كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

واعلم أن أصحاب الهيئة قالوا : الشمس مركوزة في الفلك ، والفلك يديرها بدَوَران . وأنكره المفسرون الظَّاهِريُّونَ . واعلم أنه لا بعد في ذلك ( إن ) لم يقولوا بالطبيعة؛ فإن الله تعالى فاعل مختار إن أَراد أن يحركهما ( في الفلك وبالفلك ساكن يجوز ، وإن أراد أن يحركهما ) بحركة الفلك وهما ساكنان يجوز ولم يرد فيه نص قاطعٌ أو ظاهرٌ . واعلم أنه تعالى ذكر إيجاد الذوات بقوله : { خلق السموات والأرض } وذكر إيجاد الصفات بقوله : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } ثم قال : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } لما ذكر الخلق ذكر الرزق؛ لأن بقاء الخلق ببقائه ، وبقاء الإنسان بالرزق ، فقال المعبود إما أن يعبد لاستحقاق العبادة والأصنام ليست كذلك والله مستحقها وإما لكونه عظيم الشأن والله الذي خلق السماوات عظيم الشأن فله العبادة ، وإما لكونه يأمر الإحسان ، والله يَرْزُقُ الخَلْقَ فله الفضل والإحسان ، والامْتِنَان فله العبادة { إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ } يعلم مقادير الحاجات والأرزاق ، ولما قال : « يبسط الرزق » ذكر اعترافهم بذلك فقال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله } يعني سبب الرزق ، وموجد السبب موجد المسبب فالرزق من الله .
قوله : { قُلِ الحمد لِلَّهِ } على ما أقروا به ، ولزوم الحجة عليهم { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } ( ينكرون التوحيد مع إقرارهم بأنه خالق لهذه الأشياء فقل الحمد لله على ظهور تناقضهم وأكثرهم لا يعقلون ) هذا التناقض ، وقيل : هذا كلام معترض في أثناء كلام ، فإنه قال : { بَلْ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } فذكر في أثناء هذا الكلام الحمد لذكر النعمة كقوله :
4031 - إنَّ الثَّمَانِينَ - وَبُلِّغْتَهَا - ... قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلَى تَرْجُمَان
قوله ( تعالى ) : { وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } « اللهو » هو : الاستمتاع بلذّات الدنيا ، و « اللعب » ( الْعَبَثُ ) ، سميت بها ، لأنها فانية ، وقيل : « اللهو » الإعراض عن الحق ، و « اللعب » في الإقبال على الباطل .
فإن قيل : قال في الأنعام : { وَمَا الحياة الدنيآ } ( ولم يقل : « وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ » ) وقال ههنا : { وما هذه الحياة } فما فائدته؟
فالجواب : أن المذكور ( من قبل ههنا أمر الدنيا ، حيث قال : { فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا } فقال : هذه ، والمذكور قبلها ) هناك الآخرة حيث قال : { ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ } [ الأنعام : 31 ] فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال : { وما الحياة الدنيا } .
فإن قيل : ما الحكمة في تقديمه هناك « اللعب » على « اللهو » وههنا أخر « اللعب » عن « اللهو » .
فالجواب : لما كان المذكور من قبل هناك الآخرة ، وإظهارها للحسرة ففي ذلك الوقت ببعد الاستغراق في الدنيا ، بل نفس الاشتغال بها فأخذ الأبعد ، وههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها ، اللهم إلا لمانعٍ يمنع من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق ( بها ) ، أو لعاصم يعصمه فلا يستغل بها أصلاً ، فكان : ( ههنا ) الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو .

فإن قيل : ما الحكمة في قوله هناك : { وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ } [ يوسف : 109 ] [ النحل : 30 ] وقال هَهنا { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان } ؟ .
فالجواب : لما كان الحال هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى وازعٍ قويٍّ فقال : الآخرةُ خَيْر ولما كان الحال هنا حال الاستغال بالدنيا احتاج إلى وازع قوي فقال : لا حياة إلا حياة الآخرة .
قوله : { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان } قدر أبو البقاء وغيره قبل المبتدأ مضافاً أي وإنَّ حَيَاةَ الدارِ الآخرة وإنما قدر ذلك ليتطابق المبتدأ والخبر والمبالغة أحسن و « واو » الحيوان ( عن ياءٍ ) عند سيبويه وأتباعه ، وإنما أبدلت واواً شذوذاً ، وكذلك في « حَيَاةٍ » علماً وقال أبو البقاء لئلا يلتبس بالتثنية يعني لو قيل : حَيَيَانِ - قال : ولم تقلب ألفاً لتَحَرُّكِهَا وانفتاح ما قبلها؛ لئلا يحذف إحدى الألفين وغير سيبويه حمل ذلك على ظاهره ، فالحياة عند لامُها « واو » . ولا دليل لسيبويه في « حَيِيَ » ؛ لأن الواو متى انكسر ما قبلها قلبت ياءً نحوُ : « عُدِيَ ، ودُعِي ، وَرَضِيَ » . ومعنى الآية : { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } أي الحياة الدائمة الباقية ، والحيوان بمعنى الحياة أي فيها الحياة الدائمة { لو كانوا يعلمون } أي لو كانوا يعلمون أنها الحيوان لما آثروا عليها الدنيا .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله : في الأنعام { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الأنعام : 32 ] وقال هنا { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ؟
فالجواب : أن المُثْبَتَ هناك كون الآخرة ، ولأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت هنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة . وهذا دقيق لا يُعْلَمُ إلا بِعِلْمِ نَافِعٍ .

فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

قوله : { فإذا ركبوا في الفلك } قال الزمخشري : « فإن قُلتَ » : بم اتصلَ قوله فَإذَا رَكبُوا في الفُلْك؟
قلتُ : بمحذوف دل عليه ما وصفهم ( به ) وشرح من امرهم معناه هم على ما وصفوا به من الشرك والغفلة فإذا ركبوا .
قوله : « دَعَوُا اللَّهَ » معناه : فإذا خافوا ( مِنَ ) الغرق دعوا الله مخلصين له الدين ، وتركوا الأصنام ، وهذا إشارة إلى تحقيق أن المانع من التوحيد هو الحياة الدنيا؛ لأنهم إذا انقطع رجاؤهم عن الدنيا رَجَعُوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد ووحدوا وأخلصوا ، وإذا نجاهم وأرجأهم عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا ، وأشركوا لقوله : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } وهذا إخبار عنهم بأنهم عند الشدائد يقرون أن القادر على كشفها هو الله - عزّ وجلّ - وحده ، وإذا زالت عادوا إلى كفرهم ، قال عكرمة : كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدت عليهم الريح ألقوها في البحر ، وقالوا : يا رب يا رب .
قوله : « ليَكْفُرُوا » فيه وجهان :
أظهرهما : أن اللام لام « كي » أي سَيُشْرِكُونَ لِيَكُونَ إشراكُهُم كفراً بنعمة لإنجاء « وَلِيَتَمَتَّعُوا » بسبب الشرك « فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ » وبال عملهم .
والثاني : أن تكون لام الأمر ، ومعناه التهديد والتوعيد ، كقوله : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] أي ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إياهم فسيعلمون فساد ما يعملون .
قوله : « وَلِيَتَمَتَّعُوا » ، قرأ ابو عمرو وابنُ عامر وعاصمٌ وورشٌ بكسرها ، وهي محتملة للأمرين المتقدمين ، والباقون بسكونها ، ( وهي ) ظاهرة في الأمر ، لإإن كانت الأولى للأمر فقد عطف أمراً على مثله ، وإن كانت للعلة فيكون عطف كلاماً على كلام ، فيكون المعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يستمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة وقرأ عبد الله فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ، وأبو العالية « فَيُمَتَّعُوا » بالياء من تحت مبنياً للمَفْعُولِ .
قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } وجه تعلقه بما قبله إن الإنسان يكون في البحر على أخوف ما يكون لا سيما غذا كان بيته في بلدٍ حصين فلما ذكر الله حال المشركين عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى الله ذَكَّرَهُمْ حالهم عند الأمن العظيم وهي كونهم في مكة فإنها مدينتهم وبلدهم ، وفيها سُكْنَاهُمْ ، ومولدهم وهي حصين بحصن الله حيث من دخلها يمتنع من حصل فيها ، والحصول فيها يدفع الشرور عن النفوس يعني : إنكم في أخوف ما أنتم دعوتم الله وفي أتم ما حصلتم عليه كفرتم بالله ، وهذا متناقض ، لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص ما كان إلا لِقَطْعِكُم بأن النعمة من الله لا غير وهذه النعمة العظيمة التي حصلت ، وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من الله فكيف تكفرون بها ، والأصنام التي قد ( قطعتم ) في حال الخوف أن لا أمن منها لها كيف أَمِنْتُمْ بها في حال الأمن؟ ثم قال : « أَفِبَالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ » ( قرأ العامة ) يؤمنون ويكفرون بياء الغيبة ، والحسن ، والسلمي بتاء الخطاب فيهما ، والمعنى : أفبالأَصْنَام والشياطين يؤمنون وبنعمة الله محمد والإسلام يكفرون؟
قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افترى عَلَى الله كَذِباً } فزعم أن له شريكاً ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه فإذا وضعه في موضع لا يمكن ذلك موضعه يكون أظلم ، لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول .

قوله : { أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَآءَهُ } أي بمحمد ، والقرآن لما جاءه { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ } وهذا استفهام تقرير ، كقوله :
4032 - أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا ... وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
والمعنى : أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم؟
قوله : « والَّذِينَ جَاهَدُوا » ( يجوز ) فيه ما جاز في « الذين آمنوا » أول السورة وفيه رد على ثَعْلَب حيث زعم أَنَّ جملة القسم لا تقع خبراً للمبتدأ ، والمعنى : والذين جاهدوا المشركين لنُصرة ديننا « لَنَهْدَينَّهُمْ سُبُلَنَا » لَنُثَبَتَنَّهُمْ على ما قاتلوا عليه وقيل : لنَزِيدنهم هدى ، كما قال : { وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى } [ مريم : 76 ] وقيل : لَنَهْدِيَنَّهُمْ لإصابة الطرق المستقيمة ، والطرق المستقيمة هي التي توصل إلى رضي الله - عزّ وجلّ - قال سفيان بن عيينة : إذا اختلفت الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور ، فإن الله قال : { والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } وقيل : المجاهدة هي الصبر على الطاعات قال الحسن : أفصلُ الجهاد مخالفة الهوى ، وَقَالَ الفضيل بن عياض { والَّذِينَ جَاهَدُوا في إقامة السنة لنهدينهم سبيل الجنة } .
قوله : { وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين } من إقامة الظاهر مُقَام المضمر ، إظهاراً لشرفهم ، والمعنى لمع المحسنين بالنصر والمعونة في دنياهم ، وبالثواب والمغفرة في عقابهم .
روى أبو أمامة عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسناتٍ بعدد المؤمنين والمنافقين »

الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)

قوله تعالى : { الم غُلِبَتِ الروم } وجه تعلق هذه السورة بما قبلها أن الله تعالى لما قال : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } وكان يجادل المشركين بنسبتهم إلى عدم العقل كما في قوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 18 ] وكان أهل الكتاب يوافقون النبي والإله كما قال : { وإلهكم وَاحِدٌ } [ العنكبوت : 46 ] وكانوا يؤمنون بكثير مما يقوله ، بل كثير منهم كانوا مؤمنين ( به ) كما قال : { فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ } [ العنكبوت : 47 ] أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور ، وكان بين فارس والروم قتال والمشركون يودون أن تغلب فارس الروم لأن أهل فارس كانوا مجوساً آمنين ، والمسلمين يَودُّون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل كتاب فبعث « كسرى » جيشاً إلى الروم واستعمل عليهم رجلاً ( يقال له : شهريار وبعث « قيص » جيشاً واستعمل عليهم ) رجلاً يدعى يحانس ، فالتقيا باذْرِعاتَ ، وبُصْرَى ، وقال عكرمة : هي أذرعات وكسكر ، وقال مجاهد : أرض الجزيرة ، وقال مقاتل : الأردن وفلسطين هي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فغلبت فارس الروم فبلغ ذلك المسلمين بمكة ، فشق ذلك عليهم وفرح به كفار مكة وقالوا للمسلمين : إنكم أهل الكتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أمّيُّون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الرُّوم وإنكم إن قاتلتمونا لنَظْهَرَنَّ عليكم فأنزل الله هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق بل الله قد يريد في ثواب المؤمنين من يبتليه ، ويسلط عليه الأعادي ، وقد يختار تعجيل العذاب الأدنى العذاب الأكبر قبل يوم الميعاد .
فصل
قد تقدم أن كل سورة افْتُتِحَتْ بحروف التَّهَجِّي فَإِن في أولها ذكرَ الكتاب أو التنزيلَ أو القرآنَ ، كقوله : { الم . ذلك الكتاب } { المص . كتاب } { طه ما أنزلنا عليك القرآن } { الم . تنزيل الكتاب } { حم . تنزيل من الرحمن الرحيم } { يس . والقرآن } { ق . والقرآن } إلا هذه السورة وسورتين أخريين ذكرناهما في العنكبوت ، وذكرنا الحكمة منهما هناك . وأما ما يتعلق بهذه السورة فنقول : إن السورة التي في أوائلها التنزيل والكتاب والقرآن في أوائلها ذكر ما هو معجزة فقدمت عليها الحروف على ما تقدم بيانه في العنكبوت ، وهذه في أوائلها ذكر ما هو معجز وهو الإخبار عن الغيب ، فقدمت الحروف التي لا يعلم معناها ليتنبه السامع فيقبل بقلبه على الاستماع لما ترد عليه المعجزة ويفزع للاستماع .
قوله : { في أدنى الأرض } زعم بعضهم أن « أل » عوض عن الضمير ، وأن الأصل { فِي أَدْنَى أرْضهم } وهو قول كُوفي ، وهذا على قول إن الهرب كان من جهة بلادهم ، وأما من يقول : إنه من جهة بلاد العرب فلا يتأتى ذلك . وقرأ العامة « غُلِبَتْ » مبنياً للمفعول ، وعلي بن أبي طالب وأبو سعيد الخُدْري وابن عمر وأهل الشام ببنائه للفاعل .

قوله : { في أدنى الأرض } أي الروم من بعد غلب فارس إِيَّاهم . والغَلَبُ . والغَلَبَةُ « لُغْتَانِ » فعلى القراءة الشهيرة يكون المصدر مضافاً لمفعوله . ثم هذا المفعول إما أن يكون مرفوع المحل على أن المصدر المضاف إليه مأخذو من مبني ( للمفعول ) على خلاف في ذلك . وإما منصوب المحل على أن المصدر من مبني للفاعل ، والفاعل محذوف تقديره : من بعد أن غلبهم عدوهم وهم فارس ، وأما على القراءة الثانية فهو مضاف لفاعله .
قوله : « سَيَغْلِبُونَ » خبر المبتدأ ، و { مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ } متعلق به ، والعامة - بل نقل بعضهم الإجماع - على سيغلبون مبنياً للفاعل ، فعلى الشهيرة واضح أي من بعد أن غلبتهم فارس سيغلبون فارس ، وأما على القراءة الثانية فأخبر أنهم سيغلبون ثايناً بعد أن غلبوا أولاً ، وروي عن ابن عمر أنه قرأ ببنائه للمفعول . وهذا مخالف لما ورد في سبب الآية ، وما ورد في الأحاديث ، وقد يلائم هذا بعض ملاءمة من قرأ « غَلَبَتْ » مبنياً للفاعل ، وقد تقدم أن ابن عمر ممن قرأ ( بذلك ) . وقد خرج النحاس قراءة عبد الله بن عُمَر على تخريج حسنٍ ، وهو أن المعنى : وفارس من بعد غلبهم للروم سيغلبون إلا أن فيه إضمار ما لم يذكر ولا جرى سبب ذكره .
قوله : { فِي بِضْعِ سِنِينَ } متعلق بما قبله ، وتقدم تفسير البضع واشتقاقه في « يُوسُفَ » . وقال الفراء : الأصل في غلبهم غلبتهم بتاء التأنيث فحذلت للإضافة كإقامة ضرورة تدعو إليه ، وقرأ ابن السَّمَيفَع وأبو حيوة غلبهم فيحتمل أن يكون ذلك تخفيفاً شاذّاً ، وأن يكون لغة في المفتوح كالظَّعَنِ والظَّعْنِ .
فصل
قوله : { في أَدْنَى الأرض } أي أرض العرب ، لأن الألف واللام للعهد ، والمعهود عندهم أرضهم . فإن قيل : أي فائدة في ذكر قوله : { من بعد غلبهم } لأن قوله : « سيغلبون » بعد قوله : « غلبت الروم » لا يكون إلا من بعد الغلبة؟
فالجواب : فائدته إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفاً فلو كان غلبتهم بشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعد ما غلبوا دل عليه أن ذلك بأمر الله ( فقال ) من بعد غلبهم فيتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بقوتهم وإنما ذلك بأمر هو من الله ، وقوله : في أدنى الأرض لبيان شدة ضعفهم أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طرف الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم ثم غلبوا حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هناك « الرومية » لبيان أن هذه الغلبة العظيمة بعد ذلك الضعف العظيم بإن الله تعالى .
فصل
قال : { فِي بِضْعِ سِنِينَ } وهو ما بين الثلاثة والعشرة فأبهم الوقت مع أن المعجزة في تعيين الوقت أتم لأن السنة والشهر واليوم والساعة كلها معلومة عند الله وبينها لنبيه ، وما أذن له في إظهاره لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد النائية تكون معلومة الوقوع بحيث لا يمكن إنكارها لكن وقتها يمكن الاختلاف فيه فالمعاند كان يتمكن من أن يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلاف في كلامه ، ولَمَّا نزلت الآية خرج أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الكفار فقال : فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا فواللَّه لتَظْهَرَنَّ الرُّوم على فارسَ أخبرنا بذلك نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه أُبَيُّ بن خلف الجُمَحِيّ فقال : كَذَبْتَ فقال : أنت أكذبُ يا عدوَّ اللَّهِ ( فقال اجعل بيننا ) أجلاً أن احبك عليه ، والمناحبة المراهنة على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت ، وجعلوا الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك ، وذلك قبل تحريم القُمَار ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ، وماده ( في الأجل ) فجعلها مائة قلوص ، إلى تسع سنين ، وقيل : إلى سبع سنين قال : قد فعلت وهذا يدل على علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بوقت الغَلَبَةِ ثم إنّ أبيّ بْنَ خلف خَشِيَ أن يخرج أبو بكر من مكة فأتاه ولزمه وقال ( أبيّ ) : أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلاً فكفل له ابن عبد الله بن أبي بكر ، فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد رآه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال : والله لا أدَعُكَ حتى تُعْطِيَنِي كفيلاً فأطاه ، ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بارزه وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم .

وقيل : كان يوم بدر ، قال الشعبي : لم تَمْض تلك المدة التي عقدوا المانحبة بينهم أهل مكة وصاحب قمارهم أبي بن خلف والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر الصديق ، وذلك قبل تحريم القمار حتى غلبت الروم فارس ، وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية فقمر أبو بكر أبيّاً ، وأخذ مال الخطر من ورثته ، وجاء به يحمله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تصدق به .
قوله : { مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ } العامة على بنائها ضمّاً لقطعهما على الإضافة وإرادتهما أي من قَبْلِ الغَلَبِ ومِن بَعْدِهِ أو من قبل كل أمر ومن بعده ، وإنما بني على الضم لما قطعت عن الإضافة لأن غير الضمة من الفتح والكسرة تشبيه بما يدخل إليهما وهو النصب والجر ، أما النصب ففي قولك : « جِئْتُ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ » .

وأما الجر ففي قولك : « من قبلِه ومن بَعْدِه » فبني عليه لعدم دخول مثلها عليه في الإعراب وهو الرفع ، وحكى الفراء كسرها من غير تنوين . وغلطه النحاس وقال : إنما يجوزُ من قبل ومن بعد يعني مكسوراً منوناً ، قال شهاب الدين : وقد قرىء بذلك ووجهه أنه لم ينو إضافتهما فَأَعْرَبَهُمَا كقوله :
4033 - فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً ... أَكَاد أَغُصُّ بِالمَاءِ القُرَاحِ
وقوله :
4034 - وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّة ... فَمَا شَرِبُوا بَعْداً عَلَى لذَّةٍ خَمْرَا
وحكي من قبلٍ بالتنوين والجر ومن بعدُ بالبناء على الضم .
وقد خرج بعضهم ما حكاه الفراء على أنه قدر أن المضاف إيله موجود فترك الأول بحاله وأنشد :
4033 - . ... بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ
والفرق لائح ، فإن في اللفظ مثل المحذوف على خلاف في تقدير البيت أيضاً .
( فصل )
وعلى قراءة عبد الله بن عمر ، وأبي سعيد الخدري ، والحسين ، وعيسى بن عمر غَلَبَتِ الروم بفتح الغين واللام سيُغْلَبون بضم الياء وفتح اللام . قالوا : نزلت حين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غلبة الروم فارساً في أدنى الأرض ( إليكم ) وهم من بعد غلبهم سيغلبون المسلمين في بضع سنين وعند انقضاء هذه المدة أخذ المسلمون في جهاد الروم والأول قول أكثر المفسرين وهو الأصح ولله الأمر من قبل وم نبعد أي من قبل دولة الروم على فارس ومن بعدها فأي الفريقين كان لهم الغلبة فهو بأمر الله وقضائه وقدره .
قوله : « ويَوْمَئِذٍ » أي إذ تغلبُ الروم فارساً ، والنصاب « ليوم » ( يفرح وقوله « بنصر الله ينصر » من التجنيس ، وقد تقدم آخر الكهف ، وقوله : بنصر الله « الظاهر تلقه » بيفرح ) . وجوز أبو البقاء أن يتعلق « بِيَنْصُرُ » وهذا فيه تفكيك للنَّظْمِ .
فصل
المعنى : يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله الروم على فارس . قال السدي : فرح النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر ، فظهر أهل الكتاب على أهل الشرك { ينصر من يشاء وهو العزيز } الغالب « الرحيم » للمؤمنين .

وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)

قوله : « وَعْدَ اللَّهِ » مصدر مؤكد ناصبه مضمر أي وَعَدَهُم اللَّهُ ذلك وعداً بظهور الروم على فارسَ { لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } وهذا مقدر لمعنى هذا المصدر ويجوز أن يكون قوله : { لا يخلف الله وعده } حالاً من المصدر فيكون كالمصدر الموصوف فهو مبين للنوع ( و ) كأنه قيل : وعد اله وعداً غير مخلف { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } .
قوله : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا } يعني أمر معايشهم كيف يكتسبون ويتَّجِرُونَ ومتى يغرسون قال الحسن : إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه ، ولا يخطىء وهو لا يحسن ( يصلي ) والمعنى أن علمهم منحصر في الدنيا بل لا يعلمون الدنيا كما هي وإنما يعلمون ظاهرها وهو ملاذها ، ولا يعلمون باطنها وهو مضارها ومتاعبها ولا يعلمون فناها { وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ } ساهون جاهلون بها لا يتفكرون فيها ، وذكرهم الثانية ليفيد أن الغفلة منهم وإلا فأسباب التذكر حاصلة .
قوله : « أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا » فقوله في أنفسهم ظرف للتفكّر ، وليس مفعولاً للتفكر ( ومتعلقه خلق ) السماوات والأرض ، والمعنى أن أسباب التفكر حاصلة وهي أنفسهم لو تفكروا فيها لعلموا وَحْدَانِيَّة الله ، وصدقوا بالحشر أما الوحدانية فلأن الله تعالى خلقهم في أحسن تقويم ، ومن يفكر في تشريح بدن الإنسان وحواسه رأى في ذلك حِكَماً كل واحدة منها كافية في معرفة كون الله فاعلاً مختاراً قادراً كاملاً عالماً ، ومن يكون كذلك يكون واحداً وإلا لكان عاجزاً عن إرادة شريكه ضد ما أراده وأما دلاله الإنسان على الحشر فلأنه إذا تفكر في نفسه يرى قُوَى مصائره إلى الزوال ، وأجزاء ماثلة إلى الانحلالِ وله فناء ضروري فلو لم يكن حياة أخرى لكان خلقه على هذا الوجه عبثاً وإليه الإشارة بقوله { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } [ المؤمنون : 115 ] ، هذا ظاهر ، لأن من يفعل شيئاً للعبث ، فلو بالغ في أحكامه لضحك منه فأذن خلقه لذلك للبقاء ولا بقاء دون اللقاء بالآخرة فإذن لا بد من البعث . ثم إنه تعالى ذكر بعد دليل الأنفس دليل الأقطار فقال : { مَّا خَلَقَ الله السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } فقوله : « إلا بالحق » إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية وقد بينا ذلك في قوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ العنكبوت : 44 ] .
قوله : « ما خلق » « ما » نافية ، وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها .
والثاني : أنها معلقة للتفكّر فتكون في محل نصب على إسقاط الخافض ويضعف أن تكون استفهامية بمعنى النفي ، وفيها الوجهان المذكوران . والباء في « بالحق » إما سببية ، وإما حالية لإقامة الحق ، وقوله : « وَأَجَلٌ مُسَمّىً تذكير بالأصل الآخر الذي أنكروه أي لوقت معلوم ، إذا انتهت إليه فنيت وهو يوم القيامة ، { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُون } لا يعلمون أنه لا بد بعد هذه الحياة من لقاء وبقاء .

قوله : « بلقاء » متعلق « بالكافرين » واللام لا تمنع من ذلك لكونها في خبر « إنَّ » .
فإن قيل : ما الحكمة في تقديمه ههنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق وقدم دليل الآفاق على دلائل الأنفس في قوله : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] ؟
فالجواب : أن المفيد إذا أفاد فائدة يتذكرها على وجه جيد يختاره فإن مهمة السامع المستفيد فذاك ، وإلا يذكرها على وجه أبْيَنَ منه وينزل درجة فدرجة وأما المستفيد فإنه يفهم أولاً الأبين ثم يرتقي إلى فهم ذلك الأخفى الذي لم يكن فهمه فيفهمه بعد فهم الأبين المذكور آخراً فالمذكور من المفيد أخِراً مفهوم عند المستمع أولا ، إذا علم هذا فنقول ههنا ( الفعل ) كان منسوباً إلى السامع حيث قال : { أو لم يتفكروا في أنفسهم } فقال : « في أنفسهم » يعني فيما فهموه أولاً ولم يرتقوا إلى ما فهموه ثانياً ، وأما في قوله « سَنُرِيهِمْ » الأمر منسوباً إلى المفيد المسمع فذكر أولاً الآفاق ، فإن لم يفهموه فالأنفس ، لأن دلائل الأنفس لا ذهول للإنسان عنها ، وأما دلائل الآفاق فيمكن الذهول عنها ، وهذا الترتيب مراعىً في قوله تعالى : { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 191 ] أي يعلمون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال ويتفكرون في خلق السماوات والأرض بدلائل الآفاق .
فصل
وجه دلالة الخلق الحَقِّ على الوحدانية ظاهر ، وأما وجه دلالته على الحشر فلأن ( تخريب ) السموات وعدمها لا يعلم بالعقل إلا إمكانه ، وأما وقوعه فلا يعلم إلا بالسمع لأن الله قادر على إبقاء الحوادث أبداً كما أنه يبقي الجنة والنار بعد إحداثهما أبداً ، والخلق دليل إمكان العدم ، لأن المخلوق لم يَجِبْ له القِدَمُ فجاز عيله العدم ، فإذا أخبر الصادق عن أمر ممكن وجب على العاقل التصديق والإذعان؛ لأن العالم لما كان خلقه بالحق ينبغي أن يكون بعد هذه الحياة حياةٌ أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست لَعباً ولهواً كما تبين بقوله : { وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } [ العنكبوت : 64 ] ( وخلق السموات والأرض للهو واللعب عبث ، والعبث ليس بحق ) فخلق السماوات والأرض بالحق يدل على أنه لا بد بعد هذه الحياة الدنيا من الحياة .
فإن قيل : ما الفائدة في قوله ههنا : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس } وقال من قبل : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ؟ .
فالجواب : ( فائدته ) أنه من قبل لم يذكر دليلاً على الأصلين وههُنَا قَدْ ذكر الدلائل الراسخة والبراهين اللائحة ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل فبعد الدليل لا بد ( أن يؤمن ) من ذلك الأكثر جمع فلا يبقى الأكثر كما هو ، فقال بعد إقامة الدليل وإنَّ كَثِيراً ، وقال قبله : { ولكن أكثر الناس } لأنه بعد الدليل الذي لا يمكن الذهول عنه وهو السماوات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه ، والأرض التي تحته ، فلهذا ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمر أمثالهم ، وحكاية أشكالهم فقال : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ } وقال في الدليلين المتقدمين « أَوَلَمْ يَرَوا » « أَوَلَم يَتَفَكَّروا » إذ لا حاجة هناك إلى السير بحضور النفس والسماء والأرض ، وقال ههُنا « أوَ لَمْ يَسِيرُوا فينظروا » ذكرهم بحال أمثالهم ، ومآل أشكالهم ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك ، لأن من تقدم من « عَادٍ وَثُمودَ » كانوا أشدّ منهم قوة ، ولم ينفعهم قُوَاهم وكانوا أكثر مالاً وعمارةٌ ، ولم يمنعهم من الهلاك أَموالُهُمُ وحُصُونُهُمْ .

قوله : « وَأَثَارُوا الأَرْضَ » حَرَثُوهَا وقلبوها للزراعة ( ومنه « البَقَرَة تُثِيرُ الأَرْضَ » وقيل : منه سمي ثوراً ) ، وأنتم لا حراثة لكم ، « وعَمَرُوها أَكْثَرَ ممّا عَمَرُوهَا » أهل مكة ، قيل : قال ذلك لأنه لم يكن لأهل مكة حرث ، وقوله : « أكثر مما » نعت مصدر محذوف أي عمارة أكثر من عمارتهم . وقرىء : « وآثَارُوا » بألف بعد الهمزة وهي إشباع لفتح الهمزة .
قوله : { وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } فلم يؤمنوا فأهلكهم الله ، { فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } بنقص حقوقهم { ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بِبَخْسِ حُقُوقِهِمْ .
قوله : « عَاقِبَةُ الذَّيِنَ » قرأ نافعٌ ، وابنُ كثيرٍ ، وأبو عمروٍ بالرفع ، والباقون بالنصب ، فالرفع على أنها اسم كان ، وذكر الفعل لأن التأنيث مجازي ، وفي الخبر حينئذ وجهان :
أحدهما : « السوءى » أي الفعلة السوءى والخَصْلَةُ السوءى .
والثاني : « أَنْ كَذَّبُوا » أي كان آخر أمرهم التكذيب فعلى الأول يكون في « أَنْ كَذَّبُوا » وجهان :
أحدهما : أنه على إسقاط الخافض إما لام العلة أي لأن كذبوا ، وإما باء السببية أي بأن كذبوا فلما حذف الحرف جرى القولان المشهوران بين الخليل وسيبويه في محل « أَنْ » . :
والثاني : أنه بدل من « السُّوءَى » أي ثم كان عاقبتهم التكذيب ، وعلى الثاني يكون « السوءى » مصدراً « لأساءوا » أو يكون نعتاً لمفعول محذوف أي أساء والفعلةَ والسُّوءَى ، و « السوءى » تأنيث « لِلأَسْوَأ » . وجوز بعضهم أن يكون خبر كان محذوفاً للإبهام ، و « السوءى » إما مصدر وإما مفعول كما تقدم أي اقْتَرَفُوا الخَطِيئَةَ السُّوءَى؛ أي كان عاقبتهم الدّمار . وأما النصب فعلى خبر كان ، وفي الاسم وجهان :
أحدهما : « السوءى » إن كانت الفعلة السوءى عاقبةَ المُسِيئينَ ، و « أَنْ كَذَّبُوا » على ما تقدم .
الثاني : أن الاسم « أَنْ كَذَّبُوا » و « السُّوءَى » على ما تقدم . المعنى : ثم كان عاقبة الذين أساءُوا السُّوءى يعني : الخلة التي تسوؤهم وهي النار ( وهي ) السُّوءَى اسم لجهنم كما أن الحُسْنَى اسم للجنة « أن كذبوا » أي لأن كذبوا ، وقيلك تفسير « السوءى » ما بعده ، وهو قوله : « أَنْ كَذَّبُوا » يعني : ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب حَمَلَهُمْ تلك السيئات على أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون .

اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)

قوله : { الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الموت أحياء ولم يقل : « يُعِيدُهُمْ » رد على الخلق ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؛ فيجزيهم بأعمالهم ، قرأ أبو بكر ، وأبو عمرو « يَرْجِعُونَ » - بالياء - والآخرون بالتاء .
قوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون } قرأ العامة « يُبْلِسُ » ببنائه للفاعل وهو المعروف يقال : أَبْلَسَ الرجل أي انقطعت حجته فكست وهو قاصر لا يتعدى ، قال العجاج :
4036 - يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسَا ... قَالَ : نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
وقرأ السُّلَمِيُّ : « يُبْلَسُ » مبنيّاً للمفعول ، وفيه بعدٌ ، لأن أبْلَسَ يتعدى ، وقد خُرِّجَتْ هذه القراءة على أن القائم مقام الفاعل مصدر الفعل ، ثم حذف ( المضافُ ، وأقيم ) المضاف إليه مُقَامَهُ ، إذ الأصل يُبْلَسُ إبْلاَس المجرمين ، و « يبلس » هو الناصب « ليَوْمَ تَقُومُ » و « يَوْمَئِذٍ » مضاف لجملة تقديرها يَوْمَئِذٍ يقوم وهذا كأنه تأكيد لفظي ، إذ يصير التقيدر يبلس المجرمون ( يوم تقوم الساعة ) .
فصل
قال قتادةُ والكَلْبِيُّ : المعنى يبلس المشركون من كل خير؛ وقال الفراء : ينقطع كلامهم وحججهم . وقال مجاهد : يفتضحون . ولم يكن لهم شركائهم أصنامهم التي عبدوها ليشفعوا لهم شفعاء ، { وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ } يتبرأون منها وتتبرأُ منهم .
قوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } أي بين أهل الجنة من أهل النار ، قال مقاتل : يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار فلا يجتمعون أبداً كما قال تعالى : { فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير } [ الشورى : 7 ] . قوله : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ } وهي البستان الذي في غاية النضارة ، وقوله : « يُحْبَرُونَ » قال ابن عباس يكرمون . وقال قتادة ومجاهد : يُنَعمون ، وقال مجاهد وأبو عبيدة : يسرون ، والحَبْر والحُبُور السرور . وقيل الحَبْرة في اللغة كل نعمة حسنة والتَّحْبير التَّحْسِينُ يقال هو حسن الحِبرَ والسِّبر بكسر الحاء والسين وفتحهما وفي الحديث : « حَبْرْتُهُ لَكَ تَحْبِيراً » ، أي حسنت لك صوتي والقرآن تحسيناً ، وجاء في الحديث « يَخْرُجُ من النَّارِ رَجُلٌ ذَهَبَ حَبْرُهُ وسَبْرُهُ » فالمفتوح مصدر والمكسور اسم ، والروضة الجنة ، قيل : ولا تكون روضة إلا وفيها نبت ، وقيل : إلا وفيها ماء ، وقيل : ما كانت منخفضة ، والمرتفعة يقال لها : تُرعة ، وقيل : لا يقال لها روضة إلا وهي في مكان غليظ مرتفع . قال الأعشى :
4037 - ما رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةً ... خَضْرَاءَ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ
وأصل رياضٍ رَواضٌ ، فقلبت الواو ياء على حدِّ حَوْصٍ وحِيَاضٍ ونكر الروضة للتعظيم ، وقال ههنا : يُحْبَرُونَ : بصيغة الفعل ولم يقل « مَحْبُرُونَ » وقال في الأخرى ( مُحْضَرُون ) بصيغة الاسم ولم يقل « يُحْضَرُونَ » لأن الفعل يدل على التجديد ، والاسم لا يدل عليه ، فقوله « يحبرون » يعني كل ساعة يأتيهم ما يسرون به ، وقوله « محضرون » أي الكفار في العذاب يبقون ( فيه ) مُحْضَرُونَ .

فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)

قوله : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } أي سبحوا الله ، ومعناه صلوا عليه حين « تمسون » تدخلون في المساء ، وهو صلاة المغرب والعشاء « وحين تصبحون » أي تدخلون في الصباح وهو صلاة الصبح . { وَلَهُ الحمد فِي السماوات والأرض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } قال ابن عباس : يَحْمَدُهُ أهل السماوات والأرض ويصلون « وَعَشيّاً » أي صلوا لله عشياً؛ يعني صلاة العصر « وحِينَ تُظْهِرُونَ » أي تدخلون في الظهيرة وهي صلاة الظهر ، قال نافع الأزرق لابن عباس ، هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال : نعم وقرأ هاتَيْنِ الآيتين ، وقال : جمعت الآية الصلوات الخمس ومواقيتها . وروى أبو هريرة « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال » مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحْمْدِهِ فِي يَوْم مائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ « ( وقال عليه السلامَ : » مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبحُ وَحِينَ يُمْسِي سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مائةَ مَرَّةِ لَمْ يَأْتِ أَحِدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَفْضَلَ ممّا جَاءَ بِهِ إلاَّ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أوْ زَادَ عَلَيْهِ « ، وقالَ عليه السلام : » كَلَمَتانِ خَفِيفَتَانِ على اللِّسانِ ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ حَبيبَتَانِ عَلَى الرَّحمَن : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ الله العَظيم «
قوله : » تُمْسُونَ وتُصْبِحُونَ « تامَّاتٌ ) أي تدخلون في المساء والصباح كقولهم : إذا سَمِعْتَ بِسُرَى القَيْنِ فاعلم بأنه ( مُصْبِح ) أي مقيم في الصباح . والعامة على إضافة الظرف إلى الفعل بعده ، وقرأ عكرمة : » حِيناً « بالتنوين ، والجملة بعده صفة له ، والعائد حينئذ محذوف أي تُمْسُونَ فيه ، كقوله { واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } [ لقمان : 33 ] . والناصب لهذا الظرف » سُبْحَانَ « لأنّه نائب عن عامله .
قوله : » وَعَشيّاً « عطف على » حين « وما بينهما اعتراض و » في السَّمَوَاتِ « يجوز أن يتعلق بنفس الحمد ( أي أن الحمد ) يكون في هذين الظرفين .

يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

قوله : { يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } . قد تقدم اختلاف القراء في تخفيف الميت وتثقيله وكذلك قوله « تُخْرَجُونَ » في سورة الأعراف ، و « كَذَلِكَ » نعت مصدر محذوف أي ومثل ذلك الإخراج العجيب تُخْرَجُونَ .
واعلم أن وجه تعلق إخراج احي من الميت والميت من الحي بما قبله هو أن عند الإصباح يخرج الإنسان من سُنَّةِ النَّوْم وهو النوم إلى سنة الوجود وهي اليقظة وعند العشاء يخرج الإنسان من اليقظة إلى النوم . واختلف المفسرون في قوله : { يخرج الحي من الميت } فقال أكثرهم يخرج الدجاجة من البيضة ، والبيضة من الدجاجة وكذلك الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان . وقيل : يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ثم قال : { وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } وفي هذا معنى لطيف وهو أن الإنسان بالموت تبطل حواسه ، وأما نفسه الناطقة فتفارقه ، وتبقى بعده كما قال : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } [ آل عمران : 169 ] لكن الحيوان نام متحرك حساس لكن النائم لا يتحرك ، ولا يُحس ، والأرض الميتة لا يكون فيها نماء ، ( ثم ) النائم بالانتباه يتحرك ويحس والأرض بعد موتها ( ينمو ) نباتها ، فكما أن تحريك ذلك الساكن وهذا الواقف سهل على الله ، كذلك إحياء الميت سهل على الله ، وإلى هذا أشار بقوله « وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ » .

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)

قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ } مبتدأ أو خبر أي وم جملة علامات توحيده وأنه يبعثكم خلقكم واختراعكم و « من » لابتداء الغاية ، وقوله : « من تراب » أي خلق أصلنا وهو آدم من تراب ، ( أ ) وأنه خلقنا من نطفة والنطفة من الغذاء والغذاء إنما يتولد من الماء والتراب على ما تقدم شرحه { ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } في الأرض . والترتيب والمهلة هنا ظاهران فإنهم يصيرون بشراً بعد أَطْوَارِ كثيرة و « تَنْتَشِرُونَ » حال .
و « إِذَا » هي الفُجَائِيَّة ، إلا أنَّ الفجائية أكثر ما تقع بعد الفاء؛ لأنها تقتضي التعقيب ووجه وقوعها ( مع ) « ثم » بالنسبة إلى ما يليق بالحالة الخاصة أي بعد تلك الأطوزار التي قَصَّها علينا في موضع آخر من كوننا نطفةً ثم علقةً ثم مُضْغَةً ( ثُمَّ عظماً مجرداً ) ثم عظماً مكسوّاً لحما ( فَاجَأ ) البشرية فالانتشار .
قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } « مِنْ أَنْفُسِكُمْ » يعني من بني آدم ، وقيل خلق « حَوَّى » من ضِلَع آدم « لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا » . والصحيح أن المراد من جنسكم كما قال : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] ويدل عليه قوله : « لِتَسْكُنُوا إلِيها » يعني أن الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر ، أي لا يثبت نفسه معه ، ولا يميل قلبه إليه { وجعل بينكم مودة ورحمة } ( وقيل : مودة ) بالمجامعة : ( ورحمة ) للولد تَمَسُّكاً بقَوْلِهِ : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } [ مريم : 2 ] ، وقيل : جعل بين الزوجين المودةَ ( والرحمة ) فهما يَتَوَادَّانِ ، وَيَتَرَاحَمَانِ وما من شيء أحبَّ إلى أحد من الآخر من غير رحم بينهما . { إِنَّ فِي ذَلِكَ } يحتمل أن يكون المراد منه إن في خلق الأزواج « لآيات » . ويحتمل أن يقال : « إنَّ في جعل المودة والرحمة بينهم آيات لقوم يتفكرون » في عظمة الله وقدرته .
قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض } ثم لما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ( ذكر ) ما هو من صفات الأنفس وهو قوله : « واخْتِلاَفَ ألْسِنَتِكُمْ » أي لغاتكم من عرب وعجم مع تنوع كل من ( الجنسين ) إلى أنواع شتى لا سيّما العجم ، فإن لغاتهم مختلفة ، وليس المراد بالألسنة الجوارح ، وقيل : المراد بالألسن اختلاف الأصوات ، وأما اختلاف الألوان فالمراد أبيضُ وأسودُ وأحمرُ وأنتم ولدُ رجلٍ واحد ، ( وامرأةٍ واحدة ) . وقيل : المراد باختلاف الألوان الذي بين ألوان الإنسان فإن واحداً منهم مع كَثْرة عددهم ، وصغر حجم قدودهم لا يشتبه بغيره ، والسموات مع غيرها وقلة عددها مشتبهات في الصورة { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ } ، قرأ حفص بكسر اللام ، جعله جمع عَالِمٍ ضد الجاهل ونحوه : { وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] والباقون بفتحها لأنها آيات لجميع الناس وإن كان بعضهم يَغْفُلُ عنها وقد تقدم أول الفاتحة الكلام في « العَالَمِينَ » ( قيل ) : هو جمع أو اسم جمع .

قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار } لما ذكر الأعراض اللازمة وهي الاختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة بالنهار طلباً للرزق ( و ) قيل : في الآية تقديم وتأخير ليكون كل واحد مع ما يلائمه ، والتقدير ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار ، فحذف حرف الجر لاتصاله بالليل ، وعطفه عليه لأن حرف العطف قد يقوم مَقَامَ الجَارِّ ، والأحسن أن يجعل على حاله .
والنوم بالنهار مما كانت العرب تَعُدُّه نعمةً من الله ، ولا سيما في أوقات القَيْلُولَةِ في البلاد الحارة ، وقوله : { وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ } أي منهما فإن كثير ما يكتسب الإنسان بالليل ، ويدل على الأول قوله تعالى : { وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [ الإسراء : 12 ] وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } [ النبأ : 10 - 11 ] ، ثم قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } سماع تدبير واعتبار وقال ههنا : « لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ » ومن قبل : « لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » وقال : « لِلْعَالَمِينَ » لأن المنام بالليل ، والابتغاء يظّن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله ، فلم يقل آياتٍ للعالمين ، ولأن الأمرين الأولين وهو اختلاف الألسن والأولون من اللوازم والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألون فإنهما يدومان بدَوَام الإنسان فجعلها آيات عامة ، وأما قوله : « لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » فإن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر ، ومنها ما يكفي فيه مُجَرَّدُ الفكرة ، ومنها ما يحتاج بعض الناس في تفهمه إلى مثل حسيّة كالأشكال الهندسية ، لأن خلق الأرواح لا تقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكرة ، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية ، وأما المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد ، وقد يحتاج إلى مرشد بغير فكرة فقال : « لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ » ويجعلون بالهم من كلام المرشد .
قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً } لما ذكر العرضيات اللازمة للأنفس المفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق .
قوله : « يُريكُمُ البَرْق » فيه أوجه أظهرها : الموافق لأخواته أن يكون جملة اسمية من مبتدأ وخبر إلا أنه حذف الحرف المصدري ، ولما حذف بطل عمله والأصل : ومن آياته أن يُرِيَكُمْ ، كقوله :
4038 - أَلاَّ أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى .. .
الثاني : أن « من آياته » متعلق « بيريكم » أو بمحذوف على أنه حال من البَرْقِ . والتقدير « يريكم البرق من آياته » فيكون قد عطف جملة فعليةً على جملة اسمية .
والثالث : أن « يريكم » صفة لموصوف محذوف أي ومن آياته ( آية ) يريكم البرق بها أو فيها البرق فحذف الموصوف والعائد عليها ومثله :

4039 - وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أموت
أي منهما تارة أموت منها .
الرابع : أن التقدير : ومن آياته سحابٌ أو شيءٌ يريكم؛ فيريكم صفة لذلك المقدر ، وفاعل « يريكم » ضمير يعود عليه بخلاف الوجه قبله ، فإن الفاعل ضمير الباري تعالى .
فصل
المعنى يريكم البرقَ خوفاً للمسافرين من الصواعق ، وطمعاً للمقيمين في المطر وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون } .
فصل
قدم لوازم الأنفس على العوارض المفارقة ( حيث ذكر أولاً اختلاف الألسنة والألوان ثم المنام والأبتغاء ، وقدم في الآفاق العارضة المفارقة ) على اللوازم حيث قال : { يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ } وذلك لأن الإنسان متغير الحال ، فالعوارض فيها أغرب من اللوازم فقدم ما هو عجيب لكونه أدخلَ في كونهِ « آيةً » فإن الإنسان يتغير حاله بالكبر والصغر والصحة والسقم فله صوت يعرف به لا يتغير ول لون يتميز به عن غيره ، وهو متغير بذلك في الأحوال وذلك لا يتغير وهو آية عجيبة والسماء ( والأرض ) ثابتان لا يتغيران ثم نرى في بعض الأحوال أمطاراً هاطلةً ، وبُرُوقاً هائِلةً والسماء كما كانت والأرض كما كانت وذلك آية تدل على فاعل مختار يديم أمراً مع تغير المحلِّ ويُزِيل أمراً مع ثبات المحلِّ .
فصل
كما قدم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء وكما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافعَ كذلك في تقديم الرعد والبرق على المطر منفعة وهي أن البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كِنّ يخاف الابتلاء فيستعد له ، والذي له صهْريج ، أو مصنع يحتاج إلى ماء أو زرع يسوي مجاري الماء ، وأيضاً أهل البوادي لا يعلمون أن البلاد عشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروقَ اللائحة من جانبٍ دُونَ جانبٍ ، واعلم أن دلائل البرق وفوائده وإن لم تظهر للمُقِيمينَ في البلاد فهي ظاهرة للبادين فلهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية .
فصل
أما كونه آيةً فلأن الذي فس السحاب ليس إلا ماءً وهواءً وخروج النار منهما بحيث يحرق الجبال في غاية البعد فلا بد له من خالق وهو الله . وقالت الفلاسفة : السحاب فيه كثافة ولطافة بالنسبة إلى الهواء أو الماء فالهَوَى ألطف منه والماء أكثف فإذا هبت الريحُ قويةً تحرك السحابُ فيَحْدُثُ صوت الرعد وتخرج منه النار ، كما أن النار تخرج من وَقْعِ الحَجَر على الحَديد فإن قيل : الحديد والحجر جسمان صُلْبَان ، والسحاب والريح جسمان ( لَيَنانٍ ) ( فنقول لكن حركة يد الإنسان ضعيفة ، وحركة الريح قوية تقلع الأشجار ) فنقول لهم الرعد والبرق ( أَمْرانِ ) حادثان لا بد لهما من مسبِّب ، وقد علم بالبرهان كونُ كلِّ حادث ( فهما ) من الله ثم نقول : ( هب ) أن الأمر كما يقولون فهبوب تلك الريح القوية من الأمور الحادثة العجيبة فلا بد لها من سبب وينتهي إلى واجب الوجود فهو آية للعاقل على قدرة الله كَيْفَمَا فَرَضْتُمْ .

فإن قيل : ما الحكمة في قوله ههنا : { آيات لقوم يعقلون } وقوله فيما تقدم : « لقوم يتفكرون؟ » فالجواب :
لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أن ذلك بالطبيعة لأن المطرد أقرب إلى الطبيعة ( من ) المختلف ، والبرق والمطر ليس أمراً دون وقت ، وتارة يكون قوياً ، وتارة يكون ضعيفاً فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار ، فقال هو آية لمن له عقل وإن لم يتفكر تفكراً تاماً .

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)

قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ } قال ابن مسعود : قامتا على غير عُمُدٍ بأمره . واعلم أنه ذكر من لوزم المساء والأرض قيامهما فإن الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء في علوها معجب من علوها وثباتها من غير عمد ، وهذا من اللوازم ، فإن الأرض لا تخرج عن مكانه الذي فيه .
( فإن قيل : ) بأنها تتحرك في مكانها كالرَّحَاء ، ولكن اتفق العقلاء على أنها في مكانها ( لا تخرج عنه . وهذا آية ظاهرة لأن كونهما في الموضع الذي هما فيه ، وعلى الموضع الذي هما عليه ) من الأمور الممكنة وكونهما في غير ذلك الموضع جائز فكان يمكن أن يَخْرُجَا منه ، فلمّا لم يخرجا كان ذلك ترجيحاً للجائز على غيره وذلك لا يكون إلا بفاعل مختار ، وقالت الفلاسفة : كون الأرض في الكائن الذي هي فيه طبيعى لها لأنها أثقل الأشياء ، والثقيل يطلب المركز والخفيف يطلب المحيط وكون السماء في مكانها إن كانت ذات مكان فلذاتها ، فقيامها فيه لطبعها وأُجيبُوا بأنكم وافقتمونا بأن ما جاز على أحد المثلين جاز على المثل الآخر لكن مقعَّر الفلك لا يخالف مُحْدَبه في الطبع فيجوز حصول مقعره في موضع محْدبه وذلك بالخروج والزوال فإذن تطرق الزوال إليه عن المكان ممكن لا سيما على السماء الدنيا فإنها ليست محدّده للجهات على مذهبكم أيضاً والأرض كانت يجوز عليها الحركة الدورية كما تقول على السماء فعدمها وسكونها ليس إلا بفاعل مختار .
فصل
ذكر الله تعالى من كل باب أمرين : أما من الأنفس فقوله : « ( خلقكم ) وخلق لكم » واستدل بخلق الزوجين ومن الآفاق السماء والأرض ( فقال : « خلق السماوات والأرض » ) ومن لواز الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارض الآفاق البَرْقَ والأمطار ومن لوازمها قيام السماء والأرض؛ لأن الواحد يكفي للإقرار بالحق ، والثاني يفيد الاستقرار ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين ، فإن قول أحدهما يفيد الظن ، ، وقول الآخر يفيد تأكيده ، ولهذا قال إبراهيم عليه ( الصَّلاَة و ) السلام : { بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 60 ] .
فصل
قوله : بأمره أي بقوله : « قوما » أو بإرادته قيامها؛ لأن الأمر عند المعتزلة موافقٌ للإرادة وعندنا ليس كذلك ولكن النزاع في أمر التكليف ، لا في أمر التكوين فإنا لا ننازعهم في أن قوله : « كُنْ فَيَكُونَ » و « كُونِي » و « كونوا » موافق للإرادة .
فإن قيل : ما الفائدة في قوله « ههنا » : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء } وقال قبله : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] ( ولم يقل : أنْ يُرِيَكُم ) ليصير ( كالمصدر « بأن » ؟ ) .
فالجواب : أن القيام لما كان غير متغير أخرج الفعل بأن عن الفعل المستقبل ولم يذكر معه الحروف المصدرية .

فإن قيل : ما الحكمة في أنه ذكر ست دلائلَ وذكر في أربعةٍ منها : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ } [ الروم : 24 ] ولم يذكر الأولى وهو قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } [ الروم : 20 ] ولا في الآخر وهو قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض } ؟ .
فالجواب : أما الأول فلأن قوله بعده : { ومن آياته أن خلق لكم } أيضاً دليل الأنفس فخلق السماء والأرض وخلق الأزواج من باب واحد على ما تقدم من أنه تعالى ذكر من كل باب أمرين للتقرير والتوكيد . فلما قال في الثانية : { إن في ذلك لآيات } كان عائداً إليهما ، وأما في قيام السماء والأرض فلأنه ذكر في الآيات السماوية أنها آيات للعالمين ولقوم يعقلون وذلك لظهور فلما كان في أول الأمر ظاهراً ففي آخر الأمر بعد سَرْدِ الدلائل يكون أظهر ( فلم يميز أحداً في ذلك عن الآخر ) . ثم إنه تعالى لما ذكر الدليل على القدرة والتوحيد ذكر مدلوله وهو قدرته على الإعادة فقال : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } وجه العطف « بثم » و « بم تعلق » فمعناه أنه تعالى إذا بين لكم كمال قدرته بهذه الآيات بعد ذلك يخبركم ويعلمكم أنه إذا قال للعظام الرميمة اخرجوا من الأجداث يخرجون أحياء .
قوله : « مِنَ الأَرْضِ » فيه أوجه : أظهرها : أنه متعلق بمحذوف يدل عليه « يخرجون » أي خرجتم من الأرض ، ولا جائز أن يتعلق « بتَخْرُجُونَ » لأن ما بعد « إذا » لا يعمل فيما قبلها .
فصل
قَوْلُ القَائِل : « دعا فلانٌ فلاناً من الجبل » يحتمل أن يكون الدعاء من الجبل كما يقول القائلك يا فلانُ ( اصْعَدْ ) إلى الجبل ، ( فيقال : دَعَاهُ من الجبل ، ويحتمل أن يكون المدعوّ يُدْعَى من الجبل كما يقول القائل : يا فلانُ انزل من الجبل فيقال دعاه من الجبل ) ، ولا يخفى على العاقل أن الدعاء لا يكون من الرض إذا كان الداعي هو اللَّه ، والمدعوّ يدعى من الأرض ، يعني أنكم في الأرض فيدعوكم منها فتخرجون ، وَإِذا هي الفجائية ، قال أكثر العلماء معنى الآية : ثم إذا دعاكم دعوة إِذا أنتم تخرجون من الأرض .
فصل
قال ههنا : { إذا أنتم تخرجون } وقال في خلق الإنسان أولاً : { ثم إذا أنتم بشر تنتشرون } لأن هناك يكون خلقٌ وتقديرٌ وتدريجٌ حتى يصير التراب قابلاً للحياة فينفُخُ فيه روحَه فإذا هو بشر ، وأما في الإعادة فلا يكون تدريجٌ وتراخٍ بل يكون نداء وخروج ، فلم يقل ههنا : « ثُمَّ » .
قوله : { وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } قال ابن عباس : كل له مطيعون في الحياة والفناء والموت والبعث وإنْ عَصَوْا في العبادة . وقال الكلبي : هذا خاص لمن كان منهم مطيعاً . ولما ذكر الآيات التي تدل على القدرة على الحشر الذي هو الأصل الآخر والوحدانية التي هي الأصل الأول أشار إليهما بقوله : { وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض } ونفس السموات والأرض له وملكه فكُلٌّ له منقادون قانتون ، والشريك يكون منازعاً ، فلا شريك له أصلاً ، ثم ذكر المدلول الآخر فقال : { هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده } يخلقهم أولاً ، ثم يعيدهم بعد الموت للبعث .

وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } في « أهون » قولان :
أحدهما : أنها للتفضيل على بابها وعلى هذا يقال : كيف يتصور التفضيل ، والإعادة والبداءة بالنسبة إلى الله تعالى على حد سواء؟ في ذلك أجوبة : أحدها : أن ذلك بالنسبة إلى اعتقاد البشر باعتبار المشاهدة من أن إعادة الشيء أهون من اختراعه لاحتياج الابتداء إلى إعمال فكر غالباً ، وإن كان هذا ( مُنْتَفِياً ) عن البارىء تعالى فخوطبوا بحسب ما أَلِفُوهُ .
الثاني : أن الضمير في « عليه » ليس عائداً على الله تعالى إنما يعود على الخلق أي والعود أَهْوَنُ عَلَى الخلق أي أسرع لأن البداء فيها تدريجٌ من طورٍ إلى طورٍ إلى أن صارت إنساناً والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات فكأنه قيل : وهو أَقْصَرُ عليه وأيسر وأقل انتقالاً والمعنى يقومون بصيحة واحد فيكون أهون عليهم من أن يكونوا نُطَفاً ثم عَلَقاً ثم مُضَغاً إلى أن يَصِيرُوا رجالاً ونساءً - وهي رواية الكلبي عن أبي صالحٍ عن ابن عباس .
الثالث : أن الضمير في « عليه » يعود على ( المخلوق بمعنى ) والإعادة أَهْوَنُ على المخلوق أي إعادته شيئاً بعد ما أنشأه هذه في عرف المخلوقين ، فكيف ينكرون ذلك في جانب الله تعالى ، والثاني : أن « أَهْوَن » ليست للتفضيل بل هي صفة بمعنى « هَيِّن » كقولهم « اللَّهُ أكبر » أي الكبير وهي رواية العَوْفِيِّ عن ابن عباس .
وقد يجيء « أفعل » بمعنى الفاعل كقول الفرزدق :
4040 - إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتاً دَعائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ
أي عزيزة طويلة . والظاهر عود الضمير في « عليه » على الباري تعالى ليوافق الضمير في قوله : ( وله المثل الأعلى . قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : لم أخرت الصلة في قوله { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وقدمت في قوله ) : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 9 ] قلتُ : هنالك قصد الاختصاص وهو ( محزة ) فقيل : هو على هين وإن كان مستصعباً عندك أن يولد بين هِمٍّ وعاقر فذلك عليّ هين لا على غيري ، وأما هنا فلا معنى للاختصاص كيف والأمر مبيَّن على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء فلو قدمت الصلة لتغير المعنى . قال أبو حيان : ومبنى كلامه على أن التقديم يفيد الاختصاص وقد تقدم منعه . قال شهاب الدين : الصحيح أنه يفيده . وتقدم جمع ذلك .
قوله : { وَلَهُ المثل الأعلى } يجوز أن يكون مرتبطاً بما قبله وهو قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } أي قد ضربه لكم مثلاً فيما يسهل ويصعب . وإليه نحا الزجاج . أو بما بعده من قوله : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ الروم : 28 ] وقيل : المثل : الوصف أي الصفة العليا . قال ابن عباس : هي أنه { ليس كمثله شيء } وقال قتادة : هو أنه لا إله إلا هو .
قوله : » فِي السَّمَواتِ « يجوز أن يتعلق » بالأَعْلَى « أي أنه أعلى في هاتين الجهتين ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من » الأعلى « أو من » المثل « أو من الضمير في » الأعلى « فإنه يعود علىلمثل ، » وَهُوَ العَزِيزُ « في ملكه » الحَكِيمُ « في خلقه .

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)

قوله : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أي بين لكم شبهاً بحالكم ذلك المثل من أنفسكم ، و « من » لابتداء الغاية في موضع الصفة « لِمَثَلاً » ، أي أخذ مثلاً وانْتَزَعَهُ من أقْرَبِ شيء منكم وهو « أنفسكم » ثم بين المثل فقال : { هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } من المال ، والمعنى أن من يكون مملوكاً لا يكون شريكاً له في ماله فكيف يجوز أن يكون عباد الله شركاء له وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة الله تعالى حتى يعبدوا .
قوله : « مِنْ شُرَكَاء » مبتدأ و « من » مزيدة فيه لوجود شرطي الزيادة ، وفي خبره وجهان : أحدهما : الجار الأول وهو « لَكُمْ » و « مِمَّا مَلَكَتْ » يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « شركاء » ؛ لأنه في الأصل نعت نكرة قدم عليها ، والعامل فيه العامل في هذا الجار الواقع خيراً ، أو الخبر مقدر بعد المبتدأ ، و « فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ » « بشركاء » و « ما » في « مما » بمعنى النوع ، تقدير ذلك كله : هل شركاءُ فيما رزقناكم كائنونَ من النَّوْعِ الذي مَلَكتْهُ أيْمَانُكُمْ مستقرون لكم؟ « فكائنون » هو الوصف المتعلق به « ممَّا مَلَكتْ » ولما تقدم صار حالاً و « مستقرون » هو الخبر الذي تعلق به « لكم » .
والثاني : أن الخبر « مِمَّا مَلَكَتْ » و « لَكُمْ » متعلق بما تعلق به الخبر ، أو بمحذوف على أنه حال من « شركاء » أو بنفس « شركاء » كقولك : لَكَ في الدنيا محب « فلك » متعلق ( بِمُحِبٍّ ) وفي الدنيا هو الخبر . قوله : { وَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ } هذه الجملة جواب للاستفهام الذي بمعنى النفي « وَفِيهِ » متعلق « بسَوَاء » .
قوله : « تَخَافُونَهُمْ » فيه وجهان :
أحدهما : أنها خبر ثان « لأنتم » تقديره « فأنتم » مُسْتَوُونَ معهم فيما رزقناكم خائفوهم كخوف بعضهم بعضاً أيها السادة ، والمراد نفي الأشياء الثلاثة أعني الشركة والاستواء مع العَبِيد وخوفهم إياهم ، وليس المراد ثبوت الشركة ، ونفي الاستواء والخوف كما هو أحد الوجهين في قولك : مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا بمعنى ما تأتينا محدِّثاً بل تأتينا ولا تحدثُنا بل المراد نفي الجميع كما تقدم . وقال أبو البقاء : { فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ } الجملة في موضع نصب على جواب الاستفهام أي هل لكم فتستووا أنتم . وفيه نظر كيف يجعل جملة اسمية حالة محل جملة فعليه ويحكم على موضع الاسمية بالنصب بإضمار ناصب ، هذا مما لا يجوز ولو أنه فسر المعنى وقال : إن الفعل لو حل بعد الفاء لكان منصوباً بإضمار « أَنْ » لكان صحيحاً ، ولا بد أيضاً أن يبين أن النصب على المعنى الذي قدمته من نفي الأشياء الثلاثة .

والوجه الثاني : أن « تَخافُونَهُمْ » في محل نصب على الحال من ضمير الفاعل في « سَوَاء » . أي فَسَاوَوْا خائفاً بعضُكُمْ من بعض مشاركَتَهُ له في المال أي إذا لم تَرْضوا أنه يشارككم عبيدكُم في المال فكيف تشركون بالله من هو مصنوع له؟ قاله أبو البقاء .
وقال ابن الخطيب معنى حَسَناً وهو أن بين المِثْلِ والمُمَثَّل به مشابهةٌ ومخالفةٌ ، فالمشابهة معلومة والمخالفة من وجوه :
أحدها : قوله : « مِنْ أَنْفُسِكُمْ » أي من نَسْلِكُمْ مع حقارة الأنفس ونقصِها وعجْزِهَا ، وقاسَ نفسه عليكم مع جلالتها وعظمتها وقدرتها وكمالها .
وثانيها : قوله : { مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي عبيدكم لكم عليهم ملك اليمين والملك لها طَارِ ( ىء ) قابل للنقل والزوال ، أما النقل فالبيع وغيره ، وأما الزوال فبالعِتْقِ ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك فإذا لم يجز أن يكون مملوك يمينكم شريكاً لكم مع أنه يجوز أن يصير مثلكم من جميع الوجوه بل هو في الحال مثلكم في الآدميَّةِ حال الرق حتى أنكم ليس لكم تصرفٌ في روح وآدميته بقطع وقتل وليس لكم منعهم من العبادة وقضاء الحاجة فكيف يجوز أن يكون مملوك الله الذي هو مملوكه من جميع الوجوه وهو مباينله بالكلية شريكاً له؟!
وثالثه : قوله : « مما رَزَقَنْاكُمْ » يعني : الذي لكم هو في الحقيقة ليس لكم بل هو لِلَّه ومن رزقه حقيقة فإذا لم يجز أن يكون لكم شريط فيما هو لكم من حيث الاسم فكيف يجوز أن يكون له شريك فيما هو له من حيث الحقيقة .
ورابعها : قوله : { فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ } أي هل أنتم ومماليككم في شيء مما تملكون أنتم سواء ليس كذلك فلا يكون لله شريك في شيء؛ لأن كل شيء فهو لله وما تدعون إِلهيَّتَهُ لا يملكون شيئاً أصلاً ، ولا مِثْقَالَ ذرة خَرْدَلٍ فلا يُعْبَدُ لعظمته ولا لمنفعة تصل إليكم ( منهم ) منه ، وأيضاً فأنتم ومماليككم سواء ليس كذلك لأن المملوكَ ليس له عندكم حُرْمَةُ الأحرار ، وإذا لم يكن المملوك مع مساواته إياكم في الحقيقة والصفة عندكم حرمة فكيف يكون حال المماليك الذين لا مساواة بينهم وبين المالك بوجه من الوُجُوه ، وإلى هذا إشار بقوله : { تَخَافُونَهُمْ كَخِفَتُكُمْ أَنْفُسَكُمْ } انتهى . وإنما ذكرت هذا المعنى مبسوطاً لأنه مبين لما ذكرته من وجوه الإعراب . « كخفيفتكم » أي كَخِيفَةٍ مِثْل خِيفَتِكُمْ . والعامة على نصب « نفسكم » ، لأن المصدر مضاف لفاعله .
وقرأ ابْنُ أبي عبلةَ بالرفع على إِضافة المصدر لمفعول . اسْتَقْبَحَ بعضهم هذا إِذا وجد الفاعل . وقال بعضهم : ليس بقبيح بل يجوز إضافته إلى كل منهما إذا وجدا وأنشد :
4041 - أَفْنَى تِلاَدِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبِ ... قَرْعُ القَوَارِير أَفْوَاهُ الأَبَارِيقِ
ينصب « الأفواه » و « رفعها » .
قوله : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات } أي مثلُ ذلك التفصيل البين نفصل . وقرأ أبو عمرو - في رواية يُفَصِّل - بياء الغيبة رداً على قوله : « ضَرَبَ لَكُمْ » ، والباقون بالتكلم رداً على قوله « رَزَقْنَاكُمْ » والمعنى يبين بالآيات والدلائل والبراهيم القطعية والأمثلة : « لقوم يعقلون » ينظرون إلى هذه الدلائل بعقولهم ، والأمر لا يخفى بعد ذلك إلا على من لا يكون له عقل .

بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

قوله : { بَلِ اتبع الذين ظلموا أَهْوَآءَهُمْ } أي لا يجوز أن يشرك مالك ممولكه ولكن الذين ظلموا أي أشركوا اتبعوا أهواءهم في الشرك { مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ } أي من غير دليل جهلاً بما يجب عليهم ، ثم بين أن ذلك بإرادة الله بقوله : { فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله } أي هَؤلاء أَضَلَّهم الله فلا هاديَ لهم فلا يحزنْك قَوْلُهُمْ ثم قال : { وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } مانعيهم يمنعونهم من عذاب الله - عز وجل - .
قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } أي أخلص دينك لله قال سعيد بن جبير : وقامة الوجه إقامة الدين . وقال غيره : سَدِّدُ عملَكَ . والوجه ما يتوجه إليه ، وقيل : أقبل بكُلِّكَ على الدين . عبر عن الذات بالوجه كقوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] أي ذاته بصفاته .
قوله : « حَنِيفاً » حال من فاعل « أقم أو من مفعوله ، أو من » الدِّين « ومعنى حنيفاً مائلاً إليه مستقيماً عليه ، ومِلْ عن كل شيء لا يكون في قلبك شيء آخر ، وهذا قريب من معنى قوله : { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين } .
قوله : » فِطْرَةَ اللَّهِ « فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقوله : { صِبْغَةَ الله } [ البقرة : 138 ] و { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] .
والثاني : أنه منصوب بإضمار فعل . قال الزمخشري : وإنما أضمره على خطاب الجماعة لقوله : » مُنِيبِينَ إِلَيْهِ « وهو حال من الضمير في » الْزَمُوا « .
وقوله : { واتَّقُوهُ وأَقِيمُوا . . . وَلاَ تَكُونُوا } معطوف على هذا المضمر ، ثم قال : » أو عليكم فطرةَ الله « ورد أبو حيان بأن كلمة الإغراء لا تضمر ، إذ هي عِوَضٌ عن الفعل فلو حذفها لزم حذف العِوَضِ والمُعَوَّضِ عنه وهو إجحاف . قال شهاب الدين : هذا رأي البصريين وأما الكسائي وتباعه فيجيزون ذلك .
فصل
ومعنى فطرة الله : دين الله وهو التوحيد فإن الله فطر الناس عليه حيث أخرجهم من ظهر آدم وسألهم : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] وقال عليه السلام » مَا مِنْ مَوْلُودِ إِلاَّ وَهُوَ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ وَإِنَّمَا أَبَواهُ يُهَوِّدانِهِ ويُنَصِّرانه ويمجّسانه « ، فقوله : » على الفطرة « ، يعني على العهد الذي أخذه عليهم بقوله : { ألست بربكم قالوا بلى } وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الفطرة التي وقع الخلق عليها وإن عبد غيره قال الله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] ولكن لا عبرة بالإيمان الفِطْريِّ في أحكام الدنيا ، وإنما يعتبر الإيمان الشرعُ المأمور به ، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين . وقيل : الآية مخصوصة بالمؤمنين وهم الذين فطرهم الله على الإسلام ، روي عن عبد الله بن المبارك قال معنى الحديث : إن كل مولود يولد على فِطرته أي على خلقته التي جُبِلَ عليها في علم الله تعالى من السعادة والشقاوة فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها فمن أمارات الشقاء أن يُولَد بين يَهْودِيَّيْنِ أو نَصْرَانِيِّيْنِ فيحملانه لشقائه على اعتقاده دينهما ، وقيل : معنى الحديث أن كل مولود في مَبْدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلّة السليمة والطبع المنهيّ لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها؛ لأن هذا الدين موجود حُسْنُهُ في العقول ، وإنما يَعْدِلُ عنه من يَعْدِلُ إلى غيره لآفة من النُّشوءِ والتقليد فمن يَسْلَمْ من تلك الآفات لم يعتقد غيره ، ذكر هذه المعاني أبو سليمان الخَطَّابيُّ في كتابه .

قوله : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } فمن حمل الفِطرة على الدين قال معناه : لا تبديل لذين الله ، فهو خبر بمعنى النهي ، أي لا تُبَدِّلُوا التوحيد بالشرك . وقيل : هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقال عكرمة ومجاهد : معناه تحريم إخصاء البهائم ، ثم قال : { ذَلِكَ الدين القيم } المستقيم الذي لا عوج فيه { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أن ذلكَ هُوَ الدينُ المستقيمُ .
قوله : « مُنِيبِينَ » حال من فاعل « الْزمُوا » المضمر كما تقدم ، أو من فاعل « أَقِمْ » على المعنى لأنه ليس يراد به واحدُ بعينه ، وإنما المراد الجميع ، وقيل : حال من « النَّاسِ » إِذَا أريد بهم المؤمنون ، وقال الزجاج بعد قوله : « وَجْهَكَ » معطوف تقديره « فَأَقِمْ وَجْهَكَ وأُمَّتَكَ » فالحال من الجميع ، وَجَازَ حذل المعطوف لدلالة « مُنِيبِينَ » عليه ، كما جاز حذفه في قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } أي والناسُ لدلالة : « إِذَا طَلَّقْتُمْ » عليه ، كذا زعم الزجاج ، في { ياا أَيُّهَا النبي } [ الطلاق : 1 ] وقيل : على خبر كان ، أي كُونُوا مُنِيبِينَ ، لدلالة قَوْلِهِ : « وَلاَ تَكُونُوا » .
فصل
معنى منيبين إليه أي مُقْبِلِينَ عليه بالتوبة والطاعة ، « وَاتَّقُوهُ » إي إِذَا أقبلتم عليه ، وتركتم الدنيا ، فلا تأمنوا فتتركوا عبادته بل خافوه وداوموا على العبادة « وأَقِيمُوا الصَّلاَةَ » ولا تَكُونُوا مِنَ المشركِينَ؛ بإِعادة العامل . وتقدم قراءتا « فَرَّقُوا ، وَفَارَقُوا » وتفسير « الشِّيَعِ » أيضاً . قوله : « فَرِحُونَ » الظاهر أنه خبر عن « كل حزب » ؛ وجوز الزمخشري أن يرتفع صفة « لكُلّ » قال : ويجوز أن يكون « من الذين » منقطعاً مما قبله ومعناه من المفارقين دينهم كل حزب فَرِحينَ بما لديهم ، ولكنه رفع « فَرِحِين » وصفاً لكل كقوله :
4042 - وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ .. . .
قال أبو حيان : قدر أولاً « فَرِحِينَ » مجروراً صفة « لِرَجُلٍ » وهو الكثر كقوله :
4043 - جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدَّرْهَمِ
وجاز الرفع نعتاً « لكُلّ » كقوله :
4044 - وَلِهَتْ عَلَيْهِ كُلُّ مُعْصِفَةٍ ... هَوْجَاءُ لَيْسَ لِلُبِّهَا زَبْرُ
وهو تقدير حسن .

وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)

قوله : { وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ } قَحْطٌ وشدّة ، { دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } بالدعاء ، لما بين التوحيد بالدليل وبالمثل بين أن لهم حالة يعترفون بها ، وإن كانوا ينكرونه في وقت ما وهي حالة الشدة ، { ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً } ، خصْبٌ أو نعمة ، يعني إذا خلصناهم من تلك الشدة { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } ، وقوله : « مِنْهُ » أي من الضر؛ لأن الرحمة غير مطلقة لهم إنما هي على ذلك الضر وحده ، وأما الضر المؤخر فلا يذوقون منه رحمة ويحتمل أن يكون الضمير في « منه » عائد إلى الله تعالى ، والتقدير ثم إذا أذاقهم اللَّهُ من فضله رحمةً خلصهم بها من ذلك الضر .
قوله : « إذَا فَريقٌ » هذه « إذا » الفُجَائِيَّة ، وَقَعَتْ جَوَابَ الشرطِ؛ لأنها كالفاء في أنها للتعقيب ولا يقع أول كلام ، وقد تجامعها الفاء زائدةً .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله ههنا : { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ } ، وقال في موضع : { فَلَمَّا نَجَاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشرِكُونَ } ولم يقل : فَرِيقٌ .
فالجواب : أن المذكور هناك غير معين ، وهو ما يكون من هَوْل البحر ، والتخلص منه بالنسبة إلى الخلق قليل ، والذي لا يشرك منهم بعد الخلاص فرقة منهم فهم في غاية القلة ، فلم يجعل المشركين فريقاً لقلة من خرج من الشرك وأما المذكور ههنا الضر مطلقاً فيتناول ضُرَّ البحر والأمراض والأهوال ، والمتخلص من أنواع الضر خلقٌ كثير بل جميع الناس يكونون قد وقعوا في ضر ما فتخلصوا منه والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركاً من الناس يكونون قد وقعوا في ضر ما فتخلصوا منه والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركاً من جميع الأنواع إذا جمع فهو خلق عظيم وهو جميع المسلمين فإنهم تخلصوا من ضُرّ ولم يبقوا مشركين ، وأما المسلمون فلم يتخلصوا من ضُرّ البحر بأجمعهم فلما كان الناجي من الضر المؤمن جمعاً كثيراً سمى الباقي فريقاً .
قوله : « لِيَكْفُرُوا » يجوز أن تكون لام « كي » وأن تكون لام الأمر ومعناه التهديد كقوله : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب تَهْديدٍ فقال : « فَتَمَتَّعُوا » .
قرأ العامة بالخطاب فيه ، وفي « تَعْلَمُونَ » ، وأبو العالية بالياء فيهما ، والأول مبني للمَفْعُولِ . وعنه أيضاً « فَيَتَمَتَّعوا » بياء قبل التاء ، وعن عبد الله « فلْيَتَمَتَّعُوا » بلام الأمر ، والمعنى : فسوف تعلمون حالكم في الآخرة .
قوله : { أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً } أي بُرْهَاناً وحُجَّةً ، فإن جعلناهُ حقيقة كان يتكلم مجازاً ، وإن جعلناه على حذف مضاف أي ذا سلطان كان يتكلم حقيقة ، وقال أبو البقاء هنا : وقيل : هو جميع سليط كرغيف ورغفان انتهى .
قال شهاب الدين : وهذا لا يجوز لأنه كان ينبغي أن يقال فهم يتكلمون . و « فَهُوَ يَتَكَلَّمُ » جواب الاستفهام الذي تضمنته « أم » المنقطعة ، وهذا استفهام بمعنى الإِنكار أي ما أنزلنا بما يقولون سلطاناً ، قال ابن عباس : حجة وعُذْرا ، وقال قتادة : كتاباً يتكلم بما كانوا به يشركون « أي ينطق بشركهم » .

وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)

قوله : { وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً } أي الخِصْب وكَثْرة المطر « فَرِحُوا بِهَا » يعني فرح البطر لما بين حال الشرك الظاهر شركه ، بين حال الشرك الذي دونه وهو من تكون عبادته للدنيا ، فإذا أعطاه رَضِيَ ، وإِذا منه سَخِطَ وقَنَطَ ، ولا ينبغي أن يكون كذلك بل ينبغي أن يعبد الله في الشدة وزالرخاء .
فإن قيل : الفرح بالرحمة مأمور به قال : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ] وهَهُنَا ذمهم على الفرح بالرحمة .
فالجواب : هناك قال افْرَحُوا برحمة الله من حيث إنها مضافة إلى الله ، وهَهُنَا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مِثْلَ فرحهم إذا كان مِنَ الله .
قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي الجَدْبُ وقلَّةُ المَطَر ، وقيل : الخوف والبَلاَء { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من السيئات { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } يَيأَسُوا من رحمة الله ، وهذا خلاف وصف المؤمنين فإنهم يشركونه عند النعمة ، ويرجُونَه عند الشدةِ .
قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } ألم يعلموا أن الكل من الله فالمحق ينبغي أن لا يكون نظره إلى ما يُوجَد بل إِلى من يُوجد وهو الله ، فلا يكون له تبدل حال وإنما يكون عنده الفرح الدائم ولذلك قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } . قوله : { فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ } من البرِّ والصلة ، و « المِسْكِين » بأن يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ ، وابْنَ السَّبِيل « يعني المسافر ، وقيل : الضيف . وخص هذه الأصناف الثلاثة بالذكر دون بقية الأصناف الثمانية المذكورة في الصدقات ، لأنه أراد ههنا بيان من يجب الإحسان إليه على كل من له مال ، سواه كان زَكَوِيّاً أو لم يكن وساء كان قبل الحَوْلِ أم بعده؛ لأن المقصودَ هنا الشفقة العامة وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم وإن لم يكن للأنسان مالٌ زائد أما القريب فتجب نفقته عليه إذا كان له مالٌ وإن لم يَحُلْ عليه الحَوْلُ والمسكين كذلك ، فإن من لا شيءَ له إذا وقع في الحاجة حتى بلغ الشدة يجب على القادر دفع حاجته وإن لم يكن عليه زكاة ، والفقير داخل في المسكين لأن من أوْصَى للمساكين بشيء يُصْرَفُ إلى الفقير أيضاً وإذا نظرتَ إلى الباقين من الأصناف رأيتهم لا يجب صرف المال إليهم إلا على الذين وَجَبت الزكاةُ عليهم وقدم القريب لأن دفع حاجته واجبٌ سواء كان في مَخْمَصَةٍ أو لم يكن فلذلك قُدِّمَ على من لا يجب دفع حاجته من غير مال الزكاة إلا إذا كان في شدة ، وأما المسكين فحاجته ليست مختصة بموضع ، فقدم على من حاجته مختصة بموضعٍ دُونَ مَوْضِعٍ .
قوله : » ذَلِكَ خَيْرٌ « يحتمل أنْ يُرادَ : » خير من عنده « ، وأن يكون ذلك خير في نفسه { لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله } أي يطلبون ثواب الله مما يعملون { وأولئك هُمُ المفلحون } .

فإن قيل : كيف قال : { وأولئك هُمُ المفلحون } ؟ مع أن لِلإفلاح شرائطَ أخرى مذكورة في قوله : { قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ } ؟! .
فالجواب : كل وصف مذكور هنا يفيد الإفلاح ، وكذا الذي آتى المال لوجه الله يفيد الإفلاح اللَّهُمَّ إلا إذا وُجِدَ مانعٌ من ارتكاب محظورٍ أو تركِ واجبٍ .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكُرْ غيره من الأفعال كالصلاة وغيره؟
فالجواب : الصلاة مذكورة من قبل وكذا غيرها في قوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } [ الروم : 30 ] ، وقوله { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ واتقوه وَأَقِيمُواْ الصلاة وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين } [ الروم : 31 ] .
فإن قيل : قوله في البقرة : « فَأُولَئِكِ هُمُ المُفْلِحُونَ » إشارة إلى من أقام الصلاة وآتى الزكاة ، وآمن بما أنزل على الرسول وبما أنزل من قبل وبالآخرين فهو المفْلح ، وإذا كان المفلح منحصراً في « أولئك » فهذا خارج عنهم فكيف يكون مفلحاً؟! .
فالجواب : هذا هو ذاك لأن قوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } أمر بذلك ، فإذا أتَى بالصلاة ، وآتى المال ، وأراد وجه الله ثبت أنه منم مُقِيمِي الصلاة ومُؤتِي الزكاة ومعترف بالآخرة .

وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)

قوله : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً } ، قرأ ابن كثير أَتَيْتُمْ مقصوراً ، وقرأ الآخرون بالمد أي أعْطَيْتُم ومن قصر فمعناه جِئْتم من رباً ومجيئهم ذلك على وجه الإعطاء كما تقول : أتيت خطأ ، وأتيت صواباً وهو يؤول في المعنى إِلى قول من مَدَّ .
قوله : « لِيَرْبُو » العامة على الياء تحت مفتوحة ، أسند الفعل لضمير « الرِّبَا » أي لِيَزْدادَ ، ونافعٌ ويعقوبٌ بتاءٍ من فوق مضمومةً خطاباً للجماعة ، قَالُوا وعلى الأول لامُ الكلمة ، وعلى الثاني كلمةٌ ، وعلى الثاني كلمةٌ ، ضميرُ الغائبينَ .
فصل
ذكر هذا تحريصاً يعني أنكم إذا طلب منكم واحد باثنين ( تَرْ ) غَبُونَ فيه وتُؤْثِرُونَهُ ، وذلك لا يربو عند الله فاختطاف أموال الناس والزكاة تنمُو عند الله كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ الصَّدَقَةَ تَقعُ في يَدِ الرَّحْمنِ فَتَرْبُوا حَتَّى تَصِيرَ مِثْلَ الجَبَلِ » فينبغي أَن يكون إقْدَامكُمْ على الزكاة أكثرَ واختلفوا في معنى الآية قال سعيد بين جبير ، ومجاهد وطاوس وقتادة والضحاك وأكثر المفسرين : هو الرجل يعطي عبده العطيَّة لِيُثيبَ أكثر منها ، فهذا جائز حلالاً ، ولكن لا يثاب عليه في الفقه فهو معنى قوله تعالى : { فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله } وكان هذا حراماً على النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة لقوله تعالى : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 9 ] أي لا تعطِ وتطلب أكثر مما أعطيتَ ، وقال النخعي : هو الرجل يعطي صديقة وقريبه ليكثر ماله ، ولا يريد به وجه الله . وقال الشعبي : هو الرجل يَلْتَزِقُ بالرجل فيجزيه ويسافر معه فيحصل له ربح ماله التماس عونه لا لوجه الله فَلاَ يَرْبُو عند الله؛ لأنه لم يُردْ به وَجْهَ الله { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍَ } أعطيتم من صدقة تريدون وجه الله .
قوله : { فأولئك هُمُ المضعفون } أي أصحاب الأضعاف ، قال الفراء : نحو مُسْمِن ومُعْطِشٍ أي ذي إبل سِمَانٍ وعِطَاشٍ ، وتقول العرب : القوم مُهْزِلُونَ ومُسْمِنُونَ ، إذا هَزِلَتْ وسَمِنَتْ ، فالمُضْعِفُ ذو الأضْعَافِ من الحسنات وقرأ « أبيّ » بفتح العين ، وجعله اسم مفعول . وقوله : ( « فَأُولَئِكَ هُمْ » قال الزمخشري : « التفات حسن كأنه قال لملائكته وخواص خلقه ) فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم » هم المُضْعِفُون « والمعنى هم المُضْعِفُونَ به لأنه من ضمير يرجع إلى ( » مَا انتهى ) يعني أن اسم الشرط مَتَى كان غير ظرف وَجَبَ عودُ ضميرٍ من الجواب عليه . وقد تقدم ذلك في البقرة عند : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] ثم قال : « ووجه آخر : وهو أن يكون تقديره فمُؤْتُوه فأولئك هم المضعفون ، والحذف لباقي الكلام من الدليل عليه » ، وهذا أسهل مأخذاً ، والأول أملأ بالفائدة .
قوله : { الله الذي خَلَقَكُمْ } يجوز في خبر الجلالة وجهان :
أظهرهما : أنه الموصول بعدها .

والثاني : أنه الجملة من قوله : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ } والموصول ( صفة ) للجلالة ، وقدر الزمخشري الرابط المبتدأ ، والجملة الرافعة ( خبراً ) فقال : « من ذلكم » هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ ، لأن معناه من أفعاله . قال أبو حيان : والذي ذكره النحويون أن اسم الإشارة يكون رابطاً إذا أشير به إلى المبتدأ ، وأما ذلك هنا فليس بإشارة إلى المبتدأ لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الرَّبْطِ بالمعنى وذلك في قوله : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ } [ البقرة : 234 ] قال : التقدير يَتَرَبَّصْنَ أزواجُهُمْ ، فقد الرابط بمضاف إلى ضمير « الذين » فحصل به الربط كذلك قدر الزمخشري « من ذلكم » من أفعاله بمضاف إلى الضمير العائد إلى المبتدأ .
قوله : « الَّذِي خَلَقَكُمْ » أوجدكم { رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ } جمع في هذه الآية بين الحشر والتوحيد ، أما الحشر فقوله : « يُحْيِيكُمْ » ، وأما الدليل فقدرته على الخلْق ابتداءً وأما التوحيد ، فقوله : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ } ثم قال : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي سبحوه تسبحياً ونزهوه ولا تصفوه بالإشراك « . وقوله » : تَعَالَى « أي لا يجوز ذلك عليه .
قوله : » مِنْ شُرَكَائِكُمْ « خبر مقدم و » مِنْ « لِلتَّبْعيض » مَنْ يَفْعَلُ « هو المبتدأ ، و » ذلِكُمْ « متعلق بمحذوف ، لأنه حال من » شَيء « بعده فإنه في الأصل صفة له و » مِنْ « الثانية مزيدة في المفعول به؛ لأنه في حَيِّز النفي المستفاد من الاستفهام والتقدير ما الذي يفعل شيئاً مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شركائكم؟ .
وقال الزمخشري : » ومن الأولى والثانية كل واحدة مستقلة تأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم « .
وقال أبو حيان : ولا أدري ما أراد بهذا الكلام؟ وقرأ الأعمش » تشركون « بتاء الخطاب .

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)

قوله : { ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر } وجه تعلق الآية بما قبلها أن الشرك سبب الفساد كَمَا قَالَ تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] وإذا كان الشرك سببه جعل الله إظهارهم الشرك مورثاً لظهور الفساد ولو فعل ( بهم ) ما يقتضيه قولهم لفسدت السموات والأرض ، كما قال تعالى : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً } [ مريم : 90 ، 91 ] ولهذا أشار بقوله : { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ } ، واختلفوا في قوله : { فِي البر والبحر } ، فقيل : المراد خوف الطوفان في البحر والبر ، وقيل : عدم إنبات بعض الأرض وملحة مياه البحار . وقيل : المراد قحط المطر وقلة النبات ، وأراد بالبرّ البوادي والمَفَاوِز وبالبحر المدائن والقُرَى التي على المِياه الجَارِيةِ .
قال عكرمة : العرب تسمي المِصْرَ بَحْراً تقول : أجدب البر وانقطعت مادة البحر .
قوله : « بما كسبت » أي بسب كسبهم ، والباء متعلقة « بظَهَرَ » أو بنفس الفساد . وفيه بُعْد ( والمعنى بشؤم ذنوبهم ) وقال ( ابن ) عَطِيَّة ، البر ظهر الأرض الأمصار وغيرها ، والبحر هو البحر المعروف ، والفساد قلة المطر يؤثر في البر والبحر أما تأثيره في البر فهو القحط وأما تأثيره في البحر فيخلوا أجواف الأصداف؛ لأن الصدف إذا جاء المطر يرتفع إلى وجه البحر ويفتح فاه فما يقع فيه من المطر صار لؤلؤاً . قال ابن عباس وعركمة ومجاهد : الفساد في البرِّ قتل أحد ابني آدم أخاه وفي البحر غَضْب الملك الجائر السفينة . وقال الضحاك : كانت الأرض خَضِرَةً مونقة لا يأتي ابن آدم بشجرة إلا وجد عليها ثمرةً وكان ما في البحر عَذْباً وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم فلما قتل قابيلُ هابيلَ اقْشَعَرَّت الأرض وشَاكَتِ الأشجار ، وصار ماء البحر ملحاً زُعَاقاً وقصد الحيوان بعضه بعضاً . وقال قتادة : هذا قبل مَبْعَث النبي - صلى الله عليه وسلم - امتلأت الأرض ظلماً وضلالة فلما بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - رجع الراجعون من الناس { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس } من المعاصي « يعني كفار مكة » .
قوله : « لِيُذِيقَهُمْ » اللام للعلة متعلق « بظَهَرَ » ؛ وقيل : بمحذوف ، أي عَاقَبَهْمْ بذلك لِيُذِيقَهُمْ وقيل : اللام للصيرورة . وقرأ قُنْبُلُ : « لنُذِيقَهُمْ » بنون العظمة والباقون بياء الغيبة والمعنى : لنذيقهم عُقُوبة بعض الذي عملوا من الذنوب « لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ » عن الكفر وأعمالهم الخبيثة ، قوله : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض } لما بين حالهم بظهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم بين لهم ضلال أمثالهم وأشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم فقال : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلُ } أي قوم نوحٍ وعادٍ وثَمودَ لِيَ { َوْا مَنَازِلَهُمْ ومساكنهم خاوية { كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ } فأهلكوا بكفرهم .

قوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ القيم } لما ( نهى ) الكافرين عما هم عليه ، أمر المؤمنين بما هم عليه وخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلم المؤمن فضيلة من هو مُكَلَّفٌ به فإنه أمر بما شرف الأنبياء الدِّين القيم أي المستقيم وهو دين الإسلام .
قوله : { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ } المرد مصدر « رَدَّ » و « من الله » يجوز أن يتعلق ب « يأتِي » أو بمحذوف يدل عليه المصدر أي لا يرده من الله أحَدٌ ، ولا يجوز أن يعمل فيه « مرد » لأنه كان ينبغي أن يُنَوَّنَ؛ إِذْ هُوَ من قَبِيل المُطَوَّلاَتِ ، والمراد يوم القيامة لا يقدر أحد على رده من الله هوغيره عاجز عن رده ، فلا بد من وقوعه . « يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ » أي يتفرقون فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، ثم أشار إلى التفرق بقوله : { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي وبال كفره { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } أي يُوَطئُونَ المضاجعَ ويُسَوُّونها في القبور . قوله : « فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ » و « يَمْهَدُونَ » تقديم الجارين يفيد الاختصاص يعني أنَّ ضرر كفر هذا ، ومنفعة عمل هذا لا يتعداه ، ووحد الكناية في قوله : « فعليه » وجمعها في قوله : « فلأنفسهم » إشارة إلى أن الرحمة أعم من الغضب فتشمله وأهله وذريته ، وأما الغضب فمسبوق بالرحمة لازم لمن أساء وقال : « فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ » ولم يبين قوال في المؤمن : « فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ » تحقيقاً لكمال الرحمة ، لإإنه عند الخير بَيَّن بشارة وعند غير أشار إليه إشَارةً .

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)

قوله : « لِيَجْزِيَ » في مُتَعَلَّقِهِ أوجه :
أحدها : « يمهدون » .
والثاني : « يَصِّدَّعُونَ » .
والثالث : محذوف . ( و ) قال ابن عطية : تقديره : « ذلك لِيَجْزِيَ » وتكون الإشارة إلى ( ما تقدر مِنْ ) قوله : « من كفَر ومَنْ عَمِلَ » .
هَذا قوله وجعل أبو حيان قسيم قوله : { الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } محذوفاً لدلالة قوله { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين } عليه هذا إذا علقت اللام ب « يَصَّدَّعُونَ » أو بذلك المحذوف ، قال : تقديره « ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله والكافرين بعدله » .
فصل
قال ابن عباس : { ليجزي الذين آمنوا وعملوا ليثيبهم الله أكثر من ثواب أعمالهم } .
قوله : { ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } لما ذكر ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه سببب العمل الصالح لأن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضَاً ويذرك لإضراره سبباً لئلا يتوهم ( بِهِ ) الظلم فقال : { يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ } قيل : بالمطر كما قال تعالى : { بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ النمل : 63 ] ، أي قبل الفطرة ، وقيل مبشرات بصلاح الأَهْوِية والأحوال؛ فإن الرياح لو لم تَهُبّ لظهر الوباء والفساد وقرأ العامة : « الرياح » جميعاً لأجل « مبشرات » ، والأعمش بالإفراد ، وأراد الجنس لأجل « مبشرات » .
قوله : « وَلِيُذِقَكُمْ » إما عطف على معنى مبشرات لأأن الحال والصفة يُفْهما العلة فكان التقدير : « ليبشّر وليذيقكم » وإما أن يتعلق بمحذوف أي وليذيقكم أَرْسَلَها ، وإما أن يكون الواو مزيدة على رأي فتتعلق اللام بأن يرسل .
قوله : { وليذيقكم من رحمته } ( نعمته ) بالمطر أو الخَصْب « وَلَتْجِرِيَ الفُلْكُ » لما أسند الفعل إلى الفلك عقبه بقوله « بأَمْرِهِ » أي الفعل ظاهر عليه ولكنه بأمر الله ، والمعنى في ولتجري الفلك في البحر بهذه الرياح بأمره وكذلك لما قال : « وَلتَبْتَعوا » مسنداً إلى العباد ذكر بعده « مِنْ ( فَضْلِهِ ) .
أي لا استقلال لغيره بشيء ، والمعنى لتطلبوا من رزقه بالتجارة في البحر » ولعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ « هذه النعم .
فصل
قال تعالى : ؟هر الفساد - ليذيقهم بعض الذي عملوا » ( وقال ههنا : « وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ » فخاطبهم ههنا تشريفاً ، ولأن رحمته قريب من المحسنين والمحسنين قريب فيخاطب والمسمّى مُبْعَد فلم يُخَاطَبْ وقال هناك : { بَعْضَ الذي عَمِلُواْ } [ الروم : 41 ) فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم ، وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته فقال : « من رحمته » ؛ لأن الكريم لا يذكر لرحمته وإحسانه عوضاً فلا يقول أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول هذا لك مني ، وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي ، وأيضاً فلو قال : أرسلت بسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة ، وأما إذا قال من رحمته كان غاية البشراة وأيضاً فلو قال : بما فعلتم لكان ذلك موهماً لنُقْصَان ثوابهم في الآخر ، وأما في حق الكفار فإذا قال بما فعلتم إنما عن نُقْصَانِ عقابهم وهو كذلك وقال هناك : « لعلهم يَرْجِعُونَ » وقال ههنا : ولعلكم تشكرون ، قالوا وإشارة إلى توفيقهم للشكر في النعم فعطف على النعم .

( قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بالبينات } لما بين الأصلين ) بالبراهيم ذكر الأصل الثالث وهو النبوة فقال : { ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً } أي إرسالهم دليل رسالتك فإنهم لم يكن لهم شُغْلٌ غير شُغْلِكَ ولم يظهر عليهم غير ما أظهر عليك ، ومن آمن بهم كان له ( الانتصار ) ومن كَذَّبهم أَصَابَهُمْ البَوَارُ ، وفي تعلق الآية وجه آخر وهو أن الله لما بين بالبراهين ولم ينتفع بها الكفار سَلَّى قلب النبي عليه ( الصلاة و ) السلامَ وقال : حالك كحاكل من تقدمكم كان كذلك وجاءُوا بالبينات أيضاً : أي بالدلائل والدّلاَلاَتِ الواضحات على صدقهم وكان في قومهم كافرٌ ومؤمنٌ كما في قومك { فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ } عذبنا الذين كذبوهم ونصرنا المؤمنين .
[ قوله : ] وَكَانَ حَقّاً ، وقف بعضهم على « حقاً » وابْتَدَأَ بما بعده فجعل اسم « كان » مضمراً فيها و « حقاً » خبرها ، أي وكان الانتقام حقّاً ، قال ابن عطية : وهذا ضعيف لأنه لم ( يَدْرِ ) قدر ما عرضه في نظم الآية يعني الوقف على « حقاً » ؛ وجعل بعضهم « حقاً » منصوباً على المصدر واسم كان ضمير ( الأمر والشأن ) و « علينا » خبر مقدم ، و « نصر » اسم مؤخر ، وجعل بعضهم « حقاً » خبرها و « علينا متعلق » بحقاً « ، أو بمحذوف صفة له ، فعلى الأول يكون بشارة للمؤمنين الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أي علينا نَصْرُكُمْ أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ ونصرهم إنجاؤهم من العذاب ، وعلى الثاني معناه وكان حقاً علينا؛ أي نصر المؤمنين كان حقاً علينا .

اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)

قوله : { الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً } أي تنشره وتبْسطه في السَّمَاء كيف يشاء سيره يوماً أو يومين وأكثر على ما يشاء و « يَجْعَلُهُ كِسَفاً » قطعاً متفرقة ، « فَتَرَى الوَدقَ » المطر { يخرج من خلاله } وسطه { فَإِذَا أَصَابَ بِهِ } بِالوَدقِ { مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي يفرحون بالمطر .
قوله : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } أي وقد كانوا من قبل أن ينزل عليهم .
وقيل : وما كانوا ( إلا ) « مُبْلِسِينَ » أي آيسين .
قوله : « مِنْ قَبْلِهِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه تكرير « لِمنْ قَبْلِ » الأولى على سبيل التوكيد .
والثاني : أن يكون غير مُكَرَّر؛ وذلك ( أن يجعل ) الضمي في « قبله » للسَّحَاب ، وجاز ذلك لأنه اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه ، أو للريح فتتعلق ( « مِن » الثانية ) بيُنَزِّل . وقيل : يجوز عود الضمير على « كِسَفاً » كذا أطلق أبو البقاء ، وأبو حيان ، وهذه بقراءة من سَكَّنَ السِّينَ .
وقد تقدمت قراءات « كسفاً » في « سُبْحَانَ » . وقد أبدى الزمخشريُّ ابنُ عَطِيَّةَ ( فائدة التوكيد المذكور فقال ابن عطية ) أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإِبلاس إلى الاسْتِبْشَار ، وذلك أن قوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } يحتمل الفُسْحَةَ في الزمان أي من قبل أن ينزل بكثيرٍ كالأيام ونحوه ، فجاء قوله : « مِنْ قَبْلِهِ » ( بمعنى ) أن ذلك متصلٌ بالمطر ، فهذا تأكيد مفيد . وقال الزمخشري : ومعنى التأكيد فيه الدلالة على أنَّ عَهْدَهُمْ بالمطر قد نَفَدَ فاستحكم بأسُهُم وتمادى إبلاسهم ، فكان استبشارهم على قدر اغتمامهم بذلك ، وهو كلام حسن ، إِلاَّ أنَّ أبَا حَيَّان لم يَرْتَضِهِ منهما فقال : ما ذكراه من فائدة التأكيد غير ظاهر فإنما هو لمجرد التوكيد ويفيد رفع المجاز انتهى .
قال شهاب الدين ولا أدري عَدَمُ الظُّهُورِ لِمَاذَا .
قال قُطْرُبٌ : وإنْ كَانُوا من قبل التَّنْزِيل من قبلِ المَطَرِ ، وقيل التقدير من قبل إنْزَالِ المَطَرِ من قبل أن يزرعوا ، ودل المطر على الزرع لأنه يخرج بسبب المطر ودل على ذلك قوله : « فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً » يعني الزرع قال أبو حَيَّانَ : وهذا لا يستقيم؛ ( لأن ) { مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ } متعلق « بمبلسين » ، ( ولا يمكنُ من قبل الزرع أن يتعلق « بمبلسين » ) ؛ لأن حَرْفَيْ جَرٍّ لا يتعلقان بعامل واحد إلا بوَسَاطَةِ حرف العَطْفِ ( أ ) والبَدَل ، وليس هنا عطف والبدل لا يجوز إذْ إنزالُ الغَيْثِ ليس هو الزرع ولا الزرع بعضه ، وقد يتخيل فيه بدل الاشتمال بتكلف إما لاشتمالِ ( الإنزال ) على الزرع بمعنى أن الزرع يكون ناشئاً عن الإنزال فكأن الإنزال مشتملٌ عليه ، وهذا على مذهب من يقول الأول مشتمل على الثاني .

وقال المبرد الثاني السَّحَاب؛ لأنهم لما رأوا السَّحاب كانوا راجين المَطَرَ انتهى يريد من قبل رؤية السحاب ويحتاج أيضاً إلى حرف عطف ليصح تعلق الحرفين بمبلسين . ( وقال الرُّمانِيُّ من قبل الإِرسال ) ، وقال الكِرْمَانِيُّ : من قبل الاسْتِبْشَار؛ لأنه قرنه بالإبلاس ، ولأنه ( مَنَّ ) عليهم بالاستبشار ويحتاج قولهما إلى حرف العطف لما تقدم ، وادعاء حرف العطف ليس بالسسهل فإن فيه خلافاً بعضهم يَقِيسُه ، وبعضُهم لا يَقِيسُه ، هذا كله في المفردات ، أما إذا كان في الجمل فلا خلاف في اقتياسه .
وفي حرف عبد الله بن مسعود : وإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ ينزل عَلَيْهِمْ لَمُبُلِسِينَ غير مكرر .
قوله : { فانظر إلى آثَارِ رَحْمَةِ } قرأ أبنُ عامر والأخوانِ وحَفْصٌ بالجمع والباقون بالإفراد : ( وَسلاَّمٌ ) بكسر الهمزة ، وسكون الثاء وهي لغة فيه . وقرأ العامة « كَيْفَ يُحْيِي » بياء الغيبة ، أي أثر الرحمة فيمن قرأ بالإفراد ، ومن قرأ بالجمع فالفعل مسند لله تعالى وهو يحتمل في الإِفْرَادِ والجَحْدَرِيُّ وأَبو حَيْوَة وابْنُ السَّمَيْقع « تُحْيِي » بتاء التأنيث وفيها تخريجان أظهرهما : ان الفاعل عائد على الرحمة . والثاني : قاله أبو الفصل عائد على « أَثَرِ » وأنت « أثر » لاكتسابه بالإضافة التأنيث كنظائر ( له ) تقدمت ، وَرُدَّ عليه بأن شرط ذلك كون المضاف ( بمعنى المضاف ) إليه أو من سببه لا اجنبياً ، وهذا أجنبي و « كَيْفَ يُحْيِي » معلق « لأنْظُرْ » وهو في محل نصب على إسقاط الخافض . وقال أبو الفتح : الجملة من « كَيْفَ يُحْيي » في موضع نصب على الحال حملاً على المعنى انتهى . وكيف تقع جملة الطلب حالاً؟ وأراد برحمة الله هنا المطر أي انْظُرْ إلى حسن تأثيره في الأرض كيف يحيي الأرض بعد موتها؟! .
قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الموتى } أي إن ذَلك الذي يُحيِي الأرض لمُحْيِي الموتى ، فأَتَى باللام المؤكدة لاسم الفاعل .

وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)

قوله : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } لما بين أنهم عند توقف الخير يكونون مُنِيبِينَ آيِسِينَ ، وعند ظهوره يكونون مستبشرين بين أن تلك الحالة أيضاً لا يدومون عليها بل لو أصاب زرعهم ريحٌ مفسِد لكفروا فهم متقلبون غير تأمِّين نظرهم إلى الحالة لا إلى المآلِ .
فصل
سمى النافعة رياحاً ، والضارة ريحاً لوجوه :
أحدها : أن النافعة كثيرة ألنواع كبيرة الأفراد ، فجمعها لأن في كل يوم وليلة ( تَهُبُّ ) نفحات من الرياح النافعة ، ( و ) لا تهب الريح الضارة في أعوام بل الضارة لا تهب في الدهور .
الثاني : أن النافعة لا تكون إلا رياحاً وأما الضارة فنفحة واحدة تقتل كريح السَّمُوم .
الثالث : جاء في الحديث « أن ريحاً هَبَّتْ فقال عليه ( الصلاة و ) السلام : » اللَّهم اجْعلها رِيَاحاً وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحاً « إشارة إلى قوله تعالى : { يُرْسِلُ الرياح بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الأعراف : 57 ] وقوله : { يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ } [ الروم : 46 ] وإشارة إلى قوله تعالى : ف { أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } [ الذاريات : 41 ] وقوله : { رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ الناس } [ القمر : 19 ، 20 ] .
فصل
معنى الآية ولئن أرسلنا ريحاً أي مُضرّة أفسدت الرزعَ فرأوه مصفراً بعد الخُضْرَة لظلّوا لصاروا من بعد اصفرار الزرع يكفرون يجحدون ما سلف من النعمة يعني أنهم يفرحون عند الخَصْب ، ولو أرسلت عذاباً على زرعهم ( جحدوا ) سالِفَ نعمتي .
قوله : » فَرَأَوْهُ « أي فرأوا النبات لدلالة السياق عليه أو على الأثر ، لأن الرحمة هي الغيث وأثرها هو النبات وهذا ظاهر على قراءة الإفراد ، وأما على قراءة الجمع فيعود على المعنى . وقيل : الضمير للسَّحَابِ . وقيل : للريح . وقرأ ( جَنَاح ) بْنُ حبيش مُصْفَاراً بألف و » لظلوا « جواب القسم الموطأ لَهُ » بِلَئِنْ « وهو ماض لفظاً مستقبل معنى ، كقوله : { مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } [ البقرة : 145 ] والضمير في » من بعده « يعود على الاصفرار المدلول عليه بالصفة كقوله :
4045 - إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ .. .
أي السَّفَهُ ، لدلالة السفيه عَلَيهِ .
قوله ( تَعَالى : ) { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } لما علم رسوله وجوه الأدلة ووعد وأوعد ولم يزدهم دعاؤه إلا فراراً وكفراً وإصراراً ، قال : { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } وقد تقدم الكلام على نحو { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ } إلى آخره في الأنبياء ، وفي النمل . واعلم أن إرشاد الميِّتِ محالٌ والمحالُ أبعد من الممكن ثم إرشاد الأصمِّ صعبٌ فإنه لا يسمع الكلام وإنما يفهم بالإشارة والفهام بالإشارة صعب ثم إرشاد الأعمى أيضاً صعب وإنك إذا قلت له الطريق على يمينك يدور إلى يمينه لكنه لا يبقى عليه بل يَحيد عن قرب ، وإرشاد الأصَمُ أصعب ولهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسْهَل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع لأن غايته الإفهامُ بالكلام وليس كلّ ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة ، فإن المعدومَ والغائب لا إشارة إليه فقال : { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } ( ثم قال : وَلاَ الصُمَّ وَلاَ تَهْدِي العُمْيَ ) وقال في الأصم : { إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } ؛ ليكون أدخل في الامتناع لأن الأصمَّ وإن كان يَفْهِم فإنما يفهم بالإشارة ، ( فإِذَا وَلَّى لا يكون نظره إلى المشير فامتنع إفهامه بالإشارة أيضاً ) ثم قال : { وَمَآ أَنتَ بِهَادِ العمي عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا } لما نفى استماع الميت والأصم وأثبت إسماع المؤمن بآياته لزم أن يكون المؤمن حيّاً سميعاً وهو كذلك لأن المؤمنَ ينظر في البراهين ويسمع زواجر الوعظ فتظهر منه الأفعال الحسنة ويفعل ما يجب عليه فهم مسلمون مطيعون كما قال تعالى ( عهنم ) :

{ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ البقرة : 285 ] .
قوله : { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ } لما أعاد دليل الآفاق بقوله : { الله الذي يُرْسِلُ الرياح } [ الروم : 48 ] أعاد دليلاً من دلائل الأنفس أيضاً وهو خلق الآدمي وذكر أحواله فقال : { خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ } أي ( بأذى ضعف ) كقوله : { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [ المرسلات : 20 ] ، وقرىء : « ضُعْف » بضم الضاد ، وفتحها ، فالضم لُغة قريش ، والفتح لغة تميم « » مِنْ ضَعْف « أي من نطفة . وتقدم الكلام في القراءتين والفرق بينهما في الأنفال ، { ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً } ( أي ) من بعد ضعف الطفولية شباباً وهو وقت القوة { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً } هَرَماً » وَشَيْبَةً « والشيبة هي تمام الضعف { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } .
( فإن قيل : ما الحكمة في قوله ههنا : { وَهُوَ العليم القدير } ) فقدم العلم على القدرة ، وقولِهِ من قبل : { وَهُوَ العزيز الحكيم } والعزة إشارة إلى كما القدرة ، والحكمة إشارة إلى كمال العلم ، فقدم القدرة هناك على العلم؟! .
فالجواب أن المذكور هناك الإعادة { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المثل الأعلى فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } لأن الإعادة بقوله : » كُنْ فَيَكُونَ « فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الإبداء وهو أطوارٌ وأحوالٌ والعلم بكل حال حاصل فالعلم هَهُنا أظهر ثم إن قوله تعالى : { وَهُوَ العليم القدير } فيه تبشير وإنذار؛ لأنه إذا كان عالماً بأحوال الخلق يكون عالماً بأحوال المخلوق فإن علموا خيراً علمه ثم إذا كان قادراً فإذا علم الخير أثاب ، وإذا علم الشر عاقب ، ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب اللَّذَيْن هما بالقدرة ( والعلم ) قدم العِلم ، وأما الآية الأخرى فالعلم بتلك الأحوال قبل العقاب فقال : { وَهُوَ العزيز الحكيم } .

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)

قوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون } يحلف المشركون « مَا لَبِثُوا » في الدنيا « غَيْرَ سَاعَةٍ » أي إلا ساعة ، لما ذكر الإعادة والإبداء ذكره بذكر أحوالها ووقتها .
قوله : « مَا لَبِثُوا » جواب قوله « يُقْسِمُ » وهو على المعنى؛ إذا لو حكى قولهم بعينه لقيل : ما لبثنا ، والمعنى أنهم استلقوا أجل الدينا لما عاينوا الآخرة . وقال مقاتل والكلبي : ما لبثوا في قبورهم غير ساعة كما قال : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا } [ النازعات : 46 ] وقوله : { يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } [ الأحقاف : 35 ] .
قوله : « كَذَلِكَ » أي مثْلُ ذَلِكَ الإفك « كانَوا يُؤفَكُونَ » أي يصرفون عن الحق في الدنيا ، وقال الكلبي ومقاتل كذبوا في ( قبورهم ) قولهم غير ساعة كما كذبوا في الدنيا أن لا بعث ، والمعنى أن الله تعالى أراد يَفْضَحَهُمْ فحلفوا على شيء ( يتبين ) لأهل الجمع أنهم كاذبون ، ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم فقال : { وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله } أي فيما كتب الله لكم في سابق علمه في اللَّبث في القبور . وقيل : في كتاب الله في حُكْم الله أي فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث فيكون « في كتاب الله » متعلقاً « بلَبِثْتُم » وقال مقاتل وقتادة : فيه تقديم وتأخير معناه وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان لقد لبثتم إلى يَوْم البَعْثِ .
و طفي « تَرِدُ بمعنى الباء [ و ] العامة على سكون عين » البَعْثِ « والحسن بفتحها ، وقرىء ، بكسرها ، فالمكسور اسم ، والمفتوح مصدر .
قوله : { فهذا يَوْمُ البعث } في الفاء قولان : اظهرهما : أنها عاطفة هذه الجملة على » لَقَدْ لَبِثْتُمْ « .
وقال الزمخشري هي جواب شرط مقدر كقوله :
4046 - فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا ... كأنه قيل : إن صحَّ ما قلتم إن » خرسان « أقصى ما يراد بكم وآن لنا أن نخلص وكذلك إن كنتم منكرين فهذا يوم البعث ، ويشير إلى البيت المشهور .
4047 - قالوا خُرَاسان أقْصَى ما يُرادُ بِنَا ... قُلْنَا القُفُول فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا
قوله : » لا تَعْلَمُونَ « أي البعث أي ما يراد بكم ( أو ) لا يقدر له مفعول أي لم يكونوا من أولي العلم وهو المَنْع .
فصل
اعلم أن الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها ، فالمجرم إذا حُشِرَ عَلِمَ أن مصيره ( إلى النار يستقل مدة اللَّبْثِ ويخترا تأخير الحشر والإبقاء في الإبقاء ، والمؤمن إذا حُشِرَ عَلِمَ أن مصيره ) إلى الجنة فيستكثر المدة ولا يريد تأخيرها فيختلف الفريقان ويقول أحدهما : إن مدة لَبْثنا قليلٌ وإليه الإشارة بقوله : { وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إلى يَوْمِ البعث } ونحن صرنا إلى يوم البعث ، وهذا يوم البعث { ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ } وقوعه في الدنيا يعني أن طلبكم ( التأخير لأنكم كنتم لا تعلمون البعث ولا تعترفون به ، فصار مصيركم إلى النار فتطلبون التأخير ولا ينفعكم العلم به الآن .

قوله : « فَيَوْمَئِذٍ » أي إِذْ يَشْفَعُ ذَلك يقولُ الذين أثوتوا العلمَ تلك المقالة « لا ينفع » هو الناصب ليومئذ قبله ، وقرأ الكوفيون هنا وفي غافر بالياء من تحت وافقهم نافعٌ على ما في غافر؛ لأن التأنيث مجازيّ ولأنه قد فصل أيضاً والباقون بالتأنيث فيهما مراعاةٌ للفظ .
قوله : { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } قال الزمخشري من قولك : أسْتَعْتَبَنِي فلانٌ فَأَعْتَبْتُهُ أي اسْتَرْضَانِي فَأَرضَيْتُهُ ، وذلك إذا كان جانياً ( عليه ) وحقيقة « أَعْتَبْتُهُ » أزلت عَتْبَهُ ألا ترى إلى قوله :
4048 - غَضِبَتْ تَمِيمٌ أن تقَتَّلَ عَامِرٌ ... يَوْمَ النِّسَارِ فَأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ
كيف جعلهم غضاباً ، ثم قال : « فأُعْتِبُوا » أي أُزِيلَ غَضَبُهُمْ ، والغضب في معنى العتب والمعنى لا يقال ( لهم ) أرضوا ربكم بتوبة وطاعة ، ومثله قوله تعالى : { فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ } [ الجاثية : 35 ] . فإن قلتَ : كيف جعلوا غير مُسْتَعْتَبِين في بعض الآيات وغير مُعْتَبِينَ في بعضها وهو قوله : { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين } [ فصلت : 24 ] قلت : أما كونهم غي مُسْتَعْتَبِينَ فهذا معناه ، وأما كونهم غير معتبين فمعناه أنهم غيرُ راضينَ بما هم فيه فشُبِّهَتْ حالُهُمْ بحال قوم جُنِيَ عليهم فهم عاتبون على الجاني غير راضين ( منه ) فإن يستعتبو الله أي يسألون إزالة ما هم فيه فما هم من المُجَابِينَ انتهى . وقال ابن عطية ويستعتبون بمعنى يعتبون كما تقول يَمْلِكث ، ويَسْتَمْلِكُ ، والباب في « استفعل » طلب الشيء وليس هذا منه؛ لأن المعنى كان يفسد إذْ كان المفهوم منه ولا يُطْلَبُ منهم عُتْبَى ، قال شِهابُ الدِّين : وليس ( هذا ) فاسداً لما تقدم في قوله الزمخشري .
قوله : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ } وهذا إشارة إلى إزالة الأعْذَار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وأنه لم يبقَ من جانب الرسول تقصيرٌ فَإن طلبوا شيئاً آخر فذاك عناد مَحْض لأن من كذَّب دليلاً لا يَصْعبُ عليه تكذيب الدلائل بل يا يجوز للمستدل أن يَشْرَع في دليل آخر بعد ذكره دليلاً جيِّداً مستقيماً ظاهراً لا إشكال عليه ، وعانده الخصم لأنه إما أن يعترف بوُرُودِ سُؤال الخَصْم عليه أو لا يعترف فإن اعترف يكون انقطاعاً وهو يَقْدَحُ في الدليل والمستدلّ إما أن يكون الدليل فاسداً وإما أن المستدل جاهل بوجه الدلالة والاستدلال وكلاهما لا يجوز الاعراف ( به ) من العلم فكيف من النبي عليه الصلاة والسلام وإن لم يعترف بكون الشُّرُوعِ في غيره يوهم أن الخَصم معاند فيحترز عن العناد في الثاني أكثر .
فإن قيل : فالأنبياء عليهم ( الصلاة و ) السلام ذكروا أنواعاً من الدلائل ، فنقول سردوها سَرْداً ثم فردوها فرداً فرداً ( كما ) يَقُولُ : الدليلُ عليه من وجوه : الأول : كذا ، والثاني : كذا ، والثالث : كذا .

وفي مثل هذا الواجب عدم الالتفات إلى عناد المعاند لأنه يريد تضييع الوقت كي لا يتمكن المُسْتَدِلُ مِن الإتيان بجميع ما وعد من الدليل فتَنْحَطُّ درجته وإلى هذا أشار بقوله : { وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ } أي ما أنتم إلا على باطل ، ووحد في قوله : « جئْتَهُمْ » وجمع في قوله : « إنْ أَنْتُمْ » لنكتةٍ وهي أنه تعالى أخبر في موضع آخر فقال : { وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِكُلِّ آيَةٍ } أي جاءت بها الرسل فقال الكفار ما أنتم أيها المُدعُون الرسالة ( كلكم ) إلا كذا .

كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)

قوله : « كَذَلك يَطْبَعُ » أي مثل ذلك الطبع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ توحيد الله .
( فإن قيل : من لا يعلم شيئاً أيّ فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه؟
فالجواب : ) معناه أن من لا يعلم الآن فقد طبع على قلبه من قبل ، ثم إنه تعالى سَلَّى نبيه عليه ( الصلاة و ) السلام فقال : { فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } في نصرتك وإظهارك على عدوك وتبيين صدقك .
قوله : { وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ } العامة من الاسْتِخْفَافِ - بخاء مُعْجَمَةٍ وفاءٍ - ويعقوبُ ، وابنُ أبي إسحاق بحاء مهملة وقاف من الاسْتِحْقَاق . وابنُ أبي ( عبلة ) ويعقوبُ بتخفيف نون التوكيد والنهي من باب : لاَ أَرَينْكَ هَهُنَا .
فصل
المعنى ولا يَسْتَجْهِلَنَّكَ أي لا يَجْهَلَنَّكَ { الذين لا يوقون } على الجهل واتباعهم في البغي ، وقيل : لا يَسْتَحِقَّنَ رأيكَ وحِلْمَك الذين لا يؤمنون بالبعث والحساب ، وهذا إشارة إلى وجوب مُدَاومَةِ النبي - عليه السلام - على الدعاء إلى الإيمان ، فإنه لو سكت لَقَالَ الكافريون : إن ه متقلب قابل الرأي لا ثبات له .
روى أبو أمامة عن أبيِّ بْنِ كَعْبٍ قال : « قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم : » مَنْ قَرَأَ سُورَة الرُّومِ كان لَهُ من الاجر عشر حسناتٍ بعدد كُلّ مَلَك يُسَبِّح اللَّهُ بَيْنَ السَّمَاء والأرض وأَدْرَكَ ما صَنَعَ في يومه وليلته « رواه في تفسير والله أعلم ( وأحكم ) .

الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)

قوله تعالى : { ألم . تلك آيات الكتاب الحكيم } تلك إشارة إلى غائب ، والمعنى آيات القرآن ( أي ) آيات الكتاب الحكيم . والحكيم ( قيل ) : فعيلٌ بمعنى مُفْعَل وهذا قليل . قالوا عَقَدْتُ اللَّبَنَ فَهُوَ عَقِيدٌ ، ( أو بمعنى فاعل ) أو بمعنى ذي الحكمة أو أصله الحكيمُ قائِلُهُ ( ثم ) حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ وهو الضمير المجرُور ، فانقلب مرفوعاً فاسْتَتَرَ في الصِّفة قاله الزمخشري ، وهو الحسن الصِّنَاعِة .
قوله : « هَدىً وَرَحْمَةً » العامة على النصب على الحال من « آيات » والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل او المَدْح . وحمزةُ بالرفع على خبر مبتدأ مضمر وجوز بعضهم أن يكون « هدى » منصوباً على الحال رفع « رحمة » . قال : ويكون رفعها على خبر ابتداء مضمر ، ( وجوز بعضم أن يكونَ هُدىً ) أي وهو رحمة وفيه بُعْدٌ .
فصل
قال في البقرة : ذَلِكَ الكِتَابُ ، ولم يقل : « الحَكِيمُ » وههنا قال : « الحَكِيمُ » ؛ لأنه لما زاد ذكرَ وصفٍ في الكتاب زاد ذكر أمر أحواله فقال هدى ورحمة وقال هناك : « هدى للمتقين » ، فقوله : « هدى » ( في مقابلة قوله : « الكتاب » وقوله : « ورحمة » ) مقابلة قوله « الحكيم » ووصف الكتاب بالحكيم على معنى ذو الحكمة كقوله تعالى : { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 69 ] أي ذات رضا وقال هناك « لِلْمُتَّقِينَ » وقال هنا : « للمُحْسِينِيَ » ؛ لأنه لما ذكر أنه هدى ولم يذكر شيئاً آخر قال : « لِلْمُتَّقِين » أي يهدى ( به ) من يتقي من الشرك والعناد ، وههنا زاد قوله : « وَرَحْمَة » فقال : « لِلْمُحْسِنِينَ » ؛ لأن رحمة الله قريبٌ من المحسنين وقال تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] فناسب زيادة قوله « وَرَحْمَة » ، ولأن المحسن يتقي ، ( وزيادة ) .
قوله : « الذين يقيمون » صفة أبو بدل أو بيان لما قبله ، أو منصوب أو مرفوع على القطع وعلى كل تقدير فهو تفسير للإحسان . وسئل الأصمعي عن الألمعي فنشد :
4049 - الأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّنْ ... نَ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا
يعني أن الألمعي هو الذي إذا ظن شيئاً كان كمن رآه وسمعه كذلك المحسنون هم الذين يفعلون هذه الطاعات ومثله وسئل بعضهم عن الهلوع فلم يزد أن تلا : { وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً } [ المعارج : 19 - 20 ]
فصل
قال في البقرة : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة } [ البقرة : 3 ] ولم يقل هنا : الذين يؤمنون بالغيب؛ لأن المتَّقِيَ هو التارك للكفر ويلزم منه أن يكون مؤمناً ، والمؤمن هو الآتي بحقيقة الإيمان ، ويلزمه أن لا يكونَ كافراً ، فلما كان المتقي دالاً على المؤمن بالالتزام مدح بالإيمان هناك ، ولما كان المحسن دالاً على الإيمان بالتنصيص لم يصرح بالإيمان .

وتقدم الكلام على نظير قوله : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة } إلى قوله : « المُفْلِحُونَ » .
قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث } لم ابين أن القرآن كتابٌ حيكمٌ يشتملُ على آياتِ حكيمة بين حال الكفار أنهم يَترُكُون ذلك ويشتغلون بغيره . قال مقاتل والكلبي : نزلت في النَّضْرِ بْنِ الحَارِث كان يَتَّجرُ فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث بها قريشاً ويقول : إن محمداً يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث « رُسْتم ، واسفِنْديَار » ، وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن ، فأنزل الله هذه الآية ، وقال مجاهد : يعني شراء القِيَانِ والمُغَنِّينَ ، ووجه الكلام على هذا التأويل من يشتري ذاتَ او ذَا لَهْوِ الحَدِيث ، قال عَليه ( الصلاة و ) السلام : « لا يحل ( تعليم ) المغنيات ولا بيعهن وأثمانهن حرام » وفي مثل هذا نزلت الآية { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } وما من رَجُلٍ يرفع صوته بالغناء إلاَّ بعث الله عليه شياطنين أحدهما على هذا المَنْكِبِ والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى هو الذي يسكت قال النحويون قوله : « لَهْوَ الحديث » من باب الإضافة بمعنى « مِنْ » ح لأن اللهو يكون حديثاً وغيرهَ فهو كباب ، وهذا أبلغ من حذف المضاف .
قوله : « لِيُضِلَّ » ( قرأه ابن كثير وأبو عمرو ) بفتح حرف المضارعة ، والباقون بضمه لمن « أَضَلَّ غَيْرَهُ » فمفعوله محذوف ، وهو مستلزم للضلال لأن من « أَضَلَّ » فقد « ضَلَّ » من غير عكس ، وقد تقدم ذلك في إبراهيم . قال الزمخشري هنا : فإن قلت : القراءة بالرفع بينة لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت : معنيان :
أحدهما : ليثبت على ضلالة الذي كان عليه ولا يَصْدِفَ ويزيدَ فيه ويمده فإن المخذول كان شديد التمكّن في عداوة الدين وصد الناس عنه .
الثاني : ان موضع « ليضل » ( موضع ) من قِبَلِ أنَّ من « أَضَلَّ » كان ضالاًّ لا محالة ، فدل بالرَّدِيفِ على المَرْدُوفِ .
فصل
روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير قالوا : ( لهو ) الحديث هو الغناء ، والآية نزلت فيه ، ومعنى قوله : { مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث } أي يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن ، وقال ابن جريح : هو الطبل ، وقال الضحاك : وهو الشرك ، وقال قتادة : حسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ .
قوله : « بغير علم » حال أن يشتري بغير علم بأحوال التجارة حيث اشترى ما يخسر قيمة الدَّارَيْنِ .
قوله : « وَيَتَّخِذَهَا » قرأ الأحوان وحفص بالنصب أي بنصب الذَّال عطفاً على « لِيُضِلَّ » وهو علة كالذي قبله .

والباقون بالرفع عطفاً على « يَشْتَرِي » فهو صلة ، وقيل : الرفع على الاستئناف من غير عطف على الصلة ، والضمير المنصوب يعود على الآيات المتقدمة أو السبيل لأنه يُؤَنَّثُ ، أو الأحادث الدال عليها الحَدِيُ لأنه اسم جنس .
قوله : « أولَئِكَ لَهْمْ » حمل أولاً على لفظ « مَنْ » فأفرد ( ثم ) على معناها فجمع ثم على لفظها فأفرد في قوله : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا } وله نظائر تقدم التنبيه عليها في المائدة عند قوله : { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [ المائدة : 6 ] . قال أبو حيان : ولا نعلم جاء في القرآن ما حمل على اللفظ ثم على المعنى ثم على اللفظ غير هاتين الآيتين ، قال شهاب الدين : ووجد غيرهما كما تقدم التنبيه عليه في المائدة . وقوله : « عَذَابٌ مُهِينٌ » أي دائم .
قوله : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً } أي يشتري الحديث الباطل ، ويأتيه الحق الصُّرَاحُ مَجَّاناً فيعرض عليه .
قوله : { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } حال من فاعل « وَلَّى » أو من ضمير « مُسْتَكْبِراً » وقوله : { كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً } حال ثالثة أو بدل مما قبلها ، أو حال من فاعل « يَسْمَعْهَا » أو تبيين لما قبلها ، وجوز الزمخشري أن تكون جملة التنبيه استئنافيتين .
معنى { كأن لم يسمعها } شغل المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام ويجعل نفسه كأنه غافلة ، وقوله : { كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً } أدخل في الإعراض { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي مؤلم ، ووصفه أولاً بأنه « مهين » وهو إشارة إلى الدوام فكأنه قال : « مُؤْلِم دَائم » .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)

قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات . . . } الآية لما بين حال المُعْرِضِ عن سماع الآيات بين حال من يقبل على تلك الآيات بأنَّ لهم جناتِ النعيم . ولذلك عذاب مهين ووحد العذاب ، وجمع الجنات إشارة إلى أن الرحمة ( واسعة أكثر من الغضب ، وكّر « العذاب » وعرف « الجنات » إشارة إلى أن الرحمة ) تبين النعمة وتعرفها ولم يبين النعمة وإنما نبه عليها تنبيهاً .
وقوله : « خَالِدِينَ » حال ، وخبر « إِنَّ » الجملة من قوله : « لَهُمْ جَنَّاتٌ » والأحسن أن يجعل « لَهُمْ » هو الخبر وحده ، و « جَنَّاتٌ » فاعل به ، وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ « خالدُونَ » بالواو فيجوز أن يكون هو الخبر والجملة أو الجارّ وحده حال ، ويجوز أن يكون ( « خالدون » ) خبراً ثانياً .
قوله : « وَعْدَ اللَّهِ » مصدر مؤكد لنفسه؛ لأن قوله : « لَهُمْ جَنَّاتٌ » في معنى وَعَدَهُم اللَّهُ ذَلِكَ ، و « حَقّاً » مصدر مؤكد لغيره ، أي لمضمون تلك الجملة الأولى ، وعاملها مختلف ، فتقدير الأولى وعد الله ذلك وعداً ، وتقدير الثاني : أُحِقُّ ذلك حَقّاً ، واعلم أنه « العزيز » في اقتداره « الحكيم » في أفعاله .
قوله : { خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ } وهذا تبيين لقوّته وحكمته ، وقد تقدم الكلام على نظيرها في الوعد . واعلم أن أكثر المفسرين قال : إن السموات مبسوطةً كصُحُفٍ مستوية لقوله تعالى : { يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ } [ الأنبياء : 104 ] . وقال بعضهم : إنها مستديرة وهو قول ( جميع ) المهندسين والغزاليُّ - رحمه الله - قال ونحن نوافقهم على ذلك فإن لهم عليها دليلاً من المحسوسات ومخالفة الحسّ لا يجوز وإن كان في الباب خبر نؤوله بما يحتمله فضلاً من ( أن ) ليس في القرآن والخبر مما يدل على ذلك صريحاً بل ما يدل عليه الاستدارة كقوله تعالى : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] « والفلك » اسم لشيء مستدير بل الواجب ان يقال : إن السماء سواء كانت مستديره أو صفحةً مستقيمة هو مخلوق بقدر الله لا بإيجاب وطبع ( وتقدم ) الكلام على نظير الآية إلى قوله : « كَرِيم » . والكريم الحسن ، أو ذي كرم لأنه يأتي كثيراً من غير حساب أو مُكْرِم مثل نَقِيصٍ للمُنْقِص .
قوله : { هذا خَلْقُ الله } يعني هذا الذي ذكرت مما يُعَايِنُونَ خلق الله { فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ } من آلهتكم التي تعبدونها وتقدم « ماذا » الاستفهام في البقرة . { بَلِ الظالمون فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي بين ، أو مبين للعاقل أنه ضلال ، والمراد بالظالمين المشركين الواضعين العبادة في غير موضعها .

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } لقمان قيل : أعجمي وهو الظاهر فمنعه للتعريف والعجمة الشخصية ، وقيل : عربي مشتق من اللّقْم وهو حينئذ مُرَجَّل لأنه لم يبق له وضعٌ في النكرات ومنعه حينئذ للتعريف وزيادة الألف والنون ، والعامل في « إذ » مضمر .
قال ابن إسحاق لقمانُ هو نَاعور بن ناحثور بن تَارخ ، وهو آزر ، وقال وهب كان ابن أخت أيوب وقال مقاتل : ذكر أنه كان ابن خالة أيوب ، وقال الواقدي : كان قاضياً في بني إسرائيل واتفق العلماء على أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً إلا عكرمة فإنه قال كان نبياً وانفرد بهذا القول وقال بعضهم خُيِّرَ لُقْمَانُ : هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض فتحكم بين الناس بالحقّ فأجاب الصوت وقال : إن خَيَّرَنِي ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم علي فسمعاً وطاعة فإني أعْلَمُ إن فعل بي ذلك أعاننين وعصمني فقال الملائكة بصوت لا يراهم لِمَ يا لقمانُ؟ قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان أن يعن فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطا طريق الجنة ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً ، ومن يختر الدنيا على الآخرة تُغْنه الدنيا ولا يصيب الآخرة فتعجب الملائكة من حسن مَنْطِقِ فقام من نومه فأعطي الحكمة فانْتَبَه وهو يتكلم بها ثم نودي داود بعده فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان فهوى في الخطيئة غير مرة ، كُلّ ذلك بعفو الله عنه وكان لقمان تؤازره الحكمة ، قال خالد الربعي : كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً ، وقال سعيد بن المسيب : كان خياطاً ، وقيل : كان راعِيَ غنم ، فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال : ألستَ فلاناً الراعيَ فبم بَلَغْتَ ما بَلَغْتَ؟ قال : بصدق الحديث ، وأداء الأمانة وترك ما لا يَعْنِينِي ، وقال مجاهد : كان عبداً أسود عظيم الشَّفَتَيْنِ مُشَقَّقَ القَدَمَيْنِ ، وقال الحسن : اعتزل لقمان الناس فنزل ما بين الرقّة ( وبيت ) المقدس لا يخالطهم ، وقال أبو جعفر : كان لقمانُ الحبشيُّ عبداً لرجل فجاء به إلى السوق ليبيعه فكَانَ كلما جاء إنسانٌ يشريته قال له لقمان : ما تصنع بي ( فاعل فيقول : أصنع بك كذا وكذا فيقول : حاجتي إليك أن لا تَشْتِرِيَنِي حتى جاء رجل فقال له : ما تصنع بي ) قال أُصَيِّرُك بواباً على بابي فقالك أنت اشتري فاشتراه وجاء به إلى جاره قال : وكان لمولاه ثلاثُ بناتٍ يَبْغِين في القرية ، وأراد أن يخرج إلى ضيعةً له فقال له : إني أَدْخَلْتُ إليهن طعامَهُنَّ وما يَحْتَجْنَ إليه فإذا خرجت فأغلق الباب واقعد من ورائه ولا تفتحه حتى أحضر قال : ففعل فَخَرَجْنَ إليه فإذا خرجت فأغلق الباب واقعد من ورائه ولا تفتحه حتى أحضر قال : ففعل فَخَرَجْنَ إليه كما كُن يَخْرُجُنْ فقلن ( له ) : افتح الباب فأبى ( عليهن ) فَسَجَنَّه فَغَسَل الدم وجلس ، فلما قدم مولاه لم يخبره ( ثم عاد فأغلق الباب فجئن إليه فقلن له : افتح الباب فأبى فَشَجَجْنَه ورجَعنَ فغسل الدم وجلس فلما جاء مولاه لم يخبره ) قال : فقالت الكبرى : وما بال هذا العبد الحبشي أولى بطاعة الله - عز وجل - مني والله لأتوبَنَّ فتَابَتْ ، ( وقالت ) الصغرى : ما بال هذا العبد الحبشيّ وهذه الكبرى أولى بطاعة الله - عز وجل - مني والله لأتوبَنَّ فَتَابَتْ فقالت الوسطى : ما بال هَاتَيْن وهذا العبد الحبشي أولى بطاعة الله مني والله لأتوبن فتابت فتُبْنَ إلى الله تعالى وكُنَّ عَوَابِدَ القرية فقال غُوَاةُ القرية ما بال هذا العبد الحبشيّ وبنات فلان أولى بطاعة الله - عز وجل - منّا فتابوا ، وعن مكحول : أن لقمانَ كان بعداً حبشياً لرجل من بني إسرائيل وكان مولاه يلعب بِالنَّرْدِ ويخاطر عليه ، وكان على بابه نهرٌ جارٍ فلعب يوماً بالنَّرْدِ على أن من قهر صاحبه شرب الماء الذي في البحر كله أو افتدى منه فقمر سيد لقمان فقال له القامر : اشرب ما في النهر كله وإلا فافتديه فقال سَلْنِي الفداء فقال : عينيك أَفْقَأهُما أو جميع ما تملك فقال : أمْهِلْنِي يوماً قال لك ذلك .

فأمسى كئيباً حزيناً فكلمه لقمان فأعرض عنه فأعاد عليه القول فأعرض عنه فقال أخبرني فلعل لك عندي فرجاً فأخبره فقال : إذا قال لك الرجلُ اشرب ما في النهر فقل له أشرب ما بين حفتي النهر أو المد ( فإنه ) يقول لك ما بين حفتي النهر فقل له احبس عني المد حتى أشرب ما بين الحفتين فإنه لا يستطيع وتكون قد خرجت مما ضمنته له فعرف الرجل أنه قد صدق فطابت نفسه ، فلما أصبح الرجل جاء فقال أَوْفِ لي شرطي فقال له نعم أشرب ما بين الضفتين أو المد فقال ما بين الضفتين قال فاحبس عني المد قال كيف أستطيع فخصمه قال فأعتقه مولاه فأكرمه الله تعالى وكان يختلف إلى داودَ - عليه السلام - يقتبس منه فاختلف إليه سنة وداود يتخذ درعاً يسأله ما هذا ولم يخبره داود حتى فرغ منها ولَبِسَها على نفسه فقال عند ذاك : الصمت حكمة .
فصل
لما بين الله تعالى فساد اعتقاد المشركين في عبادة من لا يَخْلٌُ شَيْئاً قوله : { هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ } [ الروم : 11 ] بين أن المشرك ظالم ضالٌّ ذكر ما يدل على أن ضلاله وظلمهم نقيض الحكمة إن لم يكن هناك نبوة وذكر حكاية لقمان فقال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } . ( والحكمة ) عبارة عن توفيق العمل بالعلم ، فإن أريد تَحْدِيدُها بما يدخل فيه حكمة الله فنقول : حصول العلم على وفق المعلوم .

قوله : « أَنْ اشْكُرْ » هذه « أن » المفسرة ، فسر الله إيتاء الحكمة بقوله : { أَنِ اشكر للَّهِ } ثم بين أن الشكر لا يشفع إلا الشاكر بقوله : { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } وبين أن من كفر لا يتضرر غير الكافر ، فقال : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي غير محتاج إلى شكره ، وقدم الشكر على الكُفْرَانِ ههنا وقال في الروم : { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [ الآية : 44 ] لأن الذكر في الروم كان للترهيب ولذلك قال : { يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ } [ الروم : 43 ] فقدم التخويف ، وههنا الذكر للترغيب؛ لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف . والوعد .
قوله : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ } هذا عطف على ما تقدم والتقدير آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكراً في نفسه ، وحين جعلناه واعظاً لغيره .
قوله : « يا بُنَيَّ » قرأ ابن كثير بإسكان الياء وفتحها حفصٌ والباقون بالكسر { لاَ تُشْرِكْ بالله } بدأ في الوعظ بالأهم وهو المنع من الإشراك وقال : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ، أما أنه ظلم فلأنه وضع النفس الشريفة المكرمة في عبادة الخسيس ، فوضع العبادة في غير موضعها .
قوله : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ } لما منعه من العبادة لغير الله والخدمة قريبٌ منها في الصورة بين أنها غير ممتنعة بل هي واجبة لغير الله ( في بعض الصور ) كخدمة الأبوين ثم بين السبب فقال : « حَمَلَتْهُ أُمُّهُ » يعني لله على العبد نعمة الابتداء بالخلق ونعمة الإبقاء بالرزق أي صارت بقدرة الله سبب وجود فإنها حملته وبرضاه حصل التربية والبقاء .
قوله : { وَهْناً على وَهْنٍ } يجوز أن ينتصب على الحال من ( أُمُّهُ ) أي ضَعْفاً على ضعف . وقال ابن عباس : شدة عل شدة ، وقال مجاهد : مشقة بعد مشقة وقال الزجاج : المرأة إذا حَمَلَتْ توَالَى عليها الضعف والمشقة ، وقيل : الحمل ضعف والوضع ضعف ، وقيل : منصوب على إسقاط الخافض أي في وهنٍ . قال أبو البقاء : « وعلى وهن » صفة له « الوَهْناً » . وقرأ الثَّقَفِي وأبو عمرٍو - في رواية - وَهَنا على وَهَنٍ - بفتح الهاء فيهما - فاحتمل أن تكونا لغتين كالشَّعْرِ والشَّعرِ ، واحتمل أن يكون المفتوح مصدر « وَهِنَ » بالكسر يَوهَنُ وَهناً .
قوله : « وفصاله » قرأ الجَحْدِرِيُّ وقتادةُ وأبُو رَجَاء والحسنُ « وفَصْلُهُ » دون ألف - أي وفِطامُهُ في عامين .
فإن قيل : وصى الله بالوالدين ، وذكر السبب في حق الأم مع أن الأب وجد منه الحشر من الأم لأنه حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ .
فالجواب : أن المشقة الحاصلة للأم أعظم فإن الأبَ حمله خلفة لكونه من جملةِ جَسَدِهِ ، والأم حملته ثقلاً آدميّاً مودع فيها وبعد وضعه وتربيته ليلاً ونهاراً وبينهما ما لا يخفى من المشقة .

قوله : « أَنْ اشْكُرْ » في « أن » وجهان :
أحدهما : أنها مفسرة .
والثاني : أنها مصدرية في محل نصب « وصّينا » قاله الزجاج ، لما كان الوالدان سببَ وجود الولد والموجد في الحقيقة للولد والوالدين هو الله أمر بأن يشكر قبلهما . ثم بين الفرق بين « إِلَيَّ المَصِيرُ » أي المرجع ، قال سفيان بن عيينة في هذه الآية من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ، ومن دعا للوالدين في أَدْبَار الصَّلَوَاتِ الخَمْس فقد شكر الوالدين .
قوله : { وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } يعني أن خدمتهما واجبة ، وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاقة الله فإن أفضى إليه فلا تُطِعْهُما ، وتقدم تفسير الآية في العنكبوت . وقوله : « مَعْرُوفاً » صفة لمصدر محذوف أي صِحَاباً مَعْروفاً وقيل : الأصل : بمعروف .
قوله : { واتبع سبيل من أناب إليّ } أي دين من أقبل إلى طاعتي وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عطا عن ابن عباس : يريد : أبا بكر ، وذلك انه حين أسلم أتاه عثمانُ وطلحة والزبير وسعدُ بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عَوْف وقالوا له : ( لقد ) صَدَّقْتَ هذا الرجل وآمنت به قال نعم هو صادق فآمنوا ثم حملهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أسلموا وهؤلاء لهم سابقة الإسلام أسلموا بإرشاد أبي بكر قال الله ( تعالى ) : { واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } يعني أبا بكر .
قوله : « إِلَي » متعلق « بأَنَاب » ثم « إِليَّ » متعلق بمحذوف لأنه خبر « مرجعكم » فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تعملون . قيل : نزلت هاتان الآيتان في سَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاص وأمِّه ، وقيل : الآية عامة .
قوله : { يابني إِنَّهَآ } هذا الضمير يرجع إلى الخطيئة ، وذلك أن ابنَ لقمان قال لأبيه : يا أبت إنْ عملت الخطيئةَ حيث لا يراني أحد كيف يعلمها ( الله ) ؟ فقال : { يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ } . قوله : « إِنْ تَكُ » الضمير ضمير القصة ، والجملة الشريطة مفسرة ( للضمير ) ، وتقدم أن نافعاً يقرأ مِثْقَال بالرفع على أن كَانَ تامة وهو فاعلها وعلى هذا فيقال : لم ألحقت فله تاء التأنيث؟ قيل : لإضافته إلى مؤنث؛ ولأنه بمعنى « زِنَةُ حَبَّةٍ » ، وجوز الزمخشري في ضمير « إِنَّهَا » أن تكون للحبة من السيئات والإحسان في قراءة من نصب « مِثْقَال » . وقيل : الضمير يعود على ما يفهم من سياق الكلام أي إنَّ التي سألتَ عنها ( إنْ تَكُ ) ، قال المفسرون : إنه سأل أباه أرأيت الحَبَّةَ تقع في مغاص البحر يعلمها الله؟ .
قوله : « فتكن » الفاء لإفادة الاجتماع يعني إن كانت صغيرة ومع صغرها تكون خفيةً في موضع حريز كالصَّخْرَةِ لا تخفى على الله لأن الفاء للاتصال بالتعقيب وقرأ عبد الكريم الجَحْدَريُّ « فَتكِنَّ » بكسر الكاف ، وتشديد النون مفتوحة أي فتستقر .

وقرأ مُحَمَّدُ بْنُ أبي مُحَمَّد البَعْلَبَكِّيِّ : فَتُكَنَّ ، إِلا أنه مبنيٌّ للمجهول ، وقتادة « فَتَكِنْ » بكسر الكاف وتخفيف النون مضارع « وَكَنَ » أي استقر في وَكْنِهِ ووَكْرِهِ .
فصل
الصخرة لا بد وأن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة من ذكرها؟ قال بعض المفسرين المراد بالصخرة صخرة عليها الثَّوْرُ وهي لا في الأرض ولا في السماء ، ( وقال الزمخشري : فيه إضمار تقديره إن تَكُنْ في صخرةٍ أو في موضع آخَرَ في السموات أو في الأرض ) . وقيل : هذا من تقديم الخاصّ وتأخر العام ، وهو جائز في مثل هذا التقسيم ، وقيل : خفاء الشيء يكون بطرق منها أن يكون في غاية الصِّغَرِ ، هذه الأمور فلا يخفى في العادة فأثبت الله الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط فقوله : { إنْ تَكُ مثقال حبة من خردل } إشارة إلى الصغر ، وقوله : { تَكُنْ فِي صَخْرَةٍ } إشارة ( إلى الحِجَاب ، وقوله : « فِي السَّمَوَاتِ » إشارة إلى البُعد ، فإنها أبعدُ الأبعاد ، وقوله : « أَوْ فِي الأَرْضِ » إشارة ) إلى الظلمة فإن جوْف الأرض أظلمُ الأماكن ، وقوله : { } أبلغ من قول القائل : يعلمه الله لأن من يظهر له شيء ( ولا يقدر على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دونَ حال من يَظْهَرُ له الشيء ) ويُظْهِرُهُ لغيره فقوله : { يَأْتِ بِهَا الله } أي يظهرها ( للإشهار ) { إِنَّ الله لَطِيفٌ } نافذ القدرة ، « خَبِيرٌ » عالم ببواطن الأمور ، روي في بعض الكتب أن هذه آخر كلمة تكلم بها لقمانُ فانشقتْ مرارتُه من هَيْبَتِهَا فمات ، قال الحسن : معنى الآية هو الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها .
قوله : { يابني أَقِمِ الصلاة } لما منعه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بما يلزم من التوحيد وهو الصلاة وهي العبادة لوجه الله مخلصاً وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيئاته اختلفت . وقوله : { وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر } أي إذا كملت أنت في نفسك بعبادة الله فكمل غيرك فإن شغل الأنبياء رتبتهم عن العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم ويكملوا غيرهم { واصبر على مَآ أَصَابَكَ } عين من الأذى لأن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذى فأمره بالصبر عليه .
فإن قيل : كيف قدم ( في ) وصيته لابنه الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر وحين أمر ابنه قدم النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف فقال : { لاَ تُشْرِكْ بالله } ثم قال : « أَقِم الصَّلاَةَ » ؟ .
فالجواب : أنه كان يعلم أن ابنه معترفٌ بوجودِ الإله فما أمره بهذا المعروف بل نهاه عن المنكر الذي يترتب على هذا المعروف ، وأما ابنه فأمره أمراً مطلقاً والمعروف يقدم على المنكر .

قوله : { مِنْ عَزْمِ الأمور } يجوز أن يكون عزم بمعنى مفعول أي من مَغْزُماتِ الأمور أو بمعنى عازم كقوله : { فَإِذَا عَزَمَ الأمر } [ محمد : 21 ] وهو مجاز بليغ ، وزعم المبرد أن العين تبدل حاء فيقال « حَزْم ، وعَزْم » والصحيح أنهما مادات مختلفتان اتفقا في المعنى ، والمراد من الآية أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى ( فيهما ) من الأمور الواجهة التي أمر الله تعالى بها ويعزم عليها لوجوبها .
قوله : « وَلاَ تُصَعِّرْ » قرأ ابن كثير وابنُ عامر وعاصمٌ « تُصَاعِرْ » بألف وتخفيف العين ، والباقون بالألف وتشديد العين ، والرسم يحتملهما ، فإنه رسم بغير ألف ، وهما لغتان لغةُ الحجاز التخفيف وتميم التثقيل فمن التثقيل قوله :
4050 - وَكُنَّا إِذَا الجَبَارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَيُقَوَّمُ
ويقال أيضاً : تَصَعَّر ، قال :
4051 - ... أقَمْنَا لَهُ مِنْ خَدِّه المُتَصَعِّر
وهو من الميل ، وذلك أن المتكبر يميل بِخَدِّهِ تكبراً كقوله { ثَانِيَ عِطْفِهِ } [ الحج : 9 ] . قال أبو عبيدة : أصله من الصَّعَرِ داء يأخذ الإبل في أعناقها فتميل وتَلْتَوِي؛ يقال : صَعَّرَ وجهه وصاَعَرَ إذا مال وأعرض تكبُّراً ، ورجل أصْعَرُ أي مائل العنق ، وتفسير اليَزِيدِيّ له بأنه التَّشَدُّق في الكلام لا يوافق الآية هنا ، قال ابن عباس : يقول لا تتكبر فتحتقر الناس وتعرض عنهم وجهك إذا كلموك ، وقال مجاهد : هو الرجل يكون بينك وبين إحْنَةٌ فتلقاه فيعرض عنك بوجهه ، وقال عكرمة : هو الذي إذا سلم عليه لوى عُنُقَه تكبراً ، وقال الربيع بن أنس وقتادة ولا تحتقر الفقراء ليكون الغنيّ والفقير عندك سواء ، واعلم أنه لما أمره بأن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره فكان يخشى بعدها من أمرين :
أاحدهما : التكبر على الغير لكونه مكملاً له .
والثاني : التبختر في المشي لكونه كاملاً في نفسه فقال : { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ } تكبراً { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً } أي خُيَلاَءَ { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } في نفسه « فَخُورٍ » على الناس بنفسه .
قوله : « واقْصِدْ » ( هذا قاصر ) بمعنى اقْتَصِدْ واسلُك الطريقة الوسطى بين ذلك قَوَاماً أي ليكن مشيك قصداً لا تخيلاً ولا إسراعاً . وقال عطاء : امشِ بالوَقَار والسكينة لقوله : { يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] .
( وقُرِىءَ ) « وأَقْصِدْ » بهمزة قطعٍ من أَقْصَدَ إذا سَدَّدَ سهمه للرَّمْيَةِ .
قوله : { واغضض مِن صَوْتِكَ } من تَبْعيضيَّه ، وعند الأخفش يجوز أن تكون زائدة ، ويؤيده قوله { يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ } [ الحجرات : 3 ] . وقيل : « من صوتك » صفة لموصوف محذوف أي شيئاً من صوتك ، وكان الجاهلية يتمدحون برفع الصوت ، قال : [ من المتقارب ] :
4052 - جَهِيزَ الكَلاَمِ جَهِيرَ العُطَاسِ ... جَهِيرَ الرُّوَاءِ جَهِيرَ النّعَمْ
والمعنى أَنْقِصْ من صوتك ، وقال مقاتل : اخفض من صوتك .
فإن قيل : لِمَ ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي؟ .
فالجواب : أن رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصِّمَاخ بقوته ، وربما يخرقُ الغِشَاء الذي داخل الأذن ، وأما سرعة المشيء فلا تؤذي وإن أذت فلا يؤذي غير في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين وعلى اليسار ولأن اللمس يؤذي آلة اللمس والصوت يؤذي آلة السمع ، وآل السمع على باب القلب فإن الكلامَ ينتقلُ من السمع إلى القلب ولا كذلك اللمس وأيضاً فلأن قبيحَ القول أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان تَرْجُمانُ القلب .

قوله : « إِنَّ أَنْكَرَ » قيل : أنكر مبنيٌّ من مبنيٍّ للمفعول نحو : « أشْغَلُ مشنْ ذَاتِ النّْيَيْنِ » ، وهو مختلف فيه ووحد « صوت » لأنه يراد به الجنس ولإضافته لجمع ، وقيل : يحتمل أن يكون « أنكر » من باب « أطوع له من بنانه » ومعناه أشدّ طاعةً . فإن « أفْعَلَ » لا يجيء ( في ) « مُفْعَل ولا في » مفْعُول « ولا في باب العيوب إلا ما شَذَّ كقولهم » أَطْوَعُ مِنْ كَذَا « للتفضيل على مُطِيع و » أَشْغَلُ مِنْ ذَاتِ النِّحْيَيْن و « أحْمَقُ ( مِنْ فُلانُ » ) من باب العيوب ، وعلى هذا فهو من باب « أفعل » كأَشْغَلَ في باب مَفْعُولٍ فيكون للتفضيل على المنكر . أو نقول هو من باب « أَشْغَل » مأخوذ من نُكِرَ الشيءُ فهو مَنْكُورٌ ، وهذا أنْكَرُ مِنْه ، وعلى هذا فله معنى لطيف وهو أن كل حيوان قد يفهم من صوته بأنه يصيح من ثِقَل أو تعب كالبَعير أو لغير ذلك والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهقُ بصوتٍ مُنْكَر ( فيمكن ) أن يقال : هو من نكير كأَحَدَّ من حَدِيدٍ .
فإن قيل : كيف يفهم كونه أنكر الأصوات مع أن حزَّ المِنْشَار بالمبرد ودق النحاس بالحديد أشد صوتاً؟!
فالجواب من وجهين :
الأول : أن المراد أنكر أصوات الحيوانات صوتاً الحميرُ فلا يَردُ السؤال .
الثاني : أن الآمر بمصلحة وعبادة لا ينكر صوته بخلاف صوت ( الحمير ) .
فصل
قال مقاتل : اخْفِضْ مِنْ صوتك { إِنَّ أَنكَرَ الأصوات } أقبح الأصوات { لَصَوْتُ الحمير } أوله زَفيرٌ ، وآخره شهيقٌ وهما صوت ( أهل النار ) وقال موسى بن أعين سمعت سفيان الثوري يقول في قوله تعالى : { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } قال صياح كل شيء تسبيح لله تعالى إلا الحمار وقال جعفر الصادق في قوله تعالى : { إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير } قال : هي العطسة القبيحة المنكرة ، قال وهب تكلم لقمان اثْنَي عشَرَ ألْف كلمةٍ من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم ومن حكمه : قال خالد الريعي كان لقمان عبداً حبشياً فدفع ( له ) مولاه إليه شاة فقال اذبحها فأتِنِي بأطيبِ مُضْغَتَيْنِ مِنْها فأتاه باللِّسان والقَلْب فسأله مولاه فقال : ليس شيء أطْيَبَ منهما إذا طابا ولا أخبثَ منهام إذا خَبُثَا .

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ . . . } الآية ( أي ) سخر لأجلكم ما في السماوات والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ بأمره وفيها الفوائد لعباده وسخر ما في الأرض لأجل عباده .
قوله : { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ } قرأ نافعٌ وأبُو عَمْروٍ وحفصٌ ( نِعَمَهُ ) جمعُ نِعْمَةٍ مضافاً لها الضمير « فظَاهِرةً » حال منها ، والباقون « نِعْمَةً » بسكون العين ، وتنوين تاء التأنيث ، اسم جنس يراد به الجمع كقوله : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] و [ النحل : 18 ] فظاهرةً ( نعت ) لها ، وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة « وأصْبَغَ » بأبدال السين صاداً وهي لغة كلْبٍ ، يفعلون ذلك مع الغَيْنِ والخَاءِ والقَافِ ، وتقدم نظير هذه الجمل كلها في البقرة .
فصل
قال عكرمة عن ابن عباس النعمة الظاهر الإسلام ، والقرآن ، والباطنة ما ستر عليك من الذنوب ، ولم يعجل عليك بالنقمة ، وقال الضحاك : الظاهرة حُسْن الصورة وتسويةُ الأعضاء ، والباطنة المعرفة ، وقال مقاتل : الظاهرة تسوية الخِلْقَة ، والرزق ، والإسلام والباطنة : ما ستر عليك من الذنوب وقال الربيع الظاهرة الجوارح ، والباطنة القلب ، وقيل : الظاهرة تمام الرزق والباطنة حُسْنُ الخُلُق ، وقال عطاء : الظاهرة تخفيف الشرائع ، والباطنة الشفاعة ، وقال مجاهد : الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء والباطنة الإمداد بالملائكة ، وقيل : الظاهرة الإمداد بالملائكة والباطنة إلقاء الرعب في قلوب الكفار ، وقال سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : الظاهرة : اتِّباع الرسول والباطنة محبته .
قوله : { وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله ( بِغَيْرِ عِلْمٍ } نزلت في النضر بن الحَرثِ ، وَأُبيِّ بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي - صلى الله عليه وسلم - ) وفي صفاته { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا } بين أن مجادلتهم مع كونها من غير علم فهي في غاية القُبْح ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَدعوهُم إلى كلام الله وهم يأخذون بكلام آبائهم وبين كلام الله وكلام العلماء بَوْنٌ عظيمٌ فكيف ما بين كلام الله وكلام الجهال؟ ثم قال : { أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير } ، جواب « لو » محذوف ومجازه : يدعوهم فيتبعونه أي يتبعون الشيطان وإن كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ، والمعنى أن الله يدعوهم إلى الثواب ، والشيطان يدعوهم إلى العذاب وهم مع هذا يتبعون ( الشيطان ) وقد تقدم الكلام على « أَوَ لَوْ » ونَحوهِ .
قوله : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله } قرأ عَليٌّ ( والسُّلَمِيُّ ) « يُسَلِّمْ » بالتشديد ، لما بين حال المشرك والمجادل في الله بين حال المستسلم المسلم لأمر الله وقوله : « وَهُو مُحْسِنٌ » أي لله يعني يخلص دينه لله ويفوض أمره إليه وهو محسن في عمله { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } أي اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه لأن أوثق العُرَى جانب الله ، فإن كل ما عداه هالك منقطع وهو باقٍ لا انقطاع له { وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور } يعني فقد استمسك بالعروة التي توصله إلى الله لأن عاقبةَ كُلِّ شيء إليه .

فإن قيل : كيف قال هَهُنَا : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله } ( فعداه « بإلى » وقال في البقرة : { بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ } [ الآية : 112 ] ) فعداه باللاّم؟ فقال الزمخشري : أَسْلَمَ لِلّه أي إلى الله يعني أنَّ « أَسْلَمَ » يتعدى تارة « باللام ، وتارة » بإلى « قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ } [ النساء » : 79 ] وقال : { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً } [ المزمل : 15 ] ثم قال : { وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا } ( لما بين حال المسلم رجع إلى بيان حال الكافر وقال : { من كفر فلا يحزنك } ) أي لا تحزن إذا كفر كافر ، فإن من يكذبْ وهو مقطوعٌ بأن صدقه بين عن قرب لا تحزن بل قد يتوب المكذب عن تكذيبه ، وأام إذا كان لا يرجو ظهور صدقه فإنه يتألم من التكذيب فقال : { فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ } فإن المرجعَ إليَّ { فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا } فيَنْخَجلون ثم قال { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي لا يخفى عليه سرُّهُمْ وعلانيتُهم فينبئهم بما أسَرَّتهُ صدورهم .
قوله : « نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً » أي نمهلهم ليتمتعوا بنعم الدنيا قليلاً إلى انقضاء آجالهم « ثُمَّ نضطرّهم » نُلجئهم ونردهم في الآخرة { إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } وهو عذاب النار .
قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله . . . } الآية لما استدل بخلق السموات بغير عمد ، وبنعمه الظاهرة والباطنة بين أنهم يعترفون بذلك ولا ينكرونه وهذا يقتضي أن الحمد كله لله لأن خالق السماوات والأرض محتاج إليه كلّ من في السماوات والأرض ، وكون الحمد كله لله يقتضي أن لا يعبد غيره لكنهم لا يعلمون هذا ، ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما سلى قَلْبَ النبي - عليه السلام - بقوله : { فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا } أي لا تحزن على تكذيبك فإن صدقَك وكذبهم يتبين عن قريب وهو رجوعهم إلينا بل لا يتأخر إلى ذلك اليوم بل يتبين قبل يوم القيامة بأنهم يعترفون بأن خالق السموات والأرض هو الله ، ثم قال في دعوى الوحدانية وتبيين كذبهم في الشرك { قُلِ الحمد لِلَّهِ } على ( ظهور ) صدقك وكذبهم { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك ، وعلى هذا يكون « لاَ يَعْلَمُونَ » استعجالاً للفعل مع القطع عن المفعول بالكلية ، كما يقال : فُلاَنٌ يَعْطِي وَيمْنَعُ ولا يكون ضميره من يعطي بل يريد أن له عطاءً ومعاً فكذلك ههنَا قال : « لاَ يَعْلَمُونَ » أي ليس لهم علم ، وعلى الأولى يكون « لا يعلمون » ( له مفعول مفهوم ) وهو أنهم لا يعلمون أن الحمدَ كُلَّه لله وعلى الثاني هو كقول القائل : فلانٌ لا علم لهَ بكذا .

قوله : لا علم له وكذا قوله : فلان لا ينفعُ زيداً ولا يضره دون قوله : « فلان لاَ يَضْرُّ وَلاَ يَنْفَعُ » .
قوله تعالى : { لِلَّهِ مَا فِي السماوات والأرض } ذكر ما يلزم منه وهو أن يكون له ما فيهما { إِنَّ الله هُوَ الغني الحميد } أي إن الكل لله وهو غير محتاج إليه غير منتفع به وخلق منافعها لكم ، فهو غني لعدم حاجته « حميد » مشكور ( لدفعه ) حوائجكم بها .

وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)

قوله : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ . . . } الآية . لما قال : لله ما في السماوات والأرض أوهم تناهي ملكه لانحصار ما في السموات والأرض فيهما وحكم العَقْلِ الصريح بتناهيهما بين أن في قدرته وعلمه عجائبَ لا نهاية لها فقال : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } يكتب بها والأبحر مداد لا تغني عجائب صنع الله ، قال المفسرون نزل بمكة قوله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح } [ الإسراء : 85 ] ، إلى قوله : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الأسراء : 85 ] فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه أحبار اليهود فقالوا « يا محمد : بلغنا أنك تقول : وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ، أفَعَنَيْتَنَا أَمْ قَوْمَكَ؟ فقال - عليه السلام - : كلا قد عنيت . قالوا : ألست تتلو فيما جاءك إنا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هي في علم الله قليلٌ ، وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم قالوا يا محمد : كيف تزعم هذا علم قليل وخير كثير » ؟ فأنزل الله هذه الآية . وقال قتادة : إن المشركين قالوا : إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفدَ فينقطع فنزلت : ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلامٍ « . ووحَّد الشجرة ، وجمعَ الأقلام ولم يقل : ولو أن ما في الأرض من الأشجار أقلام ولم يقل من شجرة قَلَم إشارةً إلى التكثير يعني لو أن بعدد كُلِّ شجرة فإن قلت : لم يقيل : من شجرة بالتوحيد؟ قلت : أريد تفصيل الشجرة وتَقَصِّيها شجرةً شجرةً حتى لا يبقى من جنس الشجرة واحدة إلا قد بريت أقلاماً . قال أبو حيان : وهو من وقوع المفرد موقع الجمع والنكرة موضع المعرفة كقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ]
قال شهاب الدين : وهذا يذهب بالمعنى الذي أبداه الزمخشري .
قوله : » والبَحْرُ « قرأ أبو عمرو بالنصب ، والباقون بالرفع ، فالنصب من وجهين :
أحدهما : العطف على اسم » أنَّ « أي ولو أنَّ البحرَ ، و » يَمُدُّهُ « الخبر .
والثاني : النصب بفعل مضمر يفسره » يمده « . والواو حنيئذ للحال ، والجملة حالية ، ولم يحتج إلى ضمير رابط بين الحال وصاحبها للاستغناء عنه بالواو ، والتقدير : ولو أَنَّ الَّذي في الأرض حَالَ كونِ البحر ممدوداً بكذا . وأما الرفع ، فمن وجهين :
أحدهما : العطف على » أن « وما في حيّزها ، وقد تقدم في » أَنَّ « الواقعة بعد » لو « مذهبان مذهب سيبويه الرفع على الابتداء ، ومذهب المبرد على الفاعلية بفعل مقدر وهما عائدان هنا . فعلى مذهب سيبويه يكون تقدير العطف ولو أَنَّ البحرَ ، إلا أن أبا حيان قال : إنه لا يلي المبتدأ اسماً صريحاً إلا في ضرورة كقوله :

4053 - لَوْ بِغَيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ ..
وهذا القول يؤدي إلى ذلك ، ثم أجاب بأنه يغتفر في المعطوف عليه كقولهم : « رُبَّ رَجُلٍ وَأَخِيهِ يَقُولاَنِ ذَلِكَ » وعلى مذهب المبرد يكون تقديره ولو ثبتَ البحرُ ، وعلى التقديرين يكون « يمُدُّهُ » جملة حالية من البحر .
والثاني : أن « البحر » مبتدأ ( ويمده ) الخبر والجملة حالية كما تقدم في جملة الاشتغال ، والرابط الواو ، وقد جعله الزمخشري سؤالاً وجواباً وأنشد :
4054 - وَقَدْ أَغْتَدِي والطَّيْرُ في وُكُنَاتِهَا .. . .
و « مِنْ شَجَرَةٍ » حال ، إما من الموصول ، أو من الضمير المستتر في الجار الواقع صلة ، و « أَقْلاَم » خبر « أَنَّ » ، قال أبو حيان : وفيه دليل على من يقول كالزمخشري ومن تعصب له من العجم على أن خَبَر أنَّ الواقعة بعد « لو » لا يكون اسماً البتة لا جامداً ولا مشتقاً بل يتعين أن يكون فعلاً وهو باطل وأنشد :
4055 - ولَوْ َنَّهَا عُصْفُورَةٌ لَحَسِبْتُهَا ... مُسَوَّمَةً تَدْعُو عُبَيْداً وَأَزْنَمَا
وقال :
4056 - ما أطْيَبَ العَيْشَ لَوْ أنَّ الفَتَى حَجَرٌ تَنْبُو الحَوَادِثُ عَنْهُ وَهْوَ مَلْمُومُ ... وقال :
4057 - وَلَوْ أَنَّ حَيّاً فَائِبُ المُوْتِ فَإِنَّهُ ... أَخُو الحَرْبِ فَوْقَ القَارِحِ العُدْوَان
قال : وهو كثير في كلامهم ، قال شهاب الدين : وقد تقدم أن هذه الآية ونحوهَا يبطل ظاهر قول المتقدمين في « لو » أنها حرف امتنا لامتناع إذ يلزم محذور عظيم وهو أن ما بعدها إذا كان مُثْبَتاً لفظاً فهو مُثْبَتٌ معنى وبالعكس ، وقوله : مَا نَفِدت منفي لفظاً فلو كان مثبتاً معنى فسد المعنى ، فعليك بالالتفات إلى أول البقرة . وقرأ عبدُ الله : « وبَحْرٌ » بالتنكير وفيه وجهان معروفان ، وسوغ الابتداء بالنكرة وقوعقها بعد واو الحال وهو معدود من مسوغات الابتداء بالنكرة ، وأنشدوا :
4058 - سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أَضَاءَ فَمُذْ بَدَا ... مُحْيَّاكَ أخْفَى ضَوْؤُهُ كُلَّ شَارِقِ
وبهذا يظهر فساد قول من قال : إن في هذه القراءة يتعين ( القول بالعطف على « أن » كأنه يوهم أنه ليس ثَمَّ مُسَوِّغ ، وقرأ عبد الله وأبيّ « تَمُدُّهُ » بالتأنيث لأجل « سبعةٍ » والحَسَنُ ، وابن هُرْمُز ، وابن مِصْرِفٍ « يُمِدُّهُ » بالياء من تحت مضمومة وكسر الميم من أَمَدَّهُ وقد تقدم اللغتان في آخر الأعراف وأوائل البقرة ، والأل واللام في البحر لاستغراق الجنس أي ( وكل ) بحرٍ مدادٍ .
فصل
المعنى والبحر يمده ، أي يَزيدُه ، وينصب فيه من بعده أي من بعد خلقه سبعةُ أَبْحُر ، وهذا إشارة إلى بحارٍ غير موجودة يعني لو مدت البحار الموجودة سبعة أبحر أخرى ، وقوله : « سبعة » ليس لانحصارها في سبعة وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ، ولو بألفِ بحْر ، وإنما خُصّت السبعةُ بالذكر من بين الأعداد لأنها عدد كثير يحصر المعدود في العادة ، ويدل على ذلك وجوه :
الأول : أن المعلوم عند كل أحد لحاجته إليه هو الزمان والمكان فالزمان منحصر في سبعة أيام ، ولأن الكواكب السيارة سبعة ، والمنجمون ينسبون إليها مراراً فصارت السبعة كالعدد الحصر للمُكْثراتِ الواقعة في العادة فاستعملت في كُلِّ كَثِيرٍ .

الثاني : أن في السبعة معنّى يخصها ولذلك كانت السماواتُ سبعاً ، والأرضينَ سبعاً ، ( وأبواب جهنم سبعاً ) ، وأبواب الجنة ثمانية لأنها الحسنى وزيادة فالزيادة هي الثامن؛ لأن العرب عند الثامن يزيدون واواً ، يقول الفراء : إنها واو الثمانية وليس ذلك إلا للإستئناف؛ لأن العدد تم بالسبعة . واعلم أن في الكلام اختصاراً تقديره : ولَوْ أَنَّ ما فِي الأَرْضِ من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يَمُدُّه مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبحُرٍ يكتب بها كلام الله ما نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ .
قوله : « كلمات الله » قال الزمخشري : فإن قلتَ : الكلماتُ جمعُ قلَّةٍ ، والموضوع موضع تكثير فهلا قِيلَ : كَلِمٌ؟ قلتُ : معناه أن كلماته لا يقع بكتبها البحار يكفي بِكَلِمِهِ ، يعني أنه من باب التنبيه بطريق الأولى . ورده أبو حيان بأن جمع السلامة متى عرف « بأل » ( غير العهدية ، أو أضيف عَمَّ ) . قال شهاب الدين : للناس خلاف في « أل » هل تعم أو لا؟ وقد يكون الزمخشري مِمَّنْ لا يرى العموم ولم يزل الناس يشكون في بَيْت حَسَّانَ - رضي الله عنه - :
4059 - لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى .. . . .
ويقولون : كيف أتى بجمع القلة في مقام المدح ولم لم يقل « الجفان » وهو تقرير لما قاله الزمخشري ، واعتراف بأن « أل » لا تؤثر في جمع القلة تكثيراً . ثم قال تعالى : { إِنَّ الله عَزِيزٌ } أي كامل القدرة لا نهاية لمقدوراته « حَكِيمٌ » كامل العلم لا نهاية لمعلوماته ، وهذه الآية على قول عطاء بن يسار مدنية ، وعلى قول غيره مكية .
قوله : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } لما بين كمال قدرته وعلمه ذكر ما يبطل استبعادهم لحشر فقال : { خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } ، فقوله : « إِلا كَنَفْسٍ » خبر « مَا خَلْقُكُمْ » والتقدير : إِلا كَخَلْقِ نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } « سميع » لما يقولون « بصير » بما يعملون فإذا كان قادراً على البعث ومحيطاً بالأقوال والأفعال وجب الاحتراز الكامل ، وقوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل } في النظم وجهان :
الأول : أن الله تعالى لما قال : { ألم تر أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض } على وجه العموم ذكر منها بعض ما فيها على الوجه المخصوص بقوله : { يُولِجُ الليل فِي النهار } وقوله : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } إشارة إلى ما في السموات .

الثاني : أن الله تعالى لما ذكر البعث فكان من الناس من يقوله : { وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر } [ الجاثية : 24 ] والدهر هو بالليالي والأيام فقال الله تعالى هذه الليالي والأيام التي يَنْسُبون غليها الموت والحياة هي بقدرة الله فقال : ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ثم قال : إن ذلك باختلاف مسير الشمس فتارة تكون القَوْس التي هي فوق الأرض أكبر من التي تحت الأرض فكيون الليل أقصر والنهار أطور وتارة ( يكون ) العكس ( فيكون بالعكس ) ، وتارة يتساويان ( فيتساويان ) فقال ( تعالى ) : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } يعني إن كنتم لا تعرفون بأن هذه الأشياء كلها من الله فلا بد من الاعتراف بأنها بأسْرِهَا عائدة إلى الله فالآجال إن كانت بالمدّدِ والمدد يسيِّر الكواكب فسير الكواكب ليس إلا بالله وقدرته .
فصل
قال : « يُولج » بصيغة الفعل المستقبل وقال في الشمس والقمر « وسخَّر » بصيغة الماضي؛ لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدد كل يوم وتسخير الشمس والقمر أمر مستمر كما قال تعالى : { حتى عَادَ كالعرجون القديم } [ يس : 39 ] وقال ههنا : « إلى أَجَلٍ » وفي الزمر « لأَجِلٍ » ؛ لأن المعنيين لائقان بالحرفين فلا عليك في أيهما وقَعَ . قال الأكثرون : هذا خطاب للنبي - عليه السلام - والمؤمنين ، وقيل : عام ، ثم قال : { وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي لما كان الليلُ والنهارُ محلَّ اأفعال بين أن ما يقع في هذين الزمانين اللذين هما بتصرف الله لا يخفى على الله ، وقرأ أبو عمرو في رواية - { وأنَّ اللَّهَ بِمَا يَعملون } - بياء الغيبة ، والباقون بتاء الخطاب . قوله : { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل } أي ذلك الذي ذكرت ، لتعلموا أن الله هو الحق { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل } أي الزائل يقال : بطل ظله ، إذ زال { وَأَنَّ الله هُوَ العلي } أي في ذاته .
قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله } لما قال ألم تر أن الله يولج الليل في النهار وسخر الشمس والقمر ذكر آية سماوية وأشار إلى السبب والمسبِّب ذكر بعده آية أرضية وأشار إلى السبب والمسبب بقوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر } وقوله : « بِنِعْمَةِ اللَّهِ » أي الريح التي هي بأمر الله { لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ } يعني يريكم بإجرائها « بِنِعْمَةِ اللَّهِ » بعض آياته وعجائبه { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } على أمر الله « شَكُور » على نعمه .
قوله : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل } لما قال : إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكلّ صَبَّارٍ ذكر أن الكُلَّ معترف به غير أن البصير يدركه أولاً ومن في بصيرته ضعف لا يُدْرِكُه أولاً فإذا غَشِيَه موج ووقع في شدة اعترف بأن الكل للَّه ودعاه مخلصاً . وقوله : « كالظلل » قال مقاتل : كالجبال ، وقال الكلبي : كالسحاب .

والظلل جمع الظُّلَةِ شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها ، وجعل الموج وهو واحد كالظُّلَلِ وهو جمع لأن الموج يأتي منه شيء بعد شيء وقوله : { دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي يتركون كل من دعوهم { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر } أي نجاهم من تلك الشدة فمنهم من يبقى على تلك الحالة ووصفهم بقوله : « فَمنْهُمْ مُقْتَصِدٌ » أي عدل موف في البر بما عاهَدَ اللَّهَ عليه في البحر من التوحيد له يعني على إيمانه . قيل : نزلت في عكرمةَ بْنِ أبي جهل هَرَبَ عام الفتح في البحر فجاءهم ريح عاصف فقال عكرمةُ : لئن أنجاني الله من هذا الأمر لأرجعن إلى محمد ولأضع يَدِي في يده . فسكنت الريح فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه ، وقال مجاهد : مقتصد في القول أي من الكفار لأن منهم من كان أشد قولاً من بعض .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله في العنكبوت : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [ العنكبوت : 65 ] وقال ههنا : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } ؟! .
فالجواب : لما ذكر ههنا امراً عظيماً وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الانزجار ، ومقتصد في الإخلاص فيبقى معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص ، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معانيه مثل ذلك الأمر فذكر إشراكهم حيث لم يبق عندهم أُر .
قوله : { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ } في مقابلة قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ } يعني يعترف بها الصبار والشكور ، ويجحدها الختَّارُ الكفور فالصّبَّار في موازنة الختار لفظاً ومعنى ، والكفور في موازنة الشكور أمَّا لفظاً فظاهر ، وأما معنى فلأن الختار هو الغدار الكثير الغدر ، أو شديد الغدر مثال مبالغة من الخَتْر وهو أشد الغدر ( قال الأعشى ) :
4060 - بِأَبْلَقِ الفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلَهُ ... حِصْنٌ حَصِينٌ وجارٌ غَيْرُ خَتَّارِ
وقال عمرو بن معديكرب :
4061 - فَإِنَّكَ لَوْ رأَيْتَ أَبَا عَمرٍو ... مَلأتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ
وقالوا : « إنْ مَدَدَتْ لَنَأ مِنْ غَدْرٍ مَدَدْنَا لَكَ بَاعاً منْ خَتر » والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر لأن الصبور إن لم يعقدْ مع أحد لا يُعْهَدُ منه الإضرار فإنه يصبر ويفوض الأمر إلى الله ، وأما الغدار فيعاهدك ولا يصبر على العهد فينقضه وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى ظاهر .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

قوله تعالى : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ } لما ذكر الدلائل من أول السورة إلى آخرها وعظ بالتقوى فقال : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي } لا يقضي ، ولا يغني { وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } . قال ابن عباس : كل امرىء تهمه نفسه ، واعلم أنه تعالى ذكر شخصين في غاية الشفقة والحنان والحُنُوِّ وهو الوالد والولد ، فاستدل بالأولى على الأعلى فذكر الوالد والولد جميعاً لأن من الأمور ما يبادر الأب إلى تحمُّلِهِ عن الولد كدَفْع المال ، وتَحَمُّل الآلام والولد لا يبادر إلى تحمله عن الوالد ( مثل ما يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد ) ، ومنها ما يبادر الولد إليه كالإهانة فإن من يريد ( إحضار ) والد آخر عند والٍ أو قاضٍ يهُونُ على الابن أن يدفع الإهانة عن والده ويحضر هو بدله وإذا انتهى الأمر إلى الإيلام يهون على الأب أن يدفع الألم عن ابنه وستحمله هو بنفسه . فقوله : { لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } في دفع الآلام { وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } في دفع الإهانة ثم قال : { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي إن هذا اليوم الذي هذا شأنه هو كائن لأن الله وعد به ووعده حق ، وقيل : وعد الله حق بأنه لا يجزي والدٌ عن ولده لأنه وعد بأن لا تَزر وازرةٌ وزر أخرى ووعد الله حق { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا } أي لا تغتروا بالدنيا فإنها زائلة لوقوع اليوم المذكور بالوعد الحق .
{ وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور } يعني الشيطان يزين في عينه الدنيا ويؤمله يقول : إنك تحصل بها الآخرة أو تلتذ بها ثم تتوب فَتجْتَمِع لك الدنيا والآخرة فنهاهم عن الأمرين .
قوله : « وَلاَ مَوْلُودٌ » دوزوا فيه وجهين :
أحدهما : أنه مبتدأ ، وما بعده الخبر .
والثاني : أنه معطوف على « وَالدٌ » وتكون الجملة صفة له . وفيه إشكال وهو أنه نفى عنه أن يَجْزِي ثم وصفه بأنه جازٍ ، وقد يجاب عنه : بأنه وإن كان جازياً عنه في الدنيا فليس جازياً عنه يوم القيامة ، ( فالحالان ) باعتبار زمنين . وقد منع المَهْدَوِيُّ أن يكون مبتدأ ، قال لأن الجملةَ بعده صفة له فيبقى بلا خبر ، ولا مسوغ غير الوصف ، وهو سهو لأن النكرة متى اعتمدت على نفي سَاغَ الابتداء بها ، وهذا من أشهر مسوغاته ، وقال الزمخشري : فإن قلت : ( قوله ) { وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } هو وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف عليه قلتُ : الأمر كذلك لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية ، وقد انضم إلى ذلك قوله : « هُو » وقوله : « مَوْلُودٌ » قال : ومعنى التوكيد في لفظِ المولود أن الواحد منهم لو شفع للوالد الأدنى الذي ولد منه لم يقبل منه ، فضلاً أن يشفع لمن فوقه مِنَ أجداده؛ لأن الولد يقع على الولد وولد الولد بخلاف المولود فإنه الذي ولد منك قال : والسبب في مجيئه على هذا السَّنَنِ أن الخطابَ للمؤمنين وعلْيتهِمْ قبض آباؤهم في الكفر فأريد حسم أَطْمَاعِهِمْ وأطماع الناس فيهم .

والجملة من قوله « لاَ يَجْزِي » صفة ( ليوم ) ، والعائد محذوف أي ( فِيهِ ) فحذف برُمَّته أو على التدريج ، وقرأ عكرمة « لاَ يُجْزَى » مبنياً للمفعول ، وأَبُوا السَّمَّالِ ، وأبو السّوّار لا يُجْزىء بالهمز من « أجْزَأَ عَنْهُ » أي أغنى ، وقوله « شيئاً » منصوب على المصدر وهو من الإعمال ، لأن « يَجْزِي » و « جَازٍ » يَطْلُبَانِهِ ، والعامل « جَازٍ » على ما هو المختار للحذف من الأول .
قوله : « فَلاَ تَغُرَّنَكُمْ » العامة على تشديد النون ، وابنُ أبي إسْحَاق وابنُ أبي عَبْلَةَ ويعقوبُ بالتخفيف وسَمَّاك بنُ حَرْبٍ « الغُرُور » - بالضم - وهو مصدر ، والعامة بالفتح صفة مبالغة كَشَكُورٍ صفة مبالغة كَشَكُورٍ وفسر بالشيطان على أنه يجوز أن يكون المضموم مصدراً واقعاً وصفاً للشيطان .
قوله تعالى : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة . . . } الآية ، نزلت في الوارثِ بن حارثَة محارب بن خصفة « أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - من البادية فسأله عن الساعة ووقتها ، وقال إن أرضنا أَجْدَبَتْ فمتى ينزل الغيث؟ وتركت امرأتي حُبْلَى فمتى تلد؟ وقد علمت أَيْنَ ولدت فبأي أرض أموت؟ فأنزل الله هذه الآية روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : » مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ علمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ « قال ابن الخطيب : قال بعض المفسِّرينَ : إن الله تعالى نفى ( علم ) أمور خمسة عن غيره بهذه الآية وهو كذلك لكن المقصودَ ليس ذلك لأن اللَّهَ يعلمُ الجوهر الفرد والطوفان وتقلب الريح من المشرِق إلى المغرب كَمْ مرةً ويعلم أين هُوَ ولا يعلمه غيره ويعلم أنه ( ذَرَّهُ ) في بَريَّة لا يسلكها أحد ولا يعلمها غيره فلا وجه لاختصاص هذه الأشياء بالذكر وإنَّ الحق فيه أن نقول لما قال : اخْشَوا يوماً لا يجْزي والد عن ولده وذكر أنه كائن بقوله : { إن وعد الله حق } كأن قائلاً قال : فمَتَى يكون هذا اليوم؟ فأجيب بأن هذا العلم مما لَمْ يَحْصُل لغير الله ولكن هو كائن .
قوله : » مَاذَا تَكْسبُ « يجوز أن تكون » ما « استفهامية فتعلق الدراية ، وأن تكونَ موصولة فينتصب بها ، وقد تقدم حكم » مَاذَا « أول الكتاب وتكرر في غَضونِهِ .

قوله : { بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } « بأَيِّ أَرْضٍ » متعلق « بتَمُوتُ » وهو متعلق للدراية فهو في محل نَصْبٍ ، وقرأ أُبَيُّ بن كعب وموسى الأهوازيّ « بأية أرض » على تأنيثها ، وهي لغة ضعيفة كتأنيث « كُلّ » حيث قالوا : كُلُّهُنَّ ( فَعَلْنَ ذَلِكَ ) والمشهور بأيِّ أرض؛ لأن الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء ، وقيل : أراد بالأرض المكان . نقله البغوي والباطن فيه بمعنى في أي ( في ) أرضٍ نحو : زَيْدٌ بِمَكَّةَ أي فيها ، ثم قال : { إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ } لما خصص أولاً علمه بالأشياء المذكورة بقوله : { إن الله عنده علم الساعة } ذكر أن علمه غير مختصّ بل هو عليم ملطقاً بكل شيء وليس علمه بظاهر الأشياء فقط بل هو خبير بظواهر الأشياء وبواطنها .
روى الثعلبي عن أُبَيِّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرََأ سُورَةُ لُقْمَان كان له لقمانُ رفيقاً يوم القيامة وأعْطِيَ من الحسنات عشراً بعدد من عَمِلَ بالمعروف ونَهَى عن المنكر »

الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)

قوله : { الم تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ } .
في « تنزيل » خمسة أوجه :
أحدها : أنه خبر « الم » ، ( لأن الم ) يراد به السورة وبعض القرآن ، و « تَنْزِيلُ » بمعنى منزل ، والجملة من قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } حال من « الكِتَابِ » . والعامل فيها « تَنْزِيلُ » لأنه مصدر . و « مِنْ رَبِّ » متعلق به أيضاً . ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في « فِيهِ » ؛ لوقوعه خبراً ، والعامل فيه الظرف ، أو الاستقرار .
الثاين : أن يكون « تَنْزِيلُ » مبتدأ و { لا ريب فيه } خبره . « وَمِنْ رَبِّ » حال من الضمير في « فيه » ولا يجوز حينئذ أن يتعلق ب « تنزيل » ؛ لأن المصدر قد أخبر عنه فلا يعمل . ومن يتسع في الجار لا يبالي بذلك .
الثالث : أن يكون « تنزيل » مبتدأ أيضاً و « من رب » خبره ، و « لا ريب » حال من مُعْتَرِض .
الرابع : أن يكون « لا ريب » و « من رب العالمين » خبرين ل « تَنْزِلُ » .
الخامس : أن يكون « تَنْزيلُ » خبر مبتدأ ( مضمر ) ، وكذلك « لا ريب » ، وكذلك « من رب » فتكون كل جملة مستقلة برأسها .
ويجوز أن يكون حالين من « تنزيل » ، وأن يكون « من رب » هو الحال و « لا ريب » معترض وأول البقرة مرشد لهذا .
وجوز ابن عطية أي يكون { مِن رَّبِّ العالمين } متعلقاً ب « تنزيل » . قال : على التقديم والتأخير . ورده أبو حيان : بأنا إذا قلنا : { لاَ رَيْبَ فيه } اعتراض لم يكن تقديماً وتأيخراً بل لو تأخر لم يكن اعتراضاً . وجوز أيضاً أن يكون متعلقاً بلا ريب فيه من جهة رب العالمين وإن وقع شك الكفرة فذاك لا يراعى ، قال مقاتل : لا شك فيه أنه تنزيل من رب العالمين .
قوله : « أَمْ يَقُولُونَ » هي المنقطعة ، والإضراب للانتقال لا للإبطال ، وقيل : الميم صلة أي أَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ .
وقيل : فيه إضمار مجازه فهل يؤمنون أم يقولون افتراه . وقوله : { بَلْ هُوَ الحق } إضراب ثانٍ ولو قيل : بأنه إضرابُ إبطالٍ لنفس « افتراه » وحده لكان صواباً وعلى هذا يقال : كل ما في القرآن إضراب وهو انتقال إلا هذا فإنه يجوز أن يكون إبطالاً لأنه إبطال لقولهم ، أي ليس هو كما قالوا مُفْتَرى بل هو الحق . وفي كلام الزَّمَخْشَرِي ما يرشد إلى هذا فإنه قال : والضمير في « فيه » راجعٌ إلى مضمون الجملة كأنه قيل لا ريبَ في ذلك أي في كونه من رب العالمين ويشهد لواجهته : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } ؛ لأن قولهم مفترىً إنكار لأن يكون من رب العالمين وكذلك قوله : { بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ } وما فيه من تقرير أنه من الله وهذا أسلوب صحيحٌ محكَمٌ .

قوله : « مِنْ رَبِّكَ » حال من « الحَقِّ » والعامل فيه محذوف على القاعدة وهو العامل في « لِتُنْذِرَ » ويجوز أن يكون العامل في : « لتنذر » غيره أي أنْزَلَهُ لِتُنْذِرَ .
قوله : { قَوْماً مَا أَتَاهُمْ } الظاهر أن المفعول الثاني للإنذار محذوف ، و « قوماً » هو الأول ، إذ التقدير : لتنذر قوماً العقابَ و « مَا أتَاهُمْ » جملة منفية في محل نصب صفة « لقوماً » يريد الذين في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام . وجعله الزمخشري كقوله : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } [ يس : 6 ] فعلى هذا يكون « من نذير » هو فاعل « أَتَاهُمْ » و « من » مزيدة فيه و « مِنْ قَبْلِكَ » صفة « لِنَذير » ، ويجوز أن يتعلق « مِنْ قَبْلِكَ » « بأَتَاهُمْ » . وجوز أبو حيان أن تكون « ما » موصولة في الموضعين والتقدير : لتنذر قوماً العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك و « مِنْ نَذِيرٍ » متعلق « بأَتَاهُمْ » أي أتاهم على لسان نذير من قبلك وكذلك { لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم } أي العقاب الذي أنذرَهُ آباؤُهُمْ ، « فما » مفعولة في الموضعين ، و « أنذر » يتعدى إلى اثنين قال الله تعالى : { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] وهذا القول جارٍ على لظواهر القرآن قَالَ تَعَالَى : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] { أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [ المائدة : 19 ] هذا الذي قال ظاهر ، ويظهر أن في الآية الأخرى وجهاً آخر وهو أن تكون « ما » مصدرية تقديره لتنذر قوماً إنذَار آبائهم لأن الرسل كُلَّهُمْ متفقون على كلمة الحق .
فصل
المعنى بل هو يعني القرآن الحق من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبْلِكَ . قال قتادة : كانوا أمةً لم يأتهم نذير قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - ( قال ابن عباس ومقاتل : ذاك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ) « لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ » .
قوله : { الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } لما ذكر الرسالة ، وبين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل فقال : { خَلَقَ السماوات والأرض } ، ( واللَّهُ مبتدأ ، وخبره « الَّذِي خَلَقَ » يعني الله هو الذي خلق السموات ) ولم يخلقها إلا واحد فلا إله إلا واحدٌ . وقد تقدم الكلام في معنى قوله « ستة أيام » .

قوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } اختلف العلماء في هذه الآية ونظائرها على قولين :
أحدهما : ترك التعرض إلى بيان المراد .
والثاني : التعرض إليه . والأول أسلم؛ لأن صفة الاستواء مما لا يجب العلم بها فمن لم يتعرض إليه لم يترك وابجاً ومن تعرض إليه فقد يخطر فيعتقد خلاف ما هو عليه فالأول غاية ما يلزمه أنه لا يعلم ، والثاني يكاد يقع في أن يكون جاهلاً وعدم العلم والجهل المركب كالسكوت والكذب ولا شك أن السكوتَ خيرٍ من الكذب وأيضاً فإنه أقرب إلى الحكمة لأن من يطالع كتاباً صنفه إنسانٌ وكتب له شرحاً والشارحُ دون والمصنِّف فالظاهر أنه لا يأتي على جميع ما أتى عليه المصنف ولهذا كثيراً ما نرى أن الإنسان يورد الإشكالات على المصنَّف المتقدم ثم يجيء من ينصر كلام المصنِّفِ ويقول : لم يرد المصنف هذا وإنما أراد كذا وكذا ، وإذا كان حال الكتب الحادثة التي تكتب من علم قاصر هكذا فما ظنك بالكتاب العظيم الذي فيه كل حكمة كيف يجوزُ أن يدعي جاهلٌ أني علمت كل سر في هذا الكتاب؟ فلو ادعى عالم أني علمت كل سر وكل فائدة يشتمل عليها الكتاب الفُلاَنِيّ يستقبح منه ذلك فكيف من يدعي أنه علم كل ما في كتاب الله؟
( وَلَيْسَ لقائلٍ أن يقول : بأن الله بين كل ما أنزله ) ؛ لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز . ولعل في القرآن ما لا يحتاج إليه أحد غيرَ نبيه فبين له لا لغيره .
وإذا ثبت هذا علم أن في القرآن ما لا يعلم ، وهذا أقرب إلى ذلك ( الذي ) لا يعلم للتشابه البالغ الذي فيه . قوله : { مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } . لما ذكر أن الله خالق السموات والأرض قال بعضهم : نحن معترفون بأن خالق السموات والأرض واحد هو إله السموات والأرض وهذا الأصنام صور كواكب منها نصرتنا وقوتنا .
وقال آخرون : هذه صورة ملائكة شفعاء لنا عند الله ، فقال تعالى : لاَ إله غير الله ، ولا نصرة من غير الله ، ولا شفاعة إلا بإذْن الله فعبادتكم لهذه الأصنام باطلة ضائعة .
ثم قال : « أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ » ما علمتموه من أنه خالق السموات والأرض ، وخالق لهذه الأجسام العِظَام ، لا يقدر عليه مثل هذه الأصنام حتى ينصروكم وتكون لها شفاعة .
قوله : { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } لما بين الخلق بين الأمر كما قال تعالى : { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر } [ الأعراف : 54 ] يحكم الأمر ، وينزل القضاء ، والقدر من السماء إلى الأرض . وقيل : ينزل الوحي مع جبريل - عليه السلام - بالأمر .
قوله : { يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض } العاملة على بنائه للفاعل . وابن أبي عبلة على بنائه للمفعول . والأصل يعْرُجُ بِهِ ، ثم حذف الجار فارتفع الضمير واستتر . وهو شاذ يصلح لتوجيه مثلها ، والمعنى : أن أمره ينزل من السماء على عباده ويعرج إليه أعمالهم الصالحة الصادرة على موافقة ذلك الأمر .

قوله : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } ( أي في يوم واحد يعني نزول وعروج العمل في مسافة ألف سنة مِمَّا تَعُدُّونَ ) ، وهو بين السماء والأرض فإن مسافته خمْسُمِائَةِ سنةٍ ( فينزل في مسيرة خمسمائة سنة ويعرج في خمسمائة سنة فهو مقدار ألف سنة ) يقول لو سار أحد من بني آدم لم يقطعه إلا في ألأف سنة والملائكة يقطعونه في يوم واحد هذا في وصف عروج الملائكة من الأرض إلى السماء وأما قوله : { تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] أراد مدة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل - عليه السلام - يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرةَ خَمْسِين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا . قاله مجاهد والضحاك ، وقيل : إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر وذلك لأن من نفذ أمره غَايَةَ النَّفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنينَ متطاولةٍ ، فقوله : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } ، يعني يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة فكم يكون شهر منه ( وكَمْ تكونُ سنة ) منه وكم يكون دهر منه ، وعلى هذا فلا فرق بين هذا وبين قوله : { مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } لأن ذلك ( إذا كان إشارة إلى دوام إنفاذ الأمر ، فسواء يُعَبَّر بألفِ سنةٍ أو بخمسينَ ألفَ سنةٍ ) لا يتفاوت إلا أن المبالغة بالخمسين أكثر ، وسيأتي بيان فائدتها في موضعها إن شاء الله تعالى . وقيل : ألفُ سنة وخمسونَ ألفَ سنةٍ كلها في القمة يكون على بعضهم أطول ، وعلى بعضهم أقصر معناه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ثم يعرج أي يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا وانقطاع أمر الأمراء أو حكم الحكماء في يوم مقداره ألأف سنة وهو يوم القيامة فأما قوله { خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } فإنه أراد على الكافر يجعل ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة وعلى المؤمن دون ذلك حتى جاء في الحديث أنه يكون على المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا ، وقال إبراهيم التيميّ ( لا ) يكون على المؤمن ( إلا ) كما بين الظُّهْر والعَصْر ، ويجوز أن يكون هذا إخباراً عن شدته ومشقته وهوله ، وقال ابْنُ أبي مليكَةِ : دخلت أنا وعبد الله بن فَيْرُوزَ علي ابن عباس فسألناه عن هذه الآية وعن قوله : { خمسين ألف سنة } فقال ابن عباس : أيام سماها الله لا أدري ما هي أكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم .
قوله : « مِمَّا تَعُدّونَ » العاملة على الخطاب ، والحَسَنُ ، والسُّلميُّ ، وابْنُ وَثَّابٍ والأعْمَشُ بالغيبة ، وهذا الجار صفة « لأَلْفٍ » أو « لِسَنَةٍ » .

قوله : « ذَلِكَ عَالِمُ » العامة على رفع « عالم » و « العزيزُ » و « الرَّحِيمُ » ، على أن يكون « ذلك » مبتدأ ، و « عالم » خبره و « العَزِيزُ والرَّحِيمُ » خبران أو نعتان أو « العزيز الرحيم » مبتدأ وصفة . و « الَّذِي أَحْسَنَ » خبره ، أو « العَزِيزُ الرَّحيم » خبر مبتدأ مضمر . وقرأ زيدُ ( بن علي ) بجر الثلاثة وتخريجها على إشكالها : أن يكون « ذَلِكَ » إشارة إلى الأمر المدبَّر ، ويكون فاعلاً ( ليَعْرُجُ ) ، والأوصاف الثلاثة بدل من الضمير في « إلَيْهِ » أيضاً . وتكون الجلمة بينهما اعتراضاً .
قوله : « الَّذِي أَحْسَن » يجوز أن يكون تابعاً لما قبله في قراءتي الرفع والخفض ، وأن يكون خبراً آخر وأن يكون خبر مبتدأ مضمر ، وأن يكون منصوباً على المدح .
قوله : « خَلقَهُ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابنُ عامر : بسكون اللام ، والباقون بفتحها فأما الأولى ففيها أوجه :
أحدها : أن يكون « خَلْقَهُ » بدلاً من : « كُلَّ شَيْءٍ » بدل اشتمال والضمير عائد على « كل شيء » وهذا هو المشهور .
الثاني : أنه بدل من كل . والضمير في « هذا » عائد على « الباري » تعالى ، ومعنى « أحسن » حسن لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما يقتضيه الحكمة ، فالمخلوقات كلها حسنة .
الثالث : أن يكون « كُلَّ شَيْءٍ » مفعولاً أول ، و « خَلْقَهُ » مفعولاً ثانياً ، على أن يضمن « أحسن » معنى أعْطَى وَألْهَمَ . قال مجاهد : وأعطى كل جنس شَكْلَهُ ، والمعنى خلق كل شيء على شكله الذي خص به .
الرابع : أن يكون « كُلَّ شَيْءٍ » مفعولاً ثانياً قُدِّمَ و « خَلْقَهُ » مفعولاً أول أُخِّرَ على أن يضمن « أحْسَنَ » معنى ألْهَمَ وعَرَّفَ .
قال الفراء : ألهم كل شيء خلقه فيما يحتاجون إليه فيكون أعلمهم ذلك . ( وقال أب البقاء : ضمن « أحْسَنَ » معنى « عَرَّف » وأعرف على نحو ما تقدم إلا أنه لا بُدَّ أن يجعل الضمير ) لِلَّه تعالى ، ويجعل الخلق بمعنى المخلوق أي عرف مخلوقاتهِ كُلَّ شيء يحتاجون إليه فيؤول المعنى إلى معنى قوله : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] .
الخامس : أن تعود الهاء على « الله » تعالى وأن يكون « خَلْقَهُ » منصوباً على المصدر المؤكد لمضمون الجملة كقوله : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] ، وهو مذهب سيبويه أي خَلَقَهُ خَلْقاً ، ورُجِّحَ على بدل الاشتمال بأن فيه إضافة المَصْدَر إلى فاعله ، وهو أكثر من إضافته إلى المفعول وبأنه أبلغ في الامتنان لأنه إذا قال : { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ } كان أبلغ من { أحسن خلق كل شيء } ؛ لأنه قد يحسن الخلق وهو المحاولة ولا يكون الشيء في نفسه « حسناً » وإذا قال : { أحْسَنَ كُلَّ شَىْء } اقتضى أن كل ( شيء ) خلقه حسن بمعنى أنه وضع كل شيء في موضعه .

وأما القراءة الثانية « فخَلَقَ » فيها فعل ماض ، والجملة صفة للمضاف أو أو المضاف إليه فتكون منصوبة المحل أو مجرورته .
قوله : « وَبَدَأ » العاملة على الهمز . وقرأ الزُّهْرِيُّ « بَدَأ » بألف خالصة وهو خارج عن قياس تخفيفها إذ قياسه بَيْنَ بَيْنَ على أنَّ الأخفش حَكَى قريباً . وجوز أبو حيان أن يكون من لغة الأنصار ، يقولون في « بَدَا » بكسرها وبعدها ياء كقول عبد الله بن رواحة الأنصاري .
4062 - بِاسْمِ الإِلَهِ وَبِهِ بَدِينَا ... وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ شَقِينَا
قال : وطيىء تقول في تُقَى تُقَاء ، قال : فاحتمل أن تكون قراءة الزهري من هذه اللغة أصله « بَدِي » ثم صار « بَدَأ » ، قال شهاب الدين : فتكون القراءة مركبة من لُغَتَيْنِ .
فصل
{ ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة } يعني ذلك الذي صنع ما ذكر من خلق السموات والأرض عالم ما غاب عن الخلق وما حضر « العَزِيرُ الرَّحِيمُ » لما بين أنه عالم ذكر أنه « عزيز » قادر على الانتقام من الكفرة « رَحِيمٌ » واسع الرحمة على البررة { الذي أحسن كل شيء خلقه } أي أحسن خَلْقَ كلِّ شيء . قال ابن عباس : أتقنه وأحكمه وقال مقاتل : علم كيف يخلق كل شيء من قولك : فلانُ يُحْسِنُ كذا ، إذا كان يعلمه . وقيل : خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض فكل حيوان كامل في خلقه حسن ، وكل عضو من أعضائه مقدر بما يصلح معاشه . واعلم أنه تعالى لما ذكر الدليل على الوحدانية من الآفاق بقوله : { خلق السموات والأرض وما بينهما } أتبعه بذكر الدليل الدال عليها من الأنفس فقال : { الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين } يعني آدم ، ويمكن أن يقال : الطين ماء وتراب مجتمعان ، والأأدمي أصله مَنِي ، والمَنِي أصله غذاءٌ ، والأغذية إما حيوانية وإما نباتية ( والحيوانية ترجع إلى نباتية ) والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو الطين { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ } أي جعل ذريته من نطفة سميت سلالة؛ لأنها تَنْسَلُّ من الإنسان ، هذا على التفسير الأول؛ لأن آدم كان من طين ، ونسله من سلالة { مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } أي ضعيف وهو نطفة الرجل « ثُمَّ سَوَّاهُ » سوى خلقه { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } يعني آدم؛ لأن كلمة « ثُمَّ » للتراخي فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة ، وذلك بعد خلق آدم ، ثم عاد إلى ذريته فقال : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار } ( أي جعل لكم بعد أن كنتم نطفاً السمع والأبصار ) والأفئدة { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } يعني لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه ، فقوله { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع } هذه التفات من ضمير ( غائب ) مفرد في قوله : « نَسْلَهُ » إلى آخره إلى خطاب جماعة .

وفي هذا الخطاب لطيفة وهي أن الخطاب يكون مع الحي فلما قال : { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } خاطبه من بعد وقال : « وَجَعَلَ لَكُمْ » .
فإن قيل : الخطاب واقع قبل ذلك كما في قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } [ الروم : 20 ] .
فالجواب : هناك لم يذكر الأمور المترتبة وهي كون الإنسان طيناً ثم ماء مَهِيناً ، ثم خَلْقاً مسوى بأنواع القوى فخاطبه في بعض المراتب دون بعض .
فإن قيل : ما الحكم في ذكر المصدر في السمع وفي البصر والفؤاد الاسم ، ولهذا جَمَعَ الأبْصَارَ ، والأفئدةَ ولم يجمع السمعَ؛ لأن المصدر لا يجمع؟
فالجواب : أن السمع قوةٌ واحدة ولها مَحِلٌّ واحد وهو الأذن ولا اختيار لها فيه فإن الصوت من أي جانب كان يصل إليه ولا قدرة للأذن على تخصيص السمع بإدراك البعض دُونَ البعض ، وأمَّا الإبصار فَمَحِلّهُ العين ولها فيه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب المَرْئِيّ دون غيره ، وكذلك الفؤاد محل الإدراك وله نوعُ اختيار يلتف إلى ما يريد دون غيره ، وإذا كان كذلك فلم يكن للمحل في السمع تأثير ، والقوة مستبدة فذكر القوة في العين والفؤاد؛ ( لأن للمحل نوع اختيار ، فذكر المحل لأن الفعل مسند إلى المختار ألا ترى أنك ) تقول : سَمِعَ زَيْدٌ ، ورأى عمرو ، ولا تقول : « سَمِعَ أذنُ زَيْدٍ » ولا « رأى عَيْنُ عَمْرو » إلا نادراً لأن المختار هو الأصل وغيره آلته ، فالسمع أصل دون محله لعدم له لاختيار له والعين كالأصل وقوة الإبصار آلتها والفؤاد كذلك وقوة الفهم آلته فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة ، وفي الإبصار والأفئدة الاسم الذي هو مَحِلّ القوة ولأن السمع قوة واحدة لها محل واحد ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطها ويرى في زمان واحد صورتين فأكثر ويُتْقِنُهُمَا .
قوله تعالى : « أَئِذَا ضَلَلْنَا » تقدم خلاف القراء في الاستفهامين ، والواو للعطف على ما سبق فإنهم قالوا محمد ليس برسول ، والله ليس بواحد وقالوا : الحشر ليس بممكن ، فالعامل في « إذا » محل تقديره « نُبْعَثُ أو نَخْرُجُ » لِدَلاَلَةِ : « خَلْقِ جَدِيدٍ » عليه ولا يعمل فيه « خَلْقٍ جَدِيدٍ » ؛ لأن ما بعد « إنَّ » والاستفهام لا يعمل فيما قبلهما ، وجواب « إذاً » محذوف إذا جعلتها شرطية . وقرأ العامة « ضَلَلْنَا » بضاد معجمة ، ولام مفتوحة بمعنى ذَهَبْنَا ، وضِعْنَا من قولهم : ضَلَّ اللبنُ في الضرع وقيل : غُيِّبْنَا ، قال النابغة :
4063 - فآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنِ جَلِيَّة ... وَغُودِرُ بالجُولاَنِ حَزمٌ وَنَائِلُ
والمضارع منهذا : يَضِل بكسر العين وهو كثير ، وقرأ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وابنُ مُحَيْصنٍ وأَبُو رَجَاءٍ : بكسر اللام وهي لغة العالية ، والمضارع من هذا يَضَلُّ بالفتح ، وقرأ علي وأبو حَيْ ( وَة ) « ضُلِّلْنَا » بضم الضاد وكسر اللام المشددة من « ضَلَّلَهُ » بالتشديد ، وقرأ عَلِيٌّ أيضاً وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد : « صَلَلْنَا » بصاد مهملة ، ولام مفتوحة ، وعن الحسن أيضاً صَلِلْنَا بكسر اللام .

وهما لغتان ، يقال : صَلَّ اللحمُ بفتح الصاد وكسرها لمجيء الماضي مَفْتُوحَ العين ومَكْسُورَها ، ومعنى صَلَّ اللَّحْمُ أنْتَنَ وتَغيَّرتَ رَائِحَتُهُ ويقال أيضاً : أَصَلَّ بالألف قال :
4064 - تُلَجْلِجُ مُضْغَةً فِيهَا أنِيضُ ... أَصَلَّتْ فَهيَ تَحْتَ الكَشْحِ دَاءُ
وقال النحاس : لا يعرف في اللغة « صَلَلْنَا » ولكن يقال : صَلَّ اللَّحْمُ وأَصَلَّ ، وخَمَّ وأَخَمَّ وقد عَرَفَها غَيْرُ أَبِي جَعْفَر .
فصل
قال في تكذيبهم بالرسالة : « أَمْ يَقُولُونَ » بلفظ المستقبل وقال في تكذيبهم بالحشر : « وَقَالُوا » بلفظ الماضي؛ لأن تكذيبهم بالرسالة لم يكن قبل وجوده ، وإنما كان حال وجوده فقال : « يَقُولُونَ » يعني هم فيه . وأما إنكار الحشر فكان سابقاً صادراً منهم ومن آبائهم فقال : « وَقَالُوا » وصرح بقولهم في الرسالة فقال : « أَمْ يَقُولُونَ » وفي الحشر فقال : { وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا } ولم يصرح بقولهم في الوحدانية؛ لأنهم كانوا مصرين في جميع الأحوال على إنكار الحشر والرسالة وأما الوحدانية فكانوا يعترفون بها في بعض الأحوال في قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] فلم يقل : قالوا إن الله ليس بواحد وإن كانوا قالوه في الظاهر .
فإن قيل : إنه ذكر الرسالة من قبل وذكر دليلها ( وهو التنزيل الذي لا ريب فيه وذكر الوحدانية وذكر دليلها وهو ) خَلْقُ السماوات والأرض وخَلْقُ الإنسان من طين ، ولما ذكر إنكارهم الحشرَ لم يذكر الدليل؟
فالجواب : أنه ذكر دليله أيضاً وهو أن خلق الإنسان ابتداءً دليل على قدرته على الإعادة ولهذا استدل ( تعالى ) على إمكان الحشر بالخلق الأول كما قال : { ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] وقوله : { قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 79 ] وأيضاً خلق السماوات والأرض كما قال : { أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى } [ يس : 81 ] .
قوله : { أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } استفهام إنكاري أي إننا كائنونَ في خلق جديد أو واقعون فيه { بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } إضراب عن الأول يعني ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانياً بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب . أو يكون المعنى لم ينكروا البعث لنفسه بل لكفرهم بلقاء الله فإنهم كَرِهُوهُ فأنكروا المُفْضي إلَيْهِ ، ثم بين لهم ما يكون ( من الموت إلى العذاب ) فقال : « قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ » يقبض أرواحكم { مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ } أي وكل بقبض أرواحكم وهو عزرائيلُ ، ( والتَّوَفِّي ) استيفاء العدد معناه أنه يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد من العدد الذي كُتِبَ عليه الموت .

فصل
روي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحة اليد يأخي منها صاحبها ، ما أحب من غير مشقة فهو يقبض أنفُسَ الخَلْقِ من مشارق الأرض ومغربها ، وله أعوان من ملائكة الرحمة وأعوان من ملائكة العذاب ، وقال ابن عباس : خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب ، وقال مجاهد : جعلت الأرض مثل طِسْتٍ يتناول منها حيث شاء .
قوله : { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم ، وقرأ العامة : تُرْجَعُونَ ببنائه للمفعول ، وزيد بن علي : ببنائه للفاعل .
قوله : « وَلَوْ تَرَى » في « لو » هذه وجهان :
أحدهما : أنها لِمَا كان سَيَقَعُ لوقوعه غيره . وعبَّر عنها الزمخشري بامتناعٍ لامْتِنَاع ، وناقشه أبو حيان في ذلك . وقد تقم تحقيقه أول البقرة ، وعلى هذا جوابها محذوف أي لرأيت أمر فظيعاً .
والثاني : أنها للتمني . قال الزمخشري كأنه قيل : وليتك ترى . وفيها إذا كانت للتمنِّي خلافٌ على تقتضي جواباً أم لا ، وظاهر تقدير الزمخشري هنا أنه لا جواب لها .
قال أبو حيان : والصحيح أن لها جواباً وأنشد :
4065- فَلأَوْ نُبِشَ المِقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ ... فَيُخْبِرَ بالذَّنَائِبِ أَيُّ زِيرِ
بِيَوْمِ الشَّعْثَمَيْنِ لقَرَّ عيْناً ... وَكِيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ القُبُورِ
قال الزمخشري : ولو تجيء في معنى التمني كقولن : « لو تأتيني فتحدثني » ( كما تقول ) : « لَيْتَكَ تَأتِيني فَتُحَدِّثَنِي » قال ابن مالك : أن أراد به الحذف أي وَدِدْتُ لو تأتني فتحدثني فصحِيح وإن أراد أنها موضوعة له فليس بصحيح ، إل لو كانت موضوعة له لم يجمع بينها وبينه كما لم يجمع من « ليت » والتمني ، ولا « لعل وأترجّى » ، ولا « إلا » وأستثني ، ويجوز أن يجمع بين « لو » وأتمنى تقول ( تَمَنَّيتُ لَوْ فَعَلْتُ كذا ) ، والمخاطب يحتمل أن يكون - النبي صلى الله عليه وسلم - شفاء لصدره ، فإنهم كانوا يؤذونه بالتكذيب ، ويحتمل أن يكون عاماً ، و « إذْ » على بابها من المضي؛ لأن « لو » تصرف المضارع للمضي ، وإنما جيء هنا ماضياً لتحقق وقوعه نحو : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] . وجعله أبو البقاء مما وقع فيه « إذ » مَوْقع « إذَا » . ولا حاجة إليه . والمراد بالمجرمين المشركين .
قوله : « نَاكِسُوا » العامة على أنه اسم فاعل مضاف لمفعوله تخفيفاً ، وزيدُ بن علي « نَكِسُوا » فعلاً ماضياً « رُؤُوسَهُمْ » مفعول به ، والمعنى مُطَأطِئُون رُؤُوسِهِمْ .
قوله : « رَبَّنا » على إضمار القول ، وهو حال أي قائلينَ ذلك ، وقدره الزمخشري يَسْتَغيثُونَ بقولهم ، وإضمار القول أكْثَرُ .
قوله : « أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا » يجوز أن يكون المفعول مقدراً أي أ [ صرنا ما كنّا نكذب وسمعنا ما كنا ننكر . ويجوز أن لا يقدر أي صِرْنَا بُصَرَاءَ سَمِيعِينَ فارْجِعْنَا ( إلى الدنيا ) نَعْمَل صِالِحاً « يجوز أن يكون » صالحاً « مفعولاً به ، وأن يكون نعت مصدر ، وقولهم » إنَّا مُوقِنُونَ « أي إنا آمنا في الحال ، ويحتمل أن يكون المراد أنهم ينكرون الشرك كقولهم : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .

وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)

قوله : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } رشدها وتوفيقها للإيمان ، وهذا جواب عن قولهم : ربنا أبَصْرنَا وَسَمِعْنَا وذلك أن الله تعالى قال : إني لو رجعتكم إلى الإيمان لهديتكم في الدنيا ، ولما لم أهدكم في الدنيا تبين أني ما أردتُ وما شئت إيمانكم فلا أردكم ، وهذا صريح في الدلالة على صحة مذهب أهل السنة حيث قالوا إن الله تعالى ما أراد الإيمان من الكافر ، وما شاء منه إلا الكُفْرَ .
قوله : { ولكن حَقَّ القول مِنِّي } وجب القول ( مني ) وهو قوله تعالى : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } . { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ } قال مقاتل : إذا دخلوا النار قال لهم الخزنة : { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ } أي تركتم الإيمان به في الدنيا . « لِقَاءَ يَوْمِكُمْ » ( يجوز فيه أوجه :
أحدها : أنها من التنازع لأن « ذُوقُوا » يطلب « لِقَاء يَوْمِكُمْ » و « نَسِيتُمْ » يطلبه أيضاً أي ذُوقُوا عَذَابَ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ ) هذا بما نَسِيتُمْ عذاب لقاء يومكم هذا ويكون من إعمال الثاني عند البصريين ومن إعمال الأول عند الكوفيين ، والأول أصح لللحذف من الأول؛ إذ لو عمل الأول لأضمر في ( الثاني ) .
الثاني : أن مفعول « ذُوقُوا » محذوف أي ذُوقُوا العذاب بسبب نِسْيَانِكم لقاءَ يومكم ، ( و « هذا » على هذين الإعرابين صفة « ليَوْمِكُمْ » .
الثالث : أن يكون مفعول « ذُوقُوا » « هَذَا » والإشارة به إلى العذاب ، والباء سببية أيضاً أي فذوقها هذا العذاب بسبب نِسْيَانكم لقاء يومكم ) ، وهذا ينبو عنه الظاهر ، قال ابن الخطيب « هذا » يحتمل ثلاثة أوجه : أن يكون إشارة إلى اللقاء ( وأن يكون إشارة إلى اليوم ) ، وأن يكون إشارة إلى العذاب ، ثم قال : « إنَّا نَسِينَاكُمْ » تركناكم غيرَ ملتفت إليكم { وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } من الكفر والتكذيب .
قوله : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الذين إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً } سقطوا على وجوههم ساجدين { وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } ، قيل : سلموا بأمر ربهم . وقيل : قالوا سُبْحَانَ الله وبحمده { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } عن الإيمان به والسجود له .
قوله : { تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع } يجوز في « تَتَجَافَى » أنْ يكون مستأنفاً ، وأن يكون حالاً وكذلك « يَدْعُونَ » إذا جعل « يَدْعُون » حالاً احتمل أن يكون حالا ثانية ، وأن يكون حالاً من الضمير في « جنوبهم » ؛ لأن المضارع خبرٌ ، والتجافي الارتفاع ، وعبر به عن ترك النوم ، قال ابن رواحة :
4066 - نَبِيٌّ تَجَافَى جَنْبُهُ عَنْ فِرَاشِهِ ... إذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ
والمعنى يرتفع ( وينبو ) جنوبهم عن المضاجع جمع المضْجَع وهو المَوْضِع الذي يَضْطَجِعُ عليه يعني الفراش وهم المتهجدون بالليل الذين يقيمون الصلاة ، قال أنس : نزلت فينا مَعْشَرَ الأنصار ، كنا نصلي المغرب الصلاة فلا نرجع إلى رحالنا حتى نُصَلِّيَ العشاءَ مع - النبي صلى الله عليه وسلم - .

( وعن أنس : أيضاً قال : نَزَلَتْ في أناسٍ من أصحابِ النّبي صلى الله عليه وسلم ) كانوا يُصَلُّونَ من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء وهو قول أبي حَازِمٍ ، ومُحَمَّد بْنِ المُنْكَدِر ، وقال في صلاة الأوابين وهو مروي عن ابن عباس . وقال عطاء : هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخر والفجر في جماعة ، ( وقال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ صَلَّى العِشَاء في جماعة ) ( كَانَ كَقِيَام نِصْفِ لَيْلَةٍ ومن صلى الفجر في جماعة ) كان كقيام ليلة » ، والمشهور أن المراد منه صلاة الليل ، وهو قول الحَسَنِ وجماعة ومجاهد ، ومَالِك والأوْزَاعِي وجماعة لقوله عليه ( الصلاة و ) السلام : « أفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمضَانَ شِهْرُ اللَّهِ المُحَرَّمُ ، وأفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الفَرِيضَةٍ صَلاَةُ اللَّيْلِ ، وقال عليه ( الصلاة و ) السلام- : » إن فِي الجَنَّةِ غُرَفاً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنها وباطنُها من ظاهِرها أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَلاَنَ الكَلاَمَ ، وأَطْعَمَ الطَّعَامَ ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ ، وَصَلَّى باللَّيْلِ والنَّاسُ نِيَامٌ «
( قوله ) : » خَوْفاً وَطَمعاً « إام مفعول من أجله وإمّا حالان ، ( وإما ) مصدران لعامل مقدر .
قال ابن عباس : خَوْفاً من النار وطمعاً في الجنة ، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } . قيل : أراد به الصدقة المفروضة وقيل : عام في الواجب والتطوع .
قوله : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } قرأ حمزة » أُخْفِي « فعلاً مضارعاً مسنداً لضمير المتكلم فلذلك سكنت ياؤه ( لأنه ) مرفوع ، ويؤيده قراءة ابن مسعود : » مَا نُخْفِي « بنون العظمة ، والباقون » أُخِفِيَ « ماضياً مبنياً للمفعول ، ( فَمِن ) ثمَّ فُتِحَتْ ياؤه ، وقرأ محمد بن كعب » أَخْفَى « ماضياً مبنياً للفاعل ، وهو اللَّهُ تعالى ، يؤيدها قراءة الأعمش و [ » مَا ] أَخْفَيْتُ مسنداً للمتكلم . و « ما » يجوز أن تكون موصولة أي لا يعلم الذي أخفاه الله ، وفي الحديث : « مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ » وأن تكون استفهامية معلقة « لتَعْلَمَ » فإن كانت متعدية لاثنين سدت مسدهما أو لواحد سدت مسده .
قوله : { مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } قرأ عبد الله ، وأبو الدرداء وأبو هريرةَ « من قُراتِ أَعْيُنٍ » جمعاً بالألف والتاء ، و « جزاءً » مفعولٌ له ، أو مصدر مؤكد لمعنى الجملة قبله ، إذا كانت « ما » استفهامية فعلى قراءة ( مَنْ قرأ ما ) بعدها فعلاً ماضياً يكون في محل رفع بالابتداء ، والفعل بعدها الخبر ، وعلى قراءة من قرأ مضارعاً يكون مفعولاً مقدماً و « مِنْ قُرَّةِ » حال من « ما » والمعنى مَا يُقِرُّ الله به أعينهم { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قال ابن عباس : هذا مما لا تفسير له .

قال بعضهم : أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم .
قوله : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً } نزلت في عليِّ بْن أبي طالب ، والوليدِ بن عقبة بن أبي معيط أخِي عثمان لأمه وذلك أنه كان بينهما تنازع فقال الوليد بن عقبة لِعَلِيٍّ : اسْكُتْ فإنك فاسق فأنزل الله عزّ وجلّ : { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يَسْتَوونَ } ولم يقل لا يستويان لأنه لم يرد مؤمناً واحداً ولا فاسقاً واحداً بل أراد جميع المؤمنين وجميع الفاسقين . قوله : « لا يستوون » مستأنف؛ روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتمد الوقف على قوله « فاسقاً » ثم يبتدىء : « لا يَسْتَوونَ » .
قوله : { أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } لما ذكر أن المؤمن والفاسق لا يستويان بطريق الإجمال بين عدم استوائهما على سبيل التفصيل فقال : { أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى } قرأ طلحةُ « جنة المأوى » بالإفراد ، والعامة بالجمع ، أي التي يأوي إليها المؤمنون . وقرأ أبو حيوة نُزْلاً - بضم وسكون - وتقدم تحقيقه آخر آل عمران ، { وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار } وهذا إشارة إلى حال الكافر ، واعلم أن العمل الصالح له مع الإيمان تأثير فلذلك قال : { آمنوا وعملوا الصالحات } ، وأما الكافر فلا التفات إلى الأعمال معه فلهذا لم يقل : « وأما الذين فسقوا وعملوا السيئات » ؛ لأن المراد من « فَسَقُوا » كفروا ، ولو جعل العقاب في مقابلة الكفر والعمل لظن ( أن ) مجرد الكفر ( لا ) عقاب عليه .
قوله : { الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ } صفة لعذاب ، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة للنار قال : وذكر على معنى الجَحِيم والحَريق .
قوله : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر } قال أبيُّ بنُ كَعْبٍ والضَّحَّاكُ والحَسَنُ وإبْرَاهيمُ : العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وهو رواية الوَالبِيِّ عن ابن عباسٍ ، وقال عكرمة عنه : الحدود ، وقال مقاتل : الجوع سبع سنين بمكة حتى أكلوا الجيف والعظام والكلاب . وقال ابن مسعود : هو القتل بالسيف يوم بدر وهو قول قتادة والسدي . وأما العذاب الأكبر وهو عذاب الآخرة فإن عذاب الدنيا لا نسبة له إلى عذاب الآخرة .
فإن قيل : ما الحكمة في مقابلته « الأدنى » « بالأكبر » ، « والأدنى » إنما هو في مقابلة « الأقصى » « والأكبر » إنما هو مقابله « الأصغر » ؟
فالجواب : أنه حصل في عذاب الدنيا أمران : أحدهما : أنه قريب والآخر : أنه قليل صغير ، وحصل في عذاب الآخرة أيضاً أمران ، أحدهما : انه بعيد والأآخر أنه عظيم كبيرٌ لكن العرف في عذاب الدنيا هو أنه الذي يصلح التخويف به فإن العذاب العاجل وإن كان قليلاً فلا يَحْتَرِزُ عنه بعض الناس أكثر مما يَحْتَرِزُ من العذاب الشديد إذا كان آجلاً ، وكذا الثواب العاجل قد يَرْعَبُ فيه بعض الناس ويستبعد الثوابَ العظيم الآجل .

وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف هو العظيم والكبير ( لا ) البعيد لِمَا بينا فقال في عذاب الدنيا الأدنى ليحترز العاقل عنه ولو قال : « وَلَنُذِيقَنَّهُمْ من العذاب الأصغر » ما كان يحترز عنه لصغره وعدم فَهْم كونه عاجلاً ، وقال في عذاب الآخرة الأكبر لذلك المعنى ولو قال : مِنَ العَذَابِ الأبعد الأقْصَى ( لما حصل ) التخويف به مثل ما يحصل بوصفه بالكِبَر .
قوله : « لعلهم يرجعون » إلى الإيمان يعني مَنْ بَقِي منهم بعد « بدر » .
فإن قيل : ما الحكمة في هذا الترجي وهو على الله تعالى محال؟
فالجواب : فيه وجهان :
أحدهما : معناه لنذيقنهم إذاقة الراجين كقوله : « إنَّا نَسِنَاكُمْ » يعني تركناكم كما يترك الناس ( حيث لا يلتفت إليه ) أَصْلاً كَذلِكَ ههنا .
والثاني : نذيقهم العذاب إذاقة يقول القائل : لعلهم يرجعون بسببه .
والثاني : نذيقهم العذاب إذاقة يقول القائل : لعلهم يرجعون بسببه .
قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ } ( أي من ذكر بآيات الله ) من النعم أولاً ، والنِّقَم ثانياً ولم يؤمنوا ، فلا أظلَمُ منهم أَحدٌ .
قوله : { ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ } هذه أبعد ما بين الرُّتْبَتَيْنِ معنىً ، وشبهها الزمخشري بقوله :
4067 - وَمَا يَكْشِفُ الغَمَّاء إلاَّ ابْنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا
قال : استبعد ( أن يزور ) غمرات الموت بعد أن رآها وعرفها ، واطلع على شدتها .
قوله : { إِنَّا مِنَ المجرمين } ( يعني المشركين ) « مُنْتَقِمُونَ » .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب } لما قرر الأصول الثلاثة عاد إلى الأمثل الذي بدأ به وهو الرسالة المذكورة في قوله : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ } [ السجدة : 3 ] وقال : إنَّكَ لَسْتَ بدْعاً مِنَ الرُّسُلِ بل كان قبلك رسلٌ مثلُك ، وذكر موسى لقربه ( من ) النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ووجود من كان على دينه إلزاماً لهم ، وإنما لم يختر عيسى - عليه ( الصلاة و ) السلام ( للذكر ) والاستدلال لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوّته ، وأما النصارى فكانوا يعترفون بنُبُوَّة عيسى عليه السلام فتمسك بالمجمع عليه .
قوله : { فَلاَ تَكُنْ فِي مَرْيَةٍ } قرأ الحسن بالضم وهي لُغَةٌ ، وقوله : « مِنْ لِقَائِهِ » في الهاء أقوال :
أحدها : أنها عائدة على « مُوسَى » والمصدر مضاف لمفعوله أي من لقائِكَ مُوسى ليلةَ الإسراء . وامْتَحَنَ المبردُ الزجاجَ في هذه المسألة فأجاب بما ذكر ، قال ابن عباس وغيره : المعنى فلا تكن في شَكٍّ من لقاء موسى فإنك تراه وتلقاه ، روى ابن عباس « عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسري بي مُوسىَ رَحُلاً آدَمَ طُوالاً جَعْداً كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلاً مَرْبُوعاً إلى الحُمرةِ والبَيَاض سَبْطي الرأس ، ورأيتَ مالِكاً خَازِنَ النَّارِ والدَّجَّال في آيات أَراهَنَي اللَّهُ إيَّاهُ »
والثاني : أن المضير يعود على « الكتاب » وحينئذ يجوز أن تكون الإضافة للفاعل أي من لقاء الكتاب لموسى أو للمفعول أي من لقاء موسى الكتاب لأن اللقاءَ يصح نسبته إلى كل منهما ، لأن من لقيك فقد لقيته .
قال السدي المعنى فلا تكن في مِرْيَةٍ من لقائه أي تلقى موسى كتاب الله بالرضا والقبول .
الثالث : أي يعود على الكتاب على حذف مضاف أي من لقاء مثل كتاب موسى .
الرابع : أنه عائد على ملك الموت لتقدم ذكره .
الخامس : عوده على الرجوع المفهوم من قوله : { إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [ السجدة : 11 ] أي لأنك في مرية من لقاء الرجوع .
السادس : أنه يعود على ما يفهم من سياق الكلام مِمَّا ابتلي ب موسى من البلاء والامْتِحَان ، قاله الحسن . أي لا بدّ ان يلقى ما لقي موسى من قومه فاختار موسى عليه السلام لحكمة وهي أن أحداً من الأنبياء لم يؤذِهِ من قومه إلا الذين لم يؤمنوا ، وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى عليه السلام فإن من لا آمن به آذاه كفرعون ( وغيره ) ومن آمن به من بني إسرائيل أيضاً ( آذاه ) بالمخالفة وطلب أِياء مثل رؤية الله جهرة وكقولهم : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلاا } [ المائدة : 24 ] . وأظهر هذه الأقوال أن الضمير إما لموسى وإما للكتاب ، ثم بين ( أن له هداية غير عادية عن المنفعة كما أنه لم تحل هداية موسى حيث جعل الله كتاب موسى هدى ) وجعل منهم أئمة يهدون كذلك يجعل كتابك هدى ويجعل من أمتك صاحبة يهدون كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :

« أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُم اهْتَدَيْتُمْ » ، ثم بين أن ذلك يحصل بالصبر فقال : { ولَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } .
فصل
« لَمَّا صَبَرُوا » قرأ الأخوان بكسر اللام وتخفيف الميم ، على أنها لام الجر و ( « ما » ) مصدرية ، والجار متعلق بالجعل أي جعلناهم كذلك لصبرهم ولإيقانهم ، والباقون بفتحها وتشديد الميم . وهي « لمَّا » التي تقتضي جواباً وتقدم فيها قولا سيبويه والفارسي ، والمعنى حين صبروا على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمضّرَ .
قوله : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } هذا يصلح أن يكون جواباً لسؤال وهو أنه تعالى لما قال : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ } فكان لقائل أن يقول : كيف يَهْدُونَ وهم اختلفوا وصاروا فِرَقاً والحق واحد؟ فقال ( الله ) يبين المبتدع من المتبع كما يبين المؤمن من الكافر يوم القيامة .
قوله : { أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ } بتبين لهم { أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } لما أعاد ذكر الرسالة أعاد ذكر التوحيد وقال : { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ } وقوله { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } أي مساكن المُهْلَكِينَ ( لدلالة على حالتهم ) وأنتم تمشون فيها وتبصرونها { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } آيات الله وعِظَاته واعتبر السمع لأنهم ما كان لهم قوة الإدراك بأنفسهم والاستنباط بعقولهم فقال : « أفلا يسمعون » ( يعني ) ليس لكم درجة المتعلم الذي يسمع الشيء ويفهمه .
قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز } قرىء الجُرْز - بسكون الراء - وتقدم أول الكهف . وهي الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها ، قال ابن عباس : هي أرض باليمن ، وقال مجاهد : هي أرض بأنين . والجرز هو القطع فكأنها المقطوع عنها الماء والنبات . لما بين الإهلاك وهو الإماتة بين الإحياء ليكون إشارة إلى أن الضرر والنفع بيد الله ثم قال : { فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ } من العشب والتبن « وأَنْفُسُهُمْ » من الحبوب والأقوات ، وقدم الأنعام على الأنفس في الأكل لوجوه :
الأول : أن الزرع أول ما ينبت للدوابِّ ولا يصلح للإنسان .
الثاني : أن الزرع غذاء للدواب لا بدّ منه وأما غذاء الإنسان فقد يصلح للحيوان فكان الحيوان يأكل الزرع ثم الإنسان يأكل من الحيوان .
قوله : « أَفَلاَ يُبْصِرُونَ » قرأ العامة بالغيبة ، ( وابن مسعود ) بالخطاب التفاتاً .
وقال تبصرون لأن الأمر ( يرى ) بخلاف حال الماضي فإنها كانت مسموعة . ثم لما بين الرسالة والتوحيد بّن الحشر فقال : { وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } قيل : أراد بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الحكم بين العابد قال قتادة : قال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للكفار : إنّ لنا يوماً ننعم فيه ونستريح ويحكم الله بيننا وبينكم فقالوا استهزاء : { متى هذا الفتح } أي القضاء والحكم .

وقال الكلبي : يعني فتح مكة ، وقال السدي : يوم بدر لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون لهم إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم فيقولون متى هذا الفتح .
فصل
« يوم الفتح » منصوب « لاَ يَنْفَعُ » و « لا » غير مانعة من ذلك . وقد تقدم فيها مذاهب والمعنى يوم الفتح يوم القيامة لا ينفع الذين كفروا إيمانُهُمْ . ومن حمل الفتح على فتح مكةوالقتل يوم بدر قال معناه لا ينفع الذين كفروا إيمانهم إذا جاءهم من العذاب وقُتِلُوا { وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ } أي لا يُمْهِلُونَ بالإعادة إلى الدنيا ليؤمنوا ، ثم لما بين أن الدلالة لم تنفعهم قال : « فَأَعْرَضْ عَنْهُمْ » قال ابن عباس : نسختها آية القتال .
قوله : { وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } العامة على كسر الظاء من « مُنْتَظِرٍ » اسم فاعل ، والمفعولُ من « انْتَظَر » ومن « مُنَْظِرُونَ » محذوف أي انتظر ما يَحُلُّ بهم إنهم منتظرون ( على زَعْمِهمْ ما يحل بك . وقرا اليَمَانِيُّ : « مُنْتَظَرُونَ » اسم مفعول .
قيل : المعنى انتظر موعدي لك بالنصر إنهم منتظرون بك حوادث الزمان .
وقيل : انتظر عذابنا فيهم إنهم منتظرون ذلك وعلى هذا فلا فرق بين الانتظار . وقيل : انتظر عذابهم بنفسك إنهم منتظرونه بلفظهم استهزاءاً كما قالوا : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } [ الأعراف : 70 ] .
فصل
روى أبو هريرة قال : « كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر يوم الجمعة { الم . تَنْزِيل } و { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ } »
وعن جابر قال : « كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ تَبَارَكَ . والم . تنزيل ، ويقول : هما يَفْضُلاَن عَلَى كُلِّ سُورةٍ في القرآن سبعينَ سَنَةً ، ومن قرأهما كُتِبَ له سَبْعُونَ حَسَنَةً ، ومُحِيَ عنه سَبْعُونَ سَيِّئَةً ، ورُفِعَ له سَبْعُونَ دَرَجَةً »
وروى الثعلبي عن ابن عباس عن أُبَيٍّ بن كعب « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : مَنْ قَرَأَ سورة { الم . تَنْزِيلُ } أَعْطِيَ من الأجْرِ كَمَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ القَدْرِ »
والله أعلم .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)

قوله تعالى : { ياا أَيُّهَا النبي اتق الله } اعلم أن الفرق ين نداء المنادى بقوله : « يَا رَجُلُ » ويايُّهَا الرَّجُل ، أن قوله : « يَا رَجُل » يدل على النداء ، وقوله : « يا أيها الرجل » يدل على ذلك ويُنْبِىءُ عن خطر المادى له أو غفلة المنادى فقوله : « يأيها » لا يجوز حمله على غفلة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن قوله : « النبي » ينافي الغفلة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبيرٌ ، فلا يكون غافلاً ، فيجب حمله على خَطَر الخَطْب .
فإن قيل : الأمر بالشيء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمورية إذْ لا يصلح أن ( يكون ) يقال للجالس : اجلس وللساكت اسْكُتْ والنبي - عليه الصلاة والسلام - كان متقياً فما الوجه في قوله « اتق الله » ؟ .
فالجواب : أنه أمر ( بالمدينة ) بالمداومة فإنه يصح أن يقال للجالس : اجلس ههنا إلى أن يأتيك ويقال للساكت قد أصبت فاسكت تسلم أي دُمْ على ما أنت عليه ، وأيضاً من جهة العقل أن الملك يتقي منه عباده على ثلاثة أوجه بعضهم يخاف من عقابه وبعضهم يخاف من قطع ثوابه وثالث يخاف من احتجابه فالنبي - عليه ( الصلاة و ) السلام لم يؤمر بالتقوى بالأول ولا بالثاني ، وأما الثالث : فالمخلص لا يأمنه ما دام في الدنيا فكيف والأمور البدنية شاغلة فالآدَميُّ في الدنيا تارة مع الله والأخرى مقبل على ما لا بد منه وإن كان معه الله وإلى هذا أشار بقوله : { إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ } [ الكهف : 110 ] يعني برفع الحجاب عني وقت الوحي ثم أعود إليكم كأني منكم فأُمِرَ بتقوى توجب استدامة الحضور ، وقال المفسرون : نزلت في أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن أبي ( رأس المنافقين ) بعد قتال أحد وقد أعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قولهم الأمان على أن يكلموه فقام ( معهم ) عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح ، وطُعْمَةُ بن أُبَيْرِق فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ارفض ذكر آلهتنا اللاتَ والعُزَّى ومَنَاةَ وقل إن لها شفاعةً لمن عبدها وندعك وربَّك فشق على النبي - صلى الله عليه وسلم - قولهم فقال عمر : يا رسول اللَّهِ ائذنْ لي في قتلهم . فقال : إني قد أعطيتهم الأمان . فقال عمر : اخرجوا في لعنة الله وغضبه وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر أن يُخْرِجَهُمْ من المدينة فأنزل الله : { ياا أَيُّهَا النبي اتق الله } أي دُم على التقوى كما يقول ارجل لغيره وهو قائم : « قُمْ قائماً » أي اثبتْ قائماً ، وقيل : الخطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد الأمة ، وقال الضحاك معناه : اتق الله ولا تَنْقُضِ العهد الذي بينك وبينهم .

قوله : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين } أي من أهل مكة يعني أبا سفيان ، وعكرمة وأبا الأعور ، والمنافقين من أهل المدينة عبد الله بن أبي ، وطعمة { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً ( حَكِيماً } بخلقه قبل أن يخلقهم حكيماً فيما دبره لهم
فإن قيل : لم خص الكافر والمنافق بالذكر مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن لا يطع أحداً غير الله؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن ذكر الغير لا حاجة إليه لأن غيرهما لا يطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - الأتِّباع ولا يتوقع أن يصير النبي - صلى الله عليه وسلم - مطيعاً له بل يقصد اتباعه ولا يكون عنده إلا مطاعاً .
الثاني : أنه ( تعالى ) لما قال : { } منعه ( من ) طاعة الكل لأن كل من طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - طاعته فهو كافر أو منافق لأن من يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر إيجاب معتقداً أنه لو لم يفعله يعاقبه بحق يكون كافراً .
قوله : { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ } وهذا يقدر ما ذكره أولاً من أنه عليم حكيم فاتباعه واجب .
قوله : { بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } وبعده { بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيراً } قرأهما أبو عمرو بياء الغيبة ، والباقون بتاء الخطاب أما الغيبة ( في الأولى ) فلقوله « الكافرين والمنافقين » وأما الخطاب فلقوله : « يأيها النبي » لأن المراد هو وأمته وخوطب بالجمع تعظيماً ( له ) كقوله :
4068 - فَإِنْ شئْتَ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ .. .
وجوز أبو حيان أن يكون التفاتاً يعني ( عن ) الغائبين ( و ) الكافرين والمنافقين ( وهو بعيد ) وأما ( الغيبة ) في الثاني فلقوله { إذ جاءتكم جنود } وأما الخطاب فلقوله { يأيها الذين آمنوا } . قوله : { وتوكل على الله } أي ثق بالله يعني إن توهمت من أحد فتوكل على الله فإنه كافيك { وكفى بالله وَكِيلاً } حافظاً لك ، وقيل : كفيلاً برزْقكَ . قوله { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ « نزلت في أبي يَعْمُرَ ( و ) جميل بن مَعْمَرٍ الفِهْرِي وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمعه فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان وكان يقول : لي قلبان أعقِلُ بكُلِّ واحد منهما أَفْضَلُ من عقل محمد فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم أبو مَعْمَرُ فَلَقِيَهُ أبو سفيان وإحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس؟ قال : انهزموا قال فما لك إحدى نعليك ( في يدك ) والأخرى في رجلك . قال أبو معمر : ما شعرت إلا أنهما في رجلي فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نَعْلَهُ في يده .

وقال الزُّهْرِيُّ ومقتل : هذا مَثَلٌ ضربه الله للمظاهر من امرأته والمتبنيّ ولد غيره يقول : فكما لا يكون لرجل قلبان فذلك لا يكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون لها ابناً ولا يكون ولداً واحداً من رَجُلَيْنِ . ( قال الزَّمخشري ) : قوله : { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } أي ما جعل الله لرجل قلبين كما لم يجعل لرجلين أمين ولا لابن أَبَوَيْنِ ، ( وقوله : { وما جعل أزواجكم اللائي « ) قرأ الكوفيونَ وابن عامر اللائي ههنا وفي سورة الطلاق بياء ساكنة بعد همزة مكسورة وهذا هو الأصل في هذا اللفظ لأنه جميع » التي « معنى وأبو عمرو والبَزِّيُّ اللائي بيان ساكنة وصلاً بعد ألف محضة في أحد وجيهيها ، ولهما وجه آخر سيأتي ، ووجه هذه القراءة أنهما حذفا الياء بعد الهمزة تخفيفاً ثم ابدلاً الهمزة ياء وسكناها ليصيرورتها ياء مكسوراً ما قبلها ( إلاَّ أنَّ هذا ليس بقياس وإِنما القياس جعل الهمزة بين بين ) .
( قال أبو علي : لا يُقْدَمُ على مثل هذا البدل إلا أن يُسْمَعَ ) . قال شهاب الدين : قال أبو عمرو بن العلاء إنها لغة قُريش التي أمر الناس أن يقرءوا بها . وقال بعضهم : لم يبدلوا وإنما كتبوا فعبر عنهم القرآن بالإبدال . وليس بشيء . وقال أبو علي : » أو غير بإظهار أبي عمرو اللاَّئي يَئِسْنَ يدل على أنه يشهد ولم يبدل « وهذا غير لازم لأن البدل عارض فلذلك لم يدغم وقرأها ورش بهمزةٍ مُسَهَلَةٍ بَيْنَ بَيْنَ ، وهذا الذي زعم بعضهم أنه لم يصح عنهم غيره وهو تخفيف قياس ، وإذا وقفاو سكنوا الهمزة ومتى سكنوها استحال تسهيلها بين بين لزوال حركتها فتقلب ياءً لوقوعها ساكنةٌ بعد كسرة وليس ( هذا ) من مذهبهم تخفيفها فتقر همزة ، وقرأ قُنْبُل وورش بهمزة مكسورة دون ياء حذف الياء واجتزأ عنها بالكسرة وها الخلاف بعينه جارٍ في المجادلة أيضاً والطلاق .
قوله : » تَظَاهَرُونَ « قرأ عاصمٌ تُظَاهِرُونَ بضم التاء وكسر الهاء بعد ألف ، مضارع » ظَاهَرَ « وابن عامر » تَظَّاهَرون « بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء مضارع » تَظَاهَرَ « والأصل » تَتَظَاهَرُونَ « بتاءين فأدغم . والأخوان كذلك إلا أنهما خففا الظاء والأصل أيضاً بتاءين ( إلا أنهما ) حذفا إحداهما ، وهما طريقان في تخفيف هذا النحو إما الإدغام وإما الحذف وقد تقدم تحقيقه في نحو تَذّكر وتَذَّكَّرون مخففاً ومثقلاً وتقدم نحوه في البقرة أيضاً . والباقون » تَظَّهرُونَ « بفتح التاء والحاء ( وتشديد الظاء ) والهاء دون ألف ، والأصل » تَتَظَهَّرُونَ « بتاءين فأدغم نحو » تذكرون « وقرأ الجميع في المجادلة كقراءتهم في قوله : { والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } [ المجادلة : 2 ، 3 ] إلا الأخوين ، فإنهما خالفا أصلهما هنا فقرءا في المجادلة بتشديد الظاء كقراءة ابن عامر .

والظهار مشتق من الظَّهْر ، وأصله أن يقول الرجل لامرأته : « أنْتَ عَلَيَّ كظَهْرِ أُمِّي » وإنما لم يقرأ الأخوان بالتخفيف في المجادلة لعدم المسوِّغ له وهو الحذف؛ لأن الحذف إنما كَان لاجتماع مثلين وهما التاءان وفي المجادلة ياء من تحت وتاء مِن فوق فلم يجتمع مثلان فلا حذف فاضطر إلا الإدغام ، وهذا ما قرىء به متواتراً ، وقرأ ابن وثاب « تَظهَّرُونَ » بفتح التاء والظاهء مخففة وتشديد الهاء والأصل : تَتَظَهَّرُونَ مضارع « تَظَهَّر » مشدداً ، فحذف إحدى التاءين ، وقرأ الحسن « تُظَهِّرُونُ » بضم التاء وفتح الظاء مخففة وتشديد الهاء مكسورة مضارع « ظَهَّرَ » مشدداً وعن أبي عمرو « تَظْهَرُونَ » بفتح التاء والهاء وسكون الظاء مضارع « ظَهَرَ » مخففاً وقرأ أُبَيٌّ - وهي في مصحفه كذلك - تَتَظَهَّرُونَ - بتاءين فهذه تسع قراءات ، أربعٌ متواترة ، وخمسٌ شاذة ، وأخذ هذه الأفعال من لفظ « الظَّهْرِ » كأخذ « لَبَّى » من التَّلْبِيَةِ ، و « أفف » من أُفّ . وإنما عدي « بمن » لأنه ضمن معنى التباعد كأنه قيل : يَتَبَاعَدُونَ من نسائهم بسبب الظهار كما تقدم في البقرة في تعدية الإيلاء ( بِمِنْ ) .
فصل
الظهار أن يقول الرجل لامرأته : أَنْتِ عَلَيَّ كظهرِ أمي ، فقال الله تعالى : مَا جَعَلَ اللَّهُ نِسَاءَكُمْ اللاتي تقولون لهم هذا في التحريم كأمهاتكم ولكنه منكر وزور . وفيه كفارة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في سورة المُجَادَلَة .
قوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } ( يعني ) ما جعل من تبنّيتموهم أبناءكم ، ( نسخ ) التبني ، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يتبنى الرجل فيجعله كالابن يدعوه الناس إليه ويرث ميراثه ، « وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتق زيد بن حارثة بن شراحبيل الكلبي وتبناه قبل الوحي وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب » فلما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينتب بنت جحش وكانت تحت زيدِ بن حارثة قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك فأنزل الله هذه الآية ، ونسخ التبني . واعلم أن الظهار كان في الجاهلية طلاقاً حتى كان للزوج ان يتزوج بها من جديدٍ .
قوله : « ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ » مبتدأ وخبر أيْ دعاؤكم الأدعياء أبناء مجدر قول لسان من غير حقيقة ، والأَدْعِيَاءُ جمع دَعِيٍّ بمعنى مَدْعُوٍّ فعيل بمعنى مفعول وأصله دَعِيوٌ فأدغم ولكن جمعه على أَدْعِيَاء غير مقيس؛ لأن « أفعلاء » إنما يكون جمعاً لفَعِيل المعتل اللام إذا كان بمعنى فاعل نحو : تَقِيّ وأَتْقِيَاء ، وغَنِيّ وأَغنياء ، وهذا وإن كان فعيلاً معتل اللام إلا أنه بمعنى مفعول فكان قياس جمعه على فَعْلَى كقَتِيل وقَتْلَى ، وجَرِيح ، وَجَرْحَى ، ونظير هذه ( الآية في ) الشذوذ ، قولهم : أَسِيرٌ وأُسَرَاء ، والقياس : أَسْرَى ، وقد سمع فيه الأصل .

واعلم أن الله تعالى قال ههنا { ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهَكُمْ } وقال في قوله : { وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } [ التوبة : 30 ] يعني نسبة الشخص إلى غير الأب قول لا حقيقة له ولا يخرج من قلب ولا يدخل أيضاً في قلب ، فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم .
قوله : { والله يَقُولُ الحق } أي قوله الحق { وَهُوَ يَهْدِي السبيل } أي يرشد إلى سبيل الحق وهذا إشارة إلى أنه ينبغي للعاقل أن يكون قوله إما من عقل أو شرع فإذا قال : فلانٌ بنُ فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو شرع بأن يكون ابنه شرعاً وإن لم تعلم الحقيقة كمن تزوج بامرأةٍ فولدت لِستةِ أشْهُرٍ ولداً وكانت الزوجة من قبل زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه فإنا نلحقه بالزوج الثاني لقيام الفراش ونقول : إنه ابنه شرعاً ، وفي الدَّعِيِّ لم توجد الحقيقة ولا ورد الشرع به لأنه لا يقول إلا الحق وهذا خلاف الحق ، لأن أباه مشهور ظاهر وأشار فيه من وجه آخر إلى أن قولهم هذه زوجة الابن فتحرم فقال الله هي لك حلال فقولهم لا اعتبار له لأنه بأفواههم كأصوات البهائم وقوله الحقّ فيجب اتباعه وهو يهدي السبيل فيجب اتباعه لكونه حقاً ولكونه هادياً .
قوله : { ادعوهم لآبَآئِهِمْ } ( أي الذين ولدوهم { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله } أي أعدل قال عبد الله بن عِمران زيد بن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوْهُمْ لآبائهم هو أقسط عند ) الله . واعلم أن قوله : هو أقسط أي دعاؤهم لآبائهم فهو مصدر قَاصِرٌ لدلالة فعله عليه كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] قال ابن الخطيب وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون ترك الإضافة للعموم أي اعدلوا كل كلام كقولك الله أكبر .
الثاني : أن يكون ما تقدم مَنْوِيّاً كأنه ( قال ) : ذلك أقسط من قولكم هو ابن فلان ثم تمم الإرشاد فقال : { فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين } أي قولوا لهم إخواننا فإن كانوا مُجَرَّدِينَ فقولوا موالي فلان ثم قال : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } أي قبل النهي فنسبتموه إلى غيره .
قوله : { ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } يجوز في « ما » وجهان :
أحدهما : أن تكون مجرورة المحل عطف على ( « ما » ) المجرورة قبلها بفي ، والتقدير : ولكن الجناح فيما تعمدته .
الثاني : أنها مرفوعة المحل بالابتدءا والخبر محذوف ، تقديره تؤاخذون به أو عليكم في الجُنَاح ونحوه .
قوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } المغفرة هي أن يستر القادر قَبِيحَ مَنْ تَحْتِ قدرته حتى أنَّ العبد إذا ستر عيب سيده مخافةَ عقابه لا يقال غفر له والرحمة هي أن يميل بالإحسان إلى المرحوم لعجز المرحوم لا لعوض فإن من مال إلى إنسان قادر كالسلطان لا يقال رحمه وكذلك من أحسن إلى غيره رجاءً في خيره أو عوضاً عما صدر منه آنفاً من الإحسان لا يقال : رحمه إذا علم هذه فالمغفرة إذا ذكرت قبل الرحمة يكون معناها أنه ستر عيبه ثم رآه مفلِساً عاجزاً فرحمه وأعطاه ، وإذا ذكرت المغفرة بعد الرحمة وهو قليل يكون معناها أنه مال إليه لعجزه فترك عقابه ( ولم ) يقتصر عليه بل ستر ذنوبه .

النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)

قوله : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه ووجوب طاعته عليهم وقال ابن عباس ( وقتادة ) وعطاء يعني إذا دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بهم من طاعة أنفسهم . وقال ابن زيد . النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيما قضى بينهم كما كنت أولى بعبدك فيما قضيت عليه ، وقيل : أولى بهم في الحمل على الجهاد وبَذْلِ النفس دونه ، وقيل : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى الجهاد فيقول قومٌ : نذهب فنَسْتَأْذِنُ من آبائنا وأمهاتنا . فنزلت ( الآية ) ، وروى أبو هريرة « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : » مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ أَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ اقرْءَوا إنْ شِئْتُمْ : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فَأَيُّمَا مؤمِن مَاتَ وتَرَكَ مالاً فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا وَمَنْ تَرَكَ دُنْيا أو ضياعاً فَلْيأْتني فَأَنَا مَوْلاَهُ « قوله : » وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ « أي مثل أمهاتهم وهو أب لهم وهن أمهات المؤمنين في تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأبيد لا في النظر إليهن ، والخلوة بهن فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب قال الله تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } [ الأحزاب : 33 ] ولا يقال لبناتهن هن أخوات للمؤمنين ولا لإخوانهن وأخواتهن أخوال المؤمنين وخالاتهم وقال الشافعي : تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنه - وهي أخت أم المؤمنين ، واختلفوا في أنهن هل كن أمهات النساء المؤمنات ، قيل : كن أمهات المؤمنين جميعاً وقيل : كن أمهات المؤمنين دون النساء .
روى الشعبِيُّ عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة يا أمه فقالت : لست لك بأم إنما أنا أمُّ رِجَالِكُمْ فدل هذا على أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن .
فصل
قال ابن الخطيب : هذا تقرير آخر ، وذلك لأن زوجة النبي - عليه السلام - ما جعلها الله في حكم الأم إلا لقطع نظر الأمة عما تعلق به غرض النبي - عليه السلام - فإذا تعلق خاطره بامرأة شاركت زوجاته في التعلق فحرمت مثل ما حرمت أزواجه على غيره . فإن قيل : كيف قال : وأزواجه أمهاتهم وقال من قبل : { ما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } فأشار إلى أن غير من ولدت لا تصير أمّاً بوجه ، ولذلك قال في موضع آخر { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } [ المجادلة : 2 ] ؟ .
فالجواب : أن قوله تعالى في الآية المتقدمة : { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } جواب عن هذا والمعنى أن الشرع مثل الحقيقة ولهذا يرجع العاقل عند تعذر اعتبار الحقيقة إلى الشريعة كما أن امرأتين ( إذا ) ادَّعَتْ كل واحدة ولداً ( بعينه ( ولم يكن لهما بينة وحلفت إحداهما دون الأخرى حكم لها بالولد فعلم أن عند عدم الوصول إلى الحقيقة يرجع إلى الشرع بل في بعض المواضع ( على المندوب ) تغلبُ الشريعة على الحقيقة فإن الزاني لا يجعل أباً لولدِ الزنا وإن كان ولده في الحقيقة وإذا كان كذلك فالشارع له الحكم فقول القائل : هذه أمي قول ( يفهم ) لا عن حقيقة ولا يترتب عليه حقيقة وأما قول الشارع فهو حق فله أن يتصرف في الحقائق كم يشاء ، ألا ترى أن الأم ما صارت أمَّا إلا بخلق الله الولد في رحمها ولو خلقه في جوف غيرها لكانت الأم غيرها فإذا كان الذي يجعل الم الحقيقة أمَّا فله أن يسمى أي امرأة أمَّا ويعطيها حكم الأمومة .

على الابن لأن الزوجية تحصل الغيرة فإن تزوج بمن كان تحت الأب يُفْضي إلى قطع الرحم والعقوق ولكن النبي - عليه الصلاة والسلام - يربي في الدنيا والأخرة فوجب أن يكون زجاته مثل زوجات الآباء .
فإن قيل : فَلِمَ لم يقل إن النبي أبوكم ويحصل هذا المعنى أو لم يقل أزواج أبيكم .
فالجواب : ان الحكمة فيه هو النبي ( عليه السلام ) ( مما بينا ) أنه إذا أراد زوجة واحدٍ من الأمة وجب عليه تركها ليتزوج بها النبي - عليه ( الصلاة و ) السلام - فلو قال : أنت أبوهم لحرم عليه زوجات المؤمنين على التأبيد ، ولأنه لام جعل أولى بهم من أنفسهم والنفس مقدمة على الأب لقوله ( - عليه السلام- ) : « ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ » ولذلك فإن المحتاج ( إلى القوت ) لا يجب عليه صرفه إلى ( الأب ويجب عليه صرفه إلى ) النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم إن أزواجه لهم حكم أزواج الأب حتى لا تحرم أولادهن على المؤمنين ولا أخواتهن ولا أمهاتهن وإن كان الكل يحرمن في الأم الحقيقة والرضاعة .
قوله : { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله } يعني في الميراث قال قتادة : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة قال الكلبي : إخاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الناس كان يُؤاخِي بين رجلين فإِذا مات أحَدُهُما وَرِثَهُ الأخَرُ دون عصبته حتى نزلت هذه الآية : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في حكم الله من المؤمنين الذين آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم والمهاجرين يعني ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالإيمان والهجرة فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة فصارت بالقَرَابة وبعضهم يجوز فيه وجهين :
أحدهما : أن يكون بدلا من أولو .
والثاني : أنه مبتدأ ، وما بعده خبر ، والجملة خبر الأول .
قوله : { فِي كِتَابِ الله } يجوز أن يتعلق « بأُولِي » إلا أن أفعل التفضيل يعمل في الظرف ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير في أولو والعمل فيها أولو لأنها شبيهة بالظرف ولا جائز أن يكون حالاً ( من أولو ) للفصل بالخَبَرِ ولأنه لا عامل فيها .

قوله : « مِنَ المُؤْمِنِينَ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنها « من » الجارة المفضول كهي في « زَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْروٍ » والمعنى وأولو الأرحام أولى بالإرث من المؤمنين والمهاجرين الأجانب .
والثاني : أنها للبيان جيء بها بياناً لأولى الأرحام فيعتلق بمحذوف أي ( أَعْنِي ) والمعنى وأولو الأرحام من المؤمنين أولى بالإرْثِ من الأَجانب .
قوله : { إِلاَّ أَن تفعلوا } هذا استثناء من غير الجنس وهو مستثنى من معنى الكلام وفحواه إذا التقدير وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في الإرث وغيره لكن إذا فعلتم مع غيرهم من أوليائكم خيراً كان لكم ذلك وعدى تفعلوا ( بإلى ) لتضمنه معنى تدخلوا ، وأراد بالمعروف الوصية للذين تولونه من المُعاقِدِينَ يعني إن أوْصَيْتُم فغير الوارثين أولى وإذا لم تُوصُوا فالوارثون أولى بميراثكم وذلك أن الله لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة وأباح أن يوصي ( لمن يتولاه ) بما أحب ثُلُثَ ماله . قال مجاهد : أراد بالمعروف المعرفة وحفظ الحُرْمَة بحق الإيمان والهجرة يعني وأولو الأرحام من المُؤِمِنِينَ والمهاجرين أولى ببعض أي لا توارث بين المسلم والكَافِرِ ولا بين المهاجر وغير المهاجر { إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } أي إلا أن تَعْرِضُوا لذوي قُرَابَاتِكُمْ بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة وهذا قول عطاءٍ وقتادةَ وعكرمة .
فإن قيل : أي تعلق للميراث والوصية بما تقدم .
فالجواب : قال ابن الخطيب وجوابه من وجهين :
أحدهما : أن غير النبي في حال حياته لا يصير إليه مال الغير وبعد وفاته لا يصير ماله لغير ورثته والنبي - عليه السلام - في حال حياته كان يصير له مال الغير إذا أرادوه ولا يصير ماله لوَرثَتِهِ بعد وفاته فكأن الله تعالى عوض النبي عن قطع ميراثه بقدرته بأن له تملك مال الغير وعوض المؤمنين بأن ما تركه النبي يرجع إليهم حتى لا يكون حرج على المؤمنين في أن النبي ( عليه السلام ) إذا أراد شيئاً يصير له ثم يموت ويبقى لورثته فيفوت عليهم ، ولا يرجع إليهم فقال الله تعالى : { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } يعني التوارث بينكم فيصير مال أحدكم لغيره بالإرث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فينبغي أن يكون له بدل هذا وهو أنه أولى في حياته بما في أيديكم .
الثاني : أن الله تعالى ذكر دليلاً على أن النبي عليه السلام أولى فيصير أولى من قريبه فكأنه بالواقع قطع الإرث وقال هذا مالي لا ينتقل عني إلا لمن أريده فكذلك جعل الله تعالى لنبيه من الدنيا ما أراده ثم ما يفضل منه يكون لغيره ثم قال : { كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً } مكتوباً .

قال القرطبي : أراد بالكتاب القرآن وهو آية المواريث والوصية وقيل : اللوح المحفوظ .
قوله : { وإذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين ميثاقهم } الآية وجه تعلق هذه الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما أمر النبي عليه السلام بالاتقاء وقال : { يا أيها النبي اتق الله } وأكده بالحكاية التي خشي ( فيها ) منهم ، خفّف عنه لكي لا يخشى أَحداً غيره وبين أنه لم يرتكب أمراً يوجب الخشية بقوله : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } وأكده بوجه آخر فقال : « وإذْ أَخَذْنَا » كأنه قال : اتق الله ولا تخف أاحداً واذكر أن الله ( أخذ ميثاق ) النبيين في أنهم بلغون رسالات الله ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع والمراد من الميثاق العهد الذي بينه في إرسالهم وأمرهم بالتبليغ وأن يصدق بعضهم بعضاً قال مقاتل : أخذنا ميثاقهم على أن يدعوا الناس إلى عبادته ، ويصدق بعضهم بعضاً وينصحوا لقومهم . قوله : « وإذْ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون منصوباً « باذكر » أي اذْكُرْ إِذْ أَخَذْنَا « .
والثاني : أن يكون معطوفاً على مَحَلِّ : » في الكتاب « فيعمل فيه » مَسْطُوراً « أي كان مسطوراً في الكتاب ( و ) وقت أَخِذِنا . قوله : { وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } خص هؤلاء الخمسةَ بالذكر لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولو العزم من الرُّسُلِ ، وقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أولهم في كتاب الله ، » كما قال صلى الله عليه وسلم : كُنْتُ أَوَّلَ النبيّين في الخَلْقِ ، وآخِرَهم في البَعْثِ « قال قتادة وذلك قول الله عز وجل : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } فبدأ به - صلى الله عليه وسلم - قال ابن الخطيب : وخص بالذكر أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، لأن موسى وعيسى كان لهما في زمان نبينا قوم وأمه فذكرهما احتجاجاً على قومهما ، وإبراهيم ( عليه الصلاة والسلام ) يقولون بفضله ( وكانوا يتبعونه في الشعائر ، ونوحاً لأنه كان أصلاً ثانياً للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان ) ، وعلى هذا لو قال قائل : فآدم كان أولى بالذكر من نوح فنقول : خلق آدم كان للعمارة ونبوته كانت مثل الأبوّة للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب ، وأما نوحٌ فكان مخلوقاً للنبوة وأرسل للإنزال ولما كذّبوه أهلك قومه وأغرقوا ، وأما ذكرعيسى بقوله : عيسى ابن مريم والمسيح ابن مريم؛ فهو إشارة إلى أنه لا أب له ، إذ لو كان لوقع التعريفُ به .
قوله : » مِيثَاقاً غَلِيظاً « هو الأول ، وإنما كرر لزيادة صفته وإيذانا بتوكيده ، قال المفسرون : عهداً شديداً على الوفاء بما حملوا . قوله : » ليسألَ « فيها وجهان :
أحدهما : أنها لام كي أي أخذنا ميثاقهم ليسأل المؤمنين عن صدقهم والكافرين عن تكذيبهم فاستغنى عن الثاني بذكر مُسَبِبَّهِ وهو قوله : » وأَعَدَّ « ومفعول صدقهم محذوف أي صِدْقِهِمْ عَهْدَهُمْ ، ويجوز أن يكون » صِدْقِهِم « في معنى تصديقهم ومفعوله محذوف أيضاً أي عن تصديقهم الأنْبِيَاءَ .

قوله : « وأَعَدَّ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون معطوفاً على ما دل عليه « لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ » ؛ إذ التقدير : فأثاب الصادقين وأعد للكافرين . والثاني : أنه معطوف على « أَخَذْنَا » ح لأن المعنى أن الله أكد على النبياء الدعوة إلى دينه لإثابة المؤمنين وأعد للكافرين ، وقيل : إنه حذف من الثاني ما أثبت مُقَابِلُهُ في الأول ، ومن الأول ما أثبت مقابلهُ في الثاني والتقدير : ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم ويسأل الكافرين عما أجابوا رُسُلَهُمْ { وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً } .
فصل
قال المفسرون : المعنى أخذنا ميثاقهم لكي يسأل الصادقين عن صدقهم يعني النبيين عن تبليغهم الرسالة والحكمة في سؤالهم مع علمه أنهم صادقون بتبكيت من أرسلوا إليهم . وقيل : ليسأل الصادقين عن علمهم بالله عز وجل ، وقيل : ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم بقلوبهم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ . . . } الآية وهذا تحقيق لما سبق من الأمر بتقوى الله بحث لا يبقى معه خوف من أحد وذلك حين حُوصِرَ المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيام الخَنْدَق ، واجتمع الأحزاب واشتد الأمر على الأصحاب حيث اجتمع المشركون بأسرهم واليهود بأجمعهم ، ونزلوا على المدينة وعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - الخَنْدَق وكان الأمر في غاية الشدة والخوف بالغاً إلى الغاية والله دفع القوم عنهم من غير قتال وآمَنَهُمْ من الخوف فينبغي أن لا يخاف العبدُ غَيْرَ ربه فإنه القادر على كل الممكنات فكان قادراً على أن يقهر المسلمين بالكفار مع أنهم ضعفاء كما قهر الكافين بالمؤمنين مع قوتهم وشوكتهم .
قوله : « إذْ جَاءَتْكُمْ » يجوز أن يكون منصوباً « بنعمة » أي النعمة الواقعة في ذلك الوقت ، ويجوز أن يكون منصوباً باذْكُرُوا على أن يكون بدلاً من « نعمة » بدل اشتمال ، والمراد بالجنون الأحزاب وهم قريش وغَطفَان ، ويهود قُرَيْظَةَ والنَّضِير { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً } وهي الصَّبَا ، قال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب : انطلق بنصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت الشمالُ إن الحرَّّة لا تَسْرِي بالليل فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا وروى مجاهد عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - « قال : » نُصِرتُ بالصَّبَا وأهلكَتْ عَادٌ بالدَّبورِ «
قوله : { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } قرأ الحسن بفتح الجيم ، والعامة بضمها ، و » جُنَوداً « عطفاً على » ريحاً « و » لَمْ تروها « صفة لهم ، وروي عن أبي عمرو ، وأبي بكر » لم يَرَوْهَا « بياء الغيبة ، وهم الملائكة ولم تقاتل الملائكة يومئذ فبعث الله عليهم تلك اليلة ريحاً باردة فقلعت الأوتاد وقطعت أطنا الفَسَاطِيطِ وأطفأت النيرانَ وأَكْفَأت القُدُورَ ، وجالت الخيل بعضها في بعض وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول : يا بني فلان هَلُمَّ إليَّ فإذا اجتمعوا عنده قال : النَّجَا النَّجَا أتيتم لما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال . { وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } وهذا إشارة إلى أنه الله علم التجاءكم إليه وجاءكم فضله فنصركم على الأعداء عند الاستعداد والقصة مشهورة .
قوله : » إِذْ جَاؤُوكُمْ « بدل من » إذْ « الأولى ، والحناجر جمع » حَنْجَرَةٍ « وهي رأس الغَلْصَمَةِ والغَلْصَمَة منتهى الحُلْقُومِ ، والحلقوم مجرى الطعام والشراب ، وقيل : الحلقوم مَجْرَى النفس والمريء الطعام والشراب وهو تحت الحلقوم وقال الرَّاغِبُ : رَأْسُ الغَْصَمَةِ من خارج .
قوله : » الظُّنُونا « قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بإثبات ألف بعد نون » الظُّنُون « ولام الرسول في قوله :

{ وَأَطَعْنَا الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] ولام السبيل في قوله : { فَأَضَلُّونَا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] وصلاً وَوَقْفاً موافقة للرسم؛ لأنهن رسمن في المصحف كذلك وأيضاً فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة ، وهاء السكت تثبت وَقْفاً للحاجة إليها وقد ثبتت وصلاً إجراءً للوصل مُجْرَى الوقف كما تقدم في البقرة والأنعام فكذلك هذه الألف ، وقرأ أبو عمرو وحمزةُ بحذفها في الحالين؛ لأنها لا أصل لها وقولهم : أجريت الفواصل مُجْرَى القوافي غير معتدٍّ به لأن القوافيَ يلتزم الوقف عليها غاباً ، والفواصل لا يلزم ذلك فيها فلا تُشَبَّهُ بها ، والباقون بإثباتها وقفاً وحذفها وصلاً إجراء للفواصل مُجْرَى القوافي في ثبوت ألف الإطلاق كقوله :
4069 - اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالوَفَاءِ وَبِالعَدْلِ ... وَوَلَّى المَلاَمَةَ الرَّجُلاَ
وقوله :
4070 - أَقِلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالعِتَابَا ... وَقُولِي إِنْ أَصَبْتُ لَقَدْ أَصَابَا
ولأنها كهاء السكت وهي تثبت وقفاً وتحذف وصلاً ، قال شهاب الدين : « كذلك يقولون تشبيهاً للفواصل بالقوافي وأنا لا أحب هذه العبارة فإِنها منكرة لفظاً » . ولا خلاف في قوله : { وَهُوَ يَهْدِي السبيل } أنه بغير ألف في الحالين .
فصل
المعنى إذْ جَاؤُوكُمْ من فوقكم أي من فوق الوادي من قبل المَشْرِق وهم « أَسَدٌ » ، وغَطَفَان عليهم مالكُ بن عَوْف النَّضرِيّ ، وعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْن الفزَاريّ في ألفٍ من غَطَفَانَ ومنهم طلحةُ بن خُوَيْلد الأسَدِيّ في بني أسد ، وحُيَيّ بن أَخْطَبَ في يهودِ بني قُرَيْظَةِ { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } أي من بطن الوادي من قِبَلِ المَغْرب وهم قُرَيْشٌ وكِنَانَةُ عليهم أبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ ومن معه وأبو الأعور بن سُفْيَانَ السُّلَمِي من قبل الخندق ، وكان الذي جر غزوة الخندق فيما قيل إجلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَنِي النَّضِير من ديارهم { وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار } مالت وشَخِصَتْ من الرعب ، وقيل : مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحُلُوق من الفَزَع ، وهذا على التمثيل عبر به عن شدة الخوف . قال الفراء معناه أنهم جَبنُوا ، سبيل الجَبَان إذا اشتد خوفه أن تَنْتَفِخَ رِئَتُهُ فإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة ولهذا يقال للجبال : انتفخ سحره؛ لأن القلب عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يَسُدَّ مخرج النفس فلا يقدر المرء ( أن ) يتنفس ويموت من الخوف . { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } وهو اختلاف الظنون ، فظن المنافقون استئصال محمد وأصحابه وظن المؤمنون النصر والظفر لهم .
فإن قيل : المَصْدَرُ لا يُجْمَعُ فما الفائدة من جمع الظنون؟
فالجواب : لا شك أنه منصوب على المصدر ولكن الاسم قد يجعل مصدراً كما يقال : « ضَرَبْتُهُ سِيَاطاً » و « أَدَّبْتُهُ مِرَاراً » فكأنه قال : ظَنَنْتُمْ ظَنّاً جاز أن يكون مصيبين فإذا قال : ظُنُوناً بين أن فيهم من كان ظنه كاذباً لأن الظنون قد تكذب كلها ، وقد تكذب بعضها إذا كانت في أمر واحد كما إذا رأى جمع جسماً من بعيد فظنه بعضهم أنه زيدٌ ، وآخرونَ أنه عمرو ، وآخرون أنه بكرٌ ، ثم ظهر لهم الحق قد يكونون كلهم مخطئين والمرئي شجر أو حجر ، وقد يكون أحدهم مصيباً ولا يمكن أن يكونوا كلهم مُصِيبِين في ظنونهم ، فقوله : « الظُّنون » فادنا ان فيهم من أخطأ الظن ، ولو قال : { تظنون بالله ظناً } ما كان يفيد هذا ، والألف واللام في « الظنون » يمكن أن تكون للاستغراق مبالغة بمعنى تظنون كل ظن ، ولأن عند الأمر العظيم كل أحد يظن شيئاً ، ويمكن أن تكون الألف واللام للعهد أي ظنونهم المعهودة؛ لأن المعهود من المؤمن ظن الخير بالله كما قاله عليه ( الصلاة و ) السلام :

« ظُنُّوا باللَّهِ خَيْراً » ومن الكافر الظن السوء كقوله تعالى : { ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ } [ ص : 27 ] وقوله : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } [ الأنعام : 148 ] .
قوله : « هُنَالِكَ » منصوب « بابْتُلِيَ » . وقيل : « بتَظُنُّونَ » واستضعفه ابن عطية وفيه وجهان :
أحدهما : أنه ظرف مكان بعيد أي في ذلك المكان الدحْضِ وهو الخَنْدق .
والثاني : أنه ظرف زمان ، وأنشد بعضهم على ذلك :
4071 - وَإِذَا الأُمُورُ تَعَاظَمَتْ وَتَشَاكَلَتْ ... فَهُنَاكَ يَعْتَرِفُونَ أَيْنَ المَفْزَعُ
« وَزُلْزِلُوا » قرأ العامة بضم الزاي الأولى ، ( وكسر الثانية على اصل ما لم يسم فاعله ، وروى غير واحد عن « أبي عمرو » كسر الأولى ) ، وروى الزمخشري عنه إشمامها كسراُ ، ووجه هذه القراءة أن يكون أتبع الزاي الأولى للثانية في الكسر ولم يعتد بالساكن لكونه غير حصين كقولهم : مِبين - بكسر الميم - والأصل ضمها .
قوله : « زِلْزَالاً » مصدر مُبَيِّن للنوع بالوصف والعامة على كسر الزاي ، وعيسى ، والجَحْدَرِيّ فتحاها وهما لغتان في مصدر الفعل المضعف إذا جاء على « فعلال » نحو : « زَلْزَال ، وقَلقالَ وصَلْصَال ، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو : صَلْصَال بمعنى مُصَلْصِلٌ بمعنى » مُزَلْزِل « .
فصل
قال المفسرون : معنى ابتلي المؤمنون اختبر المؤمنون بالحَصْرِ والقتال ليبين المخلص من المنافق ، والابتلاء من الله ليس لإبانة الأمر له بل لحكمة أخرى وهي أن الله تعالى عالم بما هم عليه لكنه أراد أظهار الأمر لغيره من الملائكة والأنبياء كما أن السيد إذا علم من عبده المخالفة عزم على معاقبته على مخالفته ، وعنده غير من العبيد أو غيرهم فيأمره بأمر عالماً بأنه مخالف لكي يتبين الأمر عند الغير فيقع المعاقبة على أحسن الوجوه حيث لا يقع لأحد أنه يظلم ، وقوله : { وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } أي أزعجوا وحركوا حركة شديدة فمن ثبت منهم كان من الذين إذا ذكر الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ .

ثم قال : { وَإِذْ يَقُولُ المنافقون } معتب بن قُشَيْر ، وقيل : عبد الله بن أبي وأصحابه { والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شك وضعف اعتقاد { مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } وهذا تفسير الظنون وبيان لها ، فظن المنافقون أن ما قال الله ورسوله كان زوراً ووعدهما كان غروراً حيث ظنوا بأن الغلبة واقعة لهم يَعِدُنَا محمدٌ فَتْحَ قُصُرِ الشام وفارسَ وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله هذا والله الغرور .
قوله : { وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ } أي من المنافقين « وهم أوس بن قيظي وأصحابه » { ياأهل يَثْرِبَ } يعني المدينة ، قال أبو عبيد ( ة ) : يَثْرِبُ : اسم أرض ومدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ناحية منها ، وفي بعض الأخبار : « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تمسى المدينةُ يَثْرِبَ ، وقال : هي طابة » كأنه كره هذه اللفظة ، وقال أهل اللغة : يثرب اسم المدينة ، وقيل : اسم البقعة التي فيها المدينة ، وامتناع صرفها إما للعلمية والوزن أو للعلمية والتأنيث ، وأما يَتْرَب - بالتاء المثناة وفتح الراء فموضع ضع آخر باليمن ، قال الشاعر :
4072 - وَعَدْتَ وَكَانَ الخُلْفُ مِنْكَ سَجِيَّةً ... مَواعِيدَ عُزْقُوب أَخَاء بِيَتْرَبِ
وقال :
4073 - وَقَدْ وَعَدْتُكَ مَوْعِداً لوقت ... مواعيد عرقوب أخاه بيترب
{ لاَ مُقَامَ لَكُمْ } قرأ حفصٌ ، وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيّ بضم الميم ، ونافعٌ وابنُ عامر بضم ميمة أيضاً في الدخان في قوله : { إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ } [ الدخان : 51 ] ولم يختلف في الأولى أنه بالفتح وهو « مقام كريم » والباقون بفتح الميم في الموضعين ، والضم والفتح مفهومان من سورة مريم عند قوله : { خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] فمعنى الفتح لا مكان لكم تنزلون به وتقيمون فيه . ومعنى الضم لا إقامة لكم فارجعوا إلى منازلكم عن اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : عن القتال إلى منازلكم . { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي } هم بنو حارثة وبنو سلمة { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي خالية ضائعة ، وهي مما يلي العدو ويخشى عليها السُّراق .
قوله : « عَورةٌ » أي ذاتُ عورة ، وقيل : منكشفة أي قصيرة الجُدْرَان للسارق وقال الشاعر :
4074 - لَهُ الشِّدَّةُ الأُولَى إِذَا القَرْنُ أَعْوَرَا ... وقرأ ابن عباس وابنَ يَعْمُرَ وقتادةُ وأبو رجاء وأبو حَيْوَة وآخرون : عَورة بكسر الواو وكذلك { وَمَا هِيَ بِعَورَةٍ } ، وهما اسم فاعل ، يقال : عَوِرَ المنزلُ : يَعْوِرُ عَوَراً وعَوِرَة فهو عَوِرٌ ، وبيوتٌ عَوِرَةٌ ، قال ابن جني : تصحيح الواو شاذ ، يعني حيث تحركت وانفتح ما قبلها ولم تقلب ألفاً ، وفيه نظر لأن شرط ذاك في الاسم الجاري على الفعل أن يعتل فعله نحومَقَامٍ ومَقَالٍ ، وأما هذا ففعله صحيح نحو عَوِرَ ، وإنما صح الفعل وإن كان فيه مقتضى الإعلال لِمَدْرَكٍ آخر وهو أنه في معنى ما لا يعلم وهو « أعور » ولذلك لم نتعجب من « عور » وبابه ، وأعْوَرَّ المَنْزِلُ : بدت عَوْرَتُهُ ، واعورَّ الفارس بدا منه خلله للضَّرْبِ قال الشاعر :

4075 - مَتَى تَلْقَهُمْ لَمْ تَلْقَ فِي البَيْتِ مُعْوَراً ... وَلاَ الصَّيْفَ مَسْجُوراً ولاَ الجَارَ مُرْسَلاً
ثم كذبهم الله تعالى فقال : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } .
قوله : { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا } ولو دخل عليهم المدينة أو البيوت يعني هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم وهم الأحواب « مِنْ أقْطَارِهَا » جوانبها . وفيه لغة وتروى : أَفْتَار - بالتاء - . والقُطْرُ : الجانب أيضاً ومنه قَطَرْتُهُ أي أَلْقَيْتُهُ على قطره فَتَقَطَّرَ أي وقع عليه قال :
4076 - قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَاراتُها ... مَا قَطَّرَ الفَارِسَ إِلاَّ أَنَا
وفي المثل : « الانفِضَاضُ يُقَطِّرُ الجَلَب » تفسيره أن القوم إذا انفضوا أي فني زادهم احتاجوا إلى جَلْب الإِبل ، وسمي القَطْرُ قطراً لسقوطه .
قوله : « ثُمَّ سُئِلُوا » قرأ مجاهد « سُويِلُوا » بواو ساكنة ثم ياء مكسورة « كقُوتِلُوا » . حتى أبو زيد : هما يَتَسَاوَلاَن بالواو ، والحسن : سُولُوا بواو ساكنة فقط فاحتملت وجهين :
أحدهما : أن يكون أصلها : سيلوا كالعامة ، ثم خففت الكسرة فسكنت كقولهم في ضَرب - بالكسر - ضرب بالسكون فسكنت الهمزة بعد ضمة فقلبت واواً نحو : بُوسٍ في بُؤْسٍ .
والثاني : أن يكون من لغة الواو ، ونقل عن أبي عمرو أنه قرأ سِيلُوا بياء ساكنة بعد كسرة نحو : قِيلوا .
قوله : « لأتَوْهَا » قرأ نافعٌ وابنُ كثير بالقصرب بمعنى لَجَاؤُوهَا وغَشوهَا ، والباقون بالمد بمعنى لأعطوها ومفعوله الثاني محذوف تقديره : لآتوها السائلين . والمعنى ولو دخلت البيوت أو المدينة من دميع نواحيها ثم سئل أهلها الفتنة لم يمتنعوا من إعطائها ، وقراءة المد يستلزم قراءة القصر من غير عكس بهذا المعنى الخاص .
قوله : « إِلاَّ يَسيراً » أي إلا تَلَبُّثاً أو إلا زماناً يسيراً . وكذلك قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } [ الأحزاب : 16 - 18 ] أي إلا تَمَتُّعاً أو إلا زمانا قليلاً .
فصل
دلت الآية على أن ذلك الفرار والرجوع ليس لحفظ البيوت لأن من يفعل فعلاً لغرض فإذا فاته الغرض لا يفعله فقال تعالى هم قالوا بأن رجوعنا عنك لحفظ بيوتنا ولو دخلها الأحزاب وأخذوها منهم لرجعوا أيضاً فليس رجوعهم عنك إلا بسبب كفرهم وحبهم الفتنة وهي الشرك ، { مّوَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ } أي ام تلبثوا بالمدينة أو البيوت « إلاَّ يَسِيراً » وأن المؤمنين يُخْرِجُونَهُمْ قاله الحسن ، وقيل : ما تلبثوا أي ما احْتَبَسُوا عن الفتنة - وهي الشرك - إلا يسيراً ولأسرعوا للإجابة إلى الشرك طيّبةً به أنفُسُهم وهذا قول أكثر المفسِّرين .
قوله : { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ } أي من قبل غزوة الخندق { لاَ يُوَلُّونَ الأدبار } عدوهم أي لا ينهزمون قال يزيد بن رومان : هم بنو حارثة هموا يوم الخندق أن يَقْتَتِلُوا مع بني سلمة ، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها ، وقال قتادة : هم ناس كانوا قد غابوا عن واقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة وقالوا لئن أَشْهَدَنَا اللَّهُ قتالاً لَنُقَاتِلَنَّ فساق الله إليهم ذلك وقال مقالت والكلبي :

« هم سبعون رجلاً جاءوا بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة وقالوا اشترط لنفسك ولربك ما شئتَ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم قالوا : وإذا فعلنا ذلك ( فما لنا يا رسول الله؟ قال : لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة ، قالوا : قد فعلنا فذلك ) عهدهم » ، وهذا القول ليس بمَرْضِيٍّ؛ لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين لم يكن فيهم شَاكٌّ ولا مَنْ يقول مثل هذا القول وإنما الآية في قوم عاهدوا الله أن يقاتلوا ولا يَفِرُّوا فَنَقَضُوا العهد . وهذا بيان لفساد سريرتهم وقبح سيرتهم لنقضهم العهود فإنهم قبل ذلك تخلفوا وأظهروا عذراً ونَدَماً ثم هددهم بقوله : { وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً } أي مَسْؤُولاً عنه .
قوله : « لاَ يُوَلُّونَ » جواب لقوله : « عَاهَدُوا » لأنه في معنى : « أقسموا » وجاء على حكاية اللفظ فجاء بلفظ الغيبة ولو جاء على حكاية المعنى لقيل : لا يُولِّي ، والمفعول الأول محذوف أي يولون العدو الأدبار . وقال أبو البقاء : ويقرأ بالتشديد تشديد النون وحذف الواو على تأكيد جواب القسم . قال شهاب الدين : ولا اظن هذا إلا غلظاً منه وذلك أنه إما أن يُقْرأ مع ذلك بلا النافية أو بلام التأكيد ، والأول لا يجوز لأن المضارع المنفي بلا لا يؤكد بالنون إلا ما نَدَرَ مما لا يقاس عليه والثاني فاسد المعنى .
قوله : « إنْ فَرَرْتُمْ » جوابه محذوف لدلالة النفي قبله عليه أو متقدم عند من يرى ذلك .
قوله : { وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } إذَنْ جواب وجزاء ، ولما وقعت بعد عاطف جاءت على الأكثر وهو عدم إعمالها ولم يشذّ هنا ما شَذَّ في الإسراء ، فلم يقرأ بالنصب ، والعامة بالخطاب في « تُمَتَّعُونَ » . وقرىء بالغيبة .
فصل
المعنى : « قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أَو القَتْلِ } الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أوقتل { وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي لا تمتعون بعد الفِرار إلا مدة آجالكم وهي قليل . وهذا إشارة إلى ان الأمور مقدرة لا يمكن الفرار مما قدره الله لأنه كائن لا محالة فلو فررتم لما دمتم بل لا تمتعون إلا قليلاً وهو ما بقي من آجالكم فالعاقل لا يرغب في شيء قليل يفوت عليه شيئاً كثيراً .
قوله : { مَنْ ذَا الَّذِي } تقدم في البقرة ، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت : معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة ، فاختصر الكلام وأجْرِيَ مُجْرَى قوله :

مُتَقَلِّداً سيفاً وَرُمْحاً ... أو حمل الثاني على الأول لما في العِصْمَةِ من معنى المنع قال أبو حيان : أما الوجه الأول فيه حذف جملة لا ضرورة تدعو إلى حذفها ، والثاني هو الوجه لا سيما إذا قدر مضاف محذوف أي يمنعكم من مُرَادِ الله ، قال شهاب الدين : وأين الثاني من الأول ولو كان معه حذف جُمَلٍ .
فصل
المعنى من ذا الذي يمنعكم من الله إن أراد بكم سوءاً هزيمة أو أراد بكم رحمة نُصْرَةً ، وهذا بيان لما تقدم من قوله : { لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار } وقوله : { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } تقرير لقوله : { مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله } أي ليس لكم شفيع أي قريب ينفعكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم السوء إذا أتاكم .

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)

قوله : { قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ } المثَبِّطين الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } ارجعوا إلينا ودعوا محمداً فلا تشهدوا معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك ، قال قتادة : هم ناس من المنافقين كانوا يُثَبِّطُونَ أنصار النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون لإخوانهم : إن محمداً وأصحابه لو كانوا ( لحماً لالْتَهَمُهمْ ) أبو سفيان وأصحابه دعوا الرجل فإنه هالك . وقال مقاتل : نزلت في المنافقين فإنّ اليهود أرسلوا إلى المنافقين قالوا ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سُفْيَانَ ومَنْ مَعَهُ فإنهم إن قَدِرُوا عليكم في هذه المرة لم يَسْتَبْقُوا منكم أحداً وإنّا نشفق عليكم أنتم إخواننا وجيراننا هَلُمَّ إلينا فأقبل عبد الله بن أبيٍّ وأصحابُه على المؤمنين يُعَوِّقُونَهُمْ ويُخَوِّفُونَهُمْ بأبي سفيان وبمن معه قالوا : لئن قدروا عليكم لم يستبقوا منكم أحداً ما ترجون من محمد ، ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا ههُنَا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعني اليهود فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيماناً واحتساباً .
قوله : « هَلُمَّ » ( تقدّم ) الكلام فيه آخر الأنعام . وهو هنا لازم ، وهناك مُتَعَدٍّ لنصبه مفعوله وهو « شُهَدَاءَكُمْ » بمعنى أَحْضِرُوهُمْ ، وههنا بمعنى « احْضَرُوا » وتَعَالوا ، وكلام الزمخشري هنا مؤذن بأنه متعد أيضاً وحُذِفَ مفعوله ، فإنه قال : « وهَلُمُّوا إِلَيْنَا » أي قربوا أنفسكم إلينا ( قال ) : « وهي صوت سمي به فعل متعد مثل : احضَر وقَرْبْ » ، وفي تسميته إياه صوتً نظر إذا أسماء الأصوات محصورة ليس هذا منها . ولا يجمع في لغة الحجاز ويجمع في غيرها فيقال للجماعة : هَلُمُّوا وللنساء هَلْمُمْنَ .
قوله : { وَلاَ يَأْتُونَ البأس } الحرب « إِلاَّ قَلِيلاً » رياء وسمعة أي لا يقاتلون معكم ويتعللون عن الاشتغال بالقتال وقت الحضور معكم ولو كان ذلك القليل لكان كثيراً .
قوله : « أَشِحَّةً » العامة على نصبه وفيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الشَّتْمِ .
والثاني : على الحال وفي العامل فيه أوجه :
أحدها : « وَلاَ يَأْتُونَ » قاله الزجاج .
الثاني : « هَلُمَّ إِلَيْنَا » . قاله الطبري .
الثالث : « يعوقون » مضمراً ، قاله الفراء .
الرابع : « المُعَوِّقِينَ » .
الخامس : « القَائِلِينَ » ورد هذان الوجهان الأخيران بأن فيهما الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي ، وفي الرد نظر لأن الفصل بين أبعاض الصلة من متعلقاتها ، وإنما يظهر الرد على الوجه الرابع لأنه قد عطف على الموصول قبل تمام صلته فتأمله فإنه حسن وأما « وَلاَ يَأْتُونَ » فمُعْتَرِضٌ والمُعْتَرِضُ لا يمنع من ذلك . وقرأ ابن أبي عبلة أَشِحَّةٌ بالرفع على خبر ابتداء مضمر أي هم أشحة وأشحة جمع « شَحِيحٍ » وهو جمع لا ينقاس؛ إذ قياس « فَعِيل » الوصف الذي عينه ولامه من واد واحد أن يجمع على أفعلاء نحو خَلِيلٍ وأَخِلاَّء وَظنِينٍ وأَظِنَّاء ، وضَنين وأَضِنَّاء ، وقد سمع أشِحَّاء وهو القياس .

والشُّحُّ البخل ، وقد تقدم في آل عمران .
فصل
المعنى أشحة عليكم بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة ، وقال قتادة بخلاء عند الغنيمة وصفهم الله بالبخل والجبن فقال : { فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ } في الرؤوس من الخوف والجبن { كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } أي كَدَوَرَانِ عين الذين يغشى عليه من الموت وذلك أن من قَرُبَ من الموت وغَشِيَتْهُ أسبابه يذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرِفُ ، واعلم أن البخل شبيه الجبن فلما ذكر البخيل بين سببه وهو الجبن لأن الجبان يبخل بماله ولا ينفقه في سبيل الله لأنه لا يتوقع الظفر فلا يرجو الغنيمة فيقول هذا إنفاق لا بدل له فيتوقف فيه ، وأما الشجاع فيتيقن الظفر والاغتنام فيهون عليه إخراج المال في القتال طمعاً فيما هو أضعاف ذلك .
قوله : « يَنْظُرُونَ » في محل ( نصب ) حال من مفعول « رَأَيْتَهُمْ » لأن الرؤية بصرية .
قوله : « تدور » إما حال تانية وإما حال من « يَنْظُرُونَ » « كالَّذِي يُغْشَى » يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون حالاً من : « أَعْنهم » أي تدور أعينهم حال كونها مشبهة عين الذي يغشى عليه من الموت .
الثاني : أنه نعت مصدر مقدر لقوله « ينظرون » تقديره : ينظرون إليك نظراً مثلَ نظرِ الذي يغشى عليه من الموت ويؤيده الآية الأخرى : { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت } [ محمد : 20 ] المعنى يحسبون أي هؤلاء المانفِقُونَ يحسبون الأحزاب يعني قريشاً وغَطَفَانَ واليهود « لَمْ يذهبُوا » لم ينصرفوا عن قتالهم من غاية الجبنِ عند ذهابهم كأنهم غائبون حيث لا يقاتلون كقوله : { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلاً } { وَإِن يَأْتِ الأحزاب } أي يرجعون إليهم للقتال بعد الذهاب { يودوا لو أَنهم بادون في الأعراب } من الخوف والجبن .
( قوله ) : « بَادُونَ » هذه قراءة العامة جمع « باد » وهو المُقيم بالبادية يقال : بَدَا يَبْدُوا بداوةً إذا خرج إلى البَادِيةٍ ، وقرأ عبدُ الله وابنُ عباس وطلحةُ وابنُ يَعْمُرَ بُدَّى - بضم الباء وفتح الدال مشدّدة - مقصوراً كَغَازٍ وغُزّىً ، وسَارٍ وسُرّىً . وليس بقياس ، وإنما قياسه في بادٍ وبُداةٍ ، كقَاضٍ وقُضَاةٍ ، ولكن حمل على الصحيح كقولهم : « ضُرَّب » . وروي عن ابن عباس قراءة ثانية بزنة « عُدّىً » وثالثة : « بَدَوا » فعلاً ماضياً .
( قوله ) : « يَسْأَلُونَ » يجوز أن يكون مستأنفاً ، وإن يكون حالاً من فاعل « يَحْسَبُونَ » والعامة على سكون السين بعدها « همزة » ، ونقل ابن عطية عن أبي عمرو وعاصم بنقل حركة الهمزة إلى السين كقوله :

{ سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم } [ البقرة : 211 ] وهذه ليست بالمشهورة عنهما ، ولعلها نقلت عنهام ذاشة ، وإنا هي معروفة بالحسن والأمش ، وقرأ زيدُ بنُ عَلِيٍّ والجَحْدَرِيُّ وقتادةُ والحَسَنُ « يَسَّاءلُونَ » بتشديد السين والأصل « يَتَسَاءَلُونَ » فأدغم ، أي يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً .
فصل
{ يسألون عن أبنائكم } أخباركم ، وما آل إليه أمركم « وَلَوْ كَانُوا » يعني هؤلاء المنافقين { فِيكُمْ مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلا } . أي يقاتلون قليلاً يقيمون به عذرهم فيقولون : قد قَاتَلْنَا ، قال الكَلْبَيُّ : « إِلاَّ قَلِيلاً » أي رمياً بالحجارة . وقال مقاتل : إلاَّ رياءً وسُمْعَةٌ من غير احتساب .
( قوله ) تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } قرأ عاصم : « أُسْوَةٌ » بضم الهمزة حيث وَقَعَتْ هذه اللفظة والباقون بكسرها . وهما لغتان كالغُدْوَةِ والغِدْوَةِ والقُدْوَةِ والقِدْوةِ والأُسْوة بمعنى الاقتداء أي قدوة صالحة ، وهي اسمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ المَصْدَرِ وهو « الايتساء » فالأسوة من الايتساء كالقُدْوَة من الاقْتِدَاء ، وائْتَسَى فُلانٌ بِفُلاَنٍ أي اقْتَدَى به ، وأسوة اسم « كان » وفي الخبر وجهان :
أحدهما : هو « لكم » فيجوز في الجار الآخر وجوه : التعلق بما يتعلق به الخبر ، أي بمحذوف على أنه حال من « أُسْوَةٍ » ؛ إذ لو تأخر لكان صفةً أو « بكان » على مذهب من يَرَاهُ .
الثاني : أن الخبر هو : « فِي رَسُولِ اللَّهِ » و « لَكُمْ » على ما تقدم في « رسول الله » أو يتعلق بمحذوف على التبيين أَعْنِي لَكُمْ .
قوله : { لِّمَن كَانَ يَرْجُو } فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من الكاف في « لَكُمْ » قاله الزمخشري ، ومنعه أبو البقاء ، وتابعه أبو حيان ، قال أبو البقاء : وقيل : هو بدل من ضمير المُخَاطَبِ بإعادة الجارِّ ، ومنع منه الأكثرون؛ لأن ضمير المخاطب لا يبدل منه . وقال أبو حيان : قال الزمخشري بدل من « لكم » كقوله : { استضعفوا لِمَنْ آمَنَ } [ الأعراف : 75 ] . قال : ولا يجوز على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم ولا من ضمير المخاطب بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش وأنشد :
4077 - بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ... وأَمَّ نَهْجَ الهُدَى مَنْ كَانَ ضِلّيلاً
قال شهاب الدين : لا نسلم أن هذا بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة ، بل بدل بعض من كل باعتبار الواقع لأن الخطاب في قوله : « لكُم » أعمّ مِن : « مَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وغَيْره » ثم خصص ذلك العموم لأن المتأَسِّيَ به عليه ( الصلاة و ) السلام في الواقع إنما هو المؤمنون ويدل عليه ما قلته ظاهر تشبيه الزمخشري هذه الآية بآية الأعراف ، وآية الأعراف البدل فيها بدل كل من كل ومجابٌ بأنه إنما قصد التشبيه في مجرد إعادة العامل .

والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة « لحَسَنَةٍ » .
والثالثك أن يتعلق بنفس « حسنة » قالهما أبو البقاء ، ومنع أن يتعلق بأسوة قال : لأنها قد وصفت و « كَثِيراً » أي ذِكْراً كَثِيراً .
فصل
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي قدوة صالحة أن تنصروا دين الله وتؤازروا الرسول ولا تتخلفوا عنه وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذا كسرت رُبَاعِيَّتُهُ ، وجرح وَجْهُهُ وقتل عمه ، وأوذي بَضُروبٍ من الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم كذلك أيضاً ، واستنوا بسنته { لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر } قال ابن عباس لمن كان يرجو ثواب الله . وقال مقاتل : يخشى الله واليوم الآخر أي يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال وذكر الله كثيراً في جميع المواطن على السراء والضراء ، ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال : { وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب } لما بين حال المنافقين ذكر حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب وهو أنهم لما رأوا الأحزاب قالوا تسليماً لأمر الله وتصديقاً بوعده وهو قولهم : { هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ } ، وقولهم { وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ } ليس بإشارة إلى ما وقع فإنهم كانوا يعرفون صدق الله قبل الوقوع وإنما هو إشارة إلى بشارة وهو أنهم قالوا : { هذا مَا وَعَدَنَا الله } وقد وقع صدق الله في جميع ما وعد فيقع الكل مثل فتح مكة وفتح الروم وفارس { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } ( عند وجوده ووعد الله إياهم ما ذكر في سورة البقرة : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } [ الآية : 214 ] إلى قوله : { إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء فلما ) ( رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً ) أي تصديقاً لله وتسليماً له .
قوله : { وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ } من تكرير الظاهر تعظيماً لقوله :
4078 - لاَ أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيءٌ .. .
ولأنه لو أعادهما مضمرين لجمع بين اسم الباري تعالى واسم رسوله في لفظة واحدة فكان يقال : « وصدقا » ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد كره ذلك ورد على من قال حيث قال : مَنْ يُطِع اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى فقال له بئس خطيبُ القوم أنتَ قل : ومن يعص الله ورسوله قصداً إلى تعظيم الله . وقيل إنما رد عليه لأنه وقف على « يَعْصِهِمَا » وعلى الأولى استشكل بعضهم قوله : « حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُما » فقد جمع بينهما في ضمير واحد وأجيب : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرف بقدر الله منا فليس لنا أن نقول كما يقال .
قوله : « وَمَا زَادهم » فاعل « زادهم » ضمير الوعد أي وما زادهم وعد الله أو الصدق .

وقال مكي ضمير النظر لأن قوله « لما رأى » بمعنى لما نظر . وقال أيضاً : وقيل ضمير الرؤية ، وإنما ذكر لان تأنيثها غير حقيقي ولم يذكر غيرهما ، وهذا عجيب منه حيث حجَّروا واسعاً مع الغنية عنه . وقرأ ابن أبي عبلة « وما زادوهم » بضمير الجمع ، ويعود للأحزاب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم أن الأحزاب يأتيهم بعد عشر أو تسع .
قوله : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ } ووفوا به .
قوله : « صدقوا » صدق يتعدى لاثتين لثانيهما بحرف الجر ، ويجوز حذفه ومنه المثل : « صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرة » أي في سن . والآية يجوز أن تكون من هذا ، والأول محذوف أي صدقوا الله فيما عاهدوا الله عليه ، ويجوز أن يتعدى لواحد كقولك « صَدَقِنِي زَيْدٌ ، وكَذَبَنِي عَمْرٌوا » أي قال لي الصدق وقال الكذب ، ويكون المعاهد عليه مصدوقاً مجازاً كأنهم قالوا للشيء المعاهد عليه لنوفين بك وقد فعلوا و « ما » بمعنى الذي ، ولذلك عاد عليها الضمير في « عليه » ، وقال مكي « ما » في موضع نصب « بصدقوا » وهي والفعل مصدر تقديره « صَدَقُوا » العهد أي وفوا به . وهذا يرده عود المضير إلا أن الأخفس وابن السراج يذهبان إلى اسمية « ما » المصدرية .
( قوله ) : « قَضَى نَحْبَهُ » النحب ما التزمه الإنسان واعتقد الوفاء به قال :
4079 - عَشِيَّةَ فَرَّ الحَارِثيُّونَ بَعْدَمَا ... قَضَى نَحْبَهُ فِي مُلْتَقَى القَوْمِ هَوْبَرُ
وقال :
4080 - بِطَخْفَةَ جَالَدْنَا المُلُوكَ وَخَيْلُنَا ... عَشِيَّةَ بَسْطَامٍ جَرَيْنَ عَلَى نَحْبِ
أي على أمر عظيم ، ولهذا يقال : نحب فلان أي نذر نذراً التزمه ويعبر به عن الموت كقولهم « قَضَى أجله » لما كان الموت لا بد منه جعل كالشي الملتزم والنجيب البكاء معه صوت .
فصل
قال المفسرون معنى { صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ } أي وفوا بعهدهم الذي عاهدوا الله « فَمِنْهُمْ نَحْبَهُ » أي فرغ من نذره ووفاه بعهده فصبر على الجهاد وقاتل حتى قتل والنحيب النذر قال القُرطبي : مَنْ قَضَى نحبه أجله فقتل على الوفاء يعني حمزة وأصحابه ، وقيل : قضى نحبه أي بذل جهده في سبيل الوفاء بالعهد من قول العرب « نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع » إذ مد فلم ينزل { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } الشهادة يعني من بقي من المؤمنين ينتظرون أحد أمرين إما الشهادة أو النصر { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } بخلاف المنافقين فإنهم قالوا : لا نولي الأدبار وبدلوا قولهم وولوا أدبارهم .
قوله : « لِيَجْزِيَ اللَّهُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنها لام العلة .
والثاني : أنها لام الصيرورة ، وفيما يتعلق به أوجه إما « بصَدَقَوا » وإام « بزَادَهُمْ » وإما بمَا بَدَّلُوا وعلى هذا قال الزمخشري : جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأن كلا الفريقين مسوقٌ إلى عاقبته من الثواب والعقاب فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلها ، والمعنى ليجزي الله الصادقين بصدقهم أي جزاء صدقهم وهو الوفاء بالعهد .

{ وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَآءَ } أي الذين كذبوا وأخلفوا ، وقوله : « إنْ شَاءَ » ذلك فيمنعهم من الإيمان أو يتوب عليهم إن أراد ( « واو » ) وجواب إن شاء مقدر وكذلك مفعول « شاء » أي إن شاء تعذيبَهم عَذَّبهم ، فإن قيل : عذبهم متحتم فكيف يصح تعليقه على المشيئة وهو قد شاء تعذيبهم إذا ماتوا على النفاق؟! . فأجاب ابن عطية بأن تعذيب المنافقين ثمرة إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم ، والعقوبة موازية لتلك الإقامة وثمرة التوبة تركهم دون عذاب فهما درجتان إقامة على نفاق ، أو توبة منه وعنهما ثمرتان تعذيب أو رحمة فذكر تعالى على جهة الإيجاز واحدةً من هاتين وواحدة ( من هاتين ) ما ذكر على ما ترك ذكره ، ويدل على أن معنى قوله : « ليُعَذِّب » ليديم على النفاق ، قَوْلُهُ : « إنْ شَاءَ » ومعادلته بالتوبة وحرف « أو » . قال أبو حيان وكان ما ذكر يؤول إلى أن التقدير : ليقيموا على النفاق فيموتوا عليه إن شاء فيعذبهم أو يتوب عليهم فيرحمهم فحذف سبب التعذيب وأثبت المسبَّب وهو التعذيب ، وأثبت سبب الرحمة والغفران وحذف المسبب وهو الرحمة والغفران ، وقال ابن الخطيب إنما قال ذلك حيث لم يكن قد حصل ما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إيمانهم وآمن بعد ذلك ناس { وكان الله غفوراً } حيث ستر ذنبهم و « رحيماً » حيث رحمهم ورزقهم الإيمان فيكون هذا فيمن آمن بعده . أو نقول « ويعذب المنافقين » مع أنه كان غفوراً رحيماً لكثرة ذنوبهم وقوة جرمهم ولو كان دون ذلك لغفر لهم ثم بين بعض ما جزاهم الله على صدقهم فقال : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ } وهم قريش وغطفان ردّهم بغيظهم لم تُشْفَ صدورهم بنيل ما أرادوا لم ينالوا خيراً « ظفراً » وَكَفَى اللَّهُ المؤمنين القِتَال بالملائكة والريح أي لم يحوجهم إلى القتال { وكان الله قوياً } في ملكه غير محتاج إلى قتالهم « عزيزاً » في انتقامه قادراً على استئصال الكفار .
قوله : « بغَيْظِهِمْ » يجوز أن تكون الباء سببية وهو الذي عبر عنه أبو البقاء بالمفعول أي أنها مُعَدِّية .
والثاني : أن تكون للمصاحبة فتكون حالاً أي مَغِيظِينَ .
قوله : { لم ينالوا خيراً } حال ثانية أو حال من الحال الأولى فهي متداخلة ، ويجوز أن تكون حالً من الضمير المجرور بالإضافة .

وجوز الزمخشري فبها أن تكون بياناً للحال الأولى أي مستأنفة ، ولا يظهر البيان إلا على البدل والاستئناف بعيد .
قوله : « وَأَنْزَلَ الذينَ » أي أنزل الله الذين « ظَاهَرُوهُمْ » أي عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين وهم بنو قريظة .
قوله : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب } بيان للموصول فيتعلق بمحذوف ، ( ويجوز أن يكون حالاً ) « من صَياصِيهِمْ » متعلق « بأنزل » و « من » لابتداء الغاية ، والصياصي جمع صِيصِيَةٍ وهي الحصون والقلاع والمعاقل ويقال لكل ما يمتنع به ويتحصن « صِيصِيَةٌ » ومنه قيل لقَرْن الثَّوْرِ ولشوكة الديك : صِيصِيَة ، والصّيَاصِي أيضاً شوك الحكة ، ويتخذ من حديد قال دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّةِ :
4081 - . . ... كَوَقْعِ الصَّيَاصِي في النَّسِيجِ المُمَدَّدِ
قوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب } حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي .
قوله : « فريقاً تقتلون » منصوب بما بعده وكذلك « فريقاً » منصوب بما قبله ، والجملة مبينة ومقررة لقذف الرعب في قلوبهم والعامة على الخطاب في الفعلين ، وابن ذكوان - في رواية - بالغيبة فيهما ، واليماني بالغيبة في الأول فقط ، وأبو حيوة « تَأْسُرُونَ » بضم السين .
فإن قيل : ما فائدة التقديم المفعول في الأول حيث قال : تقتلون وتأخيره حيث قال « وتأسرون فريقاً؟! .
فالجواب : قال ابن الخطيب إن القائل يبدأ بالأهم فالأهم والأقرب فالأقرب والرجال كانوا مشهورين وكان القتل وارداً عليهم والأسراء كانوا هم النساء والذَّرَارِي ولم يكونوا مشهورين ولاسبي والأسر أظهر من القتل لأنه يبقى فيظهر لكل أحد أنه أسير فقدم من المحلَّين ما هو أشهر على الفعل القائم به ومن الفعلين ما هو أشهر قدمه على المحل الخفي ووجه آخر وهو أن قوله » فريقاً تقتلون « فعل ومفعول والأصل في الجمل الفعلية تقديم الفعل على المفعول والفاعل أما أنها جملة فعلية فلأنها لوكانت اسمية لكان الواجب في » فريق « الرفع ، كأنه يقول فريق منهم تقتلونهم ( فلما نصب كان ذلك بفعل مضمير يفسره الظاهر تقديره : » تقتلون فريقاً تقتلون « ) والحامل على مثل هذا الكلام شدة الاهتمام ببيان المفعول ، وههنا كذلك لأنه تعالى لما ذكر حال الذين ظاهروهم وأنه قد قذف في قلوبهم الرعب فلو قال : تقتلون أوهم أن يسمع السامع مفعول » تقتلون « سبق في قلوبهم الرعب إلى سمعهم فيستمع إلى تمام الكلام ، وإذا كان الأول فعلاً ومفعولاً قدم المفعول لفائدة عطف الجملة الثانية عليها على الأصل ( فعدم ) تقديم الفعل لزوال موجب التقديم إذ عرف حالهم وما يجيء بعده يكون مصروفاً إليهم فلو قال بعد ذلك : » وَفَريقاً تأسرون « فمن سمع » فريقاً « ربما يظن أنه يقال فيهم يطلقون أو لا يقدرون عليهم فكان تقديم الفعل ههنا أولى وكذا الكلام في قوله : { وَأَنزَلَ الذين ( ظَاهَرُوهُم ) } ( ظَاهَرُوهُمْ ) وقوله : » قذف « ، فإن قذف الرعب قبل الإنزال لأن الرعب صار سبيل الإنزال ولكن لما كان الفرح في إنزالهم أكثر قدم الإنزال على قذف الرعب والله أعلم .

فصل
فريقاً تقتلون هم الرجال قيل : كانوا ستمائة ، و « تأسرون فريقاً » وهم النساء والذراري ، قيل : كانوا سبعمائة وخمسين ، وقيل تسعمائة { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } بعد؛ قال ابن زيد ومقاتل يعني خيبر وقال قتادة . كنا نحدث أنها مكية ، وقال الحسن : فارس والروم وقيل : القلاع وقال عكرمة : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة .
قوله : « لم تَطَئُوها » الجملة صفة « لأرضاً » والعامة على همزة مضومة ثم واو ساكنة ، وزيد بن علي « تَطَوْهَا » بواو بعد طاء مفتوحة ووجهها أنها كبدلِ الهمزة ألفاًعلى الإسناد كقوله :
4082 - إنَّ الأُسُودَ لَتُهْدَى في مَرَابِضِهَا .. . . .
فلما أسنده للواء التقى ساكنان محذوف أولهما نحو « لم تَرَوْهَا » وهذا أحسن من أن تقول ثم أجرى الألف المبدلة من الهمزة مجرى الألف المتأصلة فحذفها جزماً لأن الأحسن هناك أن لا يحذف اعتداداً بأصلها ، واستشهد بعضهم على الحذف بقول زهير :
4083 - جَرِيء مَتَى يُظْلَمُ يُعَاقَبْ بظُلْمِهِ ... سَرِيعاً وإِلا يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِم
قوله : { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } هذا يؤكد قول من قال : إن المراد من قوله { وأرضاً لم تطؤوها } ما يؤخذ بعد من بني قريظة لأن الله تعالى لما ملكهم تلك البلاء ووعدهم بغيرها دفع استبعاد من لا يكون قوي الاتكال على الله تعالى وقال أليس الله ملككم هذه فهو على كل شيء قدير يملككم غيرها ، روى أبو هريرة - « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : » لا إله إلا الله وحده ، أعزَّ جنده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحدَه ، فلا شيء بعده . «

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)

قوله تعالى : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا } الآية وجه التعلق ( هو ) أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وإلى هذا أشار عليه ( الصلاة و ) السلام بقوله : « الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ » ، فاللَّه ( تعالى لما ) أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله : { يأيها النبي اتق الله } [ الأحزاب : 1 ] ذكره ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة ولهذا قَدَّمَهُنَّ في النفقة .
فصل
قال المفسرون : سبب نزلو هذه الآية نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ( سَأَلْنَهُ ) عن عرض الدنيا ( شيئاً ) وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فهجرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآلى أن لا يقربهن شهراً ولا يخرج إلى أصحابه فقالوا ما شأنه وكانوا يقولون طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه فقال عمر : لأعلَمنَّ لكم شأنه قال : فدخلت على رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله : أطلقتهن قال : لا ، فقلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن قال : نعم إنْ شِئْتَ فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : 83 ] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله آية التخيير وكانت تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ تسعُ نسوة خمسٌ من قريش عائشةُ بنت أبي بكرن وحفصةُ بنت عمر ، وأمُّ حبيبةَ بنتُ أبي سفيانَ وأمّ سلمةَ بنت أمية ، وسودةُ بنت زَمْعة وغير القرشيات زينب بنتُ جحش الأسدية ، وميمونةُ بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حُيَيّ بن أخطب الخَيْبريَّة وجُوَيْرِيةُ بنت الحارث المُصْطَلِقيَّة ، فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة وكانت أحبهن إليه فخيرها فقرأ عليها ( القرآن ) فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة . ورُؤي الفرح في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعنها على ذلك ، قال قتادة فلما اخْتَرْن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال : { لاَ تَحِلُّ لَكَ النِّسَاْءُ مِنْ بَعْدُ } . وعن جابر بن عبد الله قال : « دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لواحد منهم قال : فأذن لأبي بكر فدخل ثم اقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً حوله نساؤه واجماً ساكناً قال : فقال : لأقولَنَّ شيئاً أُضْحِكُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فَوَجأْتُ عنقها فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة يَجَأُ عُنُقَها وقام عمر إلى حفصة يَجَأُ عنقها كلاهما يقول : تسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً أبداً ليس عنده ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين يوماً ثم نزلت هذه الآية : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ } حتى بلغ { لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أعرض عليك أمراً لا أحب أن تعجلي حتى تستشيري أبويك ، قالت : وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أَبَويَّ بل اختار الله ورسوله والدار الآخرة وسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت ، قال : لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أنّ الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً مبشراً »

، ورى الزهري « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً » قال الزهري : فأخبرني عروة « عن عائشة قالت : فلما مضت تسعٌ وعشرونَ أعُدُّهن دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : بدأ بي فقلت : يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت من تسع وعشرين أعدهن فقال : إن الشهر تسع وعشرون »
فصل
اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أم لا؟ فذهب الحَسَنُ وَقَتَادة وأكثر أهل العلم إلى أنه لم يكن تفويض للطلاق ، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ } ويدل عليه أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة : « لا تعجلي حتى تَسْتَشَيري أبوَيْك » وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور . وذهب آخرون إلى أنه كان تفويضَ طلاق ولو اخترن أنفسهن كان طلاقاً ، واختلف العلماء في حكم التخيير فقال عمر وابن مسعود وابن عباس إذا خير رجلٌ امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء ، ولو اختارت نفسها وقع طلقة واحدة وهو قول عمر بن عبد العزيز وابنُ أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي إلا ان عند أصحاب الرأي تقع طلقةٌ بائنةً إذا اختارت نفسها ، وعند الآخرين رجعيةٌ ، وقال زيد بن ثابت : إذا اختارت الزوج يقع طلقة واحدةً وإذا اختارت نفسها فثلاثٌ وهو قول الحسن ، وروايةً عن مالك .

وروي عن علي أيضاً أنها إذا اختارت زوجها يقع طلقة واحدة وإذا اختارت نفسها فطلقة ثانية ، وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء لما روت عائشة قالت : « خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترنا الله ورسوله فلم يعد ذلك شيئاً »
قوله : « أُمَتَّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ » العامة على جزمهما ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مجزوم على جواب الشرط ، وما بين الشرط وجوابه معترض ، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض ومثله في دخول الفاء قوله :
4084 - وَاعْلَمْ فَعِلْمُ المَرْءِ يَنْفَعهُ ... أَنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِرَا
يريد : واعلم أن سوف يأتي .
والثاني : أن الجواب قوله « فتعالين » و « أمتعكن » جواب لهذا الأمر ، وقرأ زيد بن علي « أُمْتِعْكُنَّ » ، بتخفيف التاء من « أمته » وقرأ حُمَيْد الحَزَّاز « أُمَتِّعُكُنَّ وَأُسَرِّحُكُنَّ » بالرفع فيهما على الاستئناف و « سَرَاحاً » قائم مقام التَّسريح .
فصل
قال ابن الخطيب : وههنا مسائل منها هل كان هذا التخيير واجباً على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أم لا والجواب أن التخيير كان قولاً واجباً من غير شك لأنه إبلاغ للرسالة لأن الله تعالى لما قال ( له ) : « قل لهم » صار من الرسالة ، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا ، والظاهر أنه للوجوب ومنه أن واحدة منهم لو اختارت الفراق هل كان يصير اختيارها فراقاً . والظاهر أنه لا يصير فراقاً وإنما تبيين المختارة نفسها فإنه من جهة النبي عليه السلام لقوله : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } ومنها أن واحدة منهن لو اختارت نفسها وقلنا إنها لا تبين إلا بإبانة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهل كان يجب على النبي عليه ( الصلاة و ) السلام الطلاق أم لا؟ الظاهر نظراً إلى منصبه عليه ( الصلاة و ) السلام أنه كان طلاقاً لأن الخُلْفَ في الوعد من النبي غير جائز بخلاص أحدنا فإنه لا يلزمه شرعاً الوفاء بما يعد ، ومنها أن المطلقة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا؟ والظاهر أنها لا تحرم وإلا لم يكن التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنية ومنها أن من اختارت الله ورسوله هل كان يحرم على النبي عليه ( الصلاة و ) السلام طلاقها أم لا؟ الظاهر الحرمة نظراً إلى منصب الرسول عليه السلام على معنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمتنع منه أصلاً لا بمعنى أنه لو أتى به لعُوقِب أو لعُوتِبَ .
قوله : { أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ } أي من عمل صالحاً منكن كقوله تعالى : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ } [ لقمان : 22 ] والأجر العظيم : الكثير الزائد في الطول وفي العرض وفي العمق حتى لو كان زائداً في الطول يقال له طويل ولو كان زائداً في العرض يقال له : عريض وكذلك العميق فإذا وجدت ( منه ) الأمور الثلاثة قيل عظيم ، فيقال : جبل عظيم إذا كان عالياً ممتداً في الجهات ، وإن كان مرتفعاً حيث يقال : جبل عال .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75