كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

فصل في المراد بالتسيير
ليس في الآية ما يدلُّ على أنَّ الأرض إلى أين تسير ، فيحتمل أن الله يسيِّرها إلى موضع يريده ، ولم يبيِّن ذلك الموضع لخلقه .
والحقُّ أنَّ المراد أنَّه يسيِّرها إلى العدم؛ لقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً } [ طه : 105-107 ] { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } [ الواقعة : 5 ، 6 ] { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] ، أي : لم يبق عليها شيء من الجبال ، والعمران ، والشَّجر « بَارِزةً » ظاهرة ليس عليها ما يسترها؛ كما قال : { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً } [ طه : 106 ، 107 ] .
وقال عطاء : « بَارِزةً » أبرزت ما في بطنها ، وقذفت الموتى المقبورين فيها ، أي بارزة البطن والجوف ، فحذف ذكر الجوف ، ودليله قوله تعالى : { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } [ الإنشقاق : 4 ] { وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا } [ الزلزلة : 2 ] وقال : { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً } [ إبراهيم : 21 ] .
{ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } أي : وحشرناهم أي : وجمعناهم للحساب ، فلم نترك من الأوَّلين والآخرين أحداً ، إلاَّ وجمعناهم لذلك اليوم .
قوله : { وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً } .
{ صَفًّا } : حال من مرفوع « عرضوا » وأصله المصدرية ، يقال منه : صفَّ يصفُّ صفًّا ، ثم يطلق على الجماعة المصطفِّين ، واختلف هنا في « صفًّا » : هل هو مفرد وقع موقع الجمع؛ إذ المراد صفوفاً؛ ويدل عليه الحديث الصحيح : « يجمعُ الله الأوَّلين والآخرينَ في صعيدٍ واحدٍ صفوفاً » وفي حديث آخر : « اهلُ الجنَّة مائةٌ وعشرون صفًّا ، أنتم منها ثمانون » .
ويؤيده قوله تعالى : { يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ غافر : 67 ] أي أطفالاً . وقيل : ثَمَّ حذف ، أي : صفًّا صفًّا ، ونظيره قوله في موضع : { وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] . وقال في آخر : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً } [ النبأ : 38 ] يريد : صفًّا صفًّا؛ بدليل الآية الأخرى ، فكذلك هنا ، وقيل : بل كل الخلائق تكون صفًّا [ واحداً ] ، وهو أبلغ في القدرة ، وأمَّا الحديثان فيحملان على اختلاف أحوالٍ؛ لأنه يوم طويل ، كما شهد له بقوله { كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] فتارة يكونون فيه صفًّا واحداً ، وتارة صفوفاً .
وقيل : صفًّا أي : قياماً؛ لقوله تعالى : { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ } [ الحج : 36 ] أي قياماً .
قوله : { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } على إضمار قول ، أي : وقلنا لهم كيت وكيت .
وتقدَّم أن هذا القول هو العامل في قوله { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال } [ الكهف : 47 ] . ويجوز أن يضمر هذا القول حالاً من مرفوع « عُرِضُوا » ، أي : عرضوا مقولاً لهم كذا وكذا .
قوله : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ } : أي : مجيئاً مشبهاً لخلقكم الأول حفاة ، عراة غرلاً ، لا مال ، ولا ولد معكم ، وقال الزمخشري : « لقَدْ بَعثْنَاكُم كَمَأ أنْشَأناكُمْ أوَّل مرَّة » فعلى هذين التقديرين ، يكون نعتاً للمصدر المحذوف ، وعلى رأي سيبويه : يكون حالاً من ضميره .

قوله : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } .
ليس المراد حصول المساواة من كل الوجوه؛ لأنهم خلقوا صغاراً ، ولا عقل لهم ، ولا تكليف عليهم ، بل المراد أنَّه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين على فقراء المؤمنين بالأموال والأنصار : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي حفاة ، عراة ، بغير أموال ، ولا أعوانٍ ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } [ الأنعام : 94 ] .
ثم قال تعالى : { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } أي كنتم مع التعزُّز على المؤمنين بالأموال والأنصار ، تنكرون البعث ، فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا ، وشاهدتم أنَّ البعث والقيامة حقٌّ .
قوله : { أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } « أنْ » هي المخففة ، وفصل بينها وبين خبرها؛ لكونه جملة فعلية متصرفة غير دعاءٍ بحرف النفي ، و « لكم » يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً للجعل بمعنى التصيير ، و « مَوْعداً » هو الأول ، ويجوز أن يكون معلَّقاً بالجعل ، أو يكون حالاً من « مَوعِداً » إذا لم يجعل الجعل تصييراً ، بل لمجرد الإيجادِ .
و « بَلْ » في قوله : « بَل زَعَمتُمْ » لمجرَّد الانتقالِ ، من غير إبطالٍ .
قوله : { وَوُضِعَ الكتاب } : العامة على بنائه للمفعول ، وزيد بن عليٍّ على بنائه للفاعل ، وهو الله ، أو الملك ، و « الكِتاب » منصوب مفعولاً به ، و « الكتابُ » جنس للكتب؛ إذ من المعلوم أنَّ لكلِّ إنسانٍ كتاباً بخصُّه ، وقد تقدَّم الوقف على « مَا لهذا الكتابِ » وكيف فصلت لام الجرِّ من مجرورها خطًّا في سورة النساء عند { فَمَا لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } [ النساء : 78 ] .
و « لا يُغَادِرُ » جملة حالية من « الكتاب » . والعامل الجار والمجرور؛ لقيامه مقام الفعل ، أو الاستقرار الذي تعلق به الحال .
قوله : « إلاَّ أحْصَاهَا » في محل نصب نعتاً لصغيرة وكبيرة ، ويجوز أن تكون الجملة في موضع المفعول الثاني؛ لأنَّ « يُغَادِرُ » بمعنى « يترك » و « يتركُ » قد يتعدَّى لاثنين؛ كقوله : [ البسيط ]
3536- . ... فَقدْ تَركْتُكَ ذَا مَالٍ وذَا نَشبِ
في أحد الوجهين .
روى أبو هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « يُحشَرُ النَّاس على ثلاثِ طرائقَ رَاغبينَ رَاهبينَ ، فاثْنانِ على بَعيرٍ ، وثَلاثةٌ على بَعيرٍ ، وأرْبعةٌ على بَعيرٍ ، وعَشرةٌ على بَعيرٍ ، وتَحشُرَ بقيَّتهُم النَّارُ ، تَقيلُ مَعهُمْ ، حَيْثُ قَالُوا ، وتَبِيتُ معهم؛ حيث باتوا ، وتُصْبِحُ معهم ، حيث أصبحُوا ، وتمسي معهم ، حيث أمسوا » .
وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : « قلت : يا رسول الله كيف يُحْشَر النَّاسُ يوم القِيامة؟ قال : حُفاةً عُراةً ، قالت : قلتُ : والنِّساء؟ قال : والنِّساء ، قالت : قلت : يا رسول الله ، أستحي ، قال : يا عائشة ، الأمر اشدُّ من ذلك؛ أن يهمهم أن ينظر بعضهم لبعض » .
وقيل : توضعُ بين يدي الله عزَّ وجلَّ ، { فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ } خائفين { مِمَّا فِيهِ } في الكتاب من الأعمال الخبيثة ، كيف تظهر لأهل الموقف ، فيفتضحون { وَيَقُولُونَ } إذا رأوها : { ياويلتنا } يا هلاكنا ، والويلُ والويلة : الهلكة ، وكأنَّ كلَّ من وقع في مهلكة ، دعا بالويل ، ومعنى النِّداء تنبيه المخاطبين .

{ مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } من ذنوبنا .
قال ابن عباس : الصَّغيرة : التبسُّم ، والكبيرة : القهقهة .
قال سعيد بن جبير : الصغيرة : اللَّمم ، [ والمسُّ ، و القبلة ] ، والكبيرة : الزِّنا .
{ إِلاَّ أَحْصَاهَا } وهو عبارة عن الإحاطة ، أي : ضبطها وحصرها ، وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة ، على تقدير أنَّ المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة .
قال - عليه الصلاة والسلام - : « إيَّاكُم ومحقِّرات الذنوب؛ فإنَّما مثلُ محقِّرات الذنوب؛ فإنَّما مثلُ محقِّراتِ الذُّنوب مثل قوم نزلوا ببطنِ وادٍ ، فجاء هذا بعودٍ ، وجاء هذا بعودٍ ، وجاء هذا بعودٍ ، حتَّى أنضجوا خبزتهم ، وإنَّ محقِّراتِ الذنوب لموبقاتٌ » .
{ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } مكتوباً في الصَّحيفة .
{ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } لا ينقص ثواب أحدٍ عمل خيراً .
وقال الضحاك : لم يؤاخذ أحداً بجرم لم يعمله .
فصل في الرد على المجبرة
قال الجبائي : هذه الآية تدلُّ على فساد قول المجبرة في مسائل :
أحدها : أنه لو عذَّب عباده من غير ذنب صدر منهم ، لكان ظالماً .
وثانيها : أنه لا يعذِّب الأطفال بغير ذنب .
وثالثها : بطلان قولهم : لله أن يفعل ما شاء ، ويعذِّب من غير جرم؛ لأنَّ الخلق خلقه ، إذ لو كان كذلك ، لما كان لنفي الظلم عنه معنى؛ لأنَّ بتقدير أنه إذا فعل أي شيءٍ ، لم يكن ظلماً منه؛ لم يكن لقوله : « إنَّه لا يظلمُ » فائدة .
فإن قيل : أيُّ فائدة في ذلك؟ .
فالجواب عن الأوَّل بمعارضة العلم والدَّاعي .
وعن الثاني : أنَّه تعالى ، قال : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] ولم يدلَّ هذا على أنَّ اتخاذ الولد يصحُّ عليه ، فكذلك ها هنا .

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)

قوله : { وَإِذَا قُلْنَا للملاائكة اسجدوا لآدَمَ } الآية .
اعلم أنَّ المقصود في الآياتِ المتقدِّمة الردُّ على الذين افتخروا بأموالهم ، وأعوانهم على فقراء المسلمين ، وهذه الآية المقصود من ذكرها عين هذا المعنى؛ وذلك : أنَّ إبليس ، إنما تكبَّر على آدم؛ لأنَّه افتخر بأصله ونسبه ، فقال : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 13 ] فأنا أشرف منه أصلاً ونسباً ، فكيف أسجد له ، وكيف أتواضع له؟ وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المؤمنين بهذه المعاملة ، فقالوا : كيف نجالسُ هؤلاء الفقراء ، مع أنَّا من أنساب شريفة ، وهم من أنساب نازلة ، ونحن أغنياء ، وهم فقراء؟ فذكر الله هذه القصة؛ تنبيهاً على أنَّ هذه الطريقة بعينها طريقة إبليس ، ثم إنه تعالى حذَّر عنها ، وعن الاقتضاء بها في قوله : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ } ، وهذا وجه النظم .
قوله : { وَإِذَا قُلْنَا } : أي : اذكر .
قوله : { كَانَ مِنَ الجن } فيه وجهان :
أحدهما : أنه استئناف يفيد التعليل؛ جواباً لسؤال مقدَّر .
والثاني : أن الجملة حالية ، و « قَدْ » معها مرادة ، قاله أبو البقاء .
قوله : « فَفسَقَ » السببية في الفاء ظاهرة ، تسبَّب عن كونه من الجنِّ الفسقُ ، قال أبو البقاء : إنما أدخل الفاء هنا؛ لأنَّ المعنى : « إلاَّ إبليس امتنع ففسق » . قال شهاب الدين . إن عنى أنَّ قوله « كان من الجنِّ » وضع موضع قوله « امْتنعَ » فيحتمل مع بُعده ، وإن عنى أنه حذف فعلٌ عطف عليه هذا ، فليس بصحيحٍ؛ للاتغناء عنه .
قوله : « عَنْ أمْر » « عَنْ » على بابها من المجاوزة ، وهذ متعلقة ب « فَسقَ » ، أي : خرج مجاوزاً أمر ربِّه ، وقيل : هي بمعنى الباء ، أي : بسبب أمره؛ فإنه فعَّالٌ لما يريدُ .
قوله : « وذُرِّيتهُ » يجوز في الواو أن تكون عاطفة ، وهو الظاهر ، وأن تكون بمعنى « مع » و « مِنْ دُونِي » يجوز تعلقه بالاتِّخاذ ، وبمحذوف على أنَّه صفة لأولياء .
قوله : { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } جملة حالية من مفعول الاتخاذ أو فاعله ، لأن فيها مصححاً لكلٍّ من الوجهين ، وهو الرابط .
قوله : « بِئْسَ » فاعلها مضمرٌ مفسَّر بتمييزه ، والمخصوص بالذمِّ محذوف ، تقديره : بِئْسَ البدل إبليس وذرِّيتهُ . وقوله « للظَّالمينَ » متعلق بمحذوفٍ حالاً من « بَدلاً » وقيل : متعلق بفعل الذمِّ .
فصل في الخلاف في أصل إبليس
اعلم أنه تعالى بيَّن في هذه الآية أنَّ إبليس كان من الجنِّ ، وللنَّاس في الآية أقوالٌ :
الأول : قال ابن عبَّاس : كان من حيٍّ من الملائكةِ ، يقال لهم الحنُّ ، خلقوا من نار السَّموم ، وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجنِّ ، لقوله : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } [ الصافات : 158 ] وقوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن } [ الأنعام : 100 ] وسمِّي الجن جنًّا؛ لاستتارهم ، والملائكة داخلون في ذلك .

وأيضاً : فإنه كان خازن الجنة ، فنسب إلى الجنَّة؛ كقولهم : كوفيٌّ ، وبصريٌّ .
وعن سعيد بن جبير ، قال : كان من الجنَّانين الذين يعملون في الجنان ، وهم حيٌّ من الملائكة ، يصوغون حلية أهل الجنة منذ خلقوا .
رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبيرٍ .
وقال الحسن : كان من الجنِّ ، ولم يكن من الملائكةِ ، فهو أصل الجنِّ ، كما أنَّ آدم أصل الإنس .
وقيل : كان من الملائكة ، فمسخ وغيَّر ، وكما يدلُّ على أنه ليس من الملائكة قوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } والملائكة ليس لهم نسلٌ ، ولا ذرِّيَّة .
بقي أن يقال : لو لم يكن من الملائكة ، لما تناوله الأمر بالسجود ، فكيف يصحُّ استثناؤه منهم؟ .
تقدَّم الكلام على ذلك في البقرة .
ثم قال تعالى : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } .
قال الفراء : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } ، أي : خرج من طاعته ، تقول العرب : فسقتِ الرطبة عن قشرها ، أي خرجت ، وسميت الفأرة فويسقة؛ لخروجها من جحرها .
قال رؤبة : [ الرجز ]
3537- يَهْويْنَ في نَجْدٍ وغَوْراً غَائِرَا ... فَواسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوائِرَا
وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه ، أنه قال : لما أمر فعصَى ، كان سبب فسقه هو ذلك الأمر ، والمعنى : أنه لولا ذلك الأمر السابق ، لما حصل ذلك الفسق ، فلهذا حسن أن يقال : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } كقوله : { واسأل القرية التي كُنَّا فِيهَا } [ يوسف : 82 ] .
ثم قال : « أفَتَتَّخِذُونَهُ » يعني : يا بني آدم { وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } ، أي : أعداء .
روى مجاهد عن الشعبيِّ قال : إنِّي قاعدٌ يوماً؛ إذ أقبل رجل فقال : أخبرني ، هل لإبليس زوجة؟ قال : إنَّه لعرسٌ ما شَهدتُّه ، ثُم ذكرتُ قول الله عزَّ وجلَّ : { أفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } فعلمت أنَّه لا يكون ذريَّة إلا من زوجة ، فقلت ، نعم .
وقال قتادة : يتوالدون ، كما يتوالد بنو آدم .
وقيل : إنَّه يدخل ذنبه في دبره ، فيبيض ، فتنفلق البيضة عن جماعة من الشَّياطين .
ثم قال : { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } .
قال قتادة : بئس ما استبدلوا طاعة إبليس ، وذريته بعبادة ربِّهم .
قوله : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات } : أي : إبليس وذريته ، أو ما أشهدت الملائكة ، فكيف يعبدونهم؟ أو ما أشهدت الكفار ، فكيف ينسبون إليَّ ما لا يليق بجلالي؟ أو ما أشهدت جميع الخلقِ .
وقرأ أبو جعفر ، [ وشيبة ] والسختياني في آخرين : « ما أشهدناهم » على التعظيم .
والمعنى : ما أحضرناهم { خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } أي : ولا أشهدت بعضهم خلق بعض ، يعني : ما اشهدتهم؛ لأعتضد بهم .
قوله : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } أي : ما كنت متَّخذهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ بياناً لإضلالهم؛ وذمًّا لهم وقوله : « عَضُدًا » أي : ما كنت متَّخذهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ بياناً لإضلالهم؛ وذمَّا لهم وقوله : « عَضُداً » أي : أعواناً .
قال ابن الخطيب : والأقرب عندي أنه الضمير الرَّاجع على الكفَّار الذين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء ، لم نؤمن بك ، فكأنه - تعالى - قال : إنَّ هؤلاء الذين أتوا بالاقتراح الفاسد ، والتعنُّت الباطل ، ما كانوا شركاء في تدبير العالم؛ لأنِّي ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ، ولا خلق أنفسهم ، ولا أعتذد بهم في تدبير الدنيا والآخرة ، بل هم كسائر الخلق ، فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟ .

ويؤكِّد هذا أن الضمير يجب عوده على أقرب مذكور ، وهو هنا { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } .
قوله : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } وضع الظاهر موضع المضمر؛ إذ المراد ب « المُضلِّينَ » من نفى عنهم إشهاد خلق السموات ، وإنما نبَّه بذلك على وصفهم القبيح .
وقرأ العامة « كُنْتُ » بضمِّ التاء؛ إخباراً عنه تعالى وقرأ الحسن ، والجحدري ، وأبو جعفر بفتحها؛ خطاباً لنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - { مُتَّخِذاً المضلين } نوَّن اسم الفاعل ، ونصب به ، إذ المراد به الحال ، أو الاستقبال .
وقرأ عيسى « عَضْداً » بفتح العين ، وسكون الضاد ، وهو تخفيف سائغ ، كقول تميمٍ : سبْع ورجْل في : سبُعٍ ورجُلٍ وقرأ الحسن « عُضداً » بالضم والسكون؛ وذلك أنه نقل حركة الضاد إلى العين بعد سلب العين حركتها ، وعنه أيضاً « عضداً » بفتحتين ، و « عضداً » بضمتين ، والضحاك « عضداً » بكسر العين ، وفتح الضاد ، و هذه لغات في هذا الحرف .
والعضدُ من الإنسان وغيره معروف ، ويعبِّر به عن العون والنصير؛ يقال : فلان عضدي ، ومنه { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } [ القصص : 35 ] أي : سنقوِّي نصرتك ومعونتك .
قوله : { وَيَوْمَ يَقُولُ } : معمول ل « اذْكُرْ » أي : ويوم نقول ، يجري كيت وكيت وقرأ حمزة « نقُول » بنون العظمة؛ مراعاة للتكلُّم في قوله : « مَا أشْهدتهُمْ » إلى آخره ، والباقون بياء الغيبة؛ لتقدم اسمه الشريف العظيم الظاهر .
أي : يقول الله يوم القيامة : { نَادُواْ شُرَكَآئِيَ } يعني الأوثان .
وقيل : للجنِّ ، ولم يذكر تعالى أنَّهم كيف دعوهم في هذه الآية الكريمة ، بيَّن ذلك في آية أخرى ، وهو أنَّهم قالوا : { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } [ إبراهيم : 21 ] .
{ الذين زَعَمْتُمْ } أنهم شركاء { فَدَعَوْهُمْ } فاستغاثوا بهم ، { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } ، أي : لم يجيبوهم ، ولم ينصروهم ، ولم يدفعوا عنهم ضرراً ، ثم قال : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } أي : مهلكاً . قاله عطاء والضحاك .
فصل في بيان الموبق
قال الزمخشري وغيره : والمَوْبِقُ : المهلك ، يقال : وَبِقَ يَوبِقُ وَبَقاً ، أي : هَلَكَ ووَبَقَ يَبِقُ وُبُوقاً أيضاً : هلك وأوبقه ذنبه ، وعن الفراء : « جعَل اللهُ تواصُلهمْ هَلاكاً » فجعل البين بمعنى الوصل ، وليس بظرفٍ؛ كقوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] على قراءة من قرأ بالرفع ، فعلى الأول يكون « موبقاً » مفعولاً أول للجعل ، والثاني الظرف المتقدِّم ، ويجوز أن تكون متعدية لواحدٍ ، فيتعلق الظرف بالجعلِ أو بمحذوفٍ على الحال من « مَوْبِقاً » .

وعلى قول الفراء ليكون « بينهم » مفعولاً أول و « مَوبقاً » مفعولاً ثانياً ، والمَوْبِقُ هنا : يجوز أن يكون مصدراً ، وهو الظاهر ، ويجوز أن يكون مكاناً .
قال ابن عباس : وهو وادٍ في النَّار .
وقال ابن الأعربيِّ : كل حاجزٍ بين الشيئين يكون المَوبِقَ .
وقال الحسن : « مَوْبقاً » أي : عداوة ، هي في شدَّتها هلاك؛ كقولهم : لا يكن حُبك كلفاً .
وقيل : الموبقُ : البَرْزَخُ البعيد .
وجعلنا بين هؤلاء الكفَّار وبين الملائكة وعيسى برزخاً بعيداً ، يهلك فيه النصارى؛ لفرط بعده؛ لأنَّهم في قاع جهنَّم ، وهو في أعلى الجنا .
قوله : روَرَأَى المجرمون النار } الآية .
{ وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } ، في هذا الظنِّ قولان :
الأول : أنه بمعنى العلم واليقين .
والثاني : قال ابن الخطيب : الأقرب إلى المعنى : أن هؤلاء الكفار يرون النَّاس من مكانٍ بعيدٍ ، فيظنُّون أنهم مواقعوها في تلك السَّاعة ، من غير تأخير من شدَّة ما يسمعون من تغيُّظها وزفيرها ، كقوله : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] .
وقوله : { مُّوَاقِعُوهَا } أي : مخالطوها؛ فإنَّ مخالطة الشيء لغيره ، إذا كان تامَّة قويَّة ، يقال لها : مواقعة .
قوله : « مَصْرِفاً » المصرف المعدل ، اي : لم يجدوا عنها معدلاً .
قال الهذليُّ : [ الكامل ]
3538- أزُهَيْرُ هَلْ عَن شَيْبةٍ مِنْ مصْرفِ ... أمْ لا خُلودَ لبَاذلٍ مُتكلِّفِ
والمصرف يجوز أن يكون اسم مكانٍ ، أو زمانٍ ، وقال أبو البقاء : « مَصْرِفاً : أي انصرافاً ، ويجوز أن يكون مكاناً » . قال شهاب الدين : وهذا سهوٌ ، فإنه جعل المفعل بكسر العين مصدراً لما مضارعه يفعل بالكسر من الصحيح ، وقد نصُّوا على أنَّ اسم مصدر هذا النوع مفتوح العين ، واسم زمانه ومكانه مكسوراً ، نحو : المَضْرَبُ والمَضْرِبُ .
وقرأ زيد بن عليٍّ « مَصْرَفاً » بفتح الراء جعله مصدراً؛ لأنه مكسور العين في المضارع ، فهو كالمضرب بمعنى الضَّرب ، وليت أبا البقاء ذكر هذه القراءة ووجَّهه بما ذكره قبل .
قوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } بينَّا { فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } .
اعلم أن الكفَّار ، لما افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم ، وأبطل الله أقوالهم الفاسدة ، وذكر المثلين المتقدِّمين ، ذكر بعده : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } وهو إشارة إلى ما سبق ، والتصريف يقتضي التكرير ، والأمر كذلك؛ لأنه تعالى أجاب عن شبهتهم التي ذكروها من وجوهٍ كثيرةٍ ، والكفار مع تلك الجوابات الصَّافية ، والأمثلة المطابقة لا يتركون المجادلة الباطلة؛ فقال : { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } .
قوله : { مِن كُلِّ مَثَلٍ } : يجوز أن تكون « مِنْ كلِّ » صفة لموصوف محذوف ، وهو مفعول « صرَّفنا » ، أي : صرَّفنا مثلاً من كلِّ مثلٍ ، ويجوز أن تكون « مِنْ » مزيدة على رأي الأخفش والكوفيين .

قوله : « جَدَلاً » منصوب على التمييز ، وقوله : { أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } أي : أكثر الأشياء التي يتأتَّى منها الجدالُ ، إن فصَّلتها واحداً واحداً ، يعني أنَّ الإنسان أكثر جدلاً من كلِّ شيء يجادلُ ، فوضع « شيءٍ » موضع الأشياء ، وهل يجوز أن يكون جدلاً منقولاً عن اسم كان؛ إذ الأصل : وكان جدلُ الإنسان أكثر شيء؟ فيه نظر ، وكلام أبي البقاء يشعر بجوازه؛ فإنه قال : « فيه وجهان :
أحدهما : أنًَّ شيئاً ههنا في معنى فجادل ، لأنَّ أفعل يضاف إلى ما هو بعضٌ له ، وتمييزه ب » جدلاً « يقتضي أن يكون الأكثر مجادلاً ، وهذا من وضع العام موضع الخاص .
والثاني : أن في الكلام محذوفاً ، تقديره : وكان جدل الإنسان أكثر شيءٍ ، ثم ميَّزه » . فقوله : « تقديره : وكان جدل الإنسان » يفيد أنَّ إسناد « كان » إلى الجدلِ جائز في الجملة ، إلا أنه لا بدَّ من تتميم لذلك : وهو أن تتجوَّز ، فتجعل للجدلِ جدلاً؛ كقولهم : « شِعرٌ شَاعرٌ » يعني أنَّ لجدل الإنسان جدلاً هو أكثر من جدلِ سائر الأشياءِ .
وهذه الآية دالَّة على أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - جادلوهم في الدِّين حتَّى صاروا مجادلين؛ لأنَّ المجادلة لا تحصل إلاَّ من الطرفين .

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)

قوله : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى } الآية .
تقدم إعراب نظيرها في آخر السورة قبلها .
فإن قلت : قالت المعتزلةُ : الآية دالةٌ على أنَّه لم يوجد ما يمنع عن الإقدام على الإيمانِ ، وذلك يدلُّ على فساد قول من يقول : إنه حصل المانعُ .
[ فالجواب ] بأن العلم بأنه لا يؤمنُ مضادٌّ لوجود الإيمان ، وإذا كان ذلك العلم قائماً ، كان المانعُ قائماً .
وأيضاً : قول الداعي إلى الكفر مانعٌ من حصول الإيمان .
وإذا ثبت هذا ، ظهر أن المراد مقدار الموانع المحسوسة .
فصل في معنى الآية
المعنى : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى } : القرآن والإسلام والبيان من الله عزَّ وجلَّ .
وقيل : إنه الرسول صلى الله عليه وسلم .
قوله : { وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ } ويتوبوا .
قوله : { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين } وهو عذاب الاستئصال وقيل : إلا طلب أن يأتيهم سنَّة الأولين من معاينة العذاب ، كما قالوا : { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء } [ الأنفال : 32 ] .
قوله : { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً } .
قال ابن عباس : أي عياناً من المقابلة .
وقال مجاهد : فجأة .
قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم ، وأبو جعفر بضمِّ القاف والباء ، جمع قبيل : أي أصناف العذاب نوعاً نوعاً ، والباقون بكسر القاف ، وفتح الباء ، أي عياناً .
وروى الزمخشري : « قَبَلاً » بفتحتين ، أي : [ مستقبلاً ، والمعنى : ] أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا عند نُزُول العذاب . واعلم أنَّهم لا يوقفون الإقدام على الإيمان على أحد هذين الشرطين؛ لأنَّ العاقل لا يرضى بحُصُول الأمرين إلا أنَّ حالهم بحال من وقف العمل على أحد هذين الشَّرطين .
ثم بيَّن تعالى أنه إنما أرسل الرُّسُل مبشِّرين ومُنْذرين بالعقاب على المعصية؛ لكي يؤمنوا طوعاً ، ومع هذه الأحوال يوجد من الكُفَّار المجادلة بالباطل؛ لغرض دحض الحقِّ؛ وهذا يدُلُّ على أنَّ الأنبياء ك انوا يجادِلُونهم ، كما تقدَّم من أنَّ المجادلة إنَّما تحصُلُ من الجانبين ، ومجادلتُهُمْ قولهم : { أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ] ، وقوله : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
قوله : { ليُدْحِضُوا } : متعلِّقٌ ب « يُجادِلُ » والإدْحاض : الإزلاقُ ، يقال : أدحض قدمه ، أي : أزلقها ، وأزلَّها من موضعها . والحجَّة الداحضة الَّتي لا ثبات لها لزلزلة قدمها ، والدَّحضُ : الطِّين؛ لأنه يُزلقُ فيه ، قال : [ الطويل ]
3539- أبَا مُنْذِرٍ رُمْتَ الوَفَاءَ وَهِبْتَهُ ... وَحِدْتَ كَمَا حَادَ البَعِيرُ عَنِ الدَّحْضِ
وقال آخر : [ الطويل ]
3540- [ وَرَدْتُ وَنَجَّى اليَشْكُرِيّ حِذَارُهُ ... وَحَادَ كَمَا حَادَ البَعيرُ عَنِ الدَّحْضِ ]
و « مكانٌ دَحْضٌ » مِنْ هذا .
قوله : « وَمَا أُنْذِرُوا » يجوزُ في « مَا » هذه أَنْ تكون مصدريَّةً ، وأَنْ تكون بمعنى « الَّذي » والعائد محذوف ، وعلى التقديرين ، فهي عطفٌ على « آياتي » .
و « هُزُواً » مفعولٌ ثانٍ أو حالٌ ، وتقدَّم الخلافُ في « هُزُواً » في قوله { وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً } وفيه إضمار أي وما أنذروا به ، وهو القرآن « هُزُواً » أي استهزاء .

قوله تعالى : { وَمَنْ أظْلَمُ } الآية .
تقدم إعراب نظيرها في الأنعام ، واعلم أنَّه تعالى لمَّا حكى عن الكفَّار جدالهم بالباطل ، وصفهم بالصِّفات الموجبة للخزي والخذلان ، فقال : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ } .
أي : لا ظلم أعظم من كفر من ترد عليه الآيات ، فيعرض عنها ، ويتركها ، ولم يرمن بها ونسي ما قدَّمت يداه ، أي : مع إعراضه عن التأمُّل في الدلائلِ والبيِّنات يتناسى ما قدمت يداه من الأعمال المنكرة ، والمراد [ بالنِّسيان ] التَّشاغل والتغافل عن كفره المتقدِّم .
قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أي : أغطية .
قوله : { أَن يَفْقَهُوهُ } لئلاَّ يفقهوه .
قوله : { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } صمماً وثقلاً .
قوله : { وَإِن تَدْعُهُمْ } يا محمد { إلى الهدى } إلى الدين . قوله : { فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً } وهذا في أقوام ، علم الله منهم أنهم لا يؤمنون .
وتقدَّم الكلام على هذه الآية في سورة الأنعام .
والعجب أنَّ قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } متمسَّكُ القدريَّة .
وقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } متمسَّك الجبرية ، وقلما تجد آية في القرآن لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر ، والتجربة تكشف عن صدق هذا ، وما ذاك إلا امتحانٌ من الله ألقاه على عباده ، ليتميَّز العلماء الراسخُون عن المقلِّدين . ثم قال : { وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة } .
« الغَفورُ » : البليغ المغفرة ، وهو إشارة غلى دفع المضارِّ { ذُو الرحمة } : الموصوف بالرحمة ، وإنَّما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة ، لا في الرحمة؛ لأنَّ [ المغفرة ] ترك [ الإضراب ] .
قوله : { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ } : يجوز في « المَوعِد » أن يكون مصدراً أو زماناً أو مكاناً .
والمَوئِلُ : المرجعُ ، من وأل يَئِلُ ، أي : رجع ، وهو من التأويل ، وقال الفراء : « المَوْئِلُ : المنجى ، وألَتْ نفسه ، أي : نَجَتْ » قال الأعشى : [ البسيط ]
3541- وقَدْ أخَالِسُ ربَّ البيتِ غَفْلتهُ ... وقَدْ يُحَاذِرُ منِّي ثمَّ ما يَئِلُ
أي : ما ينجو ، وقال ابن قتيبة : « المَوْئِلُ : الملجأ » . يقال : وأل فلانٌ إلى فلانٍ يئلُ وألاً ، وَوُءُولاً ، إذا لجأ إليه ، وهو هنا مصدر .
و « مِنء دُونهِ » متعلق بالوجدان؛ لنه متعدٍّ لواحدٍ ، أو بمحذوف على أنه حال من « مَوْئِلاً » .
وقرأ أبو جعفر « مَوِلاً » بواو مكسورة فقط ، والزهري : بواو مشددة فقط ، والأولى أقيس تخفيفاً .

وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)

قوله : { وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ } أي قرى الأوَّلين : قوم نوح وعاد وغيرهم ، وتلك مبتدأ ، والقرى خبره .
و « أهْلكْنَاهُمْ » حينئذ : إمَّا خبر ثانٍ ، أو حال ، ويجوز أن تكون « تِلْكَ » مبتدأ ، و « القرى » صفتها لأنَّ أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجنس أو بيان لها ، أو بدلٌ منها ، و « أهْلَكنَاهَا » الخبر ، ويجوز أن يكون « تِلْكَ » منصوب المحلِّ بفعلٍ مقدَّر على الاشتغال .
والإضمار في « أهْلَكنَاهُمْ » عائد على « أهْل » المضاف إلى القرى ، إذ التقدير : وأهل تلك القرى ، فراعى المحذوف ، فأعاد عليه الضمير ، وتقدَّم ذلك في أول الأعراف [ الآية : 4 ] .
و « لمَّا ظلموا » يجوز أن يكون حرفاً ، وأن يكون ظرفاً ، وقد تقدَّم .
قوله : « وجعلنا لمهلكهم موعداً » قرأ عاصم « مَهْلَك » بفتح الميم ، والباقون بضمها ، وحفص بكسر اللام ، والباقون بفتحها ، فتحصَّل من ذلك ثلاث قراءاتٍ ، لعاصم قراءتان؛ فتح الميم مع فتح اللام ، وهي رواية أبي بكرٍ عنه ، والثانية فتح الميم ، مع كسر اللام ، وهي رواية حفص عنه ، والثالثة : ضم الميم ، وفتح اللام ، وهي قراءة الباقين .
وأمَّا قراءة أبي بكرٍ ، ف « مَهْلَك » فيها مصدرٌ مضاف لفاعله ، وجوَّز أبو عليٍّ أن يكون مضافاً لمفعوله ، وقال : إنَّ « هَلَكَ » يتعدَّى دون همز ، وأنشد : [ الرجز ]
2542- ومَهْمَهٍ هَالكِ مَنْ تعرَّجا ... ف « مَنْ » معمول ل « هالكٍ » وقد منع النَّاسُ ذلك ، وقالوا : لا دليلَ في البيت؛ لجواز أن يكون ذلك من باب الصفةِ المشبهة ، والأصل : هالك من تعرَّجا .
ف « مَنْ تعرَّج » فاعل الهالك ، ثم أضمر في « هَالِك » ضمير « مهمه » ونصب « من تعرَّج » نصب « الوجه » في قولك : « مررتُ برجلٍ حسنٍ الوجهَ » ثم أضاف الصفة ، وهي « هَالِك » إلى معمولها ، فالإضافة من نصبٍ ، والنصب من رفعٍ ، فهو كقولك : « زيدٌ منطلقُ اللسان ، ومنبسطُ الكفِّ » ولولا تقدير النصبِ ، لامتنعتِ الإضافة؛ إذ اسم الفاعل لا يضاف إلى مرفوعه ، وقد يقال : لا حاجة إلى تقدير النصب؛ إذ هذا جارٍ مجرى الصفة المشبهة ، والصفة المشبهة تضاف إلى مرفوعها ، إلا أنَّ هذا مبنيٌّ على خلافٍ آخر ، وهو : هل يفع الموصول في باب الصفة أم لا؟ والصحيح جوازه ، قال الشاعر : [ البسيط ]
3543- فَعُجْتُهَا قِبلَ الأخْيار مَنْزلةً ... والطَّيبِي كُلِّ ما التَاثَتْ به الأزُرُ
وقال الهذليُّ : [ الطويل ]
3544- أسِيلاتُ أبْدانٍ دِقَاقٌ خُصورُهَا ... وثِيرَاتُ ما التفَّت عليها المَلاحِفُ
وقال أبو حيَّان في قراءة أبي بكرٍ هذه : « إنَّه زمانٌ » ولم يذكر غيره ، وجوَّز غيره فيه الزمان و المصدر ، وهو عجيبٌ؛ فإنَّ الفعل متى كسرت عينُ مضارعه ، فتحت في المفعل مراداً به المصدر ، وكسرت فيه مراداً به الزمان والمكان ، وكأنَّه اشتبهت عليه بقراءة حفص؛ فإنَّه بكسر اللام ، كما تقدَّم ، فالمفعل منه للزَّمان والمكان .

وجوَّز أبو البقاء في قراءته أن يكون المفعل فيها مصدراً ، قال : « وشذَّ فيه الكسر كالمرجع » وإذا قلنا : إنَّه مصدر ، فهل هو مضافٌ لفاعله ، أو مفعوله؟ يجيء ما تقدَّم في قراءة رفيقه ، وتخريجُ ابي عليٍّ ، واستشهاده بالبيت ، والردُّ عليه ، كل ذلك عائد هنا .
وأمَّا قراءة الباقين ، فواضحةٌ ، و « مُهْلكٌ » فيها يجوز أن يكون مصدراً مضافاً لمفعوله أي لإهلاكهم ، وأن يكون زماناً ، ويبعد أن يراد به المفعول ، أي : وجعلنا للشخصِ ، أو للفريقِ المهلكِ منهم .
والمَوْعِدُ : مصدر ، أو زمان .
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ } الآية : « إذْ » منصوب ب « اذْكُرْ » أو وقت قال لفتاه : جرى ما قصصنا عليك من خبره .
قال عامة أهل العلم : إنَّه موسى بن عمران . وقال بعضهم : إنَّه موسى بن ميشا من أولاد يوسف ، والأول أصحُّ ، لما روى عمرو بن دينارٍ ، قال : أخبرني سعيد بن جبيرٍ ، قال : قلت لابن عبَّاسٍ : إنَّ نوفاً لابكاليَّ يزعم أنَّ موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل ، فقال ابن عبَّاس : كذب عدوُّ الله ، حدَّثنا أبيّ بن كعبٍ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنَّ موسى قَامَ خطيباً في بني إسرائيل ، فسُئِلَ : أيُّ النَّاس أعلمُ؟ فقال : أنَا ، فَعَتبَ الله عليه؛ إذْ لم يردَّ العِلْمَ إليه ، فأوحَى إليه : إنَّ لِي عَبْداً بمَجْمَع البَحْرينِ ، هو أعلم منك ، فقال موسى : يا ربِّ ، فكيف لي به؟ قال : تأخذُ معك حوتاً ، فتجعلهُ في مكتلٍ ، فحيثما فقدتَّ الحوت ، فهو ثمَّ؛ فأخذ حوتاً ، فجعلهُ في مكتلٍ ، ثمَّ انطلق ، وانطلق معه فتاهُ يُوشعُ بن نونٍ ، حتَّى أتيا الصَّخرةَ ، ووضعَا رُءُوسَهُمَا ، فنَامَا ، واضطرب الحُوتُ في المكْتَلِ ، فخرج منهُ ، فسَقطَ في البَحْرِ ، فاتَّخذَ سَبيلهُ في البَحْرِ سَرَباً ، وأمْسَكَ الله عن الحُوت جَرية الماءِ ، فصَارَ عَليْهِ كالطَّاقِ ، فلمَّا اسْتيقظَ ، نَسِيَ صَاحبهُ أنْ يُخْبِرَهُ بالحُوتِ ، فانْطلقَا بقيَّة يَوْمهِمَا وليْلتِهمَا ، حتَّى إذا كان من الغَداةِ ، قَالَ مُوسَى لفتاهُ : آتِنَا غَداءَنَا ، لقَدْ لقينا من سَفرنَا هذا نصباً ، قال : ولمْ يَجِدْ مُوسى النَّصب ، حتَّى جَاوزَ المكان الذي أمرهُ الله تعالى ، فقال له فتاهُ : أرَأيْتَ إذْ أوَيْنَا إلى الصَّخرةِ ، فإنِّي نَسيتُ الحُوتَ ومَا أنْسانيه إلاَّ الشَّيطانُ أنْ أذكرهُ ، واتَّخذَ سبيلهُ في البحر عجباً ، قال : وكَانَ للحُوتِ سرباً ولمُوسَى وفتاهُ عجباً ، قال موسى : ذلكَ ما كُنَّا نبغي فَارتدّا على آثارهما قصصاً ، رجعا يقُصَّانِ آثارهما ، حتى [ انتهيا ] إلى الصَّخرة ، فإذا رجلٌ مُسَجَّى ثوباً ، فسلَّم عليه مُوسى ، فقال الخَضِرُ : وأنَّى بأرضِكَ السَّلامُ؟ فقال : أنَا مُوسَى ، قال : مُوسى بني إسرائيل؟ قال : نَعمْ ، أتَيْتُك ، لتُعَلِّمَنِي ممَّا علِّمتَ رُشداً [ وذكر باقي ] القصة » .

واعلم أنَّه كان ليوسف - عليه السلام - ولدان : أفرائيم وميشا ، فولد أفرائيم نون وولد نون يوشع بن نون ، وهو فتى موسى ، ووليُّ عهده بعد وفاته ، وأما ولد ميشا ، فقيل : إنه جاءته النُّبوَّة قبل موسى بن عمران ، وأهل التَّوراة يزعمون أنَّهُ هو الذي طلب هذا العالم ليتعلَّم منه ، وهو العالمُ الذي خرق السَّفينة ، وقتل الغلام ، وبنى الجدار ، وموسى بن ميشا معه ، هذا قول جمهور اليهود .
واحتجَّ القفال على صحَّة قول الجمهور بأنه موسى صاحب التَّوراة ، قال : إنَّ الله تعالى ما ذكر موسى في كتابه إلاَّ وأراد به موسى صاحب التوراة ، فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه ، ولو كان المرادِ شحصاً آخر يسمَّىموسى غيره ، لعرّفه بصفةٍ تميِّزه وتزيل الشبهة كما أنَّه لما كان المشهور في العرف أنَّ ابا حنيفة هو الرجل المفتي ، فلو ذكرنا هذا الاسم ، وأردنا به غيره ، لقيَّدناهُ ، كما نقول : أبو حنيفة الدِّينوريُّ .
فصل في حجة القائلين بأنه موسى بن ميشا
واحتج القائلون بأنَّ موسى بن ميشا بأنَّ الله تعالى بعد أن أنزل عليه التوراة ، وكلَّمه بلا واسطة ، وخصَّه بالمعجزات الباهرة العظيمة التي لم يتَّفق مثلها لأكثر أكابر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يبعد أن يبعثه بعد ذلك إلى التَّعليمِ والاستفادة .
[ فالجواب ] عنه : بأنَّه ليس ببعيدٍ أن يكون العالم العامل الكامل في أكثر العلوم يجهل بعض الأشياء؛ فيحتاج إلى تعلُّمها إلى من هو دونه ، وهو أمرٌ متعارفٌ .
فصل في اختلافهم في فتى موسى
واختلفوا في فتى موسى ، فالصحيح أنه يوشعُ بن نونٍ؛ كما روي في الحديث المتقدِّم ، وقيل : كان أخا يوشع .
وروى عمرو بن عبيدٍ عن الحسن أنَّه عبدٌ لموسى .
قال القفَّال والكعبي : يحتمل ذلك .
قال - عليه الصلاة والسلام- : « لا يقُولنَّ أحَدُكمْ : عَبْدِي وأمَتِي ، وليقُلْ : فَتَايَ وفَتَاتِي » .
وهذا يدلُّ على أنهم كانوا يسمُّون العبد فتًى ، والأمة فتاةً .
قوله : « لا أبْرَحُ » يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون ناقصة ، فتحتاج إلى خبر .
والثاني : أن تكون تامة ، فلا تحتاج إليه ، فإن كانت الناقصة ، ففيها تخريجان :
أحدهما : أن يكون الخبر محذوفاً؛ للدلالة عليه تقديره : لا أبرح أسيرُ حتَّى ابلغ ، إلاَّ أن حذف الخبر في هذا الباب نصَّ بعض النحويِّين على أنه لا يجوز ولو بدليلٍ ، إلا في ضرورة؛ كقوله : [ الكامل ]
3545- لَهفِي عَليْكَ للَهْفةٍ مِنْ خَائفٍ ... يَبْغِي جِوارَكَ حِينَ ليْسَ مُجِيرُ
أي : حين ليس في الدنيا مجيرٌ .
والثاني : أنَّ في الكلام حذف مضافٍ ، تقديره : لا يبرحُ مسيري ، حتَّى أبلغ ، ثم حذف « مسير » وأقيمت الياء مقامه ، فانقلبت مرفوعة مستترة بعد أن كانت مخفوضة المحلِّ بارزة ، وبقي « حتَّى أبلغ » على حاله هو الخبر .
وقد خلط الزمخشري هذين الوجهين ، فجعلهما وجهاً واحداً ، ولكن في عبارة حسنة جدًّا ، فقال : « فإن قلت : » لا أبْرَحُ « إن كان بمعنى » لا أزولُ « من برح المكان ، فقد دلَّ على الإقامةِ ، لا على السَّفر ، وإن كان بمعنى » لا أزَالُ « فلا بدَّ من خبر ، قلت : هي بمعنى » لا أزَالُ « وقد حذف الخبر؛ لأنَّ الحال والكلام معاً يدلان عليه؛ أمَّا الحال ، فلأنها كانت حال سفرٍ ، وأمَّا الكلام ، فلأن قوله » حتَّى أبلغ « غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له ، فلا بدَّ أن يكون المعنى : لا أبرحُ أسير حتَّى أبلغَ ، ووجه آخرُ : وهو أن يكون المعنى : لا يبرحُ مسيري ، حتَّى أبلغ على أنَّ » حتَّى أبلغَ « هو الخبر ، فلمَّا حذف المضافُ ، أقيم المضافُ إليه مقامهُ ، وهو ضمير المتكلِّم ، فانقلب الفعل من ضمير الغائب إلى لفظ المتكلِّم ، وهو وجهٌ لطيفٌ » .

قال شهاب الدين : وهذا على حسنه فيه نظرٌ لا يخفى ، وهو : خلوُّ الجملة الواقعة خبراً عن « مسيري » في الأصل من رابطٍ يربطها به؛ ألا ترى أنه ليس في قوله « حتَّى أبلغ » ضمير يعود على « مسيري » إنما يعود على المضاف إليه المستتر ، ومثل ذلك لا يكتفى به .
ويمكن أن يجاب عنه : بأن العائد محذوفٌ ، تقديره : حتى أبلغ به ، أي : بمسيري .
وإن كانت التامة ، كان المعنى : لا أبرح ما أنا عليه ، بمعنى : ألزمُ المسير والطَّلبَ ، ولا أفارقه ، ولا أتركه؛ حتَّى أبلغ؛ كما تقول : لا أبرح المكان ، فعلى هذا : يحتاجُ أيضاً إلى حذف مفعول به ، كما تقدَّم تقريره فالحذف لا بدَّ منه على تقديري التَّمامِ والنقصان [ في أحد وجهي النقصان ] .
وقرأ العامة « مجمع » بفتح الميم ، وهو مكان الاجتماع ، وقيل : مصدر ، وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسارٍ بكسرها ، وهو شاذٌّ؛ لفتح عين مضارعة .
قوله : « حُقُباً » منصوبٌ على الظرف ، وهو بمعنى الدَّهر . وقيل : ثمانون سنة ، وقيل : سنةٌ واحدةٌ بلغة قريش ، وقيل : سبعون ، وقرأ الحسن : « حُقْباً » بإسكان القاف ، فيجوز أن يكون تخفيفاً ، وأن يكون لغة مستقلة ، ويجمع على « أحقابٍ » كعنقٍ وأعناقٍ ، وفي معناه : الحقبةُ بالكسر ، قال امرؤُ القيس :
3546- فَإن تَنْأ عَنْهَا حِقْبةً لا تُلاقِهَا ... فإنَّكَ ممَّا أحْدَثَتْ بالمُجرِّبِ
والحقبة بالضمِّ أيضاً ، وتجمع الأولى على حقبٍ ، بكسر الحاء كقربٍ ، والثانية على حقبٍ ، بضمِّها؛ كقربٍ .
فإن قيل قوله : « أوْ أمْضِيَ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه منسوق على « أبْلُغَ » يعني بأحد أمرين : إمَّا ببلوغه المجمع ، أو بمضيِّه حقباً .
والثاني : أنه تغييةٌ لقوله « لا أبْرَحُ » فيكون منصوباً بإضمار « أنْ » بعد « أو » بمعنى « إلى نحو » لألزَمنَّكَ أو تَقضِيَنِي حقِّي « .

