كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

فمن النُّحَاةِ من قالك الفاء تأتي بمعنى « الوَاوِ » فلا ترتب ، وجعل من ذلك هذه الآيةَ ، وهو ضَعِيفٌ ، والجمهور أجَابُوا عن ذلك بوجهين :
أحدهما : أنَّهُ على حذف الإرادة أي : أرَدْنَا إهلاكها كقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } [ المائدة : 6 ] ، { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن } [ النحل : 98 ] ، « إذَا دَخَل أحَدُكُمُ الخَلاء فَلْيُسَمِّ [ اللَّهَ ] » ، وقيل : حكمنا بِهَلاكِهَا .
الثاني : أنَّ معنى « أهْلَكْنَاهَا » أي : خذلناهُم ولم نوفقهم فنشأ عن ذلك هَلاَكُهُم ، فعبر بالمسَّبب عن سَبَبِهِ وهو بابٌ واسع . وثَمَّ أجوبة ضعيفة؛ منها : أنَّ الفاء هاهنا تفسيرية نحو : « تَوَضَّأ فغسل وجهه ثم يديه » فليست للتعقيب ومنها أنَّها للتَّرتيب في القَوْلِ فقط كما أخبر عن قرى كثيرة أنَّها أهلكها [ ثم ] قال : فكان من أمرها مجيء البأس ومنها ما قاله الفرَّاءُ ، وهو : أن الإهلاكَ هو مجيء البَأسِ ، ومجيءُ البأسِ هو الإهلاكُ ، فلما كانا مُتلازِمَيْنِ لم يبال بأيِّهما قدَّمت في الرتبة ، كقولك : « شتمني فأساء » ، وأساءَ فَشَتَمَنِي ، فالإساءَةُ والشَّتْمْ شيءٌ واحدٌ ، فهذه ستَّةُ أقوال .
واعلم أنَّه إذا حُذِفَ مُضافٌ ، وأقيم المضافُ غليه مقامَهُ جاز لك اعتباران :
أحدهما : الالتفاتُ إلى ذَلِكَ المحذوفِ .
والثاني - وهو الأكْثَرُ - عَدمُ الالتفاتِ إليه ، وقد جُمع الأمرانِ هنا ، فإنَّهُ لم يُراع المحذوفَ في قوله : « أهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا » وراعاهُ في قوله : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } ، هذا إذا قدَّرْنَا الحذفَ قبل « قَرْيَةٍ » ن أمَّا إذا قَدَّرْنَا الحذف قبل ضمير « فَجَاءَهَا » فإنَّهُ لم يراعِ إلاَّ المحذوفَ فقط وهو غيرُ الأكْثَرِ .
قوله : « بَيَاتاً » فيه ثلاثةُ أوْجْهٍ :
أحدها : [ أنَّهُ ] منصوب على الحال وهو في الأصل مصدر ، يقال : بَاتَ يَبِيتُ بيْتاً وبيتة وبَيَاتاً وبَيْتُوتَةً .
قال اللَّيْثُ : « البَيْتُوتَةُ » : « دخولُكَ في اللَّيْلِ » فقوله : « بَيَاتاً » أي : بَائِتينَ وجوَّزوا أن يكون مفعولاً لهُ ، وأنْ يكونَ في حكم الظَّرْفِ .
وقال الوَاحِديُّ : قولهك « بَيَاتاً » أي : ليلاً وظاهرُ هذه العِبَارة أنْ تكون ظَرْفاً ، لولا أن يُقَالَ : أراد تَفْسِير المعنى .
قال الفرَّاءُ : يقالُ : بات الرَّجُلُ يَبيتُ بَيْتاً ، وربَّمَا قالوا : بَيَاتاً ، وقالوا : سُمِّيَ البيتُ بَيْتاً؛ لأنَّهُ يُبَاتُ فيه .
قوله : { أَوْ هُمْ قَآئِلُو } هذه الجملةُ في محلِّ نصب نَسَقاً على الحال ، و « أو » هنا للتَّنْوِيع لا لِشَيءٍ آخر كأنَّهُ قيل : آتاهُ بأسُنَا تارةً لَيْلاً كقوم لوطٍ ، وتَارَةً وَقْتَ القَيْلُولَةِ كقوم شُعَيْبٍ . وهل يحتَاجُ إلى تَقْديرِ واوِ حالٍ قَبْلَ هذه الجُمْلَةَ أم لا؟ خلافٌ بين النَّحْوِيِّينَ .
قال الزمخشريُّ : « فإن قُلْتَ : لا يُقَالُ : جاءَ زيدٌ هو فارسٌ » بغيرِ واوٍ فما بالُ قوله تعالى : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } ؟
قلتُ : قدَّر بعض النَّحويين الواو محذوفَةً ، وردَّهُ الزَّجَّاج وقال : لو قلتَ : جاءني زيدٌ رَاجِلاً ، أو هو فارس ، أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج إلى « واو » ؛ لأن الذِّكر قد عام على الأوَّل .

والصَّحِيحُ أنَّها إذا عُطفَتْ على حالٍ قبلها حذفت الواو استثقالاً؛ لاجتماع حرفي عطف؛ لأن واو الحال [ هي ] واو العطف استُعِيرَتُ للوصل ، فقولك : « جاء زَيدٌ راجلاً أو هو فارس » كلامٌ فصيح وارد على حدِّه ، وأمَّا « جاءني زَيْدٌ هو فارس » فخبيث .
قال أبو حيَّان : أما [ بعضُ النَّحويين الذي أبهمه ] الزمخشريُّ فهو الفرَّاءُ ، وأما قول الزَّجَّاج : كلا التمثيلين لم يحتج فيه إلى الواو؛ لأن الذِّكر قد عاد على الأوَّلِ ففيه إبْهَامٌ وتعيينه أنَّهُ يمتنعُ دخولها في المثالِ الأوَّلِ [ ويجوز في المثال ] الثاني؛ فليس انتفاءُ الاحتياج على حدِّ سواء؛ لأنه في الأوِّل لامتناع الدُّخُولِ ، وفي الثاني لكثرتِهِ لا لامتناعه .
قال شهابُ الدِّين : أمَّ امتناعُهَا في المثالِ الأوَّلِ؛ فلأن النَّحْويين نَصُّوا على أنَّ الجلمة الحاليَّة إذا دَخَلَ عليها حرفُ عطفٍ امتنع دخولُ واوِ الحالِ عليها ، والعلَّةُ فيه المشَابَهَةُ اللَّفظيَّةُ؛ ولأن واو الحال في الأصل عاطفةٌ ، ثم قال أبُو حيَّان . وأمَّا قولُ الزمخشري فالصَّحيحُ إلى آخره ، فتعليلُهُ ليس بصَحِيحٍ؛ لأنَّ واوَ الحال ليست بحرف عَطْفِ فيلزم من ذكرها اجتماعُ حَرْلإَي عَطْفٍ؛ لأنَّها لو كانت حرف عطفٍ للزم أن يكونَ ما قَبْلَهَا حالاً ، حتى يعطف حالاً على حالٍ ، فمجيئها فيما لا يمكن أن يكُونَ حالاً دليل على أنَّهَا ليست واو عطْفٍ ، ولا لُحظ فيها معنى واوِ عَطْفٍ تقُولُ : « جاء زيدٌ ، والشمسُ طالِعَةٌ » فجاءَ زَيْدٌ ليس بحالٍ فيعطف عليها جُمْلَة حالٍ ، وإنَّمَا هذه الواوُ مغايرة لواو العَطْفِ بكل حالٍ ، وهي قسمٌ من أقسام الواو كما تأتي للقسم ، وليستْ فيه للعَطْفِ كما إذا قلت : « واللَّه لَيَخْرُجَنَّ » .
قال شهابُ الدِّين : أبُو القَاسِم لم يدَّع في واو الحال أنَّها عاطفة ، بل يدَّعِي أنَّ أصلها العَطْفَ ، ويدلُّ على ذلك قوله : استُعِيرَتْ للوصول ، فلو كانت عَاطِفَةً على حالِهَا لما قَالَ : اسْتَعِيرَتْ فَدَلَّ قوله ذلك على أنَّها خجرت عن العطف ، واسْتُعْمِلَتْ لمعنى آخر لكنها أعطيت حكم أصلها في امْتِنَاعِ مجامَعَتِهَا لعاطفٍ آخر .
وأمَّا تسمِيَتُهَا حرف عطف ، فباعْتِبَارِ أصْلِهَا ونَظِيرُ ذلك أيضاً واو « مع » فإنَّهم نَصُّوا على أنَّ أصلها واوُ عَطْفٍ ، ثمَّ استعملتْ في المعيَّةِ ، فكذلك واوُ الحَالِن لامتناعِ أن يكُونَ أصْلُهَا واوَ العطف .
ثم قال أبُو حيَّان : « وأمّا قوله » فَخَبِيثٌ « فليس بِخَبِيثٍ؛ وذلك أنَّهُ بَنَاهُ على أنَّ الجلمة الحالِيَّة إذا كانت اسميَّةً ، وفيها ضميرُ ذي الحَالِ فحذفُ الواوِ منها [ شاذٌ ] وتبع في ذلك الفرَّاء ، وليس بِشَاذٍّ بل هو كثيرٌ في النَّظْمِ والنَّثْرِ .

قال شهابُ الدِّين : قد يبق أبا القاسم في تسمية هذه الواو حرف عَكْفٍ الفرَّاءُ ، وأبُو بَكْرٍ بْنُ الأنْبَارِيِّ .
قال الفرَّاءُ : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } فيه واو مُضْمَرَةٌ ، المعنى : أهلكناها فَجَاءَهَا بَأسُنَا بَيَاتاً أو هم قائلون فاستثقلوا نسقاً على أثَرِ نَسَقٍ ، ولو قيل لكَانَ صواباً .
قلتُ : قد تقدَّم أنَّ الشَّيخَ نقل أنَّ الواوَ ممتنعةٌ في هذا المثال ، ولم يَحكِ خِلافاً ، وهذا قَوْلُ الفرَّاءِ : « ولو قيل لكان صواباً » مُصَرِّحُ بالخلاف له .
وقال أبُو بَكْرٍ : أضْمِرَتْ واوُ الحالِ لوُضُوحِ معناها كما تَقُولُ العرب : « لقيتُ عَبْدَ الله مُسْرعاً ، أو هو يَرْكُضُ » فَيَحْذِفُونَ الواوَ لأمْنِهمُ اللَّبس ، لأن الذِّكْرَ قد عَادَ على صاحب الحال ، ومن أجل أنَّ « أو » حرف عطف والوُ كَذِلَكَ ، فاسْتَثْقَلُوا جمعاً بين حرفين من حروفِ العَطْفِ ، فَحَذَفُوا الثَّانِي .
قال شهابُ الدِّين : فهذا تَصْرِيحٌ من هذين الإمَامَيْنِ بما ذكره أبُوا القَاسِم ، وإنما ذكرتُ نص هذين الإمَامَيْنِ؛ لأعلم اطلاعه على اقوال النَّاسِ ، وأنَّهُ لا يأتي بغير مُصْطَلحِ أهْلِ العلم كما يرميه به غير مرَّةٍ .
و « قَائِلثونَ » من القَيْلأُولَةِ . يقال : قَالَ يَقِيلُ [ قَيْلُولَةً } فهو قَائِلٌ ك « بائع » والقيلُولَةُ : الرَّاحَةُ والدعَةُ في الحرِّ وسط النهار ، وإن لم يكن معها نَوْمٌ .
وقال اللَّيث : هي نَوْمَةُ نِصْفِ النَّهَارِ .
قال الأزْهَرِيُّ : « القيلولة : الرَّاحَةُ ، وإن لم يكن فيها نَوْمٌ بدليل قوله تعالى : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [ الفرقان : 24 ] ، والجنَّةُ لا نَوْمَ فيها » .
قال شهابُ الدِّينِ : و « ولا دليلَ فيما ذَكَرَ؛ لأن المقيل هنا خرج عن موضعه الأصْلِيِّ إلى مُجَرَّدِ الإقامة بدليل أنَّهُ لا يراد أيضاً الاستراحة في نِصْفِ النَّهَارِ في الحر فقد خَرَجَ عن موضعه عندنا وعندكم إلى ما ذكرنا ، والقَيْلُولَةُ مصدرٌ ومثلها : القَائِلَةُ والقيلُ والمَقِيلُ » .
فصل في المراد بالآية
معنى الآية أنهم جَاءَهُمْ بَأسُنَا ، وهم غير متوقِّعين له ، إمَّا ليلاً وهم نَائِمُونَ ، أو نهاراً وهم قَائِلُونَ ، والمُرَادُ أنَّهُم جاءهم العذابُ على حين غَفْلَةٍ منهم ، من غير تقدُّم أمارة تدلُّهم على نزول ذلك العذاب مكانه ، قيل لِلْكُفَّارِ : لا تغتروا بأسباب الأمْنِ والرَّاحةَ ، فإنَّ عذاب الله إذا وقع وقع دفعة من غير سبق أمارة .

فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)

قوله تعالى : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ } جوَّزُوا في « دَعْواهُم » وجهين :
أحدهما : أن يكون اسْماً ل « كان » ، و { إِلاَّ أَن قالوا } خبرها ، وفيه خدشٌ من حيث إنَّ غير الأعرف جعل اسماً والأعْرَفُ جعل خبراً ، وقد تقدَّم ذلك في أوَّل الأنعام عند { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } [ الأنعام : 23 ] .
والثانيك أن يكون « دَعْوَاهُم » خبراً مقدماً و { إِلاَّ أَن قالوا } اسماً مؤخراً كقوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا } [ النمل : 56 ] { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار } [ الحشر : 17 ] ، و { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الجاثية : 25 ] ذكر ذلك الزَّمخشريُّ ومكيُّ بن أبِي طالبٍ ، وسبقهما إلى ذلك الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ ، ولكن ذلك يشكل من قاعدة أخرى ذكرها النُّحاةُ ، وهو أنَّ الاسم والخبر في هذا الباب متى خفي إعرابُهُمَا؛ وجَبَ تَقْدِيمُ الاسمِ ، وتأخير الخبر نحو : كان موسى صاحبي ، وما كان دعائي إلاَّ أن اسْتَغْفَرْتُ ، قالوا : لأنهما كالمفعولِ والفاعلِ فمتى خَفِيَ الإعْرَابُ التزم كل في مَرْتَبَتِهِ ، وهذه الآيَةُ مما نحن فيه فكيف يُدَّعى فيها ذَلِكَ ، بل كيف يَخْتَارُهُ الزَّجَّاجُ؟ وقد رأيتُ كلام الزَّجَّاجِ هنا فيمكن أن يُؤخَذَ منه جَوابٌ عن هذا المكانِ ، وذلك أنه قال : « إلاَّ أنَّ الاختيار إذا كانت » الدَّعْوَى « في موضع رفع أن يقول : فما كانت دَعْوَاهُم ، فَلَمَّا قال : » كَانَ دَعْوَاهُمْ « دلَّ على أن » الدَّعْوى « في موضع نصب ، غير أنه يجوز تَذْكِير الدعوى وإن كانت رفعاً ، فمن هنا يقال : تذكير الفعل فيه قرينة مرجَّحةٌ لإسنادِ الفِعْلِ إلى » أنْ قَالُوا « ، ولو كان مسنداً للدَّعْوَى لكان الأرجح » كَانَتْ « كما قال ، وهو قَرِيبٌ من قولك : » ضَرَبَتْ مُوسَى سَلْمَى « فقدمت المفعول بقرينةِ تأنِيثِ الفِعْلِ ، وأيضاً فإنَّ ثمَّ قَرينَةً أخرى ، وهي كَوْنُ الأعْرَفِ أحَقُّ أن يكون اسماً من غير الأعرف » .
والدَّعْوَى تكون بمعنى الدُّعَاءِ ، وبمعنى الادِّعَاءِ ، والمقْصُودُ بها ههنا يحتمل الأمرين جميعاً ، ويحتمل أيضاً أنْ تكونَ بمعنى الاعتراف ، فمن مَجِيئها بمعنى الدُّعَاءِ ما حَكَاهُ الخَلِيلُ : « اللَّهُمَّ أشْركْنا فِي صالح دعوى المُسلمين » يريد في صالح دُعَائِهِم؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
2402 - وإنْ مَذِلَتْ رِجْلِي دَعَوْتُكِ اشْتَفِي ... بِدَعْوَاكِ مِنْ مَذْلٍ بِهَا فَتَهُونُ
ومنه قوله تعالى : { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ } [ الأنبياء : 15 ] وقال الزَّمخشريُّ : [ ويجوز ] : فما كان استغاثتهم لا قولهم هذا؛ لأنه لا يستغاثُ من اللَّهِ تعالى بغيره ، من قولهم : دعواهم يا لكعب .
وقال ابءنُ عطيَّة : وتحتملُ الآيةُ أن يكون المعنى : فما آلت دَعَاويهم التي كانت في حال كُفْرِهِمْ إلا إلى الاعتراف؛ كقول الشاعر : [ الطويل ]
2403 - وَقدْ شَهِدَتْ قَيْسٌ فَمَا كَانَ نَصْرُهَا ... قَتَيْبَةَ إلاَّ عَذَّها بالأبَاهِمِ
و « إذ » منصوب ب « دعواهم » .
وقوله : { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } « كُنَّا » وخبرها في محل رفع خبر ل « إنَّ » ، وَ « إنّ » وما في حيزها في محل نَصْبٍ محكياً ب « قَالُوا » ، و « قَالثوا » وما في حيزه لا محل له لوقوعه صلةً ل « إنَّ » ، و « أنّ » وما في حيزها في محلِّ رفع ، أو نصب على حسب ما تقدَّم من كونها اسماً ، أو خبراً .
ومعنى الآية : أنَّهُم لم يَقْدِرُوا على ردِّ العذاب ، وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالخيانَةِ حين لا ينفع الاعتراف .

فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)

القائمُ مقامَ الفاعِلِ الجار والمجرور وفي كيفيَّة النظم وجهان :
الأول : أنه تعالى لمَّا أمر الرَّسول أولاً بالتبليغ ثم أمر الأمة بالقَبُولِ ، والمتابعة ، وذكر التَّهْديد على ترك القبول والمتابعة ، بذكر نُزُولِ العذابِ في الدُّنْيَا - أتبعه بنوع آخر من التَّهْديدِ وهو أنه تعالى يسأل الكل عن كيفية أعمالهم يوم القيامة .
الثاني : أنه تعالى لما قال : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [ الأعراف : 5 ] أتبعه أنه لا يقتصر على الاعتراف منهم يوم القيامة ، بل يَنْضَافُ إليه أنَّهُ تعالى يسأل الكُلَّ عن كيفيَّةِ أعمالهم ، وبين أن هذا السؤال لا يختصُّ بأهل العقاب ، بل هو عامٌّ بأهل العقابِ والثَّوابِ ، ونظيره قوله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 ، 93 ] .
فإن قيل : المقصود من السُّؤالِ أن يخبر المسئول عن كيفية أعمالهم ، وقد أخبر عنهم أنهم يقرون بأنهم كانوا ظَالمينَ فما فَائِدَةُ السُّؤال بعده؟ وأيضاً قال تعالى بعد هذه الآية : { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ } [ الأعراف : 7 ] فإذا كان يقصُّه عليهم بعلم فما معنى هذا السؤال؟
فالجواب : أنَّهُم لمَّا أقَرُّوا بأنهم كانُوا ظالمين مُقَصِّرين سألوا بعد ذلك عن سَبَبِ الظُّلْمِ ، والتَّقْصِيرِ ، والمقصود منه التَّقْريعُ والتَّوبيخُ .
فإن قيل ما الفائدة في السؤال الرُّسُلِ مع العلم بأنه لم يَصْدُر عنهم تقصير ألبتة؟
فالجوابُ : لأنهم إذا اثبتوا أنه لم يَصْدُرْ عنهم تَقْصِيرٌ ألْبَتَّةَ التحق التَّقْصِيرُ كله بالأمَّةِ ، فيتضاعفُ إكرامُ اللَّه تعالى للرُّسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التَّقْصِير ، ويتضاعف الخِزْيُ والإهانَةُ في حقِّ الكفَّارِ ، ولما ثبت أنَّ ذلك التَّقْصِيرُ كان منهم .

وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)

الوزن مبتدأ ، وفي الخبر وجهان :
أحدهما : هو الظَّرْف أي : الوزن كائن أو مستقرٌّ يومئذٍ أي : يوم إذ يُسْألُ الرُّسُلُ والمرسلُ إليهم . فحذف الجملة المضاف إليها « إذْ » وعوَّض منها التَّنْوين ، هذا مذهب الجُمْهُور خلافاً للأخْفَش . وفي « الحقّ » على هذا الوجه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه نَعْتٌ للوزن أي : الوزن الحق في ذلك اليوم .
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوفٍ كأنَّهُ جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ من قائل يقول : ما ذلك الوزن؟ فقيل : هو الحقُّ لا البَاطِلُ .
الثالث : أنه بدلٌ من الذَّميرِ المستكن في الظَّرْفِ وهو غَرِيبٌ ذكره مَكِيٌّ .
والثاني : من وجهي الخبر أن يكون الخبر « الحق » ، و « يومئذ » على هذا فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ منصوب على الظَّرْفِ ناصبه « الوَزْنْ » أي : يقع الوَزْنُ ذلك اليوم .
والثاني : أنَّهُ مفعول به على السَّعةِ وهذا الثاني ضعيفٌ جدّاً لا حَاجَةَ إليه .
ولمَّا ذَكَرَ أبُو البقاءِ كون « الحق » خبراً ، وجعل « يَوْمئذٍ » ظرفاً للوزن قال : « ولا يَجُوزُ على هذا أن يكون صِفَةً ، لَئِلاّ يلزم الفَصْلُ بين المَوصُولِ وصِلَتِهِ » .
قال شهابُ الدِّين : وأين الفَصْلُ؟ فإن التركيبَ القرآنيَّ إنما جاء فيه « الحق » بعد تمام الموصول بصلته ، وإذا تمَّ الموصول بصلته جاز أن يُوصَفَ . تقول : « ضَرْبُكَ زَيْداً يَوْمَ الجُمْعَةِ الشديدُ حسنٌ » .
فالشَّديدُ صفة لِضَربِكَ . فإنْ تَوَهَّمَ كون الصِّفَةِ محلُّها أن تقع بعد الموصوف وتليه ، فَكَأنَّهَا مُقدَّمَةٌ في التَّقدير فَحَصَلَ الفَصْلُ تقديراً فإن هذا لا يُلْتَفَتْ إليه؛ لأنَّ تلك المعمولات من تَتِمَّةِ الموصول فلم تل إلاَّ الموصول وعلى تقدير اعتقاد ذلك له ، فالمَانِعُ من ذلك أيضاً صيرورةُ المبتدأ بلا خبر ، لأنَّكَ إذا جعلت « يَومئذٍ » ظرَفْاً للوزن و « الحقُّ » صفته فأين خبره؟ فهذا لو سَلِمَ من المانع الذي ذكره كان فيه هذا المانع الآخر .
وقد طوَّلَ مكيٌّ بذكر تقدير « الحقّ » على « يومئذ » وتأخيره عنهُ باعتبار الإعرابات المتقدمة ، وهذا لا حَاجَةَ إليه لأنَّا مقيَّدُونَ في القرآن بالإتيان بِنَظْمِهِ . وذكر أيضاً أنه يجوز نصبه ، يعني أنَّهُ لو قُرِىءَ به لكان جَائِزاً ، وهذا أيضاً لا حاجة إليه .
قوله : « مَوَازِيْنُهُ » فيها قولان :
أحدهما : أنَّها جمع ميزان : الآلة [ التي ] يوزنُ بها ، وإنَّمَا جمع؛ لأن كلَّ إنسانٍ له ميزان يخصُّه على ما جاء في التَّفْسير ، أو جُمع باعتبار الأعمال الكثيرة وعبّر عن هذا الحال بالمحل .
والثاني : أنَّها جمع موزون ، وهي الأعمال ، والجمع حينئذٍ ظاهر . قيل : إِنَّمَا جمع الميزان ههنا ، وفي قوله : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة } [ الأنبياء : 47 ] ؛ لأنَّه لا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزانٌ ، ولأفعال الجوارح ميزانٌ ، ولما يتعلق بالقول ميزان .

وقال الزَّجَّاجُ : إنَّمَا جمع الموازين ههنا لوجهين :
الأوَّلُ : أنَّ العرب قد تُوقِعُ لَفْظَ الجَمْعِ على الواحد فيقولون : خرج فلان إلى مَكَّةَ راكباً البِغَالَ .
والثاني : أن الموازين ههنا جمع موزون لا جمع ميزان .
قال القرطبيُّ : والموازين جمع ميزان وأصلُهُ : « مِوْزَانٌ » قلبت الواوُ ياءٌ لكسرة ما قبلها .
فصل في المراد بالميزان
قال مُجَاهِدٌ والأعْمَشُ والضَّحَّاكُ : المراد بالميزان العدل والقضاء ، وذهب إلى هذا القول كثيرٌ من المُتأخِّرينَ قالوا : لأنَّ لَفْظَ الوزن على هذا المعنى شَائِعٌ في اللُّغَةِ؛ لأن العدل في الأخذ والإعطاء لا يظهر إلاَّ بالكَيْل ، والوزن في الدُّنْيَا ، فلم يبعد جعل الوزن كِنَايَةً عن العَدْلِ ، ويؤيِّدُ ذلك أنَّ الرَّجُلَ إذا لم يكن له قَدْرٌ ولا قِيمَةٌ عند غيره يقال : إنَّ فُلاناً لا يقيم لفلان وَزْناً . قال تعالى : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ] ، ويُقَالُ هذا الكلامُ في وزن هذا وفي وزانه ، أي : يعادله ويُسَاويه مع أنَّهُ ليس هناك وَزْنٌ في الحَقيقَةِ؛ قال الشَّاعِرُ : [ الكامل ]
قَدْ كُنْتُ عِنْدَ لِقَائِكُمْ ذَا قُوَّةٍ ... عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ ميزَانُهُ
أيْ عندي لكل مخاصم كلامٌ يعادل كلامه ، فجعل الوزن مثلاً للعدل وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ : المُرَادُ من الآية هذا المعنى فقط ، والدَّلِيلُ عليه أنَّ الميزانَ إنَّما يراد ليتوصل به إلى مَعْرِفَةِ مقدار الشيء ، ومقاديرُ الثواب والعِقَابِ لا يمكن إظْهَارُهَا بالميزان؛ لأن أعْمَالَ العِبَادِ أعْرَاضٌ ، وهي قد فنِيَتْ وعُدِمَتْ ، ووزن المعدوم مُحَالٌ ، وأيضاً فبتقدير بِقَائِهَا كان وزنها محالاً .
وأُجيب بأنَّ فائدته أنَّ جميع المكلفين يعلمون يَوْمَ القيامة أنَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الظُّلْم والجَوْرِ . وفائدةُ وضع الميزانِ أنْ يظهر ذلك الرُّجْحَانُ لأهل المَوْقِفِ ، لإإن رجحت الحسنات ازداد فَرَحُهُ وسُرُورُهُ ، وإنْ كان بالضِّدِّ فيزاداد غمُّه .
وقال القُرْطُبِيُّ : « الصَّحيحُ أنَّ المراد بالميزان وزن أعمال العباد » .
فإن قيل : الموزون صَحَائِفُ الأعْمَالِ ، أو صور مخلوقة على حَسْبِ مقَاديرِ الأعْمالِ .
فنقول : إنَّ المكلف يوم القيامة إمَّا أن يكون مقراً بأنَّ اللَّهَ - تعالى - عَادِلٌ حَكِيمٌ ، أو لا يكون مقرّاً بذلك فإن كان وزنها محالاً .
وأُجيب بأنَّ فائدته أنَّ جميع المكلفين يعلمون يَوْمَ القيامة أنَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الظُّلْم والجَوْرِ . وفائدةُ وضع الميزانِ أنْ يظهر ذلك الرُّجْحَانُ لأهل المَوْقِفِ ، فإن رجحت الحسنات ازداد فَرَحُهُ وسُرُورُهُ ، وإنْ كان بالضِّدِّ فيزداد غمُّه .
وقال القُرْطُبِيُّ : « الصَّحيحُ أنَّ المراد بالميزان وزن أعمال العباد » .
فإن قيل : الموزون صَحَائِفُ الأعْمَالِ ، أو صور مخلوقة على حَسْبِ مقَاديرِ الأعْمالِ .
فنقول : أنَّ الملكف يوم القيامة إمَّا أن يكون مقراً بأنَّ الله - تعالى - عَادِلٌ حَكِيمٌ ، أو لا يكون مقرّاً بذلك فإن كان مقرّاً بذلك فحينئذ كفاه حكم اللَّه تعالى بمقادير الثَّواب والعقاب في علمه بأنه عَدْلٌ وصوابٌ ، وإنْ لم يكن مُقِرّاً بذلك لم يعرف من رجحان كفَّةِ الحسنات على كفَّةِ السيِّئات أو بالعَكْس من حُصُولِ الرُّجْحَانِ لا على سبيل العَدْلِ والإنْصافِ ، فثبتَ أنَّ هذا الوَزْنَ لا فَائِدَةَ فيه ألْبَتَّةَ وقال أكْثَرُ المفسرين : أرَادَ وزن الأعْمَالِ بالميزان ، وذلك أنَّ الله - تعالى - ينصب ميزاناً له لسان يوزن بها أعمال العباد خيرها وشرها وكفتان ، كل كَفَّةٍ بِقَدْرِ ما بين المَشْرِقِ المَغْرِبِ .

واختلفوا في كَيْفيَّةِ الوَزْنِ ، فقال بعضهم : توزن صحائف الأعمال .
وروي أنَّ رَجُلاً ينشر عليه تسعة وتسعون سِجلاً ، كل سِجِّلٍّ منها مدُّ البَصَرِ فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفَّة الميزان ثم يخرج له بِطَاقَةٌ فيها شهادةُ أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله ، فتوضع السِّجلات في كفه ، والبطاقة في كفَّة فطاشت السِّجلات وثقلت البطاقة .
وقيل : توزن الأشخاص .
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لَيَأتي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامةِ فلا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ » وقيل : توزن الأعمال . رُوِيَ ذلك ابْنِ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - فيؤتى بالأعْمَالِ الحَسَنَةِ على صُورةٍ حَسَنةٍ ، وبالأعمال السيِّئَةِ على صورة قَبِيحَة ، فتوضع في الميزانِ .
والحكمة في وَزْنِ الأعْمَالِ امتحان اللَّه عباده بالإيمان به في الدُّنْيَا ، وإقامة الحُجَّةِ عليهم في العقبى .

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)

هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ أهْلَ القِيَامَةِ فَريقَانِ ، منهم من يزيد حسناته على سيئاته ، ومنهم من يزيد سيئاته على حسناته ، فأمَّا القسمُ الثَّالثُ ، وهُو الَّذين تكُونُ حَسنَاتُهُ وسيئاته متعادلة فإنه غير موجود .
قال أكثر المفسرين : المراد ب { مَنْ خَفَّت مَوازِينُهُ } الكافر لقوله تعالى : { فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } ، ولا معنى لكون النْسَانِ ظالماً بآياتِ اللَّه إلاَّ كونه كَافِراً بها مُنْكِراً لها ، وهذا هو الكَافِرُ .
وروي أنّه إذا خَفَّتْ حَسَنَاتُ المُؤمِنِ يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بِطَاقَة كالأنْمُلَةٍ فيلقيها في كفَّةِ الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح ، فيقوُلُ ذلك العَبْدُ المُؤمِنُ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : « بِأبي أنْتَ وأمِّي ، ما أحْسَنَ وَجْهَكَ وأحْسَنَ خَلْقَكَ فَمَنْ أنْتَ؟
فَيَقُولُ : » أنا نَبِّيُكَ مُحَمَّد ، وهذه صَلَواتكَ الَّتِي كُنْتَ تُصَلِّيها عَلَيَّ ، وقَدْ وَفَيْتُكَ أَحْوَجَ ما تكُونُ إلَيْهَا « رواه الواحِدِيُّ في » البَسيطِ « .
والخبر الذي تقدَّم أيضاً من أنَّهُ تعالى يُلْقِي في كفه الحسنات الكتاب المُشْتَمِلَ علىشهادةِ أنْ لا إله إلاّ الله وأنَّ محمداً رسول الله ، وأمَّا قول ابن عباس ، وأكثر المفسرين حملوا هذه الآية على أهل الكفر .
وقال أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - حين حضره الموت لعمر بن الخطاب في وصَّيتهِ : إنَّمَا ثقلت مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِيِنُهُ يَوْمَ القِيامَةِ باتِّباعِهِم الحقَّ في الدُّنْيَا ، وثقله عليهم ، وحُقَّ لميزان يوضع فيه الحقُّ غداً أن يكون ثَقِيلاً ، وإنَّما خَفَّتْ مَوَازينُ من خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ باتِّباعِهِم البَاطِلَ في الدُّنْيَا ، وخفته عليهم ، وحقَّ لميزانٍ يُوضَعُ فيه البَاطِلُ غداً أن يكُونَ خَفِيفاً .
قوله : » بِمَا كَانُوا « متعلِّقٌ ب » خَسِرُوا « ، و » مَا « مَصْدريَّةٌ ، و » بِآيَاتِنَا « متعلِّقٌ ب » يَظْلِمُونَ « قُدِّمَ عليه للفَاصِلَةِ . وتعدَّى » يَظْلِمُونَ « بالباءِ : إمَّا لتَضَمُّنِهِ معنى التَّكْذيب نحو : { كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا } وإمَّا لِتَضَمُّنِهِ معنى الجَحْدِ نحو { وَجَحَدُواْ بِهَا } [ النمل : 14 ] .

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)

لمَّا أمر الخَلْقَ بمتابَعَةِ الأنْبِيَاءِ ، ثمَّ خوَّفَهُم بعذاب الدُّنْيَا وهو قوله : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } ، وبعذاب الآخِرَةِ وهو السُّؤالُ ووزن الأعمال رغبهم في دعوة الأنْبِيَاء في هذه الآية بطريق آخر ، وهو أنَّ ذكر كثرة نعم اللَّه عليهم ، وكثرة النِّعيم توجبُ الطَّاعة فقال : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض } أي : جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً ومكَّنَّاكم ، والمُرَادُ بالتَّمكين التمليك والقوة والقدرة .
قوله « وجَعَلْنَا لكم » يجوز أن يكون « جَعَلَ » بمعنى « خَلَقَ » فيتعدَّى لواحد فيتعلَّقُ الجاران ب « مَعَايِشَ » ، والثَّأني أحد الجارين ، والآخر : إمَّا حال متعلِّقَةٌ بمحذوف ، وإمَّا متعلِّقةٌ بنفس الجعل وهو الظَّاهِرُ .
و « مَعَايِش » جمع مَعيشَةٍ ، وفيها ثلاثةُ مذاهبٍ :
مذهبُ سيبويه والخَلِيل : أنَّ وزنها مَفْعُلَةٍ بِضَمِّ العين ، أو مَفْعِلة بكسرها ، فعلى الأوَّلِ جُعلتِ الضَّمَّةُ كَسْرَةً ، ونُقِلَتْ إلى فَاءِ الكَلِمَةِ . وقياس قول الأخْفَشِ في هذا النَّحوِ أن يغيِّر الحرفَ لا الحَرَكَة ، ف « معيشة » عنده شَاذَّةٌ إذْ كان يَنْبَغِي أَن يقال فيها مَعُوشة .
وأمَّا على قولنا إنَّ أصلها « مَعِيشَةٌ » بكسر العين فلا شُذُوذَ فيها ومذهب الفرَّاءِ : أنَّ وزنها مَفْعلة بفتح العين ، وليس بشيءٍ .
والمعيشةُ اسمٌ لما يُعاشُ به أي : يُحْيا وقال الزَّجَّاجُ : المعيشةُ ما يتوصلون به إلى العيش وهي في الأصل مصدر ل « عَاشَ » يعيشُ عَيْشاً ، وعِيْشَةً قال تعالى : { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] ، وَمَعَاشاً : قال تعالى : { وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } [ النبأ : 11 ] ، ومَعِيشاً قال رُؤبةُ : [ الرجز ]
2406 - إلَيْكَ أشْكُوا شِدَّةَ المَعيشِ ... وَجُهْدَ أعْوَامِ نَتَفْنَ رِيشِي
والعامَّةُ على « مَعَايشَ » بصريح الياءِ . وقد خرج خارجةُ فَرَوَى عن نافع « مَعَائِشَ » بالهَمْزِ ، وقال النَّحْويُّون : هذا غَلَطٌ؛ لأنَّهُ لا يهمز عندهم إلا ما كان فيه حرفُ المدِّ زائداً نحو : صَحَائِف ومَدَائِن ، وأمَّا « مَعَايِش » فالياءُ أصلٌ؛ لأنها من « العَيْشِ » .
قال الفَارِسيُّ - عن أبي عثمان - : « أصلُ أخْذِ هذه القراءة عن نَافعِ » قال : « ولَمْ يَكُنْ يَدْرِي ما العَرَبِيَّةُ » .
قال شهابُ الدِّينِ : وقد فعلتِ العربُ مثل هذا ، فَهَمَزُوا « مَنَائِرَ ومَصَائِبَ » جمع « منارةٍ ومُصِيبَة » والأصل « مَنَاوِرُ ، ومَصَاوِبُ » وقد غلَّطَ سيبويه من قال مصائِبَ ، ويعني بذلك أنَّهُ غلطه بالنسبة إلى مخالفة الجادَّةِ ، وهذا كما تقدَّم عنه أنه قال : « واعْلَمْ أنَّ بعضهم يغلط فيقول : إنَّهم أجمعونَ ذَاهِبُونَ » [ قال ] ومنهُمْ من يأتي بها على الأصل فَيَقُولُ : مصاوب ومناور ، وهذا كما قالوا في جمع « مقالٍ » و « مقام » : « مقاول » و « مقاوم » في رجوعهم بالعين إلى أصلها قال : وأنشد النَّحْوِيُّون على ذلك : [ الطويل ]

2407 - وإنِّي لَقَوَّامٌ مقَاوِمَ لَمْ يَكُنْ ... جَريرٌ ولا مَوْلَى جرِيرٍ يَقُومُهَا
ووجه همزها أنَّهُم شبَّهوا الاصليَّ بالزَّائد فتوهموا أن « معيشة » بزنة « صحيفة » فهمزوها كما همزا « تيك » قالوا : ونظير ذلك في تشبيههم الأصل بالزائد قولهم في جميع « مسيل » « مُسْلان » ، توهَّموه على أنَّه على زِنَةٍ « قضيبٍ وقُضْبَان » وقالوا في جمعه « أمْسِلَة » كأنَّهْمِ تَوَهَّمُوا أنَّهُ بزنة « رَغيفٍ ، وأرْغِفَةٍ » وإنَّما مسيل وزنه « مفعلٌ » ؛ لأنه من سيلان الماءِ ، وأنْشَدُوا على « مَسِيلِ ، وأمْسِلة » قول أبِي ذُؤيْبٍ الهُذَلِيِّ : [ الوافر ]
2408 - بِوَادٍ لا أنِيسَ بِهِ يبابٍ ... وأمْسِلَةٍ مَذَانِبُهَا خَلِيفُ
وقال الزَّجَّاجُ : جميعُ نُحَاةِ البَصْرَةِ يَزْعُمُونَ أنَّ همزها خَطَأ ، ولا أعلم لها وجهاً إلاَّ التِّشْبِيه ب « صحيفة » و « صحائف » ، ولا ينبغي التَّعْوِيلُ على هذه القراءة .
قال شهابُ الدين : وهذه القراءةُ لم يَنْفَرِدْ بها نافعٌ بل قَرَأهَا جماعة جلَّةٌ معه؛ فإنَّها منقولة عن ابن عامر الذي قَرَأ على جماعة من الصَّحابةِ ك « عُثْمان » و « أبي الدَّرْدَاءِ » و « معاوية » ، وقد يبق ذلك في « الأنعام » ، فقد قَرَأ بها قَبْلَ ظُهُورِ اللَّحْنِ ، وهو عربي فَصِيحٌ وقَرَأ بها أيضاً زيدُ بْنُ عَلِيٍّ ، وهو على جانب من الفَصَاحَة والعلم الذي لا يدانيه فيه إلاَّ القليل ، وَقَرأ بها أيضاً الأعْمَشُ والأعْرَجُ وكفى بهما في الإتْقَانِ والضَّبْطِ . وقد نقل الفرَّاءُ أنَّ قلب هذه الياء تشبيها لها بياء « صحيفة » قد جاء ، وإن كان قليلاً .
وقوله : { قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ } كقوله : { قَلِيلاً ما تَذكَّرُونَ } .

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)

لما ذكر كَثْرَةَ نِعَمِ اللَّهِ على العبد أتْبَعَهُ بذكر أنَّهُ خلف أبَانَا [ آدم ] وجعله مسجود الملائكة ، والإنعامُ على الأبِ يَجْرِي مجرى الإنعام على الابن .
واختلف النَّاسُ في « ثُمَّ » في هذين الموضعين : فمنهم مَنْ لم يَلْتَزِم [ فيها ] ترتيباً ، وجعلها بمنزلة « الواوِ » فإنَّ خلقنا وتصويرنا بعد قوله تعالى للملائكة « اسْجُدُوا » .
ومنهم من قال : هي للتَّرْتِيبِ لا في الزمان بل للترتيب في الإخبار ولا طائل في هذا .
ومنهم من قال : هي للتَّرْتِيب الزَّمَانيِّ ، وهذا هو موضوعها الأصْلِيُّ .
ومنهم من قال : الأولى للتَّرتيب الزَّمانيِّ والثَّانيةُ للتَّرتيبِ الإخْباريِّ .
واختلف عِبارةُ القائلين بأنَّها للتَّرْتِيب في الموضعين فقال بعضهم : أنَّ ذلك على حذف مضافين ، والتقديرُ : ولقد خلقنا آباءَكُم ثم صوَّرْنَا آباءَكم ثم قلنا ، ويعني بأبينا آدم - عليه الصلاة والسلام - وإنَّما خاطبه بصيغة الجمع وهو واحد تعظيماً له ، ولأنه أصلُ الجميع ، والتَّرتيب أيضاً واضح .
وقال مجاهدٌ : المعنى خلقناكم في ظَهْرِ آدم ثم صوَّرناكم حين أخذنا عليكم الميثاق . رواه عنه أبُو جريج وابْنُ أبِي نَجِيحٍ .
قال النَّحَّاسُ : وهذا أحْسَنُ الأقْوَالِ يذهب مجاهد إلى أنه خلقهم في ظهر آدم ثُمَّ صوَّرَهُم حين أخذ عليهم الميثاقَ ، ثمَّ كان السُّجُود [ بعد ذلك ] ويُقَوِّي هذا قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ } [ الأعراف : 172 ] .
وفي الحديث أنَّهُ أخرجهم أمثال الذَّرِّ ، فأخذ عليهم الميثاق .
وقال بعضهم : المُخَاطِبُ بَنُو آدم ، والمرادُ بهم أبوهم وهذا من باب الخطاب لشَخْصٍ ، والمُرَادُ به غيره كقوله : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [ البقرة : 49 ] ، وإنَّما المُنَجَّى والذي كان يُسَامُ سُوءَ العذاب أسلافهم . وهذا مستيضٌ في لسانهم . وأنشدوا على ذلك : [ الطويل ]
2409 - إذَا افْتَخَرَتْ يَوْماً تَمِيمٌ بِقَوْسِهَا ... وَزَادَتْ عَلَى مَا وطَّدَتْ مِنْ مَنَاقِبِ فأنْتُمْ بِذِي قَارٍ أَمَالَتْ سُيُوفُكُمْ
عُرُوشَ الَّذِينَ اسْتَرهَنُوا قَوْسَ حَاجِبِ ... وهذه الوَقْعَةُ إنَّما كانت في أسلافهم .
والترَّتيبُ أيضاً واضح على هذا .
ومن قالك إن الأولى للتَّرتيب الزَّماني ، والثَّانية للتَّرْتيب الإخْبَارِيِّ اختلفت عباراتهم أيضاً . فقال بعضهم : المرادُ بالخطابِ الأوَّلِ آدمُ ، وبالثَّاني ذريَّتُهُ ، والترتيب الزَّمانيُّ واضح و « ثُمَّ » الثَّانية للتَّرْتِيب الإخباريِّ .
وقال بعضهم : ولقد خلقناكم في ظهر آدم ثُمَّ صوَّرناكم في بُطُونِ أمهاتكم .
وقال بعضهم : [ ولقد خلقنا ] أرواحكم ثم صوَّرْنَا أجسامكم ، وهذا غَرِيبٌ نقله القَاضِي أبو عليٍّ في « المعتمد » .
وقال بعضهم : خلقناكم نُطَفاً في أصلابِ الرِّجال ، ثُمَّ صوَّرْناكم في أرحام النٍّساءِ .
وقال بعضهم : ولقد خلناكم في بطون أمَّهاتكم وصوَّرناكُم فيها بعد الخلق بِشَقِّ السَّمع والبصرِ ، ف « ثمَّ » الأولى للتَّرتيب الزَّمانيِّ ، والثانية للترتيب الإخباري أي : ثم أخبركم أنا قلنا للملائكة .
وقيل : إنَّ « ثُمَّ » الثانية بمعنى « الواو » [ أي ] وقلنا للملائكة فلا تكون للتَّرتيب .

وقيل : فيه تقديمٌ وتأخير تقديرُهُ : ولقد خلقناكم يعني آجم ، ثمَّ قلنا للملائكة اسجُدُوا ، ثمّ صوَّرنَاكم .
وقال بعضهم : إنَّ الخلق في اللُّغَة عبارة عن التقدير ، وتقدير اللَّه عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته بتخصيص كلِّ شيءٍ بمقداره المعيِّنٍ ، فقوله « خَلَقْنَاكُم » إشارة إلى حكم الله ، وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم .
وقوله « صَوَّرْنَاكُم » إشارة إلى أنَّهُ تعالى [ أثبت في اللَّوْحِ المحفوظ صورة كل كائن يحدث ] إلى يوم القيامة ، فخلق الله تعالى عبارة عن حكمه ومشيئته ، والتَّصوير عبارة عن إثْبَاتِ صورة الأشياء في اللَّوحِ المحفوظ . ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم ، وأمر الملائكة بالسُّجود .
قال ابن الخطيب : وهذا التَّأوِيلُ عندي أقْرَبُ من سائر الوُجُوهِ .
وقد تقدَّم الكلامُ في هذا السُّجود ، واختلاف الناس فيه في سورة البقرة .
قوله : « إلاَّ إبليسَ » تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة . وكان الحسن يقول : إبليسُ لم يكن من الملائكةِ؛ لأنه خُلقَ من نارٍ والملائكة من نور لا يستكبرون عن عبادته ، ولا يستحسرون ، و [ هو ليس كذلك فقد عصى إبليس واستكبر ، والملائكةُ ليسوا من الجنِّ وإبليسُ من الجنِّ ، والملائكة رسُلُ اللَّهِ ، وإبليسُ ليس كذلك ، وإبليسُ أوَّلُ خليقة الجنِّ وأبوهم كما أنَّ آدمَ أوَّلُ خليقة الإنس وأبُوهم ، وإبليسُ له ذُرِيَّةٌ والملائكة لا ذُرِّيَّةَ لهم .
قال الحسنُ : ولمَّا كان إبليس مأموراً مع الملائكة استثناه اللَّهُ وكان اسم إبليسَ شيئاً آخر فلما عَصَى اللَّهَ سمَّاهُ بذلك ، وكان مؤمناً عابداً في السَّماءِ حتَّى عصى الله؛ فأهبط إلى الأرض ] .
قوله : « لَمْ يَكُنْ » هذه الجملة استئنافِيَّةٌ؛ لأنها جوابُ سؤال مقدَّرٍ ، وهذا كما تقدَّم في قوله في البقرة « أبَى » ، وتقدَّم أنَّ الوقف على إبليس .
وقيل : فائدة هذه الجُمْلَة التَّوكيد لما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس .
وقال أبُو البقاءِ : إنَّهَا في محلِّ نصب على الحال أي : إلاَّ إبليس حال كونه ممتنعاً من السُّجُودِ ، وهذا كما تقدَّم له في البقرة من أن « أبَى » في موضع نصب على الحال .

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)

في « لا » هذه وجهان :
أظهرهما : أنها زائدة للتوكيد .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « لا » في « ألاَّ تسجد » صلة بدليل قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ سورة ص : 75 ] ومثلها { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] بمعنى ليعلم ، ثم قال : فإن قلت ما فائدةُ زيادتها؟
قلت : توكيد بمعنى الفعل الذي يدخلُ عليه ، وتحقيقه كأنه قيل : يستحق علم أهل الكتاب ، وما منعك أن تحقق السُّجُود ، وتُلزمه نفسك إذا أمرتك؟ . وأنْشَدُوا على زيادة « لا » قول الشَّاعر : [ الطويل ]
2410 - أبَى جُودُهُ لا البُخْلَ واسْتَعْجَلتْ نَعَمْ ... بِهِ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ
يروى « البُخْل » بالنصب والجر ، والنصبُ ظاهرُ الدلالة في زيادتها ، تقديره : أبى جُودهُ البخل . وأمَّا رواية الجر فالظَّاهرُ منها عدم الدلالة على زيادتها ، ولا حجَّة في هذا البيت على زيادة « لا » في رواية النَّصْبِ ، ويتخرَّجُ على وجهين :
أحدهما : أن تكون « لا » مفعولاً بها ، و « البخل » بدلٌ منها؛ لأن « لا » تقالُ في المنع فهي مؤدِّية للبُخْلِ .
والثاني : أنَّها مفعول بها أيضاً ، و « البُخْل » مفعول من أجْلِهِ ، والمعنى : أبي جُودُه لفظ « لا » لأجل البُخْلِ أي : كَرَاهَة البُخْلِ ، ويؤيِّدُ عدَمَ الزِّيادةِ روايةُ الجَرِّ .
قال أبُو عمرو بْنُ العلاءِ : « الرِّوايةُ فيه بخفض » البُخْلِ « ؛ لأن » لا « تستعمل في البُخْلِ » ، وأنشدُوا أيضاً على زيادتها قول الآخر : [ الكامل ]
2411 - ... أفَعَنْكِ لا بَرْقٌ كأنَّ وَميضَهُ
غَابٌ تَسَنَّمَهُ ضِرَامٌ مُثْقَبُ ... يريد أفعنك بَرْقٌ ، وقد خرجَّه أبُو حيَّان على احتمال كَوْنِهَا عاطفة ، وحذف المعطوف ، والتقديرُ : أفعنك لا عن غَيْرِك .

