما الفائد في قوله : « بِدَيْنٍ » .
فالجواب من وجوه :
أحدها : قال ابن الأنباريّ : التَّداين يكون لمعنيين :
أحدهما : التَّداين بالمال؛ والتَّداين بمعنى المجازاة من قولهم : « كَمَا تَدِينُ تُدَانُ » فذكر الدين لتخصيص أحد المعنيين .
الثاني : قال الزَّمخشريُّ : وإنَّما ذكر الدَّين؛ ليرجع الضمير إليه في قوله تبارك وتعالى { فاكتبوه } إذ لو لم يذكر ، لوجب أن يقال : فاكتبوا الدُّين .
الثالث : ذكره ليدلّ به على العموم ، أي : أي دين كان من قليلٍ ، أو كثيرٍ من قرضٍ ، أو سلمٍ ، أو بيع دين إلى أجل .
الرابع : أنَّه تبارك وتعالى ذكره للتَّأكيد كقوله تبارك وتعالى

{ فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] وقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] .
الخامس : قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : إنَّ المداينة مفاعلة ، وهي تتناول بيع الدَّين بالدَّين وهو باطلٌ ، فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطلٌ ، فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطل فلما قال : { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } كان المعنى : إذا تداينتم تدايناً يحصل فيه دين واحد وحينئذٍ يخرج عن بيع الدّين بالدين ، ويبقى بيع العين بالدّين أو بيع الدّين بالعين ، فإن الحاصل في كلِّ واحدٍ منهما دين واحد لا غير .
فإن قيل : إن كلمة « إذَا » لا تفيد العموم ، والمراد من الآية العموم؛ لأن المعنى كلَّما تداينتم بدين فاكتبوه فلم عدل عن كلما وقال : { إِذَا تَدَايَنتُم } .
فالجواب : أنَّ كلمة « إِذَا » ، وإن كانت لا تقتضي العموم إلا أنَّها لا تمنع من العموم ، وها هنا قام الدَّليل على أنَّ المراد هو العموم؛ لأنه تعالى بين العلَّة في الأمر بالكتابة في آخر الآية ، وهي قوله تعالى : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا } والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدّين ، ولم يكتب فالظَّاهر أنه تنسى الكيفيَّة فربَّما توهم الزِّيادة ، فطلب الزِّيادة ظلماً ، وربَّما توهم النُّقصان ، فترك حقَّه من غير حمد ولا أجر ، فأمَّا إذا كتب كيفيَّة الواقعة أمن من هذه المحذورات ، فلمَّا دلَّ النَّصُّ على أن هذا هو العلَّة ، وهي قائمةٌ في الكلّ كان الحكم أيضاً حاصلاً في الكلِّ .
قوله تعالى : { إلى أَجَلٍ } : متعلِّق بتداينتم ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفة لدين ، و { مُّسَمًّى } صفة لدين ، فيكون قد قدَّم الصفة المؤولة على الصَّريحة ، وهو ضعيفٌ ، فكان الوجه الأول أوجه .
والأجل : في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره ، وأجل الدّين لوقت معيَّن في المستقبل ، وأصله من التَّأخير يقال : أجل الشَّيء بأجل أجولاً إذا تأخَّر ، والآجل : نقيض العاجل .
فإن قيل : المداينة لا تكون إلا مؤجلة ، فما فائدة ذكر الأجل المداينة؟
فالجواب : إنَّما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله { مُّسَمًّى } والفائدة ف يقوله { مُّسَمًّى } ليعلم أنَّ من حقّ الأجل أن يكون [ معلوماً ] كالتَّوقيت بالسَّنة ، والأشهر ، والأيَّام ، فلو قال إلى الحصاد ، أو إلى الدياس ، أو إلى رجوع قدوم الحاج؛ لم يجز لعدم التَّسمية .
وألف « مُسَمًّى » منقلبةٌ عن ياءٍ ، تلك الياء منقلبةٌ عن واو؛ لأنه من التَّسمية ، وقد تقدَّم أنَّ المادَّة من سما يسمو .
فصل
والأجل يلزم في الثَّمن في البيع ، وفي السّلم بحيث لا يكون لصاحب الحقّ الطلب قبل محله ، وفي القرض ، لا يلزم الأجل عن أكثر أهل العلم .
قال القرطبي : شروط السّلم تسعة ، ستّة في المسلم فيه ، وثلاثة في رأس مال السّلم .

أمَّا السِّتَّة التي في المسلم فيه فأن يكون في الذِّمَّة ، وأن يكون موصوفاً ، وأن يكون الأجل معلوماً ، وأن يكون الأجل معلوماً ، وأن يكون مؤجّلاً ، وأن يكون عام الوجود عند الأجل ، وأمَّا الثلاثة التي في رأس مال السلم ، فأن يكون معلوم الجنس ، معلوم المقدار ، وأن يكون نقداً .
قوله : { فاكتبوه } الضَّمير يعود على « بِدَيْنٍ » .
فصل
أمر الله تعالى في المداينة بأمرين :
أحدهما : الكتابة بقوله : { فاكتبوه } .
الثاني : الإشهاد . بقوله : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } ، وفائدة الكتابة والإشهاد أنَّ دخول الأجل تتأخّر فيه المطالبة ، ويتخلَّله النِّسيان ويدخله الجحد ، فالكتابة سبب لحفظ المال من الجانبين ، لأنَّ صاحب الدّين إذا علم أنَّ حقّه مقيّد بالكتابة ، والإشهاد تحذر من طلب زيادة ، ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل ، والمديون يحذر من الجحد ، ويأخذ قبل حلول الدّين في تحصيل المال ليتمكن من أدائه وقت الحلول .
فصل
القائلون بأن ظاهر الأمر النَّدب ، لا إشكال عليهم ، واختلف القائلون بأن ظاهر الأمر الوجوب ، فقال عطاء ، وابن جريج والنَّخعي بوجوب الكتابة ، وهو اختيار محمد بن جرير الطَّبري ، قال النَّخعي : يشهد ، ولو على دُسْتَجةِ بَقْلٍ .
وقال جمهور الفقهاء : هذا أمر ندب؛ لأنّا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار المسلمين يبيعون بالأثمان المؤجَّلة من غير كتابة ، ولا إشهاد ، وذلك إجماعٌ على عدم وجوبها ، ولأنَّ في إيجابها حرجٌ شديدٌ ، ومشقَّة عظيمةٌ . وقال تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : « بُعِثْتُ بالحنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ » .
وقال الحسن ، والشَّعبيُّ ، والحكم بن عتيبة : كانا واجبين ثمّ نسخا بقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } [ البقرة : 283 ] .
وقال التيمي : سألت الحسن عنها فقال : إن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد ، ألا تسمع قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً } [ البقرة : 283 ] .
فصل
لما أمر الله تعالى بكتابة هذه المداينة؛ اعتبر في الكتابة شرطين :
الأولَّل : أن يكون الكاتب عدلاً لقوله : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } وذلك أنَّ قوله تعالى : { فاكتبوه } ظاهره يقتضي أنَّه يجب على كلِّ أحدٍ أن يكتب ، لكن ذلك غير ممكنٍ ، فقد يكون ذلك الإنسان غير كاتب ، فصار معنى قوله : { فاكتبوه } ، أي : لا بدَّ من حصول هذه الكتابة وهو كقوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] فإن ظاهره ، وإن كان يقتضي خطاب الكلّ بهذا الفعل ، إلاَّ أنَّا علمنا أنَّ المقصود منه أنَّه لا بدَّ من حصول قطع اليد من إنسان واحد ، إمَّا الإمام ، أو نائبه أو المولى ، فكذا ها هنا .
ويؤكِّد هذا قوله تعالى : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } فإنَّه يدلُّ على أنَّ المقصود حصول الكتابة من أيّ سخصٍ كان .
قوله : { بالعدل } فيه أوجهٌ :
أحدها : أن يكون الجارُّ متعلّقاً بالفعل قبله . قال أبو البقاء : « بالعَدْلِ متعلِّق بقوله : فليكتب ، أي : ليكتب بالحقِّ ، فيجوز أن يكون حالاً ، أي : ليكتب عادلاً ، ويجوز أن يكون مفعولاً به أي : بسبب العدل » .

قوله أولاً : « بالعدلِ مُتَعَلِّقٌ بقوله فَلْيَكْتُب » يريد التعلق المعنوي؛ لأنَّه قد جوَّز فيه بعد ذلك أن يكون حالاً ، وإذا كان حالاً تعلَّق بمحذوف لا بنفس الفعل .
وقوله : « ويجوزُ أن يكون مفعولاً » يعني فتتعلق الباء حينئذٍ بنفس الفعل .
والثاني : أن يتعلَّق ب « كَاتِب » . قال الزَّمخشريُّ : « مُتَعَلِّقٌ بكاتب صفةً له ، أي : كاتبٌ مأمونٌ على ما يَكْتُب » ، وهو كما تقدَّم في تأويل قول أبي البقاء . وقال ابن عطيَّة : « والبَاءُ متعلِّقةٌ بقوله : » ولْيَكْتُبْ « ، وليست متعلِّقة بقوله » كَاتِبٌ « ؛ لأنه كان يلزم ألاَّ يكتب وثيقةً إلا العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصّبيُّ والعبد » .
الثالث : أن تكون الباء زائدةٌ ، تقديره : فليكتب بينكم كاتب بالعدل .
فصل في معنى العدل
في تفسير العدل وجوه :
أحدها : أن يكتب بحيث لا يزيد ، ولا ينقص عنه ، ويكتب بحيث يصلح أن يكون حجَّة له عن الحاجة إليه .
وثانيها : لا يخصّ أحدهما بالاحتياط له دون الآخر ، بل يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين آمناً من تمكن الآخر من إبطال حقّه .
ثالثها : قال بعض الفقهاء : العدل أن يكون ما يكتبه متّفقاً عليه بين أهل العلم ، بحيث لا يجد قاضٍ من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله على قول بعض المجتهدين .
ورابعها : أن يحترز عن الألفاظ المجملة المتنازع في المراد بها ، فهذه الأمور لا يمكن رعايتها إلاَّ إذا كان الكاتب فقيهاً عارفاً بمذاهب المجتهدين ، أديباً مميّزاً بين الألفاظ المتشابهة .
قوله : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } وهذا ظاهره نهي الكاتب عن الامتناع عن الكتابة وإيجاب الكتابة على كل من كان كاتباً ، وهذا على سبيل الإرشاد ، والمعنى : أنَّ الله تعالى لمَّا علمه الكتابة وشرفه بمعرفة أحكام الشَّريعة ، فالأولى أن يكتب تحصيلاً لمهمّ أخيه المسلم شكراً لتلك النِّعمة ، فهو كقوله تعالى : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } [ القصص : 77 ] .
وقال الشعبي : هو فرض كفاية ، فإن لم يوجد من يكتب غيره وجب عليه الكتابة ، وإن وجد غيره؛ وجبت الكتابة على واحد منهم .
وقيل : كانت الكتابة واجبة على الكاتب ، ثمَّ نسخت بقوله تعالى : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } .
وقيل : متعلِّق الإيجاب ، هو أن يكتب كما علمه الله ، يعني : أنَّه بتقدير أنه يكتب ، فالواجب أن يكتب كما علَّمه الله ، ولا يخلّ بشرط من الشّرائط ، ولا يدرج فيه قيداً يُخلّ بمقصود الإنسان .
قوله : { أَنْ يَكْتُبَ } مفعولٌ به ، أي : لا يأب الكتابة .
قوله : { كَمَا عَلَّمَهُ الله } يجوز أن يتعلَّق بقوله : { أَنْ يَكْتُبَ } على أنه نعتٌ لمصدر محذوف ، أو حالٌ من ضمير المصدر على رأي سيبويه ، والتقدير : أن يكتب كتابةً مثل ما علَّمه الله ، أو أن يكتبه أي : الكتب مثل ما علَّمه الله .