فالجواب قال أبو حيان : « فالمعنى : لا أبرحُ حتى أبلغ مجمع البحرين ، إلى أن أمضي زماناً ، أتيقَّنُ معه فوات مجمع البحرين » قال شهاب الدين : فيكون الفعل المنفيُّ قد غيِّي بغايتين مكاناً وزماناً؛ فلا بدَّ من حصولهما معاً ، نحو : « لأسيرنَّ إلى بيتك إلى الظَّهر » فلا بدَّ من حصولِ الغايتين؛ والمعنى الذي ذكره الشيخ يقتضي أنه يمضي زماناً يتيقَّن فيه فوات مجمع البحرين .
وجعل أبو البقاء « أو » هنا بمعنى « إلاَّ » في أحد الوجهين :
قال : « والثاني : أنها بمعنى : إلاَّ أن أمضي زماناً؛ أتيقَّن معه فوات مجمع البحرين » وهذا الذي ذكره أبو البقاء معنى صحيحٌ ، فأخذ الشيخ هذا المعنى ، ركَّبهُ مع القول بأنَّها بمعنى « إلى » المقتضيةِ للغاية ، فمن ثمَّ جاء الإشكالُ .
فصل في المراد بمجمع البحرين
قوله : « مجمعُ البَحريْنِ » ؛ الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر - عليه السلام - : هو ملتقى بحرين فارس والرُّوم ممَّا يلي المشرق ، قاله قتادة ، [ وقال محمد بن كعب : طنجة ] وقال أبي بن كعبٍ : إفريقيَّة .
وقيل : البحران موسى والخضر؛ لأنَّهما كانا بحري علمٍ . وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين؛ فإن صحَّ بالخبر الصحيح شيء فذاك ، وإلاَّ فالأولى السُّكوت عنه .
ثم قال : « أوْ أمضيَ حُقباً » : أو أسير زماناً طويلاً .
واعلم أنَّ الله تعالى كان أعلم موسى حال هذا العالم ، وما أعلمه بموضعه بعينه ، فقال موسى : لا أزالُ أمشي؛ حتَّى يجتمع البحرانِ ، فيصيرا بحراً واحداً ، أو أمضي دهراً طويلاً؛ حتى أجد هذا العالم ، وهذا إخبارٌ من موسى أنَّه وطن نفسه على تحمُّل التَّعب الشَّديد ، والعناء العظيم في السَّفر؛ لأجل طلب العلم ، وذلك تنبيهٌ على أنَّ المتعلِّم ، لو سار من المشرق إلى المغرب؛ لأجل مسألة واحدة ، حقَّ له ذلك .
ثم قال : { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } .
أي : انطلقا إلى أن بلغا مجمع بينهما ، والضمير في قوله : « بينهما » إلى ماذا يعود؟ .
فقيل : لمجمع البحرين .
وقيل : بلغا الموضع الذي وقع فيه نسيانُ الحوت ، وهذا الموضع الذي كان يسكنه الخضر - عليه السلام - أي : يسكن بقربه ، ولأجل هذا المعنى ، لمَّا رجع موسى وفتاه بعد أن ذكر الحوت ، صار إليه ، وهو معنى حسنٌ ، والمفسِّرون على القول الأوَّل .
قوله : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } : الظاهر نسبةُ النِّسيانِ إلى موسى وفتاه ، يعني نسيا تفقُّد أمره ، فإنه كان علامة لهما على ما يطلبانه ، وقيل : نسيَ موسى أن يأمرهُ بالإتيان به ، ونسي يوشعُ أن يفكِّره بأمره ، وقيل : النَّاسِي يوشع فقط ، وهو على حذف مضاف ، أي : نسي أحدهما؛ كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] .
قوله : « في البَحْرِ سرباً » مفعول ثانٍ ل « اتَّخذَ » و « فِي البَحْرِ » يجوز أن يتعلق ب « اتَّخذ » وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنه محالٌ من المفعول الأول أو الثاني .

والهاء في « سبيلهُ » تعود على الحوت ، وكذا المرفوع في « اتَّخذَ » .
قوله : { جَاوَزَا } : مفعوله محذوف ، أي : جاوزا الموعد ، وقيل : جاوزا مجمع البحرين .
قوله : « هَذَا » إشارة إلى السَّفر الذي وقع بعد تجاوزهما الموعد ، أو مجمع البحرين ، و « نَصباً » هو المفعول ب « لَلِينَا » والعامة على فتح النون والصاد ، وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمِّهما ، وهما لغتان من لغاتٍ أربعٍ في هذه اللفظة ، كذا قال أبو الفضل الرازيُّ في « لَوامحِهِ » .
قوله : { أَرَأَيْتَ } : تقدم الكلام عليها مشبعاً في الأنعام ، وقال أبو الحسن الأخفش هنا فيها كلاماً حسناً ، وهو : أنَّ العرب أخرجتها عن معناها بالكليَّة ، فقالوا : أرَأيْتكَ ، وأرَيْتكَ بحذف الهمزة ، إذا كانت بمعنى : أخْبِرْنِي « وإذا كانت بمعنى » أبْصَرْتَ « لم تحذف همزتها ، وشذَّت أيضاً ، فألزمها الخطاب على هذا المعنى ، ولا يقال فيها أيضاً : » أرَانِي زيداً عمراً ما صَنعَ « ويقال على معنى » اعْلَمْ « وشذَّت أيضاً ، فأخرجتها عن موضعها بالكليَّة؛ بدليل دخول الفاء؛ ألا ترى قوله : { أرَأيْتَ إذ أوينا إلى الصَّخرةِ فإني } فمَا دخلت الفاء إلاَّ وقد أخرجت إلى معنى : » أمَّا « أو » تنبَّه « ، والمعنى : أمَّا إذ أوينا إلى الصَّخرة ، فإنِّي نسيتُ الحوت ، وقد أخرجتها أيضاً إلى معنى » أخبرني « كما قدَّمنا ، وإذا كانت بمعنى » أخبرني « فلا بدَّ بعدها من الاسم المستخبر عنه ، وتلزم [ الجملة ] التي بعدها الاستفهام ، وقد تخرج لمعنى » أمَّا « ويكون أبداً بعدها الشرط ، وظروف الزمان ، فقوله » فإنِّي نسيتُ « معناه : أمَّا إذ أوينا فإنِّ ] ، أو تنبَّه إذْ أويْنَا ، وليست الفاءُ إلاَّ جواباً ل » أرَأيْتَ « لأنَّ » إذْ « لا يجوز أن يجازى بها إلاَّ مقرونة ب » ما « بلا خلافٍ » .
قال الزمخشري : « أرأيت » بمعنى « أخْبرنِي » فإن قلت : ما وجه التئامِ هذا الكلام ، فإنَّ كلَّ واحد من « أرَأيْتَ » ومن « إذْ أويْنَا » ومن { فإنِّي نسيتُ الحوت } لا متعلق له .
قلت : لمَّا طلب موسى الحوت ، ذكر يوشع ما رأى منه ، وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية ، ودهش ، فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك ، كأنه قال : أرأيت ما دهاني ، إذ أوينا إلى الصخرة ، فإنّي نسيتُ الحوت ، فحذف ذلك .
قال أبو حيَّان : وهذان مفقودان في تقدير الزمخشريِّ : « أرَأيْتَ بمعنى أخبرني » يعني بهذين ما تقدَّم في كلام الأخفش من أنَّه لا بدَّ بعدها من الاسم المستخبر عنه ، ولزومِ الاستفهام الجملة التي بعدها .
قال النوويُّ في « التهذيب » يقال : أوى زيدٌ بالقصر : إذا كان فعلاً لازماً ، وآوى غيره بالمدِّ : إذا كان متعدِّياً ، فمن الأول هذه الآية قوله :

{ إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف } [ الكهف : 10 ] .
ومن المتعدِّي قوله تعالى : { وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ } [ المؤمنون : 50 ] .
وقوله : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى } [ الضحى : 6 ] .
هذا هو الفصيح المشهور ، ويقال في كلِّ واحدٍ بالمدِّ والقصر ، لكن بالقصر في اللازمِ أفصح ، والمدُّ في المتعدِّي أفصحُ وأكثر .
قوله : « ومَا أنْسَانيهُ » قرأ حفص بضم الهاء ، وكذا في قوله : « عَلَيْهُ الله » في سورة الفتح [ آية : 10 ] ، قيل : لأنَّ الياء هنا أصلها الفتح ، والهاء بعد الفتحة مضمومة ، فنظر هنا إلى الأصل ، وأمَّا في سورة الفتح؛ فلأنَّ الياء عارضة؛ إذ أصلها الألف ، والهاء بعد الألف مضمومة ، فنظر إلى الأصل أيضاً .
والباقون بالكسر نظراً إلى اللفظ ، فإنَّها بعد ياءٍ ساكنة ، وقد جمع حفص في قراءته بين اللغات في هاء الكناية : فإنه ضمَّ الهاء في « أنسانيه » في غير صلة ، ووصلها بياءٍ في قوله : { فِيهِ مُهَاناً } [ الفرقان : 69 ] على ما سيأتي ، إن شاء الله تعالى ، وقرأ كأكثر القراء فيما سوى ذلك .
وقرأ الكسائي « أنسانيه » بالإمالة .
قوله : « أنْ أذكرهُ » في محلِّ نصبٍ على البدل من هاء « أنسانيه » بدل اشتمال ، أي : أنساني ذكرهُ .
وقرأ عبد الله : « أن أذكركه » ، وقرأ أبو حيوة : « واتِّخاذَ سبيلهِ » عطف هذا المصدر على مفعول « أذكرهُ » .
قوله : « عَجَباً » فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه مفعول ثانٍ ل « اتَّخذَ » و « في البحْرِ » يجوز أن يتعلق بالاتخاذِ ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعول الأول أو الثاني .
وفي فاعل « اتَّخذ » وجهان :
أحدهما : هو الحوتُ ، كما تقدَّم في « اتَّخذ » الأولى .
والثاني : هو موسى .
الوجه الثاني من وجهي « عَجَباً » أنه مفعول به ، والعامل فيه محذوف ، فقال الزمخشريُّ : « أو قال : عجباً في آخر كلامه تعجباً من حاله ، وقوله : { وما أنسانيه إلاَّ الشيطان } اعتراضٌ بين المعطوف والمعطوف عليه » . فظاهر هذا أنَّه مفعول ب « قال » ، أي : قال هذا اللفظ ، والسبب في وقوع هذا الاعتراض ما يجري مجرى القدر والعلة لوقوع ذلك النسيان .
الثالث : أنه مصدر ، والعامل فيه مقدَّر ، تقديره : فتعجَّب من ذلك عجباً .
الرابع : أنه نعت لمصدر محذوف ، ناصبه « اتَّخذَ » أي : اتخذ سبيله في البحر اتِّخاذاً عجباً ، وعلى هذه الأقوال الثلاثة : يكون « في البَحْرِ » مفعولا ثانياً ل « اتَّخذَ » إن عدَّيناها لمفعولين .
فصل
دلَّت الرواياتُ على أنَّه تعالى بيَّن لموسى صلى الله عليه وسلم أنَّ هذا العالم موضعه مجمع البحرين ، إلا أنَّه ما عيَّن موضعاً ، إلا أنَّه جعل انقلاب الحوت حيًّا علامة على مسكنه المعيَّن ، كمن يطلب إنساناً ، فيقال له : إنَّ موضعه محل!َة كذا من كذا ، فإذا انتهيت إلى المحلَّة ، فسل فلاناً عن داره ، فأينما ذهب بك ، فاتبعه؛ فإنَّك تصل إليه ، فكذا هنا قيل له : إنَّ موضعه مجمع البحرين ، فإذا وصلت إليه ، ورأيت انقلاب الحوت حيًّا وطفر إلى البحر ، فيحتمل أنَّه قيل له : فهناك موضعه ، ويحتمل أنَّه قيل له : فاذهب على موافقة ذلك الحوت؛ غفإنَّك تجدهُ .

وإذا عرفت هذا فنقول : إن موسى وفتاه ، لمَّا بلغا مجمع بينهما ، طفرت السَّمكةُ إلى البحر ، وسارت ، وفي كيفيَّة طفرها روايات .
فقيل : إن الفتى غسل السَّمكة ، لأنها كانت مملحة ، فطفرت وسارت .
وقيل : إنَّ يوشع توضَّأ في ذلك المكان من عينٍ تسمَّى « مَاءَ الحياةِ » لا يصيبُ ذلك الماءُ شيئاً إلاَّ حيي ، فانتضح الماء على الحوت المالح ، فعاش ووثب في الماء .
وقيل : انفجر هناك عينٌ من الجنَّة ، ووصلت قطراتٌ من تلك العين إلى السَّمكة ، وهي في المكتل ، فاضطربت ، وعاشت ، فوثبت في البحر .
ثم قال تعالى : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } أي : نسيا كيفيَّة الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب ، فإن قيل : انقلاب السَّمكة المالحة حيَّة [ حالة ] عجيبة [ فلما ] جعل الله تعالى حصول هذه الحالة العجيبة دليلاً على الوصول إلى المطلوب ، فكيف يعقل حصول النِّسيان في هذا المعنى؟ .
فالجواب أنَّ يوشع كان قد شاهد المعجزات الباهرات من موسى - عليه الصلاة والسلام - كثيراً ، فلم يبق لهذه المعجزات عنده وقعٌ عظيم ، فجاز حصول النِّسيان .
وهذا الجواب فيه نظرٌ .
قال ابن زيدٍ : أي شيءٍ أعجبُ من حوتٍ يؤكل منه دهراً ، ثم صار حيًّا بعدما أكلَ بعضه .
فصل في ذكر جوابٍ آخر لابن الخطيب
قال ابن الخطيب : وعندي فيه جوابٌ آخر ، وهو أنَّ موسى - عليه السلام - لما استعظم علم نفسه ، أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الضروريَّ؛ تنبيهاً لموسى عليه السلام - على أنَّ العلم لا يحصل ألبتَّة إلا بتعليم الله تعالى ، وحفظه على القلب .
وقال البغويُّ : « نَسيَا » تركا « حُوتَهُمَا » ، وإنما كان الحوت مع يوشع ، وهو الذي نسيه ، وأضاف النِّسيان إليهما؛ لأنهما جميعاً لمَّا تزوَّداه لسفرهما ، كما يقال : خرج القوم إلى موضع كذا ، وحملوا من الزَّاد كذا [ وإنما حملهُ واحد منهم . ثم قال : « واتخذ سبيله في البحر سرباً » قيل : تقديره سرب في البحر سرباً « ] إلاَّ أنه أقيم قوله : » فاتّخذ « مقام قوله : » سرباً « ، والسَّرب هو الذهاب ومنه قوله تعالى : { وَسَارِبٌ بالنهار } [ الرعد : 10 ] .
وقيل : إن الله تعالى أمسك الماء عن الجري ، وجعله كالطاق والكوَّة؛ حتَّى سرب الحوت فيه ، وذلك معجزةٌ لموسى أو الخضر - عليهما السلام- .
روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : » انجاب الماءُ عن مسلكِ الحوت ، فصار كوَّة ، لم يلتئمْ ، فدخل موسى الكوَّة على إثر الحوت ، فإذا هو بالخضر « .

وقوله : { فَلَمَّا جَاوَزَا } أي : موسى وفتاه الموعد المعين ، وهو الوصول إلى الصخرة بسبب النِّسيان المذكور ، وذهبا كثيراً ، وتعبا ، وجاعا .
{ قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا } والغداءُ : ما يعدُّ للأكل غدوة ، والعشاء : ما يعدُّ للأكل عشية { لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً } أي : تعباً وشدَّة ، وذلك أنَّه ألقى على موسى الجوع بعد مجاوزة الصَّخرة؛ ليتذكَّر الحوت ، ويرجع إلى مطلبه ، فقال له فتاه وتذكَّر : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة } الهمزة في « أرَأيْتَ » همزة الاستفهام ، و « رَأيْتَ » على معناه الأصليِّ ، وجاء الكلام هذا على المتعارفِ بين النَّاس؛ فإنه إذَا حدث لأحدهم أمرٌ عجيبٌ ، قال لصاحبه : أرأيت ما حدث لي ، كذلك هنا ، كأنه قال : أرأيت ما وقع لي ، إذا أوينا إلى الصَّخرة ، فحذف مفعول « أرَأيْتَ » لأنَّه - أي لأنَّ قوله : « فإنِّي نسيتُ الحوت » - يدل عليه ، أي : فقدته .
{ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ } أي أذكر لك أمر الحوت .
{ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً } ووجه كونه عجباً انقلابه من المكتل ، وصيرورته حيًّا ، وإلقاء نفسه في البحر على غفلةٍ منهما ، ويكون المراد منه ما ذكرنا أنه تعالى جعل الماء عليه كالطَّاق والسَّرب ، وقيل : تمّ الكلام عند قوله : { واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر } ، ثم قال : « عَجَباً » أي أنَّه يعجب من رؤية تلك العجيبة ، ومن نسيانه لها .
وقيل : إنَّ قوله « عَجَباً » حكايةٌ لتعجُّب موسى .
ثم قال موسى : { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } أي : نطلبه؛ لأنَّه أمارة الظَّفر بالمطلوب ، وهو لقاء الخضر .
قوله : { نَبْغِى } : حذف نافع وأبو عمرو والكسائي ياء « نَبْغِي » وقفاً ، وأثبتوها وصلاً ، وابن كثير أثبتها في الحالين ، والباقون حذفوها في الحالين؛ اتِّباعاً للرسم ، وكان من حقِّها الثبوتُ ، وإنما حذفت تشبيهاً بالفواصل ، أو لأنَّ الحذف يؤنس بالحذف ، فإن « ما » موصولة حذف عائدها ، وهذه بخلاف التي في يوسف [ الآية : 65 ] ، فإنها ثابتة عند الجميع ، كما تقدَّم .
قوله : « قصصاً » فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : قاصِّين .
الثاني : أنه مصدر منصوب بفعل من لفظه مقدر ، أي : يقصَّان قصصاً .
الثالث : أنه منصوبٌ ب « ارْتدَّا » لأنه في معنى « فقَصَّا » .
قوله : { { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ } الآية .
قيل : كان ملكاً من الملائكة ، والصحيح ما ثبت في التَّواريخ ، وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه الخضر ، واسمه بليا بن ملكان .
وقيل : كان من نسل بني إسرائيل .
وقيل : كان من أبناء الملوك الذين زهدُوا في الدنيا ، والخضر لقبٌ له ، سمِّي بذلك؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّما سمِّي خضراً؛ لأنَّه جلس على فَرْوةٍ بيْضاءَ ، فإذا هِيَ تهتزُّ تَحْتَهُ خَضِراً » .

وقال مجاهد : إنما سمِّي خضراً؛ لأنَّه كان إذا صلَّى ، اخضرَّ ما حوله .
روي في الحديث أنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا رأى الخضر - عليه السلام - سلَّم عليه ، فقال الخضر : وأنَّى بأرضك السلام؟ قال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم ، أتيتك؛ لتعلِّمنِي ممَّا علِّمت رشداً .
فصل في بيان أن الخضر كان نبياً
قال أكثر المفسرين : إنَّه كان نبيًّا ، واحتجوا بوجوهٍ :
الأول : قوله : { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } والرحمة : هي النبوة؛ لقوله تعال { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } [ الزخرف : 32 ] .
وقوله : { وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [ القصص : 86 ] .
والمراد من هذه الرحمة النبوة ، ولقائلٍ أن يقول : سلَّمنا أن النبوَّة رحمة ، ولكن لا يلزمُ بكلِّ رحمةٍ نبوةٌ .
الثاني : قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } وهذا يدل على أنه علمه لا بواسطة ، ومن علَّمه الله شيئاً ، لا بواسطة البشر ، يجب أن يكون نبيًّا ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله ، وذلك لا يدلُّ على النبوَّة .
الثالث : قول موسى - عليه السلام - : « هل أتَّبِعُك على أن تعلِّمنِي ممَّا علِّمتَ رُشداً » والنبي لا يتَّبع غير النبي في التعلُّم .
وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأنَّ النبي لا يتبع غير النبي في العلوم التي باعتبارها صار نبيًّا ، [ أما في غير تلك العلوم فلا ] .
الرابع : أنَّ ذلك العبد أظهر الترفُّع على موسى ، فقال : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } فأما موسى ، فإنه أظهر التواضع له؛ حيث قال : { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } وذلك يدلُّ على أنَّ ذلك العالم كان فوق موسى ، ومن لا يكون نبيًّا ، لا يكون فوق النبيِّ ، وذلك أيضاً ضعيفٌ؛ لأنه يجوز أن يكون غير النبيِّ فوق النبي في علومٍ لا تتوقَّف نبوته عليها .
فإن قيل : إنه يوجبُ تنفيراً .
فالجواب : وتكليمه بغير واسطة يوجب التَّنفير .
فإن قالوا : هذا لا يوجبُ التنفير ، فكذلك فيما ذكروه .
الخامس : احتجَّ الأصم بقوله : « وما فعلتهُ عن أمْرِي » أي : فعلته بوحي الله تعالى ، وذلك يدلُّ على النبوة ، وهذا ضعيف أيضاً .
روي أنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا وصل غليه ، فقال : السلام عليك ، فقال : وعليك السلام ، يا نبيَّ بني إسرائيل ، فقال موسى : من عرَّفك هذا؟ قال : الذي بعثك إليَّ؛ وهذا يدلُّ على أنَّه إنما عرف ذلك بالوحي ، والوحي لا يكون إلا إلى النبيِّ .
ولقائلٍ أن يوقل : لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات؟ .
قال البغوي : ولم يكن الخضرُ نبيًّا عند أكثر أهل العلم .
قوله : { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } أي : علم الباطن إلهاماً .
و « عِلْماً » : مفعول ثان ل « عَلَّمْناهُ » قال أبو البقاء : « ولو كان مصدراً ، لكان تعليماً » يعني : لأنَّ فعله على « فعَّل » بالتشديد ، وقياس مصدره « التَّفعيلُ » .

و « مِنْ لدُنَّا » يجوز أن يتعلق بالفعل قبله ، أو بمحذوف على أنه حالٌ من « عِلْماً » .
قوله : ( على أن تعلمني ) : في موضع الحال من الكاف في « أتَّبِعُكَ » أي : أتَّبِعك [ باذلاً لي علمكَ « .
قوله : » رُشْداً « مفعول ثان ل » تُعلِّمَنِي « لا لقوله : » ممَّا عُلِّمتَ « قال أبو البقاء : » لأنَّه لا عائد إذن على الذي « يعني أنه إذا تعدَّى لمفعول ثان غير ضمير الموصول ، لم يجز أن يتعدَّى لضمير الموصول؛ لئلا يتعدَّى إلى ثلاثة ، ولكن لا بدَّ من عائدٍ على الموصول .
وقد تقدَّم خلاف القراء في » رُشداً « في سورة الأعراف [ الآية : 146 ] ، وهل هما بمعنى واحد أم لا؟ .
وقوله : رشداً » أي : علماً ذا رشدٍ .
قال القفَّال : قوله « رُشْداً » يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون « الرُّشْدُ » راجعاً إلى الخضرِ ، أي : ممَّا علمك الله ، وأرشدك به .
والثاني : أن يرجع إلى موسى ، أي : على أن تعلِّمني ، وتُرشِدني ممَّا علِّمت .
فصل في أدب موسة - عليه السلام - في تعلُّمه من الخضرِ
دلَّت هذه الآية على أنَّ موسى - عليه السلام - راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلَّم من الخضر .
منها : أنه جعل لنفسه تبعاً له في قوله : « هَلْ أتَّبعكَ » .
ومنها : أنَّه استأذن في إثباتِ هذه التبعيَّة؛ كأنَّه قال : تأذنُ لي على أن أجعل نفسي تبعاً لك ، وهذه مبالغةٌ عظيمةٌ في التواضعِ .
ومنها : قوله « على أن تعلمني » وهذا إقرارٌ منه على نفسه بالجهل ، وعلى أستاذه بالعلم .
ومنها : قوله : « ممَّا علِّمتَ » وصيغة « مِنْ » للتبعيض ، فطلب منه تعليم بعض ما علِّم ، وهذا أيضاً إقرارٌ بالتواضع ، كأنه يقول : لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً لك في العلم ، بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من الجزء ، ممَّا علِّمت .
ومنها : أن قوله : « مِمَّا علِّمتَ » اعترافٌ بأنَّ الله تعالى علَّمهُ ذلك العلم .
ومنها : قوله « رُشْداً » طلب منه الإرشاد والهداية .
ومنها أنَّ قوله : { تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ } طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به ، أي : يكون إنعامك عليَّ عند تعليمك إيَّاي شبيهاً بإنعام الله عليك في هذا التعليم .
ومنها : قوله : { هَلْ أَتَّبِعُكَ } يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيَّد بشيءٍ دون شيءٍ .
ومنها : أنه ثبت [ في الأخبار ] أنَّ الخضر عرف أولاً أنَّه موسى صاحب التَّوراةِ ، وهو الرجل الذي كلَّمه الله من غير واسطة ، وخصَّه بالمعجزات القاهرة الباهرة ، ثم إنَّه - عليه السلام - مع هذه المناصب الرفيعة والدَّرجاتِ العالية الشَّريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع؛ وذلك يدلُّ على كونه - عليه السلام - آتياً في طلب العلم أعظم أبواب المبالغةِ في التواضع ، وهذا هو اللائقُ به؛ لأنَّ كلَّ من كانت إحاطتهُ بالعلوم التي علم ما فيها من البهجة والسعادة أكثر ، كان طلبه له أشدَّ ، وكان تعظيمه لأربابِ العلم أكمل وأشدَّ .

ومنها : قوله : { هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ } فأثبت أوَّلاً كونه تبعاً ، ثم طلب منه ثانياً أن يعلِّمه ، وهذا منه ابتداءٌ بالخدمة ، ثم في المرتبة الثانية ، طلب منه التَّعليم .
ومنها : قوله : { هَلْ أتَّبِعُكَ } لم يطلب على المتابعة إلاَّ التعليم ، كأنه قال : لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ، ولا عوض لي إلاَّ طلب العلم .
فصل
روي أنه لمَّا قال موسى : { هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ } ، قال له الخضرُ : كفى بالتَّوراة علماً ، وببني إسرائيل شغلاً ، فقال له موسى : إنَّ الله أمرني بهذا ، فحينئذ قال له : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } ، وإنَّما قال ذلك؛ لأنَّه علم أنَّه يرى معه أموراً كثيرة منكرة ، بحسب الظاهر ، ولا يجوز للأنبياء أن يصبروا على المنكرات ، ثمَّ بيَّن عذره في ترك الصَّبر ، فقال : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } ، أي : علماً .
واعلم أنَّ المتعلِّم على قسمين : متعلِّم ليس عنده شيءٌ من المعلوم ، ولم يمارس الاستدلال ، ولم يتعوَّد التقرير ، و الاعتراض ، ومتعلِّم حصَّل العلوم الكثيرة ، ومارس الاستدلال والاعتراض ، ثم إنَّه يريد أن يخالط إنساناً أكمل منه؛ ليبلغ درجة الكمال ، فالتعلم في حقِّ هذا القسم الثاني شاقٌّ شديدٌ؛ لأنه إذا رأى شيئاً ، أو سمع كلاماً ، فربَّما يكون ذلك منكراً بحسب الظاهر ، إلاَّ أنه في الحقيقة صوابٌ حقٌّ ، فهذا المتعلم لأجل أنه ألف الكلام والجدال ، يغترُّ بظاهره ، ولأجل عدم كماله ، لا يقف على سرِّه وحقيقته ، فيقدم على النِّزاع ، والاعتراض ، والمجادلة ، وذلك مما يثقل سماعه على [ الأستاذ ] المتبحِّر ، فإذا اتَّفق مثل هذه الواقعة مرتين أو ثلاثة ، حصلت النُّفرة التامَّة والكراهة الشديدة العظيمة ، وإلى هذا ، أشر الخضر بقوله : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } أي أنَّه ألف الإثبات والإبطال ، والاستدلال والاعتراض .
وقوله : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } إشارةٌ إلى كونه غير عالمٍ بالحقائقِ ، وقد تقدم أنه متى حصل الأمران ، [ عسر ] السُّكوت ، وعسر التعلم ، وانتهى الأمر بالآخرة إلى النُّفرة التامة ، وحصول التقاطع .
قوله : « خُبْراً » : فيه وجهان :
الأول : أنه تمييزٌ لقوله « تُحِطْ » وهو منقول من الفاعلية؛ إذ الأصل : مما لم يحطْ به خبرك .
والثاني : أنه مصدر لمعنى لم تحط؛ إذ هو في قوَّة : لم يخبره خبراً ، وقرأ الحسن « خُبُراً » بضمتين .
فصل في أن الاستطاعة تحصل قبل الفعل
قال ابن الخطيب : احتجَّ أصحابنا بقوله : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } على أن الاستطاعة تحصل قبل الفعل .

وقالوا : لو كانت الاستطاعة على الفعل حاصلة قبل [ حصول الفعل ] ، لكانت الاستطاعة على الصَّبْر حاصلة لموسى قبل حصول الصَّبر ، فيلزم أن يكون قوله : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } كذباً ، ولمَّا بطل ذلك ، علمنا أنَّ الاستطاعة لا توجد قبل الفعل .
أجاب الجبائيُّ بأنَّ المراد من هذا القول : أنَّه يثقل عليه الصَّبر؛ لا أنه لا يستطيعه ، يقال في العرف : « إنَّ فلاناً لا يستطيع أن يرى فلاناً ، ولا أن يجالسه » إذا كان يثقل عليه ذلك .
ونظيره قوله تعالى : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع } [ هود : 20 ] أي كان يشقُّ عليهم الاستماع .
وأجيب بأنَّ هذا عدولٌ عن الظاهر من غير دليل ، وأنه لا يجوز ، ومما يؤكد استدلال الأصحاب قوله تعالى : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } استبعد حصول الصبر على ما لا يقف الإنسان على حقيقته ، ولو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكانت القدرة على الفعل حاصلة قبل حصول ذلك العلم ، ولو كان كذلك لما كان حصول الصبر عند عدم ذلك العلم مستبعداً؛ لأن القادر على الفعل لا يبعد منه إقدامه على ذلك الفعل ولما حكم الله تعالى باستبعاده ، علمنا أن الاستطاعة ، تحصل قبل الفعل .
قوله : { ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } . قال ابن الخطيب : احتج الطاعنون في عصمةِ الأنبياء بهذه الآية؛ فقالوا إن الخضر قال لموسى : إنَّك لنْ تستطيعَ معي صبراً ، وقال موسى : ستجدني إن شاء الله صابراً ، وكلُّ واحدٍ من هذين القولين مكذبٌ للآخر ، فيلزمُ إلحاقُ الكذب بأحدهما ، وعلى التَّقديرين ، فيلزم صدور الكذب عن الأنبياء - عليهم السلام- .
وأجيب بأنَّه يحمل قوله : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } على الأكثر والأغلب ، وعلى هذا ، فلا يلزم ما ذكروه ، وقد يجاب بجواب آخر ، وهو أن موسى - عليه السلام - استثنى في جوابه ، فقال : { ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً } وعلى هذا ، فلا يلزمُ ما ذكروه .
قوله : { وَلاَ أَعْصِي } فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنَّها لا محلَّ لها من الإعراب لاستئنافها ، وفيه بعدٌ .
الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ؛ عطفاً على ستجدني؛ لأنها منصوبة المحلِّ بالقول .
وقال أبو حيَّان : ويجوز أن يكون معطوفاً على « ستجدني » فلا يكون لهُ محلٌّ من الإعراب ، وهذا سهوٌ؛ فإنَّ « سَتجِدُنِي » منصوب المحلِّ؛ لأنه منصوب بالقول ، فكذلك ما عطف عليه ، ولكنَّ الشيخ رأى كلام الزمخشريِّ كذلك ، ولم يتأمَّله ، فتبعه في ذلك ، فمن ثمَّ جاء السَّهوُ قال الزمخشري : « ولا إعْصِي » في محلِّ النصب عطفاً على « صَابِراً » أي : ستجدني صابراً ، وغير عاصٍ أو « لا » في محل رفع عطفاً على « سَتجدُنِي » .
الثالث : أنه في محلِّ نصب على « صَابِراً » كما تقدَّم تقريره .

فصل
دلَّ قوله : { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } على أنَّ ظاهر الأمر للوجوب ، وأن تارك المأمور به عاصٍ ، والعاصي يستحقُّ العقاب؛ كقوله تعالى : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [ الجن : 23 ] .
فصل
قوله الخضر لموسى : « وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً » نسبه إلى قلة العلم ، فقول موسى : ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً تواضعٌ شديد ، وإظهار للتَّحمل التَّام ، وذلك يدلُّ على أنَّ الواجب على المتعلِّم إظهار التواضع بكلِّ الغايات ، وأمَّا المعلم فإن رأى أنَّ في التغليظ على المتعلِّم ما يفيده نفعاً وإرشاداً إلى الخير ، فالواجب عليه ذكره ، فإنَّ السُّكوت عنه يوقع المتعلِّم في الغرور ، وذلك يمنع من التعلُّم .
قوله : « فإن اتَّبْعتَنِي » أي صحبتني ، ولم يقل : اتَّبعني ، ولكن جعل الاختيار إليه ، إلاَّ أنَّه شرط عليه شرطاً ، فقال : « فلا تَسْالنِي » تقدَّم خلاف القرَّاء في هذا الحرفِ ، في سورة « هود » .
وقرأ أبو جعفر وابن عامر - هنا - بفتح السِّين ، واللام ، وتشديد النون من غير همزٍ ، وبغير ياءٍ ، وروي عن ابن عامرٍ ، ونافع كذلك مع الياء ، والمعنى : لا تسألني : لا تستخبرني حين ترى منِّي ما لم تعلمْ وجههُ حتَّى أكون أنا المبتدئ بتعليمك إيَّاه ، وإخبارك به ، وهذا معنى قوله : { حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } أي : أبتدئ بذكره ، فأبين لك شأنهُ .
قوله : { فانطلقا حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا } الآية .
اعلم أنَّ موسى - عليه السلام - وذلك العالم ، لمَّا تشارطا على الشرط المذكور ، سار فانتهيا إلى موضع ، احتاجا فيه إلى ركوب السَّفينة ، فوجدا سفينة ، فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر ، [ فحملوهم ] من غير نول ، فلما لجُّوا البحر ، أقدم ذلك العالم على خرق السَّفينة .
قال ابن الخطيب : لعلَّه أقدم على إخراق مكانٍ في السفينة؛ لتصير السفينة بذلك السبب معيبة ظاهرة العيب ، فلا يتسارع به إلى أهلها الغرق فعند ذلك قال له موسى : { أخَرقْتهَا لتُغْرِقَ أهْلهَا } [ لمَّا رأى موسى - عليه السلام - ذلك الأمر المنكر بحسبِ الظَّاهر نسيَ الشرط المتقدم؛ فلهذا قال ما قال ] .
وفي اللام وجهان :
أحدهما : هي لام العلة .
والثاني : هي لام الصَّيرورة ، وقرأ الأخوان : « ليَغرَقَ » بفتح الياء من تحت ، وسكون الغين ، وفتح الراء ، « أهْلُهَا » بالرفع فاعلاً ، والباقون بضمِّ التاء من فوق ، وكسر الراء ، أي : لتغرق أنت أهلها ، بالنصب مفعولاً به ، والحسن وأبو رجاء كذلك ، غلا أنَّهما شدَّدا الراء .
والسَّفينة معروفة ، وتجمع على سفنٍ وسفائن ، نحو : صحيفة وصحف وصحائف ، وتحذف منها التاء مراداً بها الجمع ، فتكون اسم جنسٍ؛ نحو : ثمر [ وقمح ] ، إلا أنه هذا في المصن وع قليلٌ جدًّا ، نحو : جَرَّة وجر ، وعمامة وعمام ، قال الشاعر : [ الوافر ]

3547- مَتَى تَأتيهِ تَأتِي لُجَّ بَحْرٍ ... تَقاذفُ في غَوارِبهِ السَّفِينُ
واشتقاقها من السَّفن ، وهو القشر؛ لأنَّها تقشر الماء ، كما سميت « بِنْتَ مخرٍ » لأنها تمخرُ الماء ، أي : تشقُّه .
قوله : « إمْراً » أي شيئاً عظيماً ، يقال : أمِرَ الأمْرُ ، أي : عظم وتفاقم ، قال : [ الرجز ]
3548- دَاهِيَةً دَهْيَاءَ إدًّا إمْرا ... والإمرُ في كلام العرب : الدَّاهيةُ ، وأصله كل شيءٍ شديدٌ كثيرٌ ، يقال : أمر القوم : إذا كثروا ، واشتدَّ أمرهم .
ومعنى الآية : لقد جئت شيئاً منكراً .
وقال القتيبيُّ : « إمْراً » أي عظيماً عجيباً منكراً .
روي أنَّ الخضر ، لمَّا [ خرق ] السَّفينة لم يخلها الماءِ .
وروي أن موسى لمَّا رأى ذلكَ أخذ ثوبه ، وحشا به الخرق
قوله : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } أي : قال ذلك الخضر ، قال موسى { لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ } .
قال ابن عبَّاس : إنَّه لم ينس ، ولكنًَّه من معاريض الكلام ، فكأنَّه نسي شيئاً آخر .
وقيل : معناه : بما تركت من عهدك ، والنِّسيان التَّرك .
وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كانت الأولى من موسى نسياناً ، والوسطى شرطاً ، والثالثة عمداً » .
فصل في الرد على الطاعنين في عصمة الأنبياء
قال ابن الخطيب : احتجَّ الطَّاعنون في عصمة الأنبياءِ بهذه الآية من وجهين :
أحدهما : أنه ثبت بالدليل أن ذلك العالم كان نبيًّا ، ثم قال موسى : « أخَرقتهَا ، لتُغْرِقَ أهْلهَا » ، فإن صدق موصى في هذا القول ، دلَّ ذلك على صدور الذَّنْب العظيم من ذلك النبيِّ ، وإن كذب ، دلَّ ذلك على صدور الذنب [ العظيم ] من موسى .
والثاني : أنه التزم أنَّه لا يعترض على ذلك العالمِ ، وجرت العهود المذكورة بذلك ، ثم إنَّه خالف تلك العهود ، وذلك ذنبٌ .
فالجواب عن الأول : أن موسى ، لما شاهد منه الأمر الخارج عن العادةِ ، قال هذا لكلام ، لا لأجل أنه اعتقد فيه أنه فعل قبيحاً ، بل إنَّه أحبَّ أن يقف على وجهه وسببه ، وقد يقال في الشيء العجيب الذي لا يعرف سببه : إنَّه إمرٌ .
وعن الثاني : أنَّه إنما خالف الشَّرط؛ بناءً على النِّسيان ، ثم إنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنَّه [ لما خالف الشرط ] لم يزد على أن قال : { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } ، فعندها اعتذر موسى بقوله : { لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ } أراد أنه نسي وصيَّته ، ولا مؤاخذة على الناسي ، { وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } أي : لا تكلِّفني مشقَّة ، يقال : أرهقهُ عسراً وأرهقته عسراً ، أي : كلَّفتهُ ذلك . لا تضيِّق عليَّ أمري ، لا تعسِّر متابعتك [ ويسرها عليّ ] بالإغضاء ، وترك المناقشة ، و عاملني باليسر ، ولا تعاملني بالعسر .
و « عُسْراً » : مفعول ثانٍ ل « تُرهِقْنِي » من أرهقه كذا ، إذا حمَّله إيَّاه ، وغشَّاه به ، و « ما » في « بِمَأ نسيتُ » مصدرية ، أو بمعنى « الذي » والعائد محذوف .

وقرأ أبو جعفر : « عُسُراً » بضمِّ السين ، حيث وقع .
قوله : { فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ } الآية .
اعلم أنَّ لفظ الغلام قد يتناول الشابَّ البالغ ، وأصله من الاغتلامِ ، وهو شدَّة الشَّقِ ، وذلك إنما يكون في الشَّباب ، وقد يتناولُ هذا اللفظُ الصبي الصغير ، وليس في القرآن كيف لقياه : هل كان يلعبُ مع الغلمان ، أو كان منفرداً؟ أو هل كان مسلماً ، أو كان كافراً؟ أو هل كان بالغاً ، أو صغيراً؟ لكن اسم الغلام بالصَّغير أليقُ ، وإن احتمل الكبير ، إلاَّ أن قوله : « بغير نفسٍ » أليق بالبالغ منه بالصبيِّ؛ لأن الصبيِّ لا [ يقتل ] .
قال ابن عباس : لم يكن نبي الله يقول : أقتلت نفساً زكيَّة بغير نفس إلاَّ وهو صبيٌّ لم يبلغ .
وكيفيَّة قتله ، هل كان بحزِّ رأسه ، أو بضرب رأسه بالجدار ، أو بطريق آخر؟ فليس في لفظ القرآن ما يدلُّ على شيءٍ من هذه الأقسام ، لكنَّه روي في الحديث عن ابن عباس عن أبيِّ بن كعب قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنَّ الغلام الذي قتله الخضرُ ، طبع كافراً ، ولو عاش ، لأرهق والديه طغياناً وكفراً » .
فإن قيل : إنَّ موسى استبعد أن يقتل النَّفس إلاَّ لأجل القصاصِ ، وليس الأمر كذلك ، لأنه قد يحلُّ دمه بسبب آخر .
فالجواب : أنَّ السَّبب الأقوى هو ذاك .
قوله : { زَكِيَّةً } : قرأ « زَاكِية » بألف وتخفيف الياء : نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وبدون الألف وتشديد الياء : الباقون ، فمن قرأ « زاكيةً » فهو اسمُ فاعلٍ على أصله ، ومَنْ قرأ « زَكِيَّةً » فقد أخرجه إلى فعيلة للمبالغة .
قال الكسائيُّ والفراء : معناهما واحدٌ؛ مثل القاسيةِ والقسيَّة ، وقال أبو عمرو بن العلاء : الزَّاكيةُ : التي لم تذنبْ قطُّ ، والزكيَّة : التي أذنبت ثم تابت .
[ والغلام : من لم يبلغْ ] . وقد يطلق على البالغ الكبير . فقيل مجازاً باعتبار ما كان . ومنه قول ليلى : [ الطويل ]
3549- شَفاهَا مِنَ الدَّاءِ الذي قَدْ أصَابهَا ... غُلامٌ إذَا هزَّ القَناةَ شَفاهَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
3550- تَلقَّ ذُبَابَ السَّيفِ عنِّي فإنَّني ... غُلامٌ إذا هو جيتُ لستُ بِشاعرِ
وقيل : بل هو حقيقة ، لأنه من الاغتلام وهو الشَّبق ، وذلك إنما يكون في الشاب المحتلمِ ، والذي يظهرُ أنه حقيقةٌ فيهما عند الاطلاق ، فإذا أريد أحدهما ، قيد كقوله : « لغُلامَيْنِ يَتيمينِ » وقد تقدَّم ترتيب أسماءِ الآدميِّ من لدن هو جنينٌ إلى أن يصير شيخاً ، ولله الحمد ، في آل عمران .
قال الزمخشري : « فإن قلت : لم قال : » حتى إذا ركبا في السفينة خرقها « بغير فاءٍ ، و » حتَّى إذا لقيا غلاماً ، فقتله « بالفاء؟ قلت : جعل » خَرقهَا « جزاء للشرط ، وجعل » قتلهُ « من جملة الشرط معطوفاً عليه ، والجزاء » قال : أقتلت « فإن قلت : لم خولف بينهما؟ قلت : لأنَّ الخرق لم يتعقَّب الركوب ، وقد تعقَّب القتل لقاء الغلام » .

قوله : بغَيْرِ نفسٍ « فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنها متعلقة ب » قَتلْتَ « .
الثاني : أنها متعلقة بمحذوف ، على أنها حال من الفاعل ، أو من المفعول ، أي : قتلته ظالماً ، أو مظلوماً ، كذا قدَّره أبو البقاء ، وهو بعيد جدًّا .
الثالث : أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : قتلاً بغير نفسٍ .
قوله : » نُكْراً « قرأ نافع ، وأبو بكر ، وابن ذكوان بضمَّتين ، والباقون بضمة وسكون ، وهما لغتان ، أو أحدهما أصلٌ ، و » شَيْئاً « : يجوز أن يراد به المصدر ، أي : مجيئاً نكراً ، وأن يراد به المفعول به ، أي : جئت أمراً منكراً ، وهل النكر أبلغ من الإمر ، أو بالعكس؟ فقيل : الإمرُ أبلغُ؛ لأنَّ قتل أنفسٍ بسبب الخرقِ اعظم من قتل نفسٍ واحدة وأيضاً : فالإمر هو الداهية العظيمة فهو أبلغ من النكر ، وقيل : النُّكر أبلغ ، لأن معه القتل الحتم ، بخلاف خرق السفينة ، فإنه يمكن تداركه؛ ولذلك قال : » ألَمْ أقُلْ لَكَ « ولم يأتِ ب » لَكَ « مع » إمْراً « ؛ لأن هذه اللفظة تؤكِّد التَّوبيخ .
وقيل : زاد ذلك ، لأنَّه نقض العهد مرَّتين ، فقال الخضرُ لموسى - عليهما السلام- : { ألَمْ أقُل لكَ إنَّكَ لنْ تَسْتطيعَ معي صَبْراً } فعند ذلك قال موسى : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } وهذا كلام نادمٍ .
قوله : » فَلاَ تُصَاحِبْنِي « : العامة على » تُصاحِبُني « من المفاعلة ، وعيسى ويعقوب : » فلا تَصْحبنِّ ] « من صحبه يصحبه .
وأبو عمرو في رواية ، وأبيٌّ بضمِّ التاءِ من فوق ، وكسر الحاء ، من أصحب يصحب ، ومفعوله محذوف ، تقديره : فلا تصحبني نفسك ، وقرأ أبيٌّ » فلا تصحبني علمك « فأظهر المفعول .
قوله : » مِنْ لدُنِّي « العامة على ضمِّ الدال ، وتشديد النون ، وذلك أنَّهم أدخلوا نون الزيادة أعني الوقاية على » لَدُن « لتقيها من الكسر؛ محافظة على سكونها ، حوفظ على سكون نون » مِنْ « و » عَنْ « فألحقت بهما نون الوقايةِ ، فيقولون : منِّي وعنِّي بالتشديد .
ونافع بتخفيف النون ، والوجه فيه : أنَّه لم يلحقُ نون الوقاية ل » لَدُن « إلا أن سيبويه منع من ذلك وقال : » لا يجوز أن تأتي ب « لَدُنْ » مع ياء المتكلم ، دون نون وقاية « وهذه القراءة حجة عليه ، فإن قيل : لم لا يقال : إن هذه النون نون الوقاية ، وإنَّما اتصلت ب » لَدُ « لغة في » لَدُنْ « حتى يتوافق قول سيبويه ، مع هذه القراءة؟ قيل : لا يصحُّ ذلك من وجهين :
أحدهما : أنَّ نون الوقاية ، إنما جيء بها؛ لتقيَ الكلمة الكسر؛ محافظة على سكونها ، ودون النون لا سكون؛ لأنَّ الدال مضمومة ، فلا حاجة إلى النُّون .

