كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

الثاني : أنها في مَحَلِّ نصب نَعْتاً لمصدر محذوف ، أي : مجيئاً مثل مجيئكم يوم خلقناكم ، وقجره مكي : منفردين انفراداً مثل حالكم أول مرة ، والأوّل أحسن؛ لأن دلالة الفعل على المَصْدَرِ أقوى من دلالة الوَصْفِ عليه .
الثالث : أن « الكاف » في مَحَلِّ نصب على الحال من الضمير المُسْتكنِّ في « فُرَادى » ، أي : مشبهين ابتداء خلقكم ، وكذا قَدَّرهُ أبو البقاء ، وفيه نظر؛ لأنهم لم يشبهوا بابتداء خلقهم ، وصوابه أن يقدر مُضَافاً أي : مشبهة حالكم حال ابتداء خلقكم .
قوله : « أوَّلَ مَرَّة » مَنْصُوبٌ على ظرف الزمان ، والعامل فيه « خلقناكم » ، و « مرة » في الأصل مصدر ل « مَرَّ يَمُرُّ مَرَّةً » ثم اتُّسِعَ فيها ، فصارت زماناً .
قال أبو البقاء رحمه الله : « وهذا يَدُلُّ على قوة شبه الزمان بالفعل » .
وقال أبو حيان : « وانتصب » أوَّل مرة « على الظرف ، أي : أول زمان ولا يتقدَّر أوّل خلق؛ لأن أول خلق يستدعي خَلْقاً ثانياً ، إنما ذلك إعادة لا خَلْقٌ » .
يعني : أنه لا يجوز أن يكون المرَّة على بابها من المَصْدَريَّةِ ، ويقدر أوّل مرة من الخَلْقِ لما ذكر .
قوله : « وتَرَكْتُمْ » فيها وجهان :
أحدهما : إنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل « جئتمونا » ، و « قد » مضمرة على رأي الكوفيين أي : وقد تركتم .
والثاني : أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافها ، و « ما » مفعولة ب « ترك » ، وهي موصولة اسمية ، ويضعف جعلها نَكِرَةً موصوفة ، والعائد محذوف ، أي : ما خَولناكُمُوهُ ، و « ترك » متعدية لواحد؛ لأنها بمعنى التخلية ولو ضمنت معنى « صيَّر » تعدَّت لاثنين ، و « خوَّل » يتعدَّى لاثنين؛ لأنه بمعنى « أعطى وملك » ، والخول ما أعطاه الله من النِّعم .
قال أبو النجم : [ الرجز ]
2240- كُومِ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوَّل ... فمعنى : خولته كمن أملكته الخول فيه كقولهم : خوَّلته ، أي : ملكته المال .
وقال الرَّاغب : التَّخْوِيلُ في الأصل إعطاء الخول .
وقيل : إعطاء ما يصير له خولاً وقيل : إعطاء ما يحتاج أن يتعهَّدَهُ من قولهم : « فلان خال ما وخايل مال أي حسن القيام عليه » .
وقوله : « وَراءَ ظُهُورِكُمْ » متعلّق ب « تركتم » ويجوز أن يضمن « ترك » هنا معنى « صيَّر » ، فيتعدى لاثنين : أولهما الموصول ، والثاني هذا الظرف متعلّق بمحذوف ، اي : وصيّرتم بالتَّرْكِ الذي خَوَّلناكموه كائناً وراء ظهوركم .
قوله تعالى : « وَمَا نَرَى » الظَّاهر أنه المُتعدِّية لواحد ، فهي بصرية ، فعلى هذا يكون « معكم » متعلّق ب « نرى » ، ويجوز أن يكون بمعنى « علم ، فيتعدى لاثنين ، ثانيهما هو الظرف ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : ما نراهم كائنين معكم ، أي مصاحبتكم .

إلاَّ ان أبا البقاء اسْتَضْعَفَ هذا الوجه ، وهو كما قال؛ إذ يصير المعنى : وما يعلم شُفَعَاءكم معكم ، وليس المعنى عليه قطعاً .
وقال أبو البقاء- رحمه لله - : « ولا يجوز أن يكون أي معكم حالاً من » الشفعاء « ؛ إذ المعنى يصير أن شفعاءهم معهم ولا تراهم » . وفيما قاله نظرٌ لا يخفى ، وذلك أن النفي إذا دخل على ذاتٍ بِقَيْدٍ ، ففيه وجهان :
أحدهما : نفي تلك الذّات بقيدها .
والثاني : نفي القَيْد فقط دون نَفْي الذَّات .
فإن قلت « ما رأيت زيداً » ضاحكاً « ، فيجوز أن لم تَرَ زَيْداً ألبَتَّة ، ويجوز أن رأيته من غير ضِحْكٍ ، فكذا هاهنا ، إذ التقدير : وما نرى معكم شفعاءكم مصاحبيكم ، يجوز أن لم يروا الشفعاء ألْبَتَّة ، ويجوز أن يَرَوْهُمْ دون مُصَاحبتهم لهم ، فمن أين يلزم انهم يكونون معهم ، ولا يرونهم من هذا التركيب ، وقد تقدم تَحْقِيقُ هذه القاعدة في أوائل سورة » البقرة « في قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } [ البقرة : 273 ] .
و » أنهم « سد مَسَدَّ المفعولين ل » زعم « و » فيكم « متعلق بنفس شركاء ، والمعنى : الذين زعمتم أنهم شركاء الله فيكم ، أي في عبادتكم ، أو في خلقكم ، لأنكم أشركتموهم مع الله - تعالى - في عبادتكم وخلقكم .
وقيل » في « بمعنى » عند « ، ولاحاجة إليه .
وقيل : المعنى أنه يتحملون عنكم نَصِيباً من العذاب ، أي : شركاء في عذابكم إن كنت تعتقدون فيهم أنكم إذا أصابتكم نَائِيَةٌ شاركوكم فيها .
فصل في معنى الآية
معنى الاية الكريمة : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّل } حُفَاةً عُرَاةً ، وخلَّفتم ما أعطيناكم من الأموال والأولاد والخَدَم خلف ظهوركم في الدنيا ، وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شُرَكَاءُ ، وذلك أن المشركين زعموا أنه يعبدون الأصْنَامَ؛ لأنهم شركاء اللهن وشفعاؤهم عنده ، والمراد من الآية التَّقْريع والتوبيخ ، وذلك لأنهم صرفوا جدَّهم وجهدهم إلى تحصيل المال والجاهِ ، وعبدوا الأصنام لاعقادهم أنها شفعاءهم عند الله تبارك وتعالى ، ثم أنهم لما وردوا مَحْفَلَ القيامة لم يَبْقَ لهم من تلك الأموال شيء ، ولم يجدوا من تلك الأصنام شَفَاعَةً فبقوا فرادى على كل ما حَصَّلُوهُ في الدنيا ، وعَوَّلُوا عليه ، بخلااف أهل الإيمان ، فإنهم صرفوا هَمَّهُمْ إلى الأعمال الصالحة ، فَبَقِيَتْ معهم في قبورهم ، وحضرت معهم في مَحْفَل القيامة ، فهم في الحقيقة ما حضروا فرادى .
قوله » لقد تقطَّع بَيْنَكُم « قرأ نافع ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفْص عنه » بَيْنَكُمْ « نَصْباً ، والباقون » بَيْنُكُمْ « رفعاً .
فأما القراءةالأولى ففيها سبعة أوجه :
أحدها ، وهي أحسنها : أن الفاعل مضمر يعود على الاتِّصالِ ، والاتصال وإن لم يكن مذكوراً حتى يعود عليه ضمير ، لكنه تقدم ما يَدُلُّ عليه ، وهو لفظ » شركاء « ، فإن الشركة تشعر بالاتِّصَالِ ، والمعنى : لقد تقطع بينكم الاتصال على الظرفية .

الثاني : أن الفاعل هو « بينكم » ، وإنما بقي على حالِهِ منصوباً حَملاً له على أغلب أحواله ، وهو مذهب الأخفش ، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله : { يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } [ الحج : 17 ] فيمن بناه إلى المفعول ، وكذا قوله تعالى : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } [ الجن : 11 ] [ قال الواحدي : كما رجى في كلامهم ] منصوباً ظرفاً ، تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام ثم قال في قوله : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِك } [ الجن : 11 ] ف « دُونَ » في موضع رفع عندهم ، وإن كان مصنوب اللفظ ، ألا ترى أنك تقول : منا الصالحون ، ومنا الظالمون ، إلا ان الناس لما حَكَوْا هذا المَذْهَبَ لم يتعرَّضُوا على هذا الظرف ، بل صرحوا بأنه مُعْرَبٌ ، وهو مرفوع المحل قالوا : أو إنما بقي على انْتِصَابِه اعتباراً بأغلب أحواله في كلام أبي حيان ، لما حكى مذهب الأخفش ما يصرح بأنه مَبْنِيُّ ، فإنه قال : وخرجه الأخفشُ على أنه فاعل ، ولكنه مبي حَمْلاً على أكثر أحوال هذا الظَّرْفِ ، وفيه نظر؛ لأن الذي لا يَصْلُحُ أن يكون عِلَّة البناء ، وعِلَل مَحْصُورةٌ ليس هذا منها .
ثم قال أبو حيان : « وقد يُقَالُ لاضافته إلى مبني كقوله { وَمِنَّا دُونَ ذَلِك } [ الجن : 11 ] وهذا ظاهرٌ في أنه جعل حَمْلهُ على أكثر أحواله عِلَّةً لبنائه كما تقدم » .
الثالث : أن الفاعلَ محذوفٌ و « بينكم » صِفَةٌ له قامت مُقامَهُ ، تقديره : لقد تقطع وصْلُ بينكم ، قاله أبو البقاء ، وردَّه أبو حيان بأن الفاعل لا يُحْذَفُ ، وهذا غير ردِّ عليه ، فإنه يعني بالحذف عدمَ ذكره لفظاً وأن شيئاً قام مقامه ، فكأنه لم يحذف .
وقال ابن عطيَّة : « ويكون الفعل مُسْنداً إلى شيء محذوف ، أي : لقد تقطَّع الاتِّصالُ بينكم والارتباط ونحو هذا » .
وهذا وجه وَاضِحٌ ، وعليه فَسَّر الناس ، وردَّه أبو حيان لما تقدم ، ويجاب عنه بأنه عبر بالحذف عن الإضمارِ ، لأن كلاً منهما غير مَوْجُودٍ لفظاً .
الرابع : أنه « بينكم » هو الفاعل ، وإنما بني لإضافته إل ىغير مُتَمكنٍ ، كقوله تعالى : { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُون } [ الذاريات : 23 ] بفتح « مِثْلَ » ، وهو تابع ل « حق » المرفوع ، ولكنه بي لإضافة إلى غير متمكِّن ، وسيأتي في مكانه ، ومثله قول الآخر في ذلك : [ الرمل ]
2241- تَتدَاعَى مَنْخِرَاهُ بِدَمٍ ... مِثْلَ مَا أثْمَرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ
بفتح « مثل » مع أنها تَابِعَةٌ ل « دم » ، ومثله قول الآخر : [ البسيط ]
2242- لَمْ يَمْذَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أنْ نَطَقَتْ ... حَمَامَةٌ فِي غُصُونٍ ذاتِ أوْقَالِ
بفتح « غير » ، وهي فاعل « يمنع » ، ومثله قول النابغة : [ الطويل ]

2243- أتَانِي أبَيْتَ اللَّعْنَ أنَّكَ لُمْتَنِي ... وتِلْكَ الَّتِي تَسْتَكُّ مِنْهَا المَسَامِعُ
مَقَالَةَ أَنْ قَدْ قُلْتَ : سَوْفَ أَنَالُه ... ُ وَذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ مِثْلِكَ رَائِعُ
ف « مقالة » بدل من « أنَّك لُمْتَنِي » ، وهو فاعل ، والرواية بفتح تاء « مَقَالة » لإضافتها إلى « أن » وما في حيِّزهَا .
الخامس : أن المَسْألةَ من باب الإعْمَالِ ، وذلك أن « تَقَطَّع » و « ضَلَّ » كلاهما يَتَوجَّهلان على « مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ » كل منهما يطلبه فاعلاً ، فيجوز أن تكون المَسْألَةُ من باب إعمال الثاني ، وأن تكون من إعمال الأوَّل ، لأنه ليس هنا قرينة تُعَيِّنُ ذلك ، إلا أنه تقدم في « البقرة » أن مذهب البصريين اخْتِيَارُ إعمال الثاني ، ومذهب الكوفيين بالعكس ، فعلى اختيار البصريين يكون « ضَلَّ » هو الرافع ل « ما كُنْتُمْ تَزْعُمُون » واحتاج الأول لفاعل فأعطيناه ضميره فاسْتَتَر فيه ، وعلى اختيار الكوفيين يكون « تقطَّع » هو الرافع ل « مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ » ، وفي « ضلَّ » ضمير فاعل به ، وعلى كلا القولين ف « بينكم » منصوب على الظَّرْف ، وناصبه « تَقطَّع » هو الرافع . السادس : أن الظرف صِلَةٌ لموصول محذوف تقديره : تقطَّع ما بينكن ، فحذف الموصول وهو « ما » وقد تقدَّم أن ذلك رأى الكوفيين ، وتقدم ما استشهدوا به عليه من القرآن ، وأبيات العرب ، واستتدلَّ القائل بذلك بقول الشاعر حيث قال في ذلك : [ الطويل ]
2244- يُدِيرُونَنِي عَنْ سَالِمٍ وأديرُهُمْ ... وجِلْدَةُ بَيْنَ الأنْفِ والعَيْنِ سَالِمُ
وقول الآخر في ذلك : [ البسيط ]
2245- مَا بَيْنَ عَوْفٍ وإبْرَاهِيمَ مِنْ نَسَبٍ ... إلاَّ قَرَابَةُ بَيْنَ الزَّنْجِ والرُّومِ
تقديره : وَجِلْدةُ ما بين ، وإلاَّ قرابة ما بَيْن ، ويدل على ذلك قراءة عبد الله ، ومجاهد ، والأعمش : « لقد تَقطَّع ما بينكم » .
السابع : قال الزمخشري : « لَقَدْ تقطَّعَ بينكم » : لقد وقع التَّقَطُّع بينكم ، كما تقول : جمع بين الشَّيْئْينِ ، تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل قول حَسَنٌ ، وذلك لأن لو أضمر في « تقطّع » ضمير المصدر المفهوم منه لصار التقدير : تقطع التَّقطُّع بينكم ، وإذا تقطَّع التقطع بينهم حصل الوَصْلُ ، وهذا ضدُّ المقصود ، فاحتاج أن قال : إن الفعل أسند إلى مصدره بالتأويل المذكور ، إلا أن أبا حيَّان اعتراضه ، فقال : « فظاهره أنه ليس بِجيِّدٍ ، وتحريره أنه أسند الفِعْلَ إلى ضمير مصدره فأضمره فيه؛ لأنه إن أسْنَدَهُ إلى صريح المصدر ، فهو محذوف ، ولا يجوز حذف الفاعل ، ومع هذا التقدير فليس بِصَحيح؛ لأن شَرْطَ الإسناد مفقود فيه ، وهوتغاير الحكم والمحكوم عليه؛ يعني : أنه لا يجوز أن يتَّحدَ الفعل والفاعل في لَفْظٍ واحد من غير فائدة ، لا تقول : قام القائم ، وذلك لا يجوز ، مع أنه يلزم عليه أيضاً فَسَادُ المعنى كما تقدم منه أنه يَلْزَمُ أن يحصل لهم الوَصْلُ » .

قال شهاب الدِّين : وهذا الذي أورده الشَّيْخُ لا يرد لما تقدَّم من قوله الزمخشري على إسناد الفعل إلى مصدرِهِ بهذا التأويل ، وقد تقدَّم ذلك التأويل .
وأما القراءة الثانية ففيها ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنه اتُّسِعَ في هذا الظرف ، فأسْنِدَ الفعل إليه ، فصار اسماً كسائر الأسماء المتصرف فيها ، ويدُلُّ على ذلك قوله تعالى : { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] فاسْتعمَلَهُ مجرواً ب « مِنْ » وقوله تعالى : { فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [ الكهف : 78 ] { مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } [ الكهف : 61 ] { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } [ المائدة : 106 ] وحكى سيبويه : « هُوَ أحْمَرُ بَيْنِ العَيْنينِ » وقال عنترة : [ الكامل ]
2246- وَكَأنَّمَا أقِصُ الإكَامَ عَشِيَّةً ... بِقَريبِ بَيْنِ المَنْسِمَيْنِ مُصَلَّمِ
وقال مهلهل : [ الوافر ]
2247- كَأنَّ رَِمَاحَنَا أشْطَانُ بِئْرٍ ... بَعِيدَةِ بَيْنِ جَالَيْهَا جَرُورِ
فقد استعمل في هذه المواضع كلها مُضَافاً إليه متصرّفاً فيه ، فكذا هنا ، ومثله قوله :
[ الطويل ]
2248- .. وَجِلْدَةُ بَيْنِ الأنْفِ والعَيْنِ سَالِمُ
وقوله في ذلك : [ البسيط ]
2249- .. إلاَّ قَرَابَةُ بَيْنِ الزَّنْجِ والرُّومِ
وقول القائل في ذلك : [ الطويل ]
2250- وَلَمْ يَتْرُكِ النَّبْلُ المُخَالِفُ بَيْنُهَا ... أخاً لاَحَ [ قَدْ ] يُرْجَى وَمَا ثَوْرَةُ الهِنْدِ
يروى برفع « بينهما » وفتح على أنها فعل ل « مُخَالف » ، وإنما بُنِيَ لإضافتِهِ إلى ذلك ومثله في ذلك : « أمام » و « دون » ، كقوله : [ الكامل ]
2251- فَغَدَتْ كِلاَ الفَرْجَيْنِ تَحْسِبُ أنَّهُ ... مَوْلَى المخَافَةِ خَلْفُهَا وأمَامُهَا
برفع « أمام » ، كقول القائل في ذلك : [ الطويل ]
2252- ألَمْ تَرَ أنِّي قَدْ حَمَيْتُ حَقِقَتِي ... وبَاشَرْتُ حَدَّ والمَوْتِ والمَوْتُ دُونُهَا
برفع « دون » .
الثاني : أن « بين » اسم غير ظَرْفٍ ، وإنم منعناها الوَصْل ، أي : لقد تقطَّع وصلكم .
ثم للناس بعد ذلك عبارتان تؤذن بأن « بَيْنَ » مصدر « بان يبينُ بَيْنَاً » بمعنى « بَعْدَ » ، فيكون من الأضْدَاد ، أي : إنه مشترك اشتراكاً لفظياً يستعمل للوصل والفراق ك « الجون » للأسود ، والأبيض ، ويعزى هذا لأبي عمرو ، وابن جني ، والمهدوي ، والزهري ، وقال أبو عبيدة : وكان أبو عمرو يقول : معنى « تقطع بينكم » تقطع فصارت هنا اسماً بغير أن يكون معها « ما » .
قوال الزجاج : والرفع أجود ، ومعناه : لقد تقطع وصلكم ، فقد أطلق هؤلاء أن « بين » بمعنى الوصل ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، إلا ان ابن عطية طعن فيه ، وزعم أنه لم يسمع من العرب البَيْن بمعنى الوَصْل ، وإنما انتزع ذلك من هذه الآية الكريمة ، لو أنه أري باالبين الافْتِرَاقُ ، وذلك عن الأمر البعيد ، والمعنى : لقد تقطعت المسافةُ بينكن لطولها ، فعبر عن ذلك بالبين .
قال شهاب الدين : فظاهر كلام ابن عطية يُؤذِنُ بأنه فهم أنها بمعنى الوَصْل حقيقة ، ثم ردَّهُ بكونه لم يسمع من العرب ، وهذا منه غير مرضٍ ، لأن أبا عمرو وأبا عبيد وابن جني ، والزهراوي ، والمهدوي ، والزجاج أثمة يقبل قولهم .

وقهل : « وإنما انتزع من هذه الآية » ممنوع ، بل ذلك مفهوم من لُغَةِ العرب ، ولم لم يكن مَنْ نقلها إلا أبو عمرو لكفى به ، وعبارته تُؤذِنُ بأنه مجازٌ ، ووجه المجاز كما قال وصداقَةٌ « صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمعنى الوَصْلةِ ، وعلى خلاف الفُرْقَةِ ، فلهذا جاء : » لَقَدْ تَقَطَّع وَصْلكُم « وإذا تَقدَّرَ هذا ، فالقول بكونه مجازاً أولى من القول بكونه مشتركاً؛ لأنه متى تعارضَ الاشتراك والمجاز ، فالمجاز خير منه عند الجمهور .
وقال أبو علي أيضاً : وَيُدلُّ على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفاً أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو مَصْدَرٌ ، فلا يجوز أن يكون هذا القِسْم؛ لأن التَّقدير يصير : لقد تقطَّع اقْتِرَاقكم ، وهذا خلاف المقصد ، والمعنى أي : ألا ترى أن المراد وَصْلُكُمْ ، وما كُنْتُم تتآلَفُون عليه .
فإن قلت : كيف جَازَ أن يكون بِمَعْنى : الوَصْلِ ، وأصله : الافْتِرَاقُ ، والتَّبَايُنُ .
قيل : إنه لما استُعمل مع الشَّيْئَيْنِ المُتلابسيْنِ في نحو : » بيْنِي وبيْنَك شَرِكَة « فذكر ما تقدَّم عنه من وَجْهِ المجازِ .
وأجاز أبو عُبَيْدَة ، والزَّجَّاج ، وجماعة : قراءة الرفع ، قال أبو عبيدة : وكذلك يَقْرؤُها بالرفع؛ لأنَّا قد وَجدنا العرب تجعل » بَيْنَ « اسماً من غَيْر » مَا « ، ويُصدِّقُ ذلك قوله تعالى : { بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } [ الكهف : 61 ] فجعل » بَيْنَ « اسماً من غير » ما « ، وكذلك قوله - تبارك وتعالى - : { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [ الكهف : 78 ] قال : » وقد سَمِعْنَاهُ في غير موضع من أشْعارِهَا « ثمَّ ذكر ما ذركته عن ابني عمرو بن العلاء ، ثمَّ قال : » وقرأها الكسَائيُّ نصباً « وكان يعتبرها بحرف عبد الله : » لقد تقطَّع ما بينكم « .
وقال الزَّجَّاج : والرَّفْع أجودن والنَّصْب جَائِز ، والمعنى : » لقد تقطَّع ما كان من الشَّركة بَيْنكم « .
الثالث : أن هذا الكلام مَحْمُولٌ على مَعْنَاه؛ إذ المعنى : لقد تَفَرَّقَ جَمْعُكُم وتشتت ، وهذا لا يَصْلُح أن يكون تفسير إعرابٍ .
قوله : » مَا كُنتُمْ « » ما « يجوز أن تكون مَوْصولةً اسميَّةً ، أو نكرة موصوفة ، أو مصدريَّة ، والعائد على الوجْهَيْن الأوَّلَيْن محذوفٌ ، بخلاف الثُّالِث فالتَّقْدِير : تزعمونَهُم شُرَكَاءَ أو شُفَعَاء؛ فالعَائِد هو المفعُول الأوّل ، وشركاء هو الثُّاني؛ فالمَفْعُولان مَحْذُوفانِ اختصاراً؛ للدلالةِ عليهما إن قُلْنَا : إنَّ » ما « موصولة اسميَّة ، أو نكرة موصُوفَةً ، ويجُوز أن يكون الحَذْفُ اختصاراً؛ إن قلنا : إنَّها مصدريَّة؛ لأن المصدريَّة لا تحتاج إلى عائد ، بخلاف غيرها ، فإنَّها تَفْتَقِرُ إلى عائدٍ ، فلا بد من الالتِفَاتِ إلَيْه ، وحينئذ يَلْزَمُ تَقْديرُ المفعُول الثُّاني ، ومن الحذف اختصاراً : [ الطويل ]
2253- بأيِّ كِتَاب أمْ بأيَّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبُّهُمْ عَاراً عليَّ وتَحْسِبُ؟
أي : تحسب حُبَّهُم عاراً عليَّ .

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)

لما قرر التَّوحْيد وأرْدَفَهُ بتَقْرير أمر النُّبُوَّةِ ، وتكلَّم في بعض تفَاريع هذا الأصْل ، عاد إلى ذِكْرِ الدَّلائل الدَّالةِ على وجُود الصَّانِع ، وكمال قدرته ، وحِكْمَتِه ، وعلمه ، تَنْبِيهاً على أنَّ المَقْصُودَ الأصْلِيَّ من جميع المَبَاحِثِ والعَقْلِيَّة ، والنقلية : مَعْرِفَةُ الله بذاته ، وصِفَاتِهِ ، وأفعاله .
قوله : « فَالِقُ الحَبِّ » : يجوز أن تكون الإضافة مَحْضَةً ، على أنَّها اسم فاعل بمعنى الماضي؛ لأنَّ ذلك قد كان ، ويَدُلُّ عليه قراءة عبد الله : « فَلَقَ » فعلاً ماضياً ، ويجُوز أن تكون الإضافةَ غير مَحْضَةٍ ، على أنه بِمَعنْى الحال والاستقبال ، وذلك على حِكَاية الحال؛ فيكون « الحَبِّ » مجرُورَ اللَّفْظِ منصوب المحلِّ ، و « الفَلْقُ » : هو شَقُّ للشيء ، وقيده الرَّاغب بإبَانَةِ بَعْضِه من بَعْص ، والفَلَق المُطْمِئنُّ من الأرض بَيْن الرُّبُوَتين « والفَلَق » من قوله - تعالى - : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق } [ الفلق : 1 ] : ما علَّمه الله لمُوسَى - عليه السَّلام- حتى فَلَق البَحْر له .
وقيل : الصُّبْح ، وقيل : هي الأنْهَار المُشَار إليها بقوله - تعالى - : { وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً } [ النمل : 61 ] .
والفِلْقُ بالكَسْرِ بمعنى : المَفْلُوق كالنكث والنِّقْض ، ومنه : « سَمِعْتُه من فِلْقٍ منه » .
وقيل : الفِلْقُ العَجَبُ [ وقيل : ما يُتَعَجَّبُ منه .
قال الرَّاجِز في ذلك : [ الرجز ]
2254- وَاعَجَباً لهذه الفَليقَهْ ... هَلْ تُذْهِبَنَّ القُوَباءَ الرِّيقَهُ ]
والفالِقُ والفَليق : ما بين الجَبَلَيْنِ ، وما بَيْن السَّنَامَيْنِ البعير .
وفسَّر بعضهم « فالق » هنا ، بمعنى : « خَالِق » .
قيل : ولا يُعْرَفُ هذا لُغَةً ، وها لا يُلْتضفَتُ إليه؛ لأن هذا مَنْقُولٌ عن ابْن عباس ، والضَّحَّاك أيضاً ، لا يُقال ذلك على جِهَةِ التَّفْسير للتقريب؛ لأن الفرَّاء نقل في اللُّغَة : أن « فَطَرَ وخَلَقَ وفَلَقَ » بمعنى وَاحِد .
[ و « النَّوَى » ] : اسم جِنْس ، مُفْرَد « نواة » ، على حدّ « قَمْح وقَمْحَ » ، والنَّوَى : البُعْد أيْضاً .
ويُقال : نوت البُسْرَةُ وأنْوَتْ ، فاشتدَّت نَوَاتُهَا ، ولام « النَّواة » بانقلاب عَيْنِها واواً والأكثر التَّغَاير .
فصل في معنى الآية
قال ابن عبَّاسن والضَّحَّاك ، ومُقاتِل : « فالِقُ الحَبِّ والنَّوَى » : خَالِقُ الحَبِّ .
قال الواحدي : ذّهّبُوا ب « فالق » مَذهب « فاطر » ، وقد تقدَّم عن الفرَّاءِ نَقْلُه ذلك لُغَةً .
وقال الحسن ، وقتادة ، والسُّدِّيُّ : معناه : الشَّق ، أي : يشق الحَبَّة من السُّنْبُلَةِ ، والنَّواة عن النَّخْلَةِ ، فيخرجُهَا مِنها .
وقال الزَّجَّاج : يَشُقُّ الحبة اليَابِسَة ، والنُّواة اليَابِسَة ، فيُخْرِجُ منها وَرَقاً أخْضَرَ .
وقال مُجَاهد : يعني الشَّقَّيْنِ اللذين فيهما ، أي : يَشُقُّ الحبَّ عن النَّباتِ ، ويخرجُه مِنْهُ ويشقُّ النَّوَى عن النَّخْلِ ، ويُخْرِجُهَا منها ، و « الحب » جمع حبَّة « ، وهو اسمٌ لجميع البُذُورِ والحُبُوب من البُرِّ ، والشَّعير ، والذُّرَة ، وكل ما لَمْ يُؤكَل حَبَّا ، كالتَّمْرِ والمشمشِ ، والخوخ ، ونَحْوها .

وقال بان الخطيب : إن الشيء قبل دُخُوله في الوُجُودِ ، كان مَعْدُوماً مَحْضاً ، ونَفْياً صِرْفاً ، فإذا أخْرَجَهُ المُوجِدُ من العدم إلى الوُجُودن فكأنَّه بحسب التَّخَيُّلِ والتَّوَهُّم ، شَقَّ ذّلِكَ العَدَمِ ، وفَلَقَهُ ، وأخْرَج ذلك المُحْدَثَ من ذَلِكَ الشَّقِّ ، فبهذا التَّأويل لا يَبْعد حَمْلُ الفَالِق على المُوجِدِ ، والمُحْدِث المُبْدِع .
فإذا عَرَفْت ذلك فَنَقُولُ : إذا وقَعت الحَبَّةُ ، أو النَّوَاةُ في الأرْضِ الرَّطِبَةِ ، ثم مَرًّ عليه مُدَّةٌ ، أظْهَر اللَّه في تِلْكَ الحبَّة والنًّواة [ من أعْلاَها ومن أسْلفلِها شقاً آخر ] أما الشَّقُّ الذي يَظْهَر في أعْلَى الحبَّة والنَّواة؛ فإنه يَخْرُج منه الشَّجْرة الصَّاعِدَة إلى الهَوَاء .
وأما الشقُّ الذي أسْفَلَ تلك الحبَّة والنَّواة؛ فيكون سَبَاً لاتِّصالِ الشَّجرة الصَّاعدة في الهواء بالشَّدرة الهابِطَة في الأرض . ثم هاهُنَا عجائب :
أحدها : أن طبيعَة تلك الشَّجرةِ إن كَانَتْ تَقْتَضِي الهُوِيَّ في عُمْقِ الأرض؛ فكَيْفَ تَوَلَّدَتْ منه الشَّجَرة الصَّاعِدة في الهواء ، وإن كانت تَقْتَضِي الهُوِيَّ في عُمْقِ الأرض؛ فكَيْفَ تَوَلَّدتْ منه الشَّجَرة الصَّاعدة في الهواء ، وإن كانت تَقْضِي الصُّعُودَ في الهَوَاء؛ فكيف تولدت مِنْهَا الشَّجرة الهابِطَة في الأرْضِ ، فلما تولَّدت منها هاتان الشَّجرتان ، مع أن الحسَّ والعَقْلَ يَشْهَد بكون طَبيعَة إحْدَى الشَّجَرتَيْن مُضَادُّ لِطَبيعَةِ الشَّجَرَةِ الأخرى؛ علمنا أنَّ ذلك لَيْس بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ والخَاصيَّة ، بل بِمُقْتَضَى الإبْداع ، والإيجاد ، والتَّكْوين ، والاخْتِرَاع .
وثانيها : أن باطِنَ الأرْضِ صلْبٌ كَثيفٌ لا تَنْفُذُ المَسَلَّة القويَّة فيه ، ولا يَغُوصُ السِّكِّين الحادَّةُ القوي فيه ، مع أنّا نشاهد أطْرافَ تِلءكَ العُرُوقِ في غايَة الرِّقَّةِ واللَّطافَةِ ، بحيث لو دلكها الإنْسَان بأصْبُعِهِ بأدنى قُوَّةٍ ، لصَار كالمَاء ، ثم إنها مع غَايَة لَطَافتها تَقْوَى على النُّفُوذ في تِلءك الأرْضِ الصَّلْبَة ، والغَوصِ في باطِن تِلْكَ الأجْرَام الكَثِيفَة ، فحُصُول هذه القُوَّة الشَّديدة لِهذا الأجْرَامِ التي في غَايَةِ اللَّطَافةِ ، لا بُدَّ وأن يكون بِتَقْديرِ العَزيزِ الحَكِيم .
وثالثها : أنه يَتَوَلَّدُ من تِلْك النَّوَاة شَجَرَةٌ ، ويَحْصُل في تلك الشَّجَرَة طَبَائِعُ مُخْتَلِفَة؛ فإن قشْرِ الخشبة له طَبيعَةٌ مَخْصُوصَةٌ ، وفي داخل تلك القشرة جِرْمُ الخَشَبة ، وفي دَاخلِ تلك [ الخشبة ] جسمٌ رَخْوٌ لطيف يُشْبِهُ العِهْنَ المَنْفُوش ، ثم إنه يَتَولَّدُ من سَاقِ الشَّجَرة أغُصَانها ، ويتولَّدُ من الأغْصَان الأوْرَاقُ ، والأزهار ، والأنْوَار ، ثانياً ، ثم الفَاكِهَةُ ثَالِثاً ، ثم قد يَحْصُل للفاكَهِةَ أرْبَعة أنْواع من القُشُورِ كالجَوْزِ واللَّوز ، فإن قِشْرَه الأعلى هو الجِرْمُ الأخْضر ، وتحته جِرْمُ القِشْر الذي يُشْبِه الخَشَبَ ، وتحت القِشْر الَّذي كالغِشَاءِ الرَّقِيق المحيط باللُّبِّ ، وذلك اللُّبُّ مُشْتَمِلٌ على جِرْم كَثِيف هو أيْضاً كالقِشْرَةِ ، وعلى جِرْم لَطِيفٍ هو كالُّدهْنِ ، وهو المَقْصُود الأصْلِيُّ؛ فَتَوَلَّدُ هذه الأجْسَام المُخْتَلِفَة في طَبَائِعها ، وصِفَاتِهَا ، وألْوَانها ، وأشْكَالِها ، وطُعُومِها ، مع تساوي تأثيرات الطَّبائع ، والفُصُول الأربع ، والطَّبائع الأربَع ، يَدُلُّ على أنَّها إنما حَدَثَتْ بِتَدْبِير العَلِيم ، الحكيم ، والمُخْتَار ، القَادِر ، لا بتدبير الطَّبائع والعَنَاصِر .
ورابعها : أنَّك قد تجد الطَّبائع الأرْبَعة حَاصِلَةً في الفَاكِهَة الواحِدة ، فالأتْرُجُّ : قِشْرُه حَارُّ يَابِسٌ ، ولَحْمُه بارِدٌ رَطْبٌ ، وحَمَاضُهُ بارد يَابِسٌ ، وبذره حَارُّ يَابِسٌ ، وكذلك العِنبُ : قِشْرُهُ وعَجمه بارد يَابِس ، وماؤُه ولَحْمهُ حَارٌّ رَطْبِ؛ فَتَولُّدُ هذه الطَّبائِعِ المُتَضَادَّةِ ، والخَوَاصِّ المُتَنَافِرة عن الحبَّة الواحدة ، لا يَكُوْن إلا بإيجاد الفَاعِل المُخْتَار .

وخامسها : أنَّك تجد أحْوَال الفَوَاكهِ مُخْتَلِفَةً ، فَبَعْضها يَكُون اللُّبُّ في الدَّاخلِ ، والقشر في الخَارج كما في الجَوْزِ واللَّوزِ ، وبَعْضُها تكون الفَاكِهَة في الخَارِجِ ، وتكون الخَشَبَة في الدَّاخِل ، كالخَوْخ والمِشْمِش ، وبَعْضُها تكون النَّوَاةُ لها لُبُّ كالَمِشْمِش ، والخَوْخ ، وبَعْضُها لا لُبَّ له كَنَوى التَّمْرِ ، وبَعْضُ الفَوَاكه لا يكُون لَهُ من الدَّاخلِ والخَارد قشر ، بل يكون مطلوباً [ كالتين ] فهذه أحوال مُخْتَلِفَةٌ في الفواكه .
وأيضاً الحُبُوب المُخْتَلِفَة في الأشْكَالِ والصُّورِن فَشَكْل الحِنْطَةِ كأنَّها نِصْفُ دَائِرِةٍ ، وشكل الحمّص على وَجْه آخر ، فهذه الأشْكَال المُخْتَلِفَة ، لا بُدَّ وأن تكون لأسْرار وحكم علم الخَلِق أنَّ تركِيبَها لا يكمل إلاَّ على هذا الشَّكْلِ .
وأيضاً : فقد تكون الثَّمَرَةُ الوحدة غذاءً لحيوان ، وسُمَّاً لحيوان آخر؛ فاخْتلافُ هذه الصِّفاتِ والأحوال ، مع اتِّحاد الطَّبائعِ ، وتأثير الكواكب ، يَدُلُّ على أنَّها إنَّما حصلت بتخليق الفاعِل المُخْتَار ، الحكيم .
وسادسها : أنَّك تَجِدُ في الوَرَقَةِ الوَاحِدَة من أوْرَاقِ الشَّجَرَة خطاً واحداً مُسْتَقيماً في وَسطها ، كأنَّه بالنّسْبَة لتِلْك الوَرَقَةِ ، كالنُّخَاعِ بالنِّسْبَة إلى بَدَن الإنْسان ، فكأنه يَتَفرَّقُ من النُّخَاع أعْصابٌ كَثِيرَة يَمْنَةً ويَسْرَةً في بَدَن الإنْسان ، ثمَّ لا يزال يَنْفَصِلُ عن شُعَبِهِ شُعَبٌ أخرىن ولا تَزَال تِسْتدقُّ حتى تَخْرُج عن الحِسِّ والابْصَارِ لدقّتها ، فكذلك في تلك الورقة ينفصل عن ذلك الخَطِّ الكبير الوَسطانِيِّ خُيُوطٌ مختلفة ، وعن كلِّ مِنْهُمَا خيوطٌ أخرى أدَقُّ من الأولى ، ولا تَزَالَ كذلك حتَّى تخرج تِلْكَ الخُيُوطُ عن الحسِّ والبَصَرِ .
والخالق- تعالى - إنَّما فعل ذلك ، حتَّى أن القُوَى الجاريَةَ المَذْكُورةَ في جِرْم تِلْك الوَرَقَ ، تقوى على جَذْبِ الأجْزَاء اللَّطيفة الأرْضيَّة في تلك المَجَاري الضيّقة ، فالوُقُوفُ على عِنَايَة حِكْمَةِ الخَالِق في اتِّحادِ تلك الوَرَقَةِ الواحِدَة ، واخْتِلاف أشْكالِ الأوْرَاقِ؛ تُؤذِنُ أنَّ عِنَايَتَه في اتِّحادِ حِكْمَة الشَّجرة أكْمَل .
وإذا عرَفْتَ أنَّه- تبارك وتعالى - إنَّما خَلَق النَّبَات لِمَصْلَحَةِ الحيوان ، عَلِمت أنَّ عنايته في تخليف الحيوانِ أكْمَلُ؛ ولمَّا عَلِمْتَ أن المَقْصُود من تَخْلِيق الحيوانات [ هو الإنْسَانُ ] عَلِمْت أن عِنَايتَه في تَخْلِيقِ الإنْسَان أكْمَلُ .
ثمَّ إنه - تبارك وتعالى - لما خَلَقَ الحَيوان والنَّباتَ ليكون غذاءً ودواءً للإنْسان بِحَسَب جسدِهِ ، والمَقْصُود من تَخْلِيق الإنْسَان : هو المَعْرِفَةُ ، والمحبَّة ، والخدمة؛ لقوله- تبارك وتعالى- : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
قوله : « يخرج » يَجُوز فيه وجهان :
أحدهما : أنَّها جملة مُسْتأنَفَةٌ ، فلا محَلَّ لها .
والثاني : أنَّها في موضع رفع خَبَراً ثانياً ، لأنَّ قوله : « مُخْرجُ » يجوزُ فيه وجهان :
أحدهما : انه مَعْطُوفٌ على « فَالِقِ » ، ولَمْ يذكر الزَّمَخْشَريُّ غيره ، أي : اللَّه فاَلِقٌ ومُخْرِجٌ ، أخبر فيه بِهَذَيْن الخَبريْنِ؛ وعلى هذا فيكون « يُخْرِجُ » على وَجْهِه ، وعلى كونه مُستَانفاً فيَكُون مُعْتَرِضاً على جِهَة البيانِ لما قَبْلَه من معنى الجملة .

والثاني : أنه يكون مَعْطُوفاً على « يُخْرِجُ » ، وهل يَجْعَل الفعل في تأويل اسْم [ ليصِحَّ عطف الاسْمِ عليه ، أو يجعل الاسمُ بتأويل الفِعْلِ؛ ليصِحَّ عَطْفُه عَليْه؟ احتمالاًن مَبْنِيَّان على ما تقدَّمَ في « يُخْرِجُ » .
إن قلنا : إنه مُسْتأنفٌ فهو فِعْلٌ غير مُؤوَّل باسم؛ فَيُرَدُّ الاسم إلى مَعْنَى الفِعْل ، فكأن « مُخْرِج » في قُوَّة « يُخْرج » .
وإن قُلْنَا : إنه خبر ثان ل « إنَّ » وهو بِتَأوِيل اسْم ] واقع موقع خَبَر ثانٍ؛ فلذلك عُطِفَ عليه اسمٌ صريحٌ ، ومن عَطْف الاسْمِ على الفِعْلِ لِكَوْن الفِعْلِ بتأويل اسم قَوْلُ الشَّاعِرِ في ذلك : [ الطويل ]
2255- فَألْفَيْتُهُ يَوْماً يُبِيرُ عَدُوَّهُ ... وَمُجْرٍ عَطَاءً يِسْتَخِفُّ المَعَابِرَا
وقول القائل في ذلك : [ الرجز ]
2256- يَار رُبَّ بَيْضَاءَ مِنَ العَوَاهِجِ ... أمِّ صِبِيَّ قَدْ حَبَا أوْ دَارِجِ
وقول القائل في ذلك : [ الرجز ]
2257- بَاتَ يُغَشِّيها بَعَضْبٍ بَاتِر ... يَقْصِدُ فِي أسْوُقِهَا وَجَائِر
أي : مُبيراً ، أمِّ صِبيَّ حابٍ ، قاصِدٍ .
قوله : « الحَيّ » اسمٌ لما يكون موصوفاً بالحياة ، و « المَيِّتُ » اسمٌ للخَالِي عن صفة الحياة ، وعلى هذا فالنَّبَاتُ لا يكُون حياً ، وفي تَفْسِير هذا الحيِّ والميت قولان :
الأول : حَمْلُ هذا اللَّفظِ على الحقيقة .
قال ابن عبَّاس : أخْرَجَ من النُّطْفَةِ بَشَراً أحْيَاءَ ، ثم يُخْرِجُ من البَشَرِ الحيِّ نُطْفَةً مَيِّتَةً ، ويُخْرِج من البَيْضَةِ فَرُّوجَةً ، ثم يَخْرِج من الدِّجاجَةِ بَيْضَةً مَيَّتةً .
القول الثاني : يُحْمَل على المَجازِ « يخرج » النَّبَات الخَفِيّ من الحَبِّ اليَابِس ، ويُخْرِج الحبَّ اليَابِس من النَّبَاتِ الحَي النَّامِي .
وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما- : يخرج المُؤمِنَ من الكَافِرِ ، كما في حقِّ إبراهيمَ - عليه الصلاة والسلام- والكافر من المُؤمن ، كما في حقِّ ولد نُوح- عليه الصلاة والسلام- والعاصي من المُطِيع وبالعكس .
وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عصام : « الميّت » مُشدَّدَة الياء في الكَلِمَتَيْن ، والباقُون بالتخفيف فيهما .
قوله : { ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ } قيلك معناه : ذلكم اللَّه ، المُبْدِئُ ، الخَالِقَن النَّافِعُ ، الضَّار ، المحيي ، المُمِيت ، « فانَّى تُؤفَكُونَ » : تُصْرَفُونَ عن الحقِّ في إثْبَات القَوْل بِعِبَادَةِ الأصْنَامِ .
وقيل : المُرَاد : أنكم لمَّا شَاهَدْتُمْ أنَّه- تبارك وتعالى - يُخْرِج الحيَّ من الميَّت ، ثم شَاهَدتم أنَّه أخْرَجَ البَدَنَ الحيَّ من النُّطْفِةِ المَيِّتَة ، فَكيْفَ تَسْتَبْعِدُون أن يُخْرِجَ البَدَن الحيَّ من التُّرَاب الرَّمِيمِ مَرَّة أخرى ، والمقْصُودك الإنْكَار على تَكْذِيبهم بالحَشْرِ والنَّشْرِ ، وأيضاً الضَّدَّانِ متساويان في النَّسْبَةِ ، فكما لا يمتنع الانقلابُ من أحد الضدين إلى الآخر ، وجبَ ألاَّ يمتنع الانقلابُ من الثاني إلى الأوَّل ، فكما لا يمتنع حُصُولُ المَوْتِ بعد الحياة ، وجب أيضاً حُصُولُ الحياة بعد الموت ، وعلى كِلاَ التَّقْديريْنِ ، فيخرج منه جواز البَعْثِ والنَّشْرِ .

فصل في إثبات خلق الأفعال لله
تَمسُّكُوا بقوله : « فانَّى تُؤفَكُونَ » على أن فَعْلَ العَبْدِ ليس مخلوقاً لله - تعالى - لأنه لو خَلَق الإفْكَ فيه ، فكيف يليق به أن يقول مع ذلك : « فأنَّى تُؤفَكُون » والجواب : أن القُدْرَةً بالنسبة إلى الضَّدَّيْنِ مُتساويَةٌ ، فَتَرَجُّعُ أحد الطرفين على الآخر لا لمرجِّح ، فحينئد لا يكون هذا الرُّجْحَانُ من الضِّدِّ ، بل يكون مَحْضَ الاتفاق فكيف يحسن أن يقال له : « فأنَّى تُؤفَكُون » وأن تَوَقُّفَ ذلك المرجح على حصول مرجَّح ، وهو الدايعة الجَازِمَةُ إلى الفعل ، فحصول تلك الدَّاعية يكون من الله - تعالى - وعند حُصُولها يجب الفعل ، ويلزمكم كما ألْزَمْتُمُونا .

فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)

هذا نَوْعٌ آخر من دلائل وجود الصَّانع وعلمه وقدرته وحكمته ، فالنوع الأوَّل من دلالة النبات والحيوان ، والنوع الثاني من أنواع الفلك .
وقوله : { فَالِقُ الإصباح } نعت لاسم الله - تعالى- ، وهو كقوله : « فالق الحبِّ » فيما تقدَّم . والجمهور على كَسْرِ همزة « الإصباح » وهو المصدر : أصبح يصبح إصباحاً .
وقال الليث والزجاج : إن الصبح والصباح والإصباح واحد ، وهما أول النهار وكذا الفراء .
وقيل : الإصباح : ضوء الشمس بالنهار ، وضوء القمر بالليل . رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
وقيل هو إضاءة الفجر نُقِلَ ذلك عن مُجَاهد ، والظَّاهر أن « الإصباح » في الأصل مصدر كالإقبال والإدبار سُمِّيَ به الصباح ، وكذا الإمساء وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
2258- ألاَ أيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ ألا انْجَلِ ... بِصُبْحٍ وَمَا الإصْبَاحُ مِنْكَ بأمْثَلِ
وقرأ الحسن وأبو رجاء وعيى بن عمر : « الأصباح » بفتح الهمزة ، وهو جمع « صُبْح » نحو : قُفْل وأقْفَال ، وبرد وأبراد ، وينشد قوله : [ الرجز ]
2259- أفْنَى رِيَاحاً وَبَنِي رِيَاح ... تَنَاسُخُ الأمْسَاءِ والأصْبَاحِ
بفتح الهمزة من « الأمساء » و « الأصباح » على أنهما جمع « مُسْي » و « صُبْح » ، وبكسرهما على أنهما مَصْدَرَان ، وقرئ « فالق الأصباح » بفتح « الأصْبَاح » على حذف التنيون لالتقاء الساكنين كقول القائل في ذلك : [ المتقارب ]
2260- .. وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاَ
وقرئ { والمقيمي الصلاة } [ الحج : 35 ] و { لَذَآئِقُو العذاب } [ الصافات : 38 ] بالنصب حَمْلاً لنون على التنوين ، إلا أن سيبويه - رحمه الله تعالى - لا يُجِيزُ حَذْفَ التنوين لالتقاء الساكنين إلا في شعر ، وقد أجازه المُبرِّدُ في الشعر .
وقرأ يحيى والنخعي وأبو حيوةو : « فلق » فعلاً ماضياً ، وقد تقدَّم أن عبد الله قرأ الأولى كذلك ، وهذا أدَلُّ على أن القراءة عندهم سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ ألا ترى أن عبد الله كيف قرأ « فلق الحب » فعلاً ماضياً ، وقرأ « فالق الإصباح » والثلاثة المذكورين بعكسه .
قال الزمخشري : فإن قلت : فما معنى « فلق الصبح » ، والظلمة هي التي تنفلق عن الصُّبح ، كما قال : [ الطويل ]
2261- .. تَفَرِّيَ لَيْلٍ عَنْ بَيَاضِ نهارِ
قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن يُرَادَ : فالق ظلمة الإصباح ، يعني أنه على حذف مضاف .
والثاني : أنه يُرَاد : فالق الإصباح الذي هو عمود الفَجْرِ عن بياض النهار وإسْفَارِهِ ، وقالوا : انشق عمود الفجر وانصدع ، وسمّوا الفجر فلقاً بمعنى مَفْلُوق؛ قال الطائي : [ البسيط ]
2262- وَأزْرَقُ الفَجْرِ يَبْدُوا قَبْلَ أبْيَضِهِ .. .
وقرئ : « فالق » و « جاعل » بالنصب على المَدْحِ انتهى .
وأنشده غيره في ذلك : [ البسيط ]
2263- فانْشَقَّ عَنْهَا عَمُودُ الفَجْرِ جَافِلَةً ... عَدْوَ النَّحُوصِ تَخَافُ القَانِصَ اللَّحِمَا
قال الليث : الصبح والصباح هما أوَّلُ النهار ، وهو الإصباح أيضاً ، قال تبارك وتعالى : « فالق الإصباح » يعني الصبح .

وقيل : إن الإصباح مصدر سُمِّيَ به الصبح كما تقدم .
قوله : « وجَاعل اللَّيْل » قرأ الكوفيون : « جَعَلَ » فعلاً ماضياً ، والباقون بصفغة اسم الفاعل والرَّسْم يحتملهما ، و « اللَّيْل » مَنْصُوبٌ عند الكوفيين بمقتضى قراءتهم ، ومجرور عند غيرهم ، وَوَجْهُ قراءتهم له فعلاً مناسبة ما بعده ، فإن بعده أفعلاً ماضية نحو : « جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ » و « هُو الذي أنْشَأ » إلى آخر الآيات ويكن « سَكَناً » إما مفعولاً ثانياً على أنَّ الجَعْل [ بمعنى التصيير ، وإما حالاً على أنه بمعنى ] الخلق ، وتكون الحال مُقدّرة ، وأما قراءة غيرهم ف « جاعل » يحتمل أن يكون بمعنى المضين ويؤيده قراءة الكوفيين ، والماضي عند البصريين لا يعمل إلا مع « أل » خلافاً لبعضهم في مَنْع إعمال المعرَّف بها ، وللكسائي في إعماله مُطْلَقا ، فإذا تقرَّر ذلك ف « سَكَناً » مَنْصُوبٌ بفعل مُضْمَرٍ عند البصريين ، وعلى مقتضى مذهب الكسائي ينصبه به .
وزعم أبو سعيد السِّيرَافِيُّ أن اسم الفاعل المتعدي إلى اثنين يجوز أن يعمل في الثَّاني ، وإن كان ماضياً .
قال : لأنه لما أضيف إلى الأوَّل تعذَّرت إضافته للثاني ، فتعين نصبه له .
وقال بعضهم : لأنه بالإضافة أشهب المعرف ب « أل » فيستعمل مطلقاً فعلى هذا « سكناً » منصوب به أيضاً وأما إذا قلنا : إنه بمعنى الحال والاستقبال ، فَنَصْبُهُ به ، و « سكن » فعل بمعنى مَفْعُول كالقبض بمعنى مَقْبُوض ، ومعنى سَكَن ، أي ما يسكن إليه الرجل ، ويطمئن إليه استئناساً به واسترواحاً إليه من زَوْجٍ أو حبيبٍ ، ومنه قيل للنار سكن؛ لأنه يُسْتَأنَسُ بها ، ألا تراهَمَ كيل سمّوها المُؤنِسَة .
قوله : « والشَّمْسَ والقَمَرَ حُسْبَاناً » قرأ الجمهور بنصب « الشَّمس » والقمر « وهي واضحة على قراءة الكوفيين ، أي : بِعَطفِ هذهين المنصوبين على المنصوبين ب » جعل « و » حُسْبَاناً « فيه الوجهان في » سَكَناً « من المفعول الثاني والحال .
وأما على قراءة الجماع فإن اعتقدنا كَوْنَهُ ماضياً فلا بُدَّ من إضمار فِعْلٍ ينصبهما ، أي : وجعل الشمس .
وإن قلنا : إنه غير ماضٍ فمذهب سيبويه أيضاً أن النَّصْبَ بإضمار فعل ، تقول : هذا ضاربٌ زيداً الآن أو غداً أو عمراً بنصب عَمْرٍو ، وبفعل مُقدَّرٍ لا على موضع المجرور [ باسم الفاعل ، وعلى رأي غيره يكون النصب ] على محل المجرور ، ونشدون قوله : [ البسيط ]
2246- هَلْ أنْتَ بَاعِثُ دِينارٍ لِحَاجَتِنا ... أوْ عِبْدَ ربِّ أخَا عَوْنِ بْنِ مِخْرَاقِ
بنصب » عبد « ، وهو محتمل للوجهين على المذهبين .
وقال الزمخشري : أو يعطفان على محل » الليل « .
فإن قلت : كيف يكون ل » الليل « محلّ ، والإضافة حقيقيّة ، لأن اسم الفاعل المُضَاف إليه في معنى المُضِيّن ولا تقول : زيد ضارب عمراً أمس .

