كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)

هذا بقية الكلام على قوله : « لولا أنزل عليه آية من ربه » فقال الله تعالى : قل لهؤلاء الأقوام : إني بُعِثْتُ مبشّراً ومنذراً وليس لي أن أتَحَكَّمَ على اللَّهِ .
واعلم أن القَوْمَ كانوا يقولون : إن كنت رَسُولاً من عند الله فَاطْلُبْ من الله حتى يُوَسِّعَ عَلْينَا مَنَافِهَ الدُّنْيَا وخَيْرَاتِهَا ، فقال الله تعالى : قل لهم « إني لا أقول لكم عندي خزائن الله » ، فهو - تعالى - يؤتي المُلْكَ من يشاء ، ويُعِزُّ من يَشَاءُ ، ويُذِلُّ من يشاء ، لا بيدي .
الخَزَائنُ : جمع « خزانة » ، وهو اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء ، وخَزْنُ الشيء إحرازه بحيث لا تَنَالُهُ الأيْدِي .
قوله : { ولاا أَعْلَمُ الغيب } في مَحَلِّ هذه الجملة وَجْهَان :
أحدهما : النَّصْبُ عَطْفاً على قوله : عِنْدِي خزائِن اللَّهِ « لأنه من جملة المَقُول ، كأنه قال : » لا أقُولُ لكم هذا القول ، ولا هذا القول « .
قال الزمخشري . وفيه نَظَرٌ من حيث إنه يُؤدِّي إلى أنه يصير التقدير : ولا أقُولُ لكم : لا أعلم الغَيْبَ وليس بصحيح .
والثاني : أنه معطوف على » لا أقول « لامَعْمُولٌ ، فهو أمَرَ أن يخبر عن نَفْسِهِ بهذه الجُمَلِ الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو » قل « ، وهذا تخريج أبي حيَّان قال بعد أن حكى قول الزَّمخشري : » ولا يتَعيَّنُ ما قاله ، بل الظَّاهرُ أنه مَعْطُوفٌ على لا أقول « إلى آخرة .
فصل في معنى الآية
والمعنى : أن القوم يقولون : إن كنت رَسُولاً من عند اللَّهِ ، فلا بُدَّ وأن تخبرنا عمَّا سَيَقَعُ في المستقبل من المَصَالِحِ المضارِّ حتى نَسْتَعِدَّ لتحصيل تكل المنافع ، ولدفع تلك المَضَارِّ ، فقال تعالى : » قل إني لا أعلم الغيب ولا أقول : إنّي ملك « ومعناه : أنهم كانوا يقولون : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } [ الفرقان : 7 ] ويتزوج ويخالط الناس ، فقال تعالى : قل بهم : إني لست من الملائكة .
فصل في بيان فائدة هذه الأحوال
اختلفوا في الفائدةِ من ذكر هذه الأحْوَالِ الثلاثة ، فقيل : المرادُ منه أ ، يَظْهِرَ الرسول من نَفْسِه التَّواضُع للّه ، والاعتراف بِعُبُوديَّتِهِ حتى لا يعتقد فيه مثل اعقاد النَّصارى في المسيح عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
وقيل : إن القوم كاوا يَقْتَرِحُون عليه إظْهَارَ المعجزات القاهرة ، كقولهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] فقال تعالى في آخر الآية : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 93 ] يعني : أنَا لا أدَّعِي إلاَّ الرسالةَ والنُّبُوَّة ، وهذه الأمور التي طلبتموها ، فلا يمكن تحصيلها إلاَّ بقدرة الله .
وقيل : المُرَادُ من قوله : { لا أقُولُ لكُمْ عِنْدِي خزائِنُ اللَّهِ } ، أي : لا أدَّعي كوني مَوْصُوفاً بالقُدْرَةِ ، ولا أعلم الغَيْبَ ، أي : ولا أدَّعي كَوْنِي موصوفاً بعلم الله تعالى ، وبمجموع هَذَيْنِ الكلامين حَصَلَ أنه لا يدَّعِي الإلهيَّة .

ثُمَّ قال : « ولا أقول لكم : إني ملك » وذلك؛ لأنه ليس بعد الإلهيَّةِ دَرَجَةٌ أعلى حالاً من الملائكة فصار حاصل الكلام كأنَّهُ يقول : لا أدَّعي الإلهية ، ولا أدَّعي الملكيَّة ، ولكن أدَّعي الرِّسالة ، وهذا مَنْصِبٌ لا يمتنع حصُوله [ للبشر ] فكيف أطْبَقْتُمْ على استنكار قولي .
فصل في رد شبه الجبائي في تفضيل الملائكة
قال الجُبَّائي : دَلَّتِ الآية على أنَّ الملكَ أفْضَلُ من الأنبياء؛ لأن [ معنى الكلام ] لا أدَّعي مَنْزِلَةً أقْوَى من مَنْزِلَتِي ، ولولا أن المَلك أفضل ، وإلاَّ لم يصح .
قال القاضي : إن كان الغرض بها نفي طريقة التَّواضُعِ ، فالأقرب يَدُلُّ على أن الملكَ أفْضَلُ ، وإن كان المراد نَفْيَ قدرته عن أفعالٍ لا يقوى عليها إلاَّ الملائكة لم يَدُلَّ على كونه أفْضَلَ .
قوله : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ } .
يَدُلُّ على أنه لا يعمل إلاَّ بالوَحْي ، وأنه لم يكن يحكم من تِلْقَاء نفسه في شيء من الأحكام ، وأنَّهُ ما كان يجتهد ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } [ النجم : 3 ، 4 ] .
واسْتَدَلَّ نُفَاةُ القياس بهذا النصّ ، قالوا : لأنَّهُ عَلَيْه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما كان يَعْمَلُ إلا بالوَحْي النَّازِلِ ، فوحبَ ألاَّ يحوز لأحدٍ من أمَّتِهِ أن يعمل إلاَّ بالوَحْيِ النَّازل ، ولقوله تعالى : { واتبعوه } [ الأعراف : 158 ] وذلك ينفي جواز العمل بالقياسِ .
ثم أكَّدَ ذلك بقوله : { هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير } ، وذلك لأن العمل بغير الوَحْي يجري مجرى عَمَل الأعمى ، والعملُ بمقتضى نزول الوَحْي يجري مجرى عملِ البصيرِ ، ثم قال تعالى : { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } .
والمراج منه التنبيه على أنه يجب على العَاقِلِ أن يعرف الفَرْقَ بين هذيْنش البَابَيْنِ ، وألاَّ يكون غَافِلاً عن معرفة الله .

وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)

لما وصفَ الرسل بكونهم مُبَشِّرينَ ومُنْذرينَ أمَرَ الرَّسُولَ في هذه الآية بالإنْذَارِ ، فقال : « وأنْذِرْ » أي : خوِّفْ به ، أي : بالقرآن ، قاله ابن عبَّاسٍ ، والزَّجاج لقوله تعالى قبل هذه الآية : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ } [ الأنعام : 50 ] .
وقال الضَّحَّاكُ : « وأنذِرُ به » أي : بالله
وقوله : « لاذين يَخَافُونَ أن يُحْشرُوا » أي : يُبْعَثُوا ، فقيل : المرادُ بهم الكافرون الذين تقدَّم ذكرُهُمْ؛ لأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان يُخَوِّفُهُمْ من عذاب الآخرة ، وكان بعضهم يَتَأثَّرُ من ذلك التخويف ، ويقول : رُبَّمَا كان الذي يقوله مُحمَّدٌ حَقَّاً ، ولا يجوز حَمْلُهُ على المؤمنين ، لأن المؤمنين يَعْلَمُونَ أنهم يُحْشَرُونَ إلى ربهم ، والعلم خلاف الخوْفِ والظن .
ولقائل أن يقول : إنه لا يمتنع أن يدخل فيه المؤمنون؛ لأنهم وإن « تيقَّنُوا ] الحَشْرَ فلم يَتضيَقَّنُوا العذاب الذي يخاف منه لتجويزهم ألاّ يموت أحدهم على الإيمان ، وتجويز ألاَّ يموتوا على هذه الحالةِ ، فلهذا السَّبَبِ كانوا خائفين من الحَشْرِ بسبب أنهم كانوا مجوزين لحصول العذاب وخائفين منه .
وقيل : المُرَادُ بهم المُؤمِنُون؛ لأنهم المُقِرُّونَ ، بِصِحَّةِ الحشر والنَّشْرِ والقيامة والبعث ، فهم الذين يَخَافُونَ من عذاب ذلك اليوم .
وقيل : إنه يَتَنَاوَلُ الكُلَّ؛ لأنه عَاقِلَ إلاَّ وهو يَخَافُ الحَشْرَ ، سواء قَطَعَ بحصوله أو شَكَّ فيه ، ولأنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان مَبْعُوثاً إلى الكُلِّ ، وإنَّما خَصَّ الذين يخافون الحَشْرَ ، لأن انْتِفَاعَهُمْ بذلك الإنْذَارِ أكْمَلُ؛ لأن خوفهم يحملهم على إعْدَادِ الزَّادِ ليوم المَعَادِ .
قوله : { لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيع } العامل فيه » يخافون « وها هُنَا بَحْثٌ ، وذلك أنه إذا كان المراد من الذين يَخَافُون أن يحشروا إلى ربهم الكُفَّار ، فالكلام ظاهر لأنه ليس بهم عند الله شُفَعَاءُ ، وذلك لأن اليهود والنصارى كانوا يقولون : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] فكذَّبهم اللَّهُ فيه .
وقال في آية أخرى { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } [ غافر : 18 ] ، وقال { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين } [ المدثر : 48 ] .
وإن كان المراد المسلمين ، فنقول : قوله : { لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } [ لا ] ينافي مذهب أهل السُّنَّةِ في إثبات الشَّفاعَةِ للمؤمنين ، فنقول : لأن شفاعة الملاكة والرسل للمؤمنين إنما تكون بإذن الله - تعالى - لقوله : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] فلما كانت تلك الشَّفاعةُ بإذن الله كانت في الحقيقة من اللَّهِ .
قوله : { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .
قال ابنُ عبَّاسٍ : وأنذرهم لكي يَخَافُوا في الدنيا ، وينتهوا عن الكفر والمعاصي .
قالت المعتزلة : وهذا يَدُلُّ على أنه - تعالى - أراد من الكُفَّار التَّقْوَى والطاعة ، وقد سَبَقَ الكلامُ على مِثْلِ هذا النوع مِرَاراً .

وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)

قال سلمان ، وخباب بن الأرت : فينا نزلت هذه الآية .
« جاء الأقْرَعُ بْنُ حِابِسٍ التَّمِيمِيُّ ، وعُيَنْنَهُ بْنُ حِصْنٍ الفَرَارِيّ ، وذووهم من المؤلَّفَةِ قُلوبُهُمْ فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً مع بلال ، وصُهَيبن وعمَّار ، وخبَّاب في ناسٍ من ضُعفاءِ المؤمنين ، فلما رأوهم حوله حقروهم ، فأتوه فقالوا : يا رسول الله لو جلست في صَدْرِ المسجد ، ونَفَيْتَ عَنَّا هؤلاء وأرْوَاح جبَابِهِمْ ، وكان عليهم جِبَابُ صُوفٍ ولم يكن عليهم غيرها ، لجَالسْنَاكَ وأخذنا عَنْكَ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنا بِطَاردٍ المؤمنين ، قالوا : فإنَّا نُحِبُّ أن تَجْعَلَ لنا منك مَجْلِساً تعرفُ به العربُ فَضْلَنَا ، فإن وُفُودَ العرب تَأتِيكَ ، فَنَسْتَحْيِي أن تَرَانا العربُ مع هؤلاء الأعْبُدِ ، فإذا نحنُ جئنا فأبْعدهم عَنَّا ، فإذا نحنُ فَرَعْنَا فاقْعُدْ مَعَهُمْ إن شئت ، فقال » نعم « طَمَعاً في إيمانهم .
قال : ثم قالوا : اكْتُبْ لنا عليْك بذلك كتاباً .
قال : فَدَعا بالصَّحِيفَةِ ، ودعا عليَّا لِيَكْتُب ، قال : ونحن قعود في ناحيةٍ ، إذ نزل جبريل عليه السلام بقوله : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } إلى قوله : » بِالشَّاكرين « فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يَدِهِ ، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول » سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كتبَ ربُّكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ « وكنَّا نقعدُ معه حتى تَمَسَّ رُكْبَتُنَا رُكْبَتَهُ ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ، فأنزل الله تعالى : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الكهف : 28 ] فترك القيام عَنَّا إلى أ ، نقول عنه وقال : » الحَمْدُ للَّهِ الذي أمَرَنِي أنْ أصْبِرَ نَفْسِي مَعَ قومٍ من أمَّتِي معكُم المَحْيَا ومَعَكُم المَمَاتُ « .
فصل في بيان شبة الطاعنين في العصمة
احْتَجَّ الطَّاعنون في عِصْمَةِ الأنبياء بهذه الآية من وجوه :
أحدها : أنَّهُ - عليه الصلاة والسلام - طَرَدَهُمْ ، والله - تعالى - نَهَاهُ عن ذلك ، فكان ذَنْباً .
وثانيها : أنه - تعالى - قال { فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } وقد ثبت أنه طَرَدهُمْ .
وثالثها : أنَّهُ - تعالى - حَكَى عن نُوح أنه قال : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين } [ الشعراء : 114 ] ثم إنه تعالى - أمر مُحَمَّداً - عليه الصلاة والسلام - بمُتَابَعَةِ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في جميع الأعمال الحَسَنَةِ بقوله : { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] فوجب على محمد - عليه الصلاة والسلام- ألاَّ يَطْرُدهُمْ [ فلما طردهم ] كان ذلك ذَنْباً .
ورابعها : أنه قال : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } [ الكهف : 28 ] وقال : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا } [ طه : 131 ] .
فنهاه عن الالْتِفَاتِ إلى زينةِ الحياة الدُّنيا ، فكان ذَنْباً .
وخامسها : أن أولئك الفُقَراء كانوا كُلَّمَا دخلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هه الواقعة يقول :

« مَرْحَباً بِمَنْ عاتَبَني رَبّي فِيهِمْ » أو لَفْظاً هذا معناه ، وذلك أيضاً يدلُّ على الذَّنْبِ .
فالجوابُ عن الأول : أنه - عليه الصلاة والسلام- ما طَرَدَهُمْ لأجْلِ الاسْتَخْفافِ بهم والاسْتِنْكافِ من فَقرهِمْ ، وإنَّما عَيَّنَ لجلوسهم وَقْتاً مُعَيَّناً سوى الوَقْتِ الذي كان يَحْضُرُ فيه أكَابِرُ قريش ، وكان غرضه التَّلَطُّفَ بهم في إدْخَالِهِمْ في الإسلام ، ولعله - عليه الصلاة والسلام - كان يقول : هؤلاء الفقراء من المسلمين لا يقوتهم [ بسبب هذه ] المُعَامَلةِ شيء من أمْرِهمْ في الدُّنيا وفي الدِّين ، وهؤلاء الكفار فإنه يَفُوتُهُمُ الدِّينُ والإسلام ، فكان ترجيح هذا الجانب أوْلَى ، فأقْصَى ما يقال : إن هذا الاجتهاد وقع خطأ ، إلاَّ أن الخَطَأ في الاجتهاد مَغْفُورٌ .
وأما قولهم : إنه - عليه الصلاة والسلام - طَرَدَهُمْ ، فيلزم كونه من الضالمين؟
فالجواب : أن الظلم عبارةٌ عن وضْعِ الشيء في غَيْرِ موضعه ، والمعنى أن أولءك الفُقَراء كانوا يَسْتَحِقُّونَ التعظيم من الرسول - عليه الصلاة والسلام- فلمَّا طَرَدهُمْ عن ذلك المجلس ، فكان ذلك ظُلْماً ، إلاِّ أنَّهُ من باب تَرْك الأوْلَى أو الأفضل ، لا من باب ترك الواجبات ، وكذلك الجوابُ عن سائر الوجوه ، فإنَّا نَحْمِلُ كلَّ هذه الوجوه على تَرْكِ الأفضل والأكمل والأوْلَىن واللَّهُ أعلم .
قوله : « بالغَدَاةِ » : قرأ الجمهور « بالغَدَاةِ » هنا وفي « الكهف » وابن عامر « بالغُدْوَةِ » بضم الغين وسكون الدال ، وفتح الواو في الموضعين ، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السّلمي ، والحسن البَصْري ، ومالِكِ بْنِ ديناَرٍ ، وأبي رَجَاءٍ العطارِدِيّ ، ونصر بن عاصم الليْثي ، والأشهر في « الغُدْوة » أنها مُعَرَّفة بالعَلَمِيَّةِ ، وهي عَلَمِيَّة الجنس ك « أسامة » في الأشخاص ، ولذلك مُنِعَتْ من الصَّرفِ .
وقال الفراء : « سمعت أبا الجَرَّاحِ يقول : ما رأيت [ كغدوة ] قط ، يريد غَدَاة يومه » .
قال : « ألا ترى أن العرب لا تُضِيفُهَا ، فكذا لا يدخلها الألف واللام ، إنما يقولون : جئتك غداوة الخميس » .
وقال الفرَّاء في كتاب « المعاني » في « سورة الكهف » : قرأ أبو عبد الرحمن السّلَمِيُّ : « بالغُدْوَةِ والعَشِيّ » ولا أعلم أحَداً قرأ بها غيره ، والعربُ تُدْخِلُ الألف واللام في « الغدوة » ؛ لأنها معرفة بغير ألف ولام « فذكره إلى آخره .
وقد طعن أبو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سُلاَّمٍ على هذه القراءة ، فقال : » إنما نرى ابن عامرٍ ، والسلمي قرءا تلك القراءة اتّباعاً للخَطِّ ، وليس في إثبات « الواوط في الكتاب دليلٌ على القراءة بها؛ لأنهم كتبوا » الصَّلاة « و » الزكاة « بالواو ، ولفظهما على تركها ، وكذلك » الغدوة « على هذا وجدنا العرب » .
وقال الفارِسِيُّ : الوَجْهُ قراءة العامة « بالغَدَاةِ » ؛ لأنها تستعمل نكرةً ومعرفةً باللام ، فأمَّا « غُدْوة » فمعرفةٌ ، وهو علمٌ وُضَعَ للتعريف ، وإذا كان كذلك ، فلا ينبغي أن تدخل عليه الألف واللام للتعريف ، كما لا تَدْخُلُ على سَائِرِ الأعْلام ، وإن كانت قد كُتِبَتْ بالواو؛ لأنها تَدُلُّ على ذلكَ ، ألا ترى « الصلاة » و « الزكاة » بالواو ، ولا تُقرآن بها ، فكذلك « الغَدَاة » .

قال سيبويه : « غُدْوة وبُكْرة جُعِلَ كُلُّ واحد منهما اسْماً لِلْحِين ، كما جعلوا : » أمّ حُبَيْن « اسماً لدَابَّةِ معروفة » إلاَّ أنَّ هذا الطَّعْنَ لا يُلْتَفَتُ إليهن وكيف يُطَنُّ بِمَنْ تقدَّم أنهم يَلْحنون ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ ممن يُسْتَشْهَدُ بكلامه فَضْلاً عن قراءتِهِ ، ونَصْرُ بْنُ عَاصِم شَيْخُ النحاة ، أخذَ هذا العلم عن أبي الأسْوَدِ يَنْبُوعِ الصناعِةِ ، وابن عامر لا يعرف اللَّحْنَ؛ لأنه عربي ، وقرأ على عثمان بن عفان وغيره من الصحابة ، ولكن أبا عُبَيْدٍ - رحمه الله - لم يعرف أن تنكير « غُدْوَة » لغة ثانية عن العَرَبِ حَكَاهَا سيبويه والخليل .
قال سيبويه : زعم أنه يَجُوزُ أن تقول : « أتَيْتُكَ اليوم غُدْوَةً وبُكْرَة » فجعلها مثل « ضَحْوَة » .
قال المهدوي : « حكى سيبويه والخليل أنَّ بعضهم يُنَكِّر فيقول : » غُدْوةً « بالتنوين ، وبذلك قرأهُ ابن عامر ، كأنه جعله نكرة ، فأدخل عليها الألفَ واللام » .
وقال أبو علي الفارسي : « وجْهُ دخول الألف واللام عليها أنه يجوز وإن كانت مَعْرِفَةً أن تُنَكَّرَ ، كما حكى أبو زَيْدٍ » لقيته فَيْنَةً « غير مَصْرُوفَة » والفَيْنَةُ بَعْدَ الفَيْنَةِ « أي : الحين بعد الحين ، فألحق » لام « التعريف ما استعمل معرفة ، ووجه ذلك أنه يُقَدَّرُ فيه التنكير والشيوع ، كما يُقَدَّرُ فيه ذلك إذا ثَنَى » . وقال أبو جَعْفَرِ النحاس : قرأ أبو عبد الرحمن ، ومالك بن دينار ، وابن عامر : « بالغُدْوَةِ » قال : « وباب غُدْوَة أن يكون معرفة إلاَّ أنَّهُ يجوز تنكيرها كما تُنَكَّرُ الأسماء الأعلام ، فإذا نُكَّرَتْ دخلتا الألف واللام للتعريف » .
وقال مَكّي بن أبي طالبٍ « إنما دخلت الألف واللام على » غَدَاة « لأنها نكرة ، وأكثر العرب يجعل » غُدْوَة « معرفة فلا يُنَوِّنها ، وكلهم يجعل » غَدَاة « نَكِرَةٌ فينوِّنها ، ومنهم من يجعل » غُدْوَة « نكرة وهم الأقَلّ » فثبت بهذه النُّقُولِ التي ذكرْتُهَا عن هؤلاء الأئمةِ أن قراءة ابن عامر سَالِمَةٌ من طَعْنِ أبي عُبَيْدٍ ، وكأنه - رحمه الله - لم يحفظها لغة .
وأما « العَشيُّ » فنكرةٌ ، وكذلك « عَشِيَّة » .
وهل العَشِيُّ مرادِف ل « عشية » أي : إن هذا اللفظ فيه لغتان : التذكير والتأنيث ، أو أن « عَشِيّاً » جَمْعُ « عَشِيَّة » في المعنى على حدِّ « قَمْح » و « قَمْحَة » ، و « شعير » و « شعيرة » ، فيكون اسم جِنْسٍ ، خلاف مشهور ، والظاهر الأوَّل لقوله تعالى :

{ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات الجياد } [ ص : 31 ] إذ المرادُ هنا عِشِيَّة واحدة ، واتفقت مصاحفُ الأمْصَارِ على رَسْمِ هذه اللفظة « الغدوة » بالواو وقد تقدَّمَ أن قراءة ابن عامرٍ ليست مُسْتَندَةً إلى مجرد الرسم ، بل إلى النَّقْلِ ، وثَمَّ [ ألْفَاظٌ اتُّفِقَ ] أيضاً على رَسْمِهَا بالواو ، واتُّفِقَ على قراءتها بالألف ، وهي : « الصَّلاة ، والزكاة ، ومناة ، ومِشْكَاة ، [ والربا ، ] والنجارة والحياة » ، وحرفٌ اتُّفِقَ على رسمه بالواو ، واختلف في قراءته بالألف والواو ، وهو « الغَدَاة » وأصْلُ غَدَاة : غَدَوَة ، تحركت الواو ، وانفتح ما قبلها ، فقُلِبَتْ ألفاً .
وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ : « بالغدوات والعَشِيَّات » ، جمع « غَدَاة » و « عشية » وروي عن أبي عبد الرحمن أيضاً « بالغُدُوِّ » بتشديد الواو من غير هاءٍ .
فصل في المراد بالآية
قال ابن عبَّاسٍ [ معنى الآية ] يَعْبُدُون ربَّهُمْ بالغَدَاوةِ والعَشِيّ يعني صلاة الصبح ، وصلاة العصر ، وهو قول الحَسَنِ ومجاهد .
وروي عنه أن المراد الصلوات الخَمْس ، وذلك أن نَاساً من الفقراء كانوا يُصَلُّونَ مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال ناسٌ من الأشراف : « إذا صَلَّيْنَا فأخِّر فَلْيُصَلُّوا خَلْفنَا » فنزلت هذه الآية .
وقال مُجَاهِدٌ : صليت الصبح مع سَعيدِ بْنِ المُسَيَّبِ ، فلما سلم الإمام ابْتَدَرَ النَّاسُ القاص ، فقال سعيد : ما أسرع الناس إلى هذا المَجْلِسِ ، فقال مجاهد : فقلت : يَتَأوَّلُونَ قوله تعالى : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } فقال : أفي هذا هو؟ إنما ذلك في الصَّلاةِ التي انصرفنا عنها الآن .
وقال إبراهيم النخعي : يعني : يذكرون رَبَّهُمْ .
وقيل : المُرَادُ حقيقة الدعاء .
قوله : « يُرِيدُونَ » هذه الجملة في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال من فاعل « يَدْعُونَ » أو من مفعوله ، والأوَّل هو الصحيح ، وفي الكلام حَذْفٌ ، أي : يريدون بدعائهم في هَذَيْنِ الوقتين وجهه .
فصل في الرد على شبهة المجسمة
تمسكت المُجَسِّمَةُ في إثبات الأعْضَاء للَّه - تعالى - بهذه الآية ، وسائر الآيات المُنَاسِبَة ، كقوله تعالى : { ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ } [ الرحمن : 27 ] والجوابُ : أن قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] يقتضي الوحْدَانيَّة التَّامَّة ، وذلك يُنَافِي التركيب من الأعضاء والأجزاء ، فثبت أنَّهُ لا بُدَّ من التَّأويل ، وهو من وجهين :
أحدهما : قوله : { يُريدُون وَجْهَهُ } ، أي : يريدونه إلاَّ أنهم يذكرون [ لفظ الوجه للتعظيم كما يقال : هذا وجه الرأي ، وهذا وجه الدليل الثاني : ] أنَّ من أحَبَّ ذاتاً أحب أن يرى وَجْهَهُ ، فرؤة الوَجْه من لوازم المحبَّةِ ، فلهذا السَّبَبِ جعل الوجه كِنَايةً عن المَحَبَّةِ ، وطلب الرضى .
والثاني : أن المراد بالوجه القَصْدُ والنِّيَّةُ؛ كقول الشاعر : [ البسيط ]
2179-أسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لِسْتُ أحْصِيّهُ ... رَبَّ العِبَاد إلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ
وقد تقدَّم بيانُهُ عند قوله : { وَللَّهِ المشرق والمغرب } [ البقرة : 115 ]
قوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء }
« ماط هذه يجوز أن تكون الحِجَازيَّةَ النَّاصبة للخبر ، فيكون » عليك « في مَحَلِّ النصب على أنه خبرها ، عند مَنْ يُجَوِّز إعْمَالَهَا في الخبر المُقدَّمِ إذا كان ظَرْفاً أو حرف جَرِّ ، وأمَّا إذا كانت تَمِيميَّةً ، أو متعيَّناً إهمالُهَا في الخبر المقدِّمِ مُطْلَقاً كان » عليك « في مَحَلِّ رفع خبراً مُقدَّماً ، والمبتدأ هو » مِنْ شَيءٍ « زيدت فيه » مِنْ « .

وقوله : « مِنْ حِسَابِهِمْ » قالوا : « مِنْ » تَبْعِيضيَّةٌ ، وهي في محل نَصْبٍ على الحال ، وصاحبُ الحالِ هُو « مِنْ شيء » ؛ لأنها لو تأخرت عنه لكانت صِفَةً له ، وصفة النكرة متى قُدِّمَتْ انْتَصَبَتْ على الحالِ ، فعلى هذا تتعلَّقُ بمحذوف ، والعاملُ في الحال الاسْتِقْرَارُ في « عليك » ، ويجوز أن يكون « مِنْ شَيْءٍ » في مَحَلِّ رفع بالفاعلية ، ورافعه « عليك » لاعتماده على النفي ، و « مِن حِسَابِهِمْ » حالٌ أيضاً من « شيء » العاملُ فيها الاستقرار والتقديرُ : ما اسْتَقَرَّ عليك شَيءٌ من حسابهم .
وأُجيز أن يكون « مِنْ حِسَابِهِمْ » هو الخَبَر : إمَّا ل « ما » ، وإمَّا للمبتدأ ، و « عليك » حالٌ من « شيء » ، والعَامِلُ فيها الاسْتِقَرارُ ، وعلى هذا فيجوز أن يكون « من حِسَابِهِمْ » هو الرفاع للفاعل على ذاك الوَجْهِ ، و « عليك حالٌ أيضاً كما تقدَّمَ تقريره ، وكون » مِنْ حِسَابِهِمْ « هو الخبر ، و » عليكط هو الحَلُ غير واضح؛ لأن مَحَطَّ الفائدة إنما هو « عَليْكَ » .
قوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء } كالذي قبله ، إلاَّ أنَّ هنا يَمْتَنَعُ بَعْضُ ما كان جَائِزاً هناك ، وذلك أن قوله : « مِنْ حِسَابِكَ » لا يجوز أن يَنْتَصِبَ على الحال؛ لأنه يلزم تَقّدُّمُهُ على عامله المعنوي ، وهو ممتنعٌ ، أو ضعيف لا سيَّمَا وقدْ تقدَّمتْ هنا على العامل فيها ، وعلى صاحبها ، وقد تقدَّم أنَّ الحالَ إذا كانت ظَرْفاً أو حرف جرِّ كان تقديمها على العامل [ المعنوي ] أحْسَنُ منه إذا لم يكن كذلك ، فحينئذٍ لك أن تجعل قوله : « من حِسابِكَ » بياناً وقد تقدَّم خطابه - عليهالصَّلاة والسلام- في الجملتين تَشْريفاً له ، ولو جاءت الجملة الثَّانية على نَمَطِ الأولى لكان التركيب « وما عليهم من حِسَابِكَ من شيء » فتقدَّمَ المجرور ب « على » كما قدَّمه في الأولَى ، لكنه عَدَلَ عن ذلك لما تقدَّمَ .
وفي هاتين الجمتلين ما يسميه أهل البَديعِ : رَدَّ الأعْجَاز على الصدور ، كقولهم : « عَادَات السَّادَات سادات العادات » ومثله في المعنى قول الشاعر : [ الطويل ]
2180- وَلَيْسَ الَّذِي حَلِّلْتَهُ بِمُحَلَّلٍ ... وَلَيْسَ الَّذي حَرَّمْتَهُ بِمُحَرَّمِ
وقال الزمخشري - بعد كلام قدَّمَهُ في معنى التفسير- : فإن قلت : أما كفى قوله : « ما عليك من حسابِهِمْ من شيء » حتى ضَمَّ إليه : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء } ؟

قلت : قد جعلت الجملتان بمنزلةِ جُمْلةٍ واحدةٍ ، وقصد بها مُؤدَّى واحد ، وهو المعنى بقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الأنعام : 146 ] .
ولا يستقل بهذا المعنى إلاَّ الجملتان جميعاً ، كأنه قيل : « لاتُؤاخَدُ أنت ولا هُمْ بحسابِ صاحبه » قال أبو حيَّانك « لا تُؤاخَذُ أنْتَ . . . إلى آخره تركيبٌ غير عربي ، لا يجوز عَوْدُ الضير هنا غائباً ولا مُخَاطباً ، لأنه إنْ [ عاد ] عائباً فلم يتقدَّم له اسْمٌ مفرد غائب يعود عليه ، إنما تقدَّم قوله : » هم « ولا يمكن العَوْد عليه على اعْتِقَادِ الاستغناء بالمفرد عن الجمع ، لأنه يصير التَّركيب بحساب صاحبهم ، وإن أُعيد مُخَاطباً ، فلم يتقدَّمْ مخاطب يعود عليه ، إنما تقدَّم قوله : » لا تُؤاخَذُ أنْتَ « ولا يمكن العَودُ إليه ، فإنه ضمير [ مخاطب ] ، فلا يعود عليه غَائِباً ولو أبْرَزْتَهُ مخاطباً لم يَصِحَّ التركيب أيضاً ، فإصْلاحُ التركيب أن يقال : » لا يُؤاخَذُ كُلُّ واحدٍ منك ، ولا منهم بحساب صاحبه ، أو لا تُؤاخذ أنت بحسابهم ، ولا هم بحسابك ، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم « ، فُتَغَلَّب الخِطَابَ على الغَيْبَةِ ، كما تقول : أنت وزيد تَضْربَان » .
قال شهابُ الدين : والذي يظهر أن كلام الزمخشري صَحِيحٌ ولكن فيه حذفٌ ، وتقديره : لا يُؤاخذ كل واحد : أنت ولا هم بِحِسَابِ صاحبه ، وتكون « أنت ولا هُمْ » بَدَلاً من « كل واحد » ، والضمير في صاحبه عائدٌ على [ قوله : ] « كل واحدٍ » ، ثم إنه وقع [ في ] محذور آخر مما أصْلَحَ به كلام الزمخشري ، وذلك أنه قال : ولا تُؤاخذ أنت وَلاَ هُمْ بحسابكم ، وهذا التركيب يحتمل أن يكون المرادن بل الظَّاهِرُ نَفْيُ المُؤاخَذَةِ بحساب كُلِّ واحدٍ بالنسبة إلى نفسه هو ، لا أن كُلّ واحدٍ غير مُؤاخذ بحساب غيره ، والمعنى الثَّاني هُوَ المقصود .
والضمائر الثلاثة ، أعني التي في قوله : « مِنْ حِسَابِهِمْ » و « عليهم » و « فتطردهم » أيضاً عَوْدُهَا على نوع واحد ، وهم الذين يدعون ربَّهم ، وبه قال الطبري إلاَّ أنَّهُ فَسَّرَ الحِسابَ بالرِّزْقِ الدُّنْيوي .
وقال الزمخشري ، وابن عطية : « إنَّ الضَّمِيريْنَ الأوَّلَيْن يعودان على المشركين ، والثالث يعود على الداعين » .
قال أبو حيَّان : « وقيل : الضمير في » حسابهم « ، و » عليهم « عائد على [ المشركين ] [ وتكون الجملتان اعْتِرَاضاَ بين النَّهْي وجوابه » ، وظاهر عبارته أن الجملتين لا تكونان اعْتِرَاضاً على اعتقادر كون الضميرين في « حِسَابِهِمْ » ، و « عليهم » عائدين على المشركين ] .
وليس الأمر كذلك ، بل هما اعْتَرَاضٌ بين النَّهْيِ ، وهو « ولا تَطْرُدْ » وبين جوابه وهو « فتكون » ، وإن كانت الضمائر كلها للمؤمنين .
ويّدُلُّ على ذلك أنه قال بَعْدَ ذلك في « فتكون » : وجوِّز أن تكون جواباً للنهي في قوله : « ولا تطرد » ، وتكون الجملاتن ، وجوابُ الأول اعْتِرَاضاً بين النَّهْي وجوابه ، فحعلهما اعراضاً مُطْلَقاً من غير نَظَرٍ إلى الضميرين ، ويعني بالجملتين « ما عليك من حِسَابِهِمْ من شيء » و « من حسابك عليم من شيء » وبجواب الأول قوله : « فتطردهم » .

قوله : « فتطردهم » فيه وجهان :
أحدهما : مَنْصُوبٌ على جواب [ النفي ] بأحد معنيين فقط ، وهو انْتِفَاءُ الطَّرْدِ لانْتِفَاءِ كون حسابهم عليه وحسابه عليهم؛ لأنه يَنْتَفِي المُسَبَّبُ بانفاء سَببِهِ ، ولنوضح ذلك في مثال وهو : « ما تَأتِينَا فَنُحَدَّثَنَا » بنصب « فتحدِّثنا » وهو يحتمل معنيين :
أحدهما : انتفاء الإتْيَان ، وانتفاء الحديث ، كأنه قيل [ ما يكون منك إتيان ، فكيف يقعُ منك حديث؟ وهذا المعنى هو المقصود بالآية الكريمة ، أي : ما يكون مُؤاخذة كل واحد بحساب صاحبه ، فكيف يقع طرد؟ والمعنى الثاني : انفاء الحديث ، وثبوت الإتيان ] .
كأنه قيل : ما تأتينا مُحَدَّثاً ، بل تأتينا غير مُحَدَّثٍ ، وهذا المعنى لا يليق الآية الكريمة ، والعُلماءُ- رحمهم اله - وإن أطلقوا قولهم : إن منصوبٌ على جواب النفي ، فإنَّما يريدون المعنى الأول دون الثاني ، والثَّاني أن يكون منصوباً على جواب النهي قوله : « فتكون » ففي نصبه وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب عَطْفاً على « فتطردهم » ، والمعنى : الإخْبارُ انْتِفَاءِ حسابهم ، والطَّرْد والظلم المُسَبَّب عن الطرد .
قال الزمخشري : ويجوز أن تكون عَطْفاً على « فتطردهم » على وجه السبب؛ لأن كونه ظالِماً مُسَبَّبٌ عن طَرْدِهِمْ .
والثاني من وَجْهَي النصب : أنه منصوبٌ على جواب النهي في قوله : « ولا تطرد » .
ولم يذكر مكي ، ولا الواحدي ، ولا أبو البقاء غيره .
قال أبو حيَّان : « أن يكون » فتكون « جواباً للنيه في قوله : » ولا تطرد « كقوله : { لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [ طه : 61 ] ، وتكون الجملتان وجوابُ الأوَّل اعتراضاَ بين النهي وجوابه » .
قال شهاب الدين : قد تقدَّم أن كونهما اعْتِرَاضاً لا يتوقَّفُ على عَوْدِ الضمير في قوله : « مِنْ حِسَابِهِمْ » و « عليْهِمْ » على المشركين كما هو المفهوم من قوله ها هنا ، وإن كان كلامه قبل ذلك كما حكيما عَنْهُ يُشْعِرُ بذلك .
فصل في شبهة للكفار
ذكروا في قوله : « ما عَلَيْكَ من حِسَابِهِمْ من شيء » قولين :
الأول : أن الكُفَّار طعنُوا في إيمان أولئك الفُقَرَاء ، وقالوا : يا محمد إنهم [ إنما ] اجتمعوا عندك ، وقبلوا دينك؛ لأنهم يجدون بهذا الأمْرُ على ما يقول هؤلاء ، فما يلزمك إلاَّ اعْتِبارُ الظَّاهر ، وإن كان بَاطِنُهَمْ غير مُرْضٍِ عند اللَّهِ ، فحسابهم عليه لا زمٌ لهم لا يتعدَّى إليك ، كما أنَّ حسابك عليك لا يتعدّى إليهم ، كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الأنعام : 164 ] .
الثاني : المعنى : ما عليك من حِسابِ رِزْقِهِمْ من شيء فتملّهم وتطردهم ، فتكون من الظالمين لهم لأنهم لمَّا اسْتَوْجَبُوا مزيد التقريب كان طَرْدُهُمْ طُلْماً لهم .

وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)

« الكاف » في مَحَلِّ نَصبٍ على أنها نَعْتٌ لمصدر محذوف ، والتقدير : ومثل ذلك الفُتُون المتقدم الذي فُهِمَ من سياق أخبار الأمم الماضية فتنَّا بعضَ هذه الأمَّةِ ببعْض ، فالإشَارَةُ بذلك إلى الفُتُونِ المَدْلُولِ عليه بقوله : « فَتَنَّا » ، ولذلك قال الزمخشري : ومثل ذلك الفتن العظيم فتن بعض الناسِ ببعضٍ فجعل الإشارة لِمصدَرِ فَتَنَّا . وانظر كيف لم يَتَلَّفَظْ هو بإسناد الفِتْنَةِ إلى اللَّهِ - تعالى - في كلامِهِ ، وإن ان البارئ - تعالى قد أسْنَدَها ، بل قال : فتن بعض الناس فَبَناهُ للمفعُول على قَاعِدةِ المعتزلة .
وجعل ابن عطية الإشارة إلى طلب الطَّرْدِ ، فإن قال بعد كلام يتعلٌّق بالتفسير : « والإشارة بذلك إلى ما ذُكِرَ من طلبهِمْ أن يطرد الضَّعفَةَ » .
قال أبُو حيَّان : ولا ينتظم هذا التَّشْبيه؛ إذ يصير التقدير : مثل طلب الطرد فَتَنَّا بعضهم ببعض والمَتَبَادَرُ إلى الذَّهْنِ من قولك : « ضربتُ مثل ذلك » المُمَاثَلَةُ في الضرب ، أي : مثل ذلك الضرب لا أن تَقَعَ المُمَاثَلَةُ في غير الضَّربِ ، وقد تقدَّم مِرَاراً أن سيبويه يجعل مثل ذلك حالاً من ضير المَصْدَرِ المقدر .
قوله : « لِيَقُولُوا » في هذه « اللام » وجهان :
أظهرهما : - وعليه أكثر المعربين والمُفسِّرين- أنها لام « كي » ، والتقدير : ومثل ذلك الفُتُون فَتَنَّا ليقولوا هذه المقالة ابْتِلاءً مَنَّا وامْتِحَاناً .
والثاني : أنها « لام » الصَّيْرُورَةِ أي : العاقبة كقوله : [ الوافر ]
2181- لِدثوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرَابِ .. .
{ فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً } [ القصص : 8 ] ، ويكون قولهم « أهُؤلاء » إلى آخره صادراً على سبيل الاسْتِخْفَافِ .
قوله : « أهَؤلاءِ » يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب المَحَلِّ على الاشْتَغَالِ بفعلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ الفعل الظاهر ، العاملُ في ضميره بِوَساطَةِ « على » ، ويكون المفسِّر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، والتقدير : أفَضَّلَ الله هؤلاء مَنَّ عليهم ، أو اختار هؤلاء مَنَّ عليهم ، ولا مَحَلِّ لقوله : « مَنَّ اللَّهُ عليهم » لكونها مُفَسّرة ، وإنِّما رجَّح هنا إضمار الفعل؛ لأنه وقع بد أداةِ يغلبُ إيلاءُ الفعلِ لها .
والثاني : أنه مرفوع المَحَلّ على أنه مبتدأ ، والخبر : مَنَّ اللَّهُ عليهم ، وهذا وإن كان سَالِماً من الإضْمَارِ الموجود في الوجه الذي قبله ، إلاَّ أنه مَرْجوحٌ لما تقدَّم ، و « عليهم » مُتعلِّقٌ ب « مَنَّ » .
و « من بَيْنِنَا » يجوز أن يتعلَّق به أيضاً .
قال أبو البقاء : « أي مَيَّزَهُمْ عَلَيْنَا ، ويجوز أن يكون حالاً » .
قال أبو البقاء أيضاً : مَنَّ عليهم منفردين ، وهذان التفسيران تفسيرا مَعْنِى لا تفسيراً إعراب ، إلاَّ أنه لم يَسُقْهُمَا إلاَّ تَفْسِيرَيْ إعراب .
والجملة من قول : « أهؤلاءِ مَنَّ اللِّهُ » الفرقُ بين الباءين أن الأولى لا تعلُّق لها لكونها زَائِدة في خبر « ليس » ، والثانية متعلّقة ب « أعلم » وتعدِّي العمل بها لِمَا ضُمِّن من معنى الإحاطَةِ ، وكثيراً ما يقع ذلك في عبارة العلماء ، فيقولون : علم بكذا والعلم بكذا لما تقدَّم .

فصل في تحرير معنى الفتنة في الآية
معنى هذه الفِتْنَةِ أن كُلَّ واحد من الفريقين مُبْتَلًى بصاحبه ، فرُؤسَاءُ الكُفَّارِ الأغنياء كانوا يَحْسُدُونَ فُقْرَاءَ الصحابة على كونهم سابقين للإسلام مُسَارعينَ إلى قَبُولِهِ ، فقالوا : ولو دخلنا في الإسلام لوجب عَلَيْنَا أن نَتْقَادَ لهؤلاء الفقراء المساكين ، وأن نعترف لهم بالتَّبَعِيَّةِ ، فكأن ذلك يَشُقُّ عليهم ، ونظيره : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] ، { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] .
وأمَّا فُقراءُ الصحابة فكانوا يَرَوْنَ أولئك الكُفَّارَ في الرَّاحَاتِ والمَسَّراتِ والطَّيبات والخسب والسَّعَةِ ، فكانوا يقولون : فكيف حَصَلَتْ هذه الأحوال لهؤلاء الكُفَّار مع أنَّا بَقِينَا في [ هذه ] الشدّة والضِّيقِ ، فقال تعالى : { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُم } فأحد الفريقين يرى الآخر مقدماً [ عليه ] في المناصبِ الدينية ، ويقولون : أهذا الذي فَضَّلَهُ الله علينا؟
وأمَّا المحققون فهم الذين يَعْلَمُونَ أن كُلَّ ما فعله اللَّهُ - تعالى- فهو حَقٌ وحكمةٌ وصوابٌ ولا اعتراض عليه ، إمَّا بحكم الملكية كما هو قول أهل السًّنَّةِن وإمَّا بحسبِ المصلحة كما هو قول المعتزلة فكانوا صَابِرينَ في وقت البلاءِ ، شاكرين في وقت الآلاءِ والنَّعْماءِ وهم الذين قال الله في حقِّهم : { ألَيْسَ اللَهُ بأعْلَمَ بالشَّاكرينَ } .
فصل
« روى أبُو سعيدٍ الخُدرِيُّ قال : جَلسَتُ في نَفَرٍ من ضُعَفَاءِ المهاجرين ، وإن بعضهم لَيَسْتَتِرُ من بعضٍ من العُرْي ، وقَارِئ يقرأُ عَلَيْنَا ، إذ جاء رسوله الله صلى الله عليه وسلم فَقَامَ عَلَيْنا فلما قامَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم سكت القَارِئُ ، فَسَلَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما كُنتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قلنا يا رسول الله : كان قارئ يقرأ وكُنَّا نَسْتَمِعُ إلى كتاب الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قلنا ، يا رسول اله : كان قارئ يقرأ وكُنَّا نَسْتَمِعُ إلى كتاب الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَل مِنْ أمَّتِي مَنْ أمَرَنِي أنْ أصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ « ، قال : ثُمَّ جلس وَسَطَنَا ليعدل بنفسه فينا ، ثم قال بيده هكذا فَتَحلَّقُوا ، وبرزت وُجُوهُهُمْ لهُ قال : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرفَ منهم أحداً غيري .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أبْشِرُوا يا مَعْشَرَ صَعَالِيك المُهاجِرينَ بالنُّور التَّام يَوْمَ القِيَامَةِ تَدْخُلُونَ الجنَّةَ قَبْلَ الأغْنِيَاء بنِصْفِ يَوْمٍ ، وذلِكَ مِقْدارُ خِمْسِمائَةِ سَنَةٍ « .
فصل في بيان الدلالة من الآية
احتجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على مِسْألةٍ خَلْقِ الأفعال من وجهين :
الأول : أن قوله : { فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْض } تصريح بأنَّ إلقاء تلك الفِتْنَةِ نم اللَّهِ تعالى ، والمُرَادُ من تلك الفِتْنَةِ ليس إلاَّ اعْتِرَاضُهُمْ على الله في أنْ جعل أولئك الفقراء رُؤسَاء في الدِّين ، والاعْتِراضُ على الله كُفْرٌ ، وذلك يَدُلُّ على أنَّه - تعالى- هو الخالقُ للكُفْرِ .

والثاني : أنه - تعالى - حكى عنهم أنهم قالوا : « أهؤلاء منَّ اللَّهُ عليهم من بَيْنِنَا » أي : منَّ عليهم بالإيمان باللَّهِ ، ومتابعة الرسول ، وذلك يدُلُّ على أن هذا المَعْنَى إنما حَصَلَ من الله تعالى؛ لأنه لو كان الموجد للإيمان هو العبد فالله ما مَنَّ عليه بهذا الإيمانِ ، بل العَبْدُ هو الذي منَّ على نَفْسِهِ بهذا الإيمان .
أجاب الجبائي عنه بأن الفِتْنَةَ في التَّكْلِيفِ ما توجب التَّشديدَ وإنما فعلنا ذلك ليقولوا : أهؤلاء أي : ليقول بَعْطُهمْ لبَعْضِ اسْتِفْهَاماً لا إنْكَاراً [ أهؤلاء ] منَّ الله عليهم من بَيْننَا بالإيمان أجاب الكعبي عَنْهُ بأن قال : « وكذلك فَتَنَّا بعضهم ببعض ليصبروا أو ليشكروا ، فكان عَاقِبَةُ أمرهم أن قالوا : اهؤلاء مَنَّ اللَّهُ عليهم من بَيْنِنَا » على مثاله قوله تعالى : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] .
والجواب عن الوجهين أنه عُدُولٌ عن الظاهر من غير دليل ، والدليل العَقْلِيُّ قائم على صَحَّةِ هذا الظاهر؛ لأنه لمَّا كانت مُشاهَدةُ هذه الأحْوالِ تُوجِبُ الأنَفَةَ ، والأنَفَةُ توجبُ العصيان والإصْرارَ على الكُفْرِ ، وموجبُ الموجب مُوجبٌ ، فكان الإلزامُ وَارِداً ، واللَّهُ أعلم .

وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)

« إذا » منصوب بجوابه ، أي فقل ، سلامٌ عليكم وَقْتَ مجيئهم أي : أوقع هذا القول كله في وقت مجيئهم إليك ، وهذا معنى واضح .
وقال أبو البقاءك « والعاملُ في » إذا « معنى الجواب ، أي : إذا جاءوك سَلَّمْ عليهم » ولا حَاجَة تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى؛ لأن كونه يُبَلِّغُهُمُ السَّلام والإخبار بأنه كتب على نفسه الرَّحْمَةَ ، وأنه من عَمِلَ سُوءاً بجَهَالَةٍ غفر له ما يقوم مقامه السَّلامُ فقط ، وتقديره يفضي إلى ذلك .
وقوله : « سلامٌ » مبتدأ ، وجاء الابتداء به وإن كان نَكِرَةً؛ لأنه دُعَاؤٌ ، والدُّعَاءُ من المُسَوِّغَاتِ .
وقال أبو البقاء : « لما فيه من معنى الفِعْلِ » وهذا ليس من مذهب جمهور البصريين ، وإنماهو شيء نُقِلَ عن الأخفش : أنه إذا كانت النكرة في معنى الفِعْل جاز الابتداء بها ورفعها الفاعل ، وذلك نحو : « قائم أبواك » ونقل ابن مالك أن سيبويه أوْمَأ إلى جوازه ، واستدلال الأخفش بقوله : [ الطويل ]
2182-خَبِيرٌ بَنُو لِهْبٍ فَلا تَكُ مُلْغِياً ... مَقَالَةَ لِهْبِيَّ إذَا الطَّيْرُ مَرَّتِ
ولا دليل فيهح لأنَّ « فعيلاً » يقع بلفظ واحدٍ للمفرد وغيره ، ف « خيبر » خَبَرٌ مقدَّمٌ واسْتَدَلَّ له أيضاً بقول الآخر : [ الوافر ]
2183- فَخَبِيْرٌ نَحْنُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْكُمْ ... إذَا الدَّاعِي المُثَوَّبُ قَالَ : يَا لاَ
ف « خير » مبتدأ ، و « نحن » [ فاعل ] سَدَّ مَسَدَّ الخبر .
قيل : لئلا يَلْزَمُ الفَصْلُ بين « أفعل » و « مِنْ » بأجنبي بخلاف جَعْلِه فاعلاً ، فإن الفاعل كالخبر بخلاف المبتدأ .
و « عليكم » خَبَرُهُ ، و « سلامٌ عليكم » أبلغ من « سَلاَماً عليكم » بالنصب ، وقد تقررَّ هذا في أوَّلِ « الفاتحة » عند قراءة « الحَمْدُ » و « الحَمْدَ » .
وقوله : « كَتَبَ رَبُّكُم » في مَحَلِّ نصب بالقولِ ، لأنه كالتفسير لقوله : « سلامٌ عليكم » .
فصل في نزول الآية
قال عكرمة : نزلت في الذين نَهَى اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم عن طردهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بَدَأهُمْ بالسلام .
وقال عطاء : نزلت في أبي بكرٍ ، وعُمَرَ ، وعُثمانَ ، وعلي ، وبلال ، وسالم ، وأبي عُبَيْدةَ ، ومُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ ، وحَمْزَة ، وجعفر ، وعُثمانَ بْنِ مَظْعُون ، وعمَّارِ بْنِ يَاسِر ، والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سَلَمَة بْنِ عَبْدِ الأسَدِ .
قال ابن الخطيب : « وها هنا إشْكَالٌ ، وهو أن النَّاسَ اتفقوا لع ىأن هذه السُّورة نزلت دفعةً واحدةً ، وإذا كان كذلك ، فكيف يمكن أن يُقَالَ في كُلِّ واحدٍ من آيات هَذِهِ السُّورة : إن سبب نزول هذه الآية الأمْرُ الفلاني بِعَيْنِهِ ، بل الأقْرَبُ أن تُحْمَلَ هذه الآية على عمومها ، فكل من آمن باللِّهِ دخل تحت هذا التشريف » .

فصل فيما يطلق عليه لفظ « السلام »
قال المبرِّد : السَّلامُ في اللغة على أربعة أشياء :
فمنها سلمت سلاماً ، وهو معنى الدعاء .
ومنها أنه أسْمٌ من أسْمَاء اللَّهِ تعالى .
ومنها الإسْلام .
ومنها الشَّجَرُ العظيم أحْسَبُهُ مُسَمَّى بذلك لسلامتِهِ من الآفَاتِ .
ومنها أيضاً اسم للحِجَارَةِ الصَّلْبَةِ ، وذلك أيضاً لسَلامتِهَا من الرَّخَاوَةِ .
ثم قال الزجَّاج : « سلام عليكم » ها هنا يحتمل أن يكون له تأويلان :
أحدهما : أن يكون مَصْدر : سَلَّمت تسليماً وسلاماً ، مثل « السَّراح » من « التَّسْرِيح » ، ومعنى سلمت عليه سلاماً : دعوت بأن يَسْلَمَ من الآفات في دينِهِ ونَفْسِهِ ، والسَّلامُ بمعنى التَّسْلِيم .
والثاني : أن يكون « السَّلامُ » جَمْعَ « السلامة » ، فمعنى قولك : السَّلامُ عليكم : السَّلامةُ عليكم .
وقال ابن الأنباري : قال قومٌ : السلامُ هو الله تعالى ، فمعنى السَّلامُ عليكم [ يعني الله عليكم ] أي : على حفظكم ، وهذا بَعِيدٌ في هذه الآية لتنكير السَّلامِ ، ولو كان مُعَرَّفاً لصحَّ هذا الوَجْهُ .
فصل في الكلام على « السلام »
قال قوم : إنَّه - تعالى لمَّا أمَرَ الرسول - عليه الصلاة والسلام- بأن يقول لهم : « سلامٌ عَليْكُمْ كَتَبَ ربُّكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَة » كان هذا من قول الله فَيَدُلُّ على أنه - تعالى- قال لهم في الدُّنْيَا : سلامٌ عليكم كتب ربُّكم على نفسه الرحمة .
ومنهم من قال : بل هذا كلامِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم .
فصل في معنى « كتب »
كتب كذا [ على فلان ] يفيد الإيجاب ، أي : بمعنى قَضَى ، وكلمة « على » أيضاً تُفيدُ الإيجابَ ، ومجموعهما مُبالغة في الإيجاب ، وهذا يقتضي كونه - تعالى - راحماً لِعِبَادِهِ على سبيل الوُجُوبِ ، واختلفوا في ذلك الوجوب؟
فقال أهْلُ السُّنَّةِ : له - سُبْحَانهُ وتعالى - أن يتصرَّفَ في عبادِهِ كَيْفَ شَاءَ وأراد إلاَّ أنه أوجب الرَّحْمَة على نَفْسِهِ على سبيل الفَضْلِ والكرم .
وقالت المعتزلةُ : إنّ كونه عالماً بِقُبْحِ القَبَائح ، وعالماً بكونه غنيّاً عَنْهَا يمنعه من الإقْدامِ على القَبَائِحِ ، ولو فعله كان ظَالِماً ، والطُّلْمُ قَبِيحٌ ، والقُبْحُ منه مُحَالٌ .
فصل في الدلالة في الآية
دلَّتْ هذه الآية على جواز تسمية ذاتِ الله - تعالى - بالنفسن أيضاً قوله تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] يَدُلُّ عليه ، والنَّفْسُ هنا بمعنى الذَّاتِ والحقيقة ، لا بمعنى الجِسْمِ ، والدَّمِ؛ لأنه - تعالى - مُقدَّسٌ عَنْهُ؛ لأنه لوك ان جِسْماً لكان مُرَكَّباً ، والمُرَكَّب ممكن .
وأيضاً إنه أحَدٌ لا يكون مُرَكَّباً ، وما لا يكون مركباً لا يكون جسماً .
وأيضاً الأجْسَامُ متماثلةٌ في تمام الماهية ، فلو كان جِسْماً لحصل له مِثْل ، وذلك بَاطِلٌ؛ لقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] .
فصل في دحض شهب المعتزلة
قال المعتزلة : « كَتَبَ ربُكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ » يُنَافِي كونه تعالى يخلق الكُفْرَ في الكَافِرِ ، ثم يُعَذِّبُهُ عليه أبَد الآبَادِ ، وينافي أن يقال : إنه يمنعه من الإيمان ، ثم يأمره حال ذلك المَنْعِ بالإيمان ، ثم يعذبه على ذلك .

وأجيب بأنه - تعالى- نَافِعٌ ضارُّ محيي مميت ، فهو - تعالى -فعل تلك الرَّحْمَةَ البالغة ، وفعل هذا القَهْرَ البالغ ولا مُنافَاة بين الأمرين .
قوله : « أنَّهُ ، فأنَّهُ » قرأ ابن عامر ، وعاصمر بالفتح فيهما ، وابن كثير وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي بالكَسْرِ فيهما ، ونافعٌ بفتح الأولى ، وكسر الثانية ، وهذه القراءاتُ الثلاثُ في المُتَواتِرِ ، والأعرج بكسر الأولى وفتح الثانية عكس قراءة نافع ، هذه رواية الزّهرواوي عنه ، وكذا الدَّاني .
وأمَّا سيبويه فروى قراءته كقراءة نافعٍ ، فيحتمل أن يكون عنه رَوَيَتَانِ .
فأمَّا القرَاءةُ الأولَى فَفَتْحُ الأولَى فيها من أربعة أوجه :
أحدها : أنها بدلٌ من « الرحمة » بدل شيء من شيء ، والتقدير : « كتب على نفسه أنه من عمل » إلى آخره ، فإنَّ نفس هذه الجمل المتضمنةِ للإخبار بذلك رَحْمَة .
والثاني : أنها في مَحَلِّ رَفْعٍ على أنها مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : « عليه أنه من عمل » إلى آخره .
والثالث : أنها [ فتحت ] على تقدير حَذْفِ حرف الجرَّ ، والتقدير : « لأنه من عمل » ، فلما حُذِفت « اللاَّمُ » جرى في مَحَلِّهَا الخلاف المشهور .
الرابع : أنها مَفْعُولٌ ب « كتب » ، و « الرحمة » مفعول من أجلِهِ ، أي : أنه كتبَ أنَّهُ من عملَ لأجل رحمته إياكم .
قال أبو حيَّان : وينبغي ألاَّ يجوز؛ لأنَّ فيه تَهْيِئَةَ العامل للعمل ، وقطعه عنه .
وأمَّا فَتْحُ الثانية فمن خمسة أوجه :
أحدها : أنها في مَحَلِّ رفع على أنها مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : فَغُفْرَانُهُ ورَحْمَتُهُ حاصلان أو كائنان ، أو فعليه غفرانه ورحمته .
وقد أجمع القُرَّاءُ على فتح ما بعد « فاء » الجزاء في قوله : { أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [ التوبة : 63 ] { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ } [ الحج : 4 ] كما أجمعو على كسرها في قوله : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [ الجن : 23 ] .
الثاني : أنها في محلِّ رفعٍ على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : فأمره أو شأنه أنه غفورٌ رحيم .
الثالث : أنها تكرير للأولى كُرِّرت لمَّا طال الكلامُ وعطفت عليها بالفاء ، وهذا مَنْقُولٌ على أبي جَعْفَرٍ النحاس ، وهذا وهمٌ فاحشٌ؛ لأنه يَلْزَمُ منه أحدُ مَحْذُوريْنَ : إمَّا بقاءُ مبتدأ بلا خبر ، أو شرطٍ بلا جواب .
وبيانُ ذلك أنَّ « مَنْ » في قوله : « أنه مَنْ عَمِلَ » لا تخلو : إمَّا أن تكون مَوْصُولَةً أو شرطية ، وعلى كلا التقديرين ، فهي في محلِّ رفع بالابتداء ، فلو جعلنا « أن » الثانية مَعْطُوفَةً على الأولى لَزِمَ عدمُ خبر المبتدأ ، وجواب الشرط ، وهو لا يجوز .

وقد ذكر هذا الاعتراض ، وأجاب عنه الشيخ شهابُ الدين أبو شامة فقال : « ومنهم مَنْ جعل الثانية تكريراً للأولى لأجل طولِ الكلام على حَدِّ قوله : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُون } [ المؤمنون : 35 ] ودخلت » الفاء « في » فأنه غفور « على حدِّ دخولها في { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ } [ آل عمران : 188 ] على قول من جعلهُ تكريراً لقوله : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُون } [ آل عمران : 188 ] إلاَّ أنه هذا ليس مثل » أيَعدكُمْ « ؛ لأن هذه لا شرط فيها ، وهذه فيها شَرْطٌ ، فيبقى بغير جواب .
فقيل : الجواب محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره : غفر لهم » انتهى .
وفيه بُعْدٌ ، وسيأتي هذا الجواب أيضاً في القراءة الثانية منقولاً عن أبي البقاءِ ، وكان يبغي أن يجيب به هنا ، لكنه لم يفعل ولم يظهر فَرْقٌ في ذلك .
الرابع : أنها بدلٌ من الأولى ، وهو قول الفرَّاء والزَّجَّاج وهذا مَرْدُودٌ بشيئين :
أحدهما : أنَّ البدل لا يدخل فيه حَرْفُ عطفٍ ، وهذا مقترن بحرف العطف ، فامتنع أن يكون بدلاً .
فإن قيل : نجعل « الفاء » زائدة ، فالجوابُ أن زيادتها غير زائدة ، وهو شيء قال به الأخفش .
وعلى تقدير التَّسْليم فلا يجُوزُ ذلك من وَجْهٍ آخر ، وهو خُلُوُّ المبتدأ ، أو الشرط عن خبرٍ أو جواب .
والثاني من الشيئين : خُلُوُّ المبتدأ ، أو الشرط عن الخبر ، أو الجواب كما تقدَّم تقريره ، فإن قيل : نجعل الجواب مَحْذُوفاً - كما تقدَّم نقلهُ عن أبي شامة - قيل : هذا بعيد عن الفَهْمِ .
الخامس : أنها مرفوعة بالفاعليَّةِ ، تقديره : « فاسْتَقَرَّ أنَّهُ غفورٌ رحيمٌ » أي : اسْتَقَرَّ وثبت غُفْرَانُهُ ، ويجوز أن يُقدَّر في هذا الوجه جَارّاً رافعاً لهذا الفاعل عند الأخْفَشِ تقديره : فعليه أنه غفورٌ ، لأنه يرفع به وإن لم يعتمد ، وقد تقدَّم تحقيقه مِرَاراً .
وأمَّا القراءة الثانية : فكسر الأولى من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها مُسْتَأنَفَةٌ ، وأن الكلام تامُّ قبلها ، وجيء بها وبما بعدها كالتَّفْسير لقوله : « كتبَ ربُّكُم على نَفْسهِ الرَّحْمَةَ » .
والثاني : أنَّها كُسِرت بعد قَوْلٍ مُقدَّرٍ ، أي : قال الله ذلك ، وهذا في المعنى كالذي قبله .
والثالث : أنه أجري « كتب » مُجْرَى « قال » ، فَكُسِرَتْ بعده كما تُكْسَرُ بعد القَوْلِ الصريح ، وهذا لا يَتَمَشَّى على أصول البصريين .
وأمَّا كَسْرُ الثانية فمن وجهين :
أحدهما : أنها على الاسْتِئْنَافِ بمعنى أنها في صَدْرِ جملةٍ وقعتْ خبراً ل « من » الموصُولةِ ، أو جواباً لها إن كانت شرطاً .
والثاني : أنها عُطِفَتْ على الأولى ، وتكريرٌ لها ، ويعترض على هذا بأنه يَلْزَمُ بقاءُ المبتدأ بلا خبرٍ ، والشرط بلا جزاءٍ ، كما تقدَّم ذلك في المفتُوحَتَيْنِ .
وأجاب أبو البقاء عن ذلك بأن خبر « من » محذوف دلَّ عليه الكلامُ ، وقد تقدَّم أنه كان ينبغي أن يكون العائدُ مَحْذُوفاً ، أي : فإنه غفورٌ له .

قال شهاب الدين : قوله : « ويجوز » ليس بجيِّدٍ ، بل كان ينبغي أن يقول : ويجب؛ لأنه لا بُدَّ من ضميرٍ عائدٍ على المبتدأ من الجملة الخبرية ، أو ما يقوم مُقَامَهُ إن ليم كن نفس المبتدأ .
وأمَّا القراءةُ الثالثة : فيُؤخَذُ فتْحُ الأولى وكَسْرُ الثانية مما تقدَّم من كسرها وفتحها بما يليق من ذلك نفس المبتدأ .
وأمَّا القراءة الرابعة : فكذلك .
وقال أبو شامة : « وأجاز الزَّجَّاج كَسْرَ الأولى ، وفَتْحَ الثانية ، وإن لم يقرأ به » .
قال شهاب الدين : وقد قدَّمْتُ أنَّ هذه قراءة الأعرج وأن الزهراوي وأبا عمرو الدَّاني نقلاها عنه ، فكأن الشَّيْخً لم يَطَّلِعُ عليها .
وتقدَّم أن سيبويه لم يَرْو عن الأعْرَجِ إلاَّ كقارءاة نافعٍ فهذا مما يصلح أن يكون عُذْراً للزَّجَّاج ، وأمَّا أبو شَامَةَ فإنه مُتَأخرٌ ، فعدم اطِّلاعِهِ عَجيبٌ .
و « الهاء » في « أنه » ضمير الأمر والقِصَّةِ ، و « مَنْ » يجوز أن تكون شرطيَّة ، وأن تكون موصولة ، وعلى كل تقدير فهي مُبْتَدَأةٌ ، و « الفاءُ » ما بعدها في محلِّ جَزْم جواباً إن كانت شرطاً ، وإلاَّ ففي محلِّ رفعٍ خبراً إن كانت موصُولة ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : غفورٌ له .
و « الهاء » في « بعده » يجوز أن تعود على « السُّوء » ، وأن تعود على العمل المفهوم من الفعل كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] والأوَّل أوْلَى؛ لأنه أصْرَحُ ، و « منكم » مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ إذ هو حالٌ من فاعل « عمل » ، ويجوز أن تكون « مِنْ » للْبَيَانِ ، فيعمل فيها « أعني » مقدراً .
وقوله : « بجهالةٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مُتَعلِّق ب « عمل » على أن « الباء » للسَّبَيَّة ، أي : عمله بسبب الجَهْلِ ، وعبَّر أبو البقاء في هذا الوجه عن ذلك بالمفعول به وليس بواضحٍ .
والثاني : وهو الظَّاهِرُ أنه للحالِ ، أي : عمله مُصَاحباً للجَهَالَةِ ، « ومِنْ » في « مِنْ بعده » لابتداء الغاية .
فصل في تحرير معنى الآية
قال الحسنُ : كل من عمل مَعْصِيَةً فهو جَاهِلٌ ، ثُمَّ اختلفُوا؛ قال مُجاهد : لا يعلمُ حلالاً من حرامٍ فمن جهالته ركب الأمر . وقيل جاهلٌ بما يورثه ذلك الذَّنْبُ .
وقيل : جهالتُهُ من حيث إنهخ آثر المَعْصِيَةَ على الطَّاعةِ ، والعاجل القليل على الآجل الكثير ، ثُمَّ تاب من بعد ورجع عن ذنْبِهِ ، وأصلح عمله .
قيل : وأخْلَصَ توْبَتَهُ فإنه غفورٌ رحيمٌ .

وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)

« الكاف » نعتٌ لمصدر مَحْذُوفٍ ، أو حال من ضمير ذلك المصدر ، كما هو رأي سيبويه ، والإشارةُ بذلك إلى التفضيل السَّابق ، تقديره : مِثْلُ التَّفْصِيل البيَّن ، وهو ما سبق من أحوال الأمم نُفَضِّلُ آيات القرآن .
وقال ابن عطية : والإشارةُ بقوله : « وكذلك » إلى ما تقدَّم ، من النَّهْيِ عن طَرْدِ المؤمنين ، وبيان فَسَاده بِنَزْعِ المعارضين لذلك .
و { نفَصِّلُ الآيات } نُبَيِّنُهَا ونَشْرَحُهَا ، وهذا شبيه بما تقدَّم له في قوله : { وكذلك فَتَنَّا } [ الأنعام : 53 ] وتقدَّم أنه غير ظاهر .
قوله : « ولتَسْتَبينَ سَبِيلُ » قرأ الأخوان ، وأبو بكر : « وليَسْتَبِينَ » بالياء من تحت ، و « سَبِيلُ » بالرفع .
ونافع : « وَلِتَسْتَبينَ » بالتَّاء من فَوْق ، « سَبِيلَ » بالنصب ، والباقون : بالتاء من فوق ، و « سبيل » بالرفع . وهذه القراءات دائرة على تذكير « السبيل » وتأنيثه وتعدي « استبان » ولزومه ، وإيضاح هذا أن لغة نجد وتميم تذكير « السبيل » وعليه قوله تعالى : { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } [ الأعراف : 146 ] .
ولغة « الحجاز » التأنيث ، وعليه { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] وقوله : { لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً } [ آل عمران : 99 ] .
وقوله : [ البسيط ]
2184- خَلَّ السَّبيلَ لِمَنْ يَبْنِي المَنَارَ بَهَا .. . .
وأمَّا « اسْتَبَانَ » فيكونُ مُتعدِّياً ، نحو : « اسْتَبَنْتُ الشَّيء » ، ويكون لازَماً نحو : « اسْتَبَانَ الصُّبْحُ » بمعنى « بَانَ » فمن قرأ بالياء من تحت ، ورفع فإنه أسْنَدَ الفعل إلى « السَّبيل » ، فرفعه على أنه مذكر وعلى أن الفعل لازمٌ .
ومن قرأ بالتَّاء من فوق ، فكذلك ولكن لغة التأنيث ، ومن قرأ بالتاء من فوق ، ونصب « السبيل » فإنه [ أسند الفعل إلى المخاطب ، ونصب « السبيل » على ] المفعولية وذلك على تعديته أي : ولتستبين أنت سبيل المجرمين ، فالتاء في « تستبين » مختلفة المعنى ، فإنها في إحدى القراءتين للخطابِ ، وفي الأخرى للتأنيث وهي في كلا الحالين للمُضارعةِ ، و « تستبين » منصوب بإضمار « أن » بعد لام « كي » ، وفيما يتعلق به هذه اللام وجهان :
أحدهما : أنها معطوفة على عِلَّةٍ محذوفة ، وتلك العَلَّةُ معمولة لقوله : « نُفَصّل » والمعنى : وكذلك نُفَصِّلُ الآيات لتستبين لكن ولتستبين .
والثاني : أنها مُتعلِّقةٌ بمحذوف مُقدَّر بعدها ، أي : ولتسبين سبيل المجرمين فَصَّلْنَاهَا ذلك التَّفْصَيل ، وفي الكلام حَذْفُ مَعْطُوفٍ على رأي ، أي : وسبيل المؤمنين كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] .
وقيل : لا يحتاج إلى ذلك لأن المقام إنما يَقْتَضِي ذِكْرَ المجرمين فقط؛ إذ هم الذين أثَارُوا ما تقدم ذكرهُ وقيل : لأن الضَّديْنِ إذا كانا بحيث لا يَحْصُلُ بينما واسطةٌ ، فمتى بَانَتْ خَاصيَّةُ أحد القسمين بانت خاصيَّةُ القسمٍ الآخر ، والحق والباطل لا وَاسِطَةَ بينهما ، فمتى اسْتَبَانَتْ طريقة المجرمين ، فقد استبانت طريقة المُحَقِّقين أيضاً لا محالة .

قوله تعالى : { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المهتدين } « أن أعبد » في محل « أن » الخلاف المشهور ، إذ هي على حذف حرفٍ ، تقديره : نهيت عن أن أعْبُدَ الذين تدعون من دون الله قل : لا أتَّبعُ أهْوَاءَكُمْ في عِبَادَةِ الأوْثانِ ، وطرْدِ الفقراء .
قوله : « قَدْ ضَلَلْتُ » بفتح « اللام » الأولى .
وقرأ أبو عبد الرحمن ، ويحيى ، وابن أبي ليلى أنهما قرءا هنا وفي « ألم السجدة » : { أإذا صَلَلْنَا } [ السجدة : 10 ] بصاد غير معجمة يقال : صل اللَّحم أي : أنْتَنَ ، وهذا له بَعْضُ مُناسبةٍ في آية « السجدة » ، وأما هنا فمعناه بعيد أو ممتنع .
وروى العباس عن ابن مجاهد في « الشواذ » له : « صُلِلْنَا في الأرْضِ » ، أي : دُفِنَّا في الصِّلَّة ، وهي [ الأرضُ ] الصّلْبَةُ .
وقوله : « ومَا أنَا مِن المُهتدينَ » تأكيد لقوله : « قَدْ ضَلَلْتُ » وأتى بالأولى جملة فعلية لِتَدُلَّ على تَجَدُّدِ الفعل وحدوثه ، وبالثانية اسمية لتدل على الثبوت . والمعنى « وما أنا من المهتدين ، يعني إن فعلت ذلك ، فقد تركت سبيل الحقّ ، وسلكت غير سبيل الهدى » .

قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)

قوله : { إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } أي : على بيانِ أو بَصِيرةٍ وبُرهانٍ من ربي .
قوله : « وكَذَّبْتُم به » في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها مُسْتَأنَفَةُ سِيقَتْ للإخبارِ بذلك .
والثاني : أنها في مَحَل نصبٍ على الحالِ ، وحينئذٍ هل يحتاج إلى إضمار « قد » أم لا؟
و « الهاء » في « به » يجوز أن تعود على « ربِّي » ، وهو الظاهر .
وقيل : على القرآن؛ لأنه كالمذكور .
وقيل : على اسْتِعْجَالهِمْ بالعذاب؛ لأنهم كانوا يقولون : { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً } [ الأنفال : 32 ] .
وقيل : على بيَّنةٍ؛ لأنها في معنى البيانِ .
وقيل : لأن « التاء » فيها للمُبالغةِ ، والمعنى على أمرٍ بيِّنٍ من ربي .
و « مِنْ ربِّي » في محلِّ جَرِّ صِفَةً ل « بيِّنَةٍ » .
قوله : « ما عِنْدي مَا تَسْتَعْجِلُونه بِهِ » كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يخوِّفهم نزول العذابن فقال تعالى : قال يا محمَّد : ما عندي ما تَسْتَعْجِلُونَ به ، يعني قولهم : { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] .
وقيل : أراد به القِيامَةَ؛ لقوله تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } [ الشورى : 18 ] .
قوله : { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } أي : في تأخير عذابهم .
قوله : « يَقُصُّ الحقَّ » قرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم « يَقُصُّ » [ بصاد مهملة مشددة ] مرفوعة ، وهي قاءة ابن عبَّاسٍ ، والباقون بضادٍ معجمة مخففة مكسورة ، وهاتان في المتواترة .
وقرأ عبد الله ، وأبَيٌّ ، ويحيى بن وثَّابٍ ، والنخعي ، والأعمش ، وطلحة : « يَقْضِي بالحقِّ » من القضاءِ .
وقرأ سعيد بن جُبَيْرٍ ، ومجاهد : « يقضي بالحقِّ وهو خير القاضين » . فأمَّا قراءة « يقضيط فَمِنَ القضاء .
ويؤيده قوله : » وهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ « فإن الفَصْلَ يناسب القضاء ، ولم يُرْسَمْ إلاَّ بضاد ، كأن » الباء « حذفت خطَّاً كما حذفت لَفْظاً لالتقاء الساكنين ، كما حُذِفَتْ من نحو : { فَمَا تُغْنِي النذر } [ القمر : 5 ] .
وكما حذفت » الواو « في { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] ، { وَيَمْحُ الله الباطل } [ الشورى : 24 ] كما تقدَّم .
وأمَّا قراءةُ نَصْبِ » الحقّ « بعدهُ ، ففيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه مَنْصُوبٌ على أنه صَفَةٌ لمصدر مَحْذُوفٍ ، أي : يقضي القضاء الحقّ .
والثاني : أنه ضمَّن » يقضيط معنى « ينفذ » ، فلذلك عدَّاهُ إلى المفعول به .
الثالث : أن « قضى » بمعنى « صَنَع » فيتعدَّى بنفسه من غير تَضْمينٍ ، ويدُلُّ على ذلك قول الهُذَلِيّ شِعْراً : [ الكامل ]
2185- وَعَليْهِمَا مَسْرُودتانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أوْ صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّع
[ أي : صنعهما ] داود .
الرابع : أنه على إسْقَاطِ حَرْفِ الجرِّ ، أي : يقضي بالحق ، فلما حذف انْتَصَبَ مَجْرُورُهُ على حَدِّ قوله : [ الوافر ]
2186- تَمُرُّونَ الدِّيَار وَلَمْ تَعُوجُوا ..
ويُؤيِّد ذلك القراءة بها الأصل .
وأمَّا قراءةُ « يَقُصُّ » فمن « قَصَّ الحديثَ » ن أو مِنْ « قَصَّ الأثَرَ » أي : تتبَّعه .

قال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } [ يوسف : 3 ] .
ورجَّحَ أبُو عَمْرِو بْنُ العلاءِ القراءة الأولى بقوله : « الفَاصِلينَ » وحُكِيَ عنه أنه ق : « أهُوَ يَقُصُّ الحقَّ أوْ يَقْضِي الحقَّ » فقالوا : « يَقُصُّ » فقال : لو كان « يَقُصُّ » لقال : « وهو خيرالقاصَّين » أقَرَأ أحَدٌ بهذا؟ وحيث قال : وهو خير الفاصلين فالفَصْلُ إنما يكون في القضاءِ .
وكأن أبا عمروٍ لم يبلغه « وهو خير القاصين » قراءة ، وقد أجاب أبو علي الفارسي عما ذكره أبو العلاء ، فقال : « القَصَصُ » هنا بمعنى القولِ ، وقد جاء القول في القَصْل أيضاً ، قال تعالى { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } [ الطارق : 13 ] .
وقال تعالى : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [ هود : 1 ] .
وقال تعالى : « ونُفَصِّلُ الآياتِ » فقد حمل الفَصْلَ على القول ، واستعمل معه كما جاء مع القضاءِ ، فلا يلزم من الفاصل أن يكون معيناً ل « يقضي » .
فصل في الاحتجاج بالآية لأهل السُّنة
أحتج أهل السُّنَّةِ بقوله : { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّه } على أنه لا يقدر العَبْدُ على أمر من الأمور إلاَّ إذا قَضَاهُ الله ، فيمتنع منه فعلُ الكُفْرِ إلا إذا قضى اللَّهُ وحكم به ، وكذلك في جميع الأفعال؛ لأن قوله : { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّه } [ يفيد الحصر ] .
واحتج المعتزلة بقوله : « يقضي الحق » ، ومعناه : أن كل ما قضى به فهو الحقّ ، وهذا يقتضي ألاَّ يريد الكفر من الكافر ، ولا المعصية من العاصي؛ لأن ذلك ليس بحق ، والله أعلم .

قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)

أي : لو أن في قُدْرَتِي إمكاني ما تستعجلون به من العذابِ لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي واقتصاصاً من تكذيبكم به ، ولتخلصت سريعاً .
قوله : « والله أعلم بالظَّالمين » من باب إقامةِ الظاهر مُقامَ المضمر تَنْبِيهاً على استحقاقهم ذلك بصفة الظلم ، إذ لو جاء على الأصْلِ لقال والله أعلم بكم والمعنى أني لا أعلم وقْتَ عُقُوبةِ الظالمين ، والله - تعالى - يعلم ذلك ، فهو يؤخّر إلى وقته . والله أعلم .

وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)

في « مَفَاتح » ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه جمع « مِفْتح » بكسر الميم والقَصْر ، وهو الآلة التي يُفْتَحُ بها نحو : « مِنْجَل ومَنَاجل » .
والثاني : أنه جمع « مَفتح » بفتح الميم وهو المكان . ويؤيده تَفْسِيرُ ابن عبَّاسٍ : هي خزائن المطر .
قال الفراء : قوله تعالى : { مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة } [ القصص : 76 ] يعني : خزائنه .
فعلى الأول فقد جعل للغيب [ مفاتيح ] على الاسْتِعَارةِ؛لأن المفاتيحَ يُتَوَصَّلُ بها إلى ما في الخزائن المُسْتوثقِ منها بالأغلاقِ والأقفَال .
وعلى الثاني : فالمعنى : وعنده خزائن الغَيْبِ ، والمراد منه القُدْرَةُ على كل الممكنات .
والثالث : أنه جمع « مِفْتاح » بكسر الميم والألف ، وهو الآلة أيضاً إلاَّ أن هذا فيه ضعفٌ من حيث إنه كان ينبغي أن تُقْلَبَ ألف المفرد ياءً ، فيقال : مفاتيح ك « دنانير » ولكنه قد نقل في جمع « مِصْبَاح » « مَصَابِح » ، وفي جمع « مِحْرَاب » « مَحَارِب » ، وفي جمع « قرقور » « قراقر » ، وهذا كما أتوا بالياء في جمع ما لا مدة في مفرده كقولهم : « دَرَاهيم » و « صَيَارِيف » في جمع « دِرْهَم » و « صَيْرَف » قال : [ البسيط ]
2187- تَنْفِي يداها الحَصَى فِي كُلِّ هَاجِرَةٍ ... نَفْيَ الدَّراهيمِ تَنْقَادُ الصَّيَاريفِ
وقالوا : عيَّل وعَيَاييل؛ قال : [ الزجر ]
2188- فِيهَا عَيَايِيلُ أسُودٌ ونُمُرْ ... قالوا : عيَّاييل ونُمور [ فزاد في ] ذلك ونقص .
وقد قرئ « مفاتيح » بالياء ، وهي تؤيد أن « مَفَاتح » ، وإنما حذفت مدّته .
وجوَّز الوَاحِدِيُّ أن يكون « مَفَاتح » جمع « مَفْتح » بفتح الميم ، على أنه مصدر قال بعد كلام حكاه عن أبي إسْحاقَ : فعلى هذا « مفاتح » جمع « المَفْتح » بمعنى الفَتْح كأن المعنى : وعنده فُتُوحُ الغيب ، أي : هو يفتح الغَيْبَ على مَنْ يَشَاءُ من عباده . وقال أبو البقاء : « مفاتح » جمع « مفتح » ، والمفتح الخزانَةُ .
فأما ما يفتح به فهو « المِفْتَاحُ » ، وجمعه « مفاتيح » ، وقد قيل : « مفتح » أيضاً انتهى يريد جمع « مَفْتَح » أي : بفتح الميم .
وقد قيل : مفتح ، يعني أنها لغة قليلة في الآلة ، والكثير فيها المد ، وكان ينبغي أن يوضح عبارته فإنها موهمة ، ولذلك شرحناها .
فصل
روى ابن عمر قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُها إلاَّ اللَّهُ . لا يَعْلَمُ ما تفِيضُ الأرْحَامُ أحَدٌ إلاَّ اللَّه ، ولا يَعْلمُ ما فِي غدٍ إلاَّ اللَّه ، ولا يَعْلَمُ مَتَى يَأتِي المَطَرُ أحَدٌ إلاَّ اللَّه ، ولا تَدْرِي نَفْسٌ بأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ إلاَّ اللَّه ، ولا يَعْلمُ متَى تَقومُ السَّاعةِ إلاَّ اللَّه » .

وقال الضحَّاكُن ومُقاتلٌ : « مفاتح الغيب » : خزائن الله ، وعلم نزول العذاب .
وقال عطاء : ما غَابَ عنكمن من الثواب والعقاب .
وقيل : انْقِضَاءُ الآجَالِ وقيلك أحوا العِبادِ من السَّعادةِ والشَّقاوةِ ، وخواتيم أعمالهم .
وقيل : إنه ما لم يكن بعد أنه يكون أم لا يكون وما يكون كيف يكون ، وما لا يكون أن لو كان كيف يكون .
وقال ابن مَسْعُودٍ : أوتي كُلِّ شيء إلاَّ مَفَاتحَ الغيب .
[ نقل القرطبي عن ابن عبد البر قال في كتاب « الكافي » : من المكَاسبِ المُجْمعِ على تحريمها الرِّبَا ، ومُهُورُ البغَايَا والسُّحْتُ والرشَا وأخذ الأجْرة على النياحة وأخذ الأجْرَةِ على الغِنَاء وعلى الكَهانَةِ وادِّعَاءِ علم الغيب ، وأخبار السماء وعلى الزَّمْر واللَّعب والباطل كله ] .
قوله : « لا يَعْلمُهَا إلاَّ هُوَ » في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال من « مفاتح » والعامل فيها الاسْتِقْرَارُ الذي تَضَمَّنَهُ حرف الجر لوقوعه خبراً .
وقال أبو البقاء : نفس الظَّرْفِ إن رفعت به « مفاتح » ، أي : إن رفعته به فاعلاً ، وذلك على رأي الأخْفشِ ، وتَضَمُّنُهُ الاسْتِقْرارَ لا بد منه على كل قول ، فلا فَرْقَ بين أن يرفع به الفاعل ، أو يجعله خبراً .
قوله : « ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ والبَحْرِ » قال مجاهد : الب والبحر : القُرَى والأمْصَار لا يحدث فيها شيء إلاَّ يعلمه .
وقيل : هو البر والبحر المعروف .
قالت الحكماء في تفسير هذه الآية : ثبت أن العِلْمَ بالعلَّةِ علة للعلم بلمعلول وأن العِلْمَ بالمعلول لا يكون عِلَّةً للعلم بالعِلَّةِ .
وإذا ثبت هذا فنقول : إن الموجود إما أن يكون واجباً لذاته ، أو ممكناً لذاته ، والواجب لذاته ليس إلاَّ الله تعالى ، وكل ما سواه فهو ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يوجد إلا بتأثير الواجب لذاتِهِ ، فكلُّ مَا سِوَى الحق سبحانه ، فهو موجودٌ بإيجاده وتكوينه .
وإذا ثبت ذلك ، فنقول : علمه بِذاتِهِ يوجب علمه بالأثَرِ الصَّادر منه ، ثم علمه بذلك الأثرِ الأول يُوجِبُ علهم بالأثر الثاني؛ لأن الأثر عِلَّة قريبة في الأثَرِ الثاني ، وقد ذكرنا أن العِلْمَ بالعِلَّةِ يوجب العِلْمَ بالمعلول فبدأ أوَّلاً بعِلْمِ الغيْبِ ، وهو علهمه بداتِه المخصوصة ، ثم يحصل له من علمه بذاتِهِ علمه بالأثار الصَّادةِ عنه على تَرْتيبهَا المعتبر ، ولما كان علمه بذاته لم يحصل إلا لذاتِهِ لا جرمَ صَحَّ أن يقال : « وعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ » ثم إن القَضَايا العَقْلِيَّة المَحْضَةَ يصعب تَحْصِيلُ العلم بها على سبيل التمام والكمال إلاَّ للْعقَلاءِ الكاملينَ الذين ألفوا اسْتِحْضار المَعْقُولاتِ ، ومثل هذا الإنسان يكون كالنّادر .
وقوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } قَضِيَّةٌ عَقْليَّةٌ مَحْضَةٌ والإنسان الذي يقوى عقله على الإحاطة بمعنى هذه القضية نَادِرٌ جداً ، والقرآن إنما أُنْزِلَ لينتفع به جَمِيعُ الخَلْقِ ، فلذلك ذكر لهذه القضيَّةِ العقلية مِثالاً من الأمور المَحْسُوسةِ الداخلة تحت هذه القضيَّة العقلية ليصير ذلك المَعْقُولُ بمعاونة هذا المثال المحسوس مَعْلُوماً [ مفهوماً ] لكل أحد ، فقال : « ويَعْلَمُ مَا فِي البرِّ والَحْرِ » لأن ذلك أحَد أقسام مَعْلُوماتِ الله - تعالى - وقد ذكر البر؛ لأن الإنسان قد شاهد أحوال البرِّ ، وكثرة ما فيه من المُدُنِ والقُرَى والمَفَاوِزِ والجبالِ والتِّلالِ ، وكثرة ما فيها من الحيوان والنَّبات والمعادن .

وأما البَحْرُ وإحاطة العَقْلِ بأحواله أقَلُّ إلاَّ أن الحِسِّ على أن عجائب البحار في الجملة أكُثَرُ ، وطولها وعرضها أعْظَمُ ، وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب .
فإذا اسْتَحْضَرَ الخَيَالُ صُورَةَ البر والبحر على هذه الوجوه ، ثم عرف أن مجموعها قِسْمٌ حقير من الأقسام الدَّاخلة تحت قوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } فيصير هذا المِثَالُ المَحْسُوسُ مقوِّياً ومكملاً لِلْعَظَمةِ الحاصلة تحت قوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } وكذلك قوله : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } لأن العقل يِسْتَحْضِرُ جميع ما على وَجْهِ الأرض من المُدُنِ والقُرَى والمفاوِزِ والجبالِ والتِّلال ، ثم يستحضر كَمْ فيها من النَّجْمِ والشجر ، ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقةٍ إلاَّ والحقُّ - سبحانه- يعلمها ، ثم يتجاوز من هذا المثالِ إلى مثالٍ آخر أشد منه هَيْئَةً ، وهو قوله : « ولا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الأرض » وذلك لأن الحَبَّةَ تكون في غاية الصِّغَرِ ، و « ظلمات الأرض » مَوْضِعٌ يخفي أكبر الأجسام وأعظمها ، فإذا سمع أن لتك الحبَّة الصغيرة المُلْقَاةَ في ظلمات الأرض على اتِّساعها وعظمها لا تخرج من علم الله ألْبَتَّةَ صارت هذه الأمثال مُنَبِّهَة على عظمِ عَظَمَتِهِ مقوية للمعنى المُشَارِ إليه بقوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } ثم إنه - تعالى - لما قَوَّى ذلك الأمر المعقول المَحْضَ المجرد بذكر هذه الجُزْئِيَّاتِ المحسوسات عاد إلى ذِكْر تلك القضية المَحْضَةِ بعبارة أخرى ، فقال : { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِس } وهو عَيْنُ المذكور في قوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ
} . قوله : « مِنْ وَرَقَةٍ » فاعل « تسقط » ، و « من » زائدة لاسْتِغْرَاقِ الجنس .
وقوله : « إلاَّ يَعْلَمُهَا » حالٌ من « ورقة » ، وجاءت الحال من النكرة لاعتمادها على النَّفْي ، والتقدير : وما تسقط من ورقة إلا عالم هن بها ، كقولك : ما أكرمت أحداً إلا صالحاً .
قال شهاب الدِّين : ويجوز عندي أن تكون الجُمْلَةُ نعتاً ل « ورقة » وإذا كانوا أجَازُوا في قوله : { إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] أن تكون نَعْتاً ل « قرية » في قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] مع كونها بالواو ويعتذرون عن زيادة « الواو » فَبِأنْ يجيزوا ذلك هنا أوْلَى .
وحينئذ فيجوز أن تكون في موضع جرِّ على اللفظ ، أو رفع على المَحَلّ ، [ والمعنى : يريد ساقط أو نَائِيَة أي : يعلم عدد ما يسقط من ورقِ الشجر ، وما يبقى عليه .

وقيل : يعلم كم انقلبت ظَهراً لبطنٍ إلى أن سقطتْ على الأرض ] .
قوله : « ولا حَبَّةٍ » عطف على لفط « وَرقة » ، ولو قرئ بالرفع لَكانَ على الموضع والمراد : الحب المعروف في بطُونِ الأرض .
وقيل : تحت الصَّخْرَةِ في أسفل الأرضين و « في ظلمات » صِفَةٌ ل « حَبّة » .
قوله : { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِس } مَعْطُوفانِ أيضاً على لَفْظ « ورقة » ، وقرأهما ابن السَّمَيْفَعِ ، والحسن ، وابن أبي إسْحَاق بالرفع على المَحَلِّ ، وهذا هو الظاهر ويجوز أن يكونا مبتدأين ، والخبر قوله : « إلاَّ في كتابٍ مُبينٍ » .
ونقل الزمخشري أن الرَّفْعَ في الثلاثة أعني قوله « ولا حبَّةٍ ولا رطبٍ ولا يابسٍ » وذكر وَجْهَيِ الرفع المتقدمين ، ونظر الوجه الثاني بقولك : لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار .
قال ابن عبَّاس : المراد ب « الرطب » الماء ، و « اليابس » البادية .
وقال عطاء : يريد ما نَبَتَ وما لا يَنْبُتُ .
وقيل : ولا حَيّ ولا مَوَات .
وقيل : هو عبارة عن كل شيء .
قوله : « إلاَّ فِي كتابِ مُبين » في هذه الاسْتِثْنَاءِ غُمُوضٌ ، فقال الزمخشري : وقوله « إلاَّ في كتابٍ مُبينٍ » كالتكرار لقوله : « إلاَّ يَعْلَمُهَا » لأن معنى « إلاَّ يَعْلَمُهَا » ومعنى « إلاَّ في كتابٍ مُبينٍ » واحد .
و « الكتاب » علم الله ، أو اللَّوْحُ ، وأبرزه أبو حيَّان في عبارة قريبة من هذه فقال : « وهذا الاسْتِثْنَاءُ جارٍ مُجْرى التوكيد ، لأن قوله » ولا حبَّةٍ « » ولا رطب « » ولا يابس « معطوف على » مِنْ ورقَةٍ « ، والاسْتِثْنَاءُ الأول مُنْسَحِبٌ عليها ، كما تقول : ما جاءني من رجل إلا أكرمته ، ولا امرأة ، فالمعنى إلاَّ أكرمتها ، ولكنه لما طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيلِ التوكيد ، وحسَّنه كونه فاصلة » انتهى .
وجعل صاحب « النظم » الكلام تامَّا عند قوله : « وَلاَيَابِس » ، ثم اسْتَأنَفَ خبراً آخر بقوله : « إلاَّ في كتابٍ مُبين » بمعنى : وهو في كتاب مُبين أيضاً ، قال : لأنك لو جعلت قوله : إلاَّ فِي كتابٍ مُبينٍ « مُتصلاً بالكلام الأوَّلِ لفسد المعنى ، وبيان فساده في فَصْلٍ طويل مذكور في سورة » يونس « في قوله : { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولاا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ يونس : 61 ] .
قال شهابُ الدِّين : إنما كان فاسد المعنى من حيث اعقد أنه اسْتِثْنَاءٌ آخر مستقل ، وسيأتي كيف فَسَادُهُ .
أمَّا لو [ جعله ] اسْتِثْنَاءً مؤكّداً للأول ، كما قاله الزمخشري لم يَفْسُدِ المعنى .
وكيف يُتَصَوَّرُ تمام الكلام على قوله تعالى : » ولا يَابِسٍ « ويبتدأ ب » إلاَّ « ، وكيف تقع » إلاَّ « هكذا؟
وقد نَحَا أبو البقاء لشيء مما قاله الجُرْجَانِيُّ ، فقال : » إلاَّ فِي كتابٍ مبين « أي : إلاَّ هو في كتابٍ مُبين ، ولا يجوز أن يكون اسْتِثْنَاء يعمل فيه » يعلمها « ؛ لأن المعنى يصير : ومَا تَسْقُطُ لم يكُنْ إلاَّ في كتاب ، وجب أن يعلمها في الكتاب ، فإذن يكون الاسْتِثْنَاءُ الثاني بدلاً من الأوَّلِ ، أي : » وما تَسْقُطُ من ورقةٍ إلاَّ هي في كتاب ، وما يعلمها إلاَّ هُوَ « انتهى .

وجَوَوابُهُ ما تقدَّم من جَعْلِ اللاستثناء تأكيداً ، وسيأتي تقريه إن شاء الله - تعلى - في سورة « يونس » .
فصل في المراد بالكتاب
في الكتاب المُبينِ قَوْلان :
الأول : هو عِلْمُ الله - تعالى وهو الأصْوَبُ .
وقال الزَّجَّاج : يجوز أن يكون الله - تعالى - أثْبَتَ كَيْفِيَّةَ المعلومات في كتاب من قبل أن يَخْلُقَ الخَلْقِ ، كما قال : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } [ الحديد : 22 ] . وقائدة هذا الكتاب أمور :
أحدها : أنه - تعالى - إنما كتب هذه الأحْوَالَ في اللَّوْحِ المحفوظ لِتَقفِ الملائِكَةُ على إنْفَاذِ عِلْم اللَّهِ في المعلومات ، وأنه لا يغيب عنه مما في السموات والأرض شيء ، فيكون في ذلك عِبْرَة تامة كاملة للملائكة الموكَّلين باللَّوحِ المحفوظ؛ لأنهم يقابلون به ما يحدث في هذا العالم فيجدونه مُوَافقاً له .
وثانيهما : يجوز أن يقال : إنه - تعالى - ذكر الوَرَقَةَ والحبَّة تَنْبِيهاً للمُكَلَّفينَ على أمْرِ الحِسَابِ وإعْلاماً بأنه لا يفُوتُهُ من كل ما يصنعون في الدنيا شيء؛ لأنه إذا كان لا يُهْمِلُ من الأحوال التي لَيْسَ فيها ثوابٌ وعقاب وتكليف ، فَبِأنْ لا يهمل الأحْوالَ المشتملة على الثواب والعقاب أولى .
وثالثها : أنه تعالى - لمَّا أثْبَتَ أحْوالَ جميع الموجودات في ذلك على التفصيل التام ، امتنع أيضاً تَغَيُّرُهَا ، وإلاَّ لزم الكذب ، فيصير [ كَتْبُهُ ] جملة الأحوال في ذلك الكتاب مُوجباً تامّاً [ وَسَبَباً كاملاً ] ، في أنه يمتنع تَقدُّمُ ما تأخَّرن وتأخُّرُ ما تقدَّمَ ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « جَفَّ القَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلى يَوْمِ القِيَامةِ » والله أعلم .