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)

الضمير في « منها » قال ابن عباس : « يُريدُ من الجنَّة؛ لأنه كان من سُكَّانها » قال ابن عباس : كان في عدنٍ ، لا في جنَّة الخلْدِ .
وقيل : تعودُ على السَّمَاءِ ، لأنه روي عن ابن عباس : « أنَّهُ وَسْوَسَ إليهما وهو في السَّمَاءِ » ، ولأنَّ الهبوط إنَّما يكون من ارتفاع .
وقيل : يعود على الأرْضِ ، أمِر أن يخرج منها إلى جَزائر البحار ولا يدخل في الأرض إلا كالسَّارِقِ .
وقيل : يَعُودَ على الرُّتْبَةِ المُنيفَةِ ، والمَنْزِلَةِ الرَّفيعَةِ .
وقيل : يَعُودُ على الصُّورةِ والهيئة الَّتي كان عَلَيْهَا؛ لأنَّهُ كان مُشْرِقَ الوَجْهِ فَعَادَ مظلماً .
قوله : « فَاخْرُجْ » تَأكِيدٌ ل « اهْبِطْ » إذْ هو بمعناهُ .
وقوله : « فِيهَا » لا مفعوم لهُ يعني : أنَّهُ لا يتوهَّمُ أنَّهُ يجوزُ أنْ يتكبَّرَ في غَيْرَهَا ولما اعْتَبَر بَعْضَهُمْ؛ احْتَاجَ إلى تقدير حذفِ مَعْطُوفٍ كقوله : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] قال : والتقدير : « فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فيها ، ولا في غيرها إنَّكَ من الصَّاغِرينَ ، الأذلاَّء ، والصَّغَارُ الذُّلُّ والإهانة » .

قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)

قوله : { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : أخرنِي ، وأمْهِلْني فلا تميتني إلى يوم يُبعَثُونَ من قُبُورهم ، وهي النَّفْخَةُ الأخِيرَةُ عند قِيَام السَّاعَةِ .
والضَّميرُ في « يُبْعَثُونَ يعودُ على بَنِي آدَمَ لدلالة السِّياقِ عليهم ، كما دَلَّ على ما عاد عليه الضَّميرانِ في » منها « وفيها كما تقدم .
قوله : ف { إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } قال بعضُ العُلَمَاءِ ، إنَّهُ تعالى أنظره إلى النَّفْخَةِ الأولى؛ لأنَّهُ تعالى قال في آيةٍ أخرى : { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } [ الحجر : 37 ، 38 ] ، المراد منه اليوم الذي يموت فيه الأحْيَاءُ كلهُمْ .
وقال آخرون : لم يُوقِّتِ اللَّهُ تعالى له أجلاً بل قال : { إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } وقوله في الآيةِ الأخْرَى { إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } المرادُ منه الوقت المَعْلُومُ في عِلْمِ الله تعالى .
قالوا : والدَّليلُ على صِحَّتِهِ : أنَّ إبليس كان مُكَلَّفاً ، والمُكَلَّفُ لا يجوزُ أن يعلم أنَّ اللَّهَ تعالى أخَّرَ أجَلَهُ إلى الوقت الفُلانِيِّن لأنَّ ذلك المُكَلّفَ يعلمُ أنَّهُ متى تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ ، وإذا علم أنَّ وقت موته هو الوَقْتُ الفُلانِيُّ أقدم على المعصية بقلب فارغ ، فإذا قَرُبَ وَقْتُ أجَلِهِ؛ تاب عن تلك المعاصي ، فَثَبَتَ أن تعريف وقت المَوْتِ بعينه يَجْرِي مَجْرَى الإغْرَاءِ بالقَبِيح ، وذلك غير جَائزٍ على اللَّهِ تعالى .
وأجاب الأوَّلُونَ بأنَّ تَعْرِيفَ اللَّه - تعالى - كَوْنَهُ من المُنْظَرِينَ إلى يَوْمَ القِيَامَةِ لا يقْتَضِي إغْراءً؛ لأنَّهُ تعالى كَانَ يعلمُ أنَّهُ يمُوتُ على أقْبَح أنْواعِ الكُفْرِ والفِسْقِ ، سواء عَلِمَ وَقْتَ موته ، أوْ لم يعلمْهُ ، فلم يكنْ ذلك الإعلامُ موجِباً إغراءَهُ بالقبيح ، ومثاله أنَّهُ تعالى عرَّف أنبياءَهُ أنَّهُم يموتون على الطَّهَارَة والعِصْمَةِ ، ولم يكن ذلك مُوجِباً إغراءهم بالقبيح؛ لأجل أنه تعالى عَلِمَ أنَّهُ سواء عرَّفَهُم تلك الحالة ، أم لم يعرِّفْهُمْ تلك الحالة ، فإنَّهُم يَمُوتُونَ على الطَّهارة والعِصْمةِ ، فلمَّا كان حالهم لا يَتَفَاوت بسببِ هذا التَّعْرِيف ، فلا جَرَمَ لم يكن ذلك التعريف إغراء بالقبيحِ فكذلك ههنا .
قوله : { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } في هذه » الباء « وجهان :
أحدهما : أنَّهَا قسميَّةٌ وهو الظَّاهِرُ أي : بقدرتك عليَّ ، ونفاذ سُلْطانِكَ فيَّ لأقْعَدَنَّ لهم على الطَّريق المُسْتَقِيم الذي يسلكونه إلى الجَنَّةِ بأن أزيِّنَ لهم الباطِل ، وما يُكْسِبُهُمْ المآثِمَ .
ويدل على أنها باء القسم قوله تعالى في سورة » ص « : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ } [ الآية : 82 ] .
والثاني : أنَّها سببيَّةٌ ، وبه بدأ الزَّمَخْشَرِيُّ قال : { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } فبسبب إغوائِكَ إيَّايَ؛ لأقعدن لهم ، ثم قال : » والمعنى فَبِسَبَبِ وُقُوعِي في الغَيِّ لأجْتَهِدَنَّ في إغوائهم حتَّى يَفْسُدُوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم « .
فإنْ قُلْتَ : بِمَ تعلَّقَتِ » البَاءُ « ؛ فإنَّ تعلها ب » لأقْعَدُنّ « يصدُّ عنه لام القسم لا تقولُ : واللَّه بزيدٍ لأمرنّ؟
قُلْتُ : تعلَّقتْ بفعل القَسَمِ المَحْذُوف تقديره ، فبما أغْوَيْتَني أقْسِمُ باللَّهِ لأقعدنّ [ أي ] : فبسبب إغوائك أقسم .

ويجُوزُ أن يكون « البَاءُ » للقسم أي : فأقْسِمُ بإغْوَائِكَ لأقْعُدَنَّ .
قال شهابُ الدِّين . وهذان الوَجْهَانِ سبقه إليهما أبُو بَكْرِ بْنُ الأنْبَارِيِّ ، وذكر عبارةً قريبةً من هذه العِبارَةِ .
وقال أبو حيان : « وما ذكره من أنَّ اللاَّمَ تصدُّ عن تعلُّقِ البَاءِ ب » لأقْعُدَنَّ « ليس حكماً مجتمعاً عليه ، بل في ذلك خِلافٌ » .
قال شهابُ الدِّين : أما الخلافُ فنعم ، لكنَّهُ خلافٌ ضعيفٌ لا يعتد به أبُو القَاسِمُ ، والشَّيْخُ نَفْسُهُ قد قال عند قوله تعالى : { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ } [ الأعراف : 18 ] في قراءة من كَسَرَ اللاَّم في « لِمَنْ » : إنَّ ذلك لا يجيزه الجمهورُ ، وسيأتي مبينّاً إن شاء اللَّهُ تعالى .
و « مَا » تَحْتَمِلُ ثلاثةَ أوْجُهٍ :
أظهرها : أنَّهَا مَصْدَريَّةٌ أي : فَبِإغوائِكَ إيَايَ .
والثاني : أنَّها استفهاميَّةٌ يعني أنَّهُ اسْتَفْهَمَ عن السَّبب الذي إغواهُ به فقال : فبأيِّ شيءٍ من الأشْيَاءِ أغْوَيْتَنِي؟ ثم استأنَفَ جُمْلَةً أقْسَمَ فيها بقوله : « لأقْعُدَنَّ » وهذا ضعيفٌ عند بعضهم ، أو ضرورةً عند آخرينَ من حيثُ أنَّ « مَا » الاسفتهاميَّة إذا جُرَّت حُذِفَتْ ألفُهَا ، ولا تثبت إلاَّ في شذوذ كقولهم : عمَّا تَسْألُ؟ أو ضَرُورَةً كقوله : [ الوافر ]
2412 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزير تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
والثالث : أنَّها شرطيةٌ ، وهو قول ابن الأنْبَارِيِّ ، ونَصُّهُ قال - رحمه الله - : ويجوز أن يكون « مَا » بتأويل الشَّرْطِ ، و « الباء » من صلة الإغواء ، والفاءُ المضْمَرةُ جوابُ الشَّرْطِ ، والتقديرُ : فبأي شيء أغويتني فلأقعدن لهم صراطَكَ؛ فتُضْمَرُ الفاءُ [ في ] جواب الشَّرْطِ كما تُضْمِرُهَا في قولك : « إلَى مَا أوْمَأتَ أنِّي قَابِلُهُ ، وبما أمرت أني سامعٌ مطيعٌ » . وهذا الذي قاله ضعيف جدّاً ، فإنَّهُ على تقدير صحَّةِ معناهُ يمتنعُ من حيث الصناعةُ ، فإن فاء الجزاء لا تُحذف إلاَّ في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ كقوله : [ البسط ]
2413 - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا ... والشَّرُّ بالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلانِ
أيْ : فالله . وكان المبرد لا يُجَوَّز ذلك ضرورة أيضاً ، وينشد البيت المذكور : [ البسيط ]
2414 - مَنْ يَفْعَل الخَيْرَ فالرَّحْمَنُ يَشْكُرُهُ .. .
فعلى قول أبي بكر يكونُ قوله : « لأقْعدنَّ » جواب قسم محذوف ، وذلك القسَمُ المقدَّرُ ، وجوابه جوابُ الشَّرْطِ ، فيقدَّرُ دخول الفَاءِ على نفس جُمْلَةِ القَسَمِ مع جوابها تقديرُهُ : فبما أغْوَيْتَنِي فواللَّهِ لأقْعُدَنَّ . هذا يتمم مذهبه .
والإغواء إيقاع الغَيِّ في القَلْبِ أي : بما أوْقَعْتَ في قلبي من الغَيِّ والعِنَادِ والاستكبار وقد تقدَّمَ في البَقَرَة .
قوله : « صِرَاطكَ » في نَصْبِهِ ثلاثة أوْجُهٍ :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على إسْقَاطِ الخَافِضِ .
قال الزَّجَّاج : ولا اختلاف بين النَّحءويين أنَّ « على » محذوفة كقولك : « ضَرَبَ زيد الظَّهْرَ والبطنَ ، أي : على الظَّهْرِ والبَطْن » .

إلا أن هذا الذي قاله الزَّجَّاجُ - وإن كان ظاهِرُهُ الإجماع - ضعيف من حيث إنَّ حَرْفَ الجرِّ لا يطَّردُ حَذْفَهُ ، بل هو مخصوص بالضَّرُورَةِ أو الشُّذوذِ؛ كقوله : [ الوافر ]
2415 - مُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا .. . .
[ وقوله ] : [ الطويل ]
2416 - . ... لَوْلاَ الأسَى لقَضَانِي
[ وقوله ] : [ الطويل ]
فَبَتُّ كَأنَّ العَائِدَاتِ فَرَشْنَنِي .. .
أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرفِ ، والتَّقديرُ : لأقْعُدَنَّ لهم في صِرَاطِكَ .
وهذا أيضاً ضعيف؛ لأنَّ « صِرَاطكَ » ظرف مكان مُخْتَصّ ، والظَّرْفُ المكانيُّ المختصُّ ، لا يصل إليه الفِعْلُ بنفسه ، بل ب « في » تقول : صلَّيْتُ في المسجد ، ونمت في السُّوقِ . ولا تقول : صليتُ المَسْجِدَ إلا فيما استثني في كُتُبِ النحوِ ، وإنْ وَرَدَ غير ذلك ، كان شاذّاً؛ كقولهم « رَجَعَ ادْرَاجَهُ » و « ذَهَبْتُ » مع « الشَّام » خاصَّة أو ضرورةً؛ كقوله : [ الطويل ]
َزَى اللَّهُ بالخَيْرَاتِ مَا فَعَلا بِكُمْ ... َفِيقَيْنِ قَالاَ خَيْمَتَيْ أمِّ مَعْبَدِ
في خَيْمتَي ، وجعلُوا نظير الآيةِ في نَصْبِ المكان المختصِّ قول الآخر : [ الكامل ]
َدْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنَهُ ... ِيهِ كَمَا عَسَل الطَّريقَ الثَّعْلَبُ
يتُ أنْشَدَهُ النُّحَاةُ على أنَّهُ ضَرُورةٌ ، وقد شذَّ ابن الطَّرَاوَةِ عن مذهب النُّحَاةِ فجعل « الصِّراط » و « الطَّريقَ » في هذين الموضعين مكانين مُبْهَمَيْن . وهذا قولٌ مردودٌ؛ لأن المُخْتَصَّ من الأمكنة ما له أقطار تحويه ، وحدود تحصره ، والصِّراطُ والطَّريقُ من هذا القبيل .
الثالث : أنَّهُ منصوبٌ على المفعول به؛ لأن الفِعْلَ قبله - وإنْ كان قاصراً - فقد ضُمِّن معنى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ . والتقديرُ : لألزمن صراطك المستقيمَ بقُعُودي عليه .
فصل في معنى إغواء إبليس
قول إبليس « فَبِما أغْوَيْتَنِي » يدلُّ على أنَّهُ أضَافَ إغواءه إلى اللَّه - تعالى - ، وقوله في آية أخرى : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] يدلُّ على أنَّهُ أضَافَ إغواء العباد غلى نفسه ، فالأول دلَّ على مَذْهَب أهْلِ الجَبْر ، والثَّانِي يدلُّ على مذهب [ أهل ] القدر ، وهذا يدلُّ على أنه طكان متحيراً في هذه المسألةِ . وقد يقال : إنَّهُ كان معتقداً بأن الإغواءِ لا يَحْصُلُ إلاَّ بالمغوي فَجَعَلَ نَفْسَهُ مُغْوِياً لغيره من الغاوين ثمَّ زعم أنَّ المُغوي لهُ هو اللَّهُ - تعالى - قطعاً للتَّسلْسُل .
واختلفُوا في تَفْسير هذه الكَلِمَةِ ، فقال أهْلُ السُّنَةِ : الإغواءُ إيقاع الغيِّ في القَلْبِ ، والغيُّ هو الاعتقادُ البَاطِلُ ، وذلك يدلُّ على أنَّهُ كان يعتقدُ أنَّ الحقَّ والباطل أنَّمَا يقعُ في القَلْبِ من اللَّهِ .
وأمَّا المعتزلةُ فلهم ههنا مقاماتٌ .
أحدها : أن يفسِّرُوا الغَيَّ بما ذكرناه ، ويعتذروا عنه بوجوه .
منها : أن قالوا : هذا قول إبْليسَ ، فهب أنَّ إبليس اعتقد أنَّ خَالِقَ الغيِّ ، والجهلِ ، والكفرِ هو الله ، إلاَّ أنَّ قول إبليس ليس بحجَّةٍ .
ومنها قالوا : إنَّه تعالى لمَّا أمره بالسُّجُود لآدَمَ؛ فعند ذلك ظهر غيه وكفره ، فجاز أن يضيف ذلك إلى الله - تعالى - لهذا المعنى ، وقد يَقُولُ القائِلُ : لا تحملني على ضَرْبِكَ أي : لا تَفعلْ ما أضربك عِنْدَهُ .

ومنها : أن قوله { ربِّ بِمَا أغْوَيْتَنِي } أي : لعنتني ، والمعنى أنَّكَ لمَّا لَعَنْتَنِي بسبب آدَمَ؛ فأنَا لأجْلِ هذه العَداوَةِ؛ ألقي الوساوسَ في قُلُوبهم .
المقام الثاني : أنْ يفسِّرُوا الإغْواءَ بالهلاكِ ، ومنه قوله تعالى : { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] أي : هلاكاً وويلاً ، ومنهُ أيضاً قولهم : غَوَى الفَصِيلُ يَغْوِي غوىً؛ إذَا أكثر من اللَّبَنِ حتى يفسدَ جوفه ويُشَارِفَ الهَلاكَ والعَطَبَ . وفسَّروا قوله تعالى : { إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34 ] إن كان اللَّهُ يريدُ أنْ يهلككهم بعنادكم للحق . فهذا جميع الوجوه المذكورة .
قال ابْنُ الخَطِيبِ : ونحن لا نُبَالغُ في بيان أنَّ المراد من الإواء في هذه الآية الإضلالُ؛ لأن حَاصِلَهُ يرجع إلى قول إبليس ، وإنَّه ليس بحجة إلاَّ أنَّا نقيمُ البرهانُ اليقينيَّ على أنَّ المُغْوِي لإبليس هو اللَّهُ - تعالى - وذلك؛ لأنَّ الغاوي لا بدَّ لهُ من مُغْوٍ ، والمُغْوِي له إمَّا أن يكون نَفْسَهُ ، أو مخلوقاً آخَرَ ، أو اللَّهَ - تعالى - والأوَّلُ باطِلٌ؛ لأن العاقلَ لا يختارُ الغوَايَة مع العِلْمِ بكونها غوَايَةٌ ، والثَّاني أيضاً باطلٌ ، وإلاّ لزم إما التَسَلْسُل وإمَّا اغلدَّوْرُ ، والثَّالِثُ هو المقصود .
فصل في المراد من الإقعاد
المراد من قوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } أنَّهُ يُواظِبُ على الإفْسَادِ مواظبة لا يَفْتُرُ عنها ، ولهذا المعنى ذكر القُعُود؛ لأن من أراد المُبَالَغَة في تكميل أمر من الأمُور قعد حتى يصير فارغَ البالِ ، فيمكنه إتمام المقصود . ومواظبته على الإفْسَادِ ، هي مُواظَبَتُهُ على الوَسْوسَةِ بحيثُ لا يَفْترُ عنها .
قال المُفَسِّرُونَ : معنى { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } أي : بالصَّدِّ عنه وتزيين البَاطِل؛ حتَّى يهلكوا كما هَلَكَ ، أو يضلوا كما ضَلَّ ، أو يخيبوا كما خَابَ .
فإن قيل : هذه الآيَةُ دَلَّتْ على أنَّ إبليس كان عالماً بالدِّين الحقِّ؛ لأنه قال { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } وصراطُهُ المُستقِيمُ هو دينه الحقُّ ، ودَلَّتْ أيضاً على أن إبليس كان عالماً بأنَّ الذي هو عليه من الاعتقاد هو مَحْضٌ الغوايَةِ والضَّلال لأنه لو لم يكن كذلك لما قال : { رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } [ الحجر : 39 ] ، وإذا كان كذلك فكيف يمكن أنْ يرضى إبليسُ بذلك المَذْهَب مع علمه بكونه ضلالاً وغوايةً ، وبكونه مضاداً للدِّين الحقِّ ، ومنافياً للصِّراط المستقيم ، فإنَّ المرءَ إنَّما يعتقدُ الاعتقادَ الفَاسِدَ إذا غلب على ظَنِّهِ كونه حَقّاً ، فأمَّا من عَلِمَ أنَّهُ باطلٌ وضلالٌ وغوايةٌ يَسْتَحِيلُ أنْ يختاره ، ويرضى به ، ويعتقدهُ .
فالجوابُ : أنَّ من النَّاسِ من قال : إنَّ كفر إبليسَ كفْرُ عَناد لا كُفْرَ جَهْلٍ ، ومنهم من قال : كُفْرُهُ كُفْرُ جَهْلٍ . وقوله : { فَبِمآ أَغْوَيْتَنِي } ، وقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } يريدُ به في زعم الخَصْمِ ، وفي اعتقاده .
فصل في بيان هل على الله رعاية المصالح
احتجَّ أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّهُ لا يجب على اللَّه رعاية مصالح العبدِ في دينه ولا في دنياه؛ لأنَّ إبليس استمهل الزَّمَانَ الطويل فأمْهَلَهُ اللَّهُ ، ثمَّ بيَّن أنَّهُ إنَّمَا يستمهله؛ لأغواء الخلق ، وإضلالهم .

والله - تعالى - عَالِمٌ بأنَّ أكثر الخلق يطيعونهُ ، وقبلونَ وسْوَسَتَهُ كما قال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين } [ سبأ : 20 ] فثبت أنَّ إنْظَارَ إبليس وإمْهَالَهُ هذه المدة الطويلة؛ يَقْتَضِي حصور المفاسِدِ العظيمة .
والكفر العظيم ، فلو كان تعالى مراعياً لمصالح العبادِ؛ لامتنع أنْ يمهله ، وأن يمكنه من هذه المفاسد ، فَحَيْثُ أنْظَرَهُ وأمهله؛ علمنا أنَّهُ لا يجب عليه شيء من رِعَايَةِ المصالح أصْلاً ، ومما يوِّي ذلك أنَّهُ تعالى بَعَثَ الأنبياءَ دعاة إلى الحقِّ ، وعلِمَ من حال إبليس أنَّهُ لا يَدْعُوا إلاَّ إلى الكُفْرِِ والضلالِ ، ثم إنَّهُ تعالى أماتَ الأنْبِيَاءِ الذينَ يَدْعُونَ الخلق إلى الحق ، وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين يَدْعُونَ إلى الكُفْرِ والبَاطِل ، ومن كان مُرِيداً لمَصَالِح العباد؛ امتنعَ منه أنْ يفعل ذلك .
قالت المُعتزلةُ : اختلف شُيُوخُنَا في هذه المسألةِ فقال الجُبَّائِيُّ : إنَّهُ لا يختلفُ الحالُ بسببِ وجودِهِ وعدمِهِ ، ولا يضل بقوله أحَدٌ إلا من لو فَرَضْنَا عدم إبليس ، لكان يضل أيضاً ويَدُلُّ على ذلك قوله تعالى : { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم } [ الصافات : 162 ، 163 ] ، ولأنَّهُ لو ضَلَّ به أحَدٌ لكان بقاؤه مفسدة .
وقال أبُو هَاشِم : يجوز أنْ يضل به قَوْمٌ ، ويكون خلقه جارياً مجرى خلق زيادة الشَّهْوَة ، فإنَّ هذه الزِّيادة من الشهوة لا توجب فِعْلَ القَبيح إلاَّ أنَّ الامْتناعَ منها يصير أشَقَّ ، وأجْلِ تلك الزِّيَادة من المشقَّةِ ، تحصل الزِّيادةُ في الثَّواب ، فكذا ههنا بسبب بقاءِ إبليس يصير الامتناع من القَبَائِح أشد ، وأشق ، ولكنه لا ينتهي إلى حدِّ الإلجاء والإكْراهِ .
والجوابُ : أمَّا قول أبي علي فضعيف؛ لأنَّ الشَّيْطانَ لا بُدَّ وأن يزيِّن القبائِحَ في قلب الكافر ويحسِّنهَا له ، ويذكره ما في القَبَائِح من أنواع اللَّذَّاتِ ، ومن المعلوم أن حال الإنسان مع حُصُولِ هذا التذكير والتَّزْيين لا يكون مُسَاوِياً لحاله عِنْدَ عدم هذا التذكير والتزيين ، ويدلُّ على ذلك العرف ، فإنَّ الإنسان إذا حصل له جلساءُ يرغبونه في أمر من الأمُور ، ويحسنونه في عينه ويسهِّلُونَ عليه طريقَ الوُصُولِ إليه ، ويواظبون على دعوته إليه؛ فإنَّهُ لا يكون حاله في الإقدام على ذلك ، كحاله إذا لم يوجد هذا التَّذْكير والتَّحسين والتَّزيين ، والعلم بذلك ضروري .
وأمَّا قولُ أبي هاشم فضروريُّ البُطْلانِ؛ لأنه إذا صار هذا التَّذكير والتَّزيين حاملاً للمرء على الإقدام على ذلك القبيح كان ذلك سعياً في إلقائِهِ في المفسدة ، وما ذكره من خلق الزِّيادةِ في الشَّهْوَةِ فهو حُجَّةٌ أخرى لنا في أنَّ اللَّه تعالى لا يراعي المصلحة ، فكيف يمكنه أن يحتجَّ به ، والذي يقرره غاية التقرير : أنه لسبب حصول تلك الزِّيادة في الشَّهوة يقع في الكفر وعذاب الأبَدِ ، ولو احترزَ عن تلك الشَّهْوَة فغايتُهُ أن يزداد ثوابُهُ بزيَادَةِ تلك المشقَّةِ ، وحصول هذه الزَّيادَة من الثَّوابِ شيءٌ لا حَاجَةَ إليْهِ ألْبَتَّة ، أمَّا دفعُ العِقَاب المؤبَّدِ ، فليه أعظم الحاجات ، فلو كان إلهُ العالم مُرَاعياً لمصالح العِبادِ لاسْتَحَال أن يهمل الأهم الأكمل الأعظم لأجل زيادةٍ لا حاجةَ إليها ولا ضَرُورةَ .

فَثَبَتَ فساد هذه المذاهب ، وأنَّهُ لا يَجِبُ على الله شيء أصلاً .
قوله : « ثم لآتينهم » جُمَْةٌ معطوفةٌ على جواب القسم أيضاً وأخبر أنَّهُ بعد أنْ يَقْعُدَ على الصِّراطِ يأتي من هذه الجهات الأربع ، ونوَّع حَرْفَ الجرِّ فَجرَّ الأوَّلَيْن [ « ب » مِنْ « والثَّانيين ب » عَنْ « لنكته ذكرها الزَّمَخْشَرِي . قال - رحمه الله - : » فإن قُلْتَ كَيْفَ قيلَ : مِنْ بين أيْديهمْ ، ومن خلفهم بحرف الابتداء ، وعنْ أيْمَانِهِم ، وعن شَمَائِلِهِمْ بحرف المُجاوَزَةِ؟
قلت « : المفعول فيه عُدِّي إليه الفِعْلُ نحو تعديته إلى المفعُولِ به ، فكما اختلف حروفُ التَّعْدِيَة في ذلك اختلفت في هذا ، وكانت لغة تُؤخَذُ ولا تُقاسُ ، وإنَّمَا يُفتش عن صِحَّةِ موقعها فقط ، فلما سمعناهم يَقُولُون : جلس عن يمينه ، وعلى يمينه ، وعن شماله ، وعلى شماله قلنا : معنى » عَلَى يَمينِهِ « أنَّهُ تمكَّن من جهة اليمين تمكُّن المُسْتعلِي من المُسْتَعْلَى عليه .
ومعنى » عَنْ يَمينِهِ « أنَّهُ جَلَسَ مُتَجافِياً عن صاحب اليمينِ غير مُلاصِق له مُنْحَرِفاً عنه ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى استعمل في المُتَجَافِي وغيره كما ذكرنا في » تعال « . ونحوه من المفعول به قولهم : » رَمَيْتُ على القَوْسِ ، وعن القَوْسِ ، ومن القَوْسِ « لأنَّ السَّهْمَ يَبْعُدُ عنها ، ويستعليها إذا وضع على كَبدهَا للرَّمْي ، ويَبْتَدِىء الرَّمْيُ منها ، فلذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى » في « ؛ لأنَّهُمَا ظَرْفَانِ ويَبْتَدِىءُ الرَّمْيُ منها ، فلذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى طفي » ؛ لأنَّهُمَا ظَرْفَانِ للفعل ، ومِنْ بين يديه ومن خلفه؛ لأنَّ الفِعْلَ يقع في بعض الجِهَتَيْنِ كا تقُولُ : جِئْتُ من اللَّيْل تريدُ بعض اللَّيل « .
قال شهابُ الدِّين : » وهذا كلامُ مَنْ رَسَخَتْ قَدَمُهُ في فهم كلامِ العرب « .
وقال أبُو حيَّان : وهو كلامٌ لا بَأسَ به . فلم يوفِّ حقَّهُ .
ثم قال : وأقُولُ : وإنَّما خصَّ بين الأيدي ، والخلف بحرف الابتداءِ الذي هو أمكن في الإتْيَانِ؛ لأنَّهُمَا أغلب ما يجيءُ العدوُّ منهما فَيَنَال فرصتَهُ ، وقدَّم بين الأيْدِي على الخَلْفِ؛ لأنَّهَا الجِهَةُ الَّتِي تَدُلُّ على إقدام العَدُوِّ وبسالته في مواجهة قِرْنِهِ غير خَائِفٍ مِنْهُ ، والخلف جهة غدر ومخاتلة ، وجهالة القِرْن بِمَنْ يغتاله ، ويتطلب غِرَّتِهِ وغَفْلَتَهِ ، وخصَّ الأيمان والشَّمائِلَ بالحرف الذي يدلُّ على المجاوزة؛ لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العَدُوّ ، وإنما يجاوز إتْيَانَهُ إلى الجِهَةِ الَّتِي هي أغْلَبُ في ذلِكَ ، وقُدِّمَتِ الأيمان على الشَّمائِل؛ لأنها هي الجِهَةُ القويَّةُ في مُلاقَاةِ العَدُوِّ ، وبالأيمان البَطْشُ والدَّفْعُ ، فالقرن الي يأتي من جهتها أبْسَلُ وأشْجَعُ إذ جاء من الجهة الَّتي هي أقوى في الدَّلإْعِ ، والشَّمَائِل ليست في القُوِّةِ والدَّفْعِ كالأيمان .

[ والأيمانُ ] والشَّمَائِلُ جَمْعا يمينٍ وشمالٍ ، وهما الجَارِحَتَانِ وتجمعان في القلَّة على أفْعُلٍ ، قال : [ الرجز ]
[ 2420 ] - يَأتِي لَهَا مِنْ أيْمُنِ وأشْمُلِ ... والشَّمَائِلُ يُعبَّرُ بها عن الأخلاق والشِّيم تقول : له شمائل حسنة ، ويُعبَّر عن الحسنات باليمين ، وعن السَّيِّئَات بالشَّمَال؛ لأنَّهُمَا منشأ الفعلين : الحسن السيّىء .
2421 - أَبُثْنَى ، أفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتنِي ... فأفْرَحَ أمْ صَيَّرتني فِي شِمَالِكِ
يكنون بذلك عن عِظَمِ المنْزِلَةِ عند الشَّخْصِ وخِسَّتِها ، وقال : [ الطويل ]
2422 - رَأيْتُ بَنِي العَلاَّتِ لمَّا تَضَافَرُوا ... يَجُوْزُوْنَ سَهْمِي بَيْنَهُمْ فِي الشَّمَائِلِ
والشَّمائل : جمع شمال بفتح الشِّين وهي الرِّيح .
قال ابمرؤ القيس : [ الطويل ]
2423- وَهَبَّتْ لَهُ رِيحٌ بِمُخْتَلِفِ الصُّوَى ... صَباً وشَمالٌ فِي مَنَازِلِ قُفَّالِ
والألف في « الشَّمال » زائدة ، لذا يُزاد فيها الهمزة أيضاً بعد الميم وقبلها فيقولون : شَمْأل وشَأمَل ، يدلُّ على ذلك كلِّه سقوطه في التَّصْرِيفِ قالوا : « أشملت الريح » إذا هبت شمالاً .
فصل في معنى « من بين أيديهم »
قال عليُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عن ابين عباس : « مْنْ بيْنَ أيدِيهِم أي : من قبل الآخر فأشككهم فيها ، ومن خَلْفِهِم أرغبهم في دنياهم وعن أيمانهم أشبه عليهم أمر دينهم ، وعن شمائلهم أشهي لهم المعاصي » .
وروى عطيَّةُ عن ابن عباس : « مِنْ بَيْنِ أيديِهِمْ من قبل دنياهم يعني أزينها في قلوبهم . ومن خَلْفهمْ : من قبل الآخرة فأقول : لا بَعْثَ ، ولا جَنَّة ولا نَارَ ، وعن أيْمَانِهِمْ : من قبل حسناتهم وعن شمائلهم : من قبل سيِّئاتهم » .
قال ابن الأنْبَاريِّ : « قول من قال الأيمانُ كِنَايَة عن الحسنات والشَّمائِل كناية عن السيئاتِ قول حسنٌ؛ لأنَّ العرب تقولُ : اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالكَ ، يُريدُ اجعلني من المُقدَّمينَ عِنْدك ، ولا تجعلني من المؤخرين » .
وروى أبو عبيدة عن الأصمعي أنه قال : « أنتَ عِنْدَنَا باليمين أي : بمنزلة حسنةٍ ، وإذا خبثت منزلته قال أنت عندي بالشِّمالِ » .
وقال الحكم والسُّدِّيُّ : « مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ » : من قبل الدنيا يزيّنها لهم ، ومن خلفهم : من قبل الآخرة يثبِّطُهُم عنها ، وعن أيمانهم من قبل الحقِّ يَصُدُّهُم عنه ، وعن شمائلهم : من قبل الباطل يزينه لهم .
وقال قتادَةُ : « أتاهم من بين أيْديِهم فأخبرهم أنَّهُ لا بعث ولا جنَّة ، ولا نار ، ومن خلفهم في أمْرِ الدُّنْيَا فزينها لهم ودعام إليها ، وعن أيْمَانِهِمْ من قبل حسناتهم بطأهم عنها ، وعن شمائلهم زيَّن لهم السِّيئات والمعاصي ، ودعاهم إليها » .
وقال مُجَاهِدٌ : « مِنْ بَيْنِ أيديهم ، وعن أيمانهم من حث يبصرون ومن خَلْفِهِم ، وعن شمائلهم من حيث لا يُبْصِرُونَ » .

قال ابن جريج : معنى قوله : « حَيْثُ يبصرون أي : يخطئون ، وحيث لا يُبْصِرُون أي : لا يعلمون أنَّهم يخطئون » .
وقيل : من بَيْنِ أيْدِيهِمْ في تكذيب الأنْبِياءِ والرُّسُلِ الذين يكونون حاضرين ، ومن خلفهم في تَكْذِيب من تقدَّمَ من الأنبياء والرُّسُلِ ، وعن أَيمانهم في الكُفْرِ والبِدْعَةِ ، وعن شمائلهم في أنواع المعاصي .
وقال حُكَمَاء الإسْلامِ : إنَّ في البدن قُوىً أربعاً؛ هي الموجبة لِقُوَّاتِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ ، فالقوة الأولى الخياليَّةُ التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وصورها ، وهي موضوعة في البطن المقدَّم من الدِّماغِ ، وصورة المحسوسات إنَّمَا تَرِدُ عليها من مقدمها .
وإليه الإشارة بقوله : { مِنْ بَيْنِ أيْدِيِهِمْ ] .
وَالقُوَّةُ الثَّانِيَةُ : الوهمِيَّةُ التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ، وهي موْضُوعَةٌ في البَطْنِ المؤخر من الدِّماغِ ، وإليه الإشَارَةُ بقوله : « وَمِنْ خَلْفِهِم » .
والقُوَّةُ الثَّالِثَةُ : الشَّهْوَةُ ، وهي موضوعة في الكبدِ ، وهي من يمين البدن ، وإليه الإشارة بقوله : « وعَنْ أيْمَانِهِم » .
والقُوَّة الرَّابِعَةُ : الغَضَبُ ، وهي موضوعةٌ في البطن الأيسر من القلب ، وإليه الإشارة بقوله : « وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ » . فهذه القُوَى الأرْبَعُ التي تَتَولَّدُ عنها أحْوالٌ تُوجِبُ زوال السَّعادات الرُّوحانيَّة ، والشَّياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوَسْوسَةِ ، فهذا هو السَّبَبُ في تعيين هذه الجهات الأربع .
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ الشَّيطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدْمَ بِطَرِيْقِ الإِسْلامِ فقَالَ : اتَّبِعْ دِيْنَ آبَائِكَ فَعَصَاهُ فأسْلَمَ ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيْقِ الهِجْرةِ فقالَ لَهُ : تَدَعُ دِيَارَكَ وتَتَغَرَّبُ! فَعَصَاهُ وهَاجَرَ ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيق الجِهَادِ فقال له : تُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فيقُسمُ مَالُكَ وتُنْكَحُ امْرَأتكُ فَعَصَاهُ فقاتَلَ » فهذا الخَبَرُ يدلُّ على أنَّ الشَّيطان لا يترك جهة من جهات الوسْوسَةِ إلاَّ ويلقيها في القَلْبِ .
فإن قيل : فلم [ لم ] يذكر من الجهات الأربع { مِنْ فَوْقِهِم ومِنْ تَحْتِهِم؟ }
فالجوابُ أنَّا ذكرنا أنَّ القُوَى التي يتولَّدُ منها ما يُوجِبُ تفويتَ السَّعادات الرُّوحانية فهي موضوعةٌ في هذه الجوانب الأربعة من البدنِ .
وأمّا في الظَّاهر فيروى أنَّ الشَّيْطانَ لمَّا قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا : يا إلهنا ، كيف يتخلَّصُ الإنسان من الشيطان مع كونه مستولياً عليه من هذه الجهات الأرْبَعِ؟ فأوحى اللَّهُ تعالى إليهم : « أنه بَقِيَ للإنسان جهتان : الفَوْقُ والتَّحْتُ ، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدُّعَاءِ على سبيل الخضوع ، أو وضع جبهته على الأرْضِ على سبيل الخَشُوع غفرت له ذَنْبَ سبعينَ سَنَةً » .

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)

الوجدان هنا يحتمل أن يكون بمعنى اللِّقَاءِ ، أو بمعنى العِلْم أي : لا تُلْقي أكثرهم شاكرين أو لا تعلم أكثرهم شاكرين ف « شاكرين » حال على الأَوَّلِ ، مفعول ثانٍ على الثَّانِي .
وهذه الجملة تحتمل وجهين :
أحدهما : أنَّ تكون استئنافية أخبر اللَّعِينُ بذلك لتظنِّيه قال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [ سبأ : 20 ] ، أو لأنَّهُ علمه بطريق قيل : لأنه كان قد رأى ذلك في اللَّوْح المَحْفوظِ . ويحتمل أن تكون دَاخِلَةً في حيِّز ما قبلها من جواب القسمِ فتكونُ معطوفةً على قوله : « لأقْعُدَنَّ » أقْسَمَ على جملتين مُثْبَتَتَيْنِ ، وأخرى منفَّية .

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)

ف « مذؤوماً مَدْحُوراً » حالان من فاعل « اخرج » عند من يجيز تعدد الحال لذي حال واحدة ، ومَنْ لا يُجيز ذلك ف « مَدْحُوراً » صفة ل « مذؤوماً » أو هي حالٌ من الضَّمير في الجارِّ قَبْلَهَا ، فيكونُ الحالانِ مُتَدَاخِلَيْنِ .
و « مَذْءُوماً مَدْحُوراً » اسما مفعول مِنْ : ذَأمَهُ وَدَحَرَهُ . فأمَّا ذَأمَهُ فيقالُ : بالهمز : ذَأمَه ، يَذْأمُهُ كرَامَه يَرْأمُهُ ، وذَامَهُ يَذِمُهُ كبَاعَه يَبِيعُهُ من غَيْر هَمْزٍ ، وعليه قولهم : « لنْ تَعْدَمَ الحَسْنَاءُ ذَاماً » يروى بهمزةٍ ساكنةٍ أو ألف ، وعلى اللُّغَةِ الثَّانية قول الشاعر : [ الطويل ]
2424 - تَبِعْتُك إذْ عَيننِي عَلَيْهَا غَشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أذِيمُهَا
فَمَصْدَرُ المَهمُوز : ذأمٌ كرأس ، وأمَّا مصدر غير المهموز فَسُمِعَ فيه ذامٌ بألف ، وحكى ابْنُ الأنْبَارِيِّ فيه ذيماً كينعٍ قال : يقال : ذأمْتُ الرَّجُلَ أذْأمُه ، وذِمْتُه أذِيْمُه ذَيْماً ، وذَمَمْتُه أذُمُّه ذَماً بمعنىً؛ وأنشد : [ الخفيف ]
2425 - وأقَامُوا حَتَّى أبِيرُوا جَمِيعاً ... فِي مقَامٍ وكُلُّهُمْ مَذْءُومْ
ُّ : العَيْبُ ومنه المثلُ المتقدَّمُ : « لن تَعْدَمَ الحَسْنَاءُ ذاماً » أي كُلُّ امرأة حسنة لا بدَّ أن يكون فيها عيب ما وقالوا : « أرَدْتَ أنْ تُذيمَهُ فمَدَهْتَهُ » أي : « تُعيُبُه فَمَدحْتَهُ » فأبدل الحاء هاء : وقيل : الذَّامُ : الاحتقارُ ، ذَأمْتُ الرجل : أي : احْتَقَرْتُهُ ، قاله الليثُ .
وقيل : الذَّامُ الذَّمُّ ، قاله ابن قيتبة وابن الأنْبَاريِّ؛ قال أمّيَّةُ : [ المتقارب ]
2426 - وَقَالَ لإبْلِيسَ رَبُّ العِبَادِ ... [ أن ] اخْرُجُ لَعِيناً دَحِيراً مَذُومَا
والجمهور على « مَذْءُوماً » بالهمز .
وقرأ أبُوا جَعْفَرٍ والأعمشُ والزُّهْرِيُّ « مَذُوْماً » بواوٍ واحدةٍ من دون همز وهي تَحْتَمِلُ وجهين :
أحدهما - ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه - أنَّهُ تَخْفِيف « مذؤوماً » في القراءةِ الشَّهيرةِ بأن أُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الهَمْزَةِ على الذَّالِ السَّاكنة ، وحُذِفَت الهَمْزَةُ على القاعدةِ المُشْتَهِرَةِ في تَخْفيفٍ مثله ، فوزن الكلمة آل إلى « مَفُول » لحَذْفِ العَيْنِ .
والثاني : انَّ هذه القراءة مَأخُوذَةٌ من لغة مَنْ يَقُولُ : ذِمْتُه أذِيمُهَ كبِعْتُهُ أبيِعُهُ ، وكان من حقِّ اسم المَفْعُولِ في هذه اللُّغَةِ مَذِيمٌ كمبيع قالوا : إلا أنَّهُ أبْدِلَتِ الواوُ من اليَاءِ على حدِّ قولهم « مَكثولٌ » في « مَكِيلٍ » مع أنَّهُ من الكيل ومثلُ هذه القراءةِ في احْتِمالِ الوجهين قول أمَيَّةَ بْنِ أبي الصَّلْتِ في البيت المُتقدِّمِ أنشده الواحِديُّ على لغةِ « ذَامَهُ » بالألف « يَذِيمُهُ » بالياء ، ولَيْتَهُ جعله محتملاً للتَّخْفِيفِ من لُغَةِ الهَمْزِ .
والدَّحْرُ : الطَّرْدُ والإبْعَادُ يقال : دَحَرَهُ ، يَدْحَرُهُ دَحْراً ، ودُحوراً؛ ومنه : { وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً } [ الصافات : 8 ، 9 ] ؛ وقول أميَّةَ في البيت المتقدم « لَعِيناً دَحِيراً » .
وقوله أيضاً : [ الكامل ]
2427 - وبإذْنِهِ سَجَدُوا لآدَمَ كُلُّهُمْ ... إلاَّ لَعِيناً خَاطِئاً مَدْحُوراً
وقال الآخرُ : [ الوافر ]

2428 - دَحَرْتُ بَنِي الحَصِيبِ إلى قَدِيدٍ ... وقَدْ كَانثوا ذَوِي أشَرٍ وفَخْرٍ
[ قال ابن عباس : « مذءُوماً أي : ممقوتاً » .
وقال قتادةُ : « مَذْءُوماً مدحوراً أي : ليعناً شقيّاً » .
وقال الكَلْبِيُّ : « مَذموماً ملوماً مدحوراً مقصيّاً من الجنَّةِ ومن كُلِّ خَيْر » ] .
قوله : « لَمْن تبعكَ » في هذه « اللاَّام » وفي « من » وجهان :
أظهرهما : أنَّ اللاَّمَ هي المُوطِّئَةُ لقسم مَحْذُوفٍ ، و « مَنْ » شَرْطِيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء ، و « لأملأنَّ » جواب القسم المَدْلُول عليه بلام التوْطِئَة ، وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ لِسَدِّ جواب القَسَم مَسَدَّه . وقد تقدَّم إيضاحُ ذلك مراراً .
والثاني : أنَّ اللاَّم لامُ الابتداء ، و « مَنْ » مَوْصُولَةٌ و « تَبِعَكَ » صلتها ، وهي في محلِّ رفع بالابتداء أيضاً ، و « لأمْلأنَّ » جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، وذلك القَسَمُ المَحْذُوفُ ، وجوابُه في محلِّ رفع خبرٍ لهذا المُبْتَدَأ ، والتَّقْديرُ ، للّذي تبعك منهم ، واللَّهِ لأمْلأنَّ جَهَنَّم منكم .
فإن قُلْتَ : أيْنَ العِائِدُ من الجملة القسمِيَّةِ الواقِعَةِ خبراً عن المبتدأ؟
قلتُ : هو مُتَضَمَّنٌ في قوله « مِنْكُمْ » ؛ لأنَّهُ لمَّا اجتمع ضَمِيراً غَيْبَةٍ وخطابٍ غلب الخطابُ على ما عُرفَ .
وفَتْحُ اللاَّم هو قراءةُ العامَّة . وقرأ عَاصِمٌ في رواية أبي بكر من بعض طرقه والجَحْدَرِيُّ : « لِمَنْ » بكسرها ، وخُرِّجَتْ على ثلاثةِ أوْجُهٍ :
أحدها - وبه قال ابنُ عطيَّة - أنَّها تتعلَّقُ بقوله « لأمْلأنَّ » فإنَّهُ قال : { لأجْلِ مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُم لأمْلأنَّ } ، وظاهرُ هذا أنَّهَا متعلِّقةٌ بالفعل بعد لام القسم .
وقاب أبُو حيَّان : « ويمتنعُ ذلك على قَوْلِ الجُمْهُورِ تقديرها؛ لأنَّ ما بعد لام القسم لا يعملُ فيما قبلها » .
والثاني : أنَّ اللاَّامَ متعلِّقَةٌ بالذَّأم والدَّخرِ ، والمعنى : أخْرُجْ بهاتين [ الصِّفتين ] لأجل اتِّباعِكَ . ذكره أبُو الفَضْلِ الرَّازِيُّ في كتاب « اللَّوَامِح » على شّاذِّ القراءة .
قال شهابُ الدِّين : ويمكن أن تَجِيءَ المسْألةُ من باب الإعمال ، لأن كلاًّ من « مذءوماً » و « مدحوراً » يطلبُ هذا الجارَّ عند هذا القَائِلِ من حيثُ المعنى ، ويكون الإعمال للثَّانِي كما هو مختار البصريَّين للحذف من الأوَّلِ .
والثالث : أن يكون هذا الجَارُّ خبراً مُقَدَّماً ، والمُبْتَدَأ محذوف تَقْدِيرُهُ : لمَنْ تَبِعَكَ منهم هذا الوعيدُ ، ودّلَّ على قوله هذا الوعيد قوله : « لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ » ؛ لأن هذا القسم وجوابه وعيدٌ ، وهذا الذي أراد الزَّمخشريُّ بقوله : يَعْنِي لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله : « لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ » على أنَّ « لأمْلأنَّ » في محلِّ الابتداء و « لمَنْ تَبِعَكَ » خبره .
قال أبُو حيَّان : « فإن أراد ظاهر كلامه فهو خطأٌ على مذهب البصريين؛ لأنَّ قوله : » لأمْلأنَّ « جملةٌ هي : جوابُ قسم محذوف ، من حَيْثُ كونها جُمْلَةً فقط ، لا يجوز أن تكون مبتدأة ، ومن حيث كونها جوبااً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً؛ لأنها إذْ ذاك من هذه الحَيْثيَّة لا موضع لها من الإعراب ، ومن حيث كونها مبتدأ لها موضع من الإعراب ولا يجُوزُ أن تكون الجُمْلَةُ لها مَوضعٌ من الإعراب لا موضع لها من الإعراب وهو محال؛ لأنَّهُ يلزم أن تكون في موضع رفع ، لا في موضع رَفْعٍ ، داخل عليها عاملٌ غَيْرُ داخلٍ عليها عامل ، وذلك لا يتُصَوَّرُ » .

قال شهابُ الدِّينِ بعد أنْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : « بمعنى لمن تبعك الوعيد وهو لأملأنَّ » : كيف يحسن أنْ يتردد بعد ذلك فيقال : إنْ أرَادَ ظاهِرَ كلامه ، كيف يريدُهُ مع التَّصْريح بتأويله هو بنفسه؟ وأمَّا قَوْلُهُ على أنَّ « لأمْلأنَّ » في محلِّ الابتداء ، فإنَّمَا قاله؛ لأنَّهُ دَالٌّ على الوعيدِ الذي هو في محل الابتداء ، فنسب إلى الدَّالِّ ما يُنْسَبُ إلى المدْلُولِ من جِهَةِ المَعْنَى .
وقول الشَّيْخ أيضاً « ومِنْ حَيْثُ كوْنهَا جواباً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً إلى آخره » كلام متحمِّل عليه؛ لأنَّهُ لا يريد جملة الجوابِ فقط ألْبَتَّةَ ، إنَّمَا يريدُ الجملة القَسَمِيَّةَ برُمتِهَا ، وأنَّما استغنى بِذِكْرِهَا عن ذكر قسيمها؛ لأنَّها مَلْفُوظٌ بها ، وقد تقدَّم ما يُشْبِهُ هذا الاعتراض الأخير عليه ، وجوابُهُ .
وأمَّا قَوْلُ الشَّيْخ : « ولا يَجُوزُ أن تكُونَ الجملة لها مَوْضعٌ من الإعراب لا موضع لها من الإعراب » إلى آخر كلامهِ كُلِّهِ شيء واحد ليس فيه مَعْنىً زَائِدٌ .
قوله : « أجْمَعِيْنَ » تَأكيدٌ . واعْلَمْ أنَّ الأكْثَرَ في أجمع وأخواته المستعملة في التَّأكيد إنَّمَا يُؤتَى بها بَعْدَ « كُلٍّ » نحو : { فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] وفي غير الأكثر قَدْ تَجِيءُ بدون « كل » كهذه الآية الكريمةِ ، فإنَّ « أجْمَعينَ » تأكيد ل « مِنْكُمْ » ، ونظيرُهَا فيما ذكرما قوله تعالى : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 43 ] .
فصل
قال ابْنُ الأنْبَاريِّ : الكناية في قوله : « لَمَنْ تَبِعَكَ » عائد على ولد آدم؛ لأنَّهُ حين قال : « وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ » كان مخاطباً لولد آدم فرجعتِ الكِنَايَةُ إليهم .
قال القَاضِي « : دلَّت هذه الآية على أنَّ التَّابعَ والمتبع يَتَّفِقَانِ في أنَّ جهنَّم تُملأ منهما ، فكما أنَّ الكَافِرَ تبعه ، فكذلك الفاسق فيجب القطع بدخول الفَاسِقَ في النَّار . وجوابه : أنَّ المذكور في الآية أنَّهُ تعالى يَمْلأُ جهنَّمَ ممن تَبِعَهُ ، وليس في الآيَة أنَّ كلَّ من تبعه يدخلُ جهنَّم ، فسقط هذا الاستدلالُ ، ودلَّتْ هذه الآية على أنَّ جميع أهْلِ البدعِ والضَّلالة يَدْخُلُونَ جهنَّمَ ، لأنَّ كلهم متابعون إبليس .