قلت : ما هو بمعنى الماضين وإنما هو دالٌّ على فِعْلِ مستمر في الأزمنة .
قال أبو حيَّان : أما قوله : إنما هو دَالٌّ على فعل مستمر في الأزمنة يعنيك فيكون عاملاً ، ويكون للمجرور إذا ذاك بعده مَوْضِعٌ فيعطف عليه « الشمس والقمر » قال : « وهذا ليس بِصَحيحٍ إذا كان لا يَتَقَيَّدُ بزمن خاصّ ، وإنما هو للاستمرار ، فلا يجوز له أن يعمل ، ولا لمجروره مَحَلّ ، وقد نَصُّوا على ذلك ، وأنشدوا عليه قول القائل في ذلك : [ البسيط ]
2265- ألْقَيْتَ كَاسِبَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ .. .
فليس » الكاسب « هنا مقيداً بزمان ، و » إن « تقيَّد بزمان فإما أن يكون ماضياً دون » أل « فلا يعمل عند البصريين ، أو ب » أل « أو حالاً أو مستقبلاً ، فعلم فيضاف على ما تقرر في النحو » . ثم قال : وعلى تقدير تسليم أن الذي للاستمرار يعمل ، فلا يجوز العَطْفُ على مَحَلِّ مجروره ، بل مذهب سبيويه - رحمه الله - في « الذي » بمعنى الحال والاستقبال ألاًَّ يَجُوزُ العَطْفُ على محلِّ مجروره ، بل على النصب بفعل مقدَّرٍ لو قلت : هذا ضارب زيد وعمراً [ لم يكن نصب عمراً ] على المحل [ على الصحيح ] وهو مذهب سيبويه؛ لأن شَرْطَ العَطْفِ على الموضع مفقود ، وهو أن يكون للموضع محرز لا يتغير ، وهذا مُوضِّحٌ في علم النحو .
قال شهاب الدين : وقد ذكر الزَّمخشري في أوّل الفاتحة في { مالك يَوْمِ الدين } [ الفاتحة : 4 ] أنه لمَّا لم يُقْصَدْ به زمانٌ صارت إضافته مَحْضَةً ، فلذلك وَقَعَ صفة للمعارف فمن لازم قوله : إنه يترعف بالإضافة ألاَّ يعمل؛ لأن العالم في نِيَّةِ الانفصال عن الإضافة ، ومتى كان في نِيَّةِ الانفصال كان نكرة ومتى كان نكرة فلا يقع صِفَةً للمعرفة ، وهذا حَسَنٌ حيث يرد عليه بقوله : وقد تقدم تحقيق هذا في الفاتحة .
وقرأ أبو حيوة : « والشَّمْسِ والقَمَرِ » جَرّاً نَسَقاً على اللفظ وقرا شاذّاً « والشَّمْسُ والقَمَرُ » رَفْعاً على الابتداء ، وكان من حَقِّهِ أن يقرأ « حُسْبَانٌ » رَفْعاً على الخبر ، وإنما قرأه نَصْباً فالخبر حينئذ محذوف ، تقديره مَجْعولان حُسْبَاناً ، أو مخلوقان حُسْبَاناً .
فإن قلت : لا يمكن في هذه القراءة رَفْع « حسبان » حتى تلزم القارئ بذلك ، لأن الشَّمْسَ والقمر ليا نَفْسَ الحسبان .
فالجواب : أنهما في قراءة النصب إما مَفْعُولان أوَّلان ، و « حسبان » ثانٍ ، وإما صاحبا حال ، و « حسبان » حال ، والمفعول الثاني هو الأوَّل ، والحال لا بد وأن تكون صَادِقَةً على ذي الحال ، فمهما كان الجواب لكن كان لنا .
والجواب ظاهر مما تقدَّم .
والحُسْبَان فيه قولان :
أحدهما : انه جمعن فقيل : جمع « حِسَاب » ك « رِكاب » و « رُكْبَان » و « شِهَاب » و « شُهْبَان » ، وهذا قول أبي عبيد والأخفش وأبي الهيثم والمبرد .

وقال أبو البقاء : هو جمع « حسبانة » وهو غَلَطٌ؛ لأن الحسبانة : القِطْعَةُ من النار ، وليس المراد ذلك قطعاً .
وقيل : بل هو مصدر ك « الرُّجْحضان » والنقصان و « الخُسْرَان » ، وأما الحساب فهو اسم لا مَصْدَرٌ وهذا قول ابن السِّكِّيتِ .
وقال الزمخشري : و « الحُسْبَان » بالضم مصدر حَسَبْتُ يعني بالفتح ، كما أن الحِسْبَان بالكسر مصدر حَسِبْتُ يعني بالكسر ونظيره : الكُفْرَان والشُّكْران .
وقيل : بل الحِسْبَان والحُسْبَان مصدران ، وهو ول أحمد بن يحيى ، وأنشد أبو عبيد عن أبي زَيْدٍ في مجيء الحُسْبَان مصدراً قوله : [ الطويل ]
2266- عَلَى اللَّهِ حُسْبَانِي إذَا النَّفْسُ أشْرَفَتْ ... عَلَى طَمَعِ أوْ خَافَ شَيْئاً ضَمِيرُهَا
وقال « حُسْبَاناً » على ما تقدَّم من المفعولية أو الحالية .
وقال ثعلب عن الأخفش : إنه منصوب على إسْقاطِ الخافض ، والتقدير : يجريان بِحُسْبَانٍ؛ كقوله : { لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [ الإسراء : 61 ] أي : من طين .
وقوله : « ذلك » إشارة إلى ما تقدَّم من الفلق ، أو الجعل ، أو جميع ما تقدم من الأخبار في قوله « فالق الحبّ » إلى « حُسْبَاناً » .
ومعنى الآية الكريمة : جعل الشمس والقمر بحسبي معلوم لا يجوزانه حتى يتهيّئان إلى أقصى منازلهما « ذلك تَقْدِيرُ العزيزِ العَلِيم » ف « العزيز » إشارة إلى كمال قُدْرتِهِ ، « والعليم » إشارة إلى كمال عِلْمِهِ ، والمعنى : أن تقديري أجْرَامِ الأفلاك بصفاتها المخصوصة وَهَيْئئَتَهَا المحدودة ، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البُطْءِ والسرعة لا يمكن تحصيله إلاَّ بِقُدْرَةِ كاملة متعلقة بجميع الممكنات ، وعلم نَافِذٍ في جميع المعلومات من الكُلِّيَّاتِ والجزئيات ، وذلك مختص بالفاعل المختار سبحانه وتعالى .

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)

وهذا نوع ثالث على كمالِ القُدْرةِ .
فقوله : { َهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم } الظاهر أن « جعل » بمعنى « خَلَق » ، فتكون متعديةً لواحد ، و « لكم » متعلّق ب « جعل » ، وكذا « لِتَهْتَدُوا » .
فإن قيل : كيف يتعلّق حَرْفا جَرِّ متحدان في اللفظ والمعنى؟
فالجواب : أن الثَّاني بدلٌ من الأوَّل بدل اشتمال بإعَادَةِ العامل ، فإن « ليهتدوا » جَارّ ومجرور؛ إذ اللام لام « كي » ، والفعل بعدها منصوب بإضمار « أن » عند البصريين ، وقد تقدَّم تقريره . والتقدير : جعل لكم النجوم لاهتدائكم ، ونطيره قوله : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] ف « لبيوتهم » بدل « لمن يَكْفُرُ » بإعادة العامل .
وقال ابن عطية : « وقد يمكن أن يكون بمعنى » صَيَّر « ، ويُقدَّرُ المفعول الثاني من » لتهتدوا « أي : جعل لكم النجوم هِدَايَةً » .
قال أبو حيَّان : « وهو ضعيف لندور حذف أحد مفعولي » ظَنَّ « وأخواتها » .
قال شهابُ الدين - رحمه الله - : لم يَدَّع ابن عطية المفعول الثاني حتى يجعله ضعيفاً ، إنما قال : إنه [ بدل ] من « لتهتدوا » ، أي : فَيُقَدَّرُ مُتعلِّقُ الجار الذي وقع مفعولاً ثانياً ، كما يُقَدَّرُ في نظائره ، والتقدير : جعل لكم النجوم مُسْتَقِرَّةً أو كائنة لاهتدائكم .
وأما قوله : « جعَل لَكُمُ النُّجُوم » هداية فلإيضاحِ المعنى وبيانه .
والنجوم مَعْرُوفَةٌ ، وهي جمع « نَجْم » ، والنَّجْمُ في الأصل مصدر؛ يقال : نجم الكوكب ينجم نجماً ونجوماً ، فهو ناجمٌ ، ثم أطْلِقَ على الكواكب مجازاً ، فالنجم يستعمل مرة اسماً للكوكب ومرة مصدراً ، والنجوم تُسْتَعْملُ مَرَّةً للكواكب وتارة مصدراً ومنه نَجَمض النَّبْتُ؛ أي : طلع ، ونجم قَرْنُ الشاة وغيرها ، والنجم من النبات ما لا سَاقَ له ، والشجر ما له ساق ، والتَّنْجِيمُ : التفريق ، ومنه نجوم الكتابة تشبيهاً بتفرق الكواكب .
فصل في معنى الآية
معنى الآية الكريمة : خَلَقَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا إلى الطرق والمسالِكِ في ظلمات البر والبحر ، حيث لا يرون شَمْساً ولا قَمَراً ، وهو أن السَّائِرَ في البحر والقِفَارِ يهتدي بها في الليل إلى مَقْصدِه وإلى القِبْلةِ ، وأيضاً إنها زِينَةُ السماء كما قال : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيح } [ تبارك : 5 ] وقال : { إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب } [ الصافات : 6 ] ومن منافعها أيضاً كونها رُجُوماً للشياطين ، ثم قال : « قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَومٍ يَعْلمُونَ » وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّ هذه النجوم كما يمكن أن يستدلِّ بها على [ الطرقات في ظلمات البر والبرح فكذلك يمكن أن يُسْتَدلَّ بها على ] معرفة الصانع الحكيم ، وكما قُدْرِتهِ وعلمه .
والثاني : أن يكون المراد هاهنا : من العلم : العقل ، فيكون نظير قوله تعالى في سوة البقرة : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } [ البقرة : 164 ] إلى قوله : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 164 ] وقوله في آل عمران : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ } [ آل عمران : 190 ] إلى قوله : { لأُوْلِي الألباب } [ آل عمران : 190 ] .
[ الثالث : ] أن المراد من قوله : « لِقَومِ يعلَمُونَ » أي : لقوم يتفكَّرون ويتأملون ، ويستدلون بالمحسوس على المعقول ، ويتنقول ، من الشَّاهد إلى الغائب .

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)

وهذا نوع رابع من دلائلِ وُجُودِ الإله سبحانه وتعالى وكمال قدرته وعلمه ، وهو الاستدلال باحوال الإنسان ، فقوله : « مِنْ نَفْسٍ واحِدةٍ » ، يعني آدم عليه الصلاة والسلام ، وهي نفس واحدة ، وحواء مَخْلُوقةٌ من ضِلْعٍ من أظلاعه ، فصار كل [ الناس ] من نَفْسٍ واحدة ، وهي آدم .
قإن قيل : فما القول في عِيسَى؟
فالجواب : أنه مَخْلوقٌ من مريم التي هي مَخْلُوقَةٌ من أبَوَيْهَا .
فإن قيل : أليس القرآن دالٌّ على أنه مخلوق من الكلمة أو من الروح المَنْفُوخ فيها ، فكييف يصح ذلك؟!
فالجواب : أن كلمة « من » تفيد ابتداء الغاية ولا نزاع أن ابتداء عيسى عليه الصلاة والسلام كان من مريم ، وهذا القدر كان في صِحَّةِ هذا اللفظ .
قال القاضي : فرق بين قوله تبارك وتعالى : [ « أنشأكم » وبين قوله : « خلقكم » لأن أنشأكم يفيد أنه خلقكم لا ابتداء ، ولكن على وجه النمو والنشوء لا من مَظْهَرِ من الأبوين ، كما يقال في النبات : إنه تعالى أنشأه بمعنى ] النمو والزيادة إلى قوت الانتهاء .
قوله : « فَمُسْتَقَرٌّ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف ، والباقون بفتحها ، وأما « مُسْتَوْدَعٌ » فالكل قرأه مفتوح الدال ، وقد روى الأعور عن أبي عمروا بن العلاء كسرها فمن كسر القاف جعل « مُسْتَقَرّاً » اسم فاعل ، والمراد به الأشْخَاصُ ، وهو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي : فمنكم مُسْتَقرٌّ؛ إما في الأصلاب ، أو البطون ، أو البقور ، وعلى هذه القراءة تتناسقُ « ومستودع » بفتح الدال .
وجوز أبو البقاء في « مُسْتَقِرٌّ » بكسر القاف أن يكون مَكَاناً وبه بدأ .
قال : « فيكون مكاناً يستقر لكم » انتهى .
يعني : والتقدير : ولكم مكان يستقر ، وهذا لي بظاهر ألَبَتَّة؛ إذ المكان لا يوصف بكونه مُسْتَقِرّاً بكسر القاف ، بل بكونه مُسْتَقراً فيه .
وأما « مستودَع » بفتحها ، فيجوز أن يكون اسم مفعول ، وأن يكون مكاناً ، وأن يكون مصدراً ، فيقدر الأوّل : فمنكم مستقر في الأصلاب ، ومستودع في الأرحام ، أو مستقر في الأرض ظاهراً ، ومستودع فيها باطناً ، ويقدر للثاني : فمنكم متسقر ، ولكن مكان تستودعون فيه ، ويقدر للثالث : فمنكم مستقر ولكم استيداع .
وأما من فَتَحَ القاف فيجوز فيه وجهان فقط : أن يكون مكاناً ، وأن يكون مصدراً ، أي : فلكم مكان تَسْتَقِرُّونَ فيه ، وهو الصُّلْب ، أو الرحم ، أو الأرض ، أو لكم استقرار فيما تقدَّم ، ويقص أن يكون اسم مفعول ، لأن فعله قاصر لا يُبْنى منه اسم مفعول به [ فيكون اسم مكان والمتسقر بمنزله المقر؛ وإن كان كذلك لم يجز أن يكون خبر المضمر « منكم » بل يكون خبره « لكم » فلتقدير لكمن مقر بخلاف ] مستودع حيث جاز فيه الأوجه الثلاثة .

وتوجيه قرءاة أبي عمرو في رواية الأعور عنه في « مستودع » بالكسر على أن يجعل الإنسانُ كأنه مُسْتَوْدِعُ رزقه وأجله حتى إذا نَفِدَا كأنه رَدَّهُمَا وهو مجاز حَسَنٌ ، ويقوي ما قلته قول الشاعر : [ الطويل ]
2267- وَمَا المَالُ والأهُلُونَ إلاَّ وَدِيعَة ... ٌ وَلاَ يَوْماً أنْ تُرَدَّ الوَدَائعُ
والإنْشَاءُ : الإحْدَاثُ والتربية ، ومنه : إنشاء السحاب ، وقال تبارك وتعالى : { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية } [ الزخرف : 18 ] فهذا يُرَادُ به التربية ، وأكثر ما يستعمل الإنشاء في إحْداثِ الحيوان ، وقد جاء في غيره قال تبارك وتعالى : { وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال } [ الرعد : 12 ] .
والإنْشَاءُ : قَسِيمُ الخَبَرِ ، وهو ما لم يكن له خَارجٌ ، وهل هو مندرج في الطَّلَب أو بالعكس ، أو قسم برأسه؟ خلاف .
وقيل على سبيل التقريب : هو مقارنة اللفظ لمعناه .
قال الزمخشري : « فإن قلت : فلم قيل : » يعلمون « مع ذكر النجوم ، و » يفقهون « مع ذكر إنشاء بني آدم؟
قلت : كأن إنْشَاءَ الإنْسِ من نَفْسِ واحدة ، وتصريفهم على أحوالهم مختلفة ألْطَفُ وأدَقُّ صنعة وتدبيراً ، فكان ذكر الفِقْهِ الذي هو استعمال فِطْنَةٍْ ، وتَدْقِيقُ نَظَرٍ مُطابقاً له » .
فصل في تفسير الاستقرار
قال ابن عبَّاسٍ في أكثر الروايات : إن المستقر هو الأرْحَامُ ، والمستودع الأصلاب .
قال كريب : كتب [ جرير إلى ] ابن عباس يسأله عن هذه الآية الكريمة ، فأجاب : « المستودع » : الصّلب ، و « المستقر » : الرحم ، ثم قرأ { وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ } [ الحج : 5 ] .
قال سعيد بن جبير : قال ابن عباس رضي الله عنهما : هل تزوجت؟ قلت : لا ، قال : أما إنه ما كان من مستودع في ظهرك ، فسيخرجه الله عزَّوجلَّ ويؤيده أيضاً أن النُّطْفَة لا تبقى في [ صُلْبِ الأب زماناً طويلاً والحنين يبقى في رحم الأم زماناً طويلاً فلما كان المُكْثُ في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم ] أولى .
وقيل : « المستقر » صلب الأب ، و « المستودع » رحم الأم؛ لأن النطفة حَصَلَتْ في صُلِب الأب لا من قبل الغير ، وحصلت في رحم [ الأم بفعل الغير ] فأشبهت الوديعة كأنَّ الرجل أوْدَعَهَا ما كان مستقرّاً عنده .
وقال الحسنُ : « المستقر » حَالهُ بعد الموت ، و « المتسودع » حالُهُ قبل الموت؛ لأنه أشبه الوديعَةَ لكونها مُشْرِفَةً على الذَّهابِ والزَّوال وقيل العكس .
وقال مجاهد : « مستقر » على ظَهْرِ الأرض ، و « مستودع » عند الله في الآخرة؛ لقوله عز وجل { وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } [ البقرة : 36 ] .
وقيل : المستودع : القبر ، والمستقر : الجنة والنار .
وقال أبو مُسْلِمٍ : تقديره : هو الذي أنشأكم من نَفْسٍ واحدة ، فمنكم ذكر ومنكم أنثى إلاَّ أنه - تبارك وتعالى- عبَّر عن الذَّكرِ بالمستقر ، لأن النُّطْفَةَ ما تتولَّدُ في صلبه ، وتستقر هناك ، وعبر عن الأنْثَى بالمتسودع؛ لأن رَحمَهَا شبيه بالمستودع لتلك النُّطْفَةِ ، والمقصود من ذكر الله التِّفَاوُت في الصفات أن هذا الاختلاف لا بد له من سببٍ ومؤثّر وذلك هو الفاعل المُخْتَارُ الحكيم .

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

وهذا نَوْعٌ خَامِسٌ من الدَّلائِل على كمال قُدْرَتِهِ تعالى وعلمه وحكمته وحرمته وإحسانه إلى خَلقِهِ .
قوله : « فَأخْرَجْنَا » فيه التِفَاتٌ من غيبة إلى تَكَلُّم بنون العظمة والباء في « به » للسَّببية .
وقوله : « نَبَات كُلِّ شَيْءٍ » قيل : المراد كُلّ ما يسمّى نباتاً في اللغة .
قال الفراء : « رزق كل شيء ، أي : ما يصلح أن يكون غِذَاءً لكل شَيءٍ ، فيكون مَخْصُوصاً بالمتغذى به » .
وقال الطَّبري : « هو جميع ما يَنْمُوا من الحيوان والنبات والمعادن؛ لأن كل ذلك يَتَغَذَّى بالماء » .
ويترتب على ذلك صِنَاعَةٌ إعرابية وذلك أنَّا إذا قُلْنَا بقول غير الفراء كانت الإضافة رَجِعَةٌ في المعنى إلى إضافة شبه الصفة لموصوفها ، إذ يصير المعنى على ذلك : فَأخْرَجْنَا به كُلَّ مُنْبَتٍ ، فإن النبات بمعنى المُنْبَتِ ، وليس مصدراً كهو في { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض } [ نوح : 17 ] وإذا قلنا بقول الفراء : كانت الإضافة إضافة بين مُتباينين؛ إذ يصير المعنى غذاء كل شيء أو رزقه ، ولم ينقل أبو حيان عن الفراء غير هذا القول والفرَّاء له في هذه الآية القَولانِ المُتقدَّمان ، فإن قال : « رزق كل شيء » قال : وكذا جاء في التفسير ، وهو وَجْهُ الكلام ، وقد يجوز في العربية أن تضيف النبات إلى كُلّ شيء ، وأنت تريد بكُلِّ شيء النَّبَات أيضاً ، فيكون مثل قوله : « حَقّ اليَقينِ واليقين هو الحق » .
فصل في دحض شبه للمعتزلة
هذه الآيةُ تقتضي نُزُولَ المَطَرِ في السماء .
قال الجُبَّائِيُّ : إن الله - تبارك وتعالى- ينزل الماء من السَّماء إلى السحاب ، ومن السحاب إلى الأرض لظاهر النَّصِّ قال بعض الفَلاسِفَةِ : إن البُخَارَاتِ الكثير تجتمع في بَاطِنِ الأرض ، ثم تَصْعَدُ ، وترتفع إلى الهواء ، فينعقد الغَيْمُ منها ، ويَتَقَاطَرُ ، وذلك هو المَطَرُ ، فقيل : المراد أنزل من جانب السماء ماءً .
وقيل : ينزل من السحاب ، وسمي السحاب سماء؛ لأن العربَ تُسَمَّى كل ما فَوْقَكَ سماء كسماءِ البيت .
ونقل الواحديُّ في « البسيط » عن ابن عباس - رضي الله عنهما- يريد بالماء هاهُنَا المَطَرَ ، ولا تنزل نقطة من الماء إلا ومعها مَلَكٌ .
قوله : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } يَدُلُّ على أنَّ إخْراجَ النَّباتِ بواسطة الماء ، وذلك يوجب القَوْلَ بالطَّبع ، والمتكلمون ينكرونه .
قال الفراء : هذا الكلام يَدُلُّ على أنه أخرج به نبات كل شيء ، وليس الأمر كذلك ، وكأن المراد : فأخرجنا [ به نبات كل شيء له نبات ، وإذا كان كذلك فالذي لا نبات له لا يكون داخلاً فيه وقوله : « فأخرجنا » ] بعد قوله : « أنزل » فيه الْتِفَاتٌ ، وهو من الفَصَاحةِ مذكور في قوله تبارك وتعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .
وقوله تبارك وتعالى : « فأخْرَجْنَا » هذه النون تمسى نون العَظَمَةِ لا نون الجمع كقوله :

{ إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً } [ نوح : 1 ] { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } [ الحجر : 9 ] { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] قوله : « فَأخْرَجْنَا مِنْهُ » في الهاء وجهان :
أحدهما : أن يعود على النَّبَاتِ ، وهو الظاهر ، و لم يذكر الزمخشري غيره ، وتكون « من » على بابها من كونها لابتداء الغاية ، أو تكون « من » للتبعيض ، وليس كذلك .
والثاني : يَعودُ على الماء ، وتكون « من » سَبَبِيَّةً .
وذكر أبو البقاء- رحمه الله تعالى - الوَجْهَيْنِ ، فقال : « فَأخْرَجْنَا مِنْهُ » أي : بسببه ، ويجوز أن تكون الهاء في « منه » راجعةً علىلنبات ، وهو الأشبه ، وعلى الأول يكون « فأخْرَجْنَا » بدلاً من « أخْرَجْنَا » الأول أي : أنه يكتفي في المعنى بالإخبار بهذه الجملة الثانية ، وإلا فالبدلُ الصناعي لا يظهر ، فالظاهر أن « فأخرجنا » عطف على « فأخرجنا » الأول .
وقال أبو حيان : وأجاز أبو البقاء - رحمه الله تعالى- أن يكون بدلاً من « فأخرجنا » .
قلت : إنما جعله بَدَلاً بِنَاءً على عَوْدِ الضمير في « منه » على الماء فلا يَصِحُّ أن يحكى عنه أنه جَعَلَهُ بدلاً مطلقاً؛ لأن البدليَّة لا تتصَوَّرُ على جعل الهاء في « منه » عائدةً على النبات ، والخَضِرٌ بمعنى الأخْضَر ك « عَوِر » و « أعور » .
قال أبو اسحاق : يقال : أخضر يخضر فهو خضر وأخضر ك « أعور » فهو عَوِر وأعور .
والخُضْرَة أحد الألوان ، وهو بين البياض والسواد ولكنها إلى السَّوادِ أقرب ، وكذلك أطْلِقَ الأسود على الأخضر ، وبالعكس ، ومنه « سواد العراق » لِخُضْرَةِ أرضه بالشجر ، وقال تبارك وتعالى : { مُدْهَآمَّتَانِ } [ الرحمن : 64 ] أي : شَديدتَا السواد لريِّهِمَا ، والمُخاضَرَةُ مُبايَعَةُ الخُضَرِ والثمار قبل بلوغها ، والخضيرة : نخلة ينتثر بُسْرُهَا أخضر .
وقوله عليه الصلاة والسلام : « إيَّاكُمْ وخَضْرَاءَ الدِّمَنِ » فقد فَسَّرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : « المَرْأةُ الحَسْنَاءُ في المَنْبَتِ السُّوءِ » والدِّمنُ : مَطَارحُ الزِّبَالَةِ ، وما يُسْتَفْذّرُ ، فقد يَنْبُت منها ما يَسْتَحْسِنُهُ الرائي .
قال اللَّيْثُ : الخضر في كتاب الله الزَّرْعُ والكلأ ، وكل نبت من الخضر .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز ، والمراد بهذا الخضر العود الأخضر الذي يخرج أوّلاً ، وتكون السُّنْبُلَةُ مركبةً عليه من فوقه
قوله : « نُخْرِجُ مِنْهُ » أي : من الخضر .
والجمهور على « نخرج » مُسْنَداً إلى ضمير المعظم نفسه .
وقرأ ابن محيصن والأعمش : « يخرج » بياء الغيبة مبنياً للمفعول و « حَبٌّ » قائم مقام فاعله ، وعلى كلتا القراءتين تكون الجملة صفةً ل « خَضِراً » وهذا هو الظاهر ، وجوّزوا فيها أن تكون مُسْتَانَفَةً ، و « متراكب » رفعاً ونصباً صفة ل « حب » بالاعتبارين ، والمعنى أن تكون الحبَّات متراكبةً بعضها فوق بعض ، مثل [ سَنَابِلِ ] البُرِّ والشعير والأرز ، وسائر الحبوب ، ويحصل فوق السُّنْبُلَةِ أجسام دقيقة حادة كأنها الإبَرُ ، والمقصود [ من تخليقها مَنْعُ الطير من التِقَاطِ تلك الحبَّاتِ المتراكبة .

قوله : { وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } يجوز في هذه الجملة أوجه : ]
أحسنها : أن يكون « من النخل » خبراً مقدماً ، و « من طلعها » بدل بعض من كل بإعادة العامل ، فهو كقوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر } [ الأحزاب : 21 ] .
و « قِنْوَانٌ » مبتدأ مؤخر ، وهذه الجملة ابتدائية عطفت على الفعلية قبلها .
الثاني : أن يكون « قِنْوان » فاعلاً بالجار قبله ، وهو « من النخل » و « من طلعها » على ما تقدَّم من البدليَّة ، وذلك على رأي الأخفش .
الثالث : أن تكون المسألةُ من باب التَّنَازُعِ ، يعني أن كلاَّ من الجارَّيْنِ يطلب « قنوان » على أنه فاعل على رأي الأخفش ، فإن أعملت الثاني ، وهو مختار قول البصريين أضمرت في الأوّل ، وإن أعملت الأوَّل كما هو مختار قول الكوفيين أضمرت في الثاني .
قال أبو البقاءِ : والوجه الآخر أن يرتفع « قنوان » على أنه فاعل « من طلعها » فيكون في « من النخل » ضمير يفسره « قنوان » وإن رفعت [ « قنوان » ] بقوله : « ومن النخل » على قول من أمعلم أول الفعلين جاز ، وكان في « من طلعها » ضمير مرفوع قلت : فقد أشار بقوله : على أنه فالع « من طلعها » إلى إعمال الثاني .
الرابع : أن يكون « قنوان » مبتدأ ، و « من طلعها » الخبر ، وفي « من النخل » ضمير ، تقديره ونبت من النخل شيء أو ثمر ، فيكون « من طلعها » بدلاً منه . قاله أبو البقاء رحمه الله ، وهذا كلام لا يصيح؛ لأنه بعد أن جعل « من طعلها » الخبر ، فكيف يجعله بدلاً؟ فإن قيل : يجعله بدلاً منه؛ لأن « من النخل » خبر للمبتدأ .
فالجواب : أن قد تقدَّم هذا الوجه ، وجعله مقابلاً لهذا ، فلا بد أن يكون هذا غيره ، فإنه قال قبل ذلك : وفي رفعه وجهان :
أحدهما : هو مبتدأ ، وفي خبره وجهان :
أحدهما : هو « من النخل » ، و « من طلعها » بدل بإعادة الجار .
قال أبو حيان : وهذا إعراب فيه تخليط .
الخامس : أن يكون مبتدأ محذوف الخبر لدلالة « أخرجنا » عليه ، تقديره : ومخرجه من طلع النخل « قنوان » . هذا نص الزمخشري ، وهو كما قال أبو حيان لا حاجة إليه؛ لأن الجملة مُسْتَقِلَّةٌ في الإخبار بدونه .
السادس : أن يكون « من النخل » متعلقاً بفعل مقدر ، ويكون « من طلعها قنوان » جملة ابتدائية في موضع المفعول ب « نخرج » وإليه ذهب ابن عطية ، فإنه قال : « ومن النخل » تقديره : نخرج من النخل « ، و » من طلعها قنوان « ابتداء خبر مقدم ، والجملة موضع المفعول ب » نخرج « .

قال الشيخ : وهذا خطأ؛ لأن ما يتعدى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله إلا إذا كان الفعل مما يعلق ، وكان في الجلمة مَانِعٌ من العمل في شيء من مفرداتها على ما شرح في النحو ، و « نخرج » ليس مما يعلّق ، وليس في الجملة ما يمنع من العمل في مفرداتها؛ إذ لو سُلِّطَ الفعل على شيء من مفردات الجملة لكان التركيب : ويخرج من النخل من طلعها قنوان [ بالنصب مفعولاً به .
وقال أبو حيَّان : ومن قرأ « يخرج منه حبّ متراكب » جاز أن يكون قوله « ومن النخل من طلعها قنوان » ] معطوفاً عليه نحو : ضرب في الدار زيد وفي السوق عمرو أي : إنه يعطف « قنوان » على حب « ومن النخل » على « منه » ، ثم قال : « وجاز أن يكون مبتدأ وخبراً وهو الأوجه » .
والقنوان جمع ل « قِنْو » ، كالصِّنْوَان جمع ل « صِنُو » والقِنْو : العِذْق بكسر العين وهو عُنْقُودُ النخلة ، ويقال له : الكِبَاسَةُ .
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
2268- وَفَرْع يُغَشِّي المَتْنَ أسْوَدَ فَاحِمٍ ... أثِيثٍ كَقِنُوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ
وقال الآخر [ الطويل ] :
2269- سَوَامِقُ جَبَّارٍ أثِيثٍ فُرُوُعُهُ ... وعَالَيْنَ قِنْوَاناً مِنَ البُسْرِ أحْمَرَا
والقنوان : جمع تكسير .
قال أبو علي : الكسرة التي في قنوان ليست التي في « قِنْو » ؛ لأن تلك حذفت في التكسير ، وعاقبتها كسرة أخرى كما قُدِّرَ تَغَيُّرُ كسرة « هِجَان » جمعاً عن كَسْرته مفرداً ، فكسرة « هجان » جمعاً ككسرة « ظِرَاف » .
قال الواحدي - رحمه الله- : وهذا مما تُوَضِّحُهُ الضمة في آخر « منصُور » على قول من قال « يا حارُ » يعني بالضمة ليست التي كانت فيه في قول من قال : « يا حَار » يعين بالكسر .
وفي لقات :
فَلُغَةُ « الحجاز » : قِنْوان « بكسر القاف ، ويه قراءة الجمهور وقرأ الأعمش ، والحباب عن أبي عمرو - رضي الله عنه- ، والأعرج بضمها ، ورواها السمي عن علي بن أبي طَلْحَةَ ، وهي لغة » قَيْس « .
ونقل ابن عطية عكس هذا ، فجعل الضم لغة » الحجاز « ، فإنه قال : » وروي عن اعرج ضم القاف على أنه جع « قُنْو » بضم القاف « .
قال الفراء : » وهي لغة « قيس » ، وأهل « الحجاز » ، والكسر أشهر في العرب « .

واللغة الثالثة « قَنْوَان » بفتح القاف ، وهي قراءة ابي عمرو - رحمه الله تعالى - في رواية هارون عنه ، وخرَّجها ابن جني على أنها اسم جمع « قنو » لا جمعاً؛ إذ ليس في صِيَغِ الجمنع ما هو على وَزْن « فَعْلان » بفتح الفاء ، ونظَّره الزمخشري ب « رَكْب » ، وأبو البقاء - رحمه الله ب « الباقر » ، وتنظير أبي البقاء أوْلَى؛ لأنه لا خلاف في « الباقر » أنه سام جمع ، وأما « رَكْب » فيه خلاف لأبي الحسن مشهور ، ويَدُلُّ على ذلك أيضاً شيء آخر وهو أنه قد سمع في المفرد كسر القاف ، وضمها ، فجاء الجمع عليهما ، وأما الفتح فلم يَرِدْ في المفرد .
واللغة الرابعة « قنيان » بضم القاف مع الياء دون الواو .
والخامسة : « قِنْيان » بكسر القاف مع الياء أيضاً ، وهاتان لغتا « تميم » و « ربيعة » .
وأما المفرد فلا يقولونه بالياء أصلاً ، بل بالواو ، سواء كسروا القاف أو ضموها ، فلا يقولون إلا قِنْواً وقُنْواً ، ولا يقولون : قِنِياً ولا قُنْياً ، فخالف الجمع مفرده في الماة ، وهو غريب ، واختلف في مدلول « القِنْو » ؛ فقيل : هو الجُمَّار ، وهذا يكاد يكون غَلَطاً ، وكيف يوصف بكونه دانياً؛ أي : قريب الجَنَى والجُمَّارُ إنما هو في قَلْبِ النخلة؟ والمشهور أنه العِذْقُ كا تقدم ذلك .
وقال ابن عباس : يريد العراجينَ الَّتي قد تدلّت من الطلع دَانِيَةً ممن يَجْتَنيها .
وروي عنه أنه قال قصار النخل اللاصقة عُذُوقها بالأرض .
قال الزجاج ولم يقل : ومنها قنوان بعيدة؛ لأن ذِكْرَ أحد القسمين يَدُلُّ على الثاني ، لقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، ولم يقل : سرابيل تقيكم البرد . وقيل أيضاً : ذكر الدانية القريبة ، وترك البعيدة؛ لأن النعمة في القريبة أكثر .
قال أبو عبيد : « وإذَا ثَنَّيْتَ » قِنْواً « قلت : قِنْوانِ بكسر النون ثم جاء جمعه على لفظ الاثنين مثل : صِنْو وصِنْوَان ، والإعراب على النون في الجمع [ وليس لهما في كلام العرب نظير؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
2270- ... وقال بِقِنوانٍ البُسْرِ أحْمَرَا
قال شهبا الدين : إذا وقف على » قنوان « المُثَنّى رفعاً ، وعلى » قنوان « جمعاً وقع الاشتراك اللفظي ، ألا ترى أنك إذا قلت » عندي قنوان « وقفاً احتمل ما ذكرته في التثنية والجمع ، وإذا وصلت وقع الفرق ، فإنك تجعل الإعراب على النون حال جمعه كغِرْبَان وصردان ، وتكسر النون في التثنية ، ويقع الفرق أيضاً بوجوه آخر :
منها انقلاب الألف ياء نصباً وجراً في التقينة نحو رأيت قِنْويك وصنويْكَ ، ومررت بِقنويْك وصِنْوَيْك .
ومنها : حذف نون التثنية إضافة وثبوت النون في الجمع ] .
نحو : جاء قواك وصنواك [ ونوانك وصنوانك ] ومنها في النسب فإنك تحذف علامتي التثنية ، فتقول : قنوي وصنوي ، ولا تحذف الألف والنون إذا أردت الجمع بل تقول : قنواني وصنواني ، وهذا اللفظان في الجمع تكسراً يشبهان الجمع تصحيحاً ، وذلك أن كُلاًّ منهما لحق آخره علامتان في حال الجمع مزيدتان ، ولم يتغير معهما بناء الواحد ، والفرق ما تقدم .

وأيضاً فإن الجمع من قِنْوان وصِنْوَان إنما فهمناه من صيغة فعلان ، ولا من الزيادتين ، بخلاف « الزيدين » فإن الجمع فهمناه منهما ، وهذا الفصل الذي من محاسن علم الإعارب والتصريف واللغة .
وقال الراغب : بعد أن ذكر أنه العِذق : والقناة تُشْبِهُ القِنْوَ في كونها غُصْنَيْنِ ، وأما القناة التي يجري فيها الماء قيل لها ذلك؛ لأنها تشبه القناة في الخطِّ والامتداد .
وقيل : أصلة من قَنَيْتُ الشيء إذا ادّخرته؛ لأنها مُدَّخرة للماء .
وقيل : هو من قَانَاهُ أي : خالطه .
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
2271- كبِكْرِ مُقَانَاةِ البيَاضِ بِصُفْرَةٍ ... غَذَاهَا نُمَيْرُ غَيْرَ مَحَلِّلِ
وأما « القَنَا » الذي هو الاحْدِيدابُ في الأنْفِ فَيْشَبَّهُ في الهيئة بالقنا يقال : رجل أقْنَى ، وأمرأةٌ قَنْوَاء ، كأحْمَر وحمراء .
والطَّلْعُ : أوَّل ما يخرج من النَّخْلة في أكْمامِهِ .
قال أبو عبيد : الطَّلْعُ الكُفُرَّى قبل أن تَنْشَقَّ عن الإغريض والإغْريضُ يسمى طلعاً يقال : أطلعت النخلة إذا أخرجت طلعها تطلع إطلاعاً وطلع الطلع يطلع طلوعاً؛ ففرقوا بين الإسنادين ، وأنشد بعضهم في مراتب ام تثمره النخل قول الشاعر : [ الرجز ]
2272- إنْ شِئْتَ أنْ تَضْبِطَ يَاخَلِيلُ ... أسْمَاء مَا تُثْمِرُهُ النَّخِيل
فَاسْمَعْهُ مَوْصُوفاً عَلَى مَا أذْكُرُ ... طَلْعٌ وبَعءدَهُ خلالٌ يَظْهَرُ
وبَلَحٌ ثُمَّ يَلِيهِ بُسْرُ ... ورُطَبٌ تَجْنِيهِ ثُمَّ تَمْرُ
فَهَذِهِ أنْواعُهَا يَا صِاحِ ... مَضْبُوطَةً عَنْ صَاحِبِ الصِّحَاحِ
قوله : « وجَنَّاتٍ » الجمهور على كَسْرِ التاء من « جنات » ؛ لأنها مَنْصُوبة نَسَقاً على « نبات » أي : فأخرجنا بلاماء النبات وجنات ، وهو من عَطْفِ الخاصِّ على العام تشريفاً لهذين الجنسين على غيرهما كقوله تعالى : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] وعلى هذا فقوله : { وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } جملة معترضة وإنما جيئ بهذه الجملة معترضة وأبرزت في صورة المبتدأ والخبر تعظيماً للْمنَّةِ به لأنه من أعظم قُوتِ العرب ، ولأنه جامع بين التَّفَكُّهِ والقوت .
ويجوز أن ينتصب « جنات » نسقاً على « خَضِراً » ، وجوز الزمخشري - وجعلهُ الأحسن - أن ينتصب على الاختِصَاصِ ، كقوله : { والمقيمي الصلاة } [ الحج : 35 ] .
قال : « لفضل هذين الصِّنفين » وكلامه يفهم أن القراءة الشهيرة عنده رفع « جَنَّات » والقراءة بنصبهما شاذَّة ، فإنه أوَّل ما ذكر توجيه الرَّفْع كما سياتي ، ثم قال : وقرئ « وجنات » بالرفع وفيها ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنها مرفوعة بالابتداء ، والخبر محذوف ، واختلفت عبارة العربين في تقديره فمنهم من قدَّرهُ متأخراً ومنهم من قدَّرَهُ متقدماً؛ فقدَّره الزمخشري متقدماً أي : وثمَّ جنات ، وقدره أبو البقاء : ومن الكَرْمِ جنَّاتٌ ، وهذا تقدير حسن لِمُقابلةِ قوله : « ومِنَ النَّخْل » أي : من النخل كذا ، ومن الكرم كذا ، وقدَّرهُ النَّحَّاسُ « ولَهُمْ جنَّاتٌ » ، وقدره ابن عطية : « ولكن جنَّات » .

ونظيره قوله في قراءته { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] بعد قوله : { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ } [ الواقعة : 17 ، 18 ] أي : ولهم حُورٌ عين ، ومثل هذا اتَّفَقَ على جوازه سيبويه ، والكسائي ، والفراء .
وقدره الزمخشري ، وأبو حيان متأخراً؛ فقال : أي : وجنات من أعناب أخْرجناها قال الشيخ : ودلَّ على تقديره قوله قبل : « فأخْرَجْنَا » كما تقول : أكرمت عبد الله وأخوه ، أي : وأخوه أكرمته .
قال شهاب الدين : وهذا التَّقديرُ سَبَقَهُ إليه ابن الأنْبَارِيّ ، فإن قال : « الجنَّات » رفعت بمضمر بعدها تأويلها : وجنات من أعناب أخرجناها ، فجرى مجرى قول العرب « أكرمت عبد الله وأخوه » تريد وأخوه أكرمته .
قال الفرزدق : [ الطويل ]
2273- غَدَاةَ أحَلَّتْ لابْنِ أصْرَمَ طَعْنَةٌ ... حُصَيْنٍ عَبِيطاتِ السِّدائِفِ والخَمْرُ
فرفع « الخمر » وهي مفعول على معنى : والخمر أحَلَّها الطَّعْنَة .
والوجه : الثاني : أن يرتفع عَطْفاً على « قِنْوان » تغليباً للجوار؛ كقول الشاعر : [ الوافر ]
2274- ... وَزَجَّحْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا
فنسق « العيون » على « الحواجب » تَغْلِيباً للمُجَاورِةِ ، والعيون لا تُزَجَّج كما أن الجنَّاتِ من الأعناب لايَكُنَّ من الطَّلْع ، هذا نص مذهب ابن الأنباري أيضاً ، فَتَحَصَّلَ له في الآية الكريمة مذهبان ، وفي الجملة فَالجواب ضَعيفٌ وقد تقدَّم أنه من خَصَائِصِ النَّعْتِ .
والثالث : أن يُعطف على « قنوان » .
قال الزمخشري : على معنى مُحَاطَة أو مخرجه من النخل قنوان ، وجنات من أعناب أي من نبات أعناب .
قال أبو حيان رحمه الله تعالى : وهذا العَطْفُ على ألاَّ يلحظ فيه قَيْدٌ من النخل ، فكأنه قال : ومن النخل قِنْوانق دانية ، وجنات من أعناب حَاصِلة ، كما تقول : « من بني تميم رجل عاقل ورجل من قريش مُنْطَلِقان » .
قال شهاب الدين رحمها لله : وقد ذكر الطبري أيضاً هذا الوَجْهَ أعني عَطْفَهَا على « قنوان » ، وضعَّفَهُ ابن عطية ، كأنه لم يظهر له ما ظهر لأبي القاسم من المعنى المشار إليه ، ومنع أبو البقاء عطفه على « قنوان » ، قال : « لأن العِنبَ لا يخرج من النخل » .
وأنكر أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة قال أبو حاتم : « هذه القرءاة محال لأن الجنات من الأعناب لا تكون من النخل » .
قال شهاب الدين : أما جواب أبي البقاء فبما قاله الزمخشري .
وأما جواب أبي عبيد وأبي حاتم فبما تقدَّم من تَوْجِيهِ الرفع ، و « ن أعاب » صفة ل « جنات » فتكون في محلِّ رفع ونصب بحسب القراءتين ، وتتعلق بمحذوف .
قوله : « والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ » لم يقرأهما أحد إلاَّ مَنْصُوبَيْنِ ، ونصبهما : إما عطف على « جنات » ، وإما على « نبات » وهذا ظاهر قول الزمخشري ، فإنه قال : وقرئ « وجنات » بالنصب عطفاً على « نبات كل شيء » أي : وأخرجنا به جنات من أعناب ، وكذلك قوله : « والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ » .

ونص أبو البقاء على ذلك فقال : « وجنات » بالنصب عَطْفاً على « نبات » ومثله « الزيتون والرمان » .
وقال ابن عطية : عطفاً على « حبًّا » وقيل على « نبات » وقد تقدم أن في المعطوف الثالث فصاعداً احتمالين :
أحدهما : عطفه على ما يليه .
والثاني : عطفه على الأوَّل نحوه مررت بزيد وعمرو وخالد ، فخالد يحتمل عطفه على زيد وعمرو ، وقد تقدم أن فائدة الخلاف تظهر في نحو : « مررت بك وبزيد وبعمرو » ، فإن جعلتهُ عطفاً على الأول لزمت الباء ، وإلاَّ جَازتْ .
و « الزَّيْتُون » وزنه « فَيْعُول » فالياء مزيدة ، والنون أصْلِيَّة لسقوط تلك في الاشتقاق ، وثبوت ذي ، قالوا : أرض زتنَةٌ ، أي : كثيرة الزيتون ، فهو نظير قَيْصُوم ، لأن فَعْلُولاً مفقود ، أو نادرٌ ولا يتوهم أن تَاءَهُ أصلية ونوه مزيدة لدلالة الزَّيْتِ ، فإنهما مادَّتانِ مُتغايرتان ، وإن كان الزيت مُعْتصراً منه ، ويقال : زاتَ طعامه ، أي : جعل في زَيْتاً ، وزاتَ رَأسَهُ أي : دَهَنَهُ به ، وزْدَاتَ : أي ادَّهَنَ أبْدلت تاء الافتعال دالاً بعد الزاي كازْدَجَرَ وازْدَانَ .
و « الرُّمَّان » وزنه فُعَّال نونه أصلية ، فهو نظير : عُنَّاب وحُمَّاض ، لقولهم : أرض رَمِنَهُ أي : كثيرَتُهُ .
قال الفراء : قوله تعالى : { والزيتون والرمان } يريد شجر الزيتون ، وشجر الرمان؛ كقوله تعالى : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] يريد أهْلَهَا .
فصل في معنى تقدم النخل على الفواكه في الآية
ذكر تبارك وتعالى هاهنا أربعة أنواع من الأشْجَارِ : النخل والعنب والزيتون والرمان ، وقدَّم الزرع على الشَّجرِ؛ لأن الزَّرْعَ غذاء ، وثمار الأشجار فواكه ، والغذاء مُقدَّمٌ ، وقدم النخل على الفواكه؛ لأن الثمر يجري مُجْرَى الغذاءِ بالنسبة إلى العرب .
قال الحكماء : بينه وبين الحيوان مُشابهةٌ في خواصَّ كثيرة لا توجد في النبات ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : « أكْرِمُوا النَّخْلَةَ فإنَّهَا عَمَّتُكُمْ فإنَّها خُلِقَتْ مِنْ طينَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ » .
وذكر العِنَب عقيبَ النخل؛ لأن العنب أشْرَفُ أنواع الفواكه؛ لأنه أول ما يظهر يصير مُنْتَفَعاً به إلى آخر الحال ، فأول ما يظهر على الشجر خُيُوطٌ خُضْرٌ رقيقة حَامِضَةُ الطعم لذيذَةٌ ، وقد يمكن اتِّخَادُ الصبائِغ منه ، ثم يظهر بعده الحُصْرُمُ ، وهو طعام شَريفٌ للأصْحِّاءِ والمَرْضَى ، وقد يتخذون من الحصم أشربة لطيفة المذاقِ نافعَةٌ لأصحاب الصفراء ، وقد يتخذ الطبيخ منه ، لأنه ألَذّ الطبائخ الحامضة ، ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه [ وأشهاها فيمكن ادِّخار العنب المعلق سننة أو أكثر وهو ألذ الفواكه ] المُدَّخرة ، ثم يخرج منه أربعة أنواع من المتناولات : وهي الزَّبِيبُ والدبْسُ والخَمْرُ والخَلُّ ، ومنافع هذه الأربع لا تنحصر إلا من مجلدات والخمر فإن كان الشَّرْعُ قد حَرَّمَهَا ، ولكنه تبارك وتعالى قال في صفتها :

{ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ البقرة : 219 ] ثم قال : { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [ البقرة : 219 ] والأطباء يتخذون من عجمه جوارشات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة ، فتبيّن أن العنب كأنه سلطان الفواكه ، وأما الزَّيْتُونُ فهو أيضاً كثير النَّفْعِ كثير البركة؛ لأنه يمكن تَنَاوُلُهُ كما هو ، ونفصل عنه أيضاً دهن كثير عظيم النفع في الأكل ، وسائر وجوه الاستعمال وأما الرمان فحاله عجيب جداً؛ لأنه جِسْمٌ مُرَكَّبٌ من أربعة أقسام : قشرة وشحمه وعجمه وماءه ، فأما الأقسام الثلاثة وهي القشر والشحم والعجم ، فهي باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عَفِصَةٌ قوية في هذه الصفات وأما ماءُ الرمان فبالضَّدِّ من هذه الصفات ، فإنه ألَدُّ الأشْرِبَةِ وألْطَفُهَا ، وأقربها إلى الاعتدال ، وأشَدُّهَا مناسبة للطَّبائِع المعتدلة فيه تقوية للمِزَاج الضعيفن وهو غذاء من وَجْهٍ ، ودواء من وجه آخر ، فإذا تَأمَّلت في الرُّمَّان وجدت الأقسام الثلاثة في غاية الكثافةِ التامة الأرضية ، ووجدت القسم الرابع وهو مَاءُ الرُّمَّانِ في غاية اللَّطَافَةِ والاعتدال ، فكأنه تبَارك وتعالى جمع فيه بين المُتَضَادَّيْنِ المُتَغَايريْنِ ، فكانت دلالة القدرة والحكمة فيه أكمل وأتم .
نَبَّه تعالى بذكر هذه الأقسام الأربعة [ التي هي أشرف أنواع النبات ] على الباقي .
قوله : « مُشْتَبِهاً » حالٌ؛ إما من « الرُّمَّان » لِقُرْبِهِ ، وحذفت الحال من الأول؛ تقديره : والرمان مشتبهاً ، ومعنى التشابه أي في اللَّوْنِ ، وعدم التشابه أي في الطعم .
وقيل : هي حال من الأول ، وحذفت حال الثاني ، وهذا كما تقدَّم في الخبر المحذوف ، نحو : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] وإلى هذا نحا الزمخشري ، فإنه قال : تقديره : والزيتون مشتبهاً ، وغير مشتبه ، والرمان كذلك؛ كقول القائل في ذلك : [ الطويل ]
2275- رَمَانِي بأمْرٍ كُنْتُ مِنءهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئاً . . .
أي : ولم يقل : مشتبهين اكتفى بوصف أحدهما أو على تقدير : « والزيتون مشتبهاً وغير متشابه ، والرُّمَّان كذلك » .
قال أبو حيان : « فعلى قوله يكون تقدير البيت : كنت منه بريئاً ، ووالدي كذلك ، أي : بريئاً ، والبيت لا يتَعيَّنُ فيه ما ذكره؛ لأن » ريئاً « على وزن » فعيل « كصديق ورفيق ، فَصَحَّ أن يخبر به عن المفرد والمثنى والمجموع ، فيحتمل أن يكون » بريئاً « خبر » كان « على اشتراك الضمير والظاهر المعطوف عليه فيه إذ لا يجوز أن يكون خبراً عنهما ، ولا يجوز أن يكون حالاً عنهما ، إذ لو كان كذلك لكان التركيب مشتبهين وغير مشتبهين » .
وقال أبُو البقاءِ : حَالٌ من « الرمان » ومن الجميع ، فإن عَنَى في المعنى فصحيح ، ويكون على الحذف ، وكما تقدم فإن أراد بالصِّناعةِ ، فليس بشيء؛ لأنه كأنه يلزم المطابقة .
والجمهور على « مشتبهاً » . وقرئ شاذاً « متشابهاً » وغير متشابه كالثانية ، وهما بمعنى واحِدٍ قال الزمخشري : « كقولك اشتبه الشيئان ، وتشابها كاسْتَوَيَا وتَساوَيَا والافتعال والتَّفَاعُل يشتركان كثيراً » .