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)

لمَّا بيَّن تعالى كمالَ علمهِ في الآية الأولى- بيَّنَ كمالَ قُدْرتِهِ بهذه الآية ، وهو كونه قَادراً على نَقْلِ الذَّرواتِ من المَوْتِ إلى الحياة ، ومن النَّومِ إلى اليَقَظَةِ ، واسْتِقْلاله بحفظها في جميع الأحوال ، وتدبيرها على أحْسَنِ الوجوه في حَالِ النوم واليقظة .
قوله : « باللَّيْلِ » متعلّق بما قبله على أنه ظَرْفٌ له ، و « الباءُ » تأتي بمعنى « في » ، وقَدْ تقدَّم منه جملة صالحة .
وقال أبو البقاء هنا : وجاز ذلك؛ لأن « الباءس » للإلْصَاقِ والمُلاصِقُ للزمان والمكان حَصِلٌ فيها ، يعني في هذه العلاقةِ المجوزة للتَّجَوُّرِ ، وعلى هذا فلا حَاجَةَ إلى أن يَنُوب حَرْفٌ مكان آخر ، بل نقول : هي هنا للإلْصَاقِ مَجَازاً ، نحو ما قالوه في « مررتُ بزيد » ، وأسند التَّوَفِّي هنا إلى ذاتِهِ المُقَدَّسَةِ ، لأنه لا ينفر منه هنا ، إذ المُرَادُ به الدَعَةُ والرَّاحَةُ ، وأسند إلى غيره في قوله : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [ الأنعام : 61 ] { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت } [ السجدة : 11 ] لأنه ينفر منه ، إذا المُرَادُ به المَوْتُ .
وهاهنا يَحْثٌ ، وهو أن النائم لا شكَّ أنَّهُ حيُّ ، ومتى كان حَيَّاً لم تكن رُوحُهُ مَقْبُوَضَةً ألْبَتَّةًن فلا بُدَّ ها هنا من تأويلٍ ، وهو أنه حالَ النوم تَغُورُ الأرواح الحسَّاسَةُ من الظاهر في الباطن ، فصارت الحواسُّ الظاهِرَةُ مُعَطَّلَةً عن أعمالها ، فعند النوم صار ظَاهِرُ الجَسَدِ مُعَطَّلاً عن كُلِّ الأعمال ، فحصل بين النَّوءم وبين الموت مُشَابَهَةٌ من هذه الحَيْثِيَّةِ ، فلذلك صَحَّ إطلاق لفظ المَوْتِ والوفَاةِ على النوم .
قوله : « مَا جَرَحْتُمْ » الظاهر أنها مَصْدَرِيَّةٌ ، وإن كان كونها موصولة اسميةً أكثر ويجوز أن تكون نَكِرَةً مَوْصُوفَةً بما بعدها ، والعَائِدُ على كلا التقديرين الآخرين مَحْذُوفٌ ، وكذا عند الأخْفَشِ وابن السّراجِ على القول الأول .
و « بالنَّهَارِ » كقوله : « باللَّيْلِ » والضميرُ في « فيه » عائد على « النهار » وهذا هو الظاهر .
قال أبو حيَّان : « عاد عليه لَفْظاً ، والمعنى : في يوم آخر ، كما تقول : عندي دِرْهَمٌ ونَصْفهُ » .
قال شهابُ الدين : ولا حَاجَة في الظَّاهِرِ على عَوْدِهِ عىل نظير المذكور ، إذ عَوْدُهُ على المذكور لا مَحْذُورَ فيه .
وأمَّا ما ذكره من نحو « درهم ونِصْفهُ » فلضروة انْتِفَاءِ العِيِّ من الكلامِ ، قالوا : لأنك إذا قلت : « عندي درهمٌ » أنَّ عندك نصفه ضرورة .
فقولك بعد ذلك : « ونصفه » تضطَرُّ إلى عَوْدِهِ إلى نظير ماعندك ، بخلاف ما نَحْنُ فيه .
وقيل : يعود على اللَّيل .
وقيل : يعود على التَّوَفِّي ، وهو النوم أي : يوقظكم في خلالِ النوم .
وقال الزمخشري : « ثم يَبْعَثكُمْ من القبور في شَأنِ الذي قطعتم به أعْمَارَكُمْ من النوم باللَّيْلِ ، وكَسْب الآثام بالنهار » انتهى . وهو حَسَنٌ .

وخَصَّ اللَّيْلَ بالتَّوَفِّي ، والنَّهَارَ بالكَسْبِ إن كان قد يُنَامُ في هذا ويُكْسَبُ في الآخر اعتباراً بالحَالِ الأغلب .
وقدَّم التَّوَفِّي بالليل؛ لأنه أبْلغُ في المِنَّةِ عليهم ، ولا سيَّملا عند مَنْ يَخُصُّ الجَرْحَ بكسْبِ الشَّرِّ دُون الخَيْرِ ، ومعنى « جرحتم » أي : كَسَبْتُمْ من العملِ بالنهار .
قال تعالى : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح } [ المائدة : 4 ] أي : الكَواسِب من الطير والسِّبَاع ، واحدتها « جارحة » .
قال تعالى : { الذين اجترحوا السيئات } [ الجاثية : 21 ] أي : اكْتَسَبُوا .
وبالجملة فالمُرَادُ منه أعمال الجَوَارِح .
قوله : « ليُقْضَى أجَلٌ » الجمهور على لِيُقْضَى « مبنيّاً للمعفولِ ، و » أجَلٌ « رفع به ، وفي الفاعل المَحْذُوفِ احتمالان :
أحدهما : أنه ضمير البَارِئ تعالى .
والثاني : أنه ضير المخاطبين أي : لتقضوا آجالكم .
وقرأ أبو رجاءٍ ، وطلحة : » ليَقْضِي « مَبْنياً للفاعل ، وهو الله تعالى ، و » أجَلاً « مفعول به ، و » مُسَمى « صفة ، فهو مرفوع على الأوَّل ، ومنصوب على الثاني وتيرتَّبُ على ذلك خلافٌ للقُرَّاءِ في إمالَةِ ألفِهِ ، و » اللام « في » ليقضي « متعلّقة بما قبلها من مجموع الفِعْلَيْن ، أي : يتوفاكم ثُمَّ يبعثكم لأجْلِ ذلك .
والمرادُ : الأجَلُ المسمَّى ، أي : عمركم المكتوب .
والمعنى : يبعثكم من نومكم إلى أن تَبْلُغُوا آجَالَكُمْ .
واعلم أنه - تعالى - لمَّا ذكر أنَّهُ يُنيمُهمْ أولاً ، ثم يوقظهم ثانياً كان ذلك جَارياً مُجْرَى الإحْيَاءِ بعد الإمَاتَةِ ، فلذلك اسْتَدلَّ به على صِحَّةِ البَعْثِ والقِيَامَةِ ، فقال : { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الزمر : 7 ] في ليلكم ونهاركم في جميع أحوالكم .

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)

قد تقدَّم الكلامُ على هذه الآية أوَّل السورة .
قوله : { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة } : فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه عَطْفٌ على اسم الفاعل الواقع صِلَةً ل « أل » ؛ لأنه في معنى يَفْعَل ، والتقدي : وهو الذي يقهر عبادَةُ ويرسل ، فعطف الفعل على الاسم؛ لأنه في تأويله ، ومثله عند بعضهم : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] [ قالوا ] : « أقْرَضُوا » عطف على « مُصَّدِّقِين » الواقع صِلَةً ل « أل » ؛ لأنه في معنى : إنَّ الذين صَدَّقُوا وأقْرَضُوا ، وهذا ليس بشيء؛ لأنه يلزم من ذلك الفَصْلُ بين أبْعَاضِ الصِّلةِ بأجنبي ، وذلك أن « وأقْرَضُوا » من تمام صِلَةِ « أل » في « المُصَّدِّقين » ، وقد عطف على الموصُولِ قوله « المُصَّدِّقات » وهو أجنبي ، وقد تقرَّر غير مرَّةِ أنه لا يتبغ الموصول إلاَّ بعد تمام صلته .
وأمَّا قوله تعالى { فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] ف « يَقْبِضْنَ » في تأويل اسم ، أي : وقابضات .
ومن عطف الاسمعلى الفعل لكونه في تأويل الاسم قوله تعالى : { يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } [ الأنعام : 95 ] .
وقوله : [ الطويل ]
2189- فَألْفَيْتُهُ يَوْماً [ يُبِيرُ ] عَدُوَّهُ ... [ ومُجْرٍ ] عَطَاءً يِسْتَخِفُّ المعَابِرَا
والثاني : أنها جملة فعلية على جملة اسمية وهي قوله : « وهُوَ القَاهِرُ » .
والثالث : أنها مَعْطُوفَةٌ على الصِّلَةِ ، وما عطف عليها ، وهو قوله : « يَتَوَفَّاكُمْ » و « يَعْلَم » وما بعده ، أي : وهو الذي يتوفاكم ويرسل .
الرابع : أنَّهُ خبر مبتدأ محذوف ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وفي صاحبها وجهان :
أظهرهما : أنه الضمير المُسْتَكِنُّ في « القَاهِرِ » .
والثاني : أنها حالٌ من الضمير المُسْتَكِنَّ في الظرف ، هكذا قال أبو البقاء ، ونقله عنه أبُو حيَّان قال : « وهذا الوجهُ أضعفُ الأعاريبِ » .
وقولهما : « الضمير الذي في الظرف » ليس هنا ظَرْفٌ يُتَوَهَّمُ كون هذه الحال من ضير فيه ، إلاَّ قوله : « فَوْقَ عِبَادِهِ » ، ولكن بأيِّ طريق يتحمَّلُ هذا الظرف ضميراً؟
والجوابُ : أنه قد تقدَّم في الآية المشبهة لهذه أن « فَوْقَ عِبَادِهِ » فيه خمسة أوجه :
ثلاثة منها تتحمَّلُ فيها ضَمِيراً ، وهي : كونه خبراً ثانياً ، أو بَدَلاً من الخبرِ ، أو حالاً ، وإنما اضْطررْنَا إلى تقدير مبتدأ قَبْلَ « يُرْسِلُ » ؛ لأن المضارع المثبت إذا وقع حالاً لم يقترن بالواو كما تقدَّم إيضاحه .
والخامس : أنها مُسْتَأنَفَةٌ سيقت للإخبار بذلك ، وهذا الوجه هو في المعنى كالثاني .
قوله : « عليكم » يحتملُ ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه متعلّق ب « يرسل » ومنه { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ } [ الرحمن : 35 ] { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ } [ الأعراف : 133 ] { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا } [ الفيل : 3 ] إلى غير ذلك .
والثاني : أنه متعلّق ب « حَفَظَة » ، يقال : حفظت عليه عمله ، فالتقدير : ويرسل حَفَظَةً عليْكُمْ .

قال أبو حيَّان : أي : يحفظون عليكم أعمالكم ، كما قال : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } [ الانفطار : 10 ] كما تقول : حفظت عليك ما تعمل فقوله كما قال تشبيه من حيث المعنى ، لا أن « عَلَيْكُمْ » تعلَّقَ ب « حافظين » ؛ لأن « عَلَيْكُمْ » هو الخبر ل « أنَّ » ، فيتعلق بمحذوف .
والثالث : أنه مُتَعلِّقٌ بمحذوف على أنه حالٌ من « حَفَظَة » ، إذ لو تأخَّر لجاز أن يكون صِفَةً لها .
قال أبو البقاء : « عَلَيْكُمْ » فيه وجهان :
أحدهما : هو مُتعلّق ب « يرسل » .
والثاني : أن يكون في نِيَّةِ التَّأخير ، وفيه وجهان :
أحدهما أن يتعلَّق بنفس « حَفَظَة » ن والمفعول محذوف ، أي : يرسل عليكم من يحفظ أعمالكم .
والثاني : أن يكون صفة ل « حفظة » قدمت فصارت حالاً . قوله : والمفعول محذوف يعني : مفعول « حفظة » ، إلاَّ أنَّهُ يُوهِمُ أنَّ تقدير المفعول خاصُّ بالوجه الذي ذكره ، وليس كذلك ، بل لا بُدَّ من تقديره على كُلِّ وجْهِ ، و « حَفَظَة » إنما عمل في ذلك المقدَّر لكونه صِفَةً لمحذوفٍ تقديره : ويرسل عليكم ملائكة حَفَظَةً؛ لأنه لا يعمل إلاَّ بشروطٍ هذا منها ، أعني كونه معتمداً على موصوف ، و « حفظة » جمعُ « حافظ » ، وهو مُنْقَاسٌ في كُلِّ وصْفٍ على فاعلٍ صحيح « اللام » لعقلٍ مذكرٍ ، ك « بارِّ » و « بَررَة » ، و « فاجر » و « فَجَرة » ، و « كاملٍ » و « كَمَلَه » ، ونيقل في غير العاقل ، كقوله : « غُرابٌ نَاعقٌ » و « غِرْبَانٌ نعقة » .
فصل في معنى الحفظة
هؤلاء الحفظةُ هم المذكورون في قوله تعالى : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } [ الرعد : 11 ] .
وقوله : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد } [ ق : 18 ] وقوله : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين كِرَاماً كَاتِبِينَ } [ الانفطار : 10 ، 11 ] .
والمقصود بهؤلاء الحفَظةِ ضَبْطُ الأعمال ثم اختلفوا فقيل : إنهم يكتبون الطَّاعات والمعاصي والمُباحَات بأسْرِهَا لقوله تعالى : { مَا لهذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] .
وعن ابن عبَّاسٍ أنَّ مع كُلِّ إنْسَان ملكيْنِ؛ أحدهما : عن يمينه ، والآخرُ عن يسارِهِ ، فإذا تَكَلَّمَ الإنْسانُ بِحَسَنَةٍ كتبها [ من ] على اليمين ، وإذا تكلَّمَ بسيئة قال مَنْ على اليمين للذي على اليَسَارِ : انتظره لَعلَّهُ يتوب منها ، فإن لم يَتُبْ كتبت عليه .
والأوَّلُ أقوى؛ لأن قوله : « يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً » يفيد حفظة الكل من غير تخصيص .
والثاني : أنَّ ظاهِرَ هذه الآية يَدُلُّ على اضِّلاعِ هؤلاء الحَفَظةِ على الاقْوالِ والأفْعَالِ أمَّا على صفاتِ القلوب ، وهو العِلْمُ والجَهْلُ ، فليس في هذه الآيات ما يَدُلُّ على اطِّلاعِهِمْ عليها .
أمَّا في الأقوال ، فلقوله تعالى : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد }

[ ق : 18 ] .
وأمَّا في الأفعال ، فلقوله تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [ الانفطار : 10-12 ] .
وأمَّا الإيمان والكُفْرُ ، والإخلاصُ والإشراك فلم يَدُلَّ دليل على اطِّلاعِ الملائكة عليها .
فصل في فائدة توكيل الملائكة علينا
وفي فائدة جَعْلِ الملائكة مُوَكّلين على بين آدم وجوه :
أحدها : أنَّ المُكَلَّفَ إذا علم أن الملائِكَة مُوَكلين به يُحْصُون عليه عمله ، ويكتبونه في صَحِيفَةٍ تُعْرَضُ على رؤوس الاشهاد في مواقف القِيَامَةِ كان ذلك أزْجَرَ له عن القَبَائِحِ .
والثاني : يحتمل ا ، تكون الكِتابةُ لفائدة وَزْنِ تلك الصَّحائِفِ يوم القيامة؛ لأن وَزْنَ الأعمال غير مُمْكِنٍ ، أمَّا وزنُ الصحائف ممكن .
وثالثها : يَفْعَلُ اللَّهُ ما يشَاءُ ، ويحكم ما يريد ، ويجب علينا الإيمانُ بكل ما ورد به الشرع ، سواءَ عقلناه أم لم نعقله .
قوله : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت } تقدَّم مثله .
وقوله : « تَوَفَّتْهُ » قرأ الجمهور « تَوَفَّتْهُ » ، ماضياً بتاء التأنيث لتأنيث الجمع .
وقرأ حمزة : « تَوَفَّاهُ » من غير تاء تأنيث ، وهي تحتمل وجهين .
أظهرهما : أنه ماضٍ ، وإنما حذفَ تاء التأنيث لوجهين :
أحدهما : كونه تأنيثاً مجازياً .
والثاني : الفَصْلُ بين الفِعْلِ وفاعله بالمفعول .
والثاني : أنه مضارع ، وأصله : تَتَوَفَّاهُ بتاءين ، فحذفت إحداهما على خلافٍ في أيَّتهما ك « تَنَزَّلُ » وبابه ، وحمزة على بابه في إمالة مثل هذه الألف .
وقرأ الأعمش : « يَتَوَفَّاهُ » مُضارعاً بياء اليغَيْبَةِ اعتباراً بكونه مؤنثاً مجازياً ، أوْ للفَصْلِ ، فهو كقراءة حَمْزَةَ في الوجْهِ الأوَّل من حيث تذكير الفعلِ وكقراءته فغي الوَجْهِ الثاني من حيث إنه أتى به مُضَارعاً .
وقال أبو البقاء : « وقرئ شاذاً » « تَتَوفَّاهُ » على الاسْتِقْبَالِ ، ولم يذكر بياء ولا تاء .
فصل في بيان أن الوفاة من الله
قال الله تعالى : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } [ الزمر : 42 ]
وقال : { الذي خَلَقَ الموت والحياة } [ تبارك : 2 ] وهذان النَّصانِ يَدُلاَّنِ على أنَّ توفي الأرواح ليس إلاَّ من اللَّهِ .
وقال تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] وهذا يقتضي أن الوفاة لا تحصلُ إلاَّ من ملك الموت .
وقال في هذه الآية : « تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا » ، فهذه النصوص الثلاثة كالمُتَنَاقضة .
والجوابُ : أن التَّوَفِّي في الحقيقة إنما حَصَلَ بِقُدْرَةِ الله تعالى ، وهو في الظاهر مُفَوَّضٌ إلى مَلَكِ الموت ، وهو الرئيس المُطْلَق في هذا الباب ، وله أعْوَانٌ وخدمٌ فَحَسُنَتْ إضافة التَّوَفِّي إلى هذه الثلاثة بحسبِ الاعتبارات الثلاثة .
وقيل : أراد بالرُّسُلِ ملك الموت وحده ، وذكر الواحد بلفظ الجمع .
وجاء في الأخبار أنَّ اللَّه - تعالى - جعل الدُّنْيَا بين يدي مَلَكِ الموت كالمائدةِ الصَّغيرة ، فَيَقْبِضُ من هاهنا ، ومن هاهنا ، فإذا كَثُرَت الأرواح يدعو الأرواح فتيجيب له .
فصل في بيان أن الحفظة لا شأن لهم بالموت
قال بعضهم : هؤلاء الرُّسُلُ الذين يَتَوفَّون الخلْقَ هم الحفظةُ بحفظونه في مُدَّةِ الحياة ، وعند مجيء الموْتِ يِتوفَّوْنَهُ ، والأكثرون على أنَّ الحفظةَ غير الذين يَتَولَّونَ الوفاة .

قوله : « وهُمْ لا يُفَرِّطُونَ » هذه الجملة تحتمل وجهين :
أظهرهما : أنها حالٌ من « رسلنا » .
والثاني : أنها اسْتِئْنَافِيَّةٌ سيقت للإخبار عنهم بهذه الصِّفة ، والجمهور على التشديد في « يُفَرِّطُون » ، ومعناه : لا يُقَصِّرُون .
وقرأ عمرو بن عُبيد والأعرج « يُفْرطُون » مخففاً من « أفرط » ، وفيها تأويلان :
أحدهما : أنها بمعنى : لا يجاوزون الحَدَّ فيما أمِرُوا به .
قال الزمخشري : « فالتفريط : التَّوَاني والتأخير عن الحَدِّ ، والإفراطُ مُجَاوَزَةُ الحدِّ أي : لاينقصون مما أمروا بِهِ ، ولا يزيدون » .
والثاني : أنَّ معناه لا يتقدَّمُون على أمْرِ الله ، وهذا يحتاج إلى نَقْلِ أنَّ « أفْرَطَ » بمعنى « فَرَّط » ، أي : تقدَّم .
قال الجَاحِظُ قريباً من هذا فغنه قال : « معنى لا يُفْرِطون : لا يدعون أحَداً يَفْرُط عنهم ، أي : يَسْبِقُهُمْ ويفوتهم » .
وقال أبو البقاء : ويقرأ بالتخفيف ، أي : لا يزيدون على ما أمِرُوا به ، وهو قريبٌ مما تقدَّم .
قوله : « ثُمَّ رُدُّوا إلى الله » .
قيل : المردود : هم الملائكة يعني كما يَمُوتُ ابن آدم تموت أيضاً الملائكة .
وقيل : المراد : البَشَرُ يعني : أنههم بعد موتهم يُرَدُّون إلى اللَّهِ تعالى . وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الإنسانَ ليس مُجَرَّدَ هذه البنية؛ لأن صريح هذه الآية يَدُلُّ على حُصُولِ الموْتِ لِلْعَبْدِ ، ويَدُلُّ على أنه بعد الموْتِ يُردُّ إلى اللَّهِ ، والميِّتُ مع كونه مَيِّتاً لا يمكن أن يرد إلى اللَّهِ؛ لأن ذلك الرَّدَّ ليس بالمكان والجهة لكونه- تعالى- مُتَعَالياً عن المكان والجهة ، فوجب أن يكون ذلك الرَّدُّ مُفَسَّراً بكونه مُنْقَاداً لِحُكْمِ اللَّهِ .
وما لم يكن حَيَّاً لم يَصِحَّ هذا المعنى فيه .
وقد ثبت أنَّ ها هنا مَوْتاً وحياة ، أما الموت فنصيب البدنِ ، فبقى أن تكون الحياةُ نَصِيبَ النَّفْسِ والروح ، فلمَّا قال تعالى : { ثُمَّ ردوا إلى الله } ثبت أنَّ المَرْدُودَ هو النَّفْسُ والرُّوحُ ، وثبت أن الإنسان ليس إلاَّ النَّفْسُ والروح ، وهو المطلوب .
فصل في عموم الآية
الآية في المؤمنين والكافرين جمعياً ، وقد قال في آية أخرى { وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ } [ محمد : 11 ] فكيف وجه الجمع؟
فقيل : المَوْلَى في تلك الآية بمعنى النَّاصر ، ولا نَاصِرَ لِلْكُفَّارِ ، والمولَى هاهنا بمعنى الملكِ الذي يتولَّى أمُورَهُمْ ، والله - عزَّ وجلَّ - مَالِكُ الكُلِّ ومُتولِّي أمورهم .
وقيل : المارد هاهنا- المؤمنين خاصَّة يُرَدُّونَ إلى مَولاهُمْ ، والكُفَّارُ فيه تَبَعٌ .
قوله : « مَوْلاهُمُ الحَقُّ » صِفتانِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ .
وقرأ الحسنُ ، والأعمش : « الحقَّ نَصْباً ، وفيه تأويلان :
أظهرهما : أنه نَعْتٌ مقطوع .
والثاني : أنه نَعْت مَصْدر محذوف ، أي : رَدُّوا الرَّدَّ الحقَّ لا الباطل ، وقرئ رِدُّوا بكسر الرَّاء ، وتقدَّم تخريجها .
والضميرُ في » مَوْلاهم « فيه ثلاثة أوجهٍ :
أظهرها : أنه للعباد قوله : » فَوْقَ عِبَادِهِ « فقوله : { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } التِفَاتٌ؛ إذ الأصل : ويرسل عليهم ، وفائدة هذا الالتِفَاتِ والتَّنْبِيهُ والايقَاظُ .

والثاني : أنه يعود على الملائكة المعنيّين بقوله : « رسلنا » يعني انهم يموتون كما يموت بَنُو آدَمَ ، ويُرَدُّون إلى ربِّهِمْ كما تقدَّم .
والثالث : أنه يعود على « أحدٍ » في قوله : { جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت } [ الأنعام : 61 ] ؛ إذ المراد به الجَمْعُ لا الإفراد .
قوله : « ألاَ لَهُ الحُكْمُ » ، أي : لا حُكْمَ إلاَّ لِلَّهِ؛ لقوله : { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } [ يوسف : 40 ] ، والمراد بالحُكْمِ القضاء « وهُوَ أسْرَعُ الحَاسِبينَ » ، أي : حسابه يرفع لا يحتاج إلى فِكْرٍ ورويَّةٍ ، واختلفوا في كيفية هذا الحساب ، فقيل : إنه - تعالى- يحاسب الخَلْقَ بنفسه دفعة واحدةً لا يشغله كلامٌ عن كلامٍ .
وقيل : بل يأمر اللَّهُ الملائكة أن يحاسب كُلُّ واحدٍ منهم واحداً من العبادِ؛ لأنه - تعالى - لوحاسبَ الكُفَّار بنفسه لتكلَّم معهم ، وذلك بَاطِلٌ؛ لقوله تعالى في صِفَةِ الكُفَّارٍ : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة } [ البقرة : 174 ] .
فصل في رد شبهة حدوث الكلام
أحْتَجَّ الجُبَّائي بهذه الآيةِ على حُدُوثِ كلام اللَّهِ .
قال : لو كان كلامُهُ قديماً لوجب أن يكُون مُتَكلماً بالمُحَاسَبَةِ الآن ، وقبل خلقه ، وذلك مَحَالٌ؛ لأن المُحَاسَبَة تقتضي حكاية عمل تقدَّم .
وأجيب بالمُعَارَضَةِ بالعِلْمِ ، فإنه تعالى كان قبل المَعْلومِ عالماً بأنه سَيُوجد ، وبعد وجوده صار عالماً بأنه وجد قبل ذلك ، ولم يَلْزَمْ منه تَغَيُّرُ العلم ، فَلِمَ لا يجوز مثله في الكلام . والله أعلم .

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)

وهذا نوع آخر من الدلالة على كمالِ القُدرةِ الإلهية ، وكمال الرحمة والفَصْلِ والإحسان .
وقرأ السبعة هذه مشدّدة : { قُلِ الله يُنَجِّيكُم } [ الأنعام : 64 ] قرأها الكوفيون وهشام بن عامر عن أبي عام كالأول . وقرأ الثِّنْتينِ بالتخفيف من « أنْجَى » حُمَيْدُ بن قيس ، ويعقوب ، وعلي بن نَصْرٍ عن أبي عمرو ، وتحصَّل من ذلك أن الكوفيين وهشاماً يثقلون في الموضعين ، وأن حميداً ومن مَعَهُ يُخَفِّفُونَ فيهما ، وأن نافعاً ، وابن كثير ، وأبا عمرو ، وابن ذكوان عن ابن عامرٍ يُثَقِّلُون الأولى ، ويُخَفِّفُون الثانية ، والقراءات واضحة ، فإنها من : نجَّى وأنْجى ، فالتضعيف والهمزة كلاهما للتَّعديَةِ .
فالكوفيون وهشام التَزَمُوا التَّعْديةَ بالتضعيف ، وحميد وجماعته التَزَمُوهَا بالهمزة . والباقون جمعوا بين التَّعديتين جمعاً بين اللُّغَتَيْنِ كقوله تعالى : { فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 17 ] .
والاستفهام للتقرير والتَّوْبيخ ، وفي الكلام حَذفُ مضاف ، أي : مِنْ مهالِكِ ظُلُمات ، أو من مخاوفها ، والظلمات كِنَايةٌ عن الشدائد والأهوال إذا سافروا في البرِّ والبَحْرِ .
قوله : « تَدْعُونَهُ » في مَحَلِّ نصب على الحال ، إما من مفعول « ينجيكم » ، وهو الظاهر ، أي : ينجيكم داعين إيَّاه ، وإما من فاعله ، أي : مدعُوَّاً من جهتكم .
قوله : « تَضَرُّعاً وخُفْيَةٌ » يجوز فيها وجهان :
أحدهما : إنهما مصدران في موضع الحالِ ، أي : تدعونه مُتَضَرِّعين ومُخْفِينَ .
والثاني : أنها مصدارن من معنى العامل لا من لفظه كقولك : قعدت جُلُوساً .
وقرأ الجمهور : « خُفْيَةً » بضم الخاء ، وقرأ أبو بكر بكسرها ، وهما لغتانِ ، كالعُدْوِةِ والعِدْوةِ ، والأسْوَة والإسْوَة .
وقرأ الأعمش : « وخيفة » كالتي في « الأعراف » وهي من الخَوْفِ ، قُلِبَتْ « الواو » ياء لانكسار ما قبلها وسكونها ، ويظهر على هذه القراءة أن يكون مفعولاً من أجله لولا ما يَأبَاهُ « تَضرُّعاً » من المعنى .
قوله : « لَئِنْ أنْجَيْتَنَا » الظاهر أن هذه الجلمة القسميَّةَ تفسير للدُّعاءِ قبلها
ويجوز أن تكون مَنْصُوبَةً المَحلِّ على إضمار القول ، ويكون ذلك القول في محلِّ نصب على الحال من فاعل « تدعونه » أي : تدعونه قائلين ذلك ، وقد عرف مما تقدَّم غير مرَّةٍ كيفية اجتماع الشرط والقسم .
وقرأ الكوفيون « أنْجَانَا » بلفظ الغَيْبَةِ مُرَعَاةً لقوله « تَدْعُونَهُ » والباقون « أنجيتَنَا » بالخطاب حكاية لخطابِهِمْ في حالة الدعاء ، وقد قرأ كُلُّ بما رسم في مصحفه ، فإن في مصاحف « الكوفة » : أنْجَانَا « ، وفي غيرها : » أنْجَيْتَنَا « .
قوله : » مِنْ هَذِهِ « متعلِّقٌ بالفعل قَبْلَهُ ، و » مِنْ « لابتداء الغاية ، و » هذه « اشارةٌ إلى الظُّلماتِ ، لأنها تجري مجرى المؤنثة الواحدة ، وكذلك في » منها « تعود على الظلمات .
وقوله : » ومِنْ كُلِّ كَرْبٍ « عطف على الضمير المجرور بإعادةِ حرف الجر ، وهو واجب عند البصريين ، وقد تقدَّم .
و » الكَرْبُ « غاية الغَمِّ الذي يأخذ النَّفْسَ .
قوله : » ثُمَّ أنْتُمْ تُشْرِكُونَ « يريد أنهم يُقرُّونَ أن الذي يدعونه عند الشدة هو الذي يُنَجِّيهم ، ثم يشركون معه الأصنامَ التي علموا أنها لا تضر ولا تنفع .

قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)

وهذا نوع آخر من دلائلِ التوحيد مَمْزُوجٌ بالتخويف فبين كونه- تعالى - قادراً على إيصال العذاب إليهم من هذه الطُّرُقِ المختلفة تارة من فوقهم ، وتارةً من تحت أرجهلم ، فقيل : هذا حقيقة .
فأما العذابُ من فوقهم كالمطرِ النازل عليهم في قِصَّةِ نوح ، والصَّاعقةِ ، والرِّيحِ ، والصَّيْحةِ ، ورَمْي أصحاب الفيل .
وأما الذي من تحت أرجلهم : كالرَّجْفَةِ والخَسْفِ ، وقيل : حبس المطر والنبات . وقيل : هذا مجاز .
قال مجاهد وابن عباس في رواية عكرمة : « مِنْ فَوْقِكُمْ » أي : من الأمراء ، أو من تحت أرجلكم من العبيد والسَّفلةِ .
قوله : « عَذَاباً مِنْ فَوقكُم » يجوز أن يكون الظَّرْفُ معلِّقاً ب « نبعث » وأن يكون متعلّقاً بمحذوف على أنه صفةٌ ل « عذاباً » أي : كائناً من هاتين الجِهَتين . قوله : « أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً » عطف على « يبعث » .
والجمهور على فتح الياء من « يَلْبِسَكُمْ » وفيه وجهان :
أحدهما : أنه بمعنى يخلطكم فِرقاً مختلفين على أهْوَاء شَتَّى كل فرقة مُشَايعة لإمام ، ومعنى خَلْطِهِم : إنْشابُ القتالِ بيهم ، فيختلطون في ملاحم القتال كقول الحماسي : [ الكامل ]
2190- وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتيبَةٍ ... حَتَّى إَذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يِدِي
فَتَرَكُتُهُمْ تَقِصُ الرِّمَاحُ ظُهُورَهُم ... ْ مَا بَيْنَ مُنْعَفِرِ وَآخَرَ مُسْنَدِ
وهذه عبارة الزمخشري : فجعله من اللَّبْسِ الذي هو الخَلْطُ ، وبهذا التفسر الحسن ظهر تعدِّي « يلبس » إلى المفعول ، و « شِيَعاً » نصب على الحال ، وهي جمع غير الصدر كقعدت جلوساً .
قال أبو حيَّان : « ويحتاج في جعله مصدراً إلى نقل من اللغة » .
ويجوز على هذا أيضاً أن يكون حالاً ك « أتَيْتُهُ رَكْضاً » أي : راكضاً ، أو ذا ركض .
وقال أبو البقاء : والجمهور على فتح الياء ، أي : يَلْبِسُ عليكم أموركم ، فحذف حرف الجر والمفعول ، والأجود أن يكون التقدير : أو يَلْبِسُ أموركم ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه .
فصل في معنى الآية
قال الُفَسِّرُونَ : معناه : أن يجعلكم فرقاً ، ويثبت فيكم الأهواء المختلفة .
وروى عمرو بن دينار عن جابرٍ ، قال : « لما نزلت هذه الآية { قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم : » أعُوذُ بِوَجْهِكَ « قال : { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : » أعُوذُ بِوَجْهِكَ « . قال : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم : » هذا أهْوَنُ أوْ هَذَا أيْسَرُ « وعن عامر بن سعد بن أبي وقَّاصٍ ، عن أبيه قال : » أقبلنا مع روسوله الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني مُعاويةَ ، فدخل وصلَّى ركعتين ، وصلينا معه فناجى ربه طويلاً ، ثم قال : « سَألْتُ ربِّي ثلاثاً : ألاَّ يُهْلِكَ أمَّتِي فأعْطَانِيها ، وسَالْتُهُ ألاَّ يُهْلِكَ أمَّتِي بالسَّنَةِ فأعْطَانيها ، وسَألْتُهُ ألاَّ يَجْعَلَ بأسَهُمْ بَيْنَهُمْ فمنَعَنِيهَا »

وعن ابن عُمَرَ أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في المسجد ، فسأله الله ثلاثاً فأعطاه اثنتين ، ومنعه واحدة ، سأله ألاَّ يُسَلِّطَ على أمته عدواً من غيرهم يظهر عليهم ، فأعطاه ذلك ، وسأله ألا يهلكهم بالسِّنين ، فأعطماه ذلك ، وسأله ألاَّ يجعل بَأسَ بضعهم على بَعْضٍ فمنعه ذلك .
فصل في مزيد بيان عن الآية
ظاهر قوله تعالى : { أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا } أنه يجعلهم على الأهْوَاءِ المختلفة ، والمذاهب المُتنافيةِ ، والحق منها ليس إلا لواحدٍ ، وما سواه فهو باطل ، وهذا يقتضي أنه - تعالى- قد يحلم المُكَلَّف على اعتقاد الباطِلِ .
وقوله : { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْض } لا شَكَّ أن أكثرها ظُلم ومعصية ، وهذا يدل على كونه - تعالى - خالقاً للخير والشر .
وأجاب الخَصْمُ عنه بأنه الآية تَدُلُّ على أنه - تعالى - قادر عليه ، وعندنا أن الله - تعالى - قَادِرُ على القُبْحِ ، إنما النزاع في أنه - تعالى - هل يفعل ذلك أم لا؟
وأجيب بأن وَجْهَ التَّمَسُّكِ بالآية شيء آخر ، فإنه قال : « هُوَ القادرُ » على ذلك ، وهذا يفيد الحَصْرَ ، فوجب أن يكون غَيْرُ الله غَيْرَ قادر على ذلك ، وقد حصل الاختلافُ بين الناس ، فثبت بِمُقْتَضَى الحَصْر المذكور ألاَّ يكون ذلك صَادِراً عن غير الله ، فوجب أن يكون صادراً عن الله ، وهو المطلوب .
فصل في إثبات النظر والاستدلال
قالت المعتزلة والحَشَويَّة : هذه الآية من أدَلِّ الدلائل على المَنْعِ من النظر والاستدلال؛ لأن فَتْحَ تلك الأبواب يفيد وقوع الاختلاف ، والمُنازعة في الأديان ، وتفريق الخلائقِ إلى هذه المذاهبِ والأديان ، وذلك مَذْمُومٌ بهذه الآية ، والمُفْضِي إلى المذموم مَذْمُومٌ ، فوجب أن يكون فتح باب النظر والاستدلال مَذْمُوماً .
وأجيبوا بالآيات الدالة على وجوب النَّظَرِ والاستدلال كما تقدَّم مِرَاراً .
فصل في قراءة « يلبسكم »
قرأ أبو عبد لاله المدني : « يُلْبِسَكُمْ » بضم الياء من « ألْبَسَ » رباعياً ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون المفعول الثَّاني مَحْذُوفاً ، تقديره أو يُلْبِسكم الفِتْنَةَ ، و « شيعاً » على هذا حالٌ ، أي : يلبسكم الفِتْنَةَ في حال تفرُّقِكُمْ وشَتَاتِكُمْ .
الثاني : أن يكون « شيعاً » هو المفعول الثاني ، كأنه جعل النَّاس يلبسن بعضهم مجازاً كقوله : [ المتقارب ]
2191- لَبِسْتُ أنَاساً فَأفْنَيْتُهُمْ ... وأفْنَيْتُ بَعْدَ أنَاسٍ أنَاسَا
والشِّيعَةُ : من يَتَقوَّى بهم الإنسان ، والجمع : « شيع » كما تقدم ، و « أشْيَاع » ، كذا قال الراغب ، والظاهر أن « أشْيَاعاً » جمع « شِيعَ » ك « عنب » و « أعْنَاب » ، و « ضِلَع » و « أصْلاع » و « شيع » جمع « شِيْعَة » فهو جمع الجمع .

قوله : « ويُذيْقَ » نَسَقٌ على « يِبْعَث » ، والإذاقَةُ اسْتِعَارةٌ ، وهي فاشية : { ذُوقُواْ مَسَّ سَقَر } [ القمر : 48 ] ، { ذُقْ إِنَّكَ } [ الدخان : 49 ] ، { فَذُوقُواْ العذاب } [ الأنعام : 30 ] .
وقال : [ الوافر ]
2192- أذَقْنَاهُمْ كُئُوسَ المَوْتِ صِرْفاً ... وَذَاقُوا مِنْ أسِنَّتِنَا كُئُوسَا
وقرأ الأعمش : « ونُذِيِقَ » بنون العظمة ، وهو التْتِفَاتٌ ، فائدته تعظيم الأمر ، والتحذير من سطوَتِهِ .
قوله : { انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون }
قال القاضي : هذا يَدُلُّ على أنه - تعالى أراد بتصريف الآيات ، وتقرير هذه البيِّنات أن يفهم الكل تلك الدلائل ، ويفقه الكل تلك البيِّنات .
وأجيب بأن ظاهِرَ الآية يَدُلُّ على أنه- تعالى - ما صرَّف هذه الآيات إلا لمن فقه وفهم ، فأما من أعْرَضَ وتمرَّدَ فهو تعالى ما صرَّف هذه الآيات لهم .
قوله تعالى : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ }
قوله : « وكذَّبَ بِهِ » « الهاء » في « ربه » تعود على العذاب المُتقدِّمِ في قوله : « عذاباً مِنْ فَوقِكُمْ » قال الزمخشري .
وقيل : تعود على القُرْآنِ .
وقيل : تعود على الوعيد المتضمن في هذه الآيات المتقدمة .
وقيل : على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا بعيد؛ لأنه خُوطبَ بالكاف عقِيبَهُ ، فلو كان كذلك لقال : وكذب به قومك ، وادَّعاءُ الالتفات فيه أبْعَدُ .
وقيل : لا بد من حَذْفِ صِفَةٍ هنا ، أي : وكذب به قومك المُعَانِدُونَ ، أو الكافرون؛ لأن قومه كلهم لم يُكَذِّبُوهُ ، كقوله : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 46 ] أي الناجين ، وحذف الصفة وبقاء الموصوف قليل جداً ، بخلاف العكس .
وقرأ ابن أبي عبلة : « وكذَّبت » بتاء التأنيث ، كقوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] ، { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ } [ الشعراء : 160 ] باعتبار الجماعة .
قوله : « وهُوَ الحقُّ » في هذه الجملة وجهان :
الظاهر منهما : أنها استتئناف .
والثاني : أنها حالٌ من « الهاء » في « به » ، أي : كذبوا به في حالِ كونه حقَّا ، وهو أعظم في القبح .
والمعنى أن الضمير في « به » للعذاب ، فمعنى كونه حقَّا لا بد أن ينزل بهم ، وإن عاد إلى القرآن ، فمعنى كونه حقّا ، أي : كتاب منزل من عند الله ، وإن عاد إلى تصريف الآيات أي : أنهم كذَّبوا كون هذه الأشياءِ دلالاتٍ ، وهو حق .
قوله : « عَلَيْكُمْ » مُتعلِّقٌ بما بعده ، وهو توكيد ، وقدم لأجل الفواصِلِ ، ويجوز أن يكون حالاً من قوله : « بِوَكِيلٍ » ؛ لأنه لو تَأخَّرَ لجاز أن يكون صفة له ، وهذا عند من يُجِيزُ تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف ، وهو اختيار جماعةٍ ، وأنشدوا عليه : [ الخفيف ]
2193- غَافِلاً تَعْرضُ المَنِيَّةُ لِلْمَرْءِ ... فَيُدْعَى وَلاتَ حينَ إبَاءُ
فقدم « غافلاً » على صاحبها ، وهو « المرء » ، وعلى عامها وهو « تَعْرُضُ » فهذا أوْلَى . ومنه [ الطويل ]
2194- لَئِنْ كَانَ بَرْدُ المَاءِ هَيْمَانَ صَادِياً ... إليَّ حَبِيباً إنَّهَا لَحَبِيب
أي : إليَّ هيمان صادِياً ، ومثله : [ الطويل ]
2195- فَإن يَكُ أذْوَادٌ أصِبْنَ ونِسْوَةٌ ... فَلَنْ يَذْهَبُوا فَرْغاً بِقَتْلِ حِبَالِ

« فَرْغاً » حال من « يقتل » ، و « حبال » بالمهملة اسم رَجُلٍ مع أن حرف الجر هنا زائد ، فجوازه أوْلَى مما ذكرناه .
فصل في المراد بالآية
معنى الآية : قل لهم يا محمد : وقيل : بمُسَلّط ألزمكم الإيمان شئتم أو أبيتم ، وأجازيكُمْ على تَكْذِيبكُمْ ، وإعراضكم عن قَبُولِ الدلائل ، إنما أنا رسول ومُنْذِرٌ ، والله المُجَازِي لكم بأعمالكم .
قال ابن عبَّاس والمفسرون : نسختها آية القتال ، وهو بعيد .
قوله : { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ } [ الأنعام : 67 ] يجوز رفع « نبأ » بالابتدائية ، وخبره الجَارُّ قَبلهُ ، وبالفاعلية عند الأخفش بالجار قبله ، ويجوز أن يكون « مسقر » اسم مصدر أي : استقرار [ مكان ، أو زمان؛ ] لأن ما زاد على الثُّلاثيَّ كان المصدر منه على زنةِ اسم المفعول؛ نحو : « المدخل » و « المخرج » بمعنى « الإدخال » و « الإخراج » ، والمعنى أن لك وعْد ووعيد من الله استقرار ، ولا بد وأن يعلموا [ أن الأمر كما أخبر الله تعالى ] ويجوز أن يكون مكان الاستقرار أو زمانه [ وأن ] لكل خبر يخبره الله وقتاً أو مكاناً يحصل فيه من غير خُلْفٍ ولا تأخير ، وهذا الذي خَوَّفَ الكفار به يجوز أن يكون المُرَادُ به عذابَ الآخرة ، ويجوز أن يكون المراد منه الاستيلاء عليهم بالحَرْبِ والقَتْلِ في الدُّنيا .

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)

قال تعالى في الآية الأولى { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } [ الأنعام : 66 ] فتبيَّنَ به أنه لا يجب على الرّسُول ملازمة المكذَّبين بهذا الدَّين .
وبيَّن في هذه الآية أن أولئك المكذَّبين إن ضَمُّوا إلى كُفْرِهِمْ وتكذيبهم الاسْتِهْزَاءَ بالدَّين والطَّعْن في الرسول ، فإن يجب الإعراض عنهم ، وترك مُجَالَسَتِهِم .
قوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } فقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره .
وقيل : الخطاب لغيره ، أي : إذا رأيت أيها السَّامِعُ الذين يخوضون في آياتنا .
نقل الواحديُّ أنَّ المشركين كانوا إذا جالَسُوا المؤمنين وَقَعُوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن فَشَتَمُوا واستعهزءوا فأمرهم ألاَّ يقعدوا معهم حتى يَخُوضُوا في حديث غيره .
والخَوْضُ في اللغة عبارة عن المُفاوضةِ على وجه اللَّعبِ والعبثِ .
قال تعالى حكاية عن الكفار : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين } [ المدثر : 45 ] وإذا قال الرجل : تركت القوم يَخُوضُونَ أفاد أنهم شَرَعثوا في كَلِمَاتٍ لا ينبغي ذِكُرُهَا .
قوله : « إذَا » منصوب بجوابها ، وهو « فأعْرَضْ » ؛ أي : فأعرض عنهم في هذا الوَقْتِ و « رأيت » هنا تحتمل أن تكون البصريَّة ، وهو الظاهر ، ولذلك تعدّت لواحد .
قال أبو حيَّان : « ولابُدَّ من تقدير حالٍ مَحْذُوفَةٍ ، أي : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا ، وهو خائضون فيها ، أي : وإذا رأيتهم مُلْتَبِسينَ بالخَوْضِ فيها » . انتهى .
قال شهاب الدِّين : ولا حَاجَةَ إلى ذلك؛ لأن قوله : « يَخُوضُونَ » مُضارع ، والراجح حَاليَّتُهُ وأيضاً فإن « الذينَ يَخُوضُونَ » في قُوَّةِ الخائضين ، واسم الفاعل حَقيقَةٌ في الحال بلا خلاف ، فيحمل هذا على حقيقته ، فيُسْتَغْنَى عن حذف هذه الحال التي قدَّرها وهي حال مؤكدة .
ويحتمل أن تكون علمية ، وضعَّفَةُ أبو حيان بأنه يَلْزَمُ منه حذف المفعول الثاني ، وحذفه إما اقْتَصَارٌ ، وإما اختِصَارٌ ، فإن كان الأوَّل : فممنوع اتفاقاً وإن كان الثاني : فالصحيح المَنْعُ حتى منع ذلك بعض النحويين .
قوله : « غَيْرِهِ » « الهاء » فيها وجهان :
أحدهما : أنها تعود على الآياتِ ، وعاد مفرداً مذكراً؛لأن الآيات في معنى الحديثِ والقرآن .
وقيل : إنها تعود على الخَوْضِ ، أي : المدلول عليه بالفِعْلِ كقوله : [ الوافر ]
2196- إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ ... وخَالَفَ والسَّفِيهُ إلى خلافِ
أي : جرى إلى السَّفَهِ ، دَلَّ عليه الصِّفَةُ كما دَلَّ الفعل على مصدره؛ أي : حتى يخوضوا في حديث غير الخَوْضِ .
وقوله : « وإمَّا يُنْسِيَنَّكَ » قراءة العامّة « يُنْسِيَنَّكَ » بتخفيف السِّين من « أنْسَاهُ » كقوله : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان } [ الكهف : 63 ] قال تعلى في الآية الأولى { فَأَنْسَاهُ الشيطان } [ يوسف : 42 ] .
وقرأ ابن عامر : بتشديدها من « نسَّاهُ » ، والتعدِّي جاء في هذا الفعل بالهمزة مرة ، وبالتضعيف أخرى ، كما تقدم في « أنْجَى » و « نَجَّى » و « أمْهَل » و « مَهَّلَ » .

والمفعول الثاني محذوف في القراءتين؛ تقديره : وإما يُنْسِيَنَّك الشَّيْطانُ الذِّكرَ أو الحقَّ .
والأحسن أن يقدر ما يليق بالمعنى ، أي : وإما نيسينك الشيطان ما أمرت به من ترك مُجَالَسَةِ الخائضين بعد تذكيرك ، فلا تقعدْ بعد ذلك معهم ، وإنما أبرزهم ظاهرين تسجيلاً عليهم بصفة الظُّلْم ، وجاء الشرط الأول ب « إذا » ؛ لأن خَوْضَهُمْ في الآيات مُحَقَّقٌ ، وفي الشرط الثاني ب « إن » إنْسَاءَ الشيطان له لي أمراً مُحَقَّقاً ، بل قد يقع وقد لا يقعن وهو مَعْصُومٌ منه .
ولم يجئ مصدر على « فِعْلَى » غير ذِكْرَى « .
وقال ابن عطيَّة : » وإمَّا شرطن ويلزمها في الأغلب النون الثقيلة ، وقد لا تلزم كقوله : [ البسيط ]
2197- إمَّا يُصِبْكَ عَدُوُّ في مُنَاوَأةِ .. . . .
وهذا الذي ذكره من لُزُوم التوكيد هو مذهب الزَّجَّاجِ ، والنَّاسُ على خلافه ، وأنشدوا ما أنشده ابن عيطة وأبياتاً أُخَرَ منها : [ الرجز ]
2189- إمَّا تَرَيْنِي اليَوْمَ أمَّ حَمْزِ ... وقد تقدَّم طرفٌ من هذه المسألة أوَّل البقرة ، إلا أن أحداً لم يَقُلْ : يلزم توكيده بالثقيلة دون الخفيفة ، وغن كان ظاهر كلام ابن عطية ذلك .

وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)

يجوز أن تقدر « ما » حجازية ، فيكون « مِنْ شيءٍ » اسمها ، و « من » مزيدة فيه لتأكيد الاستغراقِ ، و « على الذين يتَّقُون » خبرها عند من يُجيزُ إعمالها مقدمة الخبر مطلقاً ، أو يرى ذلك في الظَّرْفِ وعديلِهِ .
و « مِنْ حِسَابِهِمْ » حالٌ من « شيء » لأنه لو تأخَّر لكان صِفَةً ، ويجوز أن تكون مُهْمَلةً إما على لُغَةِ « تميم » وإما على لغة « الحجاز » لِفَواتِ شرطٍ ، وهو تقديم خبرها وإن كان طرفاً ، وتحقيق ذلك مما تقدَّم في قوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الأنعام : 52 ]
قوله : « ولَكِنْ ذِكْرَى » فيه أربعة أوجه :
أحدهما : أنها مَنْصُوبَةٌ على المَصْدَرِ بفعلٍ مُضْمَرٍ ، فَقَدَّرهُ بعضهم أمراً؛ أي : ولكن ذكِّروهم ذِكْرَى ، وبعضهم قدَّرَةُ خبراً؛ أي : ولكن يذكرونهم ذكرى .
الثاني : أنه مبتدأ خَبَرُهُ محذوف؛ أي : ولكن عليهم ذكرى؛ أي : النهي عن مُجَالَسَتِهِمْ والامتناع منها ذكرى .
الرابع : أنه عطفٌ على موضع « شيء » المجرور ب « مِنْ » ؛ أي : ما على المُتَّقين من حسابهم شيء ، ولكن عليهم ذكرى ، فيكون من عَطْفِ المفردات ، وأما على الأوجه السَّابقة فمن عطف الجُمَلِ .
وقد رَدَّ الزمخشري هذا الوَجْهَ الرابع ، ورَدَّهُ عليه أبو حيان .
فأما رَدّ الزمخشري فقال : « ولا يجوز أن يكون عَطْفاً على مَحَلِّ من شيء؛ كقولك : » ما في الدار من أحد ولكن زيد « ؛ لأن قوله : » مِنْ حِسَابِهِمْ « يأبَى ذلك » .
قال أبو حيَّان : كأنه تَخَيَّلَ أن في العَطْفِ يلزم القَيْدُ الذي في المعطوف عليه ، وهو « مِنْ حِسَابِهِم » فهو قيد في « شيء » فلا يجوز عنده أن يكون من عَطْفِ المفردات عطفاً على « من شيء » على الموضع؛ لأنه يصير التقدير عنده : ولكن ذكرى من حسابهم ، وليس المعنى على هذا ، وهذا الذي تَخَيَّلَهُ ليس بشيء ، ولا يلزم في العطف ب « لكن » ما ذكر؛ تقول : ما عندنا رَجُلُ سُوءٍ ولكن رَجُلُ صِدْقٍ ، وما عندما رَجُلٌ من تميم ولكن رَجُلٌ من قريش ، وما قام من رَجُلٍ عالم ولكن رَجُل جاهل ، فعلى هذا الذي قَرَّرْناهُ يجوز أن يكون من عطف الجمل كما تقدم ، وأن يكون من عَطْفِ المفرادات والعطف بالواو ، ولكن جيء بها للاستدراك .
قال شهاب الدِّين : قوله : « تقول : ما عندنا رجل سوء وكن رجل صدق » إلى آخر الأمثلة التي ذكرها لا يَرُدُّ على الزمخشري؛ لأن الزمخشري وغيره من أهْلِ اللِّسانِ والأصوليين يقولون : إنَّ العطف ظَاهِرٌ في التشريك ، فإن كان في المعطوف عليه قَيْدٌ فالظَّاهِرُ تقييد المعطوف بذلك القَيْد؛ إلاَّ أن تجيء قرينَةٌ صارِفَةٌ ، فيُحَالٌ الأمر عليها .

فإذا قلت : ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً ، فالظاهر اشتراك عمرو مع زيد في الضَّربِ مقيداً بيوم الجمعة ، فإن قلت : وعمراً يوم السبت لم يشاركه في قَيْدِهِ ، والآية الكريمة من قَبِيلِ النوع الأول؛ أي : لم يؤت مع المعطوف بقرينه تُخْرِجُهُ ، فالظاهر مُشَاركَتُهُ للأول في قيده ، ولو شاركه في قيده لزم منه ما ذكر الزومخشري ، وأما الأمثلة التي أوْرَدَهَا فالمعطوف مُقَيَّدٌ بيغر القيد الذي قيد به الأوَّل ، وإنما كان نبغي أن يُمَثِّلَ بقوله : « ما عندنا رجل سوء ولكن امرأة وما عندنا رجل من تميم ولكن صبي » ، فالظاهر من هذا أن المعنى : ولكن امرأة سوء ، ولكن صبي من قريش .
وقول الزمخشري : « عَطْفاً على محل : من شيء » ولم يقل : عطفاً على لفظه لفائدة حَسَنَةٍ يَعْسُرُ مَعْرفَتُهَا ، وهو أن « لكن » حرف إيجاب ، فلو عطفت ما بعدها على المجرور ب « مِنْ » لَفْظاً لزم زيادة « من » في الواجب ، وجمهور البصريين على عدم زيادتها فيه ، ويَدُلُّ على اعتبار الإيجاب في « لكن » أنهم إذا عَطَفُوا بعد خبر « ما » الحجازية أبْطَلُوا النَّصْبَ؛ لأنها لا تعمل في المنتقض النفي ، و « بل » ك « لكن » فيما ذكرنا .
فصل في النزول
روى عن ابن عبَّاسٍ أنه قال : لما نزلت هذه الآية { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ الأنعام : 68 ] قال المسلمون : لئن كُنَّا كلما استهزأ المشركون بالقرآن ، وخاصوا فيه قُمنا عَنْهُم لما قَدَرْنَا على أن نجلس في المسجد الحرامِ ، وأن نطوف بالبيت ، وهم يخوضون أبداً .
وفي رواية : قال المسلمون : فإنا نَخَافُ الإثم حين نتركهم ، ولا ننهاهم ، فأنزل الله { وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم } أي : ما آثَامِ الخائفين من شيء « ولَكِنْ ذِكُرَى » أي : ذكِّروهم وعِظُوهم بالقرآن ، والذِّكْرُ والذِّكْرُ والذِّكْرَى واحد ، يريد ذكروهم ذكرى لَعَلَّهم يتقون الخوض إلذا وعَظْتُمُوهُمْ ، فرخص في مجالستهم على الوَعْظِ لعلَّهم يمنعهم ذلك من الخوض .
وقيل : لعلَّهم يسحيون .

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)

« اتَّخّذُوا » فيها وجهان :
أحدهما : أنها مُتَعَدِّيَةٌ لواحد ، على أنها بمعنى « اكتسبوا » و « عملوا » ، و « لهواً ولعلباً » على هذا مفعول من أجله؛ أي : اكتسبوه لأجل اللهو واللعب .
قال أبو حيَّان : ويظهر من بعض كلام الزمخشري ، وكلام ابن عطية أنَّ « لعباً ولهواً » هوا لمفعول الأوَّل ، و « دينهم » هو المفعول الثاني .
قال الزمخشري : أي دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لَعِباً ولهواً ، وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تَبْحِير البَحَائِرِ وتسييب والسَّوائبِ من باب اللَّهْوِ واللعبن واتِّباعِ هوى النفسن وما هو من جِنْسِ الهَزْلِ لا الحِدِّ ، أو اتخذوا ما هولَعِبٌ ولهو من بعادة الأصنام دِيناً لهم ، أو اتخذوا دينهم الذي كُلِّفُوُ ، وهو دين الإسلام لعباً ولهواً ، فتفسيره الأوَّلُ هو ما ذكرناه عنه « . انتهى قال شهاب الدين : وهذا الذي ذَكَرَاهُ إنما ذَكَرَاهُ تفسير معنى لا تفسير إعراب ، وكيف يجعلان النكرة مَفْعُولاً أوَّل ، والمعرفة مفعولاً ثانياً نم غير داعية إلى ذلك ، مع أنهما من أكابر أهْلِ هذا اللسان ، وانظر كيف أبرزا ما جَعَلاَهُ مفعولاً أول معرفة ، وما جعلاه ثانياً نكرة في تركيب كلامها [ يخرج ] على كلام العرب ، فكيف يظن بهما أن يجعلا النكرة محدثاً عنها ، والمعرفة حديثاً في كلام الله تعالى؟ قوله تعالى : و { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } تحتمل وجهين : أحدهما : أنها مستأنفة . والثاني : أنها عطف على صلة » الَّذين « ، أي : الذين اتَّخّذُوا وغرَّتْهُم ، وقد تقدم معنى » الغُرُور « في آخر آل عمران .
وقيل : هنا : غَرَّتْهُمْ من » الغَرّ « بفتح الغين ، أي : ملأت أفواههم وأشبعتهم ، وعليه قول الشاعر : [ الطويل ]
2199- وَلَمَّا الْتَقَيْنَا بِالحُلَيْبَةِ غَرَّنِي ... بِمَعْرُوفِهِ حَتَّى خَرَجْتُ أفُوقُ
فصل في معنى الآية
المُرَادُ من هولاء الذي اتخذوا دينهُمْ لعباً ولهواً ، يعني الكفار الذين إذا سَمِعُوا آيات الله استهزءوا بها وتلاعبوا .
وقيل : إن الله - تعالى - جعل لك قوم عِيداً واتَّخَذَ كل قوم دينهم؛ أي عيدهم لعباً ولهواً ، وعيد المسلمين الصلاة والتكبير ، وفعل الخير مثل الجُمُعَةِ والفِطْرِ والنَّحْر .
وقيل : إن الكُفَّارَ كانوا يحكمون في دين الله بمجرَّدِ [ التشهِّي والتمني مثل تحريم ] السَّوائبِ والبَحَائِرِ .
وقيل : اتخاذهم الأصنام وغيرها ديناً لهم .
وقيل : هم الذين ينصرون الدين ليتوسَّلُوا به إلى أخْذِ المناصِبِ والرِّيَاسَةِ ، وغلبة الخَصْمِ ، وجمع الأموال ، فهولاء الذين [ نصروا الدِّين ] لأجل الدنيا ، وقد حكما لله على الدنيا في سائر الآيات بأنها لَعِبٌ ولَهْوٌ .
ويْكِّدُ هذا الوَجْهَ قوله تعالى : { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } .
قوله : » وذكِّر بِهِ « أي : بالقرآن ، يَدُلُّ له قوله : { فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : 45 ] وقيل : يعود على » حِسَابِهِمْ « .

وقيل : على « الدّين » أي : الذي يجب عليهم أن يَتَداينُوا ، ويعتقدوا بصحته .
وقيل : هذا ضمير يفسره ما بعده ، وسيأتي إيضاحه .
قوله : « أنْ تُبْسَلَ » في هذا وجهان :
المشهور- بل الإجماع- على أنه مفعول من أجْلِهِ ، وتقديره : مَخَافَة أن تُبْسَلَ ، أو كاراهة أن تُبْسَلَ أو ألاَّ تبسل .
والثاني : قال أبو حيَّان بعد أن نقل الاتِّفاقَ على المفعول من أجله : « ويجوز عندي أن يكون في موضع جرِّ على البدلِ من الضمير ، والضمير مفسّر بالبَدَلِ ، ويضمر الإبْسَالُ لما في الإضمار من التَّفْخيمِ ، كما أضمروا ضمير الأمْرِ والشَّأنِ ، والتقدير : وذكِّرْ بارتهان النفوسن وحبسها بما كسبت ، كما قالوا : » اللهم صَلِّ عليه الرءوف الرحيم « ، وقد أجاز ذلك سيبويه؛ قال : فإن قلت : وضربوني قومك ، نَصَبْتَ إلا في قول من قال : » أكلوني البراغيث « أو تحمله على البَدَل من المضمر .
وقال أيضاً : فإن قلت : » ضربين وضربتهم قومك ، رفعت على التقديم والتأخير إلا أن تجعل هاهنا البدلن كما جعلته في الرفع « . انتهى .
وقد روي قوله : [ الطويل ]
2200- .. . فاسْتَاكَتْ بِهِ عُودِ إسْحِل
بجر » عُود « على البدل من الضمير .
قال شهاب الدين : أما تفسير الضمير غير المرفوع بالبدل ، فهو قول الأخفش ، وأنشد عليه هذا العَجُزَ وأوله : [ الطويل ]
2201- إذَا هِيَ لَمْ تَسْتَك بِعُودِ أرَاكَةٍ ... تُنُخِّلَ فَاسْتاكَتْ بِهِ عُودِ إسْحِلِ
والبيت لطُفَيْلٍ الغَنَوِيّ ، يروى برفع » عُود « ، وهذا هو المشهور عند النُّحَاةِ ، ورفعه على إعمال الأول ، وهو » تُنُخِّلَ « ، وإهمال الثاني وهو » فَاسْتَاكَتْ « ، فأعطاه ضميره ، ولو أعمله لقال : » فاستاكت بعود إسحل « ، ولا يكن لانكسار البيت ، والرواية الأخرى التي استشهد بها ضعيفة جداً لا يعرفها أكثر المُعْرِبينَ ، ولو استشهد بما لا خلاف عليه فيه كقوله : [ الطويل ]
2202 - عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي القَوْمِ حَاتِماً ... عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بالمَاءِ حَاتِمِ
بجر » حاتم « بدلاً من الهاء في » جوده « ، والقوافي مجرور لكان أوْلَى .
والإبْسَالُ : الارتهان ، ويقال : أبْسَلْتُ ولدي وأهلي ، أي أرْتَهَنْتُهُمْ؛ قال : [ الوافر ]
2203- وإبْسِالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ ... بَعَوْنَاهُ ولا بِدّمٍ مُرَاقِ
بَعَوْنَا : جَنَيْنَا والبَعْوُ : الجِنَاية .
وقيل : الإبْسَالُ أن يُسْلِمَ الرجل نفسه للهَلَكَةِ وقال الراغب : » البَسْلُ : ضَمُّ الشيء ومنعه ، ولتَضَمُّنِهِ معنى الضَّمِّ استعير لتَقَطُّبِ الوَجْهِ ، فقيل : هو باسل ومُبْتسلٌ الوجه ، ولتضمينه معنى المنع قيل للمُحَرَّم والمرتهن : بَسْلٌ « ، ثم قال : والفرقُ بين الحرام والبَسْل أنَّ الحرام عام فيما كان ممنوعاً منه بالقَهْرِ والحكم ، والبَسْلُ هو الممنوع بالقَهْرِ ، وقيل للشجاعة : بَسَالَة؛ إما لما يوصف به الشجاع من عنُبُوس وَجْهِهِ ، ولأنه شديد البُسُورَةِ يقال بسر الرجل إذا استد عبوسه ، وقال تعالى : { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } [ المدثر : 22 ] فإذا زاد قالوا بَسَلَ ، أو لكونه محرماً على أقرانه ، أو لأنه يَمْنع ما حَوْزتِهِ ، وما تحت يده من أعدائه والبُسْلَةُ ، أجْرَةُ الرَّاقِي مأخوذة من قول الرَّاقي : أبْسَلْتُ زيداً؛ أي : جَعَلْتُهُ مُحَرَّماً على الشيطان ، أو جعلته شجاعاً قويَّا على مُدافعتِهِ ، و » بَسَل « في معنى » أجَلْ « و » بَسْ « .

أي : فيكون حَرْفَ جواب ك « أجل » ، واسم فعل بمعنى اكتف ك « بس » .
وقوله « بما » متعلّق ب « تُبْسَلَ » ، أي بسبب ، و « ما » مصدرية ، أو بمعنى « الذي » ، أو نكرة وأمرها واضح .
فصل في معنى التبسل
قال مجاهد وعكرمة والسدي : قال ابن عبَّاس : « تُبْسَل » : تَهْلِكُ ، وروي عن ابن عباس تُرتهنُ في جَهنَّم بما كسبت في الدنيا ، وهو قول الفراء .
وقال قتادة : تُحْبَسُ في جهنم .
وقال الضحاك : تُحْرَقُ .
وقال الأخفش : تُجَازَى .
وروي عن ابن عباس : تُفضحُ وقال ابن زيد : تُؤخَذُ .
قوله : « لَيْسَ لَهَا » هذه الجملة فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها مُسْتأنَفَةٌ سِيقَتْ للإخبار بذلك .
والثاني : أنها في مَحَلِّ رفع صفة ل « نفس » .
والثالث : أنها في مَحَلِّ نَصْبِ حالاً من الضمير في « كسبت » .
قوله : « مِنْ دُون » في « مِنْ » وجهان :
أظهرهما : أنها لابْتِدَاءِ الغاية .
والثاني : أنها زَائِدَةٌ نقله ابن عطية ، وليس بشيءن وإذا كانت لابتداء الغايةِ ، ففيما يتعلَّق به وجهان :
أحدهما : أنها حالٌ من « وليّ » ؛ لأنها لو تأخَّرَتْ لكانت صِفَةً له فتتعلَّقُ بمحذوف هو حال .
الثاني : أنها خبر « ليس » فتتعلَّق بمحذوف أيضاً وهو خبر ل « ليس » ، وعلى هذا فيكون « لها » متعلقاً بمحذوف على البيان ، كما تقتدم نظيره ، و « من دون الله » فيه حذف مُضَاف أي : من دون عذابه وجزائه وَليّ ولا شفيع يشفع لها في الآخرة .
قوله : « وإن تَعْدِلط أي : تَفْتَدِي » كُلَّ عَدْلٍ « : كُلّ فداء ، و » كل « منصوب على المصدرية؛ لأن » كل « بحسب ما تضاف إليه هذا هو المشهور ، ويجوز نَصْبُهُ على المفعول به؛ أي : وإن تلإسِ يَداهَا كُلَّ ما تَفْدِي به لايُؤخَذُ ، فالضمير في » لا يؤخَذُ « على الأوَّل ، قال أبو حيَّان : » عائد على المَعْدُولِ به المفهوم من سياق الكلام ، ولا يعود إلى المصدر؛ لأنه لا يُسْنَدُ إليه الأخْذُ ، وأما في { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ البقرة : 48 ] فبمعنى المَفْدِيَّ به فيصح « انتهى . أي : إنه إنما أسند الأخْذَ إلى العَدْلِ صريحاً في » البقرة « ؛ لأنه ليس المراد المصدر ، بل الشيء المَفْدِيَّ به ، وعلى الثَّاني يعود على » كل عدل « ؛ لأنه ليس مصدراً فهو كآية البقرة .

وقال ابن الخطيب : ويكن حَمْلُ الأخذ هنا بمعنى القَبُولِ؛ قال تعالى { وَيَأْخُذُ الصدقات } [ التوبة : 104 ] أي : يقبلها وإذا [ ثبت هذا فيُحْمَلُ ] الأخذ هاهنا على القبول ويزول المحذور ، وفي إسناد الأخْذِ إلى المصدر عبارة عن الفعل يعني يؤخذ مسنداً « إلى » منها لا إلى ضميره أي : لأن العدل بالمعنى المصدري لا يؤخذ ، بخلاف قوله : { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْل } فإنه المَفْدِيُّ به .
قوله : { أولئك الذين أُبْسِلُواْ } يجوز أن يكون « الَّذينَ » خبراً ، و « لهم شراب » خبراً ثانياً ، وأن يكون « لهم شراب » حالاً؛ إما من الضمير في « أبْسِلواط وإمَّا من الموصول نفسه ، و » شراب « فاعلٌ لاعتماد الجار قبله على ذِي الحالِ ، ويجوز أن يكون » لهم شراب « مُسْتَأنفاً ، فهذه ثلاثة أوجه ، ويجوز أن يكون » الذين « بدلاً من » أولئك « أو نعتاً فيتعين أن يكون الجملة من » لهم شراب « خبراً للمبتدأ ، فيحصل في الموصُولِ أيضاً ثلاثة أوجه؛ كونه خبراً ، وأو بدلاً ، أو نعتاً فجاءت مع ما قبلها ستة أوجه ستة أوجه في هذه الآية ، و » شراب « يجوز رَفْعُهُ من وجهين؛ الابتدائية والفاعلية عند الأخفش ، وعند سيبويه أيضاً على أن يكون » لهم « هو خبر المبتدأ أو حالاً ، حيث جعلناه حالاً ، و » شراب « مُرتفعٌ به لاعتماده على ما تقدَّم ، و » ن حميم « صفة ل » شراب « فهو في مَحَلِّ رفع ، ويتعلق بمحذوف .
و » شراب « فعال بمعنى مفعول ك » طعام « بمعنى » مطعوم « ، و » شراب « بمعنى » مشروب « لا يَنْقَاسُ ولا يقال : » أكال « بمعنى » مأكول « ولا » ضراب « بمعنى » مضروب « .
والإشارة بذلك إلى الَّذين اتخذوا في قول الزمخشري والحوفي ، فلذلك أتى بصيغة الجمع ، وفي قول ابن عطية وأبي البقاء إلى الجنْسِ المفهوم من قوله » أن تُبْسَلَ نَفْسٌ « إذ المرادُ به عُمومُ الانْفُسِ ، فلذلك أشير إليه بالجمع ، ومعنى الآية : أولئك الذين أبسلوا أسلمُوا للهلاكِ بما كسبوا » لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون « .

قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)

المقصود : من هذه الآية الرَّدُّ على عبدةِ الأصنام ، وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك : { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ الأنعام : 56 ] .
فقوله : « أنَدْعُوا من دون الله » أي : أنعبد من دون الله النَّافِعِ الضَّارِّ ما لا يَقْدرُ لعى نَفْعِنَا إن عبدناهُ ، ولا على ضرنا إن تركناه .
قوله : « أنّدْعُوا » استفهام توبيخ وإنكارن والجملة في مَحَلِّ نصب بالقول ، و « ما » مفعولة ب « ندعوا » ، وهي موصولة أو نكرة موصوفة ، و « مِنْ دون الله » متعلِّقٌ ب « ندعوا » .
قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في » يَنْفَعُنَا « ولا معمولاً ل » يَنْفَعُنَا « لتقدُّمهِ على » ما « ، والصلة والصفة لا تَعْملُ فيما قبل الموصول والموصوف .
قوله : » من الضمير في يَنْفعنَا « يعني به المرفوع العائد على » ما « وقوله : » لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف « يعني : أن » ما « لا تخرج عن هذين القسمين ولكن يجوز أن يكون » من دون « حالاً من » ما « نفسها على قوله؛ إذ لم يجعل المانع من جعله حالاً من ضميره الذي في » يَنْفَعُنَا « إلاَّ صِناعِياً لا معنوياً ، ولا فرق بين الظاهر وضميره بمعنى أنه إذا جازَ أن يكون حالاً من ظاهره ، جاز أن يكون حالاً من ضميره ، إلا أن يمنع مَانِعٌ .
قوله : » ونُرَدُّ « فيه وجهان :
أظهرهما : أنه نَسَقٌ على » نَدْعُوا « فهو داخل في حيِّز الاستفهام المُتَسَلِّطِ عليه القَوْلُ .
الثاني : أنه حالٌ على إضمار مبتدأ؛ أي : ونحن نُرَدُّ .
قال أبو حيَّان بعد نقله هنا عن أبي البقاء : » وهوضعيف لأضمار المبتدأ ، ولأنها تكون حالاً مؤكّدة « ، وفي كونها مؤكدة نظرٌ؛ لأن المؤكدة ما فهم معناها من الأوَّلِ ، وكأنه يقول : من لازم الدعاء » من دون الله « الارتداد على العقب .
قوله : » عَلى أعْقَابِنَا « فيه وجهان :
أحدهما : أنه معلّق ب » نُرَدُّ « .
والثاني : أنه متعلِّق بمحذوف على أنه حال من مرفوع » نرد « أي : نرد راجعين على أعْقابنا ، أو منقلبين ، أو متأخرين كذا قدَّرُوهُ ، وهو تفسير معنى؛ إذا المُقَدَّرُ في مثله كونٌ مُطلقٌ ، وهذا يحتمل أن يقال فيه : إنه حال مؤكدة ، و » بعد إذ « مُتعلِّقٌ ب » نُرَدُّ « .
[ ومعنى الآية : ونرد على أعقابنا إلى الشِّرْكِ مرتدين بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام .
يقال لكل من أعْرَضَ عن الحق إلى الباطل : إنه رجع إلى خَلْفٍ ، ورجع على عَقِبَيْهِ ، ورجع القَهْقَرى؛ لأن الأصل في الإنسان الجَهْلُ ثم يترقى ويتعلم حتى يتكاملن ويحصل له العلم .

قال تعالى : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } [ النحل : 78 ] فإذا رجع من العِلْمِ إلى الجَهْلِ مرة أخرى ، فكأنه رجع إلى أوَّل أمره ، فلهذا السبب يقال : فلان رُدَّ على عقبيه ] .
قوله « كالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ » في هذه الكاف وجهان :
أحدهما : أنه نَعْتُ مصدرٍ محذوف؛ أي : نُرَدُّ رَدَّاً مثل ردِّ الذين .
الثاني : في مَحَلّ نصب على الحال من مرفوع « نرد » ، أي : نرد مُشْبهينَ الذي استهوته الشياطين ، فمن جوَّز تعدُّدّ الحالِ جعلها حالاً ثانية ، إن جعل « على أعقابنا » حالاً ، ومن لم يُجَوِّزْ ذلك جعل هذه الحال بدلاً من الحال الأولى ، أو لم يجعل على أعقابنا حالاً ، بل معلّقاً ب « نرد » . الجمهور على « اسْتهْوتْهُ » بتاء التأنيث ، وحمزة « اسْتَهْوَاهُ » وهو على قاعدته من الإمالة ، والوجهان معروفان مما تقدم في { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [ الأنعام : 61 ] وقرأ أبو عبد الرحمن والأعمش : « اسْتَهْوَتْهُ الشَّيْطانُ » بتأنيث الفعل ، والشيطان مفرداً .
قال الكسائي : « وهي كذلك في مصحف ابن مسعود » ، وتوجيه هذه القراءة أنَّا نُؤوِّل المذكربمؤنث كقولهم : « أتته كتابي فاحتقرها » ؛ أي : صحيفتي ، وتقدَّم له نظائر .
وقرأ الحسن البصري : « الشَّيَاطُون » وجعلوها لَحْناً ، ولا تَصِلُ إلى الَّحْنِ ، إلا أنها لُغَيّةٌ رديئة ، سُمِع : حول بسان فلان بساتون وله سلاطون ، ويُحْكَى أنه لما حيكت قراءة الحسن لَحَّنَهُ بعضهم ، فقال الفراء : « أي والله يُلحِّنُون الشيخ ، ويستشهدون بقول رؤبة » . ولعمري لقد صدق الفراء في إنكار ذلك .
والمراد ب « الَّذي » الجِنْسُ ، ويحتمل أن يراج به الواحد الفَذُّ .
قوله : « في الأرْضِ » فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه مُتعلِّق بقوله : « اسْتَهْوتْهُ » .
الثاني : أنه حالٌ من مفعول « اسْتَهْوَتْهُ » .
الثالث : أنه حالٌ من « حيران » .
الرابع : أنه حالٌ من الضمير المُسْتَكِنّ في « حيران » ، و « حيران » حال إما من « هاء » « استهوته » على أنها بدلٌ من الأولى ، وعند من يجيز تعدُّدَهَا ، وإما من « الَّذِي » ، وإما من الضمير المستكن في الظرف ، و « حيران » مؤنثة « حيرى » ، فلذلك لم يَنْصَرِفُ ، والفعل حَارَ يَحَارُ حَيْرةً وحَيَراناً وحَيْرورةً ، و « الحيران » المُتَرَدِّدُ في الأمر لا يهتدي إلى مَخْرَجٍ .
وفي اشتقاق « اسْتَهْوَتْهُ » قولان :
الأول : أنه مشتق من الهُوِيِّ في الأرض ، وهو النزول من الموضع العالي إلى الوهدة [ السافلة ] العميقة [ في قعر الأرض ] فشبه الله تعالى حال هذا الضَّالِّ به ، كقوله : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء }

[ الحج : 31 ] ولا شكل أن الإنسان حال هُويِّةِ من المكان المعالي إلى الوهْدةِ العميقة يكون في غايةِ الاضْطرابِ والدهشة والحيرةِ .
والثاني : أنه مُشْتَقٌ من اتِّباعِ الهَوَى والميل ، فإنه من كان كذلك ، فإنه ربما بلغ النهاية في الحَيْرَةِ .
واعلم أن هذا المثل في غاية الحُسْنِ؛ لأن الذي يَهْوِي من المكان العالي إلى الوَهْدَةِ العميقة ، يحصل له كمال التَّرَدُّدِ والدهشة والحيرة؛ لأنه لا يعرف أي موضع يزداد بلاَؤهُ بسبب سقوطه عليه أو يَقِلُّ .
قوله « لَهُ أصْحَابٌ » جملة في مَحَلّ نصب صفة ل « حيران » ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في « حيران » ، وأن تكون مستأنفة ، و « إلى الهدى » متعلقة ب « يدعونه » ، وفي مصحف ابن مسعود وقراءته : « أتينا » بصيغة الماضين و « إلى الهدى » على هذه القراءة معلّق به ، وعلى قراءة الجمهور ، فالجملة الأمرية في محل نصب بقول مضمر أي يقوللون : أئتنا والقول المضمر في محل صفة لأسحاب وكذلك « يدعونه » . قالوا : نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه كان يدعو أبَاهُ إلى الكُفْرِ ، وأبوه يدعوه إلى الإيمان .
وقيل : المراد أن لذلك الكافر الضَّالِّ أصحاباً يدعونه إلى ذلك الضَّلالِ ، ويسمونه بأنه هو الهدى ، والصحيح الأوَّل .
ثم قال تعالى : { إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } يَزْجُرُ بذلك عن عبادة الأصنام ، كأنه يقول : لا تفعل ذلكن فإن الهُدَى هُدَى الله لا هادي غيره . قوله : « وأمِرْنَا لِنُسْلِمَ » في هذه « اللام » أقوال :
أحدها : وهو مذهب سيبويه أن هذه اللام بعد الإرادة للقيام ، والأمر للذَّهاب ، كذا نقل أبو حيَّان ذلك عن سيبويه وأصحابه ، وفيه ضَعْفٌ تقدَّم في سورة النساء عند قوله : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] .
الثاني : أن مفعول الأمر والإرادة محذوف ، وتقديره : وأمرنا بالإخلاص لنسلم .
الثالث : قال الزمخشري : هي تَعْلِيلٌ للأمر بمعنى أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم .
الرابع : أن « اللام » زائدة؛ أي : أمرنا أن نسلم .
الخامس : أنها بمعنى « الباء » أي بأن نسلم .
السادس : أن « اللام » وما بعدها مفعول الأمر واقعة موقع « أن » أي : أنهما مُتعاقِبَانِ ، فتقول : أمرتك لتقوم ، وأن تقوم ، وهذا مذهب الكوفيين .
وقال ابن عطية : ومذهب سبيويه أن « لِنُسْلِمَ » في موضع المفعول ، وأن قولك : أمرت لأقوم وأن أقوم بيجريان سواءً وقال الشاعر : [ الطويل ]
2044- أُرِيدُ لأنْسَى حُبَّهَا فَكَأنَّمَا ... تَمثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ طَرِيقِ
وهذا ليس مذهب سبيويه ، إنما مذهبه ما تقدَّم تحقيقه في « سورة النساء » .
قوله « وأنْ أقِيمُوا » فيه أقوال :
أحدها : أنها في مَحَلِّ نصب بالقول نَسَقاً على قوله : « إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى » أي : قل هذين الشيئين .

والثاني : أنه نَسَقٌ على « لنسلم » أي : وأمرنا بكذا للإسلام ، ولنقيم الصلاة ، و « أن » تُوصل بالأمر كقولهم : كتب إليه بأن قم ، حكاه سبيويه وهذا رَأيُ الزَّجَّاج .
والثالث : أنه نَسَقٌ على « ائْتِنَا » قال مكي : لأن معناه : « أن ائتنا » ، وهو غير ظاهر .
والرابع : أنه مَعْطُوفٌ على مفعول الأمر المقدر ، والتقدير : وأمرنا بالإيمان ، وبإقامة الصلاة قاله ابن عطية .
قال أبو حيَّان : وهذا لا بأس به ، إذ لا بُدَّ من تقدير المفعول الثاني ل « أمرنا » ويجوز حذف المعطوف عليه لِفَهْمِ المعنى؛ تقول : أضَرَبْتَ زيداً؟ فيجب نعم وعمراً؛ والتقدير : ضربته وعمراً .
وقد أجاز الفراء : « جاءني الذي وزيد قائمان » ، التقدير : الذي هو وزيد قائمان ، فحذف « هو » لدلالة المعنى عليه ، وهذا الذي قاله أنه لا بأس به ليس من أصول البصريين .
و « أما نعم وعمراً » فلا دلالة فيه؛ لأن « نعم » قامت مقام الجملة المحذوفة .
وقال مكي قريباً من هذا القول ، إلاَّ أنه لم يُصَرِّحْ بحذف المعطوف عليه ، فإنه قال : و « أن » في موضع نَصْب بحذف الجارِّ ، تقديره : وبأنْ أقيموا ، فقوله : وبأن أقيموا هو معنى قول ابن عطية ، إلاَّ أن ذلك [ أوضحه ] بحذف المعطوف عليه .
وقال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف قوله : « وأن أقيموا » ؟ قلت : على موضع « لنسلم » كأنه قيل : وأمرنا أن نسملم ، وأن أقيموا .
قال أبو حيَّان : وظاهر هذا التقدير أن « لنسلم » في موضع المفعُولِ الثاني ل « أمرنا » وعطف عليه : « وأن أقيموا » فكتون اللام على هذا زَائِدَةً ، وكان قد تقدَّم قبل هذا أن « اللام » تعليل للأمر ، فتناقض كلامه؛ لأن ما يكون عِلَّةً يستحيل أن يكون معفولاً ، ويدلُّ على أنه أراد بقوله : « أن نسلم » في موضع المفعول الثاني قوله بعد ذلك : ويجوز أن يكون التقدير : وأمرنا لأن نسلم ، ولأن أقيموا ، أي للإسلام ولإقامة الصلاة ، وهذا قول الزَّجَّاجِ ، فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأوَّل لاتَّحَدَ قَوْلاَهُ ، وذلك خُلْفٌ .
قال الزَّجَّاج : « أن أقيموا » عطف على قوله « » لنسلم « ، تقديره : وأمرنا لأن نسلم ، وأن أقيموا .
قال ابن عطية : واللَّفْظُ يُمانِعُهُ ، لأن » نسلم « معرب ، و » أقيموا « مبني ، وعطف المبني على المعرب لا يجوز ، لأن العطف يقتضي التَّشْرِيكَ في العامل .
قال أبو حيان : وما ذكر من أنه لا يعطف المبني على المعرب ليس كما ذكر ، بل يجوز ذلك نحو : » قام زيد وهذا « ، وقال تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار } [ هود : 98 ] غَايَةُ ما في الباب أن العامل يُؤثِّرُ في المعرب ، ولا يُؤثِّرُ في المبني ، وتقول : » إن قام زيد ويقصدني أكرمه « ، ف » إن « لم تُؤثِّرْ في » قام « ؛ لأنه مبني ، وأثرت في » يقصدني « ؛ لأنه معرب ثم قال ابن عطية : » اللهم إلا أن تجعل العطف في « إن » وحدها ، وذلك قلق ، وإنما يَتَخَرَّجُ على أن يقدر قوله : « وأن أقيموا » بمعنى « ولنقم » ، ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالةِ اللفظ ، فجاز العطفُ على أن يلغي حكم اللفظ ، ويعول على المعنى ، ويشبه هذا من وجهة ما حكاهُ يونس عن العرب : ادخلوا الأوَّل فالأوَّل ، وإلا فلا يجوز إلاَّ الأول فالأوَّل بالنصب « .

قال أبو حيَّان : وهذا الذي استدركه بقوله : « اللهم إلا » إلى آخره هو الذي أراده الزَّجَّاج بعينه ، وهو « أن أقيموا » معطوف على « أن نسلم » ، وأن كليهما عِلَّةٌ للمأمور به المحذوف ، وإنما قلق عند ابن عطية؛ لأنه أراد بقاء « أن أقيموا » على معناها من موضوع الأمر ، وليس كذلك؛ لأن « أنْ » إذا دخلت على فعل الأمر ، وكانت المصْدَرِيَّةَ انْسَبَكَ منها ومن الأمر مصدر ، وإذا انْسَبَكَ منهما مصدر زال معنى الأمر ، وقد أجاز النحويون سيبويه وغيره أن تُوصَلَ « أن » المصدرية الناصبة للمضارع بالماضي والأمر .
قال سيبويه : وتقول : كتبت إليه بأن قم ، أي بالقيام ، فإذا كان الحكم كذا كان قوله : « لنسلم » و « أن أقيموا » في تقدير الإسلام ولإقامة الصلاة ، وأما تشبيه ابن عطيَّة له بقوله : ادخلوا الأوَّل فالأول : بالرفع ، فليس بتشبيهح لأن ادخلوا لايمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلَّطَ على ما بعده ، بخلاف « أنْ » فإنها تُوصَلُ بالأمرِ ، فإذن لا شبه بينهما انتهى .
أما قول أبي حيَّان : « وإنما قلق عند ابن عطية؛ لأنه أراد بقاء » أنْ أقيموا « على معناها من موضوع الأمر » ، فليس القلقُ عنده لذلك ققط كما حصره الشيخ ، بل لأمر آخر من جهة اللفظ ، وهو أن السِّيَاقَ التَّرْكِيبِيَّ يقتضي لعى ما قاله الزجاج أن يكون « لنسلم وأن نقيم » ، فتأتي في الفعل الثاني بضمير المتكلم ، فلما لم يقل ذلك قلق عنده ، ويدلُّ على [ ما ذكرته ] قول ابن عطية : « بمعنى : ولنقم ثم خرجت بلفظ الأمر » إلى آخره .
والخامس : أنه مَحْمُولٌ على المعنى؛ إذا المعنى قيل لنا : أسْلِمُوا وأن أقيموا .
وقال الزجاج : فإن قيل : كيف حَسُنَ عطف قوله : « وأن أقيموا الصلاة واتقوه » على قوله « وأمِرْنَا لِنُسلمَ لِرَبِّ العالمينَ » ؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن يكون التقدير : وأمرنا لنسلم لرب العالمين ، ولأن نقيم الصلاة .
الثاني : أن يكون التقدير : وأمرنا فقيل لنا أسلموا لربِّ العالمين ، وأقيموا الصَّلاة .

فإن قيل : هَبْ أن المُرَادَ ما ذكرتم ، لكن ما الحِكْمَةُ في العُدُولِ عن هذا اللَّفْظِ الظَّاهِرِ ، والتركيب الموافق للعقل إلى ذلك اللفظ الذي لا يهتدي العقل إلى معناه ، إلاَّ بالتأويل؟! .
فالجواب : لأن الكافر ما دام [ يبقى ] على كُفْرِهِ كان كالغَائبِ الأجنبي ، فلا جرم خُوطِبَ بخطاب الغائبين ، فيقال له : « وأمِرْنَا لِنُسلِمَ لِرَبِّ العَالمينَ » فإذا أسلم [ وآمن ] ودخل في الإيمان صار كالقريب الحاضرن فلا جرمَ خُوطِبَ بخطاب الحاضرين ، ويقال له « وأنْ أقيمُوا الصَّلاة وأتَّقُوُ » فالمقصود من ذِكْرِ هذهين النوعين من الخطاب للتنبيه على الفَرْقِ بين حالتي الكُفْرِ والإيمان ، وتقريره أن الكافر بعيد غائب ، والمؤمن قريب حاضر .
فصل في أنه لا هدى إلا هدى الله
اعلم أن الله - تعالى - لما بيَّن أوَّلاً أن الهُدَى النافع هو هدى اللهن أرْدَفَ ذلك الكلام الكُلِّيَّ بِذكْرِ أشرف أقْسَامِهِ على الترتيبن وهو الإسلام ، وهو رئيس الطاعات الروحانية ، والصلاة التي هي رَئِيسَةُ الطاعات الجِسْمَانِيَّةِ ، والتقوى التي هي رئيسة باب التروك والاحتراز عن كل ما لا ينبغي ، ثم بيَّن منافع هذه الأعمالن فقال : « وهُو الَّذي إليْهِ تُحْشرونَ » يعني أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر .

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

لمَّا بيَّن في الآيات المتقدمة فساد طريقة عبادة الأصنام ذكر هاهنا ما يدل على أنْ لا معبود إلاَّ الله ، وذكرها هاهنا أنواعاً من الدلائل :
أحدهما : قوله : { وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق } تقدم أول السورة .
وقوله : « بالحق » قيل : الباء بمعنى اللام ، أي إظهار للحق؛ لأنه جعل صُنْعَهُ دليلاً على وحدانيته ، فهو نظير قوله : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } [ آل عمران : 191 ] ، وقوله : { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } [ الدخان : 38 ] .
وثانيها : قوله : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ } في « يوم » ثمانية أوجه :
أحدهما : - وهو قول الزَّجَّاج- أنه مفعول به لا ظرْفٌ ، وهو معطوف على الهاء في « اتقواه » أي : واتقوا يوماً أي : عقاب يوم يقول ، أو هوله أو فزعه ، فهو كقوله تعالى في موضع آخر : { واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي } [ البقرة : 48 ] على المشهور في إعرابه .
والثاني : أنه مفعول به أيضاً ، ولكنه نَسَقٌ على السموات والأرض ، أي : وهو الذي خَلَقَ يوم يقول .
الثالث : أنه مفعول ل « اذكر » مقدراً .
الرابع : أنه منصوب بعامل مقدر ، وذلك العامل المُقّدَّرُ مفعول فعل مقدر أيضاً ، والتقدير : واذكروا الإعادة يوم يقول : كن ، أي يوم يقول الله للإجساد : كوني مُعَادَةً .
الخامس : أنه عَطْفٌ على موضع قوله : « بالحق » فإن موضعه نَصْبٌ ، ويكون « يقول » بمعنى قال ماضياًن كأنه قيل : وهو اذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم قال لها : كن .
السادس : أن يكون « يوم يقول : كن فيكون ، وإليه ننحا الزمخشري ، فإنه قال : » قوله الحق « مبتدأ ، و » يوم يقول « خبره مقدماً عليه ، وانْتِصَابُهُ بمعنى الاستقرار ، كقولك : » يوم الجمعة القتال « واليوم بمعنى الحينِ ، والمعنى : أنه خلق السموات والأرض قائماً بالحكم ، وحين يقول لشيء من الأشياء : كن فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة .
فإن قيل : قول الله حَقّ في كل وقت ، فما الفائدةُ في تخصيص هذا اليوم بهذين الوصفين؟ فالجواب : لأن هذا اليوم لا يَظْهَرُ فيه من أحَدٍ نَفْعٌ ولا ضر ، كما قال تعالى : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } { والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] فلهذا السبب حَسُنَ هذا التخصيص .
السابع : أنه مَنْصُوبٌ على الظرف ، والناصب له معنى الجملة التي هي » قوله الحق « أي : حق قوله في يوم يقول : كن .
الثامن : أنه مَنْصُوبٌ بمحذوف دلَّ عليه بالحق .
قال الزمخشري : وانْتِصَابُ اليوم بمحذوف دلَّ عليه قوله : » بالحق « ، كأنه قيل : » وحين يكون ويقدر يقوم بالحق « قال أبو حيان : » وهذا إعراب مُتَكَلَّفٌ « .
قوله : » فيكون « هي هنا تامَّةٌ ، وكذلك قوله : » كُنْ « فتكتفي هنا بمرفوع ، وتحتاج إلى منصوب ، وفي فاعلها أربعة أوجه :
أحدها : أنه ضمير جميع ما يخلقه الله - تعالى - يوم القيامة ، كذا قَيَّدَهُ أبو البقاء بيوم القيامة .

وقال مكي : « وقيل : تقدير المضمر في » فيكون « جميع ما أراد » ، فأطلق ولم يُقَيِّدْهُ وهذا أوْلَى وكأن أبا البقاء أخذ ذلك من قرينة الحال .
الثاني : أنه ضمير الصُّور المنفوخ فيها ، ودَلَّ عليه قوله : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } [ طه : 102 ] .
الثالث : هو ضمير اليوم؛ أي : فيكون ذلك اليوم العظيم .
الرابع : أن الفاعل هو « قوله » و « الحق » صفته؛ أي : فيوجد قوله الحق ، ويكون الكلام على هذا تامَّا على « الحق » .
قوله « قولهُ الحَقُّ » فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ ، و « الحق » نعته ، وخبره قوله : « يوم يقول » .
والثاني : أنه فاعلٌ لقوله : « فيكون » و « الحق » نعته أيضاً ، وقد تقدَّم هذان الوجهان .
الثالث : أن « قوله » مبتدأ ، و « الحق » خبره أخبر عن قوله بأنه لا يكون إلاَّ حقَّا .
والرابع : أنه مبتدأ أيضاً ، و « الحق » نعته ، و « يوم يُنفَخُ » خبره وعلى هذا ففي قوله : « وله الملك » ثلاثة أوجه :
أحدها : تكون جُمْلَةً من مبتدأ وخبر معترضة بين المبتدأ وخبره ، فلا محل لها حنئيذ من الإعراب .
والثاني : أن يكون « الملك » عطفاً على « قوله » و « أل » فيه عوض عن الضمير ، و « له » في محلِّ نصب على الحال من « الملك » العامل فيه الاسْتِقْرَارُ ، والتقدير : قوله الحق ، وملكه كائناً له يوم ينفخ ، فأخبر عن القول الحق والملك الذي لله بأنهما كائنانِ في يوم ينفخ في الصُّورِ .
الثالث : أن الجملة من « وله الملك » في محل نصبٍ على الحال ، وهذا الوجه ضعيف لشيئين :
أحدهما : أنها تكون حالاً مؤكّدة ، والأصل أن تكون مؤسّسة .
الثاني : أن العامل فيها معنوي؛ لأنه الاستقرار المُقَدَّرُ في الظرف الواقع خبراً ، ولا يجيزه إلا الأخفش ، ومن تابعه ، وقد تقدَّم تقرير مذهبه .
قوله : « يَوْمَ يُنْفَخُ » فيه ثمانية أوجه :
أحدها : أنها خبر لقوله تعالى : « قوله الحق » ، وقد تقدم تحقيقه .
الثاني : أنه بَدَلٌ من « يوم يقول » فيكون حُكْمُهُ ذاك .
الثالث : أنه طرف ل « تحشرون » أي : وهو الذي إليه تحشرون في يوم يُنْفَخُ في الصور .
الرابع : أنه منصوب بنفس المُلْك ، أي : وله المُلْكُ في ذلك اليوم .
فإن قيل : يلزم من ذلك تقييد الملك ب « يوم النَّفْخ » ، والملك له كل وقت .
فالجواب : ما تقدم في قوله « الحق » ، وقوله : { لِّمَنِ الملك اليوم } [ غافر : 16 ] وقوله : { والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانقطار : 19 ] وهو أن فائدة الإخبار بذلك أنه أثبت المُلْكَ والأمْرَ في يوم لا يمكن لأحد أن يدعي فيها شيئاً من ذلك .

الخامس : أنه حالٌ من المُلْكِ ، والعامل فيه « له » لما تضمنه من معنى الفعل .
السادس : أنه منصوب بقوله : « يقول » .
السابع : أنه مَنْصُوبٌ بعالم الغيب بعده .
الثامن : أنه منصوبٌ بقوله تعالى : « قوله الحق » فقد تحصَّل في كل من اليومين ثمانية أوجه .
والجمهور على « يُنْفَخُ » مبنياً للمفعول بياء الغيبة ، والقائم مقام الفاعل الجار بعده .
وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوارث : « نَنْفُخُ » بنون العظمة مبنياً للفاعل .
والصُّورُ : الجمهور على قراءته ساكن العين وقرأه الحسن البصري بفتحها .
فأما قراءة الجمهور ، فاختلفوا في معنى « الصُّور » [ فيها ] فقال جماعة الصور : جمع « صُورة » كالصُّوف جمع « صوفة » ، والثوم جمع « ثومة » ، وهذا ليس جمعاً صِنَاعيَّا ، وإنما هو اسم جنس ، إذ يفرق بينه وبين واحد بتءا التأنيث ، وأيَّدُوا هذا القول بقراءة الحسن المتقدمة .
وقال جماعة : الصُّور هو القَرْنُ .
قال مجاهد كَهَيْئَةِ البُوقِ ، وقيل : هو بلغة أهل اليمن ، وأنشدوا : [ السريع أو الرجز ]
2205- نَحْنُ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الجَمْعَيْن ... بِالشَّامِخَاتِ فِي غُبَارِ النُّقْعَينْ
نَطْحاً شَدِيداً لا كَنَطْحِ الصُّورَينْ ... وأيَّدُوا ذلك بما ورد في الأحاديث الصحيحة ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : « جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما الصُّورُ؟ قال : » قَرْنٌ يُنْفَخُ فيهِ « وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » كَيْفَ أنْعَمُ وصَحِبُ الصُّورِ قَد التَقَمهُ وأصْغَى سمْعَهُ وَحَتَى جَبْهَتهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤمَرٍُ « . فقالوا : يا رسول الله وما تأمرنا؟ فقال : » قُولُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ « .
وقيل في صفته : إنه قَرْنٌ مستطبل في أبخاش ، وأن أرواح الناس كلهم فيه ، فإذا نفخ فيه إسرافيل خرجت رُوحُ كُلِّ جسدٍ من بخش من تلك الأبخاش .
وأنحى أبو الهيثم على من ادَّعى أن الصور جمع » صُورة « ، فقال : » وقد اعترض قوم فأنكروا أن يكون الصور قَرْنَاً كما أنكروا العَرْشَ والميزان والصراط ، وادَّعُوا أن الصور جمع « صورة » ، كالصوف جمع الصوفة ، ورووا ذلك عن أبي عُبَيْدة ، وهذا خطأ فاحش ، وتحريف لكلام الله - عزَّ وجلَّ - عن مواضعهِ؛ لأن الله تعالى قال : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [ غافر : 64 ] و « نفخ في الصور » فمن قرأها : و « نفخ في الصور » أي بالفتح ، وقرأ « فأحْسَنَ صُوْركم » أي بالسكون فقد افترى الكذب على الله - عزَّ وجلَّ- وكان أبو عبيدة صاحب أخبار غريبة ولم يكن له معرفة بالنحو « .
قال الأزْهَرِيُّ : قد احتج أبو الهيثم فأحسن الاحتجاج ، ولا يجوز عندي غير ما ذهب إليه ، وهو قول أهل السنّة والجماعة انتهى .

