كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)

قوله : { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو الإسلام . { وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط } عن دين الحق « لَنَاكِبُونَ » لعادون عن هذا الطريق ، لأنَّ طريق الاستقامة واحد وما يخالفه فكثير .
قوله : « عَنِ الصِّرَاطِ » متعلق ب « نَاكِبُونَ » ولا تمنع لام الابتداء من ذلك على رأي تقدّم تحقيقه . والنُّكُوب والنَّكْبُ : العدول والميل ، ومنه : النَّكْبَاء للريح بين ريحين ، سُميت بذلك لعدولها عن المهاب ، وَنَكَبَتْ حوادثُ الدهرِ ، أي : هَبّت هبوب النَّكْبَاء .
والمَنْكِبُ : مجتمع ما بين العَضُدِ والكتف ، والأَنْكَبُ : المائل المَنْكِب ، ولفلان نِكَابَة في قومه أي : نقابة فتشبه أن تكون الكاف بدلاً من القاف ، ويقال : نَكَبَ ونَكَّبَ مخففاً ومثقلاً .
قوله : { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ } قحط وجدب وقيل : ضرر القتال والسبي . وقيل : مضار الآخرة وعذابها .
قوله : « للجُّوا » جواب « لَوْ » ، وقد توالى فيه لاَمَان ، وفيه تضعيف لقول من قال : جوابها إذا نفي ب ( لم ) ونحوها مما صدر فيه حرف النفي بلام أنه لا يجوز دخول اللام ولو قلت : لو قام لَلَمْ يقم عمرو ، لَمْ يجز ، قال : لئّلا يتوالى لامان ، وهذا موجود في الإيجاب كهذه الآية ، ولم يمتنع ، وإلا فما الفَرْق بين النفي والإثبات في ذلك واللّجَاجُ : التمادي في العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه ، ومنه اللَّجَّة : بالفتح : لتردد الصوت ، كقوله :
3805- في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاَناً عن فُلِ ... ولجَّة البحر لتردد أمواجه ، ولَجَّةُ الليل لتردّد ظلامه . واللَّجْلَجَةُ تردّد الكلام ، وهو تكرير لَجَّ ، ويقال : لَجَّ والتَجَّ . ومعنى الآية : لتمادوا في طغيانهم وضلالهم وهم متحيرون لم ينزعوا عنه .

وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)

قوله : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب } قال المفسرون : لما أسلم ثُمامة بن أثال الحنفي ، ولحق باليمامة ، ومنع المِيرَة عن أهل مكة ، ودَعَا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف ، فأصابهم القحط حتى أكلوا العِلْهِز ، جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : أنشدك الله والرحم ، ألَسْتَ تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال : « بَلَى » . فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فادعُ الله يكشف عنا هذا القحط ، فدعا فكشف عنهم ، فأنزل الله هذه الآية . والمعنى أخذناهم بالجوع فما أطاعوا . وقال الأصم : العذاب هو ما نالهم يوم بدر من القتل والأسر يعني أن ذلك مع شدة ما دعاهم إلى الإيمان .
وقيل : المراد من عُذِّبَ من الأمم الخالية . « فَمَا اسْتَكَانُوا » أي : مشركو العرب .
قوله : « فَمَا اسْتَكَانُوا » تقدم وزن ( استكان ) في آل عمران .
وجاء الأول ماضياً والثاني مضارعاً ، ولم يجيئا ماضيين ، ولا مضارعين ولا جاء الأول مضارعاً والثاني ماضياً ، لإفادة الماضي وجود الفعل وتحققه ، وهو بالاستكانة أليق ، بخلاف التضرع فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبال وأما الاستكانة فقد توجد منهم .
وقال الزمخشري : فإن قلت : هَلاَّ قيل : وما تَضرّعوا ( أو ) فما يستكينون .
قلت : لأنّ المعنى محنّاهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة ، وما مِنْ عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد .
فظاهر هذا أنَّ ( حَتَّى ) غاية لنفي الاستكانة والتضرّع . ومعنى الاستكانة طلب السكون ، أي : ما خضعوا وما ذلوا إلى ربهم ، وما تضرعوا بل مضوا على تمرّدهم .
قوله : { حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } . قرئ « فَتَّحنَا » بالتشديد .
قال ابن عباس ومجاهد : يعني القتل يوم بدر . وقيل : الموت وقيل : قيام الساعة . وقيل : الجوع . { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } آيسون من كل خير . وقرأ السلمي : « مُبْلَسُون » - بفتح اللام - من أبلسه ، أي : أدخله في الإبلاس .
قوله تعالى : { وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار } الآية .
العطف لا يحسن إلاّ مع المجانسة ، فأي مناسبة بين قوله : { وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار } وبين ما قبله؟
والجواب : كأنّه تعالى لمّا بيّن مبالغة الكفار في الإعراض عن سماع الأدلة والاعتبار ، وتأمّل الحقائق قال للمؤمنين : هو الذي أعطاكم هذه الأشياء ووفّقكم لها تنبيهاً على أنَّ من لم يُعمل هذه الأعضاء فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها ، لقوله : { فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ } [ الأحقاف : 26 ] وأفرد السمع والمراد الأسماع ثم قال : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } .
قال أبو مسلم : وليس المراد أنَّ لهم شكراً وإن قَلّ ، لكنه كما يقال للكفور والجاحد للنعمة : ما أقلّ شكر فلان .

ثم قال : { وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض } أي : خلقكم ، قال أبو مسلم : ويحتمل بسطكم فيها ذرية بعضكم من بعض حتى كثرتم كقوله : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } [ الإسراء : 3 ] أي : هو الذي جعلكم في الأرض متناسلين ، ويحشركم يوم القيامة إلى دار لا حاكم فيها سواه ، فجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشراً إليه لا بمعنى المكان . ثم قال : { وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : نعمة الحياة وإن كانت من أعظم النعم فهي منقطعة وأنّه سبحانه - وإن أنعم بها ، فالمقصود منها الانتقال إلى دار الثواب . ثم قال : { وَلَهُ اختلاف الليل والنهار } أي : تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان ، ووجه النعمة بذلك معلوم . قال الفراء : جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض . ثم قال : « أَفَلاَ تَعْقِلُونَ » قرأ أبو عمرو في رواية يعقوب : بياء الغيبة على الالتفات والمعنى : أفلا تعقلون ما ترون صُنْعَهُ فَتعْتبرونَ .

بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)

قوله تعالى : { بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون } أي : كذبوا كما كذب الأولون { قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } لمحشورون ، قالوا ذلك منكرين متعجبين .
واعلم أنه - سبحانه - لما أوضح دلائل التوحيد عقّبه بذكر المعاد ، فذكر إنكارهم البعث مع وضوح أدلته ، وذكر أن إنكارهم ذلك تقليد للأولين ، وذلك يدل على فساد القول بالتقليد ثم حكى قولهم : { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذا مِن قَبْلُ } كأنهم قالوا إنّ هذا الوعد كما وقع منه - عليه السلام - فقد وقع قديماً من سائر الأنبياء ثم لم يوجد مع طول العهد ، وظنُّوا أنّ الإعادة تكون في الدنيا ، ثم قالوا : لمّا لم يكن ذلك فهو من أساطير الأولين . والأساطير جمع أسْطار ، وهي جمع سَطْر ، أي : ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له ، أو جمع أُسْطُورَة .

قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)

قوله تعالى : { قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ } الآية . اعلم أنه يمكن أن يكون المقصود من هذه الآيات الرد على منكري الإعادة ، وأن يكون المقصود الرد على عبدة الأوثان ، لأنّ القوم كانوا مُقرين بالله ، وقالوا : نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله زلفى ، فقال تعالى : قل يا محمد مُجيباً لَهُم يعني يا أهل مكة { لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ } من الخلق { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } خالقها ومالكها « سَيَقُولُونَ لِلَّهِ » فَلا بُدّ لهم من ذلك ، لأنهم يقرون أنها مخلوقة ، فقل لهم إذا أقَرُّوا بذلك : « أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ » فتعلمون أنّ من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت . وفي قوله : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } سؤال يأتي في قوله : { وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ووجه الاستدلال به على نفي عبادة الأوثان من حيث أن عبادة من خلقهم ، وخلق الأرض وكل من فيها هي الواجبة دون عبادة ما لا يضر ولا ينفع .
وقوله : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } معناه الترغيب في التدبّر ليعلموا بطلان ما هم عليه .
قوله : { قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } ووجه الاستدلال بها على الأمرين كما تقدّم . وإنما قال : « أَفَلاَ تَتَقُّونَ » أي : تحذرون ، تنبيهاً على أنَّ اتقاء عذاب الله لا يحصل إلاَّ بترك عبادة الأوثان ، والاعتراف بجواز الإعادة .
قوله : { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } قرأ أبو عمرو « سَيُقُولونَ اللَّهُ » في الأخيرتين من غير لام جر ، ورفع الجلالة جواباً على اللفظ لقوله « مَنْ » قوله : { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ } ، لأنّ المسؤول به مرفوع المحل وهو « مَنْ » فجاء جوابه مرفوعاً مطابقاً له لفظاً ، وكذلك رُسِم الموضعان في مصاحف البصرة بالألف .
والباقون : « لِلَّهِ » في الموضعين باللام وهو جواب على المعنى؛ لأنه لا فرق بين قوله : { مَن رَّبُّ السماوات } وبين قوله : لِمَن السَّمَوات ، ولا بين قوله : « مَنْ بِيَدِهِ » ولا لمن له الإحسان ، وهذا كقولك : مَنْ رَبّ هذه الدار؟ فيقال : زيدٌ ، وإن شئت لزيدٍ ، لأنّ قولك : من ربُّه؟ ولمن هو؟ في معنى واحد ، لأنّ السؤال لا فرق فيه بين أن يقال : لمن هذه الدار؟ ومن ربُّها؟ واللام مرسومة في مصاحفهم فوافق كل مصحفه .
ولم يختلف في الأول أنه « لِلَّهِ » ، لأنه مرسوم باللام وجاء الجواب باللام كما في السؤال ولو حذفت من الجواب لجاز ، لأنه لا فرق بين : « لِمَنِ الأَرْضُ » ومَنْ رَبّ الأرض ، إلا أنه لم يقرأ به أحد .
قوله : { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } ( لمّا ذكر الأرض أولاً والسماء ثانياً ، عمَّم الحكم هاهنا بقوله : { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } ) ويدخل في الملكوت المِلْك والمُلْك والتاء فيه على سبيل المبالغة .

« وَهُوَ يُجِيرُ » أي : يؤمن من يشاء ، { وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } أي : لا يؤمن من أخافه الله ، يقال : أجرت فلاناً على فلان إذا منعته منه .
قوله : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } فيه سؤال : وهو كيف قال : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ثم حكى عنهم « سَيَقُولُونَ اللَّهُ » وفيه تناقض؟ والجواب : لا تناقض ، لأنّ قوله : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } لا ينفي علمهم بذلك وقد يُقال مثل ذلك في الحِجَاج على وجه التأكيد لعلمهم والبعث على اعترافهم بما يورد من ذلك .
وقوله : { فأنى تُسْحَرُونَ } أي : تصرفون عن توحيده وطاعته ، والمعنى كيف يحتمل لكم الحق باطلاً . { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق } بالصدق ، « وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ » فيما يدعون من الشرك والولد ، وقرئ هنا ببعض ما قرئ به في نظيره . فقرأ ابن إسحاق : « أَتَيْتُهُمْ » بتاء الخطاب ، وغيره بتاء المتكلم .

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)

قوله تعالى : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } الآية . وهذه الآية كالتنبيه على الردّ على الكفار الذين يقولون : الملائكة بنات الله . وقوله : { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } ردّ على اتخاذهم الأصنام آلهة ، ويحتمل أن يريد به إبطال قول النصارى والثنوية .
ثم إنه تعالى ذكر الدليل بقوله : { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } أي : لانفرد كل واحد من الآلهة بما خلقه ، ولم يرض أن يضاف خلقه إلى غيره ، ومنع الإله الآخر عن الاستيلاء على ما خلق { وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } أي : طلب بعضهم مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم ، وحين لم تروا ذلك فاعلموا أنه إله واحد .
قوله : « إذاً » جواب وجزاء ، قال الزمخشري : فإن قلت : « إذاً » لا تدخل إلاَّ على كلام هو جواب وجزاء ، فكيف وقع قوله : « لَذَهَبَ » جواباً وجزاءً ولم يتقدّم شرط ولا سؤال سائل قُلْتُ : الشرط محذوف تقديره : لَوَ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ ، حذف لدلالة { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } .
وهذا رأي الفراء ، وقد تقدّم في الإسراء في قوله : { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } [ الإسراء : 73 ] ثم إنه تعالى نَزّه نفسه فقال : { سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ } من إثبات الولد والشريك .
قرئ : « تَصِفُونَ » بتاء الخطاب وهو التفات .
قوله : « عَالِمُ الغَيْبِ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم : بالجر على البدل من الجلالة . وقال الزمخشري : صفة لله . كأنه محض الإضافة فتعرف المضاف .
والباقون : بالرفع على القطع خبر مبتدأ محذوف .
ومعنى الآية : أنه مختص بعلم الغيب والشهادة ، فغيره وإن علم الشهادة لكن لم يعلم الغيب ، لأن الشهادة لا يتكامل بها النفع إلا مع العلم بالغيب وذلك كالوعيد لهم فلذلك قال : ( « فَتَعَالَى اللَّهُ ) عَمَّا يُشْرِكُونَ » .
قوله : « فَتَعَالَى » عطف على معنى ما تقدم ، كأنّه قال علم الغيب فتَعَالَى كقولك : زيد شجاع فعظمت منزلته أي : شجع فعظمت . أو يكون على إضمار القول ، أي : أقول فتعالى الله . قوله : { قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ } أي : ما أوعدتهم من العذاب قرأ العامة « تُرِيَنِّي » بصريح الياء . والضحاك : « تُرِئَنِّي » بالهمز عوض الياء ، وهذا كقراءة : « فَإِمَّا تَرِئَنَّ » « لتَرؤُنَّ » بالهمز ، وهو بدل شاذ .
قوله : { رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي } جواب الشرط ، و « رَبِّ » نداء معترض بين الشرط وجزائه ، وذكر الربّ مرتين مرة قبل الشرط ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع .
فإن قيل : كيف يجوز أن يجعل الله نبيه مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟
فالجواب : يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله ، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه .

قوله : { وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ } هذا الجار متعلق ب « لَقَادِرُونَ » أو بمحذوف على خلاف سبق في أن هذه اللام تمنع ما بعدها أن يعمل فيما قبلها . والمعنى : أنهم كانوا ينكرون الوعد بالعذاب ، فقيل لهم : إن الله قادر على إنجاز ما وعد في الدنيا . وقيل : المراد عذاب الآخرة .
قوله : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة } وهو الصفح والإعراض والصبر على أذاهم .
قال الزمخشري : قوله : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة } أبلغ من أن يقال : بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل ، ( كأنه قال ادفع بالحُسنى السيئة ) والمعنى الصفح عن إساءتهم ، ومقابلتها بما أمكن من الإحسان ، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان ، وبذل الاستطاعة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة . . .
قيلك هذه الآية نُسخت بآية السيف ، وقيل : محكمة ، لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دينٍ أو مروءة . ثم قال : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } أي : يقولون من الشرك .

وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)

قوله تعالى : { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين } الآية لما أدَّب رسوله بقوله : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ المؤمنون : 96 ] أتبعه بما يقوي على ذلك وهو الاستعاذة بالله من أمرين :
أحدهما : من همزات الشياطين . والهَمَزَاتُ جمع همزَة ، وهي النخسة والدفع بيدٍ وغيرها ، وهي كالهزِّ والأزّ ، ومنه مِهْمَازُ الرائض ، والمِهْمَاز مفْعَالٌ من ذلك كالمِحْرَاث من الحَرْث والهَمَّازُ الذي يصيب الناس ، كأنه يدفع بلسانه وينخس به .
فصل
معنى « أعُوذُ بِكَ » أمتنع وأعتصم بك { مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين } نزعاتهم وقال الحسن : وساوسهم . وقال مجاهد : نفخهم ونفثهم . وقال أهل المعاني : دفعهم بالإغواء إلى المعاصي . قال الحسن : كان عليه السلام يقول بعد استفتاح الصلاة : « لا إله إلاّ الله ثلاثاً ، الله أكبر ثلاثاً ، اللهم إني أعوذ بك من هَمَزَاتِ الشياطين هَمْزِهِ ونَفْثِه ونَفْخِه » .
فقيل : يا رسول الله ما همزه؟ قال : « الموتة التي تأخذ ابن آدم » أي : الجنون . قيل : فَمَا نَفْثه؟ قال : « الشعْر » قيل : فما نفخُه؟ قيل : « الكِبْر » .
والثاني : قوله : { وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } أي : في شيء من أموري ، وإنما ذكر الحضور ، لأن الشيطان إذا حَضَر وسوس .
قوله تعالى : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت } الآية في ( حَتَّى ) هذه أوجه :
أحدها : أنها غاية لقوله : « بِمَا يَصِفُونَ » .
والثاني : أنها غاية « لِكَاذِبُونَ » .
ويبين هذين الوجهين قول الزمخشري : « حَتَّى » يتعلق ب « يَصِفُونَ » أي : لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت ، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد . ثم قال : أو على قوله : « وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ » . قال شهاب الدين : قوله : ( أو على قوله كذا ) كلام محمول على المعنى ، إذ التقدير : « حَتَّى » معلقة على « يَصِفُونَ » أو على قوله : « لَكَاذِبُونَ » وفي الجملة فعبارته مشكلة .
الثالث : قال ابن عطية : « حَتَّى » في هذا الموضع حرف ابتداء ، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف ، والأوَّل أبْيَن ، لأنّ ما بعدها هو المعنيّ به المقصود ( ذكره ) .
قال أبو حيان : فتوهم ابن عطية أن « حَتَّى » إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية ، وهي وإن كانت حرف ابتداء فالغاية معنى لا يفارقها ، ولم يبيّن الكلام المحذوف المقدر .
وقال أبو البقاء : ( حَتَّى ) غاية في معنى العطف . قال أبو حيّان : والذي يظهر لي أن قبلها جملة محذوفة تكون « حَتَّى » غاية لها يدل عليها ما قبلها ، التقدير : فلا أكون كالكفار الذين تهزمهم الشياطين ويحضرونهم حتى إذا جَاءَ ، ونظير حذفها قول الشاعر :
3806- فَيَا عَجَبا حَتَّى كُليْبٌ تسُبُّني ... أي : يسبني الناس كُلهم حتى كليب إلاَّ أن في البيت دلّ ما بعدها عليها بخلاف الآية الكريمة .

قوله : { رَبِّ ارجعون } . في قوله : « ارْجِعُونِ » بخطاب الجمع ثلاثة أوجه :
أجودها : أنه على سبيل التعظيم كقوله :
3807- فَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ... وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلاَ بَرْدَا
وقال الآخر :
3808- أَلاَ فَارْحَمُونِي يَا إلهَ مُحَمَّدٍ ... وقد يؤخذ من هذا البيت ما يرّد على ابن مالك حيث قال : إنه لم نعلم أحداً أجاز للداعي أن يقول : يَا رَحْيَمُون قال : لئّلا يُوهم خلاف التوحيد ، وقد أخبر تعالى عن نفسه بهذه الصفة وشبهها للتعظيم في مواضع من كتابه الكريم كقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
الثاني : أنه نادى ربه ثم خاطب ملائكة ربه بقوله : « ارْجِعُونِ » . ويجوز على هذا الوجه أن يكون على حذف مضاف ، أي : ملائكة ربي ، فحذف المضاف ثم التف إليه في عود الضمير كقوله : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } [ الأعراف : 4 ] . ثم قال : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] التفاتاً ل « أهل » المحذوف .
الثالث : أنّ ذلك يدل على تكرير الفعل كأنه قال : ارْجعنِي ارجعنِي نقله أبو البقاء وهو يشبه ما قالوه في قوله : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] أنه بمعنى : أَلْقِ أَلْقِ ثنّى الفعل للدلالة على ذلك ، وأنشدوا :
3809- قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِل ... أي : قف قف .
فصل
اعلم أنّه تعالى أخبر أنَّ هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت ( قَالَ رَبِّ ارجعون } ) ولم يقل : ارجعني ، وهو يسأل الله وحده الرجعة لما تقدّم في الإعراب . وقال الضحّاك : كنت جالساً عند ابن عباس فقال : مَنْ لَمْ يُزَكِّ ولم يَحُج سأل الرجعة عند الموت ، فقال رجل : إنما يسأل ذلك الكفار . فقال ابن عباس : أنا أقرأ عليك به قرآناً { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولاا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ } [ المنافقون : 10 ] .
وقال عليه السلام : « إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعنده يقول : { رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } » .
واختلفوا في وقت مسألة الرجعة ، فالأكثرون على أنه يسأل حال المعاينة وقيل : بل عند معاينة النار في الآخرة ، وهذا القائل إنَّما ترك ظاهر هذه الآية لمَّا أخبر الله - تعالى - عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة .
قوله : { لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } أي : ضيّعتُ . أي : أقول لا إله إلاَّ الله .
وقيل : أعمل بطاعة الله تعالى . وقيل : أعمل صالحاً فيما قصّرتُ ، فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية ، وهذا أقرب ، لأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه . فإن قيل : قوله تعالى : { لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً } كيف يجوز أن يسأل الرجعة مع الشك .
فالجواب : ليس المراد ب « لَعَّلَ » الشك فإِنَّه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة إن أعطي ما سأل ، فهو مِثْل من قَصّر في حق نفسه ، وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير ، فيقول : مكنُونِي من التدارك لعلى أتدارك فيقول هذه الكلمة مع كونه جازماً بأنه سيتدارك .

ويحتمل أيضاً أنَّ الأمر المستقبل إذا لم يعرفوه أوردُوا الكلام الموضوع للترجي والظن دون اليقين فقد قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] .
قوله : « كَلاَّ » كلمة ردع وزجر أي : لا ترجع . معناه المنع طلبوا ، كما يقال لطالب الأمر المُسْتبعد : هَيْهَات . ويحتمل أن يكون ذلك إخباراً بأنهم يقولون ذلك ، وأنّ هذا الخبر حق ، فكأنّه تعالى قال : حقاً إنّها كلمة هو قائلها . والأول أقرب .
قوله : « إِنَّهَا كَلِمةٌ » من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل كقوله : « أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد » يعني قوله :
3810- أَلاَ كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِل ... وقد تقدم طرف من هذا في آل عمران . و « هُوَ قَائِلُهَا » صفة ل « كَلِمَة » .
والمراد بالكلمة : سؤاله الرجعة : كلمة هو قائلها ولا ينالها ، وقيل : معناه لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه .
قوله : « وَمِنْ وَرَائِهِمْ » أي : أمامهم وبين أيديهم . « بَرْزَخٌ » البرزخ : الحاجز بين المسافتين وقيل : الحجاب بين الشيئين أن يصل أحدهما إلى الآخر ، وهو بمعنى الأوّل .
وقال الراغب : أصلة برْزَة بالهاء فعُرّب ، وهو في القيامة الحائل بين الإنسان وبين المنازل الرفيعة والبرزخ قبل البعث المنع بين الإنسان وبين الرجعة التي يتمناها .
قال مجاهد : حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا . ( وقال قتادة : بقيّة الدنيا ) .
قال الضحاك : البرزخ ما بين الموت إلى البعث . وقيل : القبر وهم فيه إلى يوم يبعثون .

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)

قوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور } الآية لمَّا قال : { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 100 ] ذكر أحوال ذلك اليوم فقال : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور } وقرأ العامة بضم الصاد وسكون الواو ، وهو آلة إذا نُفِخ فيها ظهر صوت عظيم جعله الله علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات ، قال عليه السلام : « إِنَّه قَرْنٌ يُنفخُ فِيه » وقرأ ابن عباس والحسن : بفتح الواو جمع صُورة . والمعنى : فإذا نُفخ في الصور أَرْوَاحها وقرأ أبو رزين : بكسر الصاد وفتح الواو ، وهو شاذ . هذا عكس ( لُحَى ) بضم اللام جمع ( لِحْية ) بكسرها . وقيل : إنّ النفخ في الصور استعارة ، والمراد منه البعث والحشر .
قوله : « فَلا أَنْسَابَ » الأنساب جمع نَسَب ، وهو القرابة من جهة الولادة ، ويُعبّر به عن التواصل ، وهو في الأصل مصدر قال :
3811- لاَ نَسَبَ اليَوْمَ وَلاَ خُلَّةً ... اتسعَ الخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ
قوله : « بَيْنَهُم » يجوز تعلقه بنفس « أَنْسَابَ » ، وكذلك « يَوْمَئِذٍ » ، أي : فلا قربة بينهم في ذلك اليوم . ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنّه صفة ل « أَنْسَابَ » ، والتنوين في « يَوْمَئِذٍ » عوض عن جملة تقديره : يومئذ نفخ في الصور .
فصل
من المعلوم أنَّه تعالى إذا أَعادهم فالأنساب ثابتة ، لأنّ المعاد هو الولد والوالد ، فلا يجوز أن يكونَ المراد نفي النسب حقيقة بل المراد نفي حكمه وذلك من وجوه :
أحدها : أنّ من حق النسب أنْ يقع به التعاطف والتراحم كما يُقال في الدنيا : أسألك باللَّه والرحم أن تفعل كذا ، فنفى سبحانه ذلك من حيث أنَّ كل أحد من أهل النار يكون مشغولاً بنفسه ، وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب كما أنَّ الإنسان في الدنيا إذا كان في آلام عظيمة ينسى ولده ووالده .
وثانيها : أنَّ من حق النسب أنْ يحصل به التفاخر في الدنيا ، وأنْ يسأل البعض عن أحوال البعض ، وفي الآخرة لا يَتَفَرغونَ لذلك .
وثالثها : أنّ ذلك عبارة عن الخوف الشديد ، فكل امرئٍ مشغول بنفسه عن نسبه وأخيه وفصيلته التي تؤويه . قال ابن مسعود : يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينادي منادٍ ألا إنّ هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه ، فيفرح المرء يومئذ أن يثبت له الحق على أمه أو أخيه أو أبيه ثم قرأ ابن مسعود { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } وروى عطاء عن ابن عباس : أنّها النفخة الثانية .
{ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ } أي : لا يتفاخرون في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا مَنْ أنت؟ ومن أي قبيلة أنت؟ ولم يرد أنّ الأنساب تنقطع .
فإن قيل : أليس قد جاء في الحديث :

« كل سَبَبٍ ونسب ينقطع إلا سَبَبِي ونَسَبِي » قيل معناه : لا ينفع يوم القيامة سبب ولا نسب إلاّ سببه ونسبه ، وهو الإيمان والقرآن .
فإن قيل : قد قال ههنا « وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ » وقال : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [ المعارج : 10 ] . وقال { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الصافات : 27 ] .
فالجواب : رُوي عن ابن عباس أنّ للقيامة أحوالاً ومواطن ، ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عِظَم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون ، وفي موطن يفيقون إفاقة يتساءلون . وقيل : إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شُغلوا بأنفسهم عن التساؤل ، فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا : { ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [ يس : 52 ] . وقيل : المراد لا يتساءلون بحقوق النسب . وقيل : « لاَ يَتَسَاءَلُونَ » صفة للكفار لشدة خوفهم ، وأمّا قوله : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الصافات : 27 ] فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها . وعن الشعبي قالت عائشة : « يا رسول الله أما نتعارف يوم القيامة أسمع الله يقول : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } فقال عليه السلام » ثلاثة مواطن تذهل فيها كُلُّ مرضعةٍ عما أرضعت عند رؤية القيامة وعند الموازين وعلى جسر جهنم « .
قوله : { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون } لمَّا ذكر القيامة شرح أحوال السعداء والأشقياء . قيل المراد بالموازين الأعمال فمن أُتِيَ بِمَا لَهُ قدر وخطر فهو الفائز المفلح ، ومن أتي بِمَا لاَ وزن له ولا قدر فهو الخاسر . وقال ابن عباس : الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال الصالحة التي لها وزن وقدر عند الله من قوله : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ] أي : قدراً وقيل : ميزان له لسان وكفتان يوزن به الحسنات في أحسن صورة ، والسيّئات في أقبح صورة . وتقدّم ذلك في سورة الأنبياء .
قوله : { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ } قال ابن عباس : غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين . وقيل : امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب .
قوله : { فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } يجوز أن يكون » خَالِدُونَ « خبراً ثانياً ل ( أُولَئِكَ ) ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم خالدون . وقال الزمخشري : { فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } بدل من » خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ « ، ولا محل للبدل والمبدل منه ، لأنّ الصلة لا محل لها .
قال أبو حيان : جعل » فِي جَهَنَّمَ « بدلاً من ( خَسِرُوا ) ، وهذا بدل غريب ، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي تعلق به » فِي جَهَنَّمَ « أي : استقروا في جهنم وهو بدل شيء من شيء لأنّ من خسر نفسه استقر في جهنم . قال شهاب الدين : فجعل الشيخ الجار والمجرور البدل دون » خالدون « ، والزمخشري جعل جميع ذلك بدلاً ، بدليل قوله بعد ذلك : أو خبراً بعد خبر ، ل » أُولَئِكَ « أو خبر مبتدأ محذوف . وهذان إنّما يليقان ب » خَالِدُونَ « ، وأما » فِي جهنَّم « فمتعلق به ، فيحتاج كلام الزمخشري إلى جواب ، وأيضاً فيصير » خَالِدُونَ « معلقاً .

وجوَّز أبو البقاء أن يكون الموصول نعتاً لاسم الإشارة ، وفيه نظر ، إذ الظاهر كونه خبراً له .
قوله : « تَلْفَحُ » يجوز استئنافه ، ويجوز حَالِيته ، ويجوز كونه خبراً ل « أُولَئِك » . واللَّفْحُ إصابة النار الشيء بِوَهجها وإحراقها له ، وهو أشدُّ من النفح ، وقد تقدّم النفح في الأنبياء . قوله : { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } الكُلُوح تشمير الشفة العليا ، واسترخاء السفلى .
قال عليه السلام في قوله : { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } قال : « تَشْويه النَّارُ فَتَقْلِصُ شَفَتُه العُلْيَا حَتّى تَبْلغ وَسَطَ رَأْسِه ، وتَسْترخِي شَفَتُهُ السُفْلَى حَتّى تَبْلغَ سُرَّتَهُ » وقال أبو هريرة : يعظم الكافر في النار مسيرة سبع ليال ضرسه مثل أحد ، وشفاههم عند سررهم سود زرق خنق مقبوحون . ومنه كُلُوح الأسد أي : تكشيره عن أنيابه ، ودهرٌ كالح ( وبرد كالح ) أي : شديد وقيل الكُلُوح : تقطيب الوجه وتسوره ، وكَلَحَ الرجلُ يَكْلَحُ كُلُوحاً ( وكُلاَحاً ) .
قوله : { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ } يعني القرآن تخوفون بها { فكنتم بها تكذبون } قالت المعتزلة دلّت الآية على أنهم إنّما عُذِّبُوا بسوء أفعالهم ، ولو كان فعل العبد بخلق الله لما صحّ ذلك .
والجواب : أن القادر على الطاعة والمعصية إنْ صدرت المعصية عنه لا لِمُرجح ألبتّة كان صدورها عنه اتفاقيّاً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق العقاب ، وإن كان لمرجح فذلك المرجح ليس من فعله وإلاّ لزم التسلسل فحينئذ يكون صدور تلك الطاعة عنه اضطرارياً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق الثواب .

قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)

قوله تعالى : { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } الآية . لمّا قال سبحانه { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ المؤمنون : 105 ] ذكر ما يجري مجرى الجواب عنه وهو من وجهين الأول قولهم : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } قرأ الأخوان : « شقاوتنا » بفتح الشين وألف بعد القاف . والباقون بكسر الشين وسكون القاف . وهما مصدران بمعنى واحد فالشقاوة كالقساوة ، وهي لغة فاشية ، والشقوة كالفطنة والنعمة ، وأنشد الفراء :
3812- كُلِّفَ مِنْ عَنَائِهِ وشِقْوَتِهْ ... بِنْتَ ثَمَانِي عَشْرَةٍ مِنْ حِجَّتِهْ
وهي لغة الحجاز .
قال أبو مسلم : « الشقْوَة من الشقَاء كجِرْيَة الماء ، والمصدر الجَرْي ، وقد يجيء لفظ فِعْلَة ، والمراد به الهيئة والحال فيقول : جِلْسَة حَسنة ورِكْبَة وقِعْدَة ، وذلك من الهيئة ، وتقول : عاش فلان عِيشَةً طيبة ، ومات مِيتَةً كريمة ، وهذا هو الحال والهيئة ، فَعَلَى هذا المراد من الشقْوَة حال الشقاء . وقرأ قتادة والحسن في رواية كالأخوين إلاّ أنهما كسرا الشين ، وشبل في اختياره كالباقين إلاّ أنّه فتح الشين .
قال الزمخشري : » غَلَبَتْ عَلَيْنَا « ملكتنا من قولك غَلَبَنِي فلان على كذا إذا أخذه منك ( وامتلكه ) والشَّقاوة سوء العاقبة .
فصل
قال الجبائي : المراد أن طلبنا اللذّات المحرّمة ، وخروجنا عن العمل الحسن ساقنا إلى هذه الشقاوة ، فأطلق اسم المُسبب على السبب ، وليس هذا باعتذار فيه ، لأن علمهم بأن لا عُذر لهم فيه ثابت عندهم ، ولكنه اعتراف بقيام الحجة عليهم في سوء صنيعهم .
وأجيب : بأنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذّات المحرّمة ، وطلب تلك اللذّات حاصل باختيارهم أو لا باختيارهم ، فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث فإن استغنى عن المؤثر ، فَلِم لا يجوز في كل الحوادث ذلك؟ وحينئذ يَنْسد عليك باب إثبات الصانع ، وإن افتقر إلى مُحدث فمحدثه إمَّا العبد أو الله ، فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه :
أحدها : أنَّ قدرة العبد صالحة للفعل والترك ، فإن توقَّف صدور تلك الإرادة عنه إلى مرجح آخر ، عاد الكلام فيه ، ولزم التسلسل ، وإن لم يتوقف على المرجّح ، فقد جوزتَ رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجّح ، وذلك يسد باب إثبات الصانع .
وثانيها : أنَّ العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال ، ولا كيفيّتها ، والجاهل بالشيء لا يكون محدثاً له ، وإلاّ لبطلت دلالة الأحكام ، ولا يقال علم العلم .
وثالثها : أَنَّ أحداً في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل ، بل لا يقصد إلا ( ما قصد إيقاعه لكنه لم يقصد إلاّ ) تحصيل العلم فكيف حصل الجهل فثبت أن الموجد للداعي والبواعث هو الله ، ثم إنَّ الداعية إِذا كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة ، وإن كانت سائقة إلى الشرّ كانت شقاوة .
وقال القاضي ، قولهم { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } دليل على أنه لا عذر لهم لاعترافهم ، فلو كان كفرهم من خلقه وإرادته ، وعَلِمُوا ذلك ، لكان ذكرهم ذلك أولى وأقرب إلى العذر .

والجواب : قد بيّنا أنّ الذي ذكروه ليس إلاّ ذلك ، ولكنهم مُقرّون أن لا عذر لهم فلا جرم قيل : « اخْسَئُوا فِيهَا » .
والوجه الثاني لهم في الجواب : قولهم : { وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ } أي : عن الهدى ، وهذا الضلال الذي جعلوه كالعِلّة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه ، وهو باطل ، فلم يبق إلاّ أن يكون ذلك الضلال ( عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم ، وما ذلك إلاّ خلق الداعي إلى الضلال ) . ثم إنّ القوم لما اعتذرُوا بهذين العُذرين ، قالوا : { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا } أي : من النار « فَإِنْ عُدْنَا » لما أنكرنا « فَإِنَّا ظَالِمُونَ » فعند ذلك أجابهم الله تعالى فقال : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } .
فإن قيل : كيف يجوز أن يطلبوا الخروج وقد علموا أنَّ عقابهم دائم؟ قلنا : يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة . ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون على وجه الغوث والاسترواح .
قوله : « اخْسَئُوا فِيهَا » أقيموا فيها ، كما يقال للكلب إذا طُرد اخسأ؛ أي : انزجر كما تنزجر الكلاب إذا زُجرت ، يقال : خسأ الكلب وخَسَأَ بِنَفْسِه . « وَلاَ تُكَلمون » في رفع العذاب فإِنّي لا أرفعه عنكم ، وليس هذا نهياً ، لأنّه لا تكليف في الآخرة .
قال الحسن : هو آخر كلام يتكلم به أهل النار ، ثم لا يتكلّمون بعده إلا الشهيق والزفير . ويصير لهم عواء كعواء الكلب لا يَفْهَمُون ولا يُفْهمُون .
قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي } الآية . العامة على كسر همزة ( إِنَّهُ ) استئنافاً . وأُبّي والعتكي : بفتحها أي : لأنه والهاء ضمير الشأن . قال البغوي : الهاء في إنه عماد ، وتسمى المجهولة أيضاً .
قوله : « فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرياً » قرأ الأخوان ونافع هنا وفي ص بكسر السين . والباقون : بضمها في المَوْضعين .
و ( سِخْريًّا ) مفعول ثان للاتخاذ . واختلف في معناها فقال الخليل وسيبويه والكسائي وأبو زيد : هما بمعنى واحد نحو دُريّ ودِريّ ، وبَحْر لُجِّي ولِجِّي بضم اللام وكسرها . وقال يونس : إن أريد الخدمة والسخرة فالضم لا غير ، وإن أريد الهزء فالضم والكسر ورَجّح أبو عليّ وتَبعه مكي قراءة الكسر ، قالا : لأنّ ما بعدها أَلْيَق لها لقوله : { وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } . ولا حجة فيه ، لأنّهم جمعوا بين الأمرين سَخروهم في العمل ، وسَخِرُوا منهم استهزاءً . والسُّخْرَة بالتاء الاستخدام وسُخْرِيًّا بالضم منها ، والسُّخْر بدونها الهُزء والمكسور منه ، قال الأعشى :
3813- إِنِّي أَتَانِي حَدِيثٌ لاَ أُسَرُّ بِهِ ... مِنْ علْو لاَ كذبٌ فِيهِ ولاَ سَخَرُ
ولم يختلف السبعة في ضم ما في الزخرف ، لأنّ المراد الاستخدام ، وهو يُقوِّي قول من فرّق بينهما ، إلاَّ أنَّ ابن محيصن وابن مسلم وأصحاب عبد الله كَسَرُوه أيضاً ، وهي مُقَوية لقول من جعلهما بمعنى والياء في سُخْريًّا وسِخْريًّا للنسب زيدت للدلالة على قوة الفعل ، فالسُّخْريّ أقوى من السُّخْر ، كما قيل في الخصوص خُصُوصيّة دلالة على قوة ذلك .

قال معناه الزمخشري .
فصل
اعلم أنّه تعالى قرعهم بأمر يتصل بالمؤمنين قال مقاتل : إن رؤوس قريش مثل أبي جهل ، وعقبة وأبيّ بن خلف ، كانوا يستهزؤون بأصحاب محمدٍ ، ويضحكون بالفقراء منهم ، كبلال ، وخباب ، وعمّار ، وصهيب ، والمَعْنى : اتخذتموهم هزواً « حَتَّى أَنْسَوْكُمْ » بتشاغلكم بهم على تلك الصفة { ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } ونظيره : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ } [ المطففين : 29 ] ثم إنّه تعالى ذكر ما يوجب أسفهم وخسرانهم بأَنْ وصف ما جازى به أولئك فقال : { جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا } أي : جزيتهم اليوم الجزاء الوافر .
قوله : { أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون } قرأ الأخوان بكسر الهمزة ، استئنافاً .
والباقون بالفتح ، وفيه وجهان :
أظهرهما : أنَّه تعليل فيكون نصباً بإضمار الخافض أي : لأنهم هم الفائزون ، وهي موافقة للأُولى فإنّ الاستئناف يعلل به أيضاً .
والثاني : قاله الزمخشري ، ولم يذكر غيره ، أنه مفعول ثان ل « جَزَيْتُهُمْ » أي : بأنهم أي : فوزهم وعلى الأَوّل يكون المفعول الثاني محذوفاً .