الثاني : أن سيبويه يمنع أن يقال : « لَدُنِي » بالتخفيف .
وقد حذفت النون من « عَنْ » و « مِنْ » في قوله : [ الرمل ]
3551- أيُّهَا السَّائلُ عنهم وعنِي ... لستُ من قَيْسٍ ولا قَيْسُ مني
وقرأ أبو بكر بسكون الدَّال ، وتخفيف النون ، لكنَّه ألزم الدال الضمة منبهة على الأصل .
ولكن تحتمل هذه القراءة أن تكون النون فيها أصليَّة ، وأن تكون للوقاية على أنها دخلت على « لد » الساكنة الدال ، لغة في « لدُنْ » فالتقى ساكنان ، فكسرت نون الوقاية على أصلها ، وإذا قلنا بأنَّ النون أصلية ، فالسكون تخفيف؛ كتسكين ضاد « عضدٍ » وبابه واختلف القراء في هذا الإشمام ، فقائل : هو إشارة بالعضو من غير صوتٍ ، كالإشمام الذي في الوقف ، وهذا هو المعروف ، وقائل : هو إشارة للحركة المدركة بالحسِّ ، فهو كالرَّوْم في المعنى ، يعني : أنه إتيان ببعض الحركة ، وقد تقدَّم هذا محرَّراً في يوسف عند قوله { لاَ تَأْمَنَّا } [ يوسف : 11 ] ، وفي قوله في هذه السورة « من لدنه » في قراءة شعبة أيضاً ، وتقدَّم بحثٌ يعود مثله هنا .
وقرأ عيسى وأبو عمرو في رواية « عُذُراً » بضمتين ، وعن أبي عمرو أيضاً « عذري » مضافاً لياءِ المتكلم .
و « مِنْ لدُنَّي » متعلق ب « بَلغْتَ » أو بمحذوف على أنَّه حال من « عُذْراً » .
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس : معناه : أعذرت فيما بيني وبينك .
وقيل : حذَّرتني أنِّي لا أستطيع معك صبراً .
وقيل : اتَّضح لك العذر في مفارقتي .
والمراد أنَّه مدحه بهذه الطريقة من حيث إنَّه احتمله مرَّتين أولاً وثانياً .
روى ابن عبَّاس عن أبيِّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رَحْمَةُ الله عليْنَا ، وعلى مُوسَى » وكان إذا ذكر أحداً من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بدأ بنفسه « لولا أنَّه عجَّل ، لرأى العجب ، ولكنَّه أخذته من صاحبه ذمامة ، قال : » إنْ سألتُكَ عَن شيءٍ بعدها ، فلا تُصَاحِبنِي ، قَدْ بلغْتَ من لدُنِّي عُذْراً؛ فلو صبر ، لرأي العجب « .
قوله : { فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا } الآية .
قال ابن عباس : هي أنطاكية .
وقال ابن سيرين : هي [ الأبلة ] ، وهي أبعد الأرض من السَّماء وقيل : بَرْقَة .
وعن أبي هريرة : بلدة بالأندلس .
{ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا } قال أبي بن كعبٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم : حتَّى إذا أتيا أهل قريةٍ لئاماً ، فطافَا في المجلسِ فاستطعما أهلها ، فأبوا أن يضيفوهما .
وروي أنَّهما طافا في القرية ، فاستطعماهم ، فلم يطعموهما ، فاستضافاهم ، فلم يضيِّفوهما .
قال قتادة : شرُّ القرى التي لا تضيِّف الضَّيف .
وروي عن أبي هريرة : » أطعمتهما امرأةٌ من أهل بربر بعد أن طلبا من الرِّجال ، فلم يطعموهما؛ فدعوا لنسائهم ، ولعنا رجالهم « .

قوله : { استطعمآ أَهْلَهَا } : جواب « إذا » أي : سألاهم الطام ، وفي تكرير « أهلها » وجهان :
أحدهما : أنه توكيد من باب إقامة الظاهر مقام المضمر؛ كقوله : [ الخفيف ]
3552- لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ الموتَ شَيءٌ ... نَغَّص المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا
وقول الآخر : [ الكامل ]
3553- لَيْتَ الغُرابَ غَداةَ يَنْعُبُ دائماً ... كَانَ الغُرابُ مُقطَّعَ الأوْدَاجِ
والثاني : أنَّه للتأسيس؛ وذلك أنَّ الأهل المأتيِّين ليسوا جميع الأهل ، إنما هم البعض؛ إذ لا يمكن أن يأتينا جميع الأهل في العادة في وقتٍ واحدٍ ، فلما ذكر الاستطعام ، ذكره بالنسبة غلى جميع الأهل ، كأنهما تتبعا الأهل واحداً واحداً ، فلو قيل : استطعماهم ، لاحتمل أنَّ الضمير يعودُ على ذلك البعضِ المأتيِّ ، دون غيره ، فكرَّر الأهل لذلك .
فإن قيل : الاستطعام ليس من عادة الكرام ، فكيف أقدم عليه موسى ، مع أنَّ موسى كان من عادته طلبُ الطعام من الله تعالى ، كما حكى عنه قوله : { إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] .
فالجواب : أنَّ إقدام الجائع على الاستطعام أمرٌ مباحٌ في كلِّ الشرائع ، بل ربَّما وجب عند خوف الضَّرر الشديد .
فإن قيل : إنَّ الضيافة من المندوبات ، فتركها ترك المندوب ، وذلك أمرٌ غير منكرِ ، فكيف يجوز من موسى - عليه السلام - مع علوِّ منصبه أن يغضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه مع ذلك العالم في قوله : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } .
وأيضاً مثل هذا الغضب لأجل ترك الأكل في ليلةٍ واحدةٍ ، لا يليقُ بأدونِ الناس فضلاً عن كليم الله؟ .
فالجواب : أنَّ الضيافة قد تكون من الواجبات ، بأن كان الضيف قد بلغ في الجوع إلى حيث لو لم يأكل ، لهلك ، وإذا كان كذلك ، لم يكن الغضب الشديد لأجل ترك الأكل [ ليلة ] ، بل كان لأجل تركهم الواجب عليهم .
فإن قيل : إنه ما بلغ في الجوع إلى حدِّ الهلاك؛ بدليل أنَّه قال : { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } ، ولو كان بلغ في الجوع إلى حدِّ الهلاك ، لما قدر على ذلك العمل ، فكيف يصحُّ منه طلب الأجرة؟ .
فالجواب : لعلَّ ذلك الجوع كان شديداً ، إلاَّ أنه ما بلغ حدَّ الهلاك .
قوله : « أنْ يُضيِّفُوهمَا » مفعولٌ به لقوله « أبَوْا » والعامة على التشديد من ضيَّفه يضيِّفه . والحسن وأبو رجاء وأبو رزين بالتخفيف من : أضافه يضيفه وهما مثل : ميَّله وأماله .
رُوِيَ أنَّ أهل تلك القرية ، لمَّا سمعوا نزول هذه الآية ، استحيوا ، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل من الذَّهب ، وقالوا : يا رسول الله ، نشتري بهذا الذَّهب أن تجعل الباء تاء؛ حتى تصير القراءة « فأتوا أن يضيفوهما » ، أي : أتوا [ لأجل أن ] يضيِّفوهما ، أي كان إتيانهم لأجل الضِّيافة ، وقالوا : غرضنا منه أن يندفع عنَّا هذا اللُّؤم ، فامتنع النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال : « تغير هذه النُّقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله تعالى ، وذلك يوجب القدح في الإلهيَّة .

قوله : { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } أي : فرأيا في القرية حائطاً مائلاً .
وقوله : « أنْ ينْقَضَّ » مفعول للإرادة ، و « انقضَّ » يحتمل أن يكون وزنه « انفعل » من انقضاضِ الطائر ، أو من القضَّة ، وهي الحصى الصِّغار ، والمعنى : يريد أن يتفتَّت ، كالحصى ، ومنه طعام قَضَضٌ ، إذا كان فيه حصى صغارٌ ، وأن يكون وزنه « افْعَلَّ » ك « احمَرَّ » من النقض ، يقال : نقض البناء ينقضه ، إذا هدمه ، ويؤيد هذا ما في حرف عبد الله وقراءة الأعمش « يُرِيدُ ليُنْقَضَ » مبنيًّا للمفعول؛ واللام كهي في قوله { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] . وما قرأ به أبيٌّ « يُرِيدُ أن ينقض » بغير لامِ كيْ .
وقرأ الزهريُّ « أن ينقاضَ » بألف بعد القاف . قال الفارسي : « هو من قولهم قضته فانقاضَ » أي : هدمته ، فانهدم . قال شهاب الدين : فعلى هذا يكون وزنه ينفعلُ ، والأصل : « انْقيضَ » فأبدلت الياء ألفاً ، ولمَّا نقل أبو البقاء هذه القراءة قال : « مثل : يَحمارُّ » ومقتضى هذا التشبيه : أن يكون وزنه « يفعالَّ » ونقل أبو البقاء : أنه قُرئ كذلك بتخفيف الضاد ، قال : « هو من قولك : انقاضَ البناءُ ، إذا تهدَّم » .
وقرأ عليٌّ أمير المؤمنين - كرَّم الله وجهه- ، وعكرمة في آخرين « يَنقَاصُ » بالصاد مهملة ، وهو من قاصه يقيصه ، أي : كسره ، قال ابن خالويه : « وتقول العرب : انقاصتِ السِّنُّ : إذا انشقَّت طولاً » وأنشد لذي الرّمّة :
3554- .. . . مُنقاصٌ ومُنْكثِبُ
وقيل : إذا تصدَّعتْ ، كيف كان وأنشد لأبي ذؤيبٍ : [ الطويل ]
3555- فراقٌ كقَيْصِ السنِّ ، فالصَّبْرَ إنَّه ... لكلِّ أنَاسٍ عَثْرةٌ وجُبورُ
ونسبة الإرادة إلى الجدار مجازٌ ، وهو شائع جدًّا .
وقد ورد في النَّثر والنَّظم ، قال الشاعر : [ الوافر ]
3556- يُرِيدُ الرُّمح صَدرَ أبِي بَراءٍ ... ويَرْغَبُ عنْ دِمَاءِ بنِي عَقيلٍ
والآية من هذا القبيل .
وكذا قوله : { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب } [ الأعراف : 154 ] وقوله : { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] ومن أنكر [ المجاز ] مطلقاً أو في القرآن خاصة ، تأوَّل ذلك على أنه خُلق للجدارِ حياةٌ وإرادةٌ؛ كالحيوانات ، أو أنَّ الإرادة صدرت من الخضرِ؛ ليحصل له ، ولموسى ما ذكره من العجب .
وهو تعسفٌ كبيرٌ ، وقد أنحى الزمخشري على هذا القائل إنحاءً بليغاً جدًّا .
قوله : « فأقَامهُ » قيل : [ نقضه ] ، ثم بناه ، قاله ابن عبَّاس .
وقيل : مسحه بيده ، فقام ، واستوى ، وذلك من معجزاته ، هكذا ورد في الحديث . وهو قول سعيد بن جبير .
واعلم أن ذلك العالم ، لمَّا فعل ذلك ، كانت الحالة حالة اضطرارٍ إلى الطعام ، فلذلك نسيَ موسى قوله : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } فلا جرم قال : { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } ، أي : طلبت على إصلاحك الجدار جعلاً ، أي لصرفه في تحصيل المطعوم؛ فإنك قد علمت أنَّا جياعٌ ، وأنَّ أهل القرية لم يطعمونا ، فعند ذلك قال الخضر : « هذا فراقُ بَيْنِي وبيْنكَ » .

قوله : { لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو « لتخِذْتَ » بفتح التاء ، وكسر الخاء مِنْ تَخِذَ يتْخذُ ك « تَعِبَ يَتْعَبُ » . والباقون « لاتَّخذتَ » بهمزة الوصل ، وتشديد التاءِ ، وفتح الخاء من الاتِّخاذ ، واختلف : هل هما من الأخذ ، والتاء بدلٌ من الهمزة ، ثم تخذف التاء الأولى فيقال : تَخِذَ ، كتَقِيَ من « اتَّقَى » نحو قوله : [ الطويل ]
3557- .. تَقِ الله فِينَا والكِتابَ الَّذي تَتْلُو
أم هما من تخذَ ، والتاء أصيلةٌ ، ووزنهما فعل وافتعل؟ قولان تقدَّم تحقيقهما في هذا الموضوع ، والفعل هنا على القراءتين متعدٍّ لواحدٍ؛ لأنَّه بمعنى الكسب .
قوله : { فِرَاقُ بَيْنِي } : العامة على الإضافة؛ اتِّساعاً في الظرف ، وقيل : هو بمعنى الوصل . كقوله : [ الطويل ]
3558- . ... وجِلْدَةُ بين العيْنِ والأنْفِ سَالِمُ
وحكى القفال عن بعض أهل العربيَّة أنَّ البين هو الوصل؛ لقوله { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] ، فيكون المعنى هذا فراقُ اتصالنا ، كثول القائل : أخزى الله الكاذب بيني وبينك ، أي : أحدنا هكذا . قاله الزجاج .
وقرأ ابن أبي عبلة « فِراقُ » بالتنوين على الأصل ، وتكرير المضاف إليه عطفاً بالواو هو الذي سوَّغ إضافة « بين » إلى غير متعددٍ؛ ألا ترى أنَّك لو اقتصرت على قولك : « المَالُ بيني » لم يكن كلاماً؛ حتى تقول : بيننا أو بيني وبين فلانٍ .
وقوله : « هذا » أي : هذا الإنكار على ترك الأجر هو المفرَّق بيننا .
وقيل : إنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا شرط أنَّه إنْ سأله بعد ذلك سؤالاً ىخر ، حصل الفراق بقوله : [ { إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } فلما ذكر هذا السؤال فارقه ذلك العالم ، وقال ] : { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } أي : هذا الفراق [ الموعود ] ، ثم قال : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } .
قرأ ابن وثَّاب « سَانْبِيكَ » بإخلاص الياء بدل الهمزة .
قوله تعالى : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } : العامة على تخفيف السين ، جمع « مِسْكين » . وقرأ عليٌّ أميرالمؤمنين - كرَّم الله وجهه - بتشديدها جمع « مسَّاك » وفيه قولان :
أحدهما : أنه الذي يمسكُ سكَّان السفينة ، وفيه بعض مناسبة .
والثاني : أنَّه الذي يدبغُ المُسوكَ جمع « مَسْكٍ » بفتح الميم ، وهي الجلود ، وهذا بعيدٌ؛ لقوله : { يَعْمَلُونَ فِي البحر } قال شهاب الدين ولا أظنُّها إلا تحريفاً على أمير المؤمنين ، و « يَعْملُونَ » صفة لمساكين .
قوله : { وَرَآءَهُم مَّلِكٌ } « وَرَاء » هنا بمعنى المكان .
وقيل : « وَراءَهُمْ » بمعنى « أمَامَهُمْ » ؛ كقوله :

{ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } [ إبراهيم : 16 ] وقيل : « وَراءَهُمْ » خلفهم ، وكان رجوعهم في طريقهم عليه . والأول أصحُّ؛ لقوله : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } [ إبراهيم : 16 ] ويؤيِّده قراءة ابن عباس : وكان أمامهم ملكٌ يأخذ كلَّ سفينةٍ غصباً وقال سوارُ بن المضرِّب السعديُّ : [ الطويل ]
3559- أيَرْجُو بنُو مَرْوانَ سَمْعِي وطَاعتِي ... وقَوْمِي تَميمٌ والفَلاةُ وَرائِيَا
وقال تعالى : { وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } [ الإنسان : 27 ] وتحقيقه : أنَّ كلَّ ما غاب عنك ، فقد توارى عنك وتواريت عنه ، وقيل : إنَّ تحقيقه أنَّ ما غاب عنك ، فقد توارى عنك ، وأنت متوارٍ عنه ، فكلُّ ما غاب عنك ، فهو وراءك ، وأمام الشيء وقدامه ، إذا كان غائباً عنك ، متوارياً عنك ، فلم يبعد إطلاق لفظة « وراء » عليه ، ويراد بها الزَّمان؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
3560- ألَيْسَ وَرائِي أنْ أدبَّ على العَصَا ... فَيأمَنَ أعْدائِي ويَسْأمنِي أهْلِي
وقال لبيد : [ الطويل ]
3561- أليْسَ ورَائِي إنْ تَراخَتْ منيَّتِي ... لُزومُ العَصَا تُحْنَى عليْهَا الأصَابِعُ
قوله : « غَصْباً » فيه أوجه :
الأول : أنه مصدر في موضع الحال ، أو منصوب على المصدر المبين لنوع الأخذ ، أو منصوب على المفعول له ، وهو بعيد عن المعنى ، وادَّعى الزمخشري أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، فقال : « فإن قلت : قوله : » فأردتُّ أن أعيبها « مسبَّبٌ عن خوفه الغصب عليها ، فكان حقه أن يتأخَّر عن السبب؛ فلمَ قُدِّم عليه؟ قلتُ : النيةُ به التأخيرُ؛ وإنما قدِّم للعناية به ، ولأنَّ خوف الغصب ليس هو السبب وحده ، ولكن مع كونها للمساكين ، فكان بمنزلةِ قولك : زيدٌ ظنِّي مقيمٌ » .
قوله : { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ } : التثنية للتغليب ، يريد : أباه وأمَّه ، فغلَّب المذكَّر ، وهو شائع ، ومثله : القمران والعمران ، وقد تقدَّم [ في يوسف ] : أنَّ الأبوين يراد بهما الأب والخالة ، فهذا أقربُ .
والعامة على « مُؤمنين » بالياء ، وأبو سعيدٍ الخدريُّ ، والجحدريُّ « مُؤمنانِ » بالألف ، وفيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه على لغة بني الحارث ، وغيرهم .
الثاني : أن في « كان » ضمير الشَّأن ، و « أبواهُ مُؤمِنانِ » مبتدأ وخبر في محل النصب؛ كقوله : [ الطويل ]
3562- إذَا مِتُّ كان النَّاسُ صِنفَانِ شَامتٌ ..
فهذا أيضاً محتمل للوجهين .
الثالث : أن في « كان » ضمير الغلام ، أي : فكان الغلامُ ، والجملة بعده الخبر ، وهو أحسن الوجوه .
قوله : { فَخَشِينَآ } أي : فعلمنا { أَن يُرْهِقَهُمَا } يفتنهما .
وقال الكلبيُّ : يكلِّفهما طغياناً وكفراً .
وقال سعيد بن جبيرٍ : فخشينا أن يحملهما حبُّه على أن يتابعاه على دينه .
قيل : إنَّ ذلك الغلام كان بالغاً ، وكان يقطع الطريق ، ويقدم على الأفعال المنكرة ، وكان يصير ذلك سبباً لوقوعهما في الفسق ، وربما يؤدِّي ذلك الفسق إلى الكفر .
وقيل : كان صبيًّا إلا أن الله تعالى علم منه أنَّه لو صار بالغاً ، لحصلت منه تلك المفاسد .
وقيل : الخشية بمعنى الخوف ، وغلبة الظنِّ ، والله تعالى قد أباح له قتل من غلب على ظنِّه تولُّد المفاسد منه .

فإن قيل : هل يجوز الإقدام على قتل الإنسان لمثل هذا الظنِّ؟
فالجواب : أنَّه إذا تأكَّد ذلك الظنُّ بوحي الله تعالى إليه ، جاز .
قوله : { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا } : قرأ نافع ، وأبو عمرو بفتح الباء ، وتشديد الدال من « بدَّل » هنا ، وفي التحريم [ الآية : 5 ] { أَن يُبْدِلَهُ } وفي القلم [ الآية : 32 ] { أَن يُبْدِلَنَا } والباقون بسكون الباء ، وتخفيف الدال من « أبْدلَ » في المواضع الثلاثة ، فقيل : هما لغتان بمعنى واحد ، وقال ثعلبٌ : الإبدال تنحيةُ جوهرةٍ ، واستئناف أخرى؛ وأنشد : [ الرجز ]
3563- عَزْلَ الأميرِ للأمِيرِ المُبدَلِ ... قال : ألا تراه نحَّى جسماً ، وجعل مكانه آخر ، والتبديل : تغيير الصورة إلى غيرها ، والجوهرة باقية بعينها؛ واحتجَّ الفراء بقوله تعالى : { يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] قال : والذي قال ثعلبٌ حسنٌ ، إلاَّ أنَّهم يجعلون « أبدلتُ » بمعنى « بدَّلتُ » قال شهاب الدين : ومن ثم ، اختلف الناس في قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض } [ إبراهيم : 48 ] : هل يتغير الجسمُ والصفة ، أو الصفة دون الجسم؟ .
قوله : { يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً } أي : يرزقهما الله ولداً خيراً من هذا الغلام « زَكَاةً » أي : ديناً ، وصلاحاً .
وقيل : ذكر الزكاة تنبيهاً على مقابلة قول موسى - عليه السلام - « أقتَلْتَ نفساً زكيَّة بغيرِ نفسٍ » فقال العالم : أردنا أن يرزق الله هذين الأبوين خيراً ، بدلاً عن ابنهما هذا ولداً يكون خيراً منه بما ذكره من الزَّكاة ، ويكون المراد من الزَّكاة الطهارة ، وكان قول موسى : « أقَتَلْتَ نَفْساً زكيَّة » ، أي : طاهرة ، لأنَّها ما وصلت إلى حدِّ البلوغ ، فكانت زاكية طاهرة من المعاصي ، فقال العالم : إن تلك النفس ، وإن كانت طاهرة زاكية في الحال ، إلاَّ أنه تعالى علمَ منها أنَّها إذا بلغتْ ، أقدمت على الطغيان ، والكفر ، فأردنا أن يحصل لهما ولدٌ عظيمٌ ، أي : أعظم زكاة وطهارة منه ، وهو الذي يعلمُ الله منه أنَّه عند البلوغ لا يقدم على شيءٍ من هذه المحظورات .
ومن قال : إنَّ ذلك الغلام كان بالغاً ، قال : المراد من وصف نفسه بكونها زاكية أنه لم يظهر عليه ما يوجب قتله .
قوله : « رُحْماً » قرأ ابن عامر « رُحُماً » بضمتين ، والباقون بضة وسكون ، وهما بمعنى الرحمة؛ قال رؤبة : [ الرجز ]
3564- يَا مُنْزِلَ الرُّحْمِ على إدْريسَا ... ومُنْزِلَ اللَّعْنِ على إبْليسَا
وقيل : الرُّحُم بمعنى الرَّحم ، وهو لائِقٌ هنا من أجلِ القرابةِ بالولادة؛ ويؤيِّده قراءة ابن عباس « رَحِماً » بفتح الراءِ ، وكسر الحاء ، و « زَكاةً ورُحْماً » منصوبان على التمييز .
والمعنى : هذا البدل يكون [ أقرب ] عطفاً ورحمة بأبويه ، وأشفق عليهما .
فصل في المبدل به
قال الكلبيُّ : أبدلهما الله جارية تزوَّجها نبيٌّ من الأنبياء ، فولدت له نبيًّا ، فهدى الله على يديه أمَّة من الأمم .
قوله : { وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } وكان اسمهما « أصْرَم » و « صَرِيم » .

واعلم أنه سمَّى القرية في قوله : { أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } وسمَّى القرية هنا مدينة بقوله : « يَتيميْنِ في المدينةِ » فدلَّ على جواز [ تسمية ] إحداهما بالأخرى ، ثم قال : « وكَان تحته كنزٌ لهُمَا » .
روى أبو الدرداء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « كَانَ ذهباً ، وقضَّة » .
وقال عكرمة : كان مالاً ، ويدلُّ على ذلك أنّ المفهوم من لفظ الكنز هو المالُ .
وعن ابن عباس قال : « كَانَ لوحاً من ذهبٍ مكتوباً فيه : عجباً لمن أيقن بالموتِ ، كيف يفرحُ ، عجباً لمن أيقن بالقدر كيف ينصبُ ، عجباً لمن أيقن بالرزقِ كيف يتعب ، عجباً لمن يؤمنُ بالحساب كيف يغفل ، عجباً لمن أيقن بزوالِ الدُّنيا ، وتقلبها بأهلها كيف يطمئنُ إليها ، لا إله إلا الله ، محمدُ رسول الله ، وفي الخطاب الجانب الآخر : أنا الله ، لا إله إلا أنا ، وحدي لا شريك لي ، خلقت الخير والشرَّ فطوبى [ لمن ] خلقته للخير ، وأجريته على يديه ، والويل لمن خلقته للشرِّ ، وأجريته على يديه » .
وهذا قول أكثر المفسِّرين وروي أيضاً مرفوعاً ، قال الزجاج : والكنزُ إذا أطلق إنما ينصرفُ إلى كنز المال ، ويجوز عند التَّقييد لكنز العلم ، يقال : عنده كنز علم . وهذا اللوح كان جامعاً لهما .
« وكان أبُوهمَا صالحاً » قيل : كان [ اسمه ] « كَاشِحٌ » وكان من الأنبياء ، قال ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما ، ولهذا قيل : إنَّ الرجل الصالح يكون كنزه العلم لا المال ، قيل : كان بينهما وبين الأب الصَّالح سبعة آباء وهذا يدل على أنَّ صلاح الإنسان يفيد العناية بأحوال أبنائه ، فإن قيل : اليتيمان ، هل أحد منهما عرف حصول الكنز تحت ذلك الجدار ، أو ما عرف أحد منهما ذلك؟ فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار ، وإن كان الثاني فكيف يمكنه بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز ومعرفته والانتفاع به؟ .
الجواب : لعل اليتيمين كانا جاهلين به إلاَّ أن وصيَّهما كان عالماً به ، إما أن ذلك الوصيَّ غاب ، وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السُّقوطِ ، ثم قال : « فأرادَ ربُّك أن يبلغا أشدَّهُما » أي : يبلغا ويعقلا ، وقيل : يدركا شدَّتهما وقوتهما .
وقيل : ثماني عشرة سنة ، ويستخرجا حينئذ كنزهما « رحْمةً من ربِّك » أي : نعمة من ربِّك .
وفي نصب « رَحْمَةً » ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مفعول له .
الثاني : أن يكون في موضع الحال من الفاعل ، أي : أراد ذلك راحماً ، وهي حالٌ لازمة .
الثالث : أن ينتصب انتصاب المصدر؛ لنَّ معنى « فاراد ربُّك أن يبلغا » معنى : « فرحمهما » ثم قال : وما فعلتهُ عن أمْرِي « أي : ما فعلته باختيارِي ورأيي ، بل فعلتهُ بأمر الله وإلهامه ، بأنَّ الإقدامَ على تنقيص أموالِ النَّاسِ وإراقةِ دمائهم ، لا يجوز إلاَّ بالوحي والنفي القاطع ، » وذلِكَ تأويلُ ما لمْ تَسْطِع عليه صبراً « أي : لم تطقْ عليه صبراً .

قوله : « تَسْطِعْ » قيل أصله « اسْتطاعَ » فحذفت تاء الافتعال ، وقيل : المحذوف الطاء الأصلية ، ثم أبدلت تاءُ الافتعال طاء بعد السِّين ، وهذا تكلف بعيدٌ .
وقيل : السِّين مزيدة عوضاً من قلب الواو ألفاً ، والأصل : أطاع ، ولتحقيق القول فيه موضعٌ غير هذا ، ويقال : استتاع - بتاءين ، واستاع - بتاء واحدة ، فهذه أربع لغاتٍ حكاها ابن السِّكيتِ .
فصل
اعلم أنَّ أحكام الأنبياء - عليهم السلام - مبنيةٌ على الظواهر؛ كما قال - عليه السلام - : « نَحْنُ نحكمُ بالظَّاهرِ والله يتولَّى السَّرائرَ » وهذا العالم ما كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور ، بل ك انت مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر ، وذلك لنَّ الظاهر في أموال النَّاس ، وفي أرواحهم في المسالة الأولى والثانية من غير سببٍ ظاهرٍ لا يبيح ذلك التصرف؛ لأن تخريق السفينة تنقيصٌ لملك الغير من غير سبب ظاهر يبيحُ ذلك التصرُّف ، والإقدام على قتل الغلامِ إلحاقٌ بضررِ القتل به من غير سبب ظاهر والإقدامُ على إقامةِ الجدار المائل تحملٌ للتَّعَب والمشقَّة من غير سبب ظاهر ، فهذه المسائل الثلاثة ليس حكم ذلك العالم فيها مبنيًّا على الأسباب الظاهرة ، بل كان مبنياً على أسباب معتبرة في نفس الأمر ، وهذا يدلُّ على أنَّ ذلك العالم كان قد آتاهُ الله قوة عقلية يقدر بها أن يشرفَ على بواطن الأمور ، ويطَّلع بها على حقائق الأشياء ، فكانت مرتبة موسى - عليه السلام - في معرفةِ شرائع الأحكام بناء على الظواهر ، وهذا العالم مرتبته الوقوف على بواطن الأشياء وحقائقها ، فلهذا كانت مرتبته في العلم فوق مرتبة موسى . إذا عرف هذا؛ فنقول : هذه المسائل الثلاثة مبنيةٌ على حرف واحد ، وهو أنه : إذا تعارض ضرران يجب تحمل الأولى ، لدفع الأعرى ، فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة ، أمَّا الأولى : فلأنَّ ذلك العالم علم أنَّه لو لم يعب السفينة بالتخريقِ ، فغصبها ذلك الملك ، وفاتت منافعها بالكليَّة على ملاَّكها ، فوقع التعارضُ بين أن يخرقها ويعيبها ، ويبقى مع ذلك العيب على ملاَّاكها وبين ألاَّ يخرقها ، فيغصبها الملك ، وتفوت منافعها على ملاكها بالكلِّية ، ولا شكَّ أن الضرر الأوَّل أقلُّ؛ فوجب تحمُّله؛ لدفع الضرر الثاني؛ لكونه أعظم ضرراً .
وأمَّا المسألة الثانية فكذلك؛ لأنَّ بقاء ذلك الغلام كان مفسدة للوالدين في دينهم ، وفي أبنائهم ، ولعلَّه علم بالوحي أن المضار الناشئة من قتل ذلك الغلام أقل من المضار الناشئة بسبب حصول تلك المفاسدِ للأبوين؛ فلهذا السَّبب أقدم على قتله .
والمسألة الثالثة - أيضاً - كذلك؛ لأنَّ المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على بناء الجدار المائل أسهل من المضارِّ الحاصلة بسبب ترك إقامته ، لأنَّ ذلك الجدار لو سقط ، لضاع مال أولئك الأيتام ، وفيه ضررٌ شديدٌ ، فالحاصل أنَّ ذلك العالم كان مخصوصاً بالوقوف على حقائق الأشياء وببناء الأحكام على حقائقها ، وأنّ موسى - عليه السلام - كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور ، فبهذا ظهر التفاوتُ بينهما في علمه .

فإن قيل : فحاصل الكلام أنَّه تعالى أطلعه على حقائق الأشياء ، وهذا النَّوعُ من العلم ما يمكنُ تعلُّمه ، وموسى - عليه السلام - إنما ذهب إليه ليتعلم منه العلم ، فكان الواجب على ذلك العالم أن يظهر له علماً يمكنُ تعلُّمه ، وهذه المسائل علمها لا يمكن تقاسمه ، فما الفائدة في إظهارها؟
فالجواب : أنَّ العلم بظواهر الأشياء يمكن تحصيله بناء على معرفة الشرائع الظاهرة ، وأمَّا العلم بحقائق الأشياء ، فإنَّه لا يمكن تحصيله إلاّ بناءً على تصفية الباطن ، وتطهير القلب ع نالعلائق الجسمانية ، ولهذا قال تعالى في صفة علم ذلك العالم : { وعلَّمناهُ من لدُنَّا علماً } ثم إن موسى - عليه السلام - لمَّا كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله تعالى إلى ذلك العالم ، ليعلِّم موسى أنَّ كمال الدرجة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظَّواهر إلى علوم البواطنِ المبنية على الإشراف على حقيقة الأمور .
فصل
احتجُّوا بهذه الآية على أن الفقير أشدُّ حاجة من المسكين؛ لأنَّه تعالى سمَّاهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون السفينة .
واعلم أن العالم بيَّن مراده من تخريق السفينة ، وأنه لم يكن مقصوده تغريق أهلها؛ بل كان مقصوده تعييبها ، لئلاَّ يأخذها ذلك الملك الظَّالم؛ لأنه كان من عادته أخذ السفن الخالية من العيوب ، وضرر هذا التخريق أسهل من ضرر الغصب .
فإن قيل : هل يجوز للأجنبيِّ أن يتصرَّف في ملك الغير لمثل هذا الغرض؟ .
فالجواب : هذا مما تختلف أحواله بسبب اختلاف الشرائع ، فلعلَّ هذا كان جائزاً في تلك الشريعة ، وأما في شريعتنا فهذا الحكم غير بعيدٍ ، فإنَّا إذا علمنا أن الذين يقطعون الطريق يأخذون جميع مال الإنسان ، فإن دفعنا إلى قاطع الطَّريق بعض ذلك المال سلم الباقي ، فحينئذ يحسنُ منَّا أن ندفع بعض مال ذلك افنسان إلى قاطع الطريق؛ ليسلم الباقي ، وكان هذا إحساناً منا لذلك المالك .
كذلك قيل في السفينة المشحونة إذا خيف عليها الغرق ، وأنه إذا ألقي منها شيءٌ في البحر خفَّت وسلم ما فيها جاز الإلقاء ، بل يجب كذلك ، وكذلك مسالة التترُّس بالمسلمين .
واعلم بأنَّ هذا التخريق يجب أن يكون على وجه لا يبطل منافع تلك السفينة بالكلِّية ، إذ لو ك ان كذلك ، لم يكن الضَّررُ الحاصل من غصبها أعظم من الضَّرر الحاصل من تخريقها ، وحينئذ لم يكن تخريقها جائزاً .
فصل
اعلم أنَّه قال : { فأردتُّ أن أعيبها } وقال : { فأردْنَا أن يبدلهما ربُّهما خيراً منهُ } ، وقال : { فأرَادَ ربُّك أن يبلُغا أشدَّهما } فاختلفت الإضافة في هذه الإرادات الثلاثة ، وهي كلها قضيَّة واحدة ، وفائدة ذلك أنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه ، فقال : { فأرَدْتُ أن أعيبها } ولمَّا ذكر القتل ، عبَّر عن نفسه بلفظِ الجمع تنبيهاً على أنَّه من العظماء في علوم الحكمة ، فلم يقدم على هذا القتل إلاَّ لحكمةٍ عاليةٍ ، ولمَّا ذكر رعاية صالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما اضافه إلى الله تعالى ، لأنَّ المتكفِّل بمصالح الأبناء برعاية حقِّ الآباء ليس إلاَّ الله تعالى .

فصل
اختلفوا : هل الخضر حيٌّ أم لا؟ فقيل : إنَّ الخضر وإلياس حيَّان يلتقيان كلَّ سنةٍ بالموسم ، قيل : وسبب حياته أنَّ ذا القَرنَيْنِ دخل الظلمات ، لطلب عين الحياة ، وكان الخضر على مقدِّمته ، فوقع الخضر على عين الحياة ، فنزل ، واغتسل ، وشرب ، وقيل : وأخطأ ذو القرنين الطريق ، فعاد .
وقيل : إنه ميتٌ ، لقول الله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد } [ الأنبياء : 34 ] وقال عليه الصلاة والسلام بعدما صلى العشاءَ ليلة : « أرَأيْتكُمْ ليْلتَكُم هذه ، فإنه على رأس مائة سنةٍ لا يبقى ممَّن هو اليوم على ظهر الأرضِ أحدٌ » ولو كان الخضر حيًّا ، لكان لا يعيش بعده .
رُويَ أنَّ موسى لمَّا اراد أن يفارقه قال : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدِّث به ، واطلبه لتعمل به .

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)

قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين } الآية .
قد تقدَّم في أول هذه السورة أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الرُّوح ، فقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين } هو ذلك السؤال ، واختلفوا في ذي القرنين ، فقيل : هو الإسكندر بن فيلبوس اليونانيُّ ، وقيل : كان اسمه مرزبان بن مرزبة من ولد يونان بن ثافث بن نوحٍ ، وكان اسود ، قال بعضهم : كان نبيًّا ، لقوله تعالى : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض } والأولى حمله على التمكين في الدِّين ، والتَّمكين الكامل في الدِّين هو النبوة ، ولقوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } ومن جملة الأسباب النبوة ، فمقتضى العموم أنه آتاهُ من النبوة سبباً ، ولقوله تعالى : { ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } والذي يتكلَّم الله معه لا بد وأن يكون نبياً . قال ابو الطفيل ، وسئل عن ذي القرنين : أكان نبيًّا أم ملكاً؟ قال : لم يكن نبياً ، ولا ملكاً ، ولكن كان عبداً أحبَّ الله ، فأحبَّه الله ، وناصح الله فناصحه .
روي أنَّ عمر - رضي الله عنه - سمع رجلاً يقول لآخر : « يَا ذَا القرنين » فقال : تسمَّيتم بأسماء النبيين ، فلم ترضوا حتى تسمّيتم بأسماء الملائكة . والأكثرون على أنه كان ملكاً عادلاً صالحاً ، واختلفوا في سبب تسميته بذي القرنين قيل : لأنه بلغ قرني الشمس : مشرقها ومغربها ، وأيضاً : بلغ ملكه أقصى الشمال ، لأنَّ « يأُجوجَ ومأجُوجَ » قومٌ من التركِ يسكنون في أقصى الشمالِ ، فهذا المسمَّى بذي القرنين قد دلَّ القرآن على أنَّ ملكه بلغ أقصى المغرب والمشرق والشمال ، وهذا نهاية المعمور من الأرض ، ومثل هذا الملك البسيط على خلاف العادات ، فيجب أن يبقى ذكره مخلّداً على وجه الدهر لا يخفى ، والذي اشتهر في كتب التواريخ أن الذي بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر ، وذلك أنه لمَّا مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف ، ثم قصد ملوك العرب وقهرهم ، وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ، ثم عاد إلى مصر ، فبنى الإسكندرية ، وسمَّاها باسم نفسه ، ثم دخل الشَّام ، وقصد بني إسرائيل ، وورد « بيت المقدس » ، وذبح في مذبحه ، ثم انعطف إلى « أرمينيَّة » و « باب الأبواب » ودان له العراقيُّون ، والقبط ، والبربر ، ثم توجه نحو دارا بن دارا ، وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حرسه ، واستولى الإسكندر على ممالك الفرس ، وقصد الهند والصِّين ، وغزا الأمم البعيدة ، ورجع إلى « خراسان » وبنى المدن الكثيرة ، ورجع إلى العراق ، ومرض ب « شهرزور » ومات ، فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلاً ملك الأرض أو ما يقرب منها ، وثبت من التَّواريخ أن من هذا شأنه ماكان إلاَّ الإسكندر وجب القطعُ بأنَّ المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني .

قيل : وسمِّي بذي القرنين ، لأنه ملك الرُّوم وفارس ، وقيل : لأنه دخل النور والظلمة ، وقيل : لأنه رأى في المنام كأنه أخذ بقرني الشَّمس ، وقيل : لأنه كانت له ذؤابتان حسنتان ، وقيل : لأنه كان له قرنان تواليهما العمامة .
وروى أبو الفضلِ عن عليّ أنه أمر قومهُ بتقوى الله ، فضربوه على قرنه الأيمن ، فمات ، فبعثه الله ، فأمرهم بتقوى الله ، فضربوه على قرنه الأيسر ، فمات فأحياه الله .
وقيل : كان لتاجه قرنان ، وقيل : لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس ، وقيل : لأن الله سخر له النُّور والظلمة ، فإذا سرى يهديه النور من أمامه ، وتمتد الظلمة من ورائه .
فروي أن ذا القرنين أمر ببناء مدنٍ كثيرةٍ منها : « الدبوسية » و « حمدان » و « برج الحجارة » ، ولما بلغ « الهند » بنى مدينة « سرنديب » وأن أرباب الحساب قالوا له : إنَّك لا تموتُ إلا على أرض من حديدٍ ، وسماه من خشب ، وكان يدفن كنوز كلِّ بلدٍ فيها ، ويكتب ذلك معه بصفته وموضعه ، فبلغ « بابل » ، فرعف ، فسقط عن دابَّته ، فبسطت له دروع فنام عليها ، فآذته الشمس ، فأظلوه بتُرسٍ ، فنظر وقال : هذه أرضٌ من حديدٍ وسماء من خشبٍ ، فأيقن بالموت ، فمات وهو ابنُ ألف سنة وثلاثمائة سنة .
وقال أبو الرَّيحان البيروني في كتابه المسمَّى ب « الآثار الباقية عن القرون الخالية » : قيل : إنَّ ذا القرنين هو أبو كربٍ سُمَيُّ بن عبرين بن أقريقيش الحميريّ ، وأنَّ ملكهُ بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير : [ الكامل ]
قَدْ كَانَ ذُو القَرنيْنِ قَبْلي مُسْلِماً ... مَلِكاً عَلا فِي الأرْضِ غير مُفَنَّدِ
بلغَ المشارِقَ والمغارِبَ يَبتَغِي ... أسْبابَ ملكٍ من كَرِيم سيِّدِ
ثم قال أبو الريحان : ويشبهُ أن يكون هذا القول أقرب ، لأن الأذواء كانوا من اليمن ، وهم الذين لا يخلون أساميهم من « ذي كذا » المنار ، و « ذي نواس » ، و « ذي النُّون » ، و « ذي رعين » والقول الأول أظهر ، لما تقدم من الدليل ، ولأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « سمِّي ذا القرنَيْنِ لأنَّه طاف قرنَي الدُّنيا شرقها وغربها » .
قال ابن الخطيب : إلاَّ أنَّ فيه إشكالاً قويًّا ، وهو أن الإسكندر كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم ، وكان على مذهبه ، فتعظيم الله إيَّاه يُوجِبُ الحكم بأنَّ مذهب أرسطاطاليس حقٌّ وصدقٌ ، وذلك ممَّا لا سبيل إليه .
قال ابن كثير : روي عن ابن عباسٍ : أنَّ اسم ذي القرنين عبد الله بن الضحاك .
وقيل : مصعبُ بن عبد الله بن قينان بن منصور بن عبد الله بن الآزر بن عون بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن قحطان .

وروي أنَّه كان من حمير ، وأمُّه روميَّة ، وأنه كان يقال له الفيلسوفُ؛ لعقله .
وقال السهيلي : قيل : كان اسمه مرزبي بن مرذبة ذكره ابن هشام ، وهو أول التَّبابعة .
وقيل : إنه أفريدون بن أثفيان الذي قتل الضحاك ويروى في خطبة قيس بن ساعدة التي خطبها بسوق عكاظ ، أنه قال فيها يا معشر إياد أين الصعب ذو القرنين ملك الخافقين ، وأوّل المسلمين ، وعمر ألفين ، ثم كان ذلك كطرفة عين ، وأنشد ابن هشام : [ الكامل ]
والصَّعبُ ذُو القرنيْنِ أصْبحَ ثَاوِياً ... بالحِنْوِ حيث أميم مقيم
أمَّا ذو القرنين الثاني فهو الإسكندر بن فيلبس بن مصريم بن هرمس بن هردوس ابن ميطون بن رومي بن نويط بن نوفيل بن ليطى بن يونان بن يافث بن نوح بن سرحون بن رومي بن قريط بن نوفيل بن رومي بن الأصفر بن اليغز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل - عليه السلام - كذا نسبه ابن عساكر المقدوني اليوناني المصري باني الإسكندرية الذي يؤرِّخ بأيَّامه الروم ، وكان متأخِّراً عن الأول بدهر طويل ، وكان هذا قبل المسيح بنحوٍ من ثلاثمائة سنة ، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف ، وهو قتل دارا بن دارا [ ملك ] ملوكِ الفرس .
وإنما نبهنا على هذا؛ لأنَّ كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحدٌ ، وأن المذكور في القرىن هو الذي كان أرسطاطاليس وزيرهُ ، فيقع بذلك خطأ كثير؛ فإنَّ الأول كان مؤمناً عبداً صالحاً ، وملكاً عادلاً ، وكان وزيره الخضر - عليهما السلام - وكان نبيًّا ، وأمَّا الثاني فكان مشركاً ، وكان وزيره فيلسوفاً ، وكان بين زمانيهما أزيد من ألفي [ سنة ] فأين هذا من هذا؟ .
قوله : « سَأتلُو » : دخلت السين ها هنا؛ لأن المعنى أني سأفعل هذا إن وفَّقني الله عليه ، وأنزل عليَّ وحياً ، وأخبرني عن كيفية تلك الحال .
قوله « مِنْهُ ذِكْراً » أي : من أخباره وقصصه .
قوله : « إنَّا مكَّنا له » .
ومعنى « مكنَّا لهُ » : أوطأنا ، والتمكينُ : تمهيد الأسباب قال عليٌّ : سخَّر له السَّحاب ، فحمله عليه ، ومدَّ له في الأسباب ، وبسط له في النُّورِ ، وكان اللَّيلُ والنهار عليه سواء ، فهذا معنى تمكنيه في الأرض؛ وأنه سهَّل عليه السير فيها ، وذلل له طريقها .
وهذا التَّمكينُ بسبب النبوة ، ويحتمل أن يكون المراد التمكين بسبب الملكِ من حيث إنه ملك مشارق العالم ومغاربه ، والأول أولى؛ لأنَّ التمكينَ بسبب النبوّة أعلى من التمكين بسبب الملك ، وحمل كلام الله تعالى على الوجه الأكمل الأفضل أولى ، ثم قال : { وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } قالوا : السبب في أصل اللغة عبارة عن الحبل ، ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى المقصود ، وهو يتناول العلم والقدرة والآلة ، فلذلك قيل : « وآتيناه من كل شيء » ما يستعين به الملوك على فتح المدن ، ومحاربة الأعداء « سبباً » أي : علماً يتسبب به إلى كل ما يريد ويسير به في أقطار الأرض ، وقيل : قرَّبنا له أقطار الأرض .

واستدلوا بعموم قوله : { وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } على أنه كان نبيًّا كما تقدَّم ، ومن أنكر نبوته قال : المعنى : وآتيناه من كلِّ شيءٍ يحتاجُ إلى إصلاح ملكه إلاَّ أن تخصيص العموم خلاف الظاهر ، فلا يصار إليه إلاَّ بدليلٍ .
قوله : { فَأَتْبَعَ سَبَباً } .
قرأ نافع ، وابن كثيرٍ ، وأبو عمرو « فَاتَّبعَ » و « ثمَّ اتَّبعَ » في الموضعين بهمزة وصل ، وتشديد التاء . والباقون بهمزة القطع في المواضع الثلاثة وسكون التاء .
فقيل : هما بمعنى واحدٍ فيتعدَّيان لمفعولٍ واحدٍ .
وقيل : « أتْبَعَ » بالقطع متعدٍّ لاثنين حذف أحدهما تقديره : فأتْبع سبباً سبباً آخر ، أو فأتبع أمره سبباً آخر ، ومنه { وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً } [ القصص : 42 ] فعدَّاه لاثنين ومن حذف أحد المفعولين : قوله تعالى : { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } [ الشعراء : 60 ] ، أي : أتبعوهم جنودهم . و اختار أبو عبيد « اتَّبعَ » بالوصل ، قال : « لأنَّه من المسيرِ » قال : تقول : تبعتُ القوم واتَّبعتُهم . فأمَّا الإتباعُ بالقطع فمعناه اللحاقُ ، كقوله تعالى : { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ الصافات : 10 ] .
وقال يونس ، وأبو زيدٍ : « أتْبعَ » بالقطع عبارة عن المجدِّ المسرعِ الحثيثِ الطلب . وبالوصلِ إنَّما يتضمَّن الاقتفاء دون هذه الصفات .
قال البغويُّ : والصحيح الفرق بينهما ، فمن قطع الألف ، فمعناه : أدرك ولحق ، ومن قرأ بالتشديد فمعناه : سار ، يقال : ما زلتُ أتَّبعه حتى اتبعته ، أي : ما زلتُ أسير خلفهُ حتى لحقته ، ومعنى الآية : أنه تعالى لمَّا أعطاهُ من كل شيءٍ سببه ، فإذا أراد سبباً أتبع سبباً يوصله إليه { حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة } .
عن أبي ذرٍّ قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملٍ ، فرأى الشمس حين غابت ، فقال : أتدري يا أبا ذرٍّ ، أتدري أين تغربُ هذه؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : « فإنَّها تغربُ في عينٍ حاميةٍ » وهي قراءة ابن مسعود ، وطلحة ، وابن عمر ، واختارها أبو عبيدة ، قال : لأنَّ عليها جماعة من الصحابة .
وأما القراءة الثانية ، فهي من الحمأةِ ، وهي الطِّين ، وهي قراءة ابن عبَّاس .
فصل
ثبت بالدَّليل أنَّ الأرض كرة ، وأنَّ السماء محيطة ، وأنَّ الشمس في الفلك الرابع ، وكيف يعقل دخولها في عينٍ؟ وأيضاً قال : « وجد عِنْدهَا قوماً » ومعلومٌ أن جلوس القوم قرب الشَّمسِ غير موجودٍ ، وأيضاً فالشمس أكبر من الأرض بمراتٍ كثيرةٍ ، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ وإذا ثبت هذا فنقول : تأويل قوله تعالى : { تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } من وجوه :
الأول : أنَّ ذا القرنين لما بلغ موضعاً من المغرب ، لم يبق بعدهُ شيءٌ من العماراتِ ، وجد الشَّمس كأنَّها تغربُ في عينٍ مظلمةٍ ، وإن لم يكن كذلك في الحقيقة كما أنَّ راكب البحر يرى الشمس كأنَّها تغيبُ في البحر إذا لم يرَ الشطَّ ، وهي في الحقيقة تغيبُ وراء البحر ، ذكر هذا التأويل الجبائيُّ في تفسيره .