[ قال السمين : ولا ينبغي أن ينسب ذلك إلى هذه الغاية التي ذكرها أبو الهيثم ] .
قال ابن الخطيب ومما يقوِّي هذا الوجه أنه لو كان المارد نفخ الروح في تلك الصورة لأضاف ذلك إلأى نَفْسِه ، لأن نَفْخَ الأرواح في الصور يضيفه الله إلى نفسه؛ كقوله : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] وقال : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] وقال { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [ المؤمنون : 14 ] ، وأما نفخ الصور بمعنى النَّفخ في القَرْنِ ، فإنه تعالى يضيفه لا إلى نفسه كا قال تعالى : { فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور } [ المدثر : 8 ] وقال : { وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُون } [ الزمر : 68 ] .
وقال الفراء : « يُقَال : نفخ في الصور ، ونفخ الصور » ، وأنشد : [ البسيط ]
2206- لَوْلاَ ابْنُ جَعْدَةَ لَمْ يُفْتَحْ قُهَنْدُزُكُمْ ... ولا خُرَاسَانُ حَتَّى يُنْفَخَ الصُّورُ
قوله : « عَالِمُ الغيْبِ » في رفعه أربعة أوجه :
أحدها : أن يكون صِفةً ل « الذي » في قوله : « وهو الذي خلق » ، وفيه بُعْدٌ لطُولِ الفَصْلِ بأجنبي .
الثاني : أنه خبر مضمر أي : هو عالم .
الثالث : أنه فاعل لقوله : « يقول » أي : يوم يقول عالم الغيب .
والرابع : أنه فاعل بفعل محذوف يَدُلُّ عليه الفعل المبني للمفعول؛ لأنه لما قال : « ينفخ في الصور » سأل سَائِلٌ فقال : من الذي يَنْفُخُ فيه؟ فقيل : « عَلِمُ الغَيْبِ » ، أي : ينفخ فيه عالم الغيب ، أي : يأمر بالنَّفْخِ فيه لقوله تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ } [ النور : 36 ، 37 ] أي : تُسَبِّحُهُ .
ومثله أيضاً قول الآخر : [ الطويل ]
2207- لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ
أي : مَنْ يبكيه؟ فقيل : ضارع ، أي : بيكيه ضارع لخصومة .
ومثله : { وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ } [ الأنعام : 137 ] في قراءة من يبني « زُيِّنَ » للمفعول ورفع « قَتْلُ » ، و « شركاؤهم » كأنه قيل : من زَيَّنَهُ لهم؟ فقيل : زَيَّنَهُ شُركَاؤهُمْ ، والرفع على ما تقدم قراءة الجمهور .
وقرأ الحسن البصري والأعمش : « عالم » بالجر وفيها ثلاثة أوجه :
أحسنها : أنه بدل من الهاء في « له » .
[ الثاني : أنه بدل من « رب العالمين » ، وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بين البدل والمبدل منه ] .
الثالث : أنه نعت للهاء في « له » ، وهذا إنما يتمشى على رأي الكسائي حيث يُجِيزُ نعت المضمر بالغائب ، وهو ضعيف عند البصريين والكوفيين غير الكسائي .
فصل في بيان المقصود من ذكر أحوال البعث
أعلم أنه - تعالى - ما ذكر أحوال البعث في القيامة إى وقرَّ فيه أصلين :
أحدهما : كونه قادراً على المُمْنكِنَاتِ .
والثاني : كونه عالماً بكل المعلومات؛ لأن بقدير : ألاَّ يكون قادراً على كل الممكنات لم يَقْدِرْ على البعث والحشر ، وردِّ الأرواح إلى الأجساد ، وبتقدير ألاَّ يكون عالماً بجميع الجزئيات لم يَصِحَّ ذلك فيه؛ لأنه ربما اشْتَبَهَ المُطِيعُ بالعاصي والمؤمن بالكافر ، فلا يحصل المَقْصُودُ الأصلي من البعث والقيامة ، أما إذا ثبت حصول هذهين الصفتين ، كمل الغرض ، فقوله : { وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } يدل على كمال القُدْرَةِن وقوله { عَالِمُ الغيب والشهادة } يدلُّ على كمال العلم ، فلزم بمجموعهما أن يكون قوله حقاً وحكمة وصدقاً ، وقضاياه مُبَرَّأةً عن الجَوْرِ والعبثِ ، ثم قال تعالى : { وَهُوَ الحكيم الخبير } والحكيم : هو المصيب في أفعاله ، والخبير : هو العالم بحقائقها من غير اشْتِبَاهٍ .
والله أعلم .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)

أعلم أنه- تعالى - يَحْتَجُّ كثيراً على مشركي العرب بأحوال إبراهيم- عليه السلام - وذلك لأنه رَجُلٌ يَعْتَرفُ بِفَضْلِهِ جميع الطوائف والملل ، فالمشركون كانوا معترفين بفضله ، مُتَشَرِّفين بأنهم من أولاده ، وسائر الملل تعظمه ، فلهذا السبب ذكر الله حالُ في معرض الاحتجاج ، والسبب في حصوله هذه المرتبة العظيمة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أنّه سلَّمَ قلبه للعرفانن ولسانهُ للبرهان ، وبَدنَهُ للنيران ، وولدَهُ للقربان ، ومَالهُ للضِّيفانِ .
أما تسليم قلبه للعرفان ، فهو قوله : { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } [ البقرة : 131 ] .
وأما تسليم لسانه للبرهان : فَمُنَاظَرتُهُ مع نمرود ، حيث قال : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] ومناظرته مع الكفار بالفعل حين كسَّر أصنامهم ، وجعلها جُذَاذاً ، وقوله بعد ذلك : { أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ } [ الأنبياء : 66 ] .
وأما تسليم بدنه للنيران : فحين ألْقِيَ فيها .
وأما تسليم ولده لِلْقُربانِ : فحين أمر بذبح ولده « فَتَلَّهُ للجَبِينِ » .
وأما تسليم ماله للضيفان : فمشهورة .
قوله : « وإذا قال » « إذا » منصوب بفعل محذوف ، أي : اذكر ، وهو معطوف على « أقيموا » : قاله أبو البقاء ، وقال : في محل خَفْضٍ بالظرف .
قوله : « آزَرَ » الجمهور على « آزرَ » ، مفتوح الزاي والراء ، وإعرابه حينئذ على أوجه :
أحدها : أنه بدلٌ من أبيه ، أو عطف بيان له إن كان آزر لَقَباً له ، وإن كان صفة له بمعنى المخطئ [ كما قال الزجاج ] أو المعوج كما قاله الفراء ، وسليمان التيمي ، أو الشيخ الهرم كما قاله الضحاك فيكون نعتاً ل « أبيه » ، أو حالاً منه بمعنى : وهو في حال اعْوِجَاج أو خطأ ، وينسب للزجاج .
وإن قيل : إن « آزر » كان اسم صنم كان أبوه يعبده ، كما قاله سعيد بن المسيب ومجاهد ، فيكون إذ ذاك عطف بيان ل « أبيه » أو بدلاً منه ، ووجه ذلك أنه لما لازم عبادته نُبِزَ به وصار لقباً له كما قال بعض المحدثين : [ البسيط ]
2208- أدْعَى بِأسْمَاءَ نَبْزاً فِي قَبَائِلِهَا ... كَأنَّ أسْمَاءَ أضْحتْ بَعْضَ أسمَائِي
كذا نَسَبَهُ الزمخشري إلى بعض المحدثين ، ونسبه أبو حيان لبعض النحويين .
قال الزمخشري : « كما نبز ابن قيس ب » الرقيات « [ اللاتي كان يُشبِّبُ بهن فقيل : ابن قيس الرُّقَيَّات » ] أو يكون على حذف مضاف ، أي ل « أبيه » عابد آزر ، ثم حذف المضافن وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ ، وعلى هذا فيكون عابد صفة ل « أبيه » أعْرِبَ هذا بإعرابه ، أو يكون منصوباً على الذَّمِّ .
و « آزر » ممنوع من الصرف ، واختلف في عِلِّةِ منعه ، فقال الزمخشري : والأقرب أن يكون وزن « آزر » « فاعل » ك « عابر » و « شالخ » و « فالغ » فعلى هذا هو ممنوع للعميّة والعُجْمَةِ .

وقال أبو البقاء : ووزنه « أفعل » ولم ينصرف للعُجْمَةِ ، والتعريف على قول من لم يشتقه من الأزر أو الوزر ، ومن اشْتَقَّهُ من واحد منهما قال : هو عربين ولم يصرفه للتعريف ، ووزن الفعل ، وهذا الخلاف يشبه الخلاف في « آدم » وقد تقدَّم أن اختيار الزمخشري فيه أنه « فاعل » ك « عابر » ومن جرى على ذلك ، وإذا قلنا بكونه صِفَةً على ما قاله الزَّجَّاجُ بمعنى المخطئ ، أو بمعنى المعوج ، أو بمعنى الهرم ، كما قاله الفراء والضحاك ، فيشكل مَنْعُ صرفه ، وسيشكل أيضاً وقوعه صِفَةً للمعرفة . وقد يُجَابُ عن الأول بأن الإشكال قد يندفع بادِّعاءِ وزنه على « أفعل » ، فيمتنع حينئذ للوزن والصفة ك « أحمر » وبابه ، وأما على قول الزمخشري فلا يَتَمَشَّى ذلك .
وعن الثاني : بأنا لا نُسَلِّمُ أنه نَعْتٌ لأبيه ، حتى يلزم وصف المعارف بالنكرات ، بل هو منصوب على الذَّمِّ ، أو على نِيَّةِ الألف واللام قالهما الزجاج .
والثاني ضعيف؛ لأنه حَذَفَ « أل » وأراد معناها؛ إما أن يؤثّر منع الصرف كما في « سحر » ليوم بعينه ، ويسمى عدلاً؛ وإما أن يؤثِّر بناءً ويسمى تَضَمناً ك « أمس » وفي « سحر » و « أمس » كلام طويل ، ولا يمكن أن يقال/ : إن « آزر » امتنع من الصرف كما امتنع « سحر » أي للعدل عن « أل » ؛ لأن العدلَ يمنع فيه مع التعريف ، فإنه لوقت بعينه ، بخلاف هذا فإنه وصف كما فرضتم . وقرا أبَيُّ بن كعب ، وعبد الله بن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، ويعقوب في آخرين بضم الراء على أنه منادى حذف حرف ندائه كقوله تعالى : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا } [ يوسف : 29 ] أو كقوله : [ الطويل ]
2209- لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ .. .
في أحد الوجهين ، أي يا يزيد ، ويُؤيِّدُهُ ما في مصحف أبيّ : « يا آزر » بإثبات حرفه ، وهذا إنما يَتَمَشَّى على دعوى أنه عَلَمٌ ، وإما على دعوى وَصْفِيَّتِهش فضعيف؛ لأن حذف حرف النداء يقل فيها كقولهم : [ الخفيف ]
2210- افْتَدِ مَعْتُوقُ وصَاحِ شَمِّرْ .. . .
وقرأ ابن عباس في رواسة « أأزْراً » بهمزتين مفتوحتين [ وزاي ساكنة ] وراء منونه منصوبة ، و « تتخذ » بدون همزة استفهام ، ولما حكى الزمخشري هذه القراءة لم يسقط همزة الاستفهام من « أتتخذ » فأما على القراءة الأولى ، فقال ابن عطية مُفَسِّراُ لمعناها : « أعَضُداً وقُوَّةً ومُظَاهرةً على الله تتَّخّ » ، وهو من قوله : { اشدد بِهِ أَزْرِي } [ طه : 31 ] انتهى .
وعلى هذا فيحتمل « آزاراً » أن ينتصب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مَفْعُولٌ من أجله و « أصناماً آلهة » منصوب ب « تتخذ » على ما سيأتي بيانه ، والمعنى : أتتخذ أصْنَاماً آلهة لأجل القوة والمُظَاهرة .

والثانيك أنه ينتصب على الحل؛ لأنها في الأصْلِ صفة ل « أصنافاً » فلما قُدِّمَتْ عليها ، وعلى عاملها انتصبت على الحال .
والثالث : أن يتصب على أنه مفعنل ثانٍ قُدِّم على عامله ، والأصل : أتتخذ أصناماً آلهة آزراً ، أي قوة ومُظَاهرةٍ .
وأما القراءة الثَّانية فقال الزمخشري : وهو اسم صِنَمٍ ، ومعناه أتعبد آزاراً على الإنكار ، ثم قال : تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً ، وهو داخل في حكم الإنكار؛ لأنه كاالبيانِ له ، فعلى هذا « آزاراً » منصوب بفعل محذوف يَدُلُّ عليه المعنى ، ولكن قوله : « وهو داخل في حكم الإنكار » يقوي أنه لم يقرأ « أتتخذ » بهمزة الاستفهام؛ لأنه لو كان معه همزة استفهام لكان مستقلاً بالإنكار ، ولم يحتج أن يقول : « وهو داخل في حكم الإنكار ، لأنه كالبيان له .
وقرأ ابن عبَّاسٍ أيضاً وأبو إسماعيل » أإزراً « بهمزة استفهام بعدها همزة مكسورة ، ونصب الراء منونة ، فجعلها ابن عطيَّة بدلاً من واو اشتقاقاً من الوزر ك » إسادة « و » إشاح « في : » وسادة « و » وشاح « .
وقال أبو البقاءِ : وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّ الهمزة الثانية فاء الكلمة ، وليست بَدَلاً من شيءن ومعناها الثقل وجعله الزمخشري اسم صَنَمٍ ، والكلام فيه كالكلام في » أزراً « المفتوح الهمزة وقد تقدم .
وقر الأعمش : » إزْراً تَتَّخِذُ « بدون همزة استفهام ، ولكن بكسر الهمزة وسكون الزاي ونصب الراء منونة ، ونصبه واضح مما تقدَّم ، و » تَتَّخِذُ « يحتمل أن تكون المتعدية لاثنين بمعنى التَّصْييريَّةِ ، وأن تكون المتعدية لواحد؛ لأنها بمعنى » عمل « ، ويحكى في التفسر أنَّ أباه كان ينحتها ويصنعها ، والجملة الاستفهامية في مَحَلِّ نصب بالقول ، وكذلك قوله : » إنِّي اراك « و » أراك « يحتمل أن تكون المعملية ، وهو الظَّاهر فتتعدى لاثنين ، وأن تكون بَصَريَّة ، وليس بذاك ف » في ضلالها حالٌ ، وعلى التقديرين يتعلق بمحذوف ، إلاَّ أنه في الأوَّل أحد جزئي الكلام ، وفي الثَّاني فَضْلَةٌ .
« مُبِين » اسم فاعل من « أبان » [ لازماً « بمعنى ظَهَرَ ، ويجوز أن يكون من المُتَعدِّين والمفعول محذوف ، أي : مبين كفركم بخالقكم ، وعلى هذا فقول ابن عطية ليس بالفعل المُتعدِّي المنقول من بان يبين غير مسلم ، وجعل الضلال طرفاً محيطاً بهم مبالغة في اتِّصِافِهِمْ به ، فهو أبلغ من قوله : » أرَاكُمْ ضَالِّينَ « .
فصل في اختلاف المفسرين حول » آزر «
قال محمد بن إسحاق ، والضحاك ، والكلبي : آزر اسم أبي إبراهيم عليه السلام وهو تارح أيضاً مثل إسرائيل ويعقوب ، وكان من » كوثى « قرية من سواد » الكوفة « وقال مقاتل بن حيان وغيره : آزر لقب لأتبي إبراهيم واسمه تارح .

وقال سليمان التيمي هو سَبُّ وعيب ، ومعناه في كلامهم المعوج .
وقيل : معناه الشيخ الهرم بالخوارزمية والفارسية أيضاً وهذان الوجهان مبنيان على من يقول : إن في القرآن ألفاظاً قليلة غير عربية .
وقال سعيد بن المسيب ، ومجاهد : آزرصنم ، وإنما سمي والد إبراهيم به لوجهين :
أحدهما : أنه جعل نفسه مُختَصاً بعبادته ، ومن بالغ في مَحَبَّةِ أحد ، فقد يُجْعَلُ اسم المحبوب اسماً للمحب؛ قال تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [ الإسراء : 71 ] .
الثاني : أن يكون المراد عابد آزر ، فحذف المضاف ، وأضيف المضاف إليه مُقَامَهُ .
وقيل : إن والد إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- كان اسمه تارح ، وكان آزر عمَّا له ، والعم قد يُطْلَقُ عليه لفظ الأب ، كما حكى الله تعالى عن أولاد يعقوب : { نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] .
ومعلوم أن إسماعيل كان عمَّا ليعقوب ، وقال عليه الصلاة والسلام « رُدُّوا عَلَيَّ أبي العبَّاسَ » فكذا هاهنا .
قال ابن الخطيب : وهذه التَّكالِيفُ إنما يجب المَصِيرُ إليها إذا دَلَّ قَاهِرٌ على أن والد إبراهيم كا كان اسمه آزر ، وهذا الدليل لم يوجد ألبتة ، فأي حاجة تحملنا لعى هه التأويلات؟ ومما يَدُلُّ على صِحَّةِ ما قلناه أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا في غاية الحِرْصِ على تكذيب الرسول وإظهار النسب .
فصل في دحض شبهة للشيعة
قالت الشيعة : إن أحَداً من آباء الرسول وأجْدَادِهِ ما كان كافراً ، وأنكروا كون والد إبراهيم كافراً ، وقالوا : إن آزر كان عَمَّ إبراهيم ، واحتجوا بوجوه :
أحدها : قوله تعالى : { وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } [ الشعراء : 219 ] . قيل : معناه أنه كان ينتقل روحه من ساجد إلى ساجد فَدَلَّت الآية على أن آباء محمد - عليه السلام- كانوا مسلمين .
وحينئذ يجب القَطْعُ بأن والد إبراهيم كان مسلماً .
فإن قيل : قوله : { وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } يحتمل وجوهاً :
منها : أنه لما نُسِخَ فَرْضُ قيام الليل طَافَ الرسول تلك الليلة على بُيُوتِ أصحابه لينظر ماذا [ يصنعون لشدة ] حرصه على ما يظهر منهم من الطَّاعاتِ ، فوجدها كَبُيُوتِ الزَّنَابير لكثرة ما سمع من أصوات قراءتهم وتسبيحهم وتَهْليلهم ، فيحتمل أن يكون المراد من تقلبه في الساجدين طَوَافَهُ في تلك الليلة [ على الساجدين ] ويحتمل أن يكون المراد صلاته بالجماعة ، واختلاطع بهم حال الصَّلاةِ .
ويحتمل أن يكون المراد تَقَلُّبَ بَصَرِهِ فيمن يُصَلِّي خلفه لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام « أتِمُّوا الرُّكُوعَ والسُّجود فَإنِّي أرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي » .
ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يخفى حالك على الله - تعالى- كلما أقمت وتقلبت في الساجدين في الاشتغال بأمور الدين .
وإذا احتمل ظَاهِرُ الآية هذه الوجوه سقط ما ذكرتم .
فالجواب : لفظ الآية يحتمل الكُلِّ ، ويحصل المقصود حينئذ ، لأن حَمْلَ ظاهر الآية على البَعْضِ ليس بأوْلَى من البَعْضِ ومما يَدُلُّ على أن أحداً من آباء محمد عليه الصلاة والسلام ما كانوا مُشْرِكينَ قوله عليه الصلاة والسلام :

« لَمْ أزَل أُنْقَلُ مِنْ أصْلابِ الطَّاهرينَ إلى أرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ » . وقال تعالى : { اا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] فوجب القول بأن أحداً من أجداده ما كان مشركاً ، فوجب القَطْعُ بأن والد إبراهيم كان إنْساناً آخر غير آزر .
الحُجَّةُ الثانية : أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام شَافَهَةُ بالغِلْظَةِ والجَفَاءِ ، ومُشَافَهَةُ الأب بذلك لا يجوز ، أما مشافهته بالجَفَاءِ والغِلْظَةِ فمن وجهين :
أحدهما : على قراءة الضم يكون محمولاً على النداءن ونداء الأب بالاسم الأصْلِيّ من أعظم أنواع الإيذاء .
وثانهيما : إذا قلنا بأنه المعوج أو المخطئ أو اسم الصَّنم . فتسميته له بذلك من أعْطَمِ أنواع الإيذاء له ، وإنما قلنا : إن مشافهة الآباء بالجَفَاءِ والغِلْظَةِ لا تجوز لقوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] وقال تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } [ الإسراء : 23 ] وهذا عام في حَقِّ الأب الكافر والمسلم .
وأيضاً فلأمره - تعالى - موسى عليه الصلاة والسلام حين بعثه إلى فرعون [ بالرِّفق مَعَهُ فقال تعالى : ] { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } [ طه : 44 ] وذلك لرعاية حَقِّ تَرْبِيَةِ فرعون لموسى فالوالد أوْلَى بالرِّفْقِ .
وأيضاً فالدعوة مع الرِّفْقِ أكثر تأثيراً في القَلْبِ ، وأما التغليظ فإنه يوجب التَّنْفيرَ والبُعْدَ عن القَبُولِ؛ قال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَن } [ النحل : 125 ] فكيف يليق بإبراهيم مثل هذه الخُشُونة مع أبيه . وأيضاً قال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } [ هود : 75 ] فكيف يليق بالرَّجُلِ الحليم مثل هذا الجفاءِ مع الأب .
الحجة الثالثة : قوله عليه الصلاة والسلام : « رُدُّوا عَلَيَّ أبِي العبَّاسَ » يعني عمه .
الحجة الرابعة : يحتمل أن آزر كان والدَ أم إبراهيم وقد يقال له : الأب؛ قال تعالى : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } [ الأنعام : 84 ] إلى قوله : { وَعِيسَى } [ الأنعام : 85 ] فجعل عيسى من ذُرِّيَّةِ إبراهيم ، مع أن إبراهيم كان جَدَّ عيسى من قبل الأم .
وقال عليه الصلاة والسلام في حق الحسن « إنَّ ابْنِي هذا » فثبت بهذه الوجوه ان « آزر » ما كان والد إبراهيم .
والجواب عن الأوَّل أن نَصَّ الكتاب يَدُلُّ على أن آزر كان كافراً وأنه والد إبراهيم ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [ التوبة : 114 ] .
وأما قوله : { وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } [ الشعراء : 219 ] فقد تقدم أنه يحتمل وجوهاً .
وقولهم : « وتُحْمَلُ الآية على الكل » فنقول : هذا مُحَال؛ لأن حَمْلَ اللفظ المشترك على جيمع معانيه لا يجوز ، وأيضاً حمل اللفظ على حقييقته ومجازه معاً لا يجوز ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام : « لَمْ أزَل أُنْقَل مِنْ أصْلابِ الطَّاهِرِينَ إلى أرحَامِ الطَّاهراتِ » .
فذلك مَحْمُولٌ عل أنه [ ما وقع في نَسَبِه ] ما كان سِفَاحاً ، كما وَرَد في حديث آخر « وُلِدْتُ مِنْ نكاحٍ لا مِنْ سفاحٍ » .
وأما قوله : التغليط مع الأب لا يليق بإبراهيم قلت : إنما أغْلَظَ عليه لأجل إصْرَارِهِ على الكُفْرِ ، وإلاَّ فهو أول ما رفق به في المُخاطَبةِ ، كما ذكر في سورة « مَرْيَمَ »

{ ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي } [ الآية : 43 ] { ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان } [ مريم : 44 ] { إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن } [ مريم : 45 ] وهذا غاية اللُّطْفِ والرِّفْقِ ، فحين أصرَّ على كُفْرِهِ اسْتَحقَّ التغليظ ، وقال : { ياإبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ } [ مريم : 46 ] .
فصل في تحرير معنى « الصنم »
والصَّنَمُ لُغَةً : كل جُثَةٍ صُوِّرَتْ من نُحَاسٍ أو فضَّةٍ وعُبِدَتْ مُتقرِّباً بها إلى اللَّهِ وقيل : ما اتُّخِذَ من صُفْرٍ ورِمُث ونحاس وحجر ونحوها فَصَنَمٌ ، وما اتخذ من خَشبٍ فوثَنٌ وقيل بل هما بمعنى واحد .
وقيل : الصَّنَمُ معرب من شمن ، والصَّنم أيضاً العَبْدُ القوي ، وهو أيضاً خبيث الرائحة ، ويقال : صنم أي صور ، ويضرب به المَثَلُ في الحُسْنِ وقال : [ السريع ]
2211- مَا دُمْيَةٌ مِنْ مَرْمَرٍ صُوِّرَتْ ... أوْ ظَبْيةٌ في خَمَرٍ عَاطِفُ
أحْسَنَ مِنْهَا يَوْمَ قَالَتْ لَنَا ... والدَّمْعُ مِنْ مُقْلَتِها وَاكِفُ
لأنْتَ أحْلَى مِنْ لَذيذِ الكَرَى ... ومِنْ أمَانٍ نَالَهُ خَائِفُ
وقال ابن الأثير : الصَّنَمُ كُلُّ معبود من دون الله تعالى .
وقيل : ما كان له جسم أو صورة فهو صنم ، وما لم يكن له جِسْمٌ أو صورة فهو وَثَنٌ وشمن .

وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)

« وكذلك » في هذه الآيات ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنها للتشبيه ، وهي في مَحَلِّ نصب نَعْتاً لمصدر محذوف ، فقدره الزمخشري : « ومثل ذلك التعريف والتصيير نعرف إبراهيم ونبصره ملكوت » .
وقَدَّرَهُ المَهْدَوِيُّ : « وكما هديناك يا محمد أرينا إبراهيم » .
قال أبو حيان : وهذا بعيدٌ من دلالة اللفظ .
قال شهاب الدين : إنما كان بعيداً؛ لأن المحذوف من غير المَلْفُوظِ به ، ولو قدره بقوله : « وكما أريناك يا محمد الهداية » ، لكان قريباً لدلالة اللفظ معاً عليه .
وقدَّرهُ أبو البقاء بوجهين :
أحدهما : قال : « هو نَصْبٌ على إضمار » أرَيْنَاهُ « تقديره : وكما رآه أباه وقومه في ضلال مبين ، أريناه ذلكح ما رآه صواباً بإطلاعنا إياه عليه » .
الثاني : قال : « ويجوز أن يكون منصوباً ب » نرى « التي بعده على أنه صِفَةٌ لمصدر محذوف؛ تقديره نريه ملكوت السموات والأرض رُؤيةَ كرؤية ضلال أبيه » انتهى .
قال شهابُ الدين فقوله : « على إضمار أريناه » لا حاجة إليه ألْبَتَّة ، ولأنه يقتضي عدم ارتباط قوله : « نري إبراهيم ملكوت » بما قبله .
الثاني : أنها للتَّعْلِيلِ بمعنى « اللام » أي : ولذلك الإنكار الصَّادرِ منه عليهم ، والدعاء إلى الله في زَمَنٍ كان يُدْعَى في غير الله آلهة نريه ملكوت .
الثالث : أن « الكاف » في مَحَلِّ رفع على خبر ابتداء مضمر ، أي : والأمر كذلك ، أي كما رآه من ضلالتهم نقل الوجهين الآخرين أبو البقاء وغيره .
و « نُرِي » هذا مضارع ، والمراد به حكاية حالِ ماضيه ، والتقدير : كذا نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض .
و « نري » يحتمل أن تكون المُتعدِّية لاثنين؛ لأنها في الأصل بصرية ، فأكسبتها همزة النقل مفعولاً ثانياً ، وجعلها ابن عطية مَنْقُولةً من « رأى » بمعنى « عرف » ، وكذلك الزمخشري فإن قال فيما قدمت حكايته عنه : « ومثل ذلك التعريف نُعَرِّف » .
قال أبو حيان بعد حكايته كلام ابن عطية : « ويحتاج كون » رأى « بمعنى » عرف « ثم يتعدى بالهمزة إلى مفعولين إلى نَقْلِ ذلك عند العربِ ، والذي نقل النحويون أن » رأى « إذا كانت بصريَّة تعدَّتْ لمفعول ، وإذا كانت بمعنى » علم « الناصبة لمفعولين تعدَّتْ إلى مفعولين » .
قال شهابُ الدِّين : والعَجَبُ كيف خص بالاعتراض ابن عطية دون الزمخشري ، وهذه الجملة المُشْتَمِلةُ على التشبيه ، أو التعليل معترضة بين قوله : « وإذْ قال إبراهيمُ » منكراً على أبيه وقومه عبادَةَ الأصنام ، وبين الاستدلال عليهم بوحدانية الله - تعالى - ويجوز ألاَّ تكون معترضةً إن قلنا : إن قوله : « فلما » عطف على ما قبله ، وسيأتي « والملكوت » مصدر على « فَعَلُوت » بمعنى المُلْك ، وبني على هذه الزِّنَةِ ، والزيادة للمبالغة .

قال القرطبي : وزيدت الواو النافية للمبالغةِ ، وقد تقدم ذلك عند ذكر { الطاغوت } [ البقرة : 256 ]
والجمهور على « ملَكُوت » بفتح اللام .
وقرا أبو السَّمَّال بسكونها ، وهي لغةن والجمهور أيضاً على « ملكوت » بتاء مثناة .
وعكرمة قرأها مثلثة ، وقال : أصلها « ملكوثا » باليونانية أو بالنبطية .
وعن النخعي هي « ملكوثا » بالعبرانية ، وعلى هذا قراءة الجمهور يحتمل أن تكون من هذا ، وإنما عُرِّبَتِ الكلمة فَتَلاعَبُوا بها ، وهذا كما قالوا في اليهود بأنهم سُمُّوا بذلك لأجل يَهُوذَا بن يعقوب بذال معجمة ، ولكن لما عُرَّبَتْهُ العرب أوا بالدَّال المهملة ، إلا أن الأحْسَنَ أن يكون مُشْتَقًّا من المُلْكِ؛ لأن هذه الزِّنَةَ وَرَدَتْ في المصادر ك « الرَّغبوت » و « الرَّهَبُوت » و « الرَّحَمُوت » و « الجَبرُوت » و « الطَّاغُوت » وهل يختص ذلك بمُلْكِ الله تعالى أم يقال له ولغيره؟ .
فقال الراغب : « والملكُوت مُخْتَصٌ بمُلْكِا لله تعالى وهذا الذي ينبغي » .
وقال أبو حيَّان : « ومن كلامهم : له ملكوت اليمن ، وملكوت العراق » ، فعلى هذا لا يختص .
والجمهور على « نرى » بنون العظمة .
وقرئ : « تُري » بتاء من فوق « إبراهيم » نصباً ، « ملكوت » رفعاً ، أي : تريه دلائل الربوبية ، فأسند الفعل إلى الملكوت مُؤوَّلاً بمؤنث ، فلذلك أنَّثَ فعله .
فصل في المراد بالآية
قال ابن عبَّاسٍ ، يعني خلق السموات والأرض .
وقال مجاهد ، وسعيد بن جبير : يعني مَلَكُوت السموات والأرض ، وذلك أنه أقيمَ على صخرة وكشف له عن السموات والأرض حتى العرش ، وأسف الأرضين ونظر إلى مكانه في الجنة فذلك قوله : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا } [ العنكبوت : 27 ] ، أي : أريناه مكانه في الجنة .
وروي عن سلمان ورفع بعضهم عن علي لما رأى إبراهيم ملكُوتَ السموات والأرض أبصر رجلاً على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال له عز وجل يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تَدْعُ على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال إما أن يتوب فأتوب عليه وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني ، وإما أن يبعث إليَّ فإن شئت غفرت له وإن شئت عاقبته .
وفي رواية عن ابن عباس : وأما من يتولى فإن جهنم من ورائه . وعن القاضي في هذه الرواية من وجوه :
أحدهما أن اهل السماء من الملائكة المقرّون ، وهم لا يعصون الله .
وثانيها : أن الأنبياء لا يدعون بهلاك المُذْنبِ إلا عن أمر الله وإذا أذن الله فيه لم يَجُزْ أن يمنعه من إجابة دعائه .
وثالثها : أن ذلك الدُّعاء إما أن يكون صواباً أو خطأ؛ فإن كان صواباً فلم ردَّهُ فيا لمرة الثانية؟ وإن كان خطأ فلم قبلهُ في المرة الأولى؟ ثم قال وأخبار الآحاد إذا وردت على خلاف المعقول وجب التَّوَقُّف فيها .

ويمكن أن يجاب عنه بأن الرجل المذنب الذي رآه كان في ملكوت الأرض . وعن الثانية بأنه يحمل أن يكون قد أذن في الدعاء على الأوَّل ، ومنع في الثاني للاحتمال الذي ذكره في قوله : « يخرج منه نسمة تعبدني » .
وعن الثَّالث أنَّ الدعاء للأول .
وقيل : هذه الآراء كانت بعين البصيرةِ والعقل لا بالبصر؛ لأن المَلَكُوتَ عبارة عن الملك ، والملك عبارة عن القُدرةِ ، والقدرة إنما تعرف بالعقل .
فإن قيل : رؤية القَلْبِ على هذا حاصلة لجمعي المُوحِّدينَ؟ .
فالجواب : أنهم وإن كانوا يعرفون أصل هذا الدليل إلا أن الاطِّلاعَ على آثار حِكْمَةِ الله - تعالى - في كُلِّ واحد من مَخْلُوقاتِ هذا العالم بحسب أجناسها ، وأنواعها ، وأشْخَاصها ، وأحوالها مما لا يحصل إلاَّ لأكَابَر الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام ، ولهذا كان عليه الصَّلاة والسَّلام يقول في دعائه : « اللَّهُمَّ أرِنَا الأشْيَاء كَمَا هِيَ » .
فصل في تفسير الملكوت
قال قتادةُ : « ملكوت السَّموات » : الشَّمْسُ ، والقمر ، والنجوم ، وملكوت الأرض : الجبال ، والشَّجر ، والبحار .
قوله : « وليكون » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن « الواو » زائدة ، أي : نريه ليكون من المؤمنين بالله ، و « اللام » متعلقة بالفعل قبلها ، إلا أن زيادةَ « الواوِ » ضعيفة ولم يقل بها إلاَّ الأخْفَش ومن تابعه .
الثاني : أنها علَّة لمحذوف ، وليكون اريناه إياه ذلك ، والتقدير : وليكون من الموقنين برؤية مَلَكُوتِ السَّموات والأرض .
الثالث : أنها عطف على علَّةٍ محذوفة ، أي : ليستدل وليكون ، أو ليقيم الحُجَّة على قَوْمِهِ ، واليقين : عبارة عن عِلْمِ يحصل بعد زال الشُّبْهِةِ بسبب التَّأمُّلِ ، ولهذا المعنى لا يُوصَفُ علم الله بكونه يقيناً؛ لأنّ علمه غير مَسْبُوقٍ بالشبهة ، وغير مُسْتَفَادٍ من الفِكْرِ والتأمل .

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)

قوله : « فَلَمَّا جَنَّ » يجوكزظ أن تكون هذه الجملة نَسَقاً على قوله : « وإذْ قاَلَ إبْرَاهِيمُ » عطفاً للدليل على مدلوله ، فيكون « وكَذلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ » معترضاً كما تقدم ، ويجوز أن تكون مَعْطُوفَةً على الجملة من قوله : « وكَذلِكَ نُري إبراهيم » .
قال ابن عطيَّة : « الفاء » في قولهك « فَلَمَّا رَابِطَةٌ جملة ما بعدها بما قبلها ، وهي ترجح أن المراد بالملكوت التَّفْضِيلُ المذكور في هذه الآية ، والأوَّل أحسن ، وإليه نحا الزمخشري .
و » جَنَّ « : سَتَرَ وقد تقدم اشْتِقَاقُ هذه المادة عند ذكر { الجنة } [ البقرة : 35 ] وهنا خصوصية لذكر الفِعْلِ المسند إلى الليل يقال : جَنَّ عليه الليلن وأجن عليه بمعنى : أظْلَمَ فيستعمل قاصراً ، وجَنَّةُ ، فيستعمل متعدياً فهذا مما اتفق فيه فَعَلَ وأفْعَلَ لزوماً وتعدياً إلا أن الأجْوَدَ في الاستعمال جَنَّ عليه الليلن وأجنه الليل ، فيكون الثلاثيّ لازماً وأفعل متعدياً .
ومن مجيء الثلاثي متعدياً قوله : [ المتقارب ]
2212- وَمَاءٍ وَرَدْتُ قُبَيْلَ الكَرَى ... وَقَدْ جَنَّهُ السَّدَفُ الأدْهَمُ
ومصدره جَنٌّ وجنان وجنون .
وفرق الرَّاغِبُ بين » جَنَّه « و » أجَنَّه « ، فقال : جنه إذا سترَهُ ، وأجنة جعل له ما يجنه ، كقولك : قَبَرْتُهُ وأقْبَرتُهُ ، وسَقَيْتُهُ وقد تقدم لك شيء من هذا عند ذكر » حزن « و » أحزن « [ البقرة : 38 ] ويحتمل أن يكون » جنَّ « في الآية الكريمة متعدياً حذف المفعول فيها ، تقدير : جَنَّ الأشْيَاء والمبصرات .
قوله : » رَألا كَوْكَباً « هذا جواب » لمَّا « ، وللقراء فيه وفيما بعده من الفعلين خلافٌ كبير بالنسبة إلى الإمالةِ وعدمها ، وتلخيصه أن » رأى « الثابت الألف فأمال رَاءَهُ وهمزته إمالة مَحْضَة الأخوان ، وأبو بكر عن عاصم ، وابن ذكوان عن ابن عامر ، وأمال الهمزة منه فقط دون الراء أبو عَمْرٍو وبكماله ، وأمال السوسي بخلاف عنه عن ابن عَمْرٍو الراء أيضاً ، فالسوسي في أحد وَجْهَيْهِ يوافق الجماعة المتقدمين ، وأمال وَرْشٌ الراء والهمزة بَيْنَ بَيْنَ من هذا الحرف ، حيث وقع هذا كله ما لم يَتِّصِلْ به ضمير نحو ما تقدم ، فأما إن اتَّصَلَ به ضمير نحو : { فَرَآهُ فِي سَوَآءِ } [ الصافات : 55 ] { فَلَمَّا رَآهَا } [ النمل : 10 ] { وَإِذَا رَآكَ الذين } [ الأنبياء : 36 ] ، فابن ذكوان عنه وجهان ، والباقون على أصولهم المتقدمة .
وأما » رأى « إذا حذفت ألفه فهو على قسمين : قسم لا تعود فيه ألبتة لا وَصْلاً ولا وَقْفاً ، نحو : { رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ } [ الفرقان : 12 ] { رَأَوُاْ العذاب } [ يونس : 54 ] فلا إمالة في شيء منه ، وكذا ما انقلبت ألفه ياءً نحو : { رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ } [ الإنسان : 20 ] .
وقِسْمٌ حُذِفَتْ أله لالتِقَاءِ السَّاكنين وصْلاً ، وتعود وَقْفاً نحو : { رَأَى القمر } [ الأنعام : 77 ] { رَأَى الشمس } [ الأنعام : 78 ] { وَرَأَى المجرمون النار } [ الكهف : 53 ] { وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ } [ النحل : 85 ] فهذا فيه خلاف أيضاً بين أهل الإمالة اعتباراً باللفظ تارة ، وبالأصل أخرى ، فأمال الراء وحدها من غير خلاف حمزة وأبو بكر عن عَاصِمٍ والسُّوسي بخلاف عنه وحده ، وأما الهمزة فأمَالَهَا مع الراء أبو بكر والسُّوسي بخلاف عنهما ، هذا كله إذا وصلت ، أما إذا وقفت فإن الألف تَرْجِعُ لعدم المُقْتَضِي لِحَذْفِهَا ، وحكم هذا الفعل حينئذ حكم ما لم يَتَّصِلْ به سَاكِنٌ فيعود فيه التَّفْصِيلُ المُتدِّم ، كما إذا وقفت على » رأى « من نحو :

{ رَأَى القمر } [ الأنعام : 77 ] . فأمَّا إمالة الرَّاء من « رأى » فلإتباعها لإمالة الهمزة ، هكذا عبارتهم ، وفي الحقيقة الإمالة إنما هي الألف لانْقِلابها عن الياء ، والإمالة أن تنحي بالألف نحو الياء وبالفتحة قبلها نحو الكسرة ، فمن ثمَّ أن يقال : أميلت الراء لإمالة الهمزة ، وأما تفصيل ابن ذَكْوَانَ بالنسبة إلى اتِّصالِهِ بالضمير وعدمه ، فوَجْهُهُ أن الفعل لما اتَّصَلَ بالضمير بعدت ألفه عن الظَّرْفِ ، فمل تُمَلْ .
ووجه من أمال الهمزة في « رَأى القَمَرَ » مُرَاعَاة للألف وإن كانت محذوفة ، إذ حذفها عَارِضٌ ، ثم منهم من اقْتَصَرَ على إمالة الهمزة؛ لأن اعتبار وُجُودهَا ضعيفٌ ، ومنهم من لم يَقْتَصِرْ أعطى لها حكم الموجودة حَقِيقَةً ، فأتبع الراء للهمزة في ذلك .
والكوكب : النجم ، ويقال فيه كَوْكَبَةٌ .
وقال الراغب : « لا يقال فيه أي في النجم : كوكب إلا عند ظُهُوره » . وفي اشتقاقه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه من مادة « وَكَبَ » فتكون الكَافُ زائدةً ، وهذا القول قاله الشيخ رضي الدين الصَّغاني قال رحمه الله تعالى : « حق كَوْكَب أن يُذكَرَ في مادة » وَكَبَ « عن حُذَّاق النحويين ، فإنها وردَتْ بكاف زائدةٍ عندهم ، إلا أنَّ الجوهري أوردها في تركيب » ك و ك ب « ولعلَّه تبع في ذلك اللَّيْثَ ، فإنه ذكره في الرباعي ذاهباً إلى أن الواو أصْلِيَّةٌ » . فهذا تصريح من الصَّغَاني بزيادة الكافن وزيادة الكاف عند النحويين لا يجوز ، وحروف الزيادة مَحْصُورةٌ في تلك العشرة ، فأما قولهم : « هِنْدِيُّ وهِنْدِكيّ » بمعنى واحدٍ ، وهو المنسوب إلى « الهند » ، وقول الشاعر : [ الطويل ]
2213- ومُقْرَبَةٍ دُهْمٍ وَكُمْتٍ كَأنَّهَا ... طَمَاطِمُ مِنْ فَوْقِ الوِفَازِ هَنَادِكُ
فظاهر زيادة الكاف ، ولكن خَرَّجَهَا النحويون على أنه من باب « سبط وسبطر » أي : مما جاء فيه لَفْظَان ، أحدهما أطول من الآخر ، وليس بأصْلٍ له ، فكما لا يُقَالُ : الراء زائدة باتِّفاقٍ ، كذلك هذه الكاف ، وكذلك قال أبو حيَّان : « وليت عشري ، من حُذَّاق النحويين الذين يَرَوْنَ زيادتها لا سيَّما أول الكلمة » .
والثاني : أن الكلمة كُلَّهَا أصُولٌ رباعية مما كُرِّرَتْ فيها الفاء ، فوزنها فَعْفَل ك « فَوْفَل » وهو بناء قليل .
والثالث : ساق الرَّاغب أنه من مادة : كَبَّ وكَبْكَبَ ، فإنه قال : والكَبْكَبَةُ تَدَهْوُرُ الشيء في هُوَّة ، يقل : كَبَّ وكَبْكَبَ ، نحو : كَفَّ وكَفْكَفَ ، وصرَّ الريح وصَرْصَرَ .
والكواكب النجوم البادية ، فظاهر السِّياقِ أن الواو زائدة ، واكاف بَدَلٌ من إحدى الياءين وهذا غريب جداً .

قوله : « قال هذا ربي » في « قال » ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه استئناف أخبر بذلك القول ، أو استفهم عنه على حسب الخلاف .
والثاني : أنه نعت ل « كَوْكَباً » فيكون في محلِّ نصب ، وكيف يكون نعتاً ل « كوكباً » ولا يساعد من حَيْثُ الصِّناعةِ ، ولا من حيث المعنى؟ أما الصِّناعةُ فلعدم الضمير العائد من الجملة الواقعة صِفَةً إلى موصوفها ، ولا يقال : إن الرابط حَصَلَ باسم الإشارة؛ لأن من الجملة الواقعة صِفَةً إلى موصوفها ، ولا يقال : إن الرابط حَصَلَ باسم الإشارة؛ لأن ذلك خَاصُّ بباب المبتدأ والخبر ، ولذلك يكثر حَذْفُ العائد من الصِّفة ، ويقلُّ من الخبر ، فلا يَلْزَمُ من جوازِ شيء في هذا جوازُهُ في شيء ، وادِّعاء حذفت ضمير بعيد ، أي قال فيه : هذا رَببَّي ، وأمَّا المعنى فلا يُؤدِّي إلى أن التَّقدير : رأى كوكباً مُتَّصِفاً بهذا القَوْلِ ، فقيل : هو خبر مَحْضٌ بتأويل ذكره أهْلُ التفسير .
وقيل : بل هو على حَذْفِ همزة الاستفهام ، أي : أهذا ربي ، وأنشدوا : [ الطويل ]
2214- لَعَمْرُكَ مَا أدْرِي وَإنْ كُنْتُ دَارِياً ... بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أمْ بِثَمَانِ
وقوله : [ المنسرح ]
2215- أفْرَحُ أرْزَأ الكِرَامَ وَأنْ ... أورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبَلاَ
وقوله : [ الطويل ]
2216- طَرِبْتُ وَمَا شَوْقاً إلى البِيضِ أطْرَبُ ... وَلاَ لِعِباً مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ
وقوله : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [ الشعراء : 22 ] قالوا : تقديره أبسبع؟ وأأفرح؟ وأذو؟ وأتلك؟
قال ابنُ الأنْبَارِيّ : « وهذا لا يجوز إلا حَيْثُ يكون ثمَّ فاصلٌ بين الخبر والاستفهام ، إن دلَّ دليل لفظي كوجود » أم « في البيت الأول ، بخلاف ما بعده » . والأفُولُ : الغَيْبَةُ والذَّهَابُ؛ يقال : أفَلَ يأفُلُ أفُولاً .
قال ذو الرمة : [ الطويل ]
2217- مَصَابِيحُ لَيْسَتْ باللَّوَاتِي تَقُودُهَا ... نُجُومٌ ولا بالآفلاتِ شُمُوسُهَا
والإفَالُ : صِغَارُ الغَنَم .
والأفيلُ : الفَصِيلُ الضَّئِيلُ .
فصل في بيان رؤية الملك
قال أكثر المفسرين : أن مَلِكَ ذلك الزَّمانِ رأى رُؤيا وعبرها المعبرون بأنه يُوَلدُ غلام يكون هلاكُ مُلْكِهِ على يَدَيْهِ ، فأمر بذح كُلِّ غلام يُولدُ ، فحملت أمُّ إبراهيم به ، وما أظهرت حَمْلَهَا للناس ، فلما جاءها الطَّلْقُ ذَهَبَتْ إلى كَهْفٍ في جَبَلٍ ، ووضعت إبراهيم- علي السلام- وسدَّت الباب بِحَجَرٍ فجاء - جبريل- عليه السلام- وكانت الأمُّ تأتيه أحياناً تُرْضِعُهُ ، وبقي على هذه الصفة حتى كَبِرَ وعَقِلَ ، وعرف أنه له رَبَّا ، فسأل أمه فقال لها : مَنْ رَبي؟ قالت : أنا ، فقال : ومَنْ رَبُّك؟ قالت : أبوك فقال : ومن رَبُّ أبي؟ فقالت : مَلِكُ البلد .
فعرف إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- جَهَالتها بربها ، فنظر من باب ذلك الغارِ ليرى شيئاً يَسْتَدِلُّ به لعى وجو
الرَّبِّ- سبحانه وتعالى- فرأى النَّجْمَ الذي كان هو أضْوَءَ نجم في السماء .
فقيل : كان المشتري ، وقيل : كان الزهرة ، فقال : هذا ربِّي إلى آخر القِصَّةِ .
ثم القائلون بهذا القول اختلفوا ، فمنهم من قال : هذا كان بعد البُلُوغِ ، ومنهم من قال : كان هذا قَبْلَ البُلُوغِ والتكليف ، واتَّقَقَ أكثر المحققين على فَسَادِ هذا القول .