انتهى وقد جمع بنيهما في هذه الآية الكريمة في قوله « مشتبهاً وغير متشابه » .
فصل في معنى « متشابه » في الآية
قال بعضهم : متشابه في اللون والشكل ، ومع أنها تكون مُتشابِهَةً في الطعم واللَّذَّةِ ، فإن الأعناب والرمان قد تكون مُتَشابِهَةً في الصورة واللون والشكل ، مع أنها تكون مختلفةً في الحلاوةِ والحُمُوضَةِ .
وقيل : إن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القِشْرِ والعجم متشابهة في الطعم والخَاصيَّة .
وقال قتادة : مشتبهاً وَرَقُهَا مختلفاً ثمرها؛ لأن وَرَقَ الزيتون يشبه ورق الرمان .
وقيل : إنك إذا أخذت عنقود العنب وجدْت جميع حبَّاتِهِ نَاضِجةً حلوة طيبة إلاَّ حبَّاتٍ مخصوصة لم تدرك ، بل بقيت على أوَّل حالها في الحموضة والعُفُوصَةِ ، ولعى هذا قبعض حبَّات ذلك العنقود متشابه ، وبعضها غير متشابه .
قوله : « إلَى ثَمَرِهِ » متعلق ب « انظروا » وهو بمعنى الرُّؤية ، وإنما تَعَدَّتْ ب « إلى » لما تَتَضَمنَّهُ من التفكر .
وقرأ الأخوان « ثُمُرِهِ » بضمتين ، والباقون : فتحتين .
وقرئ شاذاً بضم الأوّل ، وسكون الثاني .
وأما قراءة الأخوين فتحتمل أربعة أوجه :
أحدها : أن يكون اسماً مفرداً؛ كطُنُب وعُنُق .
والثاني : أنه جمع الجمع ، فَثْمر جمع : ثمار ، وثمار جمع ثَمَرة وذلك نحو : أكُم جمع إكَام ، وإكَام حمع أكَمَة ، فهو نظير كُثْبَان وكُثُب .
والثالث : أنه جمع « ثَمَر » كا قالوا : أسَد وأسُد .
والرابع : أنه جمع : ثمرة .
قال الفارسي : « الأحْسَنُ أنيك ون جمع ثَمَرَة ، كخَشَبَة وخُشُب ، وأكَمَة وأكُمُ ، ونظيره في المعتل : لابَةٌ ولُوبٌ ، وناقةٌ ونوقٌ ، وسَاحَةٌ وسُوحٌ » .
وأما قراءة الجماعة ، فالثَّمَر اسم جنس ، مفرده ثمرة ، كشجر وشجرة ، وبقر وبقرة ، وجَرَز وجَرَزَة .
وأما قراءة التسكين فيه تخفيف قراءة الأخوين وقيل : بل هي جمع « ثمرة » كبُدْن جمع « بَدضنة » ، ونقل بعضهم أنه يقال : ثمرة بزنة سمرة ، وقياسها على هذا ثَمُر كَسَمُر بحذف التاء إذا قصد جمعه ، وقياس تكسيره أثمار ، كعضد وأعْضَاد .
وقد قرأ عمرو الذي في سورة « الكهف » بالضم وسكون الميم ، فهذه القرءاة التي هنا فَصِيحَةٌ كان قياس أبي عمرو أن يقرأهما شيئاً واحداً لولا أن القراءة مُسْتَنَدُهَا النقل .
وقرا أبو عمرو والكسائي وقنبل « خُشْب » والباقون بالضم فهذه القراءة نظير تيك .
وهذا الخلاف أعني في « ثمره » والتوجيه بعينه جارٍ في سورة يس [ آية 35 ] وأما الذي في سورة « الكهف » ففيه ثلاث قراءات : فعاصم يقرؤه بفتحتين ، كما يقرؤه في هذه السورة ، وفي يس فاستمر على عَمَلٍ واحد ، والأخوان يقرآنه بضمتين في السور الثلاث ، فاستمر على عمل واحد ، وأما نفاع وابن كثير وأبن عامر فقراوا في « الأنعام » و « يس » فتحتين ، وقرأوا ما في « الكهف » بضمتين .

وأما أبو عمرو فقرأ ما في « الأنعام » و « يس » بفتحتين ، وما في « الكهف » بضمة وسكون ، وقد ذكروا في توجيه الضمتين في « الكهف » ما لا يمكن أن يأتي في السورتين ، وذلك أنهم قالوا في الكهف : الثُّمُر بالضم : المال ، وبالفتح المأكول .
قوله : « إذَا أثْمَرَ » ظرف لقوله : « انْظُرُوا » وهو يحتمل أن يكون متمحضاً للظرف ، وأن يكون شرطاً ، وجوابه محذوف أو متقدم عند من يرى ذلك أي : إذا أثمر فانظروا إليه .
قوله : « وَيَنْعِهِ » الجمهور على فتح الياء مِنْ « يَنْعهِ » وسكون النون .
وقرأ ابن محيصن بضم الياء ، وهي قراءة قتادة والضحاك .
وقرأ إبراهيم بن أبي عَبْلَةَ واليماني : يانعة ، ونسبها الزمخشري لابن محيصن ، فيجوز أن يكون عنه قراءتان ، والينعُ بالفتح والضم مصدر يَنَعَتِ الثمرة؛ أي : نضجت ، والفتح لغة « الحجاز » والضم لغة بعض « نجد » ، ويقال أيضاً : يُنُع بضم الياء والنون ويُنُوع بواو بعد ضمتين .
وقيل : اليَنْعُ بالفتح جمع « يانع » كتاجر وتَجْر ، وصاحب وصَحْب ، ويقال : يَنَعت الثمرة ، وأينعت ثلاثياً ورباعياً بمعنى .
وقال الحجاج : « أرى رءوساً قد أيْنَعَتْ وحان قِطَافُهَا » ، ويانع : اسم فاعل .
وقيل : أينعت الثمرة وينعت احْمَرَّتْ قاله الفراء ، ومنه الحديث في المُلاعَنَةِ : « إنْ ولدَتْهُ أحْمَرَ مِثْلَ اليَنَعَةِ » . ويه خَرَزَةٌ حمراء ، قيل : هي العَقيقُ ، أو نوع منه ويقال : يَنَعَتْ تَيْنِع بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل ، هذا قول أبي عبيده وأنشد : [ المديد ]
2276- فِي قِبَابٍ حَوْلَ دَسْكَرَةٍ ... حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا
وقال الليث بعكس هذا ، أي بكسرها في الماضي ، وبفتحها في المستقبل وأينعت فهي تينعُ وتَوْنَعُ إيناعاً ويَنَعاً بفتح الياء ويُنعاً بضم الياء ، والنَّعت يَانِعٌ ومُونِعٌ .
فإن قيل هذا في أول حال حدوث الثمرة ، وقوله : « وينعه » أمر بالنظر في حَالِ تمامها وكمالها ، والمقصود منه أنَّ هذه الثمار في أول حدوثها على صفات مخصوصة عند مالها تنتقل إلى أحوال مُتَضَادَّةٍ للأحوال السابقة .
قيل : إنها كانت مَوْصُوفَةً بالخضرة ، فتصير سَوْدَاءَ ، أو حمراء ، أو صفراء ، أو كانت مَوْصُوفَةً بالحموضة ، وربما كانت في أوَّل الأمرْرِ بَارِدَةً بحسب الطبيعة ، فتصير في آخر الأمر حَارَّةً بحسب الطبيعة ، فحصول هذه التّبَدُّلاتِ والتغيرات لا بُدّ له من سَبَبٍ ليس هو تأثير الطَّبائعِ والفُصُولِ والأنجم والأفلاك؛ لأن نِسْبَةَ هذه الأفعال بأسْرِهَا إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية مُتَشَابِهَةٌ ، والنِّسَبُ المتشابهة لا يمكن ان تكون سبباً لِحُدُوثِ الحوادث المختلفة ، ولما بَطَلَ إسْنادُ حدوث هذه الحوادث إلى الطَّبائع والأنْجُمِ والأفلاك ، وجب إسْنَادُهَا إلى القادرِ الحكيم العليم المُدَبِّرِ لهذا العالم على وَفْقِ الرحمة والمصلحة والحكمة ، فَنَاسَبَ ختام هذه الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } للدلالة على ما تقدم في وَحْدَانِيَّتِهِ ، وإيجاد المَصْنُوعَاتِ المختلفة من أنها ناَبِتَةً من أرض واحدة ، وتُسْقَى بماء واحد ، وهذه الدلائل إنما تَنْفَعُ المؤمنين دون غيرهم ، كقوله تبارك وتعالى :

{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ]
قال القاضي رحمه الله : المراد لمن يطلب الإيمان بالله- تبارك وتعالى-؛ لأنه لمن آمن ولمن لا يؤمن فإن قيل : لم أوقع الاختلاف بين الخَلْقِ في هذه المسْألةِ مع وجود مثل هذه الدلالة [ الجلية القوية؟ ] .
أجيب عنه بأن قولة الدليل لا تفيد ولا تنفع إلاَّ إذا قدر الله للعبد حصول الإيمان ، فكأنه قيل : هذه الدلالة على قوتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله تعالى في حقه بالإيمان .
فأما من سبق قضاء الله له بالكفر لم ينفع بهذه الدلالةِ ألبتة أصلاً فكان المقصود من هذه التخصيص التنبيه على ما ذكرنا .

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)

لما ذكر البراهين الخمسة من دلائل العالم الأعَلْى والأسفل على ثبوت الإلهية ، وكمال القدرة الحكمة ، ذكر بعد ذلك أنَّ من النَّاسِ من أثبت لله شركاء ، وهذه المَسْألةُ تقدَّمَ ، إلاَّ أن المَذْكُورَ هنا غير ما تقَّم ذِكرُهُ؛ لأن مثبتي الشَّريك طوائف منها عَبَدَةُ الأصنام فهم يقولون : الأصنام شُرَكَاءُ لله في العبودية والتكوين .
ومنها من يقول : مدبر هذا العالم هو الكَوَاكِبُ ، وهؤلاء فَرِيقَان منهم من يقول : إنها وَجِبَةُ الوجود لذواتها ، ومنهم من يقول : إنها ممكنة الوجود بلذواتها محدثة ، خالقها هو الله تبارك وتعالى ، إلا أنه تبارك وتعالى فَوَّضَ تدبير هذا العالم الأسفل إليها ، وهؤلاء هم الذين نَاظَرَهُمُ الخليل عليه السلام بقوله : { لاا أُحِبُّ الآفلين } [ الأنعام : 76 ] .
ومنها الذين قالوا : للعالم إلهان : أحدهما : يفعل الخير خلاق النور والناس والدَّوَابَ والأنعام والثاني : يفعل الشَّر ، [ وهو إبليس ] خالق الظلمة ، والسِّبَاع والحِّيات والعقارب ، وهم مذكورون هاهنا .
قال ابن عباس رضي الله عنها والكلبي : نزلت هذه الآية في الزَّنَادقة أثبتوا الشرك لإبليس [ في الخلق ] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : والَّذِي يقوي هذا قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } [ الصافات : 158 ] فإنما وصف بكونه من الجِنّ؛ لأن لفظ الجِنّ مشتق من الاستتار ، والملائكة الروحانيون لا يرون بالعيون ، فصارت كأنها مستترة عن العيون ، فلهذا أطلق لفظ الجن عليها .
قال ابن الخطيب - رحمه الله- : هو مذهب المَجُوسِ ، وإنما قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا قول الزَّنَادقة؛ لأن المجوس يُلَقبونَ بالزنادقة؛ لأن لاكتاب الذي زعم زادشت أنه نُزِّلَ عليه من عند الله تبارك وتعالى مسمى بالزند ، والمنسوب إليه يسمى زيندي ، ثم أعْرِبَ فقيل : زنديق ، ثم جمع فقيل : الزنادقة .
واعلم أن المجُوسَ قالوا في كل ما في هذا العالم نم الخيرات فهو من يزدان ، وجميع ما فيه من الشر فهو من أهرمن وهو المسمى ب « إبليس » في شرعنا ، ثم اختلفوا فقال أكثرهم : هو محدث ، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة .
وقال بعضهم : إنه قَدِيمٌ أزَلِيُّ ، واتفقوا أنه شريك لله - تعالى - في تَدْبيرِ هذا العالم ، فَخَيْرُهُ من الله تبارك وتعالى ، وشَرُّهُ من إبليس لَعَنَهُ الله ، فهذا شرح قول ابن عباس رضي الله عنهما .
فإن قيل : القوم أثبتوا لله شريكاً واحداً ، وهو إبليس ، فكيف حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء .
فالجواب : أنهم يقولون : عَسْكَرُ الله هم الملائِكَةُ ، وعسكر إبليس الشياطين ، والملائكة فيهم كثرة عظيمة ، وهم أرْوَاحٌ طاهرة مُقَدَّسَةٌ يلهمون الأرواح البشرية للخيرات والطاعات ، والشياطين فيهم أيضاً كثرة عظيمة تلقي الوَسَاوِس الخبيثة إلى الأرواح البَشَرِيَّةِ ، والله تبارك وتعالى مع عَسْكَرِهِ من الملائكة يحاربون إبْلِيسَ مع عَسْكَرِهِ من الشياطين ، فلهذا حكى الله تبارك وتعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء الجنَّ .

قوله : « شُرَكَاءَ الجنَّ » الجمهور على نصب « الجِنَّ » وفيه خمسة أوجه :
أحدها : وهو الظاهر أن الجِنَّ هن المفعول الأوَّل .
والثاني : هو « شركاء » قدم ، و « لله » متعلّق ب « شركاء » ، والجَعْلُ هنا بمعنى التَّصْيير ، وفائدة التقديرم كما قال الزمخشري اسْتِعْظَامُ أن يتخذ لله شريك من كان ملكاً أو جنياً أو إنسيَّا ، ولذلك قد مسام الله - تبارك وتعالى - على الشُّركاء انتهى . ومعنى كونهم جعلوا الجنَّ شركاء لله هو أنهم يَعْتَقِدُونَ أنَّهُمْ يخلقون من المضارِّ والحيَّات والسباع ، [ كما جاء في التفسير ] .
وقيل : ثمَّ طائفة من الملائكة يُسَمَّوْنَ الجن كان بعض العرب يَعْبُدُهَا .
الثاني : أن يكون « شركاء » مفعولاً أوَّل ، و « لله » مُتعلِّق بمحذوف على أنه المفعول الثاني ، و « الجن » بدلٌ من « شركاء » أجاز ذلك الزمخشري ، وابن عطية ، والحوفي ، وأبو البقاء ، و مكي بن أبي طالب إلا أن مكيَّا لما ذكر هذا الوَجْهَ جعل اللام من « لله » مُتلِّقةً ب « جعل » فإنه قال : الجنّ مفعول أوَّل ل « جَعَلَ و » شركاء « مفعول ثانٍ مقدم ، واللام في » لله « متعلّقة ب » شركاء « وإن شِئْتَ جَعَلْتَ » شركاء « معفولاً أوّل ، و » الجن « بدلاً من » شركاء « و » لله « في موضع المفعول الثاني ، واللام متعلقة ب » جعل « .
قال شهاب الدين : بعد أن جعل » لله « مفعولاً ثانياً كيف يُتَصَوَّرُ أن يجعل اللام متعلقة بالجعل؟ هذا ما لا يجوز لأنه لما صار مفعولاً ثانياً تعيَّن تعلُّقُهُ بمحذوف عل ما عرفته غير مَرَّة .
قال أبو حيَّان : » ومَا أجَازُوهُ - يعني الزمخشري وممن معه - لا يجوز؛ لأنه يصح ببلدل أن يحل مَحضلّ المبدل منه ، فيكون الكلام منتظماً لو قلت : وجعلوا لله الجِنَّ لم يصح ، وشرط البَدَلِ أن يكون على نِيَّةِ تَكْرَارِ العامل على أشهر القولين ، أو معمولاً للعامل في المبدل منه على قول ، وهذا لا يَصِحُّ هنا ألبتة لما ذكرنا « .
قال شهاب الدين : رحمه الله تعالى - هذا القول المنسوب للزمخشري ، ومن ذكر معه سبقهم إليه الفرَّاء وأبو إسحاق ، فإنهما أجَاظَ أن يكونا مفعولين قدم ثانيهما على الأوَّلِن وأجازظا أن يكون » الجنَّ « بدلاً من » الشركاء « ومفسراً للشركاء هذا نَصّ عبارتهم ، وهو معنى صحيح أعني كون البَدَلِ مفسراً ، فلا معنى رد هذا القول ، وأيضاً فقد رَدّ على الزمخشري عند قوله تعالى : { إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا } [ المائدة : 117 ] فإنه لا يلزم في كل بدلٍ أن يحل محل المبدل منه ، قال : » ألا ترى إلى تَجْويز النحويين « زيدت مررت به أبي عبد الله » ولو قلت : « زيدت مررت بأبي عبد الله » لم يجز إلاَّ على رَأي الأخفش « ، وقد سبق هذا في » المائدة « فقد قرَّر هو أنه لا يلزمُ حُلُول البدل مَحَلّ المبدل منه ، فكيف يَرُدُّ به هنا؟
الثالث : أن يكون » شركاء « هو المَفْعُول الأوّل ، و » الجن « هو المفعول الثاني قاله الحوفي ، وهذا لا يَصِحُّ لِمَا عَرَفْتَ أنَّ الأوَّل في هذا الباب مبتدأ في الأصل ، والثاني خبر في الأصل ، وتقرَّرَ أنه إذا اجتمع مَعْرِفَةٌ ونكرة جَعَلْتَ المعرفة مبتدأ ، والنكرة خبراً من غير عكس ، إلا في ضرورة تقدَّم التَّنْبِيهُ على الوارد منها .

؟
الرابع : أن يكون « شركاء الجن » مفعولين على ما تقدَّم بيانه ، و « لله » متعلق بمحذوف على أنه حالٌ من « شركاء » ؛ لأنه لو تأخَّرَ عنها لجاز أن يكون صفة لها قاله أبو البقاء ، وهذا لا يَصِحُّح؛ لأنه يصير المعنى : جعلوهم شركاء في حال كَوْنِهِم لله ، أي : مملوكين ، وهذه حالٌ لازمة لا تَنْفَكُّ ، ولا يجوز أن يقال : إنها غير منتقلة؛ لأنها مؤكدة؛ إذا لا تأكيد فيها هنا ، وأيضاً فإن فيه تَهْيِئَةَ العامل في معمول وقطعه عنه ، فإن « شركاء » يطلب هذا الجارّ يعلمل فيه ، والمعنى مُنْصَبُّ على ذلك .
الخامس : أن يكون « الجنَّ » مَنْصُوباً بفعل مضمر جواب لسؤال مقدر ، كأن سائلاً سألَ ، فقال بعد قوله تعالى { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } : مَنْ جعلوا لله شركاء؟ فقيل : الجنّ ، أي : جعلوا الجِن .
نقله أبو حيَّان عن شيخه أبي جعفر بن الزبير ، وجعله أحسن مما تقدم؛ قال : « ويؤيد ذلك قراءة أبي حيوة ، ويزيد بن قطيب » الجنُّ « رفعاً على تقدير : هم الجنّ جواباً لمن قال : جعلوا لله شركاء؟ فقيل : هم الجنُّ ، ويكون ذلك على سبيل الاسْتِعْظَامِ لما فعلوه ، والاسْتِنْقَاصِ بمن جعلوه شَرِيكاً لله تعالى » .
وقال مكي : « وأجاز الكِسَائِيُّ » رفع « الجنّ » على معنى هم الجنّ « . فلم يَرْوِها عنه قراءة ، وكأنه لم يَطَّلِعْ على أن غيره قرأها كذلك .
وقرأ شعيب بن أبي حمزة ، ويزيد بن قطيب ، وأبو حيوة في رواية عنهما أيضاً » شركاء الجنِّ « بخفض » الجنّ « .
قال الزَّمَخْشريّ : » وقرئ بالجر على الإضافة التي للتَّبْيينِ ، فالمعنى : أشركوهم في عبادتهم؛ لأنهم أطَاعُوهُمْ كما أطاعوا الله « .
قال أبو حيَّان : و لا يتَّضِحُ معنى هذه القراءة؛ إذا التقدير : وجعلوا شركاء الجن لله .
قال شهاب الدين : مَعْنَاها واضح بما فَسَّرَهُ الزمخشري في قوله ، والمعنى : أشْرَكوهم في عبادتهم إلى آخرن ، ولذلك سمَّاها إضافة تبيين أي أنه بين الشركاء ، كأنه قيل : الشركاء المطعيين للجن .

قوله : « وخَلَقَهُمْ » .
الجمهور على « خَلَقَهُمْ » بفتح اللام فعلاً ماضياً ، وفي هذه الجملة احتمالان :
أحدهما : أنه حالية ف « قد » مضمرة عند قوم ، وغيرم ضمرة عند آخرين .
والثاني : أنها مُسْتَانَفَةٌ لا محلَّ لها ، والضمير في « خلقهم » فيه وجهان :
أحدهما : أنه يعود على الجاعلين ، أي : جعلوا له شركاء مع أنه خلقهم وأوجدهم منفرداً بذلك من غيرم شاركة له في خَلْقِهِم ، فكيف يشركون به غيره ممن لا تَأثيرَ له من خلقهم؟
والثاني : أنه يعود على الجنِّ ، أي : والحال أنه خلق الشركاء ، فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له؟
وقرأ يحيى بن يعمر : « وخَلْقهم » بسكون اللام .
قال أبو حيان - رحمه الله - : « وكذا في مصحف عبد الله » .
قال شهاب الدين : قوله : « وكذا في مصحف عبد الله » فيه نظرٌ من حيث إن الشَّكْلَ الاصطلاحي أعني ما يدل على الحَركَاتِ الثلاث ، وما يَدُلُّ على السكون كالجزء منه كانت حيث مصاحب السلف منها مجردة ، والضبط الموجودة بين أيدينا اليوم أمر حادث ، يقال : إن أوَّل من أحدثه يحيى بن يَعْمُر ، فكيف يُنْسَبُ ذلك لِمُصْحَفِ عبد الله بن مسعود؟
وفي هذه القراءة تأويلان :
أحدهما : أن يكون « خَلْقهم » مصدراً بمعنى اختلاقهم .
قال الزمخشري : أي اختلاقهم للإفْكِ ، يعني : وجعلوا لله خَلْقَهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم : « واللَّهُ أمَرَنَا بِهَا » انتهى .
فيكون « لله » هو المفعول الثاني قُدِّمَ على الأول .
والتأويل الثاني : أن يكون « خَلْقهم » مَصْدراً بمعنى مخلوقهم ، فيكون عَطْفاً على « الجنّ » ومعفوله الثاني محذوف ، تقديره : وجعلوا مخلوقهم وهو ما يَنْحِتُونض من الأصنام كقوله تعالى : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } [ الصافات : 59 ] شركاء لله تعالى .
قوله تعالى : « وخَرَقُوا » قرأ الجمهور « خَرَقُوا » بتخفيف الراء ، ونافع بتشديدها .
وقرأ ابن عباس بالحاء المهملة والفاء وتخفيف الراء ، وابن عمر كذلك أيضاً ، إلا أنه شدَّدَ الراء ، والتخفيف في قراءة الجماعة بمعنى الاخْتِلاق .
قال الفراء : يال : « خَلَقَ الإفْكَ وخَرَقَهُ واخْتَلَقَهُ وافتَرَاهُ وافتَعَلَهُ وخَرَصَهُ بمعنى كذب فيه » .
والتشديد للتكثير ، لأن القائلين بذلك خَلْقٌ كثير وجَمٌّ غفير .
وقيل : هما لغتان ، والتخفيف هو الأصل [ وحكى الزمخشري أنه سئل الحسن عن هذه الكلمة ، فقالك كملة عربية كانت العربُ تقولها كان الرجل إذا كذب كذْبَةً في نادي القوم يقُولُ له بعضهم : شقد خرقها والله أعلم ] .
وقال الزمخشري : « ويجوز أن يكون من خَرْقِ الثوب إذا شقّه ، أي : اشتقوا له بَنِينَ وبناتٍ » .
وأما قراءة الحاء المهملة فمعناها التَّزْوير ، أي : زَوَّرُوا له أولاداً؛ لأنه المُزَوِّرَ مُحَرِّفٌ ومُغَيِّرُ الحق إلى الباطل .
وقوله : « بِغَيْرِ عِلمْمٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه نَعْتٌ لمصدر محذوف؛ أي : خَرَقُوا له خَرْقاً بغير علمٍ قاله أبو البقاء ، وهو ضعيف المعنى .

الثاني : وهو الأحسن : أن يكون منصوباً على الحال من فاعل « خَرَقوا » أي : افتلعوا الكذب مُصَاحبين للجهل وهو عدم العلم كقول اليهود { عُزَيْرٌ ابن الله } [ التوبة : 30 ] وقول النصارى : { المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] وقول كُفَّار العرب : الملائكة بَنَاتُ الله ، ثم إنه تبارك وتعالى نَزَّهُ نفسه ، فقال : « سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ » ، والمقصود تَنْزِيهُ الله تعالى عن كل ما لا يليقُ به .
واعلم أنه تبارك وتعالى حكى عن الكُفَّرِ أنه أثْبَتُوا له بَنينَ وبنات ، أما الذين أثبتوا البَنينَ فمنهم النَّصارى ، وقوم من اليهود ، وأما الذين أثبتوا البنات فهم العرب الذين يَقُولُون : الملائكة بناتُ الله .
وقوله : « بِغَيْرِ عِلْم » كالتَّنْبِيهِ على ما هو الدليل القاطع على فسادِ هذا القول؛ لأن الإله يجب أن يكون واجبَ الوجود لِذاتِهِ [ فولده إما أن يكون واجب الوجود لذاته ، أو لا يكون ، فإن كان واجب الوجود لذاته ] كان مُسْتَقِلاً بنفسه قائماً بذاته لا تعلُّق له في وجوده بالآخرة ، ومن كان كذلك لم يكن له وَلَد ألْبَتَّةَ؛ لأن الولد مُشْعِرٌ بالفرعية والحاجة .
وإن كان مُمْكِنَ الوجود ، فحينئذ يكون وُجُودُهُ بإيجاد واجب الوجود لذاته ، فيكون عَبْداً له لا والداً له ، فثبت أنَّ من عرف أن الإله ما هو امْتَنَعَ من أن يُثْبِتَ له البنات والبنين .
وأيضاً فإن الولدَ يحتاج إليه ليقوم مقامهُ عبد فنائِهِ ، وهذا إنما يُقالُ في حَقِّ مَنْ يَفْنَىَ ، أما من تقدِّس عن ذلك لم يعقل الولد في حقِّهِ .
أيضاً فإن الولد يشعر بكونه مُتولِّداً عن جُزْءٍ من أجزاء الوالد ، وذلك إنما يعقل في حقِّ المُركِّبِ من الأجزاء ، أما الفرد الواجب لذاته فَمُحَالٌ ، فمن علم ما حقيقة الله؛ اسْتَحَالَ أن يقول : له ولد ، فكان قوله تبارك وتعالى : { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } إشارة إلى هذه الدقيقة .

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)

لمَّا بيَّن فساد أقوال المشركين شَرَعَ في إقامة الدلالة على فساد قول من يثبت له الولد ، فقال : « بَدِيعُ السَّمواتِ والأرْضِ » .
والإبداع : عبارة عن تَكْوينِ الشيء من غير سَبْقِ مثالٍ ، وتقدَّم الكلامُ عليه في « البقرة » .
وقرأ الجمهور رفع العين ، وفيها ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو بَدِيعٌ ، فيكون الوَقْفُ على قوله : « والأرض » فهي جملة مستقلة بنفسها .
الثاني : أنه فاعل بقوله : « تعالى » ، أي : بديع السموات ، وتكون هذه الجملة الفعلية مَعْطُوفَةً على الفِعْلِ المقدر قبلها ، وهو النَّاصب ل « سبحان » فإن « سبحان » كما تقدَّم من المصادرِ اللازم إضمار ناصبها .
الثالث : أنه مبتدأ وخبره ما بعده من قوله : « أنَّى يَكُونُ لَهُ ولدٌ » .
وقرأ المنصور « بديع » بالجر قال الزمخشري : ردَّا على قوله : « وجعلوا لله » ، أو على « سبحانه » كذا قاله ، ولم يبيّن على أي وجه من وُجُوهِ الإعراب هو وكذا أبو حيَّان - رحمه الله - حَكَاهُ عنه ومرَّ عليه ، ويريد بالرد كونه تابعاً ، إما : لله ، أو للضمير المجرور في « سُبْحَانَهُ » وتبعيته له على كونه بدلاً من « لله » تعالى أو من الهاء في « سُبْحَانَهُ » ويجوز أن يكون نَعْتاً [ لله على أن تكون إضافة « بديع » مَحْضَةً كما ستعرفه .
وأما تَبَعِيَّتُهُ للهاء فيتعين أن يكون بدلاً ، ويمتنع أن يكون نَعْتاً ] ، وإن اعتقدنا تعريفه بالإضافة لِمُعَارضِ آخر ، وهوأن الضمير لا ينعت إلا ضمير الغائب على رأي الكسائي ، فعلى رأيه قد يجوز ذلك .
وقرأ أبو صالح الشَّامي : « بديعَ » نصباً ، ونَصْبُهُ على المَدْحِ ، وهي تؤيد قراءة الجر ، وقرءاة الرفع المتقدمة يحتمل أن تكون أصْلِيَّة الإتباع بالجر على البَدَلِ ثم قطع التابع رفعاً .
و « بديع » يجوز أن يكون بمعنى « مُبْدِعٍ » وقد سَبَقَ معناه ، أو تكون صِفَةً مشبهة أضيفت لرفوعها ، كقولك : فلان بديعُ الشعر ، أي : بديع شعره ، وعلى هذيْنِ القولين ، فإضافته لَفظِيَّةٌ ، لأنه في الأوَّل من باب إضافة اسم الفاعل إلى منصوبه ، وفي الثُّاني من باب إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها ، ويجوز أن تكون بمعنى عديم النظير والمثل فيهما ، كأنه قيل : البديع في السموات والأرض ، فالإضافة على هذا إضافةٌ مَحْضَةٌ .
قوله : { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَد } « أنَّى » بمعنى « كيف » [ أو « من أين » ] وفيها وجهان :
أحدهما : أنها خبر كان الناقصة ، و « له » في محل نصبٍ على الحال ، و « ولد » اسمها ، ويجوز أن يتكون مَنْصُوبَةً على التشبيه بالحال أو الظرف ، كقوله :

{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله } [ البقرة : 28 ] والعامل فيها قال أبو البقاء : [ « يكون » ] وهذا على رَأي من يجيز في « كان » أن تعمل في الأحوال والظروف وشبههما ، و « له » خبر يكون ، و « ولد » اسمها .
ويجوز في « يكون » أن تكون تامَّةً ، وهذا أحْسَنُ أي : كيف يوجد له ولدٌ ، وأسباب الولدية مُنْتَفِيَةٌ؟
قوله : { وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَة } هذه « الواو » للحال ، والجملة بعدها في مَحَل نصب على الحال من مضمون الجملة المتقدمة ، أي : كيف يُوجد له ولد ، والحال أنه لم يكن له زَوجٌ ، وقد عُلِمَ أن الولدَ إنما يكون من بين ذكرٍ وأنثى ، وهو مُنَزَّهٌ عن ذلك .
والجمهور على « تكن » بالتاء من فوق .
وقرأ النخعي بالياء من تحت وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أن الفِعْلَ مسند إلى « صاحبه » أيضاً كالقراءة المشهورة ، وإنما جاز التذكير لِلْفَصْلِ كقوله : [ الوافر ]
2777- لَقَدْ وَلَدَ الأخَيْطِلَ أمُّ سَوْءٍ .. .
وقول القائل : [ البسيط ]
2278- إنَّ امْرَأ غَرَّهُ مِنْكُنَّ وَاحِدَةٌ ... بَعْدِي وبَعْدَكِ في الدُّنْيَا لَمَغْرُور
وقال ابن عطيَّة : « وتذكير » كان « وأخواتها مع تأنيث اسمها أسْهَلُ من ذلك في سائر الأفعال » .
قال أبو حيَّان - رحمه الله- : « ولا أعرف هذا عن النحويين ، ولم يُفَرِّقوا بين » كان « وغيرها » .
قال شهاب الدين : هذا كلامٌ صحيح ، ويؤديه أن الفارسيَّ وإن كان يقول بِحَرْفِيَّةِ بعضها ك « ليس » ، فإنه لا يجيزحَذْفَ التاء منها لو قلت : « ليس هند قائمة » لم يَجْزْ .
الثاني : أن في « يكون » ضميراً يعود على الله تعالى ، و « له » خبر مُقدَّمٌ ، و « صاحبة » مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر « يكون » .
الثالث : أن يكون « له » وحْدَهُ هو الخبر ، و « صاحبة » فاعل به لاعْتِمَادِهِ وهذه أوْلَى مِمَّا قبله؛ لأن الجارَّ أقْرَبُ إلى المفرد ، والأصل في الأخبار الإفراد .
الرابع : أنَّ في « يكون » ضمير الأمر والشأن ، و « له » خبر مُقدَّمٌ ، و « صاحبة » مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر « يكون » مفسّرة لضمير الشأن ، ولا يجوز في هذا أن يكون « له » هو الخبر وَحْدَهُ ، و « صاحبة » فاعل به ، كما جاز في الوجه قبله .
والفرق أن ضمير الشَّأن لا يُفَسَّر إلا بجملة صريحة ، وقد تقدَّم أن هذا النَّوعَ من قبيل المفردات ، و [ « تكن » ] يَجُوزُ أن تكون النَّاقِصَةَ أو التامة حسبما تقدَّم فيما قبلها .
وقوله : « وَخَلَقَ كُلَّ شيءٍ » هذه جملة إخبارية مُسْتَأنَفَةٌ ، ويجوز أن تكون حالاً وهي حال لازمة .
فصل في إبطال نسبة الولد إلى الله تعالى عن ذلك
اعلم أنَّ المَقْصُودَ من الآية بيانُ إبطال من يثبت الولد منه تبارك وتعالى ، فيقال لهمك إما أن تريديوا بكونه ولداً لله تبارك وتعالى [ كما هو المعهود من كون الإنسان ولداً لأبيه ] أو أبدعه من غير تقدُّمِ نُطْفَةٍ ووالد ، وإما أن تريدوا بكونه ولداً لله كما هو المألوف ، وإما أن تريدوا بكونه ولداً لله مفهوماً ثالثاً مغايراً لهذين المفهومين ، أما الأول فباطل؛ لأنه - تبارك وتعالى - وإن كان يحدث الحوادث في مثل هذا العالم الأسفل ، بناء على أسباب معلومة ، إلاَّ أنَّ النصارى يسلمون أن العالم الأسفل محدث .

فصل في رد شبهة النصارى
وإذا كان كذلك لزمهم الاعْتِرَافُ بأن الله - تعالى - خلق السَّموات والأرض من غير سبق مادَّةٍ ، وإذا كان كذلك وَجَبَ أن يكون إحْدَاثُهُ للسموات والأرض إبْدَاعاً ، فلو لزم من مجرد كونه مُبْدِعاً [ لإحداث عيسى- عليه الصَّلاة والسَّلام - كونه والداً له لزم من كونه مُبْدِعاً ] للسموات والأرض أن يكون والداً لهما ، وذلك مُحَالٌ ، فلزم من كونه مُبْدِعاً لعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام ألاًّ يكون والداً لهما وهذا هو المراد من قوله : « بَدِيعُ السَّمواتِ والأرْضِ » وإنما ذكر السَّموات والأرض فقط ، ولم يذكر ما فيهما ، لأن حدوث ما في السموات والأرض ليس على سبيل الإبداع ، أمَّا حُدُوثُ ذَاتِ السموات والأرض ، فقد كان على سبيل الإبداع ، فحصل الإبداع بِذِكْرِ السموات والأرض لا بذكر ما فيهما ، وإن أرادوا من الوِلادَةِ الأمر المعهود في الحيوانات ، فهذا أيضاً باطل من وجوه :
أولها : أن الولادةَ لا تَصِحُّ إلا ممن له زوجة وشَهْوَةٌ ينفصل عنه بِجْزْءٍ في باطن تلك الصَّاحبة ، وهذه الأحوال إنما تثبت في حَقِّ الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق ، والحركة والسكون والشَّهْوَةُ واللَّذَّةُ ، وكل ذلك على خالق العالم مُحَالٌ ، وهذا هو المراد من قوله : « أنَّى يَكُونُ لَهُ ولدٌ ولمْ تَكُنْ لهُ صَاحبةٌ » .
ثانيها : أن تحصيل الولد بهذا الطريق المعتادإنما يصح في حق من لا يكون قادراً على الخلق ، وأمَّا الخالق لكل الممكنات ، القادر على كل المحدثات ، فإذا أراد إحداث شيء قال له : « كن فيكون » ومن كان هذا صفته يمتنع إحداث شخص بطريق الوِلادةِ ، وهذا هو المراد من قوله : « خَلَقَ كُلَّ شيءٍ » .
وثالثها : أن هذا الولد إمَّا أن يكون قديماً أو محدثا ، لا جائز أن يكون قديماً؛ لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لِذَاتِهِ وما كان واجباً لذاته غني عن غيره ، فيمتنع كونه ولداً لغيره ، فبقي أن يكون الولد محدثاً ، وإذا كان والداً كان محدثاً فنقول : إنه تبارك وتعالى عالم بجميع المَعْلُومَات ، فإما أن يعمل أن له في تحصيل الولد كمالاً ونفعاً أو يعمل أنه ليس الأمر كذلك ، فإن كان الأول فلا وَقْتَ يفرض أن الله - تعالى- خلق هذا الولد فيه إلاَّ والدَّاعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلاً قبله ، فيلزم حُصُولُ الولد قبل ذلك ، وهذا يوجب كون ذلك الولد أزليَّا وهو مُحَالٌ .

وإن علم أنه ليس في تحصل الولد كمال ونفع ، فيجب ألاَّ يحدثه ألبتة ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : { وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وأما الاحتمال الثالث فذلك بَاطِلٌ غير مُتَصَوَّرٍ ، ولا مفهوم للعقل ، بإثبات الولادة بناء على ذلك مَحْضُ الجهل ، وهو بَاطِلٌ .
قوله : « ذَلِكُم » أي : ذلكم الموصوف بتلك الصِّفَاتِ المتقدمة اللَّهُ تعالى فاسم الإشارة مبتدأ ، و « الله » تعالى خبره ، وكذا « ربكم » ، وكذا الجملة من قوله : « لا إله إلا هو » ، وكذا « خلاق » .
قال الزمخشري : « وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة » .
قال شهاب الدين : وهذا عند من يُجِيزُ تَعَدُّدَ الخبر مُطْلَقاً ، ويجوز أن يكون « الله » وَحْدَهُ هو الخبر ، وما بعده أبْدَالٌ ، كذا قال أبو البقاء ، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ بعضها مُشْتَقٌّ ، والبدل يَقِلُّ بالمُشْتَقَّاتِ ، وقد يقال : إنَّ هذه وإن كانت مُشْتَقَّةً ولكنها بالنِّسْبَةِ إلى الله - تعالى من حيث اختصاصها به صارت كالجَوَامِدِ ، ويجوز أن يكون « الله تعالى هو البدل ، وما بعده أخبار أيضاً .
ومن منع تعدُّدَ الخبر قدَّرَ قبل كُلِّ خبر مبتدأ أو يجعلها كلها بمنزلة اسم واحد ، كأنه قيل : ذلك المَوْصُوفُ هو الجامع بين هذه الصفات .
فصل في إثبات وحدانية الله تعالى
اعلم أنه - تبارك وتعالى - لمَّا أقام الحُجَّة على وُجُودِ الإله القادرِ المختار الحكيم ، وبيَّن فساد كل من ذهب إلى الإشراك ، وفصَّل مذْهبهُمْ ، وبيَّن فسادَ كل واحد منها ، ثم حكى مَذْهَب مَنْ أثبت لله البَنينَ ، وبيَّن فسادَ القول بها بالدليل القاطع ، فعند هذا ثبَتَ أن إلهَ العالم فَرْدٌ أحَدٌ صَمَدٌ مُنَزَّهٌ عن الشَّريكِ والنظير ، ومُنَزَّهُ عن الأولادِ ، فعند هذا صرَّح بالنَّنتيجة ، فقال : { ذلكم الله رَبُّكُمْ لاا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه } ولا تعبدوا غيره ، فهو المُطَّلِعُ بمُهِمَّاتِ جميع العِبَادِ ، وهو الذي يسمع دعاءهم وحَاجَتَهُمْ ، وهو الوكيل لكل أحد على حصول مُهَمَّاتِهِ .
أعلم أنه - تبارك وتعالى - بيَّن في هذا السورة بالدلائل القاطعة الكثيرة افْتِقَارَ الخَلْقِ إلى خالقٍ ومُوجِدٍ ومُبْدِعٍ ومُدَبِّرٍٍ ، ولم يذكر دليلاً مُنْفَصِلاً يَدُلُّ على نَفْي الشركاء والأضْدادِ والأنْدَادِ ، بل نقل قَوْلَةَ من أثْبَتَ الشريك من لاجن ، ثم أبْطَلَهُ ثم أتى بالتوحيد المَحْضِ بعده ، فقال : { ذلكم الله رَبُّكُمْ لاا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه } وإقامة الدليل على وُجُودِ الخالق وتزْيِيف دليل من أثبت لله - تعالى - شِرِيكاً كيف يوجب الجَزْمَ بالتوحيد المَحْضِ ، وللعلماء في إثبات التوحيد طُرُقٌ .

أحدها : قال المُتقدِّمُونَ : الصَّانِعُ الواحد كافٍ في كونه إلهاً للعالم ومُدَبِّراً له ، والقول بالزَّائِدِ على الواحد مُتَكَافِئ ، لأن الزَّائدَ على الواحد لم يَدُلَّ الدليل على ثُبُوتِهِ ، ولم يكن إثبات عددٍ أوْلَى من إثْباتِ عدد آخر ، فلزم إمَّا إثبات آله لا نهاية لها ، وهو مُحَالٌ ، أو إثبات عدد مُعَيَّنٍ مع أنه ليس ذلك العَدَوُ أوْلَى من سائر الأعْدَادِ ، وهو أيضاً محال ، وإذا بطل القسمان تعيَّنَ القول بالتوحيد .
الثاني : أن الإله القادرَ على كُلِّ الممكنات العالم بِكُلِّ المعلومات كافٍ في تَدْبيرِ العالم ، فلو قدرت إلهاً ثانياً لكان ذلك الثَّانِي إمَّا أن يكون فاعلاً مختاراً أو موجد الشيء من حوادث العالم أوْلَى بكون الأول باطلاً لأنه لما كان كل واحد منهما قادراً على جميع المُمْكِنَاتِ ، فكل فعل يفعله أحدهما صَارَ كونه فاعلاً لذلك الفعل قادراً على جميع المُمْكِنَاتِ ، فكل فعل يفعل أحدهما صَارَ كونه فاعلاً لذلك الفعل مانعاً للآخر عن تحصيل مقصود ومَقْدُوره ، وذلك يوجب كون كل واحد منهما سبباً لعجز الآخر وهو مُحَالٌ ، وإن كان الثاني لا يفعل فعلاً ، ولا يوجد شيئاً كان ناقصاً معطلاً ، وذلك لا يصلح للإلهية .
الثالث : أن الإله الواحد لا بد وأن يكون [ كاملاً ] في صفة الإلهية ، فلو فرضنا إلهاً ثانياً لكان ذلك الثاني إما يكون مُشَاركاً لأوَّل في جميع صفات الكمال أو لا ، فإن كان مشاركاً للأوَّلِ في جميع صفات الكمال ، فلا بد وأن يكون متميزاً بأمرها ، إذ لو لم يحصل الأمر المميز إما أن يكون من صفات الكمال أو لا يكون ، فإن كان من صفات الكمال مع أنه حصل الامتياز به ] لم يكن جميع صفات الكمال مشركاً فيه بينهما وإن لم يكن ذلك المميز نُقْصَان ، فثبت بهذه الوُجُوهِ الثلاثة أن الإله الواحد كافٍ في تدبير العالم ، وأن الزائد يجب نَفْيُهُ .
تمسَّك العلماء- رضي الله عنهم- بقوله تبارك وتعالى « خَالِق كُلِّ شيءٍ » على أنه - تبارك وتعالى - هو الخالق لأعمال العبادِ قالوا : لأن أعمال العبادِ أشياء ، والله خَالِقٌ لكل شيء بحكم هذه الآية ، فوجب كونه خالقاً لها .
قالت المعتزلة : هذا اللَّفْظُ وإن كان عاماً إلا أنه حصل مع هذه الآيةِ وجوه تَدُلُّ على أن أعمال العبادِ خارجة عن هذا العموم .
أحدها : أنه - تبارك وتعالى- قال : « خَالِق كُلِّ شيءٍ فاعْبدُوهُ » ولو دخلت أعمال العبادِ تحته لصارَ تقدير الآية الكريمة : إنا خلقنا أعمالكم ، فافعلوها بأعيانها أنتم مرة أخرى ، وذلك فَاسِدٌ .
وثانيها : أنه تبارك وتعالى - إنما [ قال : ] « خَالِق كُلِّ شيءٍ » في معرض المَدْح والثناء على نفسه ، فلو دخل تحت أعْمَالِ العباد لخرج عن كَوْنِهِ مدحاً؛ لأنه لا يليق به تعالى أن يَمْتَدِحَ بِخَلْقِ الزنا واللواط ، والسرقة والكفر .

وثالثها : أنه تبارك وتعالى- قال بعد هذه الآية : { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا } [ الأنعام : 104 ] وهذا تصريح بكون العَبْدِ مستقلاً بالفعل والترك ، وأنه لا مانع له ألْبَتَّةً من الفعل والترك ، وذلك يَدُلُّ على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى [ إذ لو كان مخلوقاً لله - تعالى - لما ] كان العَبْدُ مستقلاً به؛ لأنه إذا أوجده الله تعالى امتنع من العبد دفعه ، وإذا لم يوجده الله - تعالى - امتنع العبد مخلوق لله وإذا دلَّت الآية على كون العَبْدِ مستقلاً بالفعل والترك ، وامتنع أن يقال : فعل العبد مخلوق لله تعالى ثبت أن قوله تعالى : { فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا } [ الأنعام : 104 ] يوجب تخصيص ذلك العموم .
والجواب : أن الدليل العَقْلِيَّ قد ساعد على صِحَّةِ ظاهرة هذه الآية الكريمة؛ لأن الفعل مَوْقُوفٌ على الداعي ، وخالق الداعي هو الله - تعالى - ومجموع القُدْرَةِ مع الداعي يوجب الفعل ، وذلك [ يقتضي ] كونه - تعالى - خَالِقَ كل شيء فاعبدوه ، ويَدُلُّ على أن كونه خَالِقاً لكل الأشْيَاءِ سبب للأمر [ بالعبادة ] لأنه رتب الأمر بالعبادة على كَوْنِهِ خالقاً للأشياء بفاء التعقيب ، وترتيب الحكم مُشْعِرٌ بالسّبَبِيَّةِ .
فصل في دحض شبهة للمعتزلة في الصفات وخلق القرآن
احْتَجَّ كثيرٌ من المعتزلة بقوله تبارك وتعالى : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } على نفي الصفات ، وعلى كونه القرآن مَخْلُوقاً ، أما نَفْيُ الصِّفَات ، فإنهم قالوا : لو كان - تعالى - عالماً بالعلم قادراً بالقُدْرَةِ لكان ذلك العِلْمُ والقدرة إما أن يقال : إنهما قَدِيمانِ أو محدثان ، والأوَّلُ باطل؛ لأن عموم قوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } يقتضي كونه - تبارك وتعالى - خالقاً لِكُلِّ الأشياء وخَصَّصْنَا هذا العموم بحسب ذاته تعالى ضَرُورة أنه يِمْتَنِعُ أن يكون خالقاً لنفسه ، فيبقى على عمومه فيما عَدَاهُ .
وإن قلنا بحدوث عِلْمِ الله تعالى وقدرته ، فهو بَاطِلٌ بالإجماع ، ولأنه يلزم افْتِقَارُ إيجاد ذلك العمل والقُدْرَةِ إلى سَبْقِ عِلْمِ آخر ، لأن القرآن شيء وكل شيء فهو مَخْلُوقٌ لله - تبارك وتعالى - بِحُكْمِ هذا العموم وأقْصى ما في الباب أن هذا العُمُومَ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ في ذات الله - تبارك وتعالى - إلاَّ أن العام بالدَّلائلِ الدَّالَّةِ على أن كلام الله تبارك وتعالى - قَدِيمٌ .

لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

قال سعيد بن المُسَيَّبِ : لا تحيط به الأبصارُ .
وقال عطاء : كَلَّتْ أبْصَارُ المخلوقين عن الإحَاطَةِ به .
وقال ابن عبَّاسٍ : لا تدركه الأبْصَارُ في الدنيا وهو يُرى في الآخرة .
قوله : { وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } أي : لا يخفى عليه شيءٌ ولا يفوته { وَهُوَ اللطيف الخبير } .
قال ابن عباس : اللَّطيفُ بأوليائه ، الخَبِيرُ بهم .
وقال الأزهري : اللَّطِيفُ الرفيق بعباده .
وقيل : اللطيف الذي يُنْسِي العِبادَ ذنوبهم لئلاَّ يِخْجَلُوا ، والَّطَافَةُ ضِدُّ الكَثَافَةِ ، والمراد منه الرقة ، وذلك في حَقِّ الله تعالى ممتنع ، فوجب المصير إلى التأويل ، وهو من وجوه :
أحدها : لطف صنعه في تركيب أبْدانِ الحيوانات من الأجزاء الدقيقة ، والمنَافِذ الضيقة التي لا يعلمها أحد إلا اللَّه تبارك وتعالى .
وثانيها : لَطِيفٌ بعباده حيث يثني عليهم عند الطَّاعةِ ، ويأمرهم [ بالتَّوبْةِ عند ] المعصية ، ولا يقطعُ عنهم موادَّ رحمته ، سواء كانوا مطيعين أو عُصَاةً .
وثالثها : لَطِيفٌ بهم حيث لا يأمرهم فوق طاقتهم ، وينعم عليهم بما هو فوقَ اسْتِحْقَاقهمْ .
وأما الخبير فهو من الخبرِ ، وهو العلم ، والمعنى : أنه لَطِيفٌ بعباده مع كونه عالماً بما هم عليه من ارْتِكَابِ المعاصي والقبائح .
وقال الزمخشري : اللَّطِيفُ معناه : أنه يلطف عن أن تُدْرِكهُ الأبصار الخبير بكل لطيف ، فهو يُدْرِكُ الأبصار ولا يلطف شيء عن إدراكه .
فصل فيما تدل عليه الآية
احتج أهل السُّنَّةِ بهذه الآية على أنه- تبارك وتعالى - لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ ، وذلك مما يساعد الخصم عليه ، وعليه بنوا اسْتِدْلاَلَهُمْ على نَفْي الرؤية ، فنقول : لو لم يكن تعالى جَائِزَ الرُّؤيَةَ لما حَصَلَ التَّمَدُّحُ بقوله : « لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ » ؛ ألا ترى أن المعدوم لا تَصِحُّ رؤيته ، والعلوم والقدرة والإدارة والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا يَصِحُّ رؤيتها ، فثبت أن قوله : « لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ » يفيد المدح ، وثبت أن ذلك إنما يفيد المَدْحَ لو كان صَحِيحَ الرُّؤيَةِ ، وهذا يَدُلُّ على أن قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } يفيد كونه - تعالى - جَائِزَ الرُّؤيَةِ ، وتحقيقه أن الشيء إذا كان في نَفْسِهِ بحيث يمتنع رؤيته ، فحينئذ لا يَلْزمُ من عدم رؤيته مَدْحٌ وتَعْظيمٌ لذلك الشيء ، أما إذا كان في نفسه جَائِزَ الرؤية ، ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رُؤيَتِهِ ، وعن إدراكه كانت هذه القُدْرَةُ دَالَّةً على المدح والعظمة ، فثبت أن هذه الآية دالَّةٌ على أنه - تعالى - يجوز رُؤيَتُهُ بحسب ذاته ، وإذا ثبت هذا وجب القَطْعُ بأن المؤمنين يرونه [ يوم القيامة ، والدليل عليه أن القائل قائلان قال بجواز الرؤية ، مع أن المؤمنين يرونه ، وقال قال : لا يرونه ، ولا تجوز ] رؤيته .
فأما القول بأنه - تعالى - تجوز رؤيته ، مع أنه لا يَرَاه أحَدٌ من المؤمنين ، فهذا قول لم يقل به أحَدٌ من الأمَّةِ ، فكان بَاطِلا .