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)

قد تقدَّم الكلامُ على هذه الآيةِ في سورة البقرةِ ، بقي الكلامُ هنا على حَرْفٍ واحد وهو قوله تعالى في سُورةِ البقرة : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } [ البقرة : 35 ] بالواو ، وقال ههنا بالفَاءِ ، والسَّبَبُ فيه من وجهين :
الأول : أنَّ الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التَّعْقِيبِ .
فالمَفْهُوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو ، ولا مُنَافَاةَ بين النَّوْعِ والجِنْسِ ، ففي سورة البقرة ذكر الجِنْسَ ، وفي سُورةِ الأعْرَافِ ذكر النَّوْعَ .
الثاني : وقال في البقرة : « رغداً » وهو ههنا محذوف لدلالة الكلام عليه .

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)

قوله : « فوَسْوَسَ لَهُمَا » أي : فَعَلَ الوَسْوَسَةَ لأجلهما .
والفَرْقُ بين وسْوَسَ له وَوسْوَسَ إليه أنَّ وَسْوَسَ له بمعنى لأجله كما تقدَّم ، وَوَسْوَسَ إليه ألْقَى إلَيْه الوَسْوَسَةَ .
والوَسْوَسَةُ : الكلام الخفيُّ المكرر ، ومثله الوسْواسُ وهو صوتُ الحليِّ ، والوسوسَةُ أيضاً الخَطْرَةُ الرَّديئَةُ ، وَوَسْوَسَ لا يتعدَّى إلى مَفْعُولٍ ، بل هو لاَزِمٌ كقولنا : وَلْوَلَتِ المَرأةُ ، ووعْوَعَ الذِّئْبُ ويقالُ : رجلٌ مُوَسْوِسٌ بِكَسْرِ الوَاوِ ، ولا يُقَالُ بفتحها ، قالهُ ابْنُ الأعْرَابِيِّ .
وقال غيره : يقال : مُوَسْوَس له ، ومُوَسْوَس إليه .
وقال اللَّيْثُ : « الوَسْوَسَةُ حديثُ النَّفْس ، والصَّوْتُ الخَفِيُّ من ريحٍ تَهُزُّ قصباً ونحوه كالهمْسِ » . قال تعالى { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } [ ق : 16 ] .
وقال رُؤبَةُ بْنُ العَجَّاج يَصِفُ صَيَّاداً : [ الرجز ]
2429 - وَسْوَسَ يَدْعُوا مُخْلِصاً رَبِّ الفَلَقْ ... لَمَّا دَنَا الصَّيْدُ دَنَا مِنَ الوَهَقْ
أي : لما أراد الصَّيدَ وسوس في نَفْسِهِ : أيُخْطىء أم يُصِيبُ؟ وقال الأزْهَرِيُّ : « وسْوَسَ ووَزْوَزَ بمعنىً واحد » .
فإن قيل : كيف وَسْوَسَ إليه ، وآدم كان في الجَنَّةِ وإبليس أخرج منها « ؟
فالجوابُ : قال الحسن : كان يُوَسْوِسُ من الأرْض إلى السَّمَاءِ وإلى الجِنَّةِ بالقُوَّةِ الفَوْقيَّةِ التي جعلها له .
وقال أبُوا مُسْلِمٍ الأصْفهانِيُّ : بَلْ كان آدمُ وإبليس في الجنَّةِ؛ لأنَّ هذه الجنَّةَ كانت بعض جنات الأرض ، والذي يقوله بعض النَّاس من » أنَّ إبليس دخل الجنَّة في جَوْف الحيَّةِ ودخلت الحيَّة في الجنَّةِ « فتلك القصة ركيكةٌ ومشهورةٌ .
وقال آخَرُون : إنَّ آدم وحَوَّاءَ ربنا قَرُبَا من باب الجَنَّةِ ، وكان إبليس واقفاً من خارج الجَنَّةِ على بَابها فيقْرُبُ أحَدُهُمَا من الآخر فتحصل الوسْوسَةُ هناك .
فإن قيل : إنَّ آدم - عليه السلام - كان يَعْرِفُ ما بينه وبين إبليسَ من العداوة ، فَكَيْفَ قبل قوله؟
فالجواب : [ لا يَبْعُد أنْ يُقال إنَّ إبليسَ لَقِيَ آدَمَ مِراراً كثيرةً ، ورَغَّبَهُ في أكْلِ الشَّجَرَة بِطُرُقٍ كثيرةٍ؛ فلأجْل ] المواظبة والمداومة على هذا التمويه أثَّر كلامه عند وأيضاً فقال تعالى : { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] أي : حَلَفَ لهما فاعْتَقَدُوا أنَّ أحَداً لا يَحْلِفُ كاذباً فلذلك قبل قوله .
قوله : » لِيُبْدِيَ لَهُمَا « في طلام » لِيُبْدِي « قولان :
أظهرهما : أنها لامُ العِلَّةِ على أصلها؛ لأنَّ قَصْدَ الشَّيْطانِ ذلك .
وقال بعضهم : » اللاَّمُ « للِصَيْرُورةِ والعاقِبَةِ ، وذلك أنَّ الشِّيْطَانَ لم يكن يعلم أنَّهُمَا يعاقبان بهذه العُقُوبَةَ الخَاصَّاةِ ، فالمعنى : أن أمْرَهُمَا آل إلى ذلك . الجوابُ : أنهُ يجوزُ أنْ يُعْلم ذلك بطريق من الطُّرُق المتقدِّمةِ في قوله { وَلاَ نَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] .
ومعنى قوله : » لِيُبْدِيَ لَهَمَا « ليظهر لهما ما غُطِّي وسُتِرَ عنهما من عوراتهما .
قوله : » مَا وُوْري « » مَا « موصولة بمعنى الذي ، وهي مفعول ل » لِيُبْدِي « أي : لِيُظْهِر الذي سُتِرَ .

وقرأ الجمهور : « وُوْري » بواوين صريحَتَيْنِ وهو ماضٍ مبني للمفعول ، أصله « وَارَى » كضارَبَ فلمَّا بُني للمفعول أبْدِلَت الألف واواً كضُورِبَ ، فالواو الأولى فاء ، والثَّانية زَائِدَةٌ .
وقرا عبد الله : « أُوْرِيَ » بإبدال الأولى همزة ، وهو بدلٌ جَائِزٌ لا واجب .
وهذه قَاعِدٌةٌ كليَّةٌ وهي : أنَّه إذا اجتمع في أوَّلِ الكلمةِ واوان ، وتحرَّكتِ الثَّانيةُ ، أو كان لها نَظِيرٌ مُتَحَرِّكٌ وجب إبدال الأولى همزة تخفيفاً ، فمثال النَّوْعِ الأوَّلِ « أوَيْصِلٌ » ، وَ « أوَاصِلُ » تصغير واصلٍ وتكسيره ، فإنَّ الأصل : وُوَيْصِل ، وواصل؛ فاجتمع واوان في المثالين ثانيتهما متحركة فوجب إبدالُ الأولى همزة . ومثالُ النَّوْعِ الثَّانِي أوْلى فإنَّ أصلها وُوْلَى ، فالثَّانَيِةُ؛ لكنها قد تتحرَّكُ في الجَمْعِ في قولك : أُوَل؛ كفُضْلَى وفُضَل ، فإن لم تتحرَّك ولم تحمل على متحرّك ، جَازَ الإبدَالُ كهذه الآيَةِ الكريمةِ . ومثله وُوْطِىءَ وأوْطِىءَ .
وقرأ يحيى بن وثاب « وَرِيَ » بواو واحدة مضمومة وراء مكسورة ، وكَأنَّهُ من الثُّلاثيِّ المتعدِّي ، وتحتاج إلى نَقْلِ أنَّ وَرَيْتُ كذا بمعنى وارَيْتُه .
والمُوَارَاةُ : السَّتْرُ ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - لمَّا بلغه موت أبي طالب لعليٍّ : « اذْهَبْ فوارِه » . ومنه قول الآخر : [ مخلع السبيط ]
2430 - عَلَى صَدىً أسْوَدَ المُوَارِي ... فِي التُّرْبِ أمْسَى وفِي الصَّفِيحِ
وقد تقدَّم تحقيق هذه المادَّةِ
والجمهور على قراءة « سَوْءَاتِهما » بالجمع من غير نقل ، ولا إدغام .
وقرأ مُجاهدٌ والحسن « سَوَّتهما » بالإفراد وإبدال الهمز [ واواً ] وإدغام الواو فيها .
وقرأ الحسنُ أيضاً ، وأبو جعفر وشَيْبَةُ بن نصاح « سَوَّاتهما » بالجمع وتشديد الواو بالعمل المتقدم .
وقرأ أيضاً « سَواتِهما » بالجمع أيضاً ، إلا أنَّهُ نقل حركة الهمزة إلى الواو من غير عملٍ آخَرَ ، وكلُّ ذلك ظَاهِرٌ . فمن قرأ بالجمع فيحتمل وجهين :
أظهرهما : أنَّهُ من باب وَضْعِ الجمع موضع التَّثْنِيَةِ كراهية اجتماع تثنيتين ، والجمع أخُوا التَّثْنِيَةِ فلذلك ناب منابها كقوله : { صَغَتْ قُلُوبُكُمآ } [ التحريم : 4 ] وقد تقدَّم تَحْقِيقُ هذه القاعدة .
ويحتمل أنْ يكون الجَمْعُ هنا على حقيقته؛ لأنَّ لكل واحد منهما قُبُلاً ، ودُبُراً ، والسوءات كنايةٌ عن ذلك فهي أربع؛ فلذلك جِيءَ بالجَمْعِِ ، ويؤيِّدُ الأوَّل قراءةُ الإفراد فإنَّه لا تكون [ كذلك ] إلاَّ والموضع موضع تثنية نحو : « مَسَحَ أَذُنَيْهِ ظَاهِرهُمَا وبَاطِنَهُمَا » .
فصل في أن كشف العورة من المحرمات
دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ كَشْفَ العوْرَةِ من المُنْكَرَاتِ ، وأنَّهُ لم يزل مُسْتَهْجَناً في الطِّبَاع مُسْتَقْبَحاً في العُقُولِ .
قوله : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } .
هذا استثناء مُفَرَّغٌ وهو مفعول من أجله فقدَّرَهُ البَصْرِيُّونَ إلاَّ كراهة أنْ تكونا ، وقدَّرَهُ الكوفِيُّون إلاّ أن لا تكونا ، وقد تقدَّم مراراً أنَّ قول البَصْرِيِّين أوْلى؛ لأنَّ إضْمَارَ الاسْمِ أحسنُ من إضمار الحَرْفِ .
وقرأ الجمهور « مَلَكَيْنِ » بفتح اللاَّم .

وقرأ عَلِيٌّ ، وابن عباس والحسنُ ، والضَّحَّاكُ ، ويحيى بْنُ أبِي كَثِير والزُّهْرِيُّ وابن حكيم عن ابن كثير « مَلِكين » بكسرها قالوا : ويُؤيِّدُ هذه القراءة قوله في موضع آخر : { هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } [ طه : 120 ] والمُلك يناسِبُ المَلِك بالكسر . وأتى بقوله « مِنَ الخَالِدِينَ » ولم يقل « أو تَكُونَا خَالِدَيْن » مبالغةٌ في ذلك؛ لأنَّ الوصف بالخُلُودِ أهمُّ من المَلْكية أو المُلْك ، فإنَّ قولك : « فُلانٌ من الصَّالحينَ » بلغُ من قولك صالحٌ ، وعليه { وَكَانَتْ مِنَ القانتين } [ التحريم : 12 ]
فصل في بيان قوله ما نهاكما ربكما
هذا الكلام يمكن أنْ يَكُونَ ذكرَهُ إبْلِيسُ مُخَاطِباً لآدم وحواء ، ويمكن أنْ يكُون بوسْوسَةٍ أوْقَعَها في قلبيهما ، والأمران مَرْويَّانِ إلاَّ أنَّ الأغْلَبَ أنَّهُ كان على سبيل المُخَاطَبَةِ بدليل قوله تعالى : { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] .
والمعنى : أنَّ إبليس قال لهما هذا الكلام ، وأراد به إنْ أكلتما تكونا بمنزلة الملائِكَةِ ، أو تكُونَا من الخالدينَ إنْ أكلتما ، فرغبهما بأن أوْهَمَهُمَا أنَّ من أكَلَهَا صار كذلك ، وأنَّهُ تعالى نَهَاكثمَا عنها لكي لا يكونا بِمَنْزِلَةِ الملائِكَةِ ، ولا يخْلُدَا .
وفي الآية سُؤالاتٌ :
السُّؤالُ الأولُ : كيف أطْمَعَ إبْلِيسُ آدمَ أن يكون ملكاً عند الأكْلِ من الشَّجَرَةِ مع أنَّهُ شَاهَدَ الملائِكة متواضعين سَاجِدينَ له معترفين بفضله؟ .
والجوابُ من وجوه :
أحدها : انَّ هذا المعنى أحد ما يَدُلُّ على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الرض ، أمّا ملائكةُ السَّموات وسكانُ العَرْشِ والكرسيِّ ، والملائكةُ المقرَّبون فما سجدوا لآدم ألْبَتَّةَ . ولو كَانُوا قد سَجَدُوا له لكان هذا التَّطْميع فَاسِداً مختلاًّ .
وثانيها : نَقَلَ الواحديُّ عن بعضهم أنَّهُ قال : إنَّ آدمَ علم أنَّ الملائكة لا يمُوتُونَ إلى يوم القيامةِ ، ولم يعلم ذلك لنفسه فعرض عليه إبليس أنْ يَصِيرَ مِثْلَ الملكِ في البَقَاءِ . وضعَّف هذا بأنَّهُ لو كان المَطْلُوبُ من الملائِكَةِ هو الخُلُودُ فحينئذٍ لا يبقى فرق بين قوله { إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } وبين قوله : { إلاَّ أَنْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } .
وثالثها : قال الواحدي : كان ابن عباس يقر « مَلِكَين » بكسر اللام ويقول : ما طمعا في أن يكونا مَلَكَيْن لكنهما استشرفا إلى أن يكونا مَلِكَيْن ، وإنَّما أتَاهُمَا المَلْعُونُ من وجهة الملك ، ويدلُّ على هذا قوله : { هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } [ طه : 120 ] ، وضعف هذا الجواب من وجهين :
الأول : هب أنَّهُ حصل الجوابُ على هذه القراءة فهل يقول ابنُ عبَّاسٍ أنَّ تلك القراءة المشهورة باطلة؟ أو لا يقولُ ذلك؟ والأولُ باطل ، لأنَّ تلك القراءة قراءة متواترة فكيف يُمْكِنُ الطَّعْنُ فيها؟ وأمَّا الثَّاني فعلى هذا التَّقدير الإشكال باقٍ؛ لأنَّ على تلك القراءة يكون بالتَّطْميع قد وقع في أنْ يَصِيرَ بواسطة لذلك الأكل من جملة الملائكة . وحينئذ يَعُودُ السُّؤالُ .
الوجه الثاني : أنَّهُ تعالى جعله مسجود الملائكةِ ، وأذِن له في أن يسكن الجنَّة ، وأنْ يأكل منها رغداً حيث شاء وأراد ، [ ولا مزيد ] في الملك على هذه الدَّرَجَةِ .

السؤال الثاني : هل تدلُّ هذه الآية على أنَّ درجة الملائكة أكمل وأفضل من درجة النُبُوَّةِ؟
الجوابُ : أنَّا إذا قلنا : إن هذه الواقعة كانت قَبْلَ النُّبُوَّةِ لم يدلَّ على ذلك؛ لأنَّ آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - حين طَلَبَ الوصُولَ إلى درجةِ الملائِكَةِ ما كان من الأنبياء ، وإنْ كانت هذه الواقِعَةُ قد وقعت في زَمَن النُّبُوَّةِ فلعلَّ آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - رغبَ في أنْ يصيرَ من الملائِكَةِ في القدرة والقُوَّة أو في خلقة الذات بأنْ يَصِيرَ جَوَْهَراً نُورَانياً ، وفي أن يصيرَ من سُكَّانِ العرْشِ ، وعلى هذا فلا دلالةَ في الآيةِ على ذلك .
السُّؤال الثالثُ : نقل أنّ عمرو بْن عُبَيْدٍ قال للحسنِ في قوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } ، وفي قوله « وقَاسَمَهُمَا » قال عمرو : قلت للحسن؛ فهل صَدقَاهُ في ذلك؟ فقال الحسن : مَعَاذَ الل ، لو صَدَّقَاهُ لكانا من الكَافرينَ . ووجه السُّؤال : أنه كيف يلزم هذا التَّكْفيير بتقدير أن يُصَدِّقا إبليس في ذلك القول؟
والجوابُ : ذكرُوا في تَقْدير ذلك التَّكفِير أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام لو صدق إبليس في الخلُودِ ، لاكن ذلك يوجب إنكار البعث والقيامة وأنه كفرٌ .
ولقائل أن يقُول : لا نُسَلِّمُ أنَّه يلزم من ذلك التَّصديق حصولُ الكفْرِ ، وبيانه من وجهين .
الأول : أن لفظ الخُلُودِ مَحْمُولٌ على طُولِ المُكْثِ لا على الدَّوامِ ، فانْدَفَعَ ما ذكره .
والثاني : هَبْ أنَّ الخُلُودَ مُفَسّر بالدَّوَامِ إلاَّ أنَّا لا نسلم أنَّ اعْتِقَادَ الدَّوام يُوجِبُ الكُفْرَ ، وتقْرِيرُهُ : أنَّ العِلْمَ بأنه تعالى هل يُمِيتُ هذا المكلف ، أو لا يُمِيتُهُ؟ علم لا يحصل لا من دليل السَّمْعِ ، فلعله تعالى ما بيَّنَ في وقت آدم - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - أنَّهُ يُمِيتُ الخلق ، ولمَّا لم يُوجَدِ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ بأن آدم - عليه الصلاة والسلام - لا يجوز له دوام البقاء فلهذا السَّببِ رغِبَ فيه ، وعلى هذا التَّقْديرِ فالسُّؤالُ غير لازم .
السُّؤالُ الرابعُ : قد ثبت بما سبق أنَّ آدم وحوَّاءَ - عليهما السَّلامُ - لو صدقا إبليس فيما قال لم يلزم تكفِرُهُمَا فهل يقولون : إنَّهُما صَدَّقَاهُ فيه قطعاً؟ أو لم يحصل القَطْعُ ، فهل يقولُون : أنَّهُمَا ظَنَّا أن الأمر كما قال ، أو ينكرون هذا الظَّنَّ أيضاً .
فالجواب : أنَّ المحقِّقين أنْكَرُوا حصولل هذا التَّصديق قطعاً وظناً كما نجد أنفسنا عند الشَّهْوةِ ، نقدُمُ على الفعلِ إذا زينَ لنا الغير ما نشتهيه ، وإنْ لم نعتقد الأمر كما قال .
السُّؤالُ الخامِسُ : قوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } هذا التَّرغيبُ ، والتَّطْمِيعُ وقع بمَجْمُوع الأمرين ، أو بأحدهما؟ والجوابُ : قال بعضهم : التَّرْغيبُ في مجموع الأمرين؛ لأنَّهُ أدخل في التَّرْغِيبِ .
وقيل : بل هُوَ عَلَى ظاهره على طريق التَّخْييرِ .

وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)

قوله : « وقَاسَمَهُما » المفاعلةُ هنا يحتمل أن تكُونَ على بابها فقال الزَّمَخْشَرِيُّ : « كأنَّهُ قال لهما : أقْسِمُ لكُمَا أنِّي لمن النَّاصِحِينَ ، وقالا له : أتقسُم باللَّهِ أنت إنَّكَ لمن الناصحين لنا فجعل ذلك مُقَاسَمَةً بَيْنَهُم ، أو أقسم لهما بالنَّصِيحَةِ ، وأقسما له بقبُولِهَا ، أو أخرج قسم إبليس على وزن المُفَاعَلَةِ؛ لأنَّهُ اجْتَهَد فيها اجتهاد المُقَاسِمِ » .
وقال ابْنُ عطيَّة : « وقَاسَمَهُمَا » أي : حَلَفَ لهما ، وهي مفاعلة إذْ قَبُولُ المحلوف له ، وإقباله على معنى اليمينِ كالقسم وتقريره : وإنْ كان بَادِىء الرَّأي يعطي أنَّها من واحد ويحتمل أنَّ « فاعل » بمعنى « أفعل » كبَاعَدْته ، وأبْعَدْتُهُ ، وذلك أنَّ قوله الحَلْف إنَّما كان من إبليس دونهما ، وعليه قول خالدِ بْن زُهير : [ الطويل ]
2431 - وَقَاسَمَها باللَّهِ جَهْداً لأنْتُمُ ... ألَذُّ مِنَ السَّلْوَى إذَا مَا نَشُورُها
قال قتادةُ : حلف لهما بالله حتى خَدَعَهُمَا ، وقد يُخْدَعُ المُؤمِنُ بالله .
{ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } أي : قال إبليس : إنِّي حلفت قبلكما ، وأنا أعلم أحْوالاً كثيرةً من المصالحِ والمفاسد ، لا تَعْرِفَانها ، فامْتَثِلا قولي أرشِدكُمَا ، وإبليسُ أوَّلُ من حَلَفَ باللَّهِ كاذباً ، فلمَّا حلف ظن آدم أنَّ أحداً لا يحلف بالله إلاَّ صَادِقاً فاغبر به .
قوله : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } يجوز في « لَكُمَا » أن تتعلق بما بعده على أن « أل » معرفة لا موصولة ، وهذا مذهبُ أبي عُثْمان ، أو على أنَّها موصولةٌ ، ولكن تُسُومح في الظَّرْفِ وعدليه ما لا يتسامح في غيرهما أتِّسَاعاً فيهما لدورانهما في الكلام ، وهو رَأيُ بعض البَصْريِّين ، وأنْشَدَ : [ الرجز ]
2432 - رَبَّيْتُهُ حَتَّى إذا تَمَعْدَدَا ... كَانَ جَزائِي بالعَصَا أنْ أُجْلَدَا
ف « بِالعَصَا » متعلِّقٌ بأْجلَدا وهو صلة أنْ ، أو أن ذلك جائزٌ مطلقاً ، ولو في المفعول به الصَّريح ، وهو رأي الكوفيين وأنشدوا : [ الكامل ]
2433 - ... وَشِفَاءُ غَيِّكِ خَابِراً أنْ تَسْألِي
أي : أن تسألي خابراً ، أو أنُّهُ متعلِّقٌ بمحذوف على البيانِ أي : أعني لَكُمَا كقولهم : سُقْياً لك ، ورَعْياً ، أو تعلَّقَ بمحذوف مدلول عليه بصِلَةِ أل أي : إنِّي نَاصِحٌ لَكُمَا ، ومثل هذه الآية الكريمة : { إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين } [ الشعراء : 168 ] ، { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } [ يوسف : 68 ] .
وجعل ابن مالك ذلك مطَّرداً في مَسْألةِ أل الموصولة إذا كانت مجرورة ب « من » .
ونَصَحَ يتعدَّى لواحدٍ تارَةً بنفسه ، وتارةً بحرف الجرِّ ، ومثله شَكَرَ ، وقد تقدَّمَ ، وكال ، ووزن . وهل الأصلُ التعدِّي بحرف الجر والتَّعدِّي بنفسه ، أو كل منهما أصْلٌ؟ الرَّاجِحُ الثَّالِثُ .
وزعم بعضُهم أنَّ المفعول في هذه الأفْعَالِ محذوفٌ ، وأنَّ المجرور باللاَّم هي الثَّاني ، فإذا قُلْتَ : نَصَحْتُ لِزَيْدٍ فالتقديرُ : نصحتُ لزيدٍ الرَّأيَ ، وكذلك شضكَر له صنيعه وكِلْتُ له طعامه وَوَزَنْتُ له متاعه فهذا مَذْهَبٌ رابع .

وقال الفرَّاءُ : « العربُ لا تَكَادُ تقول : نَصَحْتُكَ ، إنَّمَا يَقُولُونَ نَصَحْتُ لك وأنْصَحُ لك » ، وقد يجوز نصحتك . قال النابغة : [ الطويل ]
2434 - نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَتَقَبَّلُوا ... رَسُولِي وَلَمْ تَنْجَحْ لَدَيْهِمْ رَسَائِلِي
وهذا يقوِّي أنَّ اللاَّم أصلٌ .
والنُّصْحُ : بَذْلُ الجُهْدِ في طلب الخَيْرِ خاصَّةً ، وضدُّهُ الغشُّ .
وأمَّا « نَصَحْتُ لِزَيْدٍ ثوبه » فمتعدٍّ لاثنين ، لأحدهما بنفسه وللثاني بحرف الجرِّ بأتِّفاقٍ ، وكأنَّ النُّصْحَ الذي هو بَذْلُ الجهد في الخير مأخُوذٌ من أحد معنيين : أمَّا من نَصَحَ أي أخْلَصَ ومنه : نَاصِحُ العسل أي خَالِصُهُ ، فمعنى نَصَحَهُ : أخلص له الوُدَّ ، وإمَّا من نَصَحْتُ الجِلْدَ والثَّوْبَ إذا أحكمت خياطتهما ، ومنه النَّاسحُ للخيَّاطِ والنَّصَاحُ للخيط ، فمعنى نَصَحه أي : أحكم رأيه منه .
ويقال : نَصَحه نُصُوحاً ونَصَاحَةً قال تعالى : { توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً } [ التحريم : 8 ] بضمِّ النُّونِ في قراءة أبِي بَكْرٍ ، وقال الشَّاعر في « نَصَاحَةٍ » : [ الطويل ]
2435 - أحْبِبْتُ حُبّاً خَالَطَتْهُ نَصَاحَةٌ .. . .
وذلك كذُهُوبٍ ، وذهابٍ .

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)

« الباء » للحال أي : مصاحبين للغرور ، أو مصاحباً للغرور فهي حال : إمَّا من الفاعل ، أو من المفعول ويجوز أن تكون الباءُ سببيَّةً أي : دَلاَّهُمَا بسببِ أنْ غَرَّهُمَا .
والغُرُورُ : مصدرٌ حُذف فَاعِلُهُ ومفعوله ، والتقديرُ : بِغُروره إيَّاهُمَا وقوله : « فَدَلاَّهَمَا » يحتملُ أن يكون من التَدْلِيَةِ من معنى دَلاَ دَلْوَه في البِئْرِ ، والمعنى أطمعهما .
قال أبُو منصور الزْهَرِيُّ : لهذه الكلمة أصلان :
أحدهما : أن يكون أصْلُهُ أن الرَّجُلَ العَطْشَانَ يُدْلِي رِجْلَهُ في البئر ليأخذ الماء ، فلا يجدُ فيها ماء فوضعت التَّدْلية موضع الطَّمعِ فيما لا فائدة فيه ، يقالُ : دَلاَّهُ : إذا أطْمَعَهُ .
قال أبُو جنْدَبٍ : [ الوافر ]
2436 - أحُصُّ فَلاَ أُجِيرُ ومَنْ أُجِرْهُ ... فَلَيْسَ كَمَنْ تَدَلَّى بالغُرُورِ
وأن تكون من الدَّالِّ ، والدَّالَّةَ ، وهي الجُرْأة [ أي ] : فَجَرَّأهما قال : [ الوافر ]
2437 - أظُنُّ الحِلْمُ دَلَّ عَلَيَّ قَوْمِي ... وقدْ يُسْتَجْهَلُ الرَّجُلُ الحَلِيمُ
وعلى الثاني [ يكون ] الأصل دَلَّلَهُمَا ، فاستثقل توالي ثلاثةِ أمثال فأبدلت الثَّالث حرف لين كقولهم : تَظنَّيْتُ في تظَّننْت ، وقَصَّيْتُ أظْفَاري في قَصَصْتُ . وقال : [ الرجز ]
2438 - تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ ... فصل في معنى « فدلاهما بغرور »
قال ابنُ عبَّاس « فَدلاَّهُمَا بِغُرُورٍ » أي غرهما باليمين وكان آدمُ يظنُّ أنَّ أحداً لا يحلف كَاذِباً باللَّه . وعن ابن عمر أنَّهُ كان إذا رَأى من عبيده طاعةً وحسن صلاة أعْتَقَهُ فكان عبيدُهُ يفعلون ذلك طلباً لِلْعتْقِ فقيل له إنَّهُم يخدعُونَكَ فقال : من خَدَعَنَا باللَّهِ؛ انخدعنا له .
قيل معناه ما زال يخدعه ، ويكلمه بزخرف من القول باطل .
وقيل حطَّهُمَا من مَنْزِلَةِ الطَّاعَةِ إلى حالةِ المَعْصية ، ولا يكونُ الدلوى إلاَّ من علوٍّ إلى أسْفَلٍ .
قوله : { فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة } « الذَّوْقُ » وجود الطَّعْمِ بالفَم ، ويعبر به عن الأكل وقيل : الذَّوْقُ مَسُّ الشَّيْءِ باللِّسانِ ، أو بالفَمِ يُقَالُ فيه : ذاق يَذُوقُ ذُوْقاً مثل صَامَ ، يَصُومُ صَوْماً ، ونَامَ يَنَامُ نَوْماً .
وهذه الآية تدل على أنهما تناولا البُرَّ قَصْداً إلى معرفة طعمه ، ولولا أنَّهُ تعالى ذكر في آية أخرى أنَّهُمَا أكلا منها لكان ما في هذه الآية لا يدُلُّ على الأكل؛ لأنَّ الذَّائِقَ قد يكونُ ذَائِقاً من دون أكل .
قوله : { بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } أي ظهرت عَوْرَتُهُمَا وزال اللِّبَاسُ عنهما .
روي عن ابن عباس أنَّهُ قال : قبل أن ازدردا أخذتها العقوبة وظهرت لهما عورتهما ، وتهافت لباسهما حتى أبْصَر كُلُّ واحدٍ منهما ما وُوْرِيَ عنه من عَوْرَةِ صَاحبهِ فكانَا لا يريان ذلك .
قوله « وطَفِقَا » طَفِقَ من أفعال الشُّرُوعِ كأخَذَ وجعل ، وأنْشَأ وعلَّق وهبَّ وانبرى ، فهذه تَدُلُّ على التَّلَبُّسِ بأوَّلِ الفِعْلِ ، وحكمها حكم أفْعَالِ المُقاربَةِ من كون خبرها لا يكون غلاَّ مُضَارِعاً ، ولا يجوز أن يقترن ب « أن » لمنافاتها لها؛ لأنها للشُّروع وهو حال و « أنْ » للاستقبال ، وقد يقعُ الخبرُ جملة اسمية كقوله : [ الوافر ]

2439 - وَقَدْ جَعَلَتْ قَلُوصُ بَنِي سُهَيْلٍ ... مِنَ الأكْوَارِ مَرْتَعُهَا قَرِيبُ
وشرطيَّة ك « إذا » كقوله عمر : « فَجَعلَ الرَّجُلُ إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً » .
ويقال طَفِقَ بفتح الفاء وكسرها ، وطَبِقَ بالباء الموحدة أيضاً ، والألف اسمها ، و « يَخْصَفَان » خَبَرُهَا .
وقرأ أبُوا السمالِ : « وطَفَقَا » بفتح الفاء . وقرأ الزُّهْرِيُّ : « يُخْصِفَانِ » بضم حرف المضارعة من أخْصَفَ وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : ان يكون أفْعَلَ بمعنى فَعَلَ .
والثاني : أن تكون الهَمْزَةُ للتَّعْديَة ، والمَفْعُولُ على هذا مَحْذُوفُ ، أي : يُخْصِفَانِ أنفسهما ، أي : يَجْعلانِ أنفسَهُمَا خاصِفَيْنِ .
وقرأ الحسنُ ، والأعرجُ ومُجاهِدٌ وابْنُ وثَّابٍ « يَخِصِّفانِ » بفتح الياء وكسر الخاء ، والصَّاد مشدودةٌ ، والأصْلُ يَخْصِفَانِ ، فأدغمت التَّاءُ في الصَّادِ ، ثم اتْبعت الخَاءُ للصَّادِ في حركتها ، وسيأتي نظيرُ هذه القراءة في « يُونس » و « يس » نحو { يهدي } [ يونس : 35 ] و { يَخِصِّمُونَ } [ يس : 49 ] .
وروى مَحْبُوبٌ عن الحسنِ كذلك إلاَّ أنَّهُ فتح الخاء ، فلم يُتْبِعْها للصَّادِ وهي قراءةُ يعقوب وابْنِ بُرَيْدَةَ .
وقرأ عبد الله « يُخُصِّفان » بضمِّ الياءِ والخَاءِ وكسر الصَّادِ مشدودة وهي من « خَصِّفَ » بالتَّشديد ، إلاَّ أنَّهُ أتبع الخاء للياء قبلها في الحركةِ ، وهي قراءة عَسِرةُ النُّطْقِ .
ويَدُلُّ عل أنَّ أصْلها مِنْ خَصَّفَ بالتَّشديدِ قِراءةُ بعضهم « يُخَصِّفان » كذلك ، إلاَّ أنَّهُ بفتح الخاء على أصلها .
و « الخصفُ » : الخَرْزُ في النِّعالِ ، وهو وَع طريقة على أخرى وخرْزهما ، والمِخْصَفُ : ما يُخْصَفُ به ، وهو الإشفَى .
قال رُؤبَةُ : [ الكامل ]
2440 - . ... أنْفِهَا كالمِخْصَفِ
والخَصْفَةُ أيضاً : الحُلَّةُ للتَّمْر ، والخَصَفُ : الثِّيابُ الغَلِيظَةُ ، وخَصَفْتُ الخَصْفَةَ : نَسَجْتُهَا ، والأخْصَف : الخَصِيفُ طعام يبرق ، وأصْلُهُ أن يُوضَعَ لَبَنٌ ونحوه في الخَصْفَةِ فَيتلوَّنُ بلونها .
وقال العبَّاسُ يمدحُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : [ المنسرح ]
2441 - . . . طِبْتَ فِي الظِّلالِ وَفِي ... مُسْتَودَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ
يشير إلى الجَّنَّةِ أي حَيْثُ يخرز ، ويطابق بعضها فوق بعض .
فصل
قال المُفَسِّرُون : جعلا يَخْصِفَانِ ويرقعان ويلْزِقَانِ ويصلانِ عليهما من ورق الجنَّةِ ، وهو ورق التِّين حتى صار كهيئة الثَّوْبِ .
قال الزَّجَّاجُ : يجعلان ورقةً على وقرةٍ لِيَسْتُر سَوْءَاتِهِمَا .
وروى أبَيُّ بنُ كعبٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كان آدَمُ طوالاً كأنَّهُ نَخْلَةٌ سحوق كثيرة شَعْرِ الرَّأسِ ، فلما وقع بالخطيئة بَدَتْ له سوأته ، وكان لا يراها فانْطَلَقَ هَارِباً في الجنَّةِ ، فعرضت له شجرةٌ من شجر الجنَّةِ فحبسته بشَعْرِهِ فقال لها أرسِلِيني؛ قالت : لَسْتُ بِمُرْسِلَتكَ ، فَنَادَاهُ ربُّهُ : يا آدمُ أين تَفِرُّ قال : لا يَا رَب ، ولكني استحييتك »
وفي الآية دليل على أنَّ كَشْفَ العَوْرَةِ قبيحٌ من لدن آدم ، ألا تَرَى أنَّهُُما كيف بادرا إلى السَّتْرِ ، لما تقرَّر في عقلهما من قُبْحِ كَشْفِ العورة .

قوله : « عليهما » قال أبُو حيَّان : الأَوْلى أن يعود الضَّمِيرُ في « عليهما » على عَوْرَتَيْهِمَا ، كَأنَّهُ قيل : يَخْصِفَانِ على سَوءأتيهما ، وعاد بضمير الاثنين؛ لأنَّ الجمع يُرَادُ بن اثنان .
ولا يَجُوزُ أن يعود الضَّميرُ على آدَمَ وحوَّاءَ؛ لأنَّهُ تَقرَّرَ في علم العربيَّةِ أنَّهُ لا يتعدَّى من فعل الظَّاهِر والمُضْمَرِ المتَّصل إلى الضمير المتصل إلى الضمير المتصل المنصوب لفظاً أو مَحَلاًّ في غير باب « ظَنّ » ، و « قَعَدَ » و « عَدمَ » ، و « وَجَد » لا يجُوزُ زيد ضربه ، ولا ضَرَبَهُ زيد ، ولا زَيْدٌ مَرَّ به ، ولا مَرَّ به زيدٌ ، فلو جعلنا الضَّمِيرَس في « عَلَيْهِمَا » عائداً على آدم وحوَّاءَ لَلَزِمَ من ذلك تعدِّي يَخْصِفُ إلى الضَّميرِ المنصوب مَحَلاًّ ، وقد رفع الضَّمير المتَّصِل ، وهو الألف في « يَخْصِفَانِ » ، فإن أخِذَ ذلك على حَذْفِ مُضافٍ مراد؛ جَازَ ذلك ، تقديره : يَخْصِفانِ على بَدَنَيْهِمَا .
قال شهابُ الدِّين : ومثل ذلك فيما ذكر { وهزى إِلَيْكِ } [ مريم : 25 ] . { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] .
وقول الشاعر : [ المتقارب ]
2442 - هَوِّنُ عليْكَ فإنَّ الأمُورَ ... بِكَفِّ الإلهِ مَقَادِيرُهَا
وقوله : [ الطويل ]
2443 - دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حَجَرَاتِهِ ... ولكِنَ حَدِيثاً ما حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ
قوله : « مِنْ وَرَقِ » يحتملُ وَجْهَيْنِ :
أن تكون « مِن » لابتداء الغايةِ وأن تكون للتَّبعيضِ . ؟
و « نَادَاهُمَا رَبُّهُمَا » لم يصرِّحْ هنا باسم المنادى للعلم به .
وقوله : « أَلَمْ أنْهَكُمَا » يجوزُ أن تكون هذه الجُمْلَةُ التقديريَّةُ مفسِّدة للنداء لا محلّ لها ويحتمل أن يكُونَ ثَمَّ قول مَحْذُوفٌ ، هي مَعْمُولَةٌ له أي : فقال : لم أنْهَكُمَا .
وقال بعضَهُم : هذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ بقولٍ مُقدَّرٍ ذلك القَوْلُ حال تقديره : وناداهما قَائِلاً ذلك . و « لَكُمَا » متعلِّقٌ ب « عَدُوّ » لما فيه من معنى الفِعْل ، ويجوز أن تكون متعلِّقة بمَحْذُوفٍ على أنها حالٌ من « عَدٌوِّ » ؛ لأنَّهَا تأخّرَتْ لجاز أن تكون وصفاً .
فصل في قوله « ألم أنهكما »
معنى قوله : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة } يعني : عن الأكْلِ منها وأقل لَكُمَا : إنَّ الشَّيْطانَ لكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ .
قال ابن عبَّاس : بيَّن العداوة حَيْثٌ أبي السُّجُود وقال : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } [ الأعراف : 16 ] .

قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)

قوله : { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } : ضررناها بالمِعْصِيَةِ ، وتقدَّمَ تفسِيرُهَا في سُورةِ البقَرةِ ، وأنَّها تَدُلُّ على صدور الذَّنْبِ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ، إلاَّ أنَّا نقُولُ : هذا الذَّنْبُ إنَّمَا صَدَرَ عنه قَبْلَ النُّبُوَّةِ .
وفي قوله : { قَالاَ رَّنَا ظَلَمْنَا أنْفُسنَا } فائدةٌ : حَذْف حرف النداء هنا تعظيم المُنَادَى ، وتَنْزِيهُهُ .
قال مَكِّي : كَثُر نِدَاءُ الرَّبِّ بحذف « يَا » من القرآن ، وعلّةُ ذلك أن في حذف « يا » من نداء الرَّب معنى التَّعْظِيم والتنزيه؛ وذلك أنَّ النداءَ فيه طَرَف من معنى الأمر؛ لأنَّكَ إذا قُلْتَ : يا يزيدُ فمعناه : تعالا يا زَيْدُ أدعوك يا زَيْدُ ، فحُذِفَتْ « يا » من نداء الرَّبِّ ليزول معنى الأمر يونقص ، لأنَّ « يا » تُؤكِّده ، وتُظهرُ معناهُ ، فكان في حذف « يا » الإجلال ، والتعظيم ، والتنزيه .
قوله : { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا } هذا شرط حُذِفَ جوابه لدلالة جواب القسم المقدَّر عليه ، فإن قيل : حرف الشَّرْطِ لام التَّوْطِئَةِ للقسم مقدرة كقوله : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ } [ المائدة : 73 ] ويَدُلُّ على ذلك كثرةُ ورُوُدِ لامِ التَّوْطِئَةِ قبل أداة الشَّرطِ في كلامهم . وتقدَّم إعرابُ ما بعد ذلك في البقرة .

قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)

وهذا خطابٌ يجبُ أن يتناول الثلاثة الذين تقدَّمَ ذِكرُهُم وهم : آدمُ ، وحوَّاءُ ، وإبليسُ ، فالعداوة ثَابِتَةٌ بين الإنس والجنِّ ، لا تزول ألْبَتَّةَ .

قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)

الكِنَايَةُ عائدةٌ إلى الأرض المذكورة في قوله : { وَلَكُمْ فِي الأرض } [ الأعراف : 24 ] .
وقرأ الأخوان وابنُ ذكوان « تَخْرُجونَ » هنا ، وفي الجاثية [ 35 ] { فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا } ، وفي الزخرف [ 11 ] : و { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } ، وفي أوَّلِ الروم [ 19 ] : { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ } قرءُوا الجميع مبنياً للفاعل ، والباقون قرءوه مبنيّاً للمفعول ، وفي أوَّلِ الرُّوم خلاف عن ابن ذكوان ، واحترزنا بأوَّل الروم [ 25 ] عن قوله : { إِذَا أَنتُمْ تُخْرُجُونَ } [ فإنَّهُ قرأ ] مبنياً للفاعل . من غير خلاف ، ولم يذكر بعضهم موافقة ابن ذكوان للأخوين في الجاثية . والقراءتَانِ واضِحَتَانِ .

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)

في نظم الآية وجهان :
أحدهما : أنَّهُ تعالى لما بيَّنَ أنَّهُ أمر آدم وحوَّاءَ بالهُبُوطِ إلى الأرض ، وجعل الأرض لهما مُسْتَقَرّاً بين بعده أنَّهُ تعالى أنزل كلَّ ما يحتاجون إليه في الدُّنْيَا ، ومن جملة ما يُحتاج إليه في الدِّين والدُّنيا اللِّباس .
والثاني : أنَّهُ تعالى لمّا ذكر واقعة آدم في انكشاف العَوْرَةِ ، وأنَّهُ كان يخصف الورق على عَوْرَتَيْهِمَا ، أتبعه بأن بيَّنَ أنَّهُ خلق اللِّباسَ للخلق ، ليستروا به عَوْرَتَهُم ، ونبه بتكون الأشياء التي يَحْصُلُ منها اللِّبَاسُ ، فصار كأنَّهُ تعالى أنزل اللِّباسَ أي : أنزل أسْبَابَهُ ، فعبَّر بالسَّبَبِ عن المُسَبِّبِ .
وقيل : معنى « أنْزَلْنَا » أي : خلقنا لكم .
وقيل : كلُّ بَرَكاتِ الأرضِ منسوبةٌ إلى السَّماءِ كقوله تعالى : { وَأَنزْلْنَا الحديد } [ الحديد : 25 ] وإنَّما يُسْتَخْرَجُ الحديدُ من الأرْضِ ، وقوله : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [ الزمر : 6 ] .
وسبب نزلو هذه الآية أنَّهُم كانُوا يطوفون بالبَيْتِ عُرَاةً ، ويقولون : لا نطوفُ في ثياب عصينا الله فيها ، فكان الرِّجالُي يطوفون بالنَّهارِ ، والنِّسَاءُ باللَّيْلِ عراة . قال قتادة .
كانت المرأة تطوف ، وتضع يَدَهَا على فَرْجِهَا ، وتقول : [ الرجز ]
2444 - أَليَوْمَ يَبْدُوا بَعْضُهُ أوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلاَ أحِلُّهُ
فأمر اللَّهُ تعالى بالسَّتْرِ فقال : { لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ } يستر عوراتِكُم ، واحدتها سَوْءَةُ ، سمِّيت بها؛ لأنَّهُ يسوءُ صاحبه انكشافُهَا ، فلا يطوف عارياً .
قوله : « يُوَارِي » : في محلِّ نصبٍ صفة ل « لِبَاساً » .
وقوله : « وَرِيشاً » يحتملُ أن يكون من باب عَطْفِ الصِّفاتِ ، والمعنى : وصف اللِّبَاسِ بشيئين : مواراة السَّوْءَةِ ، وعبَّر عنها بالرِّيشِ لأنَّ الرِّيشَ زينة للطَّائِر ، كما أنَّ اللَّباسَ زينة للآدميِّين ، ولذلك قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « والرِّيشُ لباسُ الزِّنة ، استعير من ريش الطَّيْرِ؛ لأنَّهُ لباسه وزينته » .
ويحتمل أن يكون من باب عطف الشَّيءِ على غيره أي : أنْزَلْنَا عليكم لباسين ، لباساً موصوفاً بالمُواراةِ ، ولِبَاساً موصوفاً بالزِّينةِ ، وهذا اختيارُ الزَّمَخْشَرِيِّ ، فإنَّهُ قال بعد ما حَكَيْتُه عنه آنفاً : « أي : أنزلنا عليكم لباسَيْن ، لباساً يُواري سَوْءاتكم ، ولباساً يُزَيِّنُكُم؛ لأنَّ الزَّينةَ غرضٌ صحيحٌ كما قال تعالى : { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 8 ] { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } [ النحل : 6 ] وعلى هذا ، فالكلامُ في قوة حذف موصوف ، وإقامةِ صفته مُقامه ، والتَّقْديرُ : ولباساً ريشاً أي : ذا ريش » .
فصل في وجوب ستر العورة
قال القُرْطُبِيُّ : استدلَّ كثر من العلماء بهذه الآيةِ على وجوب ستر عَوْرَاتهم ، وذلك يدلُّ على الأمر بالسَّتْر ، ولا خلاف في وجوب سَتْرِ العَوْرَةِ .
واختلفوا في العَوْرَةِ ما هي؟ فقال ابْنُ أبي ذئْبٍ : هي القُبُلُ والدُّبُرُ فقط ، وهو قول أهْلِ الظَّاهِر ، وابن أبي عَبْلة والطَّبْرِيِّ لقوله تعالى : { لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ } ، وقوله : { بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } [ الأعراف : 22 ] ، وقوله : { لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِكُمْ } [ الأعراف : 27 ] .
وفي البخاريِّ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَسَرَ الإزار عن فَخِذِهِ حَتّى إنِّي أنْظُرُ إلى بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيِّ الله صلى الله عليه وسلم .

وقال مالكٌ : « ليست السُّرَّة بِعَوْرَةٍ ، وأكره له أنْ يَكْشِفَ فَخذَهُ » .
وقال الشافعيُّ : « ليست السُّرَّة ولا الركبتان من العورة على الصحيح » .
وقال أبُو بَكْر بْنُ عبْدِ الرَّحمْنِ بْنِ الحارث بن هشام : « كلُّ شيء من الحرة عورةٌ ، حتى ظَّفِّرهَا ، وهو حسن » .
وعن أحْمَد بْنِ حَنْبلٍ : « وعورة الأمَةِ ما بين السُّرَّة والرُّكبة وأم الولدِ أغلظ حالاً من الأمَةِ » .
و « الرِّيْشُ » فيه قولان :
أحدهما : أنه اسم لهذا الشَّيءِ المعروف .
والثاني : أنَّهُ مصدرٌ يقال : راشه يريشه رِيشاً إذا جعل فيه الرِّيشَ ، فينبغي أنْ يكون الريش مُشْتَركاً بين المصدر والعينِ ، وهذا هو التَّحقيق .
وقرأ عثمانُ وابن عبَّاسٍ والحسنُ ومجاهدٌ وقتادةُ والسُّلميُّ وعليُّ بْنُ الحسيْنِ وابنه زيْدً ، وأبو رجَاء ، وزرُّ بْنُ حبيشٍ وعاصمٌ ، وأبُو عَمْروا - في رواية عنهما - : « وَرِيَاشاً » ، وفيها تأويلان :
أحدهما - وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ - : أنَّهُ جمعُ رِيْش ، فيكون كشِعْب وشِعابٍ ، وذِئْبٍ وذئَابٍ ، وقِدْحٍ وقِدَاحٍ .
والثاني : أنَّه مصدر أيضاً ، فيكون رِيشٌ وِرِيَاشٌ مصدرين ل « رَاشَهُ اللَّهُ ريشاً ورِيَاشاً » أي : أنْعَمَ عليه .
وقال الزجاجُ : « هما اللِّبَاسُ ، فعلى هذا هما اسمان للشَّيْءِ المَلْبُوسِ ، كما قالوا : لِبْسٌ ولباسٌ » .
وجوَّز الفراء أن يكون « رِيَاش » جمع « رِيش » ، وأن يكون مصدراً فأخذ الزَّمَخْشَرِيُّ بأحد القولين ، وغيرُه بالىخر ، وأنشدوا قول الشاعر : [ الوافر ]
2445 - وَرِيشِي مِنْكُمُ وَهَوَايَ مَعْكُمْ ... وَإنْ كَانَتْ زِيَارتُكُمْ لِمَامَا
روى ثَعْلَبٌ عن ابن الأعرابي قال : « كُلُّ شيءٍ يعيشُ به الإنسانُ ، من متاع ، أو مال ، أو مأكول ، فهو ريشٌ ورِيَاشٌ » وقال ابن السكِّيتِ : « الرِّيَاشُ مختص بالثِّيابِ ، والأثاثِ ، والرِّيش قد يُطلق على سَائِرِ الأمْوالِ » .
قال ابنُ عباسِ ومجاهدٌ والضَّحاكُ والسُّدِّيُّ : « وريشاً يعني مالاً ، يقال تريش الرَّجُل إذا تَمَوَّلَ » .
وقيل : الرِّيشُ : الجمالُ كام تقدَّم أي : ما يتجملون به من الثِّيابِ .
وقوله : { وَلِبَاسُ التقوى } .
قرأ نافعٌ وابن عامرٍ والكسائيُّ : « لباسَ » بالنَّصْبِ ، والباقون بالرَّفْعِ . فالنَّصْبُ نَسَقاً على « لِبَاساً » أي : أنزلنا لِبَاساً مُوارِياً وزينة ، وأنزلنا أيضاً لِبَاس التَّقْوَى ، وهذا يُقَوِّي كَوْنَ « رِيشاً » صفة ثانية ل « لِبَاساً » الولى إذْ لو أراد أنَّهُ صفة لِبَاسٍ ثانٍ لأبرز موصوفه ، كما أبْرَزَ هذا اللِّبَاسَ المضاف للتَّقْوَى .
وأما الرَّفْعُ فمن خَمْسَةِ أوْجُهٍ :
أحدها : أن يكون « لِبَاس » مبتدأ ، و « ذلك » مبتدأ ثان و « خير » خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأوَّلِ ، والرَّابِطُ هنا اسم الإشارة ، وهو أحد الرَّوابِطِ الخَمْسَةِ المتفق عليها ، ولنا رابط سَادِسٌ ، فيه خلاف تقدَّم التنبيه عليه .