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

قوله تعالى : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ } قرأ الأخوان : { قُلْ كَمْ لَبِثْتُمْ } { قُلْ إِنْ لَبِثْتُمْ } بالأمر في الموضعين وابن كثير كالأخوين في الأوَّل فقط . والباقون : « قَالَ » في الموضعَين على الإخبار عن الله أو الملك . والفعلان مرسومان بغير ألف في مصاحف الكوفة ، وبألف في مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة . فحمزة والكسائي وَافَقَا مصاحف الكوفة ، وخالفها عاصم أو وافقها على تقدير حذف الألف من الرسم وإرادتها . وابن كثير وافق في الثاني مصاحف مكة ، وفي الأَوّل غيرها ، أو إيّاها على تقدير حذف الألف وإرادتها . وأمّا الباقون فوافقُوا مصاحفهم في الأوّل والثاني . فَعَلَى الأمر معنى الآية : قُولُوا أَيُّها الكَافِرُونَ ، فأخرج الكلام مخرج الواحد ، والمراد منه الجماعة إذ كان معناه مفهوماً . ويجوز أن يكون الخطاب لكل واحد منهم ، أي : قل أيها الكافرون . وأمّا على الخبر أي قال الله - عزَّ وجلَّ - للكفار يوم البعث { كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض } أي : في الدنيا أو في القبور . و ( كَمْ ) في موضع نصب على ظرف الزمان ، أي : كم سنة ، و « عَدَد » بدل من « كَمْ » قاله أبو البقاء ، وقال غيره : « عَدَدَ سَنِينَ » تمييز ل « كَمْ » وهذا هو الصحيح . وقرأ الأعمش والمفضّل عن عاصم : « عَدَداً » منوناً ، وفيه أوجه :
أحدها : أن يكون عدداً مصدراً أقيم مقام الاسم فهو نعت مقدّم على المنعوت قاله صاحب اللوامح . يعني : أنَّ الأصل سنين عدداً . أي : معدودة ، لكنّه يلزم تقديم النعت على المنعوت ، فصوابُه أن يقول فانتُصب حالاً هذا مذهب البصريين .
والثاني : أن « لَبِثْتُم » بمعنى : عددتم ، فيكون نصب « عَدَداً » على المصدر و « سَنِينَ » بدل منه . قاله صاحب اللوامح أيضاً . وفيه بُعْد لعدم دلالة اللبث على العدد .
والثالث : أنَّ « عَدَداً » تمييز ل « كَمْ » و « سِنِينَ » بدل منه .
فصل
الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ ، لأنّهم كانُوا ينكرون لبثاً في الآخرة أصلاً ، ولا يُعدون اللبث إلاّ في دار الدنيا ، ويظنون أنَّ بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة . فلمّا حصلوا في النار ، وأيقنوا دوامها ، وخلودهم فيها سألهم { كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض } مُنبِّهاً لهم على ما ظَنُّوه دائماً طويلاً ، وهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه ، فحينئذٍ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا ، حيث تيقّنوا خلافه ، وهذا هو الغرض من السؤال فإنْ قيل : فكيف يصح أن يقولوا في جوابهم : { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ولا يقع الكذب من أهل النار؟ فالجواب : لعلّهم نسوا لكثرة ما هم فيه من الأهوال ، وقد اعترفوا بهذا النسيان وقالوا : « فَاسْأَلِ العَادِّينَ » . قال ابن عباس : أنساهم ما كانُوا فيه من العذاب بين النفختين .

وقيل : مرادهم بقولهم : { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه من العذاب . وقيل : أرادوا أن لبثهم في الدنيا يوماً أو بعض يوم من أيام الآخرة ، لأن يوم القيامة مقداره خمسين ألف سنة .
فصل
اختلفوا في أنّ السؤال عن أيّ لبث؟ فقيل عن لبثهم أحياء في الدنيا ، فأجابوا بأَنّ قدر لبثهم كان يسيراً بناء على أنّ الله أعلمهم أنَّ الدنيا متاع قليل وأن الآخرة هي دار القرار .
وقيل : المراد اللبث في حال الموت ، لأنَّ قوله : « فِي الأَرْضِ » يفيد الكَوْن في الأَرض أي : في القبر ، والحيّ إِنّما يقال فيه أنّه على الأرض . وهذا ضعيف لقوله : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض } [ الأعراف : 56 ] ، واستدلوا أيضاً بقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } [ الروم : 55 ] ثم قالوا : « فَاسْأَلِ العَادِّينَ » أي : الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويُحْصُونها عليهم ، وهذا قول عكرمة . وقيل الملائكة الذين يعدّون أيام الدنيا . وقيل : المعنى سَلْ من يعرف عدد ذلك فإنّا نسيناه . وقُرئ « العَادِينَ » بالتخفيف ، وهي قراءة الحسن والكسائي في رواية جمع ( عَادِي ) اسم فاعل من ( عَدَا ) أي : الظلمة فإنّهم يقولون مثل ما قلنا .
وقيل : العَادين : القدماء المعمرين ، فإنّهم سيقصرونها . قال أبو البقاء : كقولك : هذا بئر عَاديَة ، أي؛ سل من تقدّمنا ، وحذف إحدى ياءي النسب كما قَالُوا : الأشعرون ، وحُذفت الأخرى لالتقاء الساكنين . قال شهاب الدين : المحذوف أَوّلاً الياء الثانية؛ لأنّها المتحركة وبحذفها يلتقي ساكنان . ويؤيد ما ذكره أبو البقاء ما نقله الزمخشري قال : وقُرئ ( العَادِيين أي : القدماء المعمرين ، فإنهم يستقصرُونَها ، فكيف بِمَن دُونهم؟ قال ابن خالويه : ولغة أخرى العَادِيّين يعني : بياء مشددة جمع عَادِيّة بمعنى القدماء ) .
فصل
احتجّ من أنكر عذاب القبر بهذه الآية فقال : قوله : { كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض } يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض ، وزمان كونهم أمواتاً في بطن الأرض ، فلو كانُوا معذبين في القبر لعلموا أنَّ مدة مكثهم في الأرض طويلة ، فلم يقولوا : { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } .
والجواب من وجهين :
الأول : أنّ الجواب لا بُدّ وأن يكون بحسب السؤال ، وإنّما سألوا عن موتٍ لا حياةَ بعده إلاّ في الآخرة ، وذلك لا يكون إلاّ بعد عذاب القبر .
والثاني : يحتمل أن يكونُوا سألوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه ، فلا مدخل في تقدّم موت بعضهم على بعض فيصح أن يكون جوابهم { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } عند أنفسنا .
قوله : « إِنْ لَبِثْتُم » أي : ما لبثتم « إِلاَّ قَلِيلاً » ، وكأنه قيل لهم : صدقتم ما لبثتم فيها إِلاّ قليلاً ، لأنها في مقابلة أيام الآخرة .
قوله : « لَوْ أَنَّكُمْ » جوابها محذوف تقديره : لو كنتم تعلمون مقدار لبثكم من الطول لمَا أجبتم بهذه المدة .

وانتصب « قليلاً » ( على النعت ) لزمن محذوف ( أو لمصدر محذوف ) أي : إلاّ زمناً قليلاً ، أو إِلاّ لُبْثاً قليلاً .
قوله تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } الآية في نصب ( عَبَثاً ) وجهان :
أحدهما : أنّه مصدر واقع موقع الحال أي : عابثين .
والثاني : أنه مفعول من أجله أي : لأجل العبث . والعَبَث : اللعب ، وما لا فائدة فيه ، أي : لتعبثوا وتلعبوا ، كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب ، وكل ما ليس له غرض صحيح . يقال : عَبَثَ يَعْبِثُ عَبثاً إذا خلط عليه بلعب ، وأصله من قولهم عبثت الأَقِط ، أي : خلطته ، والعَبِيث : طعام مخلوط بشيء ، ومنه العَوْبَثَانِي لتمر وسُوَيْق وسمن مختلط . قوله : « وَأَنَّكُمْ » يجوز أن يكون معطوفاً على ( أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ ) لكون الحسبان منسحباً عليه وأن يكون معطوفاً على ( عَبَثاً ) إذا كان مفعولاً من أجله .
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون معطوفاً على ( عَبَثاً ) أي : للعبث ولترككم غير مرجوعين وقُدّم « إِلَيْنَا » على ( تُرْجَعُونَ ) لأجل الفواصل .
قوله : « لاَ تُرْجَعُونَ » هو خبر « أَنَّكُمْ » ، وقرأ الأخوان « تَرْجِعُونَ » مبنياً للفاعل ، والباقون مبنياً للمفعول . وقد تقدّم أن ( رجع ) يكون لازماً ومتعدياً . وقيل : لا يكون إلا متعدّياً ، والمفعول محذوف .
فصل
لما شرح صفات القيامة استدل على وجودها بأنّه لولا القيامة لما تميّز المُطيع عن العاصي ، والصديق عن الزنديق ، وحينئذ يكون هذا العالم عَبَثاً ، وهو كقوله : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى } [ القيامة : 36 ] . والمعنى : أَنَّما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عزَّ وجلَّ .
« رُوي أن رجلاً مُصاباً مُرَّ به على ابن مسعود فَرَقَاهُ في أذنيه { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } حتى ختمها ، فَبَرأ ، ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بماذا رقيته في أذنه فأخبره ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » والذي نفسي بيده لو أنّ رجلاً موقناً قرأها على جبل لَزَال « ثم نَزّه نفسه عما يصفه به المشركون فقال : { فَتَعَالَى الله الملك الحق } ، والمَلِكُ : هو المالك للأشياء الذي لا يزول ملكه وقدرته ، والحَقّ : هو الذي يحق له الملك ، لأنّ كل شيء منه وإليه ، والثابت الذي لا يزول ملكه .
{ لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم } قرأ العامة » الكريم « مجروراً نعتاً للعرش ، وُصف بذلك لتنزُّل الخيرات منه والبركات والرحمة . أو لِنسْبته إلى أكرم الأكرمين ، كما يُقال : بَيْتٌ كَريم إذا كان ساكنوه كراماً . وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل عن ابن كثير وأبان بن تغلب بالرفع وفيه وجهان :
أحدهما : أنّه نعت للعرش أيضاً ، ولكنه قطع عن إعرابه لأجل المدح على خبر مبتدأ مضمر . وهذا جيّد لتوافق القراءتين في المعنى .
والثاني : أنه نعت ل ( رَبّ ) .
فصل
قال المفسرون : العرش السرير الحسن . وقيل : المرتفع . وقال أبو مسلم : العرش هنا السموات بما فيها من العرش الذي تطوف به الملائكة ، ويجوز أن يُراد به الملك العظيم .

والأكثرون : على أنّه العرش حقيقة .
قوله : « وَمَنْ يَدْعُ » شرط ، وفي جوابه وجهان :
أحدهما : أنه قوله : « فَإِنَّما حِسَابُهُ » وعلى هذا ففي الجملة المنفية وهي قوله : { لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } وجهان :
أحدهما : أنها صفة ، ل « إِلهاً » وهي صفة لازمة ، أي : لا يكون الإله المَدْعو من دون الله إلاّ كذا ، فليس لها مفهوم لفساد المعنى . ومثله { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] لا يفهم أنّ ثمَّ إِلهاً آخر مَدْعُوًّا من دون الله له برهان ، وأن ثمَّ طَائِراً يطيرُ بغير جناحيه .
والثاني : أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه ، وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقوله وهي صفة لازمة كقوله : « يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ » جِيءَ بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان ، ويجوز أن يكون اعتراضاً بين الشرط والجزاء كقولك : مَنْ أَحْسَن إلى زيدٍ لا أحد أَحقُّ بالإحسان منه فاللَّهُ مثيبه .
والثاني من الوجهين الأَولين : أن جواب الشرط قوله : { لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } كأنه فرَّ من مفهوم الصفة لِمَا يلزم من فساده ، فوقع في شيء لا يجوز إِلاّ في ضرورة شعر ، وهو حذف فاء الجزاء من الجملة الاسمية كقوله :
3814- مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرهَا ... والشَّرُّ بِالشَّر عِنْدَ اللَّهِ سِيَّانِ
وقد تقدّم تخريج كون { لاَ بُرْهَانَ لَهُ } على الصفة ، ولا إشكال ، لأنها صفة لازمة ، أو على أنها جملة اعتراض .
فصل
لمّا بيَّن أنَّه { الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ } أتبعهُ بأن من ادّعى إلهاً آخر فقد ادّعى باطلاً ، لأنه { لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } لا حجّة ولا بيّنة ، لأنه لا حجّة في دعوى الشرك ، وهذا يدل على صحة النظر وفساد التقليد . ثم قال : « فَإِنَّما حِسَابُهُ » أي : جزاؤه عند ربه يجازيه بعمله كما قال : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } [ الغاشية : 26 ] كأنّه قال : إن عقابه بلغ إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلاّ الله .
قوله : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } فشتّان ما بين فاتحة السورة وخاتمتها . قرأ الجمهور بكسر همزة ( إنّه ) على الاستئناف المفيد للعلة . وقرأ الحسن وقتادة « أَنَّه » بالفتح ، وخرّجه الزمخشري على أن يكون خبر « حِسَابُه » قال : ومعناه حسابه عدم الفلاح ، والأصل حساب أنّه لا يفلح هو ، فوضع الكافرون في موضع الضمير ، لأن « مَنْ يَدْعُ » في موضع الجمع ، وكذلك حسابه أنّه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون . انتهى .
ويجوز أن يكون ذلك على حذف حرف العلة أي : لأنّه لا يفلح . وقرأ الحسن : « لاَ يَفْلحُ » مضارع ( فَلح ) بمعنى ( أَفْلَح ) ( فَعَل ) و ( أَفْعَل ) فيه بمعنى ، والله أعلم .
فصل
المعنى لا يسعد من جحَد وكذّب ، وأمر الرسول بأن يقول : { رَّبِّ اغفر وارحم } ويثني عليه بأن « خَيْرُ الرَّاحِمِينَ » ، وقد تقدّم بيان كون « أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ » .

فإن قيل : كيف اتصال هذه الخاتمة بما قبلها؟
فالجواب : أنّه سبحانه لما شرح أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر بالانقطاع إلى الله والالتجاء إلى غفرانه ورحمته ، فإنهما العاصمان عن كل الآفات والمخافات .
رُوي أنَّ أَوَّل سورة ( قد أفلح ) وآخرها من كنوز العرش من عَمِل بثلاثِ آياتٍ من أولها ، واتعظ بأربع من آخرها فقد نَجَا وأفلح . وروَى الثعلبي في تفسيره عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالرَّوْحِ والرَّيْحَانِ ، وما تقرّ بِهِ عَيْنُه عند نزول ملك الموت » .

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)

( قوله تعالى ) : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } الآية .
قرأ العامة « سُورَةٌ » بالرفع ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن تكون مبتدأ ، والجملة بعدها صفة لها ، وذلك هو المُسَوِّغ للابتداء بالنكرة ، وفي الخبر وجهان :
أحدهما : أنه الجملة من قوله : « الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي » .
( وإلى هذا نحا ابن عطية فإنه قال : ويجوز أن تكون مبتدأ ، والخبر « الزَّانِيَةُ والزّانِي » ) وما بعد ذلك . والمعنى : السورةُ المُنَزَّلةُ والمفروضة كذا وكذا ، إذ السورة عبارة عن آيات مَسْرُودَة لها بدْءٌ وخَتْمٌ .
والثاني : أن الخبر محذوف ، أي : فيما يُتْلَى عليكم سورةٌ ، أو فيما أنزلنا سورة .
والوجه الثاني من الوجهين الأولين : أن تكون خبراً لمبتدأ مضمر ، أي : هذه ( سورة ) .
وقال أبو البقاء : ( سورة ) بالرفع على تقدير : هذه سورةٌ ، أو فيما يتلى عليك سورة ، فلا تكون ( سورة ) مبتدأ ، لأنها نكرة .
وهذه عبارة مشكلةٌ على ظاهرها ، كيف يقول : « لا تكون مبتدأ » مع تقديره : فيما يُتلى عليك سورةُ؟ وكيف يُعَلِّلُ المنعَ بأنها نكرة مع تقديره لخبرها جاراً مقدماً عليها ، وهو مسوغ للابتداء بالنكرة؟ وقرأ عمر بن عبد العزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهد وأبو حيوة وطلحة بن مصرف « سُورَةً » بالنصب ، وفيها أوجه :
أحدها : أنها منصوبة بفعل مُقَدَّر غير مُفَسَّرٍ بما بعده ، تقديره : « اتْلُ سُورَةً » أو « اقرأ سورة » .
والثاني : أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره ما بعده ، والمسألة من الاشتغال ، تقديره : « أنزلنا سورةً ( أنزلناها » ) .
والفرق بين الوجهين : أنَّ الجملة بعد « سُورَةً » في محل نصب على الأول ، ولا محل لها على الثاني .
الثالث : أنها منصوبة على الإغراء ، أي : دونك سورةً ، قاله الزمخشري . ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء . واستشكل أبو حيان أيضاً على وجه الاشتغال جواز الابتداء بالنكرة من غير مسوغ ، ومعنى ذلك أنه ما مِنْ موضع يجوز ( فيه ) النصب على الاشتغال إلاَّ ويجوز أن يُرْفَعَ على الابتداء ، وهنا لو رفعت « سُورَةً » بالابتداء لم يَجُزْ ، إذ لا مسوغ ، فلا يقال : « رجلاً ضربتُه » لامتناع « رجل ضربتُه » ، ثم أجاب بأنه إن اعْتُقِدَ حذف وصفٍ جاز ، أي : « سُورة مُعَظَّمةً أو مُوَضّحَةً أنزلناها » فيجوز ذلك .
الرابع : أنها منصوبة على الحال من « ها » في « أَنْزَلْنَاهَا » ، والحال من المكنيّ يجوز أن يتقدم عليه ، قاله الفراء .
وعلى هذا فالضمير في « أَنْزَلْنَاهَا » ليس عائداً على « سُورَةً » بل على الأحكام ، كأنه قيل : أنزلنا الأحكام سورةً من سُوَر القرآن ، فهذه الأحكام ثابتةٌ بالقرآن بخلاف غيرها فإنه قد ثبت بالسُّنّة ، وتقدم معنى الإنزال .

قوله : « وفرضناها » قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد . والباقون بالتخفيف .
فالتشديد إمَّا للمبالغة في الإيجاب وتوكيد ، وإمَّا المَفْرُوض عليهم ، وإمَّا لتكثير الشيء المفروض . والتخفيف بمعنى : أَوْجَبْنَاهَا وجعلناها مقطوعاً بها . وقيل : ألزمناكم العمل بها وقيل : قدرنا ما فيها من الحدود .
والفرض : التقدير ، قال الله ( تعالى ) : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] أي : قدرتم ، { إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن } [ القصص : 85 ] . ثم إنَّ السورة لا يمكن فرضها لأنها قد دخلت في الوجود ، وتحصيل الحاصل محال ، فوجب أن يكون المراد : فرضنا ما بيِّن فيها من الأحكام ، ثم قال : { وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } واضحات . « لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » تتعظون ، وأراد ب « الآيَات » ما ذكر في السورة من الأحكام والحدود ودلائل التوحيد .
وقرئ « تَذَكَّرُونَ » بتشديد الذال وتخفيفها . وتقدم معنى « لَعَلَّ » في سورة البقرة .
قال القاضي : « لَعَلّ » بمعنى « كَيْ » .
فإن قيل : الإنزال يكون من صعود إلى نزول ، وهذا يدل على أنه تعالى في جهة؟
فالجواب : أن جبريل كان يحفظها من اللوح ثم ينزلها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل : « أنْزَلْنَاهَا » توسعاً .
وقيل : إن الله تعالى أنزلها من أم الكتاب إلى السماء الدنيا دفعة واحدة ، ثم أنزلها بعد ذلك على لسان جبريل - عليه السلام - .
وقيل : معنى « أنزلناها » : أعطيناها الرسول ، كما يقول العبد إذا كلم سيّده : رفعت إليه حاجتي ، كذلك يكون من السيد إلى العبد الإنزال ، قال الله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } [ فاطر : 10 ] .
قوله تعالى : { الزانية والزاني } في رفعهما وجهان :
مذهب سيبويه : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : فيما يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْم الزَّانِيَةِ ، ثم بَيَّنَ ذلك بقوله : « فَاجْلِدُوا » . . . إلى آخره .
والثاني وهو مذهب الأخفش وغيره : أنه مبتدأ ، والخبر جملة الأمر ، ودَخَلَتِ الفاءُ لشبه المبتدأ بالشرط ، ولكون الألف واللام بمعنى الذي ، تقديره : مَنْ زنا فاجلده ، أو التي زنت والذي زنا فاجلدوهما ، وتقدم الكلام على هذه المسألة في قوله : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } [ النساء : 16 ] وعند قوله : « والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ » فأغْنَى عن إعادته .
وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وأبو شيبة ورُوَيْس بالنصب على الاشتغال .
قال الزمخشري : « وهو أحسن من ( سورةً أنزلناها ) لأجل الأمر » .
وقرئ : « والزَّان » بلا ياء .
ومعنى « فاجلدوا » : فاضربوا { كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } ، يقال : جَلَدَه : إذا ضرب جِلْدَهُ ، كما يقال : رأسَه وبطنه : إذا ضرب رأسه وبطْنه ، وذكر بلفظ الجلد لئلا يبرح ، ولا يضرب بحيث يبلغ اللحم .
قوله ( تعالى ) : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } : رحمة ورقة .
قرأ العامة هنا وفي الحديد بسكون همزة « رَأْفَة » . وابن كثير بفتحها .
وقرأ ابن جريج وتروى أيضاً عن ابن كثير وعاصم « رَآفَة » بألف بعد الهمزة بِزِنَةِ « سَحَابَةٍ » .

وكلها مصادر ل « رَأَفَ بِهِ يَرْؤُف » ، وتقدم معناه ، وأشهر المصادر الأول ، ونقل أبو البقاء فيها لغة رابعة ، وهي إبدال الهمزة ألفاً ، وهذا ظاهر .
وقرأ العام « تَأْخُذْكُمْ » بتاء التأنيث مُرَاعاةً للفظ .
وعليُّ بن أبي طالب والسُّلميُّ ومجاهد بالياء من تحت ، لأنَّ التأنيث مجازيّ ، وللفصل بالمفعول والجار .
و « بِهِمَا » يتعلق ب « تَأْخُذْكُمْ » ، أو بمحذوف على سبيل البيان ، ولا يتعلق ب « رَأْفَة » لأن المصدر لا يتقدم عليه معمولاً ، و « دِينِ اللَّهِ » مُتعلِّقٌ بالفعل قبله أيضاً .
وهذه الجملة دالة على جواب الشرط بعدها ، أو هي الجواب عند بعضهم .
فصل
الزنا حرام ، وهو من الكبائر ، لأن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله : « وَلاَ يَزْنُونَ » ، وقال { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى } [ الإسراء : 32 ] ، وقال عليه السلام : « يَا مَعْشَرَ الناس اتقوا الزِّنَا فإنَّ فيه ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة ، أما التي في الدنيا : فيُذْهِبُ البهاء ، ويورث الفقر ، وينقص العمر . وأما اللاتي في الآخرة : فسُخْطُ الله ، وسوء الحساب ، وعذاب ( النار ) » .
قال بعض العلماء في حدّ الزنا : إنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم قطعاً .
واختلف العلماء في اللواط ، هل يسمى زنا أم لا؟
فقيل : نعم لقوله - عليه السلام - : « إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان » ، ولدخوله في حدّ الزنا المتقدم . وقيل : لا يسمى زنا ، لأنه في العرف لا يسمى زانياً ، ولو حلف لا يزني فلاط لم يحنث ، ولأن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط وكانوا عالمين باللغة .
وأما الحديث فمحمول على الإثم ( بدليل قوله - عليه السلام - ) : « إذَا أَتَتِ المَرْأةُ المرأةَ فَهُمَا زَانِيتَان » ، وقوله عليه السلام : « اليَدَان تَزْنِيَان ، والعَيْنَان تَزْنِيَان » وأما دخوله في مسمى الفرج لما فيه من الانفراج فبعيد ، لأن العين والفم منفرجان ولا يسميان فرجاً ، وسمي النجم نجماً لظهوره ، وما سموا كل ظاهر نجماً ، وسموا الجنين جنيناً لاستتاره ، وما سمّوا كل مستتر جنيناً .
واختلفوا في حدّ اللوطي :
فقيل : حدّ الزنا ، إن كان محصناً رجم ، وإن كان غير محصن جلد وغرب .
وقيل : يقتل الفاعل والمفعول مطلقاً .
واختلفوا في كيفية قتله :
فقيل : تضرب رقبتُه كالمرتد لقوله عليه السلام : « مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوه » .
وقيل : يرجم بالحجارة .
وقيل : يهدم عليه جدار .
وقيل : يرمي من شاهق ، لأن الله تعالى عذب قوم لوط بكل ذلك .
وقيل : يعزّر الفاعل ، وأما المفعول فعليه القتل إن قلنا يقتل الفاعل ، وإن قلنا على الفاعل حدّ الزنا فعلى المفعول جلد مائة وتغريب عام محصناً كان أو غير محصن .
وقيل : إن كانت امرة محصنة فعليها الرجم .

فصل
وأجمعت الأمة على حرمة إتيان البهيمة ، واختلفوا في حدّه :
فقيل : حدّ الزنا .
وقيل : يقتل مطلقاً لقوله عليه السلام : « مَنْ أَتَى بَهِيمةً فَاقْتُلوهُ واقْتُلُوهَا مَعَهُ » .
وقيل : التعزير ، وهو الصحيح .
وأما السحق وإتيان الميتة والاستمناء باليد فلا يشرع فيه إلا التعزير .
فصل
تقدم الكلام في حدّ الزنا في سورة النساء ، وأما إثباته فلا يحصل إلا بالإقرار أو بالبينة . أما الإقرار ، فقال الشافعي : يثبت بالإقرار مرة واحدة لقصة العسيف .
وقال أبو حنيفة وأحمد : لا بد من الإقرار أربع مرات لقصة ماعز ، ولقوله عليه السلام : « إنَّكَ شَهدتَ على نفسِكَ أربعَ مرات » ولو كانت المرة الواحدة مثل الأربع في إيجاب الحدّ لكان هذا الكلام لغواً ، ولقول أبي بكر - رضي الله عنه - لماعز بعد إقراره الثالثة : لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقال بريدة الأسلمي : كنا معشر أصحاب محمد نقول : لو لم يقر ماعز ( أربع مرات ) ما رجمه رسول الله .
وأيضاً فكما لا يقبل في الشهادة على الزنا إلاّ أربع شهادات ، فكذا في الإقرار . وكما أن الزنا لا ينتفي إلاّ بأربع شهادات في اللعان ، فلا يثبت إلا بالإقرار أربع مرات .
وأما البينة فأجمعوا على أنه لا بُدّ من أربع شهادات لقوله تعالى : { فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } [ النساء : 15 ] .
فصل
قال بعض العلماء : لا خلاف أنه يجب على القاضي أن يمتنع عن القضاء بعلم نفسه ، كما إذا ادعى رجل على آخر حقاً وأقام عليه بينة ، والقاضي يعلم أنه قد أبرأه ، أو ادعى أنه قتل أباه وقت كذا وقد رآه القاضي حيًّا بعد ذلك ، أو ادعى نكاح امرأة وقد سمعه القاضي طلقها ، لا يجوز أن يقضي به ولو أقام عليه شهوداً وهل يجوز له أن يقضي بعلم نفسه مثل إن ادعى عليه ألفاً وقد رآه القاضي أقرضه ، أو سمع المدعى عليه يقرّ به؟
فقال أبو يوسف ومحمد والمزني : يجوز له أن يقضي بعلمه ، لأنه لما جاز له أن يحكم بشهادة الشهود ، وهي إنما تفيد الظن ، فلأن يجوز ( له ) بما هو منه على علم أولى .
قال الشافعي : أقْضِي بعلمي ، وهو أقوى من شاهدين ، أو شاهد وامرأتين ، وهو أقوى من شاهد ويمين ، ( وبشاهد ويمين ) وهو أقوى من ( النكول ) وردّ اليمين « وقيل : لا يحكم بعلمه لأن انتفاء التهمة شرط في القضاء ، ولم يوجد هذا في الأموال فأما العقوبات ، فإن كانت العقوبة من حقوق العباد كالقصاص وحدّ القذف فهو مثل المال ، إن قلنا لا يقضي فهاهنا أولى ، وإلا فقولان .
والفرق بينهما أن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة والمسامحة ، ولا فرق على القولين أن يحصل العلم للقاضي في بلد ولايته ( وزمان ولايته ) أو في غيره . وقال أبو حنيفة : إن حصل له العلم في بلد ولايته ( وفي زمان ولايته ) له أن يقضي بعلمه وإلا فلا .

فصل
لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه وللسيد أن يقيم الحد على رقيقه لقوله عليه السلام : « إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدكم فَلْيَجلِدْها » وقيل : بل يرفعه إلى الإمام .
ويُجلد المحصن مع ثيابه ولا يجرد ، ولكن ينبغي أن تكون بحيث يصل ألم الضرب إليه ، وأما المرأة فلا يجوز تجريدها ، بل تربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف ، ويلي ذلك منها امرأة . ويضرب بسوط لا جديد يجرح ولا خلق لا يؤلم ، ولا يمد ، ولا يربط ، بل يترك حتى يتقي بيديه ويضرب الرجل قائماً والمرأة جالسة ، وتفرق السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد ويتقى المهالك كالوجه والبطن والفرج .
قال الشافعي : يضرب على الرأس .
وقال أبو حنيفة : لا يضرب على الرأس .
فصل
ولا يقام الحدّ على الحامل حتى تضع ولدها ، ويستغنى عنها لحديث الجهنية ، وأما المريض فإن كان يرجى زوال مرضه أخّر حتى يبرأ ( إن كان الحد جلداً ، وإن كان رجماً أقيم عليه الحدُّ ، لأن المقصود قتله ) ، وإن كان مرضه لا يرجى زواله لم يضرب بالسياط ، بل يضرب بضغث فيه عيدان بعدد ما يجب عليه لقصة أيوب ( - عليه السلام - ) وأدلة جميع ما تقدم مذكورة في كتب الفقه .
فصل
لو فرق السياط تفريقاً لا يحصل به التنكيل مثل أن ضرب كل يوم سوطاً أو سوطين لم يحسب ، وإن ضرب كل يوم عشرين وأكثر حسب .
فصل
ويقام الحد في وقت اعتدال الهواء ، فإن كان في وقت شدة حرّ أو برد نظرنا : إن كان الحدّ رجماً أقيم عليه كما يقام في المرض ، لأن المقصود قتله .
وقيل : إن كان الرجم ثبت بإقراره أخّر إلى اعتدال الهواء وزوال المرض ( إنْ كان يرجى زوال ، لأنه ربما رجع عن إقراره في خلال الرجم ) وقد أثر الرجم في جسمه فيعين شدة الحر والبرد والمرض على إهلاكه .
وإن ثبت بالبينة لا يؤخر ، لأنه لا يسقط .
وإن كان الحد جلداً لم يجز إقامته في شدة الحر والبرد كما لا يقام في المرض .
فصل
معنى قوله : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } .
قال مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي : لا تأخذكم بهما رأفة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها .
وقيل : ولا تأخذكم رأفة فتخففوا ، ولكن أوجعوهما ضرباً . وهو قول سعيد بن المسيب والحسن .
قال الزهري : يجتهد في حدّ الزنا والغربة ، ويخفف في حدّ الشرب .
وقال قتادة : يخفف في الشرب والغربة ، ويجتهد في الزنا .
ومعنى { فِي دِينِ الله } : أي : في حكم الله ، روي أن عبد الله بن عمر جلد جارية له زنت فقال للجلاد : « اضْرُبْ ظَهْرَهَا ورِجْلَيْهَا » فقال له ابنه : « ولا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةً في دِينِ اللَّهِ » فقال : « يا بنيّ إن الله لم يأمرني بقتلها ، وقد ضربت فأوجعت » .

فصل
إذا ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك ، وقع به بعض الحد أو لم يقع ( به ) ، لأنّ ماعزاً لما مسته الحجارة هرب ، فقال عليه السلام : « هَلاَّ تركتموه » .
وقيل : لا يقبل رجوعه .
ويحفر للمرأة إلى صدرها ، ولا يحفر للرجل ، وإذا مات في الحدّ غُسِّل وكُفِّن وصُلِّيَ عليه ودفِن في مقابر المسلمين .
قوله : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } معناه : أن المؤمن لا تأخذه الرأفة إذا جاء أمر الله .
قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا } أي : وليحضر « عَذَابَهُمَا » : حدهما إذا أقيم عليهما « طَائِفَةٌ » نفر من المؤمنين . قال النخعي ومجاهد : أقله رجل واحد ، لقوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] . وقال عطاء وعكرمة : اثنان ، لقوله تعالى : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } [ التوبة : 122 ] وكل ثلاثة فرقة ، والخارج عن الثلاثة واحد أو اثنان ، والاحتياط يوجب الأخذ بالأكثر . وقال الزهري وقتادة : ثلاثة فصاعداً ، لأن الطائفة هي الفرقة التي تكون حافة حول الشيء ، وهذه الصورة أقل ما لا بد في حصولها الثلاثة .
وقال ابن عباس : « إنَّها أربعة ، عدد شهود الزنا » ، وهو قول مالك وابن زيد .
وقال الحسن البصري : عشرة ، لأنها العدد الكامل .
واعلم أن قوله : « وَلْيَشْهَد » أمر ، وظاهره للوجوب ، لكن الفقهاء قالوا : يستحب حضور الجمع ، والمقصود منه : إعلان إقامة الحد لما فيه من الردع ودفع التهمة .
وقال الشافعي ومالك : يجوز للإمام أن يحضر رجمه وأن لا يحضر ، وكذا الشهود لا يلزمهم الحضور . وقال أبو حنيفة : « إن ثبت بالبينة وجب على الشهود أن يبدؤوا بالرمي ، ثم الإمام ، ثم الناس ، وإن ثبت بالإقرار بدأ الإمام ثم الناس » .
واحتج الشافعي بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزاً والغامدية ولم يحضر رجمهما وأما تسميته عذاباً فإنه يدل على أنه عقوبة ، ويجوز أن يسمى عذاباً لأنه يمنع المعاودة ، كما يسمى نكالاً لذلك .

الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)

قرأ أبو البرهسيم « وَحَرَّم » مبنياً للفاعل مشدداً . وزيد بن علي « حَرُم » بزنة كَرم . واختلفوا في معنى الآية وحكمها :
فقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والشعبي ، ورواية العوفي عن ابن عباس : « قَدِمَ المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر ، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن ، وهُنَّ يومئذ أخصب أهل المدينة ، فرغب ناس من فقراء المسلمين في نكاحهن لينفقن عليهم ، فاستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية » وحرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا ، لأنهنَّ كنَّ مشركات .
وقال عكرمة : نزلت في نساء بمكة والمدينة ، منهن تسع لهن رايات البيطار يعرفن بها منزلهن : أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي ، وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة ، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة ، فاستأذن رجل من المسلمين نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في نكاح « أمِّ مهزول » واشترطت له أن تنفق عليه ، فأنزل الله هذه الآية .
فإن قيل : قوله تعالى : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } ظاهره خبر وليس الأمر كذلك ، لأن الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة ، والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف ، وأيضاً فقوله : { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } ليس كذلك ، فإن المؤمن يحل له التزويج بالمرأة الزانية .
فالجواب من وجوه :
أحدها - وهو أحسنها - : ما قاله القفال : إن اللفظ وإن كان عاماً لكن المراد منه الأعم الأغلب ، لأن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح المرأة الصالحة ، وإنما يرغب في فاسقة مثله أو في مشركة ، والفاسقة لا ترغب في نكاح الرجل الصالح ، بل تنفر عنه ، وإنما ترغب فيمن هو من جنسها من الفسقة والمشركين ، فهذا على الأعم الأغلب ، كما يقال « لا يفعَل الخيرَ إلاّ الرجلُ التقيُّ » وقد يفعل الخيرَ من ليس بتقي ، فكذا هاهنا .
وأما قوله : { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } فالجواب من وجهين :
الأول : أن نكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها فحرم عليه لما فيه من التشبه بالفساق ، وحضور موقع التهمة ، والتسبب لسوء المقالة فيه ، والغيبة ، ومجالسة الخطائين فيها التعرض لاقتراف الآثام ، فكيف بمزاوجة الزواني والفجار .
وثانيها : أن صرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات محرم على المؤمنين ، لأن قوله : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } معناه : أنَّ الزاني لا يرغب إلا في زانية ، فهذا محرم على المؤمنين ، ولا يلزم من حرمة هذا الحصر حرمة التزويج بالزانية ، فهذا هو المعتمد في تفسير الآية .
الوجه الثاني : أن الألف واللام في قوله : « الزَّاني » وفي قوله : « المُؤْمِنينَ » وإن كان للعموم ظاهراً لكنه مخصوص بالأقوام الذين نزلت فيهم كما قدمناه آنفاً .

الوجه الثالث : أن قوله : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } وإن كان خبراً في الظاهر لكن المراد منه النهي ، والمعنى : كل من كان زانياً فلا ينبغي أن ينكح إلا زانية ، { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } هكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام .
وعلى هذا الوجه ذكروا قولين :
أحدهما : أن ذلك الحكم باق إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزويج بالعفيفة والعفيف وبالعكس ، وهذا مذهب أبي بكر وعمر وعليّ وابن مسعود .
ثم في هؤلاء من يسوّي بين الابتداء والدوام فيقول : كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك لا يحل له إذا زنت تحته أن يقيم عليها .
ومنهم من يفصل لأن في جملة ما يمنع من التزويج ما لا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة .
والقول الثاني : أن هذا الحكم صار منسوخاً . واختلفوا في ناسخه : فقال الجبائي : إن ناسخه هو الإجماع وعن سعيد بن المسيب أنه منسوخ بعموم قوله تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] ، { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] .
قال المحققون : هذان الوجهان ضعيفان ، أما قول الجبائي فلأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ، وأيضاً فالإجماع الحاصل عقيب الخلاف لا يكون حجة ، والإجماع في هذه المسألة مسبوق بمخالفة أبي بكر وعمر وعلي ، فكيف يصح؟
وأما قوله : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] فلا يصلح أن يكون ناسخاً ، لأنه لا بد من أن يشترط فيه ألا يكون هناك مانع من النكاح من سبب أو نسب أو غيرهما .
ولقائل أن يقول : لا يدخل فيه تزويج الزانية من المؤمنين ، كما لا يدخل فيه تزويجها من الأخ وابن الأخ ، وأن للزنا تأثيراً في الفرقة ما ليس لغيره ، ألا ترى أنه إذا قذفها يتبعها بالفرقة على بعض الوجوه؟ ولا يجب مثل ذلك في سائر ما يوجب الحد ، ولأن الزنا يورث العار ، ويؤثر في الفراش ، ففارق غيره .
واحتج من ادعى النسخ بأن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : « يا رسول الله إن امرأتي لا تردّ يد لامس » ، قال : « طَلِّقْهَا » . قال : « إني أحبها ، وهي جميلة » ، قال : « استمتع بها » وفي رواية : « فأمسكها إذن » .
وروي أن عمر بن الخطاب ضرب رجلاً وامرأة في زنا وحرص أن يجمع بينهما ، فأبى الغلام . وبأن ابن عباس سُئِل عن رجل زنا بامرأة فهل له أن يتزوجها؟ فأجازه ابن عباس ، وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه .
وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئِل عن ذلك فقال : « أَوَّلُهُ سِفَاحٌ وآخِرُهُ نِكاح ، والحرامُ لا يُحَرِّمُ الحلال » .

الوجه الرابع : أن يحمل النكاح على الوطء ، والمعنى : أن الزاني لا يطأ حين يزني إلا زانية أو مشركة ، وكذا الزانية { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } أي : وحرم الزنا على المؤمنين ، وهذا تأويل أبي مسلم ، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم ، ورواية الوالبي عن ابن عباس .
قال الزجاج : « وهذا التأويل فاسد من وجهين :
الأول : أنه ما ورد النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزوج ، ولم يرد البتة بمعنى الوطء .
الثاني : أن ذلك يخرج الكلام عن الفائدة ، لأنا لو قلنا : المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية فالإشكال عائد ، لأنا نرى الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها ، ولو قلنا : المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية حين يكون وطؤه زنا ، فهذا كلام لا فائدة فيه » .
فإن قيل : أي فرق بين قوله : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } وبين قوله : { الزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ } ؟
فالجواب أن الكلام الأول يدل على أن الزاني لا يرغب إلا في نكاح الزانية ، بخلاف الزانية فقد ترغب في نكاح غير الزاني ، فلا جرم بيَّن ذلك بالكلام الثاني .
فإن قيل : لم قدم الزانية على الزاني في أول السورة وهاهنا بالعكس؟
فالجواب : سبقت تلك الآية على عقوبتها لخيانتها ، فالمرأة هي المادة في الزنا ، وأما هاهنا فمسوقة لذكر النكاح ، والرجال أصل فيه ، لأنه هو الراغب الطالب .