ويجوز أن يتعلَّق بقوله : « فَلْيَكْتُبْ » .
قال أبو حيَّان : « والظّاهر تعلُّق الكاف بقوله : فَلْيَكْتُبْ » قال شهاب الدين رحمه الله تعالى : وهو قلق لأجل الفاء ، ولأجل أنه لو كان متعلِّقاً بقوله : « فَلْيَكْتُبْ » ، لكان النَّظم : فليكتب كما علمه الله ، ولا يحتاج إلى تقديم ما هو متأخرٌ في المعنى .
وقال الزَّمخشريُّ - بعد أن ذكر تعلُّقه بأن يكتب ، وب « فَلْيَكْتُبْ » - « فإِنْ قلت : أيُّ فرقٍ بين الوجهين؟ قلت : إن علَّقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيَّدة ، ثم قيل [ له ] : فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها ، وإن علَّقته بقوله : » فَلْيَكْتُبْ « فقد نهى عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق ، ثم أمر بها مقيّدةً » . فيكون التقدير : فلا يأب كاتبٌ أن يكتب ، وها هنا تمَّ الكلام ، ثم قال بعده : { كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ } ، فيكون الأول أمراً بالكتابة مطلقاً ، ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إيَّاها .
ويجوز أن تكون متعلقةً بقوله : لا يأب ، وتكون الكاف حينئذٍ للتعليل . قال ابن عطيّة - رحمه الله - : « ويحتمل أن يكون » كما « متعلّقاً بما في قوله » ولا يأْبَ « من المعنى ، أي : كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة ، فلا يأب هو ، وليفضل كما أفضل عليه » . قال أبو حيَّان : « وهو خلاف الظاهر ، وتكون الكاف في هذا القول للتعليل » قال شهاب الدين رحمه الله : وعلى القول بكونها متعلقةً بقوله : « فليكتب » يجوز أن تكون للتعليل أيضاً ، أي : فلأجل ما علَّمه الله فليكتب .
وقرأ العامة : « فَلْيَكْتُبْ » بتسكين اللام كقوله : « كَتْف » في كتِف ، إجراءً للمنفصل مجرى المتّصل . وقد قرأ الحسن بكسرها وهو الأصل .
قوله : « ولْيُمْلِل » أمرٌ من أملَّ يملُّ ، فلمَّا سكن الثاني جزماً جرى فيه لغتان : الفكُّ وهو لغة الحجاز وبني أسد ، والإدغام وهو لغة تميم ، وقيس ، ونزل القرآن باللُّغتين .
قال تعالى في اللغة الثانية : { فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] وكذا إذا سكن وقفاً نحو : أملل عليه وأملَّ ، وهذا مطَّرد في كل مضاعفٍ ، وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى عند قراءتَيْ : « مَنْ يَرْتَدِدْ ، ويرتدَّ » .
وقرئ هنا شاذّاً : « وَلْيُمِلَّ » بالإدغام ، ويقال : أملَّ يملُّ إملالاً ، وأملى ، يملي إملاءً؛ ومن الأولى قوله : [ الطويل ]
1279- أَلاَ يَا دِيَارَ الحَيِّ بِالسَّبُعَانِ ... أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالبِلَى المَلَوانِ
ويقال : أمللت وأمليت ، فقيل : هما لغتان ، وقيل : الياء بدلٌ من أحد المثلين ، وأصل المادتين : الإعادة مرة بعد أخرى .
و « الحَقُّ » يجوز أن يكون مبتدأٌ ، و « عَلَيْهِ » خبر مقدمٌ ، ويجوز أن يكون فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على الموصول ، والموصول هو فاعل « يُمْلِل » ومفعوله محذوف ، أي : وليملل الديَّان الكاتب ما عليه من الحقِّ ، فحذف المفعولين للعلم بهما .

ويتعدَّى ب « عَلَى » إلى أحدهما فيقال : أمللت عليه كذا ، ومنه الآية الكريمة .
فصل
اعلم أنَّ الكتابة ، وإن وجب أن يختار لها العالم بكيفية كتب الشُّروط والسِّجلات ، لكن ذلك لا يتمّ إلاَّ بإملاء من عليه الحق؛ فيدخل في جملة إملائه اعترافه بالحقّ في قدره ، وجنسه وصفته ، وأجله ، وغير ذلك .
ثم قال : { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } بأن يقرّ بمبلغ المال ، { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } ، أي : لا ينقص منه شيئاً .
قوله : { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } يجوز في « منه » وجهان :
أحدهما : أن يكون متعلقاً بيبخس ، و « مِنْ » لابتداء الغاية ، والضمير في « منه » للحقِّ .
والثاني : أنَّها متعلقة بمحذوف؛ لأنها في الأصل صفةٌ للنكرة ، فلمَّا قُدِّمت على النكرة نصبت حالاً .
و « شَيئاً » : إمَّا مفعول به ، وإمَّا مصدرٌ .
والبخس : النَّقص ، يقال منه ، بخس زيدٌ عمراً حقَّه يبخسه بخساً ، وأصله من : بخست عينه ، فاستعير منه بَخْسُ الحق ، كما قالوا : « عَوَرْتُ حَقَّه » استعارة من عور العين . ويقال : بخصه بالصَّاد . والتباخس في البيع : التناقص ، لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتبايعين ينقص الآخر حقَّه .
قوله : { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ } إدخال حرف « أو » بين هذه الألفاظ الثلاثة يقتضي تغايرها؛ لأنَّ معناه : أنَّ الذي عليه الحقّ كان متَّصفاً بإحدى هذه الصِّفات الثلاثة { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل } وإذا ثبت تغايرها وجب حمل السَّفيه على الضعيف الرَّأي النَّاقص العقل من البالغين الذين لا يحسنون الأخذ لأنفسهم ، ولا الإعطاء منها أخذاً من الثَّوب السَّفيه وهو خفيف النَّسج ، والبذيء اللسان يسمى سفيهاً ، لأنَّه لا يكاد أن تتفق البذاءة إلاَّ في جهَّال النَّاس ، وأصحاب العقول الخفيفة ، والعرب تسمي الضعيف العقل سفيهاً؛ قال الشاعر : [ السريع ]
1280- نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلاَمُنَا ... وَيَجْهَل الدَّهْرُ مَعَ الحَالِمِ
والضَّعيف على الصَّغير ، والمجنون ، والشَّيخ الخرف وهو الذين فقدوا العقل بالكلية ، « والَّذِي لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُملّ » من يضعف لسانه عن الإملاء لخرسٍ ، أو لجهله بما عليه ، وله .
فهؤلاء لا يصحُّ منهم الإملاء ، ولا الإقراء ، فلا بدَّ ممَّن يقوم مقامهم .
فقال تعالى : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل } .
قيل : الضُّعف بضم الضَّاد في البدن ، وبفتحها في الرأي .
وقيل : هما لغتان .
قال القرطبيُّ : والأول أصحُّ .
قوله : { أَن يُمِلَّ هُوَ } أن ، وما في حيِّزها في محل نصب مفعولاً به ، أي : لا يستطيع الإملال ، و « هو » تأكيدٌ للضمير المستتر . وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير ، والتَّنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه ، قاله أبو حيان .
وقرئ بإسكان هاء : « هو » وهي قراءة ضعيفة؛ لأنَّ هذا الضمير كلمةٌ مستقلةٌ منفصلة عما قبلها .

ومن سكَّنها أجرى المنفصل مجرى المتصل ، وقد تقدَّم هذا في أول هذه السورة ، قال أبو حيَّان - رحمه الله - : « وهذا أشذُّ من قراءة من قرأ : { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة } [ القصص : 61 ] .
قال شهاب الدين : فجعل هذه القراءة شاذةً وهذه أشذُّ منها ، وليس بجيد ، فإنَّها قراءة متواترة قرأ بها نافع بن أبي نعيم قارىء أهل المدينة فيما رواه عنه قالون ، وهو أضبط رواته لحرفه ، وقرأ بها الكسائي أيضاً وهو رئيس النحاة .
والهاء في » وليُّه « للذي عليه الحقُّ ، إذا كان متصفاً بإحدى الصِّفات الثلاث؛ لأن وليَّه هو الَّذي يُقر عليه بالدَّين كما يقرُّ بسائر أُموره ، وقال ابن عبَّاس ، ومقاتلٌ والرَّبيعُ : المراد بوليِّه : وَلِيُّ الدَّين وهذا بعيدٌ؛ لأَنَّ قول المُدّعي لا يقبل ، فإِن اعتبرنا قوله ، فأيُّ حاجة إلى الكتابة ، والإشهاد؟
وقوله : » بالعدْلِ « تقدَّم نظيره .
فصلٌ
واعلم أَنَّ المقصود من الكتابة : هو الاستشهادُ؛ لكي يتمكَّن صاحب الحقّ بالشُّهود إلى تحصيل حقّه عند الجحود .
وقوله : » فاسْتَشْهِدُوا « يجوز أن تكون السِّين على بابها من الطَّلبِ ، أي : اطلبُوا شهيدَين ، ويجوزُ أن يكونَ استفعل بمعنى أفعل ، نحو : اسْتَعْجضلَ بمعنى أَعجَل ، واستيقن بمعن أَيقَنَ فيكون » اسْتَشْهِدُوا « بمعنى شهدوا ، يقال أشهدت الرَّجُل واشتشهدته بمعنى واحدٍ ، والشَّهيدان : هما الشَّاهدانِ ، فعيلٌ بمعنى فاعلٍ .
وفي قوله : » شَهِيدَيْن « تنبيهٌ على أَنَّهُ ينبغي أن يكون الشَّاهد ممَّن تتكرَّرُ منه الشَّهادةُ ، حيث أَتَى بصيغة المبالغة .
قوله : » مِنْ رِجَالِكُمْ « يجوزُ أن يتعلَّق باستشهدوا ، وتكونُ » مِنْ « لابتداء الغاية ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ ، على أَنَّهُ صفةٌ لشهيدين ، و » مِنْ « تبعيضيةٌ .
فصلٌ
في المراد بقوله : { مِّن رِّجَالِكُمْ } ثلاثة أقوال :
أحدها : قال أكثر العلماء : المراد الأَحرارُ المسلمون .
الثاني : قال شريحٌ ، وابن سيرين : المراد المسلمون؛ فيدخل العبيد .
الثالث : من رجالكم الَّذين تعدونهم للشَّهادة ، بسبب العدالة . حجَّةُ شريح ، وابن سرين : عمومُ الآية؛ ولأَنَّ العدالة لا تختلف بالحريَّة والرِّقِّ ، واحتَجَّ الآخرونَ بقوله تعالى : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ } ، وهذا يقتضي : أَنَّ الشَّاهد؛ يجب عليه الذَّهاب إلى موضع أدَاءِ الشَّهادة ، ويحرمُ عليه الامتناعُ والإِجماعُ على أَنَّ العبد لا يجبُ عليه الذَّهابُ ، فلا يكونُ شاهداً ، وهذا مذهبُ الشَّافعي ، وأبي حنيفة .
والجواب عن قوله : { مِّن رِّجَالِكُمْ } ، أي : الذين تعدُّونهم لأداء الشَّهادة ، كما قدَّمناهُ .
قوله : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ } ، جوَّزوا في » كَانَ « هذه أَنْ تكون النَّاقصة ، وأَنْ تكون التامة ، وبالإِعرابين يختلفُ المعنى : فإنْ كانت ناقصةً فالألفُ اسمها ، وهي عائدةٌ على الشَّهيدين أي : فإن لم يكنِ الشّاهدان رجُلَين ، والمعنى على هذا : إن أغفَل ذلك صاحبُ الحقّ ، أو قصد أَنْ لا يُشهد رجلين لغرض له ، وإن كانت تامّةً فيكون » رجلين « نصباً على الحالِ المؤكِّدة كقوله :