الثاني : أن نقول : المراد ب « الأبصار » في قوله : « لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ » ليس هو نفس الإبصار ، فإن البَصَر لا يدرك شيئاً ألبته في مَوْضع من المواضع ، بل المدرك هو المبصر ، فوجب القَطْعُ بأن المُرَادَ من قوله : « لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ » هو إدراك المبصرين ، ومعتزلة البَصرةٍ يوافقون بناء على أنه - تعالى - يبصر الأشياء ، فكان تعالى من جملة المبصرين ، فقوله تعالى : { وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } يقتضي كونه تعالى مُبصراً لنفسه ومن قال : إن المؤمنين يرونه يوم القِيامَةِ ، فدلَّتِ الآية الكريمة على أنه جَائِزُ الرؤية ، وعلى أنَّ المؤمنين يرونه يوم القِيامَةِ ، وإذا اخْتَصَرْنَا هذا الاستدلال قلنا قوله تعالى : { وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } المراد منه إنما نفس البصر ، أو المبصر على التقديرين يفزم كونه - تعالى - مبصراً لإبصار نفسه ، أو كونه مبصراً لذات نَفْسِهِ ، وإذا ثبت هذا وجب أن يراه [ المؤمنون ] يوم القيامة ضَرُورَةَ أنه لا قَائِلَ بالفَرْقِ .
الثالث : أن لَفْظِ « الأبصار » صيغة جَمْعٍ دَخَلَ عليها الألف واللام ، فهي تفيد الاسْتِغْراقِ في قوله : { تُدْرِكُهُ الأبصار } .
[ فإذا كان كذلك كان قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } يفيد أنه لا تراه جَميعُ الأبْصارِ ، فهذا يفيد سَلْبَ العُمُوم ، ولا يفيد عموم السَّلب ، وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُول : تخصيص هذا السَّلْبِ بالمجموع يَدُلُّ على ثبوت الحكم في بعض أفْرَادِ المجموع؛ ألا تَرَى أن الرَّجُلَ إذا قال : إن زيداً ما ضربه كل الناس فإنه يفيد أنه ضَرَبَهُ بَعْضُهُمْ ، وإذا قيل : إن محمداً صلى الله عليه وسلم ما آمن به كل الناس أفاد أنه آمن به بعض الناس ، فكذلك قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } معناه أنه : لا تدركه كل الأبصار ، فوجب أن يفيد أنه تُدْرِكُهُ بَعْضُ الأبْصَارِ أقصى ما في الباب أن يقال : هذا تمسُّك بدليل الخطاب ، فنقول : هَب أنه كذلك إلاَّ إنه دليلٌ صحيح؛ لأن بتقير ألاَّ يحصل الإدْرَاكُ لأحَدٍ ألْبَتَّةَ كان تخصيص هذا السَّلْبِ بالمجموع من حَيْثُ هو مجموع عبثاً ، وَصَوْنُ كلام الله - تعالى عن العَبَثِ واجِبٌ .
الرابع : نقل أن ضرار بْنَ عَمْرو الكُوفِيَّ كان يقول : إن الله - تعالى - لا يُرَى بالعين ، وإنما يرى بِحَاسَّةٍ سَادِسَةٍ يخلقها يوم القيامة واحتج بهذه الآية الكريمة ، فقال : دلَّتْ [ هذه ] الآية الكريمةُ على تخصيف نَفْي إدْرَاكِ الله - تبارك وتعالى - بالبَصَرِ ، وتخصيص الحكم بالشيء يَدُلُّ على أن الحال في غيره بخلافه ، فوجَبَ أن يكون إدْراكُ الله - تبارك وتعالى - بغير البصر جائزاً في الجملة ، ولما ثبت أن سائر الحواسِّ الموجودة الآن لا تَصْلُحُ لذلك وجب أن يقال : إنه تعالى يخلق يوم القيامة حَاسَّةً بها تحصل رُؤيَةُ الله - تعالى - وإدراكه .

واسْتَدَلَّ المعتزلة بهذه الآية الكريمة على نَفْيِ الرُّؤيَةِ من وجهين :
الأول : قالوا : الإدْرَالكُ بالبَصَرِ عبارة عن الرُّؤيَةِ بدليل لو قال قائل : أدركته ببصري ، وما رأيته ، أو قال : رأيته ، وما أدْرَكتُهُ بصري ، فإنَّ كلامه يكوم متناقضاً ، فثبت أن الإدْراكَ بالبَصَرِ عبارة عن الرُّؤيَةِ ، وإذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } يقتضي أنه لا يَرَاهُ شيء من الأبْصَارِ في شيء من الأحْوالِ ، ويدل على صِحَّةِ هذا العموم وجهان :
الأول : أنه يصح اسْتِثْنَاءُ جميع الأشخاص ، وجميع الأحوال عنه ، فيقال : لا تدركه الأبصار إلاَّ بصر فلان وإلاَّ في الحالة الفُلانيَّةِ ، والاستثناء يُخْرجُ من الكلام مَا لولاهُ لدخل ، فثبت أن عُمُومَ هذه الآية الكريمة يُفِيدُ عموم النفي عن كُلِّ الأشخاص ، وفي جميع الأحوال ، وذلك يَدُلُّ على أن أحَداً لا يرى الله - تعالى - في حالٍ من الأحوال .
الثاني : أن عائشة - رضي الله عنها- لما أنكرت قَوْلَ ابْنِ عبَّاسِ - رضي الله عنه - في أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربَّهُ لَيْلَة المِعْراج تَمَسَّكَتْ بهذه الآية ، ولو لم تكن هذه الآيةُ تفيد العُمُومَ بالنسبة إلى كُلِّ الأشخاص ، وكُل الأحوال لما تَمَّ ذلك الاسْتِدلالُ ، وكانت من أعظم الناس بِلُغَةِ العربِ .
الوجهُ الثاني : أن قوله : { وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } مَدْحٌ وثناء ، فوجب أن يكون قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } مَدْحاً وثناءً ، وإلاّ لزم أن يقال : إن ما ليس بِمَدح وثناء وَقَعَ في خلال ما هو مَدْحٌ وثناء ، وذلك يوجب الرَّكَاكَة وهي غير لائِقَةٍ بكلام الله - تبارك وتعالى - وإذا ثبت هذا فنقول : كل ما كان عَدَمُهُ مَدحاً ، ولم يكن من باب الفِعْلِ كان ثُبُوتُهُ نَقصْاً في حقِّ الله - تبارك وتعالى - والنُّقْصانُ على الله مُحَالٌ ، واعلم أن القَوْمَ إنما قيدوا ذلك بما لا يكون من بابِ الفعل؛ لأنه تعالى تَمَدَّحَ بِنَفْي الظُّلم عن نفسه في قوله : { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 108 ] { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] مع أنه تبارك وتعالى قَادِراً على الظُّلم عندهم ، وذكروا هذا القيد دَفْعاً لهذا النَّقْضِ عن كلامهم فهذا [ غاية ] تقرير كلامهم في هذا الباب .
والجوابُ عن الأوَّل من وجوه .
أحدها : لا نُسَلِّمُ أن إدْرَاكَ البَصَرِ عبارة عن الرُّؤيَةِ ، لأن لَفْظِ الإدْراكِ في اصل اللغة عبارة عن اللُّحُوقِ والوُصُول؛ قال تعالى : { قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُون } [ الشعراء : 61 ] أي لمُلْحَقُونَ ، وقال : { حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق } [ يونس : 90 ] أي : لحقه ، ويقال : ادرك فلان فلاناً ، وأدرك الغُلامُ الحلْمَ ، أي : بلغ ، وأدركت الثمرة ، أي : نَضَجَتْ ، فثبت أن الإدْراكَ هو الوُصُولُ إلى اشيء ، وإذا عُرِفَ هذا فنقول المرئِيُّ إذا كان له حَدُّ ونهايةٌ ، وأدْرَكَهُ البَصَرُ بجميع حُدُودِهِ وجَوانِبهِ ونهايته صَارَ ذلك الإبْصَارُ كأنه أحَاطَ به فَتُسَمَّى هذه الرُّويةُ إدْرَاكاً .
أما إذا لم يُحِطِ البَصَرُ بجوانب المرئيَّ لم تُسَمَّ تلك الرؤية [ إدراكاً ، فالحاصل أن الرؤية ] جنس تحته نوعان : رؤية مع الإحاطة [ ورؤية لا مع الإحاطة ، والرؤية مع الإحاطة ] هيا لتي تسمى إدراكاً ، فنفي الإدراك يفيد نفي الجِنْسِن فلم يلزم من نَفْي الإدْرَاكِ على الله - تعالى - نَفْيُ الرؤية عن الله ، وهذا وَجْهٌ حَسَنٌ في الاعْتِرَاضَ على كلامهم ، فإن قالوا : إنْ قلتم : إنَّ الإدْراك يُغَايِرُ الرؤية ، فقد أفْسَدْتُمْ على أنفسكم الوجوه الأربعة التي تَمَسَّكْتُمْ بها في هذا الآية الكريمة على إثبات الرؤية .

قلنا : هذا يفيد أنه إدْراكٌ أخَصُّ الرؤية ، وإثبات الأخصَّ يوجب إثبات الأعِمِّ ، أما نَفْيُ الأخَصِّ فلا يوجب نَفْيَ الأعَمِّ ، فثبت أن البَيَانَ الذي ذَكَرْنَاهُ يبطل كلامهم ، ولا يبطل كلامنا .
وثانيها : أن نقول : هَبْ أن الإدْراكَ يفيد عموم النَّفي عن كل الأشخَاصِ في كُلِّ الأحوال ، فلا نُسَلِّمُ أنه يفيد نَفْي العموم ، إلاَّ أن نَفْيَ العموم غير ، وعموم النفي غيرن وقد دَلَّلْنَا على أن هَذَا اللَّفْظِ لا يفيد إلا نفي العموم ، وبَيَّنَّا أن نَفْيَ العموم يوجب ثبوت الخُصُوصِ .
وأما قولهم : إن عَائِشَةَ تَمَسَّكَتْ بهذه الآية في نَفْي الرؤية ، فنقول : معرفة مفرادات اللغة إنما تُكْتَسَبُ من علماء اللغة ، فأمَّا كيفية الاسْتِدْلالِ بالدليل ، فلا يُرْجَعُ فيه إلى التَّقْلِيدِ ، وبالجملة فالدليل العَقْلِيُّ دَلَّ على أن قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } يفيد نفي العموم وثبت بصريح العَقْلِ أن نَفْيَ لعموم مُغَايِرٌ لعموم النَّفيِ ، ومقصودهم إنما يَتِمُّ لو دلَّتِ الآية على عُمُومِ النفي ، فَسَقَطَ كلامُهُمْ .
وثالثها : أن نقول : صيغة الجَمْعِ كما تُحْملُ [ على الاستغراق فقد تُحْمَلُ ] على المعهود السَّابق أيضاً ، وإذا كان كذلك ، فقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } وهي الأحْدَاقُ وما دامتْ تبقى على هذه الصفات التي هي مَوْصُوفَةٌ به في الدنيا لا تدرك الله تعالى ، وإنما تدرك الله تعالى إذا تَبَدَّلَتْ صِفَاتُهَا ، وتغيَّرتْ أحوالها ، فَلِمَ قلتم ، إن حصول هذه التغيرات لا تدرك الله تعالى .
ورابعها : سَلَّمْنَا أن الأبْصَارَ لا تُدْرِكُ الله - تبارك وتعالى - فَلِمَ لا يجوز حصول إدراك الله تبارك وتعالى بِحَاسَّةٍ مُغَايِرَةٍ لهذه الحواسِّ ، كما قال ضرار بن عمرو به ، وعلى ها التقدير فلا يبقى بالتمسُّكِ بهذه الآية الكريمة فَائدةٌ .
وخامسها : هَبْ أن هذه الآية عامَّةٌ ، إلاَّ أنَّ الآيات الدَّالَّة على إثبات رؤة الله تعالى خَاصَّةٌ والخَاصُّ مُقدَّمٌ على العام ، وحينئذ ينتقل الكلام إلى أنَّ بيان أن تلك الآيات هل تَدُلُّ على حصول رؤية الله تعالى أم لا؟
وسادسها : أن نقول بموجب الآية الكريمة ، فنقول : سلمنا أن الأبْصَارَ لا تدرك الله - تعالى - فمل قلتم : إن المُبْصرينَ لا يُدْرِكُونَ الله تعالى .
وأما الوجه الثاني فقد بَيَّنَّا أنه يمتنع حصول التَّمَدُّحِ بِنَفْي الرؤية لو كان تعالى في ذَاتِهِ بحيث تَمْتَنْعُ رؤيته ، ثم إنه تبارك وتعالى يَحْجُبُ الأبصار عن رُؤيَتِهِ فَسَقَطَ كلامهم بالكلية ، ثم نقول : إن النفي يمتنع أن يكون سَبَاً لحصول المَدْحِ والثناء ، والعمل به ضروري ، بل إذا كان النَّفْيُ دليلاً على حصول صِفَةٍ ثابتة من صفات المَدْحِ والثناء ، فإن ذلك النَّفْيَ يوجب المَدْحَ .

مثال : أن قوله : تعالى : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [ البقرة : 255 ] أن هذا النفي في حقِّ الباري - تعالى يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات أبداً من غير تَبَدُّلِ ولا زوالٍ ، وكذا قوله : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } [ الأنعام : 14 ] يَدُلُّ على كونه قائماً بنفسه غَنِيَّاً في ذَاتِهِ؛ لأن الجماد أيضاً لا يأكل ولا يطعم ، وإذا ثبت هذا فقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } يمتنع أن يُفِيدَ المَدْحَ والثناء ، إلا إذا دَلَّ على معنى مَوْجُودٍ يفيد المَدْحَ والثناء ، وذلك هو الذي قلنا : إنه تبارك وتعالى - قادرٌ على حَجْبِ الأبْصَارِ ، ومنعها عن إدراكه ورؤيته ، فانْقَلَبَ الكلامُ على المعتزلة ، وسَقَطَ الاستلال . واعمل أن القاضي ذَكَرَ وُجُوهاً أخر تَدُلُّ على نَفْيِ الرؤية ، وهي خَارِجةٌ عن التَّمْسُّكِ بهذه الآية الكريمة .
فأولها : أن الحَاسَّة إذا كانت سَلِيمَةً ، وكان المرئي حَاضِراً ، وكان الشرائط المعتبرة حَاصِلَةً ، وهو ألاَّ يحصل القُرْبُ القريب ، ولا البعد البعيد ، ولا يحصل الحِجَابُ ، ويكون المرئي مقابلاً ، أو في حكم المقابل ، فإن يجب حُصُولُ الرؤية؛ إذ لو جاز مع حُصُولِ هذه الأمور ألا تحصل الرؤية جَازَ أن يكون بِحَضْرَتَنَا بُوقَاتٌ وطبلاتٌ ولا نسمعها ولا نراها ، وذلك يوجب السَّفْسَطَة وأذا ثبت هذا فنقول : إن انْتِفَاءِ القُرْبِ القريب ، والبعد البعيد ، والحِجَاب ، وحُصول المُقابلةِ في حق الله - تعالى - ممتنع ، فلو صَحَّتْ ريته لوَجَبَ أن يكون المقتضي لِحُصُولِ تلك الرؤية هو سَلامَةُ الحَاسَّةِ ، وكون المرئي بحيث تَصِحُّ رؤيته .
وثانيها : أنَّ كل ما كان مرئياً كان مُقَابِلاً ، أو في حكم المُقابلِ ، والله - تعالى - ليس كذلك ، فَوَجَبَ أن تمتنع رُؤيَتُهُ .
وثالثها : قال القاضي : ويقال لهم كيف يراهُ أهلُ الجنة دون أهْلِ الناء ، فإما أن يقرب منهم أو يقابلهم ، فيكون حاله معهم دُونَ أهْلِ النار ، وهذا يوجب أن جِسْمٌ يجوز عليه القرب والبعد والحِجَابُ .
ورابعها : قال : أهْلُ الجَنَّة دون أهل النار يَرَونَهُ في كل حال عند الجِمَاعِ وغيره ، وهو بَاطِلٌ ، ويرونه في حالٍ دون حالٍ ، وهو أيضاً باطل؛ لأن ذلك يوجب أنه- تبارك وتعالى - مرَّةً يقرب ، وأخرى يَبْعد ، وأيضاً فَرُؤيَتُهُ أعْظَمْ اللَّذَّاتِن وإذا كان كذلك وَجَبَ أن يكون مُشْتهين لتك الرُّؤيَةِ أبداًن فإذا لم يَرَوْهُ في بَعْضِ الأوقات وقعُوا في الغَمِّ والحُزْنِ ، وذلك لايليق بصفات أهل الجَنَّةِ ، وهذه الوجوه في غاية الضَّعْفِ .
أمَّا الأول : فيقال : هَبْ أن الأجْسامَ والأعراضَ عند سلامة الحاسَّةِ ، وحضور المرئي ، وحصل سائر الشَّرائط واجبة فلم قلتم : إنه يلزم منه وُجُوبُ حصول الرؤية إذا كان المرئي بحيث تَصِحُّ رؤيته ألَمْ تَعْلَمُوا أنَّ ذَاتَهُ تعالى مُخَالِفَةٌ لسائر الذوات ، ولا يلزم من ثُبُوتِ حكمه في شيء ثُبُوتُ مثل ذلك فيما يُخَالِفُهُ .

وأما الثاني : يقال النزاع وقع في أن الموجود الذي لا يكون مُخْتَصاً بمكان وجهَةٍ هل تجوز رؤيته أم لا؟ فإما أن تدّعوا أن العلم بامْتِنَاع رُؤيَةِ هذا الموجود الموصوف بهذه الصفة عِلْمٌ بديهي ، أو تقولوا : علم اسْتدلالِيُّ ، والأوَّلَ باطل؛ لأنه لو كان لاعمل به بَدِيهياً لما وقع الخِلافُ فيه بين العقلاء ، وأيضاً فبقتدير أن يكون هذا العِلْمُ بَدِيهياً كان الاشْتِغَالُ بِذِكْرِ الدلي عَبَثاً فاتركوا الدليل ، واكتفوا بِذِكْرِ هذه البديهية .
وإن كان الثاني : فنقول قولكم المَرْئِيُّ يجب أن يكون مُقَابلاً ، و في حكم المقابل ، فلا فَائِدة في هذا الكلام إلا إعادة الدَّعْوَى .
وأما الثالث : فيقال له : لم لا يجوز أن يقال : إنَّ الجنَّةِ يرونه ، وأهل الناء لا يرونه؟ . لا لأجل القرب والبعد ، بل لأنَّهُ - تعالى - يخلق الرؤية في عُيُون أهل الجنَّة ، ولا يَخْلُقُهَا في عُيُونِ أهل النار ، فلو رجعت في إبطال هذا الكلام إلى أن تَجْويزَهُ يُفْضِي إلى تَجْويز أن يكون بِحَضْرتِنَا بُوقَاتٌ وطَبْلاتٌ لا نراها ولا نسمعها ، كان هذا رُجُوعاً إلى الطريق الأولى ، وقد سبق جوابها .
وأما الرابع : فيقال : لم لا يجوز أن يُقَال : إنَّ المؤمنين بدون الله - تبارك وتعالى - في حالٍ دون حال [ وقوله : فإن يقتضي أن يقرب منه مرة ويبعد أخرى ، فنقول : هذا عَوْدٌ إلى أن الإبْصَار لا يَحْصُلُ إلاَّ عند الشَّرائِطِ المذكورة وقد سَبَقَ جوابُهُ ، وقوله : الرؤية أعْظَمُ اللَّذَّاتِ ، فيقال له : إنَّها وإن كانت كذلك ، إلاَّ أنه لا يبعد أن يقال : يشتهونها في حالٍ دون حالٍ بدليل أن سَائِرَ لذَّاتِ الجنَّىة ومنافعها لَذِيذَةٌ طيبة ، ثم إنها تَحِصُلُ في حالٍ دون حالٍ ] فهذا تمام الكلام في الجواب عن الوجوه التي ذكرها .
وأما الدَّلالةُ على أن المؤمنين يَرَوْنَ الله تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 ، 23 ] .
وقال مقاتل : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] قال مالك : لو لم يَرَ المُؤمِنُونَ ربَّهُمْ يوم القيامة لم يُعِدِّ للكفار الحِجَابَ ، وقال : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } [ الإنسان : 20 ] فتح الميم وكسر اللام على إحْدَى القراءات ، ولما طلب موسى عليه الصلاة والسلام من الله تعالى الرؤية دَلَّ ذلك على جوازِ رُؤيَةِ الله تعالى .
وأيضاً علَّق الرؤية على اسْتِقِرَارِ الجبل حيث قال : { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [ الأعراف : 143 ] وساترقرا الجَبَلِ جائز ، والمُعَلَّفُ على الجائز جائز .
الوجوه الأربعة المُتقدِّمَةُ في أوَّلِ الآية الكريمة سيأتي الكلام عليها وعلى هذه الآيات ، وما يشبهها في الدِّلالةِ في مواضعها إن شاء اللَّهُ تعالى .
وأمَّا الأخبار فكثيرة منها قوله عليه الصلاة والسلام : « سَتروْنَ ربَّكُمْ كَمَا تَروْنَ القمَرَ ليْلَةً البَدْرِ » وقال عليه السلام : « إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ ربَّكُمْ عياناً » وقرأ عليه الصلاة والسلام قوله : تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] قال : « الحُسْنَى » هِيَ الجَنَّةُ و « الزِّيَادةُ هِيَ النَّظَرُ إلى وجْهِ اللِّهِ .
واختلف الصحابة في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل رَأى رَبَّهُ ليلة المعراج؟ ولم يُكَفِّرْ بعضهم بعضاً بهذا السَّبب ، ولا نَسَبَهُ إلى البِدْعَةِ والضلالة ، وهذا يَدُلُّ على أنهم كانوا مجتمعين على أنه لا امْتِنَاعَ عَقْلاً في رُؤيتِهِ تعالى ، والله تعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصَحْبِهِ وسلَّمَ .

قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)

لمَّا بيَّن البيَّنَاتِ الباهرة ، والدلائل القاهرة المطالب الإلهية عاد إلى تَقْرِير الدَّعْوَةِ والتبليغ والرسالة ، وإنما ذكر الفِعْلَ لشيئين :
أحدهما : الفصل بالمفعول .
والثاني : كون التأنيث مَجَازِياً .
والبَصَائِرُ : جمع « بَصِيرَة » وهي الدلالة التي توجب إبصار النفوس للشيء ومنه قيل للدَّمِ الدال على القتيل « مبصرة » والبصيرة مُخْتَصَّةٌ بالقلب [ كالبَصَرِ للعين ، هذا قول بعضهم .
وقال الراغب : « ويقال لقوة القلب المُدْرِكة : » بَصِيرَةٌ وبَصَرٌ « ] قال تبارك وتعالى : { بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } [ القيامة : 14 ] وقال تعالى : { مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى } [ النجم : 17 ] وتقدَّم تحقيق هذا في أوائل سوة » البقرة « .
وأراد بالبَصَائِرِ الآيات المتقدمة ، وهي في نَفْسِهَا لَيْسَتْ بَصَائِرَ إلا أنها لقوتها وجلائهَا تُوجِبُ البصائِرَ لمن عرفها ، ووقَفَ على حَقَائِقهَا ، فلما كانت سَبَباً لحصول البَصَائِرِ سميت بالبَصَائِرِ .
قوله : » مِنْ ربِّكُمْ « يجوز أن يتعلَّق بالفعل قبله ، وأن يتعَّق بمحذوف على أنه صِفَةٌ لما قبله ، أي : بصائر كائنة من ربكم و » من « في الوجهين لابتداء الغاية مَجَازاً .
قوله : » فَمَنْ أبْصَرَ « يجوز أن تكون شَرطيَّةً ، وأن تكون مَوصُولةً فالفاء جواب الشَّرطِ على الأوَّلِ ، ومزِيدَةٌ في الخبر لشبه المْصُولِ باسم الشرط على الثُّانِي ، ولا بُدَّ قبل لام الجرِّ من مَحْذُوفٍ يَصِحُّ به الكلام ، والتقدير : فالإبْصَارُ لِنَفْسِهِ ، ومَنْ عَمِيَ فالعَمَى عليها ، فإلإبصار والعَمَى مُبْتَدآنِ ، والجارُّ بعدهما هو الخَبَرُ بعدهما هو الخَبَرُ ، والفاء دَاخِلَةٌ على هذه الجملة الواقعة جواباً أو خبراً ، وإنما حُذِف مُبْتَدؤها للعلم به ، وقدَّر الزجاج قريباً من هذا فقال : » فلنفسه نَفْعُ ذلك ومن عَمِيَ فعليها ضَرَرُ ذلك « .
وقال الزمخشري : » فَمْنْ أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر وإياها نفع ، ومن عمي فعليها ، أي : فعلى نفسه عَمِي ، وإياها ضر « .
قال أبو حيَّان : وما قدَّرناه من المصدر أوْلَى ، وهو فالإبصار والعمى لوجهين :
أحدهما : أن المَحْذُوفَ يكون مفرداً لا جملة ، والجار يكون عُمْدَةً لا فَضْلَةً ، وفي تقديره هو المحذوف جملة ، والجار والمرجور فَضْلَة .
والثاني : وهو أقوى ، وذلك أنه لو كان التقدير فِعْلاً لم تدخل الفاء سواء كانت شَرطيَّةً أم موصولة مشبهة بالشرط؛ لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دُعَاءً ولا جَامِداً ، ووقع جوابُ الشَّرطِ أو خبر مبتدأ مُشَبَّهٌ بالشرط لم تدخل الفاءُ في جواب الشرط ، ولا في خبر المبتدأ لو قلت : » من جاءني فأكرمته « لم يَجُزْ بخلاف تقديرنا ، فإنه لا بُدَّ فيه من الفاء ، ولا يجوز حذفها إلا في الشعر .
قال شهاب الدين : وهذا التقدير الذي قدَّرهُ الزمخشري سبقه إليه الكَلْبِيُّن فإنه قال : فَمَنْ أبصر صَدَّق وآمن بمحمد عليه الصلاة والسلام فنلفسه عمل ومَنْ عمي فلم يُصَدِّقْ فعلى نفسه جَنَى العذاب » وقوله : إن الفاء لا تَدْخُلُ فيما ذُكِرَ قد يُنازعُ فيه ، وإذا كانوا فيما يَصْلُحُ أن يكون جواباً صريحاً ، ويظهر فيه أثَرُ الجَازِمِ كالمُضارعِ يجوز فيه دُخُولُ الفاء نحو :

{ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] فالماضي بدخولها أوْلَى وأحْرَى .
فصل في بيان عود المنافع للبشر
قال القاضي : إنه - تعالى - بيَّن لنا أن المنافِعَ تعودإليها لا لمنافع تعود إلى الله تبارك وتعالى- وأيضاً إن المَرْءَ بِعُدُولِهِ عن النَّظَرِ يَضُرُّ بنفسه ، ولم يؤت إلاَّ من قبله لا من قبل ربِّهِ ، وأيضاً إنه متمكِّنٌ من الأمرين ، فلذلك قال : « فَمَنْ أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَنْ عَمِيَ فَعَليْها » قال : وهذا يبطل قول المجبرة [ في أنه- تعالى - يكلف بلا قدرة ] وجوابه المعارضة بسؤال الداعي .
قوله : { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي : برقيب أحْي عليكم أعمالكم ، إنما أنا رَسُولُهُ أبلغكم رِسالاتِ ربي ، وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شَيءٌ من أعمالكم .
فصل في معنى الآية
قال المفسرون : هذا كان قبل الأمْرِ بالقتالِ ، فلما أمِرَ بالقتال صار حَفِيظاً عليهم ، ومنهم من يقول : آيَةُ القِتَالِ نَاسِخَةٌ لهذه الآية الكريمة ، وهو بعيد؛ لأن الأصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ .

وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)

لما شرع في إثبات النُّبُواتِ بدأ بِحِكَايَةِ شُبُهاتِ المنكرين لِنُبُوةِ محمد صلى الله عليه وسلم .
الشُّبْهَةُ الأولَى : قولهم : يا محمد إن هذا القرآن الذي جئْتَنَا به كلامٌ تَستفِيدُهُ من مُدَارَسَةِ العلماء ، وتُنَظِّمُهُ من عند نفسك ، ثمر تقرؤه علينا ، وتزعم أنه وَحْيٌ نُزِّلَ عليك من عند الله تعالى .
و « الكاف » في محلِّ نصب نَعْتٌ لمصدر محذوف ، فقدَّرَهُ الزجاج : ونُصَرِّفَ الآياتِ مِثْلَ ما صَرَّفْنَاها فيما تُلِيَ عليكم ، وقدَّره غيره : نُصَرِّفُ الآيات في غير هذه السُّورةِ تَصْرِيفاً مثل التصريف في هذه السورة .
والمراد بالتَّصْرِيفِ أنه - تبارك وتعالى - يأتي مُتَوَاتِرَة حالاً بعد حالٍ .
قوله : « ولِيَقُولُوا » الجمهور على كسر اللام كي ، والفِعْلُ بعدها منصوب بإضمار « أن » فهو في تَأويل مصدر مَجْرُورٍ بها على ما عرف [ غير مرَّةٍ ] ، وسماها أبو البقاء وابن عطية لام الصَّيْرُورةِ ، كقوله تبارك وتعالى : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] وكقوله : [ الوافر ]
2279- لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا للخَرَابِ .. .
أي : لما صار أمرهم إلى ذلك عَبِّرَ بهذه العبارةِ ، والعِلَّةُ غير مُرَادَةٍ في هذه الأمثلة ، والمُحَقِّقُونَ يأبَوْنَ جَعْلَهَا للعاقبة والصَّيْرُورةِ ، ويُؤوِّلُونَ ما وَرَدَ من ذلك على المَجَازِ .
وجوَّز أبو البقاء فيها الوجهين؛ أعني كونها « لام » العاقبة ، أو العلّة حقيقة ، فإنه قال : « واللام لام العاقبة ، أي : إن أمرهم يَصِيرُ إلى هذا » .
وقيل : إنه قَصَدَ بالتصريف أن يقولوا : درست عقوبة لهم ، يعني : فهذه عِلَّةٌ صَرِيحَة ، وقد أوضح بعضهم هذا ، فقال : المعنى : يُصَرِّفُ هذه الدلائل حالاً بعد حالٍ ليقول بعضهم : دارست فيزادوا كُفْراً ، وتَنْبِيهٌ لبعضهم فَيَزْدادُوا إيماناً ، ونحو : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [ البقر : 26 ]
وأبو علي جعلها في بَعْضِ القراءات لام الصَّيْرُورَةِ ، وفي بعضها لام العلّة؛ فقال : واللام في « ليقولوا » في قراءة ابن عامر ، ومَنْ وافقه بمعنى : لئلاً يقولوا؛ أي : صُرِّفَت الآيات ، وأحْكِمَتْ لئلا يقولوا : هذه أسَاطيرُ الأوَّلينَ قديمة قد بَلِيَتْ وتَكَرَّرَتْ على الأسْماع ، واللام على سائر القراءاتِ لام الصَّيْرُورةِ .
قال شهاب الدين : قراءة ابن عامر دَرَسَتْ بوزن أكَلَتْ وسَرَقَتْ فعلاً ماضياً مسنداً لضمير الآيات ، وسيأتي تحقيق القراءات في هذا الكلمة مُتَواتِرِهَا وشَاذِّهَا .
قال أبو حيَّان : « وما أجَازَهُ من إضمار » لا « بعد اللام المضمر بعدها » أنْ « هو مذْهَبٌ لبعض الكوفيين ، كما أضمروها بعد » أنْ « المُظْهَرَة في { أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ولا يجيز البَصْرِيُّونَ إضْمَارَ » لا « في القَسَمِ على ما تَبَيَّنَ فيه » .
ثم هذه « اللام » لا بد لها من مُتعلِّقٍ ، فقدَّرَهُ الزمخشري وغيره مُتَأخِّراً ، قال الزمخشري : « وليقولوا » جوابه مَحْذُوف ، تقديره : وليقولولا دَرَسَتْ تُصَرِّفُهَا .
فإن قلت : أيُّ فَرْقٍ بين اللاَّمَيْنِ في « ليقولوا » و « لنُبَيِّنَهُ » ؟
قال شهاب الدين : الفَرْقُ بينهما أن الأولَى مَجَازٌ ، والثانية حَقيقَةٌ ، وذلك أن الآيات صُرِفَت للتبيين ، ولم تُصْرَفْ ليقولوا : دارست ، ولكن لأنه لمَّا حَصَلَ هذا القولُ بتصريف الآيات كما حَصَلَ للتَّبْيينِ شبِّه به فسِيقَ مَسَاقَةُ .

وقيل : ليقولوا كما قيل لِنَبيهِ .
قال شهاب الدين : فقد نَصَّ هنا على أنَّ لام « ليقولوا » عِلَّةٌّ مَجَازِيَّة .
وجوَّز بعضهم أن تكون هذه اللام نَسَقاً على عِلًّة محذوفة .
قال ابن الأنباري : « خلت الواو في » وليقولوا « عطفاً على مضمر ، التقدير : وكذلك نصرف الآيات لنُلْزِمَهُمُ الحجة وليقولوا » . قال شهاب الدين وعلى هذا فاللام مُتعلِّقَةٌ بفعل التَّصْرِيف ، من حَيْثُ المعنى ، ولذلك قَدَّرَهُ مَنْ قدَّرَهُ مُتَأخِّراً ب « نُصَرِّف » .
وقال أبو حيَّان : « ولا يتعيَّنُ ما ذكره المُغْرِبُونَ والمُفَسَّرونَ من أن اللام لام كي ، أو لام الصَّيْرُورةِ ، بل لاظاهر أنها لامُ الأمْرِ والفعل مَجْزُومٌ بها ، ويُؤيِّدُهُ قرءاة من سَكَّنَ اللام ، والمعنى عليه يَتَمكَّنُ ، كأنه قيل : وكذلك نُصَرِّفُ الآيات ، وليقولوا هم ما يقولون من كَوْنِهَا دَرَسْتَهَا وتعلَّمْتَها أو دَرَسَتْ هي ، أي : بَلِيَتْ وقدُمَتْ ، فإنه لا يُحْتَفَلُ بهم ولا يُلْتَفَتُ إلى قولهم وهو أمْرٌ معناه الوعيدُ والتهديد ، وعدمُ الاكتراثِ بقولهم ، أي : نُصَرِّفُهَا وليدَّعُوا فيها ما شَاءُوا ، فإنه لا إكْتِرَاث بِدَعْوَاهُمْ » .
وفيه نظرٌ من حيث إنَّ المعنى على ما قالهُ النَّاسُ وفهموه ، وأيضاً فإن بعده « ولنبيِّنَهُ » وهو نَصٌّ في لام كي ، وأمَّا تسكين اللام في القراءة الشَّاذَّةِ ، فلا يَدُلُّ لاحتمال أن تكون لام كي سُكِّنَتْ إجْرَاء للكملة مُجْرَى : كَتِف وكَبِد .
وقد رَدَّ أبو حيان على الزمخشري؛ حيث قال : « ليقولولا جوبه محذوف » فقال : وتَسمِيَتُهُ ما يتلَّقُ به قوله : « وليقولوا » جواباً اصْطِلاحٌ غريب لا يقال في « جئت » من قولك : « جئت لتقوم » إنه جواب .
قال شهاب الدين : هذه العبارةُ قد تكرَّرَتْ للزمخشري ، وسيأتي ذلك في قوله : { ولتصغى } [ الأنعام : 113 ] أيضاً .
وقال الشيخ هناك : « وهذا اصْطِلاحٌ غريب » .
والذي يظهر أنه إنما يُسَمَّى هذا النحو جواباً ، لأنه يَقَعُ جواباً لسائل؛ تقول : أين الذي يتعلَّق شبه هذا لجار؟ فيجاب به ، فسُمي جواباً الاعْتِبَار ، وأضيف إلى الجارِّ في قوله : « وليقُولُوا » جوابه؛ لأن الإضافة تقع بأدْنَى مُلابَسَةٍ ، وإلا فكلامُ إمَامٍ يَتَكَرَّرُ لا يُحْمَلُ على فَسَادٍ .
وأما القراءات التي في « درست » فثلاث في المتواتر : فقرا ابن عامر : « دَرَسَتْ » بِزِنَةِ : ضَرَبَتْ ، وابن كثير وأبو عمرو « دَارَسْتَ » بِزِنَةِ : قَابَلْتَ أنت ، والباقون « دَرَسْتَ » بِزِنَةِ ضَرَبْتَ أنت .
فأمَّا قرءاة ابن عامر : فمعناها بَلِيَتْ وقَدُمَتْ ، وتكرَّرَتْ على الأسْمَاعِ ، يشيرون إلى أنها من أحَادِيثِ الأوَّلينَ ، كما قالوا : « أسَاطِيرُ الأوَّلِينَ » .

وأما قراءة ابن كثير ، وأبي عمروا : فمعناها : دَارَسْتَ يا محمد غَيْرَكَ من أهْلِ الأخبار الماضية ، والقرون الخالية حتى حَفِظْتَهَا قَفُلْتَهَا ، كما حكى عنهم فقال : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ } [ النحل : 103 ] .
وفي التفسير : أنهم كانوا يقولون : هو يُدَارِسُ سَلْمَانَ وعَدَّاساً .
وأما قراءة الباقين : فمعناها : حَفِظْتَ وأتْقَنْتَ بالدَّرْسِ أخبارَ الأوَّلين ، كما حُكِيَ عنهم { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] أي : تكرر عليها بالدرس يحفظها .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : وليقولوا أهل « مكة » حين تَقْرَأُ عليهم القرآن : ودَرَستْ تعلمت من يسارٍ وجبر ، وكانا عَبْدَيْنِ من سَبي الروم قرأت علينا تَزْعُمُ أنه من عند الله .
حكى الواحدي في قوله : درس الكتاب قولين :
الأول : قال الأصمعيُّ : أصله من قولهم : درس الطعام إذا دَرَسَهُ دراساً ، والدَّرْسُ الدِّيَاسُ بِلُغَةِ أهل « الشام » ، قال : ودرس الكلام من هذا ، أي : يدرسه فيخفُّ على لسانه .
والثاني : قال أبو الهيثم : درست الكتاب ، أي : ذللته بكثرةِ القراءة خَفَّ حِفْظُهُ من قولهم : درست الثوب أدْرُسُهُ دَرْساً ، فهو مَدْرُوسٌ ودَرِيسٌ ، أي : أخْلَقْتُهُ ، ومنه قيل للثوب الخلق : دريسٌ لأنه قد لان والدراسةُ الرياضة ، ومنه درست السُّورة حتى حفظتها قال الواحدي : وهذا القول قريب مما قال الأصمعيُّ ، بل هو نفسه لأن المعنى يعود إلى التَّذْليل والتَّلْيين .
وقرئ هذا الحرف في الشَّاذِّ عشر قراءات أخر فاجتمع فيه ثلاثة عشرة قراءة؛ فقرا ابن عباس بخلاف عنه ، وزيد بن علي ، والحسن البصري ، وقتادة « دُرِسَتْ » فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول مسنداً لضمير الإناث ، وفسَّرها ابن جنيِّ والزمخشري بمعنيين في أحدهما إشكال .
قال أبو الفتح : « يحتمل أن يُرَادَ عَفَتْ أو بَلِيَتْ » .
وقال أبو القاسم : « بمعنى قُرِئَتْ أو عُفِيَتْ » .
قال أبو حيَّان : « أما معنى قُرِئَتْ وبَلِيَتْ فظاهِرٌ لأن دَرَسَ بمعنى كرَّرَ القراءة متعدِّ ، وأما » دَرَس « بمعنى بلي وانمحى فلا أحْفَظُهُ متعدياً ، ولا وَجَدْنا فيمن وقَفْنَا على شعره [ من العرب ] إلا لازماً » .
قال شهاب الدين : لا يحتاج هذا إلى استقراء ، فغن معناه لا يحتمل أن يكون متعدياً؛ إذْ حَدَيُهُ لا يتعدَّى فاعله ، فهو ك « قام » و « قعد » فكما أنا لا نحتاج في مَعْرِفةِ قصور « قام » و « قعد » إلى استقراءٍ ، بل نَعْرِفُهُ بالمعنى ، فكذا هذا .
وقرئ « دَرَّسْتَ » فعلاً ماضياً مسدّداً مبيناً للفاعل المخاطب ، فيحتمل أن يكون للتكثير ، أي : دّرَّسْتَ الكُتُبَ الكثيرة ك « ذبَّحت الغنم » ، و « قَطَّعْتُ الأثواب » وأن تكون للتَّعديَةِ ، والمفعولان محذوفان ، أي : دَرَّسْتَ غيرك الكتاب ، ولي بظاهرٍ؛ إذ التفسير على خلافه .
وقُرِئ دُرِّسْتَ كالذي قبله إلا أنه مَبْنيُّ للمفعول ، أي : دَرَّسَكَ غَيْرُكُ الكتب ، فالتضعيف للتعدية لا غير .

وقرئ « دُوْرِسْتَ » مسنداً لتاء المُخاطبِ من « دَارَس » ك « قاتل » إلا أنه بُنِيَ للمفعول ، فقلبت ألِفُهُ واواً ، والمعنى : دارسَكَ غَيْرُكَ .
وقرئ « دَارَسَتْ » بتاء ساكنة للتأنيث لَحِقَتْ آخر الفعل ، وفي فاعله احتمالان :
أحدهما : أنه ضمير الجَمَاعَةِ أضْمِرَتْ ، وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدلالة السياق عليها أي : دراستك الجمَاعةُ يُشيرون لأبي فكيهة ، وسلمان ، وقد تقدَّم ذلك في قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو رحمها الله تعالى .
والثاني : ضمير الإناث على سبيلِ المُبالغةِ ، أي : إن الآيات نفسها دارَسَتْكَ ، وإن كان المراد أهْلَهَا .
وقرئ « دَرُسَتْط بفتح الدال ، وضم الراء مُسْنَداً إلى ضمير الإناث ، وهو مُبالغةٌ في » دَرَسَتْ « بمعنى : بَلِيَتْ وقدُمَتْ وانمحَتْ ، أي : اشتدَّ دُرُوسُهَا وبلاهَا .
وقرأ أبَيُّ » دَرَسَ « وفاعله ضمير النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، أو ضمير الكتاب بمعنى قرأهُ النَّبِيُّ ، وتلاهُ ، وكُرِّرَ عليه ، أو بمعنى بلي الكتاب وامَّحى ، وهكذا في مصحف عبد الله » دَرَسَ « .
وقرأ الحسنُ في رواية » دَرَسْنَ « فعلاً ماضياً مسنداً لنون الإناثِ هي ضمير الآياتن وكذا هي في بَعضِ مصاحفِ ابن مسعود .
وقرئ » دَرَّسْنَ « كالذي قبله إلا أنه بالتَّشديد بمعنى اشتدَّ دُرُوسُهَا وبلاهَا ، كما تقدم .
وقرئ » دَارِسَاتٌ « دمع » دَارِسَة « ؛ بمعنى : قديمات ، أو بمعنى ذات دُرُوس ، نحو : { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] و { خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] وارتفاعها على خبر ابتداء مضمرٍ ، أي : هُنَّ دارسات ، والجملة في محلٍِّ نصب بالقولِ قبلها .
قوله : » ولنبيِّنَه « تقدم أنَّ هذا عطفٌ على ما قَبْلَهُ؛ فحكمه حُكْمُه ، وفي الضمير المَنْصُوب أربعةُ احتمالات :
أحدها أنه يَعُود على الآياتِ ، وجاز ذلك وإن كانت مُؤنَّثَة؛ لأنَّها بِمَعْنَى : القُرآن .
الثاني : أنَّه يَعُود على الكتاب ، لدلالة السِّياق عليه ، ويُقَوِّي هذا : أنَّه فاعل ب » دَرَسَ « في قَراءة مَنْ قَرَأه كذلك .
الثالث : أنَّه يَعُود على المصدَر المفهوم من نُصَرِّف ، أي : نبيِّن التَّصْريف .
الرابع : أنه يَعُود على المَصْدَر المفْهُوم من » لِنُبَيِّنه « أي : نُبَيِّن التَّبْين ، نحو : » ضَرَبْتُه زَيْداً « أي : » ضربت الضَّرْب زَيْداً « ، و » لقوم « معلِّقٌ بالفعل قبله ، و » يعْلَمُون « :
في محل جرِّ صفة للنَّكرة قبلها .
قال ابن عباس - ضي الله عنهما- يُريد أوْلِياءَهُ الذين هداهم إلى سبيل الرَّشاد .
وقيل : نصرِّف الآيات ليشقى بها قَوْم ، ويَسْعد بها آخرون؛ فمن قال : » دَرَسْت « فهو شقي ، ومن تَبيَّن له الحقُّ ، فهو سِعِيدٌ .

اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)

لما حَكَى عَن المُشْرِكين أنَّهُم يَنْسِبُونه في إظْهَار هذا القُرْآن العظيم إلى الافْتِرَاء ، وإلى مُدَارسة من يَسْتَفِيد هذه العلُوم مِنْهُم ، ثمَّ ينظِّمُهَا قُرْآناً ، ويدَّعي أنَّه عليه من اللَّه ، أبتعه بقوله : { اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّك } لئلا يصير ذلك القول سَبَاً لفتوره عن تَبْلِيغ الدَّعْوَة والرِّسالة ، والمقصُود : تقوية « قَلْبِه » ، وإزالة الحُزْن الذي حَصَل بسَمَاع تلك الشُّبْهَة .
قول : « ما أوحِي » يجُوز أن تكُون « ما » : اسميَّة ، والعائد هو القائمُ مقام الفاعل ، و « إليك » : فَضْلَه ، وأجَازُوا أن تكون مَصْدريَّة ، والقائِم مقام الفاعل حينئذٍ : الجار والمجرُور ، أي : الايحاء الجَائِي مِنْ ربِّك ، و « مِنْ » لابْتِدَاء مَجَازاً ، ف « مِنْ ربِّك » :
متعلِّقٌ ب « أوحِيَ » .
وقيل بل هُو حالٌ من « ما » نَفْسِها .
وقيل : بل هُو حالٌ من الضَّمير المُسْتترِ في « أوحِيَ » وهو بِمَعْنَى ما قَبْلَه .
وقوله : « لا إلهَ إلاَّ هُو » جملة مُعْتَرِضة بَيْن هاتَيْن الجُمْلَتيْن الأمْرِيَّتيْن ، هذا هو الأحْسن .
وجوّز أبُو البقاءِ أن تكُون حالاً من « ربِّك » وهي حالٌ مؤكِّدَةٌ ، تقديره : من ربِّك مُنْفَرِداً .
قوله : « وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكين » أي : لا تُجَادِلْهم .
وقيل : المرادُ : ترك المُقاتَلة؛ فلذلك قالوا : إنَّه مَنْسوخٌ ، وهذا ضعيف؛ لأن الأمْر بترك المُقاتلة في الحالِ لا يُفِيدُ الأمر بِتَرْكِها دائماً ، وإذا كان الأمْر كذلك لم يَجِيبِ التزام النَّسْخ .
قوله : « ولوْ شَاء اللَّه » مفعول المشيئة مَحْذُوف ، أي : « لو شَاءَ اللَّه إيمانَهُم » وقد تقدَّم أنه لا يُذْكر إلا لِغَرَابتِه ، والمعنى : لا تلتفتْ إلى سَفَاهَات هؤلاء الكُفَّار ، فإنّي لو أرَدْت إزالَة الكُفْرِ عنهم ، لَقَدَرْت ، ولكنِّي تركْتُهم مع كُفْرِهم ، فلا يَشْتَغِل قلبك بِكلماتِهم .
وتمسَّك أهل السُّنَّة بقوله - تعالى - : { وَلَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكُواْ } والمعنى : لو شَاءَ ألاَّ يُشْرِكوا ، ما أشْرَكوا ، وحيث لَمْ يَحْصُلِ الجَزَاء ، لم يَحْصُل الشَّرْط .
وقالت المُعتزلَة : ثبت بالدَّلِيل أنَّه - تعالى - أراد مِنَ الكُلِّ الإيمان ، وما شَاءَ من أحدٍ الكُفْر ، وهذه الآيَة الكريمة تَفْتَضِي : أنَّه - تعالى - ما شَاءَ من الكُلِّ الإيمانَ؛ فوجب التَّوفيق بين الدَّليليْن ، فيجعل مَشِيئةِ اللَّه لإيمانهم ، على مَشِيئة الإيمان الاخْتِيَاريِّ الموجبِ للثُّواب ، ويحمل عدم مشيئته لإيمانِهِم ، على الإيمان الحاصِل بالقَهْر والجَبْر ، يعني : أنه - تبارك وتعالى- ما شاء أن يَحْمِلَهُم على الإيمان على سبيل القَهْر والإلْجَاء؛ لأنَّ ذلك يُبْطِل التَّكْليف ، ويخرج الإنْسَان عن اسْتِحقاق الثَّواب .
والجواب من وُجُوهٍ :
أحدها : أنه - تبارك وتعالى - ما شَاءً مِنْهُم أن يَحْمِلَهم على الإيمان على سَبِيل القَهْر وهو الذي أقْدَر الكَافِر على الكُفْر فَقُدْرَةٌ الكُفْر إن لم تَصْلُح للإيمان ، فخالِقُ تلك القُدْرَة لا شكَّ أنه كان مُريداً للكُفْر ، فإن كان صَالِحة للإيمان ، لَمْ يَتَرجَّحْ جانب الكُفْرعلى جَانِب الإيمان ، إلاَّ عند حصولِ داعٍ يَدْعُو إلى الإيمان ، وإلاَّ لَزِم رُجْحان أحد طرَفِي المُمْكِن على الآخرَر [ لا ] لمرجَح .

وهو مُحَالٌ ، ومَجْمُوع القُدْرَة مع الدَّاعِي إلى الكُفْر ، يُوجِب الكُفْرَن فإذا كان خالِق القُدْرة والدَّاعِي هو اللَّه- تعالى - ، وثبت أنَّ مَجْمُوعَهما يوجِبُ الكُفْر ، ثبت أنَّ الله - تعالى - أراد الكُفْر من الكافِرِ .
وثانيها : أنَّ الله - تبارك وتعالى - كان عالماً بعدم الإيمان من الكَافِر ، ووجُود الإيمَان مع العِلْم بِعدم الإيمان مُتضَادَّانِ ، ومع وُجودِ أحَد الضِّدَّيْن كان حُصُول الضدِّ الثاني محالاً ، مع العِلْمِ بِكَوْنه محالاً غير مُرَادِ ، فامْتَنَع أن يُقال : إنه - تعالى - يريد الإيمان من الكافر .
وثالثها : هَبْ أن اإيمان الاخْتِيَاري أفْضلُ وأنْفع من الإيمان الحَاصِل بالجَبْر والقَهْر ، إلاَّ أنَّه- تعالى لما عَلِم أنَّ ذلك النَّفْع لا يَحْصُل ألْبَتَّةَ ، فقد كان يَجِبُ في رَحْمَته وحكمته ، أن يخلق فيهم الإيمان على سَبِيل الإلْجَاء؛ لأن هذا الإيمان وإن كان لا يُوجِب الثُّواب العظيم ، فأقَل ما فيه أن يُخَلِّصَة من العِقَاب العَظيم ، وتَرْك إيجَاد هذا الإيمان فيه على سبيل الإلْجَاء ، يُوجِب وقوعَهُ في أشَدِّ العذاب ، وذلك لا يَلِيقُ بالرَّحمة والإحْسان ، كما إنَّ الوالد إذا كان له ولدٌ عزيزٌ ، وكان الأبُ في غَاية الشَّفَقَة ، وكان الولدُ واقفاً على طَرف البَحْرن فيَقُول له الوالد : غُصْ في قَعْر هذا البَحْر؛ لتَسْتَخْرِج اللآلِئ العظيمة الرَّفيعة الغَالِية ، وعلِم الوالد قَطْعاً أنَّه إذا غَاصَ في البَحْر ، ويقول له : أترك طلب اللآلِئ ، فإنَّك لا تَجِدُها وتَهْلَك ، والأوْلى لك أن تَكْتَفِي بالرِّزق القَلِيل مع السَّلامة ، فأما أنْ يَأمُرَه في قَعْر البحر مع تيقّن الهلاك ، فهذا يدلُّ على عَدَم الرَّحْمة؛ وكذا هَهُنَا .
قوله : « وَمَا جَعَلْنَاكَ » « جعل » بمعنى : صيَّر فالكافُ مَفْعُول « حَفِيظ » مَحْذُوف ، أيك « حفيظاً عليهم أعْمالهم » .
قال أبُو البقاء : « هذا يُؤيِّد قَوْل سيبويه في إعْمَال فَعِيل » يعني : أنه مِثالُ مُبالَغة ، وللنَّاس في إعْمَاله وإعْمَاله وإعْمَال فعل خلاف أثْبَتَهُ سِيبويْه ، ونفاه غَيْرُه .
[ قال شهاب الدين ] : يُؤيِّده وليْس شيءٌ في اللَّفْظ يَشْهَد لَهُ؟
قوله : « وَمَا أنْتَ » يجُوز أن تَكُون « مَا » الحجازيةح فيكُون « أنْتَ » : اسْمُهاَ ، و « بوكيل » : خبرها في مَحَلِّ نصْب ، ويجُوز أن تكُون التَّمِيميَّة؛ فيكون « أنْتَ » : مبتدأ و « بوكيل » : خَبَره في محلِّ رفع ، والباءُ زايدة على كلا التَّقْديرين ، و « عليهم » : متعلِّق بوكيل قُدِّم لما فيما قَبْلَه ، وهذه الجُمْلَة هي في مَعْنى الجملة قَبْلَها؛ لأن معنى ما أنْت وَكِيلٌ عليهم ، وهو بِمَعْنَى : ما جَعَلْنَاكَ حفيظاً عليهم ، أي : رقيباً .
واعلم أنه - تبارك وتعالى - لما بيَّن أن لا قُدْرَةَ لأحد على إزالة الكُفْر عَنْهُم ، ختم الكلام بما يَكْمُل معه تَبْصير الرَّسُوال؛ لأنَّه لما بيَّن له قَدْر مَا جَعَل إلَيْه ، فذكر أنَّه ما جَعَله عليْهم حَفِيظاً ولا وِكِيلاً ، وإنَّما فوَّض إليه البَلاغ بالأمْر ، والنَّهْي ، البَيَان بذكر الدَّلائل ، فإن انْقَادُوا للقَبُول ، فنفعه عَائِدٌ إلَيْهم ، وإلا فضرَرُه عَائِدٌ إليهم .
قال عطاء : وما جَعَلْنَاك علهيم حَفِيظاً : تمنعهم منِّي ، أي : لم تُبْعِثْ لِتَحْفَظ المُشْرِكين من العذاب ، إنما بُعِثْت مُبَلَّغاً ، وما أنت عليهم بِوَكيل على سَبيل المَنْع لَهُم .

وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)

اعلم أنَّ متعلَّق هذا بما قَبْلَه : أنَّه لا يَبْعُد ان بَعْض المُسْلمين كان إسمع قَوْل المُشْرِكين للرَّسُول - عليه الصلاة والسلام- إنَّما جَمَعْت هذا القُرْآن من مُدارَسَة النَّاس ، غَضِب ، وشَتَم آلِهَتَهُم المُعَارِضة ، فنهي الله - تعالى - عن ذَلِك؛ لأنَّك متى شتمت آلِهَتَهُم ، غَضِبُوا ، فَرُبَّما ذكر اللَّه - تبارك وتعالى - بِمَا لا يَنْبَغِي ، فلذلك وَجَبَ الاحْتِرَاز عن ذَلِك المَقَال ، وهَذَا تَنْبِيهٌ على أنَّ الخَصْم إذا شَافَه خَصْمَه بِجَهْل وسفاهِةٍ ، لم يَجُزِ لِخَصْمه أن يُشافِهَهُ بمثل ذلك ، فإن ذلك يُوجِبُ فتْح باب المُشَاتَمَةِ والسَّفاهَة ، وذّلِك لا يَلِيق بالعُقلاء .
فصل في المراد بالآية
قال ابْن عبَّاس - رضي الله عنهما - لمَّا نزل قوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] قال المُشْرِكُون : يا مُحَمَّد ، لَتَنْتَهِيَنَّ عن سَب آلهتنا ، أو لَنَهْجُرَنّ ربَّك؛ فنزلت هذه الآية ، وهَهُنا إشكالان .
أحدهما : أن النَّاس اتَّفَقُوا على أن هذه السُّورة نزلت دَفْعَةً واحِدَةً ، فكيْف يُمْكن أن يُقال : سبَبُ نُزُول هَذِهِ الآية الكَرِيمة كَذَا .
والثاني : أن الكُفَّار كانوا مُقِرِّين اللَّهِ - تعالى - ؛ لقوله - تبارك وتعالى - : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] وكانوا يَقُولُون : إنّما نَعْبُد الأصْنَام؛ لِتَصير شُفَعَاؤُنَا عِنْد الله ، فكيف يُعْقَل إقْدَامهم على شَتمِ اللَّه وسبِّه .
وقال السُّدِّيُّ : « لما قربت وفاةُ أبي طالبِ ، قالت قُرَيْشُ : ندخل عليه ، ونَطْلُب منه أنْ يَنْهَي ابْن أخيه عَنَّا ، فإنا نَسْتَحِي أن نَقْتُلَه بعد مَوْته ، فَنَقُول العرب : كان يَمْنَعُه عَمُّه ، فلما ماتَ ، قتلوه؛ فانْطَلَقَ أبو سُفْيَان ، وأبُو جَهْلٍ ، والنَّضْرُ بن الحَرارِثِ ، وأمَيَّةُ وأبَي ابنا خَلَف ، وعُقْبَةُ بن أبي معيط ، وعَمْرُو بن العَاصِ ، والأسْوَد بن أبِي البُخْتُري إليه ، وقالُوا : يا أبا طالبٍ ، أنت كَبِيرُنا وسيِّدُنا ، وإن محمَّداً آذَانَا وآلهتنا ، فنحب أن تَدْعُوَه وتنهاه عن ذكْر آلِهَتنا ، ولندعه وإلهه ، فدعاه ، فقال : يا مُحَمُّد ، هؤلاء قَوْمُك ، وبَنُو عَمِّك يطلُبُوك أن تَتْرُكَهم على دينهم ، وأنْ يَتْركُوكَ على دينك ، وقد أنْصَفَك قومك ، فاقْبَل مِنْهم ، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أرأيْتُم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيَّ كلمة إن تكلمتم بها مَلَكْتُم بها العرب ، ودَانَت لكم بها العَجَم قال أبُو جَهْلِ : نَعَم وأبيك ، لَنُعْطِيَنّكَهَا ، وعشرة أمْثَالِهَا ، فما هي؟
قال : » قولوا : لا إله إلاَّ الله « فأبَوْا ونَفَرُوا ، فقال أبُو طالب : قُلْ غَيْرَها يا بابْن أخي ، فقال : يا عمَّ ، ما أنا بالَّذِي أقُول غَيْرَها ، ولَوْ أتَوْني بالشَّمْسِ فَوضَعُوها في يَدِي . فقالوا : لتكُفَّنَّ عن سب آلِهَتِنا ، وأو لنَشْتُمَنَّك أو لنشتُمَنَّ من يأمرك بِذلكِ ، » فأنْزَل الله - تعالى الآية الكريمة .
وفيه الإشكالان ، ويمكن الجواب مِن وُجُوه :
الأول : أنه رُبَّما كان بَعْضُهُم قائِلاً بالدَّهر ونفي الصَّانع ، فيأتي بهذا النَّوْع من الشَّفاعة .

الثاني : أن الصَّحابة - ر ضي الله عنهم- متى شَتَمُوا الأصْنَام ، فهم كَانُوا يَشْتُمون الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - فاللَّه - تعالى - أجْرَى شَتْم الرَّسُول مَجْرىللَّه - تعالى -؛ كقوله : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ } [ الفتح : 10 ] وكقوله : { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } [ الأحزاب : 57 ] .
الثالث : أنه رُبَّما كان في جُهَالِهم ، مَنْ كان يَعْتَقِد أنَّ شَيْطَانَاً يَحْمِلُه على ادِّعاء النُّبُوة والرٍّسالة ، ثُمَّ إنَّه لجَهْلِه ، كان يُسَمَّى ذلك الشَّيْطان بأنه إله محمَّد ، فكان يَشْتم إله محمَّد بناءً على هذا التَّأويل .
وقال قتادة : كان المُسْلِمُون يسُبُّون أصْنَام الكُفَّار ، فَنهَاهم اللَّه - تعالى - عن ذَلِك؛ لِئَلاَّ يَسُبُّوا اللَّه ، فإنهم جَهَلة .
فإن قيل : شَتْم الأصنام من أصُول الطَّاعات ، فكَيْفَ يَحْسُن أن يَنْهَى عَنْه .
فالجوابُ : أن هذا الشَّتم وإن كان طَاعَةً ، إلاَّ أنَّه إذا وَقَع على وَجْه يستَلْزِم وجُودَ منكر عَظِيم ، وجب الاحْتِرَاز مِنْه ، والأمر هَهُنا كذلك؛ لأنَّ هذا الشتْم كان يَسْتَلِزم إقْدامهم على شَتْم اللَّه ، وشَتْم رَسُوله ، وعلى فَتْح باب السَّفاهة ، وعلى تَنْفِيرهم عن قُبُول الدِّين ، وإدْخَال الغَيْظ والغَضَب في قلوبهم ، فَلِهذه المُنْكشرات وقع النَّهْي عنه .
قوله : { مِنْ دُونِ اللَّه } يجُوز أن يتعلَّق ب « يَدْعُونَ » وأن يتعلَّق بمحذُوفِ على أنَّه حالٌ : إمَّا من الموصُول ، وإمَّا من عَائِدِه المَحْذُوف ، أي : يَدْعُونهم حَالَ كونهم مستَقِرِّين من دُونِ اللَّه .
قوله : « فَيَسُبُّوا » الظَّاهر أنه مَنْصُوب على جواب النَّهي بإضمار أنْ بعد الفَاءِ ، أي : « لا تَسُبُّوا آلهتَهُم ، فقد يترتَّبُ عليه مَا يَكْرَهُون مِنْ سَبِّ اللَّه » ، ويجُوز أن يكُون مَجْزُوماً نسقاً على فِعْل النَّهْي قَبْلَه؛ كَقَوْلِهم : « لاتَمْدُدْها ، فتشُقَّها » وجَازَ وُقُوع « الَّذِين » - وإن كان مُخْتَصًّا بالعُقلاء - على الأصْنَام الَّتِي لا تَعِقْلُ ، معاملة لها مُعامَلة العُقلاء؛ كما أوْقَع عليْها « مِنْ » في قوله : { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] .
قال شهاب الدِّين : وفيه نَظَر؛ لأنَّ « الَّذِي » و « الَّتِي » وسائِر المَوْصُولات ما عَدَا « مَنْ » فإنَّها تدخل على العُقَلاء وغيرهم ، تقول : أنت الرُّجُل الَّذِي قَام ، ورَأيْت الفَرَس الَّذِي اشْتَرَيته ، قال : ويَجُوز أن يَكُون ذَلِك للتَّغُلِيب ، لأن المَعْبُود مِن دُون اللَّه عُقلاء؛ ك « المَسِيح » و « عُزَيْر » و « المَلاَئِكَة » وغيرهم ، [ فغلَّب ] العَاقِل ، وهذا بَعِيدٌ؛ لأنَّ المُسْلِمين لا يسبّون هؤلاء ويَجُوز أنْ يُرَاد بالَّذين يَدْعُون : المُشْرِكين ، أي : لا تَسُبُّوا الكَفَرة الَّذِين يَدْعون غَيْر اللَّه من دُون الله ، وهو وَجْهٌ وَاضِح .
قوله : « عَدْواً » الجُمْهُور على فَتْح العَيْن ، وسُكون الدَّال ، وتَخْفِيف الواوِ ونصبه من ثلاثة أوْجُه :
أحدها : أنه مَنْصُوب على المَصْدَر؛ لأنَّه نوع من العَامِل فِيهِ ، لأنَّ السَّبَّ من جِنْس العَدْو .
والثاني : أنَّه مَفْعُول من أجْلِه ، أي : لأجْل العَدْو ، وظاهر كلام الزَّجَّاج : أنه خَلَط القَوْلَين ، فجَعَلهُمَا قَوْلاً واحداً ، فإنه قال : « وعَدْواً » مَنْصُوب على المَصْدر؛ لأن المعنى فَتَعْدُوا عَدْواً .

قال : « ويكُون بإرَادَة اللاَّم » والمعنى « : فيسُبُّوا الله للظُّلْم .
والثالث : أنَّه مَنْصُوب على أنَّه وَاقِع مَوْقِع الحالِ المُؤكدة؛ لأنَّ السَّبَّ لا يَكُون إلا عَدْواً .
وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، ويعقوب ، وقتادة ، وسلام ، وعبد الله بن زَيْد : » عُدُواً « بضم العَيْن والدَّال ، وتشديد الواو ، وهو مصدر أيضاً ل » عَدَا « وانتِصَابهُ على ما تقدَّم من الأوجه الثلاثة .
وقرا ابن كثير في روايةٍ - وهي قراءة أهْل مَكَّة المشرفة فيما نَقَلَهُ النَّحَّاس : » عَدُوّاً بفتح العَيْن ، وضمِّ الدَّال ، وتَشْديد الواو ، بمَعْنى : أعداء ، ونَصْبُه على الحالِ المُؤكدة ، و « عَدُوُّ » يجُوز أن يَقَع خبراً عن الجَمْع ، قال - تعالى : { هُمُ العدو } [ المنافقون : 4 ] ، وقال - تعالى - : { إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } [ النساء : 101 ] ،
ويُقال : عَدا يَعْدُو عَدْواً ، وعُدُواً ، وعُدْواناً وعَداءً ، و « بغير عِلْم » حَال ، أي : « يَسْبُّونه غير عَالِمين » أي : « مُصَاحِبِين للجَهْل » ؛ لأنَّه لو قدَّر حقَّ قَدْره ، لما أقْدَموا عليه .
فصل في دحض شبهة للمعتزلة
ققال الجُبَّائي : دلَّت هذه الآية الكَرِيمة ، على أنَّه لا يجُوز أن يُفْعَل في الكُفَّار ما يَزْدَادون به بُعْداً عن الحقِّ ، إذ لو جَازَ أن يَفْعَلَه ، لجاز أن يَأمر بِه وكان لا ينْهَى عمَّا ذَكَرْنا ، ولا يَأمر بالرِّفْق بهم عند الدُّعَاء؛ كقوله لِمُوسَى ، ولِهَارُون : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] وذَلِك يُبْطِل مذهب الجَبْرِية .
قالوا : وهذه الآية الكريمة تَدُلُّ على أنَّ الأمْر بالمَعْرُوف ، قد يقبح إذا أدَّى إلى ارْتِكَاب مُنْكَر ، والنَّهْي عن المُنْكَر يَقْبُح إذا أدَّى إلى زيادة مُنْكَر ، وغلبة الظَّنِّ قائمة مَقَام العِلْم في هذا البَاب ، وفيه تَأدِيب لمن يَدْعُوا إلى الدَّين؛ لئلا يَتَشاغل بما لا فَائِدة لهُ في إلهيَّتِهَا ، فلا حَاجَة مع ذَلِك إلى شَتْمِها .
قوله : « كَذَلِكَ » : نعت لِمَصْدر مَحْذُوف ، أي : زَيَّنَّا لِهؤلاء أعمالهم تزييناً ، مثل تَزْييننَا لكلِّ أمَّةٍ عَمَلَهم .
وقيل : تقديره : مثل تَزْيين عِبَادة الأصْنَام للمُشْرِكين « زيَّنَّا لكل أمَّةٍ عَمَلهم » وهو قَريب من الأوَّل ، والمَعْنَى زينَّا لكل أمَّةٍ عَمَلهم من الخَيْر والشَّر ، والطّاعة والمَعْصِية ، ثم إلى ربِّهم مَرٍْجِعهم ، فيُنَبَّئهم ويجازيهم بما كَانُوا يَعْمَلُون .
فصل في الاستدلال بالآية
احتجَّ أهْل السُّنَّة بهذه الآية الكريمة ، على أنَّ اللَّه - تعالى - زيَّن للكَافِر الكُفْر ، وللمُؤمِن الإيمان ، وللعَاصِي المَعْصِيَة ، وللمُطِيع الطَّاعة .
قال الكَعْبِي : حَمْل الآية على هَذَا المَعْنَى مُحَال؛ لأنه - تبارك وتعالى - هو الَّذي يَقُول { الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ } [ محمد : 25 ] ويقول { والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات } [ البقرة : 257 ] ثمَّ إنهم ذكَرُوا في الجوابِ وُجُوهاً :
الأول : قال الجُبَّائي : زينَّا لكلِّ أمَّةٍ تقدَّمت ما أمَرْنَاهم به مِنْ قَول الحقِّ .

وقال الكَعْبِيَ : إنَّه - تعالى - زيَّن لَهُم ما يَنْبَغِي أن يَعْمَلُوا ، وهم لا يَنْتَهُون .
الثاني : قال الآخَرُون : زينَّا لكُلِّ أمَّة من أمم الكفار سوء عَمَلهم ، أي : جَعَلْنَاهم وشَأنهم ، وأمْهَلْنَا حتى حَسُن عِندهم سُوءُ عَمَلِهِم .
الثالث : أمْهَلنا الشَّيطان حتى زيَّن لَهُم .
الرابع : زيَّناه في زَعْمِهِم ، وهذه وجوهٌ ضَعِيفَة؛ لأن الدليل العَقْلي [ القَاطِع ] دل على صِحَّةِ ما أشْعَر به ظَاهِر النَّصِّ؛ لأنَّا بينَّا أن صدُور الفَعْل عن العَبْد ، يتوقُّفُ على حُصُول الدَّاعي ، وأن تِلْك الدَّاعية لا بدَّ وأن تكُون بِتَخْلِيق اللَّه - تعالى - ، ولا مَعْنى لِتِلْك الدَّاعية إلا عَمَله واعتِقَاده ، أو ظَنّه باشْتِمَال ذَلِك الفِعْلِ على نَفْع زَائِد ، ومَصْلَحة راجِحَة ، وإذَا كانت تلك الدَّاعية حَصَلتْ بفِعْل اللَّه - تعالى - ، امتنع أن يَصْدُر عن العَبْد فِعْلٌ ، ولا قولٌ ، و حَرَكَةٌ ، إلاَّ إذا زَيَّن اللَّه -تعالى - ذلك الفِعْل في قَلْبِه ، وضميره ، واعتِقَاده ، وأيضاً ، أن الإنْسَان لا يخْتَاره لاعْتِقَاد كَوْنه إيماناً ، وعلماً ، وصِدقاً ، وحقّاً ، فلولا سَابقة الجَهْل الأوَّل ، لما اخْتار هذا الجَهْل الثاني : ثُمَّ إنه لما اخْتار ذلك الجَهْل السَّابع ، فإن كان اخْتِيَار ذلك لسابق آخر ، لَزِم أن يَسْتَمِرَّ ذلك إلى ما لا نهاية له من الجهالات ، وذلك مُحال؛ فوجَبَ انتهاء تلك الجَهَالات إلى جَهْل أوَّل يَخْلُقه الله - تعالى - فيه ابْتِدَاء ، وهو بِسَببِ ذلك الجَهْل ظنَّ في الكُفْر كَوْنه إيماناً ، وحقاً وعلماً؛ فثبت إنه يَسْتَحِيل من الكافر اخْتِيَار الكُفْر والجَهْل ، إلاَّ إذا زيَّن اللَّه- تعالى - ذلك الجَهْل في قَلْبِه؛ فثبت بِهَذَيْن البُرْهَانَيْن القَاطِعَينْ ، أن الَّذي يدلُّ عليه ظَاهِر هذه الآية؛ هو الحقُّ الذي لا محيد عنه ، قبطلت تأويلاتهم بأسْرها؛ لأنَّ المصير إلى التَّأويل إنَّما يكون عند تَعَذُّر حمل الكلام على ظَاهِره ، وأمَّا لما قال الدَّليل على أنَّه يمكن العُدُول عن الظَّاهِر ، فسقطت هذه التَّكْلِيفات ، وأيضاً : فوقه : « كذلِك زَيَّنَّا لِكُلِّ أمَّةٍ عَمَلَهُم » بعد قوله : « فَيَسُبُّوا اللَّه عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ » .
مشعر بِأنَّ إقْدَامهم على ذَلِك المُنْكَر إنَّما كان بِتَزْيين اللَّه تعالى ، فأمَّا أنْ يُحْمَل ذلك على أنَّه -تبارك وتعالى - زيَّن الأعْمَال الصَّالحة في قُلُوب الأمَم ، فكان هذا كلام مُنْقطع عما قَبْلَه ، وأيضاً : فقوله : { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } : يتناول الأمم الكَافِرة والمُؤمِنَة ، فتَخْصيصُ هذا الكلام بالأمَّة المُؤمِنَة ، ترك لِظَاهر العُمُوم .

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

قوله تعالى : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } الآية الكريمة .
لما طَعَنُوا في النُّبُوة بِمُدَارسة العُلمَاء ، حتى عَرَف التَّوْراة والإنجيل ، ثم جعل السُّور والآياتِ بِهَذا الطَّريف ، وأجاب اللَّه - تعالى - عن هذه الشُّبْهَة ، ذكر في هذه الآية شُبْهَة لَهُم أخْرَى ، وهي أنَّ هذا القرآن العَظيم لَيْس من جِنْس المُعْجِزاتِ البَيِّنَة ، ولو أنَّك يا محمَّد جِئْتَنا بِمُعْجِزَة وبيِّنَة بَاهِرة ، لآمَنَّا بك وحلفوا على ذلك ، وبالغُوا على ذلك تَأكيد الحَلْف .
قال الواحدي : إنَّما سُمِّي اليمين بالقَسم؛ لأن اليَمين مَوْضُوعة لِتَأكيد الخَبَر الَّذِي يُخْبرُ به الإنْسَان : إمَّا مُثْبِتاً للشَّيء ، وإمَّا نافياً ، ولما كان الخبر يَدْخله الصِّدْق والكذِب ، احَتَاج المُخبر إلى طريق به يُتَوسَّل إلى تَرْجِيح جَانِب الصِّدْق على جَانِب الكَذب ، وذلك هو الحَلْف ، ولما كانت الحَاجَةُ إلى ذَكْر الحَلف ، إنَّما تَحْصُل بالقَسَم ، وبنُوا تِلْك الصِّيغة على « أفْعَل » وقالُوا : أقسم فلانٌ يقسم إقساماً ، وأرَادُوا : أنه أكَّد القَسَم الذي اخَتَاره ، وأحَال الصِّدْق إلى القَسَم الذي اختارَه بواسِطَة الحَلْفِ واليَمِين .
قوله : « جَهْد أيْمَانِهِم » تقدم الكلام عَلَيه في « المائدة » .
وقرا طَلْحَة بن مُصَرِّف : « ليُؤمَنَنْ » مَبْنياً للمفعول مؤكّداً بالنون الخفيفة ، ومَعْنَى « جهد أيمانهم » : قال الكَلْبِيُّ ومُقَاتِل : إذا حلف الرَّجُل باللَّه جَهْد يَمِينه ، وقال الزَّجَّاج : بالَغُوا في الإيْمَان .
فصل في سبب النزول
قال مُحَمَّد بن كَعْب القُرظي : « قالت قُرَيش : يا مُحَمَّد إنَّك تُخْبِرنا أنَّ مُوسَى - عليه الصَّلاة والسلام- كانت معه عَصاً يَضْرِ ب بها الحجر ، فَيَنْفَجِر منه الماءُ اثْنَتي عَشْرَة عَيْناً ، وتُخْبِرُنا : أنَّ عيسَى كان يُحْيِي الموْتَى ، وأن صَالِحاً أخَرْج النَّاقَة من الجَبَل؛ فأتِنَأ أنْتَ أيْضاً بآيةٍ ، لِنُصَدِّقَك . فقال - عليه الصلاة والسلام- : ما الذي تُحِبُّون؟ قالوا : تَجْعل لنا الصَّفَا ذَهَباً ، أو ابْعث لنا بَعْض مَوتَانا حتى نَسْأله عنك؛ أحقُّ ما تَقُول ، أمْ بَاطِلٌ ، أو أرنا الملائكة يَشْهَدُون ذَلِك ، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : فإن فَعَلْت بَعْضَ ما تَقُولُون ، أتصدِّقُوننِي؟
قالوا : نَعَمْ واللَّه ، لأن فعلْت ، لنتَّبِعَنَّكَ ، فقام - عليه الصلاة والسلام - يدعو فَجَاءَهُ جِبْريل - عليه الصلاة والسلام- وقال : إن شئْت ، كان ذَلِك ولَئِنْ كان ، فلم يصَدَّقوا عنده ، لنُعَذَّبَنهُمْ ، وإن شئت تركتهُم حتى يَتُوب تَائِبُهم ، فقال - عليه الصلاة والسلام- بل حتَّى يَتُوب تَائِبُهم ، » فأنْزَل الله - تعالى - الآية الكريمة .
وقيل : لما نزل قوله - تعالى- : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] ، أقْسَم المُشرِكُون باللَّه ، لئمن جَاءَتْهُم آية ، ليُؤمِنُنَّ بها ، فنزلت الآية الكريمة .
واخْتَلَفُوا في المُرَاد بالآية .
وقيل : هي الأشْيَاء المذْكُورة في قوله - تبارك وتعالى - : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً }

[ الإسراء : 90 ] .
وقيل : إن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُخْبِرُهم : بأنَّ عذاب الاسْتِئْصال كان يَنْزِل بالأمَمِ المَاضية الذين كذَّبُوا أنْبِيَاءَهُم ، فالمُشْرِكون طَلَبُوا مِثْلَها .
قوله : « إنَّما الآيَاتُ عِنْد اللَّه » ذكروا في لَفْظِةِ « عِنْد » وجوهاً :
فقيل : معناه : أنه - تبارك وتعالى - هو المُخْتَصُّ بالقُدْرَة على أمْثَال هذه الآيات دون غَيْره؛ أن المُعجِزَات الدَّالَّة على النُبُّوَّات ، شرطها أن لا يَقْدِر على تَحْصيها أحَد إلى الله - تعالى- .
وقيل : المُراد بالعِنديَّة : أن العِلْم بأن إيجاد هذه المُعْجِزَات ، هل يَقتضي إقْدَام هؤلاء الكُفَّار على الإيمان أم لا؟ ليْس إلا عِنْد اللَّه ، كقوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] .
وقيل : المراد : أنَّها وإن كانت مَعْدومة في الحالِ ، إلا أنَّه - تعالى - متى شَاءَ ، أوْجَدَها ، فَهِي جَارِيَةٌ مُجْرى الأشْيَاء الموضُوعة عِنْد اللَّه ، يُظْهِرهَا متى شاء ، وليْس لكُم أنْ تَتَحَكَّموا في طَلَبِها ، ولَفْظ « عند » على هذا؛ كما قي قوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } [ الحجر : 21 ] .
قوله : « وَمَا يُشْعِرُكُم » « ما » : استِفْهَامِيَّة مُبْتَدأ ، والجملة بَعْدَها خَبْرُهَا ، وفاعل « يُشْعِر » يعود عَلَيْها ، وهي تتعدى لاثْنَيْن .
الأوَّل : ضمير الخطاب .
والثاني : مَحْذُوف ، أي : وأيُّ شَيءْ يدرِيكُم إيمانُهم [ إذا جَاءَتْهُم الآيَات التي اقْترَحُوها .
قال أبو علي : « مَا » استِفْهَام ، وفَاعِل « يُشْعِرُكُم » ضمير « مَا » والمعنى : وما يُدْرِيكم إيمانهم؟ فحذف المَفْعُول ، وحذف المفعُول كَثِير ] .
والمعنى أي : بِتَقْدير أنْ تَجِيئَهم هَذِه الآيَات ، فهم لا يُؤمِنُون .
وقرأ العامَّة : انها بِفَتْح الهَمْزة ، وابن كثيرٍ وأبُو عَمْرو ، وأبُوبَكْر بخلاف عنه بِكَسْرِها .
فأما قرءاة الكَسْر : فَوَاضِحَة اسْتجودها النَّاس : الخَلِيل وغيْره ، لأن معناها : اسْتِنَاف إخْبَار بعدم إيمان من طُبع على قَلْبِه ، ولو جَاءَتْهُم كلُّ آيَة .
قال سيبويه : سَألْتُ الخَلِيل عن هذه القراءة عين : قِرَاءة الفَتْح فَقُلْت : ما مَنَع أن يكُون كقولك : ما يُدْرِيك أنّه لا يَفْعل؟ فقال : لا يَحْسُن ذلك في هذا المَوْضِع ، إنَّما قال : « ومَا يُشْعِرُكم » ثم ابْتِدأ؛ فأوْجَب ، فقال : « إنَّها غذا جَاءَت ، لا يُؤمِنُون » لو فتحن فقال : « وما يُشْعِرُكُم أنَّها إذا جَاءَتْ لا يُؤمِنُون » ، لكان عُذْراً لهم ، وقد شرح النَّاس قَوْل الخَلِيل ، وأوْضَحُوه ، فقال الواحدي وغيره : لأنَّك لو فَتَحْت « أنّ » وجَعَلْتَها الَّتِي في نَحْو : بَلَغَنِي أنَّ زيداً مُنْطَلِق ، لكان عُذْراً لمنَ أخبر عَنْهُم أنَّهم لا يُؤمِنُون؛ لأنَّه إذا قال القَائِل : « إنَّ زَيْداً لا يُؤمِن » فقلت : وما يُدْرِيك أنَّه لا يُؤمِن؟ كان المَعْنَى : أنه يُؤمِن ، وإذا كان كذلك ، كان عُذْراً لمن نفي عنه الإيمان ، وليس مُرادُ الآية الكريمة ، إقامة عُذْرهم ، ووجود إيمانهم .
وقال الزَّمَخْشَري : « وقُرِئ » إنَّها « بالكَسْر؛ على أنَّ الكلام قد تمَّ قبْله بِمَعْنَى : » مَا يُشْعِرُكُم ما يَكُون مِنْهُم « ثمَّ أخبَرَهم بِعِلْمه فِيهِم ، فقال : إنَّها إذَا جَاءَت ، لا يُؤمِنُون » .

وأما قِرَاءة الفَتْح : فقد وَجَّهَها النَّاسُ على سِتَّة أوْجُه :
أظهرها : أنَّها بمعنى : لَعَلَّ ، حكى الخَلِيل « أتيت السُّوق أنَّك تَشْتَرِي لَنَا مِنْهُ شَيْئاً »
أي : « لَعَلَّك » فهذا من كلام العرب - كما حَكَاه الخَلِيل - شَاهد على كَوْن « أنَّ » بِمَعْنَى لَعَلَّ وانْشَد أبو جَعْفَر النَّحَّاس : [ الطويل ]
2280- أرينِي جَوَاداً مَاتَ هُزْلاً لأنَّنِي ... أرَى ما تَرَيْنَ أوْ بَخِيلاً مُخَلَّدَا
وقال امرؤ القيس - أنشده الزَّمَخْشَريُّ - [ الكامل ]
2281- عُوجَا على الطَّلَلِ المُحِيل لأنَّنَاِ ... بنْكِي الدِّيارَ كَمَا بَكَى ابنُ حِذَامِ
وقال جري : [ الوافر ]
2282- هَل أنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا ... نَرَى العَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الخِيَامِ
وقال عَدِيُّ بنُ زَيْدٍ : [ الطويل ]
2283- أعَاذِل مَا يُدْريكَ أنَّ مَنْيَّتِي ... إلى سَاعَةٍ في اليَوْمِ أوْ فِي ضُحَى الغَدِ
وقال آخر : [ الزجر ]
2284- قُلْتُ لِشَيْبَانَ ادْنُ مِنْ لِقَائِهْ ... أنَّا نُغَذِّي النَّاسَ مِنْ شِوَائِهْ
ف « أنَّ » في هذه المواضِع كلِّها بِمَعْنَى : « لعلَّ » قالوا : ويدلُّ على ذَلِك أنَّها في مُصْحَف أبَيِّ وقراءته : « وما أدْرَاكُم لعلَّها إذا جَاءَتْ لا يُؤمِنُون » ونُقِل عنه : « وما يُشْعِرُكم لعلِّها إذَا جَاءَت لا يُؤمِنُون » ذكر أبُو عُبَيْد وغيره ، ورَجَّحُوا ذلك أيْضاً بأنَّ « لَعَلَّ » قد كَثُر ورودُها في مِثْل هذا التَّركِيب؛ كقوله - تعالى - : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } [ الشورى : 17 ] ، { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى } [ عبس : 3 ] ، وممَّن جعل « أنَّ » بِمَعْنَى :
« لعل » أيْضاً ، يَحْيَى بن زِيَاد الفرّاء .
ورجَّح الزَّجَّاج فقال : « زعم سِيبوَيْه عن الخَلِيل ، أن مَعْنَأها : » لَعَلَّهَا « قال : » وهَذَا الوَجْه أقْوى في العَرَبِيَّة وأجود « ونَسَب القراءة لأهْل المدين’ن وكذا أبُو جَعْفَر .
قال شهاب الدِّين : وقراءة الكُوفيِّين ، والشَّامِيِّين أيضاً ، إلاَّ أن أبَا عَلِيَّ الفارسيَّ ضعَّف هذا القَوْل الَّذِي استجوده النَّاسُ ، وقوَّوْهُ تَخْريجاً لهذه القِراءة ، فقال : » التَّوَقُّع الَّذِي تدلّ عليه « لَعَلَّ » لا يُنَاسب قراءة الكَسْر ، لأنها تدلُّ على حُكْمِه - تعالى - عليهم بأنَّهم لا يُؤمِنُون « ولكنَّه لمَّا مَنَعَ كونها بِمَعْنَى : » لعل « لم يَجْعَلءها مَعْمُولة ل » يُشْعِرُكُم « بل جَعَلها على حَذْف لام العِلَّة ، أي : لأنَّها ، والتَّقْدِير عنده : » قل إنَّما الآياتِ عِنْد اللَّهِ ، لأنَّها إذا جَاءَت لا يُؤمِنُون « . فهو لا يَأتِي بَهَا؛ لإصْرارهم على كُفْرِهم ، فيَكُون نَظِير : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } [ الإسراء : 59 ] ، أي بالآيات المُقْتَرحة ، وعلى هذا فيَكُون قوله : » وما يُشْعِرُكُم « اعتِرَاضاً بين العِلَّة والمَعْلُول .
الثاني : ان تكون » لاَ « مَزِيدة ، وهذا رَأي الفرَّاء وشيخه ، قال : ومثله : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] أي : » أنْ تَسْجُد « فيكون التَّقْدير : وما يُشْعِرُكُم أنَّها إذا جَاءَت يُؤمِنون ، والمعنى على هذا : أنَّها لو جَاءَت لم يُؤمِنُوا ، وإنما حمله على زِيَادَتِها ما تقدَّم من أنَّها لو تُقدَّر زَائِدة ، لكان ظَاهِرُ الكلام عُذْراً لكُفَّار ، وأنَّهم يُؤمِنون كا عرفت تَحْقيقه أولاً ، إلا أن الزَّجَّاج نسب ذلك إلى الغَلَط ، فقال : » والَّذِي ذكر أنَّ « لا » لَغْو ، غالط؛ لأن ما يَكُون لَغْواً ، لا يكون غَيْر لَغْوٍ ، ومن قَرَأ بالكَسْر ، فالإجْمَاع : على أنَّ « لا » غير لَغْو « فليس يَجُوز أن يكُون مَعْنَى لفظة : مرةً النَّفي ، ومرَّة الإيجاب في سِيَاق واحد .

وانصر الفارسيّ لقول الفرَّاء ، ونفي عنه الغَلَط ، فإنَّه قال : « يجوزُ أن تكون » لا « في تأويل زائِدةً ، وفي تَأويل غَيْر زَائدة؛ كقول الشَّاعر في ذلك : [ الطويل ]
2258- أبى جُودُهُ لا البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ نَعَمْ ... بِهِ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ
يُنشد بالوَجْهَيْنِ ، أي : بِنَصْب » البُخْل « وجرِّه ، فَمَنْ نَصَبَه ، كانت زائدة ، أي : » أبَى جُودُه البُخْلَ « ومَنْ خَفَضَ ، كانت غَيْر زَائِدة ، وأضَافَ » لاَ « إلى البُخْلِ » .
قال شهاب الدِّين : وعلى تَقْدير النَّصْب ، لا يَلْزَم زِيَادتها؛ لجوازِ أن تكُون « لا » مَفْعُولاً بِهَا ، و « البُخْل » بدل مِنْهَا ، أي « أبَى جُودُه لَفْظَ » لا « ولفظ » لا « هو بُخْل » . وقَدْ أوائل لك طَرف من هذا محقَّقاً عند قوله - تعالى - { وَلاَ الضآلين } [ الفاتحة : 7 ] [ في أوائل هذا الموضوع ] وسَيَمُرُّ بك مَوَاضِع مِنها؛ كقوله - تعالى - : { وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ الأنبياء : 95 ] .
قالوا : تَحْتَمل الزِّيَادة ، وعدمها وكذا { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] ، { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] .
الثالث : أن الفَتح على تَقْدِير لام العِلَّة ، والتَّقْدير : « إنما الآيات التي يَقْتَرِحُونها عِنْد اللَّه؛ لأنَّها إذا جَاءتَ لا يُؤمِنُون » ، و « ما يُشْعِرُكُم » اعتِرَاض كما تقدَّم تَحْقيق ذلك عن أبي عَلِيِّ ، فأغنى عن إعَادَتِهِ ، وصار المَعْنَى : « إنَّما الآيَات عند اللَّه ، أي : المُقْترحة لا يأتي بِهَا؛ لانْتِفَاء إيمانهم ، وإصْرارِهْم على كُفْرِهم » .
الرابع : أن في الكلام حَذْف مَعْطُوف على ما تقدَّم .
قال أبُو جَعْفَر في مَعَانيه : وقيل في الكلام حَذْف ، والمعنى : وما يُشْعِرُكم أنَّها إذا جاءت لا يُؤمِنُون أو يُؤمِنُون ، فحذفَ هذا لِعْلِم السَّامِعِ ، وقدَّرَه غَيره : « ما يُشْعِرُكُم بانْتِفَاء الإيمان ، أو وقُوعه » .
الخامس : أن « لا » غير مزيدة ، ولي في الكلام حَذْف ، بل المَعْنَى : « وما يُدريكم انتِفَاء إيمانهم » ويكون هَذَا جواباً لمن حُكِم عليْهم بالكُفر ويُئسِ من إيمانهِمِ .
وقال الزّمَخْشَرِي : « وما يُشْعِرُكم : وما يُدْرِيكثم أنها ، أي : أن الآيات التي يَقترِحُونها » « إذا جاءت لا يُؤمِنُون بِهَا » يَعْنِي : « أنَا أعلم أنَّها إذا جَاءَت لا يُؤمِنُون بِهَا ، وأنتم لا تَدْرُون بِذَلك » .

وذلك أنّ المُؤمنين كانُوا حَرِيصين على إيمانهم ، وطامعين فيه إذا جَاءَت تلك الآيَة ، ويتمنَّوءن مَجيئها ، فقال- عز وجلَّ- : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } على مَعْنَى : أنكم لا تَدءرُوْنَ ما سَبَقَ عِلْمي بهم ، أنهم لا يُؤمِنُون؛ ألا ترى إلى قوله : { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] انتهى .
قال شهاب الدِّين : بَسْطُ قوله إنَّهم كَانُوا يَطْمعُون في إيمانهم ، ما جَاءَ في التَّفْسِير : أن المُشْركين قَالُوا لِرسُول الله صلى الله عليه وسلم : أنْزِلَ عَلَيْنَا الآية الَّتي قال اللَّه فيها : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] ونحن واللَّه نُؤمِن ، فأنزل الله تعالى : « وما يُشْعِرُكُم » إلى آخرها وهذا الوَجْه : هو اخْتِيَار أبي حيَّان ، فإنَّه قال : « ولا يَحْتَاج الكلام إلى زِيَادة » لاَ « ولا إلى هذا الإضْمَار ، يعني حَذْفَ المَعْطُوف ، ولا إلى » أنَّ « بِمَعْنَى : لعَّل ، وهذا كلُّه خُرودٌ عن الظَّاهِر لغير ضَرُورة ، بل حَمْلُه على الظَّاهِر أوْلى ، وهو وَاضِحٌ سائغٌ ، أي : وما يُشْعِرُكم ويُدْرِيكم بِمَعْرِفة انْتِفَاء إيمانهم ، لا سَبِيل لَكُم إلى الشُّعُور بِهَا » .
السادس : أن « مَا » حَرْف نَفْي ، يَعْني : أنه نَفى شُعُورهم بِذلكِ ، وعلى هذا فَيُطْلَبُ ل « يُشْعركُمْ » فاعل .
فقيل : هو ضَمِير الله - تعالى - أضْمر للدَّلالة عَلَيْه ، وفيه تكلُّف بعيد ، أي : « وما يُشْعِركُم اللَّه إذا جاءت الآيات المُقْتَرحَة لا يُؤمِنُون » . وقد تقدَّم في البقرة كيْفِيَّة قِرَاءة أبي عَمْرو ل « يُشْعركم » و { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] ، ونحوهما عند قوله : { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] ، وحَاصِلُها ثلاثة أوْجُه : الضَّمُّ الخَالِص ، والاختلاس ، والسُّكُون المحض .
وقرأ الجُمْهُور : « لا يُؤمنُون » بياء الغَيْبَة ، وابن عامر ، وحمزة بتاء الخِطَاب .
وقرأ أيضاً في الجاثية [ آية : 6 ] { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } بالخِطَاب ، واقفهُمَا عليها الكَسَائِي ، وأبُو بكر عن عَاصِم ، و الباقون : باليَاء للغَيْبَة ، فتحصَّل من ذلك أنَّ ابْن عامرٍ ، وحَمْزة يقرآن بالخِطَاب في المَوْضِعَيْن ، وأن نَافِعاًن وابن كثير ، وأبا عَمْرو ، وحَفْصاً عن عَاصِم ، بالغيبة في الموْضِعَيْن ، وأنّ الكَسِائيّ ، وأبا بكر عن عن عَاصِم : بالغَيْبَة هُنَا ، بالخِطَاب في الجَاثِية ، فقد وافقا أحد الفريقين في إحْدى السُّورَتَيْن والآخر في أخرى .
فأما قِرَاءة الخِطَاب هُناَ : فيكون الظَّاهر من الخِطاب في قوله : « ومَا يُشْعِرُكُم » أنه للكُفَّار ، ويتَّضح مَعْنَى هذه القِرَاءة على زيادة « لا » أي : ومَا يُشْعِرُكم أنكم تُؤمِنُون ، إذا جَاءَت الآيَات الَّتِي طَلَبْتُمُوها كما أقْسَمْتُم عَلَيْه ، ويتَّضحُ أيضاً على كون « أنَّ » بمعنى : لَعَلَّ ، مع كون « لا » نَافِية ، وعلى كَوْنِها عِلَّة بِتَقْدير : حذف اللاَّم ، أي : « إنما الآيات عِنْدالله فلا يَأتِيكم بِهَا؛ لأنَّها إذا جَاءَت لا يُؤمِنُون بها » ويتَّضِحُ أيضاً على كَوْن المَعْطُوف مَحْذُوفاً ، أي : « وما يُدْرِيكم بعدم إيمَانِكم ، إذا جاءَت الآيات أو وُقُوعه؛ لأن مَآل أمركم مُغَيِّبٌ عَنْكم ، فكَيْفَ تُقْسِمُون على الإيمان عِنْد مَجِيئ الآيات؟ » وإنَّما يُشْكَل؛ إذا جَعَلْنا « أنَّ » معمولة ل « يُشْعِرُكم » وجَعَلْنَا « لا » : نافية غير زَائِدَة؛ إا يكون المَعْنَى : « وما يُدْرِيكم أيُّهَا المُشْرِكون بانْتِفَاء إيمانكم ، إذا جَاءَتْكم » ، ويَزُول هذا الإشْكَال بأنَّ المَعْنَى : « وما يُدْريكم أيُّها المُشْرِكون بانْتِفَاء إيمانِكم ، وإذا جَاءَتْكم » ، ويَزُول هذا الإشْكَال بأنَّ المَعْنى : ايُّ شَيءْ يُدْرِيكم بِعَدم إيمانِكُم ، إذا جَاءَتْكم الآيَات الَّتِي اقْتَرَحْتُمُوها؟ يعني : لا يمرُّ هذا بِخَواطِرِكم ، بل أنْتُم جازِمُونَ بالإيمان عند مجيئها ، لا يَصْدُّكم عَنْه صادٌّ ، وأ ، ا أعْلَمُ أنكم لا تُؤمِنُون وَقْت مَجِيئها؛ لأنكم مَطْبُوع على قُلُوبكُم .

وأمَّا على قِراءة الغَيْبَة ، فتكون الهَمْزَة معها مكْسُورة؛ وهي قراءة ابْن كَثِير ، وأبِي عَمْرو ، وأبِي بَكْر عن عَاصِم ، ومَقْتوحة؛ وهي قرءاة نافِع ، والكسَائي ، وحَفْص عن عَاصِم .
فعلى قِرَاءة ابْن كَثِير ومَنْ مَعَه يكون الخِطَاب في : « وما يُشْعِرُكُم » حائزاً فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه خِطَاب للمُؤمِنين ، أي : « وما يُشْعِركُم أيُّها المُؤمِنُون إيمانَهُم » ثم اسْتَأنَف إخْباراً عنهم بأنَّهم لا يُؤمِنُون ، فلا تَطْمَعُوا في إيمانهم .
الثاني : أنه للكُفَّار ، أي : « وما يُشْعِرُكم أيُّها المُشْرِكون مَا يَكون مِنْكم » ثم اسْتَأنف إخْبَاراً عَنْهم بِعَدَم الإيمَان؛ لعلمه السَّابق فيهم وعلى هَذَا فِفِي الكلام التِفَاتٌ من خِطَاب إلى غَيْبَة .
وعلى قرءاة نَافِع يكون الخِطَاب للكُفَّار ، وتكون « أنَّ » بِمَعْنَى : « لعلَّ » كذا قاله أبو شَامَة ، وغيره .
وقال أبُو حيَّان في هَذهِ القراءة : « الظَّاهر أن الخِطَاب للمُؤمنين ، والمَعْنَى : » وما يُدْرِيكم أيُّهَا المُؤمِنُون ، أنَّ الآية الَّتِي تَفْتَرِحُونها إذا جاءت لا يُؤمِنَون « يعني : أنا أعْلَم أنَّها إذَا جَاءَت لا يُؤمِنُون بِهَا » ثم سَاق كلام الزَّمَخْشَري بِعَيْنِه الَّذي قدَّمت ذكره عَنْه في الوَجْه الخَامِس قال : « ويبْعدُ جداً أن يكون الخِطَاب في » وَمَأ يُشْعِرُكُم للكُفَّار « .
قال شهاب الدِّين : إنَّما اسْتَبْعَدَه؛ لأنَّه لم ير في » أنَّ « هَذِه أنَّها بِمَعْنَى : » لَعَل « كما حَكيْته عَنه .
وقد جَعَل أبُو حيَّان في مَحْمُوع » أنَّها إذا جاءت لا يؤمِنُون « بالنِّسْبَة إلى كَسْر الهمزة وفَتْحِها ، والخِطَاب والغَيْبة أرْبع قِرَاءَات ، قال : وقرأ ابْن كثير ، وأبو عَمْرو ، والعُلَيْمِي ، والأعْشَى عن أبي بكر .
وقال ابن عَطِيَّة : ابن كَثير ، وأبو عمرو ، وعَاصِم في رواية داود الأودي ] : إنَّها بكَسْر الهَمْزة ، وقرأ بَاقِي السَّبْعة : بفتحها ، وقرأ ابْن عَامِر وحَمْزة : » لا تُؤمِنُون « بتاء الخِطَاب ، والبَاقُون بياء الغَيْبَة؛ فترتب أرْبَع قِرَاءات : الأولَى : كَسْرُ الهَمْزَة واليَاءِ ، ويه قِرَاءة ابْن كَثِير ، وأبي عَمْرو ، وأبِي بَكْر بخلاف عَنْه في كَسْر الهَمْزَة ثم قال : القِرَاءة الثَّانية : كَسْر الهَمْزَة والتَّاء ويه رِوَاية العُلَمِي والأعْشَى عن أبي بَكْرٍ عن عَاصِم ، والمُنَاسب : أن يكون الخِطَاب للكُفَّار في هذه القِرَاءة ، وكأنَّه قيل : » وما يُدْرِيكُم أيُّهَا الكُفَّار وما يَكُون مِنْكُم « ؟ ثم أخْبرَهُم على جِهَة الجَزَم ، أنَّهم لا يُؤمِنُون على تقدير مَجِيئها ، ويَبْعُد جداً أن يكون الخِطَاب في : » وما يُشْعِرُكُم « للمُؤمنين ، وفي » تُؤمِنُون « لكُفَّار ، ثم ذكر القِرَاءة الثُّالِثة ، والرَّابعة ، ووجَّههُا بنحو ما نقلته عن النَّاس ، وفي إثباته القراءة الثَّانية نظر لا يَخْفَى؛ وذلك أنَّه لما حَكَى قِرَاءة الخِطَاب في » تُؤمِنُون « لم يَحْكِها إلا عن حَمْزَة ، وابن عَامِر فقط ، ولم يَدْخل مَعَهُمَا أبُو بكر لا من طريق العُلَيْمِي ، والأعْشى ولا من طَريق غَيْرهما ، والفَرْض : أن حَمْزة وابنَ عَامِر يَفْتَحان هَمْزة » أنَّها « وأبُوا بكر يَكْسِرُها وَيفْتَحُها ولِكِنَّه لا يَقْرأ : » يُؤمِنُون « إلاَّ بِيَاء الغَيْبَة ، فمن أيْن تجيئ لَنا قِرَاءةٌ بكَسْر الهَمْزة ، والخطاب؟ وإنما أتَيْتُ بكلامه برُمَّتِه؛ ليُعْرَف المأخذ عليه ثم إني جوَّزْتُ أنْ تكون هذه رِيوايةً رَوَاها ، فكشفتُ كِتَابَه في القِرَاءاتِ ، وكان قد أفْردَ فيه فَصْلاً انْفَرد به العُلَيْمِي في رِوَايته ، فلم يَذْكُر أنه قرأ : » تُؤمنُون « بالخِطاب ألبَتَّةَ ، ثم كَشَفْتُ كتبا في القِرَاءات عَدِيدة ، فلم أرهم ذَكَرُوا ذلك ، فَعَرفْت أنَّه لما رأيى لِلْهَمْزة حالَتَيْنِ ، ولحرف إحْدَاها مُهْمَلة ، وقوله : » لا يؤمنون « متعلِّقه مَحْذُوف؛ للعِلْم به ، أي : » لايُؤمِنُون بها « .

قوله : « ونُقَلِّبُ » في هذه الجُمْلَة وجهان :
أحدهما : - ولم يقل الزَّمَخْشَري غيره- أنَّها وما عُطِف علَيْها من قوله : « ويذَرُهُم » عطف على « يُؤمِنُون » داخل في حُكْم « ومَا يُشْعِرُكُم » ، بمعنى : « وما يُشْعِرُكُم أنَّهم لا يُؤمِنُون » وما يشعركم أنَّا نُقِلِّب أفْئِدَتَهُم وأبصارهم « ، » وما يُشْعِرُكم أنَّا نَذَرُهم « وهذا يُسَاعده ما جَاء في التَّفْسير عن ابْنِ عَبَّاسٍ ، ومُجَاهد ، وبان زَيْد .
والثاني : أنَّهَا اسِتئْنَاف إخبارن وجعله أبُو حيَّان الظَّاهر ، والظَّاهر ، ما تقدَّم .
» والأفْئِدة « : جمع فُؤاد ، وهو القَلْبُ ، ويلطق على العَقْل .
وقال الرَّاغب : الفُؤاد كالقَلْبِ ، لكن يُقالَ له : فؤاد إذا اعتبر به مَعْنَى : » التُّفَؤد « أي : التوقُّد » يقالك « فأدْتُ اللَّحم » : شَوَيْتُه « ومنه » لحم فَئِيد « أي : » مَشْويُّ « وظاهر هذا : أنَّ الفُؤاد غير القَلْبِ ، ويقال له : » فؤاد « بالواو الصَّريحة ، وهي بَدَل من الهَمْزَة؛ لأنَّه تَخْفِيف قِيَاسيّ ، وبه يَقْرأ وَرْش فيه وفي نَظَائِره وصلاً وَوَقْفاً ، وحَمْزة وقفاً ويُجْمع على : أفْئِدَة ، وهو جَمْع مُنْقَاس ، نحو : » غُراب « ، و » أغْرِبة « ويجُوز » أفْيِدَة « بِيَاء بعد الهَمْزة ، وقرأ بِهَا هِشَام في سُورة إبْراهيم ، وسَيَأتي إن شاء الله تعالى - .