وهذا الوَجْهُ هو أوْجَهُ الأعَارِيبِ في هذه الآية الكريمة .
الثاني : أن يكون « لِبَاس » خبر مبتدأ محذوف أي : وهو لِبَاسُ ، وهذا قول أبي إسحاق ، وكأنَّ المعنى بهذه الجملة التَّفسيرُ لِلبَاس المتُقدم ، وعلى هذا ، فيكونُ قوله « ذَلِكَ » جملة أخرى من مبتدأ وخبر .
وقدَّره مكي بأحسن من تَقْدير الزَّجَّاجِ فقال : « وسَتْر العورة لباس التَّقْوَى » .
الثالث : أن يكون « ذلك » فَصْلاً بين المبتدأ وخبره ، وهذا قَوْلُ الحوفيِّ ، ولا نعلم أنَّ أحداً من النُّحَاةِ أجَازَ ذلك ، إلاَّ أنَّ الواحِدِيَّ قال : [ ومن قال ] إن ذلك لَغْوٌ لم يكن على قوله دلالة؛ لأنَّهُ يجوز أن يكون على أحد ما ذكرنا .
قال شهابُ الدِّين : « فقوله » لَغْوٌ « هو قريب من القول بالفَصْلِح لأنَّ الفَصْلَ لا محلَّ له من الإعرابِ على قول جمهور النَّحويين من البصريين والكوفيين .
الرابع : أن يكون » لِبَاس « مبتدأ و » ذلك « بَدَلٌ منه ، أو عطف بيان له ، أو نعت ، و » خيرٌ « خبره ، وهو معنى قول الزَّجَّاجِ وأبِي عليٍّ ، وأبِي بَكْرِ بْنِ الأنْبَاريِّ ، إلا أنَّ الحُوفي قال : وأنا أرى ألاَّ يكون » ذلك « نعتاً ل » لِبَاسُ التَّقْوَى « ؛ لأنَّ الأسْمَاء المبهمة أعرف ما فيه الألف واللاَّم ، وما أضيف إلى الألف واللاَّمِ ، وسبيل النَّعْتِ أن يكون مُسَاوِياً للمنعوت ، أو أقَلَّ منه تَعْرِيفاً ، فإنْ كان قد تقدَّم قول أحدٍ به فهو سهوٌ .
قال شهابُ الدِّين : أمّا القَوْلُ به فقد قيل كما ذَكَرْتُه عن الزَّجَّاج والفارسي وابنالأنْبَارِيّ ، ونصَّ عليه أبُو عليٍّ في » الحُجَّةِ « ، أيضاً وذكره الوَاحِدِيُّ .
وقال ابن عطيَّة : » هو أنبل الأقوال « .
وذكر مكيٌّ الاحتمالات الثلاثة : أعني كَوْنَهُ بَدَلاً ، أو بياناً ، أو نعتاً ، ولكن ما بحثه الحُوفِيُّ صحيحٌ من حيث الصِّناعةِ ، ومن حيثُ إنَّ الصَّحيحَ في ترتيب المعارف ما ذكر من كون الإشارات أعرف من ذي الأداة؛ ولكن قد يُقَالُ : القائلُ بكونه نَعْتاً لا يجعله أعرف من ذِي الألِفِ واللام .
الخامس : جوَّز أبُو البقاءِ أن يكون » لِبَاسُ « مبتدأ ، وخبره محذوف أي : ولباسُ التَّقْوى ساتر عوراتكم وهذا تَقْدِيرٌ لا حاجَةَ إلَيْهِ .
وإسنادُ الإنزالِ إلى اللِّبَاسِ : إمَّا لأنَّ » أنْزَلَ « بمعنى » خَلَقَ « كقوله : { وَأَنزَلْنَا الحديد } [ الحديد : 25 ] { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [ الزمر : 6 ] ، وإمَّا على ما يسمِّيه أهل العلم التدريج ، وذلك أنَّهُ ينزِّلُ أسْبَابَهُ ، وهي الماء الذي هو سَبَبٌ في نبات القُطْنِ والكتَّانِ ، والمَرْعى الذي تَأكُلُه البَهَائِمُ ذوات الصُّوف والشَّعَرِ ، والوَبَرِ التي يُتَّخَذُ منها الملابِسُ؛ ونحوه قول الشاعر : [ الرجز ]
2446 - أقْبَلَ في المُسْتَنِّ مِنْ سَحَابَهْ ... أسْنِمَةُ الآبَالِ فِي رَبَابَهْ
فجعله جَائِياً للأسنمة التي للإبل مجازاً لمَّا كان سبباً في تربيتها ، وقريب منه قول الآخر : [ الوافر ]

2447 - إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غَضَابَا
وقال الزَّمَخْشَريُّ : جَعَلَ ما في الأرض منزَّلاً من السماء؛ لأنَّهُ قضي ثَمَّ وكتب ، ومنه { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [ الزمر : 6 ] .
وقال ابن عطيَّة : « وأيضاً فَخَلْقُ اللَّه وأفعاله ، إنَّما هي من علوٍ في القَدْر والمنزلة » ، وقد تقدَّمَ الكلامُ عليه أول الآية .
وفي قراءة عبد الله وأبَيّ « ولِبَاسُ التَّقْوى خَيْرٌ » بإسقاط « ذلك » وهي مقوِّية للقول بالفصل والبدلِ وعَطْفِ البَيَانِ .
وقرأ النَّحْوِيُّ : « ولبُوسُ » بالواو ورفع السِّين . فأمَّا الرَّفع ُفعلى ما تقدَّم في « لباس » ، وأمَّا « لبُوسُ » فلم يعينوها : هل هي بفتح اللام فيكون مثل قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ } [ الأنبياء : 80 ] ؟ أو بضمِّ اللاَّم على أنَّهُ جمع؟ وهو مشكل ، وأكثر ما يُتَخَيَّل له أن يكون جمع لِبْسٍ بكسر اللام بمعنى مَلْبُوسٍ .
قوله : { ذلك مِنْ آيَاتِ الله } مبتدأ وخبر ، والإشارةُ به إلى جميع ما تقدَّم من إنزال اللِّبَاسِ والرِّيش ولباس التَّقْوَى .
وقيل : بل هو إشارة لأقرب مذكور ، وهو لباسِ التقوى فقط .
فصل في المراد ب « لباس التقوى »
اختلفوا في لابس التَّقْوَى ، فقيل : هو نَفْسُ المَلْبُوسِ ، وقيل : غيره . وأما الأوَّلُ ففيه وجوه :
أحدها : هو اللِّبَاسُ المواري للسَّوْءَةِ ، وإنَّما أعادَهُ اللَّهُ لأجْلِ أن يخبر عنه بأنَّهُ خير؛ لأنَّ أهل الجاهليَّةِ كاناو يَتَعَبَّدُونَ بالعري في الطَّوافِ بالبَيْتِ ، فجرى هذا التَّكْرير مجرى قول القائل : « قد عرَّفْتُكَ الصِّدق في أبواب البرِّ ، ولاصِّدْقُ خيرٌ لك من غيره » ، فيعيد ذكر الصِّدق لِيُخبرَ عنه بذلك المعنى .
وثانيها : لِبَاسُ التَّقْوَى هو الدُّرُوعُ والجواشن والمَغَافِرُ ، وما يُتقى به في الحرُوبِ .
وثاليها : لِبَاسُ التَّقْوَى ما يُلبس لأجْلِ إقامَةِ الصَّلاةِ .
ورابعها : هو الصُّوفُ والثِّيَابُ الخَشِنَةُ التي يلبسها أهل الورع .
وأمَّا القَوْلُ الثَّانِي ، فيحمل لباسُ التَّقْوَى على المَجَازِ .
وقال قتادةُ والسُّدِّيُّ وابن جُرَيْج : هو الإيمانُ .
وقال ابن عباس : هو العَمَلُ الصَّالِحُ .
وقال عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ والكلْبِيُّ : السَّمْتُ الحَسَنُ .
وقال الكَلْبِيُّ : العفافُ والتَّوحيدُ؛ لأنَّ المؤمنَ لا تبدو عورته وإن كان عَارياً من الثِّيابِ ، والفَاجِرُ لا تزمالُ عورته مَكْشُوفَة وإن كان كاسياً .
وقال عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ : هو خشية الذّم .
وقال الحَسَنُ وسعيدٌ : هو الحياء؛ لأنَّهُ يَبْعَثُ على التَّقْوَى .
وإنما حمل لفظ اللِّباس على هذه المجازات؛ لأنَّ اللِّباسَ الذي يفيد التقوى ليس إلاّ هذه الأشياء .
وقوله : « ذَلِكَ خَيْرٌ » قال أبُو عليٍّ الفارِسِيُّ : معناه : ولباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به ، وأقرب إلى اللَّه تعالى مما خلق من اللِّباسِ والرِّيَاشِ الذي يتجمَّلُ به . وأُضيف اللِّبَاسُ إلى التَّقْوَى ، كما أُضيف إلى الجُوعِ في قوله : { فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع } [ النحل : 112 ] .
وقوله : { ذلك مِنْ آيَاتِ الله } أي : الدَّالة على فضله ورحمته على عباده ، لعلهم يَذَّكَّرُونَ النِّعْمَةَ .

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)

اعلم أنَّ المَقْصُود من ذكر قَصَص الأنْبِيَاءِ - عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ - حصولُ العِبْرَةِ لمن يَسْمَعُهَا ، فالله - تعالى - لما ذَكَرَ قصَّة آدم ، وبيَّن فيها شدَّة عداوة الشَّيْطان « كما أخْرَجَ أبَوَيْكُم مِنَ الجَنَّةِ » ، وذلك لأن الشَّيْطَانَ لما بلغ بكيده ، ولُطْفِ وسْوَسَتِهِ إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزّلة الموجبة لأخراجه من الجنَّة فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حقِّ بني آدم أولى .
فقوله : « لا يَفْتِنَنَّكُم » هو نهي للشَّيْطَان في الصُّورةِ ، والمرادُ نَهْيُ المخاطبين عن متابعته والإصغاء إليه ، والمعنى : لا يصرفنكم الشيطان عن الدِّين كما فَتَنَ أبَويْكُم في الإخْرَاجِ من الجنَّةِ ، وقد تقدَّم معنى ذلك في قوله : { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } أعراف : 2 ] .
وقرأ ابن وثَّابٍ وإبْرَاهِيمُ : « لا يُفْتِنَنَّكُمْ » [ بضمّ ] حرف المضارعة من أفْتَنَهُ بمعنى حَمَلَهُ على الفِتْنَةِ .
وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ : « لا يَفْتِنْكُم » بغير نون توكيدٍ .
قوله : « كَمَا أخْرَجَ » : نعت لمصدر محذوف أي : لا يَفْتننكم فتنةً مثل فتنة إخْرَاجِ أبَويكُم . ويجوزُ أن يكُون التَّقْدِيرُ : لا يُخْرِجّنَّكم بفتنته إخراجاً مثل أخْرَاجِ أبويكم .
و « أبَويْكُم » واحد أبٌ للمذكَّر ، وأبة للمُؤنَّثِ ، فعلى هذا قيل « أبَوَانِ » .
فصل في دحض شبة من نسب المعاصي إلى الله
قال الكَعْبِيُّ : هذه حجَّةٌ على من نسب المَعَاصِي إلى اللَّهِ تعالى؛ لأنه تعالى نسبَ خروج آدم وحوَّاء ، وسائر وجوه المعَاصِي إلى الشَّيْطَان ، وذلك يَدُلُّ على أنَّهُ تعالى [ بريءٌ عنها ، فيقال له : لِمَ قُلْتُم أنَّ كون هذا العمل منسوباً إلى الشَّيْطَانِ يمنع من كونه منسوباً إلى الله تعالى؟ ] ولِمَ لا يجوزُ أن يقال إنَّهُ تعالى لمَّا خلق القُدْرَةَ والداعية الموجبتين لذلك العمل كان منسوباً إلى الله؟ ولما أجرى عادته بأنه يخلق تلك الدَّاعية بعد تزيين الشيطان وتحْسينِه تلك الأعمال ، عند ذلك الكَافِرِ ، كان منسوباً إلى الشَّيْطَانِ؟
فصل في إخراج آدم من الجنة عقوبة له
ظاهرُ الآيةِ يَدُلُ على أنَّهُ تعالى إنَّمَا أخرج آدَمَ وحَوَّاءَ من الجنة ، عُقُوبَة لهما على تلك الزَّلَةِ ، وظاهرُ قوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] يَدُلُّ على أنَّهُ تعالى خلقهما لخلافةِ الأرضِ ، فأنْزَلَهُمَا من الجَنَّةِ إلى الأرْضِ لهذا المقصود ، فكيف الجمع بين الوَجْهَيْنِ؟
وجوابُهُ : ربما قيل حصل بمجموع الأمْرَيْن ، وأنَّهُ خلقه ليجعله خليفة في الأرض ، وجعل سبب نزوله إلى الأرْضِ وإخراجه من الجَنَّةِ هي الزلة .
قوله : « يَنْزعُ » جملة في محل نَصْبٍ على الحالِ ، وفي صاحبها احتمالان :
أحدهما : أنَّه الضَّميرُ في « أخْرَجَ » العائدُ على الشَّيْطَانِ ، وأضاف نزع اللِّبَاسِ إلى الشَّيْطَانِ ، وإن لم يباشر ذلك؛ لأنَّهُ كان بسبب منه ، فأُسند إليه كما تقول : « أنْتَ فعلت هذا » لمن حصل ذلك الفعل بسبب منه .

والثاني : أنَّهُ حال من أبَوَيْكُم ، وجاز الوجْهَان؛ لأنَّ المعنى يَصِحُّ على كلِّ من التَّقديرَيْنِ ، والصِّناعَةُ مساعدة لذلك ، فإنَّ الجملة مشتملةٌ على ضمير الأبَويْنِ ، وعلى ضَميرِ الشَّيْطَانِ .
قال أبُو حَيَّان : فلو كان بدل « يَنْزعُ » نازعاً تعيَّن الأوَّلُ؛ لأنه إذ ذاك لو جُوِّز الثَّاني لكان وصفاً جرى على غير مَنْ هو له ، فكان يجب إبراز الضَّمير ، وذلك على مذهب البَصْرِيِّينَ .
قال شهابُ الدِّين : يعني أنَّهُ يفرَّق بين الاسم والفعل ، إذا جَرَيَا على غير ما هُمَا لضهُ في المَعْنَى ، فإن كَانَ اسْمَاً كان مذهب البَصْريِّينَ ما ذكر ، وإنْ كان فعلاً لم يَحْتَجْ إلى ذلك ، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المَسْألةِ ، وأنَّ ابن مالكٍ سَوَّى بينهما ، وأنَّ مكيّاً له فيها كلامٌ مُشْكلٌ .
وجيء بِلَفْظِ « يَنْزعُ » مضارعاً على أنَّهُ حكاية حال كأنَّها قد وقعت وانقضت .
والنَّزْعُ : الجَذْبُ للشَّيءِ بقوَّة عن مقرِّه ، ومنه : { تَنزِعُ الناس كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] .
ومنه نَزْع القوس وتستعمل في الأعراض ، ومنه نَزْعُ العداوةِ والمحَبَّةِ من القَلْبِ ، ونُزع فلان كذا سُلبَه ، ومنه { والنازعات غَرْقاً } [ النازعات : 1 ] لأنَّها تَقْلَعُ أرواح الكَفَرَة بِشِدَّةِ ، ومنه المُنَازَعَةُ وهي المخاصمة .
والنَّزْعُ عن الشَّيْء كفٌّ عنه ، والنَّزْعُ : الاشتياقُ الشَّدِيدُ ، ومنه نَزَع إلى وَطَنِهِ ونَزَع إلى مذهب كذا نَزْعَةً ، وأنْزَعَ القَوْمُ : نَزعَتْ إبلهم إلى مواطنها ، ورجل أنْزَعُ أي : َالَ شعرُه ، والنَّزْعَتَانِ بياض يكتنف النَّاصِيَة ، والنَّزْعة أيضاً الموضع من رأس الأنْزَع ، ولا يُقَالُ : امرأةٌ نَزْعَاءُ إذا كان بها ذلك ، بل يُقَالُ لها : زَعْرَاءُ ، وبئر نَزُوع : أي قَرِيبَةٌ القَعْرِ لأنَّهَا يُنزع منها باليدِ .
فصل في معنى « اللباس »
اختلفوا في اللِّبَاسِ الذي نزع عنهما ، فقيل : النُّورُ ، وقيل : التُّقَى .
وقيل : ثِيَابُ الجَنَّةِ ، وهذا أقرب؛ لأنَّ إطلاق اللِّبَاسِ يقتضيه ، والمقصودُ ، تأكيد التَّحْذِيرِ لبني آدم .
واللامُ في قوله : « لِيُرِيهمَا سَوْءَاتِهِمَا » لام العاقبة كما ذكرنا في قوله : « لِيُبْدِي لَهُمَا » .
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ : يرى آدمُ سَوْءَةَ حَوَّاءَ ، وترى حواءُ سَوْءَاةَ آدَمَ .
قوله : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ } وهو تأكيد للضَّميرِ المتَّصل ليسوَّغَ العطف عليه ، كذا عبارة بعضهم .
قال الوَاحِدِيُّ : أعاد الكِنايَةَ ليحسن العَطْفَ كقوله : [ { اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة } [ البقرة : 35 ] .
قال شهابُ الدِّين : ولا حاجةَ إلى التَّأكِيدِ في مثل هذه الصُّورَةِ ] لِصِحَّةِ العَطْفِ إذ الفَاصِلُ هنا موجود ، وهو كاف في صحة العطف ، فليس نظير { اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة } وقد تقدَّم بحثٌ في { سْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ } ، وهو أنَّهُ ليس من بابِ العَطْفِ على الضَّمير لمانع ذُكِرَ ثَمَّ .
و « قبيلُه » المشهور قراءته بالرَّفْعِ نسقاً على الضَّميرِ المُسْتَتِر ، ويجوز أن يكون نَسَقاً على اسم « إنَّ » على الموضع عند مَنْ يجيز ذلك ، ولا سِيَّمَا عند مَنْ يَقُولُ : يجوزُ ذلك بعد الخَبَر بإجْمَاع .

ويجوز أنْ يكون مُبْتَدأ محذوفَ الخبر فتحصَّل في رفعه ثلاثةُ أوجهٍ .
وقرأ اليزِيدِيُّ « وقبيلَه » نصباً ، وفيها تخريجان .
أحدهما : أنَّهُ منصوبٌ نَسَقاً على اسم « إنّ » لفظاً إن قلنا : إنَّ الضَّميرَ عائد على « الشّيْطَان » ، وهو الظَّاهِرُ .
والثاني : أنَّهُ مفعولٌ معه أي : يَرَاكم مُصَاحباً لقبيله .
والضَّميرُ في « إنَّهُ » فيه وجهان :
الظَّاهر منهما كما تقدَّم أنه للشَّيطان .
والثاني : إن يكون ضمير الشَّأن ، وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك .
والقَبِيلُ : الجَمَاعَةُ يكونُونَ من ثلاثةٍ فصاعداً من جماعة شتَّى ، قاله أبو عبيد وجمعه قبل ، والقبيلةُ : الجماعة من أبٍ واحد ، فليست القبيلةُ تَأنِيثُ القَبيلِ لهذه المُغَايَرَةِ .
وقال ابْنُ قُتَيْبة : قبيله : أصحابه وجنده ، وقال : « وهو وقَبِيلُهُ » أي هو ومن خلق من قبله .
قال القُرْطُبِيُّ : قبيله : جُنَودُهَ .
وقال مُجَاهِدٌ : يعني الجنَّ والشَّيَاطِينَ .
وقال ابْنُ زَيْد : نسله ، وقيل : خيله .
قوله : { مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } « مِنْ » لابتداء غاية الرؤية و « حَيْثُ » ظرف لمكان انتفاء الرُّؤيَةِ ، و « لا تَرَوْنَهُم » في محلِّ خفض بإضافة الظَّرْفِ إليه ، هذا هو الظَّاهِرُ في أعراب هذه الآية .
ونقل عن أبي إسْحَاقَ كلام مُشْكل ، نذكره لئِلاَّ يتوهّم صِحَّتَهُ من رآه .
قال أبو إسحاق : ما بعد « حَيُْ » صلة لها؛ وليست بمضافة إليه .
قال الفَارِسيُّ : هذا غير مستقيم ، ولا يصحُّ أن يكون ما بعد « حيث » صلة لها؛ لأنَّهُ إذا كان صلة لها؛ وجب أن يكون للموصولة فيه ذكرن كما أن سائر صلاة الموصُولِ ذِكْراً للموصول ، فَخُلُوُّ الجملة التي بعد « حَيْثُ » من ضمير يَعُودُ على حيثُ دليل على أنَّهَا ليست صلة ل « حيث » ، وإذا لم تكن صلة؛ كانت مضافَةً .
فإن قيل : نقدِّر العائد في هذا كما نُقَدِّرُ [ العائد ] في المَوْصُولات ، فإذا قلت : « رأيتك حيث زيدٌ قائمٌ » كان التَّقْدِيرُ : حيث ائمه ولو قلت : « رأيتُكَ حيثُ قَامَ زَيْدٌ » كان التقدير : حيث قام زيد فيه ، ثم استعَ في الحرف فحذف ، واتَّصل الضَّمِيرُ فحذف ، كما يحذف في قولك : زيدٌ الذي ضربت أي الذي ضربته .
فالجواب : لو أُريد ذلك لجاز استعمال هذا الأصل فتركهم لهذا الاستعمال دليل على أنَّهُ ليس أصلاً له .
قال شهابُ الدِّين : أما أبُو إسحاق لم يعتقد كونها موصولة بمعنى « الَّذِي » ، لا يقول بذلك أحَدٌ ، وإنَّمَا يَزْعُمُ أنَّهَا ليست مضافة للجملة بعدها ، فصارت كالصِّلَةِ لها أي : كالزِّيَادَةِ ، وهو كلام مُتَهَافِتٌ ، فالرَّدُ عليه من هذه الحَيْثِيَّةِ لا من حيْثية اعتقاده لكونها مَوْصُولةً .
ويحتمل أن يكون مراده أنَّ الجملةَ لمَّا كانت من تمَامِ معناها بمعنى أنَّهَأ مفتقرةٌ إليها كافْتِقَار الموصول لِصِلَتِهِ أطلق عليها هذه العبارة .

ويَدُلُّ على ذلك أنّ مكّياً ذكر في علة بنائها فقال : « ولأنَّ ما بعدها من تَمَامِهَا كالصِّلَةَ والموصول » إلا أنَّهُ يرى أنَّهَا مضافة لما بعدها .
وقرىء « مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُ » بالإفراد ، وذلك يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون الضَّمِيرُ عَائِداً على الشَّيْطَانِ وَحْدُهُ دون قبيله لأنه هو رأسهم ، وهم تَبَعٌ له ، ولأنَّهُ المَنْهِيُّ عند أوَّلَ الكلامِ .
والثاني : أن يَعُودَ عليه وعلى قبيله ، ووحَّد الضَّمير إجراءً له مجرى اسم الإشارة في قوله تعالى : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] .
ونظير هذه القراءة قول رُؤبَةَ : [ الرجز ]
2448 - فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلقْ ... كأنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهقْ
وقد تقدَّنم هذا البَيْتُ بحكايته معه في البقرةِ .
فصل في المراد بالآية
معنى الآيةِ : أنَّ الشَّيْطَانَ يَرَاكُم يا بَنِي آدَمَ هو وقبيلهُ وجنوده ، وقال ابْنُ عبَّاسٍ : « هو وَوَلَدُهُ » .
وقال قتادةُ : « قبيله الجنُّ والشَّياطين من حي لا ترونهم » .
قال مَالِكُ بْنُ دينارٍ : إن عدواً يراك ولا تراه لشديد الموتة إلاَّ من عصم اللَّهُ .
فصل في بيان رؤية الجن الإنس
قال أهل السُّنَّةِ : إنَّهُم يرون الإنْسَ؛ لأنه تعالى خلق في عيونهم إدراكاً ، والإنس لا يرونهم؛ لأنَّهُ تعالى لم يخلق هذه الإدراك في عيون الإنس .
وقالت المُعْتَزلَةُ : الوَجْهُ في أنَّ الإنْسَ لا يرون الجِنَّ لرقة أجْسَامِ الجنِّ ، ولطفاتها ، والوجه في رُؤيَة الجن الإنس كثافة أجسام الإنس ، والوجه في أن يرى بعض الجنّ بعضاً أنَّ اللَّه تعالى يقوي شُعَاعَ أبْصَارِ الجِنِّ ويزيد فيه ، ولو زاد تعالى في قُوَّةِ أبْصَارِنَا على هذه الحالة لرأيناهم وعلى هذا كون الإنس مبصراً للجن موقف عِنْدَ المعتزلة إما على زيادة كثافةِ أجسَامِ الجنِّ أو على زيادة قُوَّةِ أبصار الإنْسِ .
وقوله { مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم } يدل على أنَّ الإنْسَ لا يرون الجِنَّ لأن قوله { مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم } يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص .
فصل في تغير الجن في صور مختلفة
قال بعضُ العُلَمَاء : لو قدر الجِنُّ على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شَاءُوا وأرَادُوا؛ لوجب أنْ ترتفعَ الثِّقَةُ عن معروف النَّاس فلعلَّ هذا الذي أشاهده ، وأحكم علية بأنَّهُ ولدي ، أو زوجتي جنِّي صور نفسه بصورة ولدي أو زَوْجَتِي وعلى هذا التقدير فيرتفع الوثوق عن معرفة الأشخاصِ ، وأيضاً ، ولو كانوا قَادِرِين على تخبيط النَّاسِ وإزالة عقولهم عنهم مع أنَّهُ تعالى بين العَدَاوَةَ الشديدة بينهم وبين الإنْسِ ، فَلِمَ لا يفعلون ذلك في حق البشر؛ وفي حقِّ العلماء والأفاضل والزهاد؟ لأن هذه العداوة بينهم وبين العلماء والزُّهَّاد أكثر وأقوى ، ولما لم يوجد شيء من ذلك ثبت أنَّهُ لا قُدْرَةَ لهم على البشر بوجه من الوُجُوهِ ، ويؤكِّدُ ذلك قوله { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي }

[ إبراهيم : 22 ] .
قال مُجَاهدٌ : قال إبليسُ : إعطينا أربعاً : نَرى ولا نُرى ، ونخرج من تَحْت الثرى ويعودُ شيخنا فَتَى .
قوله { } .
يحتمل أنْ يكون « جعل » بمعنى « صَيَّر » ، أي : صيَّرنَا الشَّياطين أولياء .
وقال الزَّهْرَاويُّ « جعل » هنا بمعنى « وصف » وهذا لا يعرف في جعل وكأنه فراراً من إسناد جَعْلِ الشياطين أولياء لغير المؤمنين إلى اللَّهِ تعالى وكأنَّها نزعة اعتزاليَّة .
و « للَّذِينَ » متعلِّقةٌ ب « أولياء » ؛ لأنه في معنى الفعل ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ؛ لأنَّه صفة ل « أولياء » .
فصل في المراد ب « أولياء »
معنى « أولياء » أي : أعْوَاناً وقرناء للَّذين لا يُؤمِنُون .
قال الزَّجَّاجُ : سلطناهم عليهم يزيدون في غَيِّهم كقولهم { أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } [ مريم : 83 ] واحتج أهل السنة بهذا النص على أنَّهُ تعالى هو الذي سَلَّطَ الشَّيْطَان عليهم حتى أضلهم واغواهم .
وقالت المُعْتَزِلَةُ : معنى قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } هو أنَّا حكمْنَا بأنَّ الشَّيْطَان ولي لمن لا يؤمن ، قالوا : ومعنى قوله : { أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين } [ مريم : 83 ] هو أنَّا خلينا بينهم وبينهم كما يقال لمن لا يربط الكلب في داره ولا يمنعه من الوثوب على الداخل أنَّهُ أرسل عليهم كلبه .
والجوابُ أن القائل إذا قال : إن فُلاناً جعل هذا ثوباً أبيضَ أو أسود ، لم يفهم منه أنَّهُ حكم به بل يفهم منه أنه حصل السَّواد أو البياض فيه ، فكذلك هاهنا وجب حمل الجعل على التَّأثير والتَّحصيل لا على مجرد الحكم وأيضاً فهب أنَّهُ تعالى حكم بِذلكَ لكن مخالفة حكم اللَّهِ توجب كَوْنَهُ كَاذِباً وهو مُحَالٌ ، والمفضي إلى المُحَالِ مُحَالٌ ، فكون العبد قادراً على خلافِ ذلك؛ وجب أن يكُونَ مُحَالاً وأما قولهم إن قوله تعالى { أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين } [ مريم : 83 ] أي خلَّينا بينهم وبين الكافرين ، فهو ضعيف؛ ألا ترى أنّ أَهل السُّوقِ يؤذي بعضُهُم بعضاً ، ويشتمُ بعضهم بعضاً ثم إنَّ زيداً وعمراً إذا لم يمنع بعض لا يُقَالُ إنَّهُ أرسل بعضهم على البعض ، بل لفظ الإرْسَالِ إنَّمَا يصدق إذا كان تسلط بعضهم على البعض بسبب من جهته فكذا هاهنا .

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)

هذه الجملة الشَّرْطيَّة لا محلَّ لها من الإعراب؛ لأنَّها استئنافيَّة وهو الظَّاهِرُ وجوَّزَ ابْنُ عَطِيَّة أن تكون داخِلَةً في حيِّز الصِّلَةِ لعطفها عليها .
قال ابْنُ عطيَّة ليقع التوبيخ بصفة قَوْمٍ قد فعلوا أمثالاً للمؤمنين إذا شبه فعلهم فعل الممثل بهم .
قوله : « وَجَدْنَا » يحتمل أنْ يكون العلمية أي علمنا طريقهم أنها هذه ، ويحتمل أن يكون بمعنى : لَقِينَا ، فيكون مفعولاً ثانياً على الأول وحالاً على الثاني .
فصل في المراد من الآية .
قوله { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } قال ابنُ عبَّاسٍ ، ومجاهدٌ : هي طوافهم بالبيت عراة .
وقال عطاءٌ : الشِّرك .
وقيل : ما كَانُوا يحرمونه من البحيرةِ والسَّائِبَةِ وغيرها ، وهو اسم لكلِّ فعل قبيح بلغ النَّهايةَ في القُبْحِ ، فالأولى أن يحكم بالتعميم ، وفيه إضمارٌ مَعْنَاهُ : وإذا فعلوا فَاحِشَةً فنهوا عنها قالوا : وجدنا عليها آباءنا .
قيل : ومن أينَ أخذ آباؤكم؟ قالوا : اللَّهُ أمَرَنَا بها .
واعلم أنَّهُ ليس المرادُ أنَّ القومَ كَانُوا يعتقدونَ أن تلك الأفعال فواحش ثم يزعمون أنَّ الله أمرهم بها ، فإنَّ ذلك لا يقولهُ عاقلٌ ، بل المراد أن تلك الأشياء في أنفسها فواحش ، والقوم كَانُوا يعتقدون أنها طاعات والله امرهم بها ثُمَّ إنَّهُ تعالى حكى عنهم أنَّهُم كانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحِشِ بأمرين .
أحدهما : { وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا } .
والثاني : { والله أَمَرَنَا بِهَا } .
فأمَّا الحُجَّةُ الأولى فما ذكر الله عنها جواباً لأنَّها محض التَّقْلِيد ، وهو طريقة فاسدَةٌ في عقل كلِّ أحد؛ لأنَّ التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التَّقلِيدُ حقاً للزَِ الحكمُ بأنَّ كُلَّ من المتناقضين حقّاً وذلك باطلٌ ، ولما كان فساد هذا الطَّريق ظاهراً جلياً لم يذكر الجواب عنه .
وأمّا الحجَّةُ الثَّانِية وهي قولهم : { والله أَمَرَنَا بِهَا } فقد أجَابَ اللَّهُ عنها بقوله : { قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء } والمعنى أنَّه لما بين على لِسانِ الأنْبِيَاءِ والرُّسُلِ كون هذه الأفعال منكرة قبيحة ، فكيف يمكن القول بأنَّ اللَّهَ تعالى أمرنَا بِهَا .
وقوله : { إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء } حذف المفعول الأوَّل للعلم به أي لا يأمر أحداً أو لا يأمركم يا مُدَّعين ذلك .
فصل
قالت المعتزلَةُ : قوله { إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء } إشارة إلى أنَّهُ لما كان موصوفاً في نفسه بكونه من الفحشاء؛ امتنع أن يأمر الله به ، وهذا يقتضي أن يكون كونه في نفسه فحشاً مغايراً لتعلق الأمر والنَّهْيِ بِهِ .
والجوابُ : لما ثبت بالاستقراءِ أنَّهُ تعالى لا يأمرُ إلا بما يكون مصلحة للعباد ولا ينهى إلا عمَّا يكون مفسدة لهم ، فقد صَحَّ هذا التَّعْلِيلُ .
قوله : { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } والمعنى أن قولكم : إنَّ اللَّه أمَرَكُمْ بهذه الأفعال إمَّا لأنكم سمعتم كلام اللَّهِ تعالى ابتداء من غير واسطة ، أو عرفتم ذلك بطريقِ الوحي عن الأنْبِيَاءِ .

أما الأول : فباطل بالضَّرُورةِ .
وأما الثاني : فباطل على قولكم لأنَّكُم تنكرون نبوّة الأنبياءِ على الإطلاق لأن هذه المناظرة مع كُفَّار قُرَيْشٍ ، وهم كانوا منكرين أصْلَ النُّبُوَّةِ ، وإذا كان كذلك ، فلا طريق لهم إلى تحصيل العلم بأحْكَامِ اللَّهِ تعالى ، فكان قولهم : إنَّ الله أمرنا بها قولاً على اللَّه بما لا يَعْلَمُونَ ، وإنَّهُ بَاطِلٌ .
قوله : { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } مفعول به ، وهذا مفرد في قوة الجملة؛ لأنَّ ما لا يعلمون ممَّا يتقولونه على الله - تعالى - كلام كَثِيرٌ من قولهم : { والله أَمَرَنَا بِهَا } كتبحير البحائر وتسبيب السَّوائب ، وطوافهم بالبيت عُراةً إلى غير ذلك حذف المفعول من قوله : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط } [ الأعراف : 29 ] .
فصل في دحض شبهة لنفاة القياس
استدلَّ بهذه الآية نفاةُ القياس؛ لأنَّ الحكم المثبت بالقياس مظنون غير معلوم وما لا يكون معلوماً لم يجز القول به لقوله تعالى في معرض الذَّمِّ : { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وقد تقدَّم جوابٌ عن مثل هذه الدلالة .

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)

قال ابن عباس : أمر ربِّي ب « لا إله إلا الله » لقوله تعالى : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة } [ آل عمران : 18 ] إلى قوله : { قَآئِمَاً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] .
وقال الضحاك : هو بالتوحيد .
وقال مُجَاهِدٌ : والسُّدِّيُّ : بالعدل .
قوله : « وأقِيمُوا » فيه وجْهَانِ :
أظهرهما : أنَّهُ مَعْطُوفٌ على الأمْرِ المقدر أي الذي ينحل إليه المصدر ، وهو « بالقِسْطِ » وذلك أنَّ القِسْط مصدر فهو ينحل لحرف مصدري ، وفعل ، فالتَّقديرُ : قل : أمر ربي بأن أقسطوا وأقيموا ، وكما أنَّ المصدر ينحلُّ إلى « أنَّ والفعل الماضي » نحو : عَجِبْتُ من قِيَام زَيْدٍ وخرج ، أي : من أن قام ، وخَرَجَ ول « أن » وللفعل المضارع كقولها : [ الوافر ]
2449 - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقرَّ عَيْنِي .. . .
أي : لأن ألبس عباءة وتقر ، كذلك ينحل ل « أنَّ » وفعل أمر؛ لأنَّهَا توصل بالثَّلاث الصِّيغ : الماضي والمُضارع والأمر بشرط التَّصَرُّف ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذه المسألة وإشكالها وجوابُهُ .
وهذا بخلاف « ما » فإنَّهَا لا تُوصَلُ بالأمْرِ ، وبخلاف « كي » فإنَّهَا لا توصل إلا بالمُضَارِع ، فلذلك لا ينحلُّ المصدر إلى « ما » وفعل أمر ، ولا إلى « كي » وفعل ماضي أو مضارع .
وقال الزَّمخْشَرِيُّ : وقل أقيموا وجوهكم أي : اقصدوا عبادته ، وهذا من الزَّمَخْشَرِيُّ يحتمل تأويلين :
أحدهما : أن يكون قوله « قل » أراد أنه مقدر غير هذا الملفوظ به فيكون « وأقيموا » معمولاً لقول أمر مقدر ، وأن يكون معطوفاً على قوله : « أمر رَبِّي » فإنه معمول ل « قل » وإنما أظهر الزَّمَخْشرِيُّ « قُلْ » مع أقِيمُوا لتحْقيق عطفيته على « أمر رَبِّي » .
ويجوز أن يكُون قوله « وأقِيمُوا » معطوفاً على أمْرٍ محذوف تقديره قل : أقبلوا وأقيموا .
وقال الجُرْجانِيُّ صاحب « النَّظْم » : نسق الأمر على الجر وجاز ذلك؛ لأنَّ قوله { قُلْ أَمَرَ رَبِّي } قول لأن الأمْرَ لا يكُونُ إلا كلاماً ، والكلام قول ، وكأنه قال : قل : يقول ربي : اقسطوا وأقيموا ، يعني أنَّهُ عطف على المعنى .
و « مسجد » هنا يحتمل أن يكون مَكَاناً وزماناً .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : في وقت كلِّ سُجُودٍ ، وفي مكان كلِّ سُجُودٍ ، وكان من حَقِّ « مسجد » بفتح العين لضمها في المضارع ، وله في هذا الشذوذ أخوات كثيرة مذكورة في التَّصريفِ .
فصل في المراد ب « أقيموا وجوهكم »
قال مجاهد والسدي : معنى { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وجهوا حَيْثُ ما كنتم في الصَّلاةِ إلى الكَعْبَةِ .
وقال ابْنُ عبَّاس والضحاك : إذا حضرت الصَّلاةُ ، وأنتم عند مَسْجِدِ فصلُّوا فيه ولا يقولن أحدكُم أصلي في مَسجْدِي .
وقيل : معناه : اجعلوا سجودكم لِلَّهِ خَالِصاً ، والسبب في ذكر هذين القولين أنّ إقامة الوجه في العبادة قد تكون باستقبال القِبْلَةِ ، وقد تكون بالإخلاص في تلك العِبَادَةِ .

والأقرب هو الأوَّلُ؛ لأنَّ الإخْلاَصَ مذكور بعده ، فلو حملناه على معنى الإخلاص صار كأنَّهُ قال : وأخلصوا عند كلِّ مَسْجدٍ وادْعُوه مُخلصينَ ، وذلك لا يستقيم . فإن قيل يستقيمُ ذلك إذا علقت الإخلاصَ بالدُّعَاءِ فقط .
فالجواب لما أمكنرجوعه إليهما جميعاً لم يَجُزْ قصرهما على أحدهما خصوصاً مع قوله : { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } فعم كل ما يسمى ديناً ، وإذا ثبت هذا فاختلفوا في قوله : { عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } هل المرادُ منه زمان الصَّلاة أو مكانها على ما تقدم؟
قوله : « مُخْلِصينَ » حال من فاعل « ادْعُوه » ، « الدَّين » مفعولٌ به باسْمِ الفاعل وله متعلق ب « مخْلِصِينَ » حال من فاعل « ادْعُوه » ، و « الدِّين » مفعولٌ به باسْمِ الفاعل وله متعلق ب « مخْلِصين » ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حالٌ من « الدين » ، والمراد اعبدوه مخلصين له الطَّاعة .
« والعِبَادَة » قال ابن الخطيب : المرادُ به أعمالُ الصَّلاةِ ، وسمَّاها دعاءً لأنَّ الصلاة في اللُغة عبارة عن الدُّعاء ، ونظيره قوله { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ البينة : 5 ] .
قوله : « كَمَا بَدَأَكُمْ » « الكاف » في محل نَصْبِ نَعْتاً لمصدر محذوف تقديرُهُ : تعُودُون عَوْداً مثل ما بدأكم .
وقيل : تقديره : تُخْرَجُونَ خُرُوجاً مثل ما بَدَأكُم ذكرهما مَكي ، والأوَّل أليق بلفظ الآية الكريمة .
وقال ابن الأنْبَارِيِّ : موضع « الكاف » في « كما » نصب ب « تَعُودُونَ » وهو على مذهب العرب في تقديم مفعول الفعل عليه أي : تعودون كما ابتدأ خلقكم .
قال الفارسي : كما بَدَأكُم تعودُون ليس على ظَاهِرِه إذ ظاهره تعودون على البَدْءِ ، وليس المَعْنَى تشبيههم بالبَدْءِ ، إنَّمَا المعنى على إعادة الخلق كما ابتدئ ، فتقدير « كما بَدأكُمْ تعُودُون » : كما بدأ خلقكم أي : يُحيي خلقكم عوداً كبدئه ، وكما أنَّه لم يَعْنِ بالبدء ظاهره من غير حذف المضاف إليه ، كذلك لم يَعْنِ بالعود من غير حذف المُضافِ الذي هو [ « الخلق » فلما حذف قام المضاف إليه مَقَامَ الفاعِلِ ، فصار الفَاعِلُونَ مخاطبين . كما انه لما حذف المضاف ] من قوله : { كما بدأ خلقكم } صار المخاطبون مفعولين في اللفظ قال شهاب الدين : يعني أنَّ الأصل كما بَدَأ خلقكم يعودُ خلقكم ، فحذف « الخلق » في الموضعين وصار المخاطبون في الأوَّلِ مفعولين بعد أن كَانُوا مجرورين بالإضافة أيضاً وفي الثاني صاروا فَاعِلينَ بعد أنْ كانوا مجرورين بالإضافة . و « بدأ » بالهمز أنشأ واخترع ، ويستعمل بهذا المعنى ثلاثياً ورباعياً على « أفْعَلَ » فالثلاثيُّ كهذه الآية ، وقد جمعبين الاستعمالين في قوله تعالى :

{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ الله الخلق } [ العنكبوت : 20 ] فهذا من « أبدأ » ثم قال : كيف بدأ الخلق ، هذا فيما يتعدى بنفسه .
وأما ما يتعدَّى بالباءِ نحو : بَدَأتُ بكذا بمعنى قدَّمته وجعلتهُ أوَّل الأشياء ، يقال منه : بَدَأتُ به وابتدأت به .
وحكى الرَّاغِب أيضاً أنَّهُ يقال من هذا : ابْدأتُ به على « أفْعَلَ » وهو غريب .
وقولهم : أبْدأت من أرض كذا أي : ابتدأت منها بالخُرُوجِ والبَدْء السيد سمي بذلك؛ قيل : لأنه يبدأ به في العد إذا عُدَّ السَّادَات وذكروا عليه قوله : [ الوافر ]
2450 - فَجِئْتُ قُبُورَهُمْ بَدْءاً ولَمَّا ... فَنَادَيءتُ القُبُورَ فَلَمْ تُجِبْنَهْ
أي جئت قَبُورَ قومي سيّداً ولم أكن سَيّداً ، لكن بموتهم صيّرت سيّداً ، وهذا ينظر لقول الآخر : [ الكامل ]
2451 - خَلَتِ الدِّيَارُ فَسُدْتُ غَيْرَ مُسَوَّرِ ... وَمِنَ العَنَاءِ تَفَرُّدِي بالسُّؤدُدِ
و « ما » مصدريَّةٌ ، أي : كبدئكم .
فصل في معنى « كما بدأكم تعودون » .
قال ابنُ عبَّاس : إنَّ الله بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ، كما قال : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] ، ثم يعيدُهم يَوْمَ القيامةِ كما خلقهم مُؤمناً وكافراً .
وقال جَابِرٌ : يُبعثون على ما مَاتُوا عليه .
روى جابر بْنُ عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يبعثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عليْهِ ، المُؤمِنُ على إيْمَانِهِ ، والكَأفِرُ على كُفْرِهِ »
وقال أبو العالية : « عَادُوا على علمه فيهم » .
وقال سعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : « كما كتب عَلَيْكُم تَكُونُونَ » .
وقال محمدٌ بْنُ كَعْب : « من ابتدأ الله خلقه على الشِّقْوَةِ صار إليها ، وإن عمل عمل أهل السَّعادةِ ، كما أنَّ إبليس كان يعمل بِعَمَلِ أهل السَّعادةِ ثم صارَ إلى الشَّقاوةِ ، ومن ابتدأ خلقه على السَّعادة صار إليها ، وإن عمل بأعْمَال أهل الشٌّقاوة ، كما أنَّ السَّحَرَةَ كانت تَعْمَلُ بعمل أهل الشَّقاوةِ فَصَارُوا إلى السَّعادة » .
روى سهل بْنُ سَعْد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن العبد يَعْمَلُ فيما يرى النَّاسُ بعمل أهل الجَنَّةِ ، وأنَّهُ من أهل النَّار ، وإنَّهُ ليعمل فيما يرى النَّاس بعمل أهل النَّارِ ، وإنما هو من أهل الجنَّةِ ، وإنَّما الأعْمَالُ بالخواتيم »
وقال الحسنُ ومُجَاهِدُ : كمَا بَدَأكُمْ وخلقكم في الدُّنْيَا ولم تكونا شيئاً ، كذلك تعودون أحياء يَوْمِ القيامةِ : كما قال : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } [ الأنبياء : 104 ] .
قال قتادةُ ، هم من التُّراب وإلى التُّراب يعودُونَ ، ونظيره : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [ طه : 55 ] ، واعلم أنَّه تعالى أمر أولاً بكلمة القِسْطِ وهي لا إله إلا الله ، ثم أمر بالصَّلاة ثانياً ، ثم بيَّن أنَّ الفائدة في الإتْيَانِ بهذه الأعمال إنما تظهر في الآخرة ، ونظيره قوله تعالى لموسى : { إنني أَنَا الله لاا إله إلاا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكريا إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 14 - 15 ] .

فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)

في نصب « فريقاً » وجهان :
أحدهما : أنَّهُ مَنْصُوبٌ ب « هَدَى » بعده ، و « فريقاً » الثَّانِي منصوب بإضمار فعل يفسِّرهُ قوله : { حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } من حيثُ المعنى والتَّقديرُ : وأضلَّ فريقاً حقّ عليهم .
[ قال القُرْطُبِيُّ : وأنشد سيبويه : [ المنسرح ]
2452 - أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ وَلاَ ... أمْلِكُ رَأسَ البَعِير إنْ نَفَرَا
والذِّئْبُ أخْشَاهُ إذْ مَرَرْتُ بِهِ ... وَحْدِي وأخْشَى الرِّيَاحَ والمَطَرا
قال الفرَّاءُ : ولو كان مرفوعاً لجاز ] ، وقدَّره الزمخشريُّ : « وخذل فريقاً » لأجل مَذْهَبِهِ .
والجملتان الفعليتان في محلِّ نصب على الحال من فاعل « بَدَأكُمْ » أي : بَدَأكُم حال كَوْنِهِ هادياً فريقاً ومُضِلاًّ آخر .
و « قد » مضمرة عند بعضهم ، ويجوزُ على هذا الوجه أيضاً أن تكون الجملتان الفعليَّتان مستأنفتْينِ ، فالوقف على « يعودون » على هذا الإعراب تام ، بخلاف ما إذا جعلتهما حالين ، فالوقف على قوله : « الضَّلالة » .
الوجه الثاني : أن ينتصب « فريقاً » على الحال من فاعل « تَعُودُونَ » [ أي : تعودون ] فريقاً مَهْدِيّاً ، وفريقاً حاقّاً عليه الضلاة ، وتكون الجملتان الفعليَّتان على هذا في محل نصب على النَّعت ل « فريقاً » و « فريقاً » ، ولا بدَّ حينئذٍ من حذف عائدٍ على الموصوف من « هدى » أي : فريقاً هداهم ، ولو قدَّرته « هَدَاهُ » بلفظ الإفراد لجاز ، اعتباراً بلفظ « فَرِيق » ، إلاَّ أنَّ الأوَّل أحسن لمناسبة قوله : { وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ } ، والوقف حينئذ على قوله ، « الضَّلالَةُ » ، ويؤيِّد إعرابه حالاً قراءة أبي بن كعب : « تعُودُون فريقين : فريقاً هدى ، وفريقاً حقَّ عليهم الضَّلالة » ف « فريقين » نُصب على الحَالِ ، و « فريقاً » وفريقاً بدل ، أو منصوب بإضمار أعني على القطع ، ويجوز أن ينتصب « فريقاً » الأول على الحال من فاعل « تعودون » و « فريقاً » الثاني نصب بإضمار فعل يفسره { حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } كما تقدَّم تحقيقه في كل منهما .
وهذه الأوجه كلها ذكرها ابن الأنباري ، فإنَّهُ قال كلاماً حسناً ، قال - رحمه الله - : « انتصب فريقاً وفريقاً على الحال من الضَّميرِ الذي في » تعودون « ، يريدُ : تعودون كما ابتدأ خلقكم مختلفين ، بعضكم أشْقِيَاء وبعضكم سعداء ، فاتصل » فريقٌ « وهو نكرة بالضَّمِير الذي في » تَعُودُونَ « وهو معرفة فقُطِع عن لَفْظِهِ ، وعُطف الثاني عليه » .
قال : « ويجوز أن يكون الأوَّل منصوباً على الحال من الضَّمير ، والثاني منصوبٌ ب { حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } ؛ لأنَّهُ بمعنى أضلَّهم ، كما يقول القائل » عبد الله أكرمته ، وَزَيْداً أحسنت إليه « فينتصب زيداً ب » أحْسَنْتُ إلَيْه « بمعنى نَفَعْته؛ وأنشد : [ الوافر ]

2453 - أثَعْلَبَةَ الفَوَارِسِ أمْ رِيَاحاً ... عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ والخِشَابَا
نصب صعلبة ب « عدلت بهم طهية » ؛ لأنه بمعنى أهَنْتَهم أي : عدلت بهم من هو دُونَهُم ، وأنشد أيضاً قوله : [ الكامل ]
2454 - يَا لَيْتَ ضَيْفَكُمُ الزُّبَيْرَ وَجَارَكُمْ ... إيَّايَ لَبَّسَ حَبْلَهُ بِحِبَالِي
فنصب « إيَّاي » بقوله : لَبَّس حبله بحبالي ، إذ كان معناه خالطني وقصدني .
قال شهابُ الدِّين : يريدُ بذلك أنَّهُ منصوبٌ بفعلٍ مقدر من معنى الثاني لا من لفظه ، هذا وجه التَّنْظِير .
وإلى كون « فَرِيقاً » منصوباً ب « هَدَى » و « فريقاً » منصوباً ب « حقَّ » ذهب الفراء ، وجعله نظير قوله تعالى : { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الإنسان : 31 ] .
قوله : « إنَّهُمُ اتَّخَذُوا » جارمجرى التَّعليل ، وإنْ كان استئنافاً لفظاً ، ويدلُّ على ذلك قراءة عيسى بن عمر ، والعبّاس بن الفضل ، وسهل بن شعيب « أنَّهُمُ » بفتح الهمزة ، وهي نص في العِلِّيِّة أي : حَقَّتْ عليهم الضلالة لاتِّخاذهم الشياطين أولياء ، ولم يُسند الإضلال إلى ذَاتِهِ المقدَّسَةِ ، وإن كان هو الفاعل لها تَحْسِيناً للفظ وتعليماً لعباده الأدَبِ ، وعليه : { وعلى الله قَصْدُ السبيل وَمِنْهَا جَآئِرٌ } [ النحل : 9 ] .
فإن قيل : كيف يستقيمُ هذا التَّعْليلُ مع قولكم بأنَّ الهُدَى والضَّلال إنما حصلا بخلق الله ابتداءً؟ فالجوابُ : أنَّ مجموع القدرة والدَّاعي يوجب الفعل والدَّاعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل هو أنَّهُم اتخذوا الشَّياطين أولياء .
فصل في دحض شبهة خلق الأفعال
احتحَّ أهْلُ السُّنَّة بهذه الآية على أنَّ الهدى والضلال من الله تعالى .
قالت المعتزلة : « المرادُ فريقاً هدى إلى الجنَّةِ والثَّواب ، وفريقاً حقَّ عليهم الضَّلال أي : العذاب والصّرف عن طريق الثَّواب » .
قال القاضي : لأنَّ هذا هو الذي يحقُّ عليهم دون غيرهم ، إذا العبد لا يستحق أن يضلّ عن الدِّين ، إذ لو استحقّ ذلك لجاز أن يأمر أولياءه بإضلالهم عن الدِّين كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة ، وفي ذلك زوال الثِّقَة بالنُّبُوَّات . وهذا الجوابُ ضعيف من وجهين :
الأول : أن قوله « فَرِيقاً هَدَى » إشارة إلى الماضي ، وعلى التَّأويل الذي ذكروه يصيرُ المعنى : أنَّهُ تعالى سيهديهم في المستقبل ، ولو قال : إنَّ المراد : أنَّهُ تعالى حكم في الماضي أنَّهُ سيهديهم إلى الجنَّةِ كان هذا عُدُولاً عن الظَّاهِرِ من غير حاجة؛ لأنَّهُ قد تبين بالدَّليل القاطع أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى .
والثاني : هب أن المراد من الهداية والضَّلال حكم الله بذلك ، إلا أنّه لما حصل هذا الحكم امتنع من العبد صدور غيره ، والإلزام انقلاب ذلك الحكم كذباً ، والكذب على الله مُحَال ، والمفضي إلى المحال محال ، فكان صدور خلاف ذلك من العَبْدِ مُحَالاً .
قوله : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } .
قال ابن عباس : يريد ما سَنَّ لهم عمروُ بْنُ لحَيِّ ، وهذا بعيد بل هو محمول على عُمُومِهِ ، فكلُّ من شرع في بَاطلِ فهو مستحقٌّ للذم ، سواء حسب كَوْنِهِ هدى ، أو لم يحسب ذلك ، وهذه الآية تدل على أنَّ الكافرَ الذي يظن أنَّهُ في دينه على الحقِّ والجاحد المعاند سواء ، وتدلُّ أيضاً على أنَّ مُجَرَّد الظن والحسْبَانِ لا يكفي في صحَّة الدين ، بل لا بدَّ فيه من الجَزءمِ والقَطْعِ؛ لأنَّهُ تعالى ذم الكفار بأنهم يحسبون كوْنِهِ مهتدين ، ولولا أن هذا الحسبان مذموم وإلاَّ لما ذمهم بذلك .