{ فَإِن كَانَتَا اثنتين } [ النساء : 176 ] ، ويكون المعنى على هذا أنه لا يعدل إلى ما ذكر إلا عند عدمِ الرِّجال . والألفُ في « يَكُونَا » عائدةٌ على « شَهِيدَيْنِ » ، تفيدُ الرجولية .
فصلٌ
قال القرافيُّ : العلماءُ يقولون : إِذَا ورد النَّصُّ بصيغة « أو » فهو للتَّخيير ، كقوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } [ المائدة : 89 ] ، وإن ورد النَّصُّ بصيغة الشَّرط كقوله : { فَمَنْ لَمْ يَجدْ } [ البقرة : 196 ] الآية فهو على التَّرتيب ، وهذا غير صحيح لهذه الآية؛ لأَنَّ قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } يقتضي على قولهم أَلاَّ يجوز استشهادُ رجُلٍ وامرأتين إِلاَّ عند عدم الرَّجلين ، وقد أَجمعت الأُمَّة على جواز ذلك ، عند وجود الرَّجلين ، وأَنَّ عدمهما ليس بشرطٍ ، واستفدنا من هذه الآية سؤالين عظيمين .
الأول : أَنَّ الصِّيغة لا تقتضي التَّرتيب .
الثاني : أَنَّهُ لا يلزمُ من عدم الشَّرط عدم المشروط ، وهو خلافُ الإِجماع ، وهو هناك كذلك .
قولنا : إذا لم يكن العدد زوجاً ، فهو فردٌ ، وإِنْ لم يكن فرداً ، فهو زوج مع أَنَّهُ لا تتوقَّف زوجيَّته على عدم الفرديَّة ، ولا فرديته على عدمِ الزَّوجيَّة . بل هو واجبُ الثُّبوت في نفسه ، وجد الآخر أم لا ، وإذا تقرَّر هذا ، فالمُرادُ من الآية : انحصارُ الحُجَّة التَّامَّة من الشَّهادة ، بعد الرَّجلين في الرَّجل ، والمرأتين ، فإِنَّه لا حُجَّة تامَّةٌ من الشَّهادة في الشَّريعة ، إِلاَّ الرَّجُلين ، والرَّجُلَ ، والمرأتين ، هذا هو المجمع عليه من البيِّنة الكامِلة ، في الأَموال ، فإذا فرض عدم إحداهما ، قبل الحصر في الأُخرى ، وقد وضح أَنَّ الشَّرط كما يستعملُ في الترتيب؛ كذلك يُسْتعملُ في الحصر ، والكل حقيقة لغوية ، فضابطُ ما يتوقَّف فيه المشروطُ على الشَّرطِ ، هو الَّذي لا يراد به الحصرُ ، فمتى أُريد به الحصرُ فلا يدلُّ على التَّرتيب ، بل لا بُدَّ من قرينة .
قوله : { فَرَجُلٌ وامرأتان } يجوزُ أن يرتفع ما بعد الفاءِ على الابتداءِ ، والخبرُ محذوفٌ تقديره : فرجلٌ ، وامرأتان ، يكفُون في الشَّهادة ، أو مُجزِئون ، ونحوه . وقيل : هو خبرٌ والمبتدأُ محذوفٌ تقديره : فالشَّاهدُ رجلٌ ، وامرأتان وقيل : مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّرٍ تقديره : فيكفي رجُلٌ ، أي : شهادةُ رجلٍ ، فحُذِف المضافُ للعلم به ، وأُقيم المضافُ إليه مقامه . وقيل : تقدير الفعلِ فَلْيَشْهَدْ رجلٌ ، وهو أحسنُ ، إذ لا يُحوج إلى حذفِ مُضافٍ ، وهو تقديرُ الزَّمخشريُّ .
وقيل : هو مرفوعٌ بكان النَّاقصة ، والتَّقدير : فليكن مِمَّن يشهدون رجلٌ وامرأتان ، وقيل : بل بالتَّامَّةِ وهو أَولى؛ لأنَّ فيه حذف فعلٍ فقط بقي فاعلُهُ ، وفي تقدير النَّاقصة حذفُها مع خبرها ، وقد عُرِفَ ما فيه ، وقيل : هو مرفوعٌ على ما لم يسمَّ فاعلُهُ ، تقديرُهُ : فليُسْتَشْهَد رجلٌ . قال أبو البقاء : « وَلَوْ كَانَ قَدْ قُرئ بالنَّصب لكان التَّقديرُ : فَاسْتَشْهِدُوا » وهو كلامٌ حسنٌ .
وقرئ : « وَامْرَأَتَانِ » بسكون الهمزة التي هي لامُ الكلمة ، وفيها تخريجان .
أحدهما : أنه أَبْدَل الهمزة ألفاً ، وليس قياسُ تخفيفها ذلك ، بل بَيْنَ بين ، ولمَّا أبدلها ألفاً همزها كما هَمزتِ العربُ نحوك العأْلَمِ ، والخَأْتَمِ؛ وقوله : [ الرجز ]

1281- وَخِنْدفٌ هَامَةُ هَذَا العَأْلَمِ ... وقد تقدَّم تحقيقه في سورة الفاتحة ، وسيأتي له مزيدُ بيانٍ إِنْ شاء اللهُ - تعالى - في قراءة ابن ذكوان : « مِنْسَأْتَه » في سبأ .
وقال أبو البقاء في تقرير هذا الوجهِ ، ونحا إلى القياس فقال : ووجهُهُ أنه خفَّفَ الهمزة - يعني بينَ بينَ - فقَرُبَتْ من الألف ، والمُقَرَّبة من الألفِ في حكمها؛ ولذلك لا يُبْتَدأُ بها ، فلمَّا صارت كالألف ، قَلَبها همزةً ساكنةً كما قالوا : خَأْتم وعَأْلم .
والثاني : أن يكُونَ قد استثقَلَ تواليَ الحركاتِ ، والهمزةُ حرفٌ يُشبِهُ حرف العلة فتُستثقل عليها الحركة فسُكِّنت لذلك . قال أبو حيَّان رحمه الله : ويمكنُ أنه سكَّنها تخفيفاً لتوالي كثرةِ الحركاتِ؛ وقد جاء تخفيفُ نظيرِ هذه الهمزةِ في قول الشَّاعر : [ الطويل ]
1282- يَقُولُونَ جَهْلاً لَيْسَ لِلشَّيْخِ عَيِّلٌ ... لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْيَلْتُ وَأْنَ رَقُوبُ
يريدُ : وَأَنَا رَقوب ، فسكِّنَ همزةَ « أَنَا » بعد الواوِ ، وحذف ألف « أنا » وصلاً على القاعدة . قال شهاب الدين : قد نصَّ ابنُ جني على أن هذا الوجهَ لا يجوزُ فقال : « ولا يَجُوزُ أن يكونَ سَكَّنَ الهمزة؛ لأنَّ المفتوح لا يُسَكَّنُ لخفةِ الفَتْحَةِ » وهذا من أبى الفتح محمولٌ على الغالب ، وإلا فقد تقدَّم لنا في قراءة الحسنِ « مَا بَقِي مِنَ الرِّبَا » ، وقبل ذلك أيضاً الكلامُ على هذه المسألةِ ، وورودُ ذلك في ألفاظٍ نظماً ونثراً ، حتَّى في الحروفِ الصَّحيحة السَّهلةِ ، فكيف بحرفٍ ثقيلٍ يُشْبِه السُّفلَة؟
قوله : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه في محلِّ رفعٍ نعتاً لرجُلٍ وامرأتين .
والثاني : أنه في محلِّ نصب؛ لأنه نعتٌ لشهيدين . واستضعف أبو حيّان هذين الوجهين قال : « لأنَّ الوصفَ يُشْعِر اختصاصَه بالموصوفِ ، فيكون قد انتفى هذا الوصفُ عن شَهِيدَيْنِ » ، واستضعفَ الثَّاني أبو البقاء رحمه الله تعالى قال : للوصف الواقعِ بينهما .
الوجه الثالث : أنه بدلٌ من قوله : { مِّن رِّجَالِكُمْ } بتكريرِ العاملِ ، والتقدير : « وَاستَشْهِدوا شَهِيدَيْن مِمَّن تَرْضَوْن » ، ولم يذكر أبو البقاء تضعيفه . وكان ينبغي أن يُضعِّفَه بما ضَعَّف وجهَ الصّفة ، وهو للفصلِ بينهما ، وضعَّفه أبو حيّان بأنَّ البدلَ يُؤْذِنُ أيضاً بالاختصاص بالشَّهيدين الرَّجلين فَيَعْرَى عنه رجلٌ وامرأتان قال شهاب الدين : وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا من بَدَلِ البَعْض إن أخذنا « رِجَالكُمْ » على العموم ، أو الكلِّ من الكلِّ إن أخذناهم على الخصوصِ ، وعلى كلا التّقديرين ، فلا ينفي ذلك عمَّا عداه ، وأمّا في الوصف فمسلَّمٌ؛ لأنَّ مفهوماً على المختارِ .
الرابع : أن يتعلَّقَ باستشهِدوا ، أي : استشهدوا مِمَّنْ ترضَوْن . قال أبو حيان : « ويكون قيداً في الجميعِ ، ولذلك جاء مُتَأخّراً بعد الجميعِ » .
قوله : { مِنَ الشهدآء } يجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أَنَّهُ حالٌ من العائدِ المحذوفِ ، والتَّقديرُ : مِمَّن تَرْضَونَه حال كونه بعض الشُّهداءِ .