وقالوا : لا يجوز أن يَكُونَ لله رَسُولٌ يأتي عليه وَقْتٌ من الأوْقَاتِ إلا وهو مُوَحِّدٌ به عارف ، ومن كُلِّ معبود سواه بَرِيءٌ ، وكيف يتوهَّمُ هذا على من عَصَمَهُ الله وطَهَّرَهُ وآتاه رُشدَهُ من قَبْلُ ، وأخبر عنه فقال تعالى : { إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الصافات : 84 ] .
وأراه ملكوت السَّمواتِ والأرض ، أفتراه أراه الملكُوتَ ليُوقِنَ؟ فلما أيْقَن رأى كوكباً قال : « هذا ربي » معتقداً فهذا لا يكون أبداً .
واحتجوا بوجوه :
أحدها : أن القول بِرُبُبيَّةِ الجماد كُفْرٌ بالإجماع ، والكفر لا يجوز على الأنْبِيَاءِ- عليهم الصلاة والسلام - بالإجماع .
والثاني : أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام- كان قد عرف رَبَّهخُ قَبْل هذه الواقعة بالدليل؛ لأن أخر عنه أنه قال قَبل هذه الواقعة لأبيه آزر { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 74 ] .
الثالث : ؛كي عنع أنه دعا أباه إلى التَّوحيد ، وتَرْكِ عبادة الأصْنامِ بالرِّفْقِ حيث قال : { ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] وحكي في هذا الموضع أنه دعا أباهُ إلى التوحيد ، وتَرْكِ عبادة الأصنام بالكلام الخشن ، ومن المعلوم أن من دعا غَيْرَهُ إلى الله ، فإنه يُقَدِّمُ الرِّقْقَ على العُنْفِ ، ولا يخوض في التَّغْلِيظِ إلا بعد اليَأسِ التام ، فدلَّ على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه مراراً ، ولا شكَّ أنه إنما اشْتَغَلَ بدعوة أبيه بعد فراغِهِ من مُهْمِّ نفسه ، فَثَبَتَ أن هذه الواقعة إنما وَقَعَتْ بعد أن أراه الله مَلَكُوتَ السَّمواتِ والأرض ، ومن كان مَنْصِبُهُ في الدِّين كذلك ، وعلمه بالله كذلك ، فكيف يليق به أن يعتقد ألُوهيَّة الكواكِبِ؟
الرابع : أنَّ دلائل الحُدُوثِ في الأفْلاكِ ظَاهِرَةٌ من وجوه كثيرة ، ومع هذه الوجوه الظاهرة كيف يليق بأقلّ العُقلاءِ نَصِيباً من العَقْلِ والفَهْمِ أن يقول بربوبية الكواكب فَضْلاً عن أعْقَلِ العُقلاءِ ، وأعْلَمِ العلماء؟
الخامس : أنه قال في صفته { إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الصافات : 84 ] وقال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } [ الأنبياء : 51 ] أي : آتيناه رشده من قَبْلِ أوَّل زمان الفكرة وقوله « وكنا به عالمين » أي بطهارته وكمالهن ونظيره قوله تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] .
السادس : قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } [ الأنعام : 75 ] أي : بسبب بتلك الإراءة يكون من الموقنين ، ثم قال بعده : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل } و « الفاء » تقتضي الترتيب ، فدلَّت الفاء في قوله : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل } على أن هذه الواقعة حصلت بعد أن صار من الموقنين العارفين بربِّهِ .
السابع : أن هذه الواقعة إنما حَصَلَتْ بسبب مُنَاظَرَةِ إبراهيم عليه السلاة والسلام مع قومه ، لأنه - تعالى - لما ذكر هذه القصة قال :

{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ } [ الأنعام : 83 ] ولم يقل : على نفسه ، فعلم أن هذه المُبَاحَثَة إنما جَرَتْ مع قومه؛ لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد ، لا لأجلِ أن إبراهيم - عليه السلام- كان يطْلُبُ الدِّينَ والمعرفة لنفسه .
الثامن : أن قولهم : إن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والشمس والقمر حال كونه في الغَارِ باطل؛ لأن لو كان الأمْرُ كذلك ، فكيف يقول : يا قوم إن بَريءٌ مما تشركون ، مع أنه كان في الغارِ لا قَوْمَ ولا صَنَمَ .
التاسع : قوله : { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ } [ الأنعام : 80 ]
فكيف يُحَاجُّونك وهم لم يَرَوْهُ ولم يرهم ، وهذا يَدُلُّ على أنه - عليه الصَّلاة والسلام - إنما اشغل بالنَّظَرِ في الكواكب والشمس والقمر بعد مُخَالطةِ قومه ، ورآهم يَعْبُدُونَ الأصنام ، ودعَوْهُ إلى عِبَادتَهَا ، فقال : « لا أحِبُّ الآفلينَ » ردَّا عليهم ، وتَنْبيهاً على فَسَادِ قولهم .
العاشر : أنه - تعالى - حُكِيَ عنه أنه قال للقوم : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله } [ الأنعام : 81 ] وهذا يَدُلُّ على أن القوم خَوَّفُوهُ بالأصْنَام كما قال قوم هود عليه الصلاة والسلام : { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء } [ هود : 54 ] وهذا الكلام لا يليقُ بالغَارِ .
الحادي عشر : أن تلك اللَّيْلَة كانت مَسْبُوقَةً بالنهار ، ولا شك أن الشمس كانت طَالِعَةً في اليوم المتقدم ، ثم غَرَبَتْ ، فكان ينبغي أن يستدلَّ بغروبها السَّابق على أنها لا تصلح للإلهية ، وإذا بَطَلَ صَلاحيَّةُ الشمس للإلهية بطل ذلك في القمرِ والكوكب بطريق الأوْلَى .
هذا إذا قلنا : إن هذه الواقعة كان المقصود منها تحصيل المَعْرِفَةِ لنفسه ، أما إذا قلنا : المقصود منها إلْزَامُ القَوْمِ وإلجَاؤُهُمْ ، فهذا السؤال غير وَاردٍ ، لأنه يمكن أن يقال : إنه إنما اتَّقَقَتْ مُكالَمَتُهُ مع القوم حالَ طُلُوع ذلك النجم ، ثم امْتَدَّت المُنَاظَرَةُ إلى أنْ طَلَعَ القمر ، وطلع الشمس بعده ، وعلى هذا التقدير فالسُّؤالُ غير واردٍ ، فثبت بهذه الدلائل الظَّاهرة أنه لا يجوز أن يقال : إن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- قال على سبيل الجَزْمِ « هذا ربي » ، وإذا بطل بقي ها هنا احْتِمَالانِ :
الأول : أن يقال : هذا كلام إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- لم يقل : « هذا ربي » على سبيل الإخبار ، بل الغَرَضُ منه أنه كان يُنَاظِرُ عَبَدَةَ الكواكب ، وكان مذهبهم أن الكواكب رَبُّهُمْ ، فذكروا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ذلك القَوْلَ الذي قالوه بلفظهم وعبارتهم ، حتى يرجع إليه فَيُبْطلَهُ كما يقول الواحد منا إذَا نَاظَرَ مَنْ يقول بِقدمِ الجِسْمِ ، فيقول : الجسم قَدِيمٌ فإن كان كذلك فَلِمَ نراه؟ ولم نشاهده مركّباً متغيراً؟ فقوله : الجسم قديم إعادةٌ لكلام الخَصْم حتى يلزم المُحَال عليه ، فكذا هاهنا قال : « هَذَا ربِّي » حكايةً لقول الخَصْمِ ، ثم ذكر عَقَيِبَهُ ما يَدُلُّ على فساده ، وهو قوله : { ا أُحِبُّ الآفلين } ، ويؤيد هذا أنه - تعالى- مَدَحَهُ في آخر الآية على هذه المُنَاظَرَةِ بقوله :

{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ } [ الأنعام : 83 ] .
وثانيها : أن قوله تعالى : « هَذَا رَبِّي » في زعمكم واعتقادكم ، فلما غاب قال : لو كان إلهاً لما غاب كما قال : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ، أي : عند نفسه وبزعمك ، وكقوله تعالى : { وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } [ طه : 97 ] يريد إلهك بزعمك ، وقوله : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ } [ القصص : 62 ] أي : في زعمهم .
وثالثها : أن المراد منه الاسْتِفْهَامُ على سبيل الإنكار ، تقديره : أهَذَا ربِّي ، إلا أنه أسقط حرف الاسْتِفْهَام اسْتِغْنَاءً لدلالة الكلام عليه ، كقوله { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] .
ورابعها : أن يكون القول مُضْمراً فيه ، والتقدير : يقولون : هذا رَبِّي ، وإضمار القول كثير كقوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا } [ البقرة : 127 ] أي يقولون : ربنا ، وقوله : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] أي : يقولون : ما نعبدهم ، فكذا ها هنا تقديره : أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام- قال لقومه : يقولون : هذا ربي ، أي : هذا الذي يُدَبِّرُني وُرَبِّيني .
خامسها : أن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- ذكر هذا الكلام على سبيل الاسْتِهْزَاءِ .
سادسها : أنه - عليه الصلاة والسلام- كان مَأمُوراً بالدعوة ، فأراد أن يَسْتَدْرِجَ القوم بهذا القول ، ويعرفهم خَطَاهُمْ وجَهْلهُمْ في تعظيم ما عَظَّمُوهُ ، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ، فذكر كلاماً يُوهِمُ كونه مُسَاعداً لهم على مَذْهَبِهِمْ ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، ومَقْصُودُهُ من ذلك أن يريهم النَّقْصَ الدَّاخلَ على فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ وبُطلانِهِ ، فأراهم أنه يعظم ما عظموه ، فلما أفَلَ أراهم النَّقْصَ الدَّاخلَ على النجوم ليريهم ، ويثبت خَطَأ ما يدَّعُون كمثل الحواري الذي وَرَد على قَوْمِ يعبدون الصَّنَمَ فأظْهَرَ تعظيمه فأكرموه حتى صدروا عن رأيِهِ في كثير من الأمُورِ إلى أن دَهَمَهُمْ عَدُوٌّ فَشَاوَرُوُه في أمْرِهِ ، فقال : فلما تبيَّنَ لهم أنه لا يَنْفَعُ ولا يدفعن دعاهُمْ إلى أن يَدْعُوا الله ، فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يَحْذَرُونَ وأسلموا .
وأعلم أن المأمور بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المُكْرَهِ على كلمة الكفرن وهو عن الإكرام يجوز إجاء كلمة الكُفْرِ على اللسان؛ قال تعالى { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } [ النحل : 106 ] وإذا جاز ذكر كلمة الكُفْرِ لإصلاح بقاء شخص واحد فَبِأنْ يجوز إظهار كلمة الكُفْرِ لتخليص عالم من العقلاء عن الكُفْرِ والعقاب المُؤبَّدِ أوْلى .
وأيضاً المُكُرَةُ على ترك الصلاة ، ثم صلَّى حتى قتل ، استحقَّ الأجْرَ العظيم ، ثم إذا كان وقْتُ القتالِ مع الكفار ، وعلم أنه لو اشتغل بالصَّلاةِ انهزم عَسْكَرُ الإسلام وجب عليه تَرْكُ الصَّلاةِ ، والاشتغال بالقتال ، حتى لو صلَّى وترك القتال أثِمَ ، ولو ترك الصلاة وقاتل ، استحق الثُّوابَ ، بل نقول : إنَّ مَنْ كان في الصلاة ورأى طِفْلاً ، أو أعمى أشرف على الحَرْقِ أو غَرَقٍ ، وجب عليه قَطْعُ الصلاة لإنقاذ الطفلِ ، والأعمى من البلاءن فكذا ها هنا تكلم إبراهيم -عليه الصَّلاة والسَّلام- بهذه الكلمات ليظهر من نفسه مُوافقةَ القوم ، حتى إذا أورد عليهم الدَّليل المُبْطل لقولهم ، كان قَبُولُهُمْ لذلك الدليل أتَمَّ ، وانتفاعهم به أكْمَلَ ، ويقوي هذا الوجه أنه- تعالى - حكى عنه مثل هذا الطريق في قوله :

{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } [ الصافات : 88-90 ] .
وذلك لأنهم كانوا يَسْتَدِلُّونَ بِعِلْمِ النجوم على حصول الحوادثِ المستقبلة ، فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظَّاهرِ ، مع أنه كان بِرِيئاً عنه في الباطنِ ، ومقصود أن يتوسَّل بهذا الطريق إلى كَسْرِ الأصنام ، فإذا جازكت المُوافقةُ في الظاهر هاهنا مع كونه بريئاً عنه في الباطِنِ ، فلمَ لا يجوز أن يكون في مَسْألَتِنَا كذلك . ؟
وأما الاحتمال الثاني : فهو أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام- ذكر هذا الكلامَ قبل البلوغ ، وتقريره أن يقال : كان قَدْ خُصَّ إبراهيم- عليه السلام- بالعقل الكامل ، والقَريحةِ الصَّافية ، فخطر ببالِهِ قبل بلوغه إثبات الصانع- تعالى - فتفكَّرَ فرأى النجوم ، فقال : « هَذّا رَبِّي » فلمَّا شاهد حَرَكاتِهِ قال : « لا أحِبُّ الآفلين » ثم إنه - تعالى - أكمل بلوغه في قوله تعالى : { قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 78 ] .
والاحتمال الأول أوْلَى بالقبول؛ لما ذكرنا من الدلائل .
فإن قيل إن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام- استدلَّ بافُولِ الكواكب ، على انه لا يجوز أن يكون رَبَّا له ، والأفُولُ عبارة عن غَيْبُوبَةِ الشيء بعد ظهوره فيدلُّ على الحدوث من حيث إنه حركة ، وعلى هذا التقرير فيكون الطُّلُوعُ أيضاً دليلاً على الحدوث ، فَلِمَ ترك إبراهيم - عليه الصلاة والسلام- الاسْتدلال على حدوثها بالطلوع ، وعوَّل في إثبات هذا المطلوب على الأفُولِ؟
الجواب : أن الطلومع والأفُولَ يشتركان في الدلالة على الحدوث ، إلا أن الدَّليلَ الذي يحتج به الأنبياء في مَعْرَضِ دعوة الخَلْقِ كلهم إلى الله لا بُدَّ وأن يكون ظاهراً ، بحيث يشترك في فَهْمِهِ الذَّكِيُّ والغَبِيُّ ، والعاقل والغافل ، ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يَقِينيَّةً إلا أنها دَقِيقَةٌ لا يعرفها إلا الأفَاضِلُ من الخَلْقِ ، أما دلالة الأفُولِ على هذا المقصود ، فإنها ظَاهِرةٌ يعرفها كل أحَدٍ ، فإن الآفِلَ يزول سُلْطَانُهُ وَقْتَ الأفُولِ ، حيث إن الأفول غيبوبة ، فإن الإله المَعْبُودَ العالم لا يغيب ، ولهذا استدلَّ بظهور الكواكب ، وبُزُوغِ القمر والشمس على الإلهية ، واستدلَّ بأفوالهم على عدِم الإلهية ، ولم يتعرض للإستدلال بالحركة ، وهل هي تَدُلُّ على الحدوث أم لا؟
قال ابن الخطيب : وفيه دقيقة وهو أنه - عليه الصَّلاة والسلام- إنما كان يُنَاظِرُهُمْ وهم كانوا مُنَجِّمين ، ومذهبهم أن الكوكب إذا كان الرُّبْعِ الشرقي ، ويكون صاعداً إلى وسطِ السماء كان قويَّاً عظيم التأثير ، أما إذا كان غربيَّا وقريباً ومن الأفُولِ ، فإنه يكون ضَعيفَ الأثَر قليل القُوَّة ، فَنَبَّهَ بهذه الدقيقة على ان الإله هو الذي تتغير قُدْرَتُهُ إلى العَجْزِ ، وكماله إلى النقصان ، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الرُّبْعِ الغربي يكون ضعيف القوة ، ناقص التأثيرن عاجزاً عن التَّدبير ، وذلك يَدُلُّ على القَدْح في إلهيته ، فظهر على قول المنجمين أن للأفول مَزِيدَ خاصية في كونه موجباً لِلْقَدْح في إلهيته والله أعلم .

فإن قيل : إن تلك اللَّيْلَة كانت مَسْبُوقَةً بنهارٍ وليل ، فكان أفُولُ الكواكب والقمر والشمس حاصلاً في الليل السَّابق والنهار السابق ، وبهذا التقدير لا يبقى للأفولِ الحاصل في تلك الليلة فَائدةٌ؟
فالجواب : أنا قد بَيَّنَّا أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام- إنما أورد هذا الدَّليلَ على القوم الذين كان يدعوهم من عِبَادَةِ النجم إلى التوحيد ، فلا يَبْعُدُ أن يقال : إنه - عليه الصلاة والسلام- كان جالساً مع أولئك الأقوام ليلة من الليالي ، فَزَجرهُمْ عن عبادة الكواكب ، فبينا هو في تَقْريرِ ذلك الكلام ، إذ رفع بَصَرَه إلى كوكب مُضيء ، فلما أفَلَ قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : لو كان هذا الكوكب إلهاً لما انْتَقَلَ من الصُّعُودِ إلى الأفُولِ ومن القُوَّةِ إلى الضعف ، ثم في أثناء ذلك الكلام طَلَع القمر وأفَلَ فأعاد عليهم ذلك ، وكذا القول في الشمس .
فصل في الدلالة في الآية
دَلَّت الآية على أحكام :
أحدها : دلَّتْ على أنه ليس بِجِسْمٍ ، إذ لو كان جِسْماً غائباً أبداً لكان آفلا أبداً .
وأيضاً يمتنع أن يكون - تعالى - بحيث ينزل من العَرْشِ إلى السماء تَارةً ، ويصعد من السماء إلى العرش أخرى ، وإلاَّ يحصل معنى الأفول .
وثانيها : دَلَّتِ الآية على أنه - تعالى - ليس مَحَلاً للصِّفاتِ المحدثة ، كما يقول الكرامية ، وإلاَّ لكان متغيراًن وحينئذ يحصل معنى الأفولِ ، وذلك مُحَالٌ .
ثالثها : دلَّتِ الآية على أنَّ الدين يجب أن يكونم مَبْنِياً على الدليل ، لا على التَّقْلِيدِ ، وإلاَّ لم يكن لهذا الاسْتِدْلالِ فَائِدَةٌ .
ورابعها : دلَّتِ الآية على أن معارف الأنبياء بربِّهِمُ اسْتِدْلاليَّةٌ لا ضرورية ، وإلاَّ لما احتاج إبراهيم- عليه السلام- إلى الاستدلال .
وخامسها : دلَّتِ الآية على أنه لا طَرِيقَ إلى تحصيل معرفة الله - تعالى - إلاَّ بالنَّظَرِ والاستدلال في أحْوالِ مخلوقاته ، إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخَر لما عدلَ إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- لهذه الطريقة .

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)

« بَازِغاً » حالٌ من « القمر » والبزوغ : الطُّلُوع ، يقال : بَزَغَ بفتح الزاي : يَبْزُغ بضمها بزوغاً ، والبُزُوغُ : الابتداء في الطلوع .
قال الأزهري : كأنه مأخوذ من البَزْغ وهو الشَّقُّ كأنه بنُورِهِ يِشُقُّ الظُّلْمَةَ شَقاً ، ويستعمل قاصراً ومتعدياً ، يقال : بَزَغَ البَيْطَارُ الدَّابَّةَ ، أي : أسال دَمَها ، فبزغ هو ، أي : سال ، هذا هو الأصل .
ثم قيل لكل طلوع : بزوغ ، ومنه بَزَغَ نَابُ الصبي والبغير تَشْبيهاً بذلك .
والقمر معروف سُمِّيَ بذلك لِبَيَاضِهِ ، وانشار ضَوْئِهِ ، والأقْمَرُ : الحمار الذي على لون الليلة القمراء ، والقَمرَاءُ ضوء القمر .
وقيل سُمِّيَ القمر قمراً؛ لأنه يقمر ضوء الكواكب ويفوز به ، واللَّيَالي القُمْرُ : ليالي تَدَوُّرِ القمر ، وهي الليالي البِيضُ؛ لأن ضوء القمر يستمر فيها إلى الصباح .
قيل : ولا يقال له قمراً إلا بعد امتلائه في ثالث ليلة وقبلها هِلالٌ على خلاف بين أهل اللغة تقدم في البقرة عند قوله : { عَنِ الأهلة } [ البقرة : 189 ] فإذا بلغ بعد العشر ثالث ليلة ، قيل له : « بدر » إلى خامس عشر .
ويقال : قمرت فلاناً ، أي : خدعته عنه ، وكأنه مأخوذ من قَمِرَت القِرْبَةُ : فَسَدَت بالقَمْراء .
قوله : { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي } يدلُّ على أن الهدايةَ ليست إلاَّ من الله ، ولا يمكن حمل لفظ الهداية إلا على التمكينن وإزاحة الأعْذَارِ ، ونَصْبِ الدلائل؛ لأن كل ذلك كان حاصلاً لإبراهيم عليه السلام .

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)

إنما ذكر اسم الإشارة مذكراً والمشار إليه مؤنث لأحد وجوه :
إما ذهاباً بها مذهب الكواكب ، وإما ذهاباً بها مذهب الضوء والنور ، وإما بتأويل الطَّالع أو الشخص؛ كما قال الأعشى : [ السريع ]
2218- قَامَتْ تُبَكِّيهِ عَلَى قَبْرِهِ ... مَنْ لِيَ بَعْدكَ يَا عَامِرُ
تَرَكْتَنِي فِي الدَّارِ ذَا غُرْبَةٍ ... قَدْ ذَلَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ نَاصِرُ
أو الشيء ، أو لأنه لما أخبر عنها بمذكَّرٍ أعْطِيَتْ حُكْمَه؛ تقول : هند ذاك الإسنان وتيك الإنسان؛ قال : [ البسيط ]
2219- تَبِيتُ نُعْمَى عَلَى الهِجْرَانِ غَائِبَةً ... سَقْياً ورعْياً لِذاكَ الغَائِبِ الزَّاري
فأشار إلى « نعمى » وهي مؤنث إشارة المُذكرِ بوصف الذكورن أو لأن فيها لُغَتَيْنِ : التذكير والتأنيث ، وإن كان الأكثر التأنيث ، فقد جمع بينهما في الآية الكريمة فانَّث في قوله : « بازغة » ، وذكَّرَ في قوله : « هذا » .
وقال الزمخشري : « جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارةً عن شيء واحد؛ كقولهم : ما جاءت حاجتك ، ومن كانت أمك ، و { لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا } [ الأنعام : 23 ] وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرَّبِّ عن شُبْهَةِ التأنيث ، إلا تَرَاهُمْ قالوا في صفة الله : علاَّم ، ولم يقولوا : عَلاَّمة ، وإن كان أبْلَغَ ، احترازاً من علامة التأنيث » .
قلت : وهذا قريبٌ مِمَّا تقدَّم في أن المؤنث إذا أخبر عنه بمذكَّرِ عومل معاملة المُذكَّرِ ، نحو : « هند ذاك الإنسان » .
وقيل : لأنها بمعنى : هذا النَّيِّر ، أو المرئي .
قال أبو حيَّان : « ويمكن أن يقال : إن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر ، ولا في الإشارة بين المُذَكَّرِ والمؤنث سواء ، فلذلك اشار إلى المؤنَّثِ عندنا حين حكى كلام إبراهيم بما يشار به إلى المذكر ، بل لو كان المؤنث بِفَرْجِ لم يكن له علامة تَدُلُّ عليه في كلامهم ، وحين أخبر - تعالى - عنها بقوله : » بَازِغَةً « و » افَلَتْ « أتت على مقتضى العربية ، إذ ليس ذلك بحكاية » انتهى .
وهذا إنما يظهر أن لو حكى كلامهم بِعَيْنِهِ في لغتهم ، أما شيء يعبر عنه بلغة العرب ، ويعطى حكمه في لغة العَجَمِ ، فهو مَحَلُّ نَظَرٍ .
فصل في بيان سبب تسمية العبرية والسريانية .
قال الطبري : إن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام- إنما نطق بالعبرانية حين عَبَرَ النَّهْرَ فاراً من النَّمْرُودِ حيث قال للذين أرسلهم في طلبه : إذا وجدتم من يتكلم بالسريانية فأتُونِي به ، فلما أدْرَكُوُ اسْتَنْطَقُوهُ ، فَحوَّلَ الله نُطْقَهُ لساناً عربياً ، وذلك حين عبر النَّهْرَ ، فسميت العبرانية لذلك .
وأما السُّرْيَانِيَّةُ فذكر ابن سلام أنها سميت بذلك؛ لأن الله- سبحانه وتعالى - حين علم آدم الأسماءَ علَّمهُ سِرَّا من الملائكة ، وأنطقه بها حنيئذ ، فَسُمِّيتِ السريانية لذلك ، والله أعلم .
قوله : « هَذَا أكْبَرُ » أي : أكبر الكواكب جِرْماً ، وقواها قولة ، فكان أوْلَى بالإلهية ، قوله : { إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ } « ما » مصدرية ، أي : بريء من إشراككم ، أو موصولة أي : من الذين يشركونه مع الله في عبادةته ، فحذف العائدن ويجوز أن تكون الموصوفة والعائد محذوف أيضاًن إلا أنَّ حَذْفَ عائد الصِّفَةِ أقل من حَذْفِ عائد الصِّلة ، فالجملة بعدها لا محلًّ لها على القولين الأوَّليْنِ ، ومحلها الجر على الثالث ، ومعنى الكلام أنه لما ثبت بالدليل أن هذه الكواكب لا تصلح للرُّبُوبيَّةِ والإلهية ، لا جَرَمَ تبَرَّأ من الشِّرْكِ .

فإن قيل : هَبْ أن الدليل دَلَّ على أن الكواكب لا تصلح للربوبية ، لكن لا يلزم من هذا نَفْيُ الشرك مطلقاً؟
فالجواب : أن القوم كانوا مُسَاعدين على نَفْي سائر الشُّركاءِ ، وإنما في هذه الصورة المعينة ، فلما ثبت بالدليل أن هذه الأشْياءَ ليست أرْبَاباً ، وثبت بالاتفاق نَفْيُ غيرها ، لا جرم حصل الجَزْمُ بنفي الشركاء .

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)

المراد : وجهت عبادتي وطاعتي لعبادته ورضاه ، كأنهم نَفوا بذلك وَهْمَ من يَتَوهَّمُ الجهة ، وسبب جواز هذا المجاز أن من كان مُطِيعاً لغيره مُنْقَاداً لأمره ، فإنه يتوجَّه بوجهه إليه ، فجعل توجيه الوجه إليه كِنايةً عن الطاعة .
وفتح الباء من وجهي نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ، والباقون تركوا هذا الفتح .
قوله : « لِلَّذي فَطَرَ » فدروا قبله مُضافاً؛ أي : وجهت وَجْهِي لعبادته كما تقدم و « حنيفاً » حال من فاعل « وجَّهْتُ » .
وقد تقدَّم تفسير هذه الألفاظ ، و « ما » يحتمل أن تكون الحجازية ، وأن تكون التميمية .

وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)

لما أورد إبراهيم- عليه الصَّلاة والسَّلام- الحُجَّة عليهم المذكورة ، أورد القوم عليه جُجَجاً على صحة أقوالهم :
منها : أنهم تَمَسَّكُوا بالتقليد ، كقولهم : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ } [ الزخرف : 22 ] وكقولهم للرسول عليه الصلاة والسلام : { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] وكقول قوم هود : { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء } [ هود : 54 ] فذكروا من جِنْس هذا الكلام ، وإلا فالله - تعالى - لم يَحْكِ محاجتهم .
فأجاب الله - تعالى - عن حُجَّتِهِمْ بقوله تعالى- { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجواني فِي الله } .
قرأ نافع ، وابن ذكوان ، وهشام بخلاف عنه بنون خفيفة ، والباقون بنون ثقيلة ، والتثقيل هو الأصل؛ لأن النون الأولى نون الرفع في الأمثلة الخمسة ، والثانية نون الوقاية ، استثقل اجتماعهما ، وفيهما لغات ثلاث : الفَكُّ وتركهما على حالهما ، والإدغام ، والحذف ، وقد قرئ بهذه اللغات كلها في قوله تعالى : { أَفَغَيْرَ الله تأمرونيا } [ الزمر : 64 ] وهنام لم تقرأ إلا بالحذف أو الإدغام ، ونافع بالحذف ، والباقون يفتحون النون ، لأنها عندهم نون رفعن وفي سورة النحل : { تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } [ آية : 27 ] بفتح النون عند الجمهور ، لأنها نون رفع ، وثرؤه نافع بنون مكسورة خفيفة على الحذف ، فنافع حذف إحدى النونين في جميع المواضع المذكورة فإنه يقرأ في الزُّمر أيضاً بحذف أحدهما :
وقوله تعالى : { أتعدانني } في الأحقاف [ آية : 17 ] قرأه هشام بالإدغام ، والباقون بالإظهار دون الحذف .
واختلف النحاة في أيَّتهما المحذوفة؛ فمذهب سيبويه ومن تبعه أن المحذوفة هي الأولى واستدلَّ سيبويه على ذلك بأن نون الرفع قد عُهِدَ حذفها دون مُلاقاةِ مِثْلِ رفعاً؛ وأنشد : [ الطويل ]
2220- فإنْ يَكُ قَوءمٌ سَرًّهُمْ مَا صَنَعْتُمُ ... سَتَحْتَلِبُوهَا لاقِحاً غَيْرَ بِاهِلِ
أي : فَسَتَحْتَلِبُونَهَا ، لا يقال : إن النون قد حذفت جَزْماً في جواب الشرط؛ لأن الفاء هنا واجبة الدخول لعدم صلاحية الجملة الجزائية شرطاًن وإذا تقرر وجوب الفاءن وإنما حذفت ضَرُورةً ثبت أن نون الرفع كان من حقها الثبوت ، إلا أنها حذفت ضرورة ، وأنشدوا أيضاً قوله : [ الرجز ]
2221- أبِيتُ أسْرِي وتَبِيتي تَدْلُكِي ... وَجْهَكِ بالعَنْبَرِ والْمِسْكِ الذّكِي
أي : تبيتين وتدلكين .
وفي الحديث : « والَّذِي نَفْسِي بَيدهِ لا تَدْخُلُوا الجَنَّة حَتَّى تُؤمِنُوا ولا تُمِنُوا ولا تُؤمنُوا حتَّى تَحَابُّوا » ف « لا » الدّاخلة على « تدخلوا » و « تؤمنوا » نافية لا ناهية لفساد المعنى عليه ، وإذا ثبت حَذْفُهَا دون مُلاقاة مِثْلٍ رفعاً فلأن تحذف مع ملاقاة مِثلٍ في فَصيح الكلام؛ كقراءة أبي عمرو { يَنصُرْكُم } [ آل عمران : 160 ] و { يُشْعِرُكُمْ } [ الأنعام : 109 ] { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] وبابه بسكون آخر الفعل ، وقوله الشاعر : [ السريع ]
2222- فَاليْومَ أشْرَبْ غَيْرُ مُسْتَحْقِبٍ ... إثْماً مِنْ اللَّهِ وَلاَ وَاغِلِ
وإذا ثبت حذف الأصْلِ ، فليثبت حذف الفَرْعِ لئلا يلزم تَفْضِيلُ فَرْعِس على أصله ، وأيضاً فإنَّ ادِّعاءَ حذف نوع الرفع لا يُحْوِجُ غلى حَذْفٍ آخرن وحذف نون الوقاية قد يُحْوِجُ إلى ذلكن وبيانه بأنه إذا دَخَلَ نَاصِبٌ أو جازم على أحد هذه الأمثلة ، فلو كان المحذوف نُونَ الوقاية لكان ينبغي أن تُحْذَفَ هذه النون ، وهي تسقط للناصب والجازم ، بخلاف ادِّعاءِ حذف نون الرفع ، فإنه لا يحوج إلى ذلك؛ لأنه لا عمل له في الَّتِي للوقاية .

ولقائل أن يقول : لا يلزم من جوازِ حذفت الأصل حَذْفُ الفرع؛ لأن في الأصل قوة تقتضي جوازَ حذفه ، بخلاف نون الوقاية ، ودخول الجازم والناصب لم نجد له شيئاً يحذفه؛ لأن النون حذفت لعارِضٍ آخر .
واستدلُّوا لسيبويه بأن نون الوقاية مَكْسُورةٌ ، فبقاؤها على حالها لا يلزم منه تغيير ، بخلاف ما لو ادَّعَيْنَا حذفها ، فإنَّا يلزمنا تغيير نون الرفع من فتح إلى كسر ، وتعليل العمل أوْلى ، واستدلوا أيضاً بأنها قد حذفت مع مثلها ، وإن لم تكن نون وقاية؛ كقوله : [ البسيط ]
2223- كُلُّ نِيَّةٌ في بُغْضِ صَاحبهِ ... بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا
أي : وتَقْلُونَنَا ، فاملحذوف نون الرفع لا نون « ن » ؛ لأنها ضميرن وعورض هذا بأن نون الرفع ايضاً لها قوة لدلالتها على الإعرابن فحذفها أيضاً لا يجوز ، وجعل سيبويه المحذوفة من قول الشاعر : [ الوافر ]
2224- تَرَاهُ كالثَّغَامش يُعَلُّ مِسْكاً ... يَسُوءُ الفَالِيَاتِ إذَا فَلضيْنِي
نون الفاعنل لا نون الوقاية ، واستدلَّ الأخفش بأن الثقل إنما حصل بالثانية؛ ولأنه قد استْتُغْنِيَ عنها ، فإنه إنما أتى بها لِتَقِيَ الفعل من الكسر ، وهو مَأمُونٌ لوقوع الكسْرِ على نون الرفع ، ولأنها لا تَدُلُّ على معنى ، بخلاف نون الرفع ، وأيضاً فإنها تُحْذَفُ في نحو ليتنين فيقال : ليتي؛ كقوله : [ الوافر ]
2225- كَمُنْيَةِ جَابِرٍ إذْ قَالَ : لَيْتِي ... أصَادِفُهُ وأتْلِفُ بَعْضَ مَالِي
واعلم أن حَذْفَ النون في هذا النحو جائز فصيح ، ولا يلتفت إلى قَوْلِ مَنْ مَنَعَ من ذلك إلاَّ في ضرورة أو قليل من الكلام ، ولهذا عيبَ على مكي بن ابي طالب حيث قال : « الحذف بِعِيدٌ في العربية فبيح مكروه ، وإنما يجوز في الشعر لِلْوزْنِ ، والقرآن لا يحتمل ذلك فيهح إذ لا ضرورة تدعو إليه » .
وتَجَاسَرَ القولان مَرْدُودَانِ عليهما؛ لتواتر ذلك ، وقد تقدم الدليل على صِحَّته لغة .
وأيضاً فإن الثِّقات بت « أتُحَاجُّونِّي » لا ب « حَاجَّهُ » ، والمسألة من باب التَّنَازُعِ ، وأعْمِلَ الثاني؛ لأنه لمَّا أضمر في الأول حذف ، ولو أعمل الأول لأضمر في الثاني من غير حَذْفِ ، ومثله : { يَستَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة } [ النساء : 176 ] كذا قال أبو حيَّان ، وفيه نظر من حيث إن المعنى ليس على تَسَلُّطِ « وَحَاجَّهُ » على قوله : « في اللَّه » ؛ إذ الظاهر انْقِطَاعُ الجملة القولية عما قبلها .
وقوله : « في اللَّهِ » أي : في شأنه ، ووحدانيته .
قوله « وَقَدْ هَدَانيِ » أي : للتوحيد والحقن وهذه الجملة في مَحَلِّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ الياء في « أتحاجونني » ، أي : أتجادلونني فيه حال كوني مهدياً من عنده .

والثاني : أنَّهُ حالٌ من « الله » أي : أتخاصمون فيه حال كونه هادياً لي ، فحجتكم لا تُجْدِي شيئاً؛ لأنها دَاحِضَةٌ .
قوله : « ولا أخَافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ » هذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفةً ، أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه لا يخاف ما يشركون به ، وإنما ثِقتُهُ برَبِّه ، وكانوا قد خَوَّفُوهُ من ضَرَر يحل لَهُ بسبب سَبِّ آلهتهم .
ويحتمل أن تكون في مَحَلِّ نصب على الحال باعتبارين :
أحدهما : أن تكون ثانيةً عَطْفاً على الأولىن فتكون الحالان من اليااء في « أتُحَاجُّونِّي » .
والثاني : أنها حالٌ من « الياء » في « هداني » ، فتكون جملةً حاليةً من بعض جملة حاليةٍ ، فهي قريبة من الحال المتداخلة ، إلاَّ أنه لا بُدَّ من إضمارِ مبتدأ على هذا الوجه قبل الفعل المضارع ، لما تقدَّم من أنَّ الفعل المضارع المنفي بت « لا » حُكْمُهُ حُكْمُ المثبت من حيث إنه لآ تُبَاشِرُهُ الواو .
و « ما » يجوز فيها الأوحه الثلاثة : أن تكون مصدريَّة ، وعلى هذا فالهاء في « به » لا تعود على « ما » عند الجمهور ، بل تَعُودُ على اللَّهِ تعالى ، والتقديرُ : ولا أخَافُ إشراككم باللَّهِ ، والمفعول محذوف؛ أي : ما تشركون غير اللَّهِ به ، وأن تكون بمعنى « الذي » ، وأن تكون نَكِرَةً موصوفةً ، والهاء في « به » على هَذيْنِ الوجهين تعود على « ما » ، والمعنى : ولا أخاف الذين تشركون الله به ، فحذف المعفول أيضاً ، كما حذفه في الوجه الأوَّلِ .
وقدَّرَ أبو البقاءِ قبل الضمير مُضَافاً ، فقا : ويجوز أن تكون الهاء عائدجة على « ما » أي : ولا أخافُ الذي تشركون به ، ولا حاجةَ إلى ذلك .
قوله : « إلاَّ أنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً » في هذا الاستثناء قولان :
أظهرهما : أنه متَّصِلٌ .
والثاني : أنه منقطع ، والقائلون بالاتِّصالِ اختلفوا في المستثنى منه ، فجعله الزمخشري زماناً ، فقال : « إلاَّ وقت مشيئة ربِّي شيئاً يخاف ، فحذف الوقت ، يعني : لا أخافُ معبوداتكم في وقتٍ قَطُّ؛ لأنها لا تَقْدِرُ على منفعة ولا مضرَّة ، إلاَّ إذا شاء رَبِّي » .
وجعله أبو البقاء حالاً ، فقال : تقديره إلاَّ في حال مشيئة ربِّين أيْ : لا أخافها في كُلِّ حالٍ إلاَّ في هذه الحالِ .
وممن ذهب إلى انْقِطَاعِهِ ابن عطية ، والحوفي ، وأبو الققاء في أحَدِ الوجهين .
فقال الحوفي : تقديره : « ولكنْ مشيئة اللَّهِ أيَّاي بضُرِّ أخاف » .
وقال غيره : معناه : ولكن إن شاء ربِّي شيئاً ، أي سواء فيكون ما شاء .
وقال ابن عطية : استثناءً ليس من الأوَّلِ ، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضُرّاً ، استثنى مشيئة ربَّه في أن يريده بِضُرٍّ .
قوله : « شيئاً » يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مَنْصُوبٌ على المصدر تقديره : إلاَّ أن يشاء ربي شيئاً من المَشِيئةِ .

والثاني : أنَّهُ مفعول به ل « شيئاً » ، وإنما كان الأوَّلُ أظْهَرَ لوجهين :
أحدهما : أن الكلام المؤكّد أقوى وأثبت في النَّفْس من غير المؤكّد .
والثانهي : أنَّهُ قد تقدَّمَ أن مفعول المشيئة والإرادة لا يذكران إلاَّ إذا كان فيهما غرابة كقوله : [ الطويل ]
2226- وَلَوْ شِئْتُ أنْ أبْكِي دَماً لَبَكَيْتُهُ .. . . .
فصل في بيان معنى الاستثناء
إنما ذكر عليه الصًّلاة والسَّلام هذا الاستثناء؛ لأنه لا يبعد أن يحدث للإنسان في مستقبل عمره شيء من المَكَارِهِ ، والحَمْقَى من الناس يحملون ذلك على أنَّهُ إنما حَدَثَ ذلك المكروه بسبب أن طَعَنَ في إليه الأصنام ، فذكر إبراهيم- عليه الصَّلاة والسَّلام- ذلك حتى إنَّهُ لو حَدَثَ به شيء من المَكَارِهِ لمي يحمل على هذا السبب .
وقوله : « وسِعَ ربِّي كُلَّ شَيءٍ عِلْماً » يعني : أنه عالم الغيوب ، فلا يفعل إلاَّ الخير والصلاح والحكمة ، فبتقدير أن يحدث من مَكَارِهِ الدنيا شيءٌ ، فذلك؛ لأنه - تعالى - عرف وَجْهَ الصَّلاحِ والخير فيه ، لا لأجل أنه عقوبة على الطّعن في إلهية الأصْنَام .
قوله : « علماً » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب على التمييز ، وهو مُحَوَّلٌ عن الفاعلِ ، تقديره : « وسع علم ربّي كُلَّ شيء » كقوله : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] أي : شيب الرأس .
والثاني : أنه مَنصُوبٌ على المفعولِ المطلق ، لأن معنى وَسِعَ : عَلِمَ .
قال أبو البقاء : « لأنَّ الشَّيْءَ فَقَدْ أحَاطَ به ، والعالم بالشيء مُحيطٌ بعلمه » .
قال شهابُ الدِّين : وهذا الَّذِي ادَّعَاهُ من المجاز بعيدٌ .
و « كل شيء » مفعول لت « وسع » على التقديرين .
و « أفَلا تَتَذَكَّرُونَ » جملة تقرير وتوبيخ ، ولا مَحَلَّ لها لاستئنافها ، والمعنى : أفلا تتذكرون أن نَفْيَ الشركاء والأضداد والأنداد عن اللَّهِ لا يوجبُ حلول العذاب ونزول العقاب ، والسَّعْي في إثبات التوحيد والتنزيه لا يوجب استحقاق العذاب والعقاب .

وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)

قد تقدَّم الكلامُ على « كيف » في أوَّل البقرة [ آية 28 ] ، و « ما » يجوز فيها ثلاثة أوجهٍ ، في حيِّز التَّعْجُّبِ والإنكار ، وأن تكون حاليةً ، أي : وكيف أخاف الذي تشركون حال كونكم أنتم غير خائفين إشراككم ، ولا بُدَّ من إضْمَارِ مبتدأ قبل المضراع المنفي ب « لا » لما تقدَّم غير مرَّةٍ ، أيك كيف أخاف الذي تشركون ، أو عاقبة إشارككم حال كونكم آمنين من مَكْرِ اللَّهِ الذي أشركتم به غيره ، وهذه الجملة وإن لم يكن فيها رَابِطٌ يعود على ذِي الحالِ لا يَضُرُّ ذلك ، لأن الواو بنفسها رابطة .
وانظر إلى حُسْنِ هذا النَّظْمِ السَّويِّن حيث جعل متعلّق الخَوْفِ الواقع منه الأصنام ، ومتعلق الخوف الواقع منهم إشاركهم باللَّهِ غيره تَرْكاً لأن يعادل الباري - تعالى - لأصنامهم لو أبْرَزَ التركيب على هذا ، فقال : « ولا تخافون اللَّه » مُقَابَلَةً لقوله : « وكيف أخافُ معبوداتكم » . وأتى ب « ما » في قوله : « ما أشركتم » وفي قوله : { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً } إلاَّ أنهم غير عقلاء؛ إذ هي جماد وأحْجَارٌ وخشبٌ كانوا يَنْحِتُونَهَا ويعبدونها .
وقوله : « مَا لَمْ يُنَزَّلْ » مفعول لت « أشركتكم » ، وهي موصولة اسميَّة أو نكرة ، ولا تكون مَصْدريَّةً لفساد المعنى ، و « به » و « عليكم » ، متعلقان ب « يُنَزِّلْ » ويجوز في « عَلَيْكُمْ » وجه آخر ، وهو أن يكون حالاً ، من « سًلْطَاناً » ؛ لأنَّهُ تَأخَّر عنه لجاز أن يكون صِفَةً .
وقرا الجمهور : « سُلْطَاناً » ساكن اللام حيث وقع ، وقُرِئَ بِضَمِّهَا ، وهل هي لغة مُسْتَقِلَّةٌ ، فيثبت فيها بناء فعل بضم الفاء والعين ، أو هي إتباع حركةٍ لأخرى .
ومعنى الآية : وكيف أخَافُ الأصنام التي لا قُدْرَةَ لها على النَّفْعِ والضُّرِّ ولا تُبْصرُ ولا تَسْمَعُن وأنتم لا تخافون من الشِّرْكِ الذي هو أعظم الذنوب ، وليس لكن حُجَّةٌ على ذلك .
وقوله : { فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن }
أي : ما لكم تنكرون عَلَيَّ الأمْنَ في موضع الأمن ، ولا تنكرون على أنفسكم الأمْنَ في موضع الخوفِ فقال : « فَأيُّ الفريقَيْنِ أحَقُّ » ولم يَقُل : « فايُّنَا أحَقُّ نَحْنُ أم أنتم » إلزاماً لِخَصْمِهِ بما يدَّعيهِ عليهن وأحترازاً من تَزْكِيَة نفسه ، فعدل عنه إلى قوله : « فايُّ الفَريقَيْنِ أحَقُّ بالأمْنِ » ، يعني : فريق المشركين أم الموحدين؟ وهذا بخلاف قول الآخر : [ الكامل ]
2227- فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعلَمَنْ ... أيِّي أيُّكَ فَارِسُ الأحْزَابِ
فَلِلِّهِ فَصَاحَة القُرْآن وآدابه .
وقوله : « إنْ كُنْتُمْ » جوابه محذوف ، أي : فأخبروني ، ومعلّق العلم محذوف ، ويجوز ألاَّ يُرَادَ له مفعول؛ أي : إن كنتم من ذوي العلم .