الثاني : أنَّ للجانب الغربيّ من الأرض مساكنَ يحيطُ البحر بها ، فالناظرُ إلى الشَّمْسِ يتخيلُ كأنَّها تغيب في تلك البحار ، ولا شكَّ أنَّ البحار الغربية قويةٌ السخونة ، فهي حاميةٌ ، وهي أيضاً حمئة لكثرة ما فيها من الماء ومن الحمأةِ السَّوداءِ ، فقوله : { تَغْربُ في عينٍ حمئةٍ } إشارةٌ إلى أن الجانب الغربي منالأرض قد أحاط البحر به ، وهو موضعٌ شديدُ السخونة ، قال اهل الأخبار : إنَّ الشمس تغيب في عينٍ كثيرة الماءِ والحمأةِ ، وهذا في غاية البعد؛ وذلك لأنَّا إذا رصدنا كسوفاً قمريًّا ، فإذا اعتبرناه ، ورأينا أنَّ المغربيين قالوا : حصل هذا الكسوف في أوَّل الليل ، ورأينا المشرقين ، قالوا : حصل في أوَّل النَّهار علمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق ، بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا هو وقت العصر في بلد ، ووقت الظُّهر في بلدٍ آخر ، ووقت الضَّحوة في بلد ثالثٍ ، ووقت طلوع الشمس في بلدٍ رابع ، ونصف الليل في بلد خامسٍ ، وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بالاستقراء والأخبار وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال : إنَّها تغيبُ في الطين والحمأة كلاماً على خلاف اليقين؛ وكلام الله تعالى مبرَّأ عن هذه التهمة ، فلم يبق إلاَّ أن يصار غلى التَّأويل المذكور
ثم قال : « ووجد عندها قوماً » أي : عند العين أمة ، وقيل : الضمير [ عائد ] إلى الشمس .
قال ابن جريج : مدينة لها اثنا عشر ألف باب ، لولا ضجيج أهلها لسمعت وجبة الشمس حين تجبُ .
قوله : { قُلْنَا ياذا القرنين } يدل على أنه تعالى كلمه من غير واسطة ، وذلك يدل على أنه كان نبيًّا ، فإن قيل : خوطب على ألسنة بعض الأنبياء ، فهو عدولٌ عن الظاهر .
وقال بعضهم : المراد منه الإلهام .
قوله : { إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ } .
يجوز فيه الرفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي : إمَّا تعذيبك واقعٌ ، والرفع على خبر مضمرٍ ، أي : هو تعذيبك ، والنصب اي : إمَّا أن تفعل أن تعذِّب .
وهذا يدلُّ على أنَّ سكَّان آخر المغرب ، كانوا كفاراً ، فخيَّر الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب ، إن أقاموا على الكفر ، وبين المنِّ عليهم ، والعفو عنهم ، وهذا التخيير على معنى الاجتهاد في أصلح المرين ، كما خيَّر نبيه - محمداً عليه الصلاة و السلام - بين المنِّ على المشركين ، وبين قتلهم .
وقال الكثرون : هذا التعذيب هو القتل ، وأمَّا اتِّخاذ الحسنى فيهم ، فهو تركهم أحياء .
ثم قال ذو القرنين : { أَمَّا مَن ظَلَمَ } أي : ظلم نفسه؛ بمعنى « كفر » لأنَّه ذكر في مقابلته : { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ } ثم قال : { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } أي بقتله { ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ } في الآخرة { عَذَاباً نُّكْرا } أي : منكراً فظيعاً .

وهو النار ، والنار أنكر من القتل .
قوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } .
{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى } الآية .
قوله : { جَزَآءً الحسنى } قرأ الأخوان ، وحفص بنصب « جزاءً » وتنوينه ، والباقون برفعه مضافاً ، فالنصب على المصدر المؤكِّد لمضمون الجملة ، أو بنصب بمضمرٍ ، أو مؤكدٍ لعامل من لفظه مقدَّر ، أي : يجزي جزاء ، وتكون الجملة معترضة بين المبتدأ وخبره المقدَّم عليه ، وقد يعترض على الأول : بأنَّ المصدر المؤكِّد لمضمون جملة لا يتقدَّم عليها ، فكذا لا يتوسَّطُ ، وفيه نظر يحتمل الجواز والمنع ، وهو إلى الجواز أقرب .
الثالث : أنه في موضع الحال .
الرابع : نصبه على التفسير ، قاله الفراء؛ يعني التمييز ، وهو بعيد .
وقرأ ابن عباس ، ومسروق بالنصب والإضافة ، وفيها تخريجان :
أحدهما : أن المبتدأ محذوف ، وهو العامل في « جزاءَ الحُسْنى » التقدير : فله الجزاء جزاء الحسنى .
والثاني : أنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين؛ كقوله : [ المتقارب ]
3565- . ... ولا ذَاكِرَ الله إلاَّ قَلِيلا
ذكره المهدويُّ .
والقراءة الثانية رفعه فيها على الابتداء ، والخبر الجار قبله ، و « الحُسْنَى » مضاف إليها ، والمراد بالحسنى الجنَّة ، وقيل : الفعلة الحسنى .
وقرأ عبد الله ، وابن أبي إسحاق « جزاءٌ » مرفوعاً منوناً على الابتداء ، و « الحُسْنَى » بدلٌ ، أو بيان ، أو منصوبة بإضمار « أعْنِي » أو خبر مبتدأ مضمرٍ .
و « يُسْراً » نعت مصدر محذوف ، أي : قولاً ذا يسرٍ ، وقرأ أبو جعفر بضم السين في اليُسُر حيث ورد .
فصل في اختلاف معنى الآية باختلاف القراءة
قال المفسرون : المعنى على قراءة النصب : فله الحسنى جزاء؛ كما يقال : لك هذا الثوب هبةً .
وعلى قراءة الرفع ، فيه وجهان :
أحدهما : فله الجزاءُ الحسنى ، والفعلةُ الحسنى : هي الإيمانُ ، والعمل الصَّالح .
والثاني : فلهُ جزاء المثوبة الحسنى ، وإضافة الموصوف إلى الصِّفة مشهورةٌ؛ كقوله : { وَلَدَارُ الآخرة } [ يوسف : 109 ] . و { حَقُّ اليقين } [ الواقعة : 95 ] .
وقوله : { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } الآية ، أي : لا نأمرهُ بالصَّعب الشَّاق ، ولكن بالسَّهل الميسَّر من الزَّكاة ، والخراج وغيرهما ، وتقديره : ذا يسر؛ كقوله : { قَوْلاً مَّيْسُوراً } [ الإسراء : 28 ] .
قوله : { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس } .
أي : سلك طرقاً ومنازل { حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ } أي : موضع طلوعها { وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } .
قال الحسنُ وقتادة : لم يكن بينهم وبين الشمس ستراً ، وليس هناك شجرٌ ، ولا جبلٌ ، ولا أبنيةٌ ، تمنع [ طلوع ] الشمس عليهم؛ لأنَّهم كانوا في مكان لا يستقرُّ عليهم بناءٌ ، وكانوا يكونون في أسراب لهم ، حتَّى إذا زالت الشمس عنهم ، خرجوا إلى معايشهم وحروثهم .

وقال الحسن : كانوا إذا طلعت الشمس ، يدخلون الماء ، فإذا ارتفعت عنهم ، خرجوا فرعوا؛ كأنَّهم بهائمُ .
قال الكلبيُّ : هم قومٌ عراةٌ؛ كسائر الحيوان ، يفترشُ أحدهم أذنيه؛ أحدهما تحته ، ويلتحفُ بالأخرى .
فصل فيما يروى عن السد
ذكروا في بعض كتب التفسير : أن بعضهم ، قال : سافرت ، حتَّى جاوزت الصِّين ، فسألت عن هؤلاء القوم ، فقيل : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلةٍ ، فبلغتهم ، فإذا أحدهم يفترش إحدى أذنبه ، ويلبس الأخرى ، فلما قرب طلوع الشمس ، سمعت صوتاً كهيئة الصَّلصلة ، فغُشي عليَّ ، ثم أفقتُ ، فلمَّا طلعت الشمس؛ إذ هي فوق الماءِ؛ كهيئة الزيت ، فأدخلونا سرباً لهم ، فلما ارتفع النَّهار ، جعلوا يصطادون السَّمك فيطرحونه في الشمس؛ فينضج .
قوله : { مَطْلِعَ الشمس } .
العامَّة على كسر اللام من « مَطْلِع » والمضارعُ « يَطلُع » بالضم ، فكان القياس فتح اللام في المفعل مطلقاً ، ولكنَّها مع أخواتٍ لها سمع فيها الكسر ، وقياسها الفتح ، وقد قرأ به الحسن ، وعيسى ، وابن محيصن ، ورويت عن ابن كثيرٍ ، وأهل مكة ، قال الكسائي : « هذه اللغة قد ماتت » يعني : أي : بكسر اللام من المضارع ، والمفعل ، وهذا يشعرُ أنَّ من العرب من كان يقول : طَلَع يَطلِعُ ، بالكسر في المضارع .
قوله : { كَذَلِكَ } : الكاف : إمَّا مرفوعة المحلِّ ، أي : الأمر كذلك ، أو منصوبته ، أي : فعلنا مثل ذلك .
ومعنى الكلام : كذلك فعل ذو القرنينِ ، أتبع هذه الأسباب ، حتى بلغ ، وقد علمنا حين ملَّكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك .
وقيل : كذلك جعل الله أمر هؤلاء القوم على ما قد أعلم رسول الله - عليه السلام - في هذا الذِّكر .
وقيل : كذلك كانت حاأهل المطلع؛ كما كانت حاله مع أهل المغرب ، قضى في هؤلاء ، كما قضى في أولئك؛ من تعذيب الظالمين ، والإحسان إلى المؤمنين .
وقيل : تمَّ الكلام عند قوله : { كَذَلِكَ } .
والمعنى : أنه تعالى قال : أمر هؤلاء القوم ، كما وجدهم عليه ذو القرنين ، ثم قال بعده : { وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } أي : كنَّا عالمين بأنَّ الأمر كذلك .
قوله : { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } الآية .
و { بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } « بين » هنا يجوز أن يكون ظرفاً ، والمفعول محذوف ، أي : بلغ غرضه ومقصوده ، وأن يكون مفعولاً به على الاتِّساع ، أي : بلغ المكان الحاجز بينهما .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، بفتح سين « السَّدَّين » و « سَدًّا » في هذه السورة ، وحفصٌ فتح الجميع ، أعني موضعي هذه السورة ، وموضعي سورة يس [ الآية : 9 ] ، وقرأ الأخوان بالفتح في « سدًّا » في سورتيه ، وبالضمِّ في « السُّدَّين » والباقون بالضمِّ في الجميع ، فقيل : هما بمعنى واحدٍ ، وقيل : لمضمومُ : ما كان من فعل الله تعالى ، والمفتوحُ ما كان من فعل النَّاس ، وهذا مرويٌّ عن عكرمة ، و الكسائي ، وأبي عبيد وابن الأنباريِّ .

قال الزمخشري : لأنَّ السُّدَّ ، بالضمِّ : « فُعْل » بمعنى « مفْعُول » أي : هو مما فعله الله ، وخلقه ، والسَّدُّ ، بالفتح : مصدر حدث يحدثه الناس . وهو مردودٌ : بأنَّ السدَّين في هذه السورة جبلان ، سدَّ ذو القرنين بينهما بسدٍّ ، فهما من فعلِ الله ، والسدُّ الذي فعله ذو القرنين من فعل المخلوق ، و « سدًّا » في يس من فعلِ الله تعالى؛ لقوله : « وجعلنا » ومع ذلك قرئ في الجميع ، بالفتح ، والضمِّ ، فعلم أنَّهما لغتان؛ كالضَّعف ، والضُّعف ، والفَقر ، والفُقر ، وقال الخليل : المضموم اسمٌ ، والمفتوح مصدر ، وهذا هو الاختيار .
فصل في مكان السد
الأظهرُ : أنَّ موضع السدَّين في ناحية الشَّمال ، وقيل : جبلان بين أرمينيَّة ، وأذربيجان .
وقيل : هذا المكان في مقطع أرض التُّرك .
وحكى محمد بن جرير الطبريُّ في تاريخه : أنَّ صاحب أذربيجان أيَّام فتحها ، وجَّه إنساناً إليه من ناحية الخزر ، فشاهده ، ووصف أنَّه بنيانٌ رفيعٌ وراء خندقٍ وثيقٍ منيعٍ ، وذكر ابن خرداذبة في كتابه « المسالك والممالك » أن الواثق بالله رأى في المنام كأنَّه فتح هذا الردم ، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه ، فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه ، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه ، فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه ، فوصفوا أنه بنيانٌ من لبنٍ من حديد مشدود بالنُّحاس المذاب ، وعليه بابٌ مقفلٌ ، ثم إنَّ ذلك الإنسان لمَّا حاول الرُّجوع ، أخرجهم الدليل إلى البقاع المحاذية لسمرقند .
فصل في مقتضى هذا الخبر
قال أبو الرَّيحان البيرونيُّ : مقتضى هذا الخبر أنَّ موضعه في الربع الشماليِّ الغربيِّ من المعمورة .
قوله : { يَفْقَهُونَ } : قرأ الأخوان بضمِّ الياء ، وكسر القاف ، من أفقه غيره ، فالمفعول محذوف ، أي : لا يفقهون غيرهم قولاً ، والباقون بفتحهما ، أي : لا يفهمون كلام غيرهم ، وهو بمعنى الأول ، وقيل : ليس بمتلازمٍ؛ إذ قد يفقه الإنسان كلام غيره ، ولا يفقه قوله غيره ، وبالعكس .
فصل في كيفية فهم ذي القرنين كلام أولئك القوم
لمَّا بلغ ذو القرنين ما بين السَّدين { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } [ أي ] من ورائهما مجاوزاً عنهما « قوماً » ، أي : أمَّة من الناس { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } .
فإن قيل : كيف فهم ذو القرنين منهم هذا الكلام ، بعد أن وصفهم الله تعالى بقوله : { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } ؟ .
فالجواب من وجوه :
أحدهما : قيل : كلّم عنهم مترجمٌ؛ ويدل عليه قراءة ابن مسعودٍ : لا يكادون يفقهون قولاً ، قال الذين من دونهم : يا ذا القرنين { إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوج } .
وثانيها : أن قوله : { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } يدلُّ على أنَّهم قد يفقهون بمشقَّة وصعوبة [ من إشارة ونحوها ] .
وثالثها : أنَّ « كاد » معناه المقاربة؛ وعلى هذا ، فلا بدَّ من غضمارٍ ، تقديره : لا يكادون يفقهون إلاَّ بمشقةٍ؛ من إشارة ونحوها .
قوله : { يَأْجُوجَ وَمَأْجُوج } : قرأ عاصم بالهمزة الساكنة ، والباقون بألف صريحة ، واختلف في ذلك؛ فقيل : هما أعجميَّان ، لا اشتقاق لهما ، ومنعا من الصرف؛ للعلميَّة والعجمة ، ويحتمل أن تكون الهمزة أصلاً ، والألف بدلاً منها ، أو بالعكس؛ لأنَّ العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية ، وقيل : بل هما عربيَّان ، واختلف في اشتقاقهما .

فقال الكسائي : يأجوجُ : مأخوذٌ من تأجُّج النار ، ولهبها أو شدَّة توقُّدها؛ فلسرعتهم في الحركة سمُّوا بذلك ، ومأجوج من موج البحر .
وقيل من الأجِّ ، وهو الاختلاط أو شدَّة الحرِّ .
وقيل من الأجِّ ، وهو الاختلاط أو شدَّة الحرِّ .
وقال القتيبيُّ : من الأجِّ ، وهو سرعة العدو ، ومنه قوله : [ الطويل ]
3566- . ... تَؤجُّ كمَا أجَّ الظَّلِيم المُنفَّرُ
وقيل : من الأجاجِ ، وهو الماءُ المالح الزُّعاقُ .
وقال الخليلُ : الأجُّ : حبٌّ؛ كالعدس ، والمجُّ : مجُّ الرِّيق ، فيحتمل أن يكونا مأخوذين منهما ، ووزنهما يفعولُ ، ومفعول ، وهذا ظاهر على قراءة عاصم ، وأمَّا قراءة الباقين ، فيحتمل أن تكون الألف بدلاً من الهمزة الساكنة ، إلا أنَّ فيه أنَّ من هؤلاء من ليس أصله قلب الهمزة الساكنة ، وهم الأكثر ، ولا ضير في ذلك ، ويحتمل أن تكون ألفهما زائدتين ، ووزنهما « فَاعُول » من يجَّ ، ومجَّ .
ويحتمل أن يكون ماجوج من « مَاجَ ، يَمُوجُ » أي : اضطرب ، ومنه الموجُ ، فوزنه مفعول ، وأصله : مَوجُوج ، قاله أبو حاتم ، وفيه نظر؛ من حيث ادِّعاءُ قلب حرف العلة ، وهو ساكنٌ ، وشذوذه كشذوذ « طائي » في النَّسب إلى طيِّئ .
وعلى القول بكونهما عربيَّين مشتقَّين ، فمنع صرفهما؛ للعلميَّة والتأنيث؛ بمعنى القبيلة؛ كما تقدَّم في سورة هود ، ومثل هذا الخلاف والتعليل جارٍ في سورة الأنبياء [ الآية : 93 ] - عليهم السلام - والهمزة في يأجوج ومأجوج لغة بني أسدٍ ، وقرأ رؤبة وأبوه العجاج « آجُوج » .
فصل في اصل يأجوج ومأجوج
اختلفوا في أنَّهم من أيِّ الأقوام ، فقال الضحاك : هم جيلٌ من التُّرك .
وقال السديُّ : التُّرك : سريَّة من يأجُوج ومأجوج ، خرجت ، فضرب ذو القرنين السدَّ ، فبقيت خارجة ، فجميع الترك منهم .
وعن قتادة : أنَّهم اثنان وعشرون قبيلة ، بنى ذو القرنين السدَّ على إحدى وعشرين قبيلة ، وبقيت قبيلة واحدة ، وهم التُّركُ ، سمُّوا بذلك؛ لأنَّهم [ تركوا ] خارجين .
فصل في أجناس البشر
قال أهل التَّاريخ : أولاد نوحٍ ثلاثة : سام ، وحام ، ويافث . فسام أبو العرب ، والعجم ، والرُّوم .
وحام : أبو الحبشة ، والزَّنج ، والنُّوبة .
ويافث : أبو التُّرك ، والخزر ، والصقالبة ، ويأجوج ومأجوج .
واختلفوا في صفاتهم :
فمن النَّاس من وصفهم بقصر القامة ، وصغر الجثَّة بكون طول أحدهم شبراً ، ومنهم من يصفهم بطُول القامة ، وكبر الجثَّة ، فقيل : طول أحدهم مائةُ وعشرون ذراعاً ، ومنهم من طوله وعرضه كذلك ، وأثبتوا لهم مخالب في الأظفار وأضراساً كأضراسِ السِّباع ، ومنهم من يفترش إحدى أذنيه ، ويلتحفُ بالأخرى .
فصل في إفسادهم
واختلفوا في كيفية إفسادهم :
فقيل : كانوا يقتلون الناس .
وقيل : كانوا يأكلوه لحوم النَّاس ، وقيل : كانوا يخرجون أيَّام الربيع ولا يتركون لهم شيئاً أخضر .

وبالجملة : فلفظ الفساد يحتمل هذه الأقسام .
ثمَّ إنَّه تعالى حكى عن أهل ما بين السَّديْن أنَّهم قالوا لذي القرنين : { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } الآية .
قوله : « خَرْجاً » قرأ ابن عامر « خَرْجاً » هنا وفي المؤمنين [ الآية : 72 ] بسكون الراء ، والأخوان « خَرَاجاً » « فَخَراج » في السورتين بالألف ، والباقون كقراءة ابن عامر في هذه السورة ، والأول في المؤمنين ، وفي الثاني ، وهو « فَخرَاج » كقراءة الأخوين ، فقيل : هما بمعنى واحد كالقول والقوال ، والنّوْل والنَّوال ، وقيل : « الخَراجُ » بالألف ما ضرب على الأرض من الإتاوةِ كلَّ عامٍ ، وبغير الألف بمعنى الجعل ، أي : نُعطيكَ من أموالنا مرَّة واحدة ما تستعينُ به على ذلك ، وقال أبو عمر : الخرج : ما تبرَّعت به ، والخراج ما لزمك أداؤهُ .
قال مكيٌّ - رحمه الله- : واختيار تركُ الألف؛ لأنَّهم إنما عرضوا عليه : أن يعطوه عطيَّة واحدة على بنائه ، لا أن يضرب ذلك عليهم كلَّ عامٍ ، وقيل : الخرجُ : ما كان على الرءوس ، والخراج : ما كان على الأرض ، قاله قطرب يقال : أدِّ خرج رأسك ، وخراج أرضك ، قاله ابن الأعرابيِّ ، وقيل : الخرجُ أخصُّ ، والخَراجُ أعمُّ ، قاله ثعلبٌ ، وقيل : الخرجُ مصدر ، والخراجُ : اسم لما يعطى ، ثم قد يطلق على المفعول المصدر؛ كالخلقِ؛ بمعنى المخلوق .
ثم قال : { على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } أي : حاجزاً ، فلا يصلون إلينا .
قوله : { مَا مَكَّنِّي } : « ما » بمعنى « الذي » وقرأ ابن كثيرٍ : « مكَّنني » بإظهار النون ، والباقون بإدغامها في نون الوقاية؛ للتخفيف .
وهي مرسومةٌ في مصاحف غير مكَّة بنون واحدة ، وفي مصاحف مكَّة بنونين ، فكلٌّ وافق مصحفه .
ومعنى الكلام : ما قوَّاني عليه ربِّي خيرٌ من جعلكم ، أي : ما جعلني مكيناً من المال الكثير ، خيرٌ ممَّا تبذلُون لي من الخراج؛ فلا حاجة بي إليه ، كقول سليمان -عليه السلام- : { فَمَآ آتَانِي الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ } [ النمل : 36 ] .
قوله : { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ } أي : لا أريد المال ، ولكن أعينوني بأيديكم ، وقوَّتكم { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً } .
والرَّدْم : هو السدُّ ، يقال : ردمت الباب ، أي : سددتُّه ، وردمتُ الثوب : رقعته؛ لأنه يسدُّ موضع الخرق بالرَّقع ، والرَّدم أكثر من السدِّ؛ من قولهم : ثوبٌ مردم ، أي : وضعت عليه رقاعٌ .
قالوا : وما تلك القوة؟ . قال : فعلةٌ وصنَّاعٌ يحسنون البناء والعمل ، والآلة .
قالوا : وما تلك الآلة؟ .
قال : { آتُونِي } : قرأ أبو بكرٍ « ايتُونِي » بهمزة وصلٍ؛ من أتى يأتي في الموضعين من هذه السورة؛ بخلاف عنه في الثاني ، ووافقه حمزة على الثاني ، من غير خلافٍ عنه ، والباقون بهمزة القطع فيهما .
ف « زُبرَ » على قراءة همزة الوصل منصوبة على إسقاط الخافض ، أي : جيئُوني بزُبرِ الحديد ، وفي قارءة قطعها على المفعول الثاني؛ لأنه يتعدَّى بالهمزة إلى اثنين ، وعلى قراءة أبي بكرٍ يحتاج إلى كسر التنوين من « رَدْماً » لالتقاءِ الساكنين؛ لنَّ همزة الوصل ، تسقط درجاً ، فيقرأ له بكسر التنوين ، وبعده همزة ساكنة هي فاءُ الكلمة ، وإذا ابتدأت بكلمتي « ائتُونِي » في قراءته ، وقراءة حمزة ، تبدأ بهمزة مكسورة للوصلِ ، ثم ياءٍ صريحة ، هي بدلٌ من همزة فاء الكلمة ، وفي الدَّرج تسقط همزة الوصل ، فتعود الهمزة؛ لزوالِ موجب إبدالها .

والباقون يبتدئون ، ويصلون بهمزة مفتوحة؛ لأنَّها همزة قطعٍ ، ويتركون تنوين « رَدْماً » على حاله من السكون ، وهذا كله ظاهر لأهل النحو ، خفيٌّ على القراء .
والزُّبَرُ : جمع زُبْرَة ، كغُرفَةٍ وغُرَفٍ .
و « زُبَرَ الحَديدِ » قطعه .
قال الخليل : الزُّبرة من الحديد : القطعة الضخمة .
وقرأ الحسن بضمِّ الباء .
قوله : « سَاوَى » هذه قراءة الجمهور ، وقتادة « سوَّى » بالتضعيف ، وعاصم في رواية طسُوِّيَ « مبنيًّا للمفعول .
وفيه إضمارٌ ، أي : فأتوهُ بها ، فوضع تلك الزُّبرَ بعضها على بعض { حتى إِذَا ساوى } أي سدت ما بين الجبلين إلى أعلاهما .
قوله : » الصَّدفَيْنِ « قرأ أبو بكرٍ بضم الصاد ، وسكون الدَّال ، وابن كثيرٍ ، وأبو عمرو ، وابن عامر بضمهما ، والباقون بفتحهما ، وهذه لغاتٌ قرئ بها في السَّبع ، وأبو جعفرٍ ، وشيبة ، وحميد بالفتح والإسكان ، والماجشونُ بالفتح والضمِّ ، وعاصم في رواية بالعكس .
والصَّدفانِ : ناحيتا الجبلين ، وقيل : أن يتقابل جبلان ، وبينهما طريقٌ ، والناحيتان صدفان؛ لتقابلهما ، وتصادفهما ، من صادفت الرجل ، أي : لاقيته وقابلته ، وقال أبو عبيد : » الصَّدفُ : كل بناءٍ مرتفعٍ ، وقيل : ليس بمعروفٍ ، والفتحُ لغة تميمٍ ، والضمُّ لغة حميرٍ « .
فصل في بناء السد
لما أتوهُ بزبر الحديد ، وضع بعضها على بعض؛ حتى ساوتْ ، وسدَّت ما بين الجبلينِ ، ووضع المنافخ عليها ، و الحطب ، حتَّى إذا صارت كالنَّار ، صبَّ النُّحاس المذاب على الحديدِ المحمَّى ، فالتصق بعضه ببعض ، فصار جبلاً صَلْداً .
وهذه معجزةٌ تامَّةٌ؛ لأنَّ هذه الزُّبَر الكثيرة ، إذا نفخ عليها؛ حتَّى تصير كالنَّار ، لم يقدر الحيوان على القرب منها ، والنَّفخُ عليها لا يكون إلا بالقرب منها ، فكأنَّه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النَّافخين عليها .
قيل : إنَّه وضع الحديد على الحطب ، والحطب على الحديد؛ فصار الحطب في خلال الحديد ، ثمَّ نفخُوا عليه؛ حتَّى صار ناراً ، أفرغ عليه النُّحاس المذاب؛ فدخل في خلال الحديد مكان الحطب؛ لأنَّ النَّار أكلت الحطب؛ فصار النحاسُ مكان الحطب؛ حتَّى لزم الحديدُ النُّحاس .
قال قتادة : صار كالبُرد المحبَّر طريقة سوداء وطريقة حمراء .
فصل فيما بين السدين
قال الزمخشريُّ : قيل : بعد ما بين السَّدين مائة فرسخٍ .
وروي : عرضهُ كان خمسين ذراعاً ، وارتفاعه مائتي ذراعٍ .
قوله : » قِطْراً « هو المتنازع فيه ، وهذه الآية أشهر أمثلةِ النحاةِ في باب التنازع ، وهي من إعمال الثاني؛ للحذف من الأول ، والقِطرُ : النُّحاس ، أو الرَّصاصُ المذاب؛ لأنه يقطر .

قوله : { فَمَا اسطاعوا } : قرأ حمزة بتشديد الطاء ، والباقون بتخفيفها ، والوجه في الإدغام ، كما قال أبو عليٍّ : « لمَّا لم يمكنْ إلقاء حركة [ التَّاء ] على السِّين؛ لئلاَّ يحرَّك ما لا يتحرَّك » - يعني : أنَّ سين « اسْتَفْعَلَ » لا تتحرَّك - أدغم مع السَّاكن ، وإن لم يكن حرف لين ، وقد قرأت القراء غير حرفٍ من هذا النحو؛ وقد أنشد سيبويه « ومَسْحي » يعني في قول الشاعر : [ الرجز ]
3567- كَأنَّهُ بَعْدَ كَلالِ الزَّاجرِ ... ومَسْحِي مرُّ عُقابٍ كَاسرِ
[ يريد « ومَسْحِه » ] فأدغم الحاء في الهاء بعد أن قلب الهاء حاء ، وهو عكس قاعدة الإدغام في المتقاربين ، وهذه القراءة قد لحَّنها بعض النُّحاة ، قال الزجاج : « من قرأ بذلك ، فهو لاحِنٌ مخطئٌ » وقال أبو عليٍّ : « هي غيرُ جائزةٍ » .
وقرأ الأعشى ، عن أبي بكر « اصْطاعُوا » بإبدال السِّين صاداً ، والأعمش « استطاعوا » كالثانية .
فصل
حذفت تاء « اسْتطَاعُوا » للخفَّة؛ لأنَّ التاء قريبة المخرجِ من الطَّاء ، ومعنى « يَظْهَرُوهُ » أي : يعلونه من فوق ظهره؛ لطوله ، وملاسته ، وصلابته ، وثخانته ، ثم قال ذو القرنين : « هَذَا » إشارةٌ غلى السدِّ « رَحْمَةٌ » أي : نعمة من الله ، ورحمة على عباده { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } أي : القيامة .
وقيل : وقت خروجهم { جَعَلَهُ دَكَّآءَ } أي : جعل السدَّ مدكوكاً مستوياً ، مع وجه الأرض .
قوله : { جَعَلَهُ دَكَّآءَ } : الظاهر أنَّ « الجَعْلَ » هنا بمعنى « التَّصْيير » فتكون « دكَّاء » مفعولاً ثانياً ، وجوَّو ابن عطيَّة : أن يكون حالاً ، و « جَعَلَ » بمعنى « خَلَقَ » وفيه بعدٌ؛ لأنه إذ ذاك موجود ، وتقدَّم خلاف القراء في « دكَّاء » في الأعراف .
قوله : { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } الوعْدُ هنا مصدر بمعنى « المَوعُود » أو على بابه .
فصل فيما روي عن يأجوج ومأجوج
روى قتادة ، عن أبي رافعٍ ، عن أبي هريرة ، يرفعه : أنَّ يأجُوج ومأجُوجَ يحفرونه كلَّ يوم ، حتَّى إذا كادوا يرون شُعاعَ الشَّمسِ ، قال الذي عليهم : ارجعوا؛ فسَتحْفُرونهُ غداً ، فيُعيدهُ الله كما كان ، حتَّى إذا بَلغَتْ مُدَّتهُمْ ، حفروا؛ حتَّى كادوا يرون شعاع الشَّمسِ ، قال الذي عليهم : ارْجِعُوا ، فسَتحْفرُونَهُ ، إن شاء الله تعالى غداً ، واستثنى ، فيَعُودُونَ إليه ، وهو كهيئته حين تركوهُ ، فيحفرونه ، فيخرجون على النَّاس [ فَيَشْرَبُونَ ] المياهَ ، ويتحَصَّنُ النَّاس في حصونهم ، فيرمون بسهامهم إلى السَّماءِ ، فتَرجِعُ فيها كهيئةِ الدَّم ، فيقولون : قهرنا أهْلَ الأرْضِ ، وعلونا أهل السَّماء ، فيَبعَثُ الله عليهم نغفاً في أقفائهم ، فَيهلكُونَ ، وإنَّ دوابَّ الأرضِ لتسمنُ وتشكرُ من لحومهم .
وعن النَّواس بن سمعان ، قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدَّجَّال ذات غداةٍ ، فخفَّض فيه ورفَّع حتَّى ظننَّاهُ في طائفةِ النَّخل ، فلمَّا رحنا إليه ، عرف ذلك فينا ، فقال : ما شَأنكم؟ قلنا : يا رسول الله ، ذكرتَ الدَّجالِ أخْوفني عليكم ، إنْ يخرجْ وأنا فيكم ، فأنا حَجيجُهُ دونكم ، وإن يخرج ، ولستُ فيكم ، فكلُّ امرئٍ حَجِيجُ نفسه ، والله خليفتي على كلِّ مسلم؛ إنَّهُ شابٌّ قططٌ ، عينه طافيةٌ؛ كأنِّي أشبِّهه بعبد العُزَّى بن قطنٍ ، فمن أدركه منكم ، فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، إنَّه خارجٌ خلَّة بين الشَّام والعراق ، فعاث يميناً ، وعاث شمالاً؛ يا عباد الله فاثبتوا قلنا : يا رسول الله ، وما لبثهُ في الأرض؟ قال : أربعون يوماً؛ يومٌ كسنةٍ ، ويومٌ كشهرٍ ، ويومٌ كجمعةٍ ، وسَائ~رُ أيَّامه كأيَّامكُمْ ، قلنا : يا رسول الله ، فذلك اليومُ الذي كسنةٍ ، يكْفِينَا فيه صلاةُ يوم؟ قال : لا ، اقدرُوا لهُ قدرهُ ، قلنا : يا رسول الله ، وما إسراعهُ في الأرض؟ قال : كالغَيْثِ اسْتدْبَرَتهُ الرِّيحث ، فيأتي على القومِ ، فيَدعُوهُمْ ، فيُؤمِنُونَ به ، ويسْتَجيبُونَ له ، فيَأمُر السَّماءَ ، فتُمْطِرُ ، والأرض فتُنْبِتُ ، وتَروحُ عليهم سارحتهم ، أطول ماكانت ذُرًى ، وأسبغهُ ضُرُوعاً ، وأمدَّهُ خَواصِرَ ، ثمَّ يأتي القوم ، فيَدعُوهُمْ ، فيَردُّونَ عليه قوله ، قال : فيَنْصرِفُ عنهم ، فيُصْبِحُونَ مُمْحلين ، ليس بايديهم شيءٌ من أموالهم ، ويمرُّ بالخربة ، فيقول لها : أخرجي كنُوزكِ ، فتَتْبَعُهُ كنُوزهَا؛ كيعَاسيب النَّحلِ ، ثمَّ يدعو رجلاً مُمتلِئاً شباباً ، فيَضْرِبُهُ بالسَّيفِ ، فيَقْطعُه جزلتين رمية الغرض ، ثمَّ يدعوهُ ، فيُقْبلُ ، يتهلَّلُ وجههُ؛ يضحك ، فبينما هو كذلك؛ إذْ بعثَ الله عيسى ابن مريم المسيح - عليه السلام - فينزلُ عند المنارةِ البيضاءِ شرقيَّ دمشق ، بين مهرُودتين واضعاً كفَّيه على أجْنحَةِ ملكين ، إذا طأطأ رأسهُ ، قطر ، وإذا رفعه؛ تحدَّر منه مثل جمان اللؤلؤِ ، فلا يحلُّ للكافر يجدُ ريحَ نفسه غلاَّ مات ، ونفسه ينتهي حيثُ ينتهي طرفه حتَّى يدركه ببابِ لدٍّ ، فيقتلهُ ، ثمَّ يأتي عيسى قومٌ قد عصمهمُ الله منهُ ، فيَمْسحُ عن وجوههم ، ويحدِّثهُمْ بدرجاتهم في الجنَّة ، فبينما هو كذلك إذْ أوحى الله تعالى غلى عيسى : إنِّي قَدْ أخرجتُ عباداً لي لا يدان لأحدٍ بقتالهم ، فحرِّزْ عبادي إلى الطُّور ، ويبعثُ الله يأجُوج ومأجُوجَ ، وهُمْ من كلِّ حدبٍ ينسلون ، فيمُرُّ أوائلهُم على بحيرة « طبَريَّة » فيَشْربُونَ ما فيها ، ويمرُّ آخرهم ، فيقولون : لقد كان بهذه مرَّة ماءٌ ، ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأسُ الثَّور لأحدهم خيراً من مائة دينارٍ لأحدكم اليْومَ ، فيرغب نبيُّ الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيُرسِلُ الله تعالى عليهم النَّغف في رقابهم ، فيُصْبِحُون فَرْسَى كموتِ نفسٍ واحدةٍ ثمَّ يهبطُ نبيُّ الله وأصحابه إلى الأرض ، فلا يجدُونَ في الأرض موضع شبر إلا ملأهُ زَهمهُمْ ونتنهُمْ ، فيَرْغبُ نبيُّ الله عيسى وأصحابهُ إلى الله ، فيُرسِلُ الله عليهم طيراً؛ كأعناقِ البُخْتِ ، فتَحْملهُمْ ، فتَطْرَحهُمْ حيثُ شَاءَ الله ، ثمَّ يرسلُ الله مطراً ، لا يكنُّ منهُ بيتٌ مَدَرٌ ، ولا وبرٌ ، فيَغْسِلُ الأرض ، حتَّى يَتركهَا كالزَّلقة ، ثمَّ يقال للأرض : أنْبتِي ثَمرتك ، ورُدِّي بَركتَكِ ، فيَومئذٍ : تَأكلُ العَصابةُ الرُّمانَة ، ويَسْتظلُّونَ بِقحْفِهَا ، ويبارك في الرِّسلِ ، حتَّى إنَّ اللقحة من الإبل ، لتكفي الفئامَ من النَّاس ، وبينما هم كذلك؛ إذْ بعث الله ريحاً طيبة ، فتَأخُذهُمْ تحت آباطهم ، فتَقْبِضُ رُوح كلِّ مؤمنٍ ، وكلِّ مسلمٍ ، ويبقى شِرارُ النَّاس يَتهارَجُونَ فيها تَهارُجَ الحُمُر ، فعليهم تَقومُ السَّاعةُ .

قوله : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } الآية .
قيل : هذا عند فتح السَّد ، وتركنا يأجوج ومأجوج يموجُ بعضهم في بعضٍ ، أي : يزدحمون كموج الماء ، ويختلط بعضهم في بعضٍ؛ لكثرتهم .
وقيل : هذا عند قيام السَّاعة يدخل الخلق بعضهم في بعض ، ويختلط إنسيُّهم بِجنِّيِّهِمْ حَيَارَى .
قوله : « يَوْمئِذٍ » التنوين عوضٌ من جملةٍ محذوفة ، تقديرها : يوم إذ جاء وعدُ ربِّي ، أو إذ حجز السدُّ بينهم .
قوله : { يَمُوجُ } : مفعول ثانٍ ل « تَركْنَا » والضمير في « بَعْضهُمْ » يعود على « يَأجُوج ومأجُوج » أو على سائر الخلق .
قوله : { وَنُفِخَ فِي الصور } . لأن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب السَّاعة ، وتقدَّم الكلام في الصور ، { فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } في صعيدٍ واحدٍ .
« وعَرضْنَا » : أبْرَزْنَا .
{ جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً } حتَّى يشاهدوها عياناً .
قوله : { الذين كَانَتْ } : يجوز أن يكون مجروراً بدلاً من « لِلْكافِرينَ » أو بياناً ، أو نعتاً ، وأن يكون منصوباً بإضمار « أذمُّ » وأن يكون مرفوعاً خبر ابتداءٍ مضمرٍ .
ومعنى { كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ } : أي : [ غشاءٍ ، والغطاء : ما يغطِّي الشيء ويسترهُ { عَن ذِكْرِي } : عن الإيمان والقرآن ، والمراد منه : شدَّة انصرافهم عن قَبُول الحقِّ ، وعن الهدى والبيان ، وقيل : عن رؤية الدلائل : { وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } .
أي : سمع الصَّوت ، أي : القبول والإيمان؛ لغلبةِ الشَّقاء عليهم .
وقيل : لا يعقلون ، وهذا قوله : { فَعَمُواْ وَصَمُّواْ } [ المائدة : 71 ] .
أما العمى ، فهو قوله : { كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي } وأما الصّمم فقوله : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } .
أي : لا يقدرون [ أن يَسْمَعُوا ] من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتلوه عليهم؛ لشدَّة عداوتهم له .

أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)

قوله تعالى : { أَفَحَسِبَ الذين كفروا } الآية .
لما بيَّن إعراض الكافرين عن الذِّكر ، وعن سماع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أتبعه بقوله : { أَفَحَسِبَ الذين كفروا }
والمعنى : أفظنَّ الذين كفروا أن ينتفعوا بما عبدوه .
والمراد بقوله : { أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دوني أَوْلِيَآءَ } : أرباباً ، يريد بالعباد : عيسى ، والملائكة .
وقيل : هم الشياطين يتولَّونهم ويطيعُونَهُم .
وقيل : هم الأصنام ، سمَّاها عباداً؛ كقوله : { عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأعراف : 194 ] . وهو استفهام توبيخ .
قوله : { أَفَحَسِبَ } : العامة على كسر السين ، وفتح الباء؛ فعلاً ماضياً ، و { أَن يَتَّخِذُواْ } سادٌّ مسدَّ المفعولين ، وقرأ أميرُ المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب ، وزيد بن عليٍّ ، وابن كثيرٍ ، ويحيى بن يعمر في آخرين ، بسكون السين ، ورفع الباء على الابتداء ، والخبر « أنْ » وما في حيِّزها .
والمعنى : أفكافيهم ، وحسيبهم أن يتَّخذوا كذا وكذا .
وقال الزمخشريُّ : « أو على الفعل والفاعل؛ لأن اسم الفاعل ، إذا اعتمد على الهمزة ، ساوى الفعل في العمل؛ كقولك : » أقَائمٌ الزَّيدانِ « وهي قراءة محكيَّةٌ جيِّدةُ » .
قال أبو حيَّان : « والذي يظهر أنَّ هذا الإعراب لا يجوزُ؛ لأنَّ حسباً ليس باسم فاعلٍ ، فيعمل ، ولا يلزم من تفسير شيءٍ بشيء : أن يجرى عليه أحكامه ، وقد ذكر سيبويه اشياء من الصِّفات التي تجري مجرى الأسماء ، وأنَّ الوجه فيها الرفع ، ثم قال : وذلك نحو : مرَرْتُ برجلٍ خير منه أبوهُ ، ومررتُ برجلٍ سواءٍ عليه الخير والشر ، ومررت برجلٍ اب لهُ صاحبه ، ومررتُ برجلٍ حسبك من رجلٍ هو ، ومررتُ برجلٍ أيِّما رجلٍ هو » . ثم قال ابو حيان : « ولا يبعُد أن يرفع به الظاهر ، فقد أجازوا في » مررتُ برجلٍ أبي عشرةٍ أبوه « أن يرتفع » أبوهُ « ب » أبِي عشرةٍ « لأنه في معنى والدِ عشرةٍ » .
قوله : « نُزُلاً » فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه منصوب على الحال ، جمع « نَازِلٍ » نحو شارفٍ ، وشُرفٍ .
الثاني : أنه اسم موضع النُّزولِ . قال ابن عباس : « مَثوَاهُمْ » وهو قول الزجاج .
الثالث : أنَّه اسمُ ما يعدُّ للنازلين من الضُّيوف ، أي : معدة لهم؛ كالمنزلِ للضَّيف ، ويكون على سبيل التهكُّم بهم ، كقوله تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] وقوله : [ الوافر ]
3568- . . ... تَحيَّةُ بينهم ضَرْبٌ وجِيعُ
ونصبه على هذين الوجهين مفعولاً به ، أي : صيَّرنا .
وأبو حيوة « نُزْلاً » بسكون الزاي ، وهو تخفيف الشَّهيرة .
قوله : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً } .
يعني : الَّذينَ أتعبوا أنفسهم في عملٍ يرجون به فضلاً ونوالاً ، فنالُوا هلاكاً وبواراً .
قال ابن عباس ، وسعد بن أبي وقَّاصٍ : هم اليهود والنَّصارى .
وهو قول مجاهدٍ .
وقيل : هم الرهبانُ الذين حبسوا أنفسهم في الصَّوامع؛ كقوله تعالى :

{ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } [ الغاشية : 3 ] .
وقال عليُّ بن أبي طالبٍ : هم أهلُ حروراء .
قوله : { أَعْمَالاً } : تمييزٌ للأخسرين؛ وجمع لاختلاف الأنواع .
قوله : { الذين ضَلَّ } : يجوز فيه الجر نعتاً ، وبدلاً ، وبياناً ، والنصب على الذَّم ، والرفع على خبر ابتداء مضمرٍ .
ومعنى خُسْرانهِم أن مثلهم كمن يشتري سلعة يرجُو منها ربحاً ، فخسر وخاب سعيهُ ، كذلك أعمالُ هؤلاء الذين أتعبُوا أنفسهم مع ضلالهم ، فبطل جدُّهم واجتهادهم في الحياة الدنيا ، { وَهُمْ يَحْسَبُونَ } يظنون { أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } أي : عملاً .
قوله : { يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ } يسمَّى في البديع « تَجْنيسَ التَّصحيف » وتجنيس الخطِّ ، وهذا من أحسنه ، وقال البحتريُّ : [ الطويل ]
3569- ولَمْ يَكُنِ المُغْتَرُّ بالله إذْ شَرَى ... ليُعْجِزَ والمُعْتَزُّ بالله طَالِبُهْ
فالأول : من الغُرورِ ، والثاني : من العزِّ ، ومن أحسن ما جاء في تجنيس التصحيف قوله : [ السريع ]
3570- سَقَيْنَنِي ريِّي وغَنَّيْنَنِي ... بُحْتُ بِحُبِّي حينَ بِنَّ الخُرُذ
يصحف بنحو : [ السريع ]
شَقَيْتَنِي ربِّي وعَنَّيْتَنِي ... بِحُبِّ يَحْيَى خَتنِ ابنِ الجُرُذ
وفي بعض رسائل الفصحاء :
قِيلَ قَبْلَ نَداكَ ثَرَاكَ ، عَبْدٌ عِنْدَ رَجَاكَ رَجَاكَ ، آمِلٌ أمِّكَ .
قوله تعالى : { أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } .
لقاء اللع عبارة عن رؤيته؛ لأنَّه يقال : لقيتُ فلاناً ، أي : رأيته .
فإن قيل : اللُّقيا عبارةٌ عن الوصول؛ قال الله تعالى : { فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 12 ] .
وذلك في حقِّ الله محالٌ؛ فوجب حمله على ثواب الله .
فالجواب : أن لفظ اللقاء ، وإن كان في الأصل عبارة عن الوصول إلاَّ أنَّ استعماله في الرؤية مجازٌ ظاهرٌ مشهورٌ ، ومن قال بأنَّ المراد منه : لقاء ثواب الله ، فذلك لا يتمُّ إلا بالإضمار ، وحمل اللفظ على المجاز المتعارفِ المشهور أولى من حمله على ما يحتاج إلى الإضمار .
واستدلَّت المعتزلة بقوله تعالى : { فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } على أن الإحباط حقٌّ ، وقد تقدَّم ذلك في البقرة وقرأ ابن عباس « فَحبَطَتْ » بفتح الباء والعامة بكسرها .
قوله : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } .
قرأ العامة « نُقِيمُ » بنون العظمة ، من « أقَامَ » ومجاهدٌ وعبيد بن عميرٍ : « فَلا يُقِيمُ » بياءِ الغيبة ، لتقدُّم قوله : « بآيَاتِ ربِّهِمْ » فالضمير يعود عليه ، ومجاهدٌ أيضاً « فلا يقُومُ لَهُمْ » مضارع « قَامَ » متعدٍّ ، كذا قال أبو حيَّان ، والأحسن من هذا : أن تعرب هذه القراءة على ما قاله أبو البقاء : أن يجعل فاعل « يَقومُ » « صنيعُهمْ » أو « سَعْيهُم » وينتصب حينئذٍ « وزْناً » على أحد وجهين : إمَّا على الحال ، وإمَّا على التَّمييز .
فصل في معنى الآية
المعنى : أنَّا نزدري بهم ، وليس لهم عندنا وزنٌ ومقدارٌ ، تقول العرب : ما لفلانٍ عندي وزنٌ ، أي : قدرٌ؛ لخسَّتهِ ، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّهُ ليَأتِي يَومَ القيامةِ الرَّجلُ العَظيمُ السَّمينُ ، فلا يَزنُ عند الله جَناحَ بَعُوضةٍ »

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)

قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الآية .
لما ذكر وعيد الكفَّار ، ونزلهم ، أتبعه بوعيدِ المؤمنين ونزلهم . قال قتادة : الفِرْدَوس : وسطُ الجنَّة ، وأفضلها .
وعن كعبٍ : ليس في الجنانِ أعلى من جنَّة الفردوس ، وفيها الآمرون بالمعروف ، والنَّاهون عن المنكر .
وعن مجاهدٍ : الفردوسُ : هو البستان ، بالرومية .
وقال عكرمة : هو الجنَّة بلسان الحبش .
وقال الزجاج : هو بالروميَّة منقولٌ إلى لفظ العربيَّة .
وقال الضحاك : هي الجنَّة الملتفَّة الأشجارِ .
وقيل : هي التي تنتبت ضروباً من النَّبات .
وقيل : الفردوس : الجنَّة من الكرم خاصَّة .
وقيل : ما كان عاليها كرماً .
وقيل : كلُّ ما حُوِّط عليه ، فهو فردوس .
وقال المبرِّد : الفردوس فيما سمعتُ من العرب : الشَّجرُ الملتفُّ ، والأغلب عليه : أن يكون من العنب ، واختلفوا فيه :
فقيل : هو عربيٌّ ، وقيل : هو أعجميٌّ ، وقيل : هو روميٌّ ، أو فارسيٌّ ، أو سرياني ، قيل : ولم يسمعْ في كلام العرب إلاَّ في قوله حسَّان : [ الطويل ]
3572- وإنَّ ثَوابَ الله كُلَّ مُوحِّدٍ ... جِنَانٌ من الفِرْدوس فيهَا يُخُلَّدُ
وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّه سمع في شعر أميَّة بن أبي الصَّلت : [ البسيط ]
3573- كَانَتْ مَنازِلهُمْ إذ ذَاكَ ظَاهِرةً ... فيهَا الفَراديسُ ثمَّ الثُّومُ والبَصَلُ
ويقال : كرمٌ مفردسٌ ، أي : معرِّش ، ولهذا سمِّيت الروضة التي دون اليمامةِ فردوساً .
وإضافة جنَّاتٍ إلى الفردوس إضافة تبيينٍ ، وجمعه فراديسُ؛ قال - عليه الصلاة والسلام- : « في الجنَّة مائةُ درجةٍ ما بَيْنَ كلِّ درجةٍ مسيرةُ مائة عام ، والفِردوسُ أعلاها درجةً ، وفيها الأنهارُ الأربعة ، والفِرْدَوسُ من فَوْقِهَا ، فإذا سَألتمُ الله تعالى ، فاسْألُوهُ الفِرْدوسَ؛ فإنَّ فوقها عَرْشُ الرَّحمنِ ، ومِنْهَا تُفجَّرُ أنهارُ الجنَّة » .
قوله : « نُزُلاً » : فيه ما تقدَّم : من كونه اسم مكان النزول ، أو ما يعدُّ للضَّيف ، وفي نصبه وجهان :
أحدهما : أنه خبر « كَانَتْ » و « لهُمْ » متعلقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالق من « نُزلاً » أو على البيان ، أو ب « كَانَتْ » عند من يرى ذلك .
والثاني : أنه حالٌ من « جنَّات » أي : ذوات نُزُلٍ ، والخبر الجارُّ .
وإذا قلنا بأنَّ النُّزل هو ما يهيَّأ للنَّازل ، فالمعنى : كانت لهم ثمارٌ جنَّات الفردوس ، ونعيمها نزلاً ، ومعنى « كَانتْ لَهُمْ » أي : في علم الله قبل أن يخلقوا .
قوله : { لاَ يَبْغُونَ } : الجملة حال : إمَّا من صاحب « خَالِدينَ » وإمَّا من الضمير في « خَالِدِينَ » فتكون حالاً متداخلة .
والحِوَلُ : قيل : مصدر بمعنى « التَّحَوُّل » يقال : حال عن مكانه حِوَلاً؛ فهو مصدر؛ كالعِوَج ، والعِوَد ، والصِّغر؛ قال : [ الرجز ]
3574- لِكُلِّ دَولةٍ أجَلْ ... ثم يُتَاحُ لهَا حِوَلْ
والمعنى : لا يطلبون عنها تحوُّلاً إلى غيرهاز
وقال الزجاج : « هو عند قومٍ بمعنى الحيلة في التنقُّل » وقال ابن عطيَّة : « والحِوَلُ : بمعنى التَّحول؛ قال مجاهد : مُتحوَّلاً » وأنشد الرَّجز المتقدم ، ثم قال : « وكأنَّه اسمُ جمعٍ ، وكأنَّ واحده حوالةٌ » قال شهاب الدين : وهذا غريبٌ ، والمشهور الأول ، والتصحيح في « فِعَلٍ » هو الكثير ، إن كان مفرداً؛ نحو : « الحِوَلِ » وإن كان جمعاً ، فالعكس؛ نحو : « ثِيرَة » و « كِبَرة » .