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)

لمَّا أمرنا بإقامة الصَّلاةِ بقوله : { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [ الأعراف : 29 ] .
وكان ستر العورة شَرْطا لصحَّةِ الصَّلاةِ أتبعه بذكر اللِّباس .
قال ابْنُ عبَّاس : إنَّ أهل الجاهلَّيةِ من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عُرَاة ، وكانوا إذا وصلوا إلى مَسْجِدِ « منى » طرحوا ثيابهم ، وأتوا المسجد عُرَاةً ، وقالوا : لا نَطوفُ بثيابٍ أصبنا فيها الذَّنوب ، ومنهم من يقولُ : نفعلُ ذلك تفاؤلاً حتى نتعرى من الذُنُوب كما تعرّينا عن الثياب ، وكانت المرأة منهم تتخذ ستراً تعلٌّه على حقويها لتستتر به عن الحُمْس وهم قريشٌ ، فإنَّهُم كانُوا لا يَفْعَلُون ذلك ، وكانوا يطوفون في ثيابهم ، ولا يأكلون من الطعام إلاَّ قوتاً
قال الكَلْبِيُّ : كانت بَنُو عامر لا يأكُلُونَ في أيَّام حجِّهم من الطعام إلا قوتاً ، ولا يأكلون دسماً ، يعظِّمُون بذلك حجهم فقال المسلمون يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحقُ أن نَفْعَلَ ذلك فنزلت هذه الآية .
و « كُلُوا » يعني : اللحم والدسم .
{ واشربوا وَلاَ تسرفوا } بتحريم ما أحلَّ الله لكم من اللحم والدسم .
{ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } الذين يفعلون ذلك .
قال ابن عباس : « كُلْ ما شِئْتَ ، والبَسْ ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة » .
قال عَلِيُّ بْنُ الحُسينِ بنِ واقدٍ : وقد جمع اللَّهُ الطبَّ كلَّه في نصف آية : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } .
فصل في معنى « الزينة »
المراد من الزِّينة لبس الثيابِ لقوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } [ النور : 31 ] . يعني : الثّياب .
والزينة لا تحصل إلا بالسّتر التام للعورات ، ولذلك صار التزين بأخذ الثياب في الجمع والأعياد سُنَّة ، فوجب حمل الزينة على ستر العورة .
وقد أجمع المُفسرون على أن المراد بالزِّينةِ هنا لبس الثياب التي تستر العورة ، وقد أمر بها بقوله : خُذُو زينتَكُم « ، والأمرُ للوجوبِ ، فَثَبَتَ أنَّ أخذ الزِّينةِ واجب ، وكل ما سوى اللبس فهو واجب ، فوجب حمل الزِّنةِ على اللبس عملاً بالنَّصِّ بقدر الإمكان ، فدلَّ على وُجُوبِ ستر العورة عند إقامة الصَّلاة .
فإن قيل : إنَّهُ عطف عليه قوله : » كُلُوا واشْرَبُوا « ، وذلك أمر إباحة ، فوجب أن يكون قوله : » خُذُوا زِينَتَكُم « أمر إباحة أيضاً والجواب لا يلزم من ترك الظَّاهر المعطوف تركه في المعطوف عليه وأيضاً دلالة الاقتران ضعيفة ، وأيضاً الأكل والشرب قد يكونان واجبين أيضاً في الجملة .
فإن قيل هذه الآية وردت في المنع من الطواف حال العري .
فالجواب : أن العِبْرَة بعموم اللَّفْظِ لا بخصوص السَّبب .
إذا ثبت ذلك فقوله { يا بني آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } يقتضي وجوب اللِّبس التَّام عند كل صلاةٍ؛ لأن اللبس التام هو الزينة .
ترك العمل به في القدر الذي لا يجبُ ستره من الأعْضَاءِ إجماعاً ، فبقي الباقي داخلاً تحت اللفظ .

فصل في الأصل في الأكل الحل
قوله : { وكُلُواْ واشربوا } مطلق ، يتناول جميع المطعومات والمشروبات ، فوجب أن يكون الأصل فيها الحلُّ في كل الأوقات إلا ما خصَّه الدَّليل المنفصلُ ، والعقل يؤكده؛ لأنَّ الأصْلَ في المنافع الحلُّ والإبَاحَةُ .
فصل في وجوب ستر العورة
قال القُرْطُبِيُّ : دلَّت هذه الآيةُ على وُجُوبِ ستْرِ العوْرَةِ ، وعلى إباحةِ الأكْل والشرب ما لم يكن سرفاً ، أمَّا ما تدعو الحاجة إليه وهو ما يسدُّ الجوعة ويسكن الظمأ مندوب إليه عقلاً وشرعاً؛ لما فيه من حفظ النَّفْس وحراسة الحواس ، ولذلك ورد الشَّرْع بالنَّهي عن الوصالِ؛ لأنَّهُ يضعف الجسد ، ويضعف عن العبادة .
قوله : « ولا تُسْرِفوا » .
قيل : المرادُ أن يأَكل ويشرب بحيث لا يتعدَّى إلى الحرامِ ، ولا يكثر الإنفاق المستَقْبَح ، ولا يتناول مقداراً كثيراً يضرُّ به .
وقال أبُو بَكْرِ الأصَمُّ : المراد بالإسراف قولهم : تحريم البحيرة والسّائبة ، فإنَّهُمْ أخرجوها عن ملكهم ، وتَرَكُوا الانتفاع بها ، وحرَّموا على أنفسهم في الحجِّ أشياء أحَلَّها الله لهم ، وذلك إسراف .
واعلم أنَّ حمل لفظ الإسْرَاف على الاستكثارِ [ و ] مما لا ينبغي أولى من حمله على المَنءعِ مما يَجُوزُ ويَنْبَغِي .
وقوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } نهاية في التهديد؛ لأن كل من لا يحبُّه الله يبقى محروماً عن الثَّواب؛ لأن محبَّة الله للعبد إيصال الثَّواب إيله ، فعدمُ هذه المحبَّة عبارةٌ عن عدم حصول الثَّوابِ ، ومتى لم يحصل الثَّوابُ فقد حصل العِقَابُ لانعقاد الإجماع على أنَّهُ ليس في الوُجُودِ مكلّلإ لا يثابُ ولا يُعاقب .

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

قال القرطبي : لما بيَّن أنَّهم حرَّموا من تِلْقاءِ أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم ، بيَّن هنا إباحة الزِّنةِ ، والمُرَادُ بها الملبس الحسن ذا قدر عليه صاحبه وقيل : جميع الثّياب .
وهذا استفهامٌ معناه التَّوبيخ والإنكار ، وإذا كان للأإنكار فلا جواب له؛ إذ لا يُرادُ به استعلام ، ولذلك نسب مَكيٌّ إلى الوهم في زعمه أنَّ قوله : « قُلْ هِيَ للذِيْن آمَنوا . . إلى آخره » جوابه .
قوله : « زينة الله » قال ابن عباس وأكثر المفسرين : المراد به اللِّباس الذي يَسْتُرُ العَوْرَة .
وقيل : جميع أنواع الزينة ، فيدخل فيه جميع أنواع المَلْبُوسِ ، ويدخلُ تحته تنظيف البدن من جميع الوجوه ، ويدخلُ تحته الرّكوب وأنواع الحلي؛ لأنَّ كل ذلك زينة ، ولولا النًّص الوارد في تحريم الذَّهب والإبريسم على الرّجال لكان داخلاً تحت هذا العموم .
ويدخل تحت الطيِّبات من الرِّزْقِ كلُّ ما يُسْتَلَذُّ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات ، ويدخلُ تحته التَّمتع بالنِّسَاءِ والطيب .
روي عن عُثْمَانَ بن مَظْعُون أنَّه أتى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وقال : « غلبني حديثُ النَّفْسِ عَزَمْتُ أن أخْتَصِي ، فقال : مَهْلاً يا عثمان ، إن خصاء أمتى الصِّيام ، قال : إنَّ نَفْسي تحدثنى بالترهب ، فقال : إنَّ تَرَهُّبَ أمَّتِي القُعُودُ في المساجِدِ لانتظار الصلاة فقال : تُحَدِّثُني نَفْسي بالسِّياحَةِ ، فقال : سيَاحَةُ أمَّتِي الغَزْوُ والحجُّ والعُمْرَةُ ، فقال إنَّ نَفْسِي تَحَدِّثُنِي أنْ أخْرُجَ مِمَّا أمْلِكُ ، فقال : الأوْلَى أنْ تَكْفِي نَفْسَكَ وعيالَكَ ، وأنْ تَرحم اليتيم ، والمساكِينَ ، فتُعْطِيَهُ أفضل مِنْ ذلك ، فقال : إنَّ نَفْسِي تحدِّثُنِي أنْ أطلِّق خَوْلَةَ ، فقال : إنَّ الهِجْرَةَ في أمَّتِي هِجْرَةُ ما حرَّم الله ، فقال : إنَّ نَفْسِي تُحدِّثُني ألاَّ أغْشَاها ، فقال : المُسْلِمُ إذا غشي أهْلَه أو ما مَلَكَتْ يَمِينُهُ ، فإنْ لَمء يُصِبْ من وقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَداً كان لَهُ وصيفٌ في الجَّنةِ ، وإنْ كان لَهُ وَلَدٌ مات قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ كَانَ لَهُ قُرَّةَ عَيْنٍ وفرحاً يَوْمَ القيامةِ ، وإن مات قَبْلَ أن يَبْلُغَ الحنث كان لَهُ شَفِيعاً ورَحْمَةً يَوْمَ القيامةِ ، قال : فإن نَفْسِي تحدثني إلاَّ آكل اللحم قال مَهْلاً إني آكُلُ اللحم إذا وَجَدْتثهُ ولو سألت الله أن يطعمنيه فعل . قال : فإن نفسِي تُحَدِّثُنِي ألاَّ أمَسَّ الطِّيبَ ، قال : مَهلاً فإن جِبْريلَ أمَرَنِي بالطِّيب غبّاً وقال : لا تَتْرُكْه يوْمَ الجُمعَةِ ، ثم قال : يا عُثْمَانُ : لا تَرْغَبْ عَنْ سُنَّتِي فإنَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَمَاتَ قبل أنْ يتُوبَ صَرَفَت الملائكةُ وجْهَهُ عَنْ حَوْضِي »
وهذا الحديثُ يَدُلُّ على أنَّ هذه الشَّريعةِ هي الكاملة ، وتدل على أن جميع الزِّينة مباح مأذون إلا ما خصَّه الدليل .
فصل في إباحة المنافع لأبن آدم
هذه اليةُ تقْتَضي حلَّ كلِّ المنافع ، وهو أصلٌ معتبر في جميع الشريعة؛ لأنَّ كلَّ واقعة إمَّا يكون النَّفع فيها خالصاً أو راجحاً ، أو يتساوى فيها الضَّرر والنَّفع ، أو يرتفعان .

أما القسمان الأخيران وهما : أن يتعادل الضّرر والنفع ، أو لم يوجدا قطُّ ، ففي هاتين الصُّورتين يجب الحكم ببقاء ما كان على ما كان ، وإنْ كان النَّفع خالصاً؛ وجب الإطلاق بمقتضى هذه الآية ، وإن كان النَّفع راجحاً والضَّرر مرجوحاً يقابل المثل بالمثل ، ويبقى القدر الزَّائد نفعاً خالصاً فيلتحق بالقسم الأوَّل ، وهو الذي يكون النَّفعِ فيه خالصاً وإن كان الضَّرر خالصاً كان تركه نفاً خالصاً ، فبهذا الطَّريق صارت هذه الآية دالّة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحلّ والتحريم ، ثمَّ إنْ وجدنا نصاً خالصاً في الواقعةِ قَضَيْنَا في النَّفْعِ بالحِلِّ ، وفي التضَّرَرِ بالحُرْمَةِ ، وبهذا الطَّريق صار جَمِيعُ الأحْكَامِ التّي لا نِهَايَةَ لها داخلَ تحت هذا النَّصِّ .
فصل في دحض شبهة لنفاة القياس
قال نُفَاةُ القياس : لو تَعَبَّدَنَا الله بالقياس لكان حكم ذلك القياس إمّا أن يكون موافقاً لحكم هذا النص العام وحينئذٍ يكون ضَائِعاً؛ لأنَّ هذا النَّصَّ مستقلٌ به ، وإنْ كان مخالفاَ كان ذلك القِياسُ مُخَصِّصاً لعموم هذا النَّصِّ ، فيكون مردوداً؛ لأن العمل بالنَّصِّ أوْلَى من العملِ بالقياسِ ، قالوا : وبهذا الطَريق يكونُ القرآن وحْدَهُ وافِياً ببيَانِ كل أحكام الشَّريعةِ ، ولا حاجة معه إلى شَيْءٍ آخر .
قوله : { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة } .
[ « قل هي للَّذين آمنوا في الحياة الدُّنيا » ] أي : بحقِّها من تَوْحيد الله - عزَّ وجلَّ - والتَّصديق له ، فإن الله ينعم ويرزق ، فإن وحّده المنعم عليه وصدَّقَهُ فقد قَامَ بحقِّ النِّعْمَةِ ، وإنْ كَفَرَ أمكن الشَّيْطَان من نَفْسِه .
وقيل : أي : هي للَّذين آمَنُوا في الحياة الدُّنْيَا غير خالصةٍ لهم؛ لأنَّ المشركين شركاؤهم فيها خالصة يَوْمَ القيامة لا يشركهم فيها أحد .
فإن قيل : هلاّ قيل للذين آمنوا ولغيرهم .
فالجواب : لينبه على أنَّها خلقت للذين آمنُوا على طريق الأصالةِ ، وأن الكفرة تبع لهم كقوله { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار } [ البقرة : 126 ] ، وسيأتي له أجوبة أُخر في آخر الآية ، والمراد التَّنْبِيهُ على أنَّ هذه النِّعم إنَّما تصفو من الشوائب يوم القيامة
قوله : « خَالِصَةً » قرأها نافعٌ رفعاً ، والباقون نصباً فالرفع من وجهين :
أحدهما : أن تكون مرفوعة على خبر المبتدأ وهو « هِيَ » ، و « لِلَّذِين آمَنُوا » متعلق ب « خَالِصَةً » ، وكذلك « يَوْمَ القيامةِ » .
وقال مكيٌّ : « ويكون قوله : » للَّذين « بييناً ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف كقولهم : سَقْياً لك وجَدْعاً لك .
و { فِي الحياة الدنيا } متعلَّق ب » آمَنُوا « ، والمعنى : قل الطيبات خالصة للمؤمنين في الدُّنيا يَوْمَ القيامةِ ، أي : تَخْلصُ يوم القيامة لمن آمَنَ في الدُّنْيَا ، وإنْ كانت مشتركة فيها بينهم وبين الكفَّار في الدُّنيا ، وهو معنى حسن .

وقيل : المرادُ بخلوصها لهم يَوْمَ القيامةِ أنَّهُم لا يعاقبون عليها ، وإلى تفسير هذا نَحَ سعيدُ بْنُ جُبَيْرِ .
الثاني : أنْ يكون خبراً بعد خبر ، والخبر الأوَّل قوله : « لِلَّذينَ آمَنُوا » قاله الزجاج : واستحسنه أبو علي ، و { فِي الحياة الدنيا } على هذا متعلِّق بما تعلَّقَ به الجارُّ من الاستقرار المقدَّرِ ، و « يَوْمَ القيامةِ » معمول ل « خالصة » كما مرَّ الوجه قبله ، والتقديرُ : قل الطيبات مستقرة أو كائنة للذين آمنوا في الحياة الدُّنيا ، وهي خالصة لهم يوم القيامةِ ، وإنْ كانوا في الدُّنيا يشاركهم الكفَّارُ فيها .
ولمّا ذكر أبُو حيَّان هذا الوجه لم يعلَّقُ « فِي الحياةِ » إلابالاستقرار ، ولو علق ب « آمنوا » كما تقدم في الوَجْهِ قَبلَهُ لكان حسناً .
وأمَّا النصب فمن وجه واحد ، وهو الحال [ من الضَّمير المستتر في الجارِّ والمجرور قبله ] ، والمعنى : أنَّها ثابة للَّذين آمنوا في حال كونها خالصة لهم يَوْمَ القيامةِ ، و « للَّذينَ آمَنُوا » خبر « هِيَ » فتتعلق بالاستقرار المقدَّرِ ، وسيأتي أنَّهُ متعلق باستقرار خاص في بعض التقادير عند بعضهم .
و { فِي الحياة الدنيا } على ما تقدَّم من تعلُّقه ب « آمنوا » وبالاستقرار المتعلق به للذين ، و « يَوْمَ القيامةِ » متعلِّق أيضاً بخالصة ، والتقديرُ : قل الطّيبات كائنة أو مستقرة للمؤمنين في الحياة حال كونهم مقدَّراً خلوصها لهم يَوْمَ القيامةِ .
وسمى الفراء نصبها على القطع ، فقال : « خَالِصَةً » نصب على القَطْعِ ، وجعل خبر « هِيَ » في « اللاَّم » التي في قوله : « للَّذين » ، ويعنى بالقطع الحال .
وجوَّز أبُو علي أنْ يتعلَّق { فِي الحياة الدنيا } بمحذوفِ على أنَّهُ حال ، والعاملُ فيها ما يعمل في « الَّذينَ آمَنُوا » .
وجوَّز الفارسيُّ ، وتبعه مكيٌّ أن تتعلَّق « فِي الحياةِ » ب « حرم » والتقديرُ : من حرم زينة الله في الحياة الدُّنْيَا؟ وجوَّز أيضاً أن تتعلق بالطّيبات .
وجوَّز الفارسي وحدَهُ أن تتعلَّق بالرزق ومنع مكيٌّ ذلك قال : لأنَّكَ قد فرَّقْتَ بينهما بقوله : { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ } يعني أن الرِّزْقَ مصدر ، فالمتعلّق به من تمامه كما هو من تمام الموصول ، وقد فصلت بينه وبين معموله بجملة أجنبية ، وسيأتي عن هذا جواب عن اعتراض اعتراض به على الأخْفَشِ .
وجوَّز الأخْفَشُ أن تتعلَّق « في الحياة » ب « أخرج » أي : أخرجها في الحياةِ الدُّنْيَا ، وهذا قد ردهُ عليه النَّاس بأنه يلزم الفَصْلأُ بين أبعاض الصلة بأجنبي ، وهو قوله { وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق } .
وقوله : { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ } ، وذلك أنَّهُ لا يُعطَفُ على الموصول إلاَّ بعد تمام صلته ، وهنا قد عطفت على موصوف الموصول قبل تمامِ صلته؛ لأنَّ « الَّتِي أخْرَجَ » صفة ل « زينة » ، و « الطيِّبَات » عطف على « زِينَة » وقوله { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ } جملة أخرى قد فصلت على هذا التقدير بشيئين .

قال الفَارِسِيُّ - كالمجيب عن الأخفش - : « ويجوزُ ذلك ، وإن فُصِلَ بين الصلة والموصولة بقوله : { هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ } لأنَّ ذلك كلام يشدُّ الصِّلة ، وليس بأجنبي منها جداً كما جاء ذلك في قوله : { والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [ يونس : 27 ] .
فقوله : { وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } معطوف على » كَسَبُوا « داخل في الصلة .
قال شهابُ الدِّين : هذا وإن أفاد في ما ذكر ، فلا يفيد في الاعتراض الأوَّلِ ، وهو العطفُ على موصوف قبل تمام صلته؛ إذْ هو أجنبي منه ، وأيضاً فلا نسلِّم أنَّ هذه الآية نظير آية » يونس « فإنَّ الظاهِرَ في آية يونس أنَّهُ ليس فيها فصل بين أبعاض الصِّلة .
وقوله » لأن جزاء سيِّسةٍ بمِثِلِهَا « معترض ، و » تَرْهَقُهُمْ « عطف على » كَسَبُوا « .
قلنا : ممنوع ، بل { جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } [ الشورى : 40 ] هو خبر الموصول ، فيعترض بعدم الرَّابط بين المبتدأ والخبر ، فيجابُ بأنَّهُ محذوف ، وهو من أحسن الحذوف؛ لأنَّهُ مجرور ب » من « التَّبْعيضية ، وقد نصَّ النُّحَاةُ على أنَّ ما كان كذلك كثر حذفه وحَسُنَ والتقديرُ : والَّذينَ كَسَبُوا السيِّئَاتِ جَزَاءُ سيِّئةٍ منهم بمثلها ف » جَزَاءُ سَيِّئةٍ « مبتدأ ، و » مِنْهُم « صفتها ، و » بمثلها « خبره ، والجملة خَبَر الموصول ، وهو نظير قولهم : السَّمن منوانِ بِدرْهَمٍ أي : منوان منه ، وسيأتي لهذه الآية مزيد بيان .
ومنع مكي أن يتعلق { فِي الحياة الدنيا } ب » زينة « قال : لأنَّها قد نُعتت ، والمصر واسم الفاعل متى نعتا لا يعملان لبعدهما عن شبه الفعل .
قال : » ولأنَّهُ يُفَرَّق بين الصَّلة والموصول؛ لأنَّ نَعْتَ الموصول ليس من صلته « .
قال شهابُ الدِّين : لأن زينة مصدر فهي في قوة حرف موصول وصلته ، وقد تقرَّر أنَّهُ لا يتبع الموصول إلا بعد تما صلته ، فقد تحصل في تعلق » الَّذينَ آمَنُوا « ثلاثة أوْجُهٍ :
إمَّا أنْ يتعلَّق ب » خالصة « ، أب بمحذوف على أ ، ها خبر ، أو بمحذوف على أنَّها للبيان وفي تعلق { فِي الحياة الدنيا } سبعةُ أوْجُهٍ .
أحدها : أن يتعلٌّ ب » آمنوا « .
الثاني : أن تتعلَّق بمحذوف على أنَّها حال .
الثالث : ان يتعلق بما تعلَّق به » لِلَّذِينَ آمَنُوا « .
الرابع : أن يتلعَّق ب » حَرَّمَ « .
الخامس : أن يتعلَّق ب » أخْرَجَ « .
السادس : ان يتعلق بقوله : » الطّيِّبات « .
والسابع : أن يتعلَّق بالرزق .
و » يَوْمَ القيامةِ « له متعلق واحد وهو » خَالِصَةٌ « ، والمعنى : أنَّها وإن اشتركت فيها الطائفتان دنيا فهي خالصة للؤمنين فقط أخرى .

فإن قيل : إذَا كان الأمر على ما زعمت من معنى الشركة بينهم في الدُّنْيَا ، فكيف جاء قوله تعالى : { هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ } ، وهذا مؤذِنٌ ظاهراً بعدم الشركة .
فقد أجَابُوا عن ذلك من أوجه :
أحدها : أنَّ في الكلام حذفاً تقديره : قل هي للذين آمنوا ولغيرهم في الحياة الدنيا خالصة لهم يوم القيامة .
قال أبُو القاسم الكَرْمَانِيُّ : وكأنَّهُ دلَّ على المحذوف قوله بعد ذلك : { خَالِصَةً يَوْمَ القيامة } إذْ لو كانت خالصة لهم في الدَّارين لم يخص بها أحدهما .
والثاني : أن « لِلَّذينَ آمَنُوا » ليس متعلّقاً بكون مطلق ، بل بكون مقيد ، يدلُّ عليه المعنى ، والتقدير : قل هي غير خَالصَةِ للذين آمنوا لأنَّ المشركين شركاؤهم فيها ، خالصة لهم يَوْمَ القيامةِ ، قاله الزمخشريُّ ، ودلَّ على هذا الكون المقيَّد مقابله وهو قوله : { خَالِصَةً يَوْمَ القيامة } .
الثالث : ما ذكره الزمخشريُّ ، وسبقه إليه التبريزي قال : « فإن قلت : هلا قيل [ هي ] للَّذين آمنوا ولغيرهم؟ قلت : التنبيه على أنها خلقت للَّذين آمنوا على طريق الأصال ، فإنَّ الكفرة تبع لهم كقوله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } [ البقرة : 126 ] .
وقال التبريزي : ولم يذكر الشّركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدُّنْيَا تنبيهاً على أنَّهُ إنَّما خلقها للذين آمَنثوا بطريق الأصال ، والكُفَّار تبع لهم ، ولذلك خاطب المؤمنين [ بقوله ] : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] وهذا الثالث ليس جوابا ثالثاً ، إنما هو مبين لحسن حذف المعطوف في عدم ذكره مع المعطوف عليه .
ثم قال تبارك وتعالى : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات } وقد تقدم .
وقوله : { لِقَوْمِ يَعْلَمُونَ } أنَّ القوم يمكنهم النظر به والاستدلال حتى يتوصَّلُوا إلى ذلك بتحصيل العلوم النظرية .

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)

لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّ الذي حرَّموه ليس بحرام بيَّن في هذه الآية الكريمة أنواع المحرمات ، فحرَّم أولاًالفواحش ، وثانيها الإثم ، واختلفُوا في الفَرْقِ بينهما ، فقيل : الفواحشُ : عبارة عن الكبَائر؛ لأنَّ قبحها قد تَفَاحَشَ أي : تزايد ، والإثم عبارة عن الصغائر ، والمعنى : أنَّهُ حرَّم الكبائِرَ والصَّغائِرَ .
وطعن القاضي في ذلك بأن ذلك يقتضي أن يقال : الزِّنّا والسرقة والكفر ليس بإثْمٍ ، وهو بعيد ، وأقلُّ الفواحش ما يجب فيه الحدُّ ، والإثم ما لا حدّ فيه .
وقيل : الفاحِشَةُ اسم للكبيرةِ ، والإثمُ اسم لمطلق الذَّنْبِ سواء كان صغيراً أو كبيراً ، وفائدته : أنَّهُ لمَّا حرّم الكبيرة أردفه بِتَحْرِيمِ مطلق الذَّنْبِ ، لئلاَّ يتوهم أنَّ التحريم مقصورٌ على الكبيرة ، وهذا اختيار القاضي .
وقيل : إنَّ الفاحشة وإن كانت بحسب اللُّغَةِ اسماً لكِّ ما يتفاحش وتزايدُ في أمر من الأمور ، إلاَّ أنَّهُ في العُرْفِ مخصوصٌ بالزِّنَا ، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى في الزنا : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] ، ولأنَّ لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلاَّ ذلك .
وإذا قيل : فلانٌ فحاشٌ ، فُهم منه أنَّهُ يشْتِمُ النَّاسَب بالفاظ الوِقَاع؛ فوجب حمل لفظ الفاحِشَةِ على الزِّنَا ، فعلى هذا يكون { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي : الذي يقع منها علانية ، و « مَا بَطَنَ » أي : الذي يقع منها سرّاً على وجه العشق والمحبَّة .
وقيل : { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } : المُلامسة والمُعَانقة ، و « مَا بَطَنَ » الدُّخول ، وقد تقدَّم الكلام فيه في آخر السُّورة قبلها .
وما « الإثم » فالظاهر أنَّهُ الذَّنب .
وقيل : هو الخمرُ ، قاله المفضلُ ، وأنشد القائل في ذلك : [ الطويل ]
2455 - نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ أنْ نَقْرَبَ الزِّنَا ... وأنْ نَشْرَبَ الإثْمَ الذي يُوجِبُ الوِزْرَا
وأنشد الأصمعي : [ الطويل ]
2456 - وَرُحْتُ حَزِيناً ذَاهِلَ العَقْلِ بَعْدَهُمْ ... كأنِّي شَرِبْتُ الإثْمَ أو مَسَّنِي خَبَلْ
قال : وقد يسمى الخمر إثماً؛ وأنشد القائلُ : [ الوافر ]
2457 - شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الإثْمُ يَذْهَبُ بالعُقُولِ
ويروى عن ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - والحسنِ البصري [ أنهما ] قالا : « الإثم : الخمر » .
قال الحسنُ : « وتصديق ذلك قوله : { قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } [ البقرة : 219 ] ، والذي قاله الحُذَّاق : أنَّ الإثم ليس من أسماء الخَمْرِ .
قال ابن الأنباري : » الإثمُ : لا يكون اسماً للخمر؛ لأنَّ العرب لم تسمِّ الخمر إثماً ، لا في جاهلبيّة ، ولا في الإسلام ، وقول ابن عباس والحسن لا ينافي ذلك؛ لأنَّ الخمر سبب الإثم ، بل هي معظمه ، فإِنَّهَا مؤجّجة للفتن ، وكيف يكونُ ذلك وكانت الخمرُ حين نزول هذه السُّورةِ حلالاً؛ لأن هذه السُّورة مكيَّة ، وتحريم الخمبر إنَّمَا كان في « المَدِينَةِ » بعد « أحد » ، وقد شربها جماعةٌ من الصَّحابة يوم « أحدٍ » فماتوا شُهَدَاء ، وهي في أجوافهم .

وأمّا ما أنشده الأصمعيُّ من قوله :
2458 - شَرِبْتُ الإثْمَ . .. . . .
نصواعلى أنه مصنوع ، وأما غيره فاللَّهُ أعلم « .
وقال بعضُ المفسِّرين : » الإثم : الذّنب والمعصية « .
وقال الضحاكٌ - رحمه الله - : » الإثمُ : هو الذَّنْبُ الذي لا حدَّ فيه « .
قوله : { والبغي بِغَيْرِ الحق } : اعلم أنَّ الَّذين قالوا : المراد ب » الفواحش « جميع الكبائر ، وب » الإثم « جميع الذُّنوب قالوا : إن البغي والشرك لا بد وأن يدخلا تحت الواحش ، وتحت الإثم ، وإنَّمَا خصّهما الله - تعالى - بالذِّكر تنبيهاً على أنَّهُما أقبح أنواع الذُّنُّوب ، كما في قوله تبارك وتعالى : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
وفي قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 8 ] .
وأمَّا الذين خصُّوا الفاحشةَ بالزِّنَا ، والإثمَ بالخَمْرِ قالوا : البغي والشرك غير داخلين تَحْتَ الفواحِش والإثم ، وإنَّمَا البغي لا يستعملُ إلا في الإقْدَامِ على الغير نفساً ، أو مالاً أو عِرْضاً ، وقد يراد البغي على سلطان الوقت .
فإن قيل : البغيُ لا يكون غلا بغير الحقِّ ، فما الفائدة في ذكر هذا الشرط؟ فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّ قوله تعالى » بِغَيْرِ الحقِّ « حال ، وهي حال مؤكدة؛ لأنَّ البَغْيَ لا يكون إلاَّ بغير الحق .
والثاني : أنَّهُ مثل قوله تبارك وتعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } [ الأنعام : 151 ] ، والمعنىك لا تُقدمُوا على إيذاءِ النَّاسِ بالقَتْلِ والقهر ، إلا أن يكون لكم فيه حق فحينئذ يخرج عن أن يكون بغياً .
وقوله : » وأنْ تُشْرِكُوا « منصوب المحلِّ نسقاً على مفعول » حرَّم « أي : وحرّم إشراككم عليكم ، ومفعول الإشراك { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } وقد تقدَّم بيانه في » الأنعام « ، تهكَّم بهم؛ لأنَّهُ لا يجوز أن ينزل برهاناً أن يُشْرَكَ به غيره .
قوله : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله } نسق على ما قبله أي : وحرّم قولكم عليه من غير علم ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه في هذه السُّورة عند قوله { إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 28 ] .
فإن قيل : كلمة » إنَّمَا « تفيدُ الحَصْرَ ، إنَّمَا حرّم ربي كذا وكذا يفيد الحصر ، والمحرمات غير محصور في هذه الأشياء؟
فالجواب : إنْ قُلْنَا إن الفاحشة محمولة على مطلق الكبَائِرِ ، والإثم على مطلق الذنب دخل كلّ الذُّنوب فيه ، وإن حملنا الفَاحِشَة على الزِّنَا ، والإثم على الخمر فنقول : الجنايات محصورةٌ في خمسة :
أحدها : الجنايات على الإنسانيَّة ، فهذا إنَّما يحصل بالزِّنَّا ، وهو المراد بقوله : { إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش } .
وثانيها : الجنايات على العقول ، وهي شُرْبُ الخمر ، وإليه الإشارة بقوله » والإثْم « .
وثالثها ورابعها : الجنايات على النُّفوس والأموال ، وإليه الإشارة بقوله : { والبغي بِغَيْرِ الحق } .
وخامسها : الجناية على الأديان ، وهي من وجهين :
أحدهما : الطَّعْنُ في توحيد الله تبارك وتعالى .
والثاني : الطعن في أحكامه ، وإليه الإشارة بقوله : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
فلما كانت الجنايات هذه الأشياء ، وكانت البواقي كالفروع والتَّوابع ، لا جرم كان ذكرها جارٍ مجرى ذكر الكُلِّ ، فأدخل فيها كلمة » إنَّمَا « المفيدة للحصر .
فإن قيل : الفَاحِشة والإثم هو الذي نهى الله تعالى عنه فصار تقديرُ الآية الكريمة : إنَّمَا حرَّمَ ربي المحرمات ، وهو كلام خال عن الفائدة؟
فالجوابُ ، كون الفعل فَاحِشة إنَّما هو عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النَّهي عنه فسقط السُّؤال .

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)

لما بيَّن الحَلاَلَ والحَرامَ وأحوال التَّكاليف ، بين أنَّ لِكُلِّ أحد أجلاً معيناً أي : مدة وأجل .
وقال ابْنُ عبَّاسِ - رضي الله عنهما - وعطاءٌ والحسنُ : وقت نزول العذاب بهم .
وقوله عز وجل : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ } خبر مقدَّمٌ ، ولا حاجة إلى حذف مضاف كما زعم بعضهم أنَّ التقدير : ولكلِّ أحد من أمةٍ أجل أي : عُمْرٌ ، كأنَّه توهم أنَّ كل أحد له عمر مستقل ، وأنَّ هذا مراد الآية الكريمة ، ومراد الآية أعم من ذلك .
قوله : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } .
قال بعضهم : كُلُّ موضع في القرآن العظيم من شبه هذا التَّركيب ، فإن « الفاء » داخلة على « إذَا » إلا في « يونس » فيأتي حكمها ، وأما سائر المواضع فقال : « لأنَّها عطفت جملة على أخرى بينهما اتصال وتعقيب ، فكان الموضع موضع الفاء » .
وقرأ الحسنُ وابْنُ سيرينَ : « آجَالُهُم » جمعاً .
قوله : « لا يَسْتَأخِرُونَ » جواب « إذَا » ، والمضارعُ المنفي ب « لا » إذا وقع جواباً ل « إذَا » جاز أن يُتلقى ب « الفاء » ، وألا يُتلقى بها .
قال أبو حيَّان : وينبغي أن يعتقد أن بين الفاء والفعل بعدها اسماً مبتدأ ، فتصير الجملة اسميّة ، ومتى كانت كذلك وجب أن تتلقى « بالفاء » أو « إذا » الفجائية .
و « ساعة » نصب على الظرف ، وهي مثل في قلة الزمان .
قوله : « وَلاَ يَسْتَقْدِمُون » هذا مستأنف ، معناه الإخبار بأنَّهم لا يسبقون أجلهم المضروب لهم ، بل لا بدَّ من استيفائهم إيَّاه ، كما أنهم لا يتأخرون عنه أقلّ زمان .
وقال الحُوفِيُّ - رحمه الله - وغيره : إنَّهُ معطوف على « لا يستأخرون » ولهذا لا يجوز؛ لأن « إذا » إنَّما يترتب عليها وعلى ما بعدها الأمور المستقبلة لا الماضية ، وةالاستقدام بالنِّسبة إلى مجيء الأجل مُتقدم عليه ، فكيف يترتب عليه ما تقدَّمَهُ؟ ويصيرُ هذا من باب الإخبار بالضَّروريات التي لا يجهل أحد معناها ، فيصير نظير قولك : « إذا قمت فيما يأتي لم يتقدَّم قيامك فيما مضى » ومعلومٌ أنَّ قيامك في المستقبل لم يتقدّم قيامك هذا .
وقال الواحديُّ : إن قيل : ما معنى هذا مع استحالة التَّقديم على الأجل وقت حضوره؟ وكيف يحسن التقديم مع هذا الأجل؟
قيل : هذا على المُقاربَةِ؛ لأنَّ العرب تقول : « جاء الشِّتَاءُ » إذا قرب وقته ، ومع مقاربة الأجل يتصور الاستقدام ، وإن كان لا يتصور مع الانْقِضَاءِ ، والمعنى : لا يستأخرونَ عن آجالهم إذا انقضت ، ولا يستقدمون عليها إذا قاربت الانقضاء ، وهذا بناءً منه على أنَّهُ معطوف على « لا يَسْتَأخرُون » ، وهو ظاهر أقوال المفسرين .
فصل في المراد ب « الأجل »
في المراد بهذا الأجل قولان :
قال ابنُ عبَّاسٍ والحسنُ ومقاتل : « المراد به نزول العذاب على كل أمة كذّبت رسولها » .
والثاني : أن المراد به الأجل .

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)

لمَّا بيَّن أحوال التَّكاليف ، وأنَّ لكلِّ أمَّةٍ أجلاً معيناً - بيَّن أنَّهم بعد الموت إن كانوا مطيعين فلا خَوْفٌ عليهم ولا حزن ، وإن كانوا متمردين وقعوا في أشدِّ العذابِ .
قيل : أراد « بَنِي آدَمَ » مشركي العربِ ، وقد تقدَّم إعراب نظيره في البقرة ، وهي أن الشَّرْطِيَّة ضمت إليها مؤكدة لمعنى الشّرط ، ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة ، وجزاء هذا الشرط هو الفاء وما بعده من الشرط ، والجزاء وهو قوله تعالى : { فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ } .
و « مِنْكُم » صفة لطرسل « ، وكذلك » يَقُصُّون « وقُدِّمَ الجار على الجملة لأنه أقرب إلى المفرد منها .
قال مُقاتِلٌ : أرَادَ بالرُّسُلِ الرَّسول - عليه الصَّلاة والسلامُ - إنما قال : » رُسُل « ، وإن كان خطاباً للرَّسُولِ - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، وهو خاتم الأنبياء؛ لأنه أجرى الكلام على ما يقتضيه سنته في الأمم .
وقيل : أراد جميع الرُّسُلِ ، وإنَّما قال : » منكم « ؛ لأنَّ كون الرسول منهم أقطع لعذرهم ، وأمعن للحجَّة عليهم من جهات :
وقيل : أراد جميع الرُسُلِ ، وإنَّما قال : » منكم « ؛ لأنَّ كون الرسول منهم أقطع لعذرهم ، وأمعن للحجَّة عليهم من جهات :
أحدها : أنَّ معرفتهم بأحواله وبطهارته تكون متقدمة .
وثانيها : أنَّ معرفتهم بما يليق بقدرته تكون متقدّمة فلا جرم لا يقع في المعجزات التي تظهر عليه شكّ وشبهة في أنَّهَا حصلت بقدرة الله تبارك وتعالى ، لا بِقُدرتِهِ ، ولهذا السَّبب قال تبارك وتعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } [ الأنعام : 9 ] .
وثالثها : ما يحصل من الألْفَةِ وسكونِ القلب إلى أبناء الجنس ، بخلاف من لا يكون من الجنس ، فإنَّهُ لا يحصل معه الألفة .
قوله : { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } .
قيل : الآياتُ : القرآنُ ، وقيل : الدلائلُ ، وقيل : الأحكام والشَّرائع .
والأَوْلى دخول الكلِّ فيه؛ لأنَّ الرُّسل إذا جاءُوا فلا بدّ يذكرون جميع هذه الأقسام .
قوله : » فَمَنْ « يحتمل أن يكون شرطية ، وأنْ تكون موصولة ، فإن كان الأوَّلُ؛ كانت هي وجوابها جواباً للشّرط الأوَّل كما تقدَّم ، وهي مستقلة بالجوابِ دون التي تُفِيدُ جوابها وهي » والَّذِينَ كَذَّبُوا « ، وإن كان الثاني كانت هي وجوابها ، والجملة المشار غليها كلاهما جواباً للشَّرط ، كأنَّهُ قسم جواب قوله : » إمَّا يأتينكُمْ « إلى متَّقٍ ومكذب ، وجر كلاًّ منهما ، وقد تقدَّم تحقيق هذا في البقرة .
وحذف مفعولي » اتَّقَى وأصْلَحَ « اختصاراً للعلم بهما أي : اتَّقَى ربه وأصلحِ عمله ، أو اقتصاراً أي : فَمَنْ كان من أهل التَّقْوى والصَّلاح من غير نظر إلى مفعول ، كقوله تعالى : { هُوَ أغنى وأقنى } [ النجم : 48 ] ولكن لا بدَّ من تقدير رابط بين هذه الجملة ، وبين الجملة الشرطية ، والتقدير : فمن منكم والذين كذَّبوا منكم .

وقرأ أبيٌّ والأعرج « تَأتينكُمْ » بتاء مثناة من فوق نظراً إلى معنى جماعة الرسل فيكون قوله تعالى « يَقُصُّون » بالياء من تحت حملاً على المعنى إذ لو حمل على اللفظ لقال : « تقُصُّ » بالتَّأنيث أيضاً .
مطلب : هل يلحق المؤمنين خوف يوم القيامة أو لا؟
المعنى : لا خوف عليهم بسبب الأحْوالِ المستقبلة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما فاتهم في الدُّنْيَا؛ لأنَّ حزنهم على عقاب الآخرة بما حصل لهم من زوال الخوف ، فيكون كالمعادِ ، وحمله على الفائدة الزائدة أولى .
واختلف العلماء في أنَّ المؤمنين من أهل الطَّاعات هل يلحقهم خوف أو حزن عند أهوال القيامة ، فقال بعضهم : لا يلحقهم لهذه الآية الكريمة ، ولقوله تعالى : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] ، وذهب بعضهم إلى أنَّهُ يلحقهم ذلك الفزع الأكبر لقوله تعالى : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى } [ الحج : 2 ] من شدة الخوف ، وأجاب هؤلاء عن هذه الآية الكريمة بأنَّ معناها : أن أمرهم يؤولُ إلى الإمن والسرور ، كقول الطَّبِيبِ للمريض : « لا بأس عليك » أي : يؤولُ أمرك إلى العافية والسلامة ، وإن كان في الوقت في بأس من علته .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)

قوله تعالى : { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } ؛ أي الآيات التي يجيء بها الرُّسل - عيهم الصَّلاة والسَّلام - { واستكبروا } أي أبوا عن قوبلها وتكبروا عن الإيمان بها وذكر الاستكبار لأنَّ كلَّ كاذب وكافر متكبِّ { قال سبحانه وتعالى : { إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ } [ الصافات : 35 ] ألا { أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وهذه الآية تدل على أنَّ الفاسق من أهل الصَّلاة لا يخلد في النار؛ لأنَّهُ تبارك وتعالى بين أن المكذبين بآيات اللَّه والمستكبرين عن قبولها هم الذين يبقون مخلدين في النار .

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)

قوله : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } وهذا يجرع إلى قوله تعالى { وَالَّذَينَ كَذَّبُواْ } أي فمن أظلم ظلماً ممن يقول على اللَّهِ ما لم يعلمه أو كذب بما قاله ، والأوَّلُ : هو الحكم بوجود ما لم يوجد .
والثاني : هو الحكيم بإنكار ما وجد .
والأول يدخلُ فيه قول من أثبت الشريك للَّه تعالى سواء كان ذلك الشريك عبارة عن الأصنام أو الكواكب أو عن مذهب القائلين بيزدان وأهرمن ويدخل فيه قول من أثبت للَّه تعالى البنات والبنين ويدخل فيه من أضاف الأحكام الباطلة إلى اللَّه عز وجل .
وثالني : يدخل فيه قول من أنْكَرَ كون القرآن العظيم كتاباً نازلاً من عند الله تعالى وقول مَنْ أنْكَرَ نبوة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم .
قوله : { أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب } .
قيل المراد بذلك النَّصِيبِ هو العذاب قاله الحسنُ والسُّدِّيُّ أي : ما كتب لهم في اللَّوْحِ المحفوظِ من العذاب وسواد الوجوه وزرقةِ العيون قال عطية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : كتب لمن يفتري على اللَّه سواد الوجه . قال تعالى { وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } [ الزمر : 60 ] .
وقيل المراد ب « النصيب » أن أهل الذمة يجب علينا أن لا نتعدى عليهم ، وأن ننصفهم ونذب عنهم .
وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - وسعيدُ بنُ جبير - رضي الله عنه - ومجاهدٌ : ما سبق لهم من السّعاد والشٌّاوة ، فإن قضى اللَّهُ لهم بالختم على الشّقاوة أبقاهم على كفرهم ، وإن قضى لهم بالختم على السعادة؛ نقلهم إلى الإيمان وقال الرَّبيعُ ، وابنُ زَيْدٍ ومحمَّدُ بن كعب القرظيُّ : ما كتب لهم من الأرْزَاقِ والأعمار ، والأعمال ، فإذا فَنِيَتْ وانقضت { جَاءَتْ رُسُلنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ } .
قوله تعالى « مِنَ الكِتَابِ » في محلّ الحال من نَصِيبُهُم أي : حال كونه مستقراً من الكتاب و « مِنْ » لابتداء الغاية .
قوله : « حَتَّى » هنا غاية ، و « إذَا » وما في حيزها تقدَّم الكلام عليها هل هي جارة ، أو حرف ابتداء؟ وتقدَّم عبارة الزَّمخشريُّ .
واختلفوا فيها إذا كانت حرف ابتداء أيضاً .
فقال ابْنُ درستويه هي حينئذٍ جارَّة ، وتتعلَّق بما قبلها تعلّق حروف الجرِّ من حيثُ المعنى لا مِنء حيثُ اللفظ ، والجملة بعدها في محل جرٍّ .
وقال الجمهورُ : إذا كانت حرف ابتداء فَلَيْسَتْ جارّةً ، بل حرف ابتداء فقط .
وإن كان مَعْنَاهَا الغاية كقول القائل في ذلك : [ الطويل ]
2459 - سَرَيْتُ بِهِمْ تَكِلَّ مَطِيُّهُمْ ... وحَتَّى الجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بأرْسَانِ
وقل الآخر في ذلك : [ الطويل ]
2460 - فَمَا زَالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا ... بِدِجلَةَ حَتَّى مَاءُ دِجْلَةَ أشْكَلُ
وقال صاحب « التَّحْريرِ » : « حتَّى » هنا ليست للغايةن بل هي ابتداء وخبر وهذا وَهْمٌ إذ الغايةُ معنى لا يفارقها .