ويجوزُ أن يكونَ بدلاً مِنْ « مِنْ » بإعادةِ العامل ، كما تقدَّم في نفسِ { مِمَّن تَرْضَوْنَ } ، فيكونُ هذا بدلاً مِنْ بدلٍ على أحدِ القَوْلينِ في كلِّ منهما .
فصلٌ
قوله { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } كقوله تعالى في الطلاق : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } [ الطلاق : 2 ] وهذه الآية تدلُّ على أَنَّهُ ليس كلُّ أحدٍ يكونُ شاهداً ، والفقهاءُ شرطوا في الشَّاهد الَّذي تقبلُ شهادته عشرة شروطٍ : أَنْ يكونَ حُرّاً بالغاً ، مسلماً عدلاً ، عالماً بما شهد به؛ ولا يجر بتلك الشَّهادة منفعة إلى نفسه ، ولا يدفع بها مضرَّة عن نفسه ، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلطِ ، ولا بترك المُروءةِ ، ولا يكُونُ بينه وبين من يشهد عليه عداوة .
وقيل : سبعة : الإِسلامُ ، والحريَّةُ ، والعقلُ ، والبُلُوغُ ، والعدالةُ ، والمروءةُ وانتفاء التُّهمة .
قوله : { أَنْ تَضِلَّ } قرأ حمزة بكسر « إِنْ » على أنَّها شرطيَّةٌ والباقون بفتحها ، على أنَّها المصدريةُ النَّاصبةُ ، فأمَّا القراءة الأولى ، فجوابُ الشَّرط فيها قوله « فتذكِّرُ » ، وذلك أَنَّ حمزة رحمه الله يقرأ : « فَتُذَكِّرُ » بتشديدِ الكافِ ورفعِ الراءِ؛ فصَحَّ أن تكونَ الفاءُ ، وما في حيِّزها جواباً للشَّرط ، ورَفَعَ الفعل؛ لأَنَّهُ على إضمارِ مبتدأ ، أي : فهي تُذَكِّر ، وعلى هذه القراءة فجملة الشَّرطِ والجزاءِ هل لها محلٌّ من الإِعراب أم لا؟
فقال ابن عطيَّة : إِنَّ محلَّها الرَّفْعُ صفةً « لامْرَأَتَيْن » ، وكان قد تقدَّم أنَّ قوله : « مِمَّنْ تَرْضَوْنَ » صفةٌ لقوله « فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان » قال أبو حيان - رحمه الله - : « فَصَارَ نظيرَ جَاءَني رجُلٌ ، وامرأتان عُقَلاَءُ حُبْلَيَان » وفي جواز مثل هذا التّركيب نظرٌ ، بل الَّذي تقتضيه الأَقيسة تقديمُ « حُبْلَيَان » على « عُقَلاَء » ؛ وأمَّا إذا قيل بأنَّ « ممَّنْ تَرْضَوْن » بدلٌ من رِجَالِكُم ، أو مُتعلِّقٌ باستشهِدُوا ، فيتعذَّر جعلُه صفةً لامرأتين للزومِ الفصل بين الصِّفة ، والموصوفِ بأجنبيّ . قال شهاب الدين - رحمه الله - : وابن عطيَّة لم يَبْتَدِعْ هذا الإِعرابَ ، بل سبقه إليه الواحديُّ فإنه قال : وموضعُ الشَّرط وجوابُه رفعٌ بكونهما ، وصفاً للمذكورين وهما « امْرَأَتَانِ » في قوله : « فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ » لأنَّ الشَّرطَ والجزاءَ يُوصَفُ بهما ، كما يُوصَف بهما في قوله : { الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة } [ الحج : 41 ] .
والظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشَّرطية مستأنفةٌ للإِخبار بهذا الحُكْم ، وهي جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر ، كأَنَّ قائلاً قال : ما بالُ امرأتين جُعِلَتا بمنزلةِ رجل؟ فأُجيب بهذه الجملة .
وأمَّا القراءةُ الثَّانيةُ؛ ف « أَنْ » فيها مصدريَّة ناصبة للفعل بعدها ، والفتحةُ فيه حركةُ إعرابٍ ، بخلافها في قراءةِ حمزة ، فإنها فتحةُ التقاءِ ساكنين ، إذ اللامُ الأولى ساكنةٌ للإِدغام في الثَّانية ، مُسَكَّنةٌ للجزم ، ولا يُمكنُ إدغامٌ في ساكنٍ ، فحرَّكنا الثَّانية بالفتحة هرباً من التقائِهما ، وكانتِ الحركةُ فتحةٌ؛ لأَنَّها أَخَفُّ الحركاتِ ، وأَنْ وما في حيِّزها في محلِّ نصبٍ ، أو جرٍّ بعد حذفِ حرفِ الجَرّ ، وهي لامُ العِلَّة ، والتَّقديرُ : لأن تَضِلَّ ، أو إرادة أَنْ تَضِلَّ .

وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أَنَّهُ فِعلٌ مضمرٌ دلَّ عليه الكلامُ السَّابق ، إذا التَّقديرُ : فاسْتَشْهِدُوا رَجُلاً وامرأتين لئلا تَضِلَّ إِحداهما ، ودلَّ على هذا الفعلِ قوله : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } ، قاله الواحديُّ ولا حاجة إليه؛ لأَنَّ الرَّافع لرجُلٍ وامرأتين مُغنٍ عن تقدير شيءٍ آخر ، وكذلك الخبرُ المقدَّرُ لقولك : « فَرَجُلٌ وامرأتان » إذ تقديرُ الأول : فَلْيَشهد رجلٌ ، وتقديرُ الثاني : فرجلٌ وامرأتان يشهدُون؛ لأَنْ تَضِلَّ ، وهذان التَّقديران هما الوجهُ الثَّاني والثَّالث من الثَّلاثةِ المذكورة . فإن قيل هل جُعِل ضلالُ إِحداهما علَّةً لتطلُّب الإِشهاد أو مراداً لله تعالى ، على حسبِ التقديرين المذكورين أولاً؟ وقد أَجابَ سيبويه رحمه الله وغيرُه بأن الضلالَ لمَّا كان سبباً للإِذكار ، والإِذكارُ مُسبِّباً عنه ، وهم يُنَزِّلون كلَّ واحدٍ من السببِ والمُسَبَّب منزلةَ الآخرِ لالتباسهما ، واتِّصالهما كانت إرادةُ الضَّلال المُسَبَّب عنه الإِذكارُ إرادةً للإِذكار . فكأنه قيل : إرادة أَنْ تُذَكِّر إِحداهما الأخرى إِنْ ضَلَّتْ ، ونظيرُه قولُهم : « أَعْدَدْتُ الخشبةَ أَنْ يميلَ الحائِطُ فأدعمَه ، وأعدْدتُ السَّلاح أن يجيء عدوٌّ فأدفعَه » فليس إعدادُك الخشبة؛ لأَنء يميلَ الحائطُ ، ولا إعدادُك السلاح لأن يجيء العدو وإنما للإدغام إذا مال ، وللدفع إذا جاء العدو ، وهذا مِمَّا يعودُ إليه المعنى ويُهجَرُ فيه جانبُ اللفظ .
وقد ذهب الجرجانيُّ في هذه الآيةِ الكريمة إلى أَنَّ التقدير : مخافةَ أَنْ تَضِلَّ؛ وأنشد قول عمروٍ : [ الوافر ]
1283- ... فَعَجَّلْنَا القِرَى أَنْ تَشْتِمُونَا
أي : « مخافَةَ أَنْ تَشْتِمُونَا » وهذا صحيحٌ لو اقتصر عليه مِنْ غير أَنْ يُعْطَفَ عليه قوله « فَتُذَكِّرَ » ؛ لأنه كان التَّقديرُ : فاستشهدوا رجلاً وامرأتين ، مخافةَ أَنْ تضلَّ إحداهما ، ولكنَّ عطفَ قوله : « فَتُذَكِّر » يُفسده ، إذا يصيرُ التقديرُ : مخافةَ أَنْ تُذكِّرَ إحداهما الأخرى ، [ وإذكارُ إحداهما الأخرى ] ليس مخوفاً منه ، بَلْ هو المقصودُ ، وقال أبو جعفرٍ : « سمعتُ عليّ بن سليمان يحكي عن أبي العباس أَنَّ التقديرَ كراهةَ أَنْ تَضِلَّ » قال أبو جعفر رحمه الله تعالى : « وهو غلطٌ إذ يصير المعنى : كراهةَ أَنْ تُذَكِّرَ إحداهما الأخرى » .
وذهب الفرَّاء إلى أَن تقدير الآيةِ الكريمة : « كي تذكِّر إِحْدَاهُمَا الأخرى إِنْ ضَلَّت » ، فلمَّا قُدِّم الجزاءُ اتَّصَل بما قبلَه ففُتِحَتْ « أَنْ » ، قال : ومثلُه من الكلام : « إنه ليعجبُني أَنْ يسأل السَّائلُ فيُعْطى » معناه : إنه ليعجبني أَنْ يُعْطَى السَّائلُ إن سَأَلَ؛ لأَنَّه إنما يُعجِبُ الإِعطاءُ لا السؤالُ ، فلمَّا قدَّموا السُّؤالَ على العطيَّة أصحبوه أن المفتوحة لينكشِفَ المعنى ، فعنده « أنْ » في « أَنْ تَضِلَّ » للجزاءِ ، إِلاَّ أَنَّهُ قُدِّم وفُتِح ، وأصله التأخير .