قوله تعالى : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } الآية .
لما ذكر في هذه السورة أنواع الدَّلائل والبيِّنات ، وشرح فيها أقاصيص الأوَّلين ، نبَّه على كمال حال القرآن ، فقال : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } .
قال ابن عباس : قالت اليهود : يا محمد ، تزعمُ أنّك قد أوتينا الحكمة ، وفي كتابك { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] .
ثم تقول : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] .
فأنزل الله هذه الآية .
وقيل : لمَّا نزلت : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } قالت اليهود : أوتينا التوراة ، وفيها علمُ كلِّ شيءٍ ، فأنزل الله تعالى : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } .
والمِدَادُ : اسمٌ لما تمدُّ به الدَّواة من الحبرِ ، ولما يمدُّ به السِّراجُ من السَّليط ، وسمي المدادُ مداداً؛ لإمداده الكاتب ، وأصله من الزيادة .
وقال مجاهدٌ : لو كان البحر مداداً للقلم والقلم يكتب « لنفِد البَحْرُ » أي : ماؤهُ .
قوله : « تنفد » : قرأ الأخوان « يَنْفدَ » بالياء من تحت؛ لأنَّ التأنيث مجازي ، والباقون بالتاء من فوق؛ لتأنيث اللفظ ، وقرأ السلميُّ - ورويت عن أبي عمرو وعاصم - « تنفَّد » بتشديد الفاء ، وهو مطاوع « نفَّد » بالتشديد؛ نحو : كسَّرته ، فتكسَّر ، وقراءة الباقين مطاوع « أنْفَدتُّهُ » .
قوله : « ولَوْ جِئْنَا » جوابها محذوفٌ لفهم المعنى ، تقديره : لَنفِدَ ، والعامة على « مَدداً » بفتح الميم ، والأعمش قرأ بكسرها ، ونصبه على التمييز كقوله : [ الطويل ]
3575- ... فإنَّ اله!وَى يَكْفِيكهُ مثلهُ صَبْرا
وقرأ ابن مسعود ، وابن عبَّاس « مِداداً » كالأول ، ونصبه على التَّمييز ايضاً عند أبي البقاء ، وقال غيره - كأبي الفضل الرازيِّ- : إنه منصوب على المصدر ، بمعنى الإمداد؛ نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] قال : والمعنى : ولو أمددناهُ بمثله إمداداً .
فصل في معنى الآية
المعنى : ولو كان الخلائقُ بكتبون ، والبَحْرُ يمدُّهم ، لنفد ما في البحر ، ولم تنفدْ كلماتُ ربِّي { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ } أي بمثل ماء البحر في كثرته .
قوله : { مََدداً } نظيره قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله } [ لقمان : 27 ] .
واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّها صريحةٌ في إثباتِ كلماتٍ كثيرة لله تعالى .
قال ابن الخطيب : وأصحابنا حملوا الكلماتِ على متعلِّقات علم الله تعالى .
قال الجبائيُّ : وأيضاً قوله : { قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } يدلُّ على أنَّ كلمات الله تعالى ، قد تنفدُ في الجملة ، وما ثبت عدمهُ ، امتنع قدمهُ .

وأيضاً قال : { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } .
وهذا يدلُّ على أنه تعالى قادر على أن يجيء بمثل كلامه ، والذي يجيءُ به يكون محدثاً ، والذي يكون المحدثُ كلامهُ فهو أيضاً محْدَثٌ .
فالجوابُ : بأنَّ المراد به الألفاظ الدَّالَّة على تعلُّقات تلك الصِّفاتِ الأزليَّة .
ولمَّا بيَّن تعالى تمام كلامه أمر محمَّداً صلى الله عليه وسلم بأن يسلك طريقة التَّواضع ، فقال : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ } .
أي : لا امتياز بيني وبينكم في شيء من الصفات إلاَّ في أنَّ الله تعالى ، أوحى إليّ أنَّه لا إله غلاَّ هو الواحد الأحد .
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما- : علَّم الله - عزَّ وجلَّ - رسوله صلى الله عليه وسلم التواضع ، فأمره أن يُقرَّ ، فيقول : أنا آدميٌّ مثلكم إلاَّ أنِّي خُصِصْتُ بالوحي .
قوله : { أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ } وهو يدلُّ على مطلوبين :
أحدهما : أن كلمة « أنَّما » تفيد الحصر .
والثاني : كون الإله واحداً .
قوله : { أَنَّمَآ إلهكم } : « أنَّ » هذه مصدرية ، وإن كانت مكفوفة ب « ما » وهذا المصدر فائمٌ مقام الفاعل؛ كأنَّه قيل : إنَّما يوحى إليَّ التوحيد .
قوله : { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ } .
الرَّجاء : هو ظنُّ المنافع الواصلة ، والخوفُ : ظنُّ المضارِّ الواصلة إليه ، فالرَّجاءُ هو الأملُ .
وقيل : معنى « يَرْجُو لقاءَ ربِّه » أي : يخاف المصير إليه ، فالرجاء يكون بمعنى الخوف ، والمل جميعاً؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
3576- فَلاَ كُلُّ مَا تَرجُو مِنَ الخَيْرِ كَائِنٌ ... ولا كَلُّ مَا تَرْجُو من الشَّرِ واقِعُ
فجمع بين المعنيين ، وأهل السُّنة حملوا لقاء الربِّ على رؤيته . والمعتزلة حملوه على لقاء ثواب الله .
قوله تعالى : { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } .
قرأ العامة : « ولا يُشْرِكْ » بالياء من تحتُ ، عطف نهي على أمرٍ ، ورُويَ عن أبي عمرو « ولا تُشْرِكْ » بالتاءِ من فوق؛ خطاباً على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، ثم التفت في قوله « بِعبادَةِ ربِّهِ » إلى الأول ، ولو جيء على الالتفات الثاني ، لقيل : « ربِّك » والباء سببيةٌ ، أي : بسبب . وقيل : بمعنى « في » .
فصل في ورود لفظ الشرك في « القرآن الكريم »
قال أبو العبَّاس المقري : ورد لفظ الشِّرْك « في القرآن بإزاء معنيين :
الأول : بمعنى الشِّرك في العمل؛ كهذه الآية .
الثاني : بمعنى العَدْل؛ قال تعالى : { واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } [ النساء : 36 ] . أي : ولا تعدلوا به شيئاً .
فصل في بيان الشرك الأصغر
قال - عليه الصلاة والسلام- : » أخْوَفُ مَا أخَافُ عَليْكُمُ الشِّركُ الأصْغَرُ ، قَالُوا : وما الشِّركُ الأصغر؟ قال : الرِّياءُ « .
وقال - عليه الصلاة والسلام- : » إنَّ الله تَعالَى يَقُولُ : أنَا أغْنَى الشُّركاءِ عَنِ الشِّرْكِ ، فَمنْ عَمِلَ عملاً أشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي ، فَأنَا مِنْهُ بَرِيءٌ ، وهُوَ للَّذي عَمِلهُ « .

وعن أبي الدَّرداء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أوَّلِ سُورةِ الكَهْفِ عُصِمَ مِن فِتْنَةِ الدَّجالِ » .
وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ قَرَأ أوَّلَ سُورةِ الكَهْفِ ، كَانَتْ لَهُ نُوراً مِنْ قَدمَيْهِ إلى رأسِِ ، ومَنْ قَرَأهَا ، كَانَتْ لَهُ نُوراً مِنَ الأرْضِ إلى السَّماءِ » .
وعن سمرة بن جُنْدبٍ ، عن أبيه قال : قال النبيِّ صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ عَشْرَ آياتٍ مِنَ الكهْفِ حِفْظاً ، لَمْ يَضرَّهُ فِتْنَةُ الدَّجالِ ، ومن قَرَأ السُّورة كُلَّهَا ، دَخلَ الجنَّة » .
وعن عبد الله بن أبي فروة ، قال : إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ألا أدُلُّكمْ على سُورةٍ شيَّعها سَبْعُونَ ألفَ ملكٍ ، حِينَ نَزلَتْ ، ملأَ عِظَمُهَا مَا بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ ، ولتَالِيهَا مِثْلُ ذلِكَ؟ قالوا : بَلَى يا رسُول الله ، قَالَ : سُورَةُ الكَهْفِ مَنْ قَرَأها يَوْمَ الجُمعةِ ، غُفِرَ لهُ إلى الجُمعةِ الأخرى ، وزِيَادةِ ثَلاثةِ أيَّامٍ ، وأعْطِي نُوراً يَبْلغُ السَّماءَ ، وَوُقِيَ فِتْنةَ الدَّجالِ » .

كهيعص (1)

اعلم أنَّ حروف المُعْجمِ على نوعين : ثُنائي ، وثُلاثي ، وقد جرت العادةُ -عادةُ العرب- أن ينطقُوا بالثنائيَّات المقطوعة ممالة ، فيقولوا : بَا ، تَا ، ثَا ، وكذلك أمثالها ، وأن ينطقوا بالثلاثيَّات التي في وسطها الألف مفتوحة مشبعة ، فيقولون : دال ذال ، صاد ، ضاد ، وكذلك أشكالها .
أما الرَّازي وحدُه من بين حُروف المعجم ، فمعتادٌ فيه الأمران ، ؛ فإنَّ من أظهر ياءَه في النُّطْق حتَّى يصير ثلاثيَّا ، لم يُملُه ، ومن لم يظهر ياءه في النطق؛ حتَّى يشبه الثنائيَّ ، أماله .
واعلم أنَّ إشباع الفتحة في جميع المواضع أصلٌ ، والإمالة فرعٌ عليه؛ ولذلك يجوزُ إشباعُ كُلِّ ممالٍ ، ولا يجوز كُلُّ مُشْبَعٍ من المفتوحات .
والعامَّة على تسكين أواخر هذه الأحرفُ المقطعة ، لذلك كان بعضُ القرَّاء يقفُ على كُلِّ حرفٍ منها وقفة يسيرة كبالغة في تمييز بعضها من بعض .
وقرأ [ الحسن ] « كافُ » [ و « ها » ] وتفخيمهما ، وبعضهم يُعبِّر عن التفخيم بالضمِّ ، كما يعبِّر عن الإمالةِ بالكسر ، وإنما ذكرته؛ لأنَّ عبارتهم في ذلك مُوهمةٌ .
وأزهر دال « صاد » قبل ذالِ « ذكرُ » نافعٌ ، وابن كثير ، واعاصم؛ لن الأصل ، وأدغمها فيها الباقون .
والمشهورُ إخفاء نون « عَيْن » قبل الصَّاد؛ لأنها تقاربها ، ويشتركان في الفمِ ، وبعضها يظهرها؛ لأنها حروفٌ مقطعةٌ يقصدون تمييز بعضها من بعض .

ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)

قوله : { ذِكْرُ } : فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : فيما يتلى عليكم ذكر .
الثاني : أنه خبر محذوف المبتدأ ، تقديره : أو هذا ذكر .
الثالث : أنه خبر الحروف المقطَّعة ، وهو قول يحيى بن زياد ، قال أبو البقاء « وفيه بعدٌ؛ لأنَّ الخبر هو المبتدأ في المعنى ، وليس في الحروف المقطَّعة ذكرُ الرحمة ، ولا في ذكر الرحمة معناها » .
و « ذِكْرُ » مصدرٌ مضافٌ؛ قيل : إلى مفعوله ، وهو الرحمة في نفسها مصدرٌ أيضاً مضافٌ إلى فاعله ، و « عَبدَهُ » مفعولٌ به ، والناصبُ له نفسُ الرحمةِ ، ويكون فاعلُ الذِّكرِ غير مذكورٍ لفظاً ، والتقدير : أن ذكر الله ورحمته عبدهُ ، وقيل : بل « ذِكْرُ » مضافٌ إلى فاعله على الاتِّساع ، ويكون « عبدهُ » منصوباً بنفس الذِكْر ، والتقدير : أن ذكرت الرحمة عبدُه ، فجعل الرحمة ذاكرةً له مجازاً .
و « زكَرِيَّا » بدلٌ ، أو عطفُ بيانٍ ، أو منصوبٌ بإضمار « أعْنِي » .
وقرأ يحيى بن يعمر -ونقلها الزمخشريّ عن الحسن - « ذَكَّرَ » فعلاً ماضياً مشدداً ، و « رحمة » بالنصب على أنها مفعولٌ ثانٍ ، قدمت على الأول ، وهو « عَبْدُهُ » والفاعلُ : إما ضمير القرآن ، أو ضمير الباري تعالى ، والتقدير : أن ذكَّر القرآنُ المتلُوُّ -أو ذكَّر الله- عبده رحمتُه ، أي : جعل العبد يذكرُ رحمته ، ويجوز على المجازِ المتقدِّم أن « رحمةَ ربِّك » هو المفعول الأول ، والمعنى : أنَّ الله جعل الرحمة ذاكرةً للعبد ، وقيل : الأصلُ : ذكَّر برحمةِ ، فلما انتزع الجارُّ نصب مجروره ، ولا حاجة إليه .
وقرأ الكلبيُّ « ذكر » بالتخفيف ماضياً « رَحْمَةَ » بالنصب على المفعول به ، « عَبْدُهُ » بالرفع فاعلاً بالفعل قبله ، « زَكريَّا » بالرفع على البيان ، أو البدل ، أو على إضمار مبتدأ ، وهو نظيرُ إضمار الناصب في القراءة الأولى .
وقرأ يحيى بن يعمر -فيما نقله عنه الدَّاني- « ذَكَّرْ » فعل أمرٍ ، « رَحْمَةَ » و « عَبْدهُ » بالنصب فيهما على أنهما مفعولان ، وهما على ما تقدَّم من كون كلِّ واحدٍ ، يجوز أن يكون المفعول الأول ، أو الثاني ، بالتأويلِ المتقدّم في جعل الرحمة ذاكرةً مجازاً .
فصل في تأويل هذه الحروف المقطعة
قال ابنُ عباسٍ : هذه الحروف اسم من أسماء الله تعالى ، وقال قتادةُ : اسمٌ من أسماء القرآن .
وقيل : اسمٌ للسُّورة .
وقيل : هو قسمٌ أقسم الله به ويروى عن سعيد بن جبيرٍ ، عن ابن عباس في قوله { كهيعص } قال : الكافُ من كريم وكبير ، والماء من هاد ، والياء من رحيم والعين من عليهم ، وعظيم ، والصاد من صادق .
وعن ابن عبَّاس أيضاً أنَّه حمل الياء على الكريم مرَّة ، وعلى الحكيم أخرى .

وعن ابن عباس في العين أنَّه من عزيز من عدل . قال ابنُ الخطيب : وهذه أقوالٌ ليست قويَِّة؛ لأنَّه لا يجوزُ من الله تعالى أن يودعَ كتابهُ ما لا تدلُّ عليه اللغةُ ، لا بالحقيقةِ ، ولا بالمجازِ ، لأنَّا إن جوَّزنا ذلك ، فتح علينا بابُ قول من يزعم أنَّ لكلِّ أولي من دلالته على الكريم ، والكبير ، أو على اسم آخر من أسماء الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- أو الملائكة ، أو الجنَّة ، أو النَّار ، فيكون حملها على بعضها دون البعض تَحَكُّماً .
فصل في المراد بقوله تعالى : { رَحْمَةِ رَبِّكَ }
يحتملُ أن يكون المراد من قوله { رَحْمَةِ رَبِّكَ } أنه عنى عبدهُ زكريَّا ، ثم في كونه رحمة وجهان :
أحدهما : أن يكون « رحْمة » على أمَّته؛ لأنَّه هداهُم إلى الإيمان والطَّاعة .
والثاني : أن يكون رحمة على نبيِّنا محمد -عليه الصلاة والسلام- وعلى أمَّته؛ لأنَّ الله تعالى ، لمَّا شرع لمحمَّد صلى الله عليه وسلم طريقتهُ في الإخلاص والابتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى ، وصار ذلك لطفاً داعياً له ، ولأمَّته إلى تلك الطريقة زكريَّا رحمة .
ويحتمل أن يكون المرادُ أنَّ هذه السُّورة فيها ذكرُ الرحمة التي يرحمُ بها عبدُه زكريَّا .
قوله : { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } .
في ناصب إذ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهُ « ذِكْرُ » ، ولم يذكُر الحوفيُّ غيره .
والثاني : أنَّه « رَحْمَة » وقد ذكر الوجهين أبو البقاء .
والثالث : أنَّه بدلٌ من « زكريَّا » بدل ُ اشتمالٍ؛ لأنَّ الوقت مشتملٌ عليه ، وسيأتي مثلُ هذا عند قوله { واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ } [ مريم : 16 ] ونحوه .
فصل في أدب زكريا في دعائه
راعى سُنَّة الله في إخفاء دعوته؛ لأنَّ الجهر والإخفاء عند الله سيَّان ، وكان الإخفاء أولى؛ لأنَّه أبعد عن الرِّياء ، وأدخلُ في الإخلاص .
وقيل : أخفاه؛ لئلاَّ يلامُ على طلبِ الولدِ في زمان الشيخوخة وقيل : أسرَّهُ من مواليه الذين خافهم .
وقيل : خِفْتُ صوتهُ؛ لضعفه ، وهرمه ، كما جاء في صفةِ الشَّيْخ : صوتهُ خفاتٌ ، وسمعهُ تارات . فإن قيل : من شرط النِّداء الجهر ، فكيف الجمع بين كونه نداء وخفيًّ؟ .
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنَّه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت؛ إلا أنَّ صوته كان ضعيفاً؛ لنهايةِ ضعفه بسببِ الكبر ، فكان نداءً؛ نظراً إلى القصد ، خفيًّا نظراً إلى الواقع .
الثاني : أنَّه دعاه في الصَّلاة؛ لأنَّ الله تعالى ، أجابه في الصَّلاة؛ لقوله تعالى : { فَنَادَتْهُ الملاائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } [ آل عمران : 39 ] فتكُون الإجابةُ في الصَّلاة تدلُّ على كون الدُّعاء في الصّلاة؛ فوجب أن يكون النداءُ فيها خفيًّا .
وفي التفسير : « إذْ نَادَى » : دعا « ربَّه » في محرابِهِ .
قوله : { نِدَآءً خَفِيّاً } دعا سرًّا من قومه في جوف الليل .
قوله : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي } الآية .

قوله : { قَالَ رَبِّ } : لا محلَّ لهذه الجملةِ؛ لأنها تفسير لقوله « نَادَى ربَّهُ » وبيانٌ ، ولذلك ترك العاطف بينهما؛ لشدَّة الوصل .
قوله : « وهَنَ » العامَّةُ على فتحِ الهاء ، وقرأ الأعمشُ بكسرها ، وقُرئ بضمِّها ، وهذه لغاتٌ في هذه اللفظة ، ووحَّد العظم لإرادة الجنس؛ يعني : أنَّ هذا الجنسَ الذي هو عمودُ البدنِ ، وأشدُّ ما فيه ، وأصلبه ، قد أصابه الوهنُ ، ولو جمع ، لكان قصداً آخر : وهو أنه لم يهن منه بعضُ عظامه ، ولكن كلُّها ، قاله الزمخشريُّ ، وقيل : أطلقَ المفردُ ، والمرادُ به الجمعُ؛ كقوله : [ الطويل ]
3577- بِهَا جِيفَ الحَسْرَى فأمَّا عِظَامُهَا ... فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فصليبُ
أي : جلودُها ، ومثله : [ الوافر ]
3578- كُلُوا في بعضِ بَطْنكمُ تَعِفُّوا ... فإنَّ زمانَكُم زمنٌ خَمِيصُ
أي : بُطُونكُمْ .
و « مِنِّي » حالٌ من « العَظْم » وفيه ردٌّ على من يقول : إنَّ الألف واللام تكونُ عوضاً من الضمير المضافِ إليه؛ لأنه قد جمع بينهما هنا ، وإن كان الأصل : وهن عظمي ، ومثله في الدَّلالةِ على ذلك ما « أنشد شاهداً على ما ذكرتُ : [ الطويل ]
3579- رَحِيبٌ قِطَابُ الجَيْبِ مِنْهَا رفيقةٌ ... بجَسِّ النَّدامَى بضَّةُ المُتَجَرِّدِ
ومعنى { وَهَنَ العظم مِنِّي } : ضعف ، ورقَّ العظم من الكبر .
فصل
قال قتادة : اشتكى سُقُوط الأضراس .
قوله : { واشتعل الرأس شَيْباً } أي : ابْيَضَّ شعر الرَّأس شيباً .
وفي نصب » شَيْباً « ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها -وهو المشهور- : أنه تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية؛ إذ الأصل : اشتعل شيبُ الرَّأسِ ، قال الزمخشريُّ : » شبَّه الشَّيب بشُواظِ النَّار في بياضهِ ، وانتشاره في الشَّعْر ، وفُشُوِّه فيه ، وأخذه منه كُلُّ مأخذٍ باشتعالِ النَّار ، ثم أخرجه مخرج الاستعارةِ ، ثم أسند الاشتعال إلى مكانِ الشِّعْر ، ومنبته ، وهو الرَّأسُ ، وأخرج الشَّيب مُمَيَّزاً ، ولم يَضفِ لها بالبلاغةِ « انتهى ، وهذا من استعارة محسُوسٍ لمحسُوسٍ ، ووجه الجمع : الانبسَاطُ والانتشَارُ .
والثاني : أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ ، فإنَّ » اشْتَعَلَ الرَّأسُ « معناه » شَابَ « .
الثالث : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحالِ ، شاَئِباً ، أو ذا شيب .
وأدغم السِّين في الشِّين أبو عمرٍ .
وقوله : » بِدُعائِكَ « فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ المصدر مضافٌ لمفعوله ، أي : بُدعائي إيَّاك .
والمعنى : عوَّدتني الإجابة فيما مضى ، ولم تُخَيِّبْنِي .
والثاني : أنه مضافٌ لفاعله ، أي : لم أكن بدعائك لي إلى الإيمان شقيَّا ، أي : لما دعوتني إلى الإيمان ، آمنتُ ، ولم أشق .
قوله : { وَإِنِّي خِفْتُ الموالي } : العامَّةُ على » خِفْتُ « بكسر الخاء ، وسكون الفاء ، وهو ماضٍ مسندٌ لتاءِ المتكلِّم ، و » الموالِي « مفعولٌ به؛ بمعنى : أنَّ مواليهُ كانُوا شِرَارَ بني إسرائيل ، فخافهم على الدِّين ، قاله الزمخشريٌُّ .
قال أبو البقاء : » لا بُدَّ من حذفِ مضافٍ ، أي : عدم الموالي ، أو جَوْرَ الموالي « .
وقال الزهريُّ كذلك ، إلا انه سكَّن ياء » المَوالِي « وقد تقدّضمَ أنَّه قد تُقدَّر الفتحةُ في الياء ، والواو ، وعليه قراءة زيد بن عليٍّ { تُطْعِمُونَ أَهالِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] .

وتقدَّم إيضاحُ هذا .
وقرأ عثمانُ بنُ عفَّان ، وزيدُ بن ثابت ، وابن عبَّاس ، وسعيد بن جبير ، وسعيد بن العاص ، ويحيى بنُ يعمر ، وعليُّ بنُ الحسبن في آخرين : « خَفَّتِ » بفتحِ الخاءِ ، والفاءِ مشددةً ، وتاء تأنيثٍ ، كُسرتْ؛ لالتقاءِ السَّاكنين ، و « المَوالِي » فاعلٌ به؛ بمعنى : دَرَجُوا ، وانقرضُوا بالموتِ .
قوله : « مِنْ وَرَائِي » هذا متعلِّقٌ في قراءة الجمهور بما تضمَّنَهُ الموالي من معنى الفعلِ ، أي : الذين يلون الأمْرَ بعدي ، ولا يتعلَّق ب « خَفَّتِ » بالتشديد ، فيتعلَّق يُرَادَ ب « وَرَائِي » معنى : خَلْفِي ، وبَعْدِي ، وأمَّا في قراءةِ « خَفَّتِْ » بالتشديد ، فيتعلَّق الظَّرْفُ بنفس الفعل ، ويكونُ « وَرَائِي » بمعنى قُدَّامي ، والمعنى : أنهم خفُّوا قدَّامهُ ، ودرجُوا ، ولم يبق منهم من به تقوٍّ واعتضادٌ ، ذكر هذين المعنيين الزمخشريُّ .
والمَوالِي : بنُو العمِّ يدلُّ على ذلك تفسيرُ الشَّاعر لهم بذلك في قوله : [ البسيط ]
3580- مَهْلاً ، بَنِي عمِّنَا؛ مَهْلاً موالينَا ... لا تَنْبُشُوا بَيْننا ما كان مَدْفُوناً
وقال آخر : [ الوافر ]
3581- ومَوْلى قد دفعتُ الضَّيْمَ عَنْهُ ... وقَدْ أمْسَى بمنزلةِ المَضِيمِ
وهو قولُ الأصمِّ .
وقال مجاهدٌ : العَصَبَة .
وقال أبو صالحٍ : الكلالة .
وقال ابنُ عبَّاس والحسن والكلبيُّ : الورثة .
وعن أبي مسلمٍ : المولى يرادُ به النَّاصرُ ، وابن العمِّ ، والممالك ، والصَّاحب ، وهو هنا من يقُوم بميراثه مقام الولد ، والمختار ، أنَّ المراد من الموالي الذين يخلفُون بعده ، إما في السِّياسة ، أو في المال ، أو في القيام بأمر الدِّين؛ وهو يدلُّ على معنى القُرْبِ والدُّنوِّ ، ويقالُ : وليته اليه ولْياً ، أي : دَنَوتُ منهُ ، وأوليْتُهُ إيَّاهُ ، وكُل ممَّا يليكَ ، وجلستُ ممَّا يليهِ ، ومنهُ الوَلْيُ ، وهو المطرُ الذي يلي الوسميَّ ، والوليَّة : البرذعةُ [ الَّتي ] تلي ظهْر الدَّابَّة ، ووليُّ اليتيم ، ووليُّ القتيل؛ لأنَّ من تولَّى أمراً ، فقد قرُبَ منه .
وقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] من قولهم : ولاه بركنه ، أي جعله ما يليه ، وأما ولَّى عنِّي ، إذا أدبر ، فهو من باب تثقيل الحشو للسلْب ، وقولهم : فلان أولى من فلان ، أي : أحق؛ أفعل التفضيل من الوالي أو الولي ، كالأدنى ، والأقرب من الدَّاني ، والقريب ، وفيه معنى القرب أيضاً؛ لأنَّ من كان أحقَّ بالشيء ، كان أقرب إليه ، والمولى : اسمٌ لموضعِ الولي ، مالمرمى والمبنى : اسمٌ لموضعِ الرَّمي والبناءِ .
والجمهورُ على « وَرَائِي » بالمدِّ ، وقرأ ابنُ كثير -في رواية عنه- « وَرَايَ » بالقصر ، ولا يبعدُ ذلك عنه ، فإنه قد قصر { شُرَكَايَ } [ النحل : 27 ] في النَّحل؛ كما تقدَّم ، وسيأتي أنَّه قرأ { أَن رَّآهُ استغنى } في العلق [ الآية : 7 ] ؛ كأنه كان يُؤْثِرُ القصْر على المدِّ؛ لخفَّته ، ولكنَّه عند البصريين لا يجوزُ سعةً .
قوله : { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً } أي : لا تَلِدُ ، والعَقْرُ في البدن : الجُرح ، وعقرتُ الفرس بالسَّيف ، ضربتُ قوائِمهُ .
قوله « مِنْ لدُنْكَ » يجوز أن يتعلق ب « هَب » ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حال من « وليًّا » لأنه في الأصل صفةٌ للنكِرةِ ، فقُدِّم عليها .

{ يَرِثُنِي وَيَرِثُ } : قرأ أبو عمرو ، والكسائيُّ بجزم الفعلين على أنَّهما جوابٌ للأمر؛ إذ تقديره : إن يهبْ ، والباقون برفعهما؛ على انَّهما صفةٌ ل « وليًّا » .
وقرأ عليٌّ -رضي الله عنه- وابنُ عبَّاسٍ ، والحسن ، ويحيى بن يعمر ، والجحدريُّ ، وقتادةُ في آخرين : « يَرِثُنِي » بياء الغيبة ، والرَّفع ، وأرثُ مسنداً لضمير المتكلِّم .
فصل فيما قرئ به من قوله : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ }
قال صاحب « اللَّوامح » : « في الكلام تقديم وتأخيرٌ؛ يرثُ نُبُوَّتِي ، إنْ منُّ قبلهُ وأرِثُ مالهُ ، إن مات قبلي » . ونُقِلَ هذا عن الحسن .
وقرأ عليٌّ أيضاً ، وابنُ عبَّاس ، والجحدريُّ « يَرِثُني وارثٌ » جعلوه اسم فاعلٍٍ ، أي : يَرثُنِي به وارثٌ ، ويُسَمَّى هذا « التجريد » في علم البيان .
وقرأ مجاهدٌ « أوَيْرِثٌ » وهو تصغيرُ « وارِثٍ » والأصل : « وُوَيْرِثٌ » بواوين ، وجب قلبُ أولاهما همزة؛ لاجتماعهما متحركين أول كلمةٍ ، ونحو « أوَيْصِلٍ » تصغير « واصلٍ » والواوُ الثانيةُ بدلٌ عن ألفِ « فاعلٍ » و « أوَيْرِثٌ » مصروفٌ؛ لا يقال : ينبغي أن يكون غير مصروفٍ؛ لأنَّ فيه علتين : الوصفيَّة ، ووزن الفعل ، فإنه بزنة « أبَيْطِر » مضارع « بَيْطَرَ » وهذا ممَّا يكون الاسم فيه منصرفاً في التكبير ممتنعاً في التصغير ، لا يقالُ ذلك لأنه غلطٌ بيِّنٌ؛ لأنَّ « أوَيْرِثاً » وزنه فُويْعِلٌ ، لا أفَيْعلٌ؛ بخلاف « أحَيْمِر » تصغير « أحْمَرَ » .
وقرأ الزهريُّ : « وارثٌ » بكسر الواو ، ويعنون بها الإمالة .
قوله : « رَضِيًّا » مفعولٌ ثانٍ ، وهو فعيلٌ بمعنى فاعلٍ ، وأصله « رَضِيوٌ » لأنه من الرِّضوان .
فصل
معنى قوله : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } أعطني من أبناء .
واعلم أنَّ زكريَّا -عليه السلام- قدَّم السؤال؛ لأمور ثلاثة :
الأول : كونه ضعيفاً .
والثاني : أن الله تعالى ما ردَّ دعاءه .
والثالث : كونُ المطلُوب سبباً للمنفعة في الدِّين ، ثم بعد ذلك صرَّح بالسُّؤال .
أمَّا كونه ضعيفاً ، فالضَّعيف : إمَّا أن يكون في الباطن ، أو في الظَّاهر ، والضَّعْف في الباطن أقوى من ضعف الظَّاهر ، فلهذا ابتدأ ببيان ضعف الباطن ، فقال : { وَهَنَ العظم مِنِّي } وذلك لأنَّ العظم أصلبُ أعضاء البدن ، وجعل كذلك المنتفعين :
الأولى : ليكون أساساً وعمداً يعتمد عليها بقيَّة الأعضاء؛ لأنَّها موضوعة على العظام ، والحاملُ يجبُ أن يكون أقوى من المحمول عليه .
الثاني : أنَّها في بعض المواضع وقاية لغيرها .
واحتج أصحابُ القول الأوَّل أنَّه إذا . . . أوّلاً ، ثم ردَّ بأنها تكونُ كغيرها من الأعضاء كعظام الصَّلف وقحف الرأس ، وما كان كذلك ، فيجبُ أن يكون صلباً؛ ليصبر على ملاقاة الآفاتِ ، ومتى كان العظم حاملٌ لسائر الأعضاء ، فوصولُ الضعف إلى الحامل موجبٌ لوصوله إلى المحمول ، فلهذا خصَّ العظم بالوهْنِ من بين سائر الأعضاء .

وأما ضعف الظاهر ، فلاستيلاء ضعف الباطن عليه ، وذلك ممَّا يزيدُ الدُّعاء تأكيداً؛ لما فيه من الارتكان على حول الله وقوته .
وأما كونهُ غير مردُود الدُّعاءِ ، فوجه توسله به من وجهين :
الأول : أنَّه إذا قبله أوَّلاً ، فلو ردَّه ثانياً ، لكان الردُّ محبطاً للإنعام الأول ، والمنعم لا يسعى في إحباط إنعامه .
والثاني : أنَّ مخالفة العادةِ تشقُّ على النَّفس ، فإذا تعوَّد الإنسانُ إجابة الدُّعاء ، فلو ردَّ بعد ذلك ، لكان ذلك في غاية المشقَّة ، والجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشقَّ ، فكأنَّ زكريَّا -عليه السلام- قال : إنك إن رددَتَّنِي بعدما عودتَّني القُبول مع نهايةِ ضعفي ، كان ذلك بالغاً إلى النِّهاية القصوى في [ ألم ] القلب ، فقال : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } .
تقولُ العربُ : سعد فلانٌ بحاجته : إذا ظَفِر بها ، وشَقِي بها : إذا خَابَ ، ولم [ يَبْلُغْهَا ] .
وأمَّا كون المطلُوب منتفعاً به في الدِّين ، فهو قوله : { وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي } .
فصل في اختلافهم في المراد من قوله : { خِفْتُ الموالي }
قال ابن عباس والحسن : الموالي : الورثة وقد تقدم .
واختلفوا في خوفه من الموالي ، فقيل : خافهم على إفساد الدِّين .
وقيل : خاف أن ينتهي أمرُه إليهم بعد موته في مالٍ ، وغيره ، مع أنَّه عرف من حالهم قصورهم في العلم والقدرة عن القيام ببعضه .
وقيل : يحتمل أن يكون الله قد أعلمه أنَّه لم يبقَ من أنبياء إسرائيل نبيٌّ له أبٌ إلاَّ نبيٌّ واحدٌ ، فخاف أن يكون ذلك الواحدُ من بَني عمِّه ، إذا لم يكن له ولدٌ ، فسأل الله أن يهب له ولداً ، يكونُ هو ذلك النبيِّ ، والظاهرُ يقتضي أن يكون خائفاً في أمر يهتمُّ بمثله الأنبياء ولا يمتنع أن يكون زكريَّا كان إليه مع النبوة الربانيَّة من جهة الملك؛ فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما .
وقوله : « خِفْتُ » خرج على لفظ أصل الماضي ، لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضاً؛ كقول الرجل : قد خفتُ أن يكون كذا ، أي : « أنَا خَائِفٌ » لا يريدُ أنه قد زال الخوف عنه .
قوله : { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً } أي : أنَّها عاقرٌ في الحال؛ لأنَّ العاقر لا يجوزُ [ أن تحبل في العادة ] ، ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلامٌ بتقادُمِ العهد في ذلكَ ، والغرضُ من هذا بيانُ استبعاد حصول الولدِ ، فكان إيرادهُ بلفظ الماضِي أقوى ، وأيضاً : فقد يوضعُ الماضي ، أي : مكان المستقبل ، وبالعكس؛ قال الله تعالى : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين } [ المائدة : 116 ] .
وقوله : { مِن وَرَآئِي } قال أبو عبيدة : من قُدَّامي ، وبين يديَّ .
وقال آخرون : بعد موتي .
فإن قيل : كيف علم حالهم من بعده ، وكيف علم أنَّهُمْ يقون بعده ، فضلاً عن أن يخاف شرَّهم؟ .

فالجوابُ : أنه قد يعرفُ ذلك بالأمارات والظنّ في حصول الخوف ، وربما عرف ببعض الأمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد .
وقوله : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } الأكثر على أنه طلب الولد ، وقيل : بل طلب من يقُوم مقامه ، ولداً كان ، أو غيره .
والأول أقربُ؛ لقوله تعالى في سورة آل عمران؛ حكاية عنه { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } [ آل عمران : 38 ] .
وأيضاً : فقوله ها هنا « يَرُثُنِي » يؤيِّده .
وأيضاً : يؤيِّده قوله تعالى في سورة الأنبياء : { وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً } [ الأنبياء : 89 ] فدلَّ على أنَّه سأل الولد؛ لأنَّه أخبر ها هنا أنَّ له مواليَ ، وأنَّه غيرُ منفردٍ عن الورثةِ ، وهذا إن أمكن حمله على وارثٍ يصلح أن يقوم مقامه ، لكنَّ حمله على الولد اظهرُ .
واحتجَّ أصحابُ القول [ الثالث ] بأنَّه لما بشِّر بالولد ، استعظمه على سبيل التعجُّب؛ وقال « أنَّى يكونُ لِي غلامٌ » ولو كان دعاؤُه لطلب الولد ، ما استعظم ذلك .
وأجيبَ بأنَّه -عليه السلام- سأل عمَّا يوهب له ، أيوهبُ له هو وامرأتهُ على هيئتهما؟ أو يوهبُ له بأن يُحَوَّلا شابَّيْن ، يُولد لمثلهما؟! وهذا يُحْكَى عن الحسن .
وقيل : إنَّ قول زكريَّا -عليه السلام- في الدُّعاء « وكَانتِ امْرَاتِي عاقراً » إنما سأل ولداً من غيرها أو منها؛ بأن يصلحها الله تعالى للولدِ ، فكأنَّه -عليه السلام- قال : أيسْتُ أن يكون لي منها ولدٌ ، فهبْ لي من لدنك وليًّا ، كيف شئت : إمَّا بأن تصلحها للولادةِ ، وإمَّا أن تهبهُ لي من غيرها ، فلمَّا بُشِّر بالغلام ، سأل أن يرزق منها ، أو من غيرها ، فأخبر بأنه يرزقه منها .
فصل في المراد بالميراث في الآية
واختلفُوا ما المرادُ بالميراثِ ، فقال ابنُ عبَّاس ، والحسنُ ، والضحاك : وراثةُ المالِ في الموضعين .
وقال أبو صالح : وراثةُ النبوَّةِ .
وقال السديُّ ، ومجاهدٌ ، والشعبيُّ : يَرِثُنِي المال ، ويرثُ من آل يعقوب النبوّة .
وهو مرويٌّ أيضاً عن ابن عباس ، والحسن ، والضحاك .
وقال مجاهدٌ : يرِثُنِي العلم ، ويرثُ من آل يعقُوب النبوَّة . واعلم انَّ لفظ الإرث يستعملُ في جميعها : أمَّا في المال فلقوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب } [ غافر : 53 ] .
وقال -عليه الصلاة والسلام- : « العُلماءُ ورثةُ الأنبياءِ ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثُوا ديناراً ولا دِرْهَماً ، وإنَّما ورَّثُوا العِلْمَ » .
وقال تعالى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } [ النمل : 16 ] وهذا يحتملُ وراثة الملك ، ووارثة النبوَّة ، وقد يقال : أورثَنِي هذا غمًّا وحزناً .
فصل في أولي ما تحمل عليه الآية
قال الزَّجاج : الأولى أن يحمل على ميراث غير المال؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- : « نَحْنُ معاشِرَ الأنبياءِ -لا نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَا صدقةٌ » ولأنه يبعدُ أن يشفق زكريَّا -وهو نبيٌّ من الأنبياء- أن يرث بنُو عمِّه مالهُ .
والمعنى : أنه خاف تضييع بني عمِّه دين الله ، وتغيير أحكامه على ما كان شاهدُه من بني إسرائيل من تبديل الدِّين ، وقتل من قُتل من الأنبياء ، فسأل ربَّه وليًّا صالحاً يأمنُه على أمَّته ، ويرثُ نُبوَّته وعلمه؛ لئلاَّ يضيع الدِّين .

قوله : { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ؛ الآلُ : خاصَّةُ الرجل الذي يئول أمرهم إليه ، ثم قد يئوُل أمرهم إليه لقرابةِ المقربين تارةً؛ وبالصحابة أخرى؛ كآل فرعون ، وللموافقة في الدِّين؛ كآل النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- .
وأكثر المفسِّرين على أنَّ يعقوب هنا : هو يعقوبُ بنُ إسحاق بن إبراهيم -عليه السلام- لأنَّ زوجة زكريَّا -عليه السلام- هي أختُ مريم ، وكانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهوذا بن يعقوب ، وأمَّا زكريا -عليه السلام- فهو من ولد هارون أخي موسى ، وهارون وموسى من ولد لاوي بن يعقوب بن إسحاق ، وكانت النبوة في سِبْط يعقوب؛ لأنَّه هو إسرائيلُ -عليه السلام- .
وقال بعضُ المفسِّرين : ليس المرادُ من يعقوب هاهنا ولد إسحاق بن إبراهيم ، بل يعقُوب بن ماثان ، [ أخو عمران بن ماثان ] ، وكان آلُ يعقوب أخوال يحيى بن زكريَّا ، وهذا قولُ الكلبيِّ ومقاتل .
وقال الكلبيُّ : كان بنُو ماثان رُءوس بني إسرائيل ومُلُوكهُم ، وكان زكريَّا رئيس الأحبار يومئذٍ ، فأراد أن يرثه حُبُورته ، ويرث بنو ماثان ملكهم .
فصل في تفسير « رضيًّا »
اختلفوا في تفسير « رَضِيًّا » فقيل : برًّا تقيًّا مرضيًّا .
وقيل : مرضيًّا من الأنبياء ، ولذلك استجاب الله له؛ فوهب له يحيى سيِّداً ، وحصُوراً ، ونبيًّا من الصَّالحين ، لم يعصِ ، ولم يهم بمعصية .
وقيل : « رَضِيًّا » في أمَّته لا يتلقَّى بالتَّكذيب ، ولا يواجهُ بالرَّدِّ .
فصل في الاحتجاج على خلق الأفعال
احتجوا بهذه الآية على مسألة خلق الأفعال؛ لأنَّ زكريَّا -عليه السلام- سأل الله تعالى أن يجعله رضيًّا؛ فدلَّ على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى .
فإن قيل : المرادُ : أن يلطف به بضُرُوب الألطاف فيختار ما يصير به رضيًّا عنده ، فنسب ذلك إلى الله تعالى .
فالجوابُ من وجهين :
الأول : لو حملناه على جعل الألطاف ، وعندها يصير إليه المرء باختياره رضيًّا؛ لكان ذلك مجازاً ، وهو خلافُ الأصل .
الثاني : أنَّ جعل تلك الألطاف واجبةً على الله تعالى ، لا يجوزُ الإخلال به ، وما كان واجباً لا يجوزُ طلبهُ بالدُّعاء والتضرُّع .

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

قوله : { يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ } .
اختلفُوا في المنادي ، فالأكثرون على أنَّه هو الله تعالى؛ لأنَّ زكريَّا إنَّما كان يخاطبُ الله تعالى ، ويسأله بقوله : { رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي } ، وبقوله : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } وبقوله : « فهب لي » ، وبقوله بعده : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } ، فوجب أن يكون هذا النداءُ من الله تعالى ، وإلاّ لفسد [ المعنى و ] النَّظْم ، وقيل : هذا النداءُ من الملكِ؛ لقوله : { فَنَادَتْهُ الملاائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى } [ آل عمران : 39 ] .
وأيضاً : فإنه لمَّا قال : { عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 8 ، 9 ] .
وهذا لا يجوزُ أن يكونَ كلام الله؛ فزجب أن يكون كلام الملكِ .
ويمكنُ أن يجاب بأنه يحتملُ أنَّه يحصل النداءان : نداءُ الله تعالى ، ونداءُ الملائكة .
ويمكنُ أن يكون قوله : { قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ } من كلام الله تعالى ، كما سيأتي ببيانه -إن شاء الله تعالى- .
[ في ] الكلام اختصار ، تقديره : استجاب الله دعاءهُ ، فقال : { يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ } : بولدٍ ، ويقال : زكريَّا « بالمد والقصر » ، ويقال : زكرَى أيضاً ، نقله ابن كثيرٍ .
فإن قيل : كان دعاؤهُ بإذنٍ ، فما معنى البشارة؟ وإن كان بغير إذنٍ؛ فلماذا أقدم عليه؟ .
فالجوابُ : يجوز أن يسأل بغير إذن ، ويحتمل أنَّه أذن له فيه ، ولم يعلمْ وقته ، فبُشِّر به .
قوله : « يَحْيَى » : فيه قولان :
أحدهما : أنه اسمٌ أعجميٌّ ، لا اشتقاق له ، وهذا هو الظاهرُ ، ومنعهُ من الصَّرف؛ للعلميَّة والعجمةِ ، وقيل : بل هو منقولٌ من الفعلِ المضارعِ ، كما سمَّوا ب « يَعْمُرَ » و « يعيشَ » و « يَمُوتَ » وهو يموت بنُ المُزرَّع .
والجملة من قوله : « اسْمُهُ يَحْيى » في محلِّ جرِّ صفة ل « غُلام » وكذلك « لم نجعلْ » و « سَمِيًّا » كقوله : « رَضيًّا » إعراباً وتصريفاً ، لأنَّه من السُّمُوِّ ، وفيه دلالةٌ لقول البصريين : أن الاسم من السموِّ ، ولو كان من الوسم ، لقيل : وسيماً .
فصل
قال ابن عباسٍ ، والحسنُ ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ ، وعكرمةُ ، وقتادةُ : إنَّه لم يسمَّ أحدٌ قبله بهذا الاسم .
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ ، وعطاء : لم نجعل له شبهاً ومثلاً؛ لقوله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] أي : مثلاً .
والمعنى : أنه لم يكن له مثلٌ؛ لأنَّهُ لم يعصِ ، ولم يهُمَّ بمعصية قط؛ كأنَّه جواب لقوله { واجعله رَبِّ رَضِيّاً } فقيل له : إنَّا نُبشِّرُكَ بغلامٍ ، لم نجْعل له شبيهاً في الدِّين ، ومنْ كان كذلك ، كان في غايةِ الرضا .
وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّه يقتضي تفضيلُه على الأنبياءِ قبله؛ كآدَمَ ، ونوحٍ ، وإبراهيم ، وموسى ، [ وعيسى ] ؛ وذلك باطلٌ .
وقيل : لم يكن له مثلٌ في أمر النِّساء؛ لأنَّه كان سيِّداً وحصوراً .