فصل في المراد من الآية
قال ابن عبَّاس : يَعْني : ويحُول بينهم وبين الإيمانن فول جئناهم بالآيات التي سَألوا ما آمَنُوا بِهَا كما لَمْ يُؤمنُوا به أوَّل مَرَّة [ أي : كما لو يُؤمِنُوا بما قَبْلَها من الآيات من انْشِقَاق القمر وغيره .
وقيل : كما لَو يُؤمِنُوا به أوَّل مرة ] ؛ يعني : مُعْجِزات مُوسَى وغيره من الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام-؛ كقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ } [ القصص : 48 ] .
وقال عَليُّ بن أبي طَلْحَة عن ابن عبَّاس : المرَّة الأولى : دار الدنيا لو رُدُّوا من الآخِرة إلى الدُّنيا نُقَلِّب أفْئدتَهُم وأبْصَارهم عن الإيمان كَمَا لَمْ يُؤمِنوا في الدُّنْيَا قبل مَمَاتهم؛ كقوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] .
فصل في بيان معنى التقليب
التَّقْلِيب ، والقَلْب وَاحِد : وهو تَحْويل الشَّيء عن وَجْهِه ، وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الكُفْر والإيمان بِقَضَاء اللَّه ، وقدره ، ومَعْنَى تَقْلِيب الأفْئِدَة والأبْصَار : هو أنه إذا جَاءَتْهُم الآيات القَاهِرة الَّتِي أقْتَرحُوها وعرفوا كَيْفيَّة دلالتها لعى صِدْق الرَّسُول صلى الله عليه وسلم [ إلاَّ أنه تعالى ] إذا قُلُوبَهُم وأبْصَارهم على ذلك الوجه ، بَقوْا على الكُفْر ولم يَنْتَفِعُوا بِتِلْك الآيات .
قال الجُبَّائي : مَعْناه : ونُقَلِّب أفْئِدَتَهم ووأبْصَارهم في جَهَنَّم ، على لَهِيب النَّار وجَمْرِهاح لنُعَذِّبَهُم كما لم يُؤمِنوا به أوّلأ مرّة دَارِ الدُّنْيَا .
وقال الكَعْبِي : المُرَاد ب « ونُقَلِّبُ أفْئِدَتهم وأبْصَارَهُم » : نفعل بهم كا نَفْعل بالمُؤمنين من الفَوَائِد والألْطَاف ، من حَيْث أخرجوا أنْفَسَهم عن هَذَا الحدِّ؛ بسبب كُفْرهم .
وقال القَاضِي : المراد : ونُقَلِّب أفْئِدَتَهُم وأبْصَارهم في الآيات الَّتي ظَهَرت ، فلا تَجدَهُم يُؤمِنون بها آخراً كمال لم يُؤمِنُوا بِهَا أوّلاً وهذه وُجُوه ضَعِيفة .
أما قَول الجُبَّائيّ؛ فمدفوع؛ لأنه - تعالى - قال : « ونُقَلِّب أفْئِدَتَهُمو أبْصَارهم » ثم عَطَفْ عليه ، وقال : « ونَذَرُهُم فِي طُغْيَانِهِم يَعْمَهُون » فقوله : « ونَذرُهُم » لي مما يَحْصُل في الآخِرة ، فكان سُوءاً للنَّظءم في كلام اللَّه- تعالى - حيث قدَّم المُؤخَّر ، وأخَّر المُقدم من غير فَائِدة .
وأما قَوْل الكَعْبِي؛ فَضَعِيف؛ لأنه إنما استحق الحِرْمان والخذْلان على زَعْمه؛ بسبب أنَّهم قَلَّبُوا أفئدة أنفسهم فكيف يحسبن إضافه إلى الله تعالى في قوله : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ } أي : نقلب القَلْب باقٍ على حالةِ واحِدَة إلاَّ أنَّه - تعالى - أدخل التَّقْلِيب والتَّبدِيل في الدَّلائل .
فصل
إنما قدَّم اللَّه - تعالى - ذكر تَقْليب الأفْئِدة على تَقْليب الأبْصَار؛ لأن مَوْضع الدَّوَاعِي والصَّوَارِف هُوَ القَلْب [ فإذا حَصَلَت الدَّاعية في القَلْبَُ انْصَرَفَ البَصَر إليه شَاءَ أمْ أبَى ، وإذا حَصَلَت الصَّوارف في القَلْب ] انصرف البَصَر عَنْه هو ، وإن كَانَ يُبْصِره بحسب الظاهر إلاَّ أنه لا يَصِير ذلك الأبْصَار سَبَباً للُوقُوف على الفَوَائِد المَطْلُوبة وهو مَعْنَى قوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً }

[ الأنعام : 25 ] ، فملا كان المَعْدن هو القَلْب ، وأما السَّمع والبَصَر؛ فهما آلتان لِلْقَلْب كانا لا مَحَالة تَابِعَيْن لأحوال القَلْب ، فلهذا السَّبَبَ وقع الابتداء بذِكر تَقَلُّب القُلُوب ههنا ، ثم أتْبَعَهُ بذرك السَّمْع .
قوله : « كَمَا لَمْ يُؤمِنُوا بِهِ » الكافُ في محلِّ نَصبٍ ، نَعْتاً لِمَصْدر مَحْذُوف و « ما » مَصْدريَّة والتقدير كما لَمْ يُؤمِنُوا به أوّلأ مرة [ وقيل : الكاف هُنَا للتَعْلِيل ، أي : « نقلب أفْئِدَتَهم وأبْصَارهم؛ لعدم إيمانِهِم أوّل مرة » .
وقيل : في الكلام حَذْفٌ تقديره : « فلا يؤمنون به ثاني مَرَّة كَمَا لَم يُؤمِنوا به أوّل مرَّة ]
وقال بَعْضُ المفسِّرين : الكافُ هُنَا مَعْنَأها : المُجَازَاة ، أي : » لمَّا « لم يُؤمِنُوا به أوّل مرَّة ، نُجازيهم بأن نُقَلِّب أفْئِدتَهُم عن الهُدَى ، ونَطْبَع على قُلُوبهم » ، فكأنَّه قيل : ونحن نَقَلِّب أفْئدتَهَم؛ جَزَاءً لما لم يُؤمِنُوا به أوّل مرَّة ، قاله ابن عطية قال أبو حيان وهُو مَعْنَى التَّعْلِيل الذي كرناه ، إلا أن تسْمِيتَه ذلك بالمُجازاة غَريبَة لا تُعْهدُ في كلام النَّحْويِّين .
قال شهاب الدِّين : قد سُبِقَ أبن عطيَّة إلى هذه العبارة .
قال الواحدي : وقال بَعْضُهم : معنى الكَافِ في « كَمَا لَمْ يُؤمِنوا » : معنى الجَزَاء ، ومَعْنَى الآية : ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهُم وأبْصَارهم ، عُقُوبة لَهُم على تَركْ الإيمان في المرَّة الأولَى ، والهَاء في « به » تعود على الله - تعالى- ، أو على رسُوله ، أو على القُرآن ، أو على القَلْب المَدْلُول عليه بالفِعْل ، وهو أبْعَدُهَا ، و « أوّل مَرَّة » : نَصب على ظَرْف الزَّمان ، وقد تقدم تَحْقِيقُه .
وقرأ إبْرَاهيم النَّخْعي : « ويُقَلِّب- ويَذَرُهم- » بالياء ، والفَاعِل ضمير البَاري -تعالى- .
وقرأ الأعْمَش : « تُقَلَّبُ أفْئِدتهم وأبْصَارهم » على البِنَاء للمَفْعُول ، ورُفِع ما بعده على قِيَام مقام الفاعل ، كذا رَوَاهَا الزَّمَخْشَري عنه ، والمشْهُور بهذه القِرَاءة ، إنَّما هو النَّخْعِيّ أيضا ، ورُوِي عَنْه : « ويَذَرْهُم » بياء الغيبة كما تقدَّم وسُكُون الرَّاء ، وخرَّج أبُو البَقَاء هذا التَّسْكِين على وجْهَين :
أحدهما : التَّسْكين لِتَوَالِي الحَرَكَات .
والثاني : أنه مَجْزُوم عَطْفاً على « يُؤمِنُوا » والمَعْنَى : جَزَاءً على كُفْرهم ، وأنَّه لم يَذَرْهُم في طُغْيَانهم ، بل بيَّن لهم ، وهذا الثُّانِي ليس بَظَاهر ، و « يَعْمَهُون » في محلِّ حال ، أو مَفْعُوزل ثانٍ ، لأن التَّرْك بِمَعْنَى : التَّصْيِير .
فصل في معنى الآية
قال عَطَاء : المَعْنَى : أخْذُلُهُم ، وأدْعُم في ضَلالِتِهم يتمادون .
قال الجُبَّائي : المَعْنَى : ونذرهم ، أيك لا نَحُول بَيْنَهم وبين اخْتِيَارِهم من ذَلِك لكن نمنعم من ذلك بِمُعَاجَلة الهلاك وغيره ، لكنَّا نُمْهِلهم إنْ أقاَموا على طُغْيَانهم ، فذلك مِن قِبَلهم وهُو يُوجِب تأكيد الحُجَّة عَلَيْهم .
وقال أهل السُّنَّة : نقلِّب أفْئِدتَهُم من الحقِّ إلى البَاطِل ، ونتركهم في ذلك الطُّغْيَان ، وفي ذَلِكَ الضَّلال والعَمَه .
ويُقال للجُبَّائي : إنَّك تقول : إن إله العالم ما أرَاد بعباده إلاَّ الخَيْر والرَّحمة ، فمل تُرك هذا المِسْكِين حتى عَمِه في طُغْيَانه؟ ولم لا يخلصه عَنْه على سَبِيل الإلْجَاء والقَهْر؟ أقْصَى مَا فِي البابِ؛ أ ، ه إن فَعل به ذلِك لَمْ يكن مُسْتَحِقاً إلى الثَّواب ، فيقُوتُه الاسْتِحْقَاق فقط ، وقد يَسْلَم من العِقَاب ، أمَّا إذا تَرَكَهُ في ذلك العَمَه مع عِلْمه بأنه يَمُوت عَلَيْه ، فإنه لا يَحْصُل له اسْتِحْقاق الثَّواب ، ويحصل له العِقَاب العَظيم الدَّائم ، فالمفْسَدة الحَاصلة عن خَلْق الإيمان فيه على سَبيل الإلْجَاء ، مَفْسَدة وَاحِدَة؛ وهِيَ قوات اسْتِحْقَاق الثَّواب مع حُصُول العِقَاب الشَّديد ، والرَّحِيم المُحْسِن النَّاظر إلى عباده ، لا بُدَّ وأن يُرَجَّح الجَانِب الَّذِي هو أكْثَر إصْلاحاً ، وأقَل فَسَاداً ، فَعَلِمْنَا أنَّ إبْقَاء ذكل الكَافِر في ذلك العَمَه والطُّغْيَان ، يَقْدح في أنَّه لا يريد به إلاَّ الخير والإحسان .

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)

اعلم : أنه - تبارك وتعالى - بيَّتن في هذه الآية الكَرِيمة تَفْصِيل ما ذَكَره مُجْمَلاً في قوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 109 ] بيَّن أنَّه- تعالى - لو أعْطَاهُم ما طَلَبُوه من إنْزَال المَلائِكة حتَّى رأوهم عَيَاناً ، وحياء المَوْتَى حَتَّى كلَّمُوهُم ، وشَهِدُوا لك بالنُّبُوَّة كَمَأ سَألُوا ، بل زَاد في ذَلِك ما لا يَبْلُغُه اقْتِرَحُهم بأن يحشر عَلَيْهم كُلَّ شَيءْ قُبُلاً ، ما كانوا لِيُؤمِنُوا إلاَّ أنْ يَشَاء اللَّه .
قال ابن عبَّاسٍ : المُسْتَهْزِئون بالقُرآن العَظِيم كانوا خَمْسَة : الوَليد بن المُغْيرَة المَخْزُومي ، والعَاص بن وَائِل السَّهْمِي ، والأسْوَد بن عَبْد يَغُوث الزُّهري ، والأسْوَد بن المُطَّلِب ، والحَارث بن حَنْظَلة ، ثُمَّ أتَوا لرِسَول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورَهْط من أهْل مكَّة المُشَرَّفة ، وقالُوا : أرنَا المَلائكة يَشْهَدُوا بأنَّك رسُول اللَّه ، أبو ابعث لَنَا بَعَضَ مَوْتَانَا حتَّى نَسْألهم أحَقٌّ ما تقُولُه أمْ باطل ، أو ائْتِنَا باللَّه والملائكة قِبِيلاً ، أي : كَفيلاً بما تدَّعِيه ، فَنَزَلت هَذِه الآية الكَرِيمة .
وهذا يُشْكَل باتِّفَاقهم على أنَّ هذه السُّورة نزلت دَفْعَة وَاحِدة ، بل الَّذِي يَنْبَغِي أن يَكُون المَقْصُود منه : جواب ما ذَكَرَهُ بَعْضُهم ، وهو أنَّهُم أقسموا باللَّه جَهْد أيْمَانهم ، لَوْ جاءتهم آيَةٌ ليُؤمِنُنّ بها ، فذكر اللَّه- بتارك وتعالى- هذا الكلام بياناً لِكَونِهم كَاذِبِين ، وأنَّه لا فَائِدة في إنْزالِ الآيَات ، وإضْهار المُعْجِزَات بعد المُعْجِزَات ، بل المُعْجِزة الوَاحِدة لا بُد منها لِيتَمَيَّز الصَّادق عن الكَاذِب ، فأمَّا الزيادة عليها ، فتحكم مَحْض لا حَاجَة إليْه ، وإلاَّ فَلَهُم أن يَطْلُبوا بعد ظُهُور المُعْجِزة الثَّانية ثالثة ، وبعد الثَّالثة رَابِعة ، ويَلْزم منه ألاَّ تَسْتَقِرَّ الحجة ، وأن لا يَنْتَهِي الأمْر إلى مقطع ومفصل ، وذلك يُوجِب سَدَّ باب النُّبُوات .
قوله : « قُبُلاً » قرأ نَافِع ، وابْن عَامِر : « قِبَلاً » هنا وفي الكَهْف بكسر القَافِ ، وفَتْح البَاء ، والكوفِيُّون هنا وفي الكَهْف ، وقرأ الحسن البَصْرِي ، وأبُو حَيْوة ، وأبُو رَجَاء بالضَّمِّ والسُّكُون .
وقرأ أبَيّ والأعْمَش « قَبِيلاً » بياء مُثَنَّاة من تَحْت بعد بَاءٍ موحَّدة مَكْسُوةر ، وقرأ طَلْحَة بن مُصَرِّف : « قَبْلاً » بفتح القَافِ وسُكون البَاء .
فأما قِرَاءة نَافِع ، وابن عَامِر ففيها وجهان :
أحدهما : أنَّها مُقَابَلَة ، أي : مُعَايَنَةً ومُشَاهَدَةً ، وانتِصَابُه على هذا الحَالِ قاله أبو عُبَيْدة ، والفرَّاء ، والزَّجَّاج ونقله الوَاحِدي أيضاً عن جَمِيع أهْل اللُّغة ، يُقَال : « لَقِيته قِبَلاً » أي عِيَاناً .
وقال ابن الأنْبَاري : « قال أبُو ذَرّ : قُلْت للنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أنبيّاً كان آدم؟ فقال : نعم ، كان نبيّاً كلَّمه الله قبلاً » وبذلك فسًّرها ابن عبَّاس ، وقتادة ، وابن زَيْد ، ولم يَحْكِ الزَّمَخْشَرِي غَيْره ، فهو مَصْدر في مَوْضَع الحَال كما تقدَّم .
والثاني : أنَّها بمعنى نَاحِية وجِهَة قاله المُبَرِّد ، وجماعة من أهل اللُّغَة كأبي زَيْد ، وانتصابه حينئذٍ على الظَّرْف ، كقولهم : « لي قِبَلُ فلان دَيْنُ » و « ما قِبَلك حَقُّ » ويقال : « لقِيْتُ فلاناً قِبَلا ، ومُقابلة ، وقُبُلاً ، وقُبَلاً وقَبْلِياً ، وقَبِيلاً » كله بِمَعْنَى واحد ، ذكر ذلك أبُو زيد ، وأتْبَعه بِكَلام طويل مُفيد فرحمه الله - تعالى - وجزاه اللَّه خيراً .

وأمَّا قِرَاءة البَاقِين هُنَا ففيها أوْجُه :
أحدهما : أن يكون « قُبُلاً » جمع قِبِيل ، بمعنى : كَلِيل؛ « كرغيف » و « رُغُف » ، و « قضيب » و « قُضُب » و « نَصِيب » ون « نُصُب » .
وانْتَصَابه حالاً .
قال الفرَّاء والزَّجَّاج : جَمْع قِبِيل بمعْنَى : كفيل أي : كَفِيلاً بِصِدْق محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام- ، ويقال : قَبَلْتُ الرِّجل أقْبَلُه قَبالة بفَتْح البَاء في الماضي والقاف في المَصْدَر ، أي : تكفَّلْت به ، والقَبِيل ، والكَفِيل ، والزَّعِيم ، والأذِين والضّمِين ، والحَمِيل ، وبمعنى وَاحِد .
وإنما سُمِّيت الكَفَالة قَبَالة؛ لأنَّها أوْكَد تَقَبُّل ، وباعْتِبَار معنى الكَفَالة سُمِّي العَهْد المَكْتوب : قَبالة .
وقال الفرًّاء في سُورة الأنعام : « قُبُلاً » جَمْع « قَبِيل » وهو « الكَفِيل » قال : وإنَّما اخْتَرت هنا أن يكُون القُبُل في المعنى الكفالة؛ لقولهم : { أَوْ تَأْتِيَ بالله والملاائكة قَبِيلاً } [ الإسراء : 92 ] يَضْمَنُون ذلك .
الثاني : أن يَكُون جَمْع قِبِيل ، بِمَعْنى : جماعةً جماعةً ، أو صنْفاً صنفاً .
والمعنى : « وحَشَرْنا عَلَيْهم كلَّ فوْجاً فوْجاً ، ونوْعاً نوْعاً من سَائِر المَخْلُوقات » .
الثالث : أن يكون « قُبُلاً » بِمَعْنى : قِبَلاً كالقِرَاءة الأولَى في أحد وجْهَيْهَا وهو المُواجَهة أي : مُواجَهَةً ومُعَايَنةً ، ومنه « آتِيكَ قُبُلاً لا دُبُراً » اي : آتِيك من قِبَل وَجْهِك ، وقال تعالى : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } [ يوسف : 26 ] وقُرئ : « لقبل عدتهن » [ الطلاق : 41 ] ، أي : لاسْتِقْبَالها ، وقال الفرَّاء : « وقد يكون قُبُلاً : » من قِبَل وُجُوهِهِم « .
وأمَّا الذي في سُورة الكَهْف : فإنه يَصِحُّ فيه مَعْنى المُواجهة ، والمُعَاينة ، والجماعة صنْفاً صنْفاً ، لأن المُراد بالعَذَاب : الجِنْس ، وسَيَأتي له مَزِيد بَيَان . و » قُبُلاً « نَصْب على الحَالِ- كما مَرَّ - من » كلِّ « ، وإن كان نكرة؛ لِعُمُومه ، وتقدَّم أنَّه في أحد أوْجُهِهِ يُنْصَبُ على الظَّرف عند المُبَرِّد .
وأمّا قراءة الحسن فمخفَّفَة من المَضْمُوم ، وقرأه أبَيُّ بالأصْل وهو المُفْرَدِ .
وأما قراءة طَلْحَة فهو ظَرْف مَقْطُوع عن الإضَافة ، مَعْنَاه : أو يَأتِيَ باللَّه والملائِكَة قَبْلَه ، ولكن كَانَ يَنْبَغِي أن يُبْنَى؛ لأن الإضافة مُرادَة .
قوله : » مَا كَانُوا « جواب » لَوْ « وقد تقدَّم أنَّه إذا كَانَ مَنْفيّاً ، امتَنَعت اللاَّم .
وقال الحُوفِي : » التَّقْدِير لما كَانُوا حُذِفَت اللاَّم وهي مُرَادة « وهذا لَيْس بجيَّد؛ لأن الجواب المَنْفِي ب » مَا « يَقِلُّ دُخُولها ، بل لا يَجُوز عند بَعْضِهم ، والمَنْفِي ب » لم « مُمْتَنِع ألْبَتَّة .
وهذه اللاَّم لا م الجُحُود جارَّة للمصْدَر المؤوّل من » أنْ « والمنْصُوب بِهَا ، وقد تقدَّم تَحْقِيقه - بعون الله تعالى - .

قوله : « إلا أنْ يشاء اللَّه » يجُوز أن يكُون مُتَّصِلاً ، أي : ما كانُوا لِيُؤمِنُوا في سَائرِ الأحْوال إلاَّ في حَالِ مَشِيئة اللَّه ، أو في سَائرِ الأزْمَان إلا في زَمَان مَشِيئَتِه .
وقيل : إنه اسْتِثْنَاء من عِلَّة عامَّة ، أي : « ما كانوا لِيُؤمِنُوا لِشَيء من الأشْيَاء إلاَّ لمشيئة الله تعالى » .
والثاني : أن يكُون مُنْقَطعاً ، نقل ذلك الحُوفِيُّ وأبُو البَقَاء ، واسْتَبْعَده أبو حيَّان .
فصل في معنى الآية ودحض شبه المعتزلة
معنى الآية الكَريمة : أنه - تعالى لو أظْهَر جميع تِلْك الأشْيَاء العَجِيبَة لِهَؤلاء الكُفَّار؛ فإنَّهم لا يُؤمِنُون إلا أن يَشَاء اللَّه إيمانهم .
قال أهْل السُّنَّة : فلمَّا لَمْ يُؤمنوا دّلَّ على أنَّه - تعالى - ما شَاء مِنْهُم الإيمان ، وهذا نَصُّ في المسْألة .
قالت المُعْتَزِلة : دل الدَّليل على أنَّه - تبارك وتعالى - أراد الإيمان من جَميع الكُفَّار ، وذكر الجُبَّائِيُّ الوُجُوه المَذْكُورة المَشْهُورة .
أولها : أنَّه - تبارك وتعالى- لو لم يُرِد منهم الإيمان ، لما أمَرَهُم ، ولم يَجِبْ عليهم .
وثانيها : لو أراد الكُفْر من الكَافِر ، لكان الكَافِر مُطِيعاً لله تعالى بِفِعْل الكُفْر ، لجاز أن يأمُرَ بِهِ .
وثالثها : لو جاز من الله أن يريد منهم الكُفْرَ ، لجاز أن يأمر به .
رابعها : لو جاز أن يريد منهم الكفر لجاز أنه يأمرنا بأن نريد منهم الكفر . قالوا : فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما شاء إلاَّ الإيمان منهم وظاهر هذه الآية يقتضي أنه تعالى ما شاء الإيمان منهم والتناقض بين الدلائل مُمْتَنِع ، فوجب الجَمع ، وطَريقُه أن نقُول : إنه - تبارك وتعالى - شَاء من الكُلِّ الإيمان الذي يَفْعَلُونه على سَبيل الاخْتيار ، وأنَّه - تعالى - ما شاء منهم الإيمان على سبيل الإلجَاء والقَهْر ، وبهذا الطَّريق زال الإشْكَال ، وهذا كلامٌ ضعيفٌ من وُجُوه :
الأول : أن الإيمان الَّذِي سمَّوْه بالإيمان الاخْتِيَاري إن عَنُوْا به أنَّ قُدْرَته صَالِحَة إلى الإيمان والكُفْر على السَّويَّة ، ثمَّ إنه يَصْدر عَنْها الإيمان دُون الكُفْر لا لداعية مُرَجَّحَة ، ولإرادة مُمَيِّزة ، فَهَذَا قَوْل برجْحَان أحَد طَرَفي المُمْكن على الآخر ، لا لِمُرَجِّح وهو مُحَال ، وأيضاً : فبتقدير أنْ يَكُون ذلك مَعْقُولاً في الجُمْلَة ، إلاَّ أنَّ حُصُول ذَلِك الإيمان لا يَكُون منه ، بل يَكُون حَادِثاً لا لِسَبَب ولا مُؤثِّر أصْلاً؛ أن الحَاصِل هَنَا لي إلاَّ القُدْرَة ، وهي بالنِّسْبَة إلى الضِّدَّيْن على السَّويَّة ، ولم يَصْدر من هَذَا القدر تَخْصِيً لأحد الطَّرَفَيْن على الآخر بالوُقُوع والرُّجْحَانِ ، ثم إنّ احد الطَّرفين قد حصل بنفْسِه ، فهذا لا يَكُون صَادراً منه ، بل يكون صادراً لا عن سَبَب ألْبَتَّةَ ، وذلك يُبْطِل القَوْل بالفِعْل ، والفَاعِل ، والتَّأثِير والمؤثِّر أصْلاً ، وذلك لا يَقْوله عَاقِل ، وأمَّا إنْ كان هذا الذي سَسَّوه بالإيمان الاخْتِيَاري ، هو أنَّ قُدْرَته وإن كانت صَالِحة للضَّدَّين ، إلاَّ أنَّه لا تَصِير مَصْدراً للإيمان ، إلاَّ إذا انْضَمَّ إلى تِلْك القُدْرَة حُصُول داعِيَة الإيمان ، فهذا قَوْلٌ بأن مَصْدر الإيمان هو مَجْمُوع القُدْرَة على الدَّاعي ، وذلك المَجْمُوع مُوجبٌ للإيمان الاخْتِيَاريِّ لم يَحْصُل منه مَعْنى مَعْقُول مفهوم ، وهذا كلام في غاية القُوَّة .

الوجه الثاني : سلَّمنا أن الإيمان الاخْتِيَاري متميِّزٌ عن الإيمان الحَاصِل بتَكْوِين اللَّه - تعالى - ، إلاَّ أنا نَقُول قوله - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة } وكذا { مَّا كَانُواْ ليؤمنوا } مَعْنَاه : ما كانوا لِيُؤمِنُوا إيماناً اخْتِيَاريّاً ، بدلِيل أنَّ عند ظُهُور هذه الأشْيَاء لا يَبْعُد أن يُؤمِنُوا إيماناً على سَبِيل الإلْجَاء والقَهْر ، فَثَبت أن قوله : { مَّا كَانُواْ ليؤمنوا } على سَبِيل الاخْتِيَار ، ثُمَّ استَثْنَى عَنْه ، وقال : « إلاَّ أنْ يَشَاءَ اللَّه » والمُسْتَثْنَى يَجِبُ أن يَكُون من جِنْس المُسْتَثْنى مِنْه ، والإيمان الحَاصِل بالإلْجَاء والقَهْر ليس من جِنْس الإيمان الاخْتِيَاريّ ، فَثبت أنَّه لا يجُوز أنْ يَكُون المُرَاد منه الإيمان الاخْتِيَاري؛ وحينئذٍ يتوجَّه دَلِيل أهل السُّنَّة ، وتَسْقُط أقوال المُعْتَزلَة .
فصل ف دحض شبهة المعتزلة
قال الجُبَّائي : قوله - تبارك وتعالى - : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } يدلُّ على حُدُوث المَشِيئَة؛ لأنَّها لو كَانَت قَدِيمَة لَمْ يَجُز أنْ يُقَال ذَلِك ، كما لا يُقَلا : لا يَذْهب زَيْد إلى البَصْرة ، إلاَّ أن يُوَحِّد الله ، وتَقْرِيره : أنَّا قُلْنَا لا يَكُون كذا إلاَّ أنْ يَشَاء اللَّه ، فهذا يَقْتَضِي تَعْلِيق حُدُوث هذا الجَزَاء على حُصُول المَشْرُوط ، فَيَلْزَم كَوْن الجَزَاءِ قَدِيماً ، والحس على أنَّه مَحْدَث ، فوجب كَوْن الشَّرْط حَادِثاً ، وإذا كان الشَّرْط هو المَشِيئَة لَزِم القَوْل بكون المَشِيئَة حَادِثَة .
والجواب أنَّ المَشِيئة وإن كانت قَدِيمة ، إلاَّ أنَّ تعلُّقَهَا بإحْدَاث ذَلِك المُحْدث في الحالِ ، إضاَفة حَادِثَة وهذا القَدْر يَكْفي لِصِحَّة هذا الكلام . ثمَّ قال - تعالى - : { ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } أي : يَجْهَلُون بأنّ الكُلَّ من قَضَاء اللَّه وبِقَضَائه وقدره .
وقالت المعتزلة : المُرَاد : أنَّهم يبقون كُفَّاراً عِنْد ظُهُور الآيات الَّتِي طلبوها ، والمعجزات التي اقْتَرَحُوها وكان أكْثَرهُم يَظُنُّون ذلك .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)

الكاف في « كَذِلِك » في محلِّ نَصْب ، نعتاً لِمَصْدَر مَحْذُوف ، فقدَّره الزَّمَخْشَري : « ما خَلَّيْنا بَيْنَك وبين أعْدَائِك ، كذلك فَعَلْنا بِمَنْ قَبْلك » .
وقال الوَاحِدي : « وكذلك » منسُوق على قوله : « وكَذَلِكَ زَيَّنَّا » أي : فَعَلْنا ذَلِك كذلك « جَعَلْنا لكلِّ نبيٍّ عَدُوًّا » ، ثم قال : وقيل : مَعْنَاه جَعَلْنا لَكَ عَدُوًّا كما جَعْلْنا لمن قَبْلَك من الأنْبِيَاء ، فَيَكُون قوله : « وكذلك » عَطْفاً على مَعْنَى ما تقدَّم من الكلام ، وما تقدَّم من الكلام ، وما تقدَّم يدلُّ مَعْنَاهُ علىأنَّه جعل له أعْدَاء [ والمراد : تَسْلِيَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، أي : كما ابتُليت بِهَؤلاء القَوْم ، فكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ قَبْلك أعْدَاء ] .
و « جَعَلَ » يتعدى لاثْنَيْن بمعنى : صَيَّر . وأعْرَب الزَّمَخْشَري ، وأبو البقاء والحوفي هنا نحو إعرابهم في قوله : تعالى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن } [ الأنعام : 100 ] فَيَكُون المَفْعُول الأول « شَيَاطِين الإنْس » ، والثاني « عَدُواً » ، و « لكلِّ » : حال من « عَدُواً » لأنَّه صفته في الأصْل ، أو مُتعلِّق بالحَعْل قَبْلَه ، ويَجُوز أن يكون المَفْعُول الأول « عُدُوّاً » و « لكلِّ » هو الثَّانِي قُدِّم ، و « شياطين » : بَدَل من المفعول الأوّل .
والإضافة في : « شَيَاطِين الإنْس » يحتمل أن تكون من بابِ إضافَة الصِّفةِ لِمَوْصُوفها ، والأصْل : الإنْس والجن الشَّياطين ، نحو : جَرْد قَطِيفَة ، ورجَّحْتُه؛ بأنَّ المقصود : التَّسلِّي والاتِّسَاءُ بمن سَبَق من الأنْبِيَاء ، إذ كان في أمَمِهم مَنْ يُعادِلُهم ، كما في أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن تكُون من الإضافة الَّتِي بَمَعْنَى اللام ، وليست من بابِ إضافة صِفَة لِمَوصُوف ، والمعنى : الشَّياطين التي للإنْس ، والشَّياطين التي لِلْجِنّ ، فإن إلْليس قَسَّم جُنْده قسمين : قِسْمُ مُتسَلِّط على الإنْسِ ، وآخر على الجِنِّ ، كذا جاء في التَّفْسِير . ووقع « عَدُواً » مفعولاً ثَانِياً ل « شَيَاطِين » على أحَد الإعْرَابَيْنِ بِلَفْظ الإفْراد؛ لأنَّهُ يُكْتَفى به في ذلك ، وتقدَّم شَوَاهِده ، ومِنْه ما أنْشَده ابن الأنْبَارِي : [ الطويل ]
2286- إذَا أنَا لَمْ أنْفَعْ صَدِيقِي بِوْدِّهِ ... فإنَّ عَدُوِّي لَنْ يَضُرَّهُمُ بُغْضِي
فأعاد الضَّمير مِنْ « يَضُرَّهُم » على « عَدُوّ » فدل على جَمْعِيَّته؛ وكقوله تعالى : { ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين } [ الذاريات : 24 ] ، { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ } [ النور : 31 ] { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ العصر : 2 ، 3 ] .
وقيل لا حَاجَة إلى هذا التَّكْليف ، والتَّقْدِير وكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ واحد من الأنْبِيَاء عُدُوّاً واحِداً ، إذ لا يَجِبُ أن يَكُون واحدٍ من الأنْبِيَاء أكْثَر من عُدوّ واحد .
فصل في دلالة الآية
دلَّ ظاهر قوله - تعالى - : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً } على أنَّه - تبارك وتعالى - هو الذي جَعَل أولَئِك الأعْداء أعْدَاءً للنَّبِي صلى الله عليه وسلم ، ولا شكَّ أن تلك العدَاوة مَعْصِيَة وكُفْر ، فهذا يَقْتَضِي أن خَالِق الخَيْر ، و الشَّر ، والطَّاعة ، والمَعْصِيَة ، والإيمان والكُفْر هُواللَّه تعالى .

وأجاب الجُبَّائي عَنْه؛ بأن المُرَاد من هذا الجَعْل : الحُكم والبَيَان فإن الرَّجُل إذا حَكَم بِكُفْر إنْسَان ، قيل : كإنه كَفَّرَه ، وإذا أخْبر عن عَدَالتِه ، قيل إنه عدّله ، فكذا ههنا أنَّه - تعالى - لما بيَّن للرسول - عليه الصلاة والسلام- كونهم أعْدَاء له لا جَرَم قال : إنَّه جعلهُم أعْدَاءً له وأجاب الأصَمُّ : بأنه - تعالى - لما أرْسَل محَمّداً صلى الله عليه وسلم إلى العَلمِيَن ، وخصَّه بِتِلْكَ المُعْجِزات ، حسدُوه ، وصار ذلك الحَسَد سَبَاً للعَداوَة القَوِيّضة فَلِهَاذا قال إنَّه - تعالى - : جعلهم أعْدَاء له ونَظِيرُه قول المُتَنَبِّي : [ الطويل ]
2287- . ... وأنْتَ الَّذِي صَيَّرْتَهُمْ [ لِيَ ] حُسَّدَا
وأجاب الكَعْبِي عنه : بأنَّه - تبارك وتعالى - أمَر الأنْبِيَاء بعَداوتهم ، وأعْلَمهم كونهم أعْداءً له ، وذَلِك يَقْتَضِي صَيْرُورتهم أعْداءً للأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام-؛ لأنَّ العَدَاوَة لا تَحْصُل إلاَّ من الجَانِبَيْن ، فلهذا أنْ يُقَال : إنه - تعالى - جعلهم أعْدَاء للأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام- .
وهذه أوجوبه ضَعِيفَة لما تقدَّم الأفْعَال مُسنَدة إلى الدَّواعي ، وهي حَادِثة من قبل اللَّه - تعالى- وإذا كان كذلك ، صَحَّ مَذْهَبُنَا ، ثم هَهُنا بَحْث آخر ، وهُو أنَّ العَدَاوَة ، والصداقة يمتنع أن تَحْصُل باخْتِيَار الإنْسَان؛ فإن الرَّجُل قد يَبْلُغ في عَدَاوَة غَيره إلى حَيْث لا يَقْدِر ألْبَتَّة على إزَالة تلك الحَالَةِ عن قَلْبَه ، بل قَدْ لا يَقْدِر على إخْفَاء آثَار تلك العَداوة ، ولو أتى بكل تَكِلُّفِ وحيلة ، لعجز عنه ، ولو كان حُصُول العَدَاوة والصَّداقة في القَلْبِ باختيار الإنْسَان ، لوجَبَ أن يَكُونَ الإنْسَان متمكناً مِن قَلْب العَدَاوة بالصَّداقة ، وبالعَكْس ، فكيف لا ، والشُّعَراء عَرَفُوا أنّ ذلك خَارجٌ عن الوُسْع قال المُتَنَبِّي [ المتقارب ]
2288- يُرَادُ مِنَ القَلْبِ نِسْيَانُكُمْ ... وَتَأبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِل
والعاشق الَّذِي يشتد عِشْقُه [ قد ] يَحْتَال بجميع الحِيَل في إزالة عِشْقِه ، ولا يقدر عَلَيْه ولو كان حُصُول ذلك الحُبِّ والبَغْضِ باخْتِيَاره ، لما عَجَز عن إزَالَتِهِ .
فصل في معنى الآية
قال عِكْرمة ، والضَّحَّاك ، والكَلْبِي : المعنى : شَيَاطِين الإنْس الَّتِي مع شَيَاطِين الجِنِّ ، وذلك أنَّ إبْلِيس قَسَّم جنده فَرِيقَيْن ، فبعث فَريقاً منهم إلى الإنْس ، و فريقاً إلى الجِنِّ ، وكلا الفَرِيقَيْن أعْداءٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ولأوْلِيَائه ، وهم يَلْتَقُون في كل حين ، فيقول شَيْطان الإنْس لشيطان الجنِّ : أضَلْلت صَاحِبي بكَذا ، فأضلل صَحِبك بِمُله ، ويقول شَيْطَان الجن لشيطان الإنس كذلك . فلذلك وصَّى بَعْضُهم إلى بَعْض .
وقال قتَادة ، وَمُجاهِد ، والحَسَن : إن من الإنْس شَيَاطين ، كما أن من الجنِّ شياطين ، والشَّيْطَان الثَّاني المتمرد من كُلِّ شَيْء .
قالُوا : إن الشَّيْطان إذا أعْيَاه المُؤمِن ، وعَجز عن إغوائه ، ذهب إلى مُتَمَرِّد من الإنْس : وهو شَيْطَان الإنْس ، فأغراه بالمُؤمِن ليفتنه ، يدلُّ عليه ما « رُوِي عن أبِي ذرِّ ، قال : قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هل تَعَوَّذت باللَّه من شَيَاطين الجِنِّ والإنْس ، قلت يا رسُول الله ، وهل للإنْس من شَيَاطين ، قال نَعَمْ ، هم شرُّ من شَيَاطين الجِن » .

وقال مَالك بن دِينَار : إن شَيَاطين الإنْس أشَد عليَّ من شَيَاطِين الجِنِّ ، وذلك أنِّي إذَا تعَوَّذت باللَّه ، ذهب عني شَيَطان الجِنِّ ، وشيطان الإنس يجيبني ، فَيَجرُّني إلى المَعَاصي .
قوله : « يُوحي » يُحْتَمل أن يكون مُسْتَأنفاً ، أخبْرَ عنهم بذلك ، وأن يكون حالاً من « شياطين » وأن يكون وَصْفاً ل « عَدُوّاً » وقد تقدَّم وَاقِع مَوْقع أعْدَاء ، فَلذلك عَادَ الضَّمِير عَلَيْه جَمْعاً في قوله « بَعْضُهم » انتهى .
فصل في معنى قوله : « يوحي »
الوحي : هو عِبَارة عن الإيماءِ ، والقَوْل السَّريع ، والزُّخْرُف هو الذي يَكُون بَاطِنُه باطلاً ، وظاهر مُزَيَّناً ، يقال : فلان يزخرف كلامه ، إذا زَيَّنه بالبَاطِل والكذب ، وكلُّ شيء حَسَن مَمَوّه ، فهو مُزَخْرَف والزُّخْرف : الزِّينة ، وكلام مُزَخْرَف ، [ أي ] : مُنَمَّق ، وأصله الذَّهب ، ولما كان الذَّهب مُعْجِبٌ لكل أحَد ، قيل لكل مُسْتَحْسن مزين : زُخْرُف .
وقال أبو عُبَيْدة : كل ما حَسَّنْتَه ، وزيَّنته ، وهو بَاطِل : فهو زُخْرُف ، وهذا لا يَلْزَم ، إذ قد يُطْلَق على مَا هُو زِينَة حَقّ ، وبيت مُزَخْرَف ، أي : مُزَيَّن بالنَّقْش ، ومنه الحَدِيث : أنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يَدْخُل الكَعْبَة حتى أمر بالزُّخْرف فَنُحِّيَ يعني : أنهم كَانُوا يُزَيِّنُون الكعبة بِنُقُوش ووتصاوير مُمَوِّهة بالذَّهب ، فأمر بإخْرَاجِها .
قوله : « غُرُواً » قيل : نُصِب على المَفْعُول له ، أي : لا يَغُرُّوا غيرهم .
وقيل : هو مَصْدر في مَوْضِع الحَالِ ، أي : غارِّين ، وأن يَكُون مَنْصُوباً على المَصْدَر؛ لأن العَامِل فيه بِمَعْنَاه ، كأنه قِيل : « يَغُرُّون غُرواً بالوَحي » .
قوله : « ولَوْ شَاءً ربُّكَ ما فَعَلُوه » ما ألْقواه من الوسْوَسة في القُلُوب ، وقد تقدَّم الكلام في المَشِيئَة ومَدْلُولِها مع المُعتزلة .
قوله : « وما يَفْتَرُون » « ما » موصولة اسميَّة ، أو نكرة مَوْصُوفة ، والعَائِد على كلا هَذَين القَوْلَيْن محذُوفٌ ، أي : « وما يَفْتَرُونَه » أو مصدريَّة ، وعلى كُلِّ قوله فمحلُّهَا نَصْب ، وفيه وَجهَان :
أحدهما : أنها نَسَق على المَفْعُول في : « فَذَرْهُمْ » أي : اتْرُكْهُم ، واترك افْتِرَاءهم .
والثاني : أنَّها مفعول مَعَه ، وهو مَرْجُوحٌ ، لأنه متى أمكن العَطْف من غير ضَعْفٍ في التركب ، أو في المَعْنَى ، كان أوْلَى من المَفْعُول معه .
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - يُرِيد بقوله : « فَذَرْهُم وما يَفْتَرون » : ما زيَّن لهم إبْليس وغرَّهُم .

وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)

في هذه اللاَّم ثلاثة أوْجُه :
أحدها : أنها لام « كَيْ » والفِعْل بعدها مَنْصُوب بإضمار « أن » وفيما يتعلَّق به احتمالان :
الاحتمال الأول : أن يتعلَّق ب « يُوحِي » على أنَّها نَسَق على « غُرُوراً » و « غُرُوراً » مفعول له ، والتقدير : « ويحي بَعْضُهم إلى بَعْض للغُرُور وللصَّغْو » ، ولكن لما كان المَفْعُول له الأوَّل مُسْتَكْمِلاً لِشُروط النَّصْب ، نُصِب ، ولما كان هذا غير مُسْتكملٍ للشُّروطِ ، وصل افعل إليه بِحَرف العِلَّة ، وقد فَاتَه من الشَّروط كونه لم يتَّحِد فيه الفَاعِل ، فإنَّ فاعل الوحي : « بَعْضُهم » ، وفاعل الصَّغْو : « الأفئدة » وفات أيضاً من الشُّروط صَريح المصدريَّة .
والاحتمال الثاني : أن يتعلَّقِ بِمَحْذُوف متَأخِّر بَعْدَها ، فقدَّره الزَّجَّاج ، ولِتَصْغى إليه فَعَلُوا ذَلِك ، وكذا قدَّره الزَّمَخْشَرِي ، فقال : ولِتَصْغى جَوَابُه مَحْذُوف ، تقديره : وليكون ذَلِك جَعَلْنا لكُلِّ نبي عدُواً على أن اللاَّم لام الصَّيْرُورة .
والوجه الثاني : أن اللاَّم لام الصَّيْرُورة وهي الَّتِي يعبِّرون عنها بِلام العاقِبَة ، وهي رأي الزَّمَخْشَري ، كما تقدَّم حكايته عنه .
الوجه الثالث : أنها لام القَسَم .
قال أبو البقاء : « إلا أنَّها كُسِرتْ لمَّا لم يؤكد الفِعْل بالنُّون » وما قَالَه غير مَعْرُوف ، بل المَعْرُوف في هذا القَول : أنَّ هذه لام كَيْ ، وهي جوابُ قسم مَحْذُوف ، تقديره : واللَّه لتَصْغَى فوضع « لِتَصْغَى » موضع « لَتَصْغَيَنَّ » فصار دواب القَسَم من قَبِيل المُفْرَد؛ كقولك : « والله ليقومُ زيد » أي : « أحْلِفُ بالله لَقيامُ زيد » هذا مَذْهبُ الأخْفَش وأنشد : [ الطويل ]
2289 -إذَا قُلْتُ قَدْنِي قَالَ بِاللَّه حَلْفَةً ... لِتُغْنِيَ عَنِّي ذَا إنَائِكَ أجْمَعَا
فقوله : « لتُغْني » جواب القَسَم ، فقد ظَهَر أن هذا القَائِل يَقُول بكونها لام كي ، غاية ما في الباب أنَّها وقعت مَوْقِع جواب القَسَم لا أنَّها جوابٌ بِنَفْسِها ، وكُسِرَتْ لمَّا حُذِفَتْ منها نون التَّوكيد ، ويدلُّ على فساد ذلك ، أنَّ النُّونَ قد حُذِفَتْ ، ولامَ الجواب بَاقِية على فَتْحِها ، قال القَائِل في ذلك : [ الطويل ]
2290- لئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ رَبِّي أنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ
فقوله : « لَيَعْلَمُ » جوابُ القَسَم الموطَّأ له باللاَّم في « لَئِنْ » ومع ذلك فَهِي مَفْتُوحة مع حَذْفِ نُونِ التَّوْكِيد .
والضَّمِير في قوله : « مَا فَعَلُوه » وفي : « إليه » يَعُود : إمَّا على الوَحْي ، وإمَّا على الزُّخْرُف ، وإما على القَوْل ، وإمَّا عَلَى الغُرُور ، وإمّا على العداوة؛ لأنَّها بمعنى : التَّعَادي .
ولتصغى أي تميل وهذ المادَّة تدل على الميْل ، ومنه قوله -تعالى- : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] ، وفي الحديث : « فأصْغى لها الإنَاء » وصاغِيَةُ الرجل : قَرَابَتُه الَّذِين يَمِيلون إليه ، وعين صَغْوى أي : مائِلَة ، قال الأعْشَى : [ الطويل ]
2291- تَرَى عَينَهَا صَغْوَاء فِي جَنْبِ مُؤقِهَا ... تُرَاقِبُ فِي كَفِّي القَطِيعَ المُحَرَّمَا

والصَّغَا : مَيْلٌ في الحَنَك العَيْن ، وصغت الشمس والنجوم : أي مالت للغُرُوب .
ويقال : « صَغَوْتُ ، وصَغِيتُ وصَغَيْتُ » فاللاَّم واو أو ياء ، ومع الياء تُكْسَرُ عين المَاضِي وتُفْتَحُ .
قال أبو حيَّان : « فَمَصْدر الأوَّل صَغْوٌ ، والثَّاني صُغيُّ والثالث صَغاً ، ومضارِعُها يَصْغَى بفتح العين » .
قال شهاب الدِّين : قد حَكَى الأصْمَعِيُّ في مصدر صَغَا يَصْغُوا صَغاً ، فليس « صَغاً » مُخْتَصاً بكونه مَصْداً ل « صَغِي » بالكَسْر .
وزاد القرَّاء : « صُغِياً » و « صُغُواً » بالياء والواو مُشَدَّدتين ، وأما قوله : « ومُضارِعُها ، أي مُضارع الأفعال الثلاثة : يَصْغَى بِفَتْح الغين » فقد حكى أبُو عُبَيْد عن الكسَائِي : صَغَوتُ أصْغُو ، وكذا ابن السِّكِّيت حَكَى : صَغَوتُ أصْغُو ، فقد خَالَفُوا بين مُضارعِها ، وصَغَوْتُ أصْغُو هو القياس الفَاشِي ، فإن فعل المُعْتَل اللاَّم بالواو قِيَاس مُضَارعه : يَفْعُل بضمِّ العَيْن .
وقال أبو حيَّان أيضاً : « وهي - يعني الأفعال الثلاثة- لازمة » أي : لا تتعدَّى ، وأصْغَى مثلْها لازم ، ويأتِي متعدِّياً ، فتكون الهَمْزَة للنَّقْل ، وأنشد على « أصْغَى » اللاَّزم قول الشاعر : [ البسيط ]
2292-تَرَى السَّفِيهَ بِهِ عَنْ كُلِّ مُحْكَمَةٍ ... زَيَغٌ وَفِيهِ إلى التَّشْبيه إصْغَاءُ
قال شهاب الدِّين : ومثله قول الآخر : [ البسيط ]
2293- تُصْغِي إذَا شَدَّهَا بالرَّحْلِ جَانِحَةً ... حَتَّى إذا اسْتَوَى فِي غَرْزِهَأ تَثِبُ
وفي الحديث : فأصْغَى لها الإنَاء « وهذا الذي زَعَمه من كَوْن صغَى ، أو صَغِيَ ، أو صَغاً يكون لازماً غير مُوافَقٍ عليه ، بل قد حَكى الرَّاغب أنه يُقَال : صَغَيْتُ الإنَاء وأصغَيْتُه [ وصَغِيت بكسر الغَيْن ] يُحْتَمل أن يَكُن من ذَوَات اليَاءِ ، ويُحْتَمل أن يكُون من ذَواتَ الواوِ ، وإنَّما قُلِبَت الواوُ ياءً؛ لانكسار ما قَبْلَها؛ كقَوِي ، وهُو من القُوَّة .
وقراءة النَّخْعِي ، والجَرَّاح بن عبد الله : » ولِتُصْغَى « من أصغَى رباعياً وهو هُنا لاَزِم .
وقرأ الحسن : » وَلْتَصْغى وليَرْضَوْه ولْيَقْتَرِفوا « بسكون اللاَّم في الثَّلاثة ، وقال أبو عمرو الداني : » قراءة الحَسَن إنَّما هُو : « ولِتَصْغِي » بكَسْر الغَيْن « .
قال شهاب الدِّين : فتكون كقراءة النَّخَعِيِّ .
وقيل : قرأ الحسن : » ولتصغي « بكَسْر اللاَّم كالعامَّة ، ولْيَرْضوه ولْيَقْتَرِفوا بسكون اللاَّم ، خرَّجوا تَسْكين اللاَّم على أحَدِ وَجْهَين : إمَّا أنها لام كي ، وإنَّما سُكِّنَتْ إجراءً لها مع بَعْدها مُجْرى كَبِد ، ونَمِر .
قال ابن جِنِّي : » وهو قَوِيٌّ في القِيَاس ، شاذٌّ في السَّماع « .
والثاني : أنَّها لام الأمْر ، وهذا وإن تَمشَّى في » لِيرْضَوْه ولِيَقْتَرِفوا : فلا يتمشَّى في : « ولِتَصْغى » إذ حرف العلة يحذف جزماً .
قال أبُو البقاء : « ولَيْست لام الأمْر؛ لأنه لَمْ يَجْزِم الفعل » .
قال شهاب الدِّين : قد ثبت حَرْف العِلَّة جَزْماً في المُتَواتِر ، فمنها : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } [ يوسف : 12 ] { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله } [ يوسف : 90 ] { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى }

[ طه : 77 ] وفي كُلِّ ذلك تَاويلات سَتَقِف عَلَيْها - إن شاء الله تعالى - فتلكن هذه القراءة الشَّاذَّى مثل هذه المَوَاضِع ، والقولُ بكون لام « لتصغى » لام « كَيْ » سُكِنت؛ لِتَوالي الحَرَكات واللاَّمين بَعْدَها لامَيْ أمْر بعيدٌ وتَشَهٍّ .
وقال النَّحَّاس : ويُقْرأ : « ولْيَقْتَرِفُوا » يعني بالسُّكُون ، قال : « وفيه مَعْنى التَّهْديد » .
يريد : أنَّه أمر تَهْديد؛ كقوله : { اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ فصلت : 40 ] ولم يحك التَّسْكِين في « لِتَصْغَى » ، ولا في « لِتَرْضَوه » .
و « مَا » في « ما هم مُقْتَرِفون » مَوْصُولة اسميَّة ، أو نكرة مَوْصُوفة مصدريَّة ، والعَائِد على كلا القولَين الأولين مَحْذُوف ، أيك « ما هم مُقْتَرِفُوه » .
[ و ] قال أبُو البقاء : « وأثبت النُّون لما حُذِفَت الهاء » يريد : أن الضَّمير المتَّصِل باسم الفاعل المُثَنًّى والمجموع على حَدِّه ، تُحْذَفُ له نُون التَّثْنِيَة والجمع ، نحو : « هَذَانِ ضَارِبَاه » و « هؤلاء ضَارِبُوه » فغذا حذفَ الضَّمِير ، وقد ثَبَتت؛ قال القائل : [ الطويل ]
2295- وَلَم يَرْتَقِقْ والنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ ... جَمِيعاً وأيْدِي المُعْتَفِينَ رَوَاهِقُهْ
وقال القائل في ذلك : [ الطويل ]
2269- هُمُ الفَاعِلون الخَيْرَ والآمِرُونَهُ .. . .
والاقْتِرَاف : الاكْتِساب ، واقترف فُلان لأهْله ، أي : اكْتَسَب ، وأكثر ما يُقَال في الشَّرِّ والذَّنْب ، ويطْلَق في الخَيْر ، قال - تعالى - { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } [ الشورى : 23 ] .
وقال ابن الأنْبَارِيِّ : « قَرَفَ واقْتَرَفَ : اكتسب » وأنْشَد في ذلك : [ الطويل ]
2297- وإنِّي لآتٍ مَا أتَيْتُ وَإنِّنِي ... لِمَا اقْتَرَفَت نَفْسِي عَلَيَّ لَرَاهِبُ
وأصل القِرْفِ والاقْتِرَاف : قِشْرُ لحاء الشَّجر ، والجِلْدَةُ من أعَلَى الحرج وا يؤخَذُ منه قَرف ، ثُمَّ استُعِير الاقْتِرَاف للاكْتِسَاب حَسَناً كان ، أو سِّئاً وفي السيّئ أكثر اسْتِعْملاً وقارف فلان أمْراً : تَعَاطى ما يُعَاب به .
وقيل : الاعْتراف يُزِيل الاقْتِرَاف ، ورجل مُقْرِف ، أي : هجين : قال الشَّاعر : [ الرمل ]
2298- كَمْ بِجُودٍ مُقْرِفٍ نَالَ العُلَى ... وشَريفٍ بُخْلُهُ قَدْ وَضَعهْ
وقَرَفْتُه بكذا : اتَّهَمْتُه ، أو عِبْتُه به ، وقارف الذَّنْب وعَبَره ، إذا أتَاه ولا صقَهُ ، وقارف امْرَأتَهُ ، وإذا جَامَعها ، والمُقْتَرِف من الخَيْل : الهَجِين ، وهو الَّذي أمُّه برذون ، وأبُوه عَرَبِيّ .
وقيل : بالعَكْس .
وقيل : هُو الَّذي دان الهجنة وقَارَفَها ، ومن حَدِيب عُمَر - رضي الله عنه - : كتب إلى أبِي مُوسى في البَراذِين ما قَارفَ العِتَاق مِنْهَا ، فأجْعَل لَهُ منهما واحٍداً ، أي : قَارَبَهَا ودَانَاهَا ، نقله ابن الأثير .
فصل في تقدير الآية
قال ابن الخِطِيب [ قال أصْحَابنا ] تقدير الآية الكَرِيمة : وكذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نِبِيِّ عدوّاً من شَيَاطين الجِنِّ والإنْس ، وصفته : أنَّه يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْض زُخْرُف القَوْل غَرُواً ، وإنَّما فَعَلْنا ذلك لِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدة الذين لا يُؤمِنُون بالآخرة أي : أوْجدنا العداوة في قَلْب الشَّيَاطين الذين من صفتهم ما ذَكرْنَاهُ ، ليكون كلامهم المُزَخْرَف مَقْبُولاً عند هؤلاء الكُفَّار .
قالوا : وإذ حَمَلْنا الآية على هذا الوَجْه ، يظهر أنَّه - تبارك وتعالى - يُريد الكُفْر من الكَافِر .