وردَّ البصريُّون هذا القول أبلغَ ردٍّ . قال الزّجَّاج : « لَسْتُ أدري لِمَ صارَ الجَزَاءُ [ إذا تقدَّم ] وهو في مكانهِ وغير مكانه يوجب فتح أن » . وقال الفارسيُّ : ما ذكره الفرَّاءُ دَعوى لا دلالةَ عليها ، والقياسُ يُفْسِدها ، أَلاَ ترى أنَّا نَجِدُ الحرفَ العامل ، إذا تغيَّرت حركته؛ لم يُوْجِبْ ذلك تغيُّراً في عملِهِ ولا معناه ، كما روى أبو الحسن من فتح اللام الجارَّةِ مع المُظْهر عن يونس ، وأبي عُبيدة ، وخلف الأَحمرِ ، فكما أنَّ هذه اللامَ لمَّا فُتِحَتْ لم يتغيَّر من عملها ومعناها شيءٌ ، كذلك « إنْ » الجزائيّة ينبغي ، إذا فُتِحت أَلاَّ يتغيَّر عملُها ولا معناها ، ومِمَّا يُبْعِدُه أيضاً أنَّا نجدُ الحرفَ العاملَ لا يتغيَّر عملُه بالتقديم و [ لا ] بالتأخيرِ ، تقول « مَرَرْتُ بِزَيْدٍ » وتقول : « بزيدٍ مَرَرْتُ » فلم يتغيَّر عملُ الباءِ بتقديمها من تأخيرٍ . وأجاب ابن الخطيب فقال هاهنا غرضان :
أحدهما : حُصُولُ الإِشهاد وهذا لا يتأَتَّى إِلاَّ بتذكير إحدى المرأتين .
والثاني : بيانُ تفضيل الرَّجُل على المرأة حتّى يبين أَنَّ إقامة المرأتين مقامَ الرَّجُل الواحد هو العدلُ في القضيَّة ، وذلك لا يتأتى إِلاَّ بضلالِ إحدى المرأتين ، وإذا كان كُلّ واحد من هذين أعني الإِشهاد ، وبيان فضل الرَّجُل على المرأةِ مقصود ، فلا سبيلَ إلى ذلك إِلاَّ بإِضلال أَحدهما وتذكر الأخرى ، لا جرم صار هذان الأمران مطلُوبين .
فصل
لَمَّا كان النّسيان غالباً على طباع النِّساءِ لِكثرةِ البَرْدِ والرُّطوبة في أمزجتهنَّ؛ أقيمت المرأتان مقام الرَّجل الواحد؛ لأن اجتماع المرأَتين على النِّسيان أبعد في العقل من صُدُورِ النّسيان عن المرأة الواحدة؛ لأَنَّ إحداهما إذا نسيت؛ ذكَّرتها الأخرى ، والمراد بالضَّلال هنا النِّسيان قال أبو عُبيدةَ : الضلال عن الشَّهادة إِنَّما هو نسيانها .
قوله : « فَتُذَكِّرَ » وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو : « فَتُذَكِرَ » بتخفيفِ الكافِ ، ونصب الرَّاءِ من أَذْكَرْتهُ أي : جَعلُه ذاكراً للشَّيءِ بعد نسيانه ، فإِنَّ المراد بالضَّلالِ هنا النسيانُ كقوله تعالى : { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } [ الشعراء : 20 ] وقال في ذلك الفرزدق : [ الكامل ]
1284- وَلَقَدْ ضَلَلْتَ أَبَاكَ يَدْعُو دَارِماً ... كَضَلاَلِ مُلْتَمِسٍ طَريقَ وَبَارِ
فالهمزةُ في « أَذْكَرْتُهُ » للنقلِ والتَّعدية ، والفِعلُ قبلها متعدٍّ لواحدٍ؛ فلا بُدَّ من آخر ، وليس في الآية مفعولٌ واحدٌ ، فلا بُدَّ من اعتقادِ حذفِ الثَّاني ، والتقديرُ فتُذْكر إحداهما الأُخرى الشَّهادة بعد نِسيانها إن نَسِيَتْهَا هذا مشهورٌ قول المفسِّرين .
وقد شَذَّ بعضهم قال : مَعْنَى فَتُذَكِّرَ إحداهما الأُخرى أي : فتجعلها ذكراً ، أي : تُصَيِّرُ حكمها حكم الذَّكر في قبولِ الشَّهادة وروى الأَصميعُّ عن أبي عمرو بن العلاء قال : « فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى بالتَّشديد فهو من طريقِ التَّذكير بعد النِّسيان ، تقولُ لها : هَلْ تَذْكُرين إذ شهدنا كذا يومَ كذا في مكان كذا على فلانٍ ، أو فلانة ، ومَنْ قرأ » فَتُذكِرَ « بالتَّخفيف فقال : إذا شهدت المرأةُ ، ثم جاءَتِ الأخرى؛ فشهِدَت معها ، فقد أَذْكَرَتْها لقيامِها مقامَ ذَكَر » ولم يَرْتَضِ المفسِّرون وأهلُ اللِّسان هذا من أبي عمرو ، بل لم يُصحِّحوا رواية ذلك عنه لمعرفتهم بمكانتهِ في العلمِ ، ورَدُّوه على قائِلِه من وجوهٍ :
منها : أنَّ الفصاحةَ تقتضي مقابلة الضَّلالِ المرادِ به النّسيانُ بالإِذكار والتَّذكير ، ولا تناسُبَ في المقابلة بما نقل عنه .

ومنها : أنَّ النِّساء لو بَلَغْنَ ما بلغْنَ من العددِ لا بدَّ معهنَّ مِنْ رجلٍ ، هكذا ذكروا ، وينبغي أن يكونَ ذلك فيما يُقْبَلُ فيه الرجلُ مع المرأَتين ، وإلاَّ فقد نجدُ النِّساء يَتَمَحَّضْنَ في شهاداتٍ من غيرِ انْضِمام رجلٍ إِليهنَّ .
ومنها : أَنَّها لَوْ صَيَّرتها ذكراً؛ لكان ينبغي أن يكونَ ذلك في سائرِ الأحكامِ ، ولا يُقتصَرُ به على ما فيه ماليّةٌ وفيه نظرٌ أيضاً ، إذ هو مشتركُ الإِلزامِ لأنه يقال : وكذا إذا فسَّرتموه بالتَّذكير بعد النِّسيان لم يَعُمَّ الأحكامَ كلَّها ، فما أُجيبَ به فهو جوابُهم أيضاً .
وقال الزمخشريُّ : « ومِنْ بِدَع التَّفَاسِير : [ فَتُذَكِّرَ ] فتجعلَ إحداهما الأخرى ذكَراً ، يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلةِ الذَّكَر » انتهى . ولم يجعل هذا القول مختصاً بقراءةٍ دونَ أُخرى .
وأمَّا نصبُ الرَّاء؛ فنسقٌ على « أَنْ تَضِلَّ » ؛ لأَنَّهما يَقْرآن : « أَنْ تَضِلَّ » بأن النَّاصبةِ ، وقرأ الباقون بتشديد الكافِ من « ذَكَّرْتُه » بمعنى جعلتُه ذاكِراً أيضاً ، وقد تقدَّم أَنَّ حمزة وحده هو الَّذي يرفع الرَّاءَ .
وخرج من مجموع الكلمتين أنَّ القُرَّاءَ على ثلاثِ مراتبَ : فحمزةُ وحدَه : بكسرِ « إِنْ » ويشدد الكافِ ويرفع الرَّاء ، وابن كثير : بفتح « أنْ » ويخفف الكاف وينصب الرَّاء ، والباقون كذلك ، إِلاّ أنهم يُشَدِّدون الكافَ .
والمفعولُ الثَّاني محذوفٌ أيضاً في هذه القراءة كما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، وفَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى : أَكْرَمْتُه وكَرَّمته ، وفرَّحته وأَفْرَحته . قالوا : والتَّشديد في هذا اللَّفظ أكثرُ استعمالاً مِنَ التَّخفيف ، وعليه قوله : [ المتقارب ]
1285- عَلَى أَنَّنِي بَعْدَ مَا قَدْ مَضَى ... ثَلاَثُونَ لِلْهَجْرِ حَوْلاً كمِيلاَ
يُذَكِّرُنِيك حَنِينُ العَجُولِ ... ونَوْحُ الحَمَامَةِ تَدْعُو هَدِيلاَ
وقرأ عيسى بن عمرو والجحدريُّ : « تُضَلَّ » مبنيّاً للمفعول ، وعن الجحدريّ أيضاً : « تُضِلَّ » بضمِّ التَّاء ، وكسر الضَّاد من أضلَّ كذا ، أي : أضاعهُ ، فالمفعول محذوفٌ أي : تُضِلَّ الشَّهادة . وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهدٌ : « فَتَذْكُر » برفع الرَّاءِ ، وتخفيف الكافِ ، وزيدُ بن أسلمَ « فتُذاكِرُ » من المذاكرة .
وقوله : إحداهما « فاعل ، » والأخرى « مفعولٌ ، وهذا مِمَّا يجبُ تقديمُ الفاعلِ فيه لخفاءِ الإِعراب ، والمعنى نحو : ضَرَب مُوسَى عِيسَى .
قال أبو البقاء : ف » إحداهما « فاعلٌ ، و » الأخرى « مفعول ، ويصحُّ العكسُ ، إلا أنه يمتنع على ظاهرِ قول النَّحويّين في الإِعراب ، لأَنَّهُ إذا لم يظهر الإعرابُ في الفاعلِ والمفعولِ ، وجَبَ تقديمُ الفاعل فيما يُخاف فيه اللَّبسُ ، فعلى هذا إذا أُمِنَ اللَّبْسُ جاز تقديم المفعولِ كقولك : » كَسَرَ العَصَا مُوسَى « ، وهذه الآيةُ من هذا القبيلِ ، لأنَّ النِّسيان ، والإِذكارَ لا يتعيَّنُ في واحدةٍ منهما ، بل ذلك على الإِبهامِ ، وقد عُلِم بقوله : » فَتُذَكِّرَ « أنَّ الَّتي تُذَكِّر هي الذَّاكرةُ ، والتي تُذَكَّر هي النَّاسية ، كما علم من لفظ » كَسَر « مَنْ يصحُّ منه الكَسْرُ ، فعلى هذا يجوز أن يُجْعل » إِحْدَاهُما « فاعلاً ، و » الأُخْرَى « مفعولاً وبالعكس انتهى .

ولمَّا أبهم الفاعل في قوله : « أَنْ تَضِلَّ إحداهما » أَبْهَمَ أيضاً في قوله : « فَتُذَكِّرَ إحداهما » ؛ لأنَّ كلاًّ من المَرْأَتين يجوزُ [ عليها ما يجوزُ ] على صاحبتها من الإِضلالِ ، والإِذكارِ ، والمعنى : إن ضلَّت هذه أَذْكَرَتْها هذه ، فَدَخَلَ الكلامَ معنى العموم .
قال أبو البقاء : فإنْ قيل : لِمَ يَقُلْ : « فَتُذَكِّرَها الأُخرَى » ؟ قيل فيه وجهان :
أحدهما : أَنَّهُ أَعاد الظَّاهر ، ليدلَّ على الإِبهام في الذِّكر والنّسيان ، ولو أَضمرَ لتعَيَّن عودُه على المذكور .
والثاني : أنه وضع الظَّاهر موضع المضمرِ ، تقديره : « فَتُذَكِّرهَا » وهذا يَدُلُّ على أن « إحداهما » الثانية مفعولٌ مقدمٌ ، ولا يجوزُ أن يكونَ فاعلاً في هذا الوجه؛ لأنَّ المُضَمرَ هو المُظْهَرُ بعينه ، والمُظْهَرُ الأول فاعل « تضِلَّ » ، فلو جعل الضَّمير لذلك المظهر؛ لكانت النَّاسيةُ حقاً هي المُذَكِّرَة ، وهو مُحالٌ قال شهاب الدين - رحمه الله تعالى - : وقد يتبادرُ إلى الذهن أنَّ الوجهين راجعان لوجهٍ واحدٍ قبل التأمُّل؛ لأنَّ قوله : « أَعادَ الظَّاهِرُ » قريبٌ من قوله : « وَضَعَ الظاهرَ مَوْضِعَ المضمر » .
و « إِحْدَى » تأنيثُ « الواحِد » قال الفارسيُّ : أَنَّثُوه على غيره بنائِه ، وفي هذا نظرٌ ، بل هو تأنيثُ « أحَد » يقابُلونها به في : أحد عشرَ وإحدى عشرة وأحدٍ وعشرين وإحدى وعشرين ، وتُجْمَعُ « إِحْدَى » على « إِحَد » نحو : كِسْرَة وكِسَر .
قال أبو العباس : « جَعَلُوا الألفَ في الإِحْدَى بمنزلةِ التاء في » الكِسْرَة « ، فقالوا في جمعها : » إِحَد « ؛ كما قالُوا : كِسْرَة وكِسَر؛ كما جعلوا مثلها في الكُبْرَى والكُبَر ، والعُلْيا والعُلَى ، فكما جعلوا هذه كظُلمة ، وظُلَم جعلوا الأولَ كسِدْرَة وسِدَر » قال : « وكَمَا جعلوا الألف المقصُورة بمنزلةِ التَّاءِ فيما ذُكِر؛ وجعلوا الممدودةَ أيضاً بمنزلتها في قولهم » قَاصِعَاء وقَوَاصع « و » دَامَّاء ودَوَامّ « ، يعني : أنَّ فاعلة نحو : ضارِبَة تُجمع على ضَوارِب ، كذا فاعِلاَء؛ نحو : قاصِعَاء ، ورَاهِطَاء تُجْمَعُ على فَوَاعِل؛ وأنشد ابن الأعرابيّ على إحدى وإِحَد قول الشاعر : [ الرجز ]
1286- حَتَّى اسْتَثَارُوا بِيَ إِحْدَى الإِحَدِ ... لَيْثاً هِزَبْراً ذَا سِلاَحٍ مُعْتدِي
قال : يقال : هو إحدى الإِحَدِ ، وأَحَدُ الأَحَدَيْنِ ، وواحدُ الآحادِ ، كما يقال : واحدٌ لا مثل له ، وأنشد البيت .