وقال عليٌّ بنُ أبي طلحة ، عن ابن عبَّاس : لم تَلدِ العواقرُ مثلهُ ولداً . وقيل : لأنَّ كُلَّ الناس ، إنما يُسمُّونهم آباؤهم وأمهاتهم بعد دخولهم في الوجود ، وأما يحيى فإنَّ الله سمَّاه قبل دخوله في الوجود ، فكان ذلك من خواصِّه .
وقيل : لأنَّه ولدُ شيخٍ ، وعجوزٍ عاقرٍ .
فصل في سبب تسميته بيحيى
واختلفُوا في سبب تسميته بيحيى ، فعن ابن عبَّاس : لأنَّ الله أحيا به عقر أمه ، ويرد على هذا قصَّة إبراهيم ، وزوجته ، قالت : { ياويلتا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] فينبغي أن يكون اسمُ ولدهم يحيى .
وعن قتادة : لأنَّ الله تعالى أحيا قلبهُ بالإيمانِ والطَّاعة ، والله تعالى سمَّى المطيعَ حيًّا ، والعاصِيَ ميِّتاً؛ بقوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] .
وقال : { إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] .
وقيل : لأنَّ الله تعالى أحياه بالطَّاعة؛ حتى لم يعص ، ولم يهُمَّ بمعصيةٍ .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما مِنْ أحدٍ إلاَّ وقد عَصَى ، أو هَمَّ إلاَّ يحيى بنُ زكريَّا ، فإنَّه لَمْ يهُمَّ ولَمْ يَعْملهَا » وفي هذا نظر؛ لأنه كان ينبغي أن تسمى النبياء كلهم والأولياء ب « يحيى » .
وقال ابن القاسم بن حبيب : لأنه استشهد ، والشهداء أحياء عند ربهم ، قال تعالى : { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ } [ آل عمران : 169 ] وفي ذلك نظر؛ لأنه كان يلزم منه أن يُسَمَّى الشهداءُ كلُّهم بيَحْيَى .
وقال عمرو بنُ المقدسيِّ : أوحى الله تعالى ، إلى إبراهيم -عليه السلام- أنه قُلْ لسارَّة بأنِّي مخرجٌ منها عبداً ، لا يَهُمُّ بمعصيةٍ اسمه حيى ، فقال : هَبِي لهُ من اسمكِ حرفاً ، فوهبته حرفاً من اسمها ، فصار يَحْيَى ، وكان اسمُها يسارة ، فصار اسمها سارة .
وقيل : لأنَّ يحيى أوَّلُ من آمن بعيسى ، فصار قلبه حبًّا بذلك الإيمانِ .
وقيل : إنَّ أمَّ يحيى كانت حاملاً به ، فاستقبلتها مريم ، وقد حملت بعيسى ، فقالت لها أمُّ يحيى : يا مريمُ ، أحاملٌ أنت؟ فقالت : لم تقولين؟ فقالت : أرى ما في بطني يسجُد لما في بطنك .
قوله : { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } أي : مِنْ أين يكُون لي غرمٌ ، والغلامُ : هو الإنسانُ الذكر في ابتداءِ شهوته في الجماع ، ويكونُ في التلميذ ، يقال : غلامُ ثعلبٍ .
{ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً } . أي : وامرأتي عاقرٌ ، ولم يقل : عاقرةٌ؛ لأنَّ من كان على « فاعل » من صفة المؤنَّث ممَّا لم يكن للمذكَّر ، فإنَّه لا تدخل فيه الهاءُ ، كامرأةٍ عاقرٍ وحائضٍ .
قال الخليلُ : هذه صفاتُ المذكَّر ، وصف بها المؤنَّث ، كما وصف المذكَّر بالمؤنَّث؛ حيث قال : رجُلٌ نكَحةٌ ، ورُبَعَةٌ ، وغلامٌ نُفَعَةٌ .
قوله : « عِتيًّا » : فيه أربعةُ أوجه :
أظهرها : أنه مفعولٌ به ، أي : بلغتُ عتيًّا من الكبرِ ، فعلى هذا « مِنَ الكِبرِ » يجوز أن يتعلَّق ب « بَلغْتُ » ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ؛ على أنه حالٌ من « عِتيًّا » لأنه في الأصلِ صفةٌ له؛ كما قدرته لك .

الثاني : أن يكون مصدراً مؤكَّداً من معنى الفعل؛ لأنَّ بلوغَ الكبر في معناه .
الثالث : أنَّه مصدر واقعٌ موقع الحالِ من فاعل « بَلَغْتُ » أي : عاتياً ، ذا عتيٍّ .
الرابع : أنه تمييزٌ ، وعلى هذه الأوجه الثلاثة « مِنْ » مزيدةٌ ، ذكره أبو البقاء ، والأولُ هو الوجهُ .
والعُتُوُّ : بزنة فعولٍ ، وهو مصدر « عَتَا ، يَعْتُو » أي : يَبِسَ ، وصلُبَ ، قال الزمخشريُّ : « وهو اليُبْسُ والجساوةُ في المفاصلِ ، والعظام؛ كالعُودِ القاحل؛ يقال : عَتَا العُودُ وجسَا ، أو بلغتُ من مدارج الكِبرِ ، ومراتبه ما يسمَّى عِتيًّا » يريد بقوله : « أوْ بلغْتُ » أنه يجوزُ أن يكون مِنْ « عَتَا يَعْتُو » أي : فسد .
والأصلُ : « عُتُووٌ » بواوين ، فاستثقل واوان بعد ضمتين ، فكسرتِ التاءُ؛ تخفيفاً ، فانقلبت الواو الأولى ياءً؛ لسكونها وانكسار ما قبلها ، فاجتمع ياءٌ وواوٌ ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواوُ ياءً ، وأدغمت فيها الأولى ، وهذا الإعلالُ جارٍ في المفرد هكذا ، والجمع : نحو : « عِصِيّ » إلا أنَّ الكثير في المفرد التصحيح؛ كقوله : { وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } [ الفرقان : 21 ] وقد يعلُّ كهذه الآية ، والكثيرُ في الجمع الإعلالُ ، وقد يصحَّحُ؛ نحو : « إنَّكُمْ لتنظرُونَ في نحوٍّ كثيرةٍ » وقالوا : فُتِيٌّ وفُتُوٌّ .
وقرأ الأخوان « عتيًّا » و { صِلِيّاً } [ مريم : 70 ] و « بِكِيّاً » [ مريم : 58 ] و { جِثِيّاً } [ مريم : 72 ] بكسر الفاء للاتباع ، والباقون بالضمِّ على الأصلِ .
وقرأ عبدُ الله بن مسعودٍ بفتح الأوَّل من « عتيًّا » و « صَليًّا » جعلهما مصدرين على زنة « فعيلٍ » كالعجيجِ والرَّحيلِ .
وقرأ عبد الله وأبي بم كعبٍ « عُسِيًّا » بضم العين ، وكسر السينِ المهملة ، وتقدم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف ، وتصريفها .
والعُتِيُّ والعُسِيُّ : واحدٌ .
يقال : عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا ، وعتيًّا ، فهو عاتٍ ، وعَسَا يَعْسُو عُسُوًّا وعسيًّا فهو عَاسٍ ، والعَاسي : هو الذي غيرُه طولُ الزمانِ إلى حال البُؤس . وليل عاتٍ : طويل ، وقيل : شديدُ الظلمة .
فصل
في هذه الآية سؤالان :
أحدهما : لم تعجب زكريَّا -عليه الصلاة والسلام- بقوله : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } مع أنَّه هو الذي طلب الغلام؟ .
والسؤال الثاني : قوله : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } هذا التعجُّب يدل على الشك في قدرة الله تعالى على ذلك ، وذلك كفر ، وهو غير جائز على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-؟ .
فالجوابُ عن الأول : أمَّا على قول من قال : ما طلب الولد ، فالإشكال زائلٌ ، وأمَّا على قول من قال : إنَّه طلب الولد ، فالجوابُ أن المقصود من قوله : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } هو البحث على أنه تعالى يجعلهما شابين ، ثم يرزقهما ، أو يتركهما شيخين ، ويرزقهما الولد ، مع الشيخوخة؟ ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ }

[ الأنبياء : 89 ، 90 ] .
وما هذا الإصلاحُ إلاَّ أنَّه تعالى أعاد قُوَّة الولادة .
وذكر السديُّ في الجواب وجهاً آخر ، فقال : إنَّه لمَّا سمع النداء بالبشارة جاءهُ الشيطان ، فقال : إنَّ هذا الصَّوت ليس من الله تعالى ، بل من الشيطانِ يسخر منك ، فلمَّا شكَّ زكريَّا قال : « ربّ ، أني يكُون لي غلامٌ » ، وغرض السدي من هذا أن زكريا -عليه السلام- لو علم أن المبشَّر بذلك هو الله تعالى ، لما جاز له أن يقول ذلك ، فارتكب هذا .
وقال بعضُ المتكلِّمين : هذا باطلٌ باتِّفاق؛ إذ لو جوَّز الأنبياءُ في بعض ما يردُ عن الله تعالى أنَّه من الشيطان ، لجوَّزوا في سائره ، ولزالتِ الثقة عنهم في الوحي ، وعنَّا فيما يوردُونه إلينا .
ويمكنُ أن يجاب عنه : بأنَّ هذا الاحتمال قائمٌ في أوَّل الأمر ، وإنَّما يزولُ بالمعجزةِ ، فلعلَّ المعجزةَ لم تكُن حاصلةً في هذه الصور ، فحصل الشَّك هنا فيه دون ما عداها .
والجوابُ عن السؤال الثاني من وجوه :
الأول : أن قوله : { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى } .
ليس نصًّا في كون ذلك الغلام ولداً له ، بل يحتمل أن يكون زكريَّا -عيله الصلاة والسلام- راعى الأدب ، ولم يقل : هذا الغلام ، هل يكون ولداً لي ، أم لا ، بل ذكر أسباب حُصُول الولدِ في العادة؛ حتى أنَّ تلك البشارة ، إنْ كانت بالولد ، فإن الله تعالى يزيلُ الإبهام ، ويجعل الكلام صريحاً ، فلمَّا ذكر ذلك ، صرَّح الله تعالى بكون الولد منه ، فكان الغرضُ من كلام زكريَّا هذا ، لا شك أنه شاكًّا في قُدرة الله تعالى عليه .
الثاني : أنه ما ذكر ذلك للشك ، لكنْ على وجه التعظيم لقدرته ، وهذا كالرجل الذي يَرَى صاحبه قد وهب الكثير الخطير ، فيقول : أنَّى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا من ملكك! تعظيماً وتعجُّباً .
الثالث : أن من شأن من بُشِّرَ بما يتمناه؛ أن يتولد له فرط السرور به عند أوَّل ما يرد عليه استثباتُ ذلك الكلام؛ إما لأن شدة فرحه به توجبُ ذهوله عن مقتضيات العقل والفكر ، وهذا كما أن امرأة إبراهيم عليه السلام بعد أن بشرت بإسحاق قالت { قَالَتْ ياويلتا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [ هود : 72 ] فأزيل تعجبها بقوله : { أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } [ هود : 73 ] ، وإما طلباً لالتذاذ بسماع ذلك الكلام مرة أخرى ، وإما مبالغةً في تأكيد التفسير .
قوله : « كَذِلكَ » : في محلِّ هذه الكاف وجهان :
أحدهما : أنه رفع على خبر ابتداءٍ مضمرٍ ، أي : الأمرُ كذلك ، ويكون الوقفُ على : « كَذَلِكَ » ، ثم يبتدأ بجملةٍ أخرى .
والثاني : أنها منصوبةُ المحلِّ ، فقدَّرهُ أبو البقاء ب « أفْعَلُ » مثل ما طلبتَ ، وهو كنايةٌ عن مطلوبه ، فجعل ناصبه مقدَّراً ، وظاهره أنه مفعولٌ به .
وقال الزمخشريُّ : « أو نصب ب » قَالَ « و » ذَلِكَ « إشارةٌ إلى مُبْهم يفسره » هُو عليَّ هيِّنٌ « ، ونحوه :

{ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] . وقرأ الحسن « وهُوَ عليَّ هيِّنٌ » ، ولا يخرَّج هذا إلا على الوجه الأول ، أي : الأمرُ كما قلت ، وهو على ذلك يُهونُ عليَّ .
وجهٌ آخرُ : وهو أن يُشارَ ب « ذَلِكَ » إلى ما تقدَّم من وعد الله ، لا إلى قولِ زكريَّا ، و « قَالَ » محذوفٌ في كلتا القراءتين . يعني قراءة العامَّة وقراءة الحسنِ -أي : قال : هُوَ عليَّ هيِّنٌ ، قال : وهُوَ عليَّ هيِّنٌ ، وإن شئت لمْ تنوهِ؛ لأنَّ الله هو المخاطب ، والمعنى أنه قال ذلك ، ووعدهُ وقوله الحقُّ « .
وفي هذا الكلام قلقٌ؛ وحاصله يرجع إلى أنَّ » قال « الثانية هي الناصبةُ للكاف .
وقوله : » وقَالَ محذوفٌ « يعني تفريعاً على أنَّ الكلام قد تمَّ عند » قال ربُّك « ويبتدأ بقوله : » هُوَ عليَّ هيِّنٌ « . وقوله : » وإنْ شِئْتَ لمْ تَنْوهِ « ، أي : لم تَنْوِ القول المقدَّر؛ لأنَّ الله هو المتكلِّمُ بذلك .
وظاهرُ كلام الطبريُّ : » ومعنى قوله « قال كذلكَ » أي : الأمران اللذان ذكرت من المرأةِ العاقر والكبرِ هو كذلك ، ولكن قال ربُّك ، والمعنى عندي : قال الملكُ : كذلك ، أي : على هذه الحال ، قال ربُّك ، هو عليَّ هيِّنٌ « انتهى .
وقرأ الحسن البصري » عَلَيَّ « بكسر ياء المتكلم؛ كقوله [ الطويل ]
3582 أ- عَليِّ لعمرٍو نِعْمَةٍ ... لِوَالِدِهِ ليْسَتْ بذاتِ عقَارِبِ
أنشدوه بالكسر . وتقدم الكلام على هذه المسألة في قراءة حمزة » بمُصْرِخيِّ « [ إبراهيم : 22 ] .
قوله : » وقَدْ خلقْتُكَ « هذه الجملة مستأنفةٌ ، وقرأ الأخوان » خَلقْنَاكَ « أسنده إلى الواحد المعظِّمِ نفسهُ ، والباقون » خلقْتُك « بتاء المتكلِّم .
وقوله : » ولَمْ يَكُ شَيْئاً « جملةٌ حاليةٌ ، ومعنى نفي كونه شيئاً ، أي : شيئاً يعتدُّ به؛ كقوله : [ البسيط ]
3582 ب- .. إذا رَأى غيْر شيءٍ ظنَّهُ رَجُلا
وقالوا : عجبتُ من لا شيءٍ ، ويجوز أن يكون قال ذلكَ؛ لأنَّ المعدومَ ليس بشيءٍ .
فصل
قيل : إطلاق لفظ » الهَيِّن « في حق الله تعالى مجاز؛ لأن ذلك إنما يجوزُ في حقِّ من يجوز أن يصعب عليه شيء ، ولكن المراد؛ أنه إذا أراد شيئاً كان .
ووجه الاستدلال بقوله تعالى { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } فنقول : إنه لما خلقه من العدم الصَِّرف والنفي المحضِ ، كان قادراً على خلق الذوات والصفات والآثار ، وأما الآن ، فخلق الولد من الشيخ والشيخة لا يحتاج فيه إلا إلى تبديل الصفات ، وإذا أوجده عن العدم ، فكذا يرزقه الولد بأن يعيد إليه وإلى صاحبته القوَّة التي عنها يتولَّد الماءان اللذان من اجتماعهما يُخلقُ الولد .
فصل
الجمهورُ على أنَّ قوله : » قال : كذلِكَ قال ربُّكَ « يقتضي أن القائلَ لذلك ملك مع الاعتراف بأن قوله { يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ } قول الله تعالى ، وقوله { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } قول الله تعالى ، وهذا بعيدٌ؛ لأنه إذا كان ما قبل هذا الكلام وما بعده قول الله تعالى ، فكيف يصحُّ إدرتجُ هذه الألفاظ فيما بين هذين القولين ، والأولى أن يقال : قائلُ هذا القول أيضاً هو الله تعالى؛ كما أن الملك العظيم ، إذا وعد عبده شيئاً عظيماً ، فيقول العبد : من أين يحصلُ لي هذا ، فيقول : إن سلطانكَ ضمِنَ لك ذلك؛ كأنه ينبه بذلك على أن كونه سلطاناً ممَّا يوجب عليه الوفاء بالوعد ، فكذا ههنا .

قوله : { قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } .
أي : اجعل لي علامة ودلالة على حمل امرأتي .
فصل
قال بعضُ المفسِّرين : طلب الآية لتحقيق البشارة ، وهذا بعيدٌ؛ لأن بقول الله تعالى قد تحقَّقت البشارةُ ، فلا يكون إظهار الآية أقوى في ذلك من صريح القول ، وقال آخرون : البشارةُ بالولدِ وقعت مطلقة ، فلا يعرف وقتها بمجرَّد البشارة ، فطلب الآية ليعرف بها وقت الوقوعِ ، وهذا هو الحق .
واتفقوا على أن تلك الآية هي تعذرُ الكلام عليه ، فإن مجرَّد السكوتِ مع القدرةِ على الكلام لا يكونُ معجزةً ، ثم اختلفوا على قولين :
أحدهما : أنه اعتقل لسانه أصلاً .
والثاني : أنه امتنع عليه الكلامُ مع القوم على وجه المخاطبة ، مع أنه كان متمكناً من ذكر الله ، ومن قراءة التوراة ، وهذا القولُ عندي أصحُّ؛ لأن اعتقال اللسان مطلقاً قد يكون لمرضٍ ، وقد يكون من فعل الله ، فلا يعرف زكريا عليه السلام أن ذلك الاعتقال معجزٌ إلا إذا عرف أنه ليس لمرض ، بل لمحضِ فعل الله تعالى مع سلامة الآلات ، وهذا مما لا يعرف إلا بدليل آخر ، فتفتقر تلك الدلالة إلى دلالة أخرى ، أما لو اعتقل لسانه عن الكلام ، مع القوم ، مع اقتداره على التكلم بذكر الله تعالى وقراءةِ التوراةِ ، علم بالضرورة؛ أن ذلك الاعتقال ليس لعلَّةٍ ومرضٍ ، بل هو لمحض فعل الله ، فيتحقق كونه آية ومعجزة ، ومما يقوي ذلك قوله تعالى : { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } خص ذلك بالتكلم مع الناس؛ وهذا يدلُّ بطريق المفهوم؛ أنه كان قادراً على التكلم مع غير الناس .
قوله : « سَوِيًّا » : حالٌ من فاعل « تُكَلِّمَ » ، وعنابن عباس : أنَّ « سويًّا » من صفةِ الليالي بمعنى « كاملات » ، فيكونُ نصبه على النعت للظرف ، والجمهورُ على نصب ميم « تُكَلِّم » جعلوها الناصبة . وابن أبي عبلة بالرفع ، جعلها المخففة من الثقيلة ، واسمها ضميرُ شأنٍ محذوف ، و « لا » فاصلةٌ ، وتقدَّم تحقيقه .
وقوله : « أنْ سَبَّحُوا » : يجوز في « أنْ » أن تكون مفسِّرة ل « أوْحَى » ، وأن تكون مصدرية مفعولة بالإيحاء ، و « بُكْرَةً وعشِيًّا » ظرفا زمانٍ للتسبيح ، وانصرفت « بُكْرَةً » ؛ لأنه لم يقصدْ بها العلميَّةُ ، فلو قُصِدَ بها العلميةُ امتنعت من الصَّرف ، وسواءٌ قصد بها وقتٌ بعينه؛ نحو : لأسيرنَّ الليلة إلى بكرة ، أم لم يقصد؛ نحو : بكرةُ وقتُ نشاطٍ؛ لأنَّ علميَّتها جنسيَّةٌ؛ كأسامة ، ومثلها في ذلك كله « غُدوة » .

وقرأ طلحة « سَبِّحُوه » بهاءِ الكناية ، وعنه أيضاً : « سَبِّحُنَّ » بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة مؤكِّداً بالثقيلة ، وهو كقوله : { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } [ هود : 8 ] ، وقد تقدَّم تصريفه .
قوله تعالى : { فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب } ، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه؛ أن يفتح لهم الباب ، فيدخلون ويصلون؛ إذ خرج عليهم زكريا متغيِّراً لونه ، فانكروه ، فقالوا : ما لك يا زكريا { فأوحى إِلَيْهِمْ } .
قال مجاهدٌ : كتب لهم الأرض ، { أَن سَبِّحُواْ } ، أي صلوا لله ، { بُكْرَةً } ، غدوة ، { وَعَشِيّاً } ، معنا أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشياً ، فيأمرهم بالصلاة ، فلما كان وقتُ حمل امرأته ، ومنع الكلام خرج إليهم ، فأمرهم بالصلاة إشارة .
قوله عز وجل : { يايحيى } ، قيل : فيه حذف معناه : وهبنا له يحيى ، وقلنا له : يا يحيى ، { خُذِ الكتاب } ، يعني التوراة ، وقيل يحتمل أن يكون كتابتً خصَّ الله به يحيى ، كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك ، والأولى أولى؛ لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى ، ولا معهود إلا التوراة .
وقوله { يايحيى خُذِ الكتاب } يدلُّ على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك ، فحذف ذكره؛ لدلالة الكلام عليه .
قوله : « بقُوَّة » حالٌ من الفاعل أو المفعول ، أي : ملتبساً أنت ، أو ملتبساً هو بقوَّة؛ وليس المراد بالقوة القدرة على الأخذ؛ لأن ذلك معلوم لكلَّ أحد ، فيجب حمله على معنى يفيد المدح ، وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة ، وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمُور به ، والإحجام عن المنهيِّ عنه .
قوله : { وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } .
قال ابن عبَّاس : الحكم : النُّبوة « صَبِيًّا » ؛ وهوابن ثلاث سنين وقيل : الحكمُ فهم الكتاب ، فقرأ التوراة وهو صغيرٌ .
وقيل : هوالعَقْل ، وهو قولُ مُعَمَّر .
وروي أنه قال : ما للَّعبِ خُلِقْنا .
والأوَّل أولى؛ لأنَّ الله تعالى أحكم عقلهُ في صباه ، وأوحى إليه ، فإنَّ الله تعالى بعث عيسى ويحيى -عليهما الصلاة والسلام- وهما صبيَّانِ ، لا كما بعض موسى ومحمَّداً-عليهما الصلاة والسلام- وقد بلغا الأشُدَّ .
فإن قيل : كيف يعقلُ حصولُ العقل والفطنة والنُّبُوَّة حال الصِّبَا .
فالجوابُ : هذا السَّائِلُ إمَّا أن يمنع خرق العاداتِ ، أو لا يمنع منه ، فإن منع منه ، فقد سدَّ باب النبوات؛ لأنَّ الأمر فيها على المعجزات ، ولا معنى لها إلا خرق العاداتِ ، وإن لم يمنع منه ، فقد زال هذا الاستبعادُ؛ فإنَّه ليس استبعاد صيرورةِ الصَّبيِّ عاقلاً أشدَّ من استبعاد انشقاقِ القمر ، وانفلاق البحر ، و « صبيًّا » : حال من « هاء » آتيناه .

قوله « وحَنَاناً » : يجوز أن يكون مفعولاً به ، نسقاً على « الحُكْمَ » أي : وآتَيْنَاهُ تَحَنُّناً . والحنانُ : الرحمةُ واللّينُ ، وأنشد أبو عبيدة قول الحطيئةِ لعمر بن الخطَّاب : [ المتقارب ]
3583 أ- تَحَنَّنْ عَليَّ هدَاكَ المَلِيكُ ... فإنَّ لِكُلِّ مقامٍ مقَالا
قال : وأكثر استعماله مُثَنَّى؛ كقولهم : حَنَانَيْكَ ، وقوله :
3583 ب- . ... حَنانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ من بعضِ
[ وجوَّز ] فيه أبو البقاء أن يكون مصدراً ، كأنَّه يريدُ به المصدر الواقع في الدعاء؛ نحو : سَقْياً ورَعْياً ، فنصبه بإضمار فعلٍ [ كأخواته ] ، ويجوز أن يرتفع على خبر ابتداءٍ مضمر؛ نحو : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } [ يوسف : 18 ] و { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأعراف : 46 ] في أحد الوجهين ، وأنشد سيبويه : [ الطويل ]
3584- وقَالَتْ حنانٌ مَا أتى بِكَ هَهُنَا ... اذُو نسبٍ أمْ أنْتَ بالحَيِّ عارفُ
وقيل لله تعالى : حنَّّانٌ ، كما يقال له « رَحِيمٌ » قال الزمخشريُّ : « وذلك على سبيل الاستعارةِ » .
فصل في المراد ب « حَنَاناً »
اعلم أن الحنان : أصله من الحنينن ، وهو الارتياحُ ، والجزع للفراق كما يقال : حنينُ النَّاقة ، وهو صوتها ، إذا اشتاقت إلى ولدها ، ذكره الخليل .
وفي الحديث : أنَّه -عليه الصلاة والسلام- كان يُصلِّي إلى جذع في المسجد ، فلمَّا اتَّخذ المنبر ، وتحوَّل إليه ، حنَّت تلك الخشبةُ ، حتَّى سُمِعَ حنينُها ، وهذا هو الأصل ، ثُمَّ يقال : تَحَنَّنَ فلانٌ على فلانٍ ، إذا [ تعطَّف ] عليه ورحمهُ .
واختلف الناس في وصف الله تعالى بالحنان ، فأجازه بعضهم ، وجعلهُ بمعنى الرَّؤُوف الرَّحيم ، ومنهم من أباه؛ لما يرجع إليه أصلُ الكلمة .
قالوا : ولم يصحُّ الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى .
وإذا عرف هذا ، فنقولُ : في الحنانِ ها هنا وجهانِ :
الأول : أن نجعله صفةً لله تعالى .
والثاني : أن نجعله صفةُ ل « يحيى » ، فإن جعلناه صفة لله تعالى ، فيكونُ التقديرُ : وآتيناهُ الحكم حناناً ، أي : رحمةً منَّا .
ثم هاهنا احتمالات :
الأول : أن يكون الحنانُ من الله تعالى ل « يحيى » ، والمعنى : وآتيناه الحكم صبيًّا حناناً [ منَّا ] عليه ، أي : رحمة عليه ، « وزكَاةً » أي : وتزكيةً ، وتشريفاً له .
والثاني : أن يكون الحنانُ من الله تعالى لزكريَّا ، والمعنى : أنا استجبنا لزكريَّا دعوته بأن أعطيناه ولداً ثم آتيناه الحكم صبيًّا وحناناً من لدُنَّا على زكريا فعلنا ذلك « وزَكَاةً » أي : تزكيةُ له عن أن يصير مردود الدُّعاء .
الثالث : أن يكُون الحنانُ من الله تعالى لأمَّة يحيى -عليه السلام- والمعنى : آتيناه الحكم صبيًّا حناناً على أمَّته؛ لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده .
وإن جعلناه صفةً ليحيى -عليه السلام- ففيه وجوهٌ :
الأول : آتيناهُ الحكم والحنان على عبادنا ، أي والتعطُّف عليهم وحسن النَّظر لهم ، كما وصف محمَّداً - صلى الله عليه وسلم - بقوله :

{ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] وقوله : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } [ آل عمران : 159 ] وقوله : « وزَكَاةً » أي : شفقةً ، ليست داعيةً إلى الإخلال بالواجب؛ لأنَّ الرأفة واللِّين ربَّما أورثا ترك الواجب؛ ألا ترى إلى قوله : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } [ النور : 2 ] وقال : { قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } [ التوبة : 123 ] وقال : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاائم } [ المائدة : 54 ] .
والمعنى : أنَّا جمعنا له التعطُّف على عباد الله ، مع الطَّهارة عن الإخلال بالواجبات ، ويحتمل أنَّا آتيناه التعطُّف على الخلق ، والطَّهارة [ عن المعاصي ] ، فلم يَعْص ، ولم يَهُمَّ بمعصية .
الثاني : قال عطاءُ بنُ أبي رباحٍ : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا } : تعظيماً من لدنا .
والمعنى : آتيناهُ الحكم صبيًّا؛ تعظيماً إذ جعلناه نبيًّا وهو صبيٌّ ، ولا تعظيم أكثر من هذا؛ ويدلُّ عليه ما رُوِيَ أنَّ ورقة بن نوفل مرَّ على بلالٍ ، وهو يعذب ، قد ألصقَ ظهرهُ برمضاء البطحاء ، وهو يقول : أحدٌ ، أحدٌ ، فقال : والذي نفسي بيده ، لئنْ قتلْتُمُوه ، لاتَّخذنَّهُ حناناً ، أي : مُعَظَّماً .
قوله : « مِنْ لَدُنَّا » صفةٌ له .
قوله : « وَزَكاةً » . قال ابن عباس : هي الطَّاعة ، والإخلاص .
وقال قتادةُ والضحاك : هو العملُ الصَّالح .
والمعنى : آتيناهُ رحمةً من عندنا ، وتحنُّناً على العبادِ؛ ليدعوهم إلى طاعة ربِّهم ، وعملاً صالحاً في إخلاص .
وقال الكلبيُّ : صدقة تصدَّق الله بها على أبويه ، وقيل : زكَّيناه بحُسْن الثَّناء ، أي كما يزكِّي الشهودُ الإنسان . وهذه الآيةُ تدلُّ على أن فعل العبد خلقٌ لله تعالى لأنه جعل طهارتهُ وزكاتهُ من الله تعالى ، وحملهُ على الألطاف بعيدٌ؛ لأنَّه عدولٌ عن الظَّاهرِ .
قوله : { وَكَانَ تَقِيّاً } مُخْلِصاً مُطِيعاً ، والتَّقيُّ : هو الذي يتقي ما نهى الله عنه [ فيجتنبه ] ، ويتقي مخالفة أمر الله ، فلا يهمله ، وأولى النَّاس بهذا الوصف من لم يعْصِ الله ، ولا همَّ بمعصيةٍ ، وكان يحيى -عليه الصلاة والسلام- كذلك .
فإن قيل : ما معنى قوله { وَكَانَ تَقِيّاً } وهذا حين ابتداء تكليفه .
فالجوابُ : إنَّما خاطب الله تعالى الرسُول بذلك وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله تعالى عليه .
قوله : « وبَرًّا » : يجوز أن يكون نسقاً على خبر « كان » أي : كان تقيًّا برًّا . ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدَّر ، أي : وجعلناه برًّا ، وقرأ الحسن « بِرًّا » بكسر الباء في الموضعين ، وتأويله واضحٌ ، كقوله : { ولكن البر مَنْ آمَنَ } [ البقرة : 177 ] وتقدَّم تأويله ، و « بِوالِدَيْهَ » متعلقٌ ب « بَرًّا » .
و « عَصِيًّا » يجوز أن يكون وزنه « فَعُولاً » والأصل : « عَصُويٌ » ففعل فيه ما يفعل في نظائره ، و « فَعُولٌ » للمبالغة ك « صَبُور » ويجوز أن يكون وزنه فعيلاً ، وهو للمبالغة أيضاً .
فصل في معنى الآية
قوله : { وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ } أي : بارًّا لطيفاً بهما محسناً إليهما ، « ولمْ يكُن جبَّاراً عصيًّا » .

الجبَّار المتكبِّر .
وقال سفيان : الجبَّار الذي يضرب ويقتل على الغضب؛ لقوله تعالى : { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض } [ القصص : 19 ] ؛ ولقوله تعالى : { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [ الشعراء : 130 ] والجبَّارُ أيضاً : القهار ، قال تعالى { العزيز الجبار } [ الحشر : 23 ] .
والعَصِيُّ : العاصِي ، والمراد : وصفة بالتواضع ، ولين الجانب ، وذلك من صفات المؤمنين؛ كقوله تعالى : { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الحجر : 88 ] وقوله تعالى : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } [ آل عمران : 159 ] .
وقيل : الجبَّار : هو الذي لا يرى لأحدٍ على نفسه حقًّا . وقيل غير [ ذلك ] وقوله : « عصيا » وهو أبلغُ من العاصي ، كما أن العليمَ أبلغُ من العالم .
قوله : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } .
قال محمد بن جرير الطبريُّ { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } أي : أمانٌ من الله يوم ولد من أن تتناوله الشياطين ، كما تناولُ سائر بني آدم { وَيَوْمَ يَمُوتُ } أي : وأمانٌ عليه من عذاب القبر ، { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } ي : ومن عذاب يوم القيامة .
وقال سفيان بن عيينة : أوحشُ ما يكونُ الإنسان في هذه الأحوال [ الثلاثة يوم يُولَدُ ] ، فيرى نفسه خارجاً [ مما كان فيه ، ويوم يموتُ ، فيرى يوماً ، لم يكن عاينهُ ، ويوم يبعثُ ، فيرى نفسهُ ] في محشرٍ عظيمٍ ، لم ير مثله ، فأكرم الله يحيى -عليه السلام- فخصَّه بالسلامة في هذه المواطن الثلاثة .
قال عبدُ الله بن نفطويه : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } أي : أوَّل ما رأى الدُّنيا ، { وَيَوْمَ يَمُوتُ } أي : أول يوم يرى فيه أمْرً الآخرة { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } أوَّل يومٍ يرى فيه الجنَّة والنَّار .
فصل في مزية السلام على يحيى
السلام يمكن أن يكون من الله ، وأن يكون من الملائكة ، وعلى التقديرين ، فيدلُّ على شرفه وفضله؛ لأنَّ الملائكة لا يسَلَِّمون إلا عن أمر الله .
ويدلُّ على أن ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء؛ كقوله تعالى : { سَلاَمٌ على نُوحٍ } [ الصافات : 79 ] { سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ } [ الصافات : 109 ] . وقال ليحيى : { يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } . وليس لسائر الأنبياء .
ورُوِي أن عيسى -عليه السلام- قال ليحيى -عليه السلام- : أنت أفضلُ منِّي؛ لأنَّ الله تعالى قال : سلامٌ عليك وأنا سلَّمتُ على عيسى؛ لأن عيسى معصومٌ ، لا يفعل إلا ما أمره الله به .
واعلم : أنَّ السَّلام عليه يوم ولد يكون تفضُّلاً من الله تعالى؛ لأنه لم يتقدَّمه عملٌ يكونُ ذلك السلام جزاءً له ، وأمَّا السَّلام عليه يوم يموتُ ، ويوم يبعثُ حيَّاً ، عملٌ يكونُ ذلك السلام جزاءً له ، وأمَّا السَّلام عليه يوم يموتُ ، ويوم يبعثُ حيًّا فيجوزُ أن يكُون ثواباً؛ كالمَدْح والتَّعْظِيم .
فصل في فوائد هذه القصة
في فوائد هذه القصَّة [ أمورٌ ] منها :
تعليمُ آداب الدعاء ، وهو قوله : « نِدَاءً خفيًّا » يدلُّ على أفضل الدعاء خفيةً ويؤكِّدهُ قوله تعالى :

{ ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] ؛ ولأنَّ رفع الصوت مشعرٌ بالقوَّة والجلادةِ ، وإخفاءُ الصوت مشعرٌ بالضعف والانكسار ، وعمدة الدُّعاء الانكسار والتبرِّي عن حول النَّفس وقوَّتها ، والاعتمادُ على فضل الله تعالى وإحسانه .
ويستحبُّ أن يذكر في مقدِّمة الدعاء عجز النَّفس وضعفها؛ كقوله : { وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً } ثم يذكر نعم الله تعالى؛ كقوله : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } ويكون الدعاء لما يتعلق بالدين لا لمحض الدنيا ، كقوله : { وَإِنِّي خِفْتُ الموالي } وأن يكون الدُّعاء بلفظ : يا ربِّ .
كما ذكر فيها بيان فضل زكريَّا ، ويحيى -عليهما السلام- أما زكريَّا؛ فلتضرُّعه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكليَّة ، وإجابة الله تعالى دعاءه ، وأن الله تعالى بشَّره ، وبشَّرته الملاشكةُ ، واعتقالُ لسانه عن الكلام دُون التَّسبيح .
وأمَّا يحيى؛ فلأنَّه لم يجعل له من قبلُ سميًّا ، وقوله { يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } ، وكونه رحيماً حناناً وطاهراً ، وتقيًّا ، وبرًّا بوالديه ، ولم يكن جبَّاراً ، ولم يعص قطٌّ ، ولا همَّ بمعصية ، ثم سلَّم عليه يوم ولد ، ويوم يموتُ ، ويوم يبعثُ حيًّا .
ومنها : كونُه تعالى قادراً على خلق الولد ، وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة ردًّا على أهل الطَّبائع .
ومنها : أن المعدوم ليس بشيءٍ؛ لقوله : { وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } .
فإن قيل : المرادُ « ولم تَكُ شيئاً مَذْكُوراً » كما في قوله : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [ الإنسان : 1 ] .
فالجوابُ : أنَّ الإضمار خلافُ الأصل ، وللخصم أن يقول : الآيةُ تدلُّ على أن الإنسان لم يكُن شيئاً مذكوراً ، ونحنُ نقولُ به؛ لأنَّ الإنسانَ عبارة عن جواهر متألِّفة قامت بها أعراضٌ مخصوصةٌ ، والجواهرُ المتألِّفة الموصوفة بالأغراض المخصوصة ليس ثابتة في العدمِ ، وإنَّما الثابتُ هو [ أعيانُ ] تلك الجواهر مفردة غير مركَّبة ، وهي ليست بالإنسان ، فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب . ومنها أن الله تعالى ذكر هذه القصة في « آل عمران » ، وذكرها في هذه السورة ، فلنعتبر حالها في الموضعين ، فنقول : إن الله تعالى بيَّن في هذه السورة أنه دعا ربه ، ولم يبين الوقت ، وبينه في « آل عمران » بقوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } [ آل عمران : 78 ] إلى أن قال : « هنالك دعا زكريا ربه قال : ربِّ هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء » ، والمعنى أن زكريا -عليه السلام- لما رأى خرق العادة في حق مريم ، دمع في حق نفسه ، فدعا ربه ، وصرح في « آل عمران » بأن المنادي هوالملائكة ، بقوله : { فَنَادَتْهُ الملاائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب } [ آل عمران : 39 ] ، والأظهر أن المنادي ههنا بقوله : « يا زكريا إنما نبشرك » هو الله تعالى ، وقد تقدم أنه لا منافاة بينهما .
وقال في آل عمران { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ } [ آل عمران : 40 ] فذكر أولاً كبر نفسه ، ثم عقر المرأة وهاهنا قال : { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } وجوابه : أنَّ الواو لا تقتضي الترتيب .
وقال في « آل عمران » : { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } [ آل عمران : 40 ] وقال هاهنا : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } وجوابه : أن ما بلغك فقد بلغته .
وقال في آل عمران : { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً واذكر } [ آل عمران : 41 ] .
وقال هاهنا { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } .
وجوابه : أنَّه دلَّت الآيتان على أنَّ المراد ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ . والله أعلم .

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)

قوله تعالى : { واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ } القصة .
اعلم أن الله تعالى إنَّما قدَّم قصَّة يحيى -عليه الصلاة والسلام- على قصَّة عيسى -عليه الصلاة والسلام- لأنَّ الولد أعني : لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقربُ إلى مناهج العاداتِ من خلق الولد من الأب ألبتَّة ، وأحسنُ طُرُق التعليم والتفهيم الترقِّي من الأقرب فالأقرب ، وإلى الأصعب فالأصعب .
قوله : { إِذِ انتبذت } : في « إذ » أوجهٌ :
أحدها : أنَّها منصوبةٌ ب « اذْكُر » على أنَّها خرجت على الظرفية؛ إن يستحيلُ أن تكون باقيةً على [ مُضِيِّها ] ، والعاملُ فيها ما هو نصٌّ في الاستقبال .
الثاني : أنَّه منصوبٌ بمحذوفٍ مضافٍ لمريم ، تقديره : واذكر خبر مريم ، أو نبأها؛ إذا انتبذت ، ف « إذْ » منصوبٌ بذلك الخبر ، أو النبأ .
والثالث : أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ ، تقديره : وبيَّن ، أي : الله تعالى ، فهو كلامٌ آخرُ ، وهذا كما قال سيبويه في قوله : { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } [ النساء : 171 ] وهو في الظرف أقوى ، وإن كان مفعولاً به .
والرابع : أن يكون منصوباً من « مريمَ » بدلُ اشتمال ، قال الزمخشريُّ : « لأنَّ الأحيان مشتملةٌ على ما فيها ، وفيه : أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا؛ لوقوع هذه القصَّةِ العجيبةِ فيه » .
قال أبو البقاء -بعد أن حكى عن الزمخشريِّ هذا الوجه- : « وهو بعيدٌ؛ لأنَّ الزمان إذا لم يكن حالاً من الجثَّة ، ولا خبراً عنها ، ولا صفة لها لم يكن بدلاً منها » انتهى . وفيه نظرٌ؛ لأنه لا يلزمُ من عدم صحَّةِ ما ذكر عدمُ صحَّة البدلية؛ ألا ترى نحو « » سُلِبَ زيدٌ ثوبُهُ « لا يصحُّ جعله عن » زَيْد « ولا حالاً منه ، ولا وصفاً له ، ومع ذلك ، فهو بدل اشتمالٍ .
السادس : أنَّ » إذ « بمعنى » أن « المصدرية؛ كقولك : » لا أكْرِمُكَ إذ لم تُكْرِمْنِي « أي : لأنَّك لا تُكْرِمُني ، فعلى هذا يحسنُ بدلُ الاشتمال ، أي : واذكُرْ مريم انتباذهَا ، ذكره أبو البقاء .
وهو في الضعف غايةٌ . و » مكاناً « : يجوزُ ان يكون ظرفاً ، وهو الظاهرُ وأن يكون مفعولاً به على معنى : إذ أتتْ مكاناً . قوله : { انتبذت } الانتباذُ : افتعالٌ من النَّبْذ ، وهو الطَّرْح ، والإلقاء ، ونُبْذَة : بضمِّ النون ، وفتحها أي : ناحيةٌ ، وهذا إذا جلس قريباً منك؛ حتى لو نبذتَ إليه شيئاً ، وصل إليه ، ونبذتُ الشيء : رَمَيْتُهُ ، ومنه النَّبِيذُ؛ لأنَّه يطرح في الإنَاءِ .
ومنه المَنْبُوذ ، وهو أصله ، فصرف إلى » فعيل « ، ومنه قيل للَّقيطِ : منبوذٌ؛ لأنه رُمِيَ به .
ومنه النهيُ عن المُنَابذةِ في البيع ، وهو أن يقول : إذا نبذتُ إيلك الثَّوب ، أو الحَصَاة ، فقد وجب البَيْعُ فقوله : { انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } : تباعدتْ واعتزلتْ عن أهلها مكاناً في الدار ، ممَّا يلي المشرق ، ثم إنَّها مع ذلك اتَّخذت من دُون أهلها حِجاباً .

قال ابنُ عباسٍ : سِتْراً ، وقيل : جلست وراء جدارِ ، وقال نقاتلٌ : وراء جبل .
فصل
اختلف المفسِّرون في سبب احتجابها ، فقيل « إنها لمَّا رأت الحيضَ ، تباعدت عن مكان عبادتها تنتظرُ الطُّهْرَ لتغتسلَ ، وتعودَ ، فلما طهرتْ ، جاءها جبريل -عليه السلام- .
وقيل : طلبت الخلوة للعبادة .
وقيل : تبادعتْ لتغتسِل من الحيضِ ، مُحْتجِبة بشيءٍ يستُرها .
وقيل : كانت في منزلِ زَوْجِ أختها زكريَّا ، وفيه محراب تسكنه على حدةٍ ، وكان زكريَّا إذا خرج يغلقُ عليها ، فتمنَّت أن تجد خلوةً في الجبل؛ لتُفلِّي رأسها ، فانفرج السَّقفُ لها ، فخرجت في المشرقة وراء الجبل ، فأتاها الملكُ .
وقيل : عطِشَتْ؛ فخرجت إلى المفازةِ لتستسقي ، وكل هذه الوجوه محتملة .
واعلم أن المكان الشرقيَّ هو الذي يلي شرقيَّ بيت المقدس ، أو شرقيَّ دارها .
قال ابنُ عبَّاسٍ -رضيالله عنهما- : إنِّي لأعلمُ خلق الله ، لأيِّ شيءٍ اتَّخذت النصارى المشرق قبلةٌ؛ لقوله : { مَكَاناً شَرْقِياً } فاتَّخذُوا ميلاد عيسى قبلةً ، وهو قول الحسنِ -رحمه الله تعالى- .
قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } .
الجمهورُ على ضمِّ الراءِ من » رُوحِنَا « وهو ما يَحْيون به ، وقرأ أة حيوة ، وسهلٌ بفتحها ، أي : ما فيه راحةٌ للعبادِ ، كقوله تعالى : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } [ الواقعة : 89 ] وحكى النقاس : أنه قُرِئ » رُوحنَّا « بتشديد النُّون ، وقال : هو اسمُ ملكٍ من الملائكة .
قوله : » بَشَراً سويًّا « حالٌ من فاعل » تمَثَّل « وسوَّغ وُقُوعَ الحالِ جامدة وصفها ، فلمَّا وصفت النكرةُ وقعت حالاً .
فصل في المراد بالروح
اختلفوا في هذا الرُّوح ، فالأكثرون على أنَّه جبريل -صلوات الله عليه- لقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] وسُمِّي روحاً؛ لأنَّ الدِّين يحيى به .
وقيل : سُمِّي رُوحاً على المجازِ؛ لمحبته ، وتقريبه ، كما تقول لحبيبك : رُوحِي .
وقيل : المرادُ من الرُّوح : عيسى -صلوات الله عليه- جاء في صورة بشرٍ ، فحملت به ، والأول أصحُّ ، وهو أنَّ جبريل عرض لها في صُورةِ شابٍّ أمرد ، حسن الوجه ، جعد الشَّعْر ، سويِّ الخلق وقيل : في صُورة تربٍ لها ، اسمه يوسفُ ، من خدم بيت المقدس .
قيل : إنما تمثَّل لها في صورة بشر؛ لكي لا تنفر منه ، ولو ظهر في صورةِ الملائكة ، لنفرت عنه ، ولم تقدر على استماع كلامه ، وهاهنا إشكالات :
الأول : أنَّه لو جاز أن يظهر الملكُ في صورة الإنسان المعيَّن ، فحينئذ؛ لا يمكُننا القطع بأنَّ هذا الشخص الذي نراه في الحال هو زيدٌ الذي رأينا بالأمْس؛ لاحتمالِ أن الملك ، أو الجنِّي تمثَّل بصورته ، وفتحُ هذا الباب يؤدِّي إلى السَّفْسَطةِ ، ولا يقال : هذا إنَّما يجوز في زمانِ [ جواز ] البعثة ، فأما في زماننا فلا يجوز .
لنا أن نقول : هذا الفرقُ إنَّما يعلمُ بالدليل ، فالجاهلُ بذلك الدَّليل يجبُ ألا يقطع بأنَّ هذا الشخص الذي رآه الآن هو الذي رآه بالأمْسِ .