قوله : « الَّذِينَ آمَنُوا » هل هو من كلام إبراهيم ، أو من كلامه قومه ، أو من كلام اللَّهِ تعالى؟ ثلاثة أقوالٍ ، وعلهيا يَتَرتَّبُ الإعرابُ .
فإن قلنا : إنها من كلام إبراهيم كانت جواباً عن السؤال في قوله « فأيُّ الفَريقَيْنِ » .
وكذا إن قلنا : إنها كلام قومه ، وأنهم أجابوا بما هو حُجَّة عليهم كأن الموصول خب مبتدأ محذوف؛ أي : هم الذين آمنا ، وإن جعلناه من كلام اللَّهِ تعالى ، وأنَّهُ أمَرَ نَبِيَّهُ بأن يجيب به السُّؤال المتقدم ، فكذلك أيضاً .
وإن جعلناه لِمُجَرَّدِ الإخبار من الباري- تعالى - كان الموصول مبتدأ ، وفي خبره أوجه :
أحدهما : أنه الجملة بعده ، فإن « أولئك » ، و « أولئك » مبتدأ ثانٍ ، و « الأمن » مبتدأ ثالث ، و « لهم » خبره ، والجملةُ خَبَرُ « أولئك » ، و « أولئك » وخبره خبر الأوَّلِ .
الثاني : أن يكون « أولئك » بَدَلاً أو عطف بَيَان ، و « لهم » خبر الموصول ، و « الأمن فاعلٌ به لاعتماده .
الثالث : كذلك ، إلا أنَّ » لهم « خبرٌ مقدَّم ، و » الأمن « مبتدأ مؤخر ، والجُمْلَةُ خبر الموصُول .
الرابع : أن يكون » أولئك « مبتدأ ثانياً ، و » لهم « خبره ، و » الأمن « فاعل به ، والجملةُ خبر الموصول .
الخامس : وإليه ذهب أبو جَعْفَرٍ النحاسُ ، والحوفي أن » لهم الأمن « خبر الموصول ، وأن » أولئك « فَاصِلَةٌ ، وهو غريب؛ لأن الفَصْلَ من شأنِ الضمائر لا من شَأنِ أسماء الإشارة .
وأمَّا على قولنا بأن » الذين « خبر مبتدأ محذوف ، فيكون » أولئك « مبتدأ فقط ، وخبره الجملة بعده ، أو الجار وَحْدَهُ ، و » الأمْن « فاعل به ، والجملة الأولى على هذا مَنْصُوبةٌ بقولٍ مُضْمَرٍ ، أي : قُلْ لهم الذين آمنوا إن كانت من كلام الخليلن أو قالوا هم الذين إن كانت من كلام قومه .
قوله : » وَلَمْ يَلْبِسُوا « يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنها مَعْطُوفَةٌ على الصِّلةِ ، فلا مَحضلِّ لها حينئذٍ .
والثاني : أن تكون الواو للحال ، الجملة بعدها في محلِّ نصبٍ على الحال ، أي : آمنوا غير مُلْبسينَ بِظُلْم .
وهو كقوله تعالى : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ مريم : 20 ] ، ولا يُلْتَفَتُ إلى قول ابن عصفور ، حيث جعل وقوع الجُمْلَةِ المنفية حالاً قليلاً ، ولا إلى قَوْلِ ابن خَرُوفٍ ، حيث جعل الواو واجِبَة الدخول على هذه الجملة ، وإن كان فيها ضَمِيرٌ يعود على الحالِ .
والجمهور على » يَلْبِسُوا « بفتح الياء بمعنى » يخلطونه « .
وقرأ عكرمةُ بضمها من الإلْبَاسِ . » وهُمْ مُهْتَدُونَ « يجوز اسْتِئْنَافُهَا وحاليتها .
فصل في تفسر الآية
روى عَلْقَمَة عن عَبْدِ اللَّهِ قال : لما نزلت { الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شقَّ ذلك على المُسلمينَ ، فقالوا : يا رسول اللَّهِ ، فأيُّنَا لا يَظْلِمُ نفسه ، فقال : لَيْسَ ذلِكَ ، إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ ، ألَمْ تَسْمَعُوا إلى ما قال لُقْمان لابنه : { يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)

« تلك » إشارة إلى الدَّلائل المُتقدِّمة من قوله : { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ } [ الأنعام : 75 ] إلى قوله : { وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 79 ]
وقيل : إشارة إلى القَوْم لمَّا خَوَّفُوُ بأنَّ آلهتَهُمْ تُخْبِلُهُ لأجل شَتْمِهِ إيَّاها ، فقال لهم : أفلا تَخَافُونَ أنتم حيث أقْدَمْتُمْ على الشرك باللَّهِ ، وسوَّيْتُمْ في العبادة بين الخالقِ العالم ومُدبِّرِهِ ، وبين الخشب المَنْحُوتِ .
وقيل : إشارة إلى الكُلِّ .
ويجوز في « حُجَّتنا » وجهان :
أحدهما : أن يكون خبر المبتدأ ، وفي « آتيْنَاهَا » حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أنه في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ ، والعامِلُ فيها معنى الإشارة ، ويَدُلُّ على ذلك التَّصْرِيحُ بوقوع الحال في نظيرتها . كقوله تعالى : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] .
والثاني : أنَّهُ في مَحَلِّ رَفْعٍ على أنه خَبَرٌ ثانٍ أخبر عنها بِخَبَريْنِ ، أحدهما مفرد ، والآخر جملة .
والثَّاني : أنَّهُ في مَحَلِّ رَفْعٍ على أنه خَبَرٌ ثانٍ أخبر عنها بِخَيَريْنِ ، أحدهما مفرد ، والآخر جملة .
والثَّاني من الوَجْهِيْنِ الأوَّلين : أن تكون « حُجَّتُنَا » بدلاً أو بَيَاناً ل « تلك » ، والخبر الجملة الفعلية .
وقال الحوفي : « إن الجملة مِنْ » آتَيْنَاها « في مَوْضِع النعت ل » حُجَّتُنَا « على نِيَّةِ الانْقِصَالِ؛ إذ التقدير : حُجّة لنا » يعني الانفصال من الإضافة لِيَحْصُلَ التنكيرُ المُسَوِّغُ لوقوع الجُمْلَةِ صِفَةً ل « حُجتنا » وهذا لا ينبغي أن يقال .
وقال أيضاً : إنَّ « إبراهيم » مفعول ثانٍ ل « آتَيْنَاهَا » ، والمفعول الأول هو « هاء » ، وقد تقدَّم في أوَّلِ البقرةِ ، فإنَّ هذا مَذْهب السُّهَيْلِيْ عند قوله : { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب } [ البقرة : 53 ] . وأنَّ مذهب الجمهور أن تجعل الأول ما كان عَاقِلاً ، والثاني غيره ، ولا يبالى بتقديم ولا تأخير .
فصل في الدلالة في الآية
قوله : « آتَيْنَاهَا إبْرَاهيمَ » يَدُلُّ على أنَّ تلك الحُجَّةَ إنما حَصَلتْ لإبراهيم- عليه الصَّلاة والسَّلام- بإيتاء الله وإظهاره تلك الحُجَّةِ في عَقْلِهِ ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ الإيمانَ والكُفْرَ لا يَحْصُلانِ إلاَّ بِخَلْقِ الله تعالى ، ويؤكده قوله : { نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشَاءُ } فإن المراد أنه - تعالى - رَفَعَ درجات إبراهيم بسبب أنه - تعالى - أتاه تلك الحُجَّة .
ولو كان حُصُولُ العِلْمِ بتلك الحجة من قبل إبراهيم لا من قِبَلِ اللَّهِ تعالى ، لكان إبْراهيمُ- عليه الصَّلاة والسَّلام- هو الذي رفع درجات نفسه .
قوله : « عَلَى قَوْمِهِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مُتَعَلَّقٌ ب « آياتنا » قاله ابن عطيَّة والحوفي ، أي : أظهرناها لإراهيم على قَوْمِهِ .
والثاني : أنها مُتعلِّقَةٌ بمحذوف؛ على أنها حالٌ ، أي : آتيناها إبراهيم حُجَّةً على قومه ، أو دَلِيلاً على قومه ، كذا قدَّرَهُ أبو البقاء ، وييلزم من هذا التَّقديرِ أن تكون حالاً مُؤكّدة؛ إذ التَّقديرُ : وتلك حُجَّتنَا آتَيْنَاهَا له حُجَّةً .

وقدَّره أبو حيَّان على حَذْفِ مُضَافِ ، فقال : أي : آتيناها إبراهيم مُسْتَعْلِيَةً عل ىحُجَجِ قَوْمِهِ قَاهِرةً لها وهذا أحسن .
ومنع أبو البقاء أن تكون مُتعلِّقَةً ب « حجتنا » قال : لأنها مَصْدَرٌ و « آتَيْنَاهَا » خَبَرٌ أو حالٌ ، وكلاهما لا يفصل به بين المَوْصُولِ وصِلَتِهِ .
ومنع أبُو حيَّان ذلك أيْضاً ، ولكن لكون الحُجَّةِ لَيْسَتْ مَصْدَراً .
قال : إنما هو الكلامُ المُؤلَّفُ للاستلال على الشيء ، ثم قال : ولو جعلناها مَصْدَراً لم يَجُزْ ذلك أيضاً؛ لأنه لا يُفْصَلُ بالخبرِ ، ولا بمثل هذه الحال بين المصدرِ ومطلوبه .
وفي مَنْعِهِ ومَنْع أبي البقاء نظرٌ؛ لأنَّ الحالَ وإن كانت جُمْلَةً لَيْسَتْ أجْنَبِيَّةً حتَّى يُمْنَعُ الفَصْلُ بها؛ لأنها من جملة مَطْلُوباتِ المصدر ، وقد تقدَّم نَظِيرُ ذلك بأشبع من هذا .
قوله : « نرفع » فيه وجهان :
الظاهر منهما : أنها مُسْتأنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها من الإعراب .
الثاني : جوَّزَهُ أبو البقاءِ ، وبدأ به - أنها في مَوْضَعِ الحالِ من « آتيناها » يعني من فاعل « آتْيْنَاهَا » ، أي : في حال كوننا رَافِعِينَ ، ولا تكون حالاً من المفعولِ؛ إذ لا ضمير فيها يَعُودُ إليه .
ويُقْرأ « نَرْفَعُ » بنون العَظَمَةِ ، وبياء الغَيْبَةِ ، وكذلك « نَشَاء » وقرأ أهل الكُوفة : « دَرَجَاتٍ » بالتَّنْوين ، وكذلك التي في يوسف [ آية 76 ] والباقون بالإضافة فيهما ، فقرءاة الكوفيين يُحْتَمَلُ نَصْبُ « درجات » فيها من خمسة أوجه :
أحدها : أنها مَنْصُوبَةٌ على الظَّرْفِ ، و « مَنْ » مفعول « نرفع » ؛ أي : نرفع من نَشَاءُ مراتب ومنازل .
والثاني : أن يَنْتَصِبَ على انه مفعولٌ ثانِ قُدِّم على الأوَّلِ ، وذلك يحتاج إلى تَضْمين « نرفع » معنى فعل يتعدَّى لاثنين ، وهو « نُعطي » مثلاً ، أي : نعطي بالرفع من نشاءُ درجاتٍ ، أي : رُتَباً ، فالدَّرجاتُ هي المرفوعة لقوله : { رَفِيعُ الدرجات } [ غافر : 15 ] .
وفي الحديث : « اللَّهُمَّ ارفَعْ درَجَتَهُ في عِلِّيِّينَ » وإذا رُفَعت الدرجة فقد رُفِعَ صَاحِبُهَا .
والثالث : يَنْتَصِبُ على حَذْفِ حرف الجرِّ؛ أي : إلى منازل ، أو إلى درجات .
الرابع : أن يَنْتَصِبَ على التَّمييزِ ، ويكن مُحَوَّلاً مِنَ المَفْعُولِيَّةِ ، فتؤول إلى قراءة الجماعة؛ إذ الأصل : « نرفع درجاتِ من نشاءُ » بالإضافة ، ثُمَّ حُوِّلَ كقوله : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } [ القمر : 12 ] ، أي : عيون الأرض .
الخامس : أنها مُنْتَصِبَةٌ على الحالِ ، وذلك على حَذْفِ مُضَافٍ ، أي : ذوي درجات ، ويشهد لهذه القِراءةِ قوله تعالى : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الأنعام : 165 ] { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ } [ الزخرف : 32 ] { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى } [ البقرة : 253 ] .
وأما قراءة الجماعة : ف « درجات » مفعول « نرفع » .
فصل في معنى الدرجات
قيل : الدَّرَجَاتُ درجاتٌ رفيعة؛ لأنها تُوجِبُ الثَّوابَ العظيم .
وقيل : نرفع درجات من نَشَاءُ بالعلم والفَهْمِ والفضيلة والعقلن كما رفعنا درجات إبراهيم حتى اهْتَدَى . والخِطَابُ في « إنَّ ربَّكَ » للرَّسُولِ محمد عليه الصلاة والسلام .
وقيل : للخليل إبراهيم ، فلعى هذا يَكُونُ فيه التِفَاتٌ من الغيبة إلى الخطاب مُنَبِّهاً بذلك على تَشْرِيفٍ له وقوله : « حَكِيمٌ عليمٌ » ؛ اي : إنما نرفع درجاتٍ من نشاء بمقتضى الحكمة والعلم ، لا بموجب الشَّهْوَةِ والمُجَازفَةِ ، فإن أفعال الله - تعالى - مُنَزَّهَةٌ عن العَبَثِ .

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)

في « وهبنا » وجهان :
أصحهما : أنها مَعْطُوفةٌ على الجملة الاسمية من قوله : « وتِلْكَ حُجَّتُنَا » وعطف الاسْمِيَّة على الفعلية وعكسه جائز .
والثاني : أجازه ابن عطيَّة ، وهو أن يكون نَسَقاً علت « آتَيْنَاهَاط ورَدَّهُ أبُو حيَّان بأن » آتَيْنَاهَاط لها مَحَلٌّ من الإعراب ، إمَّا الحال ، وهذه لا مَحَلَّ لها؛ لأنها لو كانت مَعْطُوفَةً على الخَبَر أو الحال لاشترط فيها رابط ، و « كُلاً » مَنْصُوبٌ ب « هَدَيْنَا » بعده . والتقدير : وكلّ واحدٍ من هؤلاء المذكورين .
فصل في المراد بالهداية
اختلفوا في المُرادِ بهذه الهداية ، وكذا في قوله : { وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } وقوله في آخر الآيات { ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء } قال بعض المُحَقَّقين : المُرَادُ بهذه الهداية الثَّوابُ العظيم ، وهو الهداية إلى طريق الجنَّةِ؛ لقوله بعده { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } وجزاء المحسنين هو الثواب ، وأمَّا الإرشاد إلى الدين ، فلا يكون جَزَاءً على عَمَلِهِ .
وقيل : لا يَبْعُدُ أن يكون المُرَادُ الهدايةَ إلى الدِّينِ ، وإنما كان جَزاءً على الإحسان الصادر منهم؛ لأنهم اجْتَهَدُوا في طَلَبِ الحقِّ ، فاللَّهُ - تعالى - جَازَاهُمْ على حُسْنِ طلبهم بإيصالهم إلى الحقِّ ، كقوله { والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] .
وقيل : المُرَادُ بهذه الهداية الإرْشَادُ إلى النُّبُوَّةِ والرسالة؛ لأن الهداية المَخْصُوصَةَ بالأنبياء ليست إلاَّ ذلك .
فإن قيل : لو كان كذلك لكان قوله : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } يقتضي أن يكون الرِّسَالةُ جزاءً على عملٍ ، وذلك باطلٌ .
فالجوابُ أنَّ قوله : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } يحمل على الجزاءِ الذي هو الثَّوابُ ، فيزول الإشْكَالُ .
واعلم أنَّهُ - تعالى - لمَّا حَكى عن إبراهيم أنه أظْهَرَ حُجَّةَ اللَّهِ في التوحيد ، وذَبَّ عنها عدَّدَ وجوه نعمِهِ وإحْسانِهِ إلَيْهِ .
فأوّلها : قوله : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ } [ الأنعام : 83 ] أي : نحن آتَيْنَاهُ تلك الحُجَّةَ ، وهديناه إليها ، وأفَقْنَا عَقْلَهُ على حقيقتها ، وذكر نَفْسَهُ باللفظ الدَّالِّ على العظمةِ [ وذلك يوجب ] أن تكون تلك النعمة عظيمة .
وثانيها : أنه - تعالى - خَصَّهُ بالرِّفْعَةِ إلى الدَّرجاتِ العالية ، وهو قوله : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } [ الأنعام : 83 ] .
وثالثها : أنه - تعالى - جَعَلهُ عَزيزاً في الدُّنْيَا؛ لأنه جُعِلَ للأنبياء والداً ، والرُّسُلُ من نَسْلِهِ ومن ذُرَّيَّتِهِ ، وأبقى هذه الكَرَامَةَ في نَسْلِهِ إلى يوم القيامةِ فقال : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ } لِصُلْبِهِ و « يَعْقُوبَ » بعده من إسحاق .
فإن قيل : لِمَ يذكر إسماعيل - عليه الصَّلاة والسَّلام- مع إسحاق ، بل أخَّرَ ذِكْرَهُ [ عنه ] بدرَجَاتٍ؟
فالجوابُ : أن المقصود بالذِّكْرِ هاهنا أنبياء بين إٍسرائيل ، وهم بِأسْرِهِمْ أولاد إسحاق .
وأمَّا إسماعيلُ فإنه لم يخرج من صُلْبِهِ نَبِيُّ إلاَّ محمدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام ، [ ولا يجوز ذكر محمد - عليه الصلاة والسلام- في هذا المقام؛ لأنه تعالى أمر محمداً ] أن يحتجَّ على العربِ في نفي الشِّرْكِ باللَّهِ بأنَّ إبراهيم لمَّا تركَ الشرك وأصَرَّ على التَّوحيدِ رَزَقَهُ اللَّهُ النِّعَمَ العظيمة في الدنيا بأن آتاه أوْلاداً كانوا أنبياء ومُلُوكاً ، فإذا كان المحتج بهذه الحُجَّةِ هو محمد - عليه الصَّلاة والسَّلامُ- امتنع أن يذكر في هذا المعرض .

فلهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحاق .
قوله : { وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْل } فالمُرَادُ أنَّهُ - تعالى - جعل إبراهيم في أشْرَفِ الأنْسَابِ؛ لأنه رَزَقَهُ أوْلاداً مثل إسحاق ويعقوب ، وجعل أنبياء بني إسرائيل من نَسْلِهِمَا ، وأخرجه من أصْلابِ آباءِ طَاهِرينَ مثل « نوح » و « شيث » و « إدريس » ، والمقصود بيانُ كرامَةِ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام- بحسب الأولاد والآباء .
قوله : « من ذُرِّيتِهِ » « الهاء » فيها وجهان :
أحدهما : أنها تعود على نُوح؛ لأنه أقْرَبُ مذكور ، ت ولأنَّ إبراهيم ومن بعده من الأنبياء كلهم مَنْسُوبُون إليه ، [ ولأنه ذّكر من جملتهم لُوطاً ، وهو كان ابن أخي إبراهيم أو أخته ، ذكره مَكِّي وغيره ، وما كان من ذُرِّيَّتِهِ ، بل كان من ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عليه السلام ، وكان رسولاً في زمن إبراهيم .
وأيضاً : يونس- عليه الصَّلاة والسَّلام- ما كان من ذُرِّيَّةِ إبراهيم .
وأيضاً قيل : إنَّ ولد الإنسان لا يُقالُ : إنَّهُ ذُرِّيَّةٌ ، فعلى هذا إسماعيل- عليه الصلاة والسلام - ما كان من ذُرِّيَّةِ إبراهيم ] .
الوجه الثاني : أنها تعود على إبراهيم؛ لأنه المحدث عنه والقِصَّةٌ مَسُوقَةٌ إلى ذكره وخبره ، وإنما ذكر نوحاً ، لأن إبراهيم كونه من أولاده أحد موجبات رَفْعِهِ إبراهيم .
ولكن رُدَّ هذا القَوْلُ بما تقدَّم من كون لوط ليس من ذُرِّيَّتِهِ إنما هو ابن أخيه أو أخته ذكر ذلك مكي وغيره .
وقد أجيب عن ذلكن فقال ابن عباس : هؤلاء الأنبياء كلهم مُضَافُونَ إلى ذُرِّيَّةِ إبراهيم ، وإن كان فيهم من لم يلحقه بولادةٍ من قبلِ أمِّ ولا أبٍ؛ لأن لُوطاً ابن أخي إبراهيم ، والعربُ تجعلُ العَمَّ أباً ، كما أخبر اللَّهُ - تعالى - عن ولدِ « يعقوب » أنهم قالوا : { نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ]
وقال أبو سليمان الدِّمَشْقِيُّ : « ووهَبْنَا لَهُ لُوطاً » في المُعَاضَدةِ والمُناصَرَةِ ، فعلى هذا يكون « لوطاً » منصوباً ب « وَهْبَنَأ » من غير قَيْدٍ؛ لكونه من ذُرِّيَّتِهِ .
وقوله : « داود » وما عطف عليه مَنْصُوبٌ إما بفعل الهِبَةِ ، وإما بفعل الهداية .
و « مِنْ ذُرِّيَّتِهِ » يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أنه متعلّق بذلك الفعل المحذوف ، وتكون « مِنْ » لابتداء الغاية .
والثاني : أنها حال أي : حال كون هؤلاء الأنبياء مَنْسُوبِينَ إليه .
قوله : « وكذَلِكَ نَجْزِي » الكاف في مَحَلِّ نَصْبٍ نعتاً لمصدر محذوف ، أي : نجزيهم جَزَاءً مِنْلَ ذلك الجَزَاء ، ويجوز أن يكون في مَحَلِّ في رفع ، أي الأمر كذلك ، وقد تقدَّم ذلك في قوله : « وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ » .

ومعنى « كذلك » أي : كما جزينا إبراهيم على تَوْحِيدِهِ بأن رفعنا درجته ، ووهبنا له أولاداً أنبياء أتْقِيَاءَ ، كذلك نجزي المحسنين على إحسانهم .
فصل في بيان نسب بعض الأنبياء
« داود » ابن إيشا .
و « سليمان » هو ابنه .
و « أيوب » ابن موص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم .
و « يوسف » إبن يَعْقُوبَ بن إسحاق بن إبراهيم .
و « موسى » ابن عمان بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب .
و « هارون » أخو موسى أكبر منه بِسَنَةٍ ، وليس ذكرهم على ترتيب أزمانهم .
واعلم أنه - تعالى - ذكر أوَّلاً أربعة من الأنبياء ، وهم : « نوح » و « إبراهيم » و « إسحاق » و « يعقوب » ، ثم ذكر من ذُرِّيَّتِهِمْ أربعة عشر من الأنبياء : « داود » و « سليمان » و « أيُّوب » ، و « يوسف » ، و « موسى » ، و « هارون » و « زكريا » ، و « يحيى » ، و « عيسى » ، و « إلياس » ، و « إسماعيل » ، و « إليسع » ، و « يونس » ، و « لوطاً » .
فإن قيل : رعاية التَّرْتِيبِ وَاجِبَة ، والترتيب إمّا أن يعتبر بحسب الفَصْلِ والدرجة ، وإما أن يعتبر حسبِ الزمان ، والترتيب بحسب هذين النوعين غير معتبر هنا فما السَّبَبُ فيه؟
فالجوابُ أن « الواو » لا توجب التَّرْتِيبَ ، وهذه الآية أحَدُ الدلائل على صِحَّةِ هذا المطلوب .
قوله : « وزكريا » وهو ابن إدّ وبرخيَّا و « يحيى » هو ابنه و « عيسى » هو ابن مريم ابنة عمران .
واسْتُدِلَّ بهذه الآية على أن الحسنَ والحُسيْنَ من ذُرِّيَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الله- تعالى- جعل عيسى من ذُرِّيَّة إبراهيم ، وهو لا ينسب إلى إبراهيم إلاَّ بالأمِّ ، فكذلك الحَسَنُ والحُسيْنُ ويقال : إن أبا جعفر البَاقِرَ اسْتَدلَّ بهذه الآية عند الحَجَّاجِ بن يوسف الثقفي .
فصل فيما يستفاد من الآية
قال أبو حنيفة والشافعي : من وقف على ولده وولد ولده دخل فيه أولاد بَنَاتِهِ أيضاً ما تَنَاسَلُوا ، وكذلك في الوَصيَّةِ للقَرَاباتِ يدخل فيه ولد البنات ، والقرابةُ عند أبي حنيفةَ كلُّ رَحِمٍ مَحْرَمٍ ، ويسقط عند ابن العَمِّ وابن العمة وابن الخال وابن الخالة؛ لأنهم ليسوا بمِحْرَمِينَ .
وقال الشافعي رحمه الله تعالى : القَرَابَةُ كُلُّ ذي رَحمٍ مَحْرَمٍ وغيره ، فلم يسقط عنده ابن العم وقال مالك : لا يدخل في ذلك ولدُ البنات .
وإذا قال : لقرابتي وعقبي فهو كقوله : لولدي وولد ولدي .

قوله : « وإلياس » قال ابن مسعود : هو إدريس وله اسمان مثل « يعقوب » و « إسرائيل » ، والصحيح أنه غيره؛ لأن - تعالى- ذكرهُ في ولد نوح ، وإدريس جد أبي نوح ، وهذا إلياس بن يسي بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران « كُلُّ مِنَ الصَّالحينَ » .
وقوله : « وإسماعيل » هو ابن إبراهيم .
و « إليسع » [ وهو ابن أخطوب بن العجوز ] .
قرأ الجمهور « اليَسَعَ » بلام واحدة وفتح الياء بعدها .
وقرأ الأخوان : اللَّيْسَع بلام مشددة وياء ساكنة بعدها ، فقراءة الجمهور فيها تأويلان :
أحدهما : أنه منقُولٌ من فعل مضارع ، والأصل : « يَوْسَع » ك « يَوْعِد » ، فَوقَعَتِ الواو بين ياء وكسرة تقديرية؛ لأن الفَتْحَةَ جيء بها لأجْلِ حرف الحَلْقِ ، فحُذِفَتْ لحذفها في « يضع » و « يدع » و « يهب » وبابه ، ثم سمي به مُجَرَّداً عن ضمير ، وزيدت فيه الألف واللام على حَدِّ زيادتها في قوله : [ الطويل ]
2228- رأيْتُ الوَلِيدَ بْنَ اليَزِيدِ مُبَارَكاً ... شَدِيداً بِأعْبَاءِ الخِلافَةِ كَاهِلُهُ
وكقوله : [ الرجز ]
2229- بَاعَدَ أمَّ العَمْرِ مِنْ أسِيرِهَا ... حُرَّاسُ أبْوابٍ عَلَى قُصُورِهَا
وقيل الألف واللام فيه للتعريف كأنّه قدَّر تنكيره .
والثاني : أنه اسم أعْجَمِيُّ لا اشتقاق له؛ لأن « اليسع » يقال : إنه يوشع بن نون فَتَى موسى ، فالألف واللام فيه زائدتان ، أو معرفتان كما تقدم .
وهل « أل » لازمة له على تقدير زيادتها؟
فقال الفَارِسيُّ : إنها لازِمَةٌ شُذُوذاً ، كلزومها في « الآن » .
وقال مالك : « ما قَارَنتِ الأدَاةُ نَقْلَهُ كالنَّضْرِ والنُّعْمضانِ ، أو ارتِجَالَهُ كاليسع والسموءل ، فإنَّ الأغْلَبَ ثُبُوتُ أل فيه وقد تحذف » .
وأما قراءة الأخوين ، فأصله لَيْسَع ، ك « ضَيْغَم وصَيْرَف » وهو اسم أعْجَمِيُّ ، ودخول الألف واللام فيه على الوَجْهَيْنِ المتقدمين .
واختار أبو عبيدة قراءة التخفيف ، فقال : « سمعنا هذا الشيء في جميع الأحاديث : اليسع ولم يُسَمِّهِ أحدٌ منهم الَّيْسع » ، وهذا حُجَّةَ فيه؛ لأنه روى اللفظ بأحد لُغَتَيْه ، وإنما آثَرَ هذه اللفظة لِخِفَّتِهَا لا لعدم صِحَّةِ الأخرى .
وقال الفراء في قراءة التشديد : « هي أشبهُ بأسماء العجمِ » .
قوله « يونس » ك هو يونس بن متى ، وقد تقم أن فيه ثلاث لغات [ النساء : 163 ] وكذلك في سين « يُوسف » وقوله : « ولوطاً » وهو لوط بن هارون ابن أخي إبراهيم .
قوله : « وكلاَّ فَضَّلْنَا » كقوله : « كُلاَّ هَدَيْنَا » .
قوله : « عَلَى العَالَمِينَ » اسْتَدَلُّوا بهذه الآية على أن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن « العالم » اسم لكل موجود سوى الله - تعالى - فيدخل فيه الملائكة . وقال بعضهم : معناه فَضَّلْنَاهُمْ على عالمي زمانهم .

قوله : « ومِنْ آبائِهِمْ » « آبائهم » : فيه وجهان :
أحدهما : أنه مُتعلِّقٌ بذلك الفعل المقدر ، أي : وهدينا من آبائهم ، أو فضَّلنا من آبائهم ، و « مِنْ » تَبْعِيضيَّةٌ قال بان عطية : « وهَدَيْنَا مِنْ آبَائِهِمْ وذرِّيَّاتهم وإخوانهم جماعات » ، ف « مِنْ » للتبعيض ، والمفعول محذوف .
الثاني : أنه معطوف على « كُلاًّ » ، أي : وفضَّلنا بعض آبائهم .
وقدَّر أبو البقاء هذا الوجه بقوله : « وفضلنا كلاًّ من آبائهم ، وهدينا كُلاًّ من آبائهم » . وإذا كان للتَّبْعِيضِ دلَّت على أن آباء بعضهم كانوا مشركين .
وقوله : « وذُرِّيَّاتهم » ، أي : وذرِّيَّة بعضهم ، لأن « عيسى » و « يحيى » لم يكن لهما وَلَدٌ ، وكان في ذرية بعضهم من كان كَافِراً .
وقوله : « وإخوانهم » و « اجْتَبَيْنَاهُمْ » يجوز أن يعطف على « فضَّلنا » ، ويجوز أن يكون مُسْتأنفاً وكرر لفظ الهداية توكيداً ، ولأن الهِدايةَ أصْلُ كل خير ، والمعنى : اصْطَفَيْنَاهُمْ ، وأرشدناهم إلى صراط مستقيم .
قوله : « ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ » المشار إليه هو المَصْدَرُ المفهوم من الفعل قبله؛ إما الاجْتِبَاءُ ، وإما الهداية؛ أي : ذلك الاجتباء هو هُدَى ، أو ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم هدى الله ، ويجوز أن يكون « هدى الله » خبراً ، وأن يكون بدلاً من « ذلكط والخبر » يهدي به « ، وعلى الأول » يهدي « حالاً ، والعامل فيه اسم الإشارة ويجوز أن يكون خبراً ثانياً ، و » مِنْ عِبَادِهِط تَبْيِينٌ أو حال؛ إما مِنْ « مَنْ » وإما من عَائِدِهِ المحذوف .
فصل في تحرير معنى الهداية
يجوز أن يكون المراد من هذه الهداية معرفة الله - تعالى- وتَنْزِيههُ عن الشرك؛ لقوله تعالى بعده : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وإذا ثبت ذلك ثَبَتَ أن الإيمان لا يَحْصُلُ إلاَّ بِخَلْقِ الله تعالى .

أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)

{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } أي : الكتب المُنَزَّلة عليهم ، و « الحكم » يعني العلم والفِقْهَ ، و « النبوة » . والإشارة ب « أولئك » إلى الأنبياء الثمانية عشر المذكورين ، ويحتمل أن يكون المراد ب « آتيناهم الكتاب » أيك الفَهْمَ التَّامَّ لما في الكتاب ، والإحاطة بحقائقه ، وهذا هو الأولى؛ لأن الثمانية عشر لم ينزل على كل واحد منهم كتاباً إلهياً على التعيين .
قوله { فإنْ يَكْفُرْ بِهَا } هذه « الهاء » تعود على الثلاثة الأشياء ، وهي : الكتاب والحكم والنبوة ، وهو قول الزمخشري .
وقيلك يعود على « النبوة » فقط ، لأنها أقرب مذكور ، والباء في قوله : « لَيْسُوا بِهَا » مُتعَلِّقَةٌ بخير « ليس » ، وقدم على عاملها ، والباء في « بكافرين » زائدة توكيداً .
فصل في معنى الآية
معنى قوله : « يَكْفُرْ بِهَا هَؤلاءِ » يعني أهل « مَكة » { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِين } ؛ قال ابن عباس : المراد بالقَوْمِ الأنْصَارُ ، وأهل « المدينة » ، وهو قول مجاهد .
وقال قَتَادَةُ والحسن : يعني الأنبياء الثمانية عشر .
قال الزجاج : ويدلُّ عليه قوله بعد هذه الآية : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } .
وقال أبو رَجَاءٍ العطاردي فإن يكفر بها أهل الأرض ، فقد وكلَّنا بها أهل السماء ، يعني الملائكة ، وهو بعيد؛ لأن اسم القوم كُلُّ ما يقع على غير بني آدم .
وقال مجاهد : هم الفرس .
وقال ابن زيد : كل من لم يكفر ، فهو منهم ، سَوَاءً كان ملكاً ، أو نبيَّا ، أو من الصحابة ، أو من التابعين .
قوله : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ } « أولئك » مفعول مُقدَّمٌ ل « هدى الله » ويَضْعُفُ جعله مبتدأ على حذف العائد ، أي : هداهم الله كقوله : { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } [ المائدة ] برفع « حُكْمُ » [ والإشارة ب « أولئك » إلى الأنبياء المتقدم ذكرهم ] .
قوله : « فَبِهُدَاهِمُ أقْتَدِه » قرا الأخوان بحذف الهاء في الوَصْلِ والباقون أثبتوها وَصْلاً وَوَقْفاً ، إلا أن ابن عامر بكسرها ، ونقل ابن ذكوان عنه وجهين :
أحدهما : الكَسْر من غير وَصْلٍ بمدة ، والباقون بسكونها . أما في الوقف فإن القراء اتَّفَقُوا على إثباتها سَاكِنةً واختلفوا في « مَالِيَه » و « سُلْطَانِيَه » في « الحاقَّة » وفي « مَاهِيَهْ » في « القارعة » بالنسبة إلى الحذف والإثبات ، واتفقوا على إثباتها في « كِتَابِيَهْ » و « حِسَابِيِهْ » فأما قراءة الأخوين ، فالهاء عندهما للسَّكْتِ ، فلذلك حَذَفَاهَا وصْلاً؛ إذ محلها الوَقْفُ ، وأثبتاها وفقاً إتْبَاعاً لِرَسْمِ المصحفن وأما من أثبتها ساكنة ، فيحتمل عنده وجهين :
أحدهما : هي هاء سَكْتٍ ، ولكنها ثبت وَصْلاً إجْرَاءً للوصْلِ مجرى الوَقْفِ ، كقوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر } [ البقرة : 259 ] في أحد الأقوال كما تقدم .

والثاني : أنها ضمير المصدر سُكِّنَتْ وَصْلاً إجْرَاءً للوَصْلِ مجرى الوَقْفِ ، نحو : { نُؤْتِهِ } [ آل عمران : 145 ] { فَأَلْقِهْ } [ النمل : 28 ] و { أَرْجِهْ } [ الأعراف : 111 ] ، { نُوَلِّهِ } [ النساء : 115 ] { وَنُصْلِهِ } [ النساء : 115 ] .
واختلف في المصدر الذي تعُودُ عليه هذه « الهاء » ، فقيل : الهدى ، أي اقتدى الهدى ، والمعنى اقْتداء الهدى ، ويجوز أن يكون الهدى مفعولاً لأجله؛ أي : فبهداهم اقتد لأجل الهدى .
وقيل : الاقتداء؛ أي : اقتد الاقتداء ، ومن إضمار المصدر قول الشاعر : [ البسيط ]
2230- هَذَا سُرَاقَةُ لِلْقُرآنِ يَدْرُسُهُ ... والمَرْءُ عِنْدَ الرُّشَا إنْ يَلْقَها ذِيبُ
أي : يَدْرُسُ الدَّرْسَ ، ولا يجوز أن يتكون « الهاء » ضمير القرآن؛ لأن الفعل قد تعدَّى له ، وإنما زيدت « اللام » تَقْوِيَةً له ، حيث تقدَّم معموله ، وكذلك جعل النُّحَاةُ نَصْب « زيداً » من « زيداً ضَرَبْتُهُ » بفعل مُقدَّرٍ ، خلافاً للفراء .
قال ابن الأنْبَارِيّ : « إنها ضمير المصدر المؤكد النائب عن الفعل ، وإن الأصل : اقتد اقتد ، ثم جعل المَصْدَرُ بَدَلاً من الفعل الثاني ، ثم أضْمِرَ فاتَّصَلَ بالأول » .
وأما قراءة ابن عامر فالظَّاهِرُ فيها أنها ضمير ، وحُرِّكَتْ بالكَسْرِ من غير وَصْلٍ وهو الذي يسميه القُرَّاء الاخْتِلاَس تَارَةً ، وبالصلة وهو المُسَمَّى إشْبَاعاً أخرى كمنا قرئ : { أَرْجِهْ } [ الأعراف : 111 ] ونحوه .
وإذا تقرَّرَ هذا فقول ابن مُجَاهِدٍ عن ابن عامر « يُشِمُّ » الهاء من غير بُلُوغِ ياء « وهذا غلط؛ لأن هذه » الهاء « هاء وَقْفٍ لا تعرب في حالٍ من الأحوال ، أي : لا تحرك وإنما تدخل ليتبيَّنَ بها حركةُ ما قبلها ليس بِجَيِّدٍ لما تقرر من أنها ضَمِيرُ المَصْدَرِ ، وقد رَدَّ الفَارِسيُّ قول ابن مجاهد بما تقدم .
والوجه الثاني : أنها هاء سَكْتٍ أجْرِيَتْ مُجْرَى الضمير ، كما أجريت هاء الضمير مُجْرَاهَا في السكُونِ ، وهذا ليس بِجَيِّدٍ ، ويروى قول المتنبي : [ البسيط ]
2231- واحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ ..
بضم » الهاء « وكسرها على أنها » هاء « السَّكْتِ ، شُبِّهَتْ بهاء الضمير فحركت ، والأحسن أن تجعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبهها بالضمير؛ لأن » هاء « الضمير لا تكسر بعد الألف ، فكيف بما يشبهها؟
والاقتداءُ في الأصْلِ طَلَبُ المُواقَقَةِ قاله اللَّيْث . ويقال : قدوة وقدو وأصله من القدو وهو أصل البِنَاءِ الذي يتشعب منه تصريف الاقتِدَاءُ .
قال الواحِديُّ : الاقتِدَاءُ في اللغة : الإتيان بِمِثْلِ فِعْل الأول لأجل أنه فعله و » بِهُداهِمِ « متعلق ب » اقْتَدِهْ « . وجعل الزمخشري تقديمه مُفيداً للاختصاص على قاعدته .
فصل فيما يقتدى بهم فيه
هذا خِطَابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم واختلفوا في الشيء الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم فيه .
فقيل : المُرَادُ أن يَقْتَدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه ، وهو التوحيد والتَّنْزِيه عن كُلِّ ما لا يَلِيقُ بالباري سبحانه وتعالى في الذَّاتِ والصِّفاتِ والأفْعَالِ .
وقيل : المارد الاقْتِدَاءُ بهم في شَرَائِعِهمْ إلا ما خَصَّهُ الدليل على هذا ، فالآية دَلِيلٌ على أن شَرْعَ من قبلنا يلزمنا وقيل : المراد به إقَامَةُ الدلالة على إبْطَالِ الشِّرْكِ ، وإقامة التوحيد؛ لأنه ختم الآية بقوله :

{ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 ] ثم أكد إصْرَارَهُمْ على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله : { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } ثم قال : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } أي : اقْتَدِ بهم في نَفْيِ الشرك ، وإثبات التوحيد ، وتَحَمُّلِ سَفَاهَاتِ الجُهَّال .
وقال آخرون : اللفظ مُطْلَقٌ فيحمل على الكل إلاَّ ما خَصَّهُ الدَّليل المُنْفَصِلُ .
قال القاضي يبعد حَمْلُ هذه الآية على أمْرٍ الرَّسُولِ بِمُتَابَعَةِ الأنبياء المُتقدِّمين في شَرَائِعِهمْ لوجوه :
أحدهما أن شرائعهم مختلفة مُتناقِضَةٌ فلا يَصِحُّ مع تَنَاقُضِهَا أن يكون بالاقْتِدَاءِ بهم في تلك الأحْكَامِ المُتناقِضَةِ .
وثانيها : أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العملِ ، وإذا ثبت هذا ، فنقولُ : دليل ثباتِ شَرْعِهِمْ كان مخصوصاً بتلك الأوْقَاتِ فقط ، فكيف يُسْتَدَلُّ بذلك على اتِّبَاعِهِمْ في شرائعهم في كل الأوقات .
وثالثها : أن كونه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مُتَّبعاً لهم في شرائعهم يوجب أن يكون مَنْصِبُهُ أقَلَّ من مَنْصِبِهِمْ ، وذلك بَاطِلٌ بالإجماع ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حَمْلُ الآية على وُجُوبِ الاقْتِداءِ بهم في شَرَائِعِهمْ .
والجواب عن الأول ، أن قوله : « فَبُهَداهمُ اقْتَدِه » يتناول الكل فأما ما ذكرتم من كون بعض تلك الأحْكَامِ مُتَنَاقِضَةً بحسب شرائعهم ، فنقول : العام يجب تخصيصه في هذه الصُّورة ، ويقى فيما عداها حُجَّة .
وعن الثاني : أنه - عليه الصلاة والسلام- لو كان مأموراً بأن يَسْتَدِلَّ بالدليل الذي اسْتَدَلَّ به الأنبياءُ المتقدِّمُون لم يكن ذلك مُتَابَعَةً؛ لأن المسلمين لما اسْتَدَلُّوا بحدوث العالم على وجود الصانع لايقال : إنهم مُتَّبِعُونَ لليهود والنَّصارى في هذا الباب؛ لأن المستدلَّ بالدليل يكون أصلاً في ذلك الحكم ، ولا تعلُّ له بمن قبله ألْبَتَّةَ ، والاقتداء والاتِّبَاعُ لا يحصل إلا إذا كان فعل الأوَّل سَبَباً لوجوب الفِعْلِ عن الثاني .
وعن الثالث : أنه أمر الرَّسُولَ بالاقْتِدَاءِ بجميعهم في جميع الصِّفَاتِ الحميدة ، والأخلاق الشريفة ، وذلك لا يوجب كونه أقَلَّ مرتبة من الكُلِّ على ما يأتي في الفَصْلِ الذي بعده .
فصل في أفضلية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
احْتَجَّ العملاء بهذه الآية على أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلام؛ لأن خِصَالَ الكمالِ وصفاتِ الشَّرفِ كانت مفرّقة فيهم ف « داود » و « سليمان » كانا من أصاحب الشكر على النعمة ، و « أيُّوب » كان من أصحاب الصَّبْرِ على البلاءِ ، و « يوسف » كان جَامِعاً لِهَاتيْنِ الحالتين ، و « موسى » عليه الصلاة والسلام كان صاحب الشرعيةِ القويَّةِ القاهرة ، والمعجزات الظاهرة و « زكريا » و « يحيى » و « عيسى » و « إلياس » كانوا أصحاب الزُّهْدِ ، و « إسماعيل » كان صاحب الصِّدْق و « يونس » كان صاحب التَّضَرُّعِ .

وثبت أنه - تعالى - إنما ذكر كُلُّ واحد من هؤلاء الأنبياء؛ لأن الغالب عليه خَصْلةٌ مُعيَّنةٌ من خِصال المَدْح والشرف ، ثم إنه تعالى لما ذكر الكلّ أمر محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام- بأن يقتدي بهم بأسْرِهمْ ، فكان التقدير كأنه - تعالى - أمر محمداً أن يجمع من خِصالِ العُبُوديَّة والطاعة كُل الصفات التي كانت مُتفرِّقَةً فيهم بأجمعهم ، ولما أمره الله- تبارك وتعالى - بذلك امْتَنَعَ أن يقال : إنه قَصَّر في تحصيلهم ، فثبت أنه حَصَّلَهَا ، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يقال : إنه أفْضَلُهُمْ بكليتهم .
قوله : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } لما أمره الاقتداء بهدى الأنبياء المتقدمين ، وكان من جُمْلَةِ هدايتِهِمْ تَرْكُ طلب الأجْرِ في إيصال الدين ، وإبلاغ الشريعة لا جَرَم اقتدى بهم في ذلك فقال : « قُلْ لا أسْألُكُمْ عليْهِ أجْراً » [ و « الهاء » في « عليه » ] تعود على القرآن والتبليغ أضمرا وإن لم يَجْرِ لهما ذِكْرٌ لدلالة السِّياق عليهما ، و « أن » نافية ولا عمل لها على المَشْهُور ، ولو كانت عَامِلةً لبطل عملها ب « إلاَّ » في قوله : « إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرَى » أن يذكره ويعظه . « وللعالمين » متعلق ب « ذكرى » و « اللام » معدية أي : إن القرآن العظيم إلاَّ تذكير للعالمين ، ويجوز أن تكون متعلِّقَةً بمحذوف على أنها صِفَةٌ للذِّكْرَى ، وهذه الآية تَدُلُّ على أنه صلى الله عليه وسلم مَبْعُوثٌ إلى كل أهْلِ الدنيا لا إلى قَوْمِ دون قَوْمٍ .

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

قوله : وما قدروا الله حق قدره الآية الكريمة .
اعلم أن مَدَارَ القرآن على إثْبَاتِ التوحيد والنُّبُوَّةِ ، فالله - تعالى - لما حَكَى عن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام- أنه أثْبَتَ دليل [ التوحيد ، ] وإبطال الشرك ذَكَرَ بعده تَقْرِيرَ أمر النبوة ، فقال : « وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ » حين انركوا النُّبُوَّةَ والرسالة ، فهذا بيان وَجْهِ النَّظْمِ . « حَقّ قَدْرهِ » منصوب على المَصْدَرِ ، وهو في الأصل صِفَةٌ للمصدر ، فلما أضيف الوصف إلى موصوفه انْتَصَبَ على مَا كَانَ يَنْتَصِبٌ عليه مَوْصُوفُهُ ، والأصل قدره الحقّ كقولهم : « جَرْد قَطِيفَة وسحق عمامة » .
وقرأ الحسنُ البَصْرِيُّ « ، وعيسى الثقفي : » قَدَّروا « بتشديد الدَّال » قدَره « بتحريكها ، وقد تقدَّم أنهما لُغَتَانِ . قوله : » إذْ قَالُوا « مَنْصُوبٌ ب » قدروا « ، وجعله ابن عطية منصوباً ب » قدره « [ وقي كلام ابن عطية ما يشعر بأنها ] للتعليل ، و » من شيء « مفعول به زيدت فيه » من « لوجود شَرْطَي الزيادة .
فصل في معنى الآية
قال ابن عبَّاسٍ : ما عَظَّمُوا الله حقَّ تعظيمه .
وروي عنه أيضاً أنه قلا : معناه ما آمنوا أن الله على كُلِّ شيء قدير .
وقال أبو العَالِيَةِ : ما وصفوا الله حقَّ صِفَتِهِ .
وقال الأخْفَشُ : ما عرفوه حَقَّ معرفته ، وحقَّق الواحدي رحمه الله - تعالى - فقال : قَدَرَ الشَّيءَ إذا سَبَرَهُ وحَرَّرَهُ ، وأراج ان يعمل مقداره يقدره بالضمير قدراً ، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : » إن غُمَّ عليْكُمْ فاقْدرُوا لَهُ « أيك فاطلبوا أن تَعْرِفُوهُ هذا أصله في اللغة ، ثم يقال لمن عرف شَيْئاً : هو يَقْدِرُ قَدْرَهُ ، وإن لم يعرفه بِصِفَاتِهِ : إنه لا يقدر قَدْرَهُ ، فقوله : » ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ « صحيح في كُلِّ المعاني المذكورة ولما حكى عنهم أنهم ما قَدَرُوا اللَّه حَقَّ قدره بيَّن السَّبَبَ فيه ، وهو قولهم : { مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } .
واعلم أن كُلَّ من أنكر النُّبُوَّةَ والرِّسَالَة فهو في الحقيقة ما عرف الله حَقَّ مَعْرِفَتِهِ ، وتقديره من وُجُوهٍ :
الأول : أن مُنْكِرَ البعث والرسالة إما أن يقول : إنه - تبارك وتعالى- ما كَلَّفَ أحداً من الخَلْقِ [ تكليفاً أصلاً ] أو يقول : إنه - تبارك وتعالى - كَلَّفَهُمْ ، والأول باطل؛ لأن ذلك يقتضي أنه - تبارك وتعالى- أبَاحَ لهم جَمِيعَ المُنْكَراتِ والقبائح ، نحو [ شَتْم ] الله وَوَصْفه بما لا يليق به والاسْتِخْفَاف بالأنبياء- عليهم الصَّلاة والسَّلام- والرسل ، والإعراض عن شُكْرِ الله - تعالى - ومُقَابَلَة الإنْعَام بالإساءة ، وكل ذلك باطل .
وإن سلم أنه - تعالى- كَلَّفَ الخَلْقَ بالأمر [ والنهي فهاهنا لا بُدَّ ] من مُبَلِّغٍ وشارع مُبَيِّنٍ ، وما ذلك إلاَّ للرَّسُولِ .

فإن قيل لم لا يجوز أن يُقَالَ : العقل كافٍ في إيجاب الموجبات ، واجتناب المقبحات؟
فالجواب : هَبْ أن الأمر كما قلتم إلا أنه لا يمتنع تأكيدُ التعريف العَقْلِيّ بالتعريفات المشروعة على ألْسِنَةِ الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام- فصبتَ أن كل من مَنَعَ من البعثة والرسالة ، فقد طَعَنَ في حكمة الله - تعالى - وكان ذلك جَهْلاً بصفة الإلهية ، وحينئذ يَصْدُقُ في حقه قوله تبارك وتعالى : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ } .
والوجه الثاني في تقرير هذا المعنى : أن من الناس من يقول : إنه يمتنع بعثة الأنبياء والرسل عليهم الصَّلاة والسلام؛ لأن يمتنع [ إظهار ] المعجزة على وَفْقِ دَعْوَاهُ تصديقاً له ، والقائلون بهذا القول لهم مَقَامات .
أحدها : أن يقولوا : إنه ليس في الإمْكَانِ خَرْقُ العادات ، ولا إيجاد شيء على خلاف ما جَرَتْ به العَادَةُ .
والثاني : يسلمون إمكان ذلك ، إلاَّ أنهم يَقُولُونَ : إن بتقدير حُصُولِ هذه الأفعلاِ الخَارِقَةِ للعَادَاتِ ، فلا دلالة لها على صِدْقه من الرسالة ، وكلا القولين يوجب القَدْحَ في كمالِ قُدْرةِ الله - تعالى- .
أما الأوَّل وهو أنه ثبت أن الأجْسامَ مُتَمَاثِلَةٌ ، وثبت أن ما يحتمله الشيء وجب أن يحتمل مثله ، وإذا كان كذلك كان جِسْمُ القَمَرِ والشمس قَابِلاً لِلتَّمَزُّقِ والتَّفَرُّقِ ، فإن قلنا : إن الإله غير قادر عليه كان ذلك وَصْفاً له بالعَجْزِ ، ونُقْصانِ القُدْرةِ ، وحينئذ يصدق في حق هذا القائل أنه ما قدر اللَّهَ حقَّ قدره .
وإن قلنا : إنه - تعالى - قادر عليه ، وحنيئذ لا يمنع عَقْلاً انْشِقَاقُ القمر ، ولا حصول سائر المعجزات .
وأما المقام الثاني : وهو أن [ حدوث ] هذه الأفعال الخَارقة عند دَعْوَى مُدَّعِي النبة يَدُلُّ على صِدقِهِ ، فهذا أيضاً ظاهرٌ على ما قدر في كتب الأصولِ ، فثبت أن كُلِّ من أنكر مَكَانَ البعثة والرسالة ، فقد وصف الله تَبَارَكَ وتعالى بالعَجْزِ ونُقْصَانِ القدرة ، فكل من قال ذلك ، فهو ما قَدَرَ اللَّهَ حقَّ قَدْرِهِ .
والوجه الثالث : أنه لما ثبت حُدُوثُ العالم ، فنقول : حدوثه يَدُلُّ على أن إله العالم قَادِرٌ عليم حكيم ، وأن الخَلْقَ كلهم عَبِيدُهُ ، وهو مالكهم وملكهم على الإطلاق والملكُ المُطاع يجب أن يكون له أمر ونهي ، وتكليف على عِبادِهِ ، وأن يكون له وَعْدٌ على الطاعة ، ووعيدٌ على المعصية ، وذلك لا يتم ولا يكمل إلاَّ بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، فكل من أنكر ذلك فَقط طَعَنَ في كونه تعالى مَلِكاً مُطَاعاً ، ومن اعتقد ذلكن فهو ما قدر الله حَقَّ قدره .
فصل في بيان سبب النزول
في هذه الآية الكريمة [ بَحْثٌ ] صَعْبُ ، وهو أن يقال : هؤلاء الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا : { مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } إما أن يقال : إنهم كُفًّار قريشن أو يقال : إنهم أهْلُ الكتاب من اليهود والنصارى ، فإن كان الأول فكيف يمكن إبْطالُ قولهم بقوله : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى } وذلك أن كُفَّار قريش والبراهمة يُنْكِرُونَ رسالة محمد - عليه الصلاة والسلام- فكذلك يُنْكِرُون رسالةَ الأنْبِيَاء- عليهم الصلاة والسلام- فكيف يَحْسُنُ إيراد هذا الإلْزَامِ عليهم .