واعلَم أنَّ « إِحْدَى » لا تُستعمل إلا مُضَافَةً إلى غيرها؛ فيقال : إِحْدَى الإِحَدِ وإِحْدَاهُما ، ولا يقال : جاءَتْني إِحْدى ، ولا رأيتُ إِحْدَى ، وهذا بخلافِ مذكَّرها .
و « الأُخرى » تأنيث « آخرَ » الذي هو : أَفْعَلُ التَّفضيل ، وتكونُ بمعنى آخِرة؛ كقوله تعالى : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ } [ الأعراف : 38 ] ، ويُجْمَعُ كلٌّ منهما على « أُخَر » ، ولكنَّ جمع الأُولَى ممتنعٌ من الصَّرفِ ، وفي علَّته خلافٌ ، وجمعُ الثانية منصرفٌ ، وبينهما فرقٌ يأتي إيضاحه إن شاء اللهُ تعالى في الأَعراف .
فصلٌ
أجمع الفقهاءُ على أنَّ شهادة النِّساء جائزةٌ مع الرِّجال في الأموال ، حتى يثبت برجُل وامرأتين ، واختلفوا في غير الأموال ، فقال سُفيانُ الثَّوريُّ وأصحابُ الرَّأي : تجوز شهادتُهُنَّ مع الرِّجال في غير العُقُوباتِ .
وذهب جماعةٌ إلى أَنّ غير المال ، لا يثبُتُ إِلاَّ برجلين عدلين وذهب الشَّافعيُّ ، وأحمدُ إلى : أنّ ما يطلع عليه النِّساءُ غالباً كالولادة والرّضاع ، والثُّيوبة والبكارةِ ونحوها يَثْبُتُ بشهادة رجلٌ وامرأتين ، وبشهادة أربع نسوةٍ .
وعن أحمد : يثبت بشهادةِ امرأة عدلٍ ، واتَّفَقُوا على أن شهادة النّساء لا تجوز في العُقُوباتِ .
فصلٌ
قال القُرطبيُّ : لما جعل اللهُ تعالى شهادة امرأتين بَدَلَ شهادة رجل؛ وجب أن يكون حكمهما حُكْمُه ، فكما له أن يخلف مع الشَّاهد عندنا ، وعند الشَّافعي ، كذلك يجبُ أن يحلف مع شهادةِ امرأتين بمُطْلق هذه العِوضيَّة ، وخالف في هذا أبُو حنيفة ، وأصحابُهُ ، فلم يروا اليمين مع الشَّاهد .
قالوا : لأَنَّ اللهَ تعالى قسم الشَّهادة ، وعددها ، ولم يذكر الشَّاهد مع اليمين ، فلا يجوزُ القضاءُ به؛ لأَنَّهُ يكُونُ قسماً ثالثاً على ما قسَّمه الله ، وهذه زيادةٌ على النَّصِّ ، فيكون نسخاً ، وهذا قولُ الثَّوري ، والأوزاعي والحكم بن عُتَيْبَة وطائفة .
قال بعضهم : الحكم باليمين مع الشَّاهد منسوخٌ بالقرآن ، وزعم عطاءٌ أنَّ أوَّل من قضى به عبد الملك بن مروان .
وقال الحكم : القضاء باليمين والشَّاهد بدعةٌ ، وهو كلُّه غلط ، وليس في قوله تعالى : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } الآية ما يرد به قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باليمين ، والشاهد؛ ولا أنَّه لا يتوصل إلى الحقوق إلاَّ بما ذكر فيها لا غير ، فإنَّ ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطَّالب ، فإن ذلك يستحقّ به المال إجماعاً ، وليس هو في الآية ، مع أنَّ الخلفاء الأربعة : قضوا بالشَّاهد واليمين ، وقضى به أُبيُّ بن كعبٍ ، ومعاوية وشريحٌ وعمر بن عبد العزيز ، وكتب به إلى عمَّاله ، وإياس بن معاوية ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو الزّناد وربيعة .
قال مالك : أترى هؤلاء تنقض أحكامهم ، ويحكم ببدعتهم مع ما روى ابن عباس أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - : قضى بالشَّاهد مع اليمين .
قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء } مفعوله محذوفٌ لفهم المعنى ، أي : لا يأبون إقامة الشهادة ، وقيل : المحذوف مجرور لأن « أبى » بمعنى امتنع ، فيتعدَّى تعديته أي من إقامة الشهادة .

قوله : { إِذَا مَا دُعُواْ } ظرفٌ ل « يَأْبَ » أي : لا يمتنعون في وقت [ دَعْوَتهم ] لأدائها ، أو لإقامتها ، ويجوز أن تكون [ متمحضةً للظرف ، ويجوز أن تكون ] شرطيةً والجواب محذوفٌ أي : إذا دُعُوا فلا يأبوا .
فصل
في الآية وجوه :
أحدها : أنَّ هذا نهيٌ للشَّاهد عن الامتناع عن أداء الشَّهادة عند احتياج صاحب الحقّ إليها .
الثاني : أراد إذا دُعُوا لتحمل الشَّهادة على الإطلاق ، وهو قول قتادة ، واختيار القفَّال ، قال كما أمر الكاتب ألاَّ يأب الكتابة ، كذلك أمر الشَّاهد ألاَّ يأب من تحمل الشَّهادة ، لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يتعلَّق بالآخر وفي عدمها ضياع الحقوق ، وسمَّاهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء ، وهو أمر إيجابٍ عند بعضهم .
الثالث : المراد تحمّل الشَّهادة إذا لم يوجد غيره ، فهو مخير ، وهو قول الحسن .
الرابع : قال الزَّجَّاج ، وهو مروي عن الحسن أيضاً ، وهو قول مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبيرٍ : المراد مجموع الأمرين التحمُّل أولاً ، والأداء ثانياً .
قال الشعبي : الشَّاهد بالخيار ما لم يشهد وقال قومٌ : هو أمر ندب ، وهو مخيّر في جميع الأحوال . قال القرطبيُّ : قد يؤخذ من هذه الآية دليلٌ على أنَّه يجوز للإمام أن يقيم للنَّاس شهوداً ، ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم ، فلا يكون لهم شغلٌ إلاَّ تحمل حفظ حقوق النَّاس ، وإن لم يكن ذلك؛ ضاعت الحقوق وبطلت .
فصل
قال القرطبيُّ : دلَّت هذه الآية على أنَّ الشَّاهد يمشي إلى الحكم ، وهذا أمر بُني الشَّرع عليه ، وعمل به في كلّ مكان وزمان ، وفهمته كلُّ أمَّةٍ .
وإذا ثبت هذا فالعبد خارجٌ عن جملة الشُّهداء ، فيخص عموم قوله : « مِنْ رِجَالِكُمْ » لأنَّه لا يمكنه أن يجيب؛ لأنَّه لا استقلال له بنفسه ، فلا يصحُّ له أن يأتي فانحطّ عن منصب الشَّهادة ، كما انحطَّ عن منصب الولاية ، وكما انحطَّ عن فرض الجمعة وعن الجهاد والحجّ .
قوله : { وَلاَ تسأموا } والسَّأم والسآمة : الملل من الشَّيء والضَّجر منه .
قوله : { أَن تَكْتُبُوهُ } مفعولٌ به إن شئت جعلته مع الفعل مصدراً تقديره : « ولا تَسْأَمُوا كِتَابَتَه » ، وإن شئت بنزع الخافض والنَّاصب له « تَسْأَموا » ؛ لأنه يتعدَّى بنفسه قال : [ الطويل ]
1287- سَئِمْتُ تَكَالِيف الحَيَاةِ ومَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ حَوْلاً لاَ أَبَا لَكَ يَسْأَمِ
وقيل : بل يتعدَّى بحرف الجرّ ، والأصل : من أن تكتبوه ، فحذف حرف الجرِّ للعلم به ، فيجري الخلاف المشهور في « أَنْ » بعد حذفه ، ويدلُّ على تعدِّيه ب « مِنْ » قوله : [ الكامل ]
1288- وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاةِ وَطُولِهَا ... وَسُؤَالِ هَذَا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ
والهاء : في « تَكْتبوه » يجوز أن تكون للدَّين في أوَّل الآية ، وأن تكون للحقّ في قوله : { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق } ، وهو أقرب مذكورٍ ، والمراد به « الدَّيْن » وقيل : يعود على الكتاب المفهوم من « تَكْتبوه » قاله الزَّمخشريُّ .

و { صَغِيراً أَو كَبِيرا } حالٌ ، أي : على أيّ حالٍ كان الدَّين قليلاً أو كثيراً ، وعلى أيِّ حالٍ كان الكتاب مختصراً ، أو مشبعاً ، وجوَّز السَّجاونديُّ انتصابه على خبر « كان » مضمرةٌ ، وهذا لا حاجة تدعو إليه ، وليس من مواضع إضمارها .
وقرأ السُّلميُّ : « وَلاَ يَسْأَمُوا أَنْ يَكْتبُوهُ » بالياء من تحت فيهما . والفاعل على هذه القراءة ضمير الشُّهداء ، ويجوز أن يكون من باب الالتفات ، فيعود : إمَّا على المتعاملين وإمَّا على الكتَّاب .
فصل
والمقصود من الآية الكريمة الحثُّ على الكتابة قلَّ المال ، أو كثر ، فإنَّ النِّزاع في المال القليل ربَّما أدَّى إلى فسادٍ عظيم ، ولجاج شديد .
فإن قيل : هل تدخل الحبة والقيراط في هذا الأمر؟
فالجواب : لا ، لعدم جريان العادة به .
قوله : { إلى أَجَلِهِ } فيه ثلاثة أوجهٍ :
أظهرها : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، أي : أن تكتبوه مستقرّاً في الذّمَّة إلى أجل حلوله .
والثاني : أنه متعلِّقٌ بتكتبوه ، قاله أبو البقاء . وردَّه أبو حيان فقال : « متعلقٌ بمحذوفٍ لا ب » تَكْتُبُوهُ « لعدم استمرار الكتابة إلى أجل الدَّين ، إذ ينقضي في زمن يسير ، فليس نظير : سِرْتُ إلى الكُوفَةِ » .
والثالث : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الهاء ، قاله أبو البقاء .
قوله : « ذَلِكم » مشارٌ به لأقرب مذكورٍ وهو الكتب .
وقال القفَّال : إليه وإلى الإشهاد .
وقيل : إلى جميع ما ذكر وهو أحسن . و « أَقْسَطُ » قيل : هو من أقسط إذا عدل ، ولا يكون من قسط ، [ لأن قسط ] بمعنى جار ، وأقسط بمعنى عدل ، فتكون الهمزة للسَّلب ، إلا أنه يلزم بناء أفعل من الرباعي ، وهو شاذٌّ .
قال الزَّمخشريُّ : « فإن قلتَ ممَّ بني أفعلا التّفضيل - أعني أقسط وأقوم؟ - قلت : يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيّين من » أَقْسَطَ « ، و » أَقَامَ « وأن يكون » أَقْسَط « من قاسط على طريقة النَّسب بمعنى : ذي قسطٍ؛ و » أَقْوَم « من قويم » . قال أبو حيَّان رحمه الله : لم ينصَّ سيبويه على أنَّ أفعل التّفضيل يبنى من « أَفْعل » ، إنَّما يؤخذ ذلك بالاستدلال ، فإنَّه نصَّ في أوائل كتابه على أنَّ « أَفْعَل » للتعجب يكون من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ وأَفْعَلَ ، فظاهر هذا أن « أَفْعَل » للتعجب يبنى منه أفعل للتَّفضيل ، فما جاز في التَّعجُّب ، وأفعل التَّفضيل من أفعل على ثلاثة مذاهب : الجواز مطلقاً ، والمنع مطلقاً ، والتفضيل بين أن تكون الهمزة للنَّقل ، فيمتنع ، أو لا فيجوز ، وعليه يؤوَّل الكلام ، أي : كلام سيبويه ، حيث قال : « إنه يبنى من أفعل » ، أي : الذي همزته لغير التَّعدية . ومن منع مطلقاً قال : « لم يَقُلْ سيبويه ، وأفعل بصيغة الماضي » إنَّما قالها أفعل بصيغة الأمر ، فالتبس على السَّامع ، يعني : أنه يكون فعل التّعجب على أفعل ، بناؤه من فَعَلَ ، وفَعِل ، وفَعُل ، وعلى أَفْعِلْ .