الثاني : أنه جاء في الأخبار أنَّ جبريل -صلوات الله عليه- شخصٌُ عظيمٌ جدًّا ، فذلك الشخصُ -كيف صار بدنهُ في مقدارِ جثَّة الإنسان ، وذلك يوجبُ تداخل الأجزاء ، وهو محالٌ .
الثالث : أنَّا لو جوَّزنا أن يتمثَّل جبريل -صلوات الله عليه- في صورة الآدمي ، فلم لا يجوز تمثُّله في صورة أصغر من الآدميِّ؛ كالذُّباب ، والبقِّ ، والبعُوضِ ، ومعلومٌ أن كلَّ مذهب جرَّ إلى هذا ، وهو باطلٌ .
الرابع : أن تجويزهُ يفضي إلى القدحِ في خبر التَّواتُر ، فلعلَّ الشخص الذي حارب يوم بدرٍ ، لم يكُن محمَّداً -صلوات الله عليه وسلامه- بل كان شخصاً يشبهه ، وكذا القولُ في الكُلِّ .
والجوابُ عن الأوَّل : أن ذلك التجويز لازمٌ على الكُلِّ؛ لأنَّ من اعترف بافتقار العالم إلى الصَّانع المُختار ، فقد قطع بكونه قادراً على أن يخلُق شخصاً آخر؛ مثل زيدٍ في خلقه وتخطيطه ، وإذا جوَّزنا ذلك ، فقد لزم الشكُّ في أنَّ زيداً المشاهد الآن هو الذي شاهدناه بالأمْسِ ، أم لا ، ومن أنكر الصَّانع المختار ، وأسند الحوادث إلى اتصالات الكواكب ، وتشكُّلات الفلك ، لزمه [ تجويزُ ] أن يحدث اتصالٌ غريبٌ في الأفلاك يقتضي حدوث شخصٍ ، مثل زيدٍ في كُلِّ الأمور ، وحينئذٍ يعود التجويزُ المذكُور .
وعن الثاني : أنَّه لا يمتنعُ أن يكون جبريلُ -عليه السلام- له أجزاءٌ أصليَّةٌ ، وأجزاءٌ فاضلةٌ ، فالأجزاءُ الأصليَّة قليلةٌ جدًّا؛ فحينئذ : يكون متمكِّناً من التشبُّه بصُورة الإنسان ، هذا إذا جعلناه جسمانيًّا ، فإذا جعلناهُ روحانيًّا ، فأيُّ استبعادٍ في أن يتنوَّع بالهَيْكَل العظيم ، وأخرى بالهيكل الصَّغير .
وعن الثالث : أنَّ أصل التجويز قائمٌ في العقل ، وإنما عرف فسادهُ بدلائل السَّمع ، وهو الجوابُ عن السؤال الرابع .
قوله : { قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } .
أي : إن كان يرجى منك أن تتقي الله ، فإنِّي عائذةٌ به منك؛ لأنَّها علمتْ أن الاستعاذة لا تؤثِّرُ في التُّقى ، فهو كقول القائل : إن كنت مُسْلماً ، فلا تظلمني ، أي : ينبغي أن تكُون تقواك مانعاً لك من الفُجُور .
كقوله تعالى : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 278 ] .
أي : أنَّ شرط الإيمان يُوجب هذا؛ لا أنَّ الله تعالى يُخْشَى في حالٍ دون حالٍ .
وقيل : كان في ذلك الزَّمانِ إنسانٌ فاجرٌ يتبعُ النِّساء ، اسمه تقيٌّ ، فظنَّت مريمُ انَّ ذلك الشخص المشاهد هُو ذاك ، والأول أصحُّ . قوله : { إِن كُنتَ تَقِيّاً } جوابه محذوفٌ ، أو متقدِّم .
قوله تعالى : { لاًّهَبَ } : قرأ نافعٌ ، وأبو عمرو « ليَهَبَ » بالياء والباقون « لأهَبَ » بالهمزة ، فالأولى : الظاهرُ فيها أنَّ الضمير للرَّبِّ ، أي : ليهبَ الرَّبُّ ، وقيل : الأصلُ : لأهَبَ ، بالهمز ، وإنما قلبتِ الهمزةُ ياءً تخفيفاً؛ لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ ، فتتفِقُ القراءتان ، وفيه بعدٌ ، وأمَّا الثانية ، فالضميرُ للمتكلِّم ، والمراد به الملكُ ، وأسنده لنفسه؛ لأنه سببٌ فيه ويؤيده : أن في بعض المصاحف : « أمرني أن أهب لك » ؛ ويجوز أن يكون الضمير لله تعالى ، ويكون على الحكاية بقولٍ محذوف .

قوله تعالى : { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } .
فصل
لما علم جبريلُ -صلوات الله عليه- خوفها ، قال : { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } ليزول عنها ذلك الخوف ، ولكن الخوف لا يزولُ بمجرَّدِ هذا القول ، بل لا بدَّ من دلالةٍ تدلُّ على أنه كان جبريل -صلوات الله عليه- ، فيحتمل أن يكون قد ظهر معجزٌ ، عرفت به أنَِّه جبريلُ -صلوات الله عليه- ، ويحتمل أنَّها عرفت صفة الملائكة من جهة زكريَّا -صلوات الله عليه- فلمَّا قال لها : { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } أظهر لها من جسده ما عرفت به أنَّه ملكٌ؛ فيكونُ ذلك هو العلمَ ، والذي يظهر أنَّها كانت تعرفُ صفة الملك بالأمارات ، حين كان يأتيها بالرِّزْق في المحراب ، وقال لها زكريَّا : { يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله } [ آل عمران : 37 ] .
قوله : { غُلاَماً زَكِيّاً } ولداً صالحاً طاهراً من الذُّنوب .
{ قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } إنما تعجبت مما بشَّرها جبريلُ؛ لأنَّها قد عرفت بالعادة أنَّ الولادة لا تكونُ إلاَّ من رجُلٍ ، والعاداتُ عند أهل المعرفةِ معتبرةٌ في الأمُور ، وإن جوَّزنا خلاف ذلك في القدرة ، فليس في قولها هذا دلالةٌ على أنَّها لم تعلمْ أنَّه تعالى قادرٌ على خلق الولد ابتداءً ، وكيف ، وقد عرفت أنَّه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحدِّ؛ ولأنَّها كانت منفردةً بالعبادة ، ومن يكونُ كذلك ، لا بُدَّ أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك .
فإن قيل : قولها { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } كافٍ في المعنى ، فلم قالت : { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } فالجوابُ من وجهين :
أحدهما : أنها جعلت المسَّ عبارة عن النِّكاح الحلال؛ لأنَّه كنايةٌ عنه قال تعالى : { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] والزِّنَا ، إنما يقال فيه : فجر بها ، أو ما أشبهه .
والثاني : أن إعادتها؛ لتعظيم حالها؛ كقوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] وقوله تعالى : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . فكذا هاهنا : إن من لم تعرف من النِّساء بزوجٍ ، فأغلظ أحوالها ، إذا أتت بولدٍ : أن تكُون زانيةً ، فأفردت ذلك البغْي بعد دخوله في الكرم؛ لأنَّه أعظُم ما في بابه .
قوله تعالى : « بَغْيًّا » : في وزنه قولان :
أحدهما -وهو قولُ المبرِّد- أنَّ وزنه « فُعُولٌ » والأصل « بَغُويٌ » فاجتمعت الياء ، والواو ، [ ففعل فيه ما هو معروفٌ ] ، قال أبو البقاء : « ولذلك لم تلحق تاءُ التأنيث؛ كما لم تلحقْ في صبُور وشكور » ونقل الزمخشريُّ عن أبي الفتح في كتابه « التمام » أنها فعيلٌ ، قال : « ولو كانت فُعولاً ، لقيل : بغُوٌّ ، كما يقال : فلان نهُوٌّ عن المنكر » ولم يعقبه بنكير ، ومن قال : إنها « فَعِيْلٌ » فهل هي بمعنى « فَاعِل » أو بمعنى « مَفْعُول » ؟ فإن كانت بمعنى « فاعل » فينبغي أن تكون بتاء التأنيث؛ نحو : امرأةٌ قديرةٌ وبصيرةٌ ، وقد أجيب عن ذلك : بأنها معنى النَّسب؛ كحائضٍ وطالقٍ ، أي ذات بغي ، وقال أبو البقاء ، حين جعلها بمعنى « فَاعِل » : « ولم تلحقِ التاءُ أيضاً؛ لأنها للمبالغةِ » فجعل العلة في عدم اللحاقِ كون للمبالغة؛ وليس بشيءٍ ، وإن قيل بأنَّها بمعنى « مَفْعُول » فعدمُ الياءِ واضحٌ .

وتقدم الكلامُ على قوله : { قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } وهو كقوله في آل عمران { كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 47 ] لا يمتنعُ عليه ما يريدُ خلقه ، ولا يحتاجُ في إنشائه إلى الآلاتِ والموادِّ .
قوله : « ولنَجْعَلهُ » يجوز أن يكُون علَّةً ، ومُعَلَّلُهُ محذوفٌ ، تقديره : لنجعله آيةٌ للنَّاسِ فعلنا ذلك ، ويجوز أن يكون نسقاً على علةٍ محذوفةٍ ، تقديره : لنُبَيِّنَ به قدرتنا ، ولنجعله آيةً ، والضميرُ عائدٌ على الغلام ، واسم « كان » مضمرٌ فيها ، أي : وكان الغلام ، أي : خلقه وإيجاده أمراً مقضياً : أي لا بُدَّ منه .
والمرادُ ب « الآية » العلامةُ ، أي : علامة للنَّاسِ ، ودلالةً على قُدْرتنا على أنواع الخلق؛ فإنه تعالى خلق آدم -صلوات الله عليه وسلامه- من غير ذكر ولا أنثى ، وخلق حوَّاءمن ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى -صلوات الله عليه- من أنثى بلا ذكرٍ ، وخلق بقيَّة النَّاسِ من ذكرٍ وأنْثَى .
{ وَرَحْمَةً مِّنَّا } أي : ونعمةً لمنْ تبعه على دينه ، { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } محكوماً مفروغاً منه ، لا يُرَدُّ ، ولا يُبَدَّلُ .
قوله تعالى : { فَحَمَلَتْهُ فانتبذت } .
قيل : إنَّ جبريل -صلوات الله عليه وسلامه- رفع درعها ، فنفخ في جيبه ، فحملتْ حين لبستْ .
وقيل : نفخ جبريلُ من بعيدٍ ، فوصل الرِّيح إليها ، فحملت بعيسى في الحالِ .
وقيل : إنَّ النَّفْخة كانت في فيها ، فوصلت إلى بطنها .
وقيل : كان النَّافخُ هو الله تعالى؛ لقوله عزَّ وجلَّ : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] .
وظاهرهُ؛ يفيدُ أنَّ النافخَ هو الله تعالى؛ ولأنه تعالى قال : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] .
ومقتضى التشبيه حُصُول المُشابهة إلاَّ فيما أخرجه الدَّليل ، وفي حقِّ آدم النَّافخُ هو الله تعالى؛ لقوله عزَّ وجلَّ : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] فكذا هاهنا ، وإذا عرفت هذا ، ظهر أن في الكلام حذفاً ، تقديره : « فَنَفخَ فيها ، فحملتهُ » .
قيل : حملتْ ، وهي بنتُ [ ثلاثَ عشرة سنةً ] .
وقيل : بنتُ عشرين ، وقد كانت حاضتْ حيضتين قبل أن تحمل ، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيء من هذه الأحوال .
قوله تعالى : { فانتبذت بِهِ } : الجارُّ والمجرورُ في محلِّ نصب على الحال ، أي : انتبذتْ ، وهو مصاحبٌ لها؛ كقوله : [ الوافر ]
3585- . ... تَدُوسُ بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّرِيبا
والمعنى : اعتزلت ، وهو في بطنها؛ كقوله : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] أي : تنبتُ ، والدُّهْنُ فيها .

{ مَكَاناً قَصِيّاً } : بعيداً من أهلها .
قال ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- : أقصى أقصى الوادي ، وهو وادي بيت لحم؛ فراراً من قومها أن يُعَيِّروها بولادتها من غير زوج .
واختلفوا في علَّة الانتباذِ؛ فروى الثعلبيُّ في « العَرَائِسِ » عن وهب قال : إنَّ مريم لمَّا حملتْ بعيسى -صلوات الله عليه- كان معها ابن عمٍّ لها يُسمَّى « يُوسُفَ النَّجَّار » ، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند « جَبَلِ صُهْيُون » ، وكانت مريمُ ويوسفُ يخدمان ذلك المسجدَ ، ولا يعلمُ من أهل زمانهما أحدٌ أشدُّ اجتهاداً منهما ، وأوَّلُ من عرف حمل مريم يوسفُ ، فتحير في أمرها ، فكلَّما أراد أن يتَّهمها ، ذكر صلاحها ، وعبادتها ، وأنَّها لم تغبْ عنه ساعةً قطُّ؛ فقال : إنَّه قد وقع في نفسي من أمرِك شيءٌ ، وقد حرصتُ على كتمانِهِ ، فغلبني ذلك ، فرأيتُ أنَّ الكلام فيه أشفى لصدْرِي فقالت : قُلْ قَوْلاً جَمِيلاً .
قال : أخبرني يا مريمُ ، هَلْ يَنْبُتُ زَرْعٌ بِغَيْرِ بِذْرٍ؟ وهلْ تَنْبُتُ شَجَرةٌ من غَيْرِ غَيْثٍ؟ وهَلْ يَكُونُ ولدق من غَيْرِ ذكرٍ؟ قالتْ : نَعَمْ ، ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ الله تعالى أنْبَتَ الزَّرْعَ يوْمَ خلقهُ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ ، وهذا البَذْرُ إنَّما حصل مِنَ الذي أنْبَتَهُ من غَيْرِ بَذْرٍ .
ألم تعلم أنَّ الله أنْبتَ الشَّجَرَةَ بغير غَيْثٍ ، وبالقُدْرَةِ جعل الغَيْثَ حياةُ الشَّجرةِ ، بعدمَا خَلَقَ الله كُلَّ واحدٍ مِنْها على حدةٍ؟ أو تقُول : إنَّ الله لا يقدرُ على أنْ يُنْبِتَ الشَّجرة حتَّى استعان بالماءِ ، ولوْلاَ ذلكَ ، لَمْ يَقْدِرْ على إنباتها؟! .
قال يُوسفُ : لا أقُولُ هذا ، ولكنِّي أقُولُ : إنَّ الله تعالى قادرٌ على مَا يَشَاءُ ، فيقُول : كُنْ فَيَكُونَ ، فقالت لهُ مريمُ : أو لَمْ تعلمْ أنَّ خلق آدَمَ وامْرأتهُ حوَّاء من غير ذكرٍ ، ولا أنثى ، فعندهُ زالتِ التُّهْمَةُ عن قلبهِ ، وكان ينُوبُ عنها في خدمةِ المسجدِ؛ لاستيلاءِ الضَّعْف عليها؛ بسبب الحَمْلِ ، وضيق القَلْبِ ، فلمَّا قرُبَ نفاسُها ، أوحى الله تعالى إليها أن اخْرُجي من أرض قومكِ؛ لئلاَّ يقتُلُوا ولدكِ ، فاحتملها يوسفُ إلى أرْضِ مِصْر على حمار لهُ ، فلمَّا بلغتْ تلك البلادَ ، وأدْركهَا النِّفاسُ ، فألجأها إلى أصلِ نخلةٍ ، وذلك في زمانِ بردٍ ، فاحتضنتها ، [ فوضعت ] عندها .
وقيل : إنَّها استحيت من زكريَّا ، فذهبت إلى مكانٍ بعيدٍ ، لئلاَّ يعلم بها زكريَّا ، صلوات الله عليه- .
وقيل : لأنَّها كانَتْ مشهورةً في بني إسرائيل بالزُّهدِ؛ لنذْرِ أمِّهَا ، وتشاجَّ النبياءِ في تربيتها ، وتكفُّل زكريَّا بِهَا ، وكان الرِّزْقُ يأتيها من عند الله تعالى ، فلمَّا كانت في نهايةِ الشُّهرةِ اسْتَحيتْ من هذه الواقعةِ ، فذهَبتْ إلى مكانٍ بعيدٍ .
وقيل : ثمانية أشهر ، وكان ذلك آية أخرى؛ لأنَّه لم يعش ولدٌ لثمانية أشهر إلاَّ -عيسى- صلوات الله عليه- .
وقيل : لأنَّها كانَتْ مشهورةً في بني إسرائيل بالزُّهدِ؛ لنذْرِ أمِّهَا ، وتشاحَّ النبياءِ في تربيتها ، وتكفُّل زكريَّا بِهَا ، وكان الرِّزْقُ يأتيها من عند الله تعالى ، فلمَّا كانت في نهايةِ الشُّهرةِ اسْتَحْيتْ من هذه الواقعةِ ، فذهَبتْ إلى مكانٍ بعيدٍ .

وقيل : خافت على ولدها من القَتْل ، لو ولدته بين أظهرهم . وكلُّ هذه الوجُوهِ محتملةٌ ، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيءٍ منها .
فصل في بيان حمل مريم
اختلفُول في مدَّة حملها ، فرُوي عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- أنَّها تسعة أشهر؛ كسائر النسِّاء في الغالب .
وقيل : ثمانية أشهر ، وكان ذلك آية أخرى؛ لأنَّه لم يعش ولدٌ يولدُ لثمانية أشهر إلاَّ عيسى « صلوات الله عليه- .
وقال عطاءٌ ، وأبو العالية ، والضحاك : سبعةُ أشهر وقيل : ستَّةُ أشهر .
وقال مقاتلُ بنُ سليمان : ثلاثُ ساعاتٍ ، حملت به في ساعةٍ ، وصُوِّر في ساعةٍ ، ووضعته حين زالتِ الشَّمْسِ من يومها .
وقال ابنُ عبَّاس : كان الحَمْل والولادةُ في ساعةٍ واحدة ، ويدلُّ عليه وجهان :
الأول : قوله : { فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ } { فَأَجَآءَهَا المخاض } { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } ، والفاء : للتعقيب؛ فدلَّت هذه الفاءاتُ على أنَّ كلَّ واحدٍ من هذه الأحوال حصل عقيبَ الآخَرِ من غير فصْلٍ؛ وذلك يوجبُ كون مدَّة الحَمْل ساعةً واحدة لا يقال : انتباذها مكاناً قصيًّا كيف يحصُل في ساعةٍ واحدةٍ؛ لأنَّا نقول : السُّدي فسَّر بأنَّها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها .
الثاني : أنَّ الله تعالى قال في وصفه { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] ، فثبت أن عيسى -صلواتُ الله عليه- كما قال الله تعالى : » كُنْ « فكان ، وهذا مما لا يتصوَّر فيه مدَّةُ الحمل ، إنَّما يتصوَّر مُدَّة الحمل في المتولِّد عن النُّطفة .
والقَصيُّ : البعيدُ .
يقال : مكانٌ قاصٍ ، وقَصِيٌّ بمعنى واحدٍ؛ مثل : عاصٍ وعَصِيٍّ .
قوله تعالى : { فَأَجَآءَهَا } : الأصلُ في » جَاءَ « : أنْ يتعدَّى لواحدٍ بنفسه ، فإذا دلت عليه الهمزة ، كان القياسُ يقتضي تعدِّه لاثنين ، قال الزمخشريُّ : » إلاَّ أنَّ استعماله قد تغيَّر بعد النَّقْل إلى معنى الإلجاء ، ألا تراك لا تقول : جئتُ المكانَ ، وأجاءنيه زيدٌ؛ كما تقولُ : بلغتهُ وأبلغنيه ، ونظيرهُ « آتى » حيثُ لم يستعمل إلا في الإعطاء ، ولم تقل : أتيتُ المكان وآتانيه فلانٌ « .
وقال أبو البقاء : الأصلُ » جَاءَهَا « ثم عُدِّي بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ ، واستعمل بمعنى » ألْجَأها « .
قال أبو حيَّان : قوله : إنَّ » أجَاءَهَا « [ استعمل ] بمعنى » ألْجَأهَا « يحتاجُ إلى نقل أئمةِ اللغة المستقرئين لذلك من لسانِ العرب ، والإجاءةُ تدلُّ على المُطلقِ ، فتصلحُ لما هو بمعنى » الإلْجَاءِ « ولما هو بمعنى » الاختيار « كما تقول : » أقَمْتُ زَيْداً « فإنه يصلحُ أن تكون إقامتك لهُ قَسْراً أو اختياراً ، وأمَّا قوله : » ألا تراكَ لا تقُولُ « إلى آخره ، فمن رأى أنَّ التعدية بالهمزة قاسٌ ، أجاز ذلك ، وإن لم يسمعْ ، ومن منع ، فقد سمع ذلك في » جَاءَ « فيجيزُ ذلك ، وأمَّا تنظيهُ ذلك ب » أتى « فليس تنظيراً صحيحاً؛ لأنَّه بناهُ على أنَّ همزته للتعدية ، وأنَّ أصله » آتى « بل » آتى « ممَّا بُنِي على » أفْعَل « ولو كان منقولاً من » أتى « المتعدِّي لواحد ، لكان ذلك الواحدُ هو المفعول الثاني ، والفاعل هو الأوَّل ، إذا عدَّيته بالهمزة ، تقولُ : » أتى المالُ زيداً « و » آتى عمروٌ زيداً المالَ « فيختلفُ التركيبُ بالتعدية؛ لأنَّ » زَيْداً « عند النحويِّين هو المفعول الأول ، و » المال « هو المفعولُ الثاني ، وعلى ما ذكره الزمخشريُّ ، كان يكون العكس ، فدلَّ على أنَّه ليس ما قاله ، وأيضاً ، ف » أتى « مرادفٌ ل » أعْطَى « ، فهو مخالفٌ من حيثُ الدلالة في المعنى ، وقوله : » ولمْ تَقُل : أتَيْتُ المكانَ ، وآتانيه « هذا غيرُ مسلمٍ ، بل تقول : : أتَيْتُ المَكَانَ » كما تقول : « جِئْتُ المكانَ » وقال الشاعر : [ الوافر ]

3586- أتَوْا نَارِي فَقُلْتُ منُونَ أنتُمْ ... فقالُوا الجِنُّ قُلتُ عَمُوا ظَلامَا
ومن رأى التعدية بالهمزةِ قياساً ، قال : « آتانيه » قال شهاب الدين : وهذه الأبحاثُ التي ذكرها الشيخُ -رحمه الله- معه ظاهرةُ الأجوبة ، فلا نُطَوِّلُ بذكرها .
وقرأ الجمهورُ « فأجَاءَهَا » أي : ألْجَأهَا وساقها ، ومنه قوله : [ الوافر ]
3587- وجَارٍ سَارَ مُعْتَمِداً إليْكُمْ ... أجَاءَتْهُ المخَافَةُ والرَّجَاءُ
وقرأ حمَّادُ بن سلمة « فاجَأهَا » أي : ألْجَأهَا وساقها ، ومنه قوله : [ الوافر ]
3587- وجَارٍ سَارَ مُعْتَمِداً إليْكُم ... أجَأءَتْهُ المخَافَةُ والرَّجَاءُ
وقرأ حمَّادُ بن سلمة « فاجَأهَا » بألفٍ بعد الفاء ، وهمزة بعد الجيم ، من المفاجأة ، بزنة « قابلها » ويقرأ بألفين صريحتين؛ كأنهم خَفَّفُوا الهمزة بعد الجيمِ ، وبذلك رُويتْ بَيْنَ بَيْنَ .
والجمهورُ على فتح الميم من « المَخَاض » وهو وجعُ الولادةِ ، ورُوِيَ عن ابن كثير بكسر الميم ، فقيل : هما بمعنى ، وقيل : المفتوجُ : اسمُ مصدر؛ كالعطاءِ والسلامِ ، والمكسورُ مصدرٌ؛ كالقتال واللِّقاء ، والفعالُ : قد جاء من واحد؛ كالعقابِ والطِّرَاقِ ، قاله أبو البقاء ، والميم أصليةٌ؛ لأنه من « تَمخَّضتِ الحامِلُ تَتَمخَّضُ » .
و « إلى جذْعِ » يتعلق في قراءة العامَّة ب « أجَاءَهَا » أي : ساقها إليه .
وفي قراءة حمَّاد بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ من المفعول ، أي : فاجأها مستندةً إلى جذْع النَّخْلةِ .
فصل في معنى الآية
المعنى : ألْجَأهَا المخاض ، وهو وجعُ الولادةِ إلى جذْعِ النَّخْلَة؛ لتستند إليها ، وتتمسَّك بها عمد وجع الولادة ، وكانت نخلة يابسةً في الصحراء في شدَّة الشِّتاء ، ولم يكُن لها سعفٌ ، ولا خُضْرة ، والتعريف فيها : إمَّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة؛ كتعريف النّضجم [ والصَّعق ] أو كانت تلك الصَّحراء كان فيها جذْع نخلة مشهورٌ عند النَّاس .
فإن قيل : جذعُ النَّخْلة فهم منه ذلك دون سائره ، وإمَّا يكون تعريف الجنْسِ ، أي : إلى جذْعِ هذه الشَّجرة خاصَّةً؛ كأنَّ الله تعالى أرشدها إلى النَّخْلة؛ ليُطعمَها منها الرُّطب الذي هو أشبه الأشياء موافقة للنُّفساء ، ولأنَّ النخلة أشدُّ الأشياء صَبْراً على البَرْد ، ولا تُثْمِرُ إلاَّ عند اللِّقاح ، وإذا قُطِعَ رأسُها ، لم تُثْمِرْ ، فكأنَّ الله تعالى قال : كما أنَّ الأنثى لا تلدُ إلاَّ مع الذَّكر ، فكذا النَّخلة لا تُثْمِر إلا باللِّقاح ، ثم إنَّه أظهر الرُّطب من غيْر اللِّقَاح؛ ليدلَّ ذلك على جواز ظُهُور الولد من غير ذكر .

{ قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا } تمنَّت الموت .
فإن قيل : كيف تمنَّت الموت مع أنها كانت تعلم أنَّ الله تعالى بعث جبريل -صلوات الله عليه- ووعدها بأنْ يجعلها وولدها آيةً للعالمين .
فالجوابُ من وجوه :
الأول : تمنَّت الموت استحياءً من النَّاس ، فأنْسَاها الاستحياء بشارة الملائكة بعيسى -صلوات الله عليه- .
الثاني : أنَّ عادة الصَّالحين -رضي الله تعالى عنهم- إذا وقعُوا في بلاءٍ : أن يقُولُوا ذلك ، كما رُوِيَ عن أبي بكر -رضي الله عنه- أنه [ نظر إلى طائرٍ ] على شجرة ، فقال : طُوبى لَكَ ، يا طَائِر؛ تقعُ على الشَّجرِ ، وتأكُلُ من الثَّمَر ، وددت أنِّي ثمرةٌ يَنْقُرهَا الطَّائِرُ .
وعن عُمر -رضي الله عنه- أنَّه أخذ تبنة من الأرض ، فقال : يا لَيْتَنِي هذه التَّبْنَةُ ، يا بَيْتَنِي لم أكُنْ شيئاً .
وعن عليٍّ كُرِّم وجهه يوم الجمل : لَيْتَنِي مِتُّ قبل هذا اليومِ بعشرين سنة .
وعن بلالٍ -رضي الله عنه- : ليت بلالاً لم تلدهُ أمهُ .
فثبت أنَّ هذا الكلام يذكُرُه الصَّالحون عند اشتداد الأمْرِ عليهم .
الثالث : -لعلَّها قالت ذلك؛ لئلاَّ تقع المعصيةُ ممن يتكلَّم فيها ، وإلاَّ فهي راضيةٌ بما بُشِّرَتْ به .
قوله تعالى : « نَسْياً » الجمهور على النون وسكون السين ، وبصريح الياء بعدها ، وقرأ حمزة وحفص وجماعة بفتح النون ، فالمكسور « فِعْل » بمعنى « مَفْعُولٍ » كالذَّبح والطَّحن ، ومعناه الشيء الحقيرُ الذي من شأنه أن ينسى؛ كالوتد ، والحبلِ ، وخرقةِ الطَّمْثِ ، ونحوها . تمنت لو كانت شيئاً تافهاً لا يؤبه له من حقّه أن ينسى عادة .
قال ابن الأنباري -رحمه الله- : « من كسر فهو اسمٌ لما يُنسى ، كالنَّقص؛ اسمٌ لما ينقصُ ، والمفتوحُ : مصدرٌ يسدُّ مسدَّ الوصف » وقال في الفرَّاء : هما لغتان؛ كالوَتْر والوِتْر ، والكسرُ أحَبُّ إليَّ « .
وقرأ محمدُ بنُ كعب القرظيُّ » نِسْئاً « بكسر النون ، والهمزةُ بدل الياء ، وروي عنه أيضاً ، وعن بكر بن حبيب السهميِّ فتحُ النون مع الهمزة ، قالوا : وهو من نسأتُ اللَّبن ، إذا صببت فيه ماءً ، فاستهلك فيه ، فالمكسورُ أيضاً كذلك الشيء المستهلك ، والمفتوحُ مصدرٌ؛ كما كان ذلك من النِّسيانِ .
ونقل ابن عطيَّة عن بكر بن حبيبٍ » نَساً « بفتح النون ، والسين ، والقصر؛ ك » عَصاً « ، كأنه جعل فعلاً بمعنى مفعولٍ؛ كالقبضِ بمعنى المقبوض .

و « منْسِيًّا » نعتٌ على المبالغة ، وأصله « مَنْسُويٌ » فأدغم ، وقرأ أبو جعفرٍ ، والأعمشُ « مِنْسيًّا » بكسر الميم؛ للاتباع لكسرة السين ، ولم يعتدُّوا بالساكن؛ لأنه حاجزٌ غير حصينٍ؛ كقولهم : « مِنْتِنٌ » و « مِنْخِرٌ » ، والمقبرة والمحبرة .
قوله تعالى : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } : قرأ الأخوان ، ونافع ، وحفص بكسر ميم « مِنْ » وجرِّ « تحتها » على الجار والمجرور ، والباقون بفتحها ، ونصب « تحتها » فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكون الفاعلُ في « نَادَى » مَكراً ، وفيه تأويلان :
أحدهما : هو جبريلُ ، ومعنى كونه « مِنْ تحتها ، أنه في مكانٍ أسفل منها؛ ويدلُّ على ذلك قراءةُ ابن عبَّاس » فناداها ملكٌ من تحتها « فصرَّح به .
ومعنى كونه أسفل منها : إما أن يكونا معاً في مكانٍ مستوٍ ، وهناك مبدأ معيَّنٌ ، وهو عند النَّخْلة ، وجبريلُ بعيدٌ عنها ، فكل من كان أقرب ، كان فوق ، وكُلُّ من كان أبعد ، كان تحت ، وبهذا فَسَّر الكلبيُّ قوله تعالى : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } [ الأحزاب : 10 ] .
ولهذا قال بعضهم : ناداها من أقصى الوادي .
وقيل : كانت مريم على أكمةٍ عاليةٍ ، وجبريل أسفل؛ قاله عكرمة .
ورُوِيَ عن عكرمة : أنَّ جبريل ناداها من تحتِ النخْلَة .
و » مِنْ تَحْتهَا « على هذا فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلِّقق بالنداء ، أي : جاء النداء من هذه الجهة .
والثاني : أنه حالٌ من الفاعل ، أي : فناداها ، وهو تحتها .
وثاني التأويلين : أنَّ الضمير لعيسى ، أيك فناداها المولودُ من تحتِ ذيلها ، والجارُّ فيه الوجهان : من كونه متعلَّقاً بالنداء ، أو بمحذوفٍ على انه حالٌ ، والثاني أوضحُ .
والقراءة الثانية : تكونُ فيها » مَنْ « موصولةً ، والظرفُ صلتها ، والمرادُ بالموصول : إمَّا جبريلُ ، وإمَّا عيسى .
وقرأ زئرٌّ ، وعلقمةُ : » فَخَاطَبَهَا « مكان » فَنَادَاها « .
فصل في اختلافهم في المنادي
قال الحسنُ وسعيدُ بن جبيرٍ : إنَّ المنادي هو عيسى -صلوات الله عليه- وقال ابنُ عبَّاسٍ والسديُّ ، وقتادةُ ، والضحاكُ ، وجماعةٌ : إنَّه جبريل -صلوات الله عليه- وكانت مريمُ على أكمة [ وجبريل ] وراء الأكمةِ تحتها .
وقال ابن عيينة ، وعاصمٌ : المنادي على القراءة بالفتح وهو عيسى ، وعلى القراءة بالكسر هو الملكُ ، والأوَّل أقربُ لوجوهٍ :
الأول : أن قوله : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } بفتح الميم إنَِّما يستعملُ إذا كان قد عُلِم قبل ذلك أنَّ تحتها أحداً ، والذي عُلِمَ كونه تحتها هو عيسى -صلوات الله عليه- فوجب حملُ اللفظ عليه ، وأما قراءة كسر الميم ، فلا تقتضي كون المنادي » جبريل « صلواتُ الله عليه .
الثاني : أنَّ ذلك الموضع موضعُ اللَّوْث والنَّظر إلى العورة ، وذلك لا يليقُ بالملائكةِ .
الثالث : ان قوله » فَنَدَاهَا « فعلٌ ، ولا بُدَّ أن يكون فاعله قد تقدَّم ذكره ، والذي تقدَّم ذكره هو جبرائيل ، وعيسى -صلوات الله عليهما- ، إلا أنَّ ذكر عيسى أقربُ؛ لقوله عزَّ وجلَّ : { فَحَمَلَتْهُ فانتبذت } والضمير عائدٌ إلى المسيح ، فكان حمله عيله أولى .

الرابع : أنَّ عيسى -صلوات الله عليه- لو لم يكُن كلَّمها ، لما علمتْ أنه ينطقُ ، ولما كانت تُشيرُ إلى عيسى بالكلام .
فصل في معنى الآية على القولين
من قال : المُنادِي : هو عيسى ، فالمعنى : أنَّ الله تعالى أنطفه لها حين وضعتهُ تطبيباً لقلبها ، وإزالةً للوحشة عنها؛ حتى تشاهد في أوَّل الأمْر ما بشَرها به جبريل -صلوات الله عليه- من عُلُوِّ شأن ذلك الولد .
ومن قال : المنادي هو جبريلُ -صلوات الله عليه- قال : إنه أرسل إليها؛ ليناديها بهذه الكلمات؛ كما أرسل إليها في أوَّل الأمْر؛ تذكيراً للبشارات المتقدمة .
قوله : « ألاَّ تَحْزَنِي » يجوز في « أنْ » أن تكون مفسرةً؛ لتقدُّمها ما هو بمعنى القول ، و « لا » على هذا : ناهيةٌ ، حذف النون للجزم؛ وأن تكون الناصبة ، و « لا » حينئذٍ نافيةٌ ، وحذفُ النُّون للنَّصْب ، ومحلُّ « أنْ » إمَّا نصب ، أو جرٌّ؛ لأنها على حذفِ حرفِ الجرِّ ، أي : فَنَادَاهَا بكذا ، والضميرُ في « تحتها » : إمَّا لمريم -صلوات الله عليها- وإمَّا للنَّخلة ، والأول أولى؛ لتوافق الضميرين .
قوله تعالى : [ « سَرِيًّا » ] يجوز أن يكون مفعولاً أوَّل ، و « تَحْتك » مفعولٌ ثان؛ لأنها بمعنى صيَّر « ويجوز أن تكون بمعنى » خلق « فتكون » تَحْتَكِ « لغواً .
والسَّرِيُّ : فيه قولان :
أحدهما : إنه الرَّجُلُ المرتفع القدر ، من » سَرُوَ يَسْرُو « ك » شَرُفَ ، يَشْرَفُ « فهو سريٌّ ، وأصله سَرِيوٌ؛ فأعلَّ سيِّدٍ ، فلامهُ واوٌ ، والمراد به في الآية عيسى ابنُ مريم -صلوات الله عيله- ، ويجمعُ » سريٌّ « على » سراة « بفتح السين ، وسُرَواء؛ كظرفاء ، وهما جمعان شاذَّان ، بل قياسُ جمعه » أسْرِيَاء « كغَنِيِّ ، وأغنياء ، وقيل : السَّرِيُّ : من » سَرَوْتُ الثَّوبَ « أي : نزعتهُ ، وسروتُ الجُلَّ عن الفرس ، أي : نزعتهُ؛ كأنَّ السريَّ سرى ثوبه؛ بخلاف المُدَّثِّر ، والمُتزمِّل ، قاله الراغب .
والثاني : أنه النَّهْر الصغير ، ويناسبه » فكُلِي واشْرَبِي « واستقاقه من » سَرَى ، يَسْرِي « لأن الماء يَسْري فيه ، فلامه عهلىىهذا ياء؛ وأنشدوا للبيدٍ : [ الرجز ]
3588- فَتَوسَّطَا عُرْضَ السَّريِّ فصَدَّعا ... مَسْجُورةً مُتَجَاوِزاً قُلاَّمُهَا
فصل
قال الحسن ، وابن زيدٍ : السَّريُّ هو عيسى ، والسَّريُّ : هو النَّبيلُ الجليلُ .
يقال : فلانٌ من سرواتِ قومه ، أي : من أشرافهم ، وروي أن الحسن رجع عنه .
وروي عن قتادة وغيره : أن الحسن تلا هذه الآية وإلى جنبه حُمَيْد بن عبد الرَّحمن الحَميريُّ -رضي الله عنه- : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } .
فقال : إن كان لسربًّا ، وإن كان لكريماً ، فقال له حميدٌ : يا أبا سعيد ، إنما هو الجدول ، فقال له الحسنُ » مِنْ ثمَّ [ تُعْجِبُنِي مُجَالستُكَ « ] .

واحتجَّ من قال : هو النَّهر « بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن السَّريِّ ، فقال -صلوات الله عليه وسلامه- هو الجدولُ » وبقوله سبحانه وتعالى : { فَكُلِي واشربي } فدلَّ على أنَّه على أنَّه النَّهر؛ حتى ينضاف الماءُ إلى الرُّطب ، فتأكل وتشرب .
واحتجَّ من قال : إنَّه عيسى بأنَّ النهر لا يكون تحتها ، بل إلى جنبها ، ولا يجوزُ أن يكون يُجابُ عنه بأن المراد أنَّه جعل النَّهر تحت أمرها يجري بأمرها ، ويقف بأمرها؛ لقوله : { وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا } [ الزخرف : 51 ] لأنَّ هذا حمل اللفظ على مجازه ، ولو حملناه على عيسى ، لم يحتج إلى هذا المجاز .
وأيضاً : فإنَّه موافقٌ لقوله : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] .
وأجيب : بما تقدَّم أن المكان المستوي ، إذا كان فيه مبدأٌ معيَّنٌ ، فكلُّ من كان أقرب منه ، كان فوق ، وكل من كان أبعد منه ، كان تحت .
فصل في التفريع على القول بأن السريّ النهر
إذا قيل : إنَّ السَّرِيَّ : هو النَّهْر ، ففيه وجهان :
الأول : قال ابنُ عبَّاس -رضي الله عنهما- : إنَّ جبرائيل -صلواتُ الله عليه وسلامه -ضرب برجله الأرض .
وقيل : عيسى؛ فظهرت عينُ ماءٍ عذبٍ ، وجرى .
وقيل : كان هناك ماءٌ جارٍ؛ والأول اقربُ؛ لأن قوله { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } يدلُّ على الحدوث في ذلك الوقت؛ ولأنَّ الله تعالى ذكرهُ تعظيماً لشأنها ، وذلك لا يدلُّ إلا على الوجه الذي قلناه .
وقيل : كان هناك نهرٌ يابسٌ أجرى الله فيه الماء ، وحيث النخلة اليابسة ، فأورقتْ ، وأثمرتْ ، وأرطبتْ .
قال أبو عبيدة والفَّراء : السَّريُّ : هو النَّهْرُ مطلقاً .
وقال الأخفشُ : هو النَّهْرُ الصَّغير .
قوله تعالى : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } : يجوز أن تكون الباءُ في « بِجِذْعٍ » زائدة ، كهي في قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] [ وقوله ] :
3589- . . .. . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
وأنشد الطبريُّ -رحمة الله تعالى- : [ الطويل ]
3590- بِوَادٍ يمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صدْرُهُ ... وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهَانِ
أي : ينبت المرخ أي : هُزِّي جذْعَ النَّخلةِ .
أو حركي جذْعَ النَّخلة . قال الفرَّاء : العربُ تقول : هزَّهُ ، وهزَّ به ، وأخذ الخطام وأخذ بالخطام ، وزوَّجتُك فلانة ، وبفُلانةٍ ويجوز أن يكون المفعول محذوفاً ، والجارُّ حالٌ من ذلك المحذوف ، تقديره : وهُزِّي إليك رُطباً كائناً بجذع النخلة ، ويجوز أن يكون هذا محمولاً على المعنى؛ إذ التقدير : هُزِّي الثمرةَ بسبب هزِّ الجِذْع ، أي : انفُضِي الجِذْع ، وإليه نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال : « أو افْعَلِي الهَزَّ » ؛ مقوله : [ الطويل ]
3591- ... يَجْرَحْ فِي عَراقِيبِهَا نَصْلِي
قال أبو حيَّان : وفي هذه الآية ، وفي قوله تعالى : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] ما يردُّ على القاعدة المقرَّرةِ في علم النَّحو : من أنَّه لا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتَّصل إلى ضميره المتَّصلِ ، إلاَّ في باب « ظنَّ » وفي لَفْظَتَيْ « فَقَدَ ، وعدِمَ » لا يقالُ : ضربْتُكَ ، ولا ضَرَبْتُني ، أي : ضَربْتَ أنْتَ نَفْسَكَ ، وضَربْتُ أنَا نفسي ، وإنما يؤتى في هذا بالنَّفْسِ ، وحكمُ المجرور بالحرف المنصوب؛ فلا يقال : هَزَزْتَ إليك ، ولا زيدٌ هزَّ إليه؛ ولذلك جعل النحويُّون « عَنْ » و « عَلَى » اسمين في قول امرئ القيس : [ الطويل ]

3592- دَعْ عَنْكَ نَهْباً صيحَ في حُجُراتِهِ ... ولكِنْ حدياً ما حَدِيثُ الرَّواحِلِ
وقول الآخر : [ المتقارب ]
3593- هَوِّنْ عليمَ فإنَّ الأمُورَ ... بكَفِّ الإلهِ مقاديرُهَا
وقد ثبت بذلك كونهما اسمين؛ لدُخُولِ حرفِ الجرِّ عليهما في قوله : [ الطويل ]
3594- غَدَتْ من عليْهِ بعدما تمَّ ظمؤهَا ... تَصِلُ وعن قَيْضٍ بِبَيْدَاءَ مَجْهَلِ
وقول الآخر : [ البسيط ]
3595- فَقُلْتُ للرَّكْبِ لمَّا أن عَلا بِهِمُ ... مِنْ عَنْ يمينِ الحُبَيَّا نظرةٌ قَبْلُ
وأمَّا « إلى » فحرفٌ بلا خلافٍ ، فلا يمكنُ فيها أن تكون اسماً؛ ك « عَنْ » و « عَلَى » ثم أجاب : بأنَّ « إليكِ » في الآيتين لا تتعلقُ بالفعل قبله ، إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ على جهةِ البيان ، تقديره : « أعني إليك » قال : « كما تأولوا ذلك في قوله : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] في أحد الأوجه » .
قال شهاب الدين -رضي الله تعالى عنه- : وفيه ذلك جوابان آخران :
أحدهما : أن الفعل الممنوع إلى الضمير المتصل ، إنما هو من حيث يكون الفعلُ واقعاً بذلك الضمير ، والضمير محلٌّ له؛ نحو : « دَعْ عنْكَ » و « هوِّنْ عليْكَ » وأمَّا الهزُّ والضمُّ ، فليسا واقعين بالكاف ، فلا محذور .
والثاني : أنَّ الكلام على حذف مضافٍ ، تقديره : هُزِّي إلى جهتك ونحوك واضمم إلى جهتك ونحوك .
فصل في المراد بجذع النخلة
قال [ القفال ] : الجِذْعُ من النَّخلة : هو الأسفل ، وما دُون الرَّأس الذيىعليه الثَّمرة .
وقال قطربٌ : كُلُّ خشبة في أصل شجرة ، فهي جذعٌ .
قوله : « تُسَاقِطْ » قرأ حمزةُ « تَسَاقَطْ » بفتح التاء ، وتخفيف السين ، وفتح القاف ، والباقون -غير حفص- كذلك إلا أنَّهم شدَّدُوا السِّين ، وحفصٌ ، بضم التاء ، وتخفيف السين ، وكسر القاف .
فأصلُ قراءةِ غير حفص « تتساقطْ » بتاءين ، مضارع « تَساقَطَ » فحذف حمزة إحدى التاءين تخفيفاً؛ نحو : { تَنَزَّلُ } [ القدر : 4 ] و { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] ، والباقون أدغمُوا في السِّين ، وقراءة حفص مضارعُ « سَاقَطَ » .
وقرأ الأعمش ، والبراء [ بنُ عازبٍ ] « يَسَّاقَطْ » كالجماعة ، إلا أنه بالياء من تحتُ ، أدغم التاء في السِّين؛ إذ الأصلُ : « يتساقَط » فهو مضارعُ « اسَّاقَطَ » وأصله « يَتَساقَطُ » فأدغمَ ، واجتلبتْ همزة الوصل؛ ك « ادَّارَأ » في « تَدَارَأ » .
ونْقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ :
وافقهُ مسروقٌ في الأولى ، وهي « تُسْقِطْ » بضم التاء ، وسكون السين ، وكسر القاف من « أسْقَطَ » .
والثانية : كذلك إلا أنه بالياء من تحتُ .
الثالثةُ كذلك إلاّض أنه رفع « رُطَباً جَنِيًّا » بالفاعلية .
وقُرِئَ « تَتَسَاقَط » بتاءين من فوقُ ، وهو أصل قراءة الجماعة ، وتَسْقُط ويَسْقُط ، بفتح التاء والياء ، وسكون السين ، وضمِّ القاف ، فرفعُ الرطب بالفاعلية ، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة ، ومن قرأ بالتاء من فوق ، فالفعل مسندٌ : إمَّا للنَّخلة ، وإمَّا للثمرةِ المفهومة من السياق ، وإمَّا للجذْعِ ، وجاز تأنيثُ فعله؛ لإضافته إلى مؤنَّث؛ فهو كقوله : [ الطويل ]

3596- ... كَمَا شَرقَتْ صَدْرُ القناةِ مِن الدَّمِ
وكقراءة { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } [ يوسف : 10 ] ومن قرأ بالياء من تحت ، فالضميرُ للجذْعِ ، وقيل : للثَّمر المدلول عليه بالسيِّاق .
وأمَّا نصب « رُطَباً » فلا يخرجُ عن كونه تمييزاً ، أو حالاً موطِّئة ، إن كان الفعل قبله لازماً ، أو مفعولاً به ، إن كان الفعل متعدِّياً ، [ والذَّكِيُّ ] يردُّ كلَّ شيءٍ إلى ما يليقُ به من القراءات ، وجوَّز المبرِّد في نصبه وجهاً غريباً : وهو أن يكون مفعولاً به ب « هُزِّي » وعلى هذا ، فتكون المسألةُ من باب التنازع في بعض القراءات : وهي أن يكون الفعل فيها متعدِّياً ، وتكون المسألةُ من إعمال الثاني ، للحذف من الأوَّل .
وقرأ طلحة بن سليمان « جنيًّا » بكسرِ الجيم إتباعاً لكسرةِ النون .
والرُّطبُ : اسم جنسٍ برطبة؛ بخلاف « تُخَم » فإنَّه جمعٌ لتخمة ، والفرقُ : أنهم لزمُوا تذكيرهُ ، فقالوا : هو الرطبُ ، وتأنيث ذاك ، فقالوا : هي التُّخَمُ ، فذكَّرُوا « الرُّطَب » باعتبار الجنس ، وأنَّثُوا « التُّخَمَ » باعتبار الجمعيَّة ، وهو فرقٌ لطيفٌ ، ويجمعُ على « أرطابٍِ » شذوذاً كربع وأرباع ، والرُّطب : ما قطع قبل يبسه وجفافه ، وخصَّ الرُّطب بالرُّطبِ من التَّمر ، وأرطبَ النَّخْلُ؛ نحو : أتْمَرَ وأجْنَى .
والجَنِيُّ : ما طاب ، وصلح للاجتناء ، وهو « فَعِيلٌ » بمعنى مفعول أي رُطَباً مَجنيًّا ، وقيل : بمعنى فاعلٍ ، أي : طريًّا ، والجنى والجنيُّ أيضاً : المُجْتَنَى من العسلِ ، وأجْنَى الشَّجَرُ : أدْرَكَ ثمرهُ ، وأجنتِ الأرضُ : كَثُرَ جناها ، واستعير من ذلك « جنى فلانٌ جنايةً » كما استعير « اجْتَرَمَ جَريمَةً » .
فصل في معنى الآية
المعنى جمعنا لك بين الشُّرب والأكل .
قال عمروُ بنُ ميمُون : ليس شيءٌ خيرٌ من الثَّمر والرُّطب ، ثم تلا هذه الآية .
وقال بعضُ العلماءِ : أكْلُ الرُّطبِ والثَّمرةِ للمرأةِ الَّتي ضربها الطَّلق يُسَهِّل عليها الولادة .
قال الرَّبيعُ بنُ خيثمٍ « ما للنُّفساءِ عندي خيرٌ من الرُّطب ، ولا للمرضِ خيرٌ من العسل .
قالت المعتزلةُ : هذه الأفعال الخارقةُ للعادةِ كانت معجزة لزكريَّا وغيره من الأنبياء؛ وهذا باطلٌ؛ لأنَّ زكريَّا -صلوات الله عليه وسلامه- ما كان له علمٌ بحالها ومكانها ، فكيف بتلك المعجزات؟ بل الحقُّ أنها كانت كراماتٍ لمريم ، أو إرهاصاً لعيسى- صلوات الله عليهما- ، لأنَّ النَّخلة لم تكُن مثمرةً ، إذا ذاك؛ لأن ميلادهُ كان في زمان الشتاء ، وليس ذاك وقت ثَمر .
قوله تعالى : { وَقَرِّي عَيْناً } : نصب » عًيْناً « على التمييز منقولٌ من الفاعل؛ إذ الأصل : لتقرَّ عينُك ، والعامَّة على فتح القاف من » قَرِّي « أمراً من قرَّت عينهُ تَقَرَّ ، بكسر العين في الماضي ، وفتحها في المضارع .