وقوله « بَلْ هي ابتداء وخبر » تسامح في العبارة يريدُ بل الجملة بعدها ثُمَّ الجملة التي في هذا المكان ليست ابتداء وخبر ، بل هي جملة فعليّة ، وهي قالوا و « إذَا » معموله لها .
وممن ذهب إلى أنَّها ليست للغاية الواحديُّ فإنَّه حكى في معنى الآية الكريمة أقوالاً ، ثم قال : فعلى هذا القَوْلِ معنى « حتَّى » للانتهاء والغاية وعلى القولين الأوَّلين ليست « حتى » في هذه الآية الكريمة للغاية بل هي التي يقع بعدها الجمل وينصرف الكلام بعدها إلى الابتداء ك « أما » و « إذا » ولا تعلق لقوله : « حتّى إذا » بما قبله ، بل هذا ابتداء خبر أخبر عنهم كقوله في ذلك : [ الطويل ]
2461 - فَيضا عَجَباً حَتَّى كُلَيْبٌ تَسُبُّنِي ... كَأنَّ أبَاهَا نَهْشَلٌ أوْ مُجَاشِعُ
وهذا غير مرضي منه لمخالفته الجُمْهُور .
وقوله « لا تعَلُّقَ لها بما قبلها » ممنوع على جميع الأقوال التي ذكرها .
والظَّاهِرُ أنِّما تتعلّق بقوله « ينَالُهُمْ نصيبهم » .
فصل في إمالة « حتى »
قال الخليلُ وسيبويه : لا يجوزُ إماة « حتى » و « ألاّ » و « أمَّا » وهذه ألفات ألْزِمَتِ الفتح لأنَّها أواخر حروفٍ جاءت لمعاني يفصل بينها وبين أواخر الأسماء التي فيها الألف نحو : حبلى وهُدَى إلا أن « حتَّى » كتبت بالياء لأنَّها على أربعة أحرف فأشبهت سَكْرَى ، قال بعض النحويين : لا يجوز إمالة « حتَّى » لأنَّها حرف لا يتصرف والإمالة ضرب من التصرف .
قوله : « يَتَوَفَّوْنَهُمْ » في محلّ نصب على الحال ، وفي المراد بقوله : { رُسُلُنَا يَتَوفَّوْنَّهُمْ } قولان :
المراد بالرُّسل ملك الموت وبقوله : « يَتَوَفَّوْنَهُم » يقبضون أرواحهم؛ لأنَّ لفظ الوفاة يفيد هذا المعنى . ح
قال ابنُ عبَّاسٍ : إنَّ الملائكة يطالبون بهذه الأشياء عند الموت على سبيل الزّجر والتّوبيخ .
الثاني : قال الحسن والزَّجَّاجُ في أحد قوليه : إنّ هذا لا يكون في الآخر ومعنى قوله : { جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ } أي يتوفون مدتهم عند حشرهم إلى النار بمعنى يستكملون عدتهم حتَّى لا ينفلت منهم أحد .
قوله « أَيْنمَا كُنْتُمْ » أي أين الشّركاء الذين كنتم تَعْبدُونَهُمْ من دون اللَّهِ وكتبت « أينَمَا » متصلة وحقُّها الانفصال ، لأنَّ « ما » موصولة لا صلة إذ التقدير : أين الذين تدعونهم ولذلك كتبت { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ } [ الأنعام : 134 ] منفصلاً و { إِنَّمَا الله } [ النساء : 171 ] متصلاً .
قوله « ضَلُّوا » جواب من حيث المعنى لا من حيث اللَّفْظ ، وذلك أنَّ السُّؤال إنَّما وقع عن مكان الذين كانوا يدعونهم من دون اللَّه ، فلو جاء الجوابُ على نسق السُّؤال لقيل : هم في المكان الفلانيّ ، وإنَّما المعنى : ما فعل معبودكم ومن كنتم تدعونهم ، فأجَابُوا بأنَّهُمْ ضلُّوا عنهم وغابوا .

قوله : « وشَهِدُوا » يحتمل أن يكون نَسَقاً على « قالوا » الذي وقع جواباً لسؤال الرسل ، فيكون داخلاً في الجواب أيضاً .
ويحتمل أن يكون مستأنفاً منقطعاً عما قَبْلَهُ ليس داخلاً في حيَّز الجواب كذا قال أبو حيَّان وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّهُ جعل هذه الجملة جواباً لعطفها على « قَالُوا » ، و « قالوا » في الحقيقة ليس هو الجواب ، إنَّما الجوابُ هو مقولُ هذا القول ، وهو « ضَلُّوا عَنا » ف « ضلُّوا عنَّا » هو الجواب الحقيقي الذي يُسْتَفَادُ منه الكلام .
ونظيره أن يقولك سألت زَيْداً ما فعل؟ فقال : أطعمتُ وكسوتُ فنفسُ أطعمتُ ، وكسوتُ هو الجواب .
وإذا تقرَّرَ هذا فكان ينبغي أن يقول : « فيكون » معطوفاً على « ضَلُّوا عنَّا » ، ثمَّ لو قال كذلك لكان مُشْكلاً من جهة أخرى ، وهو أنَّهُ كان يكون التركيب الكلامي : « ضلُّوا عَنَّا وشهدنا على أنفسنا أنَّا كنَّا » ، إلا أن يقال : حكى الجواب الثَّاني على المعنى ، فهو محتمل على بُعْد بعيدٍ .
ومعنى الآية أنَّهُم اعترفوا عند معاينة الموت أنَّهُم كانوا كافرين .

قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)

اختلفوا في هذا القائل ، فقال مقاتل : « هو كلامُ خازِنِ النَّارِ » ، وقال غيره : « هو كلام اللَّهِ » ، وهذا الاختلاف مبني على أنَّ الله - تعالى - هل يتكلَّمُ مع الكفار أم لا؟ ، وقد تقدمت هذه المسألة .
قوله : « فِي أمَمٍ » يجوزُ أنْ يتعلَّق قوله : « في أمَمٍ » وقوله « في النَّارِ » كلاهما ب « ادْخُلُوا » ، فيجيء الاعتراضُ المشهور وهو كيف يتلّق حرفا جرٍّ متحدا اللفظ والمعنى بعامل واحد؟ ، فيجاب بأحد وجهين :
إمَّا أنَّ « في » الأولى ليست للظَّرفية ، بل للمعيّة ، كأنَّهُ قيل : ادخلوا مع أممٍ أي : مصاحبين لهم في الدُّخول ، وقد تأتي « في » بمعنى « مع » كقوله تعالى : { وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة } [ الأحقاف : 61 ] .
وقول الشاعر : [ الطويل ]
2462 - شَمُوسٌ ودُودٌ فِي حَيَاءٍ وعِفَّةٍ ... رخِيمَةُ رَجْعِ الصَّوْتِ طَيِّبَةُ النَّشْرِ
وإمَّا بأن « في النَّار » بدل من قول « فِي أمَمٍ » وهو بدل اشتمال كقوله : { أَصْحَابُ الأخدود النار } [ البروج : 4 ، 5 ] .
فإنَّ النَّار بدل من الأخدود ، كذلك « في النَّارِ » بدل من « أمَمٍ » بإعاد العامل بدل اشتمال ، وتكونُ الظرفية في [ « في » ] مجازاً؛ لأنَّ الأمم ليسوا ظروفاً لهم حقيقة ، وإنَّما المعنى : ادخلوا في جملة أمَمٍ وغمارهم .
ويجوز أن تتعلّق « فِي أمَم » بمحذوف على أنَّهُ حال أي : كائنين في جملة أمم .
و « فِي النَّارِ » متعلّق ب « خلت » أي : تسبقكم في النَّارِ .
ويجوز أنْ تتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ صفة ل « أمَمٍ » فتكون « أمم » قد وصفت بثلاثة أوصاف :
الأولى : الجملة الفعليّة ، وهي قوله « قَدْ خَلَتْ » .
والثاني : الجارّ والمجرور ، وهو قوله : { مِن الجن والإنس } .
الثالث : قوله : « فِي النَّارِ » ، والتقدير : في أممٍ خالية من قبلكم كائنة من الجنِّ والإنس ، ومستقرَّة في النَّارِ .
ويجوز أن تتعلَّق « فِي النَّار » بمحذوفٍ أيضاً ، لا على الوَجْهِ المذكور ، بل على كونه حالاً من « أمَمٍ » ، وجاز ذلك وَإنْ كانت نكرة لتخصُّصها بالوصفين المُشَار إليهما .
ويجوز أن يكون حالاً من الضَّميرِ في « خَلَتْ » ؛ إذ هو ضمير الأمَمِ ، وقُدِّمت الجنُّ على الإنس؛ لانَّهم الأصل في الإغواء .
قوله : « كُلَّما دَخَلتْ » تقدَّم نظيرها ، وهذه الجملة يحتمل أنتكون صفة ل « أمم » أيضاً ، والعائد محذوفٌ أي : كلما دخلت أمة منهم أي : من الأمَمِ المتقدَّمةِ لعنت أمتها ، والمعنى : أن أهل النّار يلعنُ بعضهم بَعْضاً ، ويتبرَّأ بعضهم مِنْ بَعْضٍ كما قال تعالى : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين }

[ الزخرف : 67 ] . والمرادُ بقوله أختها أي : في الدّين .
قوله : « حتَّى » هذه غاية لما قبلها ، والمعنى : أنَّهُم يدخلون فضوْجاً فَوْجاً ، لاعناً بعضهم لبعض إلى انتها تداركهم فيها .
وقرأ الجمهور : « إذَا ادَّارَكُوا » بوصل الألف وتشديد الدَّال ، والأصلُ : تداركوا ، فلما أريد إدغامُهُ فُعل به ما فُعل ب « ادَّارَأتُمْ » ، وقد تقدَّم تصريفه في البقرة [ 72 ] .
قال مكيٌّ : ولا يستطاع اللفظ بوزنها مع ألف الوصل؛ لأنَّك تردُّ الزائد أصلياً فتقول : افاعلوا ، فتصير تاء « تفاعل » فاء الفعل لإدغامها في فاء الفِعْلِ؛ وذلك لا يجوزُ ، فإنْ وزنتها على الأصل فقلت : تَفَاعَلُوا جاز .
وهذا الذي ذكر من كونه لا يمكن وزنه إلا بالأصْلِ ، وهو « فاعلوا » ممنوع .
قوله : « لأنَّكَ تردّ الزَّائد أصليّاً » .
قلناك لا يلزم ذلكح لأنَّا نزنه بلفظه مع همزة الوَصْلِ ، وتأتي بناء التفاعل بلفظها ، فتقولُ : وزن ادَّارَكوا : اتفاعلوا ، فيلفظ بالتاء اعتباراً بأصلها ، لا بما صارتء إليه حال الإدغام .
وهذه المسألةُ نصُّوا على نظيرها ، وهو أنَّ تاء الافتعال إذا أبْدِلت إلى حرف مُجَانِسٍ لما قبلها كما تبدل تاء طاء ، أو دالاً في نحو : اصْطَبَر ، واضْطَرَبَ ، وازْدَجَرَ ، وادَّكَرَ ، إذا وُزِن ما هي فيه قالوا : يُلفظ في الوزن بأصل تَاءِ الافتعال ، ولا يُلفظ بما صارت إليه من طاء أو دال ، فتقولُ : وزن اصطبر افتعل لا افطعل ، ووزن ازدجر افتعل لا افدعل ، فكذلك تقولُ هنا : وزن ادَّاركوا اتفاعلوا لا افَّاعلوا ، فلا فرق بين تاء الافتعال والتَّفعال في ذلك .
وقرأ ابْنُ مسعودٍ والأعْمَشُ ، ورويت عن أبي عمرو : تَدَارَكُوا وهي أصل قراءة العامة .
وقرأ أبو عمرو « إذا إِدَّاركوا » بقطع همزة الوصل .
قال ابن جني : « هذا مشكل ، ومثلُ ذلك لا ينقله ارتجالاً ، وكأنَّهُ وقف وقفة مستنكرٍ ، ثم ابتدأ فقطع » .
وهذا الذي يُعتقد من أبي عمرو ، وإلا فكيف يقرأ بما لا يثبت إلا في ضرورة الشِّعْرِ في الأسماء؟ كذا قال ابنُ جنيٍّ ، يعني أن قطع الف الوَصْل في الضَّرورة إنَّمَا جاء في الأسماء .
وقرأ حميد « أُدْرِكوا » بضم همزة القطع ، وسكون الدَّال وكسر الراء ، مثل « أخْرِجُوا » جعله مبنياً للمفعول بمعنى : أُدْخِلوا في دركاتها أو أدراكها .
ونقل عن مُجَاهدٍ بْنِ جَبْرٍ قراءتان : فروى عنه مكي « ادَّرَكوا » بوصل الألف وفتح الدال مشدّدة وفتح الراء ، وأصلها « ادْتَرَكوا » على افتعلوا مبنياً للفاعل ، ثم أدغم ، كما أدغم « ادَّان » من الدَّيْن .
وروى عنه غيره « أدْرَكوا » بفتح الهمزة مقطوعة ، وسكون الدَّال وفتح الرّاء ، أي : أدرك بعضُهم بعضاً .
وقال أبُو البقاءِ : وقرئ : « إذَا ادَّاركوا » بألف واحد ساكنة بعدها دال مشدَّدة ، وهو جمع بين ساكنين ، وجاز في المفنصل كما جاز في المتَّصل ، وقد قال بعضهم : « اثْنَا عَشَر » بإثبات الألف وسكون العَيْنِ ، يعني بالمتصل نحو : « الضَّالين » وجانّ ، ومعنى المنفصل أنَّ ألف « إذَا » من كلمة ، والسَّاكن الثاني من كلمة أخرى .

وَ « ادّاركوا » بمعنى تَلاحَقُوا ، وتقدَّمُ تفسير هذه المادة [ النساء : 78 ] .
و « جميعاً » حال من فاعل « ادَّاركوا » .
قوله : { أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ } يحتمل أن تكون فُعْلى أنثى أفعل الذي للمفاضلة ، والمعنى على هذا كما قال الزمخشريُّ : « أخْرَاهم منزلة ، وهم الأتباع [ والسَّفلة ] ، لأوْلاهم منزلة وهم القادة والرؤساء » .
ويحتمل أن تكون « أخرى » بمعنى آخرة تأنيث آخر مقابل الأوَّل ، لا تأنيث « آخر » الذي للمفاضلة كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ فاطر : 18 ] .
والفرقُ بين أخرى بمعنى آخرة ، وبين أخرى تَأنيث آخر بزنة أفعل للتفضيل ، أن التي للتفضيل لا تدلُّ على الانتهاء ، كما لا يدلُّ عليه مذكَّرها ، ولذلك يُعطف أمثالُها عليها في نوع واحد تَقُولُ : مررت بأمراة وأخرى وأخرى كما تقول : مررت برجل وآخر وآخر ، وهذه تدلُّ على الانتهاء ، كما يدلُّ مذكَّرها ، ولذلك لا يُعطف أمثالُها عليها ، ولأنَّ الأولى تفيد إفادة « غير » ، وهذه لا تفيدُ إفادة « غير » .
والظَّاهِرُ في هذه الآية الكريمة أنَّهُمَا ليستا للتَّفضيل ، بل لما ذكرنا .
قال ابن عباس ومقاتل : « أخراهم دخولاً في النار لأولاهم دخولاً فيها » .
واللام في « لأولاهم » للتّعليل أي : لأجل ، ولا يجوزُ أن تكون التي للتّبليغ كهي في قولك : قلتث لزيد افعل .
قال الزمخشريُّ : « لأنَّ خطابهم مع اللَّه لا معهم » ، وقد بسط القول قبله في ذلك الزَّجَّاج فقال : « والمعنى : وقالت أخراهم : يا ربَّنا هؤلاء أضلُّونا ، لأولاهم » فذكر نحوه .
قال شهابُ الدِّينِ : وعلى هذا فاللاَّمُ الثَّانية في قوله : « أولاهم لأخْرَاهُمْ » يجوز أن تكون للتَّبليع ، لأنَّ خطابهم معهم بدليل قوله : { فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [ الأعراف : 39 ]
قوله : { رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا } يعني : أنَّ اأتباع يقولون : إنَّ المتقدّمين أضلّونا ، يعني : أنَّ القادة أضلونا عن الهدى والدين فأتِهِمْ عذاباً ضعفاً من النَّارِ .
قال أبُو عبيدة « الضِّعفُ : مثل الشَّيء مرةً واحدة » .
قال الأزْهَريُّ : ما قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله النَّاسُ في مجاز كلامهم ، وقد قال الشَّافِعِيُّ قريباً منه فقال في رجل أوصى : « أعطوه ضِعْفَ ما يُصيبُ وَلَدِي » قال : « يَعطَى مثله مرتين » .
قال الأزْهَرِيُّ : « الوصايَا يستعمل فيها العرف ، وما يتفاهمه النَّاس ، وأما كتاب اللَّهِ فهو عربيٌّ مبينٌ ، ويُرَدُّ تفسيره إلى لغةِ العربِ ، وموضوع كلامها الذي هو صنعه ألْسِنَتِهَا .
والضِّعف في كلام العرب المِثْل إلى ما زاد ، ولا يقتصر به على مثلين ، بل تقول : هذا ضِعْفه أي مِثْلاه ، وثلاثة أمثاله ، لأنَّ الضِّعْفَ في الأصل زيادة غير محصورة ، ألا ترى إلى قوله تعالى تعالى :

{ فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف } [ سبأ : 37 ] لم يُرِدْ به مِثْلاً ولا مِثْلَيْن ، وأوْلَى الأشياء به أن يُجْعل عشرةَ أمثاله كقوله تعالى : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] فأقلُّ الضّعف محصور وهو المِثْلُ وأكثره غير محصورٍ « .
ومثل هذه المقالة قال الزَّجَّاجُ أيضاً فإنَّهُ قال : أي عذاباً مضاعفاً؛ لأنَّ الضعف في كلام العرب على ضربين :
أحدهما : المِثْلُ ، والآخر : أن يكون في معنى تضعيف الشيء أي زيادته إلى ما لا يتناهى ، وقد تقدَّم طرف من هذا في البقرة .
وأما قول الشَّافعيِّ في » الوصيَّة « : إنَّهُ المثل ، فلأن التركة متعلقة بحقوق الورثة ، إلا أنَّا لأجل الوصيّة صرفنا طائفة منها إلى الموصى له ، والقدر المتيقن في الوصيّة هو المثل ، والباقي مشكوك فيه فيأخذ المتيقّن ويطرح المشكوك فيه فلهذا السّبب حملنا الضِّعْفَ في الوصيَّة على المثلين .
قوله : » ضعْفاً « صفة ل » عذاباً ، و « من النَّارِ » يجوز أن يكون صفة ل « عذاباً » ، وأن يكون صفة ل « ضعْفاً » ، ويجوز أن يكون « ضعفاً » بدلاً من « عذاباً » .
قوله : « لِكُلِّ » أي : لكلّ فريق من الأخرى ، والأولى أو القادة والأتباع .
قوله : { ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } قراءة العامّة بتَاءِ الخطاب : إمَّا خطاباً للسَّائلين ، وإمَّا خطاباً لاهل الدُّنيا أي : ولكن لا تعلمون ما أعدَّ من العذاب لكل فريق .
وقرأ أبثو بَكْرِ عن عاصمٍ بالغيبة ، وهي تحتمل أن يكون الضَّمير عائداً على الطائفة السّائلة تضعيف العذاب ، أو على الطّائفتين ، أي : لا يعلمون قَدْر ما أعدَّ لهم من العذاب .
فإن قيل : إن كان المراد من قوله : لكلّ أحد من العذاب ضعف ما يستحقه ، فذلك غير جائز؛ لأنَّهُ ظلم ، وإن لم يكن المراد ذلك فما معنى كونه ضعفاً؟ .
فالجوابُ : أنَّ عذاب الكفَّار يزيد فكل ألم يحصل فإنَّهُ يعقبه حصول ألم آخر إلى غير نهاية ، فكانت تلك الآلام متضاعفة متزايدةٍ لا إلى آخر .

وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

قوله : « وَقَالَتْ أُولاَهُمْ » أي في ترك الكُفْرِ والضَّلال وإنَّا متشاركون في استحقاق العذاب .
فإن قيل : إن هذا منهم كذب؛ لأنَّهُمْ لكونهم رؤساء سادة وقادة ، قد دعوا إلى الكُفْرِ والتَّرغيب فيه ، فكانُوا ضالِّين مضلّين ، وأمَّا الأتباع والضَّعفاء وإن كانوا ضَالين إلاَّ أنَّهُم ما كانوا مضلّين ، فبطل قولهم : إنَّهُ لا فضل للأتباع على الرُّؤساء في تَرْكِ الضَّلال والكُفْرِ .
فالجواب : أنَّ أقصى ما في الباب أنَّهم كذبوا في هذا القول يوم القيامة ، وعندنا أنَّ ذلك جائز كما قرّرناه في سورة الأنعام في قوله : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .
قوله : « فما » : هذه الفاء عاطفة هذه الجملة المنفيّة على قول الله تعالى للسَّفلة : « لِكُلِّ ضِعْفٌ » أي : فقد ثَبَتَ أنَّ لا فضل لكم علينا ، وأنا متشاوون في استحقاق الضِّعف فذوقوا .
قال أبُو حَيَّان - بعد أنْ حكى بعض كلام الزَّمخشري - : والذي يظهر أنَّ المعنى انتفاء كون فضل عليهم من السَّفلة في الدُّنيا بسبب اتباعهم إيَّاهم ، وموافقتهم لهم في الكُفْرِ أي : اتِّباعُكم إيّانا ، وعدم اتِّباعكم سواء؛ لأنَّكُم كنتم في الدُّنيا عندنا أقلَّ من أن يكون لكم عيلنا فضِل بأتِّباعكم ، بل كفرتم اختياراً ، لا أنَّا حملْنَاكم على الكُفْرِ إجباراً ، وأنَّ قوله : « فَمَا كَانَ » جملة معطوفة على جُمْلَةٍ محذُوفَةٍ بعد القَوْلِ دَلَّ عليها ما سبق من الكلام ، والتَّقديرُ ، قالت أولاهم لأخراهم : ما دعاؤكم اللَّه أنَّا أضلنناكم وسؤالكم ما سألتم ، فما كان لكم علينا من فضلٍ بضلالكم ، وأنَّ قوله : « فَذُوقُوا » من كلام الأولى خِطَاباً للأخرى على سبيل التشفِّي ، وأن ذَوْقَ العذاب هو بسبب ما كَسَبْتُمْ لا بأنَّا أضْلَلْنَاكُمْ .
وقيل : فذوقوا من خطاب الله لهم .
و « بِمَا » « الباء » سببية ، و « مَا » مصدرية ، أو بمعنى « الَّذي » ، والعائد محذوف أي : تكسبونه .

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)

هذا من تمام وعيد الكُفَّارِ فقوله : { كَذَّبُوا بآيَاتِنَا } أي بالدَّلائل الدَّالة التي هي أصول الدِّين فالدهرية ينكرون دلائل إثبات الذَّات والصِّفاتِ ، والمشركون ينكرون دلائل إثبات التوحيد ، ومنكرو النُّبوات يكذبون الدلائل الدالة على صحّة النُّبُوَّات ومنكرو نبوة محمد ينكرون الدلائل الدالة على صحة نبوته ، ومنكرو المعاد ينكرون الدَّلائل الدّالة على صحّة المعاد فقوله : { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } بتناولُ الْكُلَّ ومعنى الاستكبار طلب التَّرَفُّع بالبَاطِلِ ، وهذا اللَّفظ يَدُلُّ على الذم في حقِّ البَشَرِ .
قوله : « لا تُفَتَّحُ » .
قرأ أبُو عمر : « لا تُفْتَح » بضمّ ِالتَّاء من فوق والتَّخفيف والأخوان بالياء من تحت والتخفيف أيضاً ، والباقون : بالتَّأنيث والتشديد .
فالتَّأنْيِثُ والتَّذكير باعتبار الجمع والجماعة ، والتخَّفيف والتضعيف باعتبار التكثير وعدمه ، والتضعيف هنا أوْضَحُ لكثرة المتعلق ، وهو في هذه القراءات مبني للمفعول .
وقرأ أبُو حَيْوَةَ ، وأبو البرهسم [ « تَفَتَّح » ] بفتح التَّاء مِنْ فوق والتضعيف ، والأصل : لا تتفتح بتاءَيْن فحُذِفت إحداهما ، وقد تقدَّم في « { تَتَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] .
ونحوه ، ف » أبواب « على قراءة أبي حيوة فاعل ، وعلى ما تقدَّم مفعول لم يُسمَّ فاعله .
وقرئ : » لا تفتح « بالتاء ، ونصب » الأبْواب « على أن الفعل للآيات وبالياء على أن الفعل للَّه ذكره الزمخشري .
فصل في معنى » لا تفتح «
قال ابنُ عبَّاسِ : لا تفتح لأعمالهم لدعائهم مأخوذ من قوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] .
وقال السُّدِّيُّ وغيره : لا تفتح لأرواحهم أبواب السَّمَاءِ وتفتح لأرواح المؤمنين ، ويؤيد هذا ما ورد في الحديث أنَّ روح المؤمن يعرج بها إلى السَّماء فيستفتح لها فيقال : مرحباً بالنَّفْس الطيبة ، التي كانت في الجسد الطيب ، ويقال لها ذلك إلى أن تنتهي إلى السَّماء السابعة ، ويستفتح لروح الكافر ، فقال لها : ارْجِعِي ذميمةً فإنه لا تفتح لك أبوابُ السَّماء ولا يدخلون الجنة بل يهوى بها إلى سجين .
وقيل : لا ينزلُ عليهم الخير والبركة لقوله : { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } [ القمر : 11 ] .
قوله : { حتى يَلِجَ الجمل } .
الولوج : الدُّخُول بشدّة ، ولذلك يقالك هو الدُّخول في مضيق ، فهو أخصُّ من الدُّخول ، والوليجة : كلُّ ما يعتمده الإنسان ، والوليجة الدَّاخِلُ في قوم ليس منهم .
و » الجَمَلُ « قراءة العامة ، وهو الحيوانُ المعروف ، ولا يقال للبعير جملاً إلا إذا بَزَل ، ولا يقال له ذلك إلا إذا بَلَغَ أربع سنين وأول ما يخرج ولد النَّاقة ، ولم تعرف ذُكُوريَّتُهُ وأنوثته يقالُ لَهُ : » سَلِيلٌ « ، فإن كان ذكراً فهو » سَقْبٌ « ، وإن كان أنثى » حَائِلٌ « ، ثم هو » حُوار « إلى الفطام ، وبعده » فَصِيل « إلى سنة ، وفي الثانية : » ابْن مَخَاض « و » بِنْت مَخَاض « ، وفي الثالثة : » ابْن لَبون « و » بنت لبون « ، وفي الرابعة : » حِقٌّ « و » حِقَّة « ، وفي الخامسة : جَذَع وجَذَعة ، وفي السَّادسة : » ثَنِيُّ « و » ثَنِيَّة « ، وفي السَّابعة : رَباع ورَباعية مخففة ، وفي الثامنة : » سِديسٌ « لهما .

وقيل : « سَديسةٌ » للأنثى ، وفي التَّاسعة : « بَازِلٌ » ، و « بَازِلَةٌ » ، وفي العاشرة : « مُخْلِفٌ » و « مُخْلِفةٌ » ، وليس بعد البُزُول والإخلاف سنٌّ بل يقال : بازل عام ، أو عامين ، ومُخْلِف عام ، أو عامين حتى يهرم ، فيقال له : فَوْد . ورد التَّشبيه في الآية الكريمة في غاية الحسن ، وذلك أنَّ الجمل أعظم حيوانٍ عند العربِ ، وأكبره جثَّة حتى قال : [ البسيط ]
2463 - . ... جِسْمُ الجِمَالِ وأحْلاَمُ العَصَافِيرِ
[ وقوله ] : [ الوافر ]
2464 - لَقَدْ كَبُرَ البَعِيرُ بِغَيْرِ لُبٍّ .. .
وسم الإبرة في غايةِ الضِّيقِ ، فلما كان المثلُ يُضْرَبُ بعظم هذا وكبره ، وبضيق ذلك حتَّى قيل : أضْيقُ من خُرْت إبرة ، ومنه الخِرِّيْتُ وهو البصير بمضايق الطُّرُقِ قيل : لا يدخلون [ الجنة حتى يتقحّم أعظم الأشياء وأكبرها عند العرب في أضيق الأِياء وأصغرها فكأنه لا يدخلون ] حتى يُوجدَ هذا المستَحِيلُ ، ومثله في المعنى قول الشاعر : [ الوافر ]
2465 - إذا شَابَ الغُرَابُ أتَيْتُ أهْلِي ... وَصَارَ القَارُ كاللَّبَنِ الحَلِيبِ
وقر ابن عبَّاسِ في رواية ابْنِ حَوْشَبٍ ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وأبو مجلزٍ والشعبيُّ ، ومالك بن الشِّخِّير ، وابن محيصنٍ ، وأبُو رجاءَ ، وأبو رزين ، وأبان عن عاصمٍ : « الجُمَّل » بضمِّ الجيمِ وفتح الميم مشددة وهو القَلْسُ ، والقَلْس : حبلٌ غليظ ، يجمع من حبال كثيرة فيفتل ، وهو حَبْلُ السَّفِينة .
وقيل : الحَبْلُ الذي يُصعد به [ إلى ] النّخل .
ويروى عن ابن عباس أنه قال : « إن الله أحسن تشبيهاً أن يشبه بالحبل من أن يشبه بالجَمَلِ » كأنَّهُ رأى - إن صحَّ عنه - أن المناسب لسم الإبرة شيءٌ يناسب الخيط المسلوك فيها .
وقال الكِسَائي : الرَّاوي ذلك عن ابن عباس أعجمي فَشَدَّ الميم « .
وضفَّف ابن عطية قول الكسائي بكثرة رواتها عن ابن عباس قراءة . قال شهابُ الدِّين : » ولذلك هي قراءةٌ مشهورة بين النَّاس « . وروى مجاهدٌ عن ابن عباس ضمّ الجيم وفتح الميمِ خفيفة ، وهي قراءة ابن جبير ، وقتادة ، وسالم الأفطس .
وقرأ ابْنُ عبَّاسِ أيضاً في رواية عطاء : » الجُمُل « بضم الجيم والميم مخففة ، وبها قرأ الضحاكُ الجحدري .
وقرأ عِكْرِمة ، وابن جبير بضمِّ الجيم ، وسكون الميم .
[ وقرأ المتوكل ، وأبُو الجوزاء بالفتح والسُّكون ، وكلُّها لغات في القَلْس المذكور .
وسئل ابن مسعود عن الجمل في الآية فقال : » زَوْج النَّاقَةِ « ، كأنه فهم ما أراد السّائل واستغباه ] .
قوله : { فِي سَمِّ الخياط } متعلق ب » يلج « ، و » سمّ الخِيَاطِ « ثقب الإبرة ، وهو الخُرْتُ ، وسينه مثلثة ، وكلّ ثُقب ضيق فهو سَمٌّ ، وكلُّ ثقب في البدن؛ وقيل : كلُّ ثُقْبٍ في أنف أو أذن فهو سَمٌّ وجمعه سموم .

قال الفَرَزْدَقُ : [ الطويل ]
2466 - فَنَفَّسْتُ عَنْ سَمَّيْهِ حَتَّى تَنَفَّسَا ... وقُلْتُ لَهُ لا تَخْشَ شَيْئاً وَرَائِيَا
والسُّمُّ : القاتل ، وسمي بذلك للطفه وتأثيره في مسامّ البدنِ حتى يصل إلى القلب ، وهو في الأصل مصدرٌ ثم أُريد به معنى الفاعل لدخوله باطن البدن ، وقد سمَّه إذا أدخله فيه ، ومنه « السَّمَّة » للخاصة الذين يدخلون بَوَاطِنَ الأمور ومَسَامَّها ، ولذلك يقال لهم : الدّخلُل . والسموم الريح الحادة؛ لأنَّها تؤثر تأثير السّم القاتل . والخياط والمخيط الآلة التي خاطُ بها فِعال ومِفْعَل ، كإزار ومئزر ، ولحافٍ ومِلْحَفٍ ، وقناعٍ ومِقْنَعٍ .
وقرأ عبد الله ، وقتادة ، وأبُو رزين ، وطلحةُ « سُمِّ » بضمِّ السِّين ، وأبو عمران الجوني ، وأبُو نهيكٍ ، والأصمعيُّ عن نافع « سِمّ » بالكسر ، وقد تقدَّم أنَّها لغات .
وقرأ عَبْدُ الله ، وأبُو رزين ، وأبو مجلزٍ : « المِخْيَط » بكسر الميم وسكون الخاء ، وفتح الياء .
وطلحةُ بفتح الميم ، وهذه مخالفة للسَّوادِ .
قوله : « وَكَذِلِكَ » أي : ومثل ذلك الجزاء نجزي المجرمين ، فالكاف نعت لمصدر محذوف .

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)

قوله : { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } هذه الجملة محتملة للحاليّة والاستئناف ، ويجوزُ حينئذ في « مهاد » أن تكون فاعلاً ب « لهم » فتكون الحال من قبيل المفرات ، وأن تكون متبدأ ، فتكون من قبيل الجمل .
و « مِنْ جَهَنَّمَ » حال من « مِهَاد » ؛ لأنَّهُ لو تأخر عنه لكان صفة ، أو متعلق بما تعلَّق به الجار قبله .
و « جَهَنَّم » لا تنصرف لاجتماع التَّأنيث والتعريف .
وقيل : اشتقاقه من الجهومة ، وهي الغلظ يقال : رجل جهم الوجْهِ أي غَلِيظه ، فسميت بهذا الغلظ أمرها في العذاب .
و « المِهَاد » جمع : مَهْدٍ ، وهو الفراشُ .
قال الأزهريُّ : « المَهْدُ في اللُّغة الفرش ، يقال للفراش : مِهَادٌ » .
قوله : { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } غواشٍ : جمع غاشية ، وللنُّحاة في الجمع الذي على فواعل إذا كان منقوصاً بقياس خلاف : هل هو مُنْصَرِفٌ؟ .
فبعضهم قال : هو مَنْصرفٌ؛ لأنه قد زال [ منه ] صيغة منتهى الجموع ، فصار وزنُهُ وَزْنَ جَنَاحٍ وَقَذالٍ فانصرف .
وقال الجَمْهُورُ : هو ممنوعٌ من الصَّرف ، والتنوين تنوين عوضٍ .
واختلف في المعوِّض عَنْهُ ماذا؟ فالجمهور على أنَّهُ عوض من الياء المَحْذُوفَةِ .
وذهب المُبردِ إلى أنَّهُ عوض من حركتها ، والكسرُ ليس كسر إعراب ، وهكذا : حَوَارٍ وموالٍ وبعضهم يجرُّه بالفتحة ، قال : [ الطويل ]
2467 - وَلَوْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ مَوْلىً هَجَوْتُهُ ... ولَكِنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَوْلَى مَوَالِيَا
وقال آخر : [ الرجز ]
2468 - قَدْ عَجِبَتْ مِنِّي وَمِنْ يُعَيْلِيَا ... لمَّا رَأتْنِي خَلَقاً مُقْلُوْلِيَا
وهذا الحكمُ ليس مختصاً بصيغة مفاعل ، بل كلُّ غير منصرف إذا كان منقوصاً ، فحكمهُ ما تقدَّم نحو : يُعيْل تصغير يَعْلَى ويَرْم اسم رجل ، وعيله قوله : « وَمِنْ يَعَيْلِيَا » وبعض العرب يعرب « غواش » ونحوه بالحركاتِ على الحرف الذي قبل الياء المحذوفة ، فيقول : هؤلاء جوارٍ .
وقرئ : « ومِنْ فَوْقِهِم غَوَاشٌ } برفع الشين ، وهي كقراءة عبد الله : { وَلَهُ الجوار } [ الرحمن : 24 ] برفع الراء .
فإن قيل : » غَوَاش « على وزن فواعل؛ فيكون غير منصرف فكيف دخله التنوين؟ .
فالجوابُ : على مذهب الخَلِيلِ وسيبويهِ أنَّ هذا جمع ، والجمع أثقل من الواحد ، وهو أيضاً الجمع الأكبر الذي تتناهى الجموع إيله ، فزاده ذلك ثقلاً ، ثم وقعت الياء في آخره وهي ثقيلة ، فلمَّا اجتمعت فيه هذه الأشياء خفَّفوه بحذف الياء ، فلَّما حذفوا الياء نقص عن مثال » فوَاعل « فصار غواش بوزن جناح ، فدخلهُ التَّنوين لنقصانه عن هذا المثال .
قال المفسِّرون : معنى الآية : الإخبارُ عن إحاطة النَّار بهم من كل جانب قوله : » وكذلِكَ « تقدم مثله [ الأعراف : 40 ] .
وقوله : » والظَّالمِيْنَ « يحتمل أن يكون من باب وقوع الظَّاهر موقع المضمر ، والمراد ب » الظَّالمِينَ « المجرمون ، ويحتمل أن يكونوا غيرهم ، وأنَّهُم يُجزون كجزائهم .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)

لمَّا ذكر الوعيد أتْبَعَهُ بذكر الوعد ، فقوله : « والَّذينَ آمَنُوا » مبتدأ ، وفي خبره وجهان :
أحدهما : أنه الجملة من قوله : { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً } ، وعلى هذا فلا بدّ من عائد وهو مقدَّرٌ ، وتقديرُهُ ، نفساً منهم .
والثاني : هو الجملة من قوله : « أولَئِكَ أصْحَابُ » ، وتكون هذه الجملة المنفيَّة معترضة بينهما ، وهذا الوجه أعرب ، وإنَّمَا حسن وقوع هذا الاعتراض بين المبتدأ والخبر؛ لأنَّهُ من جنس هذا الكلام؛ لأنَّهُ لمَّا ذكر عملهم الصالح ذكر أنَّ ذلك العمل في وسعهم ، وغير خارج عن قدرتهم ، وفيه تَنْبِيهٌ لكفار على أنَّ الجنَّة مع عظم محلِّها يوصل إليها بالعَمَل السَّهْلِ من غير تحمل الصعب .
فصل في معنى قوله : « وسعها »
الوسعُ : ما يقدر الإنسان عليه في حال السِّعة والسُّهولة لا في حال الضّيق والشِّدَّة ، ويدلُّ عليه قول معاذِ بْنِ جبلٍ في هذه الآية : إلا يسرها لا عسرها .
وأمَّا أقصى الطَّاقة فلا يسمَّى وسعاً ، وغلط من قال : إن الوسع بذلك المجهود .

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

قوله : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم } فالنزع هو بمعنى ينزع فهو على حد { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] ، والنزع : قلع الشَّيء عن مكانه .
وقوله : « مِنْ غِلٍّ » يجوز أن تكون « مِنْ » لبيان جنس « مَا » ويجوز أن تكون حالاً متعلّقاً بمحذوف أي : كائناً من غلٍّ .
الغل : الحِقْد والإحْنَةُ والبُغْض ، وكذلك الغُلُولُ .
قال أهل اللُّغَةِ : وهو الذي يغل بلطفه إلى صَميمِ القَلْب أي : يدخلُ ، ومنه الغلول ، وهو الوصول بالحيلَةِ إلى لاذُّنُوبِ الدقيقة .
ويقال : انغل في الشَّيء ، وتغلغل فيه إذا دخل فيه بلطافته كما يدخل في صميم الفؤادِ وجمع الغل غلال ، والغُلُولُ : الأخذ في خُفْيَةٍ ، وأحسن ما قيل إنَّ ذلك من لفظ الغلالة كأنّه تدرع ولبس الحِقْدَ والخيانة حتَّى صار إليه كالغلالةِ الملبوسة .
فصل في تأويل الآية .
في الآية تأويلان :
أحدهما : أزَلْنَا الأحقادَ التي كانت لبعضهم في دار الدُّنْيَا ، ومعنى نزع الغل : تصفية الطِّباع ، وإسقاط الوساوس ومنعها من أن ترد على القلوب ، فإن الشَّيطانَ لمَّا كان في العذابَ لم يتفرغ لإلقاء الوساوِس في القُلُوبِ ، وإلى هذا المعنى أشار عليُّ بْنُ أبي طالب - رضي الله عنه - إذ قال : « إني لأرجو أن أكون أنا ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير من الذين قال الله - جل ذكره - ونَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ » .
والتأويل الثاني : أنَّ المراد منه أن درجات أهل الجنَّة متفاوتة بحسب الكمال والنُّقصان ، فاللَّهُ - تعالى - أزَالَ الحسدَ عن قلوبهم حتّى إنَّ صاحب الدّرجة النّازلة لا يحسدُ صاحب الدرجة الكاملة .
قال صاحبُ هذا التأويل : وهذا أوَْى من الوجه الأوَّلِ ، حتَّى يكون في مقابلة ما ذكره الله - تعالى - من تبرُّؤ بعض أهل النَّار من بعض ، ولعن بعضهم بعضاً ، ليعلم أنَّ حال أهل الجنَّة في هذا المعنى مفارقة لحالِ أهْلِ النَّارِ ، فإن قيل : كيف يُعقل أنْ يُشَاهد الإنسان النعم العظيمة والدرجة العالية ، ويرى نفسه مَحْرُوماً عنها ، عاجزاً عن تحصيلها ، ثم إنَّهُ لا يميل طبعه إليها ولا يغتم بسبب الحرمان عنها؟ فإنْ عُقل ذلك فلم لا يعقل أيضاً أن يغيرهم الله - تعالى - ، ولا يخلق يهم شهوة الأكْل والشّرب والوقاع ويغنيهم عنها؟ .
فالجوابُ : أنَّ الكلّ ممكن ، والله تعالى قادر عليه ، إلاَّ أنَّهُ تعالى وعد بإزلة الحِقْدِ والحسد عن القلوب ، وما وعد بإزالة شهوة الأكل والشّرب عن النُّفوس .
قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } .
في هذه الجملة ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أنَّها حال من الضَّميرِ في « صُدُورِهِم » ، قاله أبُو البقاء وجعل العَامِلَ في هذه الحال معنى الإضافة .
والثاني : أنَّها حال أيضاً ، والعامل فيها « نَزَعْنَا » ، قاله الحوفيُّ .

الثالث : أنَّها استئناف إخبار عن صِفَةِ أحوالهم .
وردَّ أبُو حيَّان الوجهين الأوَّلين؛ أمَّا الأوَّلُ فلأنَّ معنى الإضافة لا يعمل إلاّ إذا أمكن تجريدُ المضاف ، وإعماله فيما بعده رفعاً أو نصباً .
وأما الثاني فلأن { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } ليس من صفة فاعل « نَزَعْنَا » ، ولا مفعوله وهما « نَا » و « مَا » فكيف ينتصب حالاً عنهما؟ وهذا واضح .
قال شهابُ الدِّين : « قد تقدَّم غيره مرة أنَّ الحال تأتي من المضاف إليله إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه لمدرك آخر ، لا لما ذكره أبو البقاءِ من أنَّ العامل هو معنى الإضافة ، بل العامل في الحال هو العامل في المضاف ، وإنْ كانت الحال ليست منه؛ لأنَّهما لمَّا كانا متضايفين ، وكانا مع ذلك شيئاً واحداً ساغ ذلك » .
فصل في شرب المؤمنين من ساق الشجرة .
قال السُّدِّيُّ في هذه الآية : إنَّ أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شَجَرَةً في أصل ساقها عينان فَيَشْرَبُوا من أحديهما ، فينزعُ ما في صدورهم من غلٍّ ، وهو الشَّراب الطّهور ، ويغتسلوا من الأخرى ، فجرت عليهم نَضْرَة النَّعيم فلم يشقوا ، ولم يسجنوا بَعْدَها أبداً .
{ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا } أي : إلى هذا يعني طريق الجنة .
وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : « معناه هدانا لعمل هذا ثوابه » .
قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ } قرأ الجماعة : « ومَا كُنَّا » بواو ، وكذلك هي في مصاحف الأمصار غير « الشَّامِ » وفيها وجهان :
أظهرهما : أنَّها « واو » الاستئناف ، والجملة بعدها مستأنفة .
والثاني : أنَّها حاليّة .
وقرأ ابن عامر « ما كنا » بدون واو ، [ و ] الجملة على ما تقدَّم من احتمال الاستئناف والحال ، وهي في مصحف الشَّاميين كذا ، فقد قرأ كلٌّ بما في مصحفه .
ووجه قراءة ابن عامر أنَّ قوله : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولاا أَنْ هَدَانَا الله } جار مجرى التَّفْسِيرِ لقوله : « هَدَانَا لِهَذَا » ، فلما كان أحدهما غير الآخر؛ وجب حذف الحرف العاطف .
قوله : { لولاا أَنْ هَدَانَا الله } « أن » وما في جيزها في محلِّ رفع بالابتداء ، والخبر محذوف على ما تقرَّر ، وجواب « لَوْلاَ » مدلولٌ عليه بقوله : « ومَا كُنَّا » تقديره : لولا هدايته لنا موجودة لشقينا ، أو ما كنا مهتدين .
فصل في الدلالة في الآية
دلّت هذه الآية على أنَّ المهتدِي من هداه الله ، وإنْ لم يهده الله لم يَهْتَدِ . ثم نقول : مذهب المعتزلة أنّ كلَّ ما فعله الله في حقّ الأنبياء ، والأولياء من أنواع الهداية والإرشاد فقد فعله في حقِّ جميع الكُفَّارِ والفسَّاقِ ، وإنَّما حصل الامتيازُ بين المؤمن والكافر ، والمحقّ والمبطل بسعي نفسه واختيار نفسه ، فكان يجب عيله أنْ يحمد نفسه؛ لأنه هو الذي حصل لنفسه الإيمان ، وهو الذي أوصل نَفْسَهُ إلى درجات الجنان ، وخلَّصها من دركاتٍ النِّيرانِ ، فلمَّا لم يحمد نفسه ألْبَتَّةَ إنَّما حمد الله - تعالى - فقط علمنا أن الهادي ليس إلا الله تعالى .

قوله : « لَقَدْ جَاءَتْ » جواب قسم مقدَّر ، و « بالحَقِّ » يجوز أن تكون الياء للتعدية ، ف « بالحق » مفعول معنى ، ويجوز أن تكون للحال [ أي : ] جَاءُوا ملتبسين بالحقِّ ، وهذا من قول أهلِّ الجنَّةِ حين رَأوْا ما وعدهم الرُّسُلُ عياناً ، « ونُودُوا » هذا النداء يحتمل أن يكون من الله - تعالى - ، وأن يكون من الملائكة .
قوله : « لَقَدْ جَاءَتْ » يجوز أنْ تكونَ المفسِّرة ، فسَّرت النداء - وهو الظَّاهِرُ - بما بعدها ، ويجوز أن تكون المخففة واسمها ضمير الأمر محذوفاً ، فهي وما بعدها في محلّ نصب أوْ جرِّ؛ لأنَّ الأصل : « بِأنْ تِلْكُمُ » ، وأُشير إليها بإشارة البعيد؛ لأنَّهُم وُعِدُوا في الدُّنْيَا .
وعبارة بعضهم « هي إشَارَةٌ لغائب » مسامحة؛ لأنَّ الإشارة لا تكونُ إلا لحاضِرٍ ، ولكنَّ العلماء تُطلق على البعيد غائاً مجازاً .
قوله : « أوْرِثْتُمُوها » يجوز أن تكون هذه الجملة حاليّة كقوله : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] .
ويجوز أن تكُون خبراً عن « تِلْكُم » ، ويجوز أن تكون « الجنّة » بدلاً أو عطف بيان و « أرِثْتُمُوها » الخبر .
ومنع أبُو البقاءِ أن تكون حالاً من تلكم للفصل بالخبر ، ولأنَّ المبتدأ لا يعمل في الحال .
وأدغم أبُوا عَمْرو والأخوان الثّاء في التاء ، وأظهرها الباقون .
و { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } تقدَّم [ المائدة : 105 ] .
فصل في معنى « أورثتموها »
قال أهلُ المَعَانِي : معناه صارت إليكم كما يصيرُ الميراث إلى أهله ، والإرث قد يستعمل في اللُّغَةِ ولا يرادُ به زوال الملك عن الميِّت إلى الحي ، كما يقال : هذا الفعل يورثك الشَّرف ويورثك العار أي : يصيرك إليه .
ومنهم من يقول : إنَّهُم أعطوا تلك المنازلَ من غير تعب في الحال فصار شبيهاً بالميراث .
وقيل : إنَّ أهْلَ الجنَّة يرثون منازل أهل النَّارِ .
قال عليه الصَّلاة والسَّلامُ : « ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنَّار منزل ، فإذا دخل أهْلُ الجنَّةِ الجنَّة ، وأهل النَّارِ النَّارَ ، رفعت الجنة لأهل النَّار فينظرون إلى منازلهم فيها فيقال لهم : هذه منازلكم لو عملتم بطاعَةِ الله - تعالى - ثمَّ يقال : يا أهْلَ الجنة ، رثوهم بما كنتم تعملون ، فيقسم بين أهل الجنة منازلهم » .
فإن قيل : هذه الآية تَدُلُّ على أنَّ العَبْدَ يدخل الجنَّة بعمله ، وقوله - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - : « لَنْ يَدْخُلَ أحَدٌ الجنة بِعَمِلِهِ ، وإنَّمَا يَدْخُلُونَهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ » ، وبينهما تناقض .
فالجوابُ : أنَّ العمل لا يوجب دخولَ الجنَّةِ لِذَاتِهِ ، وإنَّما يوجبه لأن الله بفضله جعله علامة عليه ، وأيضاً لمَّا كان الموفق للعمل الصَّالح هو الله تعالى - كان دخول الجنَّة في الحقيقة ليس إلاّ بفضل الله - تعالى - .

وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)

لمَّا شَرَحَ وعيد الكفار وثواب أهل الإيمان أتبعه بذكر المُنَاظَراتِ التي تَدُورُ بين الفريقين في هذه الآية .
قوله : { أَن قَدْ وَجَدْنَا } « أن » يحتمل أن تكون تفسيرية للنِّدَاءِ ، وأن تكون مخففة من الثَّقِيلَةِ ، واسمها ضمير الأمر والشَّأنِ ، والجملة بعدها خبرها ، وإذَا كان الفعل مُتَصَرّفاً غير دعاء ، فالأجود الفصل ب « قَدْ » كهذه الآية أو بغيرها . وقد تقدَّم تحقيقه في المائدة .
قال الزَّمخشريُّ : فإن قلت : هلا قيل : ما وعدكم ربكم ، كما قيل : { مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا } .
قلت : حُذف ذلك تخفيفاً لدلالة « وَعَدَنَا » عليه .
ولقائل أن يقول : أطْلِقَ ليتناول كلَّ ما وعد الله من البعث والحساب والعقاب والثواب ، وسائر أحوال القيامة ، لأنَّهُم كانوا مكذِّبين بذلك أجمع ، ولأنَّ الموعود كله ممَّا ساءهم ، وما نعيم أهل الجنَّة إلاَّ عذاب لهم فأطلق لذلك .
قال شِهَابُ الدِّين : قوله : « ولقائل . . . إلى آخره .
هذا الجواب لا يطابق سؤاله؛ لأنَّ المدعي حذف المفعول الأوَّل ، وهو ضمير المخاطبين .
والجوابُ وقع بالمفعول الثَّاني الذي هو الحِسَابُ والعقاب ، وسائر الأحوال ، [ فهذا ] إنَّما يناسب لو سئل عن حذف المفعول الثاني ، لا المفعول الأول » .
وأجاب ابْنُ الخطيبِ عن السُّؤالِ بأن قوله : { مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا } يدلُّ على أنَّهُ تعالى خاطبهم بهذا الوَعْدِ وكونهم مخاطبين من قبل الله - تعالى - بهذا الوعد يوجب مزيد التّشريف ومزيد التشريف لائق بحال المؤمنين .
أمّا الكَافِرُ فليس أهلاً لأن يخاطبه الله - تعالى - فلهذا السّبب لم يذكر الله تعالى أنَّهُ خاطبهم بهذا الخطاب بل ذكر الله - تعالى - أنَّهُ بيَّن هذا الحكم .
و « نعم » حرف جواب ك « أجل » و « إي » و « جير » و « بلى » ، ونقيضتها « لا » .
و « نَعَمْ » تكون لتصديق الإخبار ، أو إعلام استخبار ، أو وَعْدِ طالب ، وقد يُجَابُ بها النَّفي المقرون باستفهام وهو قليل جدّاً كقول جحْدَرٍ : [ الوافر ]
2469 - أَليْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أمَّ عَمْروا ... وإيَّانَا فَذَاكَ بِنَا تَدَانِي
نَعَمْ ، وتَرَى الهِلالَ كَمَا أرَاهُ ... ويَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلاَنِي
فأجاب قوله : « ألَيْسَ » ب « نعم » ، وكان من حقه أن يقول : بلى ، ولذلك يُرْوَى عن ابن عباس في قوله تعالى : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] : لو قالوا : نعم لكفروا ، وفيه بحثٌ يأتي إنْ شَاءَ اللَّهُ - تعالى - قريباً .
وقرأ الكسائِيُّ والأعمشُ ويحيى بن وثَّابٍ بكسر عينها ، وهي لغة « كنَانَة » ، وطعن أبُو حَاتِمِ عليها وقال : « ليس الكسر بمعروف » .
واحتج الكِسَائِيُّ لقراءته بما يُحكى عن عمر بن الخطاب أنَّه سأل قوماً فقالوا : نعم بالفتح ، فقال : « أمَّا النَّعَم فالإبل فقولوا : نَعِم » أي بالكَسْرِ .