ولهذه المذاهب موضع هو أليق بالكلام عليها .
ونقل ابن عطيَّة أنه مأخوذٌ من « قَسُطَ » بضمِّ السِّين نحو : « أَكْرَمَ » من « كَرُم » . وقيل : هو من القسط بالكسر وهو العدل ، وهو مصدر لم يشتقَّ منه فعلٌ ، وليس من الإقساط؛ لأنَّ أفعل لا يبنى من « الإِفْعَالِ » . وهذا كله بناء منهم على أنَّ الثلاثيَّ بمعنى الجوز والرُّباعيَّ بمعنى العدل .
ويحكى أنَّ سعيد بن جبيرٍ لمَّا سأله الظَّالم [ الحجَّاج ] بن يوسف : ما تقول فيَّ؟ فقال : « أقولُ إنّك قَاسِطٌ عَادِلٌ » ، فلم يفطن له إلا هو ، فقال : إنه جعلني جائراً كافراً ، وتلا قوله تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] .
وأمَّا إذا جعلناه مشتركاً بين عدل ، وبين جار فالأمر واضحٌ قال ابن القطَّاع : « قَسَط ، قُسُوطاً ، وقِسْطاً : جار وعَدَل ضِدٌّ » . وحكى ابن السِّيد في كتاب : « الاقْتِضَابِ » له عن ابن السَّكِّيت في كتاب : « الأَضْدَادِ » عن أبي عبيدة : « قَسَطَ : جارَ ، وقَسَط ، [ عَدَل ] ، وأقْسطَ بالألفِ عَدَلَ لا غير » . وقال أبو القاسم الرَّاغب الأصبهاني : « القِسْطُ أَنْ يأخذ قسط غيره ، وذلك جورٌ ، والإقساط أن يعطي قسطَ غيره ، وذلك إنصافٌ ، ولذلك يقول : قَسَط إذا جَارَ ، وأقْسَط إذا عَدَل » .
والقسط : اسم ، والإقساط مصدر يقال : أقسط فلانٌ في الحكم يقسط إقساطاً ، إذا عدل ، فهو مقسطٌ .
قال تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } [ المائدة : 42 ] ويقال : هو قاسط إذا جار فقال تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] ، وأمَّا إذا جعلنان مشتركاً بين عدل وبين جار فالأمر واضحٌ .
قال ابن القطَّاع : قَسَطَ قُسُوطاً ، وقسطاً : جَارَ ، وعَدَلَ ضدٌّ ، وسيأتي لهذا مزيد بيانٍ في سورة النساء إن شاء الله تعالى .
قوله : { عِندَ الله } ظرفٌ منصوبٌ ب « أَقْسَط » ، أي في حكمه . وقوله : « وَأَقْوَمُ » إنَّما صحَّت الواو فيه؛ لأنه أفعل تفضيل ، وأفعل التَّفضيل يصحُّ حملاً على فعل التَّعجُّب ، وصحَّ فعل التَّعجُّب لجريانه مجرى الأسماء لجموده وعدم تصرُّفه .
و { وَأَقْومُ } يجوز أن يكون من « أَقَامَ » الرُّباعي المتعدِّي؛ لكنَّه حذف الهمزة الزَّائدة ، ثمَّ أتى بهمزة [ أفعل ] كقوله تعالى : { أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى } [ الكهف : 12 ] فيكون المعنى : أثبت لإقامتكم الشهادة ، ويجوز أن يكون من « قام » اللازم ويكون المعنى : ذلك أثبت لقيام الشَّهادة ، وقامت الشهادة : ثبتت ، قاله أبو البقاء .
قوله : { لِلشَّهَادَةِ } متعلِّقٌ ب « أَقْوَم » ، وهو مفعولٌ في المعنى ، واللاَّم زائدةٌ ولا يجوز حذفها ونصب مجرورها بعد أفعل التَّفضيل إلاَّ لضرورة؛ كقوله : [ الطويل ]

1289- .. وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ القَوَانِسَا
وقد قيل : « إشن » القَوانسَ « منصوبٌ بمضمر يدلُّ عليه أفعل التَّفضيل ، هذا معنى كلام أبي حيّان ، وهو ماشٍ على أنّ » أَقْوَم « من أقام المتعدّي ، وأمَّا إذا جعلته من » قَام « بمعنى ثبت فاللاَّم غير زائدة .
قوله : { أدنى أَلاَّ ترتابوا } ، أي : أقرب ، وحرف الجرّ محذوفٌ ، فقيل : هو اللاَّم أي : أدنى لئلاَّ ترتابوا ، وقيل هو » إلَى « وقيل : هو » من « ، أي : أدنى إلى ألاّ ترتابوا ، وأدنى من ألا ترتابوا . وفي تقديرهم : » مِنْ « نظرٌ ، إذ المعنى لا يساعد عليه . و » تَرْتَابُوا « : تفتعلوا من الرِّيبة ، والأصل : » تَرْتَيِبُوا « ، فقلبت الياء ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها . والمفضَّل عليه محذوفٌ لفهم المعنى ، أي : أقسط وأقوم ، وأدنى لكذا من عدم الكتب ، وحسَّن الحذف كون أفعل خبراً للمبتدأ بخلاف كونه صفةً ، أو حالاً . وقرأ السُّلمي : » ألاّ يَرْتَابُوا « بياء الغيبة كقراءة : » وَلاَ يَسْأَمُوا أَنْ يكتبُوهُ « وتقدَّم توجيهه .
فصل في فوائد الإشهاد والكتابة
اعلم أنَّ الكتابة ، والاستشهاد تشتمل على ثلاث فوائد :
الأولى : قوله : { أَقْسَطُ عِندَ الله } ، أي : أعدل عند الله وأقرب إلى الحقّ .
والثانية : قوله : { أَقْومُ لِلشَّهَادَةِ } ، أي : أبلغ في استقامته التي هي ذد الاعوجاج؛ لأنَّ المنتصب القائم ضدّ المنحني المعوج ، وإنَّما كانت أقوم للشَّهادة؛ لأنها سبب للحفظ والذكر ، فكانت أقرب إلى الاستقامة .
والفرق بين الفائدة الأولى والثانية أن الأولى تتعلّق بتحصيل مرضاة الله ، والثانية تتعلّق بتحصيل مصلحة الدُّنيا ، ولهذا قدمت الأولى عليها؛ لأن تقديم مصلحة الدّين على مصلحة الدُّنيا واجب .
الفائدة الثالثة : قوله : { وأدنى أَلاَّ ترتابوا } يعني أقرب إلى زوال الشَّكِّ والارتياب عن قلوب المتداينين ، فالفائدة الأولى إشارة إلى تحصيل مصلحة الدِّين .
والثَّانية : إشارة إلى تحصيل مصلحة الدُّنيا .
والثالثة : إشارة إلى دفع الضَّرر عن النَّفس وعن الغير ، أمَّا عن النَّفس فلأنه يبقى في الفكران ، أنَّ هذا الأمر كيف كان ، وهذا الذي قلت : هل كان صدقاً ، أو كذباً ، أمَّا عن الغير ، فلأنّ ذلك الغير ربَّما نسبه إلى الكذب ، فيقع في عقاب الغيبة .
قوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } في هذا الاستثناء قولان :
أحدهما : أنه متَّصل قال أبو البقاء : » والجُمْلَةُ المستثناة في موضع نصبٍ؛ لأنَّه استثناءٌ [ من الجنس ] لأنه أمرٌ بالاستشهاد في كلِّ معاملةٍ ، فالمستثنى منها التجارة الحاضرة ، والتَّقدير : إلاَّ في حال حضور التِّجارة « .
والثاني : أنَّه منقطع ، قال مكي بن أبي طالبٍ : و » أَنْ « في موضع نصبٍ على الاستثناء المنقطع » وهذا هو الظَّاهر ، كأنه قيل : لكنّ التّجارة الحاضرة ، فإنَّه يجوز عدم الاستشهاد والكتب فيها .
وقرأ عاصم هنا « تِجَارَةً » بالنَّصب ، وكذلك « حَاضِرَةً » ؛ لأنها صفتها ، ووافقه الأخوان ، والباقون قرءوا بالرَّفع فيهما .