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

قوله تعالى : { والذين يَرْمُونَ المحصنات . . } الآية هي كقوله : { الزانية والزاني فاجلدوا } [ النور : 2 ] فيعود فيه ما تقدم بحاله ، وقوله : « المُحْصَنَات » فيه وجهان :
أحدهما : أن المراد به النساء فقط ، وإنما خَصَّهُنَّ بالذكر لأن قَذْفَهُنَّ أشْنَعُ .
والثاني : أن المراد بهن النساء والرجال ، وعلى هذا فيقال : كيف غلَّب المؤنث على المذكر؟
والجواب أنه صفةٌ لشيء محذوف يَعمُّ الرجال والنساء ، أي : الأنْفُسَ المحصنات ، وهو بعيد أو تقول : ثمَّ معطوف محذوف لفهم المعنى ، وللإجماع على أن حُكْمَهُمْ حُكْمهُنَّ أي : والمُحْصَنين .
قوله : { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } العامة على إضافة اسم العدد للمعدود ، وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم بالتنوين في العدد ، واستَفْصَحَ الناس هذه القراءة حتى تجاوز بعضهم الحد كابن جني ففضّلها على قراءة العامة ، قال : لأنَّ المعدودَ متى كان صفةً فالأجود الإتباع دون الإضافة ، تقول : « عندي ثلاثةٌ ضاربون » ، ويَضعف « ثلاثةُ ضاربين » وهذا غلط ، لأن الصفة التي جَرَتْ مُجْرَى الأسماء تُعْطَى حُكْمَهَا ، فَيُضَافُ إليها العددُ ، و « شُهَدَاء » من ذلك ، فإنه كَثُرَ حذف موصوفه ، قال تعالى : { مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] . و « اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ » ، وتقول : عندي ثلاثةُ أعبد ، وكل ذلك صفةٌ في الأصل .
ونقل ابن عطية عن سيبويه أنه لا يُجيزُ تنوين العدد إلاّ في شعر .
وليس كما نقله عنه ، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماء نحو « ثلاثةُ رجالٍ » وأما الصفات ففيها التفصيل المتقدم .
وفي « شُهَدَاءَ » على هذه القراءة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه تمييزٌ ، وهذا فاسد ، لأنَّ من ثلاثة إلى عشرة يضاف لمُمَيِّزه ليس إلا ، وغير ذلك ضرورة .
الثاني : أنه حالٌ ، وهو ضعيف أيضاً لمجيئها من النكرة من غير مخصِّصٍ .
الثالث : أنها مجرورة نعتاً ل « أربعة » ، ولم تنصرف لألف التأنيث .
فصل
ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي رموا به المحصنات ، وذكر الرمي لا يدل على الزنا ، إذ قد يرميها بسرقة أو شرب خمر ، بل لا بد من قرينة دالة على التعيين .
واتفق العلماء على أن المراد الرمي بالزنا ، وفي دلالة الآية عليه وجوه :
الأول : تقدم ذكر الزنا .
الثاني : أنه تعالى ذكر المحصنات وهن العفائف ، فدل ذلك على أن المراد رميها بعدم العفاف .
الثالث : قوله : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } يعني : على صحة ما رموا به ، وكون الشهود أربعة من شروط الزنا .
الرابع : الإجماع على أنه لا يجب الحد بالرمي بغير الزنا ، فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا .
فصل
شروط الإحصان خمسة :
الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والعفة من الزنا ، حتى أن من زنا مرة أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته منذ عمره ، فقذفه قاذف لا حدّ عليه ، فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا ، أو أقام القاذف أربعة من الشهود على زناه سقط الحد عن القاذف ، لأن الحد وجب للفرية ، وقد ثبت صدقه .

فصل
وألفاظ القذف : صريح ، وكناية ، وتعريض .
فالصريح : أن يقول : يا زانية ، أو زنيت ، أو زنا قُبُلُكِ أو دُبُرُكِ ، فإن قال : زنا يدك ، فقيل : كناية ، لأن حقيقة الزنا من الفرج ، والصحيح أنه صريح ، لأن الفعل يصدر بكل البدن ، والفرج آلة .
والكناية : أن يقول : يا فاسقة ، يا فاجرة ، يا خبيثة ، يا مؤاجرة ، يا ابنة الحرام ، أو لا ترد يد لامس ، فلا يكون قذفاً إلا بالنية ، وكذا لو قال لعربي : يا نبطي ، أو بالعكس ، فإن أراد القذف فهو قذف لأم المقول له ، وإلا فلا .
فإن قال : عنيت نبطي الدار أو اللسان ، وادعت أم المقول له إرادة القذف فالقول قوله مع يمينه . والتعريض ليس بقذف وإن نواه ، كقوله : يا ابن الحلال أما أنا فما زنيت وليست أمي بزانية ، لأن الأصل براءة الذمة ، فلا يجب بالشك ، والحد يُدْرَأ بالشبهات .
وقال مالك : يجب فيه الحد .
وقال أحمد وإسحاق : هو قذف في حال الغضب دون الرضا .
فصل
إذا قذف شخصاً واحداً مراراً ، فإن أراد بالكل زنية واحدة وجب حدّ واحد ، ( فإن قال الثاني بعدما حد للأول عزر للثاني .
وإن قذفه بزناءين مختلفين كقوله : زنيت بزيد ، ثم قال : زنيتِ بعمرو ، فقيل : يتعدد اعتباراً باللفظ ، ولأنه حقّ آدمي فلا يتداخل كالديون .
والصحيح أنه يتداخل لأنهما حدان من جنس واحد ، فتداخل كحدود الزنا .
ولو قذف زوجته مراراً فالصحيح أنه يكفي بلعان واحد سواء قلنا بتعدد الحد أو لا .
وإن قذف جماعة بكلمة واحدة ، فقيل : حدّ واحد ) ، لأن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء ، فقال عليه السلام : « البينةُ أو حَدٌّ في ظهرك » ، فلم يوجب على هلال إلا حداً واحداً مع أنه قذف زوجته بشريك .
وقيل : لكل واحد حدٌّ .
وإن كان بكلمات فلكل واحد حدّ .
فصل
إذا قذف الصبي أو المجنون أو أجنبية فلا حد عليه ولا لعان ، لا في الحال ولا بعد البلوغ ، لقول عليه السلام : « رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاث » ولكن يعزّران للتأديب إن كان لهما تمييز .
والأخرس إن فهمت إشارته أو كتابته وقذف بالإشارة أو بالكتابة لزمه الحد ، ولذلك يصح لعانه بالإشارة والكتابة .
وأما العبد إذا قذف الحر ، فقيل : يلزمه نصفُ الحد . وقيل : الحد كله .
وأما الكافر إذا قذف المسلم فعليه الحد لدخوله في عموم الآية .
وإن كان المقذوف غير محصَن لم يجب الحد ، بل يوجب التعزير إلا أن يكون المقذوف معروفاً بما قذف به فلا حدّ هناك ولا تعزير .
قوله : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } أي : يشهدون على زناهن { فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون } قوله : { وأولئك هُمُ الفاسقون } يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، وهو الأظهر ، وجوَّز أبو البقاء فيها أن تكون حالاً .

وقوله { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } اعلم أن في هذا الاستثناء خلافاً ، هل يعود لما تقدَّمه من الجمل أم إلى الجملة الأخيرة فقط؟
وتكلم عليها من النحاة ابن مالك والمَهَابَاذِيُّ ، فاختار ابن مالكٍ عوده إلى الجمل المتقدمة والمَهَابَاذِي إلى الأخيرة .
وقال الزمخشري : رد شَهَادَةِ القاذفِ معَلَّقٌ عند أبي حنيفة - رحمه الله - باستيفاء الحدِّ ، فإذا شهد قبل الحدِّ أو قبل تمام استيفائِهِ قُبِلَتْ شهادته ، فإذا استوفي لم تُقْبَلْ شهادته أبداً وإن تابَ وكان من الأبرار الأتقياء .
وعند الشافعي - رحمه الله - يتعلَّقُ ردُّ شهادِتِه بنفس القَذْفِ ، فإذا تاب عن القذف بأن رجع عنه عاد مقبول الشهادة ، وكلاهما مُتَمَسِّكٌ بالآية ، فأبو حنيفة - رحمه الله - جعل جزاء الشرط الذي هو الرميُ : الجلدَ وردَّ الشهادة عُقَيْبَ الجلد على التأبيد ، وكانوا مَرْدُودِي الشهادة عنده في أبدهم ، وهو مدَّة حياتهم ، وجعل قوله : { وأولئك هُمُ الفاسقون } كلاماً مستأنفاً غير داخلٍ في حيز جزاء الشرط ، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية ، و { إِلاَّ الذين تَابُواْ } استثناء من « الفَاسِقِينَ » ، ويدلُّ عليه قوله : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . والشافعيُّ - رحمه الله - جعل جزاء الشرط الجملتين أيضاً غير أنه صَرَفَ الأبد إلى مدة كونه قاذفاً ، وهي تنتهي بالتوبة ( والرجوع ) عن القذف ، وجعل الاستثناء متعلِّقاً بالجملة الثانية . انتهى .
واعلم أن الإعراب متوقفٌ على ذكر الحكم ، ومحلُّ المستثنى فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب على أصل الاستثناء .
والثاني : أنه مجرور بدلاً من الضمير في « لَهُمْ » .
وقد أوضح الزمخشري ذلك بقوله : وحق المستثنى عنده - أي : الشافعي - أن يكون مجروراً بَدَلاً من « هُمْ » في « لَهُمْ » ، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوباً ، لأنه عن موجب والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاثة بمجموعهن جزاء الشرط ، كأنه قيل : وَمَنْ قَذَفَ المُحْصَنَاتِ فَاجْلِدُوهُمْ ، وَرُدّوا شَهَادَتَهُمْ ، وفسِّقوهم ، أي : فاجمعوا لهم الجلد والردَّ والتفسيق ، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ، يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسَّقين .
قال أبو حيان : وليس ظاهر الآية يقتضي عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث ، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب ، وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها .
والوجه الثالث : أنه مرفوع بالابتداء ، وخبره الجملة من قوله : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
واعترض بخلوّها من رابطٍ .
وأُجيبَ بأنه محذوف ، أي : غفور لهم .
واختلفوا أيضاً في هذا الاستثناء ، هل هو مُتَّصِلٌ أم مُنْقَطِعٌ؟ والثاني ضَعيفٌ جداً .
فصل
الإقرار بالزنا يثبت بشهادة رجلين بخلاف فعل الزنا ، لأن الفعل يعسر الاطلاع عليه وقيل : لا يثبت إلا بأربعة كفعل الزنا .

فصل
إذا شهدوا على فعل الزنا يجب أن يذكروا الزاني والمزني به ، لأنه قد يراه على جارية ابنه فيظن أنه زنا .
ويجب أن يشهدوا أنا رأينا ذكره يدخل في فرجها دخول الميل في المُكْحُلة ، فلو شهدوا مطلقاً أنه زنا لم يثبت ، بخلاف ما لو قذف إنساناً وقال : « زنيتَ » يجب الحد ولا يستفسر ، ولو أقر على نفسه بالزنا ، فقيل : يجب أن يستفسر كالشهود ، وقيل : لا يجب كما في القذف .
فصل
لا فرق بين أن يجيء الشهود مجتمعين أو متفرقين .
وقال أبو حنيفة : إذا شهدوا متفرقين لا يثبت ، وعليهم حد القذف .
وحجة الأول : أن الإتيان بأربعة شهداء قدر مشترك بين الإتيان بهم مجتمعين ومتفرقين . وأيضاً فكل حكم ثبت بشهادة الشهود إذا جاءوا مجتمعين ثبت إذا جاءوا متفرقين كسائر الأحكام ، بل هذا أولى ، لأن مجيئهم متفرقين أبعد من التهمة وعن تلقن بعضهم من بعض ، ولذلك إذا وقعت ريبة للقاضي في شهادة الشهود فرقهم ، وأيضاً فإنه لا يشترط أن يشهدوا معاً في حالة واحدة ، بل إذا اجتمعوا عند القاضي قدَّم واحداً بعد واحد ويشهد ، وكذا إذا اجتمعوا على بابه يدخل واحد بعد واحد .
واحتج أبو حنيفة بأن الشاهد الواحد لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة من الشهداء فيجب عليه الحد للآية ، أقصى ما في الباب أنهم عبروا عن القذف بلفظ الشهادة ، وذلك لا عبرة به ، لأنه يؤدي إلى إسقاط حدّ القذف رأساً ، لأن كل قاذف يمكن أن يقذف بلفظ الشهادة ويتوسل بذلك إلى إسقاط الحد عن نفسه ويحصل مقصوده .
وأيضاً فإن المغيرة بن شعبة شهد عليه بالزنا أربعة عند عمر بن الخطاب : أبو بكرة ، وشبل بن معبد ، ونافع ، ونفيع ، قال زياد : وقال رابعهم : رأيت استاً تنبو ، ونفساً يعلو ، ورجلاها على عاتقه كأذني حمار ، ولا أدري ما وراء ذلك ، فجلد عمر الثلاثة ، ولم يسأل : هل معهم شاهد آخر؟ فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف أداء الحد عليه .
فصل
لو شهد على الزنا أقل من أربعة لم يثبت ، وهل يجب حد القذف على الشهود؟ فقيل : يجب عليهم حد القذف لما تقدم آنفاً .
وقيل : لا يجب لأنهم جاءوا مجيء الشهود ، ولأنا لو حَدَدْنَا لانسد باب الشهادة على الزنا ، لأن كل واحد لا يأمن أن يوافقه صاحبه فيلزمه الحد .
فصل
لو أتى القاذف بأربعة فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا :
قال أبو حنيفة : يسقط الحد عن القاذف ، ويجب الحد على الشهود .
وقال الشافعي في أحد قوليه : يُحَدُّون .
واحتج أبو حنيفة بأنه أتى بأربعة شهداء ، فلا يلزمه الحد ، والفاسق من أهل الشهادة ، فقد وجدت شرائط الشهادة إلا أنه لم يقبل شهادتهم للتهمة .

واحتج الشافعي بأنهم ليسوا من أهل الشهادة .
قوله : { فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وهذا خطاب للإمام ، أو للمالك ، أو لرجل صالح إذا فُقِد الإمام . ويخص من هذا العموم صور :
الأولى : الوالد إذا قذف ولده ( أو ولد ولده ) وإن سفل لا يجب عليه الحد ، كما لا يجب عليه القصاص بقتله .
الثانية : القاذف إذا كان عبداً فالواجب جلده أربعين ، وكذا المكاتب ، وأم الولد ، ومن بعضه حر ، فقيل : كالرقيق . وقيل : بالحساب .
الثالثة : من قذف رقيقه ، أو من زنت قديماً ثم تابت فهي محصنة ولا يجب الحد بقذفها .
فصل
قالوا : أشد الضرب في الحدود ضرب حد الزنا ، ثم ضرب حدّ الخمر ، ثم ضرب القاذف ، لأن سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب ، إلا أنه عوقب صيانة للأعراض .
فصل
قال مالك والشافعي : حدّ القذف يورث ، وكذلك إذا كان الواجب بقذفه التعزير يورث عنه .
وقيل : لا يورث إلا أن يطالب المقذوف قبل موته ، فإن قذف بعد موته ثبت لوارثه طلب الحد . وعند أبي حنيفة : الحد لا يورث ، ويسقط بالموت .
حجة الشافعي : أنه حق آدمي يسقط بعفوه ، ولا يستوفى إلا بطلبه ، ويحلف فيه المدعى عليه إذا أنكر ، وإذا كان حق آدمي وجب أن يورث لقوله عليه السلام : « مَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ فَلورثَتِهِ » .
وحجة أبي حنيفة : لو كان موروثاً لورثة الزوج والزوجة : ولأنه حق ليس فيه معنى المال فلا يورث كالوكالة والمضاربة .
وأجيب بأنا لا نسلم أن الزوج والزوجة لا يرثان ، وإن سلم فالفرق بينهما أن الزوجية تنقطع بالموت ، ولأن المقصود من الحدّ دفع العار عن النسب ، وذلك لا يلحق الزوج والزوجة .
فصل
إذا قذف إنساناً بين يدي الحاكم ، أو قذف امرأته برجل بعينه ، والرجل غائب فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلاناً قذفك ، وثبت لك حدّ القذف عليه ، كما لو ثبت له مال على آخر وهو لا يعلم ، يجب عليه إعلامه ، ولهذا بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنيساً ليخبرها أن فلاناً قذفها بابنه ، ولم يبعثه ليتفحص عن زناها وليس للإمام إذا رمي رجل بزنا أن يبعث إليه يسأله عن ذلك .
قوله : { ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً } .
قال أكثر الصحابة والتابعين : إذا تاب قُبِلَتْ شهادته وهو قول الشافعي .
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح : لا تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب . وأدلة المذهبين مذكورة في كتب الفقه ، وهاهنا مبنية على أن الاستثناء هل يرجع إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجمل المتقدمة؟ فلذلك اختلف العلماء في قبول شهادته بنفس القذف ، وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حالته قبلت شهادته ، سواء تاب بعد إقامة الحد أو قبله لقوله تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } .
وقالوا : الاستثناء راجع إلى الشهادة وإلى الفسق ، فبعد التوبة تقبل شهادته ويزول عنه اسم الفسق ، يروى ذلك عن عمر وابن عباس ، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري ، وبه قال مالك والشافعي .

وذهب قوم إلى أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبداً وإن تاب ، وقالوا : الاستثناء يرجع إلى قوله : { وأولئك هُمُ الفاسقون } وهو قول النخعي وشريح وأصحاب الرأي .
وقالوا : بنفس القذف ترد شهادته ما لم يحد .
قال الشافعي : هو قبل أن يحد شر منه حين يحد لأن الحدود كفارات ، فكيف تردون شهادته في أحسن حالته وتقبلونها في شر حالته .
وذهب الشعبي إلى أن حد القذف يسقط بالتوبة .
وقالوا : الاستثناء يرجع إلى الكل .
وعامة العلماء على أنه لا يسقط بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط كالقصاص يسقط بالعفو ولا يسقط بالتوبة .
فإن قيل : إذا قبلتم شهادته بعد التوبة فما معنى قوله : « أبَداً » ؟
قيل : معناه : لا تقبل شهادته أبداً ما دام مصرًّا على قذفه ، لأن أبد كل إنسان على ما يليق بحاله ، كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبداً ، يراد : ما دام كافراً .
فصل
اختلفوا في كيفية التوبة بعد القذف .
فقيل : التوبة منه إكذابه نفسه بأن يقول : كذبت فلا أعود إلى مثله .
وقيل : لا يقول كذبت ، لأنه ربما يكون صادقاً ، فيكون قوله : « كذبت » كذباً ، والكذب معصية ، وإتيان المعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى ، بل يقول : القذف باطل ، ندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه . ولا بد من مضي مدة عليه بعد التوبة يحسن حاله فيها حتى تقبل شهادته ، وقدر تلك المدة سنة حتى يمر عليه الفصول الأربعة التي تتغير فيها الأحوال والطباع كأجل العنِّين ، وقد علق الشرع أحكاماً بالنسبة من الزكاة والجزية وغيرهما ، وهذا معنى قوله : « وَأَصْلَحُوا » ، ثم قال : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي يقبل التوبة .
لما ذكر أحكام قذف الأجنبيات عقبه بأحكام قذف الزوجات .

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

قال ابن عباس : لما نزل قوله : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } [ النور : 4 ] قال عاصم بن عدي الأنصاري : « إنْ دخل رجلٌ منا بيته فرأى رجلاً على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج ، وإن قتله قتل به ، وإن قال : وجدت فلاناً مع تلك المرأة ضرب ، وإن سكت سكت عن غيظ ، اللهم افتح . وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له : عُوَيْمِر ، وله امرأة يقال لها : خولة بنت قيس ، فأتى عويمر عاصماً فقال : لقد رأيت شريك بن سَحماء على بطن امرأتي خولة ، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » وما ذاك « ؟ فقال : أخبرني عويمر ابن عمي أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خوله ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم جميعاً ، فقال لعويمر : » اتقِ اللَّهَ في زوجتكِ وابنة عمك ، ولا تقذفها « فقال : يا رسول الله ، تالله لقد رأيت شريكاً على بطنها ، وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر ، وإنها حبلى من غَيري . فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » اتّقي اللَّهَ ولا تخبرِي إلا بما صنعتِ « فقالت : يا رسول الله ، إن عويمر رجلٌ غيور ، وإنه رأى شريكاً يطيل النظر ويتحدث ، فحملته الغيرة على ما قال ، فأنزل الله هذه الآية ، فأمر رسولُ الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يؤذَّن : الصلاة جامعة ، فصلى العصر ثم قال لعُوَيْمِر : قم وقل : أشهد بالله إنّ خولة لزانية وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثانية : أشهد أني رأيت شريكاً على بطنها وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثالثة : أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمنَ الصادقين ، ثم قال في الرابعة قل أشهد بالله أنها زانية وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الخامسة : لعنة الله على عُوَيْمِر ( يعني : نفسه ) إن كان من الكاذبين . ثم قال : اقعد ، وقال لخولة : قومي ، فقامت وقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي لمن الكاذبين ، وقالت في الثانية : أشهد بالله ما رأى شريكاً على بطني وإنه لمن الكاذبين ، وقالت في الثالثة : أشهد بالله ما أنا حُبْلى منه وإنه لمن الكاذبين ، وقالت في الرابعة : اشهد بالله أنه ما رآني على فاحشة قط وإنه من الكاذبين ، وقالت في الخامسة : غضب الله على خولة إن كان عُوَيْمر من الصادقين في قوله ، ففرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما » .

وفي رواية عكرمة عن ابن عباس « أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سحماء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : » البينة وإلا حدٌّ في ظهرك « . فقال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : » البينَةُ وإلاَّ حَدٌّ في ظهْرِك « . فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزيل جبريل - عليه السلام - وأنزل عليه : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } فقرأ حتى بلغ { إِن كَانَ مِنَ الصادقين } فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : » إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ « ؟ . ثم قامت فشهدت ، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة .
قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ، فمضت ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أبصروها ، فإن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الأليتين ، حدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء . فجاءت به كذلك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : » لَوْلاَ مَا مَضَى من كتابِ الله - عزَّ وجلَّ - لكانَ لِي ولَهَا شَأْن « .
وفي رواية عكرمة عن ابن عباس قال : » لما نزلت { والذين يَرْمُونَ المحصنات . . . } [ النور : 4 ] الآية قال سعد بن عبادة : لو أتيت لَكَاع وقد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء ، فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب ، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ، أَلاَ تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ » .
قالوا : لا تلمه فإنه رجل غيور ، ما تزوج امرأة قط إلا بكراً ، ولا طلق امرأة له واجترأ رجل منا أن يتزوجها . قال سعد : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ، ولكن عجبت من ذلك ، فقال عليه السلام : « فَإِنَّ اللَّهَ يَأْبَى إِلاَّ ذلك » . فقال : صدق الله ورسوله ، قال : فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى جاء ابن عم له يقال له : هلال بن أمية ( من حديقة له ) ، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، فرأى رجلاً مع امرأته يزني بها ، فأمسك حتى أصبح ، فلما أصبح غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس مع أصحابه ، فقال : يا رسول الله ، إني جئت أهلي عشاءً فوجدتُ رجلاً مع امرأتي ، رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه ، فقال هلال : والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به ، والله يعلم إني لصادق ، وما قلت إلا حقاً ، وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجاً ، فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضربه ، قال : واجتمعت الأنصار فقالوا : ابتلينا بما قال سعد ، يُجْلَد هلال وتبطل شهادته ، فإنهم لكذلك ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل عليه الوحي ، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل حتى فرغ ، فأنزل الله : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ . . . إلى آخر الآيات } . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أبشر يا هلال ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكَ فَرجاً » . فقال : كنت أرجو ذلك من الله - عزَّ وجلَّ - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أرسلوا إلَيْها » فجاءت فكذبت هلال . فقال عليه السلام : « اللَّه يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُما كَاذِبٌ ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ » ؟ وأمر بالملاعنة ، وشهد هلال أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فقال عليه السلام له عند الخامسة : « اتَّقِ اللَّهَ يَا هلالُ ، فإنَّ عذابَ الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة » . فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله ، وشهد الخامسة : أنَّ لعنةَ الله إِنْ كَانَ مِنَ الكاذِبين ، ثم قال لها عند الخامسة ووقفها : « اتقي الله فإنها الخامسة الموجبة ، وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس » . فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كانَ من الصَّادقين . ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقضى أن الولد لها ، ولا يدعى لأب ، ولا يرمى ولدها ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِزَوْجِهَا ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِلَّذِي قِيلَ فِيهِ » . فجاءت به غلاماً كأنه جمل أورق ، على التشبيه المكروه ، وكان بعد أميراً بمصر ولا يدرى من أبوه « .

فصل
إذا رمى الرجل امرأته بالزنا يجب عليه الحد إن كانت محصنة ، والتعزير إن لم تكن محصنة ، كما في رمي الأجنبي ، إلا أن قذف الأجنبي لا يسقط الحد عن القاذف إلا بإقرار المقذوف ، أو ببينة أربعة شهداء على الزنا .
وفي قذف الزوجة يسقط الحد عنه بأحد هذين الأمرين وباللعان .
وإنما اعتبر الشارع اللعان في الزوجات دون الأجنبيات ، لأنه لا معيرة عليه في زنا الأجنبية ، والأولى له سترة .

وأما في الزوجة فيلحقه العار والنسب الفاسد ، فلا يمكنه الصبر عليه .
فصل
إذا قذف زوجته ونكل عن اللعان لزمه حد القذف ، فإذا لاَعَن ونكلت عن اللعان لزمها حد الزنا . وقال أبو حنيفة : يجلس الناكل منهما حتى يلاعن .
حجة القول الأول : قوله تعالى : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] ثم عطف عليه حكم الأزواج فقال : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ . . . } الآية؛ فكما أن مقتضى قذف الأجنبيات الإتيان بالشهود أو الجلد ، فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الحد .
وأيضاً قوله : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ } والألف واللام في « العَذَاب » للمعهود السابق وهو الحدّ ، وليس للعموم ، لأنه لم يجب عليها جميع أنواع العذاب . ومما يدل على بطلان الحبس في حق المرأة أن تقول : إن كان الرجل صادقاً فحدُّوني ، وإن كان كاذباً فخلوني . وليس حبس في كتاب الله وسنة رسوله ولا الإجماع ولا القياس . واحتج أبو حنيفة بأن المرأة ما فعلت سوى أنها تركت اللعان وهذا الترك ليس بينة على الزنا ولا إقراراً منها به ، فوجب ألا يجوز رجمها لقوله عليه السلام : « لا يَحلُّ دَمُ امرئٍ مُسْلِمٍ » الحديث . وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في غير المحصن ، لأن لا قائل بالفرق . وأيضاً فالنكول بصريح الإقرار ، فلم يجز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا وغيره .
فصل
من صح يمينه صح لعانه ، فيجري اللعان بين الرقيقين والذميين والمحدودين ، وكذا إذا كان أحدهما رقيقاً ، أو كان الزوج مسلماً والمرأة ذمية .
فإن قيل : اللعان شهادة ، فوجب ألا يصح إلا من أهل الشهادة . وإنما قلنا : اللعان شهادة ، لقوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ } فسمى اللعان شهادة كقوله : « واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ » ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهما باللعان بلفظ الشهادة ولم يقتصر على لفظ اليمين ، وإذا ثبت أن اللعان شهادة وجب ألا تقبل من المحدودين في القذف لقوله : { وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } [ النور : 4 ] ، وإذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في العبد والكافر ، إما للإجماع على أنهما ليسا من أهل الشهادة ، أو لأنه لا قائل بالفرق .
فالجواب : أن اللعان ليس شهادة في الحقيقة ، بل هو يمين مخصوصة ، لأنه لا يجوز أن يشهد الإنسان لنفسه ولأنه لو كان شهادة لكانت المرأة تأتي بثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل ، ولأنه يصح من الأعمى والفاسق ولا تجوز شهادتهما فإن قيل : الفاسق والفاسقة قد يتوبان . قلنا : وكذلك العبد قد يعتق فتجوز شهادته .
فصل
قال عثمان البتي : إذا تَلاَعَنَ الزوجان لم تقع الفرقة ، لأن اللعان ليس بصريح ولا كناية عن الفرقة ، فلا يفيد الفرقة كسائر الأقوال التي لا إشعار لها بالفرقة ، ولأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقاً في قوله ، وهذا لا يوجب تحريماً ، ( ألا ترى أنه لو قامت البينة عليها لم يوجب ذلك تحريماً ) ، فإذا كان كاذباً والمرأة صادقة فأولى ألا يوجب تحريماً .

وأيضاً لو تلاعنا فيما بينهما لم يوجب الفرقة ، فكذا عند الحاكم . وأيضاً فاللعان إسقاط الحد ( فكذا اللعان لا تأثير له إلا إسقاط الحد ) .
وأيضاً فلو أكذب الزوج نفسه في قذفة إياها ثم حُدَّ لم يوجب ذلك الفرقة ، فكذا إذا لاَعَن ، لأن اللعان قائم مقام درء الحد .
وأما تفريق النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة العجلاني ، وكان قد طلقها ثلاثاً بعد اللعان فلذلك فرق بينهما .
وقال أصحاب الرأي : لا تقع الفرقة بفراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما ، لما روى سهل بن سعد في قصة العجلاني مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ، ولأن في قصة عويمر أنهما لما فرغا قال : كذبتُ عليْهَا يا رسول الله إن أمسكتها ، هي طالق ثلاثاً ، ( فطلقها ثلاثاً ) قبل أن يأمرهما ، ولو وقعت الفرقة باللعان لبطل قوله : كذبت عليها إن أمسكتُها ، لأن إمساكها غير ممكن ، ولأن اللعان شهادة لا يثبت حكمه إلا عند الحاكم ، فوجب ألا يوجب الفرقة إلا بحكم الحاكم ، كما لا يثبت المشهود به إلا بحكم الحاكم وقال مالك والليث وزفر : ( إذا فرغا ) من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق الحاكم بينهما ، لأنه لو تراضيا على البقاء على النكاح لم يخليا ، بل فرق بينهما ، فدل على أن اللعان قد أوجب الفرقة .
وقال الشافعي : إذا أكمل الزوج الشهادة فقد زال فراش امرأته ، ولا يحل له أبداً لقوله تعالى : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب . . . الآية } ، فدل هذا على أنه لا تأثير للعان المرأة إلا في دفع العذاب عن نفسها ، وأن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج ، ولأن لعان الزوج مستقلّ بنفي الولد ، فوجب أن يكون الاعتبار بقوله في الإلحاق لا بقولها .
فصل
في كيفية اللعان
وهو مذكور في الآية صريحاً . قال العلماء : يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة ، وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد ، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء إلى اللعنة والغضب ويقول له : إني أخاف إن لم تكن صادقاً . ويكون اللعان عند الحاكم ، فإن كان بمكة كان بين المقام والركن ، وإن كان بالمدينة عند المنبر ، وبيت المقدس في مسجده ، وفي المواضع المعظمة . ولعان المشرك في الكنيسة وأما في الزمان فيوم الجمعة بعد العصر ، ولا بد من حضور جماعة ، وأقلهم أربعة . وهذا التغليظ قيل : واجب . وقيل : مستحب .
فصل
معنى الآية : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } أي : يقذفون نساءهم { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ } يشهدون على صحة ما قالوا « إلاَّ أَنْفُسُهُمْ » أي : غير أنفسهم { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } .

قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } . في رفع « أنفسهم » وجهان :
أحدهما : أنه بدل من « شُهَدَاءُ » ، ولم يذكر الزمخشري في غضون كلامه ( غيره ) .
والثاني : أنه نعت له على أن « إلا » بمعنى : غير .
قال أبو البقاء : ولو قرئ بالنصب لجاز على أن يكون خبر « كانَ » ، أو منصوباً على الاستثناء ، وإنما كان الرفع هنا أقوى لأن « إلا » هنا صفة للنكرة كما ذكرنا في سورة الأنبياء .
قال شهاب الدين : وعلى قراءة الرفع يحتمل أن تكون « كان » ناقصة ، وخبرها الجار ، وأن تكون تامة ، أي : ولم يوجد لهم شهداء .
وقرأ العامة « يَكُنْ » بالياء من تحت ، وهو الفصيح ، لأنه إذا أسند الفعل لما بعد « إلا » على سبيل التفريغ وجب عند بعضهم التذكير في الفعل نحو « ما قام إلا هند » ولا يجوز « ما قامت » إلا في ضرورة كقوله :
3815- وَمَا بَقِيَتْ إِلاَّ الضُّلُوعُ الجَرَاشِعُ ... أو في شذوذ ، كقراءة الحسن : { لاَ تُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } .
وقرئ : « وَلَمْ تَكُنْ » بالتاء من فوق ، وقد عرف ما فيه .
قوله : « فَشَهَادةُ أَحَدِهِمْ » في رفعها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون مبتدأ ، وخبره مقدر التقديم ، أي : فعليهم شَهَادة ، أو مؤخر أي : فشهادة أحدهم كافية أو واجبة .
الثاني : أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : فالواجب شهادة أحدهم .
الثالث : أن يكون فاعلاً بفعل مقدر ، أي : فيكفي ، والمصدر هنا مضاف للفاعل .
وقرأ العامة : « أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ » بالنصب على المصدر ، والعامل فيه « شَهَادة » . فالناصب للمصدر مصدر مثله كما تقدم في قوله : { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] . وقرأ الأخوان وحفص برفع « أَرْبَعُ » على أنها خبر المبتدأ ، وهو قوله : « فَشَهادةُ » . ويتخرج على القراءتين تعلق الجار في قوله : « بِاللَّهِ » .
فعلى قراءة النصب يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتعلق ب « شَهَادَاتٍ » لأنه أقرب إليه .
والثاني : أنه متعلق بقوله : « فَشَهَادَةُ » أي : فشهادة أحدهم بالله ، ولا يضر الفصل ب « أَرْبَعُ » لأنها معمولة للمصدر فليست أجنبية .
الثالث : أن المسألة من باب التنازع ، فإن كلاًّ من « شَهَادَةُ » أو « شَهَادَاتٍ » يطلبه من حيث المعنى ، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأول ، وهو مختار البصريين وعلى قراءة الرفع يتعين تعلقه ب « شَهَادَاتٍ » إذ لو علقت ب « شَهَادةُ » لزم الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر ، ولا يجوز أنه أجنبي .
ولم يختلف في « أَرْبَعَ » الثانية ، وهي قوله : { أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ } أنها منصوبة ، للتصريح بالعامل فيها وهو الفعل .

قوله : « والخَامِسَةُ » اتفق السبعة على رفع « الخَامِسَةُ » الأولى ، واختلفوا في الثانية : فنصبها حفص . ونصبهما معاً الحسن والسلمي وطلحة والأعمش .
فالرفع على الابتداء ، وما بعده من « أَنَّ » وما في حيزها الخبر .
وأما نصب الأولى فعلى قراءة من نصب « أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ » يكون النصب للعطف على المنصوب قبلها . وعلى قراءة من رفع يكون النصب بفعل مقدر ، أي : وتشهد الخامسة .
وأما نصب الثانية فعطف على ما قبلها من المنصوب وهو « أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ » ، والنصب هنا أقوى منه في الأولى لقوة النصب فيما قبلها كما تقدم تقريره ، ولذلك لم يختلف فيه .
وأما « أَنَّ » وما في حيزها فعلى قراءة الرفع يكون في محل رفع خبراً للمبتدأ كما تقدم ، وعلى قراءة النصب يكون على إسقاط الخافض ويتعلق الخافض بذلك الناصب ل « الخامسة » أي : ويشهد الخامسة بأنَّ لعنة الله ، وبأن غضب الله وجوَّز أبو البقاء أن يكون بدلاً من « الخَامِسَة » .
قوله : { أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ } .
قرأ العامة بتشديد « أنَّ » في الموضعين .
وقرأ نافع بتخفيفها في الموضعين ، إلا أنه يقرأ « غَضِبَ اللَّهُ » يجعل « غَضِبَ » فعلاً ماضياً ، والجلالة فاعله ، كذا نقل أبو حيان عنه التخفيف في الأولى أيضاً ، ولم ينقله غيره . فعلى قراءته يكون اسم « أَن » ضمير الشأن في الموضعين ، و « لَعنةُ اللَّهِ » مبتدأ و « عَلَيْهِ » خبرها ، والجملة خبر « أَنْ » ، وفي الثانية يكون « غَضِبَ اللَّهُ » جملة فعلية في محل خبر « أَنْ » أيضاً . ولكنه يقال : يلزمكم أحد أمرين : وهو إمَّا عدم الفصل بين المخففة والفعل الواقع خبراً ، وإما وقوع الطلب خبراً في هذا الباب ، وهو ممتنع .
تقرير ذلك : أن خبر ( أنْ ) المخففة متى كان فِعْلاً متصرفاً غير مقرون ب « قَدْ » وجب الفصل بينهما بما تقدم في سورة المائدة .
فإن أجيب بأنه دعاء ، اعترض بأن الدعاء طلب ، وقد نصوا على أن الجمل الطلبية لا تقع خبراً ل « أَنَّ » ، حتى تأولوا قوله :
3816- إِنَّ الرِّياضَةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيْبِ ... وقوله :
3817- إِنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ ... لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا
على إضمار القول .
ومثله : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } [ النمل : 8 ] .
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسُّلَمي وعيسى بتخفيف « أن » و « غَضَبُ الله » بالرفع على الابتداء ، والجار بعده خبره ، والجملة خبر « أَنْ » .
وقال ابن عطية : و ( أَنْ ) الخفيفة على قراءة ( نافع ) في قوله : ( أَنْ غَضِب ) قد وليها الفعل . قال أبو علي : وأهل العربية يستقبحون أن يَلِيهَا الفعل ، إِلاَّ أن يُفْصل بينها وبينه بشيء ، نحو قوله :

{ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ } [ المزمل : 20 ] ، { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ } [ طه : 89 ] ، فأما قوله : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ } [ النجم : 39 ] فذلك لقلة تمكن ( ليس ) في الأفعال ، وأما قوله : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } [ النمل : 8 ] و ( بُورِكَ ) في معنى الدعاء ، فلم يجئ دخول الفاعل لئلا يفسد المعنى ، فظاهر هذا أن ( غَضِب ) ليس دعاء ، بل هو خبر عن { غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْها } . والظاهر أنه دعاء كما أن ( بُورِكَ ) كذلك ، وليس المعنى على الإخبار فيهما فاعتراض أبي علي وأبي محمد ليس بمرضي .
قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله } .
جواب : « لَوْلاَ » محذوف أي : لهلكتم أو لعاجلكم بالعقوبة ، ولكنه ستر عليكم ورفع عنكم الحد باللعان ، { وَأَنَّ الله تَوَّابٌ } يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة « حَكِيمٌ » فيما فرض من الحدود .

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)

قوله تعالى : { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } الآية .
في خبر « إِنَّ » وجهان :
أحدهما : أنه عصبةٌ و « مِنْكُمْ » صفته . قال أبو البقاء : « وبه أفاد الخبر » .
والثاني : أن الخبر الجملة من قوله : « لاَ تَحْسَبُوهُ » ، ويكون « عُصْبَةٌ » ، بدلاً من فاعل « جَاءوا » . قال ابن عطية : التقدير : إنَّ فعل الذين ، وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون « عُصْبَةٌ » خبر ( إِنَّ ) . كذا أورده عنه أبو حيان غير معترض عليه؛ والاعتراض عليه واضح من حيث أنه أوقع خبر « إِنَّ » جملة طلبية ، وقد تقدم أنه لا يجوز وإن ورد منه شيء في الشعر أُوِّلَ كالبيتين المتقدمين . وتقدير ابن عطية ذلك المضاف قبل الموصول ليصحّ به التركيب الكلامي ، إذ لو لم يقدر لكان التركيب « لاَ تَحْسَبُوهُمْ » .
ولا يعود الضمير في « لا تَحْسَبُوهُ » على قول ابن عطية على الإفك لئلا تخلو الجملة من رابط يربطها بالمبتدأ .
وفي قول غيره يجوز أن يعود على الإفك ، أو على القذف ، أو على المصدر المفهوم من « جَاءُوا » ، أو على ما نال المسلمين من الغم .
فصل
سبب نزول هذه الآية ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم رووا عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ، قالت : فأقرع بيننا في غزوة غزاها قبل بني المصطلق فخرج بها سهمي ، فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول آية الحجاب ، فحملت في هودج فسِرْنَا حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك وقفل دنونا من المدينة قافلين نزل منزلاً ثم آذَنَ بالرحيل ، فقمت حين آذنوا ومشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظَفَار وقد انقطع ، فرجعت والتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي ، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يُهْبَّلْنَ ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العُلْقَة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة السن فظنوا أني في الهودج ، وذهبوا بالبعير ، ووجدت عقدي بعدما اسْتَمَرَّت الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أنهم سيفقدوني ويعودون في طلبي ، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش يتبع أمتعة الناس يحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب شيء ، فلما رآني عرفني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحتله فوطئ على يديها ، فقمت إليها فركبتها ، وانطلق يقود بي حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول ، وافتقدني الناس حين نزلوا ، وماج الناس في ذكري ، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم ، فتكلم القوم وخاضوا في حديثي .