قال أبو عبيد : « ولم نَرَ العرب يعرفون ما رَوَوْه عن عمر ونراه مُوَلَّداً » .
قال شهاب الدين : وهذا طَعْنٌ في المُتَواتِر فلا يُقبل ، وتبدل عينها حاءً ، وهي لغة فاشية ، كما تبدل حاء « حتى » عيناً .
قوله : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ } .
التأذين في اللُّغَةِ النداء والتّصويت الإعلام ، والأذان للصّلاة إعلام بها وبوقتها .
وقالوا في « أذَن مؤذّن » : نادى مناد أسمع الفريقين .
قال ابن عباس : « وذلك المؤذن من الملائكة وهو صاحبُ الصُّورِ » .
قوله : « بينهم » يجوز أن يكون منصوباً ب « أذَّن » أو ب « مؤذن » فعلى الأول التقدير :
أنَّ المؤذن أوقع ذلك الأذان بينهم أي في وسطهم .
وعلى الثَّاني التَّقديرُ : أنَّ مؤذِّناً من بينهم أذَّن بذلك الأذان ، والأول أوْلَى .
وأن يكون مُتَعَلِّقاً بمحذوف على أنَّهُ صفة ل « مؤذّن » قال مكيّ - عند إجازته هذا الوَجْهِ - : « ولكن لا يعمل في » أنْ « مؤذِّن » إذ قد نعته « يعني أنَّ قوله : { أَن لَّعْنَةُ الله } لا يجوز أنْ يكون معمولاً ل » مؤذّن « ؛ لأنَّهُ موصوف واسم الفاعل متى وصف لم يعمل .
قال شهابُ الدِّين : » وهذا يوهم أنَّا إذا لم نجعل « بَيْنَهُمْ » نعتاً ل « مؤذِّن » جاز أن يعمل في « أنْ » ، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّكَ لو قلت : ضرب ضَارِبٌ [ زيداً تنصب زيداً ب « ضرب » لا ب « ضارب » ] .
لكني قد رأيت الواحِدِي أجاز ما أجاز مكيّ من كون « مؤذّن » عاملاً في « أن » ، وإذا وصفته امتنع ذلك ، وفيه ما تقدّم وهو حسن .
قوله : { أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } « أنْ » يجوز أن تكون المفسِّرة ، وأن تكون المخففة ، والجملة الاسميَّة بعدها الخبر ، فلا حاجة هنا لفاصل .
وقرأ الأأخوان ، وابن عامر ، والبزِّي : « أنَّ » بفتح الهمزة وتشديد النون ، ونصب « اللَّعنة » على أنَّهَا اسمها ، و « على الظالمين » خبرها ، وكذلك في [ النور 7 ] { أَن لَّعْنَةُ الله عَلَيْهِ } خفَّف « أنْ » ورفع اللّعنة نافع وحده ، والباقون بالتشديد والنَّصب .
[ قال الواحِديُّ : مَنْ شدّد فهو الأصلُ ، ومن خفَّف فهو مخففة من التشديد على إرادة إضمار القصّة والحديث تقديره : أنه لعنة الله ، ومثله قوله تعالى : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ } [ يونس : 10 ] التقدير : أنَّهُ ، ولا يخفف « أنْ » هذه إلا وتكون بعد إضمار الحديث والشأن ] .
وقرأ عصمةُ عن الأعمشِ : « إنَّ » بالكسر والتشديد ، وذلك : إمَّا على إضمار القول عند البصريين ، وإمَّا على إجراء النِّداء مُجْرى القول عند الكوفِيِّين .

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)

قوله : « الَّذينَ » يجوز أن يكون مرفوع المحل ومنصوبه على القطع فيهما ، ومجروره على النَّعت ، أو البدل ، أو عطف البيانِ .
ومفعول « يَصُّدُّونَ » محذوف أي : يَصُدُّون النَّاسَ ، ويجوز ألاّ يُقدر له مفعول .
والمعنى : الَّذين من شأنهم الصَّدُّ كقولهم : « هو يعطي ويمنع » .
ومعنى « يَصُدُّونَ » أي : يمنعون النَّاس من قبول الدين الحقِّ ، إمَّا بالقهر ، وإمّا بسائر الحِيَلِ .
ويجوز أن يكون « يَصُدُّونَ » بمعنى يعرضون من : صدَّ صُدُوداً ، فيكون لازماً .
قوله : { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي بإلقاء الشكوك والشُّبُهَات في دلائل الدِّين الحق ، ثم قال : و { بالآخرة كَافِرُونَ } .
وهذا يدلُّ على فساد ما قاله القَاضِي من أنَّ ذلك اللعن يعم الفاسق والكافر .
والعِوج بكسر العين في الدّين والأمر وكلّ ما لم يكن قائماً . وبالفتح في كلِّ ما كان قائماً كالحائظ والرُّمح ونحوه .

وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)

أي بين أصحاب الجنَّة وأصحاب النَّار ، وهذا هو الظَّاهر كقوله : { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } [ الحديد : 13 ] .
وقيل : بين الجنَّة والنَّار ، وبه بدأ الزَّمخشريُّ .
فإن قيل : وأي حاجة إلى ضرب هذا السُّورِ بين الجنَّة والنَّار ، وقد ثبت أن الجنَّة . فوق والنَّار في أسفل السَّافِلِينَ؟ .
فالجوابُ : بُعد إحداهما عن الأخر لا يمنعُ أن يحصل بينهما سور وحجاب .
قوله : « وَعَلى الأعْرَافِ » : قال الزَّمَخْشَرِيُّ : أي : وعلى أعراف الحجاب .
قال القرطبيُّ : أعراف السّور وهي شُرَفُه ، ومنه عُرْفُ الفَرَسِ وعرف الدِّيكِ ، كأَنَّهُ جعل « أل » عوضاً من الإضافة وهو مذهب كوفي ، وتقدَّم تحقيقه .
وجعل بعضهم نفس الأعْرَافِ هي نفس الحِجابِ المتقدم ذكره ، عبر عنه تارةً بالحجاب ، وتارةً بالأعراف .
قال الوَاحِديُّ - ولم يذكر غيره - : « ولذلك عُرِّفَت الأعراف؛ لأنَّهُ عني بها الحِجَاب » قال ابن عباس .
والأعراف : جمع عُرْف بضمِّ العَيْنِ ، وهو كلُّ مرتفع من أرض وغيرها استعارةً من عُرْف الدّيك ، وعُرْف الفرس .
قال يَحْيَى بْنُ آدَمَ : سألت الكِسَائِيَّ عن واحد الأعراف فسكت ، فقلت : حدثتنا امرأتك عن جَابِرٍ عن مُجَاهِدٍ عن ابن عباس قال : « الأعراف سُورٌ له عرف مثل عرف الدِّيك » فقال : نعم ، وإن واحده عُرْفُ بعيرٍ ، وإن جماعته أعْرَاف ، يا غُلام هات القرطاس كأنَّهُ عرف بارتفاعه دون الأشياء المنخفضة ، فإنَّهَا مجهولة غالباً .
قال أمية بن أبي الصلت : [ البسيط ]
2470 - وَآخَرُونَ عَلَى الأعْرَافِ قَدْ طَمِعُوا ... فِي جّنَّةٍ حَفَّهَا الرُّمَّانُ والخَضِرُ
ومثله أيضاً قوله : [ الرجز ]
2471 - كُلُّ كِنَازِ لَحْمِهِ نِيَافِ ... كالجَبَلِ المُوفِي عَلَى الأعْرَافِ
وقال الشَّمَّاخ : [ الطويل ]
2472 - فَظَلَّتْ بأعْرَافٍ تَعَادَى كأنَّهَا ... رَمَاحٌ نَحَاهَا وِجْهَةَ الرِّيحِ رَاكِزُ
وقال الزَّجَّاجُ ، والحسنُ في أحد قوليه : إن قوله : « وَعَلى الأعْرَافِ » وعلى معرفة أهْل الجَنَّة والنَّار ، كَتَبَةٌ رجال يعرفون كل من أهل الجنة والنَّار بسيماهم ، للحسن : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فضرب على فَخِذِهِ ثم قال : هم قومٌ جعلهم الله على تعرف أهل الجنّة وأهل النّار ، يميزون البعض من البعض والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا .
قال المهدويُّ : « إنَّهم عدول القِيَامَةِ الذين يَشْهَدُونَ على النَّاس بأعمالهم ، وهم في كُلِّ أمَّةٍ » ، واختار هذا القول النَّحَّاسُ وقال : « هو من أحسن ما قيل فيه ، فهم على السور بين الجنَّةِ والنَّارِ » .
فأمَّا القائلون بالقول الأوَّلِ فقد اختلفوا في الذين هم على الأعراف على قولين :
فقيل : هم الأشْرَافُ من أهل الطَّاعَةِ ، وقال أبو مجلز : « هم ملائكة يعرفون أهل الجنَّة وأهل النَّار » ، فقيل له : يقول الله - عز وجل - { وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ } ، وتزعم أنَّهُمْ ملائكة ، فقال : « الملائكة ذكور لا إناث » .

وقيل : هم الأنْبِيَاءُ - عليهم الصَّلاة والسَّلام - أجلسهم الله على أعلى ذلك السُّور إظهاراً لشرفهم وعلوّ مرتبتهم .
وقيل : هم الشُّهَدَاءُ .
فإن قيل : هذه الوجوه باطلة لأنه تعالى قال في صفة أصحاب الأعراف : « لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها » ، وهذا الوَصْفُ لا يليق بالملائكة والأنبياء والشُّهداء .
فالجوابُ : قالوا : لا يبعد أن يقال : إنَّهُ تعالى بيَّن من صفة أهْلِ الأعراف أن دخولهم الجنة يتأخر ، والسَّبب فيه أنَّهُ تعالى ميّزهم عن أهل الجنَّة وأهل النَّار ، وأجلسهم على تلك الأماكن المرتفعة ليشاهدوا أحوال أهل الجنّة في الجنَّة ، وأحوال أهل النّار في النَّار ، فيلحقهم السُّرور العظيم بمشاهدة تلك الأحوال ، ثم إذا استقرَّ أهل الجنَّة في الجنَّةِ ، وأهلُ النَّارِ في النَّارِ ، فحينئذٍ ينقلهم اللَّهُ إلى أماكنهم العَالِيَة في الجنَّةِ . فثبت أنَّ كونهم غير داخلين في الجنَّة لا يمنع من كمال شرفهم وعلو درجتهم .
وأمّا قوله : « وهمْ يَطْمَعُونَ » والطمع هنا يحتمل أن يكون على بابه أو يكون بمعنى اليقين قال تعالى حِكايَةٌ عن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين } [ الشعراء : 82 ] .
وذلك الطمع طمع يقين ، وقال الشَّاعرُ : [ المتقارب ]
2473 - وإنِّي لأطْمَعُ أنَّ الإلَه ... قَدِيرٌ بِحُسْنِ يَقِينِي يَقِينِي
القول الثاني : أن أصحاب الأعراف أقوامٌ يكونون في الدرجة النازلة ] من أهل الثواب وهؤلاء ذكروا وجوهاً :
أحدها : أنَّهم أقوام تساوت حَسَنَاتُهُم وسيّئاتهم ، فأوقفهم الله تعالى على الأعراف ، لكونها درجة متوسطة بين الجنَّة والنار ، ثم يدخلهم الله الجنَّة بفضله ورحمته ، وهذا قولُ حذيفة وابن مسعود ، واختيار الفرّاءِ ، وطعن الجُبَّائِيُّ والقاضي في هذا القول ، واحتجُّوا على فساده من وجهين :
الأوَّل : قالوا : إن قوله تعالى : { ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 43 ] يدلُّ على أنَّ كُلَّ من دخل الجنة فلا بُدَّ وأن يكون مستحقاً لدخولها ، وذلك يمنع من القَوْلِ بوجود أقوام لا يستحقون الجَنَّة ولا النَّارَ ، ثم إنَّهثم يدخلون الجنة بمحض التفضل ، لا بسبب الاستحقاقِ .
الثاني : أنَّ كونهم من أصحابِ الأعْرَاف يدلُّ على أنَّهُ تعالى ميَّزَهُم من جميع أهْل القيامةِ ، ثمَّ أْجْلَسَهُمْ على الأماكن العالية [ وقيل هذا التشريف لا يليق إلاَّ بالأشراف وأما الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فدرجتهم قاصرة ، فلا يليق بهم ذلك التشريف ] .
والجواب عن الأوَّل : أنَّهُ يحتمل أن يكون قوله : { ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا } خطاب مع أقوام مُعَيَّنِينَ ، فلم يلزم أن يكون كلّ أهل الجنَّة كذلك .
والجوابُ عَنِ الثَّانِي : أنَّا لا نسلّم أنَّهُ تعالى أجلسهم على تلك الأماكن العالية على سبيل التَّخصيص بمزيد التَّشْرِيفِ وإنَّمَا أجْلَسَهُم عَلَيْهَا؛ لأنَّها كالمرتَبَةِ المُتوسِّطَةِ بين الجنَّةِ والنَّارِ وهل النزاع إلاّ في ذلك؟!
الوجه الثاني : أنَّهُم أقوامٌ خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فاستشهدُوا بحبسوا بين الجَنَّةِ والنَّارِ ، وهذا داخل في القول الذي قبله؛ لأنَّ معصيتهم ساوت طاعتهم بالجهاد .

الثالث : قال عَبْدُ الله بْنُ الحَارثِ : « إنَّهُم مَسَاكِينُ أهْلِ الجَنَّةِ » .
الرابع : قيل : إنَّهُمُ الفُسَّاقُ من أهل الصَّلاة يعفو اللَّه عنهم ويسكنهم في الأعراف .
وأمّا القَوْلُ الثَّاني بأن الأعراف عبارة عن الرّجال الذين يعرفون أهل الجنّة والنَّار ، فهذا قول غير بعيد؛ لأنَّ هؤلاء الأقوام لا بدّ لهم من مكان عال ، يشرفون منه على أهل الجَنَّةِ وأهل النَّارِ .
قوله : « يَعْرِفُونَ » في محلِّ رفع نعتاً ل « رِجَال » ، و « كلاًّ » أي : كل فريق من أصْحَابِ الجنَّةِ ، وأصحاب النَّارِ .
قوله : « بِسِيمَاهُمْ » قال ابْنُ عبَّاس : « إنَّ سيما الرجل المسلم من أهل الجَنَّة بياض وجهه . قال تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] [ وكون وجوههم وجوههم ] . وكون وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة ، وكون عيونهم زرقاً » .
وقيل : إنَّ أصحاب الأعْرَافِ كَانُوا يَعْرِفُونَ المُؤمنينَ في الدنيا بظهور علاماتِ الإيمانِ والطَّاعة عليهم ، ويعرفون الكافرين في الدُّنْيَا أيضاً بظهور علامات الكُفْرِ والفِسْقِ عليهم ، فإذا شَاهَدُوا أولئك الأقوام في مَحْفَلِ القيامة ميزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدُّنْيَا ، وهذا هو المختار؛ لأنَّهُم لمَّا شاهدوا أهل الجَنَّةِ [ في الجنة ] وأهل النَّار في النَّار فأيّ حاجة إلى أن يستدلّ على كونهم من أهل الجَنَّة بهذا العلامات؟ لأنَّ هذا يجري مجرى الاستدلال على ما علم وجوده بالحسّ ، وذلك باطل .
والآية تدلُّ على أنَّ أصحاب الأعْرَافِ مختصُّون بهذه المعرفة فلو حملناه على هذا الوَجْهِ لم يبقَ لهذا الاختصاص فائدة؛ لأنَّهَا أمور محسوسة ، فلا يختص بمعرفتها شخص دون شخص .
قوله : { وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } .
والمعنى : أنَّهُم إذا نظروا إلى أهل الجنَّةِ سلّموا على أهلها والضمير في « نَادُوا » وما بعده لرجال .
وقوله : { أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } كقوله : { أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ الأعراف : 44 ] إلا أنَّهُ لم يقرأ هنا إلاّ ب « أن » الخفيفة فقط .
فصل في معنى السلام في الآية
والمعنى : يَقُولُون لهم : سلام عليكم ، وقيل : سلمتم من العقوبة ، وقوله : « وَهُمْ يَطْمَعُونَ » على هذا التأويل يعني وهم يعلمون أنَّهُمْ يدخلوها ، وذلك معروف في اللُّغَةِ أن يكون طمع بمعنى علم ، ذكره النَّحَّاسُ ، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهم أنَّ المراد أصحاب الأعراف .
قال القطربيُّ : قوله « لم يدخلوها » في هذه الجملة أوجه :
أحدها : أنَّها حال من فاعل « نَادوا » أي : نادى أهل الأعراف حال كونهم غير داخلين الجنَّة .
وقوله : « وهُمْ يَطْمَعُون » يحتمل أن يكون حالاً من فاعل « يَدْخُلُوهَا » ، ثم لك اعتباران بعد ذَلِكَ .
الأول : أن يكون المَعْنَى لم يَدخُلُوها طامِعِينَ في دخولها بل دخلوها على يأس من دخولها .
والثاني : المعنى لم يدخلوها حَالَ كونهم طامعين ، أي : لم يدخلوها بعد ، وهم في وقت عَدَمِ الدُّخُولِ طامعون ، ويحتمل أن يكون مستأنفاً خبر عنهم بأنَّهُم طامعون في الدُّخُول .

الوجه الثاني : أن تكون حالاً من مفعول « نَادوا » أي : نادوهم حال كونهم غير داخلين ، وقوله : « وَهُمْ يَطْمَعُون » على ما تقدم آنفاً .
والوجه الثالث : أن تكون في محل رفع صفة ل « رِجَالٍ » ، قاله الزمخشريُّ وفيه ضعف من حيث إنَّهُ فصل فيه بين الموصوف وصفته بجملة قوله : « ونَادَوْا » ، وليست جملة اعتراض .
والوجه الرابع : أنها لا مَحلَّ لها من الإعراب؛ لأنَّهَا جواب سائل سأل عن أصحاب الأعْرَافِ ، فقال : ما صنع بهم؟ فقالك لم يدخلوها ، وهم يَطْمَعُون في دخولها .
وقال مكي كلاماً عجيباً ، وهو أن قال : « إن حملت المعنى على أنَّهُمْ دخلوها كان » وهم يَطْمَعُونَ « ابتداءً وخبراً في موضع الحال من الضَّمير المرفوع في » يَدْخُلُوهَا « ، معناه : أنَّهم يَئِسُوا من الدُّخُول ، فلم يكن لهم طَمَعٌ في الدُّخول ، لكن دخلوا وهم على يأس من ذلك ، فإن حملت معناه أنَّهُم لم يدخلوا بعد ، ولكنهم يطمعون في الدُّخُول برحمة الله كان ابتداءً وخبراً مستأنفاً » .
وقال بعضهم : جملة قوله : « لَمْ يَدْخُلُوهَا » من كلام أصحاب الجنَّةِ ، وجملة قوله : « وهُمْ يَطْمَعُونَ » من كلام الملائكة .
قال عطاء ابن عباس : « إنَّ أصحاب الأعراف ينادون أصحاب الجنة بالسَّلام ، فيردُّون عليهم السلام ، فيقول أصحاب اللجنَّة للخَزنَةِ : ما لأصحابنا على أعراف الجنَّة لم يدخلوها؟ فتقولُ لهم الملائكة جواباً لهم وهم يَطْمَعُون » وهذا يبعد صحته عن ابن عباس إذ لا يلائم فصاحة القرآن .
فصل في معنى الآية
قال ابن الخطيب : معنى الآية أنَّهُ تعالى أخبر أنَّ أهل الأعراف ، لم يدخلوا الجنة ، ومع ذلك فهم يطمعون في دخولها .
ثم إن قلنا : إنَّ أصحابَ الأعْرَافِ هم أِراف أهل الجَّنَّةِ ، فالمعنى : أنه تعالى إنَّما جعلهم على الأعراف وأخّر إدخالهم الجَنَّة ليطلعوا على أهل الجَنَّةِ والنَّار ، ثم إنَّهُ تعالى ينقلهم إلى الدّرجات العالية كما روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال : « إنَّ أهْلَ الدَّرَجَاتِ العُلَى لَيَراهُمْ مِنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الكوكبَ الدريَّ في أفقِ السَّمَاءِ ، وإنَّ أبَا بكر وعُمَرَ مِنْهُمْ »
وتحقيق الكلام أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل القيامة فعند وقوف أهل القيامةِ في الموقف يجلس الله أهل الأعراف وهي المواضع العالية الشريفة ، فإذا أدخل أهل الجنَّة الجنة ، وأهل النار النَّار نقلهم إلى الدرجات العالية ، فهم أبداً لا يجلسون إلا في الدرجات العالية . وإن قلنا : أصحاب الأعراف هم الذين يكونون في الدَّرَجَّةِ النازلة من أهل النجاة ، فالمعنى أنَّهُ تعالى يجلسهم في الأعرافِ ، وهم يطمعون في فضل اللَّه وإحسانه أنْ يَنْقلَهُم من تلك المواضع إلى الجنة
قال الحَسَنُ : « الذي جعل الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون » .

وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)

قوله تعالى : { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ } معناه : كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النَّارِ تضرَّعُوا إلى اللَّهِ في ألاّ يجعلهم من زمرتهم .
وقرأ الأعمش : « وإذَا قلبت » وهي مخالفة للسواد كقراءة « لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ أهل النَّارِ تضرَّعُوا إلى اللَّهِ في ألاّ يجعلهم من زمرتهم .
أو وهم طامعون على أن هذه أقرب .
قوله : » تِلْقَاءَ « منصوب على ظرف المكان .
قال مكيٌّ : » وجمعه تلاقِيّ « .
قال شهابُ الدّين : » لأن « تِلْقَاء » وزنه « تِفْعَال » ك « تمثال » وتمثال وبابه يجمع على « تَفَاعِيلُ » ، فالتقت الياء الزَّائدةُ مع الياء التي هي لام الكلمة ، فأدغمت فصارت « تَلاَقِيّ » .
والتلقاء في الأصل ، مصدر ثم جُعِلَ دالاًّ على المكان أي : على جهة اللِّقَاءِ والمقابلة .
قال الوَاحِدِيُّ : « التّلقاء جهة اللِّقَاءِ ، وهي في الأصل مصدر استعمل ظَرْفاً » ، ونقل المصادر على « تِفعال » بكسر التَّاء إلاَّ لفظتان : التِّلقاء ، والمبرد عن البصريّين أنَّهُمَا قالا : لم يأت من المصادر على « تِفعال » بكسر التَّاء إلاَّ لفظتان : التِّلقاء ، والتِّبيان ، وما عدا ذلك من المصادر فمفتوح نحو : التَّرْداد والتكرار ، ومن الأسماء مكسور نحو : تِمثال وتِمْساح وتِقْصار .
وفي قوله : « صُرِفَتْ أبْصَارُهُم » فائدة جليلة ، وهو أنَّهُم لم يَلْتَفِتُوا إلى جهة النَّار [ إلا ] مجبورين على ذلك لا باختيارهم؛ لأن مكان الشرِّ محذور ، وقد تقدَّم خلاف القُرَّاء في نحو : « تِلْقَاءَ أصْحَابِ » بالنِّسبة إلى إسقاط إحْدَى الهمزتين ، أو إثباتها ، أو تسهيلها في أوائل البقرة [ 6 ، 13 ] .
و « قالوا » هو جواب « إذا » والعامل فيها .

وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)

لمَّا بين بقوله : وإذا صرت أبصارهم تلقاء أصحاب النَّار « أتبعه أيضاً بأن أصحاب الأعراف ينادون رجالاً من أهل النار ، فاستغنى عن ذكر النار؛ لأنَّ الكلام المذكور لا يليق إلا بهم ، وهو قولهم : { مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ } .
قوله : » مَا أغْنَى « يجوز أن تكون استفهامية للتوبيخ والتقريع ، وهو الظاهر ، ويجوزُ أن تكون نافية .
وقوله : » وما كنتم « » ما « مصدرية ليُنْسَق مصدرٌ على مثله أي : ما أغنى عنكم جمعكم المال والاجتماع والكثرة وكونكم مستكبرين عن قَبُولِ الحقِّ ، أو استكباركم على الناس .
وقرئ » تَسْتَكْثِرُون « بثاء مُثلثة من الكثرة .

أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)

يجوز في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنَّها في محلِّ نصب بالقَوْلِ المتقدّم أي : قالوا : ما أغنى ، وقالوا : أهؤلاء الذين أقسمتم زيادة تبكيت .
والثاني : أن تكون جملة مستقلّة غير داخلة في حيِّزِ القول ، والمشار إليهم على القَوْلِ الأوَّلِ هم أهل الجَنَّة ، والقائلون ذلك هم أهل الأعراف ، والمقول لهم هم أهْلُ النَّارِ .
[ والمعنى : وقال أهل الأعَْافِ لأهل النَّارِ ] : أهؤلاء الذين في الجنَّةِ اليوم هم الذين كنتم تحلفون أنَّهُم لا يدخلون الجنة برحمة الله وفضله ، ادخلوا الجنَّة أي : قالوا لهم ، أو قيل لهم : ادخلوا الجنة .
وأمّا على القَوْلِ الثَّاني وهو الاستئناف ، فاختلف في المشار إليه ، فقيل : هم أهل الأعرافِ ، والقائل ذلك ملك يأمره الله بهذا القَوْلِ ، والمقول له هم أهْلُ النَّارِ .
وقيل : المُشَارُ إليهم هم هل الجنَّةِ ، والقائل هم الملائكة ، والمقول لهم أهل النار .
وقيل : المُشَارُ غليهم هم أهل الجنَّةِ ، والقائل هم الملائكة ، والمقول لهم هم أهل النار .
ووقوله : « ادخُلُوا الجَنَّةَ » من قول أهل الأعراف أيضاً ] أي : يرجعون فيخاطب بعضهم بعضاً ، [ فيقولون : ادْخُلُوا الجَنَّةَ ] .
قال ابن الأنْبَارِي : إن قوله : { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ] من كلام أصحاب الأعْرَافِ ، وقوله : « ادخُلُوا » من كلام الله تعالى ، وذلك على إضْمَارِ قول أي : فقال لهم الله : ادخلوه ونظيره قوله تعالى : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ } [ الشعراء : 35 ] فهذا من كلام الملأ ، « فماذا تأمرون » ؟ فهذا من فرعون أي : فقال : فَمَاذَا تأمرون؟ أي فيقولون : ادخلوا الجنة .
وقرأ الحسن ، وابن سيرين : « أَدْخِلُوا الجَنَّةَ » أمراً من « أدخل » وفيها تأويلان :
أحدهما : أنَّ المأمور بالإدخال الملائكة ، أي : أدخلوا يا ملائكة هؤلاء ، ثمَّ خاطب البَشَر بعد خطاب الملائكة ، فقال : لا خَوفٌ عليكم ، وتكون الجملة من قوله : « لاَ خَوْفٌ » لا محلَّ لها من الإعراب لاستئنافها .
والثاني : أنَّ المأمور بذلك هم أهل الأعراف ، والتقدير : أدخلوا أنفسكم ، فحذف المفعول في الوجهين .
ومثل هذه القراءة هنا قوله تعالى : { أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ } [ غافر : 46 ] وستأتي إن شاء الله تعالى ، إلاَّ أنَّ المفعول هناك مُصَرَّحٌ به في إحدى القراءتين .
والجملة من قوله : « لا خَوْفٌ » على هذا في محلّ نصب على الحال أي : أدخلوا أنفسكم غير خائفين .
وقرأ عكرمة « دَخَلوا » ماضياً مبنيّاً للفاعل .
وطلحة وابن وثاب والنَّخَعِيُّ : « أدْخِلوا » مِنْ أدْخِل ماضياً مبنياً للمفعلو على الإخبار ، وعلى هَاتَيْنِ ، فالجملةُ المنفيَّةُ في محل نصب بقول مُقَدَّر ، وذلك القول منصوب على الحَالِ ، أي : مقولاً لهم : لا خوف .
فصل
قال الكَلْبِيُّ : ينادونهم وهم على السور : يا وَلِيد بن المغيرة ، يا أبَا جَهْلِ بن هِشَامِ ، يا فلانُ ، يا فلانُ ، ثم ينظرون إلى الجنَّة فيرون فيها الفقراء والضُّعفاء ممن كانوا يستهزئون ، بهم مثل سلمان ، وصهيب ، وخباب ، وبلال ، وأمثالهم ، فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار : « أهؤلاء » - يعني هؤلاء الصغار - « الذين أقْسَمْتُم » حلفتم { لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ } أي : حلفتم أنَّهُم لا يدخلون الجنَّة ، ثم يقال لأهل الأعراف : { ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } .

وقيل : إنَّ أصحاب الأعراف إذا قالوا لأهل النَّار ما قالوا ، قال لهم أهل النَّارِ : إن أُدخل أولئك الجنَّة فأنتم لم تدخلوها فيعيرونهم بذلك ، ويقسمون أنَّهم يدخلون النَّار ، فتقول الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف على الصّراط لأهل النار : « هؤلاءِ » - يعني أصحاب الأعراف - « الَّذينَ أقْسَمْتُمْ » يا أهل النار { لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ } ، ثم قالت الملائكة لأصحاب الأعراف : { ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُون } فيدخلون الجنَّة .

وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)

قال عطاءٌ عن ابن عباس : « لما صار أصحاب الأعراف إلا الجنَّة طمع أهل النَّار في الفرجن فقالوا : يا رب ، إنَّ لنا قرابات من أهل الجَنَّة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فأمر الله الجنة فتزحزحت فنظروا إلى قراباتهم في الجنة ، وما هم فيه من النعيم ، فعرفوهم ، ولم يعرفهم أهل الجنة لسواد وجوههم ، فَنَادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم ، وأخبروهم بقراباتهم { أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } .
قوله : » أنْ أفِيْضُوا « كأحوالها من احتمال التفسير والمصدرية ، و » مِنَ المَاءِ « متعلق ب » أفيضَوا « على أحد وجهين :
إمَّا على حذف مفعول أي : شيئاً من الماء ، فهي تبعيضية طلبوا منهم البعض اليسير ، وإمّا على تضمين » أفِيضُوا « معنى ما يتعدّى ب » من « أي : أنعموا منه بالفيض .
وقوله : { أوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ } » أو « هنا على بابها من اقتضائها لأحد الشيئين؛ إمَّا تخييراً ، أو إباحة ، أو غير ذلك مما يليق بهما ، وعلى هذا يقال : كيف قيل : حرَّمهما فأعيد الضَّميرُ مثنى وكان من حق من يقول : إنَّها لأحد الشيئين أن يعود مفرداً على ما تقرَّر غير مّرة؟
وقد أجابوا بأن المعنى : حرّم كلاًّ منهما .
وقيل : إن » أو « بمعنى الواو فعود الضمير واضح عليه .
و » مِمَّا « » ما « يجوزُ أن تكون موصولة اسميّة ، وهو الظَّاهِرُ ، والعائد محذوف أي : أو من الذي رزقكموه الله ، ويجوزُ أن تكون مصدرية ، وفيه مجازان .
أحدهما : أنَّهم طلبوا منهم إفَاضَةَ نفس الرزق مبالغة في ذلك .
والثاني : أن يراد بالمصدر اسم المفعول ، كقوله : { كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله } [ البقرة : 60 ] في أحد وجهيه .
وقال الزمخشريُّ : أو مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من غيره من الأشْرِبَةِ لدخوله في حكم الإفاضة » .
ويجوزُ أن يُراد : أن ألْقوا علينا من ما زرقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله : [ الرجز ] .
2474 - عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارداً .. . .
قال أبُوا حيَّان : وقوله : « وألْقوا علَيْنَا مِمَّا رَزَقكُمُ اللَّهُ منَ الطَّعامِ والفاكهة » يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون قوله : « أفيضُوا » ضُمِّن معنى قوله : « ألقوا علينا من الماء ، أو مما رزقكم الله » فيصحُّ العطف .
ويحتمل - وهو الظاهر من كلامه - أن يكون أضمر فعلاً بعد « أو » يصل إلى مما رزقكم اللَّهُ ، وهو « ألقوا » ، وهما مذهبان للنحاة فيما عُطفَ على شيء بحرف عطف ، والفعل لا يصل إليه ، والصَّحيحُ منهما التّضميل لا الإضمار .
قال شهابُ الدِّين : « يعني الزمخشري : أن الإفاضة أصل استعمالها في الماء ، وما جرى مجراه في المائعات ، فقوله : » أو من غيره من الأشْرِبَةِ « تصحيح ليسلّط الإفاضة عليه؛ لأنَّهُ لو حُمِلَ مما رزقكم اللَّه على الطعام والفاكهة لم يَحْسُن نسبة الإفاضة إليهما إلاَّ بتجوز ، فذكر وجه التجوز بقوله : » ألقوا « ، ثم فسَّره الشيخ بما ذكر ، وهو كما قال ، فإن العلف لا يُسند إلى الماء فيؤولان بالتضمين أي : فعلفتها ، ومثله : [ الوافر ]

2475 - . . ... وَزَجَّجْنُ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا
وقوله : [ مجزوء الكامل ]
2476 - يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحا
وقوله تعالى : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] وقد مَضَى من هذا جملة صالحة « .
وزعم بعضهم أن قوله : { أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } عام يندرج فيه الماء المتقدِّم ، وهو بعيد أو متعذّر لِلْعَطْفِ ب » أو « . والتَّحريم هنا المنع كقوله : [ الطويل ]
2477 - حَرَامٌ عَلَى عَيْنَيَّ أنْ تَطْعَمَا الكَرَى .. . . .
فصل في فضل سقي الماء
قال القرطبيُّ : » هذه الآية دليل على أن سقي الماء أفضل الأعمال « .
وقد سئل ابن عباس : أي الصّدقة أفضل؟ قال : الماء ، ألم تروا إلى أهْلِ النَّار حين استغاثوا بأهل الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو ممَّا رزقكم الله .
وروى أبو داود » أن سعداً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أي الصدقة أحب إليك؟ قال : المَاءُ ، فَحَفَر بِئراً وقال : هذه لأمِّ سَعْدٍ «
فصل في أحقية صاحب الحوض بمائه
قال القرطبي : » وقد استدلّ بهذه الآية من قالك إنَّ صاحب الحوض والقربة أحقُ بمائه ، وأن له منعه ممن أراده؛ لأن معنى قول أهل الجنَّة : { إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين } لاحق لكم فيها « .

الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)

قوله « الَّذِينَ » يجوز أن تكون في محل جر ، وهو الظاهر ، نعتاً أو بدلاً من « الكافرين » ، ويجوز أن تكُون رفعاً أو نصباً على القَطْعِ .
قوله : { اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً } فيه وجهان :
الأول : أنَّهُم اعتَقَدُوا فيه أن يلاعبوا فيه ، وما كانوا فيه مجدين .
والثاني : أنَّهُم اتخذوا اللّهو واللّعب ديناً لأنفسهم ، وهو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة ، وأخواتها ، والمكاء والتصدية حول البَيْتِ ، وسائر الخصالِ الذّميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهليّة .
قال ابن عباس : « يُريدُ المستهزئين المقتسمين » .
قوله : { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } عطف على الصّلة ، وهو مجاز؛ لأنَّ الحياة لا تغرّ في الحقيقةِ ، بل المرادُ أنَّهُ حصل الغرور عند هذه الحياة الدُّنيا؛ لأنَّ الإنسان يطمع في طول العُمْرِ ، وحسن العيش ، وكَثْرةِ المَالِ ، وقوَّة الجاهِ ، فتشتدُّ رغبته في هذه الأشياء ، ويصير محجوباً عن طلب الدين غَارِقاً في طلب الدنيا .
قوله : « فالْيَوْم » منصوب بما بعده .
وقوله « كَمَا » نعت لمصدر محذوف ، أي : ينساهم نسياناً كنسيانهم لقاءه أي برتكهم .
و « ما » مصدرية ويجوز أن تكون الكاف للتَّعليل ، أي : تركناهم لأجل نسيانهم لقاء يومهم .
و « يَوْمِهِمْ » يجوز أن يكون المفعول متّسعاً فيه ، فأضيف المصدر إليه كما يُضَافُ إلى المفعول به ، ويجوزُ أن يكون المفعول محذوفاً ، والإضافة إلى ظرف الحدثِ أي : لقاء العذاب في يومهم .
فصل في معنى « النسيان »
في تفسير هذا النسيان قولان :
الأول : هو التّركُ والمعنى نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم ، وهذا قول الحسنِ ومجاهدٍ والسُّدِّيِّ والأكثرين .
والثاني : أنَّ المعنى ننساهم أي : نعاملهم معاملة من نسي ، نتركهم في النَّار كما فعلوا في الإعراض عن آياتنا . وبالجملة فسمَّى الله - تعالى - جزاءهم بالنّسيان كقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] والمراد من هذا النسيان أنه « لاَ يُجِيْبُ دعاءَهُم ولا يَرْحمُ ضَعْفَهُمْ وذُلَّهُمْ » .
قوله : « وَمَا كَانُوا » « ما » مصدرية نسقاً على أختها المجرورة بالكاف أي : وكانوا بآياتنا يجحدون .
وفي الآية لطيف عجيبة وهي أنَّهُ - تعالى - وصفهم بكونهم كافرين ثم بيَّن من حالهم أنَّهم اتخذوا دينهم لهواً أولاً ثم لعباً ثانياً ، ثم غرتهم الحياة الدُّنيا ثالثاً ، ثم صار عاقبة هذه الأحوال أنَّهُم جحدوا بآيات الله ، وذلك يدل أنَّ حب الدُّنْيَا مبتدأ كل آفة كما قال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : « حُبُّ الدُّنْيَا رَأسُ كُلِّ خَطِيْئَةٍ » ، وقد يؤدي حبُّ الدُّنْيَا إلى الكُفْرِ والضَّلالِ .

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

الضَّميرُ في « جِئْنَاهُم » عائد على كل ما تقدم من الكَفَرةِ ، والمراد ب « كتاب » الجنس .
وقيل : يعود على مَنْ عاصر النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد بالكتاب القرآن ، والباء في « بكتاب » للتعدية فقط .
قوله : « فَصَّلْنَاهُ » صفة ل « كتاب » ، والمراد بتفصيلة إيضاحُ الحقِّ من الباطل ، أو تنزيله في فصول مختلفة كقوله : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } [ الإسراء : 106 ] .
وقرأ الجحدري وابن محيصن بالضَّادِ المعجمة أي : فضَّلْناه على غيره من الكتب السماوية .
قوله : « على عِلْمٍ » حال إمَّأ من الفاعل ، أي : فصَّلناه عالمين بتفصيله ، وإمَّا من المفعول أي : فَصّلناه مشّتملاً على علم ونكَّر « عِلْم » تعظيماً .
قوله : « هُدىً ورَحْمَةً » الجمهور على النصب وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ مفعول من أجله أي : فصَّلْناه لأجل الهداية والرحمة .
والثاني : أنَّهُ حال ، إمّا من « كتاب » وجاز ذلك لتخصصه بالوصف ، وإمّا من مفعول « فصَّلناه » .
وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيّ : « هدىً ورحمةٍ » بالجر ، وخرَّجه الكسائي والفراء على النعت ل « كتاب » ، وفيه المذاهب المشهور في نَحْوِ : [ « مررت ] برجل عَدْلٍ » ، وخرّجه غيرهما على البدل منه .
وقرئ : « هُدىً ورَحْمَةً » بالرفع على إضمار المبتدأ .
وقال مكي : « وأجَازَ الفرَّاءُ والكِسَائِيُّ » هُدىً ورَحْمَة « بالخفض ، ويجعلانه بَدَلاً من » علم « ، ويجوز » هُدىً ورحمةٌ « على تقدير : » هو هدىً ورحمةٌ « ، وكأنَّهُ لم يطَّلع على أنَّهُمَا قراءتان مَرْويَّتانِ حتّى نسبهما على طريق الجواز .
وقوله : { هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يدلُّ على أنَّ القرآن جعل هدى لقوم مخصوصين ، والمرادُ : أنَّهُم هم الذين اهتدوا به دون غيرهم ، فهو كقوله تعالى في أوَّل » البقرة « ، { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ الآية : 2 ] .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)

قد تقدَّم الكلام على « تَأويله » في [ آل عمران 7 ] .
وقال الزَّمخشريُّ هاهنا : والتَّأويل مادته من همزة وواو ولام ، مِنْ « آل يؤول » .
وقال الخطابي : أوَّلْتُ الشيء رَدَدْتُهُ إلى أوله ، واللفظة مأخوذة من الأول ، وهو خطٌ؛ لاختلاف المادتين والتأويل مرجع الشّيء ومصيره من قولهم : آل الشَّيءُ يئول .
واحتجَّ بهذه الآية من ذهب إلى أنَّ قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } [ آل عمران : 7 ] أي : [ و ] ما يعلم عاقبة الأمر فيه إلا اللَّهُ .
فصل في معنى « ينظرون »
لمَّا بيَّن إزاحة العِلَّة بسبب إنزال هذا الكتاب المفصَّل الموجب للهداية والرَّحمة بيَّن بَعْدَهُ حال من كذَّب فقال : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } ، والمعنى : هل يَنْتَظِرُونَ أي يتوقَّعون إلاّ جزاءه ، قاله مُجَاهِدٌ .
وقال السُّدِّيُّ : « عاقبته ، وما يؤول إليه » .
فإن قيل : كيف يتوقعون وينتظرون مع جحدهم وإنكارهم؟
فالجوابُ : لعلّ فيهم أقواماً تشككوا وتوقّفوا ، فلهذا السّبب انتظروه ، وأنهم وإن كانوا جاحدين إلاَّ أنَّهم بمنزلة المُنْتَظِرين من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة .
قوله : « يَوْمَ » منصوب ب « يقول » .
وقوله : { يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ } .
معناه : أنَّهُم صاروا في الإعْراضِ عنه بمنزلة من نسي ، ويجوز أن يكون معنى نسوه أي : تَرَكُوا العمل والإيمان به كما تقدَّم .
قوله : « قَدْ جَاءَتْ » مَنْصُوبَة بالقول و « بالحَقِّ » يجوز أن تكون « الباء » للحالِ ، وأن تكون للتعدية أي : جاءوا ملتبسين بالحق ، أو جاءُوا الحقّ .
والمعنى : أقرُّوا بأنَّ الذي جاءت الرُّسُلُ به من ثُبُوتِ الحَشْرِ ، والنَّشْرِ ، والبَعْثِ والقيامة ، والثواب ، والعقاب ، كل ذلك كان حقاً؛ لأنهم شاهدوها وعاينوها .
قوله : فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآء } « من » مزيدة في المبتدأ و « لنا » خبر مقدَّم ، ويجوز أن يكون « مِنْ شُفَعَاء » فاعلاً و « مِنْ » مزيدة أيضاً ، وهذا جائز عند كل أحد لاعتماد الجار على الاستفهام .
قوله : « فَيَشْفَعُوا » منصوب بإضمار « أنْ » في جواب الاستفهام فيكون قد عطف اسماً مؤولاً على اسم صريح ، أي : فهل لَنَا من شفعاء بشفاعة منهم لنا؟
قوله : « أوْ نُرَدُّ » الجمهور على رفع « نُرَدُّ » ونصب « فَنَعْمَلَ » ، فرفع « نردُّ » على أنَّه عطف جملة فعليّة ، وهي « نُردُّ » على جملة [ اسميّة ] وهي : هل لنا من شُفَعَاء فيشفَعُوا؟
ونصب « فَنَعْملَ » على ما انتصب عليه « فَيَشْفَعُوا » ، وقرأ الحسنُ برفعهما على ما تقدَّم ، كذا روى عنه ابن عطية وغيره ، وروى عنه الزمخشري نصب « نُرَدَّ » ورفع « فنعملُ » .
وقرأ أبُوا حَيْوَةَ ، وابن أبي إسحاقَ بنصبهما فنصب « نردَّ » عطفاً على « فَيَشْفَعُوا » جواباً على جواب ، ويكون الشفعاء في أحد شيئين : إمَّا في خلاصهم من العذابِ ، وإمِّا في رجوعهم للدُّنيا ليعملوا صالحاً ، والشَّفَاعَةُ حينئذ [ مستحبة ] على الخلاص أو الرَّدّ ، وانتصب « فَنَعْمَلَ » نسقاً على « فُنردَّ » .

ويجوز أن تكون « أوْ نُرَدَّ » من باب « لألزمنَّك أو تقضيني حقّي » إذا قدرناه بمعنى : حتّى تقضيني ، أو كي تقضيني ، غَيَّا اللزوم بقضاء الحق ، أو علله به فكذلك الآية الكريمة أي : حتى نُرَدَّ أو كي نرد ، والشفاعة حينئذٍ متعلِّقَةٌ بالرَّدِّ ليس إلاَّ .
وأمَّا عند من يُقدِّر و « أو » بمعنى « إلاّ » في المثال المتقدم وهو سيبويه ، فلا يظهر معنى الآية عليه؛ إذ يصير التقدير : « هل يشفع لنا شفعاء إلا أن نردّا » ، وهذا استثناء غير ظاهر .
فصل في معنى الآية
المعنى أنَّهُ لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه إلا أحَدُ هذين الأمرين ، وهو أن يشفع لنا شفيعٌ فيزول عنَّا هذا العذابُ ، أو نُردَّ إلى الدُّنْيَا حتى نعمل غير ما كنَّا نعمله حتى نوحد اللَّه بدلاً عن الكفر . ثمَّ بيَّن تعالى أنَّهُمْ { قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ } . أي الذي طلبوه لا يكون؛ لأن ذلك المطلوب لو حَصَلَ لما حكم اللَّهُ عليهم بأنَّهُم قد خَسِرُوا أنفسهم .
قوله : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } .
« ما كانوا » « ما » موصولة عائدها مَحْذُوفٌ ، و « مَا كَانُوا » فاعل « ضلَّ » ، والمعنى : أنَّهُم لم ينتفعوا بالأصْنَامِ التي عبدوها في الدُّنْيَا .
فصل في دحض شبهة للمعتزلة
قال الجُبَّائِيُّ : هذه الآية تدل على حكمين :
الأول : أنَّها تَدُلُّ على أنَّهُم كانوا في حال التَّكْلِيفِ قادرين على الإيمان والتَّوبة ، فلذلك سألوا الرّدّ ليؤمنوا ويتوبوا ، ولو كانوا في الدُّنيا غير قادرين - كما يقوله المجبرة - لم يكن لهم في الردّ فائدة ، ولا جاز أن يسألوا ذلك .
الثانيك أنَّ الآيَة تَدُلُّ على بُطْلانِ قول المجبرة بأنَّ أهْلَ الآخرة مكلفون ، لأنَّهُ لو كان كذلك لما سألوا الرّدَّ إلى حال وهم في الوَقْتِ على مثلها ، بَلْ كانوا يتوبون ويؤمنون في الحال .