وقُرئ بكسر القاف ، وهي لغةُ نجدٍ؛ يقولون : قرَّت عينهُ تقرُّ ، بفتح العين في الماضي ، وكسرها في المضارع ، والمشهورُ : أن مكسور العين في الماضي ل « العَيْنِ » ، والمفتوحها في « المَكَان » يقال : قررتُ بالمكانِ اقرُّ به ، وقد يقال : قررتُ بالمكانِ بالكسر ، وسيأتي ذلك في قوله تعالى { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ] .
وفي وصف العين بذلك تأويلان «
أحدهما : أنَّه مأخوذٌ من » القُرّ « وهو البردُ : وذلك أنَّ العين ، إذا فرح صاحبها ، كان دمُعها قارًّا ، بارداً ، وإذا حزن ، كان حارًّا؛ ولذلك قالوا في الدعاء عليه : » أسْخَنَ اللهُ عيْنَهُ « وفي الدعاء له : » أقر اللهُ عيْنه « وما أحلى قول أبي تمَّام -رحمه الله تعالى- : [ الطويل ]
3597- فأمَّا عُيُونُ العاشِقينَ فأسْخِنَتْ ... وأمَّا عُيونُ الشَّامتينَ فقرَّتِ
والثاني : أنه مأخوذٌ من الاستقرار ، والمعنى : أعطاه الله ما يسكِّنُ عينه فلا تطمحُ إلى غيره .
المعنى : فكلي من الرطب واشربي من النهر » وقرّي عيناً « وطيبي نفساً ، وقدَّم الأكل على الشرب؛ لأن حاجة النُّفساء ، إلى الرُّطب أشدُّ من احتياجها إلى شرب الماء؛ لكثرة ما سال منها من الدَّم ، قيل : » قَرِّي عيْناً « بولدك عيسى ، وتقدَّم معناه .
فإن قيل : إن مضرَّة الخوف أشدُّ من مضرَّة الجُوع والعطشِ؛ لأنَّ الخَوْفَ ألمُ الرُّوح ، والجُوع ألمُ البدنِ ، وألم الرُّوح أقوى من ألم البدنِ ، يروى أنَّه أجيعتْ شاةٌ ، فقُدِّم إليها علفٌ ، وعندها ذئبٌ ، فبقيت الشَّاة مدَّة مديدة لا تتناول العلف ، مع جوعها؛ خوفاً من الذئب ، ثم كسر رجلها ، وقدم العلفُ إليها ، فتناولت العلف ، مع ألم البدن؛ فدلَّ ذلك على أنَّ ألم الخوف أشدُّ من ألم البدنِ ، وإذا كان كذلك ، فلم قدَّم دفع ضرر الجُوع والعطش على دفع ضرر الخوف؟ .
فالجوابُ : لأنَّ هذا الخوف كان قليلاً؛ لأنَّ بشارة جبريل -صلوات الله عليه- كانت قد تقدَّمت ، فما كانت تحتاجُ إلى التَّذكرة مرَّة أخرى .
قوله تعالى : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ } دخلت » إن « الشرطيةُ على » ما « الزائدةِ للتوكيد ، فأدغمتْ فيها ، وكتبتْ متَّصلة ، و » تَرَينَّ « تقدَّم تصريفه .
أي : » أن تري « ، فدخلت عليه نونُ التَّوكيد ، فكسرتِ الياءُ ، لالتقاء الساكنين .
معناه : فإمَّا ترينَّ من البشر أحداً ، فسألك عن ولدكِ والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة ، وقرأ أبو عمروٍ في رواية » ترَئِنَّ « بهمزة مكسورة بدل الياء ، وكذلك رُوي عنه » لتَرؤنَّ « بإبدالِ الواو همزةً ، قال الزمخشري : » هذا من لٌغةِ من يقولُ : لبَأتُ بالحَجِّ ، وحلأتُ الَّسويقَ « -يعني بالهمز- وذلك لتآخ بين الهمز وحروف اللِّين » وتجَرَّأ ابنُ خالويه على أبي عمروٍ؛ فقال : « هو لَحْنٌ عند أكْثَرِ النَّحويِّين » .
وقرأ أبو جعفر قارئُ المدينةِ ، وشيبةُ ، وطلحةُ « تَرَيْنَ » بياءٍ ساكنة ، ونون خفيفة ، قال أبن جني : « وهي شاذَّةٌ » .

قال شهاب الدين : لأنَّه كان ينبغي أن يؤثِّر الجازمُ ، فيحذف نون الرفع؛ كقُول الأفوهِ : [ السريع ]
3598- إمَّا تَرَيْ رَأسِي أزْرَى بِهِ ... ماسُ زمانٍ ذِ انتِكاثٍ مَئُوس
ولم يؤُثِّر هنا شذوذاً ، وهذا نظيرُ قول الآخر : [ البسيط ]
3599- لولا فَوارِسُ مِنْ نُعْمٍ وأسْرتِهِمْ ... يَوْمَ الصُّليْفاءِ لمْ يُوفونَ بالجَارِ
فلم يعمل « لَمْ » وأبقى نون الرَّفع . و « من البشر » حالٌ من « أحَداً » لأنه لو تأخَّر ، لكان وصفاً ، وقال أبو البقاء : « أو مفعول » يعني متعلِّق بنفس الفعل قبله .
قوله تعالى : « فَقُولِي » بين هذا الجواب ، وشرطه جملةٌ محذوفةٌ ، تقديره : فإمَّا ترينَّ من البشر أحداً ، فسألك الكلام ، فقُولي ، وبهذا المقدَّر نخلصُ من إشكالٍ : وهو أنَّ قولها « فَلَنْ أكَلِّمَ اليومَ إنسيًّا » كلامٌ؛ فيكون ذلك تناقضاً؛ لأنها قد كلَّمت إنسيًّا بهذا الكلامِ ، وجوابه ما تقدَّم .
ولذلك قال بعضهم : إنَّها ما نذرتْ في الحال ، بل صبرتْ؛ حتَّى أتاها القَوْمَ ، فذكرت لهم : { إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } .
وقيل : المرادُ بقوله « فقٌولي » إلى لآخره ، أنه بالإشارة ، وليس بشيء؛ بل المعنى : فلن أكلِّم اليوم إنسيًّا بعد هذا الكلامِ .
وقرأ زيدُ بن عليٍّ « صِيَاماً » بدل « صوماً » وهما مصدران .
فصل في معنى صوماً
معنى قوله تعالى : « صَوْماً » : أي صمتاً ، وكذلك كان يقرأ ابن مسعُود -رضي الله عنه- ، والصَّوم في اللُّغة ، الإمْسَاك عن الطَّعام والكلام .
قال السديُّ : كان في بني إسرائيل من إذا أراد أن يجتهد ، صام عن الكلام ، كما يصوم عن الطَّعام ، فلا يتكلَّم حتَّى يُمْسِيَ .
قيل : كانت تُكَلِّمُ الملائكة ، ولا تكلِّم الإنْسَ .
قيل : أمرها الله تعالى بنذر الصَّمْت؛ لئلاَّ تشرع مه من اتَّهَمَهَا في الكلام؛ لمعنيين :
أحدهما : أن كلام عيسى -صلوات الله عليه- أقوى في إزالةِ التُّهمَة من كلامهما ، وفيه دلالةٌ على أنَّ تفويض [ الأمر ] إلى الأفضلِ أولى .
الثانية : كراهةُ مجادلة السُّفهاء ، وفيه أنَّ السُّكُوت عن السَّفيه واجبٌ ، ومن أذلِّ الناس سفيهٌ لم يجد مسافهاً .
قوله تعالى : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } : « به » في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل « أتَتْ » ، [ أي : أتَتْ ] مصاحبة له؛ نحو : جاء بثيابه ، أيك ملتبساً بها ، ويجوز أن تكون الباءُ متعلقة بالإتيان ، وأمَّا « تَحْملُه » فيجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل « أتَتْ » ويجوز أن يكون حالاً من الهاء في « به » وظاهر كلام أبي البقاء : أنَّها حالٌ من ضمير مريم وعيسى معاً؛ وفيه نظرٌ .
قوله تعالى : شَيْئاً « مفعولٌ به ، أي : فعلِت شيئاً ، أو مصدرٌ ، أي : نوعاً من المجيءِ غريباً ، والفَرِيُّ : العظيمُ من الأمر؛ يقال في الخَيْر والشرِّ ، وقيل : الفَرِيُّ : العجيبُ ، وقيل : المُفْتَعَلُ ، ومن الأول ، الحديثُ في وصف عمر -رضي الله عنه- : » فَلَمْ أرَ عَبْقرِيًّا يَفْرِي فريَّهُ « والفَرِيُ : قطعُ الجلد للخَرْزِ والإصلاح ، والإفْرَاء : إفساده ، وفي المثل : جاء يَفْرِي الفَرِيَّ ، أي : يعمل العمل العظيم؛ وقال : [ الكامل ]

3600- فلأنْتَ تَفْرِي ما خَلقْتَ وبَعْ ... ضُ القَوْمِ يَخْلقُ يَخْلقُ ثُمَّ لا يَفْري
وقرأ أبو حيوة فيما نقل عنه ابنُ خالويه « فَرِيئاً » بالهمز ، وفيما نقل ابن عطية « فَرْياً » بسكون الراء .
وقرأ عمر بن لجأ « ما كَانَ أباَك امْرُؤ سَوْءٍ » جعل النكرة الاسم ، والمعرفة الخبر؛ كقوله : [ الوافر ]
3601- ... يَكُونُ مِزاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ
وقوله : [ الوافر ]
3062- ... ولا يَكُ مَوْقفٌ مِنْكِ الوَداعَا
وهنا أحسنُ لوجودِ الإضافةِ في الاسم .
فصل في كيفية ولادة مريم وكلام عيسى لها ولقومه
قيل : إنَّها ولدته ثم حملته في الحال إلى قومها .
وقال ابنُ عباس ، والكلبيُّ : احتمل يوسفُ النَّجَّار مريم ، [ وابنها ] عيسى إلى غارٍ ، ومكثَ أربعين يوماً؛ حتَّى طهرتْ من نفاسها ، ثم حملته مريمُ إلى قومها ، فكلَّمها عيسى في الطَّريق؛ فقال : يا أمَّاه ، أبشري؛ فإنِّي عبد الله ، ومسيحه ، فلما دخلت على أهلها ومعها الصَّبِيُّ ، بكَوْا ، وحَزِنُوا ، وكانُوا أهل بيت صالحين؛ فقالوا { يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } عظيماً مُكراً .
قال أبو عبيدة : كُلُّ أمرٍ فائق من عجب ، أو عملٍ ، فهو فَرِيٌّ؛ وهذا منهم على وجه الذَّمِّ ، والتوبيخ؛ لقولهم بعده : { ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } .
قوله تعالى : { ياأخت هَارُونَ } يريدون : يا شبيهة هارون ، قال قتادةُ ، وكعبٌ ، وابنُ زيدٍ ، والمغيرة بنُ شعبة -رضي الله عنهم- : كان هارُون رجلاً صالحاً مقدِّماً في بني إسرائيل ، رُوِيَ أنَّهُ تبعَ جنازتهُ يوم مات أربعُون ألفاً ، كلُّهم يسمَّى هارون من بني إسرائيل سوى سائر النّاس ، شبَّهُوها به على معنى أنَّنا ظننَّا أنَّك مثلهُ في الصَّلاح ، وليس المرادُ منه الأخُوَّة في النَّسب؛ كقوله سبحانه وتعالى : { إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين } [ الإسراء : 27 ] .
روى المغيرةُ بنُ شعبة -رضي الله عنه- قال : لما قدمتُ [ خراسان ] سالُوني ، فقالوا : إنَّكم تقرءون : { ياأخت هَارُونَ } وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ، فلمَّا قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتهُ عن ذلك ، فقال : إنَّهم كانُوا يُسمَّون بأنبيائهم والصَّالحين قبلهم .
قال ابن كثيرٍ : وأخطأ محمَّد بن كعبٍ القرظيُّ في زعمه أنَّها أختُ موسى وهارون نسباً؛ فإنَّ بينهما من الدُّهُور الطَّويلة ما لا يخفى على من عندهُ أدنى علم ، وكأنَّه غرَّه أنَّ في التَّوراة أن مريم -أخت موسى ، وهارون- ضربت بالدُّفِّ يوم نجَّى الله موسى وقومه ، وغرقَ فرعونُ وجُنودُه ، فاعتقد أنَّ هذه هي تلك ، وهذا في غاية البُطلان ومخالفةٌ للحديث الصحيح المتقدِّم .
وقال الكلبيُّ : كان هارونُ أخا مريم من أبيها ، وكان أمثل رجُل في بني إسرائيل .
وقال السُّديُّ : إنَّما عنوا به هارُون أخا موسى ، لأنَّها كانت من نسله ، كم يقال للتميميِّ : يا أخا تميمٍ ، ويا أخا همدان ، أي : يا واحداً منهم .

وقيل : كان هاروُن فاسقاً في بني إسرائيل مُعْلِناً بالفِسْقُ ، فشبَّهوها به . وقول الكلبيّ أقربُ؛ لوجهين :
الأول : أن الأصل في الكلام الحقيقةُ؛ فيحملُ الكلامُ على أخيها المسمَّى ب « هارُونَ » .
الثاني : أنها أضيفت إليه ، ووُصف أبواها بالصَّلاح؛ وحينئذ يصيرُ لتوبيخُ أشدَّ ، لأنَّ من كان حال أبويه وأخيه هذا الحال ، يكونُ صدور الذَّنْبِ منه أفحش .
ثم قالوا : { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ } .
قال ابن عبَّاس : أي : زانياً ، « وما كانَتْ أمُّك » حنَّة « بغيَّا » أي : زانية ، فمن أين لك هذا الولدُ .
قوله تعالى : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } : الإشارةُ معروفةٌ تكون باليد والعين وغير ذلك ، وألفها عن ياءٍ ، وأنشدوا لكثيرٍ : [ الطويل ]
3603- فقُلْتُ وفي الأحشاءِ داءٌ مُخامِرٌ ... ألا حبَّذا يا عزُّ ذَاكَ التَّشايرُ
قوله تعالى : { مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } في « كَانَ » هذه أقوالٌ :
أحدها : أنها زائدةٌ ، وهو قولُ أبي عبيدٍ ، أي : كيف نُكَلِّمُ من في المهد ، و « صَبِيَّا » على هذا : نصبٌ على الحالِ من الضمير المستتر في الجارُ والمجرورِ الواقع صلة ، وقد ردَّ أبو بكرٍ هذا القول- أعني كونها زائدة- بأنها لو كانت زائدة ، لما نصبت الخبر ، وهذه قد نصبْ « صَبيَّا » وهذا الردُّ مرودٌ بما ذكرتُه من نصبه على الحال ، لا الخبر .
الثاني : أنها تامَّةٌ بمعنى حدوث ووجد ، والتقدير : كيف نكلمُ من وجد صبيَّا ، و « صبيَّا » حال من الضمير في « كان » .
الثالث : أنها بمعنى ضار ، أي : كيف نكلِّم من صار في المهد صبيَّا ، و « صَبِيَّا » على هذا : خبرها؛ فهو كقوله : [ الطويل ]
3604- .. قَطَا الحَزْنِ قد كَانَتْ فِرَاخَاً بُيُوضُهَا
الرابع : أنها النَّاقضةُ على بابها من دلالتها على اقتران مضمونِ الجملة بالزمان الماضي ، من غير تعرُّضٍ للانقطاع؛ كقوله تعالى : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] ولذلك يعبَّر عنها بأنَّها ترادفُ « لَمْ تَزلْ » قال الزمخشريُّ : « كان » لإيقاع مضمون الجملة في زمانٍ ماض مبهمٍ صالح للقريبِ والبعيد ، وهو هنا لقريبة خاصَّة ، والدَّالُّ عليه معنى الكلام ، وأنه مسوقٌ للتعجُّب ، ووجه آخر : وهو أن يكون « نُكَلِّمُ » حكاية حالٍ ماضيةٍ ، أي : كيف عُهِدَ قبل عيسى أن يكلم النَّاس في المهد حتى نُكلمه نحنُ؟
وأمَّا « مَنْ » فالظاهرُ أنَّها موصولةٌ بعني الذي ، وضعفٌ جعلها نكرة موصوفة ، أي : كيف نكلِّم شخصاً ، أو مولوداً ، وجوَّز الفرَّاء والزجاج فيها أن تكون شرطيَّة ، و « كان » بمعنى « يَكُنْ » وجوابُ الشرطِ : إمَّا متقدِّمٌ ، وهو « كَيْفَ نُكَلِّمُ » أو محذوفٌ ، لدلالةِ هذا عليه ، أي : من يكن في المهدِ صبياً ، فكيف نُكلِّمُهُ؟ فهي على هذا : مرفوعة المحلِّ بالابتداءِ ، وعلى ما قبله : منصوبته ب « نُكَلِّمُ » وإذا قيل بأنَّ « كان » زائدةٌ؛ هل تتحمَّلُ ضميراً ، أم لا؟ فيه خلافٌ ، ومن جوَّز ، استدلَّ بقوله : [ الوافر ]

3605- فكَيْفَ إذا مررْت بدارِ قومٍ ... وجيرانٍ لنَا كَانُوا كِراَم
فرفع بها الواو ، ومن منع ، تأوَّل البيت ، بأنَّها غيرُ زائدةٍ ، وأنَّ خبرها هو « لنا » قُدِّم عليها ، وفصل بالجملة بين الصفة ، والموصوف .
وأبو عمرو يدغمُ الدال في الصاد ، والأكثرون على أنه إخفاء .
فصل في مناظرة مريم لقومها
لمَّا بالغوا في توبيخ مريم سكتت ، وأشارت إلى عيسى ، أن كلِّمُوه .
قال ابنُ مسعود : لمَّا لم يكُن لها حجَّةٌ ، أشارتْ إليه؛ ليكون كلامهُ حُجَّةً لها ، أي : هو الذي يُجيبُكُم ، إذا ناطَقْتُمُوه .
قال السديُّ : لما أشارتْ إليه؛ ليكون كلامُه حجَّة ، غضبُوا ، وقالوا : لسُخْريتُهَا بنا أشدُّ من زناها ، و { قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } ، والمهدُ : هو حجرها .
وقيل : هو المهدُ بعينه .
والمعنى : كيف نكلِّم صبيِّا سبيلهُ أن ينام في المهد؟!
قال السديُّ : فلما سمعَ عيسى - صلوات الله عليه- كلامهم ، وكان يرضعُ ، ترك الرَّضاع ، وأقبل عليهم بوجهه ، واتَّكأ على يساره ، وأشار بسبَّابة يمينه ، فقال : { إِنِّي عَبْدُ الله } .
وقيل : كلَّمهم بذلك ، ثم لم يتكلَّم؛ حتى بلغ مبلغاً يتكلَّم فيه الصبانُ ، وقال وهبّ : أتاها زكريَّا- عليه الصلاة والسلام- عند مناظرتها اليهُود ، فقال لعيس : انْطِقْ بحُجَّتِكَ ، إن كنت أمرتَ بها ، فقال عيسى عند ذلك وهو ابنُ أربعين يوماً- وقال مقاتلٌ : بل هو يوم ولد- : إنَّي عبد الله ، أقرَّ على نفسه بالعُبوديَّة لله- عزَّ وجلَّ- أول ما تكلَّم لئلا يتَّخذ إلهاً ، وفيه فوائد :
الأولى : أن ذلك الكلام في ذلك الوقت : كان سبباً لإزالةِ الوَهْم الذي ذهب إليه النَّصارى؛ فلا جرم : أوَّل ما تكلَّم ، قال : { إِنِّي عَبْدُ الله } .
الثانية : أن الحاجة في ذلك الوقت ، إنَّما هو نفي تُهْمة الزِّنا عن مريم ، ثم إنَّ عيسى -صلوات الله عليه- لم ينصَّ على ذلك ، وإنَّما نصَّ على إثبات عبوديَّة نفسه ، كأنَّه جعل إزالة التُّهْمَة عن الله تعالى أولى من إزالة التُّهمة عن الأمِّ؛ فلهذا : أوَّلُ ما تكلَّم إنما تكلَّم بقوله : { إِنِّي عَبْدُ الله } .
الثالثة : أنَّ التكلُّم بإزالة التُّهْمَة عن [ الله تعالى ] يفيد إزالةَ التُّهمة عن الأمِّ؛ لأنَّ الله تعالى لا يخص الفاجرة بولدٍ في هذه الدرجة العالية ، والمرتبة العظيمة ، أمَّا التكلُّم بإزالةِ التُّهْمَة عن الأمِّ ، فلا يفيدُ إزالة التُّهْمَة عن [ الله تعالى ] ، فكان الاشتغالُ بذلك هاهنا أولى .
فصل في إبطال قول النصارى
في إبطال قول النصارى وجوه :
الأول : أنَّهُم وافقونا على أنَّ ذاته -سبحانه وتعالى- لم تحلَّ في ناسُوت عيسى ، بل قالوا : الكلمةُ حلَّت فيه ، والمرادُ من الكلمة العلمُ ، فنقول : العلمُ ، لما حصل لعيسى ، ففي تلك الحالةِ : إمَّا أن يقال : إنَّه بقيَ في ذاتِ الله تعالى ، أو ما بقي .

فإن كان الأوَّل ، لزِمَ حُصُول الصِّفَة الواحدة في مَحَلَّيْنِ ، وذلك غير معقول ، ولأنَّه لو جاز أن يقال : العلمُ الحاصلُ في ذات عيسى هو العلمُ الحاصلُ في ذاتِ الله بعينه ، فلم لا يجوزُ في حقِّ كلِّ واحدٍ ذلك حتى يكون العلمُ الحاصلُ لكُلِّ واحدٍ هو العلمُ الحاصلُ لذات الله تعالى؟ وإن كان الثاني ، لزم أن يقال : إنَّ الله تعالى لا يبقى عالماً بعد حلول علمه في عيسى ، وذلك ممَّا لا يقوله عاقلٌ .
قال ابنُ الخطيب :
وثانيها : مناظرة جرت بيني وبين بعض النَّصارى ، فقلتُ له : هل تُسلِّم أنَّ عدم الدَّليل لا يدُلُّ على عدم المدلول ، أمْ لا؟ فإن أنكرت ، لزمكَ لا يكون الله قديماً؛ لأنَّ دليل وجُودِهِ هو العامُ ، فإذا لَزِمَ من عدمِ الدَّليل عدمُ المدلول ، لزِمَ من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل ، وإن سلَّمت أنَّه لا يلزمُ من عدم الدَّليل عدمُ المدلول ، فنقولُ : إذا جوَّزْتَ اتحادَ كلمة الله بعيسى أو حُلولها فيه ، فكيف عرفت أنََّ كلمة الله تعالى م حلَّتْ في زيْدٍ وعمرٍ؟ بل كيف عرفتَ أنَّها ما حلّت في هذه الهرَّة ، وفي هذا الكلب؟ فقال : إنَّ هذا السُّؤال لا يليقُ بك؛ لأنَّا إنَّما أثبتنا ذلك الاتحاد ، أو الحلول ، بناءً على ما ظهر على يد عيسى من إحياء الموتى ، وإبراءِ الأكمه ، والأبرصِ ، فإذا لم نجدْ شيئاً من ذلك ظهر على يد غيره ، فكيف نثبت الاتحادَ ، أو الحُلُول؟ فقلتُ له : إنِّي عرفتُ بهذا الكلام أنَّكَ ما عرفتَ أوَّل الكلامِ؛ لأنَّك سلَّمْتَ لي أنَّ عدم الدليل لا يدلُّ على عدم المدلُول ، وإذا كان هذا الحُلولُ غير ممتنعٍ في الجملة ، فأكثر ما في هذا الباب أنَّه وُجِدَ ما يدلُّ على حصُوله في حقّ عيسى ، ولم يوجد ذلك الدَّليلُ في حقِّ زيدٍ وعمرو ، ولكن عدم الدليل لا يدلُّ على عدم المدلول لا يدلُّ على عدم المدلُول؛ فلا يلزمُ من عدم ظهورِ هذه الخوارق على يد زيدٍ وعمرٍو ، وعلى السِّنَّوْرِ والكلبِ عدمُ ذلك الحُلُول ، فثبت أنَّك مهما جوَّزْت القول بالاتِّحاد ، والحلول ، لزمك تجويزُ حُصُول ذلك الاتحادِ ، والحُلُُول ، فثبت أنَّك مهما جوَّزْت القول بالاتِّحاد ، والحلول ، لزمك تجويزُ حُصُولُ ذلك الاتحادِ ، والحُلُول في حقِّ كلِّ أحد ، بل في حق كل حيوان ونباتٍ ، ولكنَّ المذهب الذي يسُوقُ [ قائلهُ ] إلى مثل هذا [ القول ] الركيك ، يكُون باطلاً قطعاً ، ثم قلتُ [ له ] وكيف دلَّ إحياءُ الموتى ، وإبراءُ الأكمهِ ، والأبرصِ على ما قلت؟ أليس انقلابُ العصا ثعباناً أبعد من انقلاب الميِّت حيًّا ، فإذا ظهر على يد مُوسى ، ولم يدلُّ على إلهيته ، فبأن لا يدلَّ هذا على إلهيَّة عيسى أولى .
وثالثها : أن دلالة أحوال عيسى على العبوديَّة أقوى من دلالتها على الربوبيَّة؛ لأنَّه كان مجتهداً في العبادة ، والعبادةُ لا تليقُ إلا بالعبد ، وأنَّه كان في نهاية البُعْد عن الدُّنْيَا ، والاحترازِ عن أهلها حتى قالت النصارى : إنَّ اليهُود قتلُوه ، ومن كان في الضعف هكذا ، فكيف يليقُ به الرُّبُوبيِّة؟ .

ورابعها : أن المسيح : إمَّا أن يكون قديماً ، أو محدثاً ، والقولُ بقدمه باطلٌ؛ لأنَّا نعلمُ بالضَّرورةِ أنَّه وُلدَ ، وكان طفلاً ، ثم صار شابًّا ، وكان يأكُل ويَشْرب ، ويعرضُ له ما يعْرِضُ لسائر البشر ، وإنْ كان مُحْدِثاً ، كان مخلوقاً ، ولا معنى للعبوديَّة إلاَّ ذلك .
فإن قيل : المعنيُّ بالالهيَّة أنَّه حلَّت فيه صفةُ [ الإلهيَّة ، قلنا : ] هب أنَّه كان كذلك ، لكنَّ الحالَّ هو صفة الإلهِ ، والمسيح هو المحل ، والمحلُّ محدثٌ مخلوقٌ ، فالمسيحُ عبدٌ محدثٌ ، فكيف يمكنُ وصفه بالإلهيَّة؟ .
وخامسها : أنَّ الولد لا بُدَّ وأن يكون من جنس الوالد ، فإن كان لله تعالى ولدٌ ، فلا بُدَّ أن يكُون من جنسه ، فإذاً قد اشتركا في بعض الوجوه ، فإن يتميَّز أحدهما عن الآخر بأمر مَّا ، فكلُّ واحدٍ منهما هو الآخر ، وإن حصل الامتيازُ ، فما به الامتيازُ غيرُ ما به الاشتراكُ؛ فيلزمُ وقوعُ التَّركيب في ذاتِ الله تعالى ، وكلُّ مركَّب مُمْكِنٌ ، [ فالواجب ] ممكنٌ؛ هذا خلفٌ ، هذا على الاتِّحاد ، والحلول .
فإن قيل : قالوا : معنى كونه إلهاً أنَّه سبحانهُ خصَّ نفسه أو بدنهُ بالقُدرة على خلق الأجسام ، والتصرُّف في هذا العالمِ ، فهذا أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ النصارى نقلُوا عنه الضَّعف والعَجْز ، وأنَّ اليهود قتلُوه ، فلو كان قادراً على خَلْق الأجسام ، لما قَدَرُوا على قَتْله ، بل كان هو يقْتُلُهم ويَخْلَقُ لنفسه عَسْكَراً يذُبُّون عنه .
فإن قيل : قالُوا : معنى كونه إلهاً أنَّه اتَّخذه ابناً لنفسه؛ على سبيل التشريف ، وهو قد قال به قومٌ من النصارى ، يقال لهم الآريوسية ، وليس فيه كثير خطأ إلاَّ في اللفظ .
قوله تعالى : { آتَانِيَ الكتاب } قيل : معناه : سيُؤتيني الكتاب ، ويجعلني نبيًّا .
روى عكرمةُ عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- « أنَّ هذا إخبارٌ عمَّا كتبَ له في اللَِّوْح المحفُوظ؛ كما قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : متى كُنْتَ نبيًّا؟ قال : » كُنْتُ نبيًّا ، وآدمُ بَيْنَ الرُّوحِ والجسدِ « وعن الحسن -رضي الله عنه- أنَّه ألهمَ التوراة ، وهو في بطن أمِّه .
وقال الأكثرون : إنه أوتيَ الإنجيل ، وهو صغيرٌ طفلٌ ، وكان يعقلُ عقل الرِّجال .
فمن قال : الكتابُ : هو التَّوراة ، قال : لأنَّ الألف واللاَّم للعهد ، ولا معهود حينئذٍ إلاَّ التوراة ، ومن قال : الإنجيلُ ، قال » الألفُ واللاَّم للاستغراق ، وظاهرُ كلام عيسى -صلوات الله عليه- أنَّ الله تعالى آتاه الكتاب ، وجعله نبيًّا ، وأمره بالصَّلاة والزَّكاة ، وأن يدعو إلى الله تعالى ، وإلى دينه ، وشريعته من قبل أن يكلِّمهم ، وأنه تكلَّم مع أمَّه وأخبرها بحاله ، وأخبرها بأنَّه يكلِّمهم بما يدلُّ على براءتها ، فلهذا أشارتْ إليه بالكلامِ .
قال بعضهم : أخبر أنَّه نبيٌّ ، ولكَّنه ما كان رسولاً؛ لأنَّه في ذلك الوقت ما جاء بالشَّريعة ، ومعنى كونه نبيَّا : رفيعُ القدر عالي الدرجة؛ وهذا ضعيف لأنَّ النَّبيَّ في عرف الشَّرع هو الذي خصَّه الله بالنبوَّة وبالرِّسالة ، خصوصاً إذا قرن إليه ذكر الشَّرع ، وهو قوله : { وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة } ثم قال : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } .

وقال مجاهدٌ -رضي الله عنه- معلِّماً للخَيْر .
وقال عطاءٌ : أدعُو إلى الله ، وإلى توحيده وعبادته .
وقيل : مُباركاً على من اتَّبعني .
روى قتادةُ أنَّ امرأةً رأتهُ ، وهو يحيى الموتى ، ويُبْرِئ الأكمه والأبرص ، فقالت : طُوبَى لبطن حملك ، وثدي أرضعت به ، فقال عيسى مجيباً لها : طُوبَى لمن تلا كتابَ اللهِ واتبعَ ما فِيهِ ، وعملَ بِهِ ، ولمْ يَكُنْ جبَّاراً شَقِيَّاً .
قوله تعالى : { أَيْنَ مَا كُنتُ } يدلُّ على أن حاله لم يتغيَّر كما قيل : إنَّه عاد إلى حالِ الصِّغَر ، وزوالِ التَّكْلِيف .
قوله : { وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة } : هذه شرطيةٌ ، وجوابها : إمَّا محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم : أي : أينما كُنْتُ ، جعلني مباركاً ، وإمَّا متقدِّمٌ عند من يرى ذلك ، ولا جائزٌ أن تكون استفهاميةٌ؛ لأنَّه يلومُ أن يعمل فيها ما قبلها ، وأسماءُ الاستفهامِ لها صدرُ الكلامِ ، فيتعيَّنُ أن تكون شرطيةٌ؛ لأنها منحصرةٌ في هذين المعنيين .
ثم قال : { وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة } أي ، أمرني بهما .
فإن قيل : لم يكُن لعيسى مالٌ ، فكيف يؤمرُ بالزَّكاة؟ قيل : معناه : بالزَّكاة ، لو كان له مالٌ .
فإن قيل : كيف يُؤمَرُ بالصَّلاة والزَّكاة ، مع أنَّه كان طفلاً صغيراً ، والفلمُ مرفوعٌ عن الصَّغير؛ لقوله- صلوات الله عليه وسلامه- : « رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ » الحديث .
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنَّ قوله : { وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة } لا يدلُّ على أنَّه تعالى أوصاهُ بأدائهما في الحالِ ، بل بعد البُلُوغِ ، فيكونُ المعنى على أنَّه تعالى أوصَانِي بأدائهما في وَقْت وجوبهما عليَّ ، وهو وقتُ البُلُوغِ .
الثاني : لعلَّ الله تعالى ، لمَّا انفصل عيسى عن أمِّه- صلوات الله عليه- صيَّرهُ بالغاً ، عاقلاً ، تامَّ الخلقة؛ ويدلُّ عيه قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] فكما أنَّه تعالى خلق آدم- صلواتُ الله عليه وسلامه- تامَّا كاملاً دفعةً ، فكذا القولُ في عيسى صلوات الله عليه وهذا أقربُ إلى ظاهر اللَّفْظ ، لقوله : { مَا دُمْتُ حَيّاً } فإنَّه يفيدُ أنَّ هذا التَّكليف متوجِّه عليه في جميع زمانِ حياته ، ولكن لقائل أن يقول : لو كان الأمرُ كذلك ، لكان القومُ حين رأوهُ ، فقد رأوه شخصاً كامل الأعضاء ، تامَّ الخِلْقَة ، وصدورُ الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكونُ عجباً؛ فكان ينبغي ألاَّ يَعْجَبُوا .
والجوابُ أن يقال : إنَّه تعالى جعله مع صِغَرِ جثَّته قويَّ التركيب ، كامِلَ العَقْلِ ، بحيثُ كان يمكنه أداءُ الصَّلاة والزَّكاة ، والآيةُ دالَّة على أنَّ تكليفه لم يتغيَّر حين كان في الأرض ، وحين رُفع إلى السَّماء ، وحين ينزل مرَّة أخرى؛ لقوله { مَا دُمْتُ حَيّاً } .

قوله تعالى : { مَا دُمْتُ حَيّاً } « ما » مصدريةٌ ظرفيةٌ ، وتقدمُ « ما » على « دام » شرطٌ في إعمالها ، والتقدير : مُدَّة دوامِي حيَّاً ، ونقل ابن عطيَّة عن عاصم ، وجماعةٍ : أنهم قرءُوا « دُمْنُ » بضم الدَّالِ ، وعن ابن كثيرٍ ، وأبي عمرو ، وأهْلِ المدينة : « دِمْتُ » بكسرها ، وهذا لم نره لغيره ، وليس هو موجوداً في كتب القراءات المتواترة والشاذَّة الموجودة الآن ، فيجوزُ أن يكون اطَّلَعَ عليه في مصنف غريبِ ، ولا شكَّ أنَّ في « دَامَ » لغتين ، يقالُ : دمت تدوُمُ ، وهي اللغةُ الغاليةُ ، ودمتَ تدامُ؛ كخِفْتَ تخَافُ ، وتقدم نظيرُ هذا في مَاتَ يَمُوتُ ومَاتَ يَمَاتُ .
قوله تعالى : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي } : العامَّةُ على فتح الباء ، وفيه تأويلان :
أحدهما : أنه منصوبٌ نسقاً على « مباركاً » أي : وجعلني برَّا .
والثاني : أنَّه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ ، واختير هذا على الأوَّلِ؛ لأنَّ فيه فصلاُ كثيراً بجملةِ الوصيَّةِ ومتعلَّقها .
قال الزمخشريُّ : جعل ذاتهُ برَّا؛ لفَرْط برِّه ، ونصبه بفعل في معنى « أوْصَانِي » وهو « كَلَّفَنِي » لأنَّ أوْصَانِي بالصَّلاة ، وكلَّفَنِي بها واحدٌ .
وقُرئ « برَّا » بكسر الباء : إمَّا على حذفِ مضافٍ ، وإمَّا على المبالغة في جعله نفس المصدر ، وقد تقدَّم في البقرة : أنه يجوز أن يكون وصفاً على فعلِ ، وحكى الزَّهْراوِيُّ ، وأبو البقاء أنه قُرِئَ يكسر الباء ، والراء ، وتوجيهه : أنه نسقٌ على « الصَّلاة » أي : وأوصاني بالصَّلاة وبالزَّكَاة ، وبالبرِّ ، أو البرّ .
فصل فيما يشير إليه قوله « وبرَّا بوالدتي »
قوله : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي } إشارةٌ إلى تنزيه أمِّه عن الزِّنا؛ إذ لو كانت زانيةٌ ، لما كان الرسُول المعصومُ مأمُوراً بتعظيمها وبرِّها؛ لأنه تأكَّد حقَّها عليه؛ لتمحض إذ حقها لا والد له سواها .
قوله تعالى : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى؛ لأنَّه لما أخبر أنه تعالى ، جعله برًّا ، وما جعله جبَّاراً ، إنما يحسن لو أنَّ الله تعالى جعل غيره جبَّاراً ، وجعله [ غير ] برٍّ بأمِّه؛ فإن الله تعالى ، لو فعل ذلك بكلِّ أحدٍ ، لم يكُن لعيسى مزيَّةً تخصيصٍ بذلك ، ومعلومٌ أنه -صلواتُ الله عليه وسلامهُ- إنما ذكر ذلك في معرضِ التخصيصِ ، ومعنى قوله : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً } أي ما جعلني جبَّاراً متكبرِّاً ، بل أنا خاضعٌ لأمِّي ، متواضعٌ لها ، ولو كنتُ جبَّاراً متكبِّراً ، بل أنا خاضعٌ لأمِّي ، متواضعٌ لها ، ولو كنتُ جبَّاراً ، كنتُ عاصياً شقياً .
قال بعضُ العلماء : لا تجد العاق إلا جباراً شقياً ، وتلا : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } ولا تجد سيّئ الملكة إلا مختالاً فخُوراً ، وقرأ : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } [ النساء : 36 ] .
قوله تعالى : { والسلام عَلَيَّ } : الألف واللام في « السَّلام » للعهدِ؛ لأنه قد تقدم لفظه في قوله -عزَّ وجلَّ- : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ } [ الآية : 15 ] فهو كقوله :

{ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 15 ، 16 ] أي : ذلك السلامُ الموجَّه إلى يحيى مُوجَّهٌ إليَّ ، وقال الزمخشريُّ -رحمه الله- : « والصحيحُ أن يكون هذا التعريفُ تعريضاً باللعنةِ على متَّهِمِي مريم -عليها السلام- وأعدائها من اليهُود ، وتحقيقه : أنَّ اللاَّم لاستغراق الجنس ، فإذا قال : وجنسُ السَّلام عليَّ خاصَّة ، فقد عرَّض بأنَّ ضدَّه عليكم ، ونظيره قول موسى -صلوات الله عليه وسلامه- : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } [ طه : 47 ] .
يعني : أنَّ العذاب على من كذَّب ، وتولَّى ، وكان المقام مقام اللَّجاج والعِنَاد ، فيليق به هذا التعريضُ » .
فصل في الفرق بين السلام على يحيى ، والسلام على عيسى
رُوِيَ أن عيسى -صلواتُ الله عليه وسلامه- قال ليحيى : أنت خيرٌ منِّي؛ سلِّم الله عليك ، وسلَّمتُ على نفسي . وأجاب الحسنُ ، فقال : إن تسليمهُ على نفسه تسليمُ الله؛ لأنَّه إنَّما فعله بإذن الله .
قال القاضي : السَّلام عبارةٌ عمَّا يحصُل به الأمانُ ، ومنه السَّلامةُ في النِّعم ، وزوال الآفاتِ ، فكأنَّه سأل ربَّه ما أخبر الله تعالى أنه فعل بيحيى ، وأعظمُ احتياجِ الإنسانِ إلى السَّلامة في هذه الأحْوالِ الثلاثة ، وهي يومُ الولادةِ ، أي : السَّلامة عند الولادة من طَعْن الشَّيطان ، ويومُ الموت ، أي : عند الموت من الشَِّرك ، ويومُ البعث من الأهوال .
قال المفسِّرون : لمَّا كلَّمهم عيسى بهذا ، علمُوا براءةَ مريم ، ثم سكت عيسى -صلوات الله عليه وسلامه- ، فلَم يتكلَّم بعد ذلك حتّى بلغ المدَّة التي يتكلَّم فيها الصِّبْيَان .
قوله : « يومَ ولدتُ » منصوبٌ بما تضمنَّه « عَليَّ » من الاستقرار ، ولا يجوزُ نصبه ب « السَّلام للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولهِ ، وقرأ ويدُ بنُ عليٍّ » وَلَدَتْ « جعله فعلاً ماضياً مسنداً لضمير مريم ، والتاءُ للتأنيث ، و » حَيَّا « حالٌ مؤكِّدةٌ .
فصل في الرد على اليهود والنصارى
اعلم أن اليهُود والنَّصارى يُنْكِرُونَ أنَّ عيسى -صلوات الله عليه- تكلَّم في زمانِ الطفوليَّة؛ واحتجُّوا بأنَّ هذا من الوقائعِ العجيبة ، التي تتوافرُ الدَّواعِي على نقلها ، فلو وجدت ، لنُقلتْ بالتَّواتر ، ولو كان كذلكَ ، لعرفهُ النَّصارى ، لا سيَّما وهم أشدُّ النَّاسِ بحثاً عن أحواله ، وأشدُّ النَّاسِ غُلُوَّا فيه؛ حتَّى ادعوا كونهُ إلهاً ، ولا شكَّ أنَّ الكلام في الطفوليَّة من المناقب العظيمة ، فلمَّا لم يعرفه النصارى مع شدَّة الحبِّ ، وكمالِ البَحْثِ عنه ، علمنا أنَّه لم يُوجَدْ؛ ولأنَّ اليهود أظهرُوا عداوتهُ حين ادَّعى النُّبُوَّة والرسالة ، فلو أنَّه - صلوات الله عليه- تكلَّم في المَهْدِ ، لكانت عداوتهم معه أشدَّ ، ولكان قصدهم قتله أعظم ، فحيثُ لم يحصُل شيءٌ من ذلك ، علمنا أنَّه ما تكلَّم .
وأمَّا المسلمُون ، فاحتجُّوا بالعَقْل على أنه تكلَّم ، فقالوا : لولا كلامه الذي دلَّهم على براءة أمِّه عن الزِّنا ، لما تركُوا إقامة الحدِّ عليها ، ففي تَرْكِهِمْ لذلك دلالةٌ على أنَّه- صلوات الله عليه- تكلَّم في المَهْدِ .
وأجابُوا عن الشُّبْهة الأولى بأنَّه ربَّما كان الحاضرُون عند كلامه قليلين؛ فلذلك لم يشتهر .
وعن الثاني : لعلَّ اليهُود ما حَضَرُوا هناك ، وما سَمِعُوا كلامهُ ، وإنَّما سَمِعَ كلامهُ أقاربهُ؛ لإظهارِ براءَة أمّه؛ فلذلك لم يَشْتَغِلُوا بقَتْلِه .

ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)

قوله تعالى : { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ } : يجوز أن يكون « عِيسَى » خبراً ل « ذلك » ويجوز أن يكون بدلاً ، أو عطف بيان ، و « قَوْلُ الحقِّ » خبره ، ويجوز أن يكون « قَوْلُ الحقِّ » خبر مبتدأ مضمرْ ، أي : هو قولُ ، و « ابْنُ مَرْيَم » يجوز أن يكُونَ نعتاً ، أو بدلاً ، أو بياناً ، أو خبراً ثابتاً .
وقرأ عاصمٌ ، وحمزةُ ، وابنُ عامر « قَوْلَ الحقِّ » بالنَّصب ، والباقون بالرفع ، فالرفع على ما تقدَّم ، قال الزمخشري - رحمه الله- : « وارتفاعه على أنَّه خبرٌ ، بعد خبرٍ ، أو بدلٌ » . قال أبو حيَّان : « وهذا الذي ذكرُهُ لا يكُونُ إلاَّ على المجازِ في قولِ : وهو أن يراد به كلمةٌ اللهِ ، لأنَّ اللفظ لا يكُونُ الذَّات » .
والنَّصْبُ : يجوزُ فيه أن يكون مصدراً مؤكَّداً لمضمُون الجملة؛ كقولك : « هُوَ عَبْدُ الله الحقَّ ، لا الباطِلَ » أي : أقولُ قول الحقِّ ، فالحقُّ الصِّدقُ ، وهو من إضافةِ الموصوف إلى صفته ، أي : القول الحقَّ؛ كقوله : { وَعْدَ الصدق } [ الأحقاف : 16 ] أي : الوعد الصِّدق ، ويجوز أن يكون منصوباً على المَدْحِ ، إن أريد بالحقِّ الباري تعالى ، و « الَّذِي » نعتٌ للقول ، إن أريد به عيسى ، وسُمِّي قولاً كما سُمّي كلمةً ، لأنه عنها نشأ .
وذلك أنَّ الحق هو اسمُ الله تعالى ، فلا فرق بين أن نقول : عيسى هو كلمة الله ، وبين أن نقول : عيسى قولُ الحقِّ .
وقيل : هو منصوبٌ بإضمار « أعْنِي » وقيل : هو منصوبٌ على الحالِ من « عيسَى » ويؤيِّد هذا ما نُقِلَ عن الكسائيَّ في توجيهِ الرفعِ : أنه صفةٌ لعيسى .
وقرأ الأعمشُ « قالُ » برفع اللاَّم ، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً ، وقرأ الحسن « قُولُ » بضم القاف ، ورفع اللام وكذلك في الأنعام { قَوْلُهُ الحق } [ الأنعام : 73 ] ، وهي مصادر لِ « قالَ » يقالُ يَقُولُ قَوْلاً وقُولاً؛ كالرَّهْبِ ، والرُّهْب ، وقال أبو البقاء : « والقَالُ : اسمٌ للمصدر؛ مثلُ : القِيلِ ، وحُكِيَ » قُولُ الحقِّ « بضمّ القاف؛ مثل » الرُّوحِ « وهي لغةٌ فيه » . قال شهاب الدين : الظاهرُ أنَّ هذه مصادرُ كلُّها ، ليس بعضها اسماً للمصدر ، كما تقدَّم تقريره في الرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْبِ .
وقرأ طلحةُ والأعمشُ « قالَ الحقُّ » جعل « » قَالَ « فعلاً ماضياً ، و » الحَقُّ « فاعلٌ ، والمرادُ به الباري تعالى ، أي : قَالَ الهُ الحَقُّ : إنَّ عيسى هو كلمةُ الله ، ويكونُ قوله » الَّذِي فيهِ يَمْتُرُونَ « خبراً لمبتدأ محذوف .
وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب- كرم الله وجهه- والسلميُّ ، وداودُ بنُ أبي هندٍ ، ونافعٌ ، والكسائيُّ في رواية عنهما [ » تَمْتَرُونَ « بتاء ] الخطاب ، والباقون بياءِ الغيبة ، وتَمْتَرُون : تَفْتَعِلُون : إمَّا من المريةِ ، وهي الشَّكُّ ، وإمَّا من المراء ، وهو الجدالُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75