أجاب المُعْتَزِلَة عنه من ثلاثة أوْجُه :
الأول : قال الجُبَّائي : إن هذا الكلام خرج مَخْرج الأمر ، ومعناه : الزَّجْر؛ كقوله - تبارك وتعالى - : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم } [ الإسراء : 64 ] وكذا قوله : « وَلِيَرْضَوْه ، ولِيقْتَرِفُوا » وتقدير الكلام : كأنَّه قال للرَّسُول - عليه السَّلام- : « فّذرْهُم وما يَفْتَرون » ثم اقال لَهُم على سَبِيل التَّهديد « ولِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدَتُهم ، وليَرْضَوه وليقترفوا ما هُم مُقْتِرَفُون » .
الوجه الثاني : قال الكَعْبِي إنّ هذه اللاَّم لام العاقبة ، أي : ستئول عاقبة أمرهم إلى هذه الأحْوال .
قال القَاضِي : ويبعُد أن يقال : هذه العاقبة تحصُل في الآخِرة؛ لأن الإلْجَاء حَاصِل في الآخِرَة .
قال : فلا يجُوز أن تِمَيل قُلُوب الكُفَّار إلى قُبُول المَذْهَب البَاطِل ، ولا أن يَرْضَوْه ، ولا أنْ يقترفوا الُّنُوب ، بل يَحْبُ أن تُحْمَل على أنَّ عاقبة أمْرِهم في الدُّنْيَا تئول إلى أنْ يَقْبَلوا الأبَاطِيل ، ويرضوا بها ، ويَعْملُوا بها .
الوجه الثالث : وهو الذي اختاره أبو مُسْلِم ، قال : اللاَّم في قوله : « ولِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدَةُ » متعلِّق بقوله : « يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْل غُرُوراً » والتَّقْدير : أن بَعْضَهم يُوحِي إلى بَعْض زُخْرُف القَوْل ليغُرُّوا بذلك ، { ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ } الذُّنُوب ، ويكون المُرَاد أنَّ مَقْصُود الشَّياطين من ذلك الإيحاء : هو مَجْمُوع هذه المَعَانِي .
والجواب عمّا الجُبَّائي من وُجُوه ، ذكرها القَاضِي :
أحدها : أن الواوَ في قوله : « ولِتَصْغَى » تقتضي تَعَلُّقَه بما قبْلَه ، فحملُه على الابتداء بَعيدٌ .
وثانيها : أن اللاَّم في قول : « ولِتَصْغَى » لام كَيْ ، فيبعد أن يُقَال إنَّه لام الأمْر ، ويَقْرُب ذلك من أنْ يَكُون تَحْرِيفاً لِكَلام اللَّه- تعالى- ، وأنه لا يَجُوز ، وأمَّا قول الكَعْبِي : بأنَّها لام العَاقِبَة ، فضعيفح لأنهم أجْمَعُوا على أن هذا مَجَازٌ ، وحَمْلُه على « كي » حَقِيقةً أوْلى ، وأمَّا قَوْل أبِي مُسَلم ، فهو أحسنُها ، إلاَّ أنْ قوله : « يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْض زُخْرُف القَوْلِ غُرُواً » يقتضي ان يكُون الغَرَض من ذلك الإيحاء : هو التَّغْرير ، وإذا عَطَّفْنَا عليه قوله : « ولِتَصْغَى إليْه أقْئِدَة » فهذا أيضاً عَيْن التغرير ، لا معنى التغرير؛ لأنه يَسْتَمِيل إلى ما يكون بَاطِنُه قَبِيحاً ، وظاهره حَسَنَاً .
قوله : « ولِتَصْغَى إليه أفْئِدَة » عين هذه الاسْتِمَالة فلو عَطَفْنَأ عليه ، لَزِم أن يَكُن المَعْطُوف عين المَعْطُف عَلَيْه ، وأنَّه لا يجوز ، أمَّا إذا قُلْنَا : تَقْدير الكلام : وكذلك جَعَلْنَا لكُلِّ نَبِيّ عُدُوّاً من شَأنه أن يُوحِي زُخْرُف القَوْل؛ لأجل التَّغرير ، وإنما جَعَلْنا مثل هذا الشَّخْص عَدُواً للنَّبِي؛ لتصْغَى إليه أفْئِدَة الكُفَّار ، فَيَبْعُدوا بذلك السَّبَبِ عن قُبُول دَعْوة ذلك النَّبِيِّ ، وحنيئذٍ لا يَلْزَم منه عَطْف الشَّيء على نَفْسِه ، فما ذَكَرنَاه أوْلى .
فصل في معنى الإنسان
قالوا : الإنسان شيء مُغَاير للبَدَن ، ثم اخْتَلَفُوا : منهم من قال : المُتَعلِّق الأوَّل هو القَلْب ، وبواسطته تتعلَّق النَّفْس؛ كسائر الأعْضَاء ، كالدِّمَاغ ، والكَبْد ، ومنهم مَنْ قَال : القَلْب متعلِّق النَّفس الحَيَوانيَّة ، والدِّمَاع متعلَّق النَّفْس النَّاطِقَة ، والكَبِد متعلَّق النَّفْس الطَّبِيعيَّة ، والأوَّلون تمسَّكوا بهذه الآية الكريمة؛ فإنه - تبارك وتعالى - جَعَل مَحَلَّ الصَّغى الذي هُو عِبَارة عن المَيْل والإرادة : القَلْب ، فدلّ على أنَّ مُتعلِّق النَّفْس : القَلْب .

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)

لمّا حَكَى عن الكُفَّار أنَّهم أقْسَمُوا باللَّه جَهْد أيْمانهم ، لَشِن جَاءَتْهُم آية ، ليُؤمِنُنَّ بها ، وأجاب عَنْه : بأنه لا فَائِدة في إظْهَار تلك الآيَات؛ لأنَّه - تعالى - لو أظْهَرَهَا ، لبقوا مُصِرِّين على كُفْرِهم ، بيَّن في هذه الآيَة أنَّ الدَّلِيل على نُبُوته ، قد حَصَل فكلُّ ما طَلَبُوه من الزِّيادة ، لا يَجب الالْتِفَات إليه .
قوله : « افَغَيْرَ » يجوز نَصْب « غَيْرَ » من وَجْهَين :
أحدهما : أنَّه مَفْعُول ل « أبْتَغي » مقدَّماً عليه ، ووَلِيَ الهَمْزَة لما تقدَّم في قوله : { أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً } [ الأنعام : 14 ] ويكُون « حَكَماً » حنيئذٍ : إمَّا حالاً ، وإمَّا تَمْيِيزاً ل « غَيْر » ذكره الحُوفِيُّ : وأبُو البَقَاء ، وابْنُ عَطِيَّة؛ كقولهم : « إنَّ غَيْرَها إبلاً » .
الثاني : أن يَنْتَصِب « غَيْر » على الحَالِ مِنْ « حَكَماً : لأنَّه في الأصْل يَجُوز أن يَكُون وَصْفاً له ، و » حَكَماً « هذا المَفْعُول به؛ فتحصَّل في نَصْب » غَيْر « وجهاان ، وفي نصب » حَكَماً « ثلاثة أوجه : كونه حالاً ، أو مَفْعُولاً ، أو تَمْيِيزاً . والحَكَمُ أبلغ من الحَاكِم .
قيل : لأنَّ الحَكَمَ لا يَحْكُم إلا بالعَدْل ، ولاحاكم قد يَجُوز ، ومَعْنى الآية الكريمة : قُلْ لَهُم يا محمَّد : أفَغَير اللَّه أطْلب قَاضياً بَيْنِي وبَيْنَكُمن وذلك أنَّهم كَانُوا يَقُولُون للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : اجعل بَيْنَنا وبَيْنَك حَكَماً ، فأجابَهُم به .
قوله : » وهُو الَّذي أنْزَل « هذه الجُمْلة في مَحَلِّ نَصْب على الحَالِ من فاعِل : » أبْتَغِي « ، و » مُفَصَّلاً « : حَالٌ من » الكِتَاب « أي مُبينَّاً فيه أمْرُه ونهيه ، والمراد بالكِتَاب : القُرآن العَظِيم ، وقيل » مُفَصَّلاً « أي : خَمْساً خَمْساً ، وعَشْراً عَشْراً ، كما قال : { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } [ الفرقان : 32 ] .
وقوله : » والذين آتيْنَاهم الكِتَاب « : مُبْتَدأ ، و » يعْلَمُونَ « : خَبَره ، والجُمْلَة مُسْتَأنَفَة ، والمراد بِهِم : عُلَماء اليَهُود والنَّصارى الذين آتيْناهم التَّوْراة والإنْجِيل .
وقيل : هم مُؤمِنوا أهل الكِتَاب ، وقال عطاء : رُؤسَاء أصْحَاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بالكِتَاب : القُرْآن العَظِيم ، يَعْلَمون أنه مَنَزَّلٌ .
قرأ ابنُ عامر ، وحَفْص عن عاصم : » مُنَزَّل « بتشْدِيد الزَّاي ، والباقُون بِتَخْفِيِيها ، وقد تقدَّم : أنَّ أنزل ونزَّل لُغَتَان ، أو بَيْنَهُما فَرْق ، و » من ربِّك « لابْتِداء الغَايةِ مَجازاً ، و » بالحقِّ « حال من الضَّمِير المُسْتكنِّ في » مُنَزَّل « أي : مُلْتَبِساً بالحَقِّ ، فالباء للمُصَاحَبَة .
قوله : » فَلا تكُونَنَّ من المُمْترِين « أي : من الشَّاكين أنَّهم يَعْلَمُون ذلك .
وقيل : هذا من بابِ التَّهْييج والإلْهَاب؛ كقوله - تعالى - : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] .
وقيل : هذا خِطَاب لِكُلِّ أحد ، والمعنى : لما ظهرت الدَّلائِل ، فلا يَنْبَغِي أنْ يَمْتِرِي فيه أحَد .
وقيل : هذا الخِطَاب وإن كان في الظَّاهِر للرَّسُول ، إلاَّ أن المراد أمته .

وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)

في نصب « صِدْقاً وعَدْلاً » ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يَكُونا مَصْدَرَيْن في مَوِضِع الحال ، أي : تَمَّتَ الكَلِمَات صَادِقَات في الوَعْد ، عَادِلات في الوعيدِ .
الثاني : أنهما نَصْب على التَّمْييز .
قال ابن عطيَّة : « وهو غَيْر صَوَاب » وممن قَالَ بِكَوْنه تَمِييزاً : الطَّبِريُّ ، وأبُو البقاء .
الثالث : انهما نصب على المَفْعُول من أجْله ، أي : تَمَّتْ لأجْل الصِّدْق والعَدْل الواقِعَين مِنْهُما ، وهو مَحَلُّ نظر ، ذكر هذا الوَجْه أبُو البَقَاء .
وقرأ الكوفِيُّون هنا ، وفي يونس في قوله : { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا } [ يونس : 33 ] ، { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } [ يونس : 96 ] موضعان ، فوي غافر : { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } [ غافر : 6 ] « كلمة » بالإفراد ، وافقهم ابنُ كثير ، وابُو عمرو على مَا في يُونُس وغافر ، دون هذه السُّورة ، والباقون : بالجَمع في المَواضِع الثُّلاثة .
قال أبو حيَّان : « قرأ الكُوفِيُّون هُنَا وفي يُونُس في الموضعين وفي المؤمن : » كلمة « بالإفْرَاد ، ونَافِع جميع ذلك » كلمات « بالجَمع ، تابعه أبُو عَمْرو ، وبان كثير هُنَا »
قال شهاب الدِّين : كيف نَسِي ابن عامر؟ لا يُقَال : إنَّه قد أسْقَطَه النَّاسِخ وكان الأصْل « ونَافِع وابن عامر » ؛ لأنَّه قال : « تَابَعَهه » ولو كان كَذَلِكَ ، لقال : « تَابَعَهُمَا » .
ووجه الإفراد : إرادة الجِنْس ، وهو نظير : رسالته ورسالاته .
وقولهم : قال زهير في كلمته ، أي : قصيدته ، وقال قُسّ في كَلمته ، أي : خُطْبَته ، فكذا مَجْمُوع القُرآن العَظِيم ، وقراءة الجَمْع ظَاهِرة؛ لأن كَلِمَاته - تعالى مَتْبُوعة بالنِّسْبة إلى الأمْر ، والنَّهِي ، والوعد ، والوعيد وأراد بالكلمات : أمْرَه ونَهْيَهُ ووعْدَه ووَعِيدَه ، في الأمْر والنَّهْي .
وقال قتادة : ومُقاتل : صِدْقاً فيما وعد عدلاً فيما حَكَم ، وهذا الكلام كما يَدُل على أن الخُلْف في وَعْد اللَّه مُحَال؛ فيدلُّ أيضاً : على أنَّ الخُلْفَ في وعيده مُحَال ، بخلاف ما قالهُ الوَاحِدِيّ في تَفْسِير قوله - تبارك وتعالى - : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } [ النساء : 93 ] إن الخُلْف في وعيد اللَّه جَائِزٌ ، لأن وعد اللَّه ووعِيدَه كلمة اللَّه ، فيجب كَوْنَها موصُوفَةٌ بالصِّدق؛ لأن الكذب نَقْص ، والنَّقْص على اللَّه مُحَال ، ولا يَجُةز إثْبات أنَّ الكَذِب على اللَّه مُحَال ، فلو أثبتنا امتِنَاع أن الكذب على الله مُحَال ] لزم الدَّوْر ، وهو بَاطِل ، وأجْمَعُوا على الجَمْع في قوله : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً { لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ } { وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله } [ الأنعام : 34 ] .
قوله : « لا مبدِّل لِكلماتِه » يحتمل أن يكُون لَهَا مَحلُّ من الإعراب؛ لأنَّها مُسْتَأنفة ، وأن تكون جُمْلة حَاليّضة من فاعل « تَمَّتْ » .
فإن قُلْت : فأين الرَّابِط بين ذي الحَالِ ، والحَالِ؟
فالجواب أنَّ الرَّبْط حصل بالظَّاهر ، والأصْل : لا مبدِّل لها ، وإنَّما أبرزت ظَاهِرة؛ تَعْظِيماً لها ولإضافتها إلى لَفْظ الجلالة الشَّريفة .

قال أبو البَقَاء : ولا يجُوز حالاً من « ربِّك » لئلا يُفْصَلَ بين الحَالِ وصاحبها الأجْنَبِيِّ ، وهو : « صدقاً وعدلاً » إلا أن يُجْعَلَ « صِدْقاً وعَدْلاً » : حالاً من « ربِّك » لا من « الكَلِمَات » .
قال شهاب الدِّين : فإنه إذا جعل « صدقاً وعدلاً » : حالاً من « ربِّك » لم يَلْزَمْ منه فَصْلٌ؛ لأنَّها حالان لذي حال ، ولكنّ قَاعدته تَمْنَع تَعَدُّد الحال لذي حالٍ واحدة ، وتمنع أيضاً مَجِيء الحَالِ من المُضاف إلَيْه ، وإن كان المُضَاف بَعْض الثُّانِي ، ولم يُمْنعن هنا بِشَيْء من ذلك ، والرسم في « كَلِمَات » في المواضعِ الِّتِي أشَرْتُ [ إلى ] اخْتِلاف القُرَّاء فيها مُحْتَمِل لِخِلافِهِهم ، فإنه في المُصْحَف الكَرِيم من غير ألِف بعد الميم .
[ وقوله تعالى : « إن يتَّبْعُون » ، و « إن إلا يَخْرصُون » « إن » نافية ، بمعنى : ما في الموضعين و « الخَرْص » : الحَزْر ويُعَتبر به عن الكذب والافْتِراء ، وأصله من ا لتَّظَنِّي ، وهو قول ما لم يُسْتَيْقَن ، ويتحقق؛ قاله الأزْهِري .
ومنه خرص النَّخل ، يقال : « خَرَصًها » الخَارِص خَرْصاً ، فهي « خِرْص » فالمَفْتُوح مَصْدر ، ولامكْسُور بِمَعْنَى : مَفْعُول؛ كالنَّقض والنِّقض ، والذَّبْح ]
فصل في معنى الآية
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - مَعْنَى « لا مُبَدِّل لِكَلماته » : لا رادَّ لِقَضَائِه ولا مُغَيِّر لِحكمه ، ولا خُلْف لوعْدِه ، وهو السَّمِيع العَلِيم .
وقيل المُرَاد « الكَلِمَات » القرآن لا مُبَدِّل له لا يَزيد في المُفتَرُون ، ولا يُنْقِصُون؛ كقوله - تبارك وتعالى - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
وقيل : المُراد : أنها محفوظة عن التَّنَاقُض؛ كقوله تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .
وقيل المراد : أنَّ أحْكام اللَّه - تبارك وتعالى - لا تَقْبَل التَّبْدِيل والزَّوَال؛ لأنَّها أزَلِيَّة ، والأزَليُّ لا يَزُول ، وهذا الوَجْه أحَد الأصُ ل القَوِيَّة في إثْبات الخَير؛ لأنه - تبراك وتعالى - لمَّا حظضكظَم على زَيْد بالسَّعادة ، وعلى عَمْرو بالشَّقاوة ، ثمَّ قال : « لا مُبَدِّل لكلمات الله » لزم منه امْتِناع أنْ يِقْلِب السَّعيد شقّاً ، والشَّقِي سعيداً ، وهو مَعْنَى قوله - عليه الصلاة والسلام - : جَفَّ القَلَم بما هو كَائِنٌ إلى يَوْم القِيَامَة .

وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)

لمَّا أجاب عن شُبَهة الكُفَّار ، وبيَّن صحَّة نُبُوة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم بالدليل ، بيَّن بعد زوال الشُّبْهة ، وظهور الحُجَّة ، أنه لا يَنْبَغِي للعَاقِل أن يَلْتَفِت إلى كَلِمات الجُهَّال ، وهذه الآية الكريمة تَدُلُّ على أنَّ أكْثَر أهْلِ الأرْض كانوا ضُلالاً .
وقي إنَّهم جادّلُوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم والمُؤمنين في أكل المَيْتَة ، فقالُوا : تأكلون ما تَقْتُلون ، ولا تأكلون ما قَتَلَه اللَّه ، فقال الله - تعالى- : { وإن تُطِع أكْثر مَنْ فِي الأرْض }
أي : ان تُطِعْهُم في أكل المَيْتَة ، يُضِلُّوك عن سَبيل اللَّه ، أي : عن الطَّرِيق الحقِّ ، ثم قال : « غن يَتِّبِعُون إى الظَّنَّ » يريد : أنَّ دينَهُم الذي هُم عليه ظَنٌّ ، وهوى لم يأخُذُوه على بَصِيرة « وإنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُون » : يكْذِبُون في ادِّعاء القَطْع .
فصل في رد شبه نفاة القياس
تمسَّك نُفَاة القِيَاس بهذه الآية الكريمة؛ لأن اللَّه - تبارك وتعالى - بَالَغ في ذَمِّ الكُفَّار في كَثِير من آيَات القُرْآن العَظِيم بكونهم مُتَّبِعين للظَّن ، والشِّيء الذَّي جعله اللَّه - تبارك وتعالى - موجباً للذَّمِّ ، [ لا بد و ، يكون في أقْصَى مَراتِب الذَّمِّ ، والعمل بالقياس يُوجِب اتِّبَاع الظَّنِّ ، فوجب كَوْنه مَذْمُوماً ] محرماً لا يُقَال : لما ورد الدَّليل القَاطِع بكونه حُجَّة ، كان العمل به عملاً بِدَليل القَاطِع : إمَّا أن يَكُون عَقْلِيّاً ، أو سَمْعِياً ، والأوّلأ بَاطِل؛ لأنَّ العَقْل لا مَجَال له في أنَّ العمل بالقِيَاس جَائِزٌ ، أو غير جَائِز ، ولا سيَّما عند مَن يُنْكِر تَحْسين العَقْل وتَقْبيحه .
والثاني أيضاً بَاطِل؛ لأن الدَّلِيل السَّمْعِي إنَّما يكون قَاطِعاً لَوْ كان مُتَوَاتِراً ، وكانت الدَّلالة قَاطِعَ’ غير مُحْتَمَلة لوجه آخَر سوى هذا المَعْنَى الوَاحِد ، ولو حَصَل مِثُل هذا الدَّلِيل ، لعلم النَّاس بالضَّرُورةَ كون القِيَاس حُجَّة ، ولارتفع الخلاف فيه ، فَحَيْث لم يُوجَد ذلك ، عَلِمْنا أن الدَّليل القَاطِع على صحَّة القياس مفقُود .
الثاني : هب أنه الدَّليلُ القاطع على أن القياس حُجَّة ، إلاَّ أنَّ ذلك لا يتم العمل بالقياس إلاَّ مع اتِّباع الظَّنِّ؛ لأن التَّمسُّك بالقياس مَبْنَيُّ على مَقَامَيْن .
أحدهما : أن الحُكْم في محلِّ الوِفَاق معلِّلٌ بِكَذا .
والثاني : أن ذلك المَعْنَى حاصل في حلِّ الخلاف ، فهذهان المقامان إن كانَا مَعلُومَيْن على سَبيل القَطْع واليَقِين ، فهذا ممَّا لا خِلاف في صِحَّته بين العُقلاء ، وإن كان مَجْمُوعُهُمَا أو كان أحدهما ظَنِّيَّا؛ فحينئذٍ لا يتمُّ العمل بهذا القياسِ إلاَّ بِمُتَابَعة الظَّنِّ ، وحينئذٍ يدخل تحت النَّصِّ الدَّال على أنَّ متابعة الظّنِّ مَذْمُومة .
والجواب : لم لا يجوز أن يُقال : إن الظَّنِّ عبارىة عن الاعْتِقَاد الرَّاجِح إذا لم يُسْنَد إلى أمَارة ، [ وهو مثل اعتقاد الكُفَّار أمَّا إذا كان الاعْتِقَاد الرَّاجِحُ مستنداً إلى أمارة ]
فهذا الاعتقادِ لا يُسَمَّى ظنَّا ، وبهذا الطَّريق سَقَط الاسْتِدلال .

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)

في « أعلم » قولان :
أحدهما : أنَّها ليست للتَّقْضِيل ، بل بِمَعْنَى اسم فاعل في قوتهن كأنه قيل : إن ربَّك هو يَعْلَم .
قال الواحدي - رحمها لله- : « ولا يجوز ذلك؛ لأنَّه لا يطَابِق : وهو أعْلَم بالمُهتَدين » .
والثاني : أنَّها على بابها من التَّفْضِيل ، ثم اختلف هؤلاء في محلِّ « مَنْ » : فقال بعض البصْريِّين : هو جَرٌّ بحرف مُقَدَّر حُذِف وبقي عمله؛ قولة الدَّلالة عليه بِقَوْله : « وهو أعْلَمُ بالمُهْتَدين » وهذا ليس بِشَيء؛ لأنه لا يُحْذَف الجَارُّ ويبقى أثَرُه إلا في مواضع تقدَّم التَّنْبِيه عليها ، ما ورد بخلافها ، فضرورةٌ؛ كقوله : [ الطويل ]
2299- .. أشَارَتْ كُلَيْبٍ بالأكُفِّ الأصَابِعُ
وقوله : [ الكامل ]
2300- . ... حَتَّى تَبَذَّخَ فارْتَقَى الأعلامِ
الثاني : أنَّها في محلِّ نَصْب على إسْقاط الخَافِض؛ كقوله : [ الوافر ]
2301- تَمُرُّونَ الدِّيَارَ ولَمْ تَعوجُوا ..
قاله أبُو الفَتْح . وهو مَردُودٌ من وجهين :
الأول أن ذلك لا يطَّرِد .
الثاني : أن أفْعَل التَّفْضِيل لا تَنْصِبُ بِنَفْسِها؛ لضَعْفها .
الثالث : وهو قَوْل الكُوفيين - أنّه نصب بنفس أفْعَل ، فإنها عندهم تَعْمل عمل الفِعْل .
الرابع : أنها مَنْصُوبة بِفعل مُقَدَّر يدل عليه أفْعَل ، قاله الفَارسيُّ؛ وعلي خَرَّج قول الشاعر : [ الطويل ]
2302- أكَرَّ وأحْمَى لِلْحَقيقةِ مِنْهُمُ ... وأضْرَبَ مَنَّا بالسُّيُونفِ القَوَانِسَا
ف « القوانِس » نُصِب بإضمار فعلٍ ، أي : يَضْرِبُ القَوانِسَ؛ لأن أفَعَل ضَعِيفة كما تقرَّر .
الخامس : أنَّها مَرْفُوعة المحلِّ بالابْتِداء ، و « يَضِل » : خَبَره ، والجُمْلَة مُعَلِّقة لأفْعَل التَّفْضِيل؛ فهي محلِّ نَصْب بها؛ كأنه قيل : أعلم أيُّ النَّاسِ يَضِل كقوله : { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى } [ الكهف : 12 ] ، وهذا رأي الكسائِي ، والزَّجَّاج ، والمُبَرِّد ، ومَكّي ، وإلاا أن أبا حيَّان ردَّ هذا؛ بان التَّعْلِيق فرع ثُبُوت العمل في المَفْعُول به ، وأفْعَل لا يَعْمل فيه ، فلا يُعَلَّق .
والرَّاجِح من هذه الأقْوَال : نَصْبُها بمضمر ، وهو قول الفَارسيِّ ، وقواعد البصريين مُوافِقَةٌ لَه ، ولا يَجُوز ان تكون « مَنْ » في محلِّ جرِّ بإضافة أفْعل إليْها؛ لئلاً يلزم مَحْذُور عَظِيم ، وذلك أنَّ أفعل التَّفْضِيل لا تُضَاف إلاَّ إلى جنْسِها ، فإذا قُلْتَ : « زَيْد أعْلَم الضَّالِّين » لَزِم أن يكون « زَيْد » بَعْض الضَّالِّين ، أي : مُتَّصِفٌ بالضَّلال ، فهذا الوَجْه مُسْتَحيل في الآية الكريمة ، وهذا عند من قرأ « يَضِلُّ » يفتح حَرْف المُضارعة ، أمَّا من قرأ بضمِّه : « يُضِلّ » - وهو الحسن ، وأحمد بن أبي سُرَيْج- ، فقال أبُو البقاءِ : « يجُوز أن تكون » مَنْ « في موضع جرِّ بإضافة » أفعل « » إليها « .
قال : » إمَّا على مَعْنَى : هو أعْلَم المُضِلِّين ، أي : من يجد الضَّلال وهو من أضْلَلْتُه ، أي : وَجَدْته ضالاً؛ مثل أحْدَتُه ، أي : وَجَدته مَحْمُوداً ، أو بِمَعْنى : أنه يَضِلُّ عن الهدى « .

قال شهبا الدِّين : ولا حَاجَة إلى ارْتِكَاب مِثْل الأمَاكن الحَرِجة ، وكان قد عبَّر قَبْل ذلك بِعِبَارات اسْتَعْظَمتُ النُّطْق بها ، فَضَربْت عَنْها إلى أمْثِلةٍ من قوْلي ، والَّذِي تُحْملُ عليه هذه القراءة ، ما تقدّضم من المُخْتَار؛ وهو النَّصْب بِمُضْمَر ، وفاعل « يُضِلّ » على هذه القراءة : ضمير يَعُود على اللَّه - تعالى - على مَعْنَى : يَجِدُه ضالاً ، أو يَخْلُق فيه الضَّلال « لا يسأل عمَّا يَفْعَل » ويجُوز أن يكُون ضمير « مَنْ » أيْ : أعْلَم مَنْ يضِلُّ النَّاس ، والمَفْعُول مَحْذُوف ، وأمَّا على القراءة الشَّهيرة ، فالفَاعِل ضمير « مَنْ » فقط ، و « مَنْ » يجُوز أن تكُن موصُولة ، وهو الظَّاهر ، وأن تكون نَكِرة مَوْصُوفة ، ذكره أبثو البقاء .
فإن قيل هو « أعْلَم بالمُهْتَدِين » يوجب وقوع التَّفَاوت في عِلْم اللَّه ، وهو مُحَال؟
فالجواب : أن حُصُول التَّفَاوُت في علم اللَّه مُحَال ، إلاَّ أن المَقْصُود من هذا اللَّفْظِ :
العِنَاية بإظْهَار هداية المُهْتَدين فوق الهداية بإظهار ضلال الضَّالِّين ، ونظيرُه قوله تعالى- : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] فذكر الإحْسَان مَرَّتَيْن ، والإساءة مرَّة واحدة ، ومَعْنَى : قوله - تعالى- : { أَعْلَمُ بالمهتدين } أي : يُجَازي كُلاَّ بما يستحقُّونَ .

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)

في هذه الفَاءِ وجهان :
أحدهما : أنَّها جواب شَرْط مُقدَّر .
قال الزَّمخْشَريُّ بعد كلام : فقيل للمُسْلِمِين : إن كُنْتم مُتَحَقِّقِين بالإيمان ، فكُلوا [ وذلك أنَّهم كانوا يَقُلون للمُسْلِمين : إنَّكم تَزْعُمون أنَّكم تَعْبُدُون اللَّه ، فما قتله الله أحَقُّ أن تَأكُلُوا ممَّا قَتَلْتُمُوه أنْتُم ، وقال الله - تعالى - للمسلمين : { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ } .
والثاني : أنها عَاطِفَة على مَحْذُوف .
قال الواحدي : « ودخَلَت الفاءُ للعطْف على ما دلَّ عليه أوَّل الكلام ، كأنه قِيل : كونوا على الهُدَى ، فكُلُوا » . والظَّاهر : أنَّها عَاطِفة على ما تقدَّم من مَضْمُون الجُمَل المُتقدّمَة كأنه قيل : « اتَّبِعُوا ما أمركُم اللَّه تعالى من أكْلِ المُذَكَّى دون الميتة ، فكُلُوا » .
فإن قيل : إنهم كَانُوا يُبيحُون أكْل ما ذُبِح على اسْمِ اللَّه - تعالى - ، ولا يُنَازعون فيه ، وإنما النِّزاع في أنَّهم أيْضاً كَانُوا يُبِيحُون أكْل الميتة ، والمُسْلِمُون كَانُوا يَحْرِّمُونها ، وإذا كان كذلك ، كان وُرُود الأمْر بإبَاحة ما ذُكِر اسم الله عليه عِبْئاً ، لأنَّه يقتضي إثْبَات الحُكْم في المتَّفْقِ عليه ، وترك الحُكْم في المُخْتَلِف فيه .
فالجواب : لعلَّ القوم يحرِّمُون أكْل المُذَكَّاة ، ويُبِيحُون أكْل المَيْتَة ، فاللَّه- تبارك وتعالى - ردَّ عليهم في الأمْرَيْن ، فحكم بحلِّل المُذَكَّاة بقوله : { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ } وبتحريم المَيْتَة بقوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } [ الأنعام : 21 ] أو يُحْمل قوله : { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ } على أن المُرَاد : اجْعَلوا أكْلَكُم مقصوراً على ما ذكر اسْمُ الله عليه ، فيكون المَعْنَى على هذا الوجه ، تَحْرِيم أكْل المَيْتَة فقط .
قوله : « ومَا لَكُمْ » مُبْتَدأ وخبر ، وقوله : « ألاَّ تَأكُلوا » فيه قولان :
أحدهما : هو حَذْف حَرْف الجرِّ ، أيك أيُّ اسْتَقَرَّ في مَنْع الأكْل ممَّا ذكر اسْم اللَّه عليه؛ وهو قول أبي إسْحَاق الزَّجَّاج فلما حُذِفَتْ « في » جَرَى القولان المَشْهُوران ، ولم يذكر الزَّمَخْشَرِيُّ غير هذا الوجه .
الثاني : أنَّها في محل نَصْبٍ على الحالِ ، والتَّقْدير : وأيُّ شَيْء لَكُم تَاركين للأكْل ، ويؤيِّد ذلك وُقوع الحالِ الصَّريحة في مِثْل التَّركيب كَثِيراً ، نحو : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] إلاَّ أن هذا مَرْدُود بِوَجْهَيْن :
أحدهما : أنَّ « أنْ » تُخَلِّص الفِعْل للاسْتِقْبَال ، فكيف يَقَعُ ما بَعْدَها حالاً؟
والثاني : أنَّها مع ما بعدها مُؤوَّلة بالمصدر ، وهو أشْبَه بالمُضْمَرَات كما تقدَّم تحريره ، والحال إنَّما تكُون نكرة .
قال أبُو البقاء : إلاَّ أن يُقَدَّر حَذْفُ مُضاف ، فَيَجُوز ، أي : « وما لَكُم ذَوِي ألا تَأكلوا » وفي تَكَلُّ ، فمفعول « تَأكُلُوا » مَحْذوف بَقِيتْ صفَته ، تقديره : « شَيْئاً مما ذُكِر اسْمُ اللَّه » ويجُوز ألاَ يُراد مَفْعُول ، بل المُراد : ومَال لكُم ألا يقع منكم الأكْل ، وتكون « مِنْ » لابْتِدَاء الغَاية ، أي : أن لا تَبْتَدِئُوا بالأكْل من المَذْكُور عليه اسم اللَّه ، وزُعِم ، أنَّ « لاَ » مَزِيدة ، وهذا فَاسِدٌ؛ إذا لا داعِي لِزيَادتها .

قوله : « وقد فصَّل لَكُم ما حرَّم » قرأ ابْنُ كَثِير ، وأبُو عَمْرو ، وابنُ عَامِر : ببنائهما للمفعُول : ونافع ، وحفصٌ عن عاصم : ببنَائِهَما للفاعل ، وحمزة ، والكسَائِيُّ ، وأبُو بكر عن عاصم : ببناء الأوَّل للفاعل ، وبناء الثُّانِي للمَفْعُول ، ولم يأتي عكس هذه ، وقرأ عطيَّة العُوفيُّ كقراءة الأخَويْن ، إلاَّ أنَّه خفف الصَّاد من « فَصَّل » والقَائِم مقام الفاعل : هو المَوْصُول ، وعائده من قوله : « حرَّم عَلَيْكُم » . والفَاعِل في قراءة مَنْ بَنَى للفَاعِل ضمير اللَّه - تعالى - ، والجُمْلَة في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ .
فصل في المراد من الآية
قوله : « فَصَّل لَكُم ما حرَّم عَلَيْكُم » قال أكثر المُفَسِّرين : هو المُراد من قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير } في أوَّل المائدة [ الآية : 3 ] ، وفيه إشْكَالٌ ، وهو أنَّ سُورة الأنْعَام مَكيَّة ، وسُورة المائدة من آخر ما أنْزَل اللَّه - تعالى - بالمدينة ، فقوله : « فصَّل » يَجِبُ أن يكُون ذلك المُفَصَّل متقدِّماً على هذا المُجْمَل ، والمَدَنِيّ متأخِّر عن المَكِيّ ، فيمتنع كونه مُتقدِّماً ، ولقَائِل أن يقول : المُفَصّل : هو قوله - تبارك وتعالى- بعد هذه الاية الكريمة : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } [ الأنعام : 145 ] ، الآية ، وهي هو المُرَاد ، خُصُوصاً أن بعد هذه الآية بقليل ، إلا أنَّ هذا القَدْر من التَّاخير لا يمنع أن يكُون هو المُرَاد ، خُصُوصاً أن السُّورة نزلت دَفْعَة واحِدَة بإجْماع المُفَسِّرين على ما تقدَّم ، فيكون في حُكْم المُقارن .
قوله : « إلاَّ ما اضْطُرِرْتُم إليه » في الاسْتِثْنَاء وجهان :
أحدهما : أنَّه مُنْقَطِع ، قاله ابن عطيَّة والحُوفِي .
والثاني : أنه [ اسْتِثْنَاء ] متَّصِل .
قال أبو البقاء : « ما » في مَوْضِع نَصْبٍ على الاسْتِثْنَاء من الجِنْس من طريق المَعْنى؛ لأنه وبِّخَهُم بترك الأكل مِمَّا سُمِّي عليه ، وذلك يَتَضَمّن الإباحة مُطْلَقاً .
قال شهاب الدِّين : الأوَّل أوْضَح والاتِّصال قلق المَعْنَى ، ثم قال : « وقوله : » وقد فصَّل لَكُم ما حرَّم عليكم « أي : في حَالِ الاخْتِيَار ، وذلك حلالٌ حال الاضْطِرارِ » .
قوله : « وإنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّون » قرأ الكوفيُّون بضمِّ الياء ، وكذا الَّتِي في يُونس : { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ } [ الآية : 88 ] والباقون : بالفَتْح ، وسيأتي لذلك نَظَائِر في إبْراهيم وغيرها ، والقراءتان واضِحَتَان؛ فإنه يٌقال : ضلَّ في نَفْسَه ، وأضَلَّ غيره ، فالمَفْعُول مَحْذُوف على قراءة الكُوفيين : وهي أبْلَغ في الذَّمِّ ، فإنها تتضَّمن قُبْحَ فِعْلِهم ، حَيْث ضلوا في أنْفُسِهِم ، وأضَلُّوا غيرهم؛ كقوله - تعالى- : { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } [ المائدة : 77 ] .
قيل المُراد بِه : عمرو بن لُحَيّ فمن دُونه من المشركين الَّذين اتخذوا البَحَائِر والسَّوَائِب وقراءة الفَتح لا تُحوِجُ إلى حذف ، فرجَّحها بَعْضُهم بهذا وأيضاً : فإنهم أجْمَعُوا على الفَتْح في « ص » عند قوله :

{ إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله } [ 26 ] .
وقوله : « بِأهْوَائِهِم » متعلِّق ب « يَضِلُّونَ » والباءُ سَبَبيَّة ، أي : اتِّباعهم أهْواءَهم ، وشهواتهم .
وقوله : « بغير عِلْم » متعلِّق بِمَحْذُوف ، لأنه حالٌ ، أي : يَضِلُّون مُصَاحِبِين للجَهْلِ أي : مُلْتَبِسين بغير علمٍ .
فصل في المراد بالآية
قيل : المُرَاد : عمرو بن لُحَيّ كما تقدَّم؛ لأنَّه أول من غير دين إسماعيل .
وقال الزَّجَّاج : المراد منه الَّذِين يُحَلِّلُون المَيْتَة ، ويناظِرُونكم في إحلالها ، ويَحْتَجون عليهخا بقولهم لما أحَلَّ أنْتُم ، فَبأن يحلَّ ما يَذْبَحُه الله أوْلَى ، وكذلك كل ما يَضِلُّون فيه من عبادة الأوثان ، والطَّعن في نُبُوّة محمد صلى الله عليه وسلم وإنما يتِّبِعُون فيه الهوى والشَّهوة [ بغير عِلْمن وهذه الآية تدلُّ على أن التقليد حَرَام؛ لأنَّه قول بمحض الَوَى والشَّهءةوة ] ثم قال : « إنَّ رَبَّك هُوَ أعْلم بالمُهَْدين » أي : هو العالم بما في ضَمَائِرِهم من التَّعَدِّي ، وطلب نُصْرة البَاطِل ، والسَّعي في إخْفَاء الحقِّ ، وإذا كان عَالِماً بأحْوَالهم وقَادِراً على مجازاتهم فهو تعالى يجازيهم عليها والمقصُود منه التَّهْديدي والتخويف .

وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)

لما بين أنَّه فَصَّل المُحَرَّمات ، أتْبَعه بما يَجِبُ تَرْكُه بالكُلِّية ، والمُرَادُ به : ما يُوجِبُ الإثْمَ ، و هي الذُنُونب كُلُّها .
قال قتادة : المُراد « بِبَاطِنه وظَاهره » عَلانيته وسِرَّه .
وقال مُجَاهِد : ظاهرة مِمَّا يَعْمَلُه الإنْسَان بالجوارح من الذُّنُوب ، وباطنه : ما يَنْويه ويَقْصده بقلبه؛ كالمُصِرِّ على الذَّنْب .
وقال الكَلْبِيُّ : ظاهِره : الزِّنَا ، وبَاطنه المُخَالة ، وأكثر المُفَسِّرين على أنَّ ظَاهِره : الإعلان بالزِّنَا ، وهم أصْحاب الرَّايَات ، وباطنه : الاسْتِسْرَاء ، وكانت العرب يُحِبُّون الزِّنَا ، وكان الشَّرِيف يَسْتَسِرُّ به ، وغير الشَّريف لا يُبِالي به ، فَيُظْهره .
وقال سعيد بن جُبَيْر : ظاهر الإثْم : نكاح المحارم ، وباطنه الزِّنا .
وقال ابن زَيْد : ظاهره : التَّعرِّي من الثياب في الطَّواف والباطِن : الزِّنَا ، وروى حيَّان عن الكَلْبِي - رحمه الله - ظَاهِر الإثْم : طَواف الرِّجَال بالبّيْت نَهَاراً عُرَاةً ، وباطنه ، طَوَاف النِّسَاء باللَّيْل عُرَاة .
وقيل هذا النَّهي عامٌ في جميع المُحَرَّمات ، وهو الأصحُّ؛ لأن تَخْصِيص اللَّفظ العام بصُورة مُعَيَّنة من غَيْر دليل ، غير جائز ، ثم قال : « إنَّ الذين يَكْسِبُون الإثْم سَيُجُزون بِمَا كَانُوا يَقْتِرفُون » والاقْتِرَاف : الاكِتسَاب كما تقدَّم ، وظاهر النَّصِّ يدلُّ على أنَّه لا بُدَّ وأنْ يُعَاقب المُذنب على الذَّنب ، إلا أنَّ المُسْلِمين أجْمَعُوا على أنَّه إذا تاب ، ولم يُعاقب ، وأهْل السُّنَّة زادُوا شَرْطاً ، وهو أنَّه - تبارك وتعالى- قد يَعْفُو عن المُذْنِب؛ لقوله - تبارك وتعالى- : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] الآية .

وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

لما بين حِلَّ كُلِّ ما ذُبِح على اسْم اللَّه - تعالى - ذكر بعده تَحْرِيم ما لَمْ يُذْكَر اسْم اللَّه عليه ، ويَدْخُل فيه المَيْتَة ، وما ذُبح على ذِكْر الأصْنَام .
قال عضاء : كُل مَا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللَّه عليه من طعامٍ أو شرابٍ ، فهو حرام؛ لعُمُوم الآية :
وقال ابنُ عبَّاسٍ : الآية الكريمة في تَحْرِيم الميتات وما فِي مَعْناها ، ونُقِل عن عَطَاء الآية الكريمة ، وفي تَحْرِيم الذَّبَائح الَّتي كانُوا يَذْبحونها على اسْم الأصْنَام ، واخْتَلف العُلماء - رضي الله عنهم - في ذَبِيحَة المُسْلِم ، إذا لَمْ يُذْكَر اسم اللَّه علَيه .
فذهب قَوْمٌ إلى تَحْرِيمها سواءً ترك التَّسْمِيةَ عامداً أوْ نَاسِياً ، وهُوَ قَوْل ابن سيرين ، والشَّعْبِين وأحمد في رواية ، وطائفة من المُتَكَلِّمين لِظَاهر الآية الكريمة .
وذه قَوْم إلى تَحْلِيلها ، يُرْوَى ذلك عن ابْن عبَّاس ، وهُو قول مَالِك ، والشَّافِعي ، وأحْمَد في رِوَاية .
وذهب قوم إلى أنه إنْ ترك التَّسْمِية عامداً ، لم يحلِّ ، وإن تركها سَهْواً ، أحلت ، وهُو قَوْل الثَّوْري ، وأصْحاب الرَّأي ، ومَذْهَب أحمد .
ومن أبَاحَهَا ، قال : المُرَاد من الآية الكريمة : وما ذُبِح على غَيْر اسْم اللَّه؛ لقوله : « وإن لفسق » والفسق في غَيْر ذِكْر اسْم اللَّه؛ كما قال في آخر السُّورَة العَظِيمة : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } [ الأنعام : 145 ] إلى قوله { أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله } وأجمع المُسْلِمُون على أنَّه لا يُفَسَّق آكل ذَبيحَةِ المُسْلِم الذي ترك التَّسْمِية ، وأيضاً : وقوله - تعالى : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } وهذه المُنَاظَرَة إنَّما كانت في مَسْألة المَيْتَة على أنَّ المُشْركين قَالُوا للمسلمين : ما يَقْتله الصَّقْر والكَلْبُ تَأكُلُونَن ، وما يَقْتُله الله فلا تَأكُلُونَهُ ، وعن ابن عباسٍ : إنَّهم قالُوا : تأكلون ما تَقْتُلُونَه ، ولا تَأكُلُون ما يَقْتُله اللَّه - تعالى- ، وهذه المناظرات مَخْصُوصة بأكل المَيْتَة ، وقال تبارك وتعالى- : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } وهذا مَخْصُوص بِمَا ذُبِح على اسْم النُّصُب ، يعني : لو رَضِيتُم بهذه الذَّبيحة الَّتِي ذُبِحَ على اسْم الهديَّة للأوثان ، فقد رَضِيتُم بإلهيَّتِها فذلك يُوجِب الشِّرْك .
قال الشَّافعي : فأوَّل الآية الكريمة ، وإن كان عامَّا بحسب الصِّيغة ، إلاَّ أن آخِرَها لمَّا حَصَلتْ فيه هذه القُيُود الثلاثة ، علمنا أن المُرَاد من العموم : الخصوص ، وعن عائشة : رضي الله عنها- قالوا يا رسول الله إن هُنَا أقْوَاماً حَدِيثٌ عَهْدهم بِشِرْكٍ يأتُونَنَا باللَّحْم ، لا يُدْرَى يَذْكُرون اسْم اللَّه عليها أمْ لا ، قال : « اذْكُروا أنْتم اسْم اللَّه ، وكلوا » ولو كانت التَّسْمِية شَرْطاً للإبَاحَة ، كان الشكُّ في وُجودها مَانِعاً كالشكَّ في أصْل الذَّبْح .
قوله : « وإنَّه لَفِسْقٌ » هذه الجُمْلَة فيها أرْبَعَة أوْجُه :
أحدها : أنَّها مُسْتأنَفة ، قالوأ : ولا يَجُوز أن تكُون مَنْسُوقة على ما قَبْلَها؛ لأن الأولَى طلبيَّة ، وهي خَبَرِيَّة ، وتُسَمَّى هذه الواوُ ، واو الاسْتِئْنَافِ .

والثاني : أنَّها مَنْسُوقة على ما قَبْلَها ، ولا يُبَالَى بِتَخَلُفِهما ، وهو مَذْهَبُ سيبوَيْه ، وقد تقدَّم تَحْقِيق ذلك ، [ وقد أوْرَدْتُ من ذَلِك شَواهِد صالِحَة من شِعْر وغيره ] .
الثالث : أنَّها حاليَّة ، أي : « لا تَأكُلوه ، الحالُ : أنَّه فِسْق » وقد تبجَّح الإمام الرَّازي بهذا الوَجْه على الحَنَفيَّة ، حيث قَلَب دَليلَهُم عليهم بهذا الوَجْه ، وذلك أنَّهم يَمْنِعُون من أكْل مَتْروك التَّسْمِيَة ، والشَّافعيَّ’ لا يَمْنعَون منه استدل عيهم الحَنَفِيَّة بِظَاهِر هذه الآية .
فقال الرَّازي : هذه الجُملَة حاليَّة ، ولا يَجُوز أن تَكُون مَعْطُوفة لِتخَالُفِهَمَا طَلَباً وخبراً ، فتعيَّن أن تكون حاليَّة ، وإذا كان حاليَّة ، كان المعنى : « لا تَكُلُوه حال كَوْنهِ مُفَسَّقاً » ، ثم هذا الفِسْق مُجْمَل قد فَسَّره اللَّه تعالى في مَوْضِع آخرَرن فقال : « او فِسْقاً أهِلَّ لِغَير اللَّه به » يعني : أنه إذَا ذُكشر على الذَّبيحة غَيْر اسم اللَّه ، فإنَّه لا يَجُوزظ أكْلُها؛ لأنَّه فِسقٌ .
ونحن نقُول به ، ولا يَلْزَم من ذَلِك أنَّه إذا لم يُذْكر اسْم اللَّه ، ولا اسْم غيره ، أن تكون حَرَاماً؛ لأنه لَيْس بالتَّفْسِير الذي ذَكْرنَاه ، والنِّزاع فيه مُحَال من وُجُوه :
منها : أنّنا لا نُسَلِّم امْتِناع عَطْفِ الخَبَر على الطَّلَب ، والعَكْس ، كما قدَّمتُه عن سِيبوَيْه ، وإن سُلِّم ، فالواو للاسْتِئْنَاف ، كما تقدم ، وما بَعْدَها مُسْتأنفُ ، وإن سُلِّم أيضاً ، فلا نسلم أن « فِسْقاً » في الآية الأخرى مُبَيَّن للقِسق في هذه الآية ، فإن هذا لَيْس من بابِ المُجْمَل والمُبَيَّن؛ لأن له شُرُوطاً لَيْسَت مَوجُودَة هُنَا . وهذا الذي قاله مُشْتَمِلٌ من كلام الزَّمَخْشَرِي : فإنه قال :
فإن قُلْت : قد ذَهَبَ جماعة من المُجْتَهِدين إلى جَوازِ أكْل ما لَمْ يُذْكَر اسْم اللَّه عليه بِنِسْيَان أوْ عَمْد .
قلت : قد تأوَّله هؤلاء بالمَيْتَة ، وبما ذُكِر غَيْر اسْم اللَّه عليه؛ كقوله : « أو قِسْقاً أهلِّ لِغَيْر اللَّه به » فهذا أصْل ما ذكره ابن الخَطِيب وتبجَّ به والضَّمير في « أنَّه » يُحْتَمل أن يعُود على الأكْل المَدْلُول عليه ب « لا تأكُلُوا » ، وأن يعُود على الموصُول ، وفيه حنئيذٍ تأويلان :
أن تَجْعَل الموصُول نَفْس الفِسْق مبالغة .
أو على حَذْفِ مُضَافٍ ، أي : « وإنَّ أكله لَفِسْق » أو على الذكْر المَفْهُوم من قوله : « ذكر » قال أبوُ حيَّان : « والضَّمِ ] ر في » إنَّه « : يعُوج على الأكْل ، قاله الزَّمَخْشَري ، واقْتَصَر عليه » .
قال شهاب الدِّين - رحمه الله- : لم يَقْتَصِرْ عليه بل ذَكَر : أنَّه يحُوز أن يَعُوج على المَوصُول ، وذكر التَّأويلين المُتقدِّمين ، فقال : « الضَّمير راجع على مَصْدر الفِعْل الدَّاخل عليه حَرْف النَّهْي ، بمعنى : وإنَّ الأكل منه لَفِسْق ، أو على الموصُول على أنَّ أكْلَه لِفِسْق ، أو جعل ما لَمْ يُذكَر اسْمُ اللَّه عليه في نفس قِسْقاً » .