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)

قد تقدَّمَ أنَّ مدار القرآن على تَقْرِير هذه المسائل الأربع وهي : التَّوحِيدُ ، والنبوةُ ، والمعادُ ، والقضاءُ والقدرُ ، ولا شك أنَّ إثبات المعاد مبنيٌّ على إثبات التَّوحيد والقدرة والعلم ، فلمَّا بالغ الله في تقرير المعادِ عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على التوحيد وكمال القُدْرَةِ والعلم ، لتصير تلك الدلائل مقررة لأصول التَّوحيدِ ، ومقررّة أيضاً لإثبات المعاد .
قوله : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله } الجمهور على رفع الجلالة خبرا ل « إنَّ » ، ويضعف أن تجعل بدلاً من اسم « إنَّ » على الموضع عند مَنْ يرى ذلك ، والموصول خبر ل « أنَّ » وكذا لو جعله عطف بيان ، ويتقوَّى هذا بِنَصْبِ الجلالةِ في قراءة بكار ، فإنَّها فيها بدلٌ ، أو بيان لاسم « إنّ » على اللفظ ، ويضعف أَن تكون خبرها عند مَنْ يرى نصب الجزءين فيها كقوله : [ الطويل ]
2478 - إذَا اسْوَدَّ جُنْحُ اللَّيْلِ فَلْتَأتِ ولتَكُنْ ... خُطَاكَ خِفَافاً إنَّ حُرَّاسَنَا أُسْدَا
وقوله : [ الرجز ]
2479 - إنَّ العَجُوزَ خبَّةً جَرُوزا ... تَأكُلُ كُلَّ لَيْلَةٍ قَفِيرْا
قيل : ويُؤيِّدُ ذلك قِرَءةُ الرَّفْعِ أي : في جعلها إيَّاهُ خبراً ، والموصول نعت لله ، أو بيان له ، أو بدل مِنْهُ ، أو يُجْعَل خبراً ل « إن » على ما تقدَّم من التخاريج ، ويجوز أن يكون معطوفاً على المَدْحِ رفعاً ، أو نصباً .
قوله : « في سِتَّةِ » حكى الواحِدِيُّ عن الليث أنَّهُ قال : « الأصل في الستّ والستّة : سدسٌ وسدسةٌ [ أبدل السين تاء ] ولما كان مخرج الدّال والتّاء قريباً ، وهي ساكنة أدغم أحدهما في الآخر ، واكتفى بالتَّاءِ ، ويدلُّ عليه أنَّكَ تقُولُ في تصغير ستة : سُديْسَةٌ ، وكذلك الأسْدَاسُ وهذا الإبدال لازم ، ويدلُّ عليه أيضاً قولم : جَاءَ فلانٌ سَادساً وسدساً وسادياً بالياءِ مثناة من أسفل قال [ الشاعر ] : [ الطويل ]
2480 - ... وَتَعْتَدُّنِي إنْ لَمْ يَقِ اللَّهُ سَادِيا
أي » سَادِساً « فأبْدَلَهَا .
فصل
قوله : { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } الظَّاهِرُ : أنَّهُ ظَرْفٌ ل » خَلْق السموات والأرض « معاً ، واسْتُشْكِلَ على ذلك أنَّ اليومَ إنَّمَا هو بطلُوعِ الشَّمْسِ وغروبها ، وذلك إنَّما هو بَعْدَ وجود السَّمواتِ والأرْضِ ، وأجَابُوا عَنْهُ بأجْوِبَةٍ منها :
أنَّ السَّتَّةَ ظرفٌ لخلق الأرض فقطن فعلى هذا يكُونُ قوله : » خلق السموات « مطلقاً لم يُقَيَّدْ بِمُدَّةٍ ، ويكون قوله : » والأرْضَ « مفعولاً بفعل مُقَدَّرٍ أي؛ وخلق الأرض ، وهذا الفعل مُقَيَّد بِمُدَّة سِتَّةِ أيَّامٍ ، وهذا قولٌ ضعيفٌ جِدّاً .
وقيل : في مِقْدَارِ سِتَّةِ أيَّامٍ من أيَّام الدُّنْيَا ، ونظيره : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 62 ] .
والمراد : على مقدار البُكْرَةِ والعَشيِّ في الدُّنْيَا؛ لأنَّهُ لا ليل ثمَّ ولا نهار .
وقيل : سِتَّةُ أيَّامِ كأيَّامِ الآخِرَةِ ، كلُّ يَوْمٍ كألْفِ سَنَةٍ .
قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : كان اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - قادِراً على خَلْق السَّمواتِ والأرْضَ في لَمْحَةٍ ولحظة ، فَخَلَقَهُنَّّ في سِتَّةِ أيَّام تعليماً لخلقه التَّثَبُّتَ ، والتَّأنِّي في الأمُور ، وقد جَاءَ في الحديث :

« التَّأنِّي من اللَّهِ والعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ »
قال القرطبيُّ : وأيضاً لتظهر قُدْرَتُهُ للملائكةِ شيئاً بعد شيء وهذا عند من يَقُولُ : خلق الملائِكَة قبل خلقِ السَّمواتِ والأرضَ ، وحكمةٌ أخَْى خلقها في ستَّة أيَّامٍ ، لأنَّ لكلِّ شيءٍ عندَهُ أجلاً ، وبين بهذا ترك مُعاجلةِ العُصَاةِ بالعقابِ؛ لأنَّ لكلِّ شَيْءٍ عندَهُ أجلاً وهذا كقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فاصبر على مَا يَقُولُونَ } [ ق : 73-37 ] بعد أن قال : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } [ ق : 38 ] .
فصل في بيان أسئلة واردة على الآية
في الآية سؤالات :
الأول : كونُ هذه الأشياء مخلوقةً في سِتَّةِ أيَّامٍ لا يمكن جعله دليلاً على إثْبَات الصَّانِعِ لوجوه .
أحدها : أن وَجْهَ دلالة هذه المحدثاتِ على وجود الصَّانع هو حُدُوثُهَا ، أو إمكانها ، أو مجموعها ، فأمَّا وُقوعُ ذلك الحدوث في ستة أيَّام ، أو في يَوْمٍ واحدٍ فلا أثَرَ لَهُ في ذلك ألْبَتَّة .
الثاني : أنَّ العَقْلَ يدل على أن الحدوث على جميع الأحوال جائز ، وإذا كان كذلك فحينئذ لا يمكن الجزم بأن هذا الحدوث وقع في سِتَّةِ أيَّامٍ إلاَّ بإخْبَارِ مخبر صادقٍ ، وذلك موقوف على العلم بوجود الإله الفاعل المختار ، فلو جعلنا هذه المُقدِّمَة مُقَدِّمَةً ، في إثبات الصَّانِعِ لزِمَ الدَّوْرُ .
الثالث : أنَّ حدوثَ السمواتِ والأرضِ دفعةً واحدة أدلُّ على كمال القُدْرَةِ والعلم من حدوثها في ستة أيَّام .
وإذَا ثبتتْ هذه الوجوهُ الثلاثةُ فنقولُ : ما الفائدةُ في ذكر أنَّهُ تعالى إنَّمَا خلقها في سِتَّةِ أيَّامٍ في إثبات ذكر ما يَدُلُّ على وجود الصَّانع؟
الرابع : ما السَّبَبُ في أنَّهُ اقْتَصَرَ هاهنا على ذِكْرِ السَّموات والأرض ، ولم يذكر خلق سائر الأشياء؟
الخامس : اليوم إنَّما يمتازُ عن اللَّيْلةِ بِطُلوع الشَّمْسِ وغروبها ، فقبل خلق السَّموات والقمر كَيْفَ يُعْقَلُ حصول الأيَّامِ؟
السادس : أنَّهُ تعالى قال : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } [ القمر : 50 ] ، وهو كالمُنَاقِضِ لقوله خلق السَّمواتِ والأرض .
السابع : أنَّهُ تعالى خلق السَّمواتِ والأرض في مدة متراخية فما الحكمة في تَقْييدها بالأيام الستَّةِ؟
والجوابُ على مذهب أهْلِ السُّنَّةِ واضحٌ؛ لأنَّهُ تعالى يفعل ما يشاءُ ، ويحكمُ ما يريدُ ، ولا اعتراض عليه في أمْرٍ من الأمُورِ ، وكلُّ شيء صنعه ولا علَّةَ لصُنْعِهِ ، ثم نَقُولُ :
أمّا الجوابُ عن الأوَّل أنَّهُ تعالى ذكر في أوَّلِ التَّوْراةِ أنَّهُ خلق السَّمواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيَّامٍ ، والعربُ كانُوا يخالطون اليهودَ والظَّاهِرُ أنَّهُم سَمِعُوا ذلك منهم ، فَكَأنَّهُ سبحَانَهُ يقُولُ : لاّ تَشْتَغِلُوا بعبادَةِ الأوثان والأصنام ، فإنَّ ربَّكُم هو الذي سمعتم من عقلاء النَّاسِ أنَّهُ هو الذي خلقَ السَّموات والأرْضَ على غَايَةٍ عظمتها في ستَّةِ أيَّامٍ .
وعن الثالث : أن المَقْصُودَ منه أنَّهُ تعالى وإن كان قَادِراً على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنَّهُ جعل لَكُلِّ شيءٍ حداً مَحْدُوداً ، ووقتاً مقدراً ، فلا يُدْخِلُهُ في الوُجُودِ إلاَّ على ذلك الوَجْهِ ، فَهُوا ، وإنْ كَانَ قادراً على إيصال الثَّوابِ للمطيعين في الحالِ ، وعلى إيصالِ العقاب للمذنبينَ في الحالِ ، إلاَّ أنَّهُ يؤخرهما إلى أجلٍ معلُومٍ مقدورٍ ، فهذا التَّأخِيرُ ليس لأجَلِ أنَّهُ تعالى أهمل العِبَادَ ، بل لما ذكرنَا أنَّهُ خصَّ كلَّ شيءٍ بوقُتٍ معيَّن لسابِقِ مشيئتِهِ ، فلا يفتر عنه ، ويَدُلُّ على ذلك قوله تعالى :

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ ق : 38 ] .
وقال المُفَسِّرُونَ : إنَّهُ تعالى إنَّما خَلق العالمَ في ستَّةِ أيَّامٍ ليعلِّم عباده الرِّفْقَ في الأمُورِ كما تقدَّم عن سعيد بْنِ جُبَيْرٍ .
وقال آخرون : « إنَّ الشَّيْءَ إذا أحدث دَفْعَةً واحدة ثم انقطع طريقُ الإحداثِ ، فَلَعَلَّهُ يَخْطُرُ ببالِ بعضهم أنَّ ذلك إنَّما وقع على سبيل الاتَّفَاقِ ، أمَّا إذَا حدثَتِ الأشْيَاءُ على سبيل التَّعَاقُبِ والتَّواصُلِ مع كونها مطابقة للمَصْلَحَةِ والحكمة كان ذلك أقْوَى في الدِّلالةِ على كونِهَا واقعةً بإحداث مُحْدِثٍ حكيم وقادر عليم » .
وعن الرابع : أنَّهُ تعالى ذكر سَائِرَ المخْلُوقَاتِ في سَائرِ الآيات فقال : { الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ } [ السجدة : 4 ] .
وقال : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [ الفرقان : 85 -59 ] .
وعن الخامس : قوله أنَّ المراد أنَّهُ تعالى خلق السَّموات ، والأرضَ في مقدار سِتَّةِ أيَّام كما تقدَّم .
وقال بعضُ العُلماءِ : المراد بالستَّةِ أيَّامٍ هاهنا مراتب مصنوعاته؛ لأنَّ قبل الزَّمَانِ لا يمكن تجدد الزَّمَانِ ، والمراد بالأيام السَّتَّة : يومٌ لمادة السموات ، ويوم لصورتها ، ويوم لكمالاتها من الكواكب ، والنُّفُوسِ ، وغيرها ويوم لمادة الأرْضِ ويوْمٌ لصورتها ويوم لكمالاتها من الجبال وغيرها ، فاليَوْمُ عبارة عن الكون الحادث .
وعن السادس : أنَّ قوله : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } [ القمر : 50 ] محمولٌ على إيجاد كُلِّ واحد من الذَّواتِ وعلى إعدام كل واحد منها؛ لأنَّ إيجاد الموجودِ الواحدِ لا يقبل التَّفَاوُتَ ، فلا يمكن تحصيله إلا دفعة ، وأمَّا الإمْهَالُ فلا يَحْصُلُ إلاَّ في المدَّةِ .
وعن السابع : أنَّ هذا السُّؤالَ غير وارد ، لأنَّهُ تعالى لو أحدثته في مِقْدَارِ آخر من الزَّمانِ لعَادَ السُّؤالُ .
قوله : « ثُمَّ اسْتَوَى » الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّميرِ على الله - تعالى - بالتَّأويل المذكُورِ في البقرةِ .
وقيل : الضَّمِيرُ يعود على الخَلْق المَفْهُوم من « خَلَقَ » ثم اسْتَوَى خَلْقُه على العَرْشِ ، ومثله : { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ] قالوا : يُحتمل أن يَعثودَ الضَّميرُ في « اسْتَوَى » على « الرَّحْمِن » ، وإنْ يعود على الخَلْقِ ، ويكون « الرَّحْمن » خبراً لمبتدأ محذوف أي : هو الرَّحْمنُ .

والعرشُ : يُطْلَقُ بإزاء معانٍ كثيرة ، فمنه سَرِيرٌ الملكِ ، وعليه ، { نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } [ النمل : 41 ] ، { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش } [ يوسف : 100 ] ، ومنه السُّلْطَان والعزُّ وعليه قول زهير : [ الطويل ]
2481 - تَدَارَكْتُمَا عَبْساً وقَدْ ثُلأَّ عَرْشُهَا ... وذُبْيَانَ إذْ زَلَّتْ بأقْدَامِهَا النَّعْلُ
وقول الآخر : [ الكامل ]
2481 - إنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ ... بِرَبيعَةَ بْنِ الحَارِثِ بْنِ شِهَابِ
ومنه : خشب تُطوى به البِئرُ بعد أنْ يُطْوى بالحِجَارَةِ أسفلُها ومنه : ما يُلاقِي ظَهْرُ القَدَم وفيه الأصَابع ، ومنه : السَّقْفُ ، وكلُّ ما علاك فهو عَرْشٌ ، فَكَأنَّ المَادَّةَ دائرةُ مع العُلُوِّ والرِّفعة ومنه عَرْشُ الكَرمِ ، وعرشُ السِّمَاكِ أرْبَعَةُ كواكب صغار أسفل من العَوَّاء يقال إنَّها عَجُز الأسَدِ .
والعَرْشُ : اسم ملك والعَرْشُ المَلِكُ والسُّلطَانُ . يقال : قد ذهب عرش فلان أي : ذهب مُلْكُهُ وعِزهُ وسُلْطَانُهُ قال زُهَيْرٌ : [ الطويل ]
2483 - تَدَارَكْتُمَا عَبْساً وَقَدْ ثُلَّ عَرْشُهَا ... وذُبْيَانَ إذْ زَلَّتْ بأقْدَامِهَا النَّعْلُ
وقد تُؤُوِّل العَرْشُ في الآيَةِ بمعنى الملكِ أي : ما استوى الملِكُ الإلَهُ عزَّ وجلَّ .
فصل في تنزيه الله تعالى
قال القرطبي : الأكثَرُ من المتقدِّمينَ والمتأخِّرينَ على أنَّهُ إذا وجب تَنْزيهُ البَارِي سبحانه على الجِهَةِ والتَّحَيُّزِ ، فمن ضرورة ذلك ولوازمه عِنْدَ عامَّة العُلَمَاءِ المُتقدِّمينَ ، وقادتِهِمْ من المتأخِّرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهَةِ ، فَلَيْسَ بجهة فوض عِنْدَهُمْ؛ لأنَّهُ يلزمُ من ذلك عِنْدَهُم متى اختص بجهة أنْ يكون في مكان وحيِّزٍ ، ويلزمُ على المكان والحيِّزِ الحركةُ والسُّكُونُ ، ويلزم من الحركةِ والسُّكُونِ التَّغَيُّرُ والحُدُوثُ ، هذا قول المتكلِّمينَ وقد كان السَّلَفُ الأولُ - رضي الله عنهم - لا يقولون بنفي الجهةِ ، ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا هم والكَافَّةُ بإثْبَاتِهَا لله - تعالى - كما نَطَقَ كِتَابهُ ، وأخبرت [ رسله ] ، ولم ينكر أحدٌ من السَّلَفِ الصَّالِح أنَّهُ استوى على عَرْشِهِ حقيقة ، وخُصَّ العَرْشُ بذلك؛ لأنَّهُ أعْظَمُ مخلوقاته وإنما جهلوا كيفية الاسْتِوَاءِ ، فإنَّهُ لا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ ، كما قال مالكٌ - رحمه الله - : « الاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ - يعني في اللغة - والكيْفُ مَجْهُولٌ ، والسُّؤالُ عن هذا بِدْعَةٌ » ، وكذلك قالت أمُّ سلمة - رضي الله عنها - ، وهذا القدرُ كافٍ .
فصل في معنى الاستواء
فإن قيل الاستواءُ في اللُّغَةِ : هو العُلُوُّ والاسْتِقْرَارُ .
قال الجَوْهَرِيُّ : « استوى من اعْوِجَاج ، واستوى على ظَهْرِ دابّتهِ أي : استقرَّ ، واستوى إلى السَّمَاءِ أي قَصَدَ ، واستوى أي : اسْتَوْلَى ، وظهر؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
2484 - قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ ... واستوى الرَّجُلُ أي : انتهى شبابُهُ ، واستوى الشَّيءُ أي : اعتدل ، وحكى ابْنُ عَبْدِ البرِّ عن أبي عُبَيْدَةَ في قوله تعالى : { الرحمن عَلَى العرش استوى } قال : » عَلاَهُ « .
قال الشِّاعِرُ : [ الطويل ]
2485 - وَقَدْ خُلِقَ النَّجْمُ اليَمَانِيُّ واسْتَوَى ... أي : علا وارتفع .
قال القرطبيُّ : علوُّ الله - تعالى - وارتفاعُهُ عبارةُ عن علوِّ مَجْدِهِ ، وصفاتِهِ ، وملكُوتِهِ أي : ليس فوقَهُ فيما يجبُ له من تعالي الجلال أحد [ ولا مَعَهُ من يكون العلو مُشْتَركاً بينه وبينه لكن العليّ بالإطلاق سبحانه ] .

فصل في تأويل الآية
قال ابن الخطيب اعلم أنَّهُ لا يمكن أن يكونَ المراد من الآية كونه مُسْتَقِرّاً على العَرْشِ ، ويدلُّ على فَسَادِهِ وجوهٌ عقليَّةٌ ونقليَّةٌ : إمَّا العقليَّةُ فأمُورٌ :
أحدها : أنَّهُ لو كان مستقرّاً على العرش لكان من الجانب الَّذِي يلي العَرْشَ مُتَنَاهِياً ، وإلاّ لزمَ كونُ العَرْشِ داخلاً في ذاتِهِ ، وهو محالٌ وكل ما كَانَ مُتَنَاهِياً فإنَّ العقلَ يقتضي بأنَّهُ لا يمنع أن يصير أزْيَدَ منه أو أنقص منه بذرَّةٍ ، والعلمُ بهذا الجواز ضروريٌّ ، فلو كان البَاري - تعالى - متناهياً من بعض الجوانبِ لكانت ذاتُهُ قابِلَةً للزِّيَادَةِ والنُّقصان ، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بذلك المقدار المعين؛ لتخصيص مخصِّصِ وتقدير مُقَدِّرٍ ، وكل ما كان كذلك فَهُوَ مُحْدَثٌ فثبت أنَّهُ تعالى لو كان على العرش؛ لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهياً ولو كان كذلك لكان مُحْدَثاً وهذا مُحَالٌ فكونه على العَرْشِ يجب أن يكون مُحَالاً .
وثانيها : لو كان في مكانٍ وجهة ، لكان إمَّا أنْ يكُونَ غير مُتَنَاهٍ من كلِّ الجهات ، وإمَّا أن يكون متناهياً من كلِّ الجهاتِ ، وإمَّا أن يكون متناهياً عن بعض الجهاتِ دون البَعْضِ ، والكلُّ باطلٌ فالقولُ بكونه في المكانِ والحيِّزِ بَاطِلٌ قطعاً .
بيان الأول : أنَّهُ يلزم أن تكون ذاتُهُ مخالطة لجميع الأجسام السُّفْلِيَّةِ والعلويَّة ، وأنْ تكون محالطة للقَاذُورَاتِ والنَّجَاسات ، وتكون الأرْضُونَ أيضاً حالةً في ذاتِهِ .
وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ الذي هو محل السَّمواتِ ، إمَّا أن يكون هو عين الشَّيءِ الذي هو محلُّ الأرضين ، أو غيره فإن كان الأوَّل؛ لزم كون السَّموات ، والأرضين حالتين في محلٍّ واحد من غير امتياز بين محليهما أصْلاً ، وكلُّ حالين حلا في محلٍّ واحد لم يكن أحدهما ممتازاً عن الآخر فلزم أن يقال السماوات لا تمتاز عن الأرضين في الذَّاتِ ، وذلك باطل فإن كان الثَّاني لَزِمَ أن تكون ذاتُ اللَّهِ تعالى مركَّبةً من الأجزاء والأبعاض وهو مُحَالٌ .
والثالث : وهو أنَّ ذَاتَ اللَّهِ تعالى إذَا كانت حَاصِلَةٌ في جميع الأحياز والجهات فإمَّا أن يُقَالَ الشَّيْءُ الذي حصل فوق هو عَيْن الشَّيءِ الذي حصل تحت فحنيئذ تكون الذَّاتُ الواحدة قد حصلت دفعة واحدة [ في أحيازٍ كَثِيرَةٍ وإنْ عُقِلَ ذلك فلم يُعْقَلُ أيضاً حصولُ الجسم الوَاحِدِ في أحْيَازٍ كثيرةٍ دَفْعَةً واحدةً؟ ] وهو مُحَالٌ في بديهة العقل ، وأمَّا إنْ قيل إنَّ الشَّيء الذي حصل فوق غير الشيء الذي حصل تحت ، فحينئذ يلزمُ حصولُ التركيب والتَّبْعيض في ذَاتِ اللَّه تعالى وَهُوَ مُحَالٌ .
وأما القِسْمُ الثَّانِي ، وهو أن يُقَالَ إنَّهُ متناهٍ من كلِّ الجهاتِ فنقولُ : كل ما كان كذلِكَ فهو قَابِلٌ للزيادةِ والنُّقْصَانِ في بديهة العَقْلِ ، وكلَّما كان كذلك كان اختصاصه بالمقْدَرِ المُعَيَّنِ لأجل تخصيص مُخَصِّصٍ وكلُّ ما كان كذلك فهو محدث ، وأيضاً فإنَّ جَازَ أن يكُونَ الشَّيءُ المَحْدُودُ من كلِّ الجوانب قديماً أزلياً فاعلاً للعالم فلم لا يُعْقَلُ أن يُقال : خالقُ العالم هو الشَّمْسُ ، أو القَمَرُ ، أو كوكبٌ آخرُ وذلك بَاطِلٌ بالاتِّفاق .

وأما القِسْمُ الثالثُ ، وهو أنْ يُقالَ بأنَّهُ متناهٍ من بعض الجوانبِ ، وغير مُتَنَاهٍ من سائر الجوانبِ فهذا أيضاً بَاطِلٌ من وجوه :
أحدها : انَّ الجانب المُتَنَاهي غير ما صدق عليه أنَّهُ غير مُتَنَاهٍ إلا لصدق النقيضين معاً وهو محالٌ ، وإذا حصل التَّغاير لزم كونه تعالى مُرَكَّباً من الأجْزَاءِ والأبعاض .
وثانيها : أنَّ الجانبَ الذي صدق حُكْمُ العَقْلِ عليه بكونه متناهياً ، إمَّا أن يكون مساوياً للجانب الذي صدق حكم العَقْل عليه بكونِهِ غير مُتَنَاهٍ ، وإمَّا ألاَّ يكون كذلك ، والأوَّلُ بَاطِلٌ لأنَّ الأشياء المتساويةَ في تمام الماهِيَّةِ ، كُلُّ ما صحَّ على واحد منها صَحَّ على الآخر البَاقِي ، وإذا كان كذلك فالجانبُ الذي هو غير متناهٍ يمكن أن يَصير مُتناهِياً والجانب الذي هو متناه يمكن أن يصيرَ غير متناهٍ .
ومتى كان الأمر كذلك كان النموُّ والذُّبول والزِّيادةُ والنُّقصانُ ، والتَّفرُّقُ والتَّمَزُّقُ على ذاته ممكناً وكل ما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ ، وذلك على الإله القديم مُحَالٌ .
البرهانُ الثالث : لو كان البَارِيءُ - تعالى - حَاصِلاً في المكان والجهة لكان الأمْرُ المُسَمَّى بالجِهَةِ إمَّا أن يكون موجوداً مشاراً إليه ، وإما ألاَّ يَكُونَ كذلك ، والقِسْمَانِ باطلانِ ، فكان القول بكونه تعالى في المكانِ والجهةِ باطلاً .
أمَّا بيانُ فَسَادِ القِسْمِ الأوَّلِ ، فلأنَّهُ لو كان المُسَمَّى بالحيِّز والجهةِ موجوداً مُشَاراً إليه ، فحينئذ يكون المُسَمَّى بالحيِّز ، والجهة بُعْداً ، وامتداداً ، والحاصل فيه أيضاً يجب أن يكون له في نَفْسِهِ بَعْدٌ وامتدادٌ ، وإلا لامتنع حُصُولُهُ فيه وحينئذٍ يَلْزَمُ تداخُلُ البُعْدَيْنِ ، وذلك مُحَالٌ للدَّلائِلِ المَشْهُورةِ في هذا الباب . وأيضاً؛ فَيلْزَمَ من كون البَارئ قديماً أزليّاً كون الحيِّز ، والجهة أزَليِّيْن ، وحينئذٍ يلزمُ أن يكون قد حَصَلَ في الأزَلِ موجودٌ قائمٌ بنفسه سوى الله وذلك باطل بإجْمَاعِ أكثر العقلاء .
وأمَّا بيانُ فسادِ القسم الثَّانِي فَهُوَ من وجهين :
أحدهما : أنَّ العدمَ نفي مَحْضٌ ، وعدم صرف ، وما كان كذلك امتنع كونه ظَرْفاً لغيره ، وجهة لغيره .
[ وثانيهما : أنَّ كُلَّ ما كان حاصلاً في جهة فجهته مُمْتَازَةٌ في الحسِّ عن جهة غيره ولو كانت تلك الجهة عدماً محضاً لزم كونُ العدمِ المحض مُشَاراً غليه بالحسِّ وذلك باطلٌ؛ فثبت أنَّهُ تعالى لو كان في حيِّزٍ وجهةٍ لأفضى إلى أحد هذين القِسْمين البَاطليْنِ؛ فوجب أنْ يَكُون القَوْلُ به بَاطِلاً ] .
فإن قيل : فَهذَا أيضاً واردٌ عليكم في قولكم : الجِسْمُ حَاصِلٌ في الحيِّزٍ والجهةِ فنقول : نَحْنُ على هذا الطَّريقِ لا نُثْبِتُ للجِسْمِ حَيْزاً ، ولا جهة أصْلاً ألْبَتَّة ، بحيث تكُونَ ذات الجِسْمِ نافذة فيه وسَارِيَةً ، بل المكانُ عبارة عن السَّطْحِ الباطنِ من الجِسْمِ الحاوي المماسّ للسَّطْحِ الظَّاهِرِ من الجسم المَحْوِيِّ ، وهذا المعنى مُحَالٌ بالاتِّفاق في حقّ الله - تعالى - فسقط هذا السُّؤالُ ، وبقيَّةُ البراهيم العَقْليَّة مذكورةٌ في تفسير ابن الخطيب .

وأمَّا الدَّلائل السَّمْعيَّةُ فَمِنْهَا قولُهُ تعالى : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] . فوصفه بكونه أحَداً ، والأحد مبالغةٌ في كونه واحداً والذي يمتلىءُ منه العَرْشُ ، ويفضل على العرش يكون مُرَكَّباً من أجزاء كثيرة جداً فوق أجزاءِ العَرْشِ ، وذلك يُنَافِي كونه أحَداً .
وقال بعَث الكرَّامِيَّة عند هذا الإلْزَامِ : إنَّهُ تعالى ذاتٌ واحدةٌ ، [ ومع كونه ذاتاً واحدة حَصَلَتْ في كلِّ هذا الأحْيَازِ دفعةً واحدةً قالوا : فلأجْلِ أنَّهُ تعالى حصل ] دفعة واحدة في جَميع الأحْيَازِ امتلأ العَرْشُ منه ، فَيُقَالُ لهم : حَاصِلُ هذا الكلام يرجع أنَّهُ يَجُوزُ حصول الذَّاتِ الشَّاغلة للحيِّز والجهة في أحْيَازٍ كثيرةٍ دفعةً واحدة ، والعقلاءُ اتَّفَقُوا على أنَّ العلمَ بفسادِ ذلك من أجلِّ العُلُومِ الضروريَّةِ أيضاً ، وأيضاً فإنْ جوَّزتم ذلك فلِمَ لا تُجَوِّزُونَ أن يقال : جَمِيعُ العالم من العَرْشِ إلى ما تَحْتَ الثَّرَى جَوْهَرٌ واحد ، ومَوْجُودٌ واحد ، إلا أنَّ ذلك الجزء الذي لا يَتَجَزَّأ حصَلَ في جملة هذه الأحْيَازِ ، فَيظَنُّ أنَّهَأ أشياء كثيرة ، ومعلوم أنَّ من جوَّزَهُ ، فقد التزم مُنْكراً من القول عظيماً .
فإن قالوا : إنَّمَا عرفنا هَا هُنَا حصول التَّغَايُرِ بين هذه الذَّوَاتِ ، لأنَّ بعضها يَفْنَى ، بع بَقَاءِ البَاقِي ، وذلك يوجب التَّغَايرَ ، وأيضاً فنرى بَعْضَهَا متحرِّكٌ وبعضها ساكِنٌ ، والمُتَحرِّكُ غير السَّاكِنِ؛ فوجب القولُ بالتَّغايُرِ ، وهذا المعانِي غير حاصلةٍ في ذَاتنِ اللَّه - تعالى - فظهر الفَرْقُ ، فنقول : أمَّا قَوْلَكُمْ : بأنّا نُشَاهِدُ أنَّ هذا الجُزْءَ يبقى مع أنَّهُ يفنى ذلك الجزء الآخر ، وذلك يُوجِبُ التَّغَايُرَ ، فلا نسلم أنَّه فني شيء من الأجزاء ، بل نقول : لِمَ لا يجوز أن يقال : إنَّ جميع أجزاء العالم جزءٌ واحد فقط ، ثم إنَّهُ حصل هاهنا وهناك .
وأيضاً جعل موصوفاً بالسَّوادِ والبياضِ ، وجميع الألوان والطُّعُومِ ، فالذي يفتى إنَّمَا هو حُصُولُهُ هناك ، فأمَّا أن يقال : إنَّهُ فني في نَفْسِهِ ، فهذا غير مسلم .
وأمَّا قولكم : نَرَى بعض الأجسام مُتَحَرِّكاً ، وبعضها ساكناً ، وذلك يُوجِبُ التَّغَايُرَ؛ لأنَّ الحركة والسُّكُونَ لا يجتمعان فنقولُ : إنا حكمنا بأنَّ الحركةَ والسُّكُونَ لا يجتمعان .
لاعتقادنا أنَّ الجِسْمَ الواحِدَ لا يَحْصُلُ دفعة واحدة في حيزين ، فإذا رَأيْنَا أنَّا السَّاكِنَ بقي هاهنا ، وأن المُتَحَرِّكَ ليس هاهنا ، قَضَيْنَا أنَّ المُتَحَرِّكَ غير السَّاكِن .
ومَّا بِتَقْدِيرِ أن يجوز الذَّاتِ الواحدة حاصلة في حيزِّين دفعة واحدة ، فلم يمتنع كون الذَّاتِ الواحدة متحرِّكَةً سَاكِنَةٌ معاً؛ لأنَّ أقْصَى ما في البابِ أنَّهُ بسبب السُّكُونِ بقي ها هنا وبسبب الحركة حصل في الحيِّزِ الآخر ، إلا أنّا لمَّا جوَّزنا أن تحصلَ الذَّاتُ الواحدةُ دَفْعَةً واحدَةً في حيِّزين معاً ، لم يبعد أن تكون الذَّاتُ السَّاكِنَةُ هي غَيْرُ الذَّاتِ المتحرِّكةُ ، فثبت أنَّهُ لو جَازَ أن يقالك إنَّهُ تعالى ذاته واحدة ، لا تقبل القِسْمَةَ ، ثمَّ مع ذلك يمتلىء العرشُ منه لم يبعد أن يقال : إنَّ العَرْشَ في نفسه جَوْهَرٌ فَرْدٌ جزء لا يتجزَّأُ ، ومع ذلك فقد حَصَلَ في كلِّ تلك الأحْيَازِ ، وحصل منه كل العرش ، وذلك يُفْضِي إلى فتح باب الجَهَالاتِ .

ومنها قوله تعالى : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [ الحاقة : 17 ] فلو كان إلهُ العالم في العرش لكان حَامِلٌ العرشِ حامِلاً للإله؛ فوجب أن يكون مَحْمُولاً حاملاً ومحفوظاً حَافِظاً ، وذلك لا يقُولُهُ عاقل .
ومنها قوله تعالى : { والله الغني } [ محمد : 38 ] حكم بِكَوْنِهِ غَنِيّاً على الإطْلاقِ ، وذلك يوجب كَوْنَهُ تعالى غنيّاً عن المكان والجهة .
ومنها أنَّ فِرْعَوْنَ لمَّا طَلَبَ حقيقة الإلهِ من موسى - عليه السلام - ولم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرَّات فإنه قال : { وَمَا رَبُّ العالمين } [ الشعراء : 23 ] ففي المرة الأولى قال { رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } [ الشعراء : 24 ] .
وفي المرَّة الثَّانية قال : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين } [ الشعراء : 26 ] .
وفي المرة الثالثة قال : { رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } [ الشعراء : 28 ] . وكلُّ ذلك إشارة إلى الخلاقية ، وأمّا فرعون فإنَّهُ قال : { ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى } [ غافر : 36 ، 37 ] فطلب الإله في السَّماءِ ، فعلمنا أنَّ وصف الإله بالخلاقية ، وعدم وصفه بالمَكَانِ والجهة دين موسى وجميع الأنبياء ووصفه تعالى بكونه في السَّماءِ دينُ فرعون ، وإخوانه مِنَ الكَفَرَةِ .
ومنها قوله تعالى في هذه الآية : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } .
وكلمة « ثم » للتراخي وهذا يدلُّ على أنَّهُ تعالى إنَّمَا استوى على العرش بعد تخليق السموات والأرض ، فإنْ كان المُرَادُ من الاستواء الاستقرار؛ لَزِمَ أن يقال : أنَّهُ ما كان مستقراً على العرش ، بل كان مُعْوَجاً مُضطرباً ، ثم استوى عليه بعد ذلك ، وذلك يُوجِبُ وصفه بصِفَاتِ الأجْسضامِ من الاضطراب والحركة تَرَاةً ، والسُّكون أخرى ، وذلك لا يَقُوله عاقِلٌ .
ومنها طَعْنُ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في إلهية الكواكب بكونها آفلة غاربة ، فلو كان إله العالم جِسْماً ، لكان أبداً غارباً آفلاً وكان متنقلاً من الاضطراب والاعوجاج إلى الاستواء والسكون والاستقرار ، فكلّ ما جعله طعناً في إلهية الكواكب يكون حاصلاً في إله العالمِ فكيف يمكن الاعتراف بإلهيته؟! .
ومنها أنَّهُ تعالى ذكر قبل قوله : { ثُمَّ استوى } شيئاً ، وبعده شيئاً آخر ، أمّا المذكُورُ قبل هذه الكلمة فهو قوله : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض } وذلك يدلُّ على وُجُود الصَّانِع ، وقدرته ، وحكمته .
وأما المذكورُ بعد هذه الكلمة فأشياء أوَّلُهَا : { يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } ، وذلك يَدُلُّ على وجود الله تعالى ، وعلى قدرته وحكمته .
وثانيها : قوله : { والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ } وهذا أيضاً يَدُلُّ على الوُجُودِ ، والقُدْرَةِ والعلم .

وثالثها : قوله : { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر } ، وهو أيضاً إشارة إلى كمال قُدْرَتِهِ ، وحكمته .
وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ : أوَّلُ الآية إشارة إلى ذِكْرِ ما يَدُلُّ على الوُجُودِ والقدرة والعلم ، وآخر الآية يَدُلُّ أيضاً على هذا المطلوب ، وإذا كان كذلك فقوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } يَجِبُ أيضاً أن يكون دليلاً على كمالِ القُدْرَةِ والعلم؛ لأنَّهُ لو لم يَدُلَّ عليه ، بل كان المراد كونه مستقِرّاً على العَرْشِ لا يمكن جعله دليلاً على كَمَالِهِ في القُدْرَةِ ، والعلم ، والحكمة ، وليس أيضاً من صِفَاتِ المَدْحِ والثَّنَاءِ ، لأنَّهُ تعالى قادر على أن يُجْلس جميع البَقِّ والبَعُوضِ على العرش ، وعلى ما فَوق العرش ، فثبت أنَّ كونه جالساً على العَرْشِ ليس من دلائل إثبات الذَّاتِ والصِّفاتِ ، ولا من صِفَاتِ المَدْح والثَّنَاءِ ، فلو كان المراد من قوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } كونه جالساً على العرش ، لكان ذلك كلاماً أجْنَبِياً عمّا قبله وعمّا بعده ، وذلك يوجب نِهِايَةَ الرَّكاكةِ؛ فثبت أنَّ المراد منه ليس ذلك بَلِ المُرَادُ منه : كمال قدرته في تَدْبير المُلْكِ ، والملكوت ، حتّى تصير هذه الكلمة مُنَاسِبَةٌ لما قبلها ، ولما بَعْدَهَا ، وهو المَطْلُوبُ .
وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ : إنَّ قولهُ تعالى : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } من المُتشابِهَاتِ التي يجب تأويلها ، وللعلماء هاهُنَا مذهبان .
الأول : أن يُقْطَعَ بكونه تعالى مُتَعَالِياً عن المكان والجهة ، ولا نخوض في تأويل الآية على التَّفْصِيل ، بل نُفَوِّض عِلْمَهَا إلى الله - تعالى - ونَقُولُ : الاستواءُ على العَرَشِ صفةٌ لله - تعالى - بلا كيف يَجِبُ على الرَّجُلِ الإيمان به ، ونَكِلُ العلم فيه إلى الله - عزَّ وجلَّ - ، وسأل رجلٌ مَالِكَ بْنَ أنَس عن قوله : { الرحمن عَلَى العرش استوى } كيف استوى فأطرق رَأسَهُ مليّاً ، وعلاه الرحضاء ، ثم قال : الاستواءُ مَجْهُولٌ ، والكيف غَيْرُ مَعْقُولٍ ، والإيمانُ به وَاجِبٌ ، والسُّؤالُ عند بدعة ، وما أظُنُّكَ إلا ضالاًّ ، ثم أمرَ به ، فأخرج .
ورُوِيَ عن سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، والأوْزَاعِيِّ ، واللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وسفيان بْنِ عُيَيْنَةَ ، وعَبْدِ الله بْنِ المُباركِ ، وغيرهم من علماء السُّنَّة في هذه الآيات التي جاءت في الصِّفاتِ المتشابهة ، أنْ نُوردَهَا كما جاءت بلا كَيْف .
والمَذْهَبُ الثَّانِي : أن نخوضَ في تَأويلهِ على التَّفْصيلِ ، وفيه قولان :
الأول : ما ذكره القَفَّالُ - رحمه الله - فقال : العَرْشُ في كلامهم : هو السريرُ الذي يجلس عليه المَلِك ، ثم جعل العرش كِنَايَةً عن نَفْسِ المُلْكِ .
يقال : ثلَّ عَرْشُهُ أي : انتقض مُلْكُهُ وَفَسَدَ ، وإذا استقام له ملكه واطّرد أمْرُهُ وحكمه قالوا : اسْتَوَى على عَرْشِهِ واستقرَّ على سرير مُلْكِهِ ، وهذا نظيرُ قولهم للرَّجُلِ الطويل : فلان طَوِيلُ النِّجَادِ ، وللرَّجُلِ الذي تكثر أضْيَافُهُ : كثيرُ الرَّمَادِ وللرَّجُلِ الشِّيْخ فلان اشتعَلَ الرَّأسُ منه شَيْباً ، وليس المرادُ بشيء من هذه الألْفَاظِ إجراءَها على ظَوَاهِرهَا إنَّمَا المُرَادُ منها تعريف المَقْصُود على سبيل الكِنَاية ، فكذا هاهنا المُرَادُ من الاستواءِ على العَرْشِ نفاذُ القُدْرَةِ وجريان المشيئَة ، كما إذا أخبر أنَّ له بيتاً ، يجب على عِبَادِهِ حجُّهُ ، فَهِمُوا منه أنَّهُ نصب لهم موضعاً يَقْصِدُونَهُ لمسألة ربِّهِمْ ، وطَلبِ حوائجهم ، كما يقصدون بيوتَ المُلُوكِ لهذا المطلوب ، ثم عَلِمُوا منه نَفْيَ التَّشبيه ، وأنَّهُ لم يجعلْ ذلك البيتَ مَسْكناً لنفسه ، ولم ينتفع به في دَفْع الحرِّ والبرْدِ عن نفسه ، وإذا أمرهم بِتَحْميدِهِ ، وتَمْجِيدِهِ؛ فهموا منه أنه أمرهم بنهايةِ تَعْظِيمهِ ، ثمَّ عَلِمُوا بعقولهم أنَّهُ لا يفرح بِذلِكَ التَّحْمِيدِ والتَّعْظِيم ، ولا يغتم بتركه ، وإذا عُرِفَ ذلك فَنَقُولُ : إنَّهُ أخْبَرَ أنَّهُ خلق السَّمواتِ والأرض كما أراد وشاء من غير مُنَازعٍ ، ولا مدافع ، ثمَّ أخبر بعده أنَّهُ استوى على العَرْشِ ، [ أي حصل له تدبير المخلوقات على ما شاء وأراد فكان قوله ثم استوى على العرش ] ، أي بعد أنْ خلقهما استوى على عرش الملك والجلال .

قال القَفَّال : والدَّلِيلُ على أنَّ هذا هو المَُادُ قوله في سورة يونس : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُدَبِّرُ الأمر } [ الآية : 3 ] .
فقوله : « يُدبِّرُ » جرى مجرى التَّفسير لقوله : { استوى عَلَى العرش } . وقال { يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } ، { والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر } .
وهذا يَدُلُّ على أنَّ قوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } إشارة إلى ما ذكرناهُ .
فإنْ قيل : فإذا حملتم قوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } على أنَّ المراد إذا استوى على الملك؛ وجب أن يقالك اللَّهُ لم يكن مستوياً قبل خَلْقِ السَّموات والأرْضِ .
قلنا إنَّهُ تعالى كان قبل خَلْق العَالِمِ قادراً على تخليقها وتكوينها ، لا أنَّهُ كان مُكوِّناً ومُوجِداً لها بأعْيَانِهَا؛ لأنَّ إحياء زيد ، وإماتَةَ عَمْرٍو ، وإطعام هذا ، وإرواء ذلك ، لا يَحْصُلُ إلا عند حصول هذه الأحْوالِ ، فإذا فسَّرْنَا العرش بالملك ، والملك بهذه الأحْوالِ صحَّ أن يقال : إنَّه تعالى إنَّما استوى على ملكه بعد خلق السَّموات والأرْض؛ بمعنى أنَّهُ إنَّمَا ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها ، بعد خلق السَّمواتِ والأرْضِ .
والقولُ الثاني : أنَّ استوى بمعنى اسْتَوْلَى ، كما نَذْكُرُهُ في « سورة طه » إن شاء الله تعالى .
واعْلَمْ أنَّهُ تعالى ذكر قوله : { استوى عَلَى العرش } في سَبْع سور : هاهنا ، ويونس [ 3 ] . والرعد [ 2 ] ، وطه [ 5 ] ، والرفرقان : [ 59 ] ، والسجدة [ 4 ] ، والحديد [ 57 ] .
قال ابن الخطيب : « وفي كلِّ موضع ذكرنا فَوائِدَ كثيرةٌ ، فَمَنْ ضمَّ تلك الفَوائِدَ بعْضَهَا إلى بَعْضٍ ، بلغت مبلغاً كثيراً ، وافياً بإزالةِ شبهة التَّشْبيهِ عن القَلْب » .
قوله : { يُغْشِي الليل النهار } قرأ نافعُ وابنُ كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفض هنا وفي سورة الرعد : [ 3 ] « يُغْشِي » مخففّاً من أغْشَى على أفْعَل ، والباقون بالتَّشديدِ من غشَّى على فعَّل ، فالهمزةُ والتَّضعيف كلاهما للتَّعْدِيَةِ أكسبا الفعل مَفْعُولاً ثانياً؛ لأنَّهُ في الأصل متعد لواحدٍ ، فصار الفاعل مفعولاً .

وقرأ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسْ : « يَغشَى » بفتح الياء والشين ، « اللّيلُ » رفعاً ، « النهار » نصباً ، هذه رواية الداني عنه ، وروى ابنُ جنّي عنه نصب « اللّيل » ورفع « النَّهار » .
قال ابنُ عطيَّة : « ونقل ابن جنّي أثبت » وفيه نظرٌ ، من حيث إنَّ الدَّاني أَعْنَى من أبي الفَتْح بهذه الصِّنَاعَةِ ، وإن كان دونه في العلم بطبقات ، ويؤيد رواية الدَّاني أيضاً أنَّهَا موافقة لقراءة العَامَّةِ من حيث المَعْنَى ، وذلك أنَّهُ جعل اللَّيْل فاعلاً لفظاً ومعنى ، والنَّهارَ مفعولاً لفظاً ومعنى ، وفي قراءة الجماعة اللَّيْلُ فاعلٌ معنى ، والنَّهارُ مفعولٌ لفظاً ومعنى ، وذلك أنَّ المفعولين في هذا البابِ متى صَلُح أن يكون كلٌّ منهما فاعلاً ومفعولاً في المعنى؛ وَجَبَ تقديمُ الفاعل معنى؛ لئلاّ يلْتبس نحو : « أعْطَيْتُ زَيْداً عَمْراً » فإنْ لم يلْتبس نحو : « أعْطَيْتُ زَيْداً دِرْهما ، وكسوْتُ عمراً جُبَّةً » جاز ، وهذا كما في الفَاعِلِ والمفعُولِ الصَّريحين نحو « ضرب موسى عيسى » ، و « ضرب زيدٌ عمراً » ، وهذه الآية الكريمة من بابِ « أعطيت زيداً عمراً » ؛ لأنَّ كلاًّ من اللَّيْلِ والنَّهَارِ يَصْلُح أن يكون غَاشياً مَغْشياً؛ فوجب جعل « اللَّيْل » في قراءة الجماعةِ هو الفاعلُ المعنوي ، و « النَّهَار » هو المفعول من غير عكس ، وقراءة الدَّاني موافقة لهذه؛ لأنَّهَا المصرِّحة بفاعليَّةِ اللَّيْلِ ، وقراءة ابن جني مُخَالِفَة لها ، وموافقة الجماعة أولى .
قال شهابُ الدِّين : « وقد روى الزَّمَخْشَرِيُّ قراءة حُمَيْدٍ كما رواها أبُو الفَتْحِ فإنَّهُ قال : » يُغَشِّي « بالتَّشديد ، أي : يلحق اللَّيْلُ بالنَّهار ، والنَّهارُ باللَّيْلِ ، يحتملهما جميعاً » .
والدَّليلُ على الثاني قراءةُ حميد بْنِ قَيْس « يَغْشى » بفتح الياء [ و ] نصب اللَّيْل ، ورفع النَّهَارِ . انتهى .
وفيما قاله الزَّمخشريُّ نظر؛ لما ذكرنا من أنَّ الآية الكريمة ممَّا يجب فيها تقديمُ الفاعلِ المَعْنَوِي ، وكأن أبا القاسم تَبعَ أبَا الفَتْحِ في ذلك ، ولم يَلْتَفِتْ إلى هذه القاعدةِ المذكورة سَهْواً .
وقوله : « يَطْلُبُهُ حَثِيثاً » حالٌ من الليل؛ لأنَّهُ هو المحدَّث عنه أي : يغشي النَّهارَ طالبِاً له ، ويَجُوزُ أن يكُون من النهار أي مطلوباً وفي الجملة ذِكْرُ كُلٍّ منهما .
و « حَثِيثاً » يُحتمل أن يكون نَعْتَ مصدر محذوف أي : طَلَباً حثيثاً وأن يكون حالاً من فاعل « يَطْلُبُهُ » أي : حَاثّاً ، أو مفعوله أي : مَحْثُوثاً .
والحثُّ : الإعْجَالُ والسُّرْعَةُ ، والحَمْلُ على فِعْلِ شَيءٍ كالحضِّ عليه فالحثُّ والحضُّ أخوانِ ، يقال : حَثَثْتُ فُلاناً فاحْتثَّ فهو حَثِيثٌ ومَحْثُوثٌ .
2486- تَدَلَّى حَثِيثاً كأنَّ الصُّوا ... رَ يَتْبَعُهُ أزْرَقِيٌّ لَحِمْ
فهذا يُحتملُ أن يكون نَعْتَ مصدرٍ محذوف ، وأن يكون حالاً أي : تولى تَوَلِّياً حثيثاً ، أو تولَّى في هذه الحال .

فصل في معنى « الإغشاء »
قال الواحديُّ : « الإغْشَاءُ والتَّغْشِيَةُ : إلْبَاسُ الشيء بالشَّيء ، وقد جَاءَ التَّنْزِيلُ بالتَّشْديد والتَّخفيف ، فمن التَّشديد قوله تعالى : { فَغَشَّاهَا مَا غشى } [ النجم : 54 ] ومن اللُّغة الثانية : { فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ يس : 9 ] والمفعولُ الثاني مَحْذُوفٌ ، ، أي فأغْشَيْنَاهُم العمى وفقد الرؤية ، ومعنى الآية أي : يأتي اللَّيْلُ على النَّهارِ فيغطيه ، وفيه حذف أي : ويغشي النَّهار اللَّيْلَ ، ولم يذكرْ لدلالةِ الكلام عليه ، وذكر في آية أخرى : { يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل } [ الزمر : 5 ] .
» يَطْلُبُهُ حَثِيثاً « أي : سَرِيعاً ، وذلك أنَّهُ إذَا كان يعضب أحدُهُما الآخر ويخلفه فكان يطلبه .
قال القفَّالُ - رحمه الله تعالى - : إنَّهُ تعالى لمَّا أخبر عبادَهُ باستوائه على العرش ، وأخْبَرَ عن استمرار أصعب المخلوقات على وفق مشيئته ، أرَاهم ذلكَ عياناً فيما يُشَاهِدُونَهُ منها؛ ليضمَّ العيانَ غلى الخبرِ ، وتزول الشُّبْهَةُ عن كُلِّ الجهاتِ فقال : { يُغْشِي الليل النهار } ؛ لأنَّهُ تعالى أخبر في هذا الكتاب الكريم بما في تعاقبهما من المناقع العظيمة يتم أمر الحياة ، وتكمل المنفعة والمصلحة .
قوله : » والشَّمْسَ « قرأ ابن عامر هنا وفي » النحل « [ 12 ] برفع الشمسِ ، وما عُطف عليها ، ورفع » مُسَخَّرَات « ، ووافقه حفصٌ عن عاصم في النَّحل خاصة على رفع » والنَّجُوم مُسَخَّرات « ، والباقون بالنَّصْب في الموضعين . وقرّأ أبانُ بْنُ تَغْلِبٍ هنا برفع » النُّجُومِ « وما بعده .
فأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فعلى الابتداء والخبرِ ، جعلها جملة مستقلَّةً بالإخبار بأنَّهَا مُسخَّرات لنا من الله - تعالى - لمنافعنا .
وأمَّا قراءةُ الجماعةِ ، فالنَّصْبُ في هذه السُّورةِ على عطفها على » السَّمواتِ « أي : وخلق الشَّمْسَ ، فتكون » مُسَخَّرات « على هذا حالاً من هذه المفاعيلِ ، ويجوزُ أن تكون هذه [ منصوبةً ] ب » جَعَلَ « مقدَّراً فتكون هذه المنصوباتُ مفعولاً أوَّلاً ، و » مُسَخَّرَات « مفعولاً ثانياً .
وأمَّا قراءةُ حفص في النَّحْلِ ، فإنَّهُ إنَّما رفع هنا؛ لأنَّ النَّاصِبَ هناك » سخَّر « وهو قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٌ } [ النحل : 12 ] فلو نصب » النُّجُوم « و » مُسَخَّراتٍ « لصار اللفظ : سَخَّرها مُسَخَّراتٍ ، فيلزم التَّأكيد ، فلذلك قطعهما على الأوَّلِ ورفعهما جملة مُسْتَقلَّة . والجمهورُ يخرِّجونها على الحال المؤكدة ، وهو مستفيض في كلامهم ، أو على إضمار فِعْلٍ قبل » والنُّجُوم « أي : وجعل النُّجوم مُسخَّراتٍ ، أو يكون » مُسَخَّرات « جمع مُسَخَّر المرادُ به المصدر ، وجُمِع باعتبار أنواعه كأنَّهُ قيل : وسخَّر لكم اللَّيْلأ ، والنَّهار ، والشَّمس ، والقمر ، والنجوم تسخيراتٍ أي أنْواعاً من التَّسْخِيرِ .
قوله : » بأمْرِهِ « متعلق ب » مُسَخَّراتٍ « [ أي ] : بتيسيره وإرادته لها في ذلك ، ويجوزُ أن تكون » الباءُ « للحال أي : مصاحبةً لأمره غير خارجة عنه في تسخيرها ، ومعنى مُسَخَّراتٍ أي : منزلات بأمره .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75