كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

فصل
هذه الآيةُ وإِنْ دلّت على وجوب الصلوات الخمس لكنَّها لا تدلُّ على أوقاتها .
قالوا : والآياتُ الدالةُ على تفصيل الأَوقاتِ أَربعٌ :
أحدها : قوله تعالى : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] .
فقوله : « سُبْحَانَ اللهِ » أي : فسبِّحوا اللهَ ، معناه : صلُّوا للهِ حين تمسون ، أراد به صلاة المغربِ ، والعِشَاءِ ، « وَحِينَ تُصْبِحُونَ » أراد صلاة الصُّبح ، و « عَشيّاً » أراد به [ صلاة ] العصر ، و « حِينَ تُظْهِرُونَ » ، صلاة الظهر .
الثانية : قوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل } [ الإسراء : 78 ] أراد ب « الدلوك » زوالها ، فدخل في الآية : صلاةُ الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، ثم قال : { وَقُرْآنَ الفجر } [ الإسراء : 78 ] أراد صلاة الصُّبح .
الثالثة : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار } [ طه : 130 ] قالوا : لأَنَّ الزمان إِمَّا أَنْ يكون قبل طُلُوعِ الشَّمسِ ، أو قبل غروبها ، فالليل والنهارُ داخلان في هاتين اللفظتين .
الرابعة : قوله تعالى : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل } [ هود : 114 ] فالمراد ب « طَرَفَي النَّهَارِ » الصُّبحُ والعَصْر ، وبقوله « وزُلْفاً من الليل » المغرب ، والعشاء .
فصل في الصلاة الوسطى
اختلفوا في الوسطى على سبعة مذاهب :
الأول : أنَّ الله - تعالى - لمّا لم يبينها بل خصَّها بمزيد التوكيد ، جاز في كُلِّ صلاةٍ أَنْ تكون هي الوسطَى ، فيصير ذلك داعياً إلى أداء الكل بصفةِ الكمالِ ، والتمام؛ كما أنّه أخفى ليلة القَدْرِ في رمضان ، وأخفى ساعةَ الإجابةَ في يوم الجُمُعةِ ، وأَخْفَى اسمه الأَعظم في جميع الأَسماءِ ، وأخفى وقتَ الموتِ في الأوقات؛ ليكون المكلَّف خائِفاً من الموتِ في كل الأوقات ، وهذا قولُ جماعةٍ من العُلَماءِ .
قال محمَّد بن سيرين : سأل رجلٌ زيد بن ثابتٍ ، عن الصلاة الوسطى ، فقال : حافِظ على الصلوات كُلِّها تصبها .
وعن الربيع بن خيثم أنّه سأله واحدٌ عنها ، فقال : قال ابن عمر : الوُسطى واحدة منهن ، فحافِظ على الكُلِّ تكُنْ محافظاً على الوسطى ، ثم قال الربيع : فإنْ حافظتَ عليهن ، فقد حافظت على الوسْطى .
الثاني : أَنَّ الوسطى هي مجموعُ الصلوات الخَمْس؛ لأَن هذه الصلوات الخمس : هي الوسطى من الطاعات ، وتقريره : أنَّ الإِيمان بضعٌ وسبعون درجة : أعلاها شهادةث أَنْ لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى ، فهي واسطة بين الطرفين .
وقيل : الوسطى صلاةُ الجمعة؛ لأن وقتها وسطُ النهارِ ، ولها شروط ليست لبقيَّة الفرائض : من أشتراط الخُطبة ، والأَربعين ، ولا تصلي في المِصْر أكثر مِنْ جمعةٍ واحدةٍ ، إِلاَّ أَنْ تدعُو الحاجة إلى أكثر منها؛ وتفوتُ بفواتِ وقتها ولا تقضى؛ لأن العطف يقتضي المغايرة .

الثالث : أنها صلاةُ الصبح ، وهو قول علي وعمر وابن عباس ، وابن عمرو وجابر بن عبدالله ، ومعاذ وأبي أمامة الباهِليّ ، وهو قول عطاء ، وطاوسٍ ، وعكرمة ومجاهد ، وإليه ذهب مالكٌ ، والشافعي . واستدلُّوا بوجوه :
أحدها : أنَّ هذه الصلاة تُؤدَّى بعد طُلُوع الفجر ، وقبل طلوع الشمس ، وهذا الزمان ليس فيه ظُلمة باقية ، ولا ضوء تام فكأنّه ليس بليلٍ ولا نهارٍ ، فكان مُتوسِّطاً بينهما .
وثانيها : أَنََّ النهار حصل فيه صلاتان : الظهر ، والعصر؛ وفي الليل صلاتان : المغرب ، والعشاء؛ وصلاةُ الصبح كالمتوسطة بين صلاتي الليل ، وصلاتي النهار .
فإنْ قيل : هذه المعاني حاصِلةٌ في صلاة المغرب .
فالجوابُ : أنَّا نرجِّح صلاة الصُّبح على صلاة المغرب؛ بكثرة الفضائلِ ، على ما سيأتي إِنْ شاء الله تعالى .
وثالثها : أَنَّ الظهر ، والعصر صلاتا جمعٍ ، وكذلك : المغربُ والعِشاءُ ، وصلاة الصبح منفردةٌ بوقتِ واحدٍ؛ فكانت وسطاً بينهما .
ورابعها : قوله تعالى : { إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } [ الإسراء : 78 ] وقد ثبت أَنَّ المراد منه صلاةُ الفجر ، يعنى تشهدُه ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار ، فلا تجتمعُ ملائِكةُ الليل وملائكةُ النهار في وقتٍ واحد ، إِلاّ في صلاةِ الفجر؛ فثبت أَنَّ صلاةَ الفجرِ قد أخذت بطرفي الليل والنهار من هذا الوجه؛ فكانت كالشيءِ المتوسِّط .
وخامسها : قوله تعالى : { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } وصلاة الصبح مخصوصةٌ بطول القيام ، والقنوت ، وهذا ضعيف ، لأنه يقال لا نُسلِّمُ أَنَّ المراد بالقنوت طولُ القيام ، كما سيأتي في تفسير هذه الكلمة ، ولا نُسَلّم أَنَّ القنوت مخصوص بالفجر؛ بل يقنت في سائر الصَّلوات إِذَا نزل بالمسلمين ، إِلاَّ فلا قنوت في شيءٍ من الفرائض .
وسادسها : أَنَّهُ تعالى إنَّما أفردها بالذكر؛ لأَجل التأكيد؛ لأنها أحوجُ الصلوات إلى التَّأكيد ، إِذْ ليس في الصلواتِ أشقّ منها؛ لأنها تجب على الناس في ألذ أوقاتِ النَّوم؛ فيترك النومَ اللذيذ إلى استعمال الماء البارِدِ ، والخُروج إلى المسجد والتَّأهب للصلاة ، ولا شَكَّ أن هذا شاق صعبٌ على النفس .
وسابعها : أنها أفضلٌ الصلواتِ ، فوجب أَنْ تكونَ هي الوسطى ، ويدل على فضيلتها وجوه :
الأول : قوله تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } [ آل عمران : 17 ] فختم طاعاتهم بكونهم مُسْتغفرين بالأَسحارِ ، وأَعظمُ أَنواع الاستغفار الفرائضُ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - حاكياً عن رَبّه : « لن يتقرّب المتقرّبون إليّ بمِثْل أَدَاءِ ما افترضتُ عَلَيْهِمْ » .
الثاني : رُوِيَ أَنَّ التكبيرة الأُولى فيها في الجماعة خيرٌ مِنَ الدُّنْيا وما فيها .
الثالث : أنه ثبتَ أَنَّ صلاة الصبح مخصوصة بالأَذانِ مرَّتين : مرَّة قبل طُلُوع الفجر ، ومرةً بعده .
فالأول : لإيقاظِ الناس من نومِهم ، وتأهبهم .
والثاني : الإِعلامُ بدخول الوقت .
الرابع : أَنَّ الله سمّاها بأسماء ، فقال في بني إسرائيل { وَقُرْآنَ الفجر } وقال في النور

{ مِّن قَبْلِ صلاة الفجر } [ النور : 58 ] وقال في الروم { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] وقال عمر - رضي الله عنه - أن المراد من قوله { وَإِدْبَارَ النجوم } [ الطور : 49 ] صلاة الفجر .
الخامس : أن الله تعالى أقسَمَ بها ، فقال : { والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ } [ الفجر : 1-2 ] .
فإن قيل : قد أقسم الله تعالى - أيضاً - بالعصر فقال : { والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 1-2 ] قلنا : سلمنا أن المراد منه القسم بصلاة العصر ، لكن في صلاة الفجرمزيدُ تأكيدٍ وهو قوله : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار } [ هود : 14 ] فكما أنّ أحدَ الطرفين ، وهو الصبحُ ، وهو واقعٌ قبل الطلُوع والطرف الآخرُ هو المغرب؛ لأنه واقعٌ قبل الغُرُوب ، فقد اجتمع في الفجر القسمُ به ، مع التأكيد بقوله : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار } [ هود : 14 ] هذا التأكيدُ لم يوجد في العصر .
السادس : أن التثويب في أذان الصُّبح معتبرٌ ، وهو قولُ المؤذن : الصلاةُ خيرٌ من النَّومِ ، وهذا غيرُ حاصل في سائر الصلواتِ .
السابع : أَنَّ الإنسان إذا قام مِنْ نومِه فكأنه كان معدُوماً ، ثم صار موجوداً أو كان مَيْتاً ، ثم صار حياً ، فإذا شاهد العَبْدُ هذا الأمر العظيم ، فلا شكَّ أنَّ هذا الوقت أليقُ الأَوقاتِ ، بأَن يظهر العبدُ الخضوع ، والذلة والمسكنة في هذه العبادة .
وثامنها : رُوي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه سُئِل عن الصلاةِ الوسطى ، فقال : كنا نرى أنَّها الفجرُ .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنَّه صلى الصبح ، ثم قال : هذه هي الصلاةُ الوسْطى .
القول الرابع : أَنَّهُ صلاةُ الظهرِ ، وهو قول عمر ، وزيدٍ بن ثابت ، وأبي سعيد الخدري ، وأُسامة بن زيدٍ ، وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، واحتجُّوا بوجوه :
الأول : أن الظهرَ كان شاقّاً عليهم؛ لوقوعه في وقتِ القَيْلُولة ، وشدَّةِ الحرِّ ، فصرفُ المبالغة فيه أولى .
الثاني : روى زيد بن ثابت أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالهاجرة ، وكان أثقلَ الصلواتِ على أصحابه ، وربما لم يكُن وراءه إلاّ الصَّفُّ ، والصَّفَّاِ ، فقال عليه الصلاة والسلام : « لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُحْرِّقَ عَلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَة في بُيُوتهم » فنزلت هذه الآيةُ .
الثالث : أن صلاة الظُّهر تقع في وسط النهار ، وليس في المكتوباتِ صلاة تقع في وسطِ النهارِ ، وهي أَوسطُ صلاةِ النَّهارِ في الطول .
الرابع : قال أبو العالية : صليتُ مع أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهرَ ، فلمّا فرغُوا سأَلتُهم عن الصلاةِ الوسطى فقالوا : التي صلَّيتَها .
الخامس : روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تقرأ « حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَة الوُسْطَى وَصَلاَةَ العَصْرِ » ، وكانت تقولُ سمعتُ ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وجهُ الاستدلالِ أنها عطفت صلاةَ العَصْرِ على الصلاةِ الوُسْطى ، والمعطوفُ عليه قبل المعطُوفِ ، والذي قبل العصر هي صلاةُ الظهر .
السادس : رُوي أنَّ قوماً كانوا عند زيد بن ثابتٍ ، فأرسلوا إلى أُسامة بن زيدٍ ، وسأَلُوه عن الصَّلاةِ الوُسطى ، فقال : هي صلاةُ الظهرِ كانت تقامُ في الهَاجِرة .

السابع : روي في الحديث أن أوَل إِمامة جبريل - عليه السلام - كانت في صلاةِ الظهر ، فَدَلَّ على أنّها أشرف ، فكان صرفُ التَّأكيد إليها أولى .
الثامن : أَنَّ صلاةَ الجمعة هي أشرفُ الصَّلواتِ ، وهي صلاةُ الظهرِ فصرف المبالغة إليها أولى روى الإمامُ أحمدُ ، وصحَّحَه : أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن الصلاة الوسطى [ فقال ] العصرُ . ورَوى أحمدُ ، والترمذيُّ ، وصحَّحه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن صلاةِ الوسطى فقال : « حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ والصَّلاةِ والوُسْطَى وَصَلاةَ العَصْرِ » ثم نُسِخَت هذه الكلمةُ ، وبقي قولُه : « وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ » .
فإن قيل قد روي أنَّ عائشة أمرت أن يكتب لها مصحف ، وقالت للكاتب : إذا بلغت قوله تعالى : { والصلاة الوسطى } فآذِنِّي ، فلما وصل الكاتب إلى قوله تعالى : { والصلاة الوسطى } آذنها فأمرته أن يكتب : « وَصَلاَةَ العَصْرِ » وقالت : هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فالجواب أن هذا لم يروه غير واحدٍ تفرَّد به . وقد روى جماعةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها صلاة العصر ، كما سيأتي ، وكثرة الأدلة ، والرُّواة يرجّح بها .
القول الخامس : أنها صلاة العصر ، وهو مرويٌّ عن عليّ ، وابن مسعودٍ ، وابن عبَّاسٍ ، وأبي هريرة ، وأبي أيُّوب ، وعائشة ، وبه قال إبراهيم النخعي ، وقتادة ، والحسن ، والضحاك ، ويروى عن أبي حنيفة .
واحتجوا بوجوه :
الأول : روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق : « شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى صَلاَة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً » وروى زرُّ بن حبيش ، قال : قلنا لعبيدة : سل علياً عن الصلاة الوسطى ، فسأله فقال : كنَّا نرى أنها صلاة الفجر ، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الخندق : « شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى صَلاَة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً » وعن عبدالله بن مسعودٍ ، قال : حَبَسَ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صَلاة العصر ، حتَّى احمرَّت الشمس ، أو اصفرَّت؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى صَلاَة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً ، أو حَشَا اللهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً » .
الثاني : أنَّ العصر أولى بالتأكيد من غيرها؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَى صَلاَةِ العَصْرِ فَقَدْ وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ » ، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَى صَلاَةِ العَصْرِ أو مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبَطَ عَمَلُهُ » وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « مَنْ حَافَظَ عَلَى صَلاَةِ العَصْرِ آتَاهُ اللهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ » ولأن المحافظة على سائر الصلوات ، أخفُّ وأسهل من المحافظة على وقت العصر أخفى الأوقات .

وذلك لأن الصُّبح يدخل وقتها بطلوع الفجر المستطير ضوؤه ، ودخول الظهر بزوال الشَّمس ، والمغرب بغروب القرص ، ودخول العشاء بمغيب الشَّفق الأحمر ، لا جرم كانت الفضيلة فيها أكثر .
الثالث : أنَّ الناس عند العصر يكونون مشغولين بمهماتهم ، فكان الإقبال عليها أشقُّ .
الرابع : أنَّها متوسطةٌ بين صلاةٍ نهاريَّة ، وهي الظهر ، وصلاةٍ ليليَّةٍ ، وهي المغرب ، وأيضاً ، فهي متوسِّطة بين صلاتين بالليل وصلاتين بالنهار .
فإن قيل : قد ثبت عن عائشة أنها قرأت : « وَصَلاَةَ العَصْرِ » .
فالجواب أن يقال : إن هذه قراءة شاذَّة ، ولأنه ثبت عن خلق كثير في أحاديث صحيحةٍ أنها العصر ورووها بغير واوٍ؛ فدل على أنّ الواو زائدةٌ ، ولأنَّ الراوي لا يجوز له أن يسقط من الحديث حرفاً واحداً يتعلق به حكمٌ شرعي .
أو يقال : هذا من باب عطف الخاصِّ على العامِّ ، أو من عطف الصفات؛ لقولك : زيدٌ الكريم والعالم .
والقول السادس : أنها صلاة المغرب ، وهو قول عبيدة السلماني وقبيصة بن ذؤيب ، واحتجُّوا بوجهين :
أحدهما : أنه بين بياض النَّهار ، وسواد اللَّيل ، وهذا المعنى وإن كان حاصلاً في الصُّبح ، إلاّ أن الغرب ترجَّح بوجوهٍ أُخر : وهي أنها أزيدُ من الرَّكعتين؛ كما في الصبح ، وأقلُّ من الأربع؛ كما في الظهر ، والعصر ، والعشاء ، فهي وسطٌ في الطُّول ، والقصر .
الوجه الثاني : أنَّ صلاة الظهر تسمَّى بالصلاة الأولى ، ولذلك ابتدأ جبريل بالإمامة فيها ، وإذا كان الظهر أوَّل الصلوات ، كانت المغرب ، هي الوسطى ، لا محالة ، ولأنَّ قبلها صلاة سرٍّ ، وبعدها صلاة جهرٍ .
القول السابع : أنها العشاء ، قالوا : لأنها متوسِّطة بين صلاتين لا تقصران : المغرب ، والصبح .
وعن عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « مَنْ صَلَّى صَلاَةَ العِشَاءِ الآخِرَةِ في جَمَاعَةٍ ، كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَة » .
قال القرطبي : وقال أبو بكر الأبهري : إن الوسطى صلاة الصُّبح ، وصلاة العصر تبعاً؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « إن اسْتَطَعْتُمْ أَلاََّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا » يعنى : العصر ، والفجر ، ثم قرأ جرير : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } [ طه : 130 ] . وروى عمَّار بن رؤيبة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِهَا » يعني الفجر والعصر ، وقيل : العشاء والصبح؛ لأن أبا الدَّرداء - رضي الله عنه - قال في مرضه الذي مات فيه : اسمعوا ، وبلِّغوا من خلفكم : حافظوا على هاتين الصَّلاتين ، يعني في جماعة - العشاء والصُّبح ، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على مرافقكم .
قوله : { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } قال ابن عباس : القنوت : الدعاء ، والذكر ، بدليل قوله تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً }

[ الزمر : 9 ] . ومنه الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت يدعو على رعل ، وذكوان ، وعصيّة ، وأحياء من سليم . وقيل : مُصلِّين؛ لقوله : « أَمْ هُوَ قَانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ » .
وقال الشعبيُّ ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وطاوسٌ ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتلٌ : القنوت : الطاعة ، ويدلُّ عليه وجهان :
الأول : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « كُلُّ قُنُوتٍ في القُرْآنِ فَهُوَ طَاعَةٌ » .
والثاني : قوله تعالى : { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ } [ الأحزاب : 31 ] وقال : { فالصالحات قَانِتَاتٌ } [ النساء : 34 ] فالقنوت عبارةٌ عن كمال الطَّاعة ، وإتمامها والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها . قال الكلبيُّ ، ومقاتلٌ : لكلِّ أهل دينٍ صلاةٌ يقومون فيها عاصين فقوموا أنتم لله في صلاتكم مطيعين .
وقيل : القنوت : السكوت ، وهو قول ابن مسعود ، وزيد بن أرقم ، قال زيد بن أرقم : كنَّا نتكلّم في الصلاة ، فيسلِّم الرجل؛ فيردون عليه ويسألهم كيف صليتم؟ كفعل أهل الكتاب . فنزل قوله تعالى : { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام .
وقال مجاهد : القنوت : عبارةٌ عن الخشوع ، وخفض الجناح ، وسكون الأطراف ، وترك الالتفات من هيبة الله ، وكان العلماء إذا قام أحدهم يصلي ، يهاب الرحمن ، فلا يلتفت أو يقلب الحصى ، أو يعبث ، أو يحدّث نفسه بشيءٍ من أمر الدنيا ناسياً حتى ينصرف .
وقيل : القنوت : عبارة عن طول القيام .
قال جابر : سئل النبي صلى الله عليه وسلم أيُّ الصَّلاة أفضل؟ قال : طول القنوت ، يريد طول القيام .
قال ابن الخطيب : وهذا القول ضعيفٌ؛ وإلاَّ صار تقدير الآية : وقوموا لله قائمين؛ اللَّهم إلاَّ أن يقال : وقوموا لله مديمين لذلك القيام؛ فيصير القنوت مفسَّراً بالإدامة ، لا بالقيام .
وقيل : القنوت في اللغة : عبارةٌ عن الدوام على الشيء ، والصَّبر عليه والملازمة له .
وفي الشريعة مختصٌّ بالمداومة على طاعة الله تعالى؛ وهو اختيار عليٍّ بن عيسى ، وعلى هذا يدخل فيه جميع ما قاله المفسِّرون .
قوله : « قَانِتِينَ » حالٌ من فاعل « قُومُوا » و « لِلَّهِ » يجوز أن تتعلَّق اللام ب « قُومُوا » ، ويجوز أن تتعلَّق ب « قَانِتِينَ » ، ويدلُّ للثاني قوله تعالى : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } [ البقرة : 116 ] . ومعنى اللام التعليل .
فصل
قال أبو عمرو : أجمع المسلمون على أنّ الكلام ، عامداً في الصلاة ، إذا كان المسلم يعلم أنّه في صلاةٍ ، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته أنّه يفسد الصلاة ، إلاّ ما روي عن الأوزاعي أنّه قال إن تكلم في الصَّلاة لإحياء نفسٍ ، ونحوه من الأمور الجسام ، لم يفسد ذلك صلاته .
واختلفوا في كلام السَّاهي ، فقيل : لا يفسد الصلاة .
وقيل : يفسدها .
وقال مالكٌ : إذا تكلم عامداً لمصلحة الصَّلاة ، لم تفسد ، وهو مذهب أحمد .
قوله تعالى : { فَإنْ خِفْتُمْ } .
قال الواحديُّ : معنى الآية : فإن خفتم عدوّاً ، فحذف المفعول لإحاطة العلم به .
وقال الزمخشريُّ : « فإن كان لكم خوفٌ من عَدُوٍّ ، أو غيرِه » فهو أصحُّ؛ لأن هذا الحكم ثابتٌ عند حصول الخوف ، سواءٌ كان الخوف من عدوٍّ ، أو غيره .

وقيل : المعنى : فإن خفتم فوات الوقت ، إذا أَخَّرْتُمُ الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم ، فصلُّوا رِجالاً ، أو ركْبَاناً ، وعلى هذا التقدير الآية تدلُّ على تأكيد فرض الوقت؛ حتى يترخَّص لأجل المحافظة عليه في ترك القيام ، والركوع ، والسجود .
قوله تعالى : { فَرِجَالاً } : منصوبٌ على الحال ، والعامل فيه محذوفٌ ، تقديره : « فَصَلُّوا رِجَالاً ، أو فحَافِظُوا عَلَيْهَا رِجَالاً » وهذا أولى؛ لأنه من لفظ الأول .
و « رِجَال » جمع راجلٍ؛ مثل قيامٍ وقائم ، وتجارٍ وتاجرٍ ، وصِحَابٍ وصاحب ، يقال منه : رَجِلَ يَرْجَلُ رَجْلاً ، فهو رَاجِلٌ ، ورَجُل بوزن عضدٍ ، وهي لغة الحجاز . يقولون : رَجِلَ فُلاَنٌ ، فهو رَجُلٌ ، ويقال : رَجْلاَن ورَجِيلٌ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
1148- عَلَيَّ إِذَا لاَقَيْتُ لَيْلَى بِخُفْيَةٍ ... أَنَ ازْدَارَ بَيْتَ اللهِ رَجْلاَنَ حَافِيَا
كلُّ هذا بمعنى مشى على قدميه؛ لعدم المركوب .
وقيل : الراجل الكائن على رجله ، ماشياً كان أو واقفاً ، ولهذا اللفظ جموعٌ كثيرة : رجالٌ؛ كما تقدَّم؛ وقال تعالى : { يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ } [ الحج : 27 ] وقال [ الكامل ]
1149- وَبَنُو غُدَانَةَ شَاخِصٌ أَبْصَارُهُمْ ... يَمْشُونَ تَحْتَ بُطُونِهِنَّ رِجَالاً
ورَجِيلٌ ، ورُجَالَى ، وتروى قراءةً عن عكرمة ، ورَجَالَى ، ورَجَّالَة ، ورُجَّال ، وبها قرأ عكرمة وابن مخلدٍ ، ورُجَّالَى ، ورُجْلاَن ، ورِجْلَة ، ورَجْلَة بسكون الجيم وفتحها ، وأرجِلَة ، وأرَاجِلٍ ، وأرَاجِيل ، ورجَّلاً بضم الراء وتشديد الجيم من غير ألفٍ ، وبها قرئ شاذّاً .
وقال القفَّال : يجوز أن يكون « رِجَالٌ » جمع الجمع؛ لأن رجلاً يجمع على « رَاجِلٍ » ، ثمَّ يجمع راجلٌ على رِجالٍ .
والرُّكبان جمع راكب مثل فُرْسَان وفَارس ، قال القفَّال : قيل : ولا يقال إلاَّ لمن ركب جملاً ، فأمَّا راكب الفرس ، ففارسٌ ، وراكب [ الحمار ] والبغل حمَّار وبغَّال ، والأجود صاحب حمار وبغلٍ ، و « أو » هنا للتقسيم ، وقيل : للإباحة ، وقيل : للتخيير .
فصل
قال القرطبيُّ : لمّا أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة ، بحال القنوت ، وهو الوقار ، والسكينة ، وهدوء الجوارح ، وهذه هي الحالة الغالبة من الأمن ، والطُّمأنينة ، ذكر حالة الخوف الطارئة أحياناً ، وبيَّن أن هذه العبادة لا تسقط عن العبد في حالٍ ، ورخَّص لعبيده في الصلاة رجالاً على الأقدام ، أو ركباناً على الخيل والإبل ، ونحوه إيماءً ، وإشارةً بالرأس حيث ما توجهوا .
فصل في صلاة الخوف
صلاة الخوف قسمان :
أحدهما : حال القتال مع العدو ، وهي أقسام :
أحدها : حال التحام الحرب ، وهو المذكور في هذه الآية ، وباقيها مذكورٌ في سورة النِّساء [ 102 ] والقتال إمَّا واجبٌ ، أو مباحٌ ، أو محظورٌ .
فالواجب : كالقتال مع الكفار ، وهو الأصل في صلاة الخوف ، وفيه نزلت الآية ، ويلحق به قتال أهل البغي ، بقوله تعالى : { فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله } [ الحجرات : 9 ] .
والمباح : كدفع الصائل بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه؛ فإنه يجب الدفع ، وفي الدفع عن كل حيوانٍ محترم ، فإنَّه يجوز فيه صلاة الخوف .

وأمَّا المحظور فلا يجوز فيه صلاة الخوف؛ لأن هذا رخصةٌ ، والرخصة إعانة؛ والعاصي لا يستحقّ الإعانة .
القسم الثاني : في الخوف الحاصل في غير القتال ، كالهارب من الحرق ، أو الغرب ، أو السَّبع ، أو المطالبة بدينٍ ، وهو معسر خائفٌ من الحبس عاجزٌ عن بيِّنة الإعسار فلهم أن يصلُّوا صلاة الخوف؛ لأن قوله تعالى : { فَإنْ خِفْتُمْ } مطلقٌ يتناول الكلَّ ، فإن قيل : المراد منه الخوف من العدوِّ حال المقاتلة .
قلنا : سلمنا ذلك ، ولكن علمنا أنّه إنّما ثبت هناك ، لدفع الضَّرر ، وهذا المعنى قائمٌ هنا ، فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعاً هنا .
فصل في عدد ركعات صلاة الحضر والسفر والخوف
ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم .
وروى مجاهد ، عن ابن عباسٍ قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً ، وفي السَّفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة .
وقال سعيد بن جبير : إذا كنت في القتال ، وضرب الناس بعضهم بعضاً ، فقل سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، واذكر الله فتلك صلاتك .
فصل
قال القرطبي : والمقصود من هذه الآية ، أن تفعل الصلاة كيفما أمكن ، ولا تسقط بحالٍ ، حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها ، وبهذا تميزت عن باقي العبادات؛ لأنها تسقط بالأعذار .
قال ابن العربيّ : ولهذا قال علماؤنا : إن تارك الصلاة يقتل لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحالٍ ، ولا تحوز النيابة فيها ببدنٍ ، ولا مالٍ ، فيقتل تاركها كالشهادتين .
قوله : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ } يعني بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة { فاذكروا الله } أي : فصلُّوا الصلوات الخمس . والصلاة قد تسمَّى ذكراً ، قال تعالى : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } [ الجمعة : 9 ] . وقيل : { فاذكروا الله } أي : فاشكروه؛ لأجل إنعامه عليكم بالأمن .
وطعن القاضي في هذا القول؛ بأن الشُّكر يلزم مع الخوف ، كما يلزم مع الأمن؛ لأن نعم الله تعالى متصلة في الحالين .
وقيل : إنَّ قوله تعالى : { فاذكروا الله } يدخل تحته الصلاة ، والشكر جميعاً .
قوله : { كَمَا عَلَّمَكُم } الكاف في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدر محذوفٍ ، أو حالاً من ضمير المصدر المحذوف ، وهو الظاهر ، ويجوز فيها أن تكون للتعليل ، أي : فاذكروه لأجل تعليمه إيَّاكُمْ ، و « مَا » يجوز أن تكون مصدريةً ، وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون بمعنى « الَّّذِي » ، والمعنى : فصلُّوا الصَّلاة كالصَّلاة التي عَلَّمَكُمْ ، وعبَّر بالذكر عن الصلاة ، ويكون التشبيه بين هيئتي الصلاتين الواقعة قبل الخوف وبعده في حالة الأمن . قال ابن عطيَّة : « وعَلَى هذا التأويلِ يكون قوله : » مَا لَمْ تَكُونُوا « بدلاً من » مَا « في » كَمَا « وإلاَّ لم يتَّسق لفظ الآية » قال أبو حيان : « وهو تخريجٌ مُمْكِنٌ ، وأحسن منه أن يكون » مَا لَمْ تَكُونُوا « بدلاً من الضمير المحذوف في » عَلَّمَكُم « العائد إلى الموصول؛ إذ التقدير : عَلَّمَكُمُوهُ ، ونصَّ النحويون على أنه يجوز : ضَرَبْتُ الذي رَأَيْتُ أَخَاكَ » [ أي : رَأَيْتُهُ أَخَاكَ ] ، ف « أَخَاكَ » بدلٌ من العائد المحذوف « .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

قرأ ابن كثير ، ونافع ، والكسائي ، وأبو بكرٍ ، عن عاصم : « وَصِيَّةٌ » بالرفع والباقون : بالنصب . وفي رفع { الذين يُتَوَفَّوْنَ } ثمانية أوجهٍ ، خمسةٌ منها على قراءة من رفع « وَصِيَّةً » ، وثلاثةٌ على قراءة من نصب « وصيةٌ » ؛ فأوّل الخمسة ، أنه مبتدأ ، و « وَصِيَّةٌ » مبتدأ ثانٍ ، وسوَّغ الابتداء بها كونها موصوفة تقديراً؛ إذ التقدير : « وَصِيَّةٌ مِنَ اللهِ » أو « مِنْهُمْ » ؛ على حسب الخلاف فيها : أهي واجبةٌ من الله تعالى ، أو مندوبةٌ للأزواج؟ و « لأَزْوَاجِهِمْ » خبر المبتدأ الثاني ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول ، وفي هذه الجملة ضمير الأول ، وهذه نظير قولهم : « السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ » تقديره : « مَنَوَانِ مِنْهُ » ، وجعل ابن عطية المسوِّغ للابتداء بها كونها في موضع تخصيص؛ قال : « كما حَسُنَ أَنْ يرتفع : » سَلاَمٌ عَلَيْكَ « و » خَيْرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ « ؛ لأنها موضع دعاءٍ » قال شهاب الدين : وفيه نظرٌ .
الثاني : أن تكون « وَصِيَّةٌ » مبتدأ ، و « لأَزْوَاجِهِمْ » صفتها ، والخبر محذوفٌ ، تقديره : فعليهم وصيةٌ لأزواجهم ، والجملة خبر الأوَّل .
الثالث : أنها مرفوعة بفعل محذوفٍ ، تقديره : كتب عليهم وصيَّةٌ و « لأَزْوَاجِهِمْ » صفةٌ ، والجملة خبر الأول أيضاً؛ ويؤيِّد هذا قراءة عبدالله : « كُتِبَ عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ » وهذا من تفسير المعنى ، لا الإعراب؛ إذ ليس هذا من المواضع التي يضمر فيها الفعل .
الرابع : أن « الَّذِينَ » مبتدأٌ ، على حذف مضافٍ من الأول ، تقديره : ووصيَّةُ الذين .
الخامس : أنه كذلك إلا أنه على حذف مضافٍ من الثاني ، تقديره : « وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أَهْلُ وَصيَّةٍ » ذكر هذين الوجهين الزمخشريُّ ، قال أبو حيان : « ولا ضرورة تدعونا إلى ذلك » .
فهذه الخمسة الأولى التي على رفع « وَصِيَّةٌ » . وأمَّا الثلاثة التي على قراءة النصب في « وَصِيَّةٌ » :
فأحدها : أنه فاعل فعل محذوفٍ ، تقديره : وليوص الذين ، ويكون نصب « وَصِيَّةٌ » على المصدر .
الثاني : أنه مرفوع بفعل مبني للمفعول يتعدَّى لاثنين ، تقديره : « وأُلْزِمَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ » ويكون نصب « وَصِيَّةً » على أنها مفعولٌ ثانٍ ل « أُلْزِمَ » ، ذكره الزمخشريُّ ، وهو والذي قبله ضعيفان؛ لأنه ليس من مواضع إضمار الفعل .
الثالث : أنه مبتدأٌ ، وخبره محذوف ، وهو الناصب لوصية ، تقديره : والذين يتوفون يوصون وصيَّة ، وقدره ابن عطية : « لِيُوصُوا » و « وَصِيَّةً » منصوبةٌ على المصدر أيضاً ، وفي حرف عبدالله : « الوَصِيَّةُ » رفعاً بالابتداء ، والخبر الجارُّ بعدها ، أو مضمرٌ أي : فعليهم الوصية ، والجارُّ بعدها حالٌ ، أو خبرٌ ثانٍ ، أو بيانٌ .

قوله تعالى : { مَّتَاعاً } في نصبه سبعة أوجهٍ :
أحدها : أنَّه منصوبٌ بلفظ « وَصِيَّة » لأنها مصدرٌ منونٌ ، ولا يضرُّ تأنيثها بالتاء؛ لبنائها عليها؛ فهي كقوله : [ الطويل ]
1150- فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّضْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ
والأصل : وصية بمتاع ، ثم حذف حرف الجرِّ ، اتساعاً ، فنصب ما بعده ، وهذا إذا لم تجعل « الوصيَّة » منصوبةٌ على المصدر؛ لأن المصدر المؤكَّد لا يعمل ، وإنما يجيء ذلك حال رفعها ، أو نصبها على المفعول؛ كما تقدَّم تفصيله .
والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ ، إمَّا من لفظه ، أي : متِّعوهنَّ متاعاً ، أي : تمتيعاً ، أو من غير لفظه ، أي : جعل الله لهنَّ متاعاً .
الثالث : أنه صفةٌ لوصية .
الرابع : أنه بدل منها .
الخامس : أنه منصوبٌ بما نصبها ، أي : يوصون متاعاً ، فهو مصدر أيضاً على غير الصدر؛ ك « قَعَدْتُ جُلُوساًَ » ، هذا فيمن نصب « وَصِيَّةٌ » .
السادس : أنه حالٌ من الموصين : أي ممتَّعين أو ذوي متاعٍ .
السابع : أنه حالٌ من أزواجهم ، [ أي ] : ممتَّعاتٍ أو ذوات متاعٍ ، وهي حالٌ مقدَّرة إن كانت الوصية من الأزواج .
وقرأ أُبيٌّ : « مَتَاعٌ لأَزْوَاجِهِمْ » بدل « وَصِيَّةٌ » ، وروي عنه « فَمَتَاعٌ » ، ودخول الفاء في خبر الموصول؛ لشبهه بالشرط ، وينتصب « مَتَاعاً » في هاتين الروايتين على المصدر بهذا المصدر ، فإنه بمعنى التمتيع؛ نحو : « يُعْجِبُنِي ضَرْبٌ لَكَ ضَرْباً شَدِيداً » ، ونظيره : { قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] ، و « إِلَى الحَوْلِ » متعلِّقٌ ب « مَتَاع » أو بمحذوفٍ؛ على أنه صفة له .
قوله تعالى : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } في نصبه ستة أوجهٍ :
أحدها : أنه نعتٌ ل « مَتَاعاً » .
الثاني : أنه بدلٌ منه .
الثالث : أنه حالٌ من الزوجات ، أي : غير مخرجات .
الرابع : أنه حالٌ من الموصين ، أي : غير مخرجين .
الخامس : أنه منصوب على المصدر ، تقديره : لا إخراجاً ، قاله الأخش .
السادس : أنه على حذف حرف الجرِّ ، تقديره : من غير إخراجٍ ، قاله أبو البقاء ، قال شهاب الدين : وفيه نظر .
فصل في المراد بقوله « غير إخراج »
معنى قوله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } أي : ليس لأولياء الميِّت ووارثي المنزل؛ إخراجها ، « فَإِنْ خَرَجْنَ » أي : باختيارهن قبل الحول « فلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُم » ، أي : لا حرج على وليِّ أحدٍ وُلِّيَ ، أو حاكم ، أو غيره؛ لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولاً .
وقيل : لا جناح في قطع النّفقة عنهن ، أو لا جناح عليهنَّ في التشرُّف إلى الأزواج ، إذ قد انقطعت عنهنَّ مراقبتكم أيُّها الورثة ، ثم عليها أنها لا تتزوج قبل انقضاء العدَّة بالحول أو لا جناح في تزويجهنَّ بعد انقضاء العدّة ، لأنه قال : « بالمَعْرُوفِ » ، وهو ما يوافق الشرع .
و { والله عَزِيزٌ } صفةٌ تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحدَّ في هذه النازلة ، في إخراج المرأة ، وهي لا تريد الخروج { حَكِيمٌ } ، أي مُحْكِمٌ لما يريد من أمور عباده والله أعلم .

قوله : { فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ } هذان الجارَّان يتعلَّقان بما تعلَّق به خبر « لا » وه « عَلَيْكُمْ » من الاستقرار ، والتقدير : لا جناح مستقرٌّ عليكم فيما فعلن في أنفسهنَّ ، و « مَا » موصولةٌ اسميةٌ ، والعائد محذوف ، تقديره : فعلنه ، و « مِنْ مَعْرُوفٍ » متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من ذلك العائد المحذوف ، وتقديره : فيما فعلنه كائناً من معروفٍ .
وجاء في هذه الآية { مِن مَّعْرُوفٍ } نكرةً مجرورةً ب « مِنْ » ، وفي الآية قبلها « بِالمَعْرُوفِ » معرَّفاً مجروراً بالباء؛ لأنَّ هذه لام العهد؛ كقولك : « رَأَيْتُ رَجُلاً فَأَكْرَمْتُ الرَّجُلَ » إلاَّ أنَّ هذه ، وإن كانت متأخِّرةً في اللفظ ، فهي متقدِّمة في التنزيل ، ولذلك جعلها العلماء منسوخةً بها ، إلا عند شذوذٍ ، وتقدَّم نظائر هذه الجمل ، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيها .
فصل في سبب النزول
في هذه الآية ثلاثة أقوالٍ :
الأول : وهو اختيار جمهور المفسرين أنها منسوخةٌ ، قالوا : نزلت الآية في رجل من أهل الطائف ، يقال له : حكيم بن الحرث ، هاجر إلى المدينة ، وله أولاد ، ومعه أبواه وامرأته ، فمات ، فأنزل الله هذه الآية؛ فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم والديه ، وأولاده ميراثه ، ولم يعط امرأته شيئاً ، وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً كاملاً ، وكانت عدَّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً ، كاملاً ، وكانت عدَّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً ، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول ، وكان نفقتها وسكناها واجبةً في مال زوجها تلك السَّنة ، ما لم يخرج ، ولم يكن لها الميراث ، فإن خرجت من بيت زوجها ، سقطت نفقتها ، وكان على الرجل أن يوصي بها ، فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث ، فنسخ الله تعالى نفقة الحول بالرُّبع ، والثُّمن ، ونسخ عدَّة الحول ب « أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً » .
قال ابن الخطيب : دلَّت هذه الآية على وجوب أمرين :
أحدهما : وجوب النفقة ، والسُّكنى من مال الزَّوج ، سواءٌ قراءة « وَصِيَّةٌ ووصِيَّةً » بالرفع ، أو بالنصب .
والثاني : وجوب الاعتداد ، ثم نسخ الله تعالى هذين الحكمين ، أمّا الوصية بالنفقة ، والسكنى ، فلثبوت ميراثها بالقرآن ، والسنة ، دلَّت على أنَّه لا وصيَّة لوارثٍ ، فصار مجموع القرآن والسنَّة ناسخاً لوجوب الوصيَّة لها بالنفقة والسكنى في الحول .
أمَّا وجوب العدة في الحول ، فنسخ بقوله : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ البقرة : 234 ] .
القول الثاني : وهو قول مجاهد : أنَّ الله تعالى أنزل في عدَّة المتوفى عنها زوجها آيتين :
إحداهما : قوله { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ آية : 234 ] ، والأخرى هذه الآية؛ فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين ، فنقول : إنَّها إن لم تختر السُّكنى في دار زوجها ، والأخذ من ماله ، وتركته؛ فعدَّتها هي الحول ، قال ابن الخطيب : وتنزيل الآيتين على هذين التَّقديرين أولى؛ حتى يكون كل منهما معمولاً به ، والجمع بين الدَّليلين ، والعمل بهما أولى من اطراح أحدهما ، والعمل بالآخر .

القول الثالث : قال أبو مسلم الأصفهاني : معنى الآية : أنَّ من يتوفَّى منكم ، ويذرون أزواجاً ، وقد وصّوا وصيَّة لأزواجهم ، بنفقة الحول ، وسكنى الحول ، فإن خرجن قبل ذلك ، وخالفن وصيَّة أزواجهنَّ ، بعد أن يقمن أربعة أشهرٍ وعشراً؛ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروفٍ ، أي : نكاحٌ صحيحٌ؛ لأن إقامتهنَّ بهذه الوصيَّة غير لازمة .
قال : والسَّبب : أنَّهم كانوا في الجاهليَّة يوصون بالنَّفقة ، والسُّكنى حولاً كاملاً ، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول فبيَّن الله تعالى في هذه الآية أنَّ ذلك غير واجبٍ ، وعلى هذا التَّقدير ، فالنَّسخ زائلٌ ، واحتجَّ على ذلك بوجوهٍ :
أحدها : أنَّ النَّسخ خلاف الأصل؛ فوجب المصير إلى عدمه ، بقدر الإمكان .
الثاني : أنَّ النَّاسخ يكون متأخِّراً عن المنسوخ في النُّزول ، وإذا كان متأخِّراً عنه في النُّزول ، يجب أن يكون متأخِّراً عنه في التِّلاوة ، وهو إن كان جائزاً في الجملة إلاَّ أنَّ قولنا يعدّ من سوء التَّرتيب ، وتنزيه كلام الله واجبٌ بقدر الإمكان ، ولمَّا كانت هذه الآية متأخِّرةً عن تلك في التِّلاوة؛ كان الأولى ألاّ يحكم بكوها منسوخةً بتلك .
الثالث : أنَّه ثبت عند الأصوليِّين متى وقع التَّعارض بين التَّخصيص ، والنَّسخ ، كان النَّسخ أولى ، وها هنا إن خصَّصنا هاتين الآيتين بحالتين على ما هو قول مجاهد؛ اندفع النَّسخ ، فكان قول مجاهد أولى من التزام النَّسخ من غير دليلٍ ، وأمَّا على قول أبي مسلم ، فيكون أظهر؛ لأنكم تقولون : تقدير الآية : فعليهم وصيَّةٌ لأزواجهم ، أو تقديرها :
فليوصوا وصيَّةً ، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى ، وأبو مسلم يقول : بل تقدير الآية : والذين يتوفون منكم ، ولهم وصيَّةٌ لأزواجهم ، أو تقديرها : وقد أوصوا وصيَّةً لأزواجهم فهو يضيف هذا الكلام إلى الزَّوج ، وإذا كان لا بدَّ من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضمارنا ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكره أبو مسلمٍ؛ لم يلزم تطرُّق النَّسخ إلى الآية ، فيكون أولى .
وإذا ثبت هذا فنقول : الآية من أولها إلى آخرها ، تكون جملةً واحدةً شرطيَّةً ، فالشَّرط هو قوله : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فهذا كلُّه شرطٌ والجزاء هو قوله : { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } فهذا تقرير قول أبي مسلمٍ .
قال ابن الخطيب : وهو ف ي غاية الصِّحَّة ، وعلى تقدير باقي المفسِّرين ، فالمعنى : والذين يتوفَّون منك أيُّها الرِّجال ، ويذرون زوجاتٍ فليوصوا وصيَّةٌ ، وكتب عليكم الوصيَّة بأن تمتِّعوهنَّ متاعاً ، أي : نفقة سنةٍ لطعامها ، وكسوتها ، وسكناها ، غير مخرجين لهن ، فإن خرجن من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة ، فلا جناح عليكم يا أولياء الميِّت ، فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف ، يعني : التَّزين للنِّكاح ، ولرفع الجناح عن الرِّجال ، وجهان :
أحدهما : لا جناح عليكم في ترك منعهنّ من الخروج؛ لأنَّ مقامها في بيت زوجها حولاً ، غير واجبٍ عليها ، فخيَّرها الله تعالى بين : أن تقيم حولاً ، ولها النَّفقة والسُّكنى ، وبين أن تخرج إلى أن نسخت بأربعة أشهر وعشراً .

فإن قيل : إن الله تعالى ذكر الوفاة ، ثم أمرنا بالوصيَّة ، فكيف يوصي المتوفى؟!
فالجواب أنَّ معناه : والذين يقارون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا ، فجعل المقاربة للوفاة عبارة عنها .
وقيل : إنّ هذه الوصيّة يجوز أن تكون مضافةً إلى الله تعالى ، بمعنى : « أمره ، وتكليفه » ، كأنَّه قيل : وصيّة من الله لأزواجهم ، كقوله : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] .
فصل
المعتدَّة من فرقة الوفاة ، لا نفقة لها ، ولا كسوة حاملاً كانت ، أو حائلاً .
وروي عن عليٍّ ، وابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ لها النَّفقة إذا كانت حاملاً ، وعن جابر ، وابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنهما قالا : لا نفقة لها ، حسبها الميراث ، وهل تستحقُّ السُّكنى؟ قال عليٌّ ، وابن عباس ، وعائشة - رضي الله عنهم - : لا تستحقُّ السُّكنى ، وهذا مذهب أبي حنيفة والمزنيّ .
وقال عمر ، وابن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وأمُّ سلمة : إنها تستحقُّ السُّكنى ، وبه قال مالك ، والثَّوريُّ ، وأحمد .
واحتجَّ كلٌّ من الطائفتين بخبر فريعة بنت مالك ، أخت أبي سعيدٍ الخدريِّ ، قتل زوجها؛ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّي أرجع إلى أهلي ، فإنَّ زوجي ما تركني في منزل يملكه؛ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « نَعَمْ » ، فانصرفت حتى إذا كنت في المسجد ، أو في الحجرة دعاني فقال : « امْكُثِي في بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ » ، فاختلفوا في تنزيل هذا الحديث .
فقيل : لم يوجب في الابتداء ، ثمَّ أوجب؛ فصار الأوَّل منسوخاً .
وقيل : أمرها بالمكث في بيتها أجراً على سبيل الاستحباب ، لا على سبيل الوجوب .
واحتجَّ المزنيُّ على أنَّه لا سكنى لها فقال : أجمعنا على أنَّه لا نفقة لها؛ لأنَّ الملك انقطع بالموت ، فكذلك السُّكنى بدليل : أنهم أجمعوا على أنَّ من وجب له نفقةً ، وسكنى عن ولد ووالد على رجلٍ؛ فمات؛ انقطعت نفقتهم ، وسكناهم؛ لأنّ ماله صار ملكاً للوارث ، فكذا ها هنا .
وأجيب بأنَّه لا يمكن قياس السُّكنى على النفقة؛ لأنَّ المطلقة ثلاثاً تستحقُّ السُّكنى بكلِّ حالٍ ، ولا تستحقُّ النَّفقة لنفسها عند المزنيّ . ولأن النَّفقة وجبت في مقابلة التَّمكين من الاستمتاع ، ولا يمكن ها هنا ، وأمَّا السُّكنى وجبت لتحصين النساء ، وهو موجودٌ ها هنا فافترقا .

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

إنَّما أعاد ذكر المتعة ها هنا؛ لزيادة معنًى؛ وذلك أنَّ في غيرها بيان حكم غير الممسوسة ، وفي هذه الآية : بيان حكم جميع المطلّقات في المتعة .
وقيل : لأنَّه لما نزل قوله تعالى : { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ } [ البقرة : 236 ] ، إلى قوله : { حَقّاً عَلَى المحسنين } [ البقرة : 236 ] قال رجلٌ من المسلمين : إن أردت؛ فعلت ، وإن لم أرد ذلك لم أفعل فقال الله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف } جعل المتعة لهن بلام الملك ، وقال : { حَقّاً عَلَى المتقين } يعنى المؤمنين المتَّقين الشِّرك .
وقيل : المراد بهذه المتعة : النَّفقة ، والنَّفقة قد تسمَّى متاعاً ، فاندفع التَّكرار .
واعلم أنَّ القائل بوجوب المتعة لكلِّ المطلقات : هو سعيد بن جبير ، وأبو العالية والزُّهريّ .
وقال الشَّافعيُّ : لكلّ مطلقة إلاّ المطلقة التي فرض لها المهر ، ولم يوجد في حقّها المسيس .
قال أبو حنيفة : لا تجب المتعة إلاَّ للمطلَّقة التي لم يفرض لها ، ولم يوجد المسيس .
وقول الله تعالى في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } [ الأحزاب : 28 ] محمولٌ على أنَّه تطوُّع من النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لا على سبيل الوجوب .
وقوله : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ } [ الأحزاب : 49 ] محمولٌ على غير المفروض لها أيضاً .
قال القرطبيُّ : وأوجب الشَّافعيُّ المتعة للمختلعة ، والمبارئة ، وقال أصحاب مالك : كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطى ، فكيف تأخذ متاعاً ، لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة ، أو مفتدية ، أو مبارئة ، أو مصالحة ، أو ملاعنة ، أو معتقة تختار الفراق ، دخل بها أم لا ، سمى لها صداقاً أم لا؛ وقد تقدَّم ذلك ، ثم قال : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)

اعلم أنَّ عادته تعالى : أن يذكر القصص بعد بيان الأحكام ليفيد الاعتبار للسَّامع .
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين } : هذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النَّفي ، فصيَّرت النَّفي تقريراً ، وكذا كلُّ استفهام دخل على نفي نحو : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] فيمكن أن يكون المخاطب علم هذه القصّة قبل نزول هذه الآية ، فيكون التَّقرير ظاهراً ، أي : قد رأيت حال هؤلاء ، كقول الرَّجل لغيره يريد تعريفه ابتداء : « ألم تر إلى ما جرى على فلان؟ » .
قال القرطبيُّ : والمعنى عند سيبويه : تنبُّه إلى أمر الذين ، ولا تحتاج هذه الرواية إلى مفعولين والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل سامع ، إلاَّ أنَّه قد وقع الخطاب معه ابتداءً كقوله : { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء } [ الطلاق : 1 ] ويجوز أن يكون المراد بهذا الاستفهام : التعجب من حال هؤلاء ، وأكثر ما يرد كذلك : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً } [ المجادلة : 14 ] { أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل } [ الفرقان : 45 ] ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
1151- أَلَمْ تَرَ أَنِّي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقاً ... وَجَدْتُ بِهَا طِيباً وإنْ لَمْ تَطَيَّبِ
والرُّؤية هنا علميَّة ، فكان من حقِّها أن تتعدَّى لاثنين ، ولكنَّها ضمِّنت معنى ما يتعدَّى بإلى .
والمعنى : ألم ينته علمك إلى كذا . وقال الرَّاغب : « رأيت : يتعدَّى بنفسه دون الجارِّ ، لكن لما استعير قولهم : » ألم تَرَ « بمعنى ألم تنظر؛ عدِّي تعديته ، وقلَّما يستعمل ذلك في غير التقدير ، لا يقال : رأيت إلى كذا » .
وقرأ السُّلمي : « تَرْ » بسكون الرَّاء ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنه توهَّم أنَّ الراء لام الكلمة ، فسكَّنها للجزم؛ كقوله : [ الرجز ]
1152- قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا ... وَاشْتَرْ فَعَجِّلْ خَادِماً لَبِيقَا
وقيل : هي لغة قومٍ ، لم يكتفوا في الجزم بحذف حرف العلَّة .
والثاني : أنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، وهذا أولى ، فإنَّه كثيرٌ في القرآن؛ نحو : « الظُّنُونَا » ، و « الرَّسُولاَ » ، و « السَّبِيلاَ » ، و « لَمْ يَتَسَنَّهُ » ، و « بِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ » وقوله : « وَنُصْلِهِ » ، و « نُؤْتِهِ » ، و « يُؤَدِّه » ، وسيأتي ذلك ، إن شاء الله تعالى .
قوله : { وَهُمْ أُلُوفٌ } مبتدأٌ وخبرٌ ، وهذه الجملة في [ موضع ] نصب على الحال ، وهذا أحسن مجيئها ، إذ قد جمع فيها بين الواو والضمير ، و « أُلوفٌ » فيه قولان :
أظهرهما : أنه جمع « ألْف » لهذا العدد الخاصِّ ، وهو جمع الكثرة ، وجمع القلّة : آلاف كحمول ، وأحمال .
والثاني : أنه جمع « آلِف » على فاعل كشاهدٍ وشهود ، وقاعدٍ وقُعودٍ ، أي : خرجوا وهم مؤتلفون ، قال الزَّمخشريُّ : « وهذا من بِدَع التَّفاسير » .
قوله تعالى : { حَذَرَ الموت } أي من خوف الموت وهو مفعولٌ من أجله ، وفيه شروط النَّصب ، أعني المصدرية ، واتحاد الفاعل ، والزمان .

قوله : { ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوفٌ على معنى : فقال لهم الله : موتوا ، لأنَّه أمرٌ في معنى الخبر تقديره : فأماتهم الله ثم أحياهم .
والثاني : أنه معطوفٌ على محذوفٍ ، تقديره : فماتوا ثم أحياهم بعد موتهم ، و « ثم » تقتضي تراخي الإحياء عن الإماتة . وألف « أَحْيَا » عن ياء؛ لأنَّه من « حَيِيَ » ، وقد تقدَّم تصريف هذه المادّة عند قوله : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } [ البقرة : 26 ] .
فصل
قال السُّدِّيُّ وأكثر المفسرين : « كانت قرية يقال لها : » دَاوْردَان « قيل واسط ، وقع بها الطَّاعون ، فخرج عامَّة أهلها ، وبقيت طائفةٌ ، فهلك أكثر الباقين وبقي منهم بقيَّةٌ في المرض والبلاء ، فلما ارتفع الطَّاعون؛ رجع الَّذين هربوا سالمين فقال من بَقِيَ من المرضى : هؤلاء أحزم منّا ، لو صنعنا كما صنعوا لنجونا ، ولئن وقع الطَّاعون ثانيةً لنخرجنّ إلى أرض لا وباء فيها ، فوقع الطاعون من قابِلٍ؛ فهرب عامَّة أهلها ، وهم بضعةٌ وثلاثون ألفاً؛ حتى نزلوا وادياً أفيح فلمّا نزلوا المكان الذين يبتغون فيه النَّجاة ، ناداهم ملك من أسفل الوادي ، وآخر من أعلاه : » أنْ مُوتُوا « فماتوا جميعاً وبليت أجسامهم ، فمرَّ بهم نبيٌّ يقال له : » حِزْقِيل بن يوذي « : ثالث خلفاء بني إسرائيل ، بعد موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، وذلك أن القيم بعد موسى بأمر بني إسرائيل يُوشَعُ بْنُ نُون ثم كالب بن يوفنا ، ثم حزقيل ، وكان يقال له : ابن العجوز؛ لأنَّه أمَّه كانت عجوزاً ، فسألت الله الولد بعدما كبرت ، وعقمت ، فوهبه الله لها » .
قال الحسن ، ومقاتل : هو ذو الكفل ، وسمِّي : ذا الكفل؛ لأنَّه تكفَّل بسبعين نبيّاً ، وأنجاهم من القتل ، فلمَّا مرَّ حزقيل على أولئك الموتى ، وقف متفكّراً فيهم متعجِّباً ، فأوحى الله إليه أتريد أن أُريك آيةً؟ قال : نعم ، فقيل له : نادِ! يَا أَيُّهَا العِظَامُ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكِ أن تَجْتَمِعِي ، فجعلتِ العِظَامُ يَطِيرُ بعضها إلى بعض ، حتى تمّت العِظَامُ ، ثم أوحى اللهُ إليه ثانياً أن ينادي : يا أيَّتُها العِظَامُ؛ إنَّ اللهَ يأمرك أنَّ تَكْتَسِي لحماً ودماً ، ثم نادي : إنَّ اللهَ يأمرك أن تَقُومي؛ فقامت ، فلمَّا صاروا أحياءً قاموا ، وكانوا يقولون : « سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ » ثم رجعوا إلى قريتهم ، بعد حياتهم ، وكانت أمارات موتهم ظاهرةً في وجوههم ، ثمَّ بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم .
روى عبدالله بن عامر بن ربيعة أنَّ عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - : خرج إلى الشَّام ، فلمَّا جاء « سَرْغَ » بلغه أنَّ الوباء قد وقع بالشَّام؛ فأخبره عبد الرحمن بن عوف : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

« إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلاَ تَقْدُمُوا عَلَيْهِ ، وإذا وَقَعَ بِأَرْضٍ وأَنْتُمْ بِهَا؛ فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً » ؛ فرجع عمر من « سرغ » .
وقال ابن عبَّاس ، والكلبيُّ ومقاتل والضَّحَّاك : إنَّ ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال؛ فخافوا القتال ، وجبنوا ، وكرهوا الموت ، فاعتلُّوا ، وقالوا لملكهم : إنَّ الأرض التي تذهب إليها بها الوباء ، فلا نأتيها حتى يزول ذلك الوباء منها؛ فأرسل الله عليهم الموت؛ فخرجوا من ديارهم فراراً من الموت ، فلما رأى الملك ذلك قال : اللَّهمّ ربّ يعقوب ، وإله موسى ، وهارون قد ترى معصية عبادك ، فأرهم آيةً في أنفسهم ، حتى يعلموا أنَّهم لا يستطيعون الفرار منك ، فلمَّا خرجوا قال لهم الله « مُوتُوا » ، فماتوا جميعاً ، وماتت دوابهم كموت رجل واحدٍ ، وبقوا ثمانية أيَّام ، حتَّى انتفخوا وأروحت أجسادهم ، وبلغ بني إسرائيل موتهم ، فخرجوا لدفنهم؛ فعجزوا لكثرتهم ، فحظروا عليهم حظائر دون السِّباع ، فأحياهم الله بعد الثمانية أيَّام ، وبقي فيهم شيءٌ من ذلك النتن ، وفي أولادهم إلى هذا اليوم .
واحتجُّوا على هذه الرِّواية بقوله عقيب ذلك : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ البقرة : 244 ] وقال مقاتل والكلبي كانوا قوم حزقيل ، أحياهم الله تعالى بعد ثمانية أيَّام ، وذلك أنه لمَّا أصابهم ذلك ، خرج حزقيل في طلبهم ، فوجدهم موتى؛ فبكى وقال : « يا ربِّ؛ كُنْتُ من قومٍ يحمدونَكَ ويسبِّحُونَكَ ويقدِّسُونَكَ ، ويكبِّرُونَكَ ، ويهللونَكَ؛ فبقيت واحداً لا قوم لي » ؛ فأوحى الله إليه : إنِّي جعلت حياتهم إليك ، فقال حزقيل : احيوا بإذن الله تعالى؛ فعاشوا .
قال مجاهدٌ : إنهم قالوا حين أُحيوا : سبحانك ربنا ، وبحمدك لا إله إلاّ أنت ، فرجعوا إلى قومهم ، وعاشوا دهراً طويلاً وسحنة الموت على وجوههم ، لا يلبسون ثوباً إلاَّ عاد دنساً مثل الكفن ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتب لهم .
قال ابن عباس : إنَّها لتوجد اليوم في ذلك السِّبط من اليهود تلك الرِّيح .
قال الحسن : أماتهم الله قبل آجالهم عُقُوبَةً لهم ، ثم بعثهم إلى بقيَّة آجالهم .
قال ابن العربيّ : أماتهم الله عقوبة لهم ، ثم أحياهم ، وميتة العقوبة بعدها حياةٌ ، وميتة الأجل لا حياة بعدها .
قوله تعالى : { فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ } .
قال ابن الخطيب : قيل : هو من قوله : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] والمراد سرعة وقوع المراد ، ولا قول هناك .
وقيل : أمر الرَّسول أن يقول لهم : « مُوتُوا » أو الملك ، والأوَّل أقرب .
قوله تعالى : { ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } يقتضي أنهم أُحيوا بعد موتهم ، وذلك ممكنٌ ، وقد أخبر الصَّادق به؛ فوجب القطع .
وقالت المعتزلة : إحياء الميِّت فعلٌ خارق للعَادَةِ ، ولا يجوز إظهاره إلا معجزة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .
قال ابن الخطيب : وأصحابنا يجوّزون خرق العادة كرامةً للأولياء ، ولغير ذلك .
قالت المعتزلة : وهذا الإحياء ، وقع في زمن حزقيل ببركة دعائه . وها هنا بحثٌ وهو أنَّه قد ثبت بالدَّليل أن المعارف تصير ضروريّة عند القرب من الموت ومعاينة الأهوال والشدائد ، فهؤلاء إن كانوا عاينوا تلك الأهوال الموجبة للعلم الضَّروريِّ؛ وجب إذا عاشوا أن يبقوا ذاكرين لذلك؛ لأن الأشياء العظيمة لا تنسى مع كمال العقل؛ لتبقى لهم تلك العلوم ، ومع بقائها يمتنع التَّكليف كما في الآخرة ، ولا مانع يمنع من بقائهم غير مكلَّفين وإن كان جاءهم الموت بغتةً ، كالنَّوم ولم يعاينوا شدَّةَ ، ولا هولاً ، فذلك أيضاً ممكن .

وقال قتادة : إنَّما أحيوا ليستوفوا بقيَّة آجالهم .
فصل
واختلفوا في عدّتهم .
قال الواحديُّ - رحمه الله - : لم يكنوا دون ثلاثة آلاف ، ولا فوق سبعين ألفاً .
والوجه من حيث اللَّفظ : أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف؛ لأنَّ الألوف جمع الكثرة ، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف ، وقيل : إنَّ الألوف جمع ألفٍ ، كقعودٍ وقاعدٍ ، وجلوسٍ ، وجالسٍ ، والمعنى : أنَّهم كانوا مؤتلفي القلوب .
قال القاضي : والوجه الأوَّل أولى؛ لأنَّ ورود الموت عليهم دفعةً واحدةً ، وهم كثرةٌ عظيمةٌ ، تفيد مزيد اعتبار بحالهم؛ لأنَّ موت الجمع العظيم دفعةً واحدةً لا يتَّفق وقوعه ، وأمَّا ورود الموت على قوم تآلفوا حب الحياة ، وبينهم ائتلافٌ ومحبةٌ كوروده وبينهم اختلاف ، فوجه الاعتبار لا يتغيَّر .
قال ابن الخطيب : ويمكن أن يجاب بأنَّ المراد كون كلّ واحد منهم آلفاً لحياته ، محباً لهذه الدُّنيا ، فرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] ، ثم إنهم مع غاية حبِّهم للحياة وألُفهم بها أماتهم الله تعالى ، وأهلكهم ليعلم أنّ حرص الإنسان على الحياة ، لا يعصمه من الموت ، فهذا القول ليس ببعيدٍ .
فصل
قال القرطبيُّ : الطَّاعون وزنه فاعول من الطَّعن ، غير أنَّه لما عدل به عن أصله؛ وضع دالاً على الموت العام بالوباء . قاله الجوهريُّ . وردت عائشة - رضي الله عنها - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ » قالت : الطَّعن قد عرفناه فما الطَّاعون ، قال : « غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعِيرِ تَخْرُجُ في المراقِّ والآبَاطِ » قال العلماء : وهذا الوباء يرسله الله نقمة ، وعقوبة على من يشاء من عصاة عبيده ، وكفرتهم ، وقد يرسله الله شهادة ، ورحمة للصَّالحين ، كقول معاذٍ في طاعون عمواس : إنَّه شهادةٌ ورحمةٌ لكم ، ودعوة نبيكم ، وهي قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « اللَّهُمَّ أَعْطِ مُعَاذاً وَأَهْلَهُ نَصِيبَهُم مِنْ رَحْمَتِكَ » ، فَطُعِنَ في كَفِّهِ - رضي الله عنه - .
فصل
وروى البخاريُّ : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين ذكره الوباء : « إنَّه رجزٌ ، أو عذابٌ عذِّب به بعض الأمم ، ثمَّ بقي منه بقيَّةٌ ، فيذهب المرَّة ، ويأتي الأخرى ، فمن سمع به بأرضٍ ، فلا يقدمنَّ عليه ، ومن كان بأرضٍ وقع بها ، فلا يخرج فراراً منه » وعمل عمر - رضي الله عنه - بمقتضى هذا الحديث لمَّا رجعوا من « سَرْغ » حين أخبرهم ابن عوف بهذا الحديث .

وقالت عائشة - رضي الله عنها - « الفَارُّ مِنَ الوَبَاءِ كالفَارِّ مَنَ الزَّحْفِ » .
قال الطَّبريُّ : يجب على المرء توقّي المكاره قيل نزولها ، وتجنُّب الأشياء المخيفة قبل هجومها ، وكذلك كلّ متَّقًى من غوائل الأمور ، سبيله إلى ذلك سبيل الطَّاعون ، ونظيره قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « لاَ تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا » ، ولما خرج عمر - رضي الله عنه - مع أبي عبيدة إلى الشَّام فسمع عمر أنَّ الوباء بها فرجع ، فقال له أبو عبيدة : أفراراً من قدر الله ، فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! نعم نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله ، والمعنى لا محيص للإنسان عمَّا قدَّره الله عليه ، لكن أمرنا الله من التَّتحرُّز من المخاوف ، والمهلكات ، وباستفراغ الوسع في التَّوقِّي من المكروهات ، ثمَّ قال له : أرأيت لو كانت لك إبل ، فهبطت وادياً له عدوتان ، إحداهما خصبةٌ والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة ، رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة .
قوله : { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } .
أَتَى بهذه الجملة مؤكَّدة ب « إِنْ » واللام ، وأتى بخبرٍ « إِنَّ » : « ذو » الدَّالة على الشَّرفِ بخلافِ « صاحبِ » ، و « عَلَى النَّاسِ » متعلقٌ بفَضْل تقول : تَفَضَّل فلان عليَّ ، أو بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ له فَهُوَ في محلّ جرٍّ ، أي : فضلٍ كائنٍ على النَّاسِ . وأل في النَّاسِ لِلْعمُوم . والمعنى أَنَّ هذه القِصَّة تشجع الإِنسان على الإِقدام على طاعة الله تعالى ، وتزيل على قَلبه الخَوفَ ، فكان ذِكْرُ هذه القِصَّة سبباً لبعد العبد عن المعصية ، وقربه من الطَّاعةِ ، فكان ذِكرُ هذه القصَّةِ فضلاً وإحساناً من اللهِ على عبدهِ وقيل للعهدِ والمُرادُ بهم : الَّذشين أَمَاتَهُم لأنهم خرجُوا من الدُّنيا على المعصيةِ ، ثم أعادهُم إلى الدُّنيا؛ حتى تَابُوا .
وقيل : المُرادُ بالعَهدِ أَنَّ العرب الذين كانُوا منكرين للمعاد؛ كانوا مُتمسكين بقول اليهُود في كثير من الأُمور إذا سمِعُوا بهذه الواقعة ، فالظَّاهِرُ أَنَّهُم يرجعون من الدين الباطل الَّذِي هو الإِنكارُ إلى الدِّين الحَقّ ، وهو الإِقرار بالبعث ، فيتخلَّصُون مِنَ العقاب ، وكان ذكر هذه القصَّة؛ فضلاً من الله في حقّ هؤلاء .
قوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس } هذا استدراكٌ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قوله { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } ؛ لأنَّ تقديره : فيجب عليهم أَنْ يَشْكُروه لتفضُّلِهِ عليهم بالإِيجادِ ، والرَّزْق ، ولكنَّ أكثرَهم غيرُ شاكرٍ . وهو كقوله : { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً } [ الإسراء : 89 ] .

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)

قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا } هذه الجملة فيها أقوالٌ :
أحدها : أنه عطفٌ على قوله : « مُوتُوا » وهو أمرٌ لِمَنْ أَحياهُم اللهُ بعد الإِماتةِ بالجهاد ، [ أي ] فقال لهم : مُوتوا وقاتِلوا ، رُوي ذلك عن ابن عبَّاسٍ ، والضَّحاك . قال الطَّبريِّ : « ولا وجهَ لهذا القَوْلِ » .
والثاني : [ أنها معطوفةٌ على قوله : « حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ » وما بينهما اعتراضٌ .
والثالث ] : أَنَّها معطوفةٌ على محذوفٍ تقديره : « فَأَطِيعُوا وَقَاتلوا ، أو فلا تَحْذَروا الموتَ كما حَذِرَهُ الذين مِنْ قَبْلكُم ، فلم يَنْفَعهم الحذرُ ، قاله أبو البقاء .
والظَّاهر أنَّ هذا أمرٌ لهذه الأمةِ بالجهاد ، بعد ذكره قوماً لم ينفعهم الحذرُ من المَوتِ ، فهو تشجيعٌ لهم ، فيكونُ من عطفِ الجملِ؛ فلا يُشْتَرَطُ التوافقُ في أمرٍ ولا غيره .
قوله : { فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فالسَّبيلُ : هو الطَّريق ، وسمِّيتُ العباداتُ سبيلاً إلى اللهِ مِن حيثُ إِنَّ الإنسان بسلوكها يتوصَّلُ إلى ثوابِ اللهِ .
قال القرطبي : وهذا قول الجمهور : وهو الَّذِي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العُليا ، وسُبُلُ الله كثيرةٌ ، فهي عامَّةٌ فِي كُلِّ سبيل . قال تعالى : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] قال مالكٌ : سبل الله كثيرة ، وما مِنْ سبيلٍ إِلاَّ يقاتل عليها أو فيها أو لها ، وأعظمها دينُ الإسلامِ ، فلا جرم كان المُجاهِدُ مُقاتِلاً في سبيلِ اللهِ . ثُمَّ قال : { واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أَي : يسمعُ كلامكم في ترغيب الغير في الجهاد ، أو في ترعيب الغيرِ عنه ، و » عليمٌ « بما في ضمائركُم من البواعثِ ، والأَعراضِ : أَنَّ ذلك الجهاد لغرض الدِّينِ ، أو لغرض الدُّنيَا .

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

« مَّن » للاستفهام ومحلُّها الرَّفع على الابتداءِ ، و « ذا » اسمُ إشارةٍ خبرُهُ ، و « الذي » وصلتُهُ نعتٌ لاسم الإِشارةِ ، أو بدلٌ منه ، ويجوزُ أن يكونَ « مَنْ ذا » كلُّه بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ تركَّبا كقولك : « مَاذَا صَنَعْتَ » كما تقدَّمَ في قوله : { مَاذَآ أَرَادَ الله } [ البقرة : 26 ] . ومَنَع أبو البقاء هذا الوجه وفرَّق بينه وبين قولِكَ : « ماذا » حيثُ يُجْعَلان اسماً واحداً بأنَّ « ما » أشدُّ إيهاماً مِنْ « مَنْ » ؛ لأنَّ « مَنْ » لمَنْ يعقِلُ . ولا معنى لهذا المنعِ بهذه العلةِ ، والنحويون نَصُّوا على أنَّ حكمَ « مَنْ ذا » حكمُ « ماذا » .
ويجوز أن يكونَ « ذا » بمعنى الّذي ، وفيه حينئذٍ تأويلان :
أحدهما : أنَّ « الَّذِي » الثاني تأكيدٌ له؛ لأنَّه بمعناه ، كأَنَّهُ قيل : مَنِ الَّذِي يُقرِضُ الله قرضاً .
والثاني : أَنْ يكونَ « الذي » خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، والجملةُ صلةُ ذا ، تقديرُه : « مَنْ الذي [ هو الّذي ] يُقْرِضُ ، وذا وصلتهُ خبرُ » مَنِ « الاستفهاميّة . أجاز هذين الوجهين ابن مالك ، قال شهاب الدين وهما ضعيفان ، والوجهُ ما قدَّمتُهُ .
وانتصَبَ » قَرْضاً « على المصدر على حذفِ الزَّوائِد ، إِذ المعنى : إقراضاً كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ، وعلى هذا فالمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُهُ : » يُقْرِضُ اللهَ مالاً وصدقةً « ، ولا بدَّ من حذفِ مُضَافٍ تقديرهُ : يقرضُ عِبادَ اللهِ المحاويجَ ، لتعاليه عن ذلك ، أو يكونُ على سبيل التَّجُّوزِ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى المفعول نحو : الخَلْق بمعنى المخلُوق ، وانتصابُهُ حينئذٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ ل » يُقْرِض « .
قال الواحديُّ : والقَرْضُ في هذه الآيةِ اسمٌ لا مصدر ، ولو كان مصدراً؛ لكان إقراضاً . و » حَسَناً « يجوزث أَن يكونَ صفةً لقرضاً بالمعنيينِ المذكورين ، ويجوزُ أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ ، إذا جعلنا » قَرْضاً « بمعنى مفعول أي : إقراضاً حسناً .
قوله : » فَيُضَاعِفَهُ « قرأ عاصمٌ وابن عامر هنا ، وفي الحديد بنصب الفاء ، إلاَّ أنَّ ابنَ عامر وعاصماً ويعقوب يشدِّدون العينَ من غير ألفٍ وبابه التشديد وقرأ أبو عمرو في الأحزاب والباقون برفعِها ، إلاَّ أنَّ ابن كثير يشدِّد العينَ من غير ألفٍ؛ فحصَلَ فيها أربعُ قراءتٍ .
أحدها : قرأ أبو عمرو ونافع ، وحمزة ، والكسائيُّ فيضاعفُهُ بالألف ورفع الفاء .
والثانية : قراءة عاصم » فيضاعفه « بالألف ونصب الفاء .
والثالثة : قرأ ابن كثير : » فَيُضَعِّفُهُ « بالتَّشديد ، ورفع الفاءِ .
والرابعة : قرأ ابن عامرٍ فيضعِّفَه بالتَّشْديد ، ونصب الفاء . فالرَّفْعُ من وجهين :
أحدهما : أنَّهُ عطفٌ على » يقرض « الصِّلةِ .
والثاني : أَنَّهُ رفعٌ على الاستئناف أي : فهو يُضاعِفُهُ ، والأولُ أحسنُ لعدَمِ الإِضمارِ .

والنصبُ من وجهين :
أحدهما : أنَّهُ منصوبٌ بإضمارٍ « أَنْ » عطفاً على المصدر المفهوم من « يقرضُ » في المعنى ، فيكونُ مصدراً معطوفاً على مصدرٍ تقديرُهُ : مَنْ ذا الذي يكونُ منه إقراضٌ فمضاعفةٌ مِنَ اللهِ تعالى كقوله : [ الوافر ]
1153- لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
والثاني : أنه نصبٌ على جوابِ الاستفهام في المعنى؛ لأَنَّ الاستفهام وإِنْ وَقَعَ عن المُقْرِضِ لفظاً ، فهو عن الإِقراضِ معنى كأنه قال : أيقرضُ اللهَ أَحَدٌ فيضاعفَه .
قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكونَ جوابَ الاستفهام على اللفظ؛ لأنَّ المُسْتَفْهَمَ عنه في اللَّفْظِ المُقرِضُ أي الفاعلُ للقَرْضِ ، لا عن القَرْضِ ، أي : الذي هو الفِعْلُ » وقد مَنَع بعضُ النَّحويّين النَّصبَ بعد الفاء في جواب الاستفهام الواقع عن المسندِ إليه الحكمُ لا عن الحُكم ، وهو مَحْجوجٌ بهذه الآيةِ وغيرها ، كقوله : « مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي؛ فأغفرَ له ، مَنْ يَدْعُونِي؛ فأَسْتَجِيبَ له » بالنصبِ فيهما .
قال أبو البقاء : فإنْ قيلَ : لِمَ لاَ يُعْطَفُ [ الفعل على ] المصدرِ الذي هو « قرضاً » كما يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ بإضمار « أَنْ » كقولِ الشاعر [ الوافر ]
1154- لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي .. .
قيل : هذا لا يصحُّ لوجهين :
أحدهما : أنَّ « قرضاً » هنا مصدرٌ مؤكِّدٌ ، والمصدرُ المُؤكِّدِ لا يُقَدَّرُ ب « أَنْ » والفعلِ .
والثاني : أنَّ عطفَهُ عليه يُوجبُ أن يكونَ معمولاً ليقرضُ ، ولا يصِحُّ هذا في المعنى؛ لأَنَّ المضاعفةَ ليستُ مُقْرِضَةً ، وإِنَّما هي فعلُ اللهِ تعالى ، وتعليله في الوجهِ الأولِ يُؤذِنُ بأنه يُشترط في النصبِ أنْ يُعْطَفَ على مصدرس يتقدَّر ب « أَنْ » والفعلِ ، وهذا ليس بشرطٍ؛ بل يجوزُ ذلك وإن كان الاسمُ المعطوفُ عليه غيرَ مصدرٍ؛ كقوله : [ الطويل ]
1155- وَلَوْلاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أَعِزَّةٍ ... وآلُ سُبَيْعٍ أَوْ أَسُوءَكَ عَلْقَمَا
ف « أَسُوءَكَ » منصوبٌ ب « أَنْ » ؛ عطفاً على « رِجَالٌ » ، فالوجهُ في مَنْعِ ذلك أنْ يُقال : لو عُطفَ على « قرضاً » ؛ لشاركه في عامِلِه ، وهو « يُقْرض » فيصيرُ التَّقْدِيرُ : مَنْ ذا الذي يَقْرِضُ مضاعفةً ، وهذا ليسَ صحيحاً معنى .
وقد تقدَّم أَنَّه قرئ « يُضاعِفُ » ، و « يُضَعِّفُ » فقيل : هما بمعنى ، وتكونُ المفاعلَةُ بمعنى فَعَل المجرد ، نحو عاقَبْت ، وقيل : بل هما مختلفان ، فقيل : إنَّ المضعَّفَ للتكثير .
وقيل : إنَّ « يُضَعِّف » لِما جُعِلَ مثلين ، و « ضاعَفَه » لِما زيد عليه أكثرُ من ذلك .
والقَرْضُ : القَطْعُ ، ومنه : « المِقْرَاضُ » لِمَا يُقْطَع به وانقطع القوم هلكوا وانقطع أثرهم وقيل للقَرْض « قرض » ؛ لأنه قَطْعُ شيءٍ من المالِ ، وهذا أصلُ الاشتقاقِ ، ثم اختلف أهل العِلْمِ في « القَرْض » فقيل : هو اسمٌ لكلِّ ما يُلْتَمَسُ الجزاءُ حَسَناً كان أو سيئاً « ، تقول العرب : لك عندي قرضٌ حسنٌ وسيّئ ، والمرادُ منه الفعل الذي يجازى عليه .

قال أَميَّة بن الصَّلت : [ البسيط ]
1156- كُلُّ امْرِىءٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرْضَهُ حَسَناً ... أَوْ سَيِّئاً وَمَدِيناً مِثْلٌ ما دَانَا
واختلفوا في أَنَّ إِطلاق لفظ القَرْضِ على هذا ، هل هو حقيقة أو مجازٌ .
قال الزَّجَّاج : هو حقيقةٌ ، واستدلَّ بما ذكرناه ، وقيل : مجازٌ ، لأَنَّ القَرْضَ : هو أَنْ يعطي الإنسان ليرجع إليه مثله وهنا إِنَّما ينفق ليرجع إِلَيه بدله ، و « القِرض » بالكَسْرِ - لغةٌ فيه حكاها الكِسَائِيُّ ، نقله القرطبي .
قوله : « أَضْعَافاً » فيه ثلاثة أوجهٍ :
أظهرها : أَنَّهُ حالٌ من الهاءِ في « فيضاعِفُ » ، وهل هذه حالٌ مؤكِّدَةٌ أو مبيِّنة ، الظَّاهِرُ أنها مُبَيِّنَةٌ؛ لأنَّها وإنْ كانَتْ من لفظِ العامِلِ ، إلاَّ أنَّها اختصَّتْ بوصفِها بشيءٍ آخَر ، ففُهِم منها ما لم يُفْهَمُ من عامِلها ، وهذا شأنُ المبيِّنة .
والثاني : أنه مفعولٌ به على تضمين « يضاعفُ » معنى يُصَيِّر ، [ أي : يُصَيِّره ] بالمضاعَفَةِ أضْعافاً .
الثالث : أنه منصوبٌ على المصدر .
قال أبو حيان : [ قيل ] ويجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ على المصدرِ باعتبار أَنْ يُطْلَقَ الضِّعْفُ - وهو المضَاعفُ ، أو المضعِّفُ - بمعنى المضاعفة ، أو التضعيف ، كما أُطلِقَ العطاء ، وهو اسمُ المُعْطَى بمعنى الإِعطاء . وجُمِعَ لاختلافِ جهاتِ التضعيفِ باعتبارِ اختلاف الأشخاص ، واختلاف المُقْرِضِ واختلافِ أنواعِ الجَزَاءِ . وسبقه إلى هذا أبُو البقاءِ ، وهذه عبارتُهُ ، وأنشد : [ الوافر ]
1157- أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ المِائَةَ الرِّتَاعَا
والأَضْافُ جمعُ « ضِعْف » ، والضِّعْفُ مثل قَدْرَيْنِ مُتَسَاوييْن . وقيل : مثلُ الشَّيء في المِقْدَارِ . ويقالُ : ضِعْفُ الشَّيء : مثلُهُ ثلاثَ مرات ، إلاَّ أنه إذا قيل « ضعفان » ، فقد يُطْلَقُ على الاثنين المِثْلَيْنِ في القَدْرِ من حيثُ إِنَّ كلَّ واحدٍ يُضعِّفُ الآخرَ ، كما يُقالُ زَوْجان ، من حيث إنَّ كلاً منهما زوجٌ للآخر .
فصل
لما أمر اللهُ تعالى بالجهادِ ، والقتال على الحَقّ؛ إذ ليس شيءٌ من الشَّريعة ، إِلاَّ ويجوز القِتَالُ عليه وعنه ، وأعظمها دينُ الإِسلام ، حرَّض تعالى على الإِنفاقِ في ذلك؛ فَدَخل في ذلك : المُقَاتِلُ في سبيلِ اللهِ ، فإِنَّهُ يَقْرضُ رجاء الثَّوابِ ، كما فعلَ عثمانُ - رضي اللهُ عنه - في جيشِ العُسْرَةِ .
فصل
اختلف المُفَسِّرُون في هذه الآية على قولين :
أحدهما : أنَّ هذه الآية متعلِّقةٌ بما قبلها ، والمرادُ منها القرض في الجهادِ خاصَّةً ، فندب العاجز عن الجهاد أَنْ ينفق على الفقير القادر عليه ، وأمر القادر على الجهاد : أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد ، ثمَّ أكد ذلك بقوله تعالى : { والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } .
القول الثاني : أَنَّ هذا الكلام مبتدأٌ لا تعلُّق له بما قبله ، ثم اختلفوا هؤلاء ، فمنهم من قال : المراد من القرض إنفاق المال ، ومنهم من قال : إِنَّه غيره والقائلون بأَنَّه إنفاق المال ، اختلفوا على ثلاثة أقوال :
الأول : أَنَّه الصَّدقةُ غير الواجبة ، وهو قول الأَصم ، واحتجَّ بوجهين :
أحدهما : أَنَّهُ تعالى سمَّاه قرضاً والقَرْضُ لا يكون إِلاَّ تبرعاً .

الوجه الثاني : قال ابن عبَّاسٍ : إِنَّ هذه الآية « نزلت في أبي الدَّحداح ، قال : يا رسول اللهِ! إِنَّ لي حديقتين ، فإِنْ تصدّقت بأحدهما ، فهل لي مثلها في الجنَّة .
قال : » نَعَمْ « ، قال : وأمّ الدَّحداح معي؟ قال : » نعم « . فتصدق بأفضل حديقته ، وكانت تُسَمَّى » الحنيبة « قال : فرجع أبُو الدَّحداح إلى أهله ، وكانوا في الحديقة التي تصدّق بها ، فقام على باب الحديقة وذكر ذلك لامرأته فقالت أم الدَّحداح : بارك اللهُ لك فيما اشتريتَ ، ثمَّ خرجوا منه وسلموها؛ فكان عليه الصَّلاة والسَّلام يقول : كم مِنْ نخلةٍ رداحٍ تُدلي عروقها في الجنَّة لأَبي الدَّحداح
. » القول الثاني : أَنَّ المراد من هذا القرض : الإنفاقُ الواجب في سبيل اللهِ . قالوا : لأَنَّه تعالى ذكر في آخر الآية قوله : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ، وذلك كالزَّجر وهو إِنَّما يليقُ بالواجب .
القول الثالث : أَنَّه يشتمل قسمين كقوله تعالى : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ] وأمَّا من قال : إِنَّ المُراد : إِنفاقُ شيء سوء المال . قالوا : رُوِيَ عن بعضِ أصحاب ابن مسعودٍ أنه قول الرَّجل سبحان اللهِ ، والحمد للهِ ، ولا إله إلاَّ الله ، واللهُ أكْبَرُ . قال ابنُ الخطيب [ قال القاضي ] وهذا بعيدٌ؛ لأَنَّ لفظ الإِقراض لا يقعُ في عرف اللُّغة عليه ، ولا يمكن حمل هذا القولِ على الصِّحَّة إِلاَّ أَنْ نقول : إذا كان الفقيرُ لا يملك شيئاً ، وكان في قلبه أنه لو قدر على الإِنفاق لأنفق ، وأعطى ، فحينئذٍ تكون نيته قائمةً مقام الإِنفاق ، فقد روي أَنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام قال : « مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ فَلْيَلْعَنِ اليهُود ، فإنَّه لهُ صَدَقَة » .
فصل
قال القرطبي : وذكر القَرْضِ ها هنا إِنَّما هو تأنيسٌ ، وتقريبٌ للنَّاسِ بما يفهمونه ، واللهُ هو الغنيُّ الحميدُ ، لكنَّهُ تعالى شبَّه عطاء المؤمنين في الدُّنيا ، بما يرجون به ثوابه في الآخرةِ بالقرض كما شبَّه إِعطاء النُّفوسِ ، والأموال في أَخذِ الجنَّةِ ، بالبيع والشراء .
قوله تعالى : « حَسَناً » قال الواقديُّ : محتسب طيبة به نفسه .
وقال عمرو بن عثمان الصَّدفيُّ : « لا يتبعه مَنّاً ، ولا أَذى » .
وقال سهلُ بن عبداللهِ : لا يعتقِدث في قرضه عوضاً .
واعلم : أَنَّ هذا الإِقراض إِذَا قلنا : المرادُ به الإِنفاقُ في سبيل الله ، فهو يخالف القرضَ من وجوهٍ :
الأول : أَنَّ القرض إِنَّما يأخذه من يحتاج ُ إليه لفقره ، وذلك في حقّ اللهِ تعالى مُحالٌ .
الثاني : أَنَّ البدل في القرضِ المعتاد لا يكون إِلاّ المثل ، وفي هذا الإنفاق هو الضِّعفُ .
الثالث : أَنَّ المالَ الذي يأخُذُه المستقرضُ ، لا يكون ملكاً له ، وها هنا المالُ المأخُوذ ملك له ، ومع هذه الفُروق سمَّاه الله تعالى قرضاً ، والحكمةُ فيه التَّنبيهُ على أَنَّ ذلك لا يضيعُ عند اللهِ كما أَنَّ القرض يجبُ أداؤه ، ولا يجوزُ الإخلالُ به ، فكذا الثَّوَابُ الواجبُ على هذا الإنفاقِ واصلٌ إلى المكلف لا محالة .

فصل
قال القرطبيُّ : القرضُ : قد يكون بالمالِ ، وقد بَيَّنَّا حُكْمَهُ ، كما قال عليه الصّلاة والسَّلام « أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كأَبِي ضَمْضَم ، كان إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قال : اللَّهُمَّ إِنِّي تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ » .
وقال ابن عمر : « أَقْرِضْ من عِرْضِكَ ليوم فَقْرِكَ » يعني مَنْ سبَّك فلا تأخذ منه حقّاً ، ولا تقم عليه حَدّاً ، حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر .
وقال أبو حنيفة : لا يجوز التَّصَدُّق بالعرض؛ لأَنَّه حقُّ اللهِ تعالى وهو مروي عن مالكٍ .
قال ابن العربيّ : وهذا فاسِدٌ لقوله عليه الصَّلاة والسّلام : « إِنَّ دِمَاءَكم وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ » هذا يقتضي أَنْ تكون هذه المحرمات الثَّلاث تجري مجرًى واحداً ، في كونها باحترامها حقاً للآدمي
فصل
وكون القرض حسناً يحتملُ وجوهاً :
أحدها : أنه أراد به أن يكون حلالاً خالصاً من الحرام .
الثاني : ألاَّ يتبع ذلك منّاً ولا أذى .
الثالث : أن يفعله بنية التَّقرُّب إلى اللهِ تعالى .
والمراد من التَّضعيف ، والإضعاف ، والمضاعفة واحد ، وهو : الزِّيَادَةُ على أصل الشَّيء حتَّى يصير مثليه ، أو أكثر ، وفي الآية حذفٌ والتقدير : فيضاعف ثوابه .
فصل
والمراد بالأضعاف الكثيرة :
قال السُّدِّيُّ : هذا التَّضعيفُ لا يعلمه إلاَّ الله - عزَّ وجلَّ - وإِنَّما أبهم ذلك؛ لأَنَّ ذكر المبهم في باب التَّرغيب ، أقوى من المحدود وقال غيره : هو المذكورُ في قوله تعالى : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ] ، فيحمل المجمل على المُفسَّرِ؛ لأَنَّ كلتا الآيتين وردتا في الإنفاق .
قوله تعالى : { والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } قرأ أبو عمر ، وحمزة ، وحفص ، وقنبلٌ « وَيَبْسُطُ » ها هنا وفي الأعراف بالسِّين على الأصل ، والباقُون بالصَّادِ لأجل الطاء . وقد تقدَّم تحقيقه في { الصراط } [ الفاتحة : 6 ] .
فصل
قوله : « يقبض » بإمساك الرّزق والنفس ، والتقتير ، و « يَبْسُطُ » بالتَّوسيع ، وقيل : يقبضُ بقبول التوبة الصَّادقة ، ويبسط بالخلف ، والثَّواب . وقيل : هو الإِحياءُ والإماتة ، فمن أَمَاتهُ فقد قبضه ومن مَدَّ له في عمره فقد بسط له .
وقيل : يقبضُ بعض القلوب ، حتَّى لا تقدم على هذه الطَّاعة . والمعنى : أَنَّهُ كما أمرهم بالصَّدقةِ أخبر أَنَّهُ لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه ، وإعانته ، وقيل : ذكر ذلك ليعلمَ الإِنسان أَنَّ القبض والبسط بيد اللهِ ، فإذا علم ذلك؛ انقطع نظره عن مال الدُّنيا ، وبقي اعتمادُهُ على اللهِ ، فحينئذٍ يَسْهُلُ عليه الإنفاق ثمَّ قال : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجزيكم بأعمالكم ، حيث لا حاكم ولا مُدَبِّرَ سواه .
وقال قتادة : الهاء في « إليه » راجعة إلى التّراب كنايةً عن غير مذكور ، أي من التُّراب خلقتم ، وإليه تُرْجعون ، وتعودون .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

الملأُ من القَوْمِ وجوههم ، وأشرافهم ، وهو اسم للجماعة من النَّاس لا واحد لهُ من لفظه كالرَّهْطِ والقومِ ، والجيشِ ، والمَلأُ : الأَشرافُ سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يملئون العيونَ هيبةً ، أو المجالسَ إذا حضروا؛ أو لأنهم مليئون بما يُحْتاج إليهم فيه ، وقال الفرَّاءُ : « المَلأُ » الرجالُ في كلِّ القرآن ، وكذلك القومُ والرَّهطُ والنَّفَرُ ، ويُجْمع على أَمْلاء؛ قال : [ الطويل ]
1158- وَقَالَ لَهَا الأَمْلاَءُ مِنْ كُلِّ مَعْشَرٍ ... وَخَيْرُ أَقَاوِيلِ الرِّجَالِ سَدِيدُهَا
قال القرطبي : والملأ أيضاً حسن الخلق ، ومنه الحديث : « أَحْسنُوا الملأَ فكلُّكُمْ سيروى » أخرجه مسلم .
قوله تعالى : { مِن بنيا } فيه وجهان :
أحدهما : أَنَّهُ صلةٌ للملأ على مذهب الكُوفيين؛ لأنهم يجعلون المُعَرَّفَ بأل موصولاً؛ ويُنْشِدُون : [ الطويل ]
1159- لَعَمْرِي لأَنْتَ الَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ... وأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأصائِلِ
و { مِن بَعْدِ موسى } متعلِّقٌ بما تعلَّقَ [ به ] الجارُّ الأولُ ، وهو الاستقرار ، ولا يضُرُّ اتحادُ الحرفين لفظاً لاختلافِهما معنًى ، فإِنَّ الأولى للتبعيض والثانية لابتداءِ الغاية . وقال أبو البقاء : « مِنْ بعدِ » متعلِّقٌ بالجار الأول ، أو بما تعلَّق به الأول يعني بالأولِ : « من بني » ، وجعله عاملاً في « مِنْ بعد » لِما تضمنَّه من الاستقرار ، فلذلك نَسَبَ العملَ إليه ، وهذا على رأي بعضِهم ، يَنْسِبُ العمل للظرف والجارِّ الواقِعَيْن خبراً أو صفةً أو حالاً أو صلةً ، فتقول في نحو : « زيدٌ في الدار أبوه » أبوه : فاعلٌ بالجارِّ ، والتحقيقُ أنه فاعلٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الجارُّ ، وهو الوجهُ الثاني . وقدَّر أبو البقاء مضافاً محذوفاً . تقديرُه : من بعدِ موسى ، ليصِحَّ المعنى بذلك .
قوله : { إِذْ قَالُواْ } العاملُ في هذا الظرفِ أجازوا فيه وجهين :
أحدهما : أنه العاملُ في « مِنْ بعد » لأنَّه بدلٌ منه ، إذ هما زمانان ، قاله أبو البقاء : والثاني : أنه « ألم تر » قال شهاب الدين وكلاهما غيرُ صحيحٍ .
أمَّا الأول فلوجهين :
أحدهما من جهة اللفظِ والآخرُ من جهة المعنى . فأمّا الذي من جهة اللفظِ فإنه على تقدير إعادة « مِنْ » و « إذ » لا تُجَرُّ ب « مِنْ » . الثاني : أنه ولو كانَتْ « إذ » من الظروف التي تُجَرُّ ب « مِنْ » كوقت وحين لم يصِحَّ [ ذلك أيضا لأنَّ العاملَ في « مِنْ بعد » محذوفٌ فإنه حالٌ تقديره : كائنين من بعد ، ولو قلت : كائن من حين قالوا لنبيٍّ لهم ابعثْ لنا ملكاً لم يصِحَّ ] هذا المعنى .
وأمَّا الثاني فلأنه تقدَّم أن معنى « ألم تر » تقريرٌ للنفي ، والمعنى : ألم ينته علمُك ، أو قد نَظَرْتَ إلى الملأ وليس انتهاءُ علمِه إليهم ولا نظرُه إليهم كان في وقتِ قولهم ذلك ، وإذا لم تكنْ ظرفاً للانتهاءِ ولا للنظر فكيف تكونُ معمولاً لهما أو لأحدِهما؟
وإذ قد بَطَلَ هذان الوجهان فلا بُدَّ له من عاملٍ يصِحُّ به المعنى وهو محذوفٌ ، تقديره : ألم تَر إلى قصة الملأ أو حديث الملأ ما في معناه؛ وذلك لأنَّ الذواتِ لا يُتَعَجَّبُ منها ، إنما يُتَعَجَّبُ من أحداثها ، فصار المعنى : ألم تَرَ إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل إلى آخرها ، فالعاملُ هو ذلك المجرورُ ، ولا يصحُّ المعنى إلا به لِما تقدَّم .

قوله تعالى : { لِنَبِيٍّ } متعلِّقٌ ب « قالوا » واللامُ فيه للتبليغ ، و « لهم » متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لنبي ، ومحلُّه الجرُّ ، و « ابعَثْ » وما في حيَّزه في محلِّ نصبٍ بالقولِ . و « لنا » الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بابعَثْ ، واللامُ للتعليلِ أي : لأجلِنا .
قوله : { نُّقَاتِلْ } الجمهورُ بالنونِ والجزم على جواب الأمر . وقرئ بالياء والجزم على ما تقدَّم ، وابن أبي عبلة بالياءِ ورفعِ اللام على الصفةِ لملكاً ، فمحلُّها النصبٌ أيضاً . [ وقرئ بالنونِ ورفع اللام على أنها حالٌ من « لنا » فمحلُّها النصبُ أيضاً ] أي : ابعَثْه لنا مقدِّرين القتال ، أو على أنها استئنافُ جوابٍ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قال لهم : ما يَصْنعون بالملكِ؟ فقالوا نقاتِلْ .
قوله : { هَلْ عَسَيْتُمْ } عسى واسمها ، وخبرها « أَنْ لا تقاتِلوا » والشرطُ معترضٌ بينهما ، وجوابهُ محذوفٌ للدلالة عليه ، وهذا كما توسَّط في قوله : { وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 70 ] ، وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ « عسى » داخلةً على المبتدأ والخبر ، ويقولُ إنَّ « أَنْ » زائدةٌ لئلا يُخْبَرَ بالمعنى عن العين . وأمّا مَنْ يرى أنّها تُضَمَّنُ معنى فعل متعدٍّ فيقول : « عَسَيْتم » فعلٌ وفاعلٌ ، و « أَنْ » وما بعدها مفعولٌ به تقديره : هل قارَبْتُم عدم القتالِ ، فهي عنده ليسَتْ من النواسخِ ، والأولُ هو المشهورُ .
وقرأ نافع « عَسِيْتُم » هنا وفي القتال : بكسر السينِ ، وهي لغةٌ مع تاءِ الفاعلِ مطلقاً ومع ن [ ومع ] نونِ الإناثِ نحو : عَسِينا وعَسِين ، وهي لغةُ الحجاز ، ولهذا غَلِطَ مَنْ قال : « عسى تُكْسَرُ مع المضمر » وأَطْلَقَ ، بل كان ينبغي له أن يُقَيِّدَ الضمير بما ذكرنا ، إذ لا يقال : الزيدان عَسِيا والزيدون عَسِيوا بالكسرِ البتة .
وقال الفارسي : « ووجهُ الكسرِ قولُ العربِ : » هو عَس بكذا « مثل : حَرٍ وشَج ، وقد جاء فَعَل وفَعِل في نحو : نَقَم ونَقِم ، فكذلك عَسَيْتُ وعَسِيْتُ ، فإِنْ أُسْنِدَ الفعلُ إلى ظاهرٍ فقياسُ عَسِيتم - أي بالكسر - أن يقال : » عَسِيَ زيدٌ « مثل : » رَضِي زيدٌ « .
فإن قيل : فهو القياسُ ، وإِنْ لم يُقَلْ فسائِغٌ أن يُؤْخَذَ باللغتين ، فتُسْتَعملَ إحداهما موضعَ الأخرى كما فُعِل ذلك في غيره » فظاهرُ هذه العبارة أنه يجوز كسرُ سينِها مع الظاهِر بطريق القياسِ على المضمرِ ، وغيرهُ من النحويين يمنعُ ذلك حتى مع المضمر مطلقاً ، ولكن لا يُلتفت إليه لورودِه متواتراً ، وظاهرُ قوله « قولُ العرب : عَسٍ » أنه مسموعٌ منهم اسمُ فاعلها ، وكذلك حكاه أبو البقاء أيضاً عن ابن الأعرابي ، وقد نَصَّ النحاة على أن « عسى » لا تتصرَّف « .

واعلم أنَّ مدلولَ « عسى » إنشاءٌ لأنها للترجي أو للإِشفاق ، فعلى هذا : فكيف دَخَلت عليها « هل » التي تقتضي الاستفهامَ؟ فالجوابُ أن الكلامَ محمولٌ على المعنى ، قال الزمخشري : « والمعنى : هل قارَبْتم ألاَّ تقاتلوا ، يعني : هل الأمرُ كما أتوقّعه أنكم لا تقاتلون ، أراد أن يقول : عَسَيْتُم ألا تقاتلوا ، بمعنى أتوقَّعُ جبنَكم عن القتالِ ، فأدخلَ » هل « مستفهِماً عما هو متوقعٌ عنده ومَظْنونٌ ، وأرادَ بالاستفهام التقريرَ ، وثَبَتَ أنَّ المتوقَّع كائنٌ وأنه صائبٌ في توقعه؛ كقوله تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } [ الإنسان : 1 ] معناه التقريرُ » وهذا من أَحسنِ الكلامِ ، وأحسنُ مِنْ قول مَنْ زعم أنها خبرٌ لا إنشاءٌ؛ مُسْتَدِلاً بدخولِ الاستفهام عليها؛ وبوقوعها خبراً ل « إنَّ » في قوله : [ الرجز ]
1160- لاَ تُكْثِرَنْ إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمَا ... وهذا لا دليلَ فيه؛ لأنه على إضمار القول؛ كقوله : [ البسيط ]
1161- إِنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ ... لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا
ولذلك لا توصلُ بها الموصولات؛ خلافاً لهشامٍ .
قوله : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ } هذه الواوُ رابطةٌ لهذا الكلام بما قبلَه ، ولو حُذِفَتْ لجازَ أن يكونَ منقطعاً مِمَّا قبله . و « ما » في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، ومعناها الاستفهامُ ، وهو استفهامُ إنكارٍ . و « لنا » في محلِّ رفع خبر ل « ما » .
و « أَلاَّ نُقَاتِلَ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ .
أظهرها : أنَّها على حذفِ حرفِ الجرِّ وهو قول الكسائي والتقديرُ : وما لنا في ألاَّ نقاتل ، أي : في تركِ القتالِ ، ثم حُذِفَتْ « في » مع « أَنْ » فجرى فيها الخلافُ المشهورُ بين الخليل وسيبويه : أهي في محلِّ جر أم نصبٍ؟ وهذا الجارَّ يتعلَّقُ بنفسِ الجارِّ الذي هو « لنا » أو بما يتعلَّق هو به على حسبِ ما تقدَّم في « مِنْ بعد موسى » .
قال البغوي : فإن قيل : فما وجه دخول « أن » في هذا الموضع ، والعرب لا تقول ما لك ألاَّ تفعل ، وإنما يقال : ما لك لا تفعل؟ قيل : دخول « أن » وحذفها لغتان صحيحتان ، فالإثبات كقوله تعالى : { مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين } [ الحجر : 32 ] ، والحذف كقوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله } [ الحديد : 8 ] وقال الفراء : الكلام ها هنا محمول على المعنى؛ لأن قولك : ما لك لا تقاتل؟ معناه : ما يمنعك أن تقاتل ، فلما كان معناه المنع حسن إدخال « أن » فيه كقوله { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [ ص : 75 ] وقوله : { أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين } [ الحجر : 32 ] ورجح الفارسي قول الكسائي على قول الفراء .

قال : لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر تقديره ما يمنعنا من أن نقاتل فإذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين ، فعلى قول الكسائي يبقى الإضمار على ظاهره وعلى قول الفراء لا يبقى ، فكان قول الكسائي أولى .
الثاني : مذهب الأخفش أنَّ « أَنْ » زائدةٌ ، ولا يضرُّ عملها مع زيادتها ، كما لا يضرُّ ذلك في حروف الجر الزائدة ، وعلى هذا فالجملة المنفيَّة بعدها في محلِّ نصبٍ على الحال ، كأنه قيل : ما لنا غير مقاتلين ، كقوله : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ } [ المائدة : 84 ] وقول العرب : « ما لك قائماً » ، وقول الله تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] وهذا المذهب ضعيفٌ لأنَّ الأصل عدم الزيادة ، فلا يصار إليها دون ضرورةٍ .
الثالث : - وهو أضعفها - وهو مذهب الطبري أنَّ ثمَّ واواً محذوفةً قبل قوله : « أن لا نقاتلَ » . قال : « تقديره : وما لنا ولأن لا نقاتل ، كقولك : إياك أن تتكلَّم ، أي : إياك وأن تتكلم ، فحذفت الواو » وهذا كما ترى ضعيفٌ جداً . وأمَّا قوله : إنَّ قولهم إياك أن تتكلم على حذف الواو؛ فليس كما زعم ، بل « إياك » ضمِّنت معنى الفعل المراد به التحذير ، و « أَنْ تتكلمَ » في محلِّ نصبٍ به تقديره : احذر التكلم .
قوله : { وَقَدْ أُخْرِجْنَا } هذه الجملة في محلِّ نصبٍ على الحال ، والعامل فيها : « نقاتلْ » ، أنكروا ترك القتال وقد التبسوا بهذه الحال . وهذه قراءة الجمهور ، أعني بناء الفعل للمفعول .
وقرأ عمرو بن عبيد : « أَخْرَجَنا » على النباء للفاعل . وفيه وجهان :
أحدهما : أنه ضمير الله تعالى ، أي : وقد أخرجنا الله بذنوبنا .
والثاني : أنه ضمير العدوّ .
{ وَأَبْنَآئِنَا } عطفٌ على « ديارنا » أي : ومن أبنائنا ، فلا بدَّ من حذف مضافٍ تقديره : « ومن بين أبنائنا » كذا قدره أبو البقاء . وقيل : إنَّ هذا على القلب ، والأصل : وقد أُخرج أبناؤنا منا ، ولا حاجة إلى هذا .
قوله تعالى : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ } ، فاعلم أن في الكلام محذوفاً تقديره : فسألوا الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فتولوا .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } نصبٌ على الاستثناء المتصل من فاعل « تَوَلَّوا » فإن قيل المستثنى لا يكون مبهماً ، لو قلت : « قام القومُ لا رجالاً » لم يصحَّ ، فالجواب إنما صحَّ هذا لأنَّ « قليلاً » في الحقيقة صفةٌ لمحذوفٍ ، ولأنه قد تخصَّص بوصفه بقوله : « منهم » ، فقرب من الاختصاص بذلك .
وقرأ أُبي : « إلاَّ أن يكون قليلٌ منهم » وهو استثناءٌ منقطعٌ ، لأنَّ الكون معنًى من المعاني والمستثنى منه جثثٌ . ولا بدّ من بيان هذه المسألة لكثرة فائدتها . وذلك أنّ العرب تقول : « قام القوم إلا أنْ يكونَ زيدٌ وزيداً » بالرفع والنصب ، فالرفع على جعل « كان » تامةً ، و « زيدٌ » فاعلٌ ، والنصب على جعلها ناقصةً ، و « زيداً » خبرها ، واسمها ضميرٌ عائدق على البعض المفهوم من قوة الكلام ، والتقدير : قام القوم إلا أن يكون هو - أي بعضهم - زيداً ، والمعنى : قام القوم إلا كون زيدٍ في القائمين ، وإذا انتفى كونه قائماً انتفى قيامه ، فلا فرق من حيث المعنى بين العبارتين ، أعني « قام القوم إلا زيداً » و « قاموا إلا أن يكون زيداً » ، إلا أن الأول استثناءٌ متصلٌ ، والثاني منقطعٌ لما قررناه .

فصل
وجه تعلُّق هذه الآية بما قبلها أنَّه تعالى لما فرض القتال بقوله : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ البقرة : 244 ] ، ثمَّ أمر بالإنفاق فيه بقوله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله } [ البقرة : 245 ] ذكر بعد ذلك هذه القصة تحريضاً على عدم تركهم مخالفة الأمر بالقتال ، فإنَّهم لما أُمروا تولَّوا ، وخالفوا؛ فذمهم الله تعالى ونسبهم إلى الظُّلم بقوله : { والله عَلِيمٌ بالظالمين } والمراد التَّرغيب في الجهاد .
فصل فيمن هو النبي الذي نادى بالبعث في الآية
اختلفوا في ذلك النبيِّ الذي قالوا له { ابعث لَنَا مَلِكاً } من هو فقال قتادة : هو يوشع ابن نون بن أفرائيم بن يوسف لقوله تعالى : { مِن بَعْدِ موسى } وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ قوله { مِن بَعْدِ موسى } كما لا يحتمل الاتصال بالتَّعاقب يحتمل البعديَّة بغير تعاقب ، وإن كان بينهما غير يوشع؛ لأنَّ البعديّة حاصلة ، وذكر ابن عطيَّة في تضعيف هذا القول أنَّ مدَّة داود بعد موسى بقرون من النَّاس ، ويوشع هو فتى موسى عليهما الصَّلاة والسَّلام .
وقال السُّدِّيُّ : اسمه شمعون سمَّته أُمُّه بذلك؛ لأنَّها دعت الله أن يرزقها غلاماً ، فاستجاب الله دعاءها ، فسمته سمعون ، أي : سمع الله دعائي ، والسِّين تصير شيناً بالعبرانية وهو شمعون ابن صفيَّة بنت علقمة ، من ولد لاوي بن يعقوب .
وقال سائر المفسِّرين : هو اشمويل بن هلقايا .
فصل
كان سبب مسألتهم إيّاه ذلك؛ لأنَّه لمَّا مات موسى خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم التَّوراة ، وأمر الله ، حتى قبضه الله ، ثمَّ خلف فيهم « كالِب بْنَ يُوفَنَا » ؛ حتى قبضه الله ، ثمَّ حزقيل حتى قبضه الله ، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ونسوا عهد الله؛ حتى عبدوا الأوثان ، فبعث الله إليهم « إِلْياسَ » نبياً ، فدعاهم إلى الله ، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى ، يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التَّوراة ، ثم خلف بعد « إِلْيَاسَ » « اَلْيَسَع » ، وكان فيهم ما شاء الله؛ حتَّى قبضه الله ، وخلف فيهم الخلوف ، وعظمت الخطايا وظهر لهم عدوٌّ يقال له البلثاثا ، وهم قوم « جَالُوتَ » ، كانوا يسكنون ساحل بحر الرُّوم ، بين مصر ، وفلسطين ، وهم العمالقة ، فظهروا على بني إسرائيل ، وغلبوا على كثير من أرضهم ، وسبوا كثيراً من ذراريهم ، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعين وأربعمائة غلام ، وضربوا عليهم الجزية ، وأخذوا توراتهم ، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاءً شديداً ، ولم يكن لهم نبيٌّ يدبِّر أمرهم ، وكان سبط النُّبوَّة قد هلكوا ، فلم يبق منهم إلاَّ امرأة حبلى؛ فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جاريةً ، فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها ، وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً؛ فولدت غلاماً فسمته شمويل تقول : سمع الله دعائي ، فكبر الغلام فأسلموه ليتعلم التَّوراة في بيت المقدس ، وكفله شيخٌ من علمائهم وتبنَّاه ، فلمَّا بلغ الغلام أتاه جبريل ، وهو نائم إلى جنب الشَّيخ ، وكان لا يأتمن عليه أحداً ، فدعاه جبريل بلحن الشيخ : يا أُشمويل ، فقام الغلام فزعاً إلى الشَّيخ قوال : يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشَّيخ أن يقول : لا فيفزع الغلام ، فقال : يا بنيّ ارجع فنم ، فرجع الغلام ، فَنَامَ ، ثمَّ دعاه الثَّانية ، فقال الغلام : يا أَبَتِ دَعَوْتَنِي!؟ فقال : ارجع فنم فإنْ دعوتُكَ الثَّالثة؛ فلا تجبني ، فلمَّا كانت الثَّالثة ظهر له جبريل فقال له : اذهب إلى قومك؛ فبلغهم رسالة ربِّك ، فإن الله قد بعثك فيهم نبيّاً ، فلمَّا أتاهم كذَّبوه ، وقالوا له : استعجلت بالنُّبوَّة ، ول تَنَلْكَ ، وقالوا : إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آيةً من نبوَّتك ، وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك ، وطاعة الملوك لأنبيائهم ، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع ، والنَّبيُّ يقوم له بأمره ، ويشير عليه برشده ، ويأتيه بالخبر من عند ربِّه .

قال وهبٌ : بعث الله أُشمويل نبيّاً ، فلبثوا أربعين سنةً بأحسن حال ، ثمَّ كان من أمر جالوت ، والعمالقة ما كان فقالوا لأُشمويل : « ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِل » ، فقال : « هَلْ عَسَيْتُم » ؟! استفهام شكٍّ ، أي : لعلكم « إِنْ كُتِبَ » أي : فرض « عَلَيْكُمُ القِتَالُ » مع ذلك الملك ألا تفوا بما تقولون ، ولا تقاتلوا معه « قَالُوا : وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا » ، فجعلوا ذلك علَّةً قويَّة توجب التَّشديد في أمر الجهاد؛ لأنَّ من بلغ منه العدوُّ هذا المبلغ ، فالظَّاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوِّه ومقاتلته ، وظاهر الكلام العموم ، والمراد الخصوص؛ لأنَّ الذين قالوا لنبيِّهم : ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله؛ كانوا في ديارهم وأوطانهم ، وإنَّما أخرج من أسر منهم ، ومعنى الآية أنهم قالوا مجيبين لنبيِّهم : إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا ، لا يظهر علينا عدوٌّ ، فأمَّا إذْ بلغ ذلك منَّا ، فنطيع ربَّنا في الجهاد ، ونمنع نساءنا ، وأولادنا ، { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ } : أعرضوا عن الجهاد ، وضيَّعوا أمر الله { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } - وهم الذين عبروا النَّهر مع طالوت ، واقتصروا على الغرفة كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
قيل : كان عدد هذا القليل ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدرٍ .

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

قوله تعالى : { طَالُوتَ مَلِكاً } : « مَلِكاً » حال من « طالوت » فالعامل في الحال « بَعَثَ » . و « طالوتُ » فيه قولان :
أظهرهما : أنه اسمٌ أعجميٌّ فلذلك لم ينصرف للعلتين ، أعني : العلمية والعجمة الشَّخصية .
والثاني : أنه مشتقٌّ من الطول ، ووزنه فعلوت كرهبوت ورحموت ، وأصله طولوت ، فقلبت الواو ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وكأن الحامل لهذا القائل بهذا القول ما روي في القصَّة أنه كان أطول رجلٍ في زمانه وبقوله « وزاده بسطة في العلم والجسم » إلا أنَّ هذا القول مردودٌ بأن لو كان مشتقاً من الطُّول ، لكان ينبغي أن ينصرف ، إذ ليس فيه إلاَّ العلمية . وقد أجابوا عن هذا بأنه وإن لم يكن أعجمياً لكنَّه شبيه بالأعجمي ، من حيث إنَّه ليس في أبينة العرب ما هو على هذه الصِّيغة ، وهذا كما قالوا في حمدون ، وسراويل ، ويعقوب ، وإسحاق عند من جعلهما من سحق وعقب وقد تقدم .
وأجاب آخرون : بأنه اسمٌ عبراني وافق عربيّاً مثل حطة وحنطة ، وعلى هذا يكون أحد سببيه العجمة؛ لكونه عبرانياً .
قوله : { أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا } في « أَنَّى » وجهان :
أحدهما : أنَّها بمعنى كيف ، وهذا هو الصَّحيح .
والثاني : أنها بمعنى من أين ، اختاره أبو البقاء ، وليس المعنى عليه . ومحلُّها النّصب على الحال ، وسيأتي الكلام في عاملها ما هو . و « يَكُونُ » فيها وجهان :
أحدهما : أنها تامَّةٌ ، و « المُلْكُ » فاعلٌ بها و « له » متعلّقٌ [ بها ، و « عَلَيْنَا » متعلقٌ ] بالملك ، تقول : « فلان مَلَك على بني فلان أمرهم » ، فتتعدى هذه المادة ب « على » ، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « المُلْك » ، و « يَكُونُ » هي العاملة في « أنَّى » ، ولا يجوز أن يعمل فيها أحد الظَّرفين ، أعني « له » ، و « علينا » ؛ لأنه عاملٌ معنوي والعامل المعنويُّ لا تتقدَّم عليه الحال على المشهور .
والثاني : أنها ناقصةٌ ، و « له » الخبر ، و « علينا » متعلِّقٌ : إمَّا بما تعلَّق به هذا الخبر ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « المُلك » كما تقدَّم ، والعامل في هذه الحال « يكون » عند من يجيز في « كَانَ » الناقصة أن تعمل في الظرف وشبهه ، وإمَّا بنفس الملك كما تقدَّم تقريره ، والعامل في « أنَّى » ما تعلَّق به الخبر أيضاً ، ويجوز أن يكون « عَلَيْنَا » هو الخبر ، و « لَهُ » نصبٌ على الحال ، والعامل فيه الاستقرار المتعلِّق به الخبر ، كما تقدَّم تقريره ، أو « يَكُونُ » عند من يجيز ذلك في الناقصة ، ولم أر من جوَّز أن تكون « أنى » في محلِّ نصب خبراً ل « يَكُونُ » بمعنى « كَيْفَ يَكُونُ المُلْكُ عَلَيْنَا لَهُ » ولو قيل به لم يمتنع معنًى ولا صناعةً .

قوله : { وَنَحْنُ أَحَقُّ } : جملةٌ حاليَّةٌ ، و « بالمُلْكُ » و « مِنْهُ » كلاهما متعلّقٌ ب « أَحَقُّ » . « ولم يُؤْتَ سَعَةً » هذه الجملة الفعلية عطفٌ على الاسميَّة قبلها ، فهي في محلِّ نصب على الحال ، ودخلت الواو على المضارع؛ لكونه منفياً و « سعةً » مفعول ثانٍ ليؤت ، والأول قام مقام الفاعل .
و « سَعَةً » وزنها « عَلَة » بحذف الفاء ، وأصلها « وُسْعَة » ، وإنما حذفت الفاء في المصدر حملاً له على المضارع ، وإنما حذفت في المضارع لوقوعها بين ياء - وهي حرف المضارعة - وكسرة مقدَّرة ، وذلك أنَّ « وَسِع » مثل « وَثِق » فحقٌّ مضارع أن يجيء على يفعل بكسر العين ، وإنما منع ذلك في « يَسَع » كون لامه حرف حلقٍ ، ففتح عين مضارعه لذلك ، وإن كان أصلها الكسر ، فمن ثم قلنا : بين ياء وكسرة [ مقدرةٍ ، والدَّليل على ذلك أنَّهم قالوا : وَجِلَ يَوْجَل فلم يحذفوها لمَّا كانت الفتحة أصلية غير عارضةً ، بخلاف فتحة « يَسَع » و « يَهَب » وبابهما .
فإن قيل : قد رأيناهم يحذفون هذه الواو ، وإن لم تقع بين ياءٍ وكسرةٍ ] ، وذلك إذا كان حرف المضارعة همزة نحو : « أَعِدُ » ، أو تاءً نحو : « تَعِد » أو نوناً نحو : « نَعِد » ، وكذلك في الأمر والمصدر نحو : : عِدْ عِدَةَ حَسَنَةً « .
فالجواب أنَّ ذلك بالحمل على المضارع مع الياء طراً للباب ، كما تقدَّم لنا في حذف همزة أفعل ، إذا صار مضارعاً لأجل همزة المتكلِّم ، ثم حمل باقي الباب عليه . وفتحت سين » السَّعة « لمَّا فتحت في المضارع لأجل حرف الحلق ، كما كسرت عين » عِدة « لمَّا كسرت في » يَعِد « إلا أنَّه يشكل على هذا : وَهَبَ يَهَبُ هِبة ، فإنهم كسروا الهاء في المصدر ، وإن كانت مفتوحة في المضارع لأجل أنَّ العين حرف حلقٍ ، فلا فرق بين » يَهَبُ « ، و » يَسَع « في كون الفتحة عارضةً والكسرة مقدرةً ، ومع ذلك فالهاء مكسورةٌ في » هِبة « ، وكان من حقِّها الفتح لفتحها في المضارع ك » سَعَة « .
و » من المال « فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ بيؤت .
والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لسعة ، أي : سَعَةً كائنةً من المال .
فصل
اعلم أنَّه تعالى لما بيَّن في الآية أنَّه لمَّا أجابهم إلى سؤالهم تولَّوا ، بيَّن في هذه الآية أنَّ أوّل تولِّيهم إنكارهم إِمْرَة طالوت ، وذلك أنَّهم لمَّا طلبوا من نبيِّهم أن يطلب من الله أن يعيِّن لهم ملكاً؛ فأجابهم بأنَّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ، أظهروا التَّولي عن طاعة الله ، وأعرضوا عن حكمه ، وقالوا : » أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا « ، واستبعدوا ذلك .

قال المفسِّرون : وسبب هذا الاستبعاد : أنَّ النبوَّة كانت مخصوصةً بسبط معيَّن من أسباط بني إسرائيل ، وهم سبط لاوي بن يعقوب ، ومنه « مُوسَى وهارون » وسبط المملكة سبط « يَهُوذا » ، ومنه « دَاوُدُ ، وسُلَيْمَانُ » و « طَالُوت » لم يكن من أحد هذين السِّبطين ، بل كان من ولد « بِنْيَامِين » فلذها السَّبب؛ أنكروا كونه ملكاً عليهم ، وزعموا أنَّهم أحقُّ بالملك منه ، ثمَّ أكدوا هذه الشُّبهة بشبهة أخرى وهي قولهم : « وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ » ، أي : فقير .
قال وهبٌ : كان دبَّاغاً .
وقال السدِّيُّ : مكارياً .
وقال آخرون : كان سقَّاء ، واسمه بالعبرانية ساول بن قيس ، وكان من سبط بنيامين ابن يعقوب ، وكانوا عملوا ذنباً عظيماً ، كانوا ينكحون النِّساء على ظهر الطَّريق نهاراً ، فغضب الله عليهم ونزع الملك والنبوة عنهم وكانوا يسمون سبط الإثم ، ثمَّ إنَّ الله تعالى أجابهم عن شُبْهتهم بقوله : { إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم } .
والاصطفاء : أخذ الملك من غيره صافياً ، واصطفاه واستصفاه ، بمعنى : الاستخلاص ، وهو أخذ الشَّيء خالصاً .
وقال الزَّجَّاج : مأخوذٌ من الصَّفوة ، فأصله اصتفى بالتاء ، فأبدل التَّاء بالطَّاء ليسهل النُّطق بها بعد الصَّاد .
فصل
اعلم أنَّهم لمَّا طعنوا في استحقاقه للملك بأمرين :
أحدهما : كونه ليس من بيت المملكة .
والثاني : القدرة ، وهذان الوصفان أشدُّ مناسبة لاستحقاق الملك من الوصفين الأوَّلن لوجوه :
أحدها : أنَّ العلم ، والقدرة من باب الكمالات الحقيقيَّة ، والمال والجاه ليسا كذلك .
الثاني : أنَّ العلم ، والقدرة يمكن التَّوصُّل بهما إلى المال والجاه ، ولا ينعكس .
الثالث : أنَّ المال والجاه ، يمكن سلبهما عن الإنسان ، والعلم والقدرة ، لا يمكن سلبهما عنه .
الرابع : أنَّ العالم بأمر الحرب ، والقويّ الشَّديد على المحاربة ، ينتفع به في حفظ مصلحة الملك ، ودفع شرِّ الأعداء ، أكثر من الانتفاع بالرجل النَّسيب الغنيِّ الذي لا قدرة له على دفع الأعداء ، ولا يحفظ مصلحة الملك .
فصل
دلَّت هذه الآية على بطلان قول من يقول : إنَّ الإمامة موروثةٌ ، وذلك؛ لأنَّ بني إسرائيل لمَّا أنكروا أن يكون الملك من غير بيت المملكة؛ أسقط الله هذا الشَّرْط ، وبيَّن أنَّ المستحقَّ للملك من خصَّه الله به فقال : { والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ } ، وهذه الآية نظير قوله : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } [ آل عمران : 26 ] .
فصل
والمراد بالبسطة في الجسم : الجمال ، وقيل : المراد : طول القامة . قيل : كان أطول من كل أحدٍ برأسه ، وبمنكبه . وقيل : المراد القوَّة .

قال ابن الخطيب : وهذا القول عندي أصحُّ؛ لأنَّ المنتفع به في دفع الأعداء هو القوَّة ، والشِّدة ، لا الطُّول ، والجمال .
قوله : { فِي العلم } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلِّقٌ ب « بَسْطَة » كقولك : « بَسَطْتُ لَهُ في كَذَا » .
والثاني : أنه متعلّقٌ بمحذوفً؛ لأنه صفةٌ ل « بَسْطَة » ، أي : بَسْطَة مستقرةً أو كائنة .
قوله : { والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ } .
قال بعض المفسِّرين : هذا من كلام الله تعالى لمحمّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، والمشهور : أنَّه من قول أشمويل ، قال لهم ذلك ، لمَّا علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج ، فأراد أن يتمِّم كلامه بالقطعي ، الذي لا اعتراض عليه فقال : { والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ } ، وأضاف ملك الدُّنيا إلى الله إضافة مملوكٍ إلى ملكٍ .
قوله : { والله وَاسِعٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه على النسب ، أي : ذو سعة رحمة ، كقولهم : لابنٌ ، وتامرٌ ، أي : صاحب تمرٍ ولبنٍ .
والثاني : أنَّه جاء على حذف الزوائد من أوسع ، وأصله مُوسِعٌ . وهذه العبارة إنَّما يتداولها النَّحويون في المصادر فيقولون : مصدرٌ على حذف الزوائد .
والثالث : أنه اسمُ فاعلٍ من « وَسِع » ثلاثياً؛ قال أبو البقاء : « فالتَّقدير على هذا : واسع الحِلم؛ لأنَّك تقول وسع حلمه » .
فصل في تفسير قوله { وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
في قوله : { وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ثلاثة أقوال :
أحدها : أنَّه واسع الفضل ، والرَّزق ، والرَّحمة ، وسعت رحمته كلَّ شيءٍ ، والتَّقدير : أنتم طعنتم في طالوت ، لكونه فقيراً ، فالله تعالى واسع الفضل ، يفتح عليه أبواب الرِّزق ، والسَّعة ، كما في المال؛ لأنه فوّض إليه الملك ، والملك لا يتمشَّى إلاَّ بالمال .
والثاني ، والثالث : ما تقدَّم في الإعراب آنفاً من كونه بمعنى : « مُوسِعٌ » وذو سعة ، والعليم العالم وقيل : العالم بما كان ، والعليم بما يكون .

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

اعلم أنَّه لما أخبرهم نبيهم : بأنَّ الله تعالى ، بعث لهم طالوت ملكاً ، وأبطل حجَّتهم قالوا : « فَمَا آيَةُ مُلْكِهِ؟ قال : { أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت } .
قوله تعالى : { أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت } : » أَنْ « ، وما في حيِّزها في محلِّ رفع خبرٍ ل » إِنَّ « تقديره : إنَّ علامة ملكه إيتاؤكم التَّابوت .
وفي » التَّابوتِ « ، قولان :
أحدهما : أنه فاعولٌ ، ولا يعرف له اشتقاقٌ ، ومنع قائل هذا أن يكون وزنه فعلوتاً مشتقاً من تاب يتوب كملكوت من الملك ورهبوت من الرُّهب ، قال : لأنَّ المعنى لا يساعد على ذلك .
الثاني : أن وزنه فعلوت كملكوت ، وجعله مشتقاً من التَّوب وهو الرُّجوع ، وجعل معناه صحيحاً فيه ، لأنَّ التَّابوت هو الصُّندوق الذي توضع فيه الأشياء ، فيرجع إليه صاحبه عند احتياجه إليه ، فقد جعلنا فيه معنى الرجوع .
والمشهور أن يوقف على تائه بتاءٍ من غير إبدالها هاءً؛ لأنَّها إمَّا أصلٌ إن كان وزنه فاعولاً ، وإمَّا زائدةٌ لغير التَّأنيث كملكوت ، ومنهم من يقلبها هاءً ، وقد قرئ بها شاذّاً ، قرأها أُبيّ ، وزيد بن ثابت ، وهي لغة الأنصار ، ويحكى أنهم لمَّا كتبوا المصاحف زمن عثمان - رضي الله عنه - احتلفوا فيه فقال زيد : » بالهَاءِ « ، وقال : [ أُبَيّ : ] » بالتَّاءِ « ، فجاءوا عثمان فقال : » اكْتبوه على لغة قريش « يعني بالتَّاءِ .
وهذه الهاء هل هي أصل بنفسها ، فيكون فيه لغتان ، ووزنه على هذا فاعول ليس إلاَّ ، أو بدلٌ من التَّاء؛ لأنها قريبةٌ منها لاجتماعهما في الهمس ، أو إجراءٌ لها مجرى تاء التَّأنيث؟ قال الزَّمخشريُّ : » فإنْ قلت : ما وزنُ التابوت؟ قلت : لا يَخْلو أن يَكُونَ فَعَلوتاً ، أو فاعُولاً ، فلا يَكُونُ فاعُولاً لقلته نحو سَلِسٌ وقَلِقٌ « يعني : في الأوزان العربيَّة ، ولا يجوز ترك المعروف [ إليه ] فهو إذاً فعلوت من التَّوب وهو الرُّجوع؛ لأنَّه ظرفٌ تودع فيه الأشياء ، فيرجع إليه كلَّ وقتٍ .
وأمَّا من قرأ بالهاء فهو فاعول عنده ، إلاَّ من يجعل هاءه بدلاً من التَّاء لاجتماعهما في الهمس ، ولأنَّهما من حروف الزِّيادة ، ولذلك أُبدلت من تاء التَّأنيث .
قوله : { فِيهِ سَكِينَةٌ } يجوز أن يكون » فيه « وحده حالاً من التَّابوت ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، ويرتفع » سَكِينَة « بالفاعليَّة ، والعامل فيه الاستقرار ، والحال هنا من قبيل المفردات ، ويجوز أن يكون » فيه « خبراً مقدّماً ، و » سكينةٌ « مبتدأ مؤخراً ، والجملة في محلِّ نصب على الحال ، والحال هنا من قبيل الجمل ، و » سكينةٌ « فعيلة من السكون ، وهو الوقار . أي هو سبب سكون قلوبكم ، فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت ، ونظيره { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } [ التوبة : 40 ] قيل : كان التَّابوت سبب سكون قلوبهم ، فأينما كانوا سكنوا إليه ، ولم يفرّوا عن التَّابوت ، إذا كان معهم في الحرب .

وقرأ أبو السَّمَّال بتشديد الكاف ، قال الزَّمخشريُّ : « وَهُوَ غريبٌ » .
قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } يجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ ل « سَكِينَة » ، ومحلُّه الرَّفع . ويجوز أن يتعلَّق بما تعلَّق به « فيه » من الاستقرار . و « مِنْ » يجوز أن تكون لابتداء الغاية ، وأن تكون للتبعيض . وثمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : من سكينات ربكم .
فصل
اعلم أنَّ مجيء التَّابوت لا بدَّ وأن يكون على وجهٍ خارقٍ للعادة؛ حتى يصح كونه آية من عند الله دالَّة على صدق تلك الدَّعوة ، وذلك يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون المعجز نفس التَّابوت .
قال أصحاب الأخبار : إنَّ الله تعالى ، أنزل على آدم تابوتاً فيه صور الأنبياء من أولاده ، وكان من عود من الشمشار نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين ، فكان عند آدم إلى أن مات فتوارثه أولاده إلى أن وصل إلى يعقوب ، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، فكان موسى يضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه ، وكان عنده إلى أن مات ، ثمَّ تداولته أنبياء بني إسرائيل ، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلَّم ، وحكم بينهم ، وإذا حضروا القتال قدَّموه بين أيديهم ، ليستفتحوا على عدوِّهم ، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر ، ثمَّ يقاتلون العدوَّ ، فإذا سمعوا من التَّابوت صيحةً؛ استيقنوا النَّصر ، فلمَّا عصوا ، وفسدوا سلَّط الله عليهم العمالقة ، فغلبوهم على التَّابوت وسلبوه ، فلمَّا سألوا نبيَّهم على ملك طالوت؛ قال لهم النَّبيُّ : « إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ » أنكم تجدون التَّابوت في داره ، ثمَّ إنَّ الكفَّار حين سلبوا التَّابوت؛ جعلوه في موضع البول والغائط ، فدعا نبيُّ ذلك الوقت عليهم ، فسلَّط الله عليهم البلاء حتى كل من بال ، أو تغوّط ابتلاه الله بالبواسير ، فعلم الكفَّار أن ذلك سبب استخفافهم بالتَّابوت ، فأخرجوه ووضعوه على ثورين ، فأقبل الثَّوران يسيران ، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما ، حتى أتوا منزل طالوت ، ثمَّ إنَّ قوم ذلك النَّبيّ رأوا التَّابوت عند طالوت ، فعلموا أنَّ ذلك دليل على كونه ملكاً لهم .
وقيل : إنَّ التَّابوت صندوقٌ كان موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - يضع التوراة فيه ، وكان من خشب يعرفونه ، ثم إنَّ الله - تعالى - رفعه لمّا قبض موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لسخطه على بني إسرائيل ، ثمَّ قال نبيُّ أولئك القوم : إنّ آية ملك طالوت أن يأتيكم التَّابوت من السَّماء ، والملائكة يحفظونه ، والقوم كانوا ينظرون إليه؛ حتَّى نزل عند طالوت ، وهذا قول ابن عباسٍ - رضي الله عنه - ، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين ، لأنَّ من حفظ شيئاً في « الطَّريق؛ جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء ، وإن لم يحمله ، كقول القائل : حملت الأمتعة إلى زيدٍ ، إذا حفظها في الطَّريق ، وإن كان الحامل غيره .

الثاني : ألا يكون التَّابوت معجزاً ، بل يكون المعجز فيه بأن يشاهدوا التَّابوت خالياً ، ثمَّ إنَّ ذلك النَّبيّ يضعه بمحضرٍ من القوم في بيتٍ ، ويغلقون البيت عليه ، ثمَّ يدعي ذلك النَّبي أنَّ الله تعالى يخلق فيه ما يدلُّ على ما وصفنا ، فإن فتحوا باب البيت ، ونظروا في التَّابوت؛ رأوا فيه كتاباً يدلُّ على أنَّ ملكهم هو طالوت ، وأنَّ الله ينصرهم على عدوِّهم ، فهذا يكون معجزاً قاطعاً دالاً على أنَّه من عند الله ، ولفظ القرآن محتملٌ للوجهين .
فصل في المراد بالسكينة
اختلفوا في السَّكينة : قال عليٌّ - رضي الله عنه - : هي ريحٌ تخرج ، أي : شديدة هفَّافةٌ لها رأسان ، ووجه كوجه الإنسان .
وقال ابن عبَّاسٍ ، ومجاهدٌ : هي صورةٌ من زبرجدٍ وياقوت لها رأسٌ كرأس الهِرّ وذنبٌ كذنبه ، ولها جناحان ، وقيل : لها عينان لهما شعاعٌ ، وكانوا إذا سمعوا صوتها تيقنوا بالنَّصر ، وكانوا إذا خرجوا ، وضعوا التَّابوت قدَّامهم ، فإذا سار ساروا ، وإذا وقف وقفوا .
وعن ابن عبَّاس : هي طستٌ من ذهب من الجنَّة؛ كان يغسل فيها قلوب الأنبياء .
وقال أبو مسلم : كان في التَّابوت بشارات من كتب الله المنزَّلة على موسى وهارون - عليهما الصَّلاة والسَّلام - ومن بعدهما من الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام بأن الله تعالى ينصر طالوت ، وجنوده ، ويزيد خوف العدوّ عنهم .
وعن وهب بن منبّه قال : هي روحٌ من الله تتكلَّم إذا اختلفوا إلى شيءٍ من أمورهم تخبرهم ببيان ما يريدون . وقال أبو بكر الأصمٌّ : معنى السَّكينة؛ أي : تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك ، وتزول نفرتكم عنه؛ لأنه متى جاءهم التَّابوت من السَّماء ، وشاهدوا تلك الحالة ، فلا بد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم .
وقال قتادة ، والكلبيُّ : السَّكينة فعيلة من السّكون ، أي : طمأنينة من ربكم ، ففي أي مكان كان التَّابوت اطمأنوا إليه وسكنوا .
قوله : { وَبَقِيَّةٌ } وزنها فعيلة والأصل : بَقِيْبَة بياءين ، الأولى زائدة ، والثانية لام الكلمة ، ثم أُدغم ، ولا يستدلُّ على أنَّ لام « بَقِيَّة » ياء بقولهم : « بَقِيَ » في الماضي ، لأنَّ الواو إذا انكسر ما قبلها قلبت ياء ، ألا ترى أنَّ « رَضِي » و « شَقِيَ » أصلهما من الواو : الشِّقْوَة والرِّضوان .
و « مِمَّا تَرَكَ » في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل « بَقِيَّة » فيتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : بقيةٌ كائنةٌ . و « مِنْ » للتَّبعيض ، أي : من بقيَّات ربِّكم ، و « مَا » موصولةٌ اسميَّةٌ ، ولا تكون نكرةً ولا مصدريةً .
و « آل » تقدم الكلام فيه ، وقي : هو هنا زائدٌ؛ كقوله : [ الطويل ]
1162- بُثَيْنَةُ مِنْ آلِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا ... يَكُنَّ لِوَصْلٍ لاَ وِصَالَ لِغَائِبِ
يريد « بُثَيْنَةُ » من النساء .

قال الزَّمخشريُّ : وَيَجُوزُ أن يريد : ممَّا تَرَكَ موسى وهارون ، والآلُ مقحمٌ لتفخيم شأنهما ، أي زائدٌ للتعظيم ، واستشكل أبو حيان كيفيَّة إفادة التَّفخيم بزيادة الآل . و « هَارُون » أعجميٌّ . قيل : لم يرد في شيءٍ من لغة العرب ، قاله الراغب ، أي : لم ترد مادته في لغتهم .
فصل في المقصود بالبقية
اختلفوا في البقية ، فقيل : { مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ } من الدِّين ، والشَّريعة ، والمعنى : أنَّ بسبب هذا التَّابُوت ينتظمُ ما بَقِيَ من دينهما ، وشريعتهما .
وقيل : كان فيه لوحان من التَّوراة ، ورضاض الألواح الَّتي تكسَّرت ، وعصا موسى ونعلاهُ ، وثيابه ، وعمامة هارون وعصاه ، وقفيزٌ من المنّ الذي كان ينزلُ على بني إسرائيل ، واختلفوا في الآلِ على قولين :
أحدهما : المراد موسى ، وهارون نفسهما كقوله - عليه الصلاة والسلام - لأبي موسى الأَشعريّ : « لَقَدْ أُوتِيَ هذا مِزْماراً مِنْ مَزَامِير آل داوُدَ » وأراد به داود نفسه؛ لأنه لم يكُن لأحد من آلِ داوُدَ من الصَّوتِ الحسن مثل ما كان لداود .
الثاني : قال القفَّال : إنَّما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون؛ لأَنَّ ذلك التَّابوت تداولته القُرُونُ بعدهما إلى وقتِ طالُوت ، وما في التَّابُوت توارثه العلماء عن أتباع موسى وهارون ، فيكون الآل : هم الأتباع قال تعالى : { أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } [ غافر : 46 ] .
قوله : { تَحْمِلُهُ الملاائكة } هذه الجملةُ تحتمِلُ أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ على أنها حالٌ من التَّابُوت أي : محمولاً للملائكةِ وألاَّ يكونَ لها محلٌّ لأنها مستأنفةٌ ، إِذْ هي جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قيل : كيف يأتي؟ فقيل : تحمِلُهُ الملائكةُ .
وقرأ مجاهد « يَحْمِلُه » بالياءِ من أسفلِ؛ لأنَّ الفِعْل مُسْنَدٌ لجمعِ تكسيرٍ ، فيجوزُ في فعله الوجهان . و « ذلك » مشارٌ به قيل : إلى التَّابوت . وقيل : إلى إتيانه ، وهو الأَحسنُ ليناسِبَ آخرُ الآيةِ أولها [ و « إِنْ » ] الأظْهَرُ فيها [ أنها ] على بابها من كونِها شرطيةً وجوابُها محذوفٌ . وقيل : هي بمعنى « إذ » فإنّ هذه الآية معجزة باهِرَة للمؤمنين .
قال ابن عبَّاسٍ : إِنَّا التَّابُوت ، وعصا موسى في بحيرة طبرية وإنهما يخرجان قبل يوم القيامة .
مِنَ النَّاسِ من قال : إن طالُوتَ كان نبيّاً؛ لأن اللهَ تعالى أظهر المعجزة على يديه ، ومن كان كذلك كان نبيّاً .
فإن قيل : هذه من باب الكرامات ، قلنا : الفَرْقٌ بين الكرامةِ والمُعجزة : أنَّ الكرامة لا تكون على سبب التَّحَدِّي؛ فتكون معجزةً ، وقد يُجابُ بأن ذلك معجزةٌ لنبيّ ذلك الزّمان وأنه آية قاطِعَةٌ في ثبوت ملك طَالُوتَ .

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

[ قوله تعالى : « فَصَلَ » : أي : انْفَصَلَ ، فلذلك كان قاصِراً . وقيل إِنَّ أصلَه التَّعدِّي إلى مفعولٍ ولكن حُذِفَ ، والتقديرُ : فَصَلَ نفسه ثم إن هذا المفعول حذف حتى صار الفعلُ كالقاصِرِ .
و { بالجنود } متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من « طَالُوت » أي مصاحباً لهم ] . وبين جملةِ قوله : « فلمَّا فَصَلَ » وبين ما قبلَها من الجملِ جُمل محذوفةٌ يَدُلُّ عليها فحوى الكلامِ وقوتُه ، تقديرُهُ : فلما أتاهم بالتَّابُوت أذعنوا له وأجابوا فَمَلَّكُوا طالوتَ ، وتأهَّبوا للخروجِ ، وهي كقوله : { فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق } [ يوسف : 45 ، 46 ] . ومعنى الفصل : القَطْعُ .
يقال : فصلت اللَّحْمَ عن العَظم فَصْلاً ، وفاصل الرَّجُل شريكهُ وامرأته فصالاً . ويُقالُ للفطام فِصالٌ؛ لأَنَّه يقطعُ عن الرَّضاع وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه ، قال تعالى : { وَلَمَّا فَصَلَتِ العير } [ يوسف : 94 ] والجنود جمع جُنْدٍ ، وكل صنف من الخلق جُنْدٌ على حدةٍ ، يقال للجراد الكثيرة : إنَّها جنود اللهِ ، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « الأَرْوَاح جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ » .
فصل
روي أنَّ طَالُوت خرج من بيت المقدس بالجنود ، وهم يومئذٍ سبعون ألفاً ، وقيل : ثمانُون ألف مُقاتل ، وذلك أَنَّهُم لمَّا رأَوا التَّابُوت لم يشكوا في النَّصْر ، فساروا إلى الجهاد ، فقال طالُوتُ : لا حاجة لي في كُلِّ ما أَرى ، لا يخرجُ معي رجُلٌ بنى بيتاً لم يفرغ منه ، ولا تاجِرٌ مشتغلٌ بالتِّجارة ، ولا مَنْ تزوّج امرأة لم يبنِ بها ، ولا يتبعني إلا الشاب النّشيط الفارغ ، فاجتمع إليه مما اختار ثَمَانُون ألفاً ، وكان في حَرٍّ شديد ، فشكوا قلَّة الماءِ بينهم ، وبين عدوِّهم وقالوا : إِنَّ المياه قليلة لا تحملنا ، فادعُ اللهَ أن يجري لنا نهراً فقال : { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ } ، واختلفوا في هذا القائل ، فقال الأكثرون هو طالوت؛ لأنَّهُ المذكور السَّابِقُ ، وعلى هذا ، فإِنَّه لم يقلهُ عن نفسه ، فلا بُدَّ وأن يكُون عن وحي أَتَاهُ عن رَبِّهِ وذلك يقتضي أَنَّه كان مع الملك نبيٌّ ، وقيل : القائِلُ هو النَّبِيُّ المذكور في أول القِصَّةِ ، وهو أشمويل عليه الصَّلاة والسَّلام ، وعلى هذا التَّقدير إن قلنا : هذا الكلامُ من طالُوت ، فيكون تحمَّلَهُ عن ذلك النَّبي ، وحينئذٍ لا يكون طالُوت نبيّاً ، وإن قلنا : الكلام من النَّبيّ فتقديره : فَلَمَّا فصل طالُوت بالجنود قال لهم نبيهم : إن اللهَ مبتليكم بنهرٍ ، وفي هذا الابتلاء وجهان :
الأول : قال القاضي : كان المشهورُ من أمر بني إسرائيل مخالفة الأنبياء ، والملوك مع ظهور الآيات ، والمعجزات ، فأراد اللهُ تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدوّ يتميز بها الصَّابِرُ على الحرب من غيره .
الثاني : أَنَّهُ تعالى ابتلاهم ليتعوَّدُوا الصَّبر على الشَّدائد والابتلاء الامتحان وفيه لغتان من « بَلاَ يَبْلُو » و « ابْتَلَى يَبْتَلِي » ؛ قال : [ الكامل ]
1163- وَلَقَدْ بَلَوْتُكَ وَابْتَلَيْتُ خَلِيفَتِي ... وَلَقَدْ كَفَاكَ مَوَدَّتِي بِتَأَدُّبِ

فجاء باللُّغتين ، وأصلُ الياءِ في مبتليكم واوٌ لأَنَّهُ من بلا يبلُو؛ وابتلى يَبْتَلِي ، أي : اختبر ، وإِنَّما قلبت لانكِسَارِ ما قبلها .
قوله { بِنَهَرٍ } الجمهورُ على قراءتَه بفتح الهاء وهي اللَّغة الفصيحةُ ، وفيه لغةٌ أخرى : تسكينُ الهاءِ ، وبها قرأ مجاهد وأبو السَّمَّال في جميع القرآن وكلُّ ثلاثي حشوه حرف حلق ، فإِنّهُ يجيء على هذين الوجهين؛ كقوله : صَخَرَ وَصَخْر وشَعَر وشَعْر وَبَحَر وَبَحْر؛ قال : [ البسيط ]
1164- كَأَنَّمَا خُلِقَتْ كَفَّاهُ مِن حَجَرٍ ... فَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالنِّى عَمَلُ
يَرَى التَّيَمُّمَ فِي بَرٍّ وفي بَحَرٍ ... مَخَافَةَ أَنْ يُرَى فِي كَفِّهِ بَلَلُ
وتقدم اشتقاقُ هذه اللَّفظة عند قوله تعالى : { مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ البقرة : 25 ] .
قوله : { فَلَيْسَ مِنِّي } ، أي : من أَشياعي وأصحابي ، و « مِنْ » للتَّبعيض؛ كأنه يجعلُ أصحابَه بعضه؛ ومثله قول النَّابغة : [ الوافر ]
1165- إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُوراً ... فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
ومعنى يَطْعَمْهُ : يَذُقْهُ؛ تقولُ العربُ : « طَمِعْتُ الشَّيْءَ » أي : ذُقْتُ طَعْمَهُ؛ قال : [ الطويل ]
1166- فَإِنْ شِئْتَ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ... وَإِنْ شِئْتَ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلاَ بَرْدَا
والنقاخ : الماءُ العذبُ المروِي ، والبردُ : هو النَّومُ .
فصل
قال أهلُ اللُّغة : وإِنَّما اختير هذا اللَّفظُ لوجهين :
أحدهما : أَنَّ الإِنسانَ إذا عطش جدّاً ، ثم شربَ الماء ، وأراد وصف ذلك الماء ، فإِنَّهُ يصفُهُ بالطُّعُومِ اللَّذِيذة ، فقوله : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } ، أي : وَإِنْ بلغ به العطشُ إلى حيث يكون الماءُ في فَمِهِ موصوفاً بالطُّعوم الطَّيِّبة؛ فإنه يجب عليه الاحتراز عنه ، وألا يشرب .
الثاني : أَنَّ مَنْ جعل الماءَ في فمه ، وتمضمض به ، ثم أخرجه فإنّه يصدق عليه أَنَّهُ ذاقه وطعمه ، ولا يصدُق عليه أَنَّه شربه ، فلو قال : ومن لم يشربه فإِنَّهُ مني ، كان المنعُ مقصوراً على الشّرب . فلما قال : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } حصل المنعُ في الشُّربِ ، والمضمضة ، ومعلومٌ أَنَّ هذا التَّكليف أَشَقُّ ، فإِنَّ الممنُوع من الشُّربِ ، إِذَا تَمَضْمضَ بالماءِ وجد نوع خِفَّةٍ وراحةٍ .
فإن قيل : هَلاَّ قيل : « وَمَنْ لَمْ يَطْْعَمْ مِنْهُ » ليكون آخر الآية مُطابقاً لأَوَّلها؟
فالجواب : إِنَّما اختير ذلك لفائدة وهي أَنَّ الفُقهاء اختلفوا في أَنَّ مَنْ حَلَفَ ألاَّ يشرب مِنَ هذا النَّهرِ . قال أبو حنيفة : لا يحنثُ إلا إِذَا كرع منهُ؛ حتى لو اغترف بكوزٍ من النَّهرِ ، وشرب لا يحنث؛ لأَنَّ الشُّرب من الشَّيء هو : أَنْ يكُونَ ابتداء شُربِهِ مُتَّصلاً بذلك الشَّيء ، وهذا لا يحصل إِلاَّ بالشُّرب مِنَ النَّهر .
وقال الباقون : يحنثُ بالشُّرب مِنَ الكُوزِ ، إذا اغترف به مِنَ النَّهر؛ لأَنَّ هذا وَإِنْ كان مجازاً ، فهو مجازٌ معروفٌ ، وإذا تقرَّر هذا فقوله : { مَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } ظاهره : أَنَّ النَّهْيَ مقصورٌ على الشُّرب من النَّهْرِ ، حتّى لو اغترف بكُوزٍ ، وشرب ، لا يكُونُ داخلاً تحت النَّهي فلما كان هذا الاحتمالُ قائِماً في اللَّفظ الأَوَّل ذكر في اللَّفظ الثَّاني ما يزيلُ هذا الاحتمال ، فقال : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } أضاف الطَّعم والشّرب إلى الماء لا إلى النهر إزالة لذلك الاحتمال .

فصل
قال ابنُ عبَّاس ، والسُّدِّيُّ : إِنَّه نهر فلسطين ، وقال قتادة والرَّبيع : هو نهرٌ بين الأُردن وفلسطين قال القاضي : والتوفيقُ بين القولين : أَنَّ النَّهر المُمتد من بلدٍ إلى بلدٍ قد يُضافُ إلى أحد البلدين . وروى الزَّمخشريُّ أَنَّ الوقت كان قيظاً ، فسلكوا مفازةً فسألوا أَنْ يجري اللهُ لهم نهراً ، فقال : إِنَّ اللهَ مبتليكم بما اقترحتُمُوهُ مِنَ النَّهرِ .
قوله : { إِلاَّ مَنِ اغترف } منصوبٌ على الاستثناء ، وفي المُستَثنى منه وجهان :
الصَّحيح أَنَّهُ الجملةُ الأولى ، وهي : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } ، والجملةُ الثانيةُ معترِضةٌ بين المُستَثنى والمُستَثنى مِنْهُ وأصلُها التَّأخيرِ ، وإِنَّما قُدِّمَتْ ، لأنها تَدلُّ عليها الأولى بطريقِ المفهوم ، فإنَّه لمَّا قال تعالى : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } ، فُهِمَ منه أَنَّ من لم يشرب فإنَّه منه ، فَلَمَّا كانت مدلولاً عليها بالمفهوم ، صارَ الفصلُ بها كلا فصلٍ .
وقال الزمخشريُّ : والجُمْلَةُ الثَّانيةُ في حُكم المُتَأَخِّرة ، إلاَّ أَنَّها قُدِّمَتْ للعناية ، كما قُدِّمَتْ للعناية ، كما قُدِّمَ « والصَّابِئُونَ » في قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون } [ المائدة : 69 ] .
والثاني : أَنَّهُ مستثنى من الجملة الثَّانية ، وإليه ذهب أبو البقاء . قال شهاب الدين : وهذا غيرُ سديدٍ لأنه يؤدِّي إلى أَنَّ المعنى : ومَنْ لم يطعمْه فإِنَّهُ مِنِّي ، إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرفة بيده؛ فإنه ليس مني ، لأَنَّ الاسْتثناء من النَّفْي إثباتٌ ، ومن الإِثبات نفيٌ ، كما هو الصَّحيحُ ، ولكن هذا فاسدٌ في المعنى؛ لأنهم مفسوحٌ لهم في الاغترافِ غرفةً واحدةً .
والاستثناءُ إذا تعقَّبَ الجُمَلَ ، وصلح عَوْدُهُ على كلٍّ منها هل يختصُّ بالأخيرة ، أم لا؟
خلافٌ مشهورٌ ، فإنْ دلَّ دليلٌ على اختصاصِهِ بإحدى الجُمَلِ عمِلَ به ، والآيةُ من هذا القبيل ، فإنَّ المعنى يعودُ إلى عودِهِ إلى الجُملة الأولى ، لا الثَّانية لِمَا قَرَّرْنَاهُ .
وقرأ الحرمِيَّان وأبو عمرو : « غَرْفَة » بفتح الغين وكذلك يعقوب وخلفٌ . والباقون بضمها . فقيل : هما بمعنى المصدر ، إلاَّ أنهما جاءا على غير الصَّدر كنبات من أَنْبَتَ ، وَلَوْ جاءَ على الصَّدر لقيل : اغترافاً . وقيل : هما بمعنى المُغْتَرف كالأَكل بمعنى المأكولِ . وقيل : المَفْتُوح مصدرٌ قُصِدَ به الدَّلالة على الوحدةِ ، فإنَّ « فَعْلَة » يدُلُّ على المَرَّة الواحدة ، ومثله الأكلة يقال فلان يأكل بالنهار أكلة واحدة والمضمُومُ بمعنى المفعول ، فحيثُ جعلتهما مَصْدراً فالمفعولُ [ محذوفٌ ، تقديره : إلاَّ مَن اغترف ماءً ، وحيثُ جعلتهما بمعنى المفعول ] كانا مفعولاً به ، فَلا يُحتاج إلى تقديرِ مَفْعُولٍ .
ويدل على الشَّيء الَّذي يحصُلُ بالكَفِّ كاللُّقمة والحُسْوة والخُطوةِ بالضم ، والحُزَّة القطعة اليسيرة من اللحم . قال القرطبيُّ : وقال بعضهم : الغرقة بالكَفّ الواحد ، والغُرفة بالكفين .
وقال المبرِّدُ « غَرْفَةً » بالفتح مصدر يقعُ على قليل ما في يده وكثيره وبالضَّمِّ اسم ملء الكف ، أو ما اغترف به ، فحيثُ جعلتهما مصدراً ، فالمفعولُ محذوفٌ تقديره : إِلاَّ من اغترف ماءً ، وحيثُ جعلتهما بمعنى المفعول كان مفعولاً به ، فلا يحتاجُ إلى تقديره مفعولٍ ونُقِلَ عن أبي علي أَنَّهُ كان يُرَجِّح قراءة الضَّمِّ؛ لأَنَّه في قراءةِ الفتح يجعلها مصدراً ، والمصدرُ لا يوافق الفعل في بنائِهِ ، إِنَّما جاءَ على حذفِ الزوائد وجعلُها بمعنى المفعول لا يحوج إلى ذلك فكان أرجح .

قوله : { بِيَدِهِ } يجوزُ أن يتعلَّق ب « اغْتَرَفَ » وهو الظَّاهر . ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل « غُرْفَة » ، وهذا على قولنا : بأن « غُرْفَة » ، بمعنى المفعول أَظْهر منه على قولنا : بأنها مَصْدَرٌ ، فإنَّ الظَّاهِرَ من الباء على هذا أن تكون ظرفيَّةٌ ، أي : غُرفةً كائِنَةً في يده .
فصل
قال ابن عباس : كانت الغرْفَةَ تَشْرَبُ منها هو ، ودوابُّهُ ، وخدمه ، ويحمل منها . قال ابن الخطيب : وهذا يحتملُ وجهين :
أحدهما : أَنَّهُ كان مَأْذوناً له أَنْ يأخذ من الماء ما شاء مرَّةً واحِدَةً بغرفةٍ واحدةٍ بحيثُ كان المأْخُوذُ من المرَّةِ الواحدة يكفيه ، ودوابُّهُ ، وخدمه ، ويحمل باقيه .
والثاني : أَنَّهُ كان يأخذُ القليل فيجعل اللهُ فيه البركة حتَّى يكفِي كُلَّ هؤلاء؛ فتكون معجزة لنبيّ ذلك الزَّمان كما أَنَّهُ تعالى كان يَروِي الخلق العظيم من الماءِ القليل في زمن محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - .
فصل
قال القرطبي : قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } يدلُّ على أَنَّ الماء طعامٌ ، فإذا كان طعاماً ، كان قُوتاً للأَبدان به ، فوجب أن يجري فيه الرِّبا .
قال ابن العربيّ وهو الصَّحيح من المذهب ، ورَوَى أبو عمر عن مالكٍ قال : لا بأس ببيع الماء بالماءِ متفاضلاً ، وإلى أجلٍ ، وهو قول أَبي حنيفة ، وأبي يوسف وقال محمَّد بن الحسن : هو مِمَّا يُكال ويوزن فعلى هذا لا يجُوزُ عندهُ التفاضل .
فصل
قال ابن العربيِّ : قال أبو حنيفة : إذا قال الرَّجُلُ إذا شرب عبدي من الفراتِ فهو حرّ ، فلا يُعتق إِلاَّ أَنْ يكرع فيه ، والكرعُ : أَنْ يشرب الرَّجُلُ بفيه مِنَ النَّهر ، فَإِنْ شرب بيده ، أو اغترف منه بإِناءٍ ، لم يعتق ، لأنَّ اللهَ - تعالى - فرَّق بين الكرع في النَّهر ، وبين الشّرب باليدِ . قال : وهذا فاسِدٌ لأَنَّ شُرب الماء يُطلق على كُلِّ هيئةٍ وصفةٍ في لسان العرب من غرف باليد ، أو كرع بالفم انطلاقاً واحداً .
قال القرطبي : وقول أبي حنيفة أصحّ؛ لأَنَّ أهل اللُّغة فرَّقوا بينهما ، كما فرَّق الكتابُ والسُّنَّةُ .
قال الجوهريُّ وغيره : كرع من الماء كروعاً : إذا تناوله بفيه من موضعه ، من غير أَنْ يشرب بكفيه ، أو بإناءٍ ، وفيه لغة أخرى « كرعَ » بكسر الرَّاء كَرَعاً .
وَأَمَّا السُّنَّة ، فما رُويَ عن ابن عمر قال : مررنا على بِرْكةٍ ، فجعلنا نكرعُ فيها فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ تَكْرَعُوا وَلَكِن اغْسِلُوا أَيْدِيكُمْ ثُمَّ اشْرَبُوا فيها ، فَإِنَّها ليس إِناءٌ بأَطيب مِنَ اليَدِ »

وقال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ شَرِبَ بيَدِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ على إِناءٍ يُريدُ بِهِ التَّواضُع كَتَبَ اللهُ بِعَدَدِ أَصَابِعِهِ حَسَنَاتٍ وهو إِناء عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسّلام - إذا اطَّرَح القدح فقال أَفّ هذا مع الدّنيا » أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر .
قوله : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً } هذه القراءةُ المشهورةُ ، وقرأ عبدالله ، وأُبَيّ والأعمش « إِلاَّ قَليلٌ » وتأويله أنّ هذا الكلام وإِنْ كان موجباً لفظاً فهو منفيّ معنى ، فإنه في قُوَّة : لم يُطيعوه إلا قليلٌ منهم ، فلذلك جعلهُ تابعاً لِمَا قبلهُ في الإِعْرابِ . قال الزَّمخشريُّ : وهذا مِنْ مَيْلِهم مع المعنى والإِعراضِ عن اللَّفظ جانباً ، وهو بابٌ جليلٌ من عِلْم العربيةِ ، فلمَّا كان معنى « فَشَرِبُوا مِنْهُ » في معنى « فلم يُطِيعوه » حمل عليه ، ونحوه قول الفرزدق : « لم يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ » يشير إلى قوله : [ الطويل ]
1167- وَعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أَوْ مُجَلَّفُ
فإنَّ معنى « لَمْ يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً » لم يبقَ من المالِ إِلاَّ مُسْحَتٌ ، فلذلك عطف عليه « مُجَلَّفُ » بالرَّفع مُراعاة للمعنى المذكور . وفي البيت وجهان آخران ، أحدهما . .
ولا بُدَّ من ذكر هذه المسألة لعموم فائدتها فأقول : إذا وقع في كلامهم استثناءٌ موجبٌ نحو : « قَامَ القَوْمُ إِلاَّ زَيْداً » فالمشهورُ وجوبُ النَّصب على الاستثناءِ . وقال بعضهم : يجوزُ أن يَتْبَعَ ما بعدَ « إِلا » ما قبلها في الإِعراب فتقول : « مَرَرْتُ بالقوم إلا زيدٍ » بجرّ « زَيْدٍ » واختلفوا في تابعيَّة هذا ، فعبارةُ بعضهم أَنَّهُ نعتٌ لما قبلَه ، ويقولُ : إنه يُنْعَتُ بإِلاَّ ، وما بعدها مُطْلقاً سواءً كان متبوعُها معرفةً ، أم نكرةً مضمراً ، أم ظاهراً ، وهذا خارجٌ عن قياس باب النَّعتِ لما قد عرَفْتَ فيما تقدَّم .
ومنهم مَنْ قال : لا يُنْعَتُ بها إِلاَّ نكرةً ، أو معرفةً بأل الجنسيّةِ لقربها من النّكرة . ومنهم مَنْ قال : قَولُ النَّحويين هنا نعتٌ : إِنَّما يعنُون به عطفَ البيانِ؛ ومن مَجِيء الإتباع بما بعد « إِلاَّ » قوله : [ الوافر ]
1168- وَكُلُّ أَخٍ مُفارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ
فصل
لما ذكر تعالى أَنّ هذا الابتلاء ليتميز المُطِيعُ مِنَ المخالف ، أخبر بعد ذلك بأَنَّهُم لما هجموا على النَّهرِ شرب أَكثرهم ، وأطاع قليلٌ ، فلم يشربوا ، فأَمَّا الَّذين شربُوا فَرُوي أَنَّهم اسودَّت شفاههم وغلبهم العطش ، ولم يرووا ، وبقوا على شَطّ النَّهر وجبنوا عن لقاءِ العدُوّ ، وأَمَّ الَّذين أطاعوا ، فقوي قلبهم ، وصحَّ إِيمانهُمُ .
قال السُّدِّيُّ : كانوا أربعة آلاف ، وقال الحسن ، وهو الصَّحيح : أنهم كانُوا على عَدَدِ أهل بدرِ ثلاثمائة ، وبضعة عشر ، ويدُلُّ عليه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام لأصحابه يوم بدر :

« أَنَّتُمُ اليَوْمَ عَلَى عَدَدِ أَصْحَابِ طَالُوت حين عَبَرُوا النَّهَر ، وَمَا جَازَ مَعَهُ إِلاَّ مُؤمنٌ » .
قال البراء بن عازب : وكنا يومئذٍ ثلاثمائة ، وثلاثة عشر رجلا ولا خلاف بين المُفسِّرين أَنَّ الذين عصوا رجعوا إلى بلدهم ، وإنما اختلفوا هل كان رجوعهم بعد مجاوزة النهر أو قبله؟ والصَّحيح : أنَّهُم لم يجاوزوا النَّهر ، وإِنَّما رجعوا قبل المجاوزة لقوله تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ } .
قال ابن عبَّاس والسُّدِّيُّ : كان المُخالِفون أهل شكٍّ ، ونِفاقٍ ، فقالوا : { لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } فانحرفوا ، ولم يجاوزُوا النَّهرَ .
وقال آخرون : بل جاوزُونا النَّهرَ ، وإنما كان رجوعهم بعد المجاوزة ، ومعرفتهم بجالوت ، وجنوده؛ لقولهم { لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } .
قوله : { قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً } وهذا يدلُّ على أَنَّهُم حين لا قوا العدوّ ، وعاينوا كثرتهم انقسموا فرقتين إحداهما : رجعت وهي المخالفة ، وبقيت المطيعة .
قوله : { جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ } « هو » ضميرٌ مرفوعٌ منفصِلٌ مؤكِّدٌ للضّمير المستكنِّ في « جَاوَزَ » .
قوله : « والَّذِين » يحتملُ وجهين :
أظهرهما : أنه عطفٌ على الضَّمير المستكنِّ في « جَاوَزَ » لوجود الشَّرط ، وهو توكيدُ المعطوفِ عليه بالضَّمير المنفصلِ .
والثاني : أَنْ تكُون الواوُ للحالِ ، قالوا : ويلزَمُ من الحالِ أن يكونُوا جاوزوا معه ، وهذا القائلُ يجعلُ « الَّذِينَ » مبتدأ ، والخبرَ قالوا : « لاَ طَاقَةَ » ؛ فصار المعنى : « َفَمَّا جَاوَزَهُ ، والحالُ أنَّ الَّذِين آمنوا قالوا هذه المقالة » ، والمعنى ليس عليه .
ويجوزُ إدغامُ هاء « جَاوَزَهُ » في هاء « هُو » ، ولا يُعْتدُّ بفصلِ صلةِ الهاءِ؛ لأنها ضعيفةٌ ، وإِنْ كان بعضهم استضعف الإِدغام ، قال : « إِلاَّ أَنْ تُخْتَلَسَ الهاءُ » ، يعني : فلا يبقى فاصلٌ . وهي قراءة أبي عمرو ، وأدغم أيضاً واوَ « هُوَ » في واو العطف بخلاف عنه ، فوه الإِدغام ظاهرٌ لالتقاءِ مثلين بشروطِهما . ومَنْ أظهر وهو ابن مجاهدٍ ، وأصحابُهُ قال : « لأَنَّ الواو إِذا أُدْغِمَت سَكَنَتْ ، وإذا سكنت صَدَقَ عليها أنها واوٌ ساكنة قبلها ضمَّةٌ ، فصارَت نظير : { آمَنُواْ وَكَانُواْ } [ يونس : 63 ] فكما لا يُدغم ذاك لا يدغم هذا . وهذه العِلَّةُ فاسدةٌ لوجهين :
أحدهما : أنها ما صارَتْ مثلَ » آمنوا ، وكانوا « إلا بعد الإِدغام ، فكيف يُقال ذلك؟ وأيضاً فإِنَّهُم أدغموا : { يَأْتِيَ يَوْمٌ } [ البقرة : 254 ] وهو نظيرُ : { فِي يَوْمٍ } [ إبراهيم : 18 ] و { الذى يُوَسْوِسُ } [ الناس : 4 ] بعين ما عَلَّلوا به .
وشرطُ هذا الإِدغام في هذا الحرف عند أبي عمرو ضمُّ الهاءِ ، كهذه الآية ، ومثله : { هُوَ والملائكة } [ آل عمران : 18 ] { هُوَ وَجُنُودُهُ } [ القصص : 39 ] ، فلو سكنت الهاءُ؛ امتنع الإِدغامُ نحو { وَهُوَ وَلِيُّهُمْ } [ الأنعام : 127 ] ولو جرى فيه الخلافُ أيضاً لم يكن بعيداً ، فله أُسوة بقوله : { خُذِ العفو وَأْمُرْ } [ الأعراف : 199 ] بل أولى لأَنَّ سكون هذا عارضٌ بخلافِ : » الْعفوَ وأمر « .
قوله تعالى : { والذين آمَنُواْ مَعَهُ } .

ليس المراد منه المعيّة في الإِيمان ، لأنَّ إيمانهم لم يكُن مع إِيمان طَالُوت ، بل المراد : أَنَّهم جاوزا النَّهر معه لأَنَّ لفظ « مع » لا تقتضي المعيَّة لقوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } [ الشرح : 5 ] واليسر لا يكون مع العسر .
قوله : { لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم } [ لنَا ] هو : خبر « لا » ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بطاقة ، وكذلك ما بعده من قوله « اليَومَ » و « بِجَالُوتَ » ؛ لأنه حينئذٍ يصير مُطَوَّلاً والمُطَوَّلُ ينصبُ منوناً ، وهذا كما تراهُ مبنياً على الفتح ، بل « اليَوْمَ » و « بِجَالُوتَ » متعلِّقان بالاستقرار الَّذي تعلَّق به « لنَا » .
وأجاز أبو البقاء : أن يكون « بِجَالُوتَ » هو خبرَ « لا » ، و « لنَا » حينئذٍ : إِمَّا تبيينٌ أو متعلِّقٌ بمحذوف على أَنَّه صفةٌ لطاقة .
والطَّاقةُ : القُدرةُ وعينُها واو؛ لأَنَّها مِنَ الطَّوقِ وهو القُدرةُ ، وهي مصدرٌ على حذفِ الزَّوائدِ ، فإِنَّها من « أَطَاقَ » ونظيرها : أجَابَ جابةً ، وأَغَارَ غارةً ، وَأَطَاعَ طَاعةً .
و « جالوت » اسمٌ أعجميٌّ ممنوعُ الصرفِ ، لا اشتقاقَ له ، وليس هو فَعَلوتاً من جال يَجُول ، كما تقدَّم في طَالُوت ، ومثلهما داود .
قوله : { كَم مِّن فِئَةٍ } « كَمْ » خبريةٌ ، فإنَّ معناها التَّكثيرُ ، ويدلُّ على ذلك قراءة أبي : « وكَائِن » ، وهي للتكثير ، ومحلُّها الرَّفعُ بالابتداء ، و « مِنْ فِئَةٍ » تمييزُها ، و « مِنْ » زائدةٌ فيه . وأكثرُ ما يجيءُ مميِّزها ، ومميِّز « كَائِن » مجروراً بمِنْ ، ولهذا جاء التنزيلُ على ذلك ، وقد تُحْذفُ « مِنْ » فيُجَرُّ مميِّزها بالإِضافة لا بمِنْ مقدرةً على الصَّحيح ، وقد يُنصَبُ حَمْلاً على مُميِّز « كَم » الاستفهامية ، كما أَنَّهُ قد يُجَرُّ مميِّز الاستفهاميّةِ حَمْلاً عليها ، وذلك بشروطٍ ذكرها النُّحاةُ .
قال الفرَّاء : لو ألغيت « مِنْ » ها هنا جاز فيه الرَّفع والنَّصبُ والخفضُ .
أَمَّا النَّصبُ فلأنّ « كم » بمنزلة عددٍ ، فينصب ما بعدهُ نحو : عشرونَ رجلاً . وَأَمَّا الخَفْضُ ، فبتقدير دخول حرف « من » عليه .
وأَمَّا الرَّفعُ ، فعلى نيَّة الفِعْل تقديره « كم غلبت فئةٌ » ومِنْ مجيءِ « كَائِن » منصوباً قولُ الشاعر : [ الخفيف ]
@1169- أُطْرُدِ اليَأْسَ بالرَّجَاءِ فَكَائِنْ ... آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ
وَأَجازُوا أَنُ يكونَ « مِنْ فِئَةٍ » في محلِّ رفع صفةً ل « كم » فيتعلَّق بمحذوفٍ . و « غَلَبَت » هذه الجملةُ هي خبرُ « كم » والتقديرُ : كثيرٌ من الفئاتِ القليلةِ غالبٌ الفئاتِ الكثيرةَ .
وفي اشتقاق « فئة » قولان :
أحدهما : أنها من فاء يَفِيء ، أي : رجع فَحُذِفَتْ عينُها ووزنُها فِلَة .
والثاني : أَنَّها مِنْ فَأَوْتُ رأسَه أي : كسرتُه ، فحُذِفت لامُها ووزنُها فِعَة كمئة ، إِلاَّ أَنَّ لامَ مئة ياءٌ ، ولامَ هذه واوٌ ، والفِئَةُ : الجماعةُ من النَّاسِ قلَّت ، أو كثرت ، وهي جمعٌ لا واحد له من لفظه ، وجمعها : فئات وفئون في الرَّفع ، وفئين في النَّصب والجرِّ ، ومعناها على كلٍّ من الاشتقاقين صحيحٌ ، فإنَّ الجماعَةَ من النَّاسِ يَرْجِعُ بعضهم إلى بعضٍ ، وهم أيضاً قطعةٌ من النَّاسِ كقطَعِ الرَّأْسِ المكسَّرة .

قوله : { بِإِذْنِ الله } فيه وجهان .
أَظهرهُمَا : أنَّه حالٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، والتَّقدير : ملتبسين بتيسير الله لهم .
والثاني : أَنَّ الباءَ للتَّعْدية ، ومجرورها مفعولٌ به في المعنى ، ولهذا قال أبو البقاء : « وإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَها مَفْعُولاً به » .
وقوله : { والله مَعَ الصابرين } مبتدأٌ وخبرٌ ، وتحتمِل وجهين :
أحدهما : أن يكون محلُّها النَّصْبَ على أنها من مقولهم .
والثاني : أنَّها لا محلَّ لها من الإِعراب ، على أَنّها استئنافٌ أَخْبَرَ اللهُ تعالى بها .
فصل في المقصود بالظن في الآية
اختلفوا في الظن المذكور في قوله تعالى : { قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله } . وذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : قال قتادة : المراد من لقاء الله الموت . قال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لقاءَه وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ » وهؤلاء المؤمنون ، لما وطَّنُوا أنفسهم على القتل ، وغلب على ظنهم أَنَّهُم يموتون وصفهم بأنهم يظنون أنهم ملاقوا ثواب الله .
وثانيها : قال أبو مسلم : معناه يظنون أَنَّهُم ملاقو ثواب الله بسبب هذه الطاعة ، وذلك لأَنَّ أحداً لا يعلمُ بما فيه عاقبة أمره وَإِنَّما يكون ظاناً راجياً وإِن بلغ في طاعة الله ما بلغ .
وثالثها : أَنَّهم ذكروا في تفسير السَّكينة قول بعض المفسِّرين : إِنَّ التَّابوت كان فيه كُتُبٌ إِلَهيَّةٌ ، نزلت على الأَنبياء المُتَقَدِّمين دالَّةٌ على حُصًولِ النَّصر ، والظّفر لِطَالُوتَ ، وجنوده ولكنه لم يكن في تلك الكُتُبِ أَنَّ النَّصْر والظّفر يحصلُ في المرةِ الأولى ، أو بعدها ، فهم وإِنْ كانوا قاطعين بالنصر ولكنهم ظَنُّوا : هل هُوَ في تلك المَرَّةِ ، أو بعدَها؟!
رابعها : قال كثير من المفسرين : يظنون : أي يعلمون ، فأطلق الظن وأراد به العلم كقوله تعالى : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ البقرة : 46 ] ووجه المجاز ما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكيد الاعتقاد .
والمراد من قولهم : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله } تَقْويةُ قلوب الَّذِينَ قالوا : { لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } ، والمعنى : لا عِبرة بكثرةِ العددِ ، وإِنَّما العبرةُ بالتَّأْييد الإِلهي ، ثم قال : { والله مَعَ الصابرين } . وهذا من تَمامِ قولهم ، ويحتمل أَنْ يكُونَ قولاً من اللهِ تعالى ، والأَوَّلُ أَظهرُ .

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)

قوله تعالى : { بَرَزُواْ لِجَالُوتَ } في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أنَّها تتعلَّق ب « برزوا » .
والثاني : أنها تتعلَّقُ بمحذُوفٍ على أَنَّها ومجرورها حالٌ من فاعل : « بَرَزوا » قال أبو البقاء : « وَيَجُوزُ أن تكُونَ حالاً أي : برزوا قاصِدِين لِجَالُوتَ » . ومعنى برزوا : صاروا إلى بَراز من الأرض ، وهو ما انْكَشَفَ منها وَاسْتَوَى ، وسميت المبارزة لظهور كُلّ قرنٍ لصاحبه ، واعلم أَنَّ عسكر طالُوت لما برزوا عسكر جالوت ، ورأوا قِلَّة جانبهم ، وكثرة عدوهم ، لا جرم اشتغلوا بالدُّعاء ، والتَّضرع ، فقالوا : { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً } . وفي ندائِهِم بقولهم : « رَبَّنَا » : اعترافٌ منهم بالعُبُوديَّة ، وطلبٌ لإِصلاحهم؛ لأَنَّ لفط « الرَّبَّ » يُشْعر بذلك دونَ غيرها ، وأَتوا بلفظِ « عَلَى » في قولهم « أَفْرغ عَلَيْنَا » طلباً؛ لأنْ يكونَ الصَّبْرُ مُسْتعلِياً عليهم ، وشاملاً لهم كالظرفِ . ونظيره ما حكى اللهُ عن قوم آخرين أَنَّهُم قالوا حين لاقوا عدوَّهم : ومَا كَانوا قَوْلَهُم إِلاَّ أَنْ قالُوا : { ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } [ آل عمران : 147 ] { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } [ آل عمران : 147 ] وكذلك كان عليه الصَّلاة والسَّلام يفعل في المواطن كما رُوِيَ عنه في قصّة بدرٍ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يَزَلْ يُصَلِّي ، ويستنجز من الله وعده ، وكان إِذَا لقي عدُوّاً قال : « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِم وَاجْعَلْ كَيْدَهُم فِي نُحُورِهِمْ » وكان يقول : « اللَّهُمَّ بِكَ أَصُولُ وَأَجُولُ » .
والإفراغ : الصَّبُّ ، يقال : أفرغت الإِناءَ : إذا صببت ما فيه ، أصله : من الفراغ يقال : فلان فارغٌ معناه : خالٍ ممَّا يشغله ، والإفراغ : إخلاءُ