وإن كان قائل هذا القول من أهْلِ الكتاب فهو أيضاً مشكل؛ لأنهم لا يقولون هذا القَوْلَ ، وكيف يقولونه مَعَ أن مَذْهَبَهُمْ أن التوارة كِتَابٌ أنزله الله على مُوسَى ، والإنجيل كتابُ أنزله الله على عيسى - عليه الصلاة والسلام- وأيضاً فهذه السُّورة مَكِيَّةٌ ، والمُنَاظَرَةُ التي وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود والنَّصَارى كلها مَدَنيةٌ ، فكيف يمكن حَمْلُ هذه الآية الكريمة عليها ، فهذا تقدير الإشكال في هذه الآية .
واعلم أن النَّاسَ اختلفوا فيه على قولين ، والقول أن هذه الآية نزلت في حقِّ اليهود ، وهو المشهرو عند الجمهور .
وقال ابن عباسِ وسعيد بن جُبَيْرٍ : « إن مالك بن االصيف كان من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رَجُلاً سميناً فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » انْشدُكَ بالَّذِي أنْزَلَ التَّوارة على مُوسَى هَلْ تجد في التَّوْارةِ أن اللَّهَ يَبْغَضُ الحَبْرَ السَّمِينَن وأنْتَ الحَبْرُ السَّمِينُ وقدْ سَمِنْتَ مِنَ الأشْيَاءِ الَّتِي تُطْعِمُكَ اليَهُودُ « فضحك القوم فغضب [ مالك ] بن الصيف ثم التفت إلى عمر ، فقال : » مَا أنْزَل اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ « فقال له قومه : ويلك؟ ما هذا الذي بلغنا عنك ، [ ألَيْسَ ] أن الله أنزل التوارة على مُوسَى ، فَلِمَ قلت : ما أنزل الله على بشر من شيء؟ فقال مالك بن الصيف : إنه أغْضَبَنِي ، فقلت ذلك فقالوا له : وأنت إن غضبت تَقُولُ على الله غَيْرَ الحق ، فنزعوه عن رياستهم؛ وجعلوا مكانة كَعْبَ بْنَ الأشْرَفِ .
وقال السُّدِّيُّ : نزلت في فنحَاصِ بْنِ عازوراء وهو قائل هذه المَقالةِ .
قال ابن عباس : قالت اليهودك يا محمد أنزل الله عليك كتاباً؟ قال : » نَعَمْ « . قالوا : والله ما أنزل من السماء كتاباً ، فأنزل الله تبارك وتعالى » مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ « ؛ إذ قالوا : » مَا أنْزَل اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ « وفي سبب النزول سؤالات :
السؤال الأول : لَفْظُ الآية وإن كان مُطْلَقاً إلاَّ أنه يَتَقَيَّدُ بحسب العُرْفِ ألا ترى أن المرأة إذا أرادت أن تخرج [ من الدار ] فغضب الزَّوْجُ ، فقال : إن خرجت من الدار فأنْتِ طالق ، فإن كثيراً من الفهاء قالوا : اللفظ وإن كان مُطْلَقاً إلا أنه بِحَسبِ العُرْفِ يتَقَيَّدُ بتلك المرأة ، فكذا هاهنا فقوله : » مَا أنْزَل اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ « وإن كان مُطْلٌقاً بحسب أصْلِ اللغة إلاَّ أنه يتقيد بتلك الواقِعَةِ بحسب العُرْقِ ، فكان لقوله تعالى : { مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } في أنه يبغض الحَبْرَ السمين ، وإذا كان هذا المُطْلَق مَحْمُولاً لعى هذا المُقَيَّدِ لم يكن قله : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى } مبطلاً لكلامه .

السؤال الثاني : أن مالك بن الصيف كان مفتخراً بكونه يَهُوديَّا مُتَظَاهراً بذلك ، ومع هذا المَذْهَبِ لا يمكنه أن يقول : ما أنزل الله على بشر من شيء إلا على سبيل الغَضَبِ المُدْهِشِ للعقل ، أو على سبيل طغيان اللسان ، ومثل هذا الكلام لا يَلِيقُ بالله - تبارك وتعالى- إنزال القرآن الباقي على وجه [ الدهر ] في غبطاله .
والقول الثاني : أن القائل : ما أنزل الله على بشر من شيء من كُفَّار قريش ، وفيه سؤال : هو أن كُفَّراَ قريش كانوا ينكرون نُبُوَّةَ جميع الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام ، فكيف يمكنم إلزامهم بِنُبُوَّةِ موسى ، وأيضاً فما بعد هذه الآية لا يليق بكُفَّار قريش ، وإنما يليق باليهود ، وهو قلوله : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُم } وهذه الأحوال لا تليق إلا باليهود وهو قَوْلُ من يقول : إن أول الآية خِطَابٌ للكفار ، وآخرها خطاب مع اليهود ، وهذا فاسد ، لأنه يوحب تَفْكِيكَ نَظْمِ الآية ، وفساد تركيبها ، وذلك لا يليق بكلامنا ، فَضْلاً عن كلام ربِّ العالمين ، فهذا تقرير الإشكال على هذا القول .
أما السؤال الأول : فيمكن دَفْعُهُ بأن كُفَّار قريش كانوا مُخْتَلطينَ باليهود والنصارى ، وكانوا قد سمعوا من الفَريقَيْنِ على سبيل التَّواتُر ظهور المعجزات القاهرة على يَدِ مُوسَى- وغيرها ، والكفار كانوا يَطْعُنون في نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام- بِسَببِ أنهم كانوا يَطْلُبُونَ من أمْثالَ هذه المعجزات [ وكانوا ] يقولون : لو جئتنا بأمثال هذه المُعجزات آمَنَّا بك ، فكان مجموع هذه الكلمات جَارِياً مجرى ما يوجب عليهم الاعْتِرَاض ، والاعتراف بنبوة موسى عليه الصلاة والسلام ، وإذا كان الأمر كذلك [ لم يبعد إيراد ] نبوة موسى إلزاماً عليهم في قولهم : { مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } .
وأما الثاني : فجوابه أن كفار قريش ، وأهل الكتاب لما اشرتكوا في إنمكار بنوة محمد صلى الله عليه وسلم لم يَبْعُدْ أن يكون الكلامُ بعضه خِطَاباً مع كفار « مكة » وبقيّته خطاباً مع اليهود والنصارى .
فصل فيا يستفاد من الآية
دَلَّت هذه الآية الكريمة على أحكام :
منها : أن النَّكِرَةَ في موضع النَّفْي تفيد العموم ، فإن قوله : { مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } نَكِرَةٌ في موضع النفي ، فلو لم تفد العموم لما كان قوله تبارك وتعالى : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى } إبْطالاً له وَنَقْضاُ عليه ، وكان اسْتِدْلالاً فاسداً .
ومنها : أن النَّقْضَ يقدح في صِحَّةِ الكلام؛ لأنه - تبارك وتعالى - نَقَضَ قولهم : { مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } بقوله تعالى : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى } فلو لم يَدُلُّ النَّقْضُ على فساد الكلام لما كانت هذه الحُجَّةُ مُفِيدَةً لهذا المطلوب .

واعلم أن من يقول : إن الفَارِقَ بين الصُّورَتَيْنِ يمنع من كون النقض مبطلاً ضعيف إذ لو كان الأمر كذلك لَسَقَطَتْ حُجَّةُ الله في هذه الآية الكريمة ، لأن اليهود كانوا يقولون : معجزات موسى عليه الصلاة والسلام أظْهَرُ وأبهرِ من معجزاتك ، فلم يلزم من إثبات النبوة هناك إثبات هاهنا ، ولو كان هذا الفرق [ مقبولاً لسقطت هذه الحدة ، وحيث لا يجوز القول بسقوطها ، علمنا أن النقض ] على الإطلاق مبطل .
قوله : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاس }
وصف الكتاب بصفتين :
أحدهما : قوله : « نوراً » وهو مَنْصُوبٌ على الحال ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنه « الهاء » في « به » ، فالعامل فيها « جاء » .
والثاني : أنه « الكتاب » ، فالعامل فيه « أنزل » ، و « للناس » صِفَةٌ ل « هدى » وسمَّاه « نوراً » تشبيهاً له بالنُّورِ الذي يبين به الطريق .
فإن قيل : فعلى هذا لا يَبْقَى بَيْنَ كونه نوراً ، وبين كونه هُدًى للناس فَرْقٌ ، فعطف أحدهما على الآخر يوجب التَّغَايُرَ .
فالجواب : أن للنور صفتان :
أحدهما : كونه في نَفْسِه ظَاهراً جَليَّا .
والثانية : كونه بحيث يكون سَبَاً لظهرر غيره ، فالمراد من كونه « نوراً وهدى » هذان الأمران وقد وُصِفَ القرآن أيضاً بهذين الوصفْينِ ، فقال : { ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 52 ] .
قوله : « تَجْعَلُونَهُ » قرا ابن كثير وابن عمرو بياء الغَيْبَةِ ، وكذلك « يُبْدُونَهَا ويُخفُون كَثِيراً » والباقون بتاء الخطاب في الثلاثة الأفعال ، فأما الغَيْبَةُ فلِلحَمْلِ على ما تقدم من الغَيْبةِ في قوله تعالى : { وَمَا قَدَرُوا } إلى آخره .
وعلى هذا فيكون في قوله : « وعُلِّمْتُمْ » تأويلان :
أحدهما : أنه خطاب لهم أيضاً وإنماء جاء به على طريق الالْتِفَاتِ .
والثاني : أنه خطابٌ إلى المؤمنين اعترض به بين الأمر بقوله : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب } وبين قوله : « قل الله » .
وأما القرءاة بتاء الخطاب ففيها مناسبة لقوله : « وعلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ » ورَجَّحَهَا مكي وجماعة كذلك قال مكي : « وذلك حَسَنٌ في المُشَاكَلَةِ والمُطابَقَةِ ، واتِّصالِ بعض الكلام ببعض ، وهو الاختيار لذلك ، ولأن أكثر القراء عليه » .
قال أبو حيَّان : « ومن قال : إن المكرين العرب ، أو كفار قريش لم يكن جَعْلُ الخطاب لهم ، بل يكون قد اعترض بني إسرائيل فقال خلال السُّؤال والجواب : تجعلونه قراطيس [ يبدونها ] ، ومثل هذا يَبْعُدُ وُقُوعُهُ؛ لأن فيه تَفْكِيكاً للنَّظْمِ ، حيث جعل أول الكلام خِطَاباً لكفار قريش ، وآخره خطاباً لليهود » .
قال : « وقد أجيب بالجميع لما اشتركوا في إنكار نُبُوَّةِ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بَعْضُ الكلام خِطَاباً للعرب وبعضه خطاباً لبني إسرائيل » .

قوله : « تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ » : يجوز أن تكون « جعل » بمعنى « صَيَّرَ » وأن تكون بمعنى « ألقى » أي : يضعونه في كَاغدٍ .
وهذه الجلمة في محلِّ نصب على الحال ، إما من « الكتاب » وإما من « الهاء » في « به » كما تقدم في « نوراً » .
قوله : « قَرَاطِيس » فيه ثلاثة أوجه :
والثاني : أنه على حذف مضاف ، أي : يجعلونه ذَا قَرَاطِيسَ .
والثالث : أنهم نَزَّلوه مَنْزِلَةَ القراطيس ، وقد تقدم تفسير القراطيس . والجملة من قوله : « تبدونها » في محل نصب صِفَةً ل « قراطيس » وأما « تخفون » فقال أبو البقاء : إنها صفة أيضاً لها ، وقدر ضميراً محذوفاً ، أي : تخفون منها كثيراً .
وأما مكي فقال : « وتخفون » متبدأ لا مَوْضِعَ له من الإعراب . انتهى .
كأنه لما رأى خُلُوَّ الجملة من ضمير يَعُودُ على « قراطيس » منع كونه صِفَةً ، وقد تقدم أنه مُقَدَّرٌ ، وهو أولى ، وقد جوَّز الواحدي في « تبدون » أن يكون حالاً من ضمير « الكتاب » من قوله : « تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيس » على أنه يجعل الكتاب القراطيس في معنى؛ لأنه مُكْتَتَبٌ فيها . انتهى .
قوله : « عَلَى أنْ تَجْعَلَ » اعْتِذَارٌ عن مجيء خبره مُؤنُّثاً ، وفي الجملة فهو بعيد أو ممتنع .
قوله : « وعُلِّمْتُمْ » يجوز أن يكون على قراءة الغيبة في « يَجْعَلُونه » ، وما عطف مُسْتَانفٌ ، وأن يكون حالاً ، وإنما أتى به مُخَاطباً لأجل الالْتفاتِ ، وأما على قراءة تاء الخطاب فهو حالٌ ، ومن اشترط « قد » في الماضي الواقع حالاً أضمرها هنا ، أي : وقد علمتم ما لم تعلموا .
والأكثرون على أن الخطابَ هذا لليهود؛ يقول : علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم [ فضيعوه ولم ينتفعوا به .
وقال مجاهدك هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علّمهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ] .
فإن قيل : إن كل كتاب لا بد وأن يوضع في القراطيس ، فإذا كان الأمر كذلك في كل الكتب ، فما السبب في أن الله - تبارك وتعالى - حكى هذا المعنى في معرض الذَّمِّ لهم؟
فالجواب : أن الذَّمِّ لم يقع على هذا المعنى فقط ، بل المراد أنهم لما جعلوه قراطيس ، وفَرَّقُوهُ وبعَّضُوُ ، لا جَرَمَ قدروا على إبداء البَعْضِ وإخْفَاءٍ البعض ، وهو الذي فيه صِفَةُ محمد صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : كيف يقدرون على ذلك ، مع أن التوراة كتابٌ وصل إلى أهل المَشْرِقِ والمغرب ، وعرفه أكثر أهل العلم وحَفِظُوهُ ، ومثل هذا الكتاب لا يمكن إدخال الزيادة والنقصان فيه ، كما أن الرَّجُلَ في هذا الزمان إذا أراد إدخال الزِّيَادَةِ والنقصان في القرآن لم يقدر على ذلك ، فكذا القول في التَّوْرَاةِ؟
فالجواب أنا ذكرنا في سورة « البقرة » أن المراد من التَّحْرِيف تفسير آيات التوراة بالوُجُوهِ الفاسدة الباكلة ، كما يفعله المبطلون في زَمَانِنَا هذا بآيات القرآن .

فإن قيل : هَبْ أنه حصل في التوارة آياتٌ دالَّةٌ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلاَّ أنها قَلِيلةٌ ولم يخفوا من التوارة إلاَّ تلك الآيات ، فكيف قال : « ويخفون كَثِيراً » .
فالجواب أن القوم [ كانوا ] يخفون الآيات الدَّالَّة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكذلك يخفون الآيات المشتملة على [ آيات الأحكام ألا ترى أنهم حاولوا ] إخفاء الآية الدالة على رجم [ الزاني ] المُحْصَنِ .
قوله : « قل الله » لفظ الجلالة يجوز فيها وَجْهَان :
أحدهما : أن يكون فاعلاً لفعل محذوف أيم : قل أنزلهن وهذا هو الصحيح للتصريح بالفعل في قوله : { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز } [ الزخرف : 9 ]
والثاني أنه مبتدأ ، والخبر محذوف ، تقديره : والله أنزله ، ووجهه مناسبة مطابقة الجواب للسؤال ، وذلك أن جملة السؤال اسمية ، فلتكن جملة الجواب كذلك .
ومعنى الآية الكريمة : قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فإن أجابوك وإلاَّ فقل فأنت الله الذي أنزلت ، أي أن العقل السليم والطَّبْعَ المُسْتَقِمَ يشهد بأن الكِتَابَ الموصُوفَ بالصفات المذكورة المؤيد قَوْلَ صابه بالمعجزات القاهرة والدلالات الباهرة مثل ظاهراً لظهور الحُجَّةِ القَاطِعَةِن لا جَرَمَ قال تبارك وتعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام : قل لهم المُنَزِّلُ لذلك الكتاب هو الله ، ونظيره قوله تعلى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ } [ الأنعام : 19 ] كما أن الرجل الذي يريد إقامَةَ الدلالة على الصَّانِعِ يقول : منِ الذي أْحْدَثَ الحياة بعد عَدَمِهَا ، ومن الذي أحْدَثَ العَقْلَ بعد الجَهَالةِ ومن الذي أودع الحدَقَةَ القُوَّةَ البَاصِرَة ، وفي الصِّمَاخِ القُوَّةَ السَّامِعَةَ ، ثم إن هذا القائل بِعَيْنِهِ يقول : الله ، والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة إلى حَيْثُ يجب على كل عاقل أن يعترف بها ، فسواء اقر الخَصْمُ به أو لم يقر فالمقصود حاصل هكذا هاهنا .
قوله : { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } يجوز أن يكون « فِي خَوْضِهِمْ » متعلقاً ب « ذرهم » ، وأن يتعلق ب « يلعبون » ، وأن يكون حالاً من مفعول « ذَرْهُمْ » وأن يكون حالاً من فاعل « يلعبون » [ فهذه أربعة أوجه ] وأما « يلعبون » فيجوز أن يكون حالاً من مفعول « ذرهم » .
ومن منع أن تتعدَّد الحال لواحد لم يُجِزء حينئذ أن يكون « في خوضهم » حالاً من مفعول « ذرهم » ، بل يجعله إما متعلقاً ب « ذرهم » ، كما تقدَّم أو ب « يلعبون » ، أو حالاً من فاعله .

ويجوز أن يكون « يلعبون » حالاً من ضمير « خوضهم » وجاز ذلك أنه في قُوَّةِ الفاعل؛ لأن المصدر مُضاف لفاعله؛ لأن التقدير : « ذرهم يخوضون لاَعِبينَ » وأن يكون حالاً من الضمير في « خوضهم » إذا جعلناه حالاً؛ لأنه يتضَمَّنُ معنى الاسْتِقْرارِ ، فتكون حالاً متدخلة .
فصل في معنى الآية
معنى الكلام إذا أقمت الحُجَّة عليهم ، وبلغت في الإعذار والإنذار هذا المَبْلَغَ العظيم لم يَبْقَ عليك من أمرهم شيء ألْبَتَّةَ ، ونظيره قوله تعالى : { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ } [ الشورى : 48 ] .
قال بعضهم : هذه الآية مَنْسُوخَةٌ بآية السَّيْفِ ، وهذا بعيدٌ؛ لأن قوله : « ثُمَّ ذَرْهُمْ في خوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ » مذكور لأجل التهديد ، ولا ينافي ذلك حصول المُقاتَلَة ، فلم يكن ورود الآية الكريمة الدَّالَّةِ على وجوب المُقاتَلَةِ رافعاً لمدلول هذه الآية ، فلم يحصل النَّسْخُ .

وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)

وفيه دليل على تَقْدِيمِ الصِّفةِ غير الصريحة على الصريحة ، وأجيب عنه بأن « مُبَارَكٌ » خبر مبتدأ مضمرن وقد تقدم تحقيق هذا في قوله { بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ } [ المائدة : 54 ] .
وقال الواحدي : « مبارك » : خبر الابتداء فصل بينهما بالجملة ، والتقدير : هذا [ كتاب ] مبارك أنزلناه ، كقوله : { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاه } [ الأنبياء : 50 ] .
قال شهاب الدين : وهذا الذي ذكره لا يَتَمَشَّى إلا على أن قوله : « مبِارك » خبر ثانٍ ل « هذا » وهذا بعيد جداً وإذا سلّم له ذلك ، فيكون « أنزلناه » عنده اعتراضاً على ظاهر عبارته ، ولكن لا يحتاج إلى ذلك ، بل يجعل « أنزلناه » صفة ل « كتاب » ولا محذور حينئذ على هذا التقدير ، وفي الجملة فالوَجْهُ ما تقدَّمَ فيه من الإعراب .
وقدَّم وَصْفَهُ بالإنزال على وَصْفُهُ بالبركة ، بخلاف قوله تعالى : { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاه } [ الأنبياء : 50 ]
قالوا [ لأن الأهم ] هنا وَصْفُهُ بالإنزال إذا جاء عقيب إنكارهم أن يُنْزِلَ الله على بَشَرٍ شيء ، بخلاف هناك ، ووقعت الصفة الأولى جُمْلَةً فعلية؛ لأن الإنزال يَتَجَدَّدُ وقْتاً فوقْتاً والثانية اسماً صريحاً؛ لأن الاسم يَدُلُّ على الثبوت والاسْتِقْرارِ ، وهو مقصود هنا أي : [ ركته ] ثابتةٌ مستقرة .
قال القرطبي رحمه الله : « ويجوز نصب » مبارك « في غير القرآن العظيم على الحال ، وكذا : مصدق الذي بين يديه » .
فصل في المقصود بإنزال
قوله : « أنزلناه » المقصود أن يُعْلم أنه من عند الله لا من عند الرسول ، وقوله تعالى : « مبارك » قال أهل المعاني أي : كثير خيره دائم منعفعته يبشر بالثواب والمغفرة ، ويزجر عن القبيح والمعصية .
قوله : « مُصَدّق » صِفَةٌ أيضاً ، أو خبر بعد خبر على القول بان « مبارك » خبر لمبتدأ مضمر وقع صِفَةً لنكرة؛ لأنه في نِيَّةش الانفصال ، كقوله تعالى : { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] وكقول القائل في ذلك : [ البسيط ]
2232- يَا رُبَّ غَابِطنَا لَوْ كَانَ يَعْرِفُكُمْ .. . .
وقال مكي : « مُصَدّق الذي » نعت ل « الكتاب » على حذف التنوين لالتقاء الساكنين و « الذي » في موضع نصب وإن لم يقدر حذف التنوين كان « مصدق » خبراً و « الذي في موضع خفض ، وهذا الذي قاله غَلَطٌ فاحش؛ لأن حَذْفَ التنوين إنما هو الإضافة اللفظية ، وإن كان اسم الفاعل في نِيَّةِ الانفصال ، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين إنما كان في يضرورة أو نُدُورٍ؛ كقوله : [ المتقارب ]
2233- . . ... وَلاَ ذَاكِرِ اللَّه إلاَّ قَلِيلا
والنحوين كلهم يقولون في » هذا ضارب الرجل « : إن حَذْفَ التنوين للإضفاة تَخْفِيفاً؛ ولا يقول أحد منهم في مثل هذا : إنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين .
فصل في معنى التصديق في الآية
معنى كونه » مصدقاً لما قبله « من الكتب المنزلة قبله أنها [ توافقنا في نفي الشرك وإثبات التوحيد ] .

قوله : « ولتنذر » قرأ الجنهور بتاء الخطاب للرَّسول عليه الصلاة والسلام ، وأبو بكر عن عصام بياء الغَيْبَةِ ، والضمير للقرآن الكريم ، وهو ظاهر أي : ينذر بمَواعِظِهِ وَزَواجِرِهِ ويجوز أن يعود على الرسول- عليه الصلاة والسلام- للعلم به .
وهذه « اللام » فيها وجهان :
أحدهما : هي متعلّقة ب « أنزلنا » عطف على مُقدَّرٍ قدَّرهُ أبو البقاء : « ليؤمنوا ولتنذر » ، وقدَّرهَا الزمخشري ، فقال : « ولتنذرَ معطوف على ما دَلَّ عليه صفة الكتاب ، كمنا قيل : أنزلناه للبركات وليصدق ما تقدَّمَهُ من الكتب والإنذار .
والثاني : أنها متعلِّقة بمحذوف متأخّر ، أي ولتنذر أنزلناه .
قوله : » أمّ القُرَى « يجوز أن يكون من باب الحَذْفِ ، أي : أهل أم القُرَى ، وأن يكون من باب المَجَازِ أطلق لِلْحَمْلِ إلى المحلِّ على الحال ، وإنهما أولى أعني المجاز والضمير في المسألة ثلاثة أقوال ، تقدم بَيَانُهَا ، وهذا كقوله تعالى : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] وهناك وَجْهٌ لا يمكن هنا ، وهو أنه يمكن أن يكون السؤال للقرية حَقِيقَةً ، ويكون ذلك مُعْجِزَةً للنبي ، وهنا لا يأتي ذلك وإن كانت القرية أيضاً نفسها هنا تَتَكلَّمُ إلا أن الإنْذارَ لا يقعُ لعدَمِ فائدته .
وقوله : » ومَنْ حَوْلَهَا « عطف على » أهل « المحذوف ، أي : ولتنذر مَنْ حول أمِّ القرى ، ولا يجوز أن يعطف على » أم القرى « ، إذ يلزم أن يكون معنى » ولتنذر « أهل من حولها ولا حَاجَةَ تدعو إلى ذلك؛ لأن » من حولها « يقبلون الإنذار .
قال أبو حيان : ولم يحذف » من « ، فيعطف حول على » أم القرى « ، وإنّه لا يصح من حيث المعنى؛ لأن » حول « ظَرْفٌ لا ينصرف ، فلو عطف على » أم القرى « لصار مفعولاً به لعطفه على المعفول به ، وذلك لا يجوز؛ لأن العرب لا تستعمله إلاَّ ظرفاً .
فصل في تسمية » مكة «
اتفقوا على أن أم القرى » مكّة « سميت بذلك؛ قال ابن عباس : لأن الأرضين دحيت من تحتها ، فهي أصل الأرض كلها كالأم أصل [ النسل .
قال الأصم : سميت بذلك؛ لأنها قِبْلَةُ أهل الدنيا ، فصارت هي كالأصل ] وسائر البلاد والقرى تابعة .
وأيضاً من أصول عبادات أهل الدنيا الحَجُّ وهو إنما يكون في هذه البَلْدَةِ ، فلهذا السبب يجتمع الخَلْقُ إليها ، كما يجتمع الأولاد إلى الأم .
وأيضاً فلما كان أهْلُ الدنيا يجتمعون هناك بسبب الحجِّ لا جَرَمَ يحصل هناك أنواعٌ من التجارات والمنافع ما لا يحصل في سائر البلاد ، ولا شكَّ أن الكَسْبَ والتجارة من أصول المنافع ، فلهذا السبب سميت » مكة « بأم القرى .
وقيل : » مكة « المشرفة أوَّلُ بلدة سُكِنَتْ في الأرض .

قوله : « من حولها » يدخل في سائر البلدان والقُرَى .
قال المفسرون : المراد أهل الأرض شَرْقاً وغرباً .
قوله : « والذين يؤمنون بالآخرة » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه مرفوع بالابتداء ، وخبره « يؤمنون » ولم يتّحد المبتدأ ولاخبر لِتَغَايُرِ متعلقيهما ، فلذلك جاز أن يقع الخبر بلفظ المبتدأ ، وإلا فيمتنع أن تقول : « الذي يقوم يقوم » ، و « الذين يؤمنون يؤمنون » ، وعلى هذا فذكر الفضلة هنا واجب ، ولم يتعرَّضِ النحويون لذلك ، ولكن تعرضوا لِنَظَائِرِهِ .
والثاني : أنه مَنْصُوبٌ عَطْفاً على « أم القرى » أي : لينذر الذين أمنوا ، فيكون « يؤمون » حالاً من الموصول ، وليست حالاً مؤكدة؛ لما تقدم من تَسْويغ وقوعه خبراً ، وهو اختلاف المُتَعَلّق ، و « الهاء » في « به تعود عنلى القرآن ، أو على الرسول .
فصل في معنى الآية
ذكر العلماء في [ معنى ] قوله تعالى : { والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : الذي يؤمن بالآخرة ، وهو الذي يؤمن بالوَعْدِ والوعيد ، والثواب والعقاب ، ومن كان كذلك فإنه تعظم رغبته في تَحْصيلِ الثواب ، ورَهْبَتُهُ عن حُلُولِ العقاب ، ويبالغ في النظر في دلائل التوحيد والنبوة ، فيصل إلى العلم والإيمان .
وقال بعضهم : إن دين محمد عليه الصلاة والسلام [ مبني على الإيمان بالبعث والقيامة ، وليس لأحد من الأنبياء مبالغة في تقرير هذه القاعدة مثل ما في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام فلهذا السبب كان الإيمان بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وبصحة الآخرة أمرين متلازمين ] .
قوله : { وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } حال ، وقدّم » على صلاتهم « لأجْلِ الفاصلة ، وذكر أبو علي في » الروضة « ، أنَّ أبا بكر قريأ » على صَلَواتِهِمْ « جمعاً والمراد بالمُحَافَظَةُ على الصلوات الخمس .
فإن قيل : الإيمان بالآخرة يحمل كُلِّ الطاعات ، فما الفائدة في تخصيص الصَّلاةِ؟ فالجواب : أن المَقْصُودَ التَّنْبيه على أن الصَّلاة أشْرَفُ العبادات بعد الإيمان بالله تعالى ، ألا ترى أنه لم يقع اسم الإيمان على شَيءٍ من العبادات لاظاهرة ، إلاَّ على الصلاة ، كما قال تبارك وتعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] أي : صلاتكم ، ولم يقع اسم الكُفرِ على شيء من المَعَاصِ ] إلاَّ على تَرْكَ الصلاة ، قال عليه الصلاة والسلام : » مَنْ تَرَكَ الصَّلاة مُتَعَمِّداً فَقَدْ كَفَرَ « .
فما اخْتُصَّت الصلاة بهذا النوع من التشريف خصها الله - تبارك وتعالى - بالذِّكْرِ هاهنا .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)

لما بيَّن كون القرآن كتاباً نازلاً من عند الله ، وبيَّن شَرَفَهُ ورِفْعَتَهُ ذكر بعده ما يَدُلُّ على وعيد من ادَّعَى النبوة والرسالة كذباً وافتراءً .
قال قتادةُ : نزلت هذه الآية في مسيلمة الكذَّاب الحَنَفِيّ صاحب « اليمامة » وفي الأسْودِ العنسي صاحب « صنعاء » كانا يدَّعيانِ الرِّسالة والنبوة من عند الله كذباً وافتراء ، وكان مسيلمة يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم : محمد رسول قريش ، وأنا رسول بني حنيفة .
وقال أبو هريرة - رضي الله عنه- : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « بَيْنَمَا أنَّا إذْ أوتيتُ خَزَائِنَ الأرْض ، فَوُضِعَ في يَدَيَّ سِوارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فكبرا عليَّ وأهمَّانِي ، فأوحى اللَّهُ إليَّ أنْ أنفخهما فَذَهَبَا فأوَّلتهما الكذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أنَا بَيْنَهمَا صاحبَ صَنْعاءَ وصاحِبَ يَمامَة » .
قال القاضي : الذي يَفْتَري على الله الكذبَ يدخل فيه من يدَّعي الرسالة كَذِباً ولكن لا يقتصر عليه؛ لأن العِبْرَةَ بعموم اللفظ ، لا بخصوص السَّبب .
قال القرطبي : ومن هذا النمط من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن فيقول : وقع في خاطري كذا ، أو أخبرني قلبي بكذا ، فيحكمون بما وقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطِرِهمْ ، وزعمون أن ذلك لِصَفَائِهَا من الأكْدَارِ ، وخلوها من الأغيار ، فتتجلى لهم العلوم الإلهية ، والحقائق الرَّبَّانِيَّة ، فيقفون على أسرار الكليات ، ويعلمون أحكام الجزئيات فَيْسْتَغُنُونَ بها عن أحكام الشَّرائع ، ويقولون : هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء العامة ، وأما الأولياء ، وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النُّصوص .
وقوله تعالى : « ومن أظلم » مبتدأ وخبر ، وقوله : « كذباً فيه أربعة أوجه :
أحدهما : أنه مفعول » افترى « أي : اختلق كذباً وافتعله .
الثاني : أنه مَصْدرٌ له على المعنى ، أي : [ افترى ] افتراءاً ، وفي هذا نظر؛ لأن المعهود في مثل ذلك إنما هو فيما كان المَصْدرُ فيه نَوعاً من الفعل ، نحو : قدع القُرْفُصَاءَ أو مُرَادفاً له ك » قعدت جلوساً « أما ما كان المصدر فيه أعم من فعله نحو : افترى كذباً ، وتقرفصَ قعوداً ، فهذا غير معهود ، إذ لا فائدة فيه والكذب أعمُّ من الافتراء ، وقد تقدَّم تحقيقه .
الثالث : أنه مفعول من أجلِهِ ، أي : افترى لأجل الكذبِ .
الرابع : أنه مصدر واقع موقع الحال ، أي : افترى حال كونه كاذباً ، وهي حال مؤكدة .
وقوله : » أو قال « عطف على » افترى « في محلِّ رفع لقيامه مقام الفاعل ، وجوز أبو البقاء أن يكون القائم مقام الفاعل ضمير المصدر ، قال : تقديره : » أوحى إليَّ الوحي « ، أو الإيحاء . والأوّلأ أولى؛ لأن فيه فائدةً جديدةً ، بخلاف الثاني فإن معنى المصدر مفهوم من الفعل قَبْلَهُ .
قوله : » وَلَمْ يُوحَ إلَيْه « جملة حاليةٌ ، وحذف الفاعل هنا تعظيماً له؛ لأن المُوحِي هو الله تعالى .

قوله : « ومَنْ قَالَ » مجرور المَحَلّ؛ لأنه نَسَقٌ على « مَنْ » المجرور ب « من » أي : وممن قال ، وقد تقدم نظير هذا الاستفهام في « البقرة : وهناك سؤال وجوابه .
قوله { سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله } وقرا أبو حيوة : » سأنزّل « مضعفاً وقوله : » مثل « يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه مَنْصُوبٌ على المفعول به ، أي سأنزل قرآناً مِثْلَ ما أن الله ، و » ما « على هذا مَوصُولةٌ اسمية ، أن نكرة موصوفة ، أي : مثل الذي أنزله ، أو مثل شيء أنزله .
والثاني : أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، تقديره : سأنزل إنزالاً مثل ما أنزل الله ، و » ما « على هذا مصدرية ، أي : مثل إنزال الله .
فصل في نزول الآية
قيل : نزلت هذه الآيةُ الكريمة في عبد الله بن أبي سَرْحِ كان قد أسلم ، وكان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا أملى عليه » سميعاً بصيراً « كتب عليماً حكيماً ، وإذا أملى عليه » عليماً حكيماً « كتب » غفوراً رحيماً « فلما نزل قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] أمْلاَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خَلْقِ الإنسان ، فلما انتهى إلى قوله : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [ المؤمنون : 14 ] فقال : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » اكتُبْهَا فَهَكَذَا نَزَلَتْ « فَشَكَّ عبد الله . فقال : لئن كان محمد صادقاً فقد أوحي إلي كما أوحي إليه فارتدَّ عن الإسلام ، ولحق بالمشركين ، ثم رجع عبد الله إلى الإسْلام قبل فتح » مكّة « المشرفة ، إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : يريد النَّضْرَ بن الحارثِ ، والمستهزئين ، وهو جواب لقولهم : { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } [ الأنفال : 31 ] وقوله في القرآن : { إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } [ الأنفال : 31 ] فكل أحمد يمكنه الإتيان [ بمثله ] .
» وَلَوْ تَرَى « يا محمد » إذ الظالمون « و » إذا « منصوب ب » ترى « ، ومَفْعُول الرؤية محذوف ، أي : ولو ترى الكُفَّار الكذبةَ ، ويجوز ألا يقدّر لها مفعول ، أي : ولو كنت من أهل الرُّؤيةِ في هذا الوقتِ ، وجواب » لو « محذوف ، أي : لَرَأيْتَ أمراً عظيماً .
و » الظالمون « يجوز أن تكون فيه » أل « للجنس ، وأن تكون للعهد ، والمراد بهم من تقدَّم ذكره من المشركين واليهود والكذبةِ المفترين و » في غَمَارتِ المَوْتِ « خبر المبتدأ ، والجملة في مَحَلِّ خفض بالظَّرْفِ .
و » الغَمَراتُ جمع « غَمْرة » وهي الشدة المفظعة وأصلها مِنْ غَمَرَةُ الماءُ إذا سَتَرَهُ ، وغَمْرَةُ كلِّ شيء كثرته ومعظمه ، ومنه غمرة الموت وغمرة الحرب .

ويقال : غمرت الشيء إذا علاه وغطَّاه .
قال الزَّجَّاج : يقال لكل من كان في شيء كثير : قد غَمَرَهُ ذلك وغمره الدَّيْنُ إذا كثر عليه ، ثم يقال للمَكَارِهِ والشدائد : غمرات ، كأنها تَسْتُرُ بغمرها وتنزل به قال في ذلك : [ الوافر ]
2234- وَلاَ يُنْجِي مِنَ الْغَمَراتِ إلاَّ ... بَرَاكَاءُ القِتَالِ أو الفِراءُ
ويجمع على « غُمَرَ » ك « عُمْرة » و « عُمَر » كقوله : [ الوافر ]
2235- . ... وَحَانَ لِتَالِكَ الغُمَرِ انْقِشَاعُ
ويروى « انحسار » .
وقال الرَّغِبُ : أصل الغَمْرِ إزالةُ أثر الشيء ومنه قيل للماء الكثير الذي يزيل أثر سيله : غمر وغامر ، وأنشد غير الراغب على غامر : [ الكامل ]
2236- نَصَفَ النَّهَارُ المَاءُ غَامِرُهُ ... وَرَفِيقُهُ بالغَيْبِ لا يَدْرِي
ثم قال : « والغمرة مُعْظَمُ الماء لِسَتْرِهَا مَقَرَّهَا ، وجعلت مثلاً للجَهَالَةِ التي تغمر صاحبها » .
والغَمْرُ : الذي لم يُجَرِّب الأمور ، وجمعه أغْمَار ، والغِمْرُ : - بالكسر - الحِقْدُ ، والغَمْرُ بالفتح : الماء الكثير ، والغَمَرُ بفتح الغين والميم : ما يغمر من رائحة الدَّسَم سائر الروائح ، ومنه الحديث « مَنْ بَاتَ وفِي يَدَيْهِ غَمَرٌ » .
وغرم يده ، وغمر عرضه دنس ، ودخلوا في غُمَارِ الناس وخمارهم ، والغمرة ما يطلى به من الزَّعْفران ، ومنه قيل للقدح الذي يتناول به الماء : غمر ، وفلان مُغَامِرِ إذا رمى بنفسه في الحَرْبِ ، إما لِتَوغُّلِهِ وخوضه فيه ، وإما لِتَصَوُّر الغمار منه .
قوله : « والملائِكَةُ بَاسِطُوا أيديهم » [ جملة في محل نَصْبٍ على الحال من الضمير ] المستكن في قوله : « في غمرات » ، و « أيديهم » خفض لفظاً ، وموضعه نصب أي : باسطو أيديهم بالعذابِ يضربون وجُوهَهُمْ وأدبارهم وقوله « أخرجوا » منصوب المحل بقول مضمر ، والقول يُضْمر كثيراً ، تقديره : يقولون : أخرجوا ، كقوله : { يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ، 24 ] أي : يقولون : سلام عليكم ، وذلك القول المضمر في مَحَلِّ نصب على الحال من الضمير في « باسطو » .
فإن قيل : إنه لا قُدْرَةَ لهم على إخْرَاجِ أرواحهم من أجسادهم ، فما الفائدة في هذا الكلام؟
فالجواب : أن في تفسير هذه الكلمة وجوه :
أحدهما : ولو ترى الظَّالمين إذ صاروا إلى غمراتِ الموْتِ في الآخرة ، فأدخلوا جهنم ، وغمراتُ الموت عِبَارةٌ عما يصيبتهم هناك من أنواع الشَّدائِدِ والعذاب ، والملائكة باسطو أيديهم [ عليهم بالعذابِ ] يُبَكِّتُونَهُمْ بقولهم : أخرجوا أنفسكم من هذا العذابِ الشديد إن قدرتم .
وثانيها : أن المعنى « ولو ترى إذ الظالمون في غمراتِ الموتِ » عند نزول الموت في الدنيا ، والملائكة باسطو أيديهم لِقَبْضِ أرواحهم يقولون لهمك أخرجوا أنفسكم من هذه الشَّدائدِ ، وخَلِّصُوهَا من هذه الآلام .
وثالثها : « أخرجوا أنفسكم » [ أي : أخرجوها إلينا ] من أجسادكم ، وهذه عبارة عن العُنْفِ والتشديد في إزْهَاقِ الروح من غير تنْفِيسٍ وإمهال كما يفعل الغريمُ الملازم المُلحُّ ، ويقول : أخرج مَا لِي عَلَيْكَ السَّاعة ، ولا أبرح من مكاني حتى أنْزعَهُ من أحْدَاقِكَ .

ورابعها : أن هذه اللَّفظة كناية عن شِدَّةِ حالهم ، وأنهم بلغوا في البلاء الشديد إلى حيث يتولَّى بنفسه إزْهَاقَ ورحه .
خامسها : أنه ليس بأمر ، بل هو وعيدٌ [ وتقريع ] كقول القائل : امضِ الآن لترى ما يحلُّ بك .
قوله : « اليوم تُجْزَوْنَ » في هذا الظرف وجهان :
أظهرهما : انه مَنْصُوبٌ ب « أخرجوا » بمعنى : أخروجوها من أبدانكم ، فهذا القول في الدنيا ، ويجوز أن يكون في يوم القيامةِ ، والمعنى خَلَّصُوا أنفسكمن من العذابِ ، كما تقدَّم ، فالوقف على قوله : « اليوم » ، والابتداء بقوله : « تُجْزَونَ عذابَ الهُونِ » .
والثاني : أنه منصوب ب « تجزون » والوقف حينئذ على « أنفسكم » ، والابتداء بقوله : « اليوم » والمراد ب « اليوم » يحتمل أن يكون وقتَ الاحتضار ، وأن يكون يوم القيامة ، و « عذاب » معفول ثانٍ ، والأول قام مقام الفاعل .
والهُون : الهَوَان؛ قال تعالى : { أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ } [ النحل : 59 ] .
وقال ذو الأصبع : [ البسيط ]
2237- إذْهَبْ إلَيْكَ فَمَا أمِّي بِرَاعِيَةٍ ... تَرْعَى المخَاضَ ولا أغْضِي على الهُونِ
وقالت : الخَنْسَاءُ : [ المتقارب ]
2238- يُهِينُ النُّفُوسَ وهُونُ النُّفُو ... سِ يَوْمَ الكَرِيهَةِ أبْقَى لَهَا
واضاف العذابَ إلى الهُونِ إيذاناً بأنه متمكنٌ فيه ، وذلك إنه ليس كل عذاب يكون فيه هُونٌ؛ لأنه قد لا يكون فيه هُونٌ ، لأنه قد يكون على سبيل الزَّجْرِ والتأديب ويجوز أن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته ، وذلك أن الأصْلَ العذاب الهُون وصف به مُبَالغَة ، ثم أصافه إليه على حَدِّ إضافته في قولهم : بَقْلَةُ الحمقاَءِ ونحوه ، ويدل عليه أن الهُونَ بمعنى قراءة عبد الله وعكرمة كذلك .
و « الهَوْن » بفتح الهاء : الرِّفْقُ والدَّعة؛ قال تبارك وتعالى : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] .
واعلم أنه - تبارك وتعالى - جمع هناك بين الإيلامِ والإهانَةِ ، فكما أن الثواب شَرْطُهُ أن يكون منْفَعَةً معروفة بالتعظيم ، فكذا العقاب شرطه أن يكون مَضَرَّةً مقرونة بالإهانِةِ .
قوله : « بِمَا كُنْتُمْ » « ما » مصدرية ، أي : بكونكم قائلين غير الحقَّ ، وكونكم مستكبرين و « الباء » متعلقة ب « تجزون » أي : بسببه ، و « غير الحق » نصبه من وجهين :
أحدهما : أنه مفعول به ، أي تذكرون غير الحق .
والثاني : أنه نَعْتُ مَصْدَرٍ محذوف ، أي : تقولون القول غير الحق .
وقوله : « وكنتم » يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أنه عطف على « كنتم » الأولى ، فتكون صَلَةً كما تقدم .
والثاني : أنها جملة مُسْتَأنَفَة سيقت للإخبار بذلك و « عن آياته » متعلّق بخبر « كان » ، وقدم لأجل الفواصل ، والمراد بقوله : « كنتم عن آياته تَسْتَكِبرُونَ » أي : تَتَعَظَّمُونَ عن الإيمان بالقرآن لا تُصَدِّقُونَهُ .
وذكر الواحدي أي : لا تُصَلُّونَ له ، قال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ سَجَدَ [ لِلَّهِ سَجْدَةً ] بيِنَّةٍ صَادِقَةٍ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الكِبْرِ » .

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

« فُرَادَى » منصوب على الحال من فاعل « جِئْتُمُونَا » ، و « جئتمُونَا » فيه وجهان :
أحدهما : أنه بمعنى المستقبل ، أي : تجيئوننا ، وإنما أبرزه في ورة الماضي لِتَحَقُّقِهِ كقوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] { ونادى أَصْحَابُ الجنة } [ الأعراف : 44 ] .
والثاني : أنه ماضٍ ، والمراد به حكاية الحال بين يدي الله - تعالى - يوم يُقال لهم ذلك ، فذلك اليوم يكون مجيئهم ماضياً بالنسبة إلى ذلك اليَوْمِ .
واختلفوا في قول هذا القَائِل ، فقيل : هو قول الملائكة المُوَكَّلِينَ بعقابهم .
وقيل : هو قول الله تعالى ، ومنشأ هذا الخلاف أن الله - تبارك وتعالى- هل يَتَكَلَّمُ مع الكُفَّارِ أم لا؟ فقوله تبارك وتعالى في صفة الكفار : « وَلاَيُكَلِّمُهُم » يوجب ألاَّ يتكمل معهم ، فلهذا السبب وقع الاخْتِلافُ ، والأول أقوى؛ لأن هذه الآية الكريمة معطوفة على ما قبلها ، والعطف يوجب التَّشْرِيكَ .
واختلفوا في « فُرَادَى » هل هو جمع أم لا ، والقائلون بأنه جَمْعٌ اختلفوا في مُفْرَدِهِ : فقال الفراء : « فُرَادى » جمع « فَرْد وفَرِيد وفَرَد وفَرْدَان » فجوز أن يكون جَمْعاً لهذه الأشياء .
وقال ابن قُتَيْتَةَ : هو جمع « فَرْدانَ » كسَكْرَانَ وسُكَارَى وعَجْلان وعُجالى .
وقال قوم : هو جمع فَرِيد كَرَدِيف ورُدَافى ، وأسِير وأسَارى ، قال الراغب ، وقال : هو جمع « فَرَد » بفتح الراء ، وقيل بسكونها ، وعلى هذا فألفها للتأنيث كألف « سُكَارى » و « أسارى » فيمن لم يتصرف .
وقيل : هو اسم جمع؛ لأن « فرد » لا يجمع على فُرَداى فرد أفراد ، فإذا قلت : جاء القوم فُرَادة فمعناه واحداً واحداً .
قال الشاعر : [ الطويل ]
2239- تَرَى النُّعَراتِ الزُّرْقَ تَحْتَ لِبَانِهِ ... فُرَادَى وَمَثْنَى أثْقَلَتْهَا صَوَاهِلُهْ
ويقال : فَرِدَ يَفْرُدُ فُرُوداً فهو فَارِدٌ ، وأفردته أنا ، ورجل أفْردُ ، وامرأة فَرْدَاءُ كأحمر وحمراء ، والجمع على هذا فُرْدٌ كحُمْر ، ويقال في فُرَادى : « فَرَاد » على زِنَةِ « فعال » ، فينصرف ، وهي لغة « تميم » وبها قرأ عيسى بن عمر ، وأبو حيوة : « وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَاداً » وقال أبو البقاء : وقرئ بالشاذ بالتنوين على أنه اسم صحيح ، فقال في الرفع فُرَادٌ مثل : « تُؤام ودخال وهو جمع قليل » . انتهى .
ويقال أيضاً « جاء القوم فُرَادَ غير منصرف ، فهو كَأحاد ورُبَاع في كونه معدولاً صفة ، وهو قرءاة شاذّة هنا .
وروى خارجة عن نافع ، وأبي عمرو كليهما أنهما قرأ » فُرَادَى « مثل سُكَارَى » اعتباراً بتأنيث الجماعة ، كقوله تبارك وتعالى : { وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى } [ الحج : 2 ] فهذه أربع قراءات مشهورة ، وثلاث في الشواذ فراداً كأحاد ، فَرْدَى كَسَكْرَى .
قوله : « كَمَا خَلَقْناكُمْ » في هذه أوجه :
أحدها : أنها مَنْصُوبَةُ المحل على الحال من فاعل « جئتمونا » فمن أجاز تَعَدُّدَ الحال أجاز من غير تأويل ، ومن منع ذلك جعل « الكاف » بدلاً من « فُرَادَى » .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75