قالت : فَهَلَك مَنْ هلك ، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أُبيّ ابن سَلولٍ . قال عروة : لم يسلم من الإفك إلا حسان بن ثابت ، ومسطح بن أُثاثة ، وحمنة بنت جحش . في أناس آخرين لا علم بهم غير أنهم عصبة كما قال عزَّ وجلَّ . قال عروة : وكانت عائشة تكره أن يُسَب عندها حسان وتقول : إنه هو الذي قال :
3818- فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضي لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
قالت عائشة : وقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة ، ولم أر فيه - عليه السلام - ما عهدته من اللطف الذي كنت أعرف منه ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ، فاشتكيت حتى قدمت شهراً ، وهو يريبني في وجعي أنَّي لا أرى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلم ثم يقول : « كيف تيكُمْ » ؟ ثم ينصرف ، فذلك يَريبُني ، ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت حين نقهت ، فخرجت مع أم مِسْطَح قِبَلَ المناصع وكان متبرَّزنا ، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى الليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا قالت : فانطلقت أنا وأم مِسْطَح ، وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف . وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وابنُها مِسْطَح بن أُثَاثة بن عباد بن المطلب ، فأقبلت أنا وأم مِسْطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مِسْطَح في مرطها ، فقالت : تعس مِسْطَح . فقلت لها : بئس ما قلت ، أَتَسُبِّين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت : أي هنتاه ، أو لم تسمعي ما قال؟ فقلت : وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، وقالت : أشهد بالله إنك من المؤمنات الغافلات . فازددتُ مرضاً على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : « كيف تِيكُمْ » ؟ فقلت له أتأذن لي أن آتي أَبَوَيّ؟ قالت : وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت لأمي : يا أماه ، ماذا يتحدث الناس؟ قالت : يا بنية ، هَوِّني عليك ، فوالله لقلَّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضراء إلا كَثَّرنَ عليها .

فقلت : سبحان الله ، أو لقد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يَرْقَأُ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، فدخل عليَّ أبي وأنا أبكي ، فقال لأمي : ما يبكيها؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل فيها ، فأقبل يبكي . قالت : ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله ، فقال أسامة : يا رسول الله ، هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيراً . وأما عليّ فقال : لم يضيِّق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تَصْدُقكَ ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم بَرِيرَة ، فقال : « هَلْ رأيتِ من شيء يُريبُك » ؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق نبياً ما رأيت عليها أمراً قط أغضه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله . قالت : فقام نبي الله خطيباً على المنبر فقال : يا معشر المسلمين من يعذرُني من رجل قد بلغ أذاه في أهلي - يعني : عبد الله بن أُبيّ - فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ أخو بني الأشهل فقال : أنا يا رسول الله أعْذِرُك فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج فما أمرتنا فعلناه فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، وكان رجلاً صالحاً ، ولكن أخذته الحمية ، وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت ، لعمر الله لا تقدر على قتله . فقام أسيد بن حُضَير ، وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت ، لعمر الله لنقتله ، وإنك لمنافق تجادل عن المنافقين ، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا . قالت : فبكيتُ يَوْمِي ذلك كله وليلتي لا يَرْقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، فأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتين ويوماً حتى أني لأظنّ أن البكاء فالق كبدي ، فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي ، فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، فبينما نحن على ذلك إذ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل فِيَّ ما قيل ، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء ، فتشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس ثم قال : أمَّا بعد يا عائشة ، فإنه بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه قالت : فلمَّا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته قلص دمعي حتى ما أحسُّ منه قطرة ، ( فقلت ) لأبي : أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال .

فقال : والله ما أردي ما أقول لرسول الله . فقلت لأمي : أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت أمي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت وأنا جارية حديثة السِّن لا أقرأ من القرآن كثيراً : إني والله لقد علمت أنكم قد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم : إني بريئة لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقونني ، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حين قال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم وأنا أعلم أني حينئذ بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يُتلى ، ولَشَأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأَمْرٍ ، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤيا يبرئني الله بها ، فوالله ما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر فيه العرق مثل الجمان في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه . قالت : فسري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك ، وكان أول كلمة تكلم بها أن قال : « يا عائشة ، أما الله قد برأك » قالت : فقالت لي أمي : قومي إليه . فقلت : فوالله لا أقوم إليه ، فإني لا أحمد إلا الله . قالت : وأنزل الله { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ . . } العشر آيات . فقال أبو بكر : والله لا أنفق على مِسْطَح بعدها ، وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره ، فأنزل الله : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة . . } [ النور : 22 ] إلى قوله : « غَفُورٌ رَحِيمٌ » . فلما سمع أبو بكر قوله تعالى : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } [ النور : 22 ] قال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي . فرجع إلى النفقة على مِسْطح وقال : والله لا أنزعها منه أبداً .

قال : فلما نزل عُذْري قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك وتلا القرآن ، فلما نزل ضرب عبد الله بن أُبيِّ ومِسْطَح وحسَّان وحَمنَة الحد .
فصل
الإفك : أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء ، وهو أسوأ الكذب . وسمي إفكاً لكونه مصروفاً عن الحق من قولهم : أفك الشيء : إذا قلبه عن وجهه . قيل : هو البهتان وأجمع المسلمون على أن المراد : ما أفك به على عائشة .
وإنما وصف الله ذلك الكذب بكونه إفكاً لكون المعروف من حال عائشة خلافه ، وذلك من وجوه :
الأول : أن كونها زوجة المعصوم يمنع من ذلك ، لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعونهم ويستعطفونهم ، فيجب ألا يكون معهم ما ينفر عنهم ، وكون زوجة الإنسان مسافحة من أعظم المنفرات .
فإن قيل : كيف جاز أن تكون امرأة الرسول كافرة كامرأة نوح ولوط ، ولم يجز أن تكون فاجرة؟ وأيضاً فلو لم يجز لكان الرسول أعرف الناس بامتناعه ولو عرف ذلك لما خاف ولما سأل عائشة عن كيفية الواقعة؟
فالجواب عن الأول : أن الكفر ليس من المنفرات بخلاف الفجوز فإنه من المنفرات .
والجواب عن الثاني : أنه عليه السلام كثيراً ما يكون يضيق قلبه من أقوال الكفار مع علمه بفساد ذلك ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } [ الحجر : 97 ] فهذا من ذاك الباب .
الثاني : أن المعروف من عائشة قبل تلك الواقعة إنما هو الصون والبعد عن مقدمات الفجور ، ومن كان كذلك كان اللائق إحسان الظن به .
الثالث : أن القاذفين كانوا من المنافقين وأتباعهم ، وكلام المفتري ضرب من الهذيان . فلمجموع هذه كان ذلك القول معلوم الفساد قبل نزول الوحي .
فصل
العُصْبَةُ : قيل : الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، وكذلك العِصَابَة ، وهم عبد الله بن أُبيّ رأس المنافقين ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم .
قوله : « كِبْرَهُ » العامة على كسر الكاف .
وضمّها في قراءته الحسن والزهري وأبو رجاء وأبو البرهسم وابن أبي عبلة ومجاهد وعَمْرة بنت عبد الرحمن . ورويت أيضاً عن أبي عمرو والكسائي .
فقيل : هما لغتان في مصدر : كبر الشيء ، أي : عظم ، لكن غلب في الاستعمال أن المضموم في السن والمكانة ، يقال : هو كُبر القوم بالضم ، أي : أكبرهم سناً أو مكانة ، وفي الحديث قصة مُحَيْصَة وحويصة : « الكُبْرَ الكُبْرَ » .
وقيل : بالضم : معظم الإفك . وبالكسر : البداءة . وقيل : بالكسر : الإثم .
قوله : « مِنْكُم » معناه : إن الذين أتوا بالكذب في أمر عائشة جماعة منكم أيها المؤمنون ، لأن عبد الله كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهراً .
قوله : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } هذا شرح حال المقذوف وليس خطاب مع القاذفين .
فإن قيل : هذا مشكل من وجهين :
أحدهما : أنه لم يتقدم ذكرهم .

والثاني : أن المقذوفين هم عائشة وصفوان ، فكيف يحمل عليهما صيغة الجمع في قوله : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } ؟
فالجواب عن الأول : أنه تقدم ذكرهم في قوله : « مِنْكُمْ » .
وعن الثاني : أن المراد من لفظ الجمع : كل من تأذّى بذلك الكذب ، ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - تأذّى بذلك وكذلك أبو بكر ومن يتصل به .
فإن قيل : فمن أي جهة يصير خيراً لهم مع أنه مَضَرّة؟
فالجواب : لوجوه :
أحدها : أنهم صبروا على ذلك الغم طلباً لمرضاة الله فاستوجبوا به الثواب وهذه طريقة المؤمنين .
وثانيها : لولا إظهار الإفك كان يجوز أن يبقى الهَمُّ كامِنٌ في صدور البعض ، وعند الإظهار انكشف كذب القوم .
وثالثها : صار خيراً لهم لما فيه من شرفهم وبيان فضلهم من حيث نزلت ثماني عشرة آية ، كل واحدة منها مستقلة ببراءة عائشة ، وشهد الله بكذب القاذفين ، ونسبهم إلى الإفك ، وأوجب عليهم اللعن والذم ، وهذا غاية الشرف والفضل .
ورابعها : صيرورتها بحال تعلق الكفر بقذفها ، فإن الله لما نص على كون تلك الواقعة إفكاً وبالغ في شرحه ، فكل من شك فيه كان كافراً قطعاً ، وهذه درجة عالية .
وقال بعضهم : قوله تعالى : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } خطاب مع القاذفين وجعل الله خيراً لهم من حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة ، ومن حيث تاب بعضهم عنده . وهذا القول ضعيف ، لأنه تعالى خاطبهم بالكاف ، ولما وصف أهل الإفك خاطبهم بالهاء بقوله : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم } ، ومعلوم أن نفس ما اكتسبوه لا يكون عقوبة ، فالمراد : لهم جزاء ما اكتسبوه من العقاب في الآخرة والمذمة في الدنيا ، والمعنى : أن قدر العقاب يكون مثل قدر الخوض .
قوله : { والذي تولى كِبْرَهُ } . أي : الذي قام بإشاعة هذا الحديث وهو عبد الله بن ( أبيّ ابن ) سلول . والعذاب العظيم هو النار في الآخرة .
روي عن عائشة في حديث الإفك قالت : ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين ، وكان عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس ، فقال عبد الله بن أبي رئيسهم : من هذه؟ قالوا : عائشة . قال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ، ثم جاء يقودها . وشرع في ذلك أيضاً حسان بن ثابت ، ومِسْطَح ، وحمنة بنت جحش زوجة طلحة بن عبيد الله ، فهم الذين تولوا كِبْرَه . والأقرب أنه عبد الله بن أُبيّ ، فإنه كان منافقاً يطلب ما يقدح في ( الرسول ) .
قال مسروق : دخلتُ على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشد شعراً يشبب بأبيات له وقال :
3819- حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبحُ غَرْثَى مِنْ لحُومِ ( الغَوَافِلِ )
فقالت له عائشة : « لكنك لست كذلك » .
قال مسروق : فقلت لها : لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله : « { والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ؟ قالت : » وأيُّ عذابٍ أشد من العمى « .

وروي أن عائشة ذكرت حسان وقالت : « أَرْجُو لَهُ الجنةَ » . فقيل : أليس هو الذي تولى كبره؟ فقالت : « إذا سَمِعْتُ شِعْرَهُ في مدحِ الرسولِ رَجَوْتُ لَهُ الجَنَّةَ » وقال عليه السلام : « إِنَّ الله يؤيد حسان بروح القدس في شعره » .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحد جميعاً .
فصل
المراد من إضافة الكبر إليه أنه كان مبتدئاَ بذلك القول ، فلا جرم حصل له من العقاب ما حصل لكل من قال ذلك ، لقوله عليه السلام : « من سنَّ سُنّة سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » .
وقال أبو مسلم : « سبب تلك الإضافة شدة الرغبة في إشاعة تلك الفاحشة » .

لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)

قوله تعالى : { لولاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } « لَوْلاَ » هذه تحضيضية ، أي : هَلاَّ ، وذلك كثير في اللغة إذا كانت تلي الفعل كقوله : « لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي » وقوله : « فَلَوْلاَ كَانَتْ » .
فأما إذا ولي الاسم فليس كذلك كقوله : { لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } [ سبأ : 31 ] ، { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } [ النور : 21 ] . و « إذْ » منصوب ب « ظَنَّ » والتقدير : لولا ظَنَّ المؤمنون بأنفسهم إذ سَمِعْتُمُوه . وفي هذا الكلام التفات . قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : لولا إذ سمعتموه ، ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم ، ولِمَ عَدَل عن الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر؟ قلت : ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات ، وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض ألا يصدق ( أحد قالةً في أخيه ، وألا يظن بالمسلمين إلا خيراً ) .
وقوله : « وَلِمَ عدل عن الخطاب » ؟ يعني في قوله : « وَقَالُوا » فإنه كان الأصل : « وقلتم » ، فعدل عن هذا الخطاب إلى الغيبة في « وَقَالُوا » .
وقوله : « وعن الضمير » يعني أن الأصل كان « ظَنَنْتُمْ » فعدل عن ضمير الخطاب إلى لفظ المؤمنين .
فصل
المعنى : هلاَّ { إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ } بإخوانهم « خَيْراً » .
وقال الحسن : بأهل دينهم ، لأن المؤمنين كنفس واحدة ، كقوله : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] { فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } [ النور : 61 ] المعنى : بأمثالكم من المؤمنين .
وقيل : جعل المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور ، فإذا جرى على أحدهم مكروه فكأنه جرى على جميعهم ، كما قال عليه السلام « مَثَلُ المُسْلِمينَ في تَوَاصُلِهِمْ وتراحُمِهِمْ كمثل الجَسَد إذا وجع بعضه وجع كله بالسَّهر والحُمَّى » ، وقال عليه السلام : « المؤمنُون كالبُنْيَانِ يشدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً » .
وقوله : { هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } أي : كذب بين .

لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)

قوله : « لَوْلاَ جَاءُوا » : هَلاَّ جاءوا { عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } أي : على ما زعموا يشهدون على معاينتهم ما رَمَوْها به { فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ } ولم يقيموا بينةً على ما قالوه { فأولئك عِندَ الله } أي : في حكمه « هُمُ الكَاذِبُون » .
فإن قيل : كيف يصيرون عند الله كاذبين إذا لم يأتوا بالشهداء ومن كذب فهو عند الله كاذب سواء أتى بالشهداء أو لم يأت؟
فالجواب : معناه : كذبوهم بأمر الله .
وقيل : هذا في حق عائشة خاصة ، فإنهم كانوا عند الله كاذبين .
وقيل : المعنى : في حكم الكاذبين ، فإن الكاذب يجب زجره عن الكذب ، والقاذف إذا لم يأت بالشهود فإنه يجب زجره ، فلما ( كان ) شأنه ( شأن ) الكاذب في الزجر أطلق عليه أنه كاذب مجازاً .
قوله : { فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ } . « إذْ » منصوب ب « الكَاذِبُونَ » في قوله : { فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون } ، وهذا كلام في قوة شرط وجزاء .
قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدنيا والآخرة لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ } من الإفك { عَذَابٌ عَظِيمٌ } . ( وهذا زجر ) و « لَوْلاَ » هاهنا لامتناع الشيء لوجود غيره ويقال : أفاض في الحديث : اندفع وخاض . والمعنى : ولو أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال ، وأتَرَحَّم عليكم في الآخرة بالعفو ، لعاجلتُكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك .
وقيل : المعنى : وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لمَسَّكُم العَذَابُ في الدُّنْيَا والآخرة معاً ، فيكون فيه تقديم وتأخير . وهذا الفضل هو حكم الله لمن تاب .
وقال ابن عباس : المراد بالعذاب العظيم أي : عذاب لا انقطاع له . أي : في الآخرة لأنه ذكر عذاب الدنيا من قبل فقال : { والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النور : 11 ] وقد أصابه ، فإنه جلد وحدّ .

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

قوله : « إذْ تَلَقَّوْنَهُ » . « إذْ » منصوب ب « مَسَّكُمْ » أو ب « أَفَضْتُمْ » .
وقرأ العامة : « تَلَقَّوْنَهُ » والأصل : تَتَلَقَّوْنَهُ ، فحُذِفَ إحدى التاءين ك « تَنَزَّل » ونحوه ، ومعناه : يَتَلَقَّاهُ بعضكُمْ من بعضٍ .
قال الكلبي : وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول : بلغني كذا وكذا ، يتلقونه تلقياً .
قال الزجاج : يلقيه بعضهم إلى بعض .
والبَزِّي على أصله في أنه يُشَدِّدُ التَّاءَ وَصْلاً ، وتقدم تحقيقه في البقرة نحو « ولا تَيَمَّمُوا » وهو هناك سهل ، لأن ما قبله حرف لين بخلافه هنا .
وأبو عمرو والكسائي وحمزة على أصولهم في إدغام الذال في التاء .
وقرأ أُبيّ : « تَتَلَقَّوْنَهُ » بتاءين ، وتقدم أنها الأصل . وقرأ ابن السميفع في رواية عنه : « تُلْقُونه » بضم التاء وسكون اللام وضم القاف مضارع : ألقى إلقاء .
وقرأ هو في رواية أخرى : « تَلْقَونه » بفتح التاء وسكون اللام وفتح القاف مضارع : لقي . وقرأ ابن عباس وعائشة وعيسى وابن يعمر وزيد بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من ولق الرجل : إذا كذب . قال ابن سيدة : جاءوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي ، وعندي أنه أراد : تلقون فيه ، فحذف الحرف ، ووصل الفعل للضمير ، يعني : أنهم جاءوا ب « تَلَقَّوْنَهُ » وهو متعد مفسراً ب « تكذبون » وهو غير متعد ، ثم حمله على ما ذكر . وقال الطبري وغيره : إن هذه اللفظة مأخوذة من الوَلَق وهو الإسراع بالشيء بعد الشيء ، كعَدْوٍ في إثْر عدو ، وكلامٍ في إثر كلامٍ ، يقال : ولق في سيره أي : أسرع ، وأنشد :
3820- جَاءَتْ بِهِ عِيسٌ مِنَ الشَّامِ تَلِقْ ... وقال أبو البقاء : أي : يُسْرِعُون فيه ، وأصله من « الولق » وهو الجنون .
وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر : « تَأْلِقُونَهُ » بفتح التاء وهمزة ساكنة ولام مكسورة وقاف مضمومة من « الأَلَق » وهو الكَذِبُ . وقرأ يعقوب : « تِيلَقُونه » بكسر التاء من فوق ، بعدها ياء ساكنة ولام مفتوحة وقاف مضمومة ، وهو مضارع « وَلِق » بكسر اللام ، كما قالوا : « تيجل » مضارع « وَجِل » . وقوله : « بِأَفْوَاهِكمْ » كقوله : « يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ » وقد تقدم .
فصل
اعلم أن الله تعالى وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام ، وعلق مس العذاب العظيم بها .
أحدها : تلقي الإفك بألسنتهم ، وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل يقول له : ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى شاع واشتهر ، ولم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه . فكأنهم سعوا في إشاعة الفاحشة ، وذلك من العظائم .
وثانيها : أنهم كانوا يتكلمون بما لا علم لهم به ، وذلك يدل على أنه لا يجوز الإخبار إلا مع العلم ، ونظيره :

{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] .
وثالثها : أنهم كانوا يستصغرون ذلك ، وهو عظيمة من العظائم .
وتدل الآية على أن القذف من الكبائر لقوله : { وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ } ، وتدل على أن الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه .
ونبه بقوله : « وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً » على أن عمل المعصية لا يختلف بظن فاعله وحسبانه ، بل ربما كان ذلك مؤكداً لعظمه .
فإن قيل : ما معنى قوله : « بِأَفوَاهِكُمْ » والقول لا يكون إلاّ بالفم؟
فالجواب : معناه : أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب ، فيترجم عنه باللسان ، وهذا الإفك ليس إلا قولاً يجري على ألسنتكم من غير أن يحصل في القلب علم به كقوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 167 ] .

وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)

قوله : { ولولاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ } كقوله : { لولاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ } [ النور : 12 ] ولكن الالتفات فيه قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز الفصل بين ( لولا ) و ( قلتم ) بالظرف؟ قلت : للظروف شأن ليس لغيرها ، لأنها لا ينفك عنها ما يقع فيها ، فلذلك اتسع فيها .
قال أبو حيان : « وهذا يوهم اختصاص ذلك بالظروف ، وهو جائز في المفعول به ، تقول : لولا زيداً ضربتُ ، ولولا عَمْراً قتلتُ » .
وقال الزمخشري أيضاً : فإن قلت : أي فائدة في تقديم الظرف حتى أوقِعَ فاصلاً؟ قلت : الفائدة فيه : بيان أنه كان الواجب عليهم أن يحترزوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به ، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب تقديمه . فإن قلت : ما معنى « يكون » والكلام بدون مُتْلَئِب لو قيل : ما لنا أن نتكلم بهذا؟ قلت : معناه : ينبغي ويصح ، أي : ما ينبغي وما يصح كقوله : { مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ } [ المائدة : 116 ] .
فصل
قوله : { ولولاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا سُبْحَانَكَ } هذا اللفظ هنا معناه التعجب { هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } أي : كذب عظيم يبهت ويتحير من عظمته .
روي أن أم أيوب قالت لأبي أيوب الأنصاري : أما بلغك ما يقول الناس في عائشة؟ فقال أبو أيوب : « سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ » فنزلت الآية على وفق قوله .

يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)

قوله تعالى : { يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ . . . } الآية وهذا من باب الزواجر ، أي : يعظكم الله بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب ، ولأن فيه الحد والنكال في الدنيا والعذاب في الآخرة ، لكي لا تعودوا إلى مثل هذا الفعل أبداً .
قوله : « أَنْ تَعُودُوا » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مفعول من أجله ، أي : يعظكم كراهة أن تعودوا .
الثاني : أنه على حذف « في » أي : في أن تعودوا ، نحو : وعطف فلاناً في كذا ، فتركه .
الثالث : أنه ضمن معنى فعل يتعدى ب « عَنْ » ثم حذفت ، أي : يَزْجُرُكُمْ بالوعظ عن العود .
وعلى هذين القولين يجيء القولان في محل « أنْ » بعد نزع الخافض .
قال ابن عباس : « يحرم الله عليكم » .
وقال مجاهد : « يَنْهَاكم اللَّهَ أنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أبداً إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم الآيَات » في الأمر والنهي « وَاللَّهُ عَلِيمٌ » بأمر عائشة وصفوان « حَكِيمٌ » ببراءتهما .
واعلم أن العليم الحكيم هو الذي لا يأمر إلا بما ينبغي ، ولا يهمل جزاء المستحقين فلهذا ذكر هاتين الصفتين وخصهما بالذكر .
فصل
استدلت المعتزلة بقوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } على أن ترك القذف من الإيمان ، لأن المعلق على الشرط يعدم عند عدم الشرط .
وأجيبوا بأن هذا معارض بقوله : { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } [ النور : 11 ] أي : منكم أيها المؤمنون ، فدل ذلك على أن القذف لا يوجب الخروج عن الإيمان ، وإذا ثبت التعارض حملنا هذه الآية على التهيج في الاتعاظ والانزجار .
فصل
قالت المعتزلة : دلت هذه الآية على أنه تعالى أراد مَنْ جميع من وعظه مجانبة ذلك في المستقبل وإن كان فيهم من لا يطيع ، فمن هذا الوجه يدل على أنه يريد منهم كلهم الطاعة وإن عصوا ، ولأن قوله : { يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ } ، أي : لكي لا تعودوا لمثله ، وذلك يدل على الإرادة ، وتقدم الجواب عنه مراراً .
فإن قيل : هل يجوز أن يسمى الله واعظاً لقوله : « يَعِظُكُم اللَّهُ » ؟ فالأظهر أنه لا يجوز ، كما لا يجوز أن يسمى الله معلماً لقوله : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } [ الرحمن : 1 - 2 ] .

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)

قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة } الآية .
لمَّا بين ما على الإفك وعلى مَنْ سُمِع مِنْهُ وما ينبغي أن يتمسكوا به من آداب الدين أتبعه بقوله : { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة } ليعلم أن من أحب ذلك فقد شارك في هذا كما شارك فيه من فعله .
والإشاعة : الانتشار ، يقال : في هذا العقار سهم شائع : إذا كان في الجميع ولم يكن منفصلاً . وشاع الحديث : إذا ظهر في الجميع ولم يكن منفصلاً . وشاع الحديث : إذا ظهر في العامة . والمعنى : { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ } أن يظهر ويذيع الزنا { فِي الذين آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا والآخرة } يعني : عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين والعذاب في الدنيا : الحد . وفي الآخرة : النار .
وظاهر الآية يتناول كل من كان بهذه الصفة .
والآية إنما نزلت في قَذَفَةِ عائشة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ثم قال : { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } وهذا حسن الموقع في هذا الموضع ، لأن محبة القلب كافية ونحن لا نعلمها إلا بالإبانة ، وأما الله - سبحانه - فإنه لا يخفى عليه ، وهذا نهاية في الزجر ، لأن من أحبّ إشاعة الفاحشة وإن بالغ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله يعلم ذلك منه ، ويعلم قدر الجزاء عليه .
وهذه الآية تدل على أن العزم على الذنب العظيم ذنب ، وأن إرادة الفسق فسق ، لأنه تعالى علق الوعيد بمحبّة إشاعة الفاحشة .
فصل
قالت المعتزلة : إن الله بالغ في ذم من أحب إشاعة الفاحشة ، فلو كان تعالى هو الخالق لأفعال العباد لما كان مشيع الفاحشة إلا هو ، فكان يجب ألا يستحق الذم على إشاعة الفاحشة إلا هو ، لأنه هو الذي فعل تلك الإشاعة ، وغيره لم يفعل شيئاً ، وتقدم الكلام على ( نظيره ) .

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)

قوله تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } جواب « لولا » محذوف ، أي : لعاجلكم بالعقوبة .
قال ابن عباس : يريد مسطحاً وحسان وحَمْنة . ويجوز أن يكون الخطاب عاماً .
وقيل : جوابه في قوله : { مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ } .
وقيل : جوابه : لكانت الفاحشة تشيع فتعظم المضرة ، وهو قول أبي مسلم . والأقرب أن جوابه محذوف ، لأن قوله من بعد : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ } كالمنفصل من الأول ، فلا يكون جواباً للأول خصوصاً ( وقد ) وقع بين الكلامين كلام آخر .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } الآية قرئ « خُطُوَاتِ » بضم الطاء وسكونها . والخُطُوات : جمع خُطْوة وهو من خَطَا الرجلُ يَخْطُوا خَطْواً فإذا أردت الواحدة قلت : خَطْوَة مفتوحة الأول ، والمراد بذلك : السيرة .
والمعنى : لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه في إشاعة الفاحشة ، والله تعالى وإن خص بذلك المؤمنين ، فهو نهي لكل المكلفين ، لأن قوله : { وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء } منع لكل المكلفين من ذلك والفحشاء : ما أفْرَط قُبْحُهُ . والمُنْكَر : ما تنكره النفوس ، فتنفر عنه ولا ترتضيه .
قوله : « فإنه يأمر » في هذه الهاء ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها ضمير الشأن ، وبه بدأ أبو البقاء .
والثاني : أنها ضمير الشيطان .
وهذان الوجهان إنما يجوزان على رأي من لا يشترط عود الضمير على اسم الشرط من جملة الجزاء .
والثالث : أنه عائد على « مَنْ » الشرطية .
قوله : « مَا زَكَى » . العامة على تخفيف الكاف ، يقال : زَكَا يَزْكُو ، وفي ألفه الإمالة وعدمها . وقرأ الأعمش وابن محيصن وأبو جعفر بتشديدها . وكتبت ألفه ياء ، وهو شاذ ، لأنه من ذوات الواو كغزا ، وإنما حمل على لغة من أمال ، أو على كتابة المشدد .
فعلى قراءة التخفيف يكون « مِنْ أحَدٍ » فاعلاً . وعلى قراءة التشديد يكون مفعولاً ، و « مِنْ » مزيدة على كلا التقديرين ، والفاعل هو الله تعالى .
فصل
قال مقاتل : ما زَكَا : ما صلح .
وقال ابن قتيبة : ما ( ظهر ) .
وقيل : من بلغ في الطاعة لله مبلغ الرضا ، ( يقال : زكا الزرع ) ، فإذا بلغ المؤمن في الصلاح في الدين ما يرضاه ( تعالى ) سمي زكياً ، فلا يقال : زكى إلا إذا وجد زاكياً ، كما لا يقال لمن ترك الهدى : هداه الله مطلقاً ، بل يقال : هداه الله فلم يهتد . ودلت الآية على أن الله تعالى هو الخالق لأفعال العباد ، لأن التزكية كالتسويد والتحمير ، فكما أن التسويد يحصل السواد ، فكذا التزكية تحصل الزكاء في المحل .
والمعتزلة حملوها هنا على فعل الإلطاف ، أو على الحكم بكون العبد زكياً ، وهو خلاف الظاهر ، ولأن الله تعالى قال : { ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } علق التزكية على الفضل والرحمة ، وخلق الإلطاف واجباً فلا يكون معلقاً بالفضل والرحمة ، وأما الحكم بكونه زكياً فذلك واجب ، لأنه لولا الحكم له لكان كذباً ( و ) الكذب على الله محال ، فكيف يجوز تعليقه بالمشيئة؟ .

فصل
قال ابن عباس في رواية عطاء : هذا خطاب للذين خاضوا في الإفك ، ومعناه : ما ظهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل ، أي : ما قبل منكم توبة أحد أبداً ، { ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } يطهر « مَنْ يَشَاءُ » من الذنب بالرحمة والمغفرة { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : يسمع أقوالكم في القذف ، وأقوالكم في البراءة و « عَلِيمٌ » بما في قلوبهم من محبة إشاعة الفاحشة أو من كراهتها ، وإذا كان كذلك وجب الاحتراز عن معصيته .

وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)

قوله تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ } الآية .
يجوز أن يكون « يَأْتَلِ » : « يفتعل » ، من الألية ، وهي الحلف ، كقوله :
3821- وَآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تَحَلَّلِ ... ونصر الزمخشري هذا بقراءة الحسن « ولا يَتَأَلَّ » من الأليَّة ، كقوله : « مَنْ يَتَأَلَّ عَلَى اللَّهِ يُكَذبْهُ » .
ويجوز أن يكون « يفتعل » من أَلَوْت ، أي : قَصَّرْتُ ، كقوله تعالى : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] قال :
3822- وَمَا المَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَة نَفْسِهِ ... بمُدْرِكِ أَطْرَافِ الخُطُوبِ وَلاَ آلِ
وقال أبو البقاء : وقرئ : « وَلاَ يَتَأَلَّ » على « يَتفعل » وهو من الألية أيضاً ، ومنه :
3823- تَألَّى ابنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لَيَرُدُّنِي ... إلى نِسْوَةٍ كَأَنَّهُنَّ مَفَائِدُ
قوله : « أَنْ يُؤْتُوا » هو على إسقاط الجار ، وتقديره على القول الأول : ولا يأتل أولو الفضل على أن لا يحسنوا . وعلى الثاني : ولا يقصر أولو الفضل في أن يحسنوا .
وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسيم وابن قطيب : « تؤتوا » بتاء الخطاب ، وهو التفات موافق لقوله : « أَلاَ تُحِبُّون » . وقرأ الحسن وسفيان بن الحسين « ولتعفوا ولتصفحوا » بالخطاب وهو موافق لما بعده .
فصل
المشهور أن معنى الآية : لا يحلف أولو الفضل ، فيكون « افتعال » من الألية .
قال أبو مسلم : وهذا ضعيف لوجهين :
أحدهما : أن ظاهر الآية على هذا التأويل يقتضي المنع عن الحلف على الإعطاء ، وهم أرادوا المنع على ترك الإعطاء ، فهذا المتأول قد أقام النفي مكان الإيجاب ، وجعل المنهي عنه مأموراً به .
الثاني : أنه قلما يوجد في الكلام « أَفتعَلت » مكان « أفعلت » ( وإنما وجد مكان « فعلت » ) وهنا آليْتُ من الأليّة : « افْتَعَلْتُ » فلا يقال : أفعلت ، كما لا يقال من ألزمت التزمت ، ومن أعطيت اعتطيت . ثم قال في « يأتل » : إن أصله « يأتلي » ذهبت الباء للجزم لأنه نهي ، وهو من قولك : مَا ألوتُ فلاناً نصحاً ، ولم آل في أمري جُهْداً ، أي : ما قصرت . ولا يأل ولا يأتل ولم يأل والمراد : لا تقصروا في أن تحسنوا إليهم ، ويوجد كثيراً « افْتَعَلْتُ » مكان « فَعَلْت » ، تقول : كسبتُ واكتسبت ، وصنعتُ واصطنعتُ ، وهذا التأويل مروي عن أبي عبيدة . قال ابن الخطيب : « وهذا هو الصحيح دون الأول » .
وأجاب الزجاج عن الأول بأن « لا » تحذف في اليمين كثيراً ، قال الله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ } [ البقرة : 224 ] يعني : أن لا تبروا ، وقال امرؤ القيس :
3824- فَقُلْتُ يَمِين اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً ... أي : لا أبرح .
وأجابوا عن السؤال الثاني أن جميع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم فسروا اللفظ باليمين ، وقول واحد منهم حجة في اللغة ، فكيف الكل؟ ويعضده قراءة الحسن : « ولا يَتَأَلَّ » .

فصل
قال المفسرون معناه : ولا يحلف { أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة } أي : أولوا الغنى ، يعني : أبا بكر الصديق { أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله } يعني : مِسْطَحاً ، وكان مسكيناً مهاجراً بدرياً ابن خالة أبي بكر حلف أبو بكر لا ينفق عليه « وَلْيَعْفُوا وليصْفَحُوا » عنهم خوضهم في أمر عائشة « أَلاَ تُحِبُّونَ » يخاطب أبا بكر { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله ( لَكُمْ ) والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فلما قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي بكر قال : « بلى إنما أحب أن يغفر الله لي » ورجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه ، وقال : « والله لا أنزعها منه أبداً » .
وقال ابن عباس والصحابة أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر ألا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعوهم فأنزل الله هذه الآية .
فصل
أجمع المفسرون على أن المراد من قوله : « أولُوا الفَضْل » أبو بكر ، وهذا يدل على أنه كان أفضل الناس بعد الرسول ، لأن الفضل المذكور في الآية إما في الدنيا وإما في الدين ، والأول باطل ، لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له ، والمدح من الله بالدنيا غير جائز ، ولأنه لو جاز ذلك لكان قوله : « والسَّعَة » تكريراً ، فتعين أن يكون المراد منه الفضل في الدين ، فلو كان غيره مساوياً له في الدرجة في الدين لم يكن هو صاحب الفضل ، لأن المساوي لا يكون فاضلاً ، فلما أثبت الله له الفضل غير مقيد بشخص دون شخص وجب أن يكون أفضل الخلق تُرك العمل به في حق الرسول - عليه السلام - فيبقى معمولاً به في حق الغير .
وأجمعت الأمة على أن الأفضل إما أبو بكر أو عليّ ، فإذا تبين أنه ليس المراد عليًّا تعينت الآية في أبي بكر .
وإنما قلنا : ليس المراد عليًّا ، لأن ما قبل الآية وما بعدها يتعلق بابنة أبي بكر ، ولأنه تعالى وصفه بأنه من أولي السعة ، وأن عليًّا - رضي الله عنه - لم يكن من أولي السَّعة في الدنيا في ذلك الوقت ، فثبت أن المراد منه أبو بكر قطعاً .
فصل
أجمعوا على أن مِسْطَحاً كان من البدريين ، وصح عنه عليه السلام أنه قال : « لَعَلَّ الله نظرَ إلى أهل بدر فقال : اعمَلُوا ما شِئْتُم ، فقد غفرت لكم » فكيف صدرت الكبيرة منه بعد أن كان بدريًّا؟
والجواب : أنه لا يجوز أن يكون المراد منه : افعلوا ما شئتم من المعاصي ، فيأمر بها ، لأنا نعلم بالضرورة أن التكليف كان باقياً عليهم ، ولو حملناه على ذلك لأفضى إلى زوال التكليف عنهم ، ولو كان كذلك لما جاز أن يحدّ مِسْطح على ما فعل ، فوجب حمله على أحد أمرين :
الأول : أنه تعالى علم توبة أهل بدر فقال : افعلوا ما شئتم من النوافل من قليل أو كثير ، فقد غفرت لكم وأعطيتكم الدرجات العالية في الجنة .

والثاني : أن يكون المراد أنهم يوافون بالطاعة ، فكأنه تعالى قال : قد غفرتُ لكم لعلمي بأنَّكم تموتون على التوبة والإنابة ، فذكر حالهم في الوقت وأراد العاقبة .
فصل
دلت الآية على أن ( الأيمان على ) الامتناع من الخير غير جائز ، وإنما يجوز إذا حصلت داعية صارفة عنه .
فصل
مذهب الجمهور أنَّ من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها ، أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه .
وقال بعضهم : إنه يأتي بالذي هو خير ، وذلك هو كفارته ، لأن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة . ولقوله عليه السلام : « مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فرأى غيرها خيراً مِنْهَا فليأتِ الذي هو خير ، وذلك كفارته » .
واحتج الجمهور بقوله تعالى : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ } [ المائدة : 89 ] ، وقوله : { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } [ المائدة : 89 ] ، وقوله لأيوب - عليه السلام - : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } [ ص : 44 ] وقد علمنا أن الحنث كان خيراً من تركه ، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها ، بل كان يحنث بلا كفارة ، وقال عليه السلام : « مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمينٍ فرَأَى غيرَها خيراً منْهَا فليأتِ الَّذِي هو خيرٌ وليكفِّرْ عن يمينه » .
وأما قولهم : إنَّ الله تعالى لم يذكر الكفارة في قصة أبي بكر ، فإن حكمها كان معلوماً عندهم . وأما قوله عليه السلام : « وليأت الذي هو خير ، وذلك كفارته » فمعناه : تكفير الذنب لا أنه الكفارة المذكورة في الكتاب .
فصل
روي عن عائشة أنها قالت : « فَضِلْتُ على أزواج النبي بعشر خصال :
تزوج رسول الله بي بكراً دون غيري ، وأبواي مهاجران ، وجاء جبريل بصورتي وأمره أن يتزوج بي ، وكنت أغتسل معه في إنائه ، وجبريل ينزل عليه وأنا معه في لحاف ، وتزوج في شوال ، وبنى بي في ذلك الشهر وقبض بين سحري ونحري ، وأنزل الله عذري من السماء ، ودفن في بيتي ، وكل ذلك لم يساوني فيه غيري » .
وقال بعضهم : « لقد برَّأ الله أربعة بأربعة : بَرأ يوسف { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } [ يوسف : 26 ] ، وبرأ موسى من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه ، وبرأ مريم بإنطاق ولدها ، وبرأ عائشة بهذه الآيات في كتابه المتلو على وجه الدهر » .