قوله : « وإنّ الشَّياطين ليوحون إلى أوليَائِهم » من المُشْركين لِيُخَاصِموا مُحمَّداً وأصحابه في أكْل المَيْتَ .
وقال عِكْرِمة : المراد بالشَّيَاطِين : مَرَدة المجُوس ، ليُوحون إلى أوْلِيَائِهم من مُشْرِكي قُرَيْش ، وذلك لأنَّه لما نزل تَحْريم المَيْتَة ، سَمِعه المجُوسُ من أهْل فَارِس ، فكتَبُوا إلى قُرَيش - وكانت بَيْنَهُم مُكَاتبة- أنَّ محمَّداً وأصاحابه يَزْعُمون أنَّهم يَتْبَعُون أمْ اللَّه - تعالى - ثم يَزعُمُون أن ما يَذْبَحُونه حلالاً ، وما يَذْبَحُه اللَّه حرامٌ فوقع في نَفْس ناسٍ من المُسْلِمين من ذلك ، فأنْزَل اللَّه هذه الآية الكَرِيمة .
قوله : « لِيُجَادِلُوكُم » متعلِّق ب « يُوحُون » أي : « يُوحُون لأجْل مُجَادَلَتِكم » ، وأصْل « يُوحُون » يُوحِيُون؛ فأعِلّ .
قوله : « وإن أطَعْتُمُوهم » قيل : إنَّ التَّوْطِئة للقسم ، فلذلك أجيب القسم المُقَدَّر بقوله : « إنكم لمُشْرِكُون » وحذف جواب الشَّرْط بِلَفْظِ الماضِي ، وهو ههنا كذلك ، وهو قوله : « وإنْ أطَعْتُمُوهُم » .
قال شهاب الدِّين : كأنه زعم : أنَّ جواب الشَّرْط هو الجُمْلَة من قوه : « إنَّكُم لَمُشْرِكُون » والأصل : « فإنكُم » بالفاء؛ لأنَّها جُمْلَة اسميَّة ، ثم حُذِفَت الفاء؛ لكون فِعْل الشَّرْط بِلَفْظِ المُضِيِّ ، وهذا لَيْس بِشَيء؛ فإن القَسَم مُقدَّر قَبْل الشَّرْط ويدُل على ذلك حَذْف اللاَّم المُوَطِّئَة قبل « إن » الشَّرْطية ، ولَيْس فِعْل الشَّرْط مَاضِياً؛ كقوله تعالى : { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ } [ الأعراف : 3 ] فَهَهُنَا لا يُمْكنه أن يقُول : إن الفاء مَحذُوفة؛ لأن فِعْل الشَّرْط مُضارعٌ ، وكأن أبا البقاء - والله أعلم- أخذ هذا من الحُوفيِّ؛ فإني رَأيْتُه فيه كما ذَكَرَهُ أبُو البقاء ، ورَدَّه أبُو حيَّان بنحو ما تقدم .
فصل في معنى الآية
والمَعْنَى : وإنْ أطعتُمُوهُم في استِحْلال المَيْتَة ، إنكم لَمُشْرِكُ ن ، وإنَّما سُمِّي مُشْرِكاً؛ لأنه أثْبَت حَاكِماً سِوَى اللَّه ، وهذا هو الشِّرك .
وقال الزَّجَّاج : وفيه دَلِيل على أنَّ كُلَّ مَنْ أحَلَّ شيئاً مما حرَّم اللَّه ، وحرَّم ما أحَلَّ اللَّه ، فهو مُشْرِك .

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)

لما ذكر تعالى في الآيَة الأولَى؛ أنَّ المُشْرِكين يُجَادِلُون المُؤمنين في دين الله - تعالى - ذكر مثلاً يدُلُّ على حَالِ المُؤمِن المهْتَدي ، وعلى حَالِ الكَافرِ الضال فبَيَّن أن المؤمن بِمَنْزِلة مَنْ كَانَ مَيْتاً؛ فَجُعِل حَيّاً بعد ذلك ، وأعْطِي نُوراً يَهْتَدِي به في مَصَالِحِه ، وأنَّ الكَافِر بمنْزِلَة المُنْغَمِس في ظُلُمَاتٍ لا خَلاصَ له مِنْهَا ، فيكون مُتَحَيِّراً دائماً .
قوله : « أو مَنْ كَانَ » تقدَّم أن الهَمْزَة يَجُوز أن تكُون مقدَّمة على حرف العطْفِ ، وهو رَأي الجُمْهُور ، وأن تكُون على حَالِها وبَيْنها وبيْن فِعْل مُضْمَر ، و « مَنْ » في محلِّ رفع بالابتداء ، و « كمَنْ » خَبَرْهُ ، وهي مَوْصُولة ، و « يمشي » في محلِّ نَصْب صِفَة ل « نُوراً » .
قال قتادة : أراد ب « النور » : كَتَاب اللَّه - تعالى - بيّنه مع المُؤمن ، بها يعمل ، وبها يَأخُذ ، وإليها يَنْتَهِي ، و « مَثَلُه » مُبْتَدأ و « فِي الظُّلُمات » : خَبَرُه ، والجُمْلَةُ صِلَةُ « مَنْ » الأولى و « ليس بِخَارج » في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من الموصُول ، أي : « مِثْل الَّذي اسْتَقَرَّ في الظُّلُمات حالً كَوْنه مُقِمياً فيها » .
وقال أبُو البقاء : « لَيْس بِخَارج في مَوْضِع الحَالِ من الضَّمِير في » منْها « ولا يَجُوز أن يكُون حالاً من الهَاءِ في » مَثَلُه « للفَصْل بَيْنَه وبيْن الحَال بالخبر » .
وجعل مَكِّي الجُمْلَة حالاً من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في « الظُّلُمات » وقرأ طَلْحَة بن مُصْرِّف : « أفَمَنْ كَانَ » بالفَاءِ بدل الواو .
فصل في المراد بالآية
اخْتَلَفُوا في هذه الآية الكَرِيمة على قَوْلَيْن :
أحدهما : أنَّها نزلت في رَجُلَيْن بأعْيَانِهِمَا .
قال ابْن عبَّاس - رضي الله عنهما- : « جَعَلْنَأ لَهُ نُوراً » يريد : حَمْزة بن عَبْد المُطَّلِب ، « كمن مَثَلُه في الظُّلُماتِ » يريد : أبا جَهْل بْن هِشَام ، وذلك أنَّ أبا جَهْل رَمَى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم بفَرْثٍ ، فأخْبِر حمزة بما فعل أبُو جَهْل وهو رَاجِعٌ من قُدومِهِ من صَيْدٍ ، وبِيَده قَوْس وحَمْزة لَمْ يؤمن بعد ، فأقبل غضْباناً حتى علا أبَا جَهْلٍ بالقَوْس ، وهو يَتَضَرَّع إلَيْه ، ويَقُول : أبا يَعْلى ، أما ترى ما جَاءً به ، سَفَّه عُقُولنا ، وسَبَّ آلهتنا ، وخالف آباءنا ، فقال حَمْزَة : ومن أسْفَه مِنْكُم ، تَعْبُدون الحِجَارة من دُونِ اللَّه؛ أشْهَدُ ألاّ إله إلاَّ الله وأشْهَد أنَّ محمَّداً عَبْده ورَسُوله ، فأنْزَل اللَّه الآية .
وقال الضَّحَّاك : نَزَلَت في عُمر بن الخَطَّاب ، وأبي جَهْل .
وقال عِكْرِمَة ، والكلبي : نزلت في عمَّار بن يَاسِر ، وأبي جَهْل .
وقال مُقَاتِل : نزلت في النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأبِي جَهْل ، وذلك أنَّه قال : زَاحَمَنا بنو عَبْد مَنَاف في الشَّرف ، حتى إذا صِرْنا كفرسي رهان قالوا : مِنَّا يُوحى إلَيْه ، والله لا نُؤمِنُ به إلاَّ أن يَأتِينَا وَحْي كما يَأتِيه ، فنزلت الآية الكريمة .

القول الثاني : أنَّ هذه الآية الكريمة عَامَّة في حقِّ المؤمنين والكَافِرين ، وهذا هو الحَقُّ؛ لأن تَخْصِيص العَامِّ بغير دَلِيل تحكُّم؛ وأيضاً : فلقولهم إن السُّورة نزلت دَفْعَةً واحدة ، فالقَوْل بأنَّ سَبَبَ هذه الآيَة الكريمة المُعَيَّنة كذا وكذا مُشْكل .
قوله : « كَذَلك زُيِّن » نعتُ لِمَصْدَر ، فقدَّره بَعْضُهم : « زُيِّن للكَافِرين تَزْيناً كما أحْيَيْنا المُؤمنين » وقدَّره آخرَرُون : « زين لِلْكَافرين تَزْييناً لكون الكَافرين في ظُلُمات مُقِيمين فيها » والفاعل المَحْذُوف من « زُيِّن » المنُوبُ عنه هو اللَّه - تعالى - ويجُوز أنْ يَكُون الشَّيْطَان ، وقد صرَّح بكُلِّ من الفَاعِليْن مَعَ لفظ « زيَّن » ، قال - تعالى - { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } [ النمل : 4 ] ، وقال - تعالى- { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } [ العنكبوت : 38 ] و « مَا كَانُوا يَعْمَلُون » : هو القَائِم مقام الفَاعِل ، و « ما » يَجُوز أن نُون مَوْصُولة اسميَّة أو حَرْفِيَّة أوْ نَكِرة مَوْصُوفة والعائدُ على القولِ الأولِ والثالث محذوفٌ ، دون الثاني عند الجُمْهورِ ، على ما عُرِفَ غير مرَّةٍ .
وقال الزجاجُ : « موضعُ الكافِ رفعٌ ، والمعنى : مثل ذلك الذي قَصَصْنا عليك ، زُيِّن للكافرين أعمالهم » .
فصل في بيان خلق الأفعال
دلّت هذه الآيةُ الكريمةُ على أن الكُفْر ، والإيمانَ من الله تعالى؛ لأن قوله « فَأحيَيْنَاهُ » وقوله : { وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس } كنايةٌ عن المعرفةِ ، والهدى؛ وذلك يدلُّ على أنَّ هذه الأمورَ من الله - تبارك وتعالى - والدلائلُ العقليةُ ساعدت على صِحَّتِه ، وهو دليلُ الداعي المتقدم .
وأيضاً فالعاقُل لا يختار الجهل ، والكفر لنفسه؛ فمن المحال أنْ يختارَ الإنسانُ جَعْلَ نَفْسِه كافراً جاهلاً ، فلما قصد لتحصيل الإيمانِ والمعرفةِ ، ولم يحصلء له ذلك ، وإنما حصل ضدُّه ، وهو : الكُفْرُ ، والجَهْلُ؛ علمْنَا أنَّ ذلك بإيجاد غَيْره .
فإن قيل : إنَّما اختاره لاعتقاده في ذلك الجهل ، أنَّه عِلْمٌ .
فالجواب : أنَّ حاصِلَ هذا الكلامِ أنه إنما اختار هذا الجهْلَ لسابقَةِ جَهْل آخر ، والكلام في ذلك الجَهْلِ السَّابِقِ كذلك إلى غَيْرِ نهاية ، فوجب الانتهاءُ إلى جَهْل يحصل فيه لا بإيجاده ، وهو المطلوبُ .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)

قيل « كذلك » نَسَقٌ على « كَذَلِكَ » قبلها ففيها ما فيها .
وقدَّرَهُ الزَّمْخَشَرِيُّ بأنّ معناه : « وكما جعلنا في مكَّةَ المشرفةِ صَنَاديدَهَا لِيَمْكُرُوا » يجوزُ أن تكون فيها ، كذلك جعلْنَا في كل قريةٍ أكابرَ مجْرِميها « واللامُ في » لِيَمْكُرُوا « يجوزُ أن تكون للعقاقبة؛ وأنْ تكونَ للعلَّة مَجَازاً ، و » جَعَلَ « تَصْييريَّة ، فتتعدَّى لاثنَيْنِ ، واختُلِف في تقديرهما : والصحيحُ أنء تكُونَ » فِي قَرْيةٍ « مَفْعُولاً ثايناً قُدِّم على الأوَّل ، والأولُ » أكابِر « مُضَافاً لمجرميها .
الثاني : أنَّ » فِي كُلَّ قَرْيَةٍ « مفعولٌ - مقدَّمٌ ، و » أكَابِر « هو الأول ، و » مُجْرِمِيهَا « بدلٌ من » أكَابِر « ؛ ذكر ذلك أبُو البقاء .
الثالث : أن يكُون » أكَابِر « معفولاً ثانياً قُدِّم ، و » مُجْرِيمها « مَفْعُولٌ أول أخِّر ، والتقديرُ : جَعَلءنا في كُلِّ قريةٍ مجرميها أكَابِرَ ، فيتعلق الجارُّ بنفسِ الفِعْلِ قبلهح ذكر ذلك ابنُ عَطِيَّة .
قال أبُو حيَّان : » وما أجَازَاهُ - يعني : أبَا البَقَاءِ ، وابنُ عَطيَّةَ0 خطأٌ وذهولٌ عن قاعدةٍ نَحْويَّةٍ ، وهي أنَّ أفْعَلَ التفضيلِ إذا كانت ب « مِنْ » مَلْفُوظاً بها ، أو مقدرةً ، أو مُضَافة إلى نِكَرَة كانت مُفردةً على كُل حالٍ ، سواءٌ كانت لمذكر ، أم مؤنث ، مُفْرَدٍ أم مُثَنى أمْ مَجْمُوعٍ ، وإذا ثُنِّيَتْ أو جُمِعَتْ أو أنِّثَتْ وطابَقَتْ ما هي له ، لَزِمَها أحَدُ أمْرَيْنِ : إمَّا الألف واللام ، وإمَّا الإضافة لمعرفة .
وإذا تقرَّرَ ذلك ، فالقولُ بكوْنِ « مُجْرِميهَا » بدلاً ، أو بكونه مفعولاً أول ، و « أكابر » مَفعولٌ ثانٍ- خَطَأٌ؛ لاسْتلْزام أنْ يبقى « أكَابِرَ » مَجْمُوعاً وليست في ألِفٌ ولامٌ ، ولا هِيَ مُضَافة لمعرفةٍ « . قال : » وقد تنبِّه الكرمَانِيُّ إلى هذه القاعدة فقال : أضَاف « أكَابِر » إلى « مُجْرِميها » لأن أفْعَلَ لا يُجْمَعُ إلاَّ مع الألفِ واللامِ ، أو مع الإضافة « .
قال أبُو حيَّان : » وكان يَنْبَغِي أنْ يُقَيَّد بالإضافة إلى معرفةٍ « .
قال شهابُ الدِّين : أما هذه القاعدةُ فمسلمة ، ولكن قد ذكر مكِّي مِثْلَ ما ذُكِر عن ابْن عَطيَّة سواء ، وما أظُنّه أخذ إلاَّ منه ، وكذلك الواحديُّ أيضاً ، ومنع أنْ تُجوَّز إضافةُ » أكَابر « إلى مجرميها » ؛ قال رحمه الله : « والآيةُ على التَّقْديمِ ، والتأخير تقديرُه : » جَعَلْنَاه مُجْرِميها أكَابر « ولا يجوز أن تكون الأكَابِر مضافةً؛ لأنه لا يتمُّ المعنى ، ويحتاجُ إلى إضْمار المفعول الثاني للجعل؛ لأنك إذا قلت : » جعلتُ زَيْداً « وسكتَّ لم يُفِد الكلامُ حتى تقول : رَئِيساً أو َلِيلاً ، أو ما أشبه ذلك ، ولأنَّك إذا أضَفْتَ الأكَابِر ، فقد أضَفْتَ النعتَ إلى المنعوت؛ وذلك لا يجوزُ عند البَصْريِّين » .

قال شهابُ الدِّين : هذان الوجْهَانِ اللذان ردِّ بهما الواحديُّ لَيْسَا بِشَيْءٍ .
أمَّا الأولُ فلا نسلم أنا نُضْمِرُ المعفول الثاني ، وأنه يَصِيرُ الكلامُ غيرَ مُفِيد ، وأمَّا ما أوْرَده من الأمْثِلَةِ ، فليس مُطَابِقاً؛ لأنَّا نقولُ : إنَّ المفعول الثَّانِي- هنا - مذكورٌ مصرّحٌ به ، هو الجارُّ والمجرورُ السابقُ .
وأما الثاني : فلا نُسَلِّم محذوفٌ ، قالوا : وتقديرُه : « جعلنا في كُلِّ قرية أكَابر مُجْرميها فُسَّقاً لِيَمْكُرُوا » وهذا لَيْس بِشَيءٍ؛ لأنه لا يحذفُ شيء إلاَّ لدليلٍ ، والدليلُ على ما ذكروه غيرُ واضحٍ .
وقال ابنُ عطيَّة : « ويقالُ أكابرة كما يقالُ أحْمر وأحَامِرةَ » ؛ قال الشاعر : [ الكامل ]
2303- إنَّ الأحَامِرَة الثَّلاثةَ أتْلَفَتْ ... مَالِي وَكُنْتُ بِهِنَّ قِدْماً مُؤْلَعاَ
قال ابو حيان : « ولا أعْلَمُ أحَداً أجاز في جَمْع أفْضَل أفَاضِلَة ، بل نَصَّ النحويون على أن : أفْعَل التَّفْضِيل يجمعُ للمذكَّرِ على الأفضَلِين ، أو على الأفاضل » .
قال شهابُ الدين : وهذه التاءُ يذكرها النحويونُ أنها تكون دَالَّةً على النسب في مِثْلِ هذه البنية ، قالوا : الأزَارَقَة ، والأشاعِثَة ، وفي الأزْرَقِ ورهطه ، والأشْعَث وبنيه ، ولي بقياسٍ ، ولَيْس هذا مِنْ ذلك في شَيْءٍ .
والجمهورُ على « أكَابِرَ » جَمْعاً .
وقرأ ابنُ مُسْلِم : « أكبر مجرميها » بالإفْرَادِ ، وهو جائِزٌ ، وذلك أنَّ أفعل التفضيل إذا أضيفت لمعرفة وأُريد بها غيرُ الإفْرَادِ ، والتذكير؛ جاز أنْ يُطابِق ، كالقراءةِ المشهُورةِ هنا ، وفي الحديث : « أحَسنكم أخلاقاً » وجاز أن يُفْرَج ، وقد أُجْمِعَ على ذلك في قوله : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس } [ البقرة : 96 ] .
فصل
قال الزجاجُ : إنما جعل المجرمينَ أكَابر لأنهم لأجْل رياستهم أقْدَر على المكْرِ [ والغدْرِ ] ، وترويج الأبَاطيل على الناسِ مِنْ غيرهم ، ولأن كثرة المالِ ، والجاهِ تحمل الغَدْرِ ، والمكْرِ ، والكَذِب ، والغَيْبةِ ، والنمِيمَةِ ، والإيْمانِ الكَاذِبَة ، ولو لم يكُنْ للمالِ والجَاهِ سِوَى أنَّ اللَّه- تبارك وتعالى- وصف بهذه الصفاتِ الذَّميمةِ مَنْ كان له مالٌ وجاه لكفى ذلك دَلِيلاً على خَسَاسَةِ المال والجاه .
قوله : { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } .
والمرادُ ما ذكره الله تعالى في قوله : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] .
واعلَمْ أنَّ سُنّة الله [ - تبارك و ] تعالى - أنه يجعلُ في كُلِّ قريةٍ اتباعَ الرسل ضاعفهم لقوله في قصة نُوح- عليه الصلاة والسلام- : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] وجعل فساقهم أكابرهم ليمْكُروا فيها ، وذلك أنهم أجْلَسُوا في كُلِّ طَريقٍ من طُرُقِ مكَّةَ [ المشرفَة ] أرْبَعَةً نَفَرٍ لِيصْرِفُوا النَّاسَ عن الإيمانِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم يقولُونَ لكل مَنْ يقدَمُ : إياكم وهذا الرجُلَ ، فإنه كَاهِنٌ ، ساحِرٌ ، كذََّابٌ .
وقولُه : { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ } [ لأنَّ وبال مَكْرِهمْ عليهم وهم ما يشعرون أنه كذلك .
قال المعتزلة : « وما يَمْكُرونَ إلاَّ بِأنْفُسِهمْ » ] مذكورٌ في مَعْرض التهديد ، والزَّجْرِ ، فلو كان ما قل هذه الآيةِ الكريمةِ ، يدلُّ على أنه تعالى ارادَ مِنْهم أنْ يمكرُوا بالناسِِ - فكَيْفَ يلِيقُ بالرَّحيم الحَكِيم أنْ يُريد منهم المَكْرَ ، ويخلقه فيهم ، ثُمَّ يُهَدِّدُهُمْ عليه ، ويعاقِبُهُمْ أشَدَّ العِقابِ ، ومعارضتُهم تقدَّمَتْ مِرَاراً .

وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)

قال المفسِّرُونَ : إنَّ الوليدَ بن المغيرةِ قال : والله لو كانت النُّبُوة حقاً لكنتُ أوْلَى بها مِنْك؛ لأني أكبرُ مِنْك سِنَّا ، وأكثرُ مِنْك مَالاً ، وولداً؛ فنزلت الآيةُ الكريمةُ .
وقال الضحاكُ : أرَادَ كُلُّ واحدٍ منهم أنْ يخصَّ بالوءحِي ، والرسالةِ؛ كما أخبر تعالى عنهم : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } [ المدثر : 52 ] فظاهر هذه الآية الكريمة التي نحن في تَفْسِيرها يدُلُّ على ذلك أيضاً ، وهذا يدلُّ على أنَّ جماعةً منهم كانوا يَقُولُونَ هذا الكلام .
وقال مُقَاتِلٌ : نزلَتْ في أبِي جَهْلٍ؛ وذلك أنَّه قال : زَاحَمَنَا بنُو عَبْدِ منافٍ في الشرف؛ حَتَّى إذَا صِرْنًا كَفَرسَيْ هانٍ ، قالوا مِنَّا نَبِيٌّ يُوحَى إليه ، والله لَنْ نُؤمِنَ به ، ولن نَتِّبعَهُ أبَداً؛ إلاَّ أنء يَأتِينَا وحي ، كما يَأتيه؛ فأنْزَل اللَّهُ - تبارك وتعالى - الآية .
وقوله : { لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله } .
فيه قولان :
أشهرهما : أن القومَ أرادُوا أنْ تحصُلَ لهم النبوةُ ، والرِّسَالَةُ ، كما حَصَلَتْ لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأنْ يكُونُوا مَتْبُوعِينَ لا تَابِعِينَ .
والوقول الثاني : نُقِل عن الحس ، وابن عبَّاس أن المعنى : وإذا جاءتُهْم آيةٌ من القرآنِ تأمُرهم باتباع النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : « لَنْ نُؤمِنَ لك حتَّى تَفْجُر لَنَا مِنَ الأرْض يَنْبُوعاً » إلى قوله : { حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } [ الإسراء : 93 ] مِنَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ- إلى أبي جَهْلٍ ، وإلى فلانٍ وفُلانٍ ، كتاباً على حدَةٍ؛ وعلى هذا فالتقديرُ ما طلبوا النبوة وإنَّما طلَبُوا انْ يَاتِيهُمْ بآياتٍ قَاهِرَةٍ مثل مُعْجزاتِ الأنْبياءِ المتقدمين؛ كي تدل على صِحًّة نبوّة محمدٍ- عليه الصَّلاة والسَّلام- .
قال المحقِّقُون : والأوَّلُ أقْوَى لأنَّ قولهُ تبارك وتعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } لا يَلِيقُ إلاَّ بالقولِ الأوَّلِ .
وقوله : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } فيه تنبيهٌ على أنَّ أقلَّ ما لا بُدَّ مِنْهُ في حُصُولِ النُّبُوةِ ، والرسالةِ؛ الباراءةُ عن المكْر ، والخَدِيعَةِ ، والغَدْر ، والغِلِّ ، والحَسَدِ وقولهم { لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله } عينُ المكرِ ، والغل والحسد؛ فكيف تحصلُ النبوةُ ، والرسالةُ مع هذه الصفات الذَّمِيمة؟ .
قوله تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } .
في « حَيْثُ » هذه وجهان :
أحدهما : أنَّها خرجتْ عن الظرفيَّة ، وصارت مَفْعُولاً بها على السِّعَةِ ، وليس العامِلُ « أعْلَمُ هذه ؛ لما تقدَّم مِنْ أنَّ أفْعَلَ لا تنصبُ المفعول به .
قال أبُو عَلِيّ : » لا يجوزُ أنْ يكُونَ العامِلُ في « حَيْثُ » : فِعلاً يدُلُّ عليه « أعْلَمُ » و « حَيْثُ » لا يكونُ ظَرْفاً ، بل يكونُ اسْماً ، وانتصابُه على المفعلول به على الاتِّساعِن وملُ ذلك في انتصابِ « حَيْثُ » على المفعولِ به اتساعاً قولُ الشَّمَّاخِ : [ الطويل ]

2304- وحَلأهَا عَنْ ذِي الأرَاكَةِ عَامِرٌ ... أخُو الخُضْرِ يَرْمِي حَيْثُ تُكْوَى النَّوَاجِزُ
ف « حَيْثُ » مفعولةٌ ، لأنه لي يُريدُ أنه يَرْمِي شَيْئاً حيث تكون النواجِز ، إنما يريدُ أنه يرمي ذلك الموضع « . وتبع الناسُ الفَارسيَّ على هذا القول .
فقال الحوفِيُّ : » لَيْسَتْ ظَرْفاً؛ لأنه تعالى لا يكُون فِي مكانٍ أعْلمَ منه في مكانِ آخر ، وإذَا لم تكن ظَرْفاً ، كان مَفْعُلاً بها؛ على السِّعَةِ ، وإذا كانت مَفْعُولاً ، لم يعملْ فيها « أعْلَمُ » ؛ لأن « أعْلَمُ » لا يعملُ في المفعولِ بهِ فيقدّرُ لها فِعْلٌ « وعبارةُ ابْنِ عطيَّة ، وأبِي البَقَاءِ نحو مِنْ هذا .
وأخذ البرِيزيُّ كلام الفارسيِّ [ فنقله ] ، وأنْشدَ البيتَ المتقدِّمَ .
والثاني : أنَّها باقيةٌ على ظَرْفِيَّتِهَا بطري المجاز ، وهذا القولُ لَيْسَ بشيءٍ ، ولكنْ أجَازَهُ أبُو حيَّان مختاراً له على ما تقدم .
فقال : » وما أجازُواه مِنْ أنَّهُ مفعولٌ به على السعة أو مفعولٌ به على غيْرِ السعة- تَأبَاهُ قواعِدُ النَّحْو؛ لأن النحويِّينَ نَصُّوا على أنَّ « حَيْثُ » مِنَ الظرُوفِ التي لا تتصرفُ ، وشذَّ إضافةُ « لَدى » إليها ، وجرِّها « بالياء » ، وب « في » ، ونصُّوا على أن الظرف المتوسَّعَ فيه لا يكونُ إلاَّ مُتَصرِّفاً ، وإذا كان كذلك ، امتنع نصبُ « حَيْثُ » على المفعُولِ به ، لا على السِّعَة ، ولا على غَيْرها .
والذي يَظْهَرُ لِي إقْرارُ « حَيْثُ » على الظَّرفيةِ المجازيَّةِ ، على أنْ يُضَمَّنَ « أعْلَمُ » مَعْنَى ما تيعدِّى إلى الظرفِ ، فيكون التقديرُ : « اللَّهُ أنْفَذُ عِلْماً حَيْثُ يجعلُ رِسَالاه » أي : « هو نافِذُ العلم في لاموضع الذي يجعل فيه رسالاته ، والظرف هنا مجازٌ كما قلنا » .
قال شهابُ الدِّين : قد ترك ما قاله الجمهورُ ، وتتابعوا عليه ، وتأوَّل شَيْئاً هو أعْظَم مما فَرَّ مِنْه الجمهورُ ، وذلك أنه ليزمه على ما قدَّر أنَّ عِلْمَ الله في نَفْسِه يتفاوت بالنسْبَة إلى الأمْكِنَة ، فيكونُ في مكانِ أبْعَدَ مِنْه في مكانٍ ، ودعواه مجازُ الظرفيَّةِ لا ينفعهُ؛ فيما ذكرته من الإشْكَال ، وكيف يُقَالُ مِثْلُ هذا؟ وقوله : « نَصَّ النحاةُ على عدم تصرُّفها » هذا معارضٌ- أيضاً- بأنهم نصُّا على أنها قد تتصرَّفُ بغير ما ذكر هو مِنْ كونها مجروةً ب « لَدَى » أو « إلى » أو « فِي » فمنه : أنها جاءت اسماً ل « إنَّ » في قوله الشاعر : [ الخفيف ]
2305-إنَّ حَيْثُ اسْتَقَرَّ مَنْ أنْتَ رَاجي ... هِ حِمًى فِيه عِزَّةٌ وأمَان
ف « حيثُ » اسمُ « إن » ، و « حِمًى » خبرُها ، أيْ : إنَّ مكاناً استقرَّ من أنتن راعية مكانٌ يحمي فيه العزُّ والأمانْ ومِنْ مَجِيئها مجروةً ب « إلى » قول القائل في ذلك : [ الطويل ]
2306- فَشَدَّ وَلَمْ يُنْظِرْ بُيُوتاً كَثِيرةً ... إلَى حَيْثُ ألْقَتْ رَحْلَهَا أمُّ قَشْعَمِ

وقد يجابُ عن الإشْكال الذي أوْرَدْتُه عليه ، بأنه لم يُرِدْ بقوله « أنْفَذُ عِلْماً » التفضيل ، وإنْ كان هو الظاهِرُ بل يُريد مُجَردَ الوصْفِ؛ ويدلُّ على ذلك قوه : أي هُوَ نَافِذُ العلمل في الموضع الذي يَجْعَلُ فيه رِسَالاته ، ولكن كان يَنْبَغِي أنْ يصرِّحَ بذلك ، فيقول : ولَيٍ المراد التفضيل .
وروي « حَيْثَ يَجْعَلُ » بفتح الثاء ، وفيها احتمالان :
أحدهما : أنها فتحةُ بناْءٍ؛ طَرْداً للباب .
والثاني : أنها فتحةُ إعرابٍ؛ لأنها معربةٌ في لغةِ بَنِي فَقْعس ، حكاها الكسَائِيُ .
[ وفي « حَيْثُ » سِتُّ لُغَاتِ : حَيْثُ : بالياء بتَثْلِيث الثاءِ ، وحَوْثُ : بالواو ، مع تَثْلِيث الثاء ] .
وقرأ ابنُ كثير ، وحَفْصٌ عن عَاصم « رسالَتَه » بالإفراد ، والباقون : « رِسَالاتِهِ » بالجمع ، وقد تقدَّم توجيهُ ذلك في المائدة؛ إلا أن بَعْضَ مَنْ قر هُناك بالجمْع- وهوحَفْصٌ- قرأ هنا بالإفْرادِ ، وبعضُ مَنْ قرأ هناك بالإفْرَادِ- وهو أبو عَمْرو ، والأخوانِ ، وأبُو بَكْرٍ ، عَنْ عاصم- قرأ هنا بالجمع ، ومعنى الكلام : « اللهُ أعْلَمُ بمَنْ هُوَ أحَقُّ بالرِّسالةِ » .
قوله : { سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله } قِيلَ : المرادُ بالصِّغَارِ ذلك وهوان يحصلُ لهم في الآخرة .
وقيل : الصغارُ في الدنيا ، وعذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة .
قوله : « عِنْدَ اللًّهِ » يجوزُ أنْ يَنْتَصِبَ ب « يُصِيب » ويجوز أن ينتصبَ ب « صَغَار » ؛ لأنه مصدرٌ ، وأجازُوا أن يكون صِفَةً ل « صغار » ؛ فيتعلق بمحذوفٍ ، وقدَّره الزجاجُ فقال : ثَابِتٌ عن الله تعالى « .
والصِّغارُ : الذلُّ والهوان ، يقالُ منه : صَغُر يَصْغَر صِغْراً فهو صغِيرٌ ، هذا قولُ اللَّيْثِ ، فوقع الفرقُ بين المعْنَيَيْنِ بالمصدرِ ، والفعلِ .
وقال غيره : إنه يُقالُ : صَغُر ، وصغَر من الذل .
والعِنْديَّةُ هنا : مجازٌ عن حَشْرِهم يوم القيامةِ ، أو عَنْ حُكمه وقضائه بذلك؛ كقولك : ثَبَتَ عند فلانٍ القاضِي ، أيْ : في حكمه ، ولذلك قدَّم الصَّغار على العذاب؛ لأنه يُصيبهُمْ في الدنيا .
و » بما كانوا « الباء للسببيّة أي : إنما يُصيبهم ذلك بسبب مَكْرِهم ، وكَيْدِهم ، وحَسَدِهم و » مَا « مصدرية ، ويجوز أ تكون معنى الذي .

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)

قال المفَسِّرُون : لمَّا نزلت هذه ، سُئِل رسُول الله صلى الله عليه وسلم عن شَرْح الصًّدر ، قال : « نُورٌ يَقْذِفُهُ الًّهُ - تعالى - في قَلْبِ المُؤمِن ، فَيَنْشَرحُ لهُ ويَنْفِسِحُ » قيل : فَهْل لذلك أمَارَةٌ .
قال : « نَعَم ، الإنَابَةُ إلى دارِ الخُلُودِ ، والتَّجَافِي عن دَارِ الغُرُور ، والاسْتِعْداد للموت قبل نُزُولِهِ » .
قوله : { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ } كقوله : « مَنْ يَشأ اللًّهُ يُضْلِلْه » و « مَنْ » يَجُوزُ أن تكُون مَرْفُوعة بالابتداء ، وأن تكون مَنْصُوبَةً بمقدِّرٍ بَعْدَهَا على الاشْتِغَال ، أي : مَنْ يُوَفِّق اللَّه يُرِدْ أن يَهْدِيَهُ ، و أنْ تكون مَنْصُوبَةً بمقدِّرٍ بَعْدَهَا على الاشْتِغَال ، أي : مَنْ يُوَفِّق اللَّه يُرِدْ أن يَهْدِيَهُ ، و « أنْ يَهْدِيَهُ » مَفْعُول الإرادَة ، والشَّرْح : البَسْطُ والسِّعَة ، قاله الليث .
وقال ابن قُتَيْبَة : « هو الفَتْحُن ومنه : شَرَحْتُ اللًّحم ، أي : فَتَحْتُه » وشرح الكلام : بَسَطَهَ وفتح مغْلَقَه ، وهو استِعَارةٌ في المَعانِي ، حَقِيقَةٌ في الأعْيَان . و « للإسْلام » أيك : لِقُبُولِهِ .
قوله : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } .
يجُوز أن يَكُون الجَعْلُ هنا بمعْنَى التَّصْيير ، وأن يَكُون بمَعْنَى الخَلْقِ ، وأن يكون يمعنى سَمًّى ، وهذا الثًّالثُ ذهب إليه المعتزلة ، كالفارسي وغيره من مُعْتَزِلَة النُّحَاةِ؛ لأن الله - تعالى - لا يُصَيِّر ولا يَخْلُق أحَداً كذا ، فعلى الأوًّلِ يكون « ضَيِّقاً مَفْعُولاً ثايناً عند مَنْ شدًّدَ يَاءَهُ ، وهم العَامَّة غَيْر بان كثير ، وكذلك عند مَنْ خَفًّفَها سَاكنَةً ، ويكون فِيهِ لُغتانِ : التًّثقيل والتَّخْفيفُ؛ كميِّت ومَيْت ، وهيِّن وهَيْنن .
وقيل : المخَفًّف مصدرُ ضاقَ يَضِيقُ ضيقاً ، كقوله - تعالى - { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ } [ النحل : 127 ] ، يقال : ضَاقَ يضيقُ ضَيْقاً بفتح الضًّادِ وكَسْرِها .
وبالكَسْر قرأ ابن كثير في النحل والنَّمْل ، فعلى جعله مصدراً يَجِيءُ فيه الأوْجُه الثلاثة في المصدرِ الواقع وَصْفاً ل » جُثًّة « ، نحو : » رجُلٌ عَدْلٌ « ويه حَذْفُ مُضَاف ، والمُبَالغَة ، أوْ وُقُوعه مَوْقع اسْم الفاعل ، أي : يَجْعَلُ صدره ذا ضيق ، أو ضَائقاً ، أو نَفْس الضِّيق؛ مُبالغةً ، والذي يَظْهَرُ من قارءة ابن كثير : أنه عِنْدهُ اسم صِفَةٍ مخَفًّف مِن » فَيْعل « وذلك أنَّه اسْتَغْرَب قراءَتَهُ في مَصْدَر هذا الفِعْلِ ، دُون الفَتْح في سُورة النًّحْل والنًّمْل ، فَلَوْ كان هذا عِنْدَهُ مَصْدَراً ، لكان الظَّاهرُ في قراءته الكَسْرَ كالموضِعَيْنِ المُشَارِ إليْهما ، وهذا من مَحَاسِنِ علم النَّحْو والقراءاتِ ، والخلافُ الجَارِي هُنَا جارٍ في الفُرقَانِ .
قوال الكسائي : » الضِّيِّق بالتًّشْديد في الأجْرَام ، وبالتًّخْفيف في المَعَانِي « .
ووزن ضيِّق : » فَيْعل « كميِّت وسيِّد عند جُمْهُور النَّحْويِّين ثم أدْغِم ، ويجوز تَخْفِيفُه كما تقدَّم تَحْريرُه .
قال الفَارِسي : » والياءُ الواوِ في الحَذْفِ وإن لم تَعْتَلَّ بالقَلْبِ كما اعتَلَّتِ الواوُ ، اتْبعِتِ اليَاءُ الواو في هذا؛ كما أتبعت في قولهم : « أتِّسَرَ » من اليُسْر ، فجُعِلَتْ بمنزلة اتَّعَدَ « .

وقال ابن الأنْبَاريّ : « الذي يُثَقِّل اليَاء يقول : وَزْنُه من الفِعْل » فَعِيل « والأصْل فيه ضَييق على مِثَال كَريم » و « نَبِيل » فجعلُوا اليَاءَ الأولى ألِفاً؛ لتحرَّكِها وانْفِتَاح ما قَبْلَها من حَيْثُ أعَلُّوا ضَاقَ يَضِيقُ ، ثم أسْقَطُوا الألِفَ بِسُكُونها وسُكُون ياء « فَعِيل » فأشْفَقُوا مِنْ أنْ يَلْتَبِس « فَعِيل » ب « فَعْل » فزادوا ياء على الياءِ ليكمل بها بِنَاء الحَرْفِ ، ويقعُ فيها قَرْقٌ بين « فَعِيل » و « فَعْل » .
والذين خَفًّفُوا اليَاءَ قالوا : « أمِن الَّبس؛ لأنَّه قد عُرِفَ أصْلُ هذا الحرفِ ، فالثِّقَةُ بمعْرِفته مَانِعَةٌ من الَّبْسِ » .
وقال البصريون [ وزنه من الفِعْل « فَيْعِل » ، فأدْغِمَت الياءُ في الَّتِي بَعْدَهَأ ، فَشْدِّدَ ثم جَاءَ التَّخْفِيفُ ، قال : وقد ردَّ الفَرَّاءُ وأصْحَابَهُ هذا على الَبصْريِّين ] وقالوا : « لا يُعْرَفُ في كلام العربِ اسمٌ على وَزن » فَيْعِل « يَعْنُون : بكسر العيْنِ ، إنما يُعْرَف » فَيْعَل « يعنون : بفتحها ، نحو : » صَيْقَل « و » هَيْكَل « فمتى ادّعَى مُدَّع في اسْم مُعْتَل ما لا يُعْرَفُ في السَّالِم ، كانت دَعْوَاهُ مردُودَةً » وقد تقدَّم تحْرِيرُ هذه الأقوال عِنْد قوله - تبارك وتعالى- : { أَوْ كَصَيِّبٍ } [ البقرة : 19 ] فليُراجَعْ ثَمًّةَ .
وإذا قُلْنَا : إنَّهُ مُخَفًّفٌ من المشدَّدِ؛ فهل المَحْذُوفُ اليَاء الأولى أو الثَّانِيَة « خِلافٌ مرَّت له نَظَائِرُهُ .
وإذا كانت » يَجْعَل « بمعنى : يَخْلُق ، فيكون » ضَيِّقاً « حالاً ، وإن كانَتْ يمعنى » سَمًّى « ، كانَتْ مفعُولاً ثانياً ، والكلام عليه بالنًّسْبَة إلى التَّشْدِيد والتَّخْفِيف ، وتقدير المَعَانِي كالكلام عليه أوّلاً .
و » حَرَجاً « حَرِجاً » بفتح الرَّاء وكَسْرها : هو المُتزايد في الضِّيق ، فهُو أخَصُّ من الأوَّل ، فكل حَرَج من غير عَكْس ، وعلى هَذَا فالمَفْتُوح والمكْسُور بمَعْنَى واحد ، يقال « رَجُل حَرِجٌ وحَرَحٌ » قال الشَّاعر : [ الرجز ]
2307- لا حَرِجُ الصِّدْرِ ولا عَنِيفُ ... قال الفراء - رحمه الله- : هو في كَسْرِه ونَصْبِه بمَنْزِلَة « الوَحَد » و « الوحِد » ، و « الفَرَد » و « الفَرِد » و « الدَّنِف » و « الدَّنِف » .
وفرَّق الزَّجَّاج والفرسيَّ بينهُمَا فقالا : « المَفْتُوح مَصْدر ، والمكْسُور اسْمُ فَاعِل » .
قال الزَّجَّاج : « الحَرَجُ أضْيَقُ الضِّيقِ ، فَمَنْ قال : رَجُلٌ حَرَجٌ - يعني بالفَتْح - فمعناه : ذُو حَرَجٍ في صَدْرِهِ ، ومن قال حِرِجٌ - يعني بالكَسْر - جعله فَاعِلاً ، وكذلك دْنف ودَنف » .
وقال الفارسي : « مَنْ فتح الرَّاء ، كان وصْفاً بالمصدر ، نحو : قَمَنْ وحَرَى ودنَف ، ونحو ذلك من المصادرِ التي يُوصَفُ بها ، ولا تكُون » كَبَطَل « لأن اسْم الفاعل في الأمْر العَام إنَّما على فَعِل » .

ومن قرأ « حِرجاً » - يعني بكسْر الرَّاء -فهو مثل « دَنِف وفَرِق بكَسْر العَيْن » .
وقيل : « الحَرَجُ بالفَتْح جمع حَرَجَة؛ كقَصَبَ وقَصَب ، والمكْسُور صِفَة؛ كذَنِف وأصل المادَّة من التَّشَابُك وشِدَّة التَّضَايُقِ ، فإنَّ الحَرَجة غَيْضَة من شَجَر السَّلَم ملتفة لا يَقْدِرُ أحَدٌ أن يَصِل إليها .
قال العجَّاج : [ الزجر ]
2308 - عَايَنَ حَيَّا كَالحِرَاجِ نَعَمُهْ ... الحِراج : جَمْع حِرْج ، وحِرْج جَمْع حَرَجَة ، ومن غَريب ما يُحكَى : أن ابْن عَبَّاس قرأ هذه الآية ، فقال : هل هُنَا أحَدٌ من بَنِي بَكْرِ؟ فقال رَجُلٌ : نعم ، قال : ما الحَرَجَة فِيكُم؟ قال : الوَادِي الكَثِير الشًّجَر المسْتَمْسِكُ؛ الذي لا طريقَ فيه . فقال ابن عبَّاس : » فَهَكَذَا قَلْبُ الكَافِرِ « هذه رواية عُبَيْج بن عُمَيْر . وقد حَكَى أبو الصَّلْت الثَّقْفِي هَذِهِ الحكَايَة بأطْوَال مِنْ هذا ، عن عُمَر بن الخطابِ ، فقال : قرأ عُمِر بن الخطَّابِ هذه الآية فقال : » ابْغُونِي رَجُلاً من بَنِي كِنَانَة ، واجْعَلُوه راعِياً « فأتوهُ به ، فقال لَهُ عُمر : » يا فتى ما الحَرََةُ فِيكُم « ؟ قال : » الحَرَجَةُ فِينَا الشًّجَرةُ تُحْدِقُ بها الأشْجَارٌ فلا تَصِلُ إليها رَاعِيةٌ ولا وَحْشيَّةٌ « . فقال عُمَر - رضي الله عنه- : » وكذلك قُلْبُ الكافر لا يَصِلُ إلهي شيءٌ من الخَيْرِ « .
وبعضهُم يحْكِي هذه الكاية عن عُمر - رضي الله عنه - كالمُنْتَصِر لمن قَرأ بالكَسْرِ قال : قرَأهَا بَعْضُ أصْحَاب عُمَر له بالكَسْر ، فقال : » ابْغُوني رجلاً من كِنَانَة رَاعِياً ، وليَكُون من بني مُدْلج « . فأتوه به ، فقال : » يا فَتَى ، ما الحَرَجَةُ تكُون عِنْدكُم « ؟ فقال : » شَجَرَةٌ تكُون بيْن الأشْجَار لا يَصِلُ إلَيْهَا رَاعِيَة ولا وَحِشِيَّة « . فقال : كذلِك قَلْبُ الكَافِر ، ولا يَصلُ إليه شيءٌ [ من الخَيْرِ ] .
قال أبو حيَّان : » وهذا تَنْبِيه - والله أعلم- على اشْتِقَاقِ الفِعْل من اسْم العَيْن « كاسْتَنْوقَ واستَحَجَر » .
قال شهاب الدين : لَيْس هذا من بابِ اسْتَنْوَقَ واسْتَحْجَرَ في شَيْءٍ؛ لأن هذا مَعْنَى مستَقِلٌّ ، ومادَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُتَصَرِّفَة ، نحو : « حَرِجَ يَحْرَجُ فهو حَرِجٌ وحَارِجٌ » بخلاف تِيكَ الألفاظ ، فإنَّ معناها يُضْطَرُّ فيه إلى الأخْذِ من الأسْمَاء الجَامِدَة ، فإن مَعْنَى قولك : استَنْوَقَ الجمل ، أي : « صار كالنَّاقِة » ، واسْتَحْجر والنَّاقَةِ ، وأنْتَ إذا قُلْتَ : حَرِج صَدْرُه لَيْس بِكَ ضَرورَة أن تَقُولك « ص كالحَرَجَةِ » بل مَعْنَاه : « تَزايد ضِيقُه » ، وأما تَشْبِيهُ عُمَر بن الخطَّاب ، فلإبْرَازه المَعَانِي في قوالِبِ الأعْيَانِ؛ مبالغة في البيانِ .
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم : « حَرِجاً » بكَسْر الراء والباقون : بفتحها وقد عُرِفَا ، فأمّا على قراءةِ الفَتْح ، فإن كان مَصْدراً ، جاءت فيه الأوْجُهُ الثلاثة المقدِّمَة في نَظَائِرِه ، وإن جُعِلَ صِفَ’ فلا تأويلَ .

ونَصْبُه على القراءتَيْن : إمَّا على كونِهِ نَعْتاً ل « ضَيِّقاً » ، وإمَّا على كَوْنه مَفْعُولاً به تعدَّد ، وذلك أنَّ الأفْعَال النَّواسِخَ إذا دَخَلَت على مُبْتَدأ وخبر ، كان الخبرانِ على حَالِهما ، فكما يَجُوز تعدُّدُ الخبر مُطْلقاً أو بتَأويل في المبتدأ والخبر الصَّريحَيْن ، كذلك في المَنْسُوخَيْن حين تَقُول : « زَيْدٌ كَاتِبٌ شَاعِرٌ فقيهٌ » ثم تقُول : ظنَنْتُ زيداً كِاتِباً شاعراً فِقِيهاً ، فتقول : « زَيْداً » مَفْعُول أوَّل ، « كاتباً » مَفْعُول ثانٍ ، « شَاعِراً » مفعول ثالث ، « فِقِيهاً » مَفْعُول رَابع؛ كما تَقُول : خبر ثانٍ وثالث ورابع ولا يَلْزَمُ من هذا أن يتعدًّى الفِعْل لثلاثة ولا أرْبَعَة؛ لأن ذلك بالنِّسْبَة إلى تَعَدُّد الألْفَاظِ ، فلِيْس هذا كقول : في : أعْلَمْتُ زيداً عمراً فلاضلاً ، إذا المَفْعُول الثُّالِثُ هناك لَيْس متكَرِّراً لشَيْء واحِدٍ؛ وإنما بَيًّنْتُ هذا لأن بَعْضَ النَّاسِ وهم في فَهْمِه ، وقد ظَهَر لك ممَّا تقدَّم أن قوله : « ضيِّقاً حَرَجاً » لي في تكْرَار .
وقال مَكِّي : « ومعنى حَرِجٌ- يعني بالكَسْرِ- كمعنى ضيِّق ، كرِّر لاخْتِلاف لفْظِه للتأكيد » .
قال شهاب الدِّين : إنما يكون للتَّأكيد حيث لم يَظْهَر بَيْنَها فَارِقٌ فَتَقُول : كُرِّر لاخْتِلاف اللًّفْظِ؛ كقوله : { صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 157 ] وكقوله : [ الوافر ]
2309- ... وَألْقَى قَوْلَهَا كَذِباً ومَيْنَا
وقوله : [ الطويل ]
2310- . ... وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ
وأما هُنَا فقد تقدَّم الفَرْقُ بالعُمُوم والخُصُوص أو غير ذَلِك .
وقال أبو البقاء : « وقيل : هو جَمْع » حَرَجَة « مثل قصبة وقَصَب ، والهاءُ فيه للمُبالغَة » .
قال شهاب الدين : « ولا أدْري كَيْفَ توهَّم كَوْنَ هذه الهاء الدَّالَّة على الوَحْدَةِ في مُفْرِدَ أسْمَاء الأجْنَاسِ؛ كثمرة وبُرَّة ونَبِقَة للمُبالغة ، كِهِي في رَوايةٍ ونَسَّابَة وفرُوقة؟
فصل في الدلالة من الآية
تمسَّك أهل السُّنَّةِ بهذه الاية الكَريمة في أن الهِدَاية والضَّلال مِنَ اللَّه - تعالى -؛ لأن لَفْظَهَا يدلُّ على المسألةِ ، ويدل على الدَّليل العَقْلِيّ المقتدّم في المسألةِ وهو العِلْمُ والدَّاعِي ، وبيانُه أن العَبْد قَادِرٌ على الإيمانِ والكَفْر ، وقُدْرَتُه بالنِّسْبَة إلى هَذَيْن الأمْرَيْن على السَّويَّة ، فيمتنع صُدُور الإيمان عَنْهُ بدلاً من الكُفْر ، أو الكُفْر بدلاً من الإيمانِ ، إلاَّ إذا حَصَلَ في القَلْبِ دَاعِيَةٌ إلَيْه ، وتلك الدَّاعِيةُ لا مَعْنَآ لها ، إلاَّ عِلْمُه أو اعتِقَادُه أو طَنُّه بِكَون ذلك الفِعْلِ مُشْتِمَلاً على مَصْلَحةٍ زائدة ، ومَنْفَعَةٍ رَاجَحَة ، فإذا حصل هذا المَعْنَى في قِلْبِهِ ، دَعَاه ذَلِكَ إلى فِعْل ذلك الشَّيْء ، وإن حَصَلَ في القَلْب عِلْمٌ أو اعْتِقَادٌ أوْ ظَنٌّ بكون ذلك الفِعْلِ مُشْتَملاً على مَفْسِدة رَاجِحَةٍ وصُور زَائِدَة ، دَعَاه ذَلِك إلى تركه ، وثبت أن حُصُولَ هذه الدًّواعِي لا بُدَّ وأن تَكُون من اللَّهِ- تعالى ، وإذا ثَبَتَ ذَلِك فنقول : يَسْتحِيلُ أن يَصْدُر إيمانُ عن العبْد إلاَّ إذا خَلَق اللَّهُ في قَلْبِهِ اعْتِقَاد أنَّ الإيمان رَاجِح المَنْقَعَةِ ، زائد المَصْلَحَةِ ، فحينئذٍ يميل قَلْبُهُ وتَرْغَب نَفْسُه في تَحْصِيله ، وهذا هو انْشِرَاحُ الصَّدرِ للإيمان ، فإن حَصَلَ في القَلْبِ أنَّه مَفْسدةٌ عَظِيمَةٌ في الدِّين والدُّنْيَا ، وأنه يُوجِب المَضَار الكَثِيرَة ، فحينئذ يَتَرتَّب على هذا الاعْتِقَاد نَفْرَة عَظِيمةَ عن الإيمان ، وهذا هُوَ المُرَادُ من أنَّه - تبارك وتعالى - يَجْعَل صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75