فالرَّفع فيه وجهان :
أحدهما : أنها التامة ، أي : إلا أن تحدث ، أو تقع تجارة ، وعلى هذا فتكون « تُدِيرونها » في محلِّ رفع صفةً لتجارة أيضاً ، وجاء هنا على الفصيح ، حيث قدَّم الوصف الصريح على المؤول .
والثاني : أن تكون النَّاقصة ، واسمها « تِجَارَةٌ » والخبر هو الجملة من قوله : « تُدِيرُونَهَا » كأنه قيل : إلا أنَّ تكون تجارةٌ حاضرةٌ مدارةٌ ، وسوَّغ مجيء اسم كان نكرةً وَصْفُه ، وهذا مذهب الفراء و [ تابعه ] آخرون .
وأمَّا قراءة عاصم ، فاسمها مضمرٌ فيها ، فقيل : تقديره : إلا أن تكون المعاملة ، أو المبايعة ، أو التجارة . وقدَّره الزَّجاج إلاَّ أن تكون المداينة ، وهو أحسن . وقال الفارسيُّ : « ولا يجوز أن يكون [ التَّداينُ ] اسم كان؛ لأنَّ التَّداين معنًى ، والتّجارة الحاضرة يراد بها العين ، وحكم الاسم أن يكون الخبر في المعنى ، والتَّداين حقٌّ في ذمة المستدين ، للمدين المطالبة به ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون اسم كان لاختلاف التَّداين ، والتّجارة الحاضرة » وهذا الرد لا يظهر على الزجاج ، لأنَّ التِّجارة أيضاً مصدرٌ ، فهي معنًى من المعاني لا عينٌ من الأعيان ، وأيضاً فإنَّ من باع ثوباً بدرهم في الذِّمَّة بشرط أن يؤدى الدّرهم في هذه السَّاعة ، كان مداينة ، وتجارةً حاضرة .
وقال الفارسيُّ أيضاً : ولا يَجُوزُ أيضاً أن يكون اسمها « الحَقُّ » الذي في قوله : { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق } للمعنى الذي ذكرنا في التَّداين ، لأنَّ ذلك الحقَّ دينٌ ، وإذا لم يجز هذا لم يخل اسم كان من أحد شيئين :
أحدهما : أنَّ هذه الأشياء التي اقتضت من الإشهاد ، والارتهان قد علم من فحواها التبايُع ، فأضمر التَّبايع لدلالة الحال عليه كما أضمر لدلالة الحال فيما حكى سيبويه رحمه الله : « إذا كَانَ غَداً فَأتني » ؛ وينشد على هذا : [ الطويل ]
1290- أَعَيْنَيَّ هَلاَّ تَبْكِيَانِ عِفَاقَا ... إِذَا كَانَ طَعْناً بَيْنَهُمْ وَعِنَاقَا
أي : إذا كان الأمر .
والثاني : أن يكون أضمر التِّجارة؛ كأنه قيل : إلاَّ أن تكون التِّجارة تجارةً؛ ومثله ما أنشده الفرَّاء رحمه الله : [ الطويل ]
1291- فدًى لِبَنِي ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي ... إِذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْهَبَا
وأنشد الزمخشريُّ : [ الطويل ]
1292- بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاَءَنَا ... إِذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا
أي : إذا كان اليوم يوماً ، و « بَيْنَكُم » ظرفٌ لتديرونها .
قوله : « فَلَيْسَ » قال أبو البقاء : « دَخَلَتِ الفَاءُ في » فَلَيْسَ « إيذاناً بتعلُّق ما بعدها بما قبلها » قال شهاب الدين رحمه الله تعالى : هي عاطفةٌ هذه الجملة على الجملة من قوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } إلى آخرها ، والسَّببيَّة فيها واضحةٌ أي : بسببٍ عن ذلك رفع الجناح في عدم الكتابة .
وقوله : { أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } أي : « في أن لا » ، فحذف حرف الجر فبقي في موضع « أَنْ » الوجهان .

فصل
التِّجارة عبارةٌ عن التَّصرُّف في المال سواء كان حاضراً أو في الذِّمَّة لطلب الرِّبح ، يقال : تجر الرَّجل يتجر تجارةً ، فهو تاجرٌ .
قال النَّوويُّ في « التَّهْذِيبِ » : « ويقال : اتَّجر يتَّجر تجراً ، وتجارةً فهو تاجرٌ ، والجمع تجار كصاحب ، وصحاب ، ويقال أيضاً : تجَّار بتشديد الجيم كفاجرٍ ، وفجَّارٍ » .
وقال في « المُهَذَّبِ » في آخر « بَابِ زَكَاةِ الزَّرْعِ » يجب العشر والخراج ، ولا يمنع أحدهما الآخر كأجرة المتجر ، وزكاة التجارة ، فالمتجر بفتح الميم ، وإسكان التَّاء ، وفتح الجيم ، والمراد به المخزون وصرَّح به صاحب « المُهَذَّبِ » في كتابه « الخِلاَفُ » فقال : كأجرة المخزون ، وكذا ذكره غيره من أصحابنا .
فصل
وسواء كانت المبايعة بدينٍ ، أو بعينٍ ، فالتِّجارة تجارةٌ حاضرةٌ فقوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً } لا يمكن حمله على ظاهره ، بل المراد من التِّجارة ما يتجر فيه من الأبدال ، ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يداً بيدٍ ، ومعنى نفي الجناح ، أي : لا مضرّة عليكم في ترك الكتابة ، ولم يرد نفي الإثم ، لأنَّه لو أراد الإثم؛ لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم ، ويأثم صاحب الحقّ بتركها ، وقد ثبت خلافه ، وبيان أنَّه لا مضرَّة عليهم في تركها؛ لأنَّ التِّجارة الحاضرة تقع كثيراً ، فلو تكلَّفوا فيها الكتابة ، والإشهاد؛ يشقُّ عليهم ، وأيضاً فإنَّ كلَّ واحدٍ من المتعاملين إذا أخذ حقَّه من صاحبه في المجلس؛ لم يكن هناك خوف التَّجاحد ، فلا حاجة إلى الكتابة ، والإشهاد .
قوله : { وأشهدوا } : هذا أمر إرشاد إلى طريق الاحتياط .
قال أكثر المفسِّرين : إنَّ الكتابة ، وإن رفعت عنهم في التِّجارة الحاضرة؛ فلا يرفع الإشهاد؛ لأن الإشهاد بلا كتابة تخف مؤنته .
قوله : { إِذَا تَبَايَعْتُمْ } يجوز أن تكون شرطيةً ، وجوابها : إمَّا متقدّم عند قومٍ ، وإمَّا محذوف لدلالة ما تقدَّم عليه تقديره : إذا تبايعتم فأشهدوا ، ويجوز أن تكون ظرفاً محضاً ، أي : افعلوا الشَّهادة وقت التبايع .
قوله : { وَلاَ يُضَآرَّ } العامَّة على فتح الرَّاء جزماً ، ولا ناهيةٌ ، وفتح الفعل لما تقدَّم في قراءة حمزة : « إِن تَضِلَّ » . ثمَّ هذا الفعل يحتمل أن يكون مبنيّاً للفاعل ، والأصل : « يُضَارِرْ » بكسر الرَّاء الأولى ، فيكون « كَاتِب » ، و « شَهِيد » فاعلين نهيا عن مضارَّة المكتوب له ، والمشهود له ، نهي الكاتب عن زيادة حرف يبطل به حقّاً أو نقصانه ، ونهي الشَّاهد عن كتم الشَّهادة ، واختاره الزجاج ، ورجَّحه بأنَّ الله تعالى قال : { فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } ، ولا شكَّ أنَّ هذا من الكاتب والشَّاهد فسقٌ ، ولا يحسن أن يكون إبرام الكاتب والشهيد والإلحاح عليهما فسقاً . لأنَّ اسم الفسق بمن يحرف الكتابة ، وبمن يمتنع عن الشَّهادة؛ حتّى يبطل الحقّ بالكليّة أولى منه بمن أضرّ الكاتب والشَّهيد؛ ولأنه تبارك وتعالى قال فيمن يمتنع عن أداء الشَّهادة «

{ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] والإثم والفسق متقاربان وهذا في التَّفسير منقول عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - ومجاهد وطاوس ، والحسن وقتادة . ونقل الدَّاني عن ابن عمر ، وابن عبَّاس ، ومجاهد ، وابن أبي إسحاق أنهم قرءوا الرَّاء الأولى بالكسر ، حين فكُّوا .
ويحتمل أن يكون الفعل فيها مبنيّاً للمفعول ، والمعنى : أنَّ أحداً لا يُضَارِرُ الكاتب ولا الشَّاهد ، ورجَّح هذا بأنه لو كان النَّهي متوجِّهاً للكاتب والشّهيد لقال : « وإِنْ تفعلا فإنه فسوقٌ بكما » ، ولأنَّ السياق من أول الآيات إنما هو للمكتوب له والمشهود له بأن يودّهما ويمنعهما من مهمَّاتها ، وإذا كان خطاباً للذين يقدمون على المداينة ، فالمنهيُّون عن الضِّرار هم ، وهذا قول ابن عباس وعطاء ومجاهد وابن مسعود . ونقل الداني أياضً عن ابن عمر وابن عباس ومجاهد أنهم قرءوا الراء الأولى بالفتح . فالآية عندهم محتملةٌ للوجهين ففسروا وقرءوا بهذا المعنى تارةً وبالآخر أخرى .
وقرأ أبو جعفر ، وعمرو بن عبيدٍ : « ولا يُضارَ » بتشديد الرّاء ساكنةً وصلاً ، وفيها ضعفٌ من حيث الجمع بين ثلاث سواكن ، لكنَّه لمَّا كانت الألف حرف مدٍّ؛ قام مدُّها مقام حركةٍ ، والتقاء السَّاكنين مغتفرٌ في الوقف ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك .
وقرأ عكرمة : « ولا يُضَارِرْ كَاتِباً وَلاَ شَهِيداً » بالفكِّ ، وكسرِ الراءِ الأولى ، والفاعلُ ضميرُ صاحب الحق ، ونَصْب « كاتباً » ، و « شهيداً » على المَفْعُول به ، أي : لا يضارِرْ صَاحِبُ حقٍّ كاتباً ولا شهيداً بأن يُجبِرَهُ ويُبْرِمَه بالكِتَابَة والشهادةِ؛ أو بأَنْ يحمِلَه على ما لا يَجُوز .
وقرأ ابن محيصن : « ولا يُضارُّ » برفع الرَّاء ، وهو نفيٌ فيكون الخبر بمعنى النهي كقوله : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } [ البقرة : 197 ] .
وقرأ عكرمة في رواية مقسم : « ولا يُضارِّ » بكسر الرَّاء مشدَّدةً على أصل التقاء الساكنين . وقد تقدَّم تحقيقُ هذه عند قوله : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } [ البقرة : 233 ] .
قوله : { وَإِن تَفْعَلُواْ } ، أي : تفعلوا شيئاً ممَّا نهى الله عنه ، فحذف المفعول به للعلم به . والضّمير في « فإنَّهُ » يعود على الامتناع ، أو الإضرار . و « بِكُمْ » متعلّقٌ بمحذوفٍ ، فقدَّره أبو البقاء : « لاحِقٌ بِكُم » ، وينبغي أن يقدَّر كوناً مطلقاً؛ لأنه صفةٌ ل « فُسُوق » ، أي : فسوق مستقرٌّ بكم ، أي : ملتبسٌ بكم ولاحق بكم .
قوله : { واتقوا الله } ، يعني : فيما حذَّر منه هاهنا ، وهو المضارة ، أو يكون عاماً ، أي : اتَّقوا الله في جميع أوامره ، ونواهيه .
قوله : { وَيُعَلِّمُكُمُ الله } يجوز في هذه الجملة الاستئناف - وهو الظَّاهر - ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل في « اتَّقوا » قال أبو البقاء : « تقديره : واتقوا الله مضموناً لكم التَّعليم ، أو الهداية ، ويجوز أن تكون حالاً مقدَّرة » . قال شهاب الدين : وفي هذين الوجهين نظرٌ ، لأنَّ المضارع المثبت لا تباشره واو الحال ، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤوَّل ، لكن لا ضرورة تدعو إليه ههنا .
فصل
المعنى : يعلمكم ما يكون إرشاداً ، أو احتياطاً في أمر الدُّنيا ، كما يعلِّمكم ما يكون إرشاداً في أمر الدِّين ، { والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، أي : عالم بجميع مصالح الدُّنيا ، والآخرة .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75