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)

قوله : { إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات } العفائف « الغَافِلاَت » عن الفواحش « المُؤْمِنَاتِ » والغافلة عن الفاحشة أي : لا تقع في مثلها ، وكانت عائشة كذلك ، فقال بعضهم : الصيغة عامة ، فيدخل فيه قَذَفَةُ عائشة وغيرها .
وقيل : المراد قذفة عائشة .
قالت عائشة : رميت وأنا غافلة ، وإنما بلغني بعد ذلك ، فبينا رسول الله عندي إذ أوحى إليه ، قال : « أبشري » وقرأ : { إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات } .
وقيل : المراد جُملة أزواج رسول الله ، وأنهن لشرفهن خصصن بأن من قذفهن فهذا الوعيد لاحقٌ به . واحتج هؤلاء بأمور :
الأول : أن قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله في أول السورة : { والذين يَرْمُونَ المحصنات } [ النور : 4 ] إلى قوله : { إِلاَّ الذين تَابُواْ . . . } [ النور : 5 ] .
وأما القاذف في هذه الآية فإنه لا تقبل توبته لقوله تعالى : { لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة } ولم يذكر استثناء .
وأيضاً فهذه صفة المنافقين في قوله : { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا } [ الأحزاب : 61 ] .
الثاني : أن قاذف سائر المحصنات لا يكفر ، والقاذف في هذه الآية كافر ، لقوله : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ . . . } وذلك صفة الكفار والمنافقين لقوله : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار . . . } [ فصلت : 19 ] الآيات .
الثالث : أنه قال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } والعذاب العظيم هو عذاب الكفر ، ( فدلّ على أن عذاب هذا القاذف عقاب الكفر ) . وعقاب قذف سائر المحصنات لا يكون عقاب الكفر .
وروي أن ابن عياش كان بالبصرة يوم عرفة ، وكان يسأل عن تفسير هذه الآية ، فقال : « من أذنب ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة » .
وأجاب الأولون بأن الوعيد المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون مشروطاً بعدم التوبة ، لأن الذنب سواء كان كفراً أو فسقاً ، فإذا تاب عنه صار مغفوراً .
وقيل : هذه الآية نزلت في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله عهد ، فكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا : « إنها خرجت لتفجر » فنزلت فيهم .
قوله : « يَوْمَ تَشْهَدُ » ، ناصبه الاستقرار الذي تعلق به « لَهُمْ » .
وقيل : بل ناصبه « عَذَابٌ » . ورد بأنه مصدر موصوف .
وأجيب بأن الظرف يُتَّسَعُ فيه ما لا يُتَّسَع في غيره .
وقرأ الأخوان : « يَشْهَدُ » بالياء من تحت ، لأن التأنيث مجازي ، وقد وقع الفصل والباقون : بالتاء مراعاة للفظ .
قوله : « يَوْمَئِذٍ » : التنوين في « إذْ » عِوَضٌ من الجملة تقديره : يَوْمئذ تَشْهَدُ ، وقد تقدم خلاف الأخفش فيه .
وقرأ زيد بن علي « يُوفِيهِمْ » مخففاً من « أَوْفَى » .
وقرأ العامة بنصب « الحَقِّ » نعتاً ل « دِينَهُمْ » .
وأبو حَيْوَة وأبو رَوْق ومجاهد - وهي قراءة ابن مسعود - برفعه نعتاً لله تعالى .
فصل
قوله { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ } .
قال المفسرون : هذا قبل أن يختم على أفواههم وأيديهم وأرجلهم .
يروى أنه يختم على الأفواه فتتكلم الأيدي والأرجل بما عملت في الدنيا .
{ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق } جزاءهم الواجب . وقيل : حسابهم العدل ، { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } يبين لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا .
وإنما سُمِّيَ الله ب « الحق » لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره .
وقيل : سُمِّيَ ب « الحق » ومعناه : الموجود ، لأن نقيضه الباطل وهو المعدوم ، ومعنى « المُبين » : المظهر .

الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

قوله تعالى : « الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ » الآية .
قال أكثر المفسرين : « الخَبِيثَاتُ » من القول والكلام « لِلْخَبِيثِينَ » من الناس ، « والخَبِيثُونَ » من الناس « لِلْخَبِيثَات » من القول ، « والطيبات » من القول « للطَّيِّبِينَ » من الناس ، « والطَّيِّبُونَ » من الناس « لِلطَّيِّبَاتِ » من القول .
والمعنى : أنَّ الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس ، والطيِّب لا يليق إلا بالطيِّب فعائشة - رضي الله عنها - لا يليق بها الخبيثات من القول ، لأنها طيبة ، فيضاف إليها طيبات الكلام من الثناء الحسن وما يليق بها .
وقال الزجاج : معناه : لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء ، ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب من الرجال والنساء وهذا ذم للذين قذفوا عائشة ، ومدح للذين برّأوها بالطهار .
قال ابن زيد : معناه : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، أمثال عبد الله بن أبيّ والشاكين في الدين ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء ، يريد : عائشة طيبها الله لرسوله الطيب - صلى الله عليه وسلم - « مُبَرءُونَ » يعني : عائشة وصفوان ، ذكرهما بلفظ الجمع كقوله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } [ النساء : 11 ] أي : أخوان .
وقيل : « أولئك مُبَرَّؤُونَ » يعني : الطيبين والطيبات منزهون مما يقولون .
وقيل : الرَّمْيُ تعلق بالنبي - عليه الصلاة والسلام - وبعائشة وصفوان ، فبرأ الله كل واحد منهم .
وقيل : المراد كل أزواج الرسول برأهن الله تعالى من هذا الإفك ، ثم قال : « لَهُمْ مَغْفِرَةٌ » يعني : براءة من الله . وقيل : العفو عن الذنوب . والرزق الكريم : الجنة .
قوله : « لَهُمْ مَغْفِرَةٌ » يجوز أن تكون جملة مستأنفة ، وأن تكون في محل رفع خبراً ثانياً .
ويجوز أن يكون « لَهُمْ » خبر « أولئك » ( و ) « مَغْفِرَةٌ » فاعله .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } الآية .
لما ذكر حكم الرمي والقذف ذكر ما يليق به ، لأن أهل الإفك ( إنما توصلوا ) إلى بهتانهم لوجود الخلوة ، فصارت كأنها طريق التهمة ، فأوجب الله تعالى ألا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام ، لأن الدخول على غير هذا الوجه يوقع التهمة ، وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به .
قوله : « تَسْتَأنِسُوا » يجوز أن يكون من الاستئناس ، لأنَّ الطارق يستوحش من أنه هل يؤذن له أو لا؟ فزال استيحاشه ، وهو رديف الاستئذان فوضع موضعه .
وقيل : من الإيناس ، وهو الإبصار ، أي : حتى تستكشفوا الحال .
وفسره ابنُ عباس : « حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا » وليست قراءة ، وما ينقل عنه أنه قال : « تَسْتَأنِسُوا » خطأ من الكاتب ، إنما هو ( تَسْتَأْذِنُوا ) فشيء مفترى عليه .
وضعفه بعضهم بأن هذا يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر ، ويقتضي صحة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر ، وفتح هذين البابين يطرق الشك إلى كل القرآن وإنه باطل .
وروي عن الحسن البصري أنه قال : « إن في الكلام تقديماً وتاخيراً ، فالمعنى : حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا » . وهذا أيضاً خلاف الظاهر .
وفي قراءة عبد الله : { حَتَّى تُسَلِّمُوا وَتَسْتَأْذِنُوا } وهو أيضاً خلاف الظاهر .
واعلم أن هذا نظير ما تقدم في الرعد : ( في ) { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } [ الرعد : 31 ] وتقدم القول فيه . والاستئناس : الاستعلام ( والاستكشاف ، من أنس الشيء : إذا أبصره ، كقوله : { إني آنَسْتُ نَاراً } [ طه : 10 ] ، والمعنى : حتى تستعلموا الحال ، هل يراد دخولكم؟ ) قال :
3825- كَأَنَّ رَحْلِيَ وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا ... يَوْمَ الجَلِيلِ على مُسْتَأْنِسٍ وَحَدِ
وقيل : هو من « الإنْس » بكسر الهمزة ، أي : يَتَعرَّف هل فيها إنْسٌ أم لا؟
وحكى الطبري أنه بمعنى : « وَتُؤْنِسُوا أَنْفُسَكُمْ » .
قال ابن عطية : وتصريف الفعل يَأْبَى أن يكونَ مِنْ « أَنَس » .
فصل
قال الخليل : الاستئناس : الاستبصار من ( أنس الشيء إذا أبصره ) كقوله : « آنسْتُ نَاراً » أي : أبصرت .
وقيل : هو أن يتكلم بتسبيحة أو تكبيرة أو بتنحنح يؤذن أهل البيت . وجملة حكم الآية أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد السلام والاستئذان .
واختلفوا : هل يقدم الاستئذان أو السلام؟
فقيل : يقدم الاستئذان ، فيقول : أأدخل؟ سلام عليكم ، لقوله : « حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا » أي : تستأذنوا { وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا } . والأكثرون على أنه يقدم السلام فيقول : سلام عليكم ، أأدخل؟ ( « لما روي أن رجلاً دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسلم ولم يستأذن ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : » ارجع فقُل : السلام عليكم ، أأدخل « ) وروى ابن عمر أن رجلاً استأذن عليه فقال : أأدخل؟ فقال ابن عمر : لا ، فأمر بعضهم الرجل أن يسلم ، فسلَّم ، فأذِنَ له .

وقيل إن وقع بصره على إنسان قدم السلام ، وإلاّ قدم الاستئذان ثم يسلم . والحكمة في إيجاب تقديم الاستئذان ألاَّ يهجم على ما لا يحل له أن ينظر إليه من عورة ، أو على ما لا يحب القوم أن يعرفه من الأحوال .
فصل
عدد الاستئذان ثلاثاً لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « الاستئذان ثلاثٌ ، الأولى يستضيئون ، والثانية يستصلحون ، والثالثة يأذنون أو يردون » وعن أبي سعيد الخدري قال : « كُنت جالساً في مجلس الأنصار ، فجاء أبو موسى فزعاً ، فقلنا له : ما أفزعك؟ فقال : أخبرني عمر أن آتيه فأتيته ، فاستأذنت ثلاثاً ، فلم يؤذن لي ، فرجعت ، فقال : ما منعك أن تأتيني؟ فقلت : قد جئت فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي ، وقد قال عليه السلام - : » إذا استأذنَ أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع « . فقال : لتأتيني ( على هذا ) بالبينة ، أو لأعاقبنك ، فقال أبو سعيد : لا يقوم معك إلا صغير القوم ، قال : فقام أبو سعيد ، فشهد له » .
وفي بعض الروايات أن عمر قال لأبي موسى : لم أتهمك ، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله .
وعن قتادة : « الاستئذانُ ثلاثةٌ : الأول ليسمع الحي ، والثاني ليتهيأ ، والثالث إن شاء أذن وإن شاء ردّ » .
وهذا من محاسن الآداب ، لأنه في أول كرَّة ربما منعهم بعض الأشغال من الإذن ، وفي الثانية ربما كان هناك ما يمنع ، فإذا لم يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع . ويجب أن يكون بين كل واحدة والأخرى وقت ما .
فأما قرع الباب بعنف ، والصياح بصاحب الدار فذاك حرام ، لأنه إيذاء ، وكذا قصة بني أسد وما نزل فيها من قوله : { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ الحجرات : 4 ] .
فصل
في كيفية الوقوف على الباب
روى أبو سعيد قال : استأذن رجلٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مستقبل الباب ، فقال عليه السلام : « لا تستأذِنْ وأنت مستقبلُ البابِ » .
« وروي أنه عليه السلام كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، فيقول : » السلامُ عليكُمْ « وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور .
فصل
كلمة » حَتَّى « للغاية ، والحكم بعد الغاية يكون بخلاف ما قبلها ، فقوله : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ } يقتضي جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت إذن .
والجواب أن الله تعالى جعل الغاية الاستئناس ، ولا يحصل إلا بعد الإذن .
وأيضاً فإنّا علمنا بالنص أن الحكمة في الاستئذان ألا يدخل الإنسان على غيره بغير إذنه ، فإنّ ذلك مما يسوؤه ، وهذا المقصود لا يحصل إلا بعد الإذن .

وأيضاً قوله : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا ( حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ } ) فمنع الدخول إلا مع الإذن ، فدل على أن الإذن شرط في إباحة الدخول في الآية الأولى .
وإذا ثبت هذا فنقول : لا بد من الإذن أو ما يقوم مقامه ، لقوله عليه السلام « إذا دُعِيَ أحدُكُم فجاء مع الرسول فإنَّ ذلك له إذن » .
وقال بعضهم : إن من جرت العادة بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان . واعلم أن ظاهر الآية يقتضي قبول الإذن مطلقاً سواء كان الآذن صبياً أو امرأة أو عبداً أو ذمياً ، فإنه لا يعتبر في هذا الإذن صفات الشهادة ، وكذلك قبول إحضار هؤلاء في الهدايا ونحوها .
فصل
ويستأذن على المحارم ، « لما روي أن رجلاً سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : » أأستأذن على أختي؟ « فقال عليه السلام : » نَعَمْ ، أتحب أن تراها عريانة؟ « وسأل رجل حذيفة : » أأستأذن على أختي؟ « فقال : » إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوؤك « . ولعموم قوله : { وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ } [ النور : 59 ] إلا أنَّ ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوه .
فصل
إذا اطلع إنسان في دار إنسان بغير إذنه ففقأ عينه فهي هدر ، لقوله عليه السلام : » مَن اطَّلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه « .
وقال أبو بكر الرازي : هذا الخبر ورد على خلاف قياس الأصول ، فإنه لا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامناً ، وكان عليه القصاص إن كان عامداً ، والأرش إن كان مخطئاً ، والداخل قد اطَّلع وزاد على الاطلاع ، فظاهر الحديث مخالف لما حصل عليه الاتفاق ، فإن صحَّ فمعناه : من اطلع في دار قوم ونظر إلى حرمهم فمنع فلم يمتنع فذهب عينه في حال الممانعة فهي هدر ، فأما إذا لم يكن إلا النظر ولم يقع فيه ممانعة ولا نهي ثم جاء إنسان ففقأ عينه فهذا جان يلزمه حكم جنايته لظاهر قوله تعالى : » العَيْن بِالعَيْنِ « إلى قوله : » والجُرُوحَ قِصَاصٌ « .
وأجيب بأن التمسك بقوله : » العَيْنُ بِالعَيْنِ « ضعيف ، لأنا أجمعنا على أن هذا النص مشروط بما إذا لم تكن العين مستحقة ، فإنه لو كانت مستحقة القصاص ، فلم قلت : إن من اطَّلع في دار إنسان لم تكن عينه مستحقة؟
وأما قوله : إنه لو دخل لم يجز فقء عينه ، فكذا إذا نظر .
والفرق بينهما أنه إذا دخل ، علم القوم بدخوله عليهم ، فاحترزوا عنه وتستروا ، فأما إذا نظر فقد لا يكونون عالمين بذلك فيطلع منهم على ما لا يجوز الاطلاع عليه ، فلا يبعد في حُكْم الشرع أن يبالغ هنا في الزجر حسماً لهذه المفسدة .

وأيضاً فردّ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا القدر من الكلام ليس جائزاً .
فصل
إذا عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق ، أو ظهور منكر فهل يجب الاستئذان؟ فقيل : كل ذلك مستثنى بالدليل .
فأما السلام فهو من سنة المسلمين التي أمروا بها ، وهو تحية أهل الجنة ، ومجلبة للمودة ، ونافٍ للحقد والضغائن .
قال عليه السلام : « لمَّا خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذن الله ، فقال له الله : يرحمك ربك يا آدم ، اذهب إلى هؤلاء الملائكة ( وهم ) ملأ منهم جلوس فقل : السلام عليكم ، فلما فعل ذلك رجع إلى ربه فقال : هذه تحيتك وتحية ذريتك » وعن عليّ بن أبي طالب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « حق المسلم على المسلم ست : يسلِّم عليه إذا لقيه ، ويجيبه إذا دعاه ، وينصح له بالغيب ، ويشمِّته إذا عطس ، ويعوده إذا مرض ، ويشهد جنازته إذا مات » .
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « إن سرَّكم أن يسل الغل من صدروكم فأفشوا السلام بينكم » .
قوله : { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } .
أي : إن فعل ذلك خير لكم وأولى بكم من الهجوم بغير إذن « لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » أي : لتذكروا هذا التأديب فتتمسكوا به { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ } أي : فإن لم تجدوا في البيوت « أَحَداً » يأذن لكم في دخولها { فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ } لجواز أن يكون هناك أحوال مكتومة ، { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا } وذلك أنه كما يكون الدخول قد يكرهه صاحب الدار ، فكذلك الوقوف على الباب قد يكرهه ، فلا جرم كان الأولى له أن يرجع { هُوَ أزكى لَكُمْ } أي : الرجوع هو أطهر وأصلح لكم .
قال قتادة : إذا لم يؤذن له فلا يقعد على الباب ، فإنَّ للناس حاجات ، وإذا حضر فلم يستأذن وقعد على الباب منتظراً جاز .
كان ابن عباس يأتي الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ( حتى يخرج ) ولا يستأذن ، فيخرج الرجل ويقول : « يا ابنَ عم رسول الله لو أخبرتني » فيقول : هكذا أمرنا أن نطلب العلم . وإذا وقف فلا ينظر من شق الباب إذا كان الباب مردوداً « لما روي أن رجلاً اطلع على النبي - صلى الله عليه وسلم - من ستر الحجرة ، وفي يد النبي - صلى الله عليه وسلم - مدراء ، فقال : » لو علمتُ أن هذا ينظرني حتى آتيه لَطَعْنتُ بالمدراء في عينه ، وهل جعل الاستئذان إلا من أجل البصر «
قوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } أي : من الدخول بالإذن وغير الإذن .

ولما ذكر الله تعالى حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور التي هي غير مسكونة فقال : { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } .
قال المفسرون : لما نزلت آية الاستئذان قالوا : كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام وعلى ظهر الطريق ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } . أي : بغير استئذان { فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } أي : منفعة لكم .
قال محمد ابن الحنفية : إنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين .
وقال ابن زيد : هي بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلها للبيع والشراء ، وهو المنفعة قال إبراهيم النخعي : ليس على حوانيت السوق إذن .
وكان ابن سيرين إذا جاء إلى حانوت السوق يقول : السلام عليكم ، أأدخل؟ ثم يلج .
وقال عطاء : هي البيوت الخربة ، و « المَتَاعُ » هو قضاء الحاجة فيها من البول والغائط . وقيل : هي جميع البيوت التي لا ساكن لها .
وقيل : هي الحمامات .
وروي أن أبا بكر قال : يا رسولَ الله ، إن الله قد أنزلَ عليكَ آيةً في الاستئذان ، وإنا نختلف في تجارتنا فننزل هذه الخانات ، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت هذه الآية .
والأصح أنه لا يمتنع دخول الجميع تحت الآية ، لأن الاستئذان إنما جاء لئلا يطلع على عورة ، فإن لم يخف ذلك فله الدخول ، لأنه مأذون فيها عرفاً .
{ والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } وهذا وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة .

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

قوله تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } الآية . الغض : إطباق الجفن بحيث يمنع الرؤية . قال :
3826- فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلاَ كَعْباً بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبا
وفي « مِنْ » أربعة أوجه :
أحدها : أنها للتبعيض ، لأنه يُعْفَى عن الناظر أول نظرة تقع من غير قصد .
والثاني : لبيان الجنس ، قاله أبو البقاء . وفيه نظر من حيث إنَّه لم يَتَقَدَّم مُبهمٌ يكونُ مُفَسَّراً ب « مِنْ » .
الثالث : أنها لابتداء الغاية ، قاله ابن عطية .
الرابع : قال الأخفش : إنها مزيدة .
فصل
قال الأكثرون : المراد غض البص عما يحرم والاقتصار به على ما يحل .
فإن قيل : كيف دخلت « مِنْ » في غض البصر دون حفظ الفرج؟
فالجواب : أن ذلك دليل على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن ، وكذا الجواري المستعرضات ، وأما أمر الفروج فمضيق .
وقيل : معنى { يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أي : ينقصوا من نظرهم بالبصر إذا لم يكن من عمله فهو مغضوض .
وعلى هذا « مِنْ » ليست زائدة ، ولا هي للتبعيض ، بل هي صلة للغض ، يقال : غضضت من فلان : إذا نقصت منه .
فصل
العورات تنقسم أربعة أقسام :
عورة الرجل مع الرجل .
وعورة المرأة مع المرأة .
وعورة المرأة مع الرجل .
وعورة الرجل مع المرأة .
أما الرجل مع الرجل ، فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا العورة ، وهي ما بين السرة والركبة ، والسرة والركبة ليسا بعورة .
وعند أبي حنيفة : الركبة عورة .
وقال مالك : « الفخذ ليس بعورة » .
وهو مردود بقوله عليه السلام : « غَطِّ فَخَذَكَ فإنَّهَا مِنَ العَوْرَةِ » .
وقوله لعلي : « لا تُبْرِزْ فَخذَكَ ، وَلاَ تَنْظُر إلى فَخِذِ حَيٍّ وَلاَ مَيِّتٍ » .
فإن كان أمر ولم يحل النظر إلى وجهه ، ولا إلى شيء من سائر بدنه بشهوة ، ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش لقوله عليه السلام : « لا يُفضي الرجل إلى الرجل في فراش واحد ، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد » وتكره معانقة الرجل للرجل وتقبيله إلا لولده شفقة لما روي عن أنس قال : « قال رجل : يا رسول الله ، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال : لا . قال : أيلزمه ويقبله؟ قال : لا . قال : أفيأخذ يده فيصافحه؟ قال : نعم » .
ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المكاعمة والمكامعة ، وهي : معانقة الرجل للرجل وتقبيله .
وأما عورة المرأة مع المرأة ، فهي كالرجل مع الرجل فيما ذكرنا سواء .
والذمية هل يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة؟ فقيل : هي كالمسلمة مع المسلمين .
والصحيح أنه لا يجوز لها ( النظر ) لأنها أجنبية في الدين لقوله تعالى : « أَوْ نِسَائِهِنَّ » وليست الذمية من نسائنا .

وأما عورة المرأة مع الرجل ، فإما أن تكون ( أجنبية ، أو ذات محرم ، أو مستمتعة . فإن كانت أجنبية فإما أن تكون حرة أو أمة . فإن كانت ) حرة فجميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين ، لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والعطاء ، والمراد : الكف إلى الكوع . واعلم أن النظر إلى وجهها ينقسم ثلاثة أقسام :
إما ألاّ يكون فيه غرض ولا فتنة ، وإما أن يكون فيه غرض ولا فتنة ، وإما أن يكون لشهوة . فإن كان لغير غرض فلا يجوز النظر إلى وجهها ، فإن وقع بصره عليها بغتة غض بصره لقوله تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } . وقيل : يجوز مرة واحدة إذا لم تكن فتنة ، وبه قال أبو حنيفة . ولا يجوز تكرار النظر لقوله عليه السلام : « لا تُتْبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة » .
وقال جابر : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجاءة ، فأمرني أن أصرف بصري . فإن كان فيه غرض ولا فتنة ، وهو أمور :
أحدها : أن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفيْها لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي سأله أنْ يتزوج امرأة من الأنصار : « انظُرْ إليْهَا ، فإنَّ في أعين الأنصار شيئاً » وقال عليه السلام : « إذا خطب أحدُكُم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان ينظر إليها للخطبة » .
وقال المغيرة بن شعبة : « خطبت امرأة ، فقال عليه السلام : نظرت إليها؟ فقلت : لا . قال : فانظر فإنه أحْرى أن يؤدم ( بينكما ) » .
وذلك يدل على جواز النظر بشهوة إلى الوجه والكفين إذا أراد أن يتزوجها ولقوله تعالى : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } [ الأحزاب : 52 ] ولا يعجبه حسنهن إلا بعد رؤية وجوههن .
وثانيها : أنه إذا أراد شراء جارية فله أن ينظر منها إلى ما ليس بعورة .
وثالثها : عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملاً حتى يعرفها عند الحاجة .
ورابعها : ينظر إليها عند تحمل الشهادة ، ولا ينظر إلى غير الوجه . فإن كان النظر لشهوة فهو محرم لقوله عليه السلام : « العينان تزنيان » .
وأما النظر إلى بدن الأجنبية فلا يجوز إلا في صور :
أحدها : يجوز للطبيب الأمين أن ينظر للمعالجة والختان ، ينظر إلى فرج المختون للضرورة .
وثانيها : أن يتعمد النظر إلى فرج الزانيين ليشهد على الزنا ، وكذلك ينظر إلى فرجها ليشهد على الولادة ، وإلى ثدي المرضعة ليشهد على الرضاع .
وقال بعض العلماء لا يجوز للرجل أن يقصد النظر في هذه المواضع ، لأن الزنا مندوب إلى ستره ، وفي الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء ، فلا حاجة إلى نظر الرجال .

وثالثها : لو وقعت في غرق أو حرق له أن ينظر إلى بدنها لتخليصها . فإن كانت الأجنبية أمة قيل : عورتها ما بين السرة والركبة .
وقيل : عورتها ما لا يبين في المهنة ، فخرج منه عنقها وساعدها ونحرها ولا يجوز لمسها ولا لها لمسه بحال إلا لحاجة ، لأن اللمس أقوى من النظر ، لأن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطره .
فصل
فإن كانت المرأة ذات محرم بنسب أو رضاع فعورتها مع الرجل المحرم كعورة الرجل مع الرجل . وقيل : عورتها ما لا يبدو عند المهنة ، وهو قول أبي حنيفة . وستأتي بقية التفاصيل - إن شاء الله تعالى - في تفسير الآية .
فصل
فإن كانت المرأة مستمتعة كالزوجة والأمة التي يحل وطؤها فيجوز للزوج والسيد أن ينظر إلى جميع بدنها حتى الفرج ، إلا أنه يكره النظر إلى الفرج وكذا إلى فرج نفسه ، لأنه يروى أنه يورث الطمس .
وقيل : لا يجوز ( النظر ) إلى فرجها ، ولا فرق فيه بين أن تكون الأمة قِنّ أو مدبرة أو أم ولد أو مرهونة .
فإن كانت مجوسية ، أو مرتدة ، أو وثنية ، أو مشتركة بينه وبين غيره ، أو مزوجة ، أو مكاتبة فهي كالأجنبية لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إذا زوَّج أحدُكُم جاريتَه عبدَه أو أجيره فعورته معها ما بين السرة والركبة » .
فصل
فأما عورة الرجل مع المرأة فلا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة ، ولا تكرير النظر إلى وجهه « لما روت أم سلمة أنَّها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونة ، إذ أقبل ابن أم مكتوم ، فقال : » احتجبَا عنه « فقالت : يا رسول الله ، أليس هو أعمى لا يبصرُنا؟ فقال عليه السلام : » أَفعمياوان أنْتُمَا؟ ألستما تبصرانه « ؟ . وإن كان محرماً لها فعورته ما بين السرة والركبة .
وإن كان زوجها أو سيدها الذي له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه ، غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها .
فصل
ولا يجوز للرجل أن يجلس عارياً في بيت خالٍ وله ما يستر عورته ، لأنه عليه السلام سئل عنه فقال : » الله أحق أن يُسْتَحيَى منه « وقال عليه السلام : » إيَّاكُمْ والتَّعَرِّي ، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله « .
قوله : » وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ « أي : عما لا يحل .
وقال أبو العالية : كلُّ ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا والحرام إلا في هذا الموضع فإنه أراد به الاستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه .
وهذا ضعيف ، لأنه تخصيص من غير دليل ، والذي يقتضيه الظاهر حفظ الفروج عن سائر ما حرم عليهما من الزنا واللمس والنظر .

قوله : { ذلك أزكى لَهُمْ } .
أي : غض البصر وحفظ الفرج أزكى لهم ، أي : خير لهم وأطهر { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } عليمٌ بما يفعلون .
قوله : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } الكلام فيه كما تقدم وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا ، والبلوى فيه أشد وأكثر ، ولا يكاد يقدر على الاحتراز منه .
قوله : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } أي : لا يظهرن زينتهن لغير محرم ، والمراد بالزينة : الخفية ، وهما زينتان : خفية وظاهرة . فالخفية : مثل الخلخال والخضاب في الرِّجْل ، والسوار في المعصم ، والقرط والقلائد ، فلا يجوز لها إظهارها ، ولا للأجنبي النظر إليها . والمراد بالزينة : موضع الزينة .
وقيل : المراد بالزينة : محاسن الخَلْق التي خلقها الله ، وما تزين به الإنسان من فضل لباس ، لأن كثيراً من النساء ينفردن بخَلْقِهِنَّ من سائر ما يُعَدُّ زينة ، فإذا حملناه على الخِلْقَة وفينا العموم حقه ، ولا يمنع دخول ما عدا الخِلْقة فيه ، ولأنَّ قوله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } يدل على أن المراد من الزينة ما يعم الخِلْقة وغيرها ، فكأنها تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقهن ، موجباً سترها بالخمار .
قوله : { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } . أما الذين حملوا الزينة على الخلقة فقال القفال : معنى الآية : إلا ما يظهره الإنسان في العادة ، وذلك من النساء : الوجه والكفان ، ومن الرجال : الوجه واليدان والرجلان ، فرخص لهم في كشف ما اعتيد كشفه ، وأدت الضرورة إلى إظهاره ، وأمرهم بستر ما لا ضرورة في كشفه . ولما كان ظهور الوجه والكفين ضرورة لا جرم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة .
وأما القدم فليس ظهوره ضرورياً فلا جرم اختلفوا فيه هل هو من العورة أم لا؟ والصحيح أنه عورة . وفي صوتها وجهان :
أصحهما ليس بعورة ، لأن نساء النبي - عليه السلام - كن يروين الأخبار للرجال .
وأما الذين حملوا الزينة على ما عد الخلقة ، قالوا : إنه تعالى إنما ذكر الزينة لأنه لا خلاف في أنه يحل النظر إليها حال ( انفصالها عن أعضاء المرأة ، فلما حرم الله النظر إليها حال ) اتصالها ببدن المرأة كان ذلك مبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة . وعلى هذا القول يحل النظر إلى زينة وجهها من الوَشمَة والغُمْرَة ، وزينة بدنها من الخضاب والخواتيم والثياب ، لأن سترها فيه حرج ، لأن المرأة لا بد لها من مزاولة الأشياء بيديها ، والحاجة إلى كشف وجهها للشهادة والمحاكمة والنكاح .
قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي : « الزينة الظاهرة التي استثنى الله الوجهُ والكفان » .
وقال ابن مسعود : هي الثياب ، لقوله تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [ الأعراف : 31 ] .
وقال الحسن : الوجه والثياب .
وقال ابن عباس : الكحْل والخاتم والخضاب في الكف . فما كان من الزينة الظاهرة يجوز للرجل الأجنبي النظر إليها إذا لم يخف فتنة وشهوة ، فإن خاف شيئاً منها غض البصر .

فصل
واتفقوا على تخصيص قوله : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } بالحرائر دون الإماء والمعنى فيه ظاهر ، لأن الأمة مالٌ ، فلا بد من الاحتياط في بيعها وشرائها ، وذلك لا يمكن إلا بالنظر إليها على الاستقصاء .
قوله : « وَلْيَضْرِبْنَ » . ضمن « يضْرِبْنَ » معنى « يُلْقِينَ » فلذلك عداه ب « على » . وقرأ أبو عمرو في رواية بكسر لام الأمر .
وقرأ طلحة : « بِخُمْرهنَّ » بسكون الميم . وتسكين « فَعْل » في الجمع أولى من تسكين المفرد . وكسر الجيم من « جِيُوبِهِنَّ » ابن كثير والأخوان وابن ذكوان .
والخُمُر : جمع خمار ، وفي القلة يجمع على أخْمِرة . قال امرؤ القيس :
3827- وَتَرَى الشَّجْراءَ فِي رِيِّقِهِ ... كَرُؤُوسٍ قُطِعَتْ فِيهَا الخُمُرْ
والجيب : ما في طوق القميص يبدو منه بعض الجسد .
فصل
قال المفسرون : إنَّ نساء الجاهلية كنَّ يُسْدِلْنَ خُمُرهن من خلفهن ، وإن جيوبهن كانت من قدام ، وكانت تنكشف نحورهن وقلائدهن ، فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتغطي بذلك أعناقهن ونحورهن .
قالت عائشة : رحم الله نساءَ المهاجرات الأُوَل ، لما أنزل الله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } شققن مروطهن فاختمرن بها .
قوله : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } يعني الزينة الخفية التي لم يبح لهنَّ كشفها في الصلاة ولا للأجانب ، وهو ما عد الوجه والكفين « إِلاَّ لِبُعولَتهنَّ » قال ابن عباس ومقاتل : يعني لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن { أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنة ، ولا ينظروا إلى ما بين السرة والركبة إلا الزوج فإنه يجوز له أن ينظر على ما تقدم ، وهؤلاء محارم .
فإن قيل : أيحل لذي المحرم في المملوكة والكافرة ما لا يحل في المؤمنة؟
فالجواب : إذا ملك المرأة من محارمه فله أن ينظر منها إلى بطنها وظهرها لا على وجه الشهوة فإن قيل : فما القول في العم والخال؟
فالجواب : أن الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر ، وهو قول الحسن البصري قال : لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع ، وهو كالنسب ، وقال في سورة الأحزاب { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ } الآية [ الأحزاب : 55 ] ولم يذكر فيها البعولة ، وقد ذكره هنا .
وقال الشعبي : إنما لم يذكرهما الله لئلا يصفها العم عند ابنه ، والخال كذلك .
والمعنى : أن سائر القرابات تشترك مع الأب والابن في المحرمية إلا العم والخال وابناهما ، وإذا رآها الأب وصفها لابنه وليس بمحرم ، وهذا من الدلالات البليغة في وجوب الاحتياط عليهن في النسب .
فصل
والسبب في إباحة نظر هؤلاء إلى زينة المرأة هو الحاجة إلى مداخلتهن ومخالطتهن واحتياج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار في النزول والركوب .
قوله : « أَوْ نِسَائِهِنَّ » .

قال أكثر المفسرين : المراد اللاَّئِي على دينهن .
قال ابن عباس : ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ، ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها .
وكتب عُمَر إلى أبي عبيدة أن تمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات . وقيل : المراد ب « نِسَائِهِنَّ » جميع النساء .
وهذا هو الأولى ، وقول السلف محمول على الاستحباب .
قوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } . وهذا يشمل العبيد والإماء ، واختلفوا في ذلك : فقال قوم : عبد المرأة مَحْرَم لها يجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفاً ، وأن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم ، وهو ظاهر القرآن ، وهو مروي عن عائشة وأم سلمة . « وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها ، وعلى فاطمة ثوب إذا قَنعْت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تلقى قال : » إنه ليس عليك بأس ، إنما هو أبوك وغُلامك « وعن مجاهد : » كنَّ أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم « . وكانت عائشة تمتشط والعبد ينظر إليها .
وقال ابن مسعود والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب : لا ينظر العبد إلى شعر مولاته . وهو قول أبي حنيفة .
وقال ابن جريج : المراد من الآية : الإماء دون العبيد ، وأن قوله : { أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أنه لا يحل لامرأةٍ مسلمة أن تتجرد بين امرأة مشركة إلا أن تكون تلك المشركة أمةً لها .
قوله : { أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال } .
قرأ ابن عامر وأبو بكر : » غَيْرَ « نصباً ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنه استثناء .
وقيل : على القطع ، لأن » التَّابِعِينَ « معرفة و » غَيْر « نكرة .
والثاني : أنه حال . والباقون : » غيرِ « بالجر نعتاً ، أو بدلاً ، أو بياناً .
والإِرْبَةُ : الحاجةُ . وتقدم اشتقاقها في » طه « .
( قوله : » مِنَ الرِّجَالِ « حال من » أُولِي « ) .
فصل
المراد ب { التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة } .
قال مجاهد وعكرمة والشعبي : هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم ، لا همة لهم إلا ذلك ، ولا حاجة لهم في النساء .
وعن ابن عباس : أنه الأحمق العنين .
وقال الحسن : » هو الذي لا ينتشر ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن « .
وقال سعيد بن جبير : المعتوه . وقال عكرمة : المجبوب . وقيل : هو المخنّث . وقال مقاتل : هو الشيخ الهم والعنِّين والخَصِيّ والمجبوب ونحوه .
واعلم أن الخَصِيّ والمجبوب ومن يشاكلهما قد لا يكون له إربة في نفس الجماع ، ويكون له إربة فيما عداه من التمتع ، وذلك يمنع من أن يكون هو المراد ، فيجب أن يحمل المراد على من لا إربة له في سائر وجوه التمتع لما روت عائشة قالت :

« كانَ رجلٌ مخنَّثٌ يدخل على أزواج - النبي صلى الله عليه وسلم - فكانوا يَعدُّونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً وهو عند بعض نسائه ، وهو ينعت امرأة فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمانٍ . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : » أَلاَ أرى هذا يعلم ما هَهُنا ، لا يَدْخُلَنَّ هَذا « فحجبوه » .
وفي رواية عن زينب بنت أم سلمة « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلَ عليها وعندها مخنَّث ، فأقبل على أخي أم سلمة ، فقال : » يا عبد الله ، إن فتح الله غداً لكم الطائف دللتك على بنت غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان « . فقال عليه السلام : » لا يدخُلَنَّ عليكم هذا « فأباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخول المخنث عليهن ، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهنَّ علم أنه من أولي الإربة ، فحجبه .
وفي الخَصِيّ والمجبوب ثلاثة أوجه :
أحدها : استباحة الزينة الباطنة .
والثاني : تحريمها .
( والثالث : تحريمها ) على المَخْصِيّ دون المجبوب .
قوله : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء } .
تقدم في الحج أن الطفل يطلق على المثنى والمجموع ، فلذلك وصف بالجمع .
وقيل : لما قصد به الجنس روعي فيه الجمع كقولهم : » أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَار الحمْر والدِّرْهَمُ البِيضُ « . و » عَورَاتِ « جمع عَوْرَةٍ ، وهو ما يريد الإنسان ستره من بدنه ، وغلب في السَّوأَتَيْن . والعامة على » عوْرات « بسكون الواو ، وهي لغة عامة العرب ، سكنوها تخفيفاً لحرف العلة . وقرأ ابن عامر في رواية » عَوَرَاتِ « بفتح الواو .
ونقل ابن خالويه أنها قراءة ابن أبي إسحاق والأعمش ، وهي لغة هذيل بن مدركة . قال الفراء : وأنشد في بعضهم :
3828- أَخُو بَيَضَاتٍ رائِحٌ مُتَأوِّبٌ ... رَفِيقٌ بمَسْحِ المَنْكبَيْنِ سَبوح
وجعلها ابنُ مجاهد لحناً وخطأ ، يعني : من طريق الرواة ، وإلا فهي لغة ثانية .
( فصل )
الظهور على الشيء يكون بمعنى العلم به ، كقوله تعالى : { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } [ الكهف : 20 ] أي : يشعروا بكم . ويكون بمعنى الغلبة عليه ، كقوله : » فَأَصْبَحُوا ظَاهِرينَ « .
فلهذا قال مجاهد وابن قتيبة : معناه : لم يطلعوا على عورات النساء ، ولم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر .
وقال الفراء والزجاج : لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء .
وقيل : لم يبلغوا حدّ الشهوة .
فصل
فأما المراهق فيلزم المرأة أن تستُر منه ما بين سرتها وركبتها ، وفي لزوم ستر ما عداه وجهان :
الأول : لا يلزم ، لأن القلم غير جار عليه .
والثاني : يلزم كالرجل ، لأنه مشتهى ، والمرأة قد تشتهيه ، واسم الطفل شامل له إلى أن يحتلم وأما الشيخ فإن بقيت له شهوة فهو كالشاب ، وإن لم تبق له شهوة ففيه وجهان :
أحدهما : أن الزينة الباطنة معه مباحة ، والعورة معه ما بين السرة والركبة .

والثاني : أن جميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة .
وههنا آخر الصور التي استثناها الله تعالى ، ( والرضاع كالنسب ) .
قوله : { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } .
قال ابن عباس وقتادة : كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجليها ليسمع قعقعة خلخالها ، فنُهِينَ عن ذلك؛ لأن الذي تغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعية له زائدة إلى مشاهدتهن ، وعلل تعالى ذلك بقوله : { لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } وفي الآية فوائد :
الأولى : لما نهي عن استماع الصوت الدال على وجود الزينة ، فلأن يدل على المنع من إظهار الزينة أولى .
الثانية : أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب ، إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة ( من صوت خلخالها ، ولذلك كرهوا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت ، والمرأة منهية عنه .
الثالثة : تدل على تحريم النظر إلى وجهها بشهوة ، لأن ذلك أقرب إلى الفتنة ) .
قوله تعالى : { وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَا المؤمنون } . قال ابن عابس : توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة . وقيل : تُوبُوا من التقصير الواقع منكم في أمره ونهيه . وقيل : راجعوا طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من الآداب المذكورة في هذه السورة .
قوله : « أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ » . العامة على فتح الهاء وإثبات ألف بعد الهاء ، وهي « ها » التي للتنبيه . وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف « يأَيُّهُ السَّاحِر » وفي الرحمن « أَيُّهُ الثقلان » بضم الهاء وصلاً ، فإذا وقف سكن .
ووجهها : أنه لما حذفت الألف لالتقاء الساكنين استحقت الفتحة على حرف خفي ، فضمت الهاء إتباعاً . وقد رُسِمَتْ هذه المواضع الثلاثة دون ألف ، فوقف أبو عمرو والكسائي بألف والباقون بدونها اتباعاً للرسمِ ، ولموافقة الخط للفظ . وثبتت في غير هذه المواضع حَمْلاً لها على الأصل نحو : « يَأَيُّهَا النَّاسُ » ، « يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » وبالجملة فالرسم سنة متبعة .

وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)

قوله تعالى : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } .
لما أمر تعالى بغض الأبصار وحفظ الفروج بيَّن بعده أن الذي أمر به إنما هو فيما لا يحل ، ثم ذكر بعد ذلك طريق الحِلّ فقال : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } . الأيامى : جمع أيِّم ب « زنة » : « فَيْعل » ، يقال منه : آم يَئيم كباع يبيع ، قال الشاعر :
3829- كُلُّ امْرِئٍ سَتَئيم مِن ... هُ العِرْسُ أَوْ مِنْهَا يَئِيمُ
وقياس جمعه : أَيائِم ، كسيِّد وسَيَائِد . و « أَيامى » فيه وجهان :
أظهرهما من كلام سيبويه أنه جمع على « فَعَالَى » غير مقلوب ، وكذلك « يَتَامَى » .
وقيل : إن الأصل « أَيَايم » و « يَتَايم » و « يَتِيم » ( فقلبا ) .
والأَيِّم : ( من لا زوج له ) ذكراً كان أو أنثى . قال النضر بن شميل : الأَيِّمُ في كلام العرب : كل ذكر لا أنثى معه ، وكل أنثى لا ذكر معها . وهو قول ابن عباس في رواية الضحاك ، يقول : زوجوا أياماكم بعضكم من بعض . وخصَّه أبو بكر الخفَّاف بمن فقدت زوجها ، فإطلاقه على البِكْر مجاز . وقال الزمخشري : « تأيَّما إذا لم يتزوجا بِكرين كانا أو ثيّبين » ، وأنشد :
3830- فَإِنْ تَنْكِحي أَنْكِح وإِنْ تَتَأَيَّمِي ... وَإِنْ كُنْتُ أَفْتَى مِنْكُم أَتَأَيَّمُ
وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اللَّهم إني أعوذ بك من العَيْمَة والغَيْمَة والأَيْمَة والكَرم والقَرَم » العَيْمة - بالمهملة : شدة شهوة اللبن . وبالمعجمة : شدة العطش . والأَيْمَة : طول العزبة . والكَرَم : شدة شهوة الأكل والقَرَم : شدة شهوة اللحم و « منكم » حال . وكذا « مِنْ عِبادكُمْ » .
فصل
قوله : « وَأَنكحوا » أمر ، وظاهر الأمر للوجوب ، فدلّ على أن الولي يجب عليه تزويج موليته ، ( وإذا ثبت هذا وجب ألا يكون النكاح إلا بولي ، لأن كل ما وجب على الولي حكم بأنه لا يصح من المولية ) ، ولأن المولية لو فعلت ذلك لفوَّتتْ على الولي تمكنه من أداء هذا الواجب ، وأنه غير جائز ، ولم تطابق قوله عليه السلام : « إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَزوِّجُوهُ ، إلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَة فِي الأَرْضِ » قال أبو بكر الرازي : هذه الآية وإن اقتضت الإيجاب ، إلا أنه أجمع السلف على أنه لا يراد الإيجاب ، ويدل عليه أمور :
أحدها : أنه لو كان ذلك واجباً لنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف مستفيضاً ، لعموم الحاجة إليه ، فلما علمنا أن سائر الأعصار كانت فيهم أيامى من الرجال والنساء ولم ينكروا ذلك ، ثبت أنه لم يرد الإيجاب .
وثانيها : أجمعنا على أن الأَيِّم الثيّب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه .
وثالثها : اتفاق الكل على أنه لا يجب على السيد تزويج أمته وعبده ، وهو معطوف على الأيامى ، فدل على أنه غير واجب في الجميع ، بل ندب في الجميع .

ورابعها : أن اسم الأَيَامَى يشمل الرجال والنساء ، وهو في الرجال ما أريد به الأولياء دون غيرهم ، كذلك في النساء .
والجواب : أن جميع ما ذكرته تخصيصات تطرقت إلى الآية ، والعام بعد التخصيص حجة ، فوجب إذا التمست المرأة الأيم من الولي التزويج وجب ، وحينئذ ينتظم الكلام .
فصل
الناس في النكاح قسمان :
الأول : من تتوقُ نفسُه للنكاح ، فيستحب له أن ينكح إن وجد أهبته سواء كان مقبلاً على العبادة أو لم يكن ، ولكن لا يجب ، وإن لم يجد أهبته يكسر شهوته بالصوم لقوله عليه السلام : « يَا مَعْشَرَ الشَّبابِ ، مَن اسْتَطَاعَ مِنْكُم البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأحْصَنُ للفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ » .
الثاني : من لا تتوق نفسه للنكاح ، فإن كان لعلة من كِبَر أو مرض أو عجز فيكره له ، لأنه يلتزم ما لا يمكنه القيام به ، وكذلك إذا كان لا يقدر على النفقة .
وإن لم يكن به عجز وكان قادراً على القيام بحقه لم يكره له النكاح ، لكن الأفضل أن يتخلّى للعبادة ، لأن الله تعالى مدح يَحْيَى بكونه « حَصُوراً » ، والحَصُور : الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهنّ ، ولا يقال : هو الذي لا يأتي النساء مع العجز؛ لأن مدح الإنسان بما يكون عيباً غير جائز ، وإذا كان مدحاً في حق يحيى وجب أن يشرع في حقنا ، لقوله تعالى : « فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ » ، ولا يحمل الهدى على الأصول ، لأن التقليد فيها غير جائز ، فوجب حَمْلُه على الفروع . وقال عليه السلام : « اعْلمُوا أَن خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاَةَ » وقال عليه السلام : « أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي قرَاءَةُ القُرْآنِ » وقال أبو حنيفة : النكاح أفضل لقوله عليه السلام : « أحبُّ المباحات إلى الله النكاح » لأن النكاح يتضمن صون النفس عن الزنا ، فيكون دفعاً للضرر عن النفس . والنافلة : جلب نفع . ودفع الضرر أولى من جلب النفع . وأجيب بأن يحمل الأحب على الأصلح في الدنيا ، لئلا يقع التناقض بين كونه أحبّ وبين كونه مباحاً . والمباح : ما يستوي طرفاه في الثواب والعقاب .
والمندوب : ما ترجّح وجوده على عدمه ، فتكون العبادة أفضل . وبقية المباحث مذكورة في كتب الفقه .
قوله : « مِنْكُم » أي : زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم .
وقيل : أراد الحرية والإسلام .
وقوله : { والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } ظاهره يقتضي الأمر بتزويج هذين الفريقين إذا كانوا صالحين . وخصَّ الصالحين بالذكر ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم ، ولأن الصالحين منهم هم الذين مواليهم يشفقون عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في المودَّة ، فكانوا مظنة للتوصية والاهتمام بهم . ومن ليس بصالح فحاله على العكس من ذلك .

وقيل : أراد الصلاح لأمر النكاح حتى يقوم العبد بما يلزم لها ، وتقوم الأمة بما يلزم للزوج . وقيل : أراد بالصلاح ألا تكون صغيرة لا تحتاج إلى النكاح .
فصل
ظاهر الآية يدل على أنّ العبد لا يتزوج نفسه ، وإنما يتولى تزويجه مولاه ، لكن ثبت بالدليل أنه إذا أمره بأن يتزوج جاز أن يتولى تزويج نفسه ، فيكون توليه بإذنه بمنزلة تولي السيد . فأما الإماء فإنَّ المولى يتولى تزويجهنَّ خصوصاً على قول من لا يجوِّز النكاح إلا بوليّ .
فصل
الولي شرط في صحة النكاح لقوله عليه السلام : « لاَ نِكَاحَ إلاَّ بِوَليّ » .
وقال عليه السلام : « أيُّمَا امرأةٌ نكحَتْ بغير إذن وليِّها فنكاحُها باطلٌ » ، فإن أصابها فلها المهر بما استحلَّ من فرجها ، فإن اشتجروا فالسلطان وليُّ ( من لا وليّ له ) . قوله : { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } الأصح أن هذا ليس وعداً بإغناء من يتزوج ، بل المعنى : لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم ، أو فقر من تريدون تزويجها ، ففي فضل الله ما يغنيهم ، والمال غادٍ ورائح ، وليس في الفقر ما يمنع من الرغبة في النكاح ، فهذا معنى صحيح ، وليس فيه أن الكلام قصد به وعد الغنى حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف . وروي عن قدماء الصحابة ما يدلّ على أن ذلك وعد ، فروي عن أبي بكر قال : « أطيعُوا اللَّهَ فيما أمركُم به من النكاح ينجز لكم ما وَعَدكُم من الغِنَى » . وعن عمر وابن عباس مثله . وشكى رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحاجة ، فقال : « عليك بالباءة » ، ويزيد الله في مروءتكم . فإن قيل : فنحن نرى من كان غنياً فتزوج فيصير فقيراً؟ فالجواب من وجوه :
أحدها : أن هذا الوعد مشروط بالمشيئة في قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ } [ التوبة : 28 ] والمطلق يحمل على المقيد .
وثانيها : أن اللفظ وإن كان عامّاً إلا أنه يخصّ بعض المذكورين دون البعض ، وهو في الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون بما يملكون .
وثالثها : المراد بالغنى : العفاف ، فيكون الغنى هنا معناه : الاستغناء بالنكاح عن الوقوع في الزنا .
فصل
استدل بعضهم بهذه الآية على أن العبد والأمة يملكان ، لأن ذلك راجع إلى كل من تقدم ، فاقتضى أن العبد قد يكون فقيراً وغنياً ، وذلك دل على الملك ، فثبت أنهما يملكان . والمفسرون تأولوه على الأحرار خاصة ، فقالوا : هو راجع إلى الأيامى ، وإن فسرنا الغنى بالعفاف سقط استدلالهم .
وقوله : { والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي يوسع عليهم من أفضاله ، « عَلِيمٌ » بمقادير ما يصلحهم من الإفضال والرزق .

وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)

قوله : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } الآية .
لما ذكر تزويج الحرائر والإماء ذكر حال من يعجز عن ذلك فقال : « وَلْيَسْتَعْفِفِ » أي : وليجتهد في العفة ، كأن المستعفف طالب من نفسه العفاف .
وقوله : { لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } أي : لا يتمكنون من الوصول إليه ، يقال : لا يجد المرء الشيء إذا لم يتمكن منه ، قال تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } [ النساء : 92 ] ويقال : هو غير واجد للماء ، وإن كان موجوداً ، إذا لم يمكنه أن يشتريه . ويجوز أن يراد بالنكاح : ما ينكح به من المال ، فبين تعالى أن من لا يتمكن من ذلك فليطلب التعفف ولينتظر أن يغنيه الله من فضله ثم يصل إلى بغيته من النكاح . فإن قيل : أفليس ملك اليمين يقوم مقام نفس النكاح؟
قلنا : لكن من لم يجد المهر والنفقة فبأن لا يجد ثمن الجارية أولى .
قوله تعالى : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ . . . } الآية لما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء مع الرق رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحراراً فيتصرفون في أنفسهم كالأحرار ، فقال : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } . يجوز في الذين الرفع على الابتداء ، والخبر الجملة المقترنة بالفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط .
ويجوز نصبه بفعل مقدر على الاشتغال ، كقولك : « زيداً فاضربه » وهو أرجح لمكان الأمر . والكتاب والكتابة كالعتاب والعتابة ، وفي اشتقاق لفظ الكتابة وجوه :
أحدها : أن أصل الكلمة من الكتب ، وهو الضم والجمع ، ومنه سميت الكتابة لأنها تضم النجوم بعضها إلى بعض ، وتضم ماله إلى ماله .
وثانيها : مأخوذ من الكتاب ، ومعناه : كتبت لك على نفسي ( أن تعتق إذا وفيت بمالي وكتبت لي على نفسي ) أن تفي لي بذلك ، أو كتبت عليك الوفاء بالمال ، وكتبت عليَّ العتق ، قاله الأزهري .
وثالثها : سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل بالمال المعقود عليه ، لأنه لا يجوز أن يقع على مال هو في يد العبد حين يكاتب ، لأن ذلك مال لسيده اكتسبه في حال ما كانت يد السيد غير مقبوضة عن كسبه ، فلا يجوز لهذا المعنى أن يقع هذا العقد حالاً ، بل يقع مؤجلاً ، ليكون متمكناً من الاكتساب . ثم من آداب الشريعة أن يكتب على من عليه المال المؤجل كتاب ، فلهذا المعنى سمي هذا العقد كتاباً لما فيه من الأجل ، قال تعالى : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [ الرعد : 28 ] .
فصل
قال بعض العلماء : الكتابة أن يقول لمملوكه : كاتبتك على كذا ، ويسمي مالاً معلوماً ، يؤديه في نجمين أو أكثر ، ويبين عدد النجوم ، وما يؤدي في كل نجم ، ويقول : إذا أديت ذلك المال فأنت حر ، أو ينوي ذلك بقلبه ، ويقول العبد : قبلت .
فإذا لم يقل بلسانه ، أو لم ينو بقلبه : إذا أديت ذلك فأنت حر ، لم يعتق .

وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه : لا حاجة إلى ذلك ، لأن قوله تعالى : « فَكَاتِبُوهُمْ » ليس فيه شرط ، فتصح الكتابة بدون هذا الشرط ، وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع . واحتج الأولون بأن الكتابة ليست عقد معاوضة محضة ، لأن ما في يد العبد ملك للسيّد ، والإنسان لا يبيع ملكه بملكه ، بل قوله : « كاتبتك » كناية في العتق ، فلا بد من لفظ التعليق أو نيته .
فصل
لا تجوز الكتابة الحالّة ، لأن العبد ليس له ملك يؤديه في الحال ، وإذا عقدت حالّة توجهت المطالبة عليه في الحال ، فإذا عجز عن الأداء لم يحصل العقد ، كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند المحل لا يصح ، بخلاف ما لو أسلم إلى معسر فإنه يجوز لأنه يتصور أن يكون له ملك في الباطن ، فالعجز لا يتحقق . وقال أبو حنيفة : تجوز لقوله تعالى « فكاتبوهم » ، وهو مطلق يتناول الكتابة الحالة والمؤجلة . وأيضاً فمال الكتابة بدل عن الرقبة ، فهو بمنزلة أثمان السلع المبيعة ، فتجوز حالة . وأيضاً فأجمعوا على جواز العتق مطلقاً على مال حال ، فالكتابة مثله لأنه بدل عن العتق في الحالين ، إلا أن في أحدهما العتق معلق على شرط العبادة وفي الآخر معجل ، فوجب أن لا يختلف حكمهما .
فصل
لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين ، لأنه يروى عن عليّ وعثمان وابن عمر ، روي أن عثمان غضب على عبده فقال : « لأضيقن عليك ، ولأكاتبنك على نجمين » ولو جاز على أقل من ذلك لكاتبه على الأقل ، لأن التضييق فيه أشد ، وإنما شرطنا التنجيم ، لأنه عقد إرفاق ، ومن شرط الإرفاق : التنجيم ليتيسر عليهم الأداء .
وقال أبو حنيفة : تجوز الكتابة على نجم واحد ، لأن ظاهر قوله : « كاتبوهم » ليس فيه تقييد .
فصل
يشترط أن يكون المكاتب بالغاً عاقلاً . فإن كان صبياً أو مجنوناً لم تصح كتابته لقوله تعالى : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } والابتغاء لا يتصور من الصبي والمجنون .
وقال أبو حنيفة : تجوز كتابة الصبي ، ويقبل عنه ( المولى ) .
فصل
ويشترط أن يكون السيد مكلفاً مطلقاً . فإن كان صبياً أو محجوراً عليه لسفه لم تصح كتابته ، كما لا يصح بيعه ، لأن قوله : « فَكَاتِبُوهُمْ » خطاب ، فلا يتناول غير المكلف .
وقال أبو حنيفة : تصحّ كتابة الصبيّ بإذن الوليّ .
فصل
اختلفوا في قوله تعالى : « فكاتبوهم » هل هو أمر إيجاب أو ندب؟ فقيل : أمر إيجاب ، فيجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا سأله ذلك بقيمته أو أكثر إذا علم فيه خيراً ، فإن سأله بدون قيمته لم يلزمه ، وهذا قول ابن دينار وعطاء ، وإليه ذهب داود بن عليّ ومحمد بن جرير لظاهر الآية ، وأيضاً فلأن سبب نزولها إنما نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له : « صبيح » سأل مولاه أن يكاتبه ، فأبى عليه ، فنزلت الآية ، فكاتبه على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً وروي أن عمر أمر أنساً بأن يكاتب سيرين ( أبا محمد بن سيرين ) فأبى ، فرفع عليه الدِّرَّة وضربه ، وقال : « فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْراً » وحلف عليه ليكاتبنه ، ولو لم يكن واجباً لكان ضربه بالدرة ظلماً ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، فجرى ذلك مجرى الإجماع .

وقال أكثر الفقهاء : إنه أمر استحباب ، وهو ظاهر قول ابن عباس والحسن والشعبي ، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد لقوله عليه السلام : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه » ولأنه لا فرق بين أن يطلب الكتابة أو يطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة ، فكما لا يجب ذلك فكذا الكتابة فإن قيل : كيف يصح أن يبيع ماله بماله؟
فالجواب : إذا ورد الشرع به جاز ، كما إذا علق عتقه على مال يكسبه فيؤديه أو يؤدى عنه صار سبباً لعتقه .
فإن قيل : هل يستفيد العبد بعقد الكتابة ما لا يملكه لولا الكتابة؟
فالجواب : نعم ، لأنه لو دفع إليه الزكاة قبل الكتابة لم يحل له أخذها ، وإذا صار مكاتباً حل له أخذها سواء أدى فعتق ، أو عجز فعاد إلى الرق . واستفاد أيضاً أن الكتابة تبعثه على الاجتهاد في الكسب ، ولولاها لم يكن ليفعل ذلك . ويستفيد المولى الثواب ، لأنه إذا باعه فلا ثواب ، وإذا كاتبه فالولاء له ، فورد الشرع بجواز الكتابة لهذه الفوائد .
قوله : { إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } قال عليه السلام : « إن علمتم لهم حرفة ، ولا تدعوهم كلاًّ على الناس » وقال ابن عمر : قوة على الكسب ، وهو قول مالك والثوري .
قال عطاء والحسن ومجاهد والضحاك : الخير : المال ، لقوله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْراً } [ البقرة : 180 ] أي : مالاً . قال عطاء : بلغني ذلك عن ابن عباس . ويروى أن عبداً لسلمان الفارسي قال له : كاتبني . قال : لك مال؟ قال : لا . قال : تريد أن تطعمني أوساخ الناس ولم يكاتبه . قال الزجاج : لو أراد به المال لقال : إنْ عَلِمْتُم لهم خيراً .
وأيضاً فلأن العبد لا مال له ، بل المال لسيده . وقال إبراهيم النخعي وبن زيد وعبيدة : صدقاً وأمانة . وقال طاوس وعمرو بن دينار : مالاً وأمانة .
وقال الحسن : صلاحاً في الدين . قال الشافعي : وأظهر معاني الخير في العبيد : الاكتساب مع الأمانة ، وأجاب ألا يمتنع من الكتابة إذا كان هكذا ، لأن مقصود الكتابة قلما يحصل إلا بهما ، فإنه ينبغي أن يكون كسوباً يحصل المال ، ويكون أميناً يصرفه في نجومه ولا يضيعه .
قوله : { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ } . قيل : هذا خطاب للموالي ، يجب على المولى أن يحط عن مكاتبه من مال الكتابة شيئاً ، وهو قول عثمان وعليّ والزبير وجماعة ، وبه قال الشافعي وهؤلاء اختلفوا في قدره : فقيل : يحط عنه ربع مال الكتابة ، وهو قول عليّ ، ورواه بعضهم عن عليّ مرفوعاً .

وعن ابن عباس : يحط الثلث . وقيل : ليس له حد ، بل يختلف بكثرة المال وقلته ، وهو قول الشافعي ، لأن ابن عمر كاتب غلاماً له على خمسة وثلاثين ألف درهم ، فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف درهم .
وقيل : يحط عنه قدراً يحصل الاستغناء به . قال سعيد بن جبير : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه ، مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته ، ووضع من آخر كتابته ما أحب . وكاتب عمر عبداً ، فجاءه بنجمه ، فقال : اذهب فاستغن على أداء مال الكتابة ، فقال المكاتب : لو تركته إلى آخر نجم فقال : إني أخاف ألا أدرك ذلك .
وقيل : هو أمر استحباب ، لقوله عليه السلام : « المكاتب عبد ما بقي عليه درهم » وقوله عليه السلام : « أيما عبد كاتب على مائة فأداها إلا عشرة فهو عبد » ولو كان الحط واجباً سقط عنه بقدره ، وأيضاً فلو كان الإيتاء واجباً لكان وجوبه معلقاً بالعقد ، فيكون العقد موجباً له ومسقطاً له ، وذلك محال لتنافي الإسقاط والإيجاب .
وأيضاً فلو كان الحط واجباً لما احتاج أن يضع عنه ، بل كان يسقط القدر المستحق ، كمن له على إنسان دين ، ثم لذلك الآخر على الأول مثله فإنه يصير قابضاً له . وأيضاً فلو كان واجباً لكان قدر الإيتاء إما أن يكون معلوماً أو مجهولاً ، فإن كان معلوماً وجب ألا تكون الكتابة بثلاثة أرباع المال على قول من يجعله الربع ، فيعتق إذا أدى ثلاثة آلاف إذا كان العقد على أربعة آلاف ، وذلك باطل ، لأن أداء جميعها شرط ، فلا يعتق بأداء البعض لقوله عليه السلام : « المكاتب عبد ما بقي عليه درهم » وإن كان مجهولاً صارت الكتابة مجهولة ، لأن الباقي بعد الحط مجهول ، فلا يصح ، كما لو كاتب عبده على ألف درهم إلا شيء .
وقال قوم : المراد بقوله : « وآتُوهُم » أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات بقوله : « وَفِي الرّقَابِ » وهو قول الحسن وزيد بن أسلم ، ورواية عطاء عن ابن عباس . وعلى هذا الخطاب لغير السادة ، لأنهم أجمعوا على أنه لا يجوز للسيد أن يدفع زكاته إلى مكاتبه . وقال الكلبي وعكرمة وإبراهيم : هو خطاب لجميع الناس ، وحث على معونة المكاتب ، لقوله عليه السلام : « من أعان مكاتباً في فك رقبته أطلقه الله في ظل عرشه » .
فصل
إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم . فقيل : يموت رقيقاً ، وترتفع الكتابة سواء ترك مالاً أو لم يترك ، كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع . وهو قول عمر وابن عمر وزيد بن ثابت ، وبه قال عمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد .

وقيل : إن ترك وفاء لما بقي عليه من الكتابة كان حراً ، وإن كان فيه فضل فالزيادة لأولاده الأحرار ، وهو قول عطاء وطاوس والنخعي والحسن ، وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي .
فصل
ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال ، لأن عتقه معلق بالأداء ، وقد وجد ، ويتبعه الأولاد والأكساب كما في الكتابة الصحيحة . ويفترقان في بعض الأحكام ، وهي أن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم ، ولا تبطل بموت المولى ، ويعتق بالإبراء من النجوم . والكتابة الفاسدة يملك المولى فسخها قبل أداء المال ، حتى لو أدى المال بعد الفسخ لا يعتق ، وتبطل بموت المولى ، ولا يعتق بالإبراء من النجوم . وإذا عتق المكاتب بأداء المال لا يثبت التراجع في الكتابة الصحيحة ويثبت في الكتابة الفاسدة ، فيرجع المولى عليه بقيمة رقبته ، وهو يرجع على المولى بما دفع إليه إن كان مالاً .
قوله تعالى : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء . . . } الآية لما بين ما يلزم من تزويج العبيد والإماء وكتابتهم أتبع ذلك بالمنع من إكراه الإماء على الفجور .
واعلم أن العرب تقول للمملوك : فتى ، وللمملوكة : فتاة ، قال تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ } [ الكهف : 62 ] وقال : « تُرَاوِدُ فَتَاهَا » وقال : { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ } [ النساء : 25 ] .
وقال عليه السلام : « ليقل أحدكم : فَتَاي وفَتَاتي ، ولا يقل : عَبْدِي وأَمَتِي » .
والبِغَاء : الزنا ، مصدر : بَغَتِ المَرْأَة تَبْغي بِغَاءً ، أي : زَنَتْ ، وهو مختص بزنا النساء .
فصل
قال المفسرون : نزلت في عبد الله بن أبيّ المنافق ، كان له ست جوار مُعَاذة ، ومُسَيْكة ، وأُمَيْمة ، وعَمْرَة ، وأَرْوَى ، وقتيلة ، يكرههن على البغاء ، وضرب عليهن ضرائب يأخذها ، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون إماءهم ، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين : فإن يكن خيراً فقد استكثرنا منه ، وإن كان شراً فقد آن لنا أن ندعه فشكيا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآية . وروي أنه جاءت إحدى الجاريتين يوماً ببرد ، وجاءت الأخرى بدينار ، فقال لهما : « ارجعا فازنيا » فقالتا : « والله لا نفعل وقد جاء الإسلام وحرم الزنا » فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشكيا إليه ، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - هذه الآية . وروي أن عبد الله بن أبيّ أسر رجلاً ، فأراد الأسير جارية عبد الله ، وكانت الجارية مسلمة ، فامتنعت الجارية لإسلامها ، فأكرهها سيدها على ذلك رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده ، فنزلت الآية . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : « جاء عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه جارية من أجمل النساء تسمى : معاذة ، وقال : يا رسول الله ، هذه لأيتام فلان ، أفلا نأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها . فقال عليه السلام : لا . فأعاد الكلام ، فنزلت الآية » .

فصل
الإكراه إنما يحصل بالتخويف بما يقتضي تلف النفس .
ومعنى قوله : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } أي : إذا أرَدْنَ ، وليس معناه الشرط ، لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردْن تحصناً ، كقوله عزَّ وجلَّ : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] أي : إذ كنتم مؤمنين . وقيل : إنما شرط إرادة التحصن ، لأن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن ، فإن لم تُرِد التحصن بغت طوعاً ، لأنه متى لم توجد إرادة التحصن لم تكن كارهة للزنا ، وكونها غير كارهة للزنا يمنع إكراهها ، فامتنع الإكراه لامتناعه في نفسه . وقيل : هذا الشرط لا مفهوم له ، لأنه خرج مخرج الغالب ، لأن الغالب أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن ، كما أن الخلع يجوز في غير حالة الشقاق ، ولكن لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق لا جرم لم يكن لقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ } [ البقرة : 229 ] ( مفهوم ) ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } [ النساء : 101 ] والقصر لا يختص بحال الخوف ، ولكنه أخرجه على الغالب ، فكذا ههنا . وقال بعض العلماء : في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصناً ولا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُم على البِغَاءِ لتبتغوا عرض الحياةِ الدُّنيا ، أي : لتطلبوا من أموال الدنيا ، يريد : من كسبهن وبيع أولادهن . والتحصن : التعفف .
قوله : { وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . أي : غفور رحيم للمكرهات ، والوزر على المُكْرِه ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : ( لهنَّ والله ) .
وقال ابن الخطيب : فيه وجهان :
أحدهما : غَفُوراً لَهُنَّ ، لأنّ الإكراه ( يُزِيلُ الإثم ) والعقوبة عن المكره فيما فعل .
والثاني : ( فإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم ) بالمكره بشرط التوبة . وهذا ضعيف لأنه يحتاج إلى الإضمار ، والأول لا يحتاج إليه . وفي هذا نظر ، لأنه لا بد من ضمير يعود على اسم الشرط عند الجمهور كما تقدم تحقيقه ( في البقرة ) .
قوله : « فإن الله » جملة وقعت جواباً للشرط ، والعائد على اسم الشرط محذوف ، تقديره : غَفُور لهم . وقدره الزمخشري في أحد تقديراته وابن عطية وأبو البقاء : فإن الله غفور لَهُنَّ ، أي : لِلْمُكرهات ، فعرِيَتْ جملة الجزاء عن رابط يربطها باسم الشرط ، ولا يقال : إن الرابط هو الضمير المقدر الذي هو فاعل المصدر؛ إذ التقدير : من بعد إكراههم لهُنّ ، فَلْيُكْتَفَ بهذا الرابط المقدر ، لأنهم لم يعدوا ذلك من الروابط ، تقول : هند عجبت من ضربها زيداً فهذا جائز ، ولو قُلْتَ : هند عجبت من ضربِ زيدٍ : أي : من ضربها ، لَمْ يَجُز ، لخلوها من الرابط وإن كان مقدراً . ولما قدر الزمخشري « لهن » أورد سؤالاً فقال : فإن قلت : لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن ، لأن المُكرهة على الزنا بخلاف المُكره غير آثمة . قلت : لَعَلَّ الإكراه غير ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل ، أو بما يُخَاف منه التلف ، أو فوات عضو حتى يسلم من الإثم ، وربما قصرت عن الحد الذي تُعذَرُ فيه فتكون آثمة .

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ } الآية .
لما ذكر الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاث :
أحدها : قوله : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ } أي : مفصلات . وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر : « مبيِّنات » بكسر الياء ، أي : أنها تبين للناس الحلال والحرام ، كقوله تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 195 ] وتقدم الكلام في « مُبَيّنَاتٍ » كسراً وفتحاً .
وثانيها : قوله : { وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ } . قال الضحاك : « يريد بالمثل ما في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود ، فأنزل في القرآن مثله » وقال مقاتل : « قوله : » وَمَثَلاً « أي : شبهاً من حالهم بحالكم في تكذيب الرسل » يعني : بينا لكم ما أحللنا بهم من العقاب لتمردهم على الله ، فجعلنا ذلك مثلاً لكم ، وهذا تخويف لهم ، فقوله : « ومثلاً » عطف على « آيات » أي : وأنزلنا مثلاً من أمثال الذين من قبلكم .
وثالثها : قوله : « وَمَوْعِظَة لِلْمُتقينَ » أي : الوعيد والتحذير ، ولا شك أنه موعظة للكل ، وخصَّ المتقين بالذكر لما تقدم في قوله : « هُدًى لِلْمتقينَ » .

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

قوله تعالى : { الله نُورُ السماوات والأرض } الآية . هذه جملة من مبتدأ وخبر ، إما على حذف مضاف ، أي : ذو نور السموات والمراد بالنور : عَدْلُهُ ، ويؤيد هذا قوله : « مَثَلُ نُورِهِ » وأضاف النور لهذين الظرفين إما دلالة على سَعَةِ إِشْرَاقِهِ ، وَفشُوّ إضاءته حتى تضيء له السمواتُ والأرضُ ، وإمَّا لإرادة أهل السموات والأرض ، وأنهم يَسْتَضِيئُونَ به . ويجوز أن يُبَالَغَ في العبادة على سبيل المدح كقولهم : فلان شَمْسُ البلادِ وقمرُها قال النابغة :
3831- فإِنَّك شَمْسٌسٌ والمُلُوكُ كَوَاكِبٌ ... إذَا ظَهَرتْ لم يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ
وقال ( آخر ) :
3832- قَمَرُ القَبَائِلِ خَالِدُ بن يزيد ... ويجوز أن يكون المصدر واقعاً اسم الفاعل ، أي : مُنَوِّرُ السَّمواتِ . ويؤيد هذا الوجهَ قراءة أمير المؤمنين وزيد بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي : « نَوَّر » فعلاً ماضياً ، وفاعله ضمير الباري تعالى ، « السموات » مفعوله ، وكَسْرُهُ نَصْبٌ ، و « الأَرْضُ » بالنصب نَسَقٌ عليه . وفَسَّرَهُ الحسنُ فقال : « اللَّهُ مُنوِّرُ السَّمواتِ » .
فصل
قال ابن عباس : هادي أهل السموات والأرض ، فهم بنوره إلى الحق يهتدون ، وبهداه من حيرة الضلالة ينجون . وقال الضحاك : منوِّر السموات والأرض ، يقال : نوّر الله السماء بالملائكة ونوّر الأرض بالأنبياء . وقال مجاهد : مدبر الأمور في السموات والأرض .
وقال أبي بن كعب والحسن وأبو العالية : مزَيّن السموات والأرض ، زين السماء بالشمس والقمر والنجوم ، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين . وقيل : بالنبات والأشجار . وقيل : معناه : الأنوار كلها منه ، كما يقال : فلان رحمة ، أي : منه الرحمة . وقد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح ، كقول القائل :
3833- إذا سارَ عبدُ اللَّهِ من مَرْوَ لَيْلَةً ... فقد سارَ منها نورُها وجمالُها
قوله : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ } مبتدأ وخبر ، وهذه الجملة إيضاحٌ وتفسيرٌ لِمَا قبلها ، فلا محلَّ لها ، وثمَّ مُضَاف محذوف ، أي : كَمَثَلِ مِشْكَاةٍ . قال الزمخشري : أي : صفةُ نُورِهِ العجيبةُ الشأنِ في الإضاءة « كَمِشْكَاةٍ » أي : كصفة ( مشكاة ) . واختلفوا في الضمير في « نُورِهِ » : فقيل : هو الله تعالى ، أي : مثل نور الله - عزَّ وجلَّ - في قلب المؤمن ، وهو النور الذي يهتدى به ، كما قال : { فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [ الزمر : 22 ] . وكان ابن مسعود يقرأ « مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ المُؤْمِن » وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : « مثل نوره الذي أعطى المؤمن » وعلى هذا المراد بالنور : الإيمان ، والآيات البيّنات .
وقيل : يعود على المؤمنين أو المؤمن ، أو من آمن به ، أي مثل نور قلب المؤمن . وكان أبيّ يقرأ بهذه الألفاظ كلها ، وأعاد الضمير على ما قرأ به . والمراد بالنور : الإيمان والقرآن لقوله تعالى : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [ المائدة : 15 ] يعني : القرآن .
وقال سعيد بن جبير والضحاك : الضمير يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يتقدم لهذه الأشياء ذِكْر .

وأما عوده على المؤمنين في قراءة أبيّ ، ففيه إشكال من حيث الإفراد . قال مكّيٌّ : يُوقَف على الأرض في هذه الأقوال الثلاثة .
وقيل : أراد ب « النور » الطاعة ، سمى طاعة الله نوراً ، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضيلاً .
فصل
واختلفوا في هذا التشبيه :
( هل هو ) تشبيه مركب ، أي : أنه قصد تشبيه جملة بجملة من غير نظر إلى مقابلة جزء بجزء ، بل قصد تشبيه هُدَاهُ وإتْقَانهُ صُنْعَتَهُ في كل مخلوق على الجملة بهذه الجملة من النور الذي يتخذونه ، وهو أبلغ صفات النور عندكم أو تشبيه غير مركب ، أي : قصد مقابلة جزء بجزء . ويترتب الكلام فيه بحسب الأقوال في الضمير في « نورِهِ » . و « المِشْكَاةُ » : الكُوَّةُ غير النَّافِذة . وهل هي عربية أم حبشيّة مُعَرَّبَةٌ؟ خلاف .
قال مجاهد : « هي القنديل » . وقيل : هي الحديدةُ أو الرَّصاصةُ التي يُوضع فيها الذُّبالُ ، وهو الفتيل ، ويكون في جوف الزجاجة .
وقيل : هي العمود الذي يوضع على رأسه المصباح . وقيل : ما يعلق منه القنديل من الحديدة . وأمال « المِشْكَاة » الدُّوري عن الكسائي لِتقدُّم الكسر وإن وُجِدَ فاصل ورُسِمَتْ بالواو ك « الزكوة » و « الصلواة » . والمصباح : السِّراج الضَّخم ، وأصله من الضوء ومنه الصبح . والزّجاجة : واحدة الزّجاج ، وهو جوهَر معروف ، وفيه ثلاث لغات : فالضم : لغة الحجاز ، وبها قرأ العامة . والكسر والفتح : لغة قيس . وبالفتح قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد . وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في رواية عنه ، وأبو رجاء . وكذلك الخلاف في قوله : « الزُّجَاجَةُ » . والجملة من قوله : « فِيهَا مِصْبَاح » صفة ل « مشكاة » ، ويجوز أن يكون الجار وحده هو الوصف ، و « مِصْبَاح » مرتفع به فاعلاً .
قوله : « دُرِّي » . قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال ، وياء بعدها همزة . وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياء بعدها همزة . والباقون بضم الدال وتشديد الياء من غير همز . وهذه الثلاثة في السبع . وقرأ زيد بن عليّ والضحاك وقتادة بفتح الدال وتشديد الياء . وقرأ الزهري بكسرها وتشديد الياء .
وقرأ أبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وقتادة أيضاً « دَرِّيءٌ » فتح الدال وياء بعدها همزة فأما الأولى فقراءة واضحة ، لأنه بِنَاءً كثيرٌ ، يوجد في الأسماء نحو : « سِكِّين » وفي الصفات نحو « سِكِّير » . وأما القراءة الثانية فهي من « الدرء » بمعنى : الدفع ، أي : يدفع بعضها بعضاً ، أو يدفع ضوؤها خفاءها .
قيل : ولم يوجد شيء وزنه « فُعِّيل » إلا « مُرِّيقاً » للعُصْفر ، و « سُرِّيّة » على قولنا : إنها من السّرور ، وأنه أبدل من إحدى المُضَعَّفَات ياء ، وأُدْغِمت فيها ياء « فُعِّيل » ، و « مُرِّيخاً » للذي في داخل القرن اليابس ، ويقال بكسر الميم أيضاً ، و « عُلِّية » و « دُرِّيءٌ » في هذه القراءة ، و « دُرِّيَّة » أيضاً في قولٍ ، وقال بعضهم : وزن « دريء » في هذه القراءة « فُعُّول » كسُبُّوح قُدُّوس فاستثقل توالي الضم فنُقِل إلى الكسر ، وهذا منقول أيضاً في « سُرِّيّة » و « دُرِّيّة » .

وأما القراءة الثالثة فتحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون أصلها الهمز كقراءة حمزة إلا أنه أُبدل من الهمز ياءً ، وأُدغِم ، فيتحد معنى القراءتين . ويحتمل أن تكون نسبة إلى الدُّرِّ لصفائها ، وظهور ( إشراقها ) .
وأما قراءة تشديد الياء مع فتح الدال وكسرها ، فالذي يظهر أنه منسوب إلى الدُّرّ . والفتح والكسر في الدال من باب تغييرات النسب . وأما فتح الدال مع المد والهمز ففيها إشكال .
قال أبو الفتح : وهو بناءٌ عزيز لم يُحْفَظ منه إلاّ السَّكِّينة بفتح الفاء وتشديد العين .
قال شهاب الدين : وقد حكى الأخفش فعلية السَّكِّينَة والوَقَار ، وكَوْكَبٌ دَرِّيءٌ من ( دَرَأْتُه ) . قوله : « تُوقَدُ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو « تَوَقَّدَ » بزنة « تَفَعَّلَ » فعلاً ماضياً فيه ضمير فاعله يعود على « المِصْبَاح » ، ولا يعود على « كَوْكَبٍ » لفساد المعنى . والأخوان وأبو بكر : « تُوقَدُ » بضم التاء من فوق وفتح القاف مضارع « أَوقَدَ » ، وهو مبني للمفعول ، والقائم مقام الفاعل ضمير يعود على « زُجَاجَة » فاستتر في الفعل . وباقي السبعة كذلك إلا أنه بالياء من تحت ، والضمير المستتر يعود « المِصْبَاح » . وقرأ الحسن والسُّلمي وابن مُحيصن ورُويَتْ عن عاصم من طريق المُفضَّل كذلك إلا أنه ضمَّ الدَّال ، جعله مضارع « تَوَقَّدَ » ، والأصل « تَتَوَقَّد » بتاءين فحذف إحداهما ك « تَتَذَكّر » ، والضمير أيضاً للزجاجة .
وقرأ عبد الله « وُقِّدَ » فعلاً ماضياً بزنة « قُتِّلَ » مشدداً ، أي : « المصْبَاحُ » وقرأ الحسن وسلام أيضاً « يَوَقَّدُ » بالياء من تحت وضم الدال مضارع « توقد » ، والأصل « يتوقد » بياء من تحت وتاء من فوق ، فحذف التاء من فوق ( و ) هذا شاذٌ ، إذ لم يَتَوال مِثلان ، ولم يَبْقَ في اللفظ ما يدل على المحذوف ، بخلاف « تَنَزَّلُ » و « تَذَكَّرُ » وبابه ، فإن فيه تاءين ، والباقي يدل على ما فُقِدَ . وقد يُتَمَحَّلُ لصحته وجه من القياس ، وهو أنهم قد حملوا « أَعِدُ » و « تَعِدُ » و « نَعِدُ » على « يَعِدُ » في حذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، فكذلك حملوا « يَتَوَقّدُ » بالياء والتاء على « تَتَوَقَّدُ » بتاءين وإن لم يكن الاستثقال موجوداً في الياء والتاء .

قوله : « مِنْ شَجَرَةٍ » مِنْ لابتداء الغاية ، وثمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : من زيت ( شَجَرَةٍ ) . و « زَيْتُونَةٍ » فيها قولان : أشهرهما : أنها بدل من « شَجَرَةٍ » .
الثاني : أنها عطف بيانٍ ، وهذا مذهب الكوفيين ، وتبعهم أبو علي . وتقدم هذا في قوله : { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } [ إبراهيم : 16 ] .
قوله : « لاَ شَرْقِيَّةٍ » صفة ل « شجرةٍ » ودخلت « لاَ » لتفيد النفي . وقرأ الضَّحَّاكُ بالرفع على إضمار مبتدأ ، أي : لاَ هِيَ شَرْقِيةٌ ، والجملة أيضاً في محل جر نعتاً ل « شَجَرَةٍ » . ( قوله : « يَكَادُ » هذه الجملة أيضاً نعت ل « شَجَرَةٍ » ) .
قوله : { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } جوابها محذوف ، أي : لأضاءت ، لدلالة ما تقدم عليه ، والجملة حالية . وتقدم تحرير هذا في قولهم : أعطوا السائل وَلَوْ جاء على فَرَسٍ . وأنها لاستقصاء الأحوال حتى في هذه الحالة . وقرأ ابن عباس والحسن : « يَمْسَسْهُ » بالياء ، لأن التأنيث مجازي ، ولأنه قد فصل بالمفعول أيضاً .
فصل في كيفية هذا التمثيل
قال جمهور المتكلمين : معناه : أن هداية الله قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات ، وصار ذلك بمنزلة المشكاة التي يكون فيها زجاجة صافية ، وفي الزجاجة مصباح ( يتّقد بزيت ) بلغ النهاية في الصفاء . فإن قيل : لم شبهه بذلك مع أن ضوء الشمس أعظم منه؟
فالجواب : أنه تعالى أراد أن يصف الضوء الكامل الذي يلوح وسط الظلمة ، لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات ( وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات ) وهذا المقصود لا يحصل من ضوء الشمس ، لأن ضوءها إذا ظهر امتلأ العالم من النور الخالص ، وإذا غاب امتلأ العالم من الظلمة الخالصة ، فلا جرم كان هذا المثل أليق وأوفق .
فصل
اعلم أن الأمور التي اعتبرها الله تعالى في هذه المثل توجب كمال الضوء .
فأولها : أن المصباح إذا لم يكن في المشكاة تفرقت أشعته ، أما إذا وضع في المشكاة اجتمعت أشعته فكانت أشد إنارة ، ويحقق ذلك أن المصباح ينعكس شعاعه من بعض جوانب الزجاجة إلى البعض ، لما في الزجاجة من الصفاء والشفافة ، فيزداد بسبب ذلك الضوء والنور ، والذي يحقق ذلك أن شعاع الشمس إذا وقع على الزجاجة الصافية تضاعف النور الظاهر ، حتى إنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك الضوء ، فإذا انعكست تلك الأشعة من كل جانب من جوانب الزجاجة إلى الجانب الآخر كثرت الأنوار والأضواء وبلغت النهاية .
وثانيها : أن ضوء المصباح يختلف بحسب اختلاف ما يتقد فيه ، فإذا كان الدهن صافياً خالصاً كانت حاله بخلاف حاله إذا كان كدراً ، وليس في الأدهان التي توقد ما يظهر فيه من الصفاء مثل الذي يظهر في الزيت ، فربما بلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض فيه وشعاع يتردد في أجزائه .

وثالثها : أن الزيت يختلف باختلاف شجرته ، فإذا كانت لا شرقية ولا غربية بمعنى أنها كانت بارزة للشمس ( في كل حالاتها يكون زيتونها أشد نضجاً ، فكان زيته أكثر صفاءً ، لأن زيادة تأثير الشمس ) تؤثر في ذلك ، فإذا اجتمعت هذه الأمور وتعاونت صار ذلك الضوء خالصاً كاملاً ، فيصلح أن يجعل مثلاً لهداية الله تعالى .
فصل
قال بعضهم : « هذه الآية من المقلوب والتقدير : مثل نوره كمصباح في مشكاة ، لأن المشبه به هو الذي يكون معدناً للنور ومنبعاً له ، وذلك هو المصباح لا المشكاة » .
فصل
قال مجاهد : « المِشْكَاة » : القنديل ، والمعنى : كمصباح في مشكاة . المصباح في زجاجة ، يعني : « القنديل » قال الزجاج : إنما ذكر الزجاجة لأن النور وضوء النار فيها أبين في كل شيء ، وضوؤه يزيد في الزجاج . ثم وصف الزجاجة فقال : { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } . والدَّرُّ : الدفع ، لأن الكواكب تدفعُ الشياطينَ من السماء . وشبيه حالة الدفع ، لأنه يكون في تلك الحالة أضوأ وأنور . وقيل : « دري » أي : طالع ، يقال : درى النجم : إذا طلع وارتفع ، ويقال : هو من درأ الكوكب : إذا اندفع منْقضاً فيضاعف ضوؤه في ذلك الوقت ) ( ويقال : درأ علينا فلان ، أي : طلع وظهر . وقيل : الدري أي ضخم مضى ، ودراري النجوم : عظامها . وقيل : الكوكب الدري واحد من الكواكب الخمسة العظام ، وهي : زحل ، والمريخ والمشتري ، والزهرة وعطارد . وقيل : الكواكب المضيئة كالزهرة والمشتري والثوابت التي في المعظم الأول . فإن قيل : لم شبهه بالكوكب ولم يشبهه بالشمس والقمر؟ .
فالجواب لأن الشمس والقمر يلحقها الخسوف ، والكواكب لا يلحقها الخسوف . « توقّد » يعني : المصباح ، أي : اتَّقَدَ . ويقال : توقدت النار ، أي : اتقدت ، يعني : نار الزجاجة ، لأن الزجاجة لا توقد . هذا على قراءة من ضم التاء وفتح القاف .
وأما على قراءة الآخرين ف « توقد » يعني المصباح { مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } أي : من زيت شجرة مباركة ، فحذف المضاف بدليل قوله : { يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء } . وأراد بالشجرة المباركة : الزيتون وهي كثيرة البركة والنفع : لأن الزيت يسرج به وهو أضوأ وأصفى الأدهان ، وهو إدام وفاكهة ، ولا يحتاج في استخراجه إلى عصار ، بل كل أحد يستخرجه . وقيل : أول شجرة نبتت بعد الطوفان ، وبارك فيها سبعون نبياً منهم الخليل . وجاء في الحديث أنه مصحة من الباسور ، وهي شجرة تورق من أعلاها إلى أسفلها . وقال عليه السلام : « كُلُوا الزَّيْتَ وادهنُوا بِهِ فإِنَّهُ من شَجَرة مُبَارَكةٍ » .
وقيل : المراد زيتون الشام ، لأنه في الأرض المباركة فلهذا جعل الله هذه الشجرة بأنها { لا شرقية ولا غربية } واستدلوا على ذلك بوجوه :
أحدها : أن الشام وسط الدنيا ، فلا توصف شجرتها بأنها شرقية أو غربية .

وهذا ضعيف ، لأن من قال : « الأرض كرة » لم يثبت للمشرق والمغرب موضعين معينين ، بل لكل بلد مشرق ومغرب على حدة ، لأن المثل مضروب لكل من ( يعرف ، الزيت ) وقد ) يوجد في غير الشام كوجوده فيه .
وثانيها : قال الحسن : « لأنها من شجر الجنة ، إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية » . وهذا أيضاً ضعيف ، لأنه تعالى إنما ضرب المثل بما شاهدوه ، وهم ما شاهدوا شجر الجنة .
وثالثها : أنها شجرة يلتف بها ورقها التفافاً شديداً ، ولا تصل الشمس إليها سواء كانت الشمس شرقية أو غربية ، وليس في الشجر ما يورق غصنه من أوله إلى آخره مثل الزيتون والرمان . وهذا أيضاً ضعيف ، لأن الغرض صفاء الزيت ، وذلك لا يحصل إلا بكمال نضج الزيتون ، وذلك إنما يحصل في العادة بوصول أثر الشمس إليه لا بعدم وصوله .
ورابعها : قال ابن عباس : « المراد الشجرة التي تبرز على جبل عال ، أو صحراء واسعة ، فتطلع الشمس عليها حالتي الطلوع والغروب » . وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة .
وقال الفراء والزجاج : « لا شرقية وحدها ولا غربية وحدها ، ولكنها شرقية غربية ، كما يقال : فلان لا مسافر ولا مقيم ، إذا كان يسافر ويقيم ، أي : تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها ، فتكون شرقية غربية تأخذ حظها من الأمرين ، فيكون زيتها أضوأ ، كما يقال : فلان ليس بأسود ولا أبيض ، يريد : ليس بأسود خالص ولا بأبيض خالص ، بل اجتمع فيه الأمران ، وهذا الرمان ليس بحلو ولا حامض ، أي : اجتمع فيه الحلاوة والحموضة » .
وهذا هو المختار ، لأن الشجرة إذا كانت كذلك كان زيتها في نهاية الصفاء ، وحينئذ يكون مقصود التمثيل أتم . وقيل : المراد ب « المِشْكَاة » صدر محمد ، ( و « الزجاجة » قلب محمد ) و « المصباح » ما في قلب محمد من الدين ، { يوقد من شجرة } يعني : { واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ النساء : 125 ] والشجرة : إبراهيم ، ثم وصف إبراهيم بقوله : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } أي : لا يصلي قبل المشرق ولا قبل المغرب كاليهود والنصارى ، بل كان عليه السلام يصلي إلى الكعبة ، ثم قال : { يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } لأن الزيت إذا كان خالصاً ثم رئي من بعيد يرى كأن له شعاعاً ، فإذا مسته النار ازْدَاد ضَوءاً على ضوئه كذلك .
قال ابن عباس : « يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه العلم ازداد نوراً على نور ، وهدى على هدى » . وقال الضحاك : « يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي » . قال عبد الله بن رواحة :
3834- لَوْ لَمْ تَكُنْ فيه آياتٌ مبينةٌ ... كانتْ بديهتُه تُنْبِيكَ بالخَبر

وقال محمد بن كعب القرظي : المشكاة : إبراهيم ، والزجاجة : إسماعيل والمصباح محمد - صلى الله عليه وسلم - سماه الله مصباحاً كما سماه سراجاً فقال « وسراجاً منيراً » { يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } وهي إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وسماه مباركاً ، لأن أكثر الأنبياء من صلبه { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } أي لم يكن إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ، ولكن كان حنيفاً ، لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق { يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } يكاد محاسن محمد - صلى الله عليه وسلم - تظهر للناس من قبل أن يوحى إليه ، { نُّورٌ على نُورٍ } نبي من نسل نبي ( نور محمد على نور إبراهيم ) .
قوله : { نُّورٌ على نُورٍ } خبر مبتدأ مضمر أي : ذلك نور ، و « عَلَى نُورٍ » صفة ل « نُورٌ » . والمعنى : أن القرآن نور من الله - عزَّ وجلَّ - لخلقه مع ما أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن ، فازدادوا بذلك نوراً على نور . { يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } .
قال ابن عباس : « لدين الإسلام ، وهو نور البصيرة » . وقيل : القرآن . ( قال إن المؤمن يتقلب في خمسة أنوار : قوله نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصير إلى نور ) . واستدل أهل السنة بهذه الآية على صحة مذهبهم فقالوا : « إنه تعالى بعد أن بين أن هذه الدلائل التي بلغت في الظهور والوضوح إلى هذا الحد الذي لا يمكن الزيادة عليه ، قال : » يَهْدِي اللَّهُ « بإيضاح هذه الأدلة { لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } أي : وضوح هذه الدلائل لا يكفي ولا ينفع ما لم يخلق الله الإيمان » .
قوله : { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ } يبين الله الأشباه للناس ، أي : للمكلفين ، تقريباً لأفهامهم ، وتسهيلاً لنيل الإدراك .
{ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } وهذا كالوعيد لمن لا يعتبر ولا يتفكر في أمثاله ، ولا ينظر في أدلته فيعرف وضوحها وبعدها عن الشبهات . قالت المعتزلة : قوله تعالى { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ } ذكره في معرض النعمة ، وإنما يكون نعمة عظيمة لو أمكنكم الانتفاع به وتقدم جوابه .

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)

قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ } الآية .
واعلم أن قوله : « فِي بُيُوتٍ » يقتضي محذوفاً يكون فيها ، وذكروا فيه ستّة أوجه :
أحدها : أن قوله : « في بُيُوتٍ » صفة ل « مِشْكَاةٍ » أي كَمِشْكَاةَ في بُيُوتٍ ، أي : في بيتٍ من بُيُوت الله .
( الثاني : أنه صفة ل « مصباح » ) وهذا اختيار أكثر المحققين .
واعترض عليه أبو مسلم بن بحر الأصفهاني من وجهين :
الأول : أن المقصود من ذكر « المصباح » المثل ، وكون المصباح في بيت أذن الله لا يزيد في هذا المقصود ، لأن ذلك لا يزيد المصباح إنارة وإضاءة .
والثاني : أن الذي تقدم ذكره في وجوه يقتضي كونه واحداً ، كقوله : « كَمشْكَاةٍ » وقوله : « فيهَا مِصْبَاحٌ » وقوله : « فِي زُجَاجَةٍ » وقوله : { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } [ النور : 35 ] ، ولفظ « البُيُوت » جمع ، ولا يصح كون هذا الواحد في كل البيوت .
وأجيب عن الأول : أن المصباح الموضوع في الزجاجة الصافية إذا كان في المساجد كان أعظم وأضخم ، فكان أضوأ ، فكان التمثيل به أتم وأكمل .
وعن الثاني : أنه لما كان القصد بالمثل هذا الذي له هذا الوصف فيدخل تحته كل مشكاة فيها مصباح في زجاجة يتوقد من الزيت ، فتكون الفائدة في ذلك أن ضوءه يظهر في هذه البيوت بالليالي عند الحاجة إلى عبادة الله تعالى ، كقوله : « الذي يصلح لخدمتي رجل يرجع إلى علم وقناعة يلزم بيته » لكان وإن ذكر بلفظ الواحد ، فالمراد النوع ، فكذا ههنا .
الثالث : أنه صفة ل « زجاجة » . .
الرابع : أنه يتعلق ب « يُوقَدُ » أي : يُوقَد في بيوت ، والبيوت هي المساجد قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : المساجد بيوت الله في الأرض ، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض . وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على « عَلِيمٌ » .
الوجه الخامس : أنه متعلق بمحذوف كقوله : { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } [ النمل : 12 ] أي : سبحوه في بيوت .
السادس : أنه متعلق ب « يُسَبِّحُ » أي : يسبح رجال في بيوت ، و « فيهَا » تكرير للتوكيد كقوله : { فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا } [ هود : 108 ] وعلى هذين القولين فيوقف على « عَلِيمٌ » .
قوله : « أَذِنَ اللَّهُ » في محل جر صفة ل « بُيُوت » ، و « أَنْ تُرْفَع » على حذف الجار ، أي : في أن ترفع . ولا يجوز تعلق « فِي بُيُوتٍ » بقوله : « وَيُذْكرَ » لأنه عُطِفَ على ما في حيز « أَنْ » وما بعد « أن » لا يتقدم عليها .
فصل
قال أكثر المفسرين : المراد ب « البيوت » ههنا : المساجد .

وقال عكرمة : هي البيوت كلها . والأول أولى ، لأن في البيوت ما لا يوصف بأن الله أذن أن ترفع ، وأيضاً فإن الله تعالى وصفها بالذكر والتسبيح والصلاة ، وذلك لا يليق إلا بالمساجد . ثم القائلون بأنها المساجد قال بعضهم : بأنها أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي : الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة . وبيت المقدس بناه داود وسليمان - عليهما السلام - ومسجد المدينة بناه النبي - عليه السلام - ومسجد قباء أسس على التقوى بناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله ابن بريدة . وعن الحسن أن ذلك بيت المقدس يسرج فيه عشرة آلاف قنديل . وهذا تخصيص بغير دليل .
وقال ابن عباس : المراد جميع المساجد كما تقدم .
قوله : « أَنْ تُرفَعَ » . قال مجاهد : تبنى كقوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت } [ البقرة : 127 ] ، وهو مرويّ عن ابن عباس . وقال الحسن والزجاج : تُعَظَّم وتُطَهَّر عن الأنجاس ولغو الأفعال . وقيل : مجموع الأمرين { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه } .
قال ابن عباس : يتلى فيها كتابه . وقيل : عام في كل ذكر { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا } .
قرأ ابن عامر وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعول ، والقائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثَّلاث ، والأَوْلَى منها بذلك الأَوَّل ، لاحتياج العامل إلى مرفوعه ، فالذي يليه أولى ، و « رِجَالٌ » على هذه القراءة مرفوع على أحد وجهين : إمَّا بفعل مُقدَّر لتعذّر إسناد الفعل إليه ، وكأنَّه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ ، كأنه قيل : « مَنْ يُسَبِّحُهُ » ؟ فقيل : « يُسَبِّحُهُ رجالٌ » ، وعليه في أحد الوجهين قول الشاعر :
3835- ليُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لخُصُومةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيح الطَّوَائِح
كأنه قيل : من يَبْكيه؟ فقيل : يَبْكيه ضارعٌ ، إلاَّ أَنَّ في اقتباس هذا خلافاً : منهم من ( جَوَّزهُ وقاس ) عليه : « ضُرِبَتْ هندٌ زيدٌ » أي : ضَرَبَهَا زيدٌ . ومنهم من مَنَعهُ .
والوجه الثاني في البيت أن « يَزِيدُ » منادى حذف منه حرفُ النِّداء ، أي : ما يزيد وهو ضعيفٌ جداً .
الثاني : أن « رِجَالٌ » خبر مبتدأ محذوف ، أي : المُسَبِّحةٌ رجالٌ .
وعلى هذه القراءة يوقف على « الآصالِ » . وباقي السبعة بكسر الباء مبنياً للفاعل ، والفاعلُ « رِجَالٌ » فلا يوقف على « الآصَالِ » . وقرأ ابن وثَّاب وأبو حَيْوَة « تُسَبِّحُ » بالتاء من فوق ، وكسر الباء ، لأن جمع التكسير يُعَامَل معاملة المؤنث في بعض الأحكام ، وهذا منها . وقرأ أبو جعفر كذلك إلاَّ أنه فتح ( الباء ) . وخرَّجَها الزمخشري على إسناد الفعل إلى « الغُدُوّ والآصَالِ » على زيادة الباء ، كقولهم : « صيد عليه يومان » ( والمراد : وحشهما ) . وخرَّجها غيره على أن القائم مقام الفاعل ضمير التَّسبيحة ، أي : تُسَبِّح التَّسبيحَةُ على المجاز المُسَوّغ لإسناده إلى الوقتين ، كما خرجوا قراءة أبي جعفر أيضاً : « لِيُجْزَى قَوْماً » أي : « لِيُجْزَى الجَزَاء قَوْماً » ، بل هذا أولى من آية الجاثية ، إذ ليس هنا مفعول صريح .

فصل
اختلفوا في هذا التسبيح . فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة ، وهؤلاء منهم من حمله على صلاة الصبح والعصر ، فقال : كانتا واجبتين في بدء الحال ثم زيد فيهما ، وقال عليه السلام : « من صلى صلاة البردين دخل الجنة » وقيل : أراد الصلوات المفروضة ، فالتي تؤدى بالغداة صلاة الفجر ، والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشائين لأن اسم الأصيل يجمعهما ، و « الآصال » جمع أَصيل ، وهو العشي .
وإنما وحد « الغدو » لأنه مصدر في الأصل لا يجمع ، و « الأَصيل » اسم فجمع .
قال الزمخشري : « بالغدو ، أي بأوقات الغد ، أي بالغدوات » .
وقيل : صلاة الضحى ، قال عليه السلام : « من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهِّر ، فأجره كأجر الحاجِّ المُحْرم ، ومن مشى إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المُعْتَمِر ، وصلاةٌ على إثر صلاة لا لَغْوَ بينهما كتاب في عِلِّيِّين » وقال ابن عباس : « إنّ صلاة الضحى لفي كتاب الله ( مذكورة ) ( وتلا هذه ) الآية . وقيل : المراد منه تنزيه الله تعالى عما لا يليق به في ذاته وفعله؛ لأنه قد عطف على ذلك الصلاة والزكاة فقال : { عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة } . وهذا الوجه أظهر .
وقرئ : » بالغدو والإيصَالِ « وهو الدخول في الأصل .
قوله : » لا تُلْهِيهِمْ « في محل رفع صفة ل » رِجَالٌ « . ( و ) خص الرجال بالذكر في هذه المساجد ، لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد . » لاَ تُلْهِيهِمْ « : تشغلهم ، » تِجَارَةٌ « قيل : خص التجارة بالذكر ، لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة والطاعات .
قال الحسن : أما والله إنهم كانوا يتجرون ، ولكن إذا جاءتهم فرائض الله لم يلههم عنها شيء ، فقاموا بالصلاة والزكاة . فإن قيل : البيع داخل في التجارة ، فلم أعاد البيع؟ فالجواب من وجوه :
الأول : أن التجارة جنس يدخل تحته أنواع الشراء والبيع ، وإنما خص البيع بالذكر لأن الالتهاء به أعظم ، لكون الربح الحاصل من البيع معين ناجز ، والربح الحاصل من الشراء مشكوك مستقبل .
الثاني : أن البيع تبديل العرض بالنقدين ، والشراء بالعكس ، والرغبة في تبديل النقد أكثر من العكس .
الثالث : قال الفراء : التجارة لأهل الجَلْب ، يقال : تجر فلان في كذا : إذا جلب من غير بلده ، والبيع ما باعه على يديه .
الرابع : أراد بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعاً ، لأنه ذكر البيع بعده كقوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً } [ الجمعة : 11 ] يعني : الشراء .
قوله : { عَن ذِكْرِ الله } عن حضور المساجد لإقامة الصلاة . فإن قيل : فما معنى قوله : » وَإقَامِ الصَّلاَةِ؟ « فالجواب قال ابن عباس : المراد بإقامة الصلاة : إقامتها لمواقيتها ، لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة .

ويجوز أن يكون قوله : « الصَّلاَة » تفسيراً لذكر الله ، فهم يذكرون قبل الصلاة .
قال الزجاج : وإنما حذفت الهاء ، لأنه يقال : أقمت الصلاة إقامة ، وكان الأصل : إقواماً ، ولكن قُلِبَت الواو ألفاً ، فاجتمعت ألفان ، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فبقي : أقَمْتُ الصلاة إقاماً ، فأدخلت الهاء عوضاً عن المحذوف ، وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة وهذا إجماع من النحويين .
فصل
المراد : الصلوات المفروضة لما روى سالم ( عن ) ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة ، فقام الناس وأغلقوا حوانيتهم ، فدخلوا المسجد ، فقال ابن عمر : فيهم نزلت هذه الآية : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة } .
وقوله : « وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ » يريد : المفروضة . قال ابن عباس : إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها . وروي عن ابن عباس أيضاً : المراد من الزكاة : طاعة الله والإخلاص . وهذا ضعيف لأنه تعالى علق الزكاة بالإيتاء ، وهذا لا يحتمل إلا ما يعطى من حقوق المال . قوله : « يخَافُونَ يَوْماً » يجوز أن يكون نعتاً ثانياً ل « رِجَالٌ » ، وأن يكون حالاً من مفعول « تُلْهِيهِمْ » و « يَوْماً » مفعول به لا ظرف على الأظهر ، و « تَتَقَلَّبُ » صفة ل « يَوْماً » .
قوله : { تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار } : تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشرك والكفر وتنفتح الأبصار من الأغطية بعد أن كانت مطبوعة عليها لا تبصر ، وكلهم انقلبوا من الشك إلى اليقين ، كقوله : { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } [ الزمر : 47 ] وقوله : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] . وقيل : تتقلب القلوب تطمع في النجاة وتخشى الهلاك ، وتتقلب الأبصار من أي ناحية يؤخذ أمن ناحية اليمين أم من ناحية الشمال؟ ومن أي ناحية يعطون كتابهم ، أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال؟
والمعتزلة لا يرضون بهذا التأويل ، لأنهم قالوا : إن أهل الثواب لا خوف عليهم البتة ، وأهل العقاب لا يرجون العفو . وقيل : إن القلوب تزول من أماكنها فتبلغ الحناجر ، والأبصار تصير زرقاً . وقيل : تقلب البصر : شخوصه من هول الأمر وشدته .
( وقال الجبائي : تقلب القلوب والأبصار ) : تغير هيئاتها بسبب ما ينالها من العذاب . قال : ويجوز أن يريد به تقليبها على جمر جهنم كقوله : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] .
قوله : « لِيَجْزِيَهُمْ » . يجوز تعلقه ب « يُسَبِّحُ » أي : يُسَبِّحون لأجل الجزاء .
ويجوز تعلقه بمحذوف ، أي : فعلوا ذلك ليجزيهم . وظاهر كلام الزمخشري أنه من باب الإعمال ، فإنه قال : والمعنى : يُسبِّحونَ وَيَخَافُونَ ( لِيَجْزيهمْ « ) . ويكون على إعمال الثاني للحذف من الأول .

وقوله : { أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } أي : ثواب أحسن ، أو أحسن جزاء ما عملوا ، و « ما » مصدرية ، أو بمعنى الذي ، أو نكرة .
فصل
المراد بالأحسن : الحسنات أجمع ، وهي الطاعات فرضها ونفلها . قال مقاتل : إنما ذكر الأحسن لأنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم ، بل يغفرها لهم .
وقيل : يجزيهم جزاء أحسن ما عملوا على الواحد عشر إلى سبعمائة . ثم قال : { وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ } أي : ما لم يستحقوه بأعمالهم . فإن قيل : هذا يدل على أن لفعل الطاعة أثر في استحقاق الثواب ، لأنه تعالى ميز الجزاء عن الفضل ، وأنتم لا تقولون بذلك ، فإن عندكم العبد لا يستحق على ربه شيئاً؟ قلنا : نحن نثبت الاستحقاق بالوعد ، فذلك القدر هو الذي يستحق ، والزائد عليه هو الفضل . ثم قال : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وذلك تنبيه على كمال قدرته ، وكمال جوده ، وسعة إحسانه ، فكأنه تعالى لما وصفهم بالجد والاجتهاد في الطاعة ، وهم مع ذلك في نهاية الخوف ، فالحق سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

قوله تعالى : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } الآية .
لما بيَّن حال المؤمن أنه في الدنيا يكون في النور ، وبسببه يكون متمسكاً بالعمل الصالح ثم بين أنه يكون في الآخرة فائزاً بالنعيم المقيم والثواب العظيم ، أتبع ذلك ببيان أن الكافر يكون في الآخرة في أشد الخسران ، وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات ، وضرب لكل واحد منهما مثلاً ، أما المثل الدال على حسرته في الآخرة فقوله : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } .
قال الأزهري : « السَّرَابُ : ما يتراءى للعين وقت الضحى في الفلوات شبيهاً بالماء الجاري وليس بماء ، ولكن الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماء جارياً ، يقال : سَرَبَ الماءُ يَسْرُبُ سُرُوباً : إذَا جرى ، فهو سَارِبٌ » . وقيل : السَّرَابُ : مَا يَتَرَاءَى للإنْسَانِ في القَفْرِ في شِدَّةِ الحَرِّ مِمَّا يُشْبهُ المَاءَ . وقيل : مَا يَتَكَاثَفُ مِنْ قُعُورِ القيعَانِ . قال الشاعر :
3836- فَلَمَّا كَفَفْت الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهم ... كَلَمْع سَرَابٍ في الفَلاَ مُتَألِّقِ
يضرب به المَثَلُ لمن يَظُنُّ بشيءٍ خيراً فَيُخْلَفُ ظَنُّهُ . وقيل : هو الشُّعَاعُ الذي يُرَى نِصْفَ النَّهَارِ في شدة الحَرِّ في البراري ، يُخَيَّلُ للناظر أنه الماء السَّارِبُ ، أي : الجاري ، فإذا قرب منه لم ير شيئاً . والآل : ما ارتفع من الأرض وهو شعاع يرى بين السماء والأرض بالغدوات شبه المَلاَة يرفع الشخوص ، يرى فيها الصغير كبيراً ، والقصير طويلاً .
والرَّقْرَاقُ : يكون بالعشايا . وهو ما ترقرق من السراب ، أي : جاء وذهب .
قوله : « بِقِيعَةٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلِّق بمحذوف على أنه صفة ل « سَرَابٍ » .
والثاني : أنه ظرف ، والعامل فيه الاستقرار العامل في كاف التشبيه .
والقيعة : بمعنى القاع ، قاله الزمخشري ، وهو المُنْبَسِطُ من الأرض ، وتقدم في « طه » .
وقيل : بل هي جمعه ك « جَارٍ وَجيرَة » قاله الفراء . وقرأ مسلمة بن محارب بتاء ( ممطوطة ) ، وروي عنه بتاء شَكل الهاء ، ويقف عليها بالهاء ، وفيها أوجه :
أحدها : أن يكون بمعنى « قيعة » كالعامة ، وإنَّما أشبع الفتحة فتولَّد منها ألف كقوله : مُخرنبقٌ لينباع . قاله صاحب اللوامح .
والثاني : أنه جمع : « قيعة » وإنَّما وقف عليها بالهاء ذهاباً به مذهب لغة طيئ في قولهم : « الإخْوَه والأخَوَاه » و « دَفْنُ البَنَاه من المَكْرُماه » أي : والأخوات ، والبنات ، والمكرمات . وهذه القراءة تؤيد أن « قيعة » جمع قاع .
قال الزمخشري : وقد جعل بعضهم « بِقِيعَاة » بتاء مدوَّرة ك « رجل عِزْهَاةٍ » .
فظاهر هذا أنه جعل هذا بناء مستقلاً ليس جمعاً ولا إشباعاً .
قوله : « يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ » جملة في محل الجر صفة ل « سَرَابٍ » أيضاً ، وحَسُنَ ذلك لتقدم الجار على الجملة ، هذا إن جعلنا الجارَّ صفةً والضمائر المرفوعة في « جَاءَهُ » ، وفي « لَمْ يَجِدْهُ » وفي « وَجَدَ » ، والضمائر في « عِنْدَهُ » وفي « وَفَّاهُ » وفي « حِسَابَهُ » كلها ترجع إلى « الظَّمْآن » لأن المراد به الكافر المذكور أولاً ، وهذا قول الزمخشري وهو حسن .

وقيل : بل الضميران في « جَاءَهُ » و « وَجَدَ » عائدان على « الظَّمْآن » ، والباقية عائدة على الكافر . وإنما أفرد الضمير على هذا وإن تقدمه جمع ، وهو قوله : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا » حَمْلاً على المعنى؛ إذ المعنى : كلُّ واحدٍ من الكفار .
والأول أولى لاتِّساق الضمائر . وقرأ أبو جعفر ، ورُويَتْ عن نافع : « الظَّمَانُ » بإلقاء حركة الهمزة على الميم .
فصل
قال الزجاج : « ( الظَّمْآن ) قد تخفف همزته ، وهو الشديد العطش ، ثم وجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر إن كان من أفعال البر فهو لا يستحق عليه ثواباً مع أنه يعتقد أن له ثواباً عليه ، وإن كان من أفعال الإثم فهو يستحق عليه العقاب مع أنه يعتقد أنه ثواباً ، فكيف كان فهو يعتقد أن له ثواباً عند الله تعالى ، فإذا وافى عرصة القيامة ولم يجد الثواب ، بل وجد العقاب العظيم عظمت حسرته وتناهى غمه ، فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى الشراب ويتعلق قلبه به ، ويرجو به النجاة ، فإذا جاءه وأيس مما كان يرجوه عظم ذلك عليه » . قال مجاهد : « السراب : عمل الكافر وإتيانه إياه موته ومفارقة الدنيا » .
فإن قيل : قوله : { حتى إِذَا جَآءَهُ } يدل على كونه شيئاً ، وقوله : { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } مناقض له؟
فالجواب من وجوه :
الأول : معناه : لم يجد شيئاً نافعاً ، كما يقال : فلان ما عمل شيئاً ، وإن كان قد اجتهد .
الثاني : « إذا جَاءَهُ » أي : جاء موضع السراب لم يجد السراب ، لأن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء ، فإذا قرب منه رق وانتشر وصار كالهواء .
قوله : { وَوَجَدَ الله عِندَهُ } أي : وجد عقاب الله عنده الذي توعد به الكافر .
وقيل : وجد الله عنده ، أي : عند عمله ، أي وجد الله بالمرصاد .
وقيل : قدم على الله « فَوَفَّاهُ حِسَابه » أي : جزاء عمله . قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام .
قوله : { والله سَرِيعُ الحساب } لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فلا يشق عليه الحساب .
وقال بعض المتكلمين : « معناه : لا تشغله محاسبة أحد عن آخر كنحن ، ولو كان يتكلم بآلة كما تقول مشبهة لما صح ذلك » .
قوله تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ } هذا مثل آخر ضربة الله تعالى لأعمال الكفار ، وفي هذا العطف أوجه :
أحدها : أنه نسقٌ على « كَسَرَابٍ » على حذف مضاف واحد ، تقديره : أو كَذِي ظُلُمَاتٍ ، ودل على هذا المضاف قوله : { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف .

وهو قول أبي علي .
الثاني : أنه على حذف مضافين ، تقديره : أو كَأَعْمَالٍ ذِي ظُلُمَاتٍ فَيُقَدَّر « ذي » ليصح عود الضمير إليه في قوله : { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ } ويقدر « أَعْمَال » ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة ، إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمة .
الثالث : أنه لا حاجة إلى حذف البتَّة ، والمعنى : أنه شَبَّهَ أعمالَ الكُفَّارِ في حَيْلُولَتِهَا بين القلب وما يهتدي به بالظلمة .
وأما الضميران في « أَخْرَجَ يَدَهُ » فيعودان على محذوف دلَّ عليه المعنى ، أي : إذا أخرج يده من فيها و « أَوْ » هنا للتنويع لا للشك . وقيل : بل هي للتخيير ، أي : « شَبهُوا أعمالهم بهذا أو بهذا . وقرأ سفيان بن حسين : » أوَ كَظُلُمَاتٍ « بفتح الواو ، جعلها عاطفة دخلت عليها همزة الاستفهام التي معناها التقرير ، وقد تقدم ذلك في قوله : { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى } [ الأعراف : 98 ] . قوله : { فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } : » في بَحْر « صفة ل » ظُلُمَاتٍ « فيتعلق بمحذوف . واللُّجِيُّ : منسوبٌ إلى » اللُّجِّ « وهو مُعْظَمُ البحر قاله الزمخشري .
وقال غيره : منسوب إلى اللُّجَّةِ بالتاء ، وهي أيضاً معظمه . فاللُّجّيّ : هو العميق الكثير الماء ، وفيه لغتان : كسر اللام ، وضمها .
قوله : » يَغْشَاه موجٌ « صفة أخرى ل » بَحْرٍ « هذا إذا أعدنا الضمير في » يَغْشَاهُ « على » بَحْرٍ « وهو الظاهر . وإن قدَّرنا مضافاً محذوفاً ، أي : » أَو كَذِي ظُلُمَاتٍ « كما فعل بعضهم كان الضمير في » يَغْشَاهُ « عائداً عليه ، وكانت الجملة حالاً منه لتخصيصه بالإضافة ، أو صفة له . قوله : { مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ } يجوز أن تكون هذه جملة من مبتدأ وخبر صفة ل » مَوْجٍ « الأول ويجوز أن يجعل الوصف الجار والمجرور فقط ، و » مَوْجٌ « فاعل به ، لاعتماده على الموصوف ، قوله : { مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } فيه الوجهان المذكوران قبله من كون الجملة صفة ل » مَوْجٍ « الثاني ، أو الجار فقط .
قوله : » ظُلُمَاتٌ « . قرأ العامة بالرفع ، وفيه وجهان :
أجودهما : أن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره : هذه أو تلك ظلمات .
الثاني : أن يكون » ظُلُمَاتٌ « مبتدأ ، والجملة من قوله : { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } خبره ، ذكره الحوفي وفيه نظر ، لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة ، اللهم إلا أن يقال : إنها موصوفة تقديراً ، أي : ظلمات كثيرة متكاثفة ، كقولهم : » السمن منوان بِدِرْهم « .
وقرأ ابن كثير : » ظُلُمَاتٍ « بالجر ، إلا أنَّ البزِّي روى عنه حينئذ حذف التنوين من » سَحَابُ « فقرأ البَزِّيُّ عنه : » سَحَابُ ظُلُمَاتٍ « بإضافة » سَحَابُ « ل » ظُلُمَاتٍ « .

وقرأ قُنْبُل عه التنوين في « سَحَابٌ » كالجماعة مع جره ل « ظُلُمَاتٍ » . فأما رواية البزِّي فقال أبو البقاء : جَعَلَ المَوْجَ المُتَرَاكم بمنزلة السحاب . وأما رواية قنبل فإنه جعل « ظُلُمَاتٍ » بدلاً من « ظُلُمَاتٍ » الأولى .
قوله : { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } جملة من مبتدأ وخبر في موضع رفع أو جر على حسب القراءتين في « ظُلُمَاتٍ » قبلها لأنها صفة لها . وجوَّز الحوفي على قراءة رفع « ظُلُمَاتٍ » في « بَعْضُها » أن تكون بدلاً من « ظُلُمَاتٌ » ورد عليه من حيث المعنى ، ( إذ المعنى ) على الإخبار بأنها ظلمات ، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض وصفاً لها بالتَّراكم ، لا أنَّ المعنى أنَّ بعض تلك الظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلماتٌ متراكمة .
وفيه نظرٌ ، إذ لا فرق بين قولك : بعض الظلمات فوق بعضٍ ، وبين قولك : الظلماتُ بعضُهَا فوق بعض ، وإن تُخُيِّل ذلك في بادئ الرأي .
قوله : { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } . تقدم الكلام في « كاد » وأنَّ بعضهم زعم أنَّ نَفْيَهَا إثباتٌ وإثباتها نفيٌ ، وتقدمت أدلة ذلك في البقرة عند قوله : { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] .
وقال الزمخشري هنا : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } مبالغة في ( لَمْ يَرَهَا ) أي : لم يَقْرُب أن يَرَاهَا فَضلاً ( عن ) أن يراها ، ومنه قوله ذي الرمة :
3837- إذَا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ ... رَسِيسُ الهَوَى مِنَ حُبِّ مَيَّة يَبْرَحُ
أي : لم يَقْرُبْ مِنَ البِرَاحِ فَمَا بَالُهُ يَبْرحُ . وقال أبو البقاء : اختلف الناس في تأويل هذا الكلام ، ومنشأ الاختلاف فيه أنَّ موضوع « كَادَ » إذا نفيت وقوع الفعل ، وأكثر المفسرين على أن المعنى : أنه لا يرى يَدَهُ ، فعلى هذا في التقدير ثلاثة أوجه :
أحدها : أن التقدير : لَمْ يَرَهَا وَلَمْ يَكَدْ ، ذكره جماعةٌ من النحويين ، وهذا خطأ لأن قوله : « لَمْ يَرَهَا » جَزْمٌ بنفي الرؤية ، وقوله : « لَمْ يَكَدْ » إذا أخرجها على مقتضى الباب كان التقدير : وَلَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ، كما هو مُصَرَّحٌ به في الآية ، فإن أراد هذا القائل أنه لم يكد يراها وأنه يراها بعد جَهْدٍ ، تناقض ، لأنه نفى الرؤية ثم أثبتها .
وإن كان معنى { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } لم يَرَها البتَّة على خلاف الأكثر في هذا الباب فينبغي أن يحمل عليه من غير أن يقدِّر « لَمْ يَرَهَا » .
الوجه الثاني : قال الفراء : إن ( كَادَ ) زائدة . وهو بعيد .
الثالث : أن « كَادَ » خرِّجت هاهنا على معنى « قَارَبَ » والمعنى : لم يُقَارِب رؤيتها ، وإذا لم يُقَارِبها بَاعَدَها ، وعليه جاء قول ذي الرمة في البيت المتقدم ، أي : لم يقارب البراح ، ومن هنا حكي عن ذي الرُّمة أنه لما روجع في هذا البيت قال : ( لم أجِد ) بدل ( لَمْ يَكَدْ ) .

والمعنى الثاني : أنه رآها بعد جَهد ، والتشبيه على هذا صحيح ، لأنه مع شدة الظلمة إذا أحدَّ نظره إلى يده وقرَّبها من عينه رآها انتهى .
أما الوجه الأول وهو ما ذكره أن قول الأكثرين ( إنه يكون نَفْيُها إثباتاً ، فقد تقدم أنه غير صحيح ، وليس هو قول الأكثر ) وإنما غرّهم في ذلك آية البقرة ، وما أنشد بعضهم :
3838- أَنَحْوِيَّ هَذَا العَصْرِ مَا هِيَ لَفْظَةٌ ... البيتين .
وأما ما ذكره من زيادة « كاد » فهو قول أبي بكر وغيره ، ولكنه مردود عندهم .
وأما ما ذكره من المعنى الثاني ، وهو أنه رآها بعد جهد ، فهو مذهب الفراء والمبرد . والعجب كيف يعدل عن المعنى الذي أشار إليه الزمخشري ، وهو المبالغة في نفي الرؤية .
وقال ابن عطية ما معناه : إذا كان الفعل بعد « كاد » منفيًّا دلَّ على ثبوته ، نحو : « كاد زيد لا يقوم » ، أو مثبتاً دلَّ على نفيه ، نحو : « كاد زيد يقوم » وتقول : « كَادَ النَّعام يَطِير » فهذا يقتضي نفي الطيران عنه ، فإذا قلت : « كاد النعام ألا يطير » وجب الطيران له ، وإذا تقدم النفي على « كاد » احتمل أن يكون موجباً وأن يكون منفياً ، تقول : « المفْلُوجُ لا يكاد يَسْكُنُ » فهذا يتضمَّن نفي السكون ، وتقول : « رجل مُنْصَرِفٌ لا يكاد يَسْكُنُ » فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جَهْدٍ .
فصل
اعلم أن الله تعالى بين أنَّ أعمال الكفار إن كانت حسنةً فمثلها السراب ، وإن كانت قبيحةً فهي الظلمات ، وفيه وجه آخر ، وهو أن أعمالهم إما كسراب بقيعة وذلك في الآخرة ، وإما كظلمات في بحر وذلك في الدنيا . وقيل : إن الآية الأولى في ذكر أعمالهم ، وأنهم لا يَحْصلون منها على شيء ، والآية الثانية في ذكر عقائدهم ، فإنها تشبه الظلمات ، كما قال : ( { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } ) [ البقرة : 257 ] أي : من الكفر إلى الإيمان ، يدل عليه قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } .
فصل
وأما تقرير المثل فهو أن البحر اللجي يكون قعره مظلماً جداً بسبب غور الماء ، فإذا ترادفت عليه الأمواج ازدادت الظلمة ، فإذا كانت فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى ، فالواقع في قعر هذا البحر اللُّجِّيّ في نهاية شدة الظلمة . ولما كانت العادة في اليد أنها من أقرب ما يراها ، وأبعد ما يظن أنه لا يراها ، فقال تعالى : { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } فبين سبحانه بهذا بلوغ تلك الظلمة التي هي أقصى النهايات ، ثم شبه الكافر في اعتقاده ، وهو ضد المؤمن في قوله تعالى : { نُّورٌ على نُورٍ } [ النور : 35 ] وفي قوله : { يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم }

[ الحديد : 12 ] . ولهذا قال أبي بن كعب : الكافر يتقلب في خمس من الظلم : كلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره إلى الظلمات إلى النار .
وفي كيفية هذا التشبيه وجوه :
الأول : قال الحسن : « إن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات ظلمة البحر ، وظلمة الأمواج ، وظلمة السحاب ، كذا الكافر له ظلمات ثلاث : ظلمة الاعتقاد ، وظلمة القول ، وظلمة العمل » .
الثاني : قال ابن عباس : « شبه قلبه وسمعه وبصره بهذه الظلمات الثلاث » .
الثالث : أن الكافر لا يدري ، ولا يدري أنه لا يدري ، ويعتقد أنه يدري ، فهذه المراتب الثلاثة تشبه تلك الظلمات الثلاث .
الرابع : قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم .
الخامس : أن هذه الظلمات متراكمة ، فكذا الكافر لشدة إصراره على كفره قد تراكمت عليه الضلالات حتى لو ذكر عنده أظهر الدلائل لم يفهمه .
قوله : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } .
قال ابن عباس : من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً فلا دين له . وقيل : من لم يهده الله ( فلا إيمان له ) ولا يهديه أحد . قال أهل السنة : إنه تعالى لما وصف هداية المؤمن بأنها في نهاية الجلاء والظهور عقبها بأن قال : { يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } [ النور : 35 ] ، ولما وصف ضلالة الكافر بأنها في نهاية الظلمة عقبه بقوله : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } . والمراد من ذلك أن يعرف الإنسان أن ظهور الدلائل لا يفيد الإيمان ، وظلمة الطريق لا تمنع منه ، فإن الكل مربوط بخلق الله وهدايته وتكوينه .
قال القاضي : قوله : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً } يعني في الدنيا بالإلطاف { فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } أي : لا يهتدي فيتحير ، وتقدم الكلام عليه .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض } الآية .
لما وصف أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد .
والمعنى : ألم تعلم ، لأن التسبيح لا يرى بالبصر بل يعلم بالقلب ، وهذا استفهام والمراد به : التقرير والبيان . قال ابن الخطيب : « إما أن يكون المراد من هذا التسبيح دلالته بخلق هذه الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص ، موصوفاً بنعوت الجلال ، أو يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه وفي حق الباقين النطق باللسان .
والأول أقرب ، لأن القسم الثاني متعذر ، لأن في الأرض من لا يكون مكلفاً لا يسبح بهذا المعنى والمكلفون منهم فمن لا يسبح أيضاً بهذا المعنى كالكفار .
وأما القسم الثاني وهو أن يقال : إن من في السموات وهم الملائكة يسبحون باللسان وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح على سبيل الدلالة ، فهذا يقتضي استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً ، وهو غير جائز ، فلم يبق إلا القسم الأول ، وهو أن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله تعالى وقدرته وإلاهيته وتوحيده وعدله ، فسمى ذلك تنزيهاً توسعاً . فإن قيل فالتسبيح بهذا المعنى حاصل بجميع المخلوقات فما وجه تخصيصه هاهنا بالعقلاء؟ قلنا : لأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه ، لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر ، وهي العقل والنطق والفهم » .
قوله : « والطَّيرُ » . قرأ العامة : « والطّيْر » رفعاً ، « صَافَّاتٍ » نصباً . فالرفع عطف على « مَنْ » والنصب على الحال . وقرأ الأعرج : « والطَّيْرَ » نصباً على المفعول معه على الابتداء والخبر ، ومفعول « صَافَّات » محذوف ، أي : أجنحتها .
قوله : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ } في هذه الضمائر أقوال :
أحدها : أنَّها كلَّها عائدةٌ على « كُلٌّ » ، أي : كلٌّ قد عَلِمَ هُوَ صَلاَةَ نَفْسِهِ وتَسْبِيحَهَا ، وهذا أولى لتوافق الضمائر .
الثاني : أن الضمير في « عَلِمَ » عائد إلى الله تعالى ، وفي « صَلاَتَهُ وتَسْبِيحَهُ » عائد على « كُلٌّ » ، ويدل عليه قوله تعالى : { والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } .
الثالث : بالعكس ، أي : عَلِمَ كلٌّ صلاةَ اللَّه وتَسْبِيحَه ، أي : اللذين أمَرَ بهما وبأن يُفْعَلاَ ، كإضافة الخلق إلى الخالق ، وعلى هذا فقوله : « واللَّه علِيمٌ » استئناف .
ورَجَّحَ أبو البقاء ألاَّ يكون الفاعل ضمير « كُلٌّ » قال : « لأنَّ القراءة برفع » كُلٌّ « على الابتداء فيرجع ضمير الفاعل إليه ، ولو كان فيه ضمير الله لكان الأولى نصب ( كُلّ ) لأن الفعل الذي بعدها قد نصب ما هو من سببها فيصير كقولك : ( زَيْداً ضَرَبَ عَمْرٌو وغُلاَمه ) فتنصب ( زيداً ) بفعل دلَّ عليه ما بعده ، وهو أقوى من الرفع ، والآخر جائز » .

قال شهاب الدين : وليس كما ذكر من ترجيح النصب على الرفع في هذه الصُّورة ولا في هذه السورة ، بل نصَّ النحويون على أنَّ مثل هذه الصورة يرجَّح رفعها بالابتداء على نصبها على الاشتغال ، لأنه لم يكن ثمَّ قرينة من القرائن التي جعلوها مرجحةً للنصب ، والنصب يحوجُ إلى إضمار ، والرفع لا يحوج إليه ، فكان أرجح . وقرأت فرقة : { عُلِمَ صَلاَتُهُ وتَسْبِيحُهُ } بالرفع وبناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله . ذكرها أبو حاتم .
فصل
وجه اتصال هذا بما قبله أنه تعالى لما ذكر أن أهل السموات والأرض يسبحون ، ذكر المستقرين في الهواء الذي هو بين السماء والأرض ، وهم الطير يسبحون ، وذلك أن إعطاء الجرم الثقيل القوة التي بها يقوى على الوقوف في جو السماء صافة باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط من أعظم الدلائل على قدرة الصانع المدبر سبحانه ، وجعل طيرانها سجوداً منها له سبحانه ، وذلك يؤيد أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأمور على التنزيه ( لا النطق ) اللساني . وقال أبو ثابت : « كنت جالساً عند أبي جعفر الباقر فقال لي : أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها؟ ( قال : لا ) قال : فإنهن يقدسن ربهن ويسألنه قوت يومهن » . واستبعد المتكلمون ذلك فقالوا : الطير لو كانت عارفة بالله لكانت كالعقلاء الذين يفهمون كلامنا وإشارتنا ، لكنها ليست كذلك ، فإنا نعلم بالضرورة بأنها أشد نقصاناً من الصبي الذي لا يعرف هذه الأمور ، فبأن يمتنع ذلك فيها أولى ، وإذا ثبت أنها لا تعرف الله استحال كونها مسبحة له بالنطق ، فثبت أنها لا تسبح الله إلا بلسان الحال كما تقدم . قال بعض العلماء : إنا نشاهد من الطيور وسائر الحيوانات أعمالاً لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء ، وإذا كان كذلك ( فلِمَ لا ) يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه؟ وبيان أنه سبحانه ألهمها الأعمال اللطيفة من وجوه :
أحدها : أن الدب يرمي بالحجارة ويأخذ العصا ويرمي الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه ، وربما عاود يشمه ويتحسس نفسه ويصعد الشجر أخف صعود ويهشم الجوز بين كفيه تعريضاً بالواحد وصدمة بالأخرى ، ثم ينفخ فيه فيدرأ قشره ويتغذى به ، ويحكى عن الفأر في سرقته أمور عجيبة .
وثانيها : أمر النحل وما لها من الرياسة والبيوت المسدسة التي لا يتمكن من بنائها أفاضل المهندسين .
وثالثها : انتقال الكَرَاكِيّ من طرف من أطراف العالم إلى الطرف الآخر طلباً لما يوافقها من الأهوية ، ويقال : من خواص الخيل أن كل واحد يعرف صوت الفرس الذي قابله وقتاً ما ، والفهد إذا سقي أو شرب من الدواء المعروف بخانق الفهد عمد إلى زبل الإنسان ليأكله ، والتماسيح تفتح أفواهها لطائر يقع عليها يقال له : القطقاط وينظف ما بين أسنانها ، وعلى رأس ذلك الطائر كالشوكة ، فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطير تأذى من تلك الشوكة ، فيفتح فاه ، فيخرج ذلك الطائر ، والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية صعتراً جبلياً ثم تعود من ذلك .

وحكى بعض الثقاة المجربين للصيد أنه شاهد الحبارى تقاتل الأفعى وتنهزم عنه إلى بقلة تتناول منها ثم تعود ، ولا تزال كذلك ، وكان ذلك الشخص قاعداً في كن ، وكانت البقلة قريبة من مسكنه ، فلما اشتغل الحبارى قلع البقلة ، فعاد الحبارى إلى منبتها فلم يجدها ، وأخذ يدور حول منبتها دوراناً متتابعاً حتى خَرَّ ميتاً ، فعلم الشخص أنه يعالج بأكلها من اللسعة ، وتلك البقلة هي الجرجير البري .
وابنُ عِرْس يستظهر في الحية أكل السّذَاب ، فإن النكهة السذابية تنفر عنها الأفعى .
والكلاب إذا دودت بطونها أكلت سنبل القمح . وإذا جرحت اللقالق بعضها بعضاً داوت الجراحة بالصعتر الجبلي . والقنافذ تحس بالشمال والجنوب قبل الهبوب فتغير المدخل إلى جحرها ، وكان رجل بالقسطنطينية قد أثرى بسبب أنه ينذر بالرياح قبل هبوبها ، وينتفع الناس بإنذاره ، وكان السبب فيه قنفذ في داره يفعل الصنيع المذكور ، فيستدل به .
والخُطَّاف صانع في اتخاذ العش من الطين وقطع الخشب فإن أعوزه الطين ابتل وتمرغ في التراب لتحمل جناحاه قدراً من الطين ، وإذا فرَّخ بالغ في تعهد الفراخ ، وتأخذ ذرقها بمنقارها وترميها عن العش ، وإذا دنا الصائد من مكان فراخ القبجة ظهرت له القبحة وقربت مطمعة له ليتبعها ثم تذهب إلى جانب آخر سوى جانب الفراخ . وناقر الخشب قلما يقع على الأرض ، بل على الشجر ينقر الموضع يعلم أن فيه دوداً . والغرانيق تصعد في الجو عند الطيران ، فإن حجب بعضها عن بعض سحاب أو ضباب أحدثت عن أجنحتها حفيفاً مسموعاً يتبع به بعضهم بعضاً ، فإذا باتت على جبل فإنها تضع رؤوسها تحت أجنحتها إلاّ القائد فإنه ينام مكشوف الرأس فيسرع انتباهه ، وإذا سمع جرساً صاح . وحال النمل في الذهاب إلى مواضعها على خط مستقيم يحفظ بعضها بعضاً أمر عجيب ، وإذا كشف عن بيوتهم الساتر الذي كان يستره وكان تحته بيض لهم ، فإن كلّ نملة تأخذ بيضة في فمها وتذهب في أسرع وقت .
والاستقصاء في هذا الباب مذكور في كتاب « طبائع الحيوان » . والمقصود من ذلك أن الفضلاء من العقلاء يعجزون عن أمثال هذه الحيل ، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقال : إنها تسبح الله وتثني عليه وإن كانت غير عارفة بسائر الأمور التي يعرفها الناس ، ويؤيد هذا قوله تعالى : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] . ثم قال : { والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } .
قرأ الجمهور بالياء من تحت على المبالغة في وصف قدرة الله تعالى وعلمه بخلقه .
وقرأ عيسى والحسن بالتاء من فوق ، ففيه المعنى المذكور وزيادة الوعيد والتخويف من الله تعالى وفي مصحف أبيّ وابن مسعود : « والله بصير بما تفعلون » .
قوله تعالى : { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض } تنبيه على أن الكل منه ، لأن كل ما سواه ممكن ومحدث ، والممكن والمحدث لا يوجد إلا عند الانتهاء إلى القديم الواجب ، ويدخل في هذا جميع الأجرام والأعراض ، وأفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم .
وقوله : { وإلى الله المصير } وهذا دليل على المعاد ، وأنه لا بُدَّ من مصير الكل إليه .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)

وهذه الرؤية بصرية . والإزْجَاءُ : السوق قليلاً قليلاً ، ومنه البضاعة المزجاة التي يزجيها كل أحد ، وإزجاء السير في الإبل : الرفق بها حتى تسير شيئاً شيئاً .
قوله : « بَيْنَهُ » إنما دخلت « بَيْنَ » على مفرد ، وهي إنَّما تدخل على مثنى فما فوقه ، لأنَّه إما أن يُرَاد بالسحاب : الجنس ، فعاد الضمير عليه على حكمه ، وإما أن يراد حذف مضافه أي : بَيْنَ قطعِهِ ، فإن كل قطعة سحابة . قال ابن عطية : بين مُفترق السحاب ، لأن مفهوم السحاب يقتضي أن بينه فروجاً . وورش عن نافع لا يهمز « يُؤَلِّفُ » . وقالون عن نافع والباقون يهمزون « يُؤَلِّفُ » .
قوله : { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أي : متراكماً يركب بعضها على البعض ويتكاثف ، والعرب تقول : إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاماً بالريح عصر بعضه بعضاً فخرج الودق منه ، ومن ذلك قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً } [ النبأ : 14 ] ، ومن ذلك قول حسان بن ثابت :
3839- كِلْتَاهُمَا حَلَبُ العَصِيرِ فَعَاطِنِي ... بِزُجَاجَة أرْ خَاهُمَا لِلمَفْصَلِ
وروي : « لِلْمِفْصَلِ » بكسر الميم وفتح الصاد . فالمَفْصَلُ : واحد المفاصل . والمِفْصَل : اللسان . وروي بالقاف . أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت ، أي : من عصير العنب ، وهذه من عصير السحاب ، نقله ابن عطية . وقال أهل الطبائع : إن تكوين السحاب والمطر والثلج والبرد والطل والصقيع في أكثر الأمر يكون من تكاثف البخار ، وفي الأقل من تكاثف الهواء .
أما الأول فالبخار الصاعد إن كان قليلاً وكان في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فحينئذ ينحل وينقلب هواء ، وإن كان البخار كثيراً ولم يكن في الهواء من الحرارة ما يحلله فتلك الأبخرة المتصاعدة إمّا أن تبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أو لا تبلغ .
فإن بلغت فإما أن يكون البرد قوياً أو لا يكون . فإن لم يكن البرد هنا قوياً تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد واجتمع وتقاطر ، فالبخار المجتمع هو السحاب ، والمتقاطر هو المطر ، والديمة والوابل إنما يكون من أمثال هذه الغيوم . وإن كان البرد شديداً فلا يخلو إما أن يصل البرد إلى الإجزاء البخارية قبل اجتماعها وانحلالها حبات كبار أو بعد صيرورتها كذلك . فإن كان على الوجه الأول نزل ثلجاً . وإن كان على الوجه الثاني نزل برداً فإن لم تبلغ الأبخرة إلى الطبقة الباردة فإما أن تكون كثيرة أو قليلة . فإن كانت كثيرة فقد تنعقد سحاباً ماطراً ، وقد لا تنعقد . أما الأول فلأسباب خمسة :
أحدها : إذا منع هبوب الرياح عن تصاعد تلك الأبخرة .
وثانيها : أن تكون الرياح ( ضاغطة ) إياها إلى الاجتماع بسبب وقوف جبال قدام الريح .
وثالثها : أن تكون هناك رياح متقابلة متصادمة فتعود الأبخرة حينئذ .

ورابعها : أن يعرض للبخار المتقدم وقوف لثقله وبطء حركته يلتص به سائر الأجزاء الكثيرة المدد .
وخامسها : لشدة برد الهواء القريب من الأرض ، وقد نشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعوداً يسيراً حتى كأنه مكبة موضوعة على وَهْدَة ، ويكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة ، والذين يكونون تحت الغمامة يمطرون ، والذين يكونون فوقها يكونون في الشمس .
فإن كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة ، فإذا مر بها برد الليل وكثفها ، فإنها تصير ماءً محبوساً ينزل أولاً متفرقاً لا يحس به إلا عند اجتماع شيء يعتد به ، فإن لم يجمد كان طلاًّ ، وإن جمد كان صقيعاً ، ونسبة الصقيع إلى الطل نسبة الثلج إلى المطر .
والجواب ( أنَّا دللنا على ) حدوث الأجسام وتوسلنا بذلك إلى كونه قادراً مختاراً يمكنه إيجاد الأجسام ، فلا نقطع بما ذكرتموه ( لاحتمال أنه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الذي ذكرتموه ) وأيضاً فهب أن الأمر كما ذكرتم ، ولكن الأجسام بالاتفاق ممكنة في ذواتها فلا بد لها من مؤثر ، ثم إنها متماثلة ، فاختصاص كل واحد منها بصفته المعينة من الصعود والهبوط واللطافة والكثافة والحرارة والبرودة لا بد له من مخصص ، فإذا كان هو سبحانه خالقاً لتلك الطبائع ، فتلك الطبائع في هذه الأحوال لا بد لها من سبب ، وخالق السبب خالق المسبب ، فكان سبحانه هو الذي يُزْجي سحاباً ، لأنه هو الذي خلق تلك الطبائع المحركة لتلك الأبخرة من باطن الأرض إلى جو الهواء ، ثم تلك الأبخرة ترادفت في صعودها والتصق بعضها بالبعض ، فهو سبحانه هو الذي جعلها ركاماً ، فعلى جميع التقديرات توجه الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة والحكمة .
قوله : { فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } . تقدم الخلاف في « خِلاَلِ » هل هو مفرد كحجاب أم جمع كجِبَال جمع « جبل » ؟ ويؤيد الأول قراءة ابن مسعود والضحاك - وتُرْوَى عن أبي عمرو أيضاً - « مِنْ خَلَلِهِ » بالإفراد وقرأ عاصم والأعرج : « يُنَزِّل » على المبالغة .
والجمهور على التخفيف . والوَدْق : قيل : هو المطر ضعيفاً كان أو شديداً ، قال :
3840- فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا
وقيل : هو البرق ، وأنشد :
3841- أَثَرْنَ عَجَاجَةً وَخَرَجْنَ مِنْهَا ... خُرُوجَ الوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ
والوَدْقُ في الأصل مصدر ، يقال : « وَدَقَ السحاب يَدِقُ وَدْقاً » و « يخرُج » حال ، لأن الرؤية بصرية .
قوله : { مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } . « مِنْ » الأولى لابتداء الغاية اتفاقاً ، لأن ابتداء الإنزال من السماء . وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها لابتداء الغاية أيضاً فهي ومجرورها بدلٌ من الأولى بإعادة العامل ، والتقدير : ويُنَزِّلُ من جبال السماء ، أي : من جبال فيها ، فهو بدل اشتمال .
الثاني : أنها للتبعيض ، قاله الزمخشري وابن عطية ، لأن جنس تلك الجبال من جنس البرد ، فعلى هذا هي ومجرورها في موضع مفعول الإنزال ، كأنه قال : وينزل بعض جبال .

الثالث : أنها زائدة ، أي : ينزل من السماء جبالاً .
وقال الحوفي : ( من جبال ) بدل من الأولى ، ثم قال : « وهي للتبعيض » .
ورده أبو حيان بأنه لا تستقيم البدلية إلا بتوافقهما معنى ، لو قلت : خرجت من بغداد من الكَرْخ ، لم تكن الأولى والثانية إلا لابتداء الغاية .
وأما الثالثة ففيها أربعة أوجه :
الثلاثة المتقدمة ، والرابع : أنها لبيان الجنس ، قاله الحوفي والزمخشري . فيكون التقدير على قولهما ويُنَزِّل من السماء بعض جبال التي هي البَرَدُ ، فالمُنَزَّلُ بَردٌ ، لأنَّ بعض البَرَدِ بَرَدٌ ، ومفعول « يُنَزِّلُ » : هو مِنْ جِبَالٍ كما تقدم تقريره .
وقال الزمخشري : « أَو الأولَيَان للابتداء ، والثالثة للتبعيض » يعني : أنَّ الثانية بدلٌ من الأولى كما تقدم تقريره ، وحينئذ يكون مفعول « يُنَزِّلُ » هو الثالثة مع مجرورها ، التقدير : ويُنَزِّلُ بعض بردٍ من السماء من جِبَالِها . وإذا قيل بأن الثانية والثالثة زائدتان ، فهل مجرورهما في محل نصب والثاني بدلٌ من الأول ، والتقدير : ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ جِبالاً برداً ، فيكون بدل كل من كل أو بعض من كل ، أو الثاني في محل نصب مفعولاً ل « يُنَزِّل » ، والثالث في محل رفع على الابتداء وخبره الجار قبله؟ خلافٌ ، الأول قول الأخفش ، والثاني قول الفراء ، وتكون الجملة على قول الفراء صفة ل « جِبَال » ، فيحكم على موضعها بالجر اعتباراً باللفظ ، أو بالنصب اعتباراً بالمحل . ويجوز أن يكون « فِيهَا » وحده هو الوَصْفُ ، ويكون « مِنْ بَرَدٍ » فاعلاً به لاعتماده ، أي استقر فيها بردٌ . وقال الزجاج : « معناه : ويُنَزِّلُ من السماءِ من جبالٍ بَرَدٍ فيها ، كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد ، أي : خاتم حديد في يدي ، وإنما جِئْتَ في هذا وفي الآية ب » مِنْ « لما فَرَّقْتَ ، ولأنك إذا قلت : هذا خاتمٌ من حديدٍ ، وخاتم حديدٍ ، كان المعنى واحداً » انتهى .
فيكون « مِنْ بَرَدِ » في موضع جرٍّ صفة ل « جِبَالٍ » كما كان « مِنْ حَدِيدٍ » صفة ل « خَاتم » ، ويكون مفعول : « يُنَزِّلُ » : « مِنْ جِبَالٍ » ، ويلزم من كون الجبال بَرَداً أن يكون المُنَزَّلُ بَرَداً .
وقال أبو البقاء : والوجه الثاني : أن التقدير : شيئاً من جبال ، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة . وهذا الوجه هو الصحيح ، لأن قوله : { فِيهَا مِن بَرَدٍ } يُحوجك إلى مفعول يعود الضمير إليه ، فيكون تقديره : ويُنَزِّلُ مِنْ جِبَال السماء جبالاً فيها بَرَدٌ ، وفي ذلك زيادة حَذْفٍ وتقدير مستغنًى عنه . وفي كلامه نَظَرٌ ، لأن الضمير له شيءٌ يعود عليه وهو « السَّمَاء » ، فلا حاجة إلى تقدير شيء آخر ، لأنه مستغنى عنه ، وليس ثَمَّ مانعٌ يمنع من عوده على « السَّمَاء » .

وقوله آخراً : وتقدير يستغنى عنه ينافي قوله : وهذا الوجه هو الصحيح . والضمير في « به » يجوز أن يعود على البَرَدِ وهو الظاهر ، ويجوز أن يعود على الوَدْق والبَرَد معاً جرياً بالضمير مُجْرَى اسم الإشارة ، كأنه قيل : فيصيب بذلك ، وقد تقدم نظيره .
فصل
قال ابن عباس : أخبر الله أن في السماء جبالاً من برد ، ثم ينزل منها ما شاء وهو قول أكثر المفسرين . وقيل : المراد بالسماء هو الغيم المرتفع ، سمي بذلك لسموه وارتفاعه ، وأنه تعالى أنزل من الغيم الذي هو سماء البرد . وأراد بقوله : « مِنْ جِبَالٍ » : السحاب العظام ، لأنها إذا عظمت شبهت بالجبال كما يقال : فلان يملك جبالاً من مال ، ووصف بذلك توسعاً .
وذهبوا إلى أن البرد ماء جامد خلقه الله في السحاب ، ثم أنزل إلى الأرض . وقال بعضهم : إنما سمي ذلك الغيم جبالاً لأنه سبحانه خلقها من البرد ، وكل جسم متحجر فهو من الجبال ، ومنه قوله تعالى : { خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين } [ الشعراء : 184 ] . قال المفسرون : والأول أولى ، لأنَّ السماء اسم لهذا الجسم المخصوص ، فتسمية السحاب سماء بالاشتقاق مجاز ، وكما يصح أن يجعل الماء في السحاب ثم ينزله برداً ، فقد يصح في القدرة جعل هذين الأمرين في السماء ، فلا وجه لترك الظاهر .
قوله : { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ } أي : بالبرد من يشاء فيهلك زرعه وأمواله { وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } أي : يصرف ضرره عمن يشاء بأن لا يسقطه عليه .
قوله : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } . العامة على قصر « سَنَا » وهو الضوء ، وهو من ذوات الواو ، يقال : سَنَا يَسْنُو سَناً ، أي أضاء يُضِيء ، قال امرؤ القيس :
3842- يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبِ ... والسناءُ - بالمد - : الرفعة ، قال :
3843- ( وسِنٍّ كسُنَّيْقٍ سَنَاءً وسُنَّما ) ... وقرأ ابن وثاب : « سَنَاءُ بُرَقِهِ » بالمد ، وبضم الباء من « بَرْقِهِ » وفتح الراء وروي عنه ضم الراء أيضاً . فأما قراءة المد فإنه شبه المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان . فأما « بُرَقِهِ » فجمع « بُرْقَةٍ » ، وهي المقدار من البرق ، ك « غُرْفَة وغُرَف » ، و « لُقْمَة ولُقَم » . وأما ضم الراء فإتباع ، ك « ظُلُمَات » بضم اللام إتباعاً لضم الظاء ، وإن كان أصلها السكون . وقرأ العامة أيضاً « يَذْهَبُ » بفتح الياء والهاء .
وأبو جعفر بضم الياء وكسر الهاء من « أَذْهَبَ » .
وقد خَطَّأ هذه القراءة الأخفش وأبو حاتم ، قالا : « لأنَّ الباءَ تُعَاقِبُ الهمزة » .
وليس ردُّهما بصوابٍ ، لأنَّها تَتَخرّجُ على ما خُرِّجَ ما قُرِئَ به في المتواتر : « تُنْبِتُ بالدُّهْنِ » من أنَّ الباء مزيدةٌ ، أو أنَّ المفعول محذوف والباء بمعنى « مِنْ » تقديره : يَذهب النور من الأبصار ، كقوله :

3844- شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الحَشْرَجِ ... فصل
المعنى : يكاد ضوء برق السحاب يذهب بالأبصار من شدة ضوئه . واعلم أنّ البرق الذي صفته كذلك لا بد وأن يكون ناراً عظيمة خالصة ، والنار ضد الماء والبرد ، فظهوره يقتضي ظهور الضد من الضد ، وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم ، ثم قال : { يُقَلِّبُ الله الليل والنهار } يصرفهما في اختلافهما ، ويعاقبهما : يأتي بالليل ويذهب بالنهار ، ويأتي بالنهار ويذهب بالليل قال عليه السلام : « قال الله تعالى : يُؤْذيني ابن آدم ، يَسُبُّ الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أُقَلِّبُ الليلَ والنهارَ » وقيل : المراد ولوج أحدهما في الآخر .
وقيل : المراد تغير أحوالهما في الحر والبرد وغيرهما . { إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } أي : إن في الذي ذكرت من هذه الأشياء { لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } البصائر ، أي : دلالة لأهل العقول على قدرة الله وتوحيده .

وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)

قوله تعالى : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } الآية .
لما استدل أولاً بأحوال السماء والأرض ، وثانياً بالآثار العلوية استدل ثالثاً بأحوال الحيوانات . قال ابن عطية : قرأ حمزة والكسائي : { واللَّهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ } على الإضافة ، فإن قيل : لم قال : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } مع أن كثيراً من الحيوانات لم يُخْلَقْ من الماء ، كالملائكة خلقوا من النور ، وهم أعظم الحيوانات عدداً ، وكذلك الجن وهم مخلوقون من النار ، وخلق آدم من التراب لقوله : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] وخلق عيسى من الريح لقوله : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] ونرى كثيراً من الحيوانات يتولد لا عن نطفة؟ فالجواب من وجوه :
أحسنها : ما قال القفال : إنَّ « مَاءٍ » صلة « كُلَّ دَابَّةٍ » وليس هو من صلة « خَلَق » والمعنى : أنَّ كلَّ دَابَّةٍ متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى .
وثانيها : أنَّ أصل جميع المخلوقات الماء على ما روي : « أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ، ثم من ذلك الماء خلق النار والهواء والنور » . والمقصود من هذه الآية : بيان أصل الخلقة ، وكان أصل الخلقة الماء ، فلهذا ذكره الله تعالى .
وثالثها : المراد من « الدَّابَّة » : التي تدب على وجه الأرض ، ومسكنهم هنالك ، فيخرج الملائكة والجن ، ولما كان الغالب من هذه الحيوانات كونهم مخلوقين من الماء ، إما لأنها متولدة من النطفة ، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء ، لا جرم أطلق عليه لفظ الكل تنزيلاً للغالب منزلة الكل .
وقيل : الجار في قوله : « مِنْ مَاء » متعلق ب « خَلَقَ » أي : خَلَقَ مِنْ ماءٍ كُلَّ دَابَّةٍ ، و « مِنْ » لابتداء الغاية . ويرد على هذا السؤال المتقدم .
فإن قيل : لم نكر الماء في قوله : « مِنْ مَاءٍ » وعرفه في قوله : { مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] ؟
فالجواب : جاء هاهنا منكراً لأنّ المعنى : خلق كلّ دابة من نوع من الماء مختصاً بتلك الدابة ، وعرفه في قوله : { مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] لأنّ المقصود هناك : كونهم مخلوقين من هذا الجنس ، وهاهنا بيان أنّ ذلك الجنس ينقسم إلى أنواع كثيرة .
قوله : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي } . إنما أطلق « مَنْ » على غير العاقل لاختلاطه بالعاقل في المُفَضَّل ب « مِن » وهو « كُلَّ دَابَّةٍ » . وكان التعبير ب « مَنْ » أولى ليوافق اللفظ .
وقيل : لَمَّا وَصَفَهُمْ بِما يُوصف به العقلاء وهو المشيُ أطلق عليها « منْ » وفيه نظرٌ ، لأن هذه الصفة ليست خاصةً بالعقلاء ، بخلاف قوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] ، وقوله :
3845- أَسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ ..

البيت .
وقد تقدَّم خلاف القرَّاء في { خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } في سورة « إبراهيم » .
واستعير المشي للزَّحف على البطن ، كما استعير المشفر للشفة وبالعكس ، كما قالوا في الأمر المستمر : قد مشى هذا الأمر ، ويقال : فلان ما يمشي له أمر . فإن قيل : لم حصر القسمة في هذه الثلاثة أنواع من المشي ، وقد تجد من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب والعقارب والرتيلات والحيوان الذي أربعة وأربعون رجلاً؟
فالجواب : هذا القسم الذي لم يذكر كالنادر ، فكان ملحقاً بالعدم . وأيضاً قال النقاش : إنه اكتفى بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر ، لأنّ جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع ، وهي قوام مشيه ، وكثرة الأرجل لبعض الحيوان زيادة في الخِلْقَة ، لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها . قال ابن عطية : والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلاً ، بل هي محتاج إليها في نقل الحيوان ، وهي كلها تتحرك في تصرفه .
وجواب آخر وهو أن قوله تعالى : { يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ } كالتنبيه على سائر الأقسام .
وفي مصحف أبيّ بن كعب : « وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكْثَر » فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان ، ولكنه قرآن لم يثبت بالإجماع .
قوله : { يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لأنه هو القادر على الكل ، والعالم بالكل ، فهو المطلع على أحوال هذه الحيوانات ، فأي عقل يقف عليها؟ وأي خاطر يصل إلى ذَرَّة من أسرارها؟ بل هو الذي يخلق ما يشاء كما يشاء ، ولا يمنعه منه مانع .
قوله : { لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ } . الأولى حمله على كل الأدلة . وقيل : المراد القرآن ، لأن كالمشتمل على كل الأدلة والعبر . { والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وتقدم الكلام في نظائر هذه الآية بين أهل السنة والمعتزلة .

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)

قوله تعالى : { وَيِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا } الآية .
لما ذكر دلائل التوحيد أتبعه بذم قوم اعترفوا بالذنب بألسنتهم ولكنهم لم يقبلوه بقلوبهم .
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق وكان قد خاصم يهودياً في أرض ، فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال المنافق : نتحاكم إلى كعب بن الأشرف ، فإن محمداً يحيف علينا ، فأنزل الله هذه الآية . وقد مضت قصتها في سورة « النساء » .
وقال الضحاك : نزلت في المغيرة بن وائل ، كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض تقاسماها ، فوقع إلى عليّ ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة ، فقال المغيرة : بعني أرضك . فباعها إياه ، وتقابضا . فقيل للمغيرة : أخذت سبخة لا ينالها الماء فقال لعلي : اقبض أرضك ، فإنما اشتريتها إن رضيتها ، ولم أرضها . فقال علي : بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها ، لا أقبلها منك ، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال المغيرة : أما محمد فلا آتيه ولا أحاكم إليه ، فإنه يبغضني ، وأنا خاف أن يحيف علي ، فنزلت الآية .
وقال الحسن : نزلت هذه في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر .
فصل
المعنى : { وَيِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا } يعني : المنافقين يقولونه ، « ثُمَّ يَتَوَلَّى » يعرض عن طاعة الله ورسوله { فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلك } أي من بعد قولهم : آمَنَّا ، ويدعو إلى غير حكم الله ، ثم قال : { وَمَآ أولئك بالمؤمنين } .
فإن قيل : إنه تعالى حكى عن كلهم أنهم يقولون : « آمَنَّا » ثم حكى عن فريق منهم التولي ، فكيف يصح أن يقول في جميعهم : { وَمَآ أولئك بالمؤمنين } مع أن المتولي فريق منهم؟
فالجواب : أن قوله : { وَمَآ أولئك بالمؤمنين } راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة الأولى ، وأيضاً فلو رجع إلى الأولى لصح ، ويكون معنى قوله : { ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } أي : يرجع هذا الفريق إلى الباقين فيظهر بضهم لبعض الرجوع ، كما أظهروه ، ثم بين تعالى أنهم إذا دُعُوا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُم بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرضُونَ ، وهذا ترك للرضا بحكم الرسول لقوله تعالى : { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } منقادين لحكمه ، أي : إذا كان الحق لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لتيقنهم أنه كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضاً بالحق ، وهذا يدل على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا الحق لغيرهم أو شكوا . فأما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإعراض وسارعوا إلى الحكم وأذعنوا ( ببذل الرضا ) .
قوله : « ليَحْكُم » أفرد الضمير وقد تقدَّمه اسمان وهما : « اللَّهُ ورَسُولُهُ » فهو كقوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] لأنَّ حكم رَسُولِهِ هو حُكْمُهُ .

قال الزمخشري : كقولك : أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ ، أي : كَرَمُ زَيْدٍ ، ومنه :
3846- وَمَنْهَلٍ مِنَ الفَيَافِي أَوْسَطُهْ ... غَلَّسْتُهُ قَبْلَ القَطَا وفَرَطُهْ
أي : قبل فَرطِ ( القطا ) يعني : قبل تقدَّم القطا . وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن إلياس والحسن : « ليُحْكَمَ بَيْنَهُمْ » هنا ، والتي بعدها مبنياً للمفعول ، والظرف قائم مقام الفاعل .
قوله : « إذا فَرِيقٌ » « إذَا » هي الفجائية ، وهي جواب « إذَا » الشرطية أولاً وهذا أحد الأدلة على منع أن يعمل في « إذا » الشرطية جوابها ، فإن ما بعد الفجائية لا يعمل فيما قبلها ، كذا ذكره أبو حيان ، وتقدم تحرير هذا وجواب الجمهور عنه .
قوله : « إلَيْهِ » يجوز تعلقه ب « يَأْتوا » ، لأنَّ « أَتَى » و « جَاءَ » قد جاءا مُعَدَّيَيْن ب « إلى » ، ويجوز أن يتعلق ب « مُذْعِنِينَ » لأنه بمعنى : مسرعين في الطاعة . وصححه الزمخشري ، قال : لتقدُّم صلته ، ولدلالته على الاختصاص ، و « مُذْعِنِينَ » حال والإذعان : الانقياد ، يقال : أَذْعَنَ فلانٌ لفلان ، انقَادَ لَهُ . وقال الزجاج : « الإذْعَانُ : الإسراع مع الطاعة » .
قوله : { أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ } . « أَمْ » فيهما منقطعة ، فتقدر عند الجمهور بحرف الإضراب وهمزة الاستفهام ، تقديره : بل أَرْتَابُوا بل أَيَخَافُونَ ، ومعنى الاستفهام هنا : التقرير والتوقيف ، ويبالغ فيه تارة في الذم كقوله :
3847- أَلَسْتَ مِنَ القَوْم الَّذِينَ تَعَاهَدُوا ... عَلَى اللُّؤمِ وَالفَحْشَاءِ في سَالِفِ الدَّهْرِ
وتارة في المدح كقوله جرير :
3848- أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايا ... وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
و « أَنْ يَحِيفَ » مفعول الخوف والحوف : الميل والجور في القضاء ، يقال : حاف في قضائه ، أي : ( مال ) .
فصل
قوله { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } نفاق « أَم ارْتَابُوا » شكوا ، وهو استفهام ذم وتوبيخ ، أي هم كذلك ، { أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } أي : يظلم { بَلْ أولئك هُمُ الظالمون } ، لأنفسهم بإعراضهم عن الحق .
قال الحسن بن أبي الحسن : من دعا خصمه إلى حكم من أحكام المسلمين فلم يجب ، فهو ظالم فإن قيل : إذا خافوا أن يحيف الله عليهم ورسوله فقد ارتابوا في الدين ، وإذا ارتابوا ففي قلوبهم مرض ، فالكل واحد ، فأي فائدة في التعديد؟
فالجواب : قوله : { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } إشارة إلى النفاق ، وقوله : « أَم ارْتَابُوا » إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين بسببه . فإن قيل : هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة ، فكيف أدخل عليها كلمة « أم » ؟
فالجواب الأقرب أنه تعالى أنبههم على كل واحدة من هذه الأوصاف ، فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق ، وكان فيها شك وارتياب ، وكانوا يخافون الحيف من الرسول ، وكل واحد من ذلك كفر ونفاق ، ثم بين تعالى بقوله : { بَلْ أولئك هُمُ الظالمون } بطلان ما هم عليه ، لأن الظلم يتناول كل معصية ، كما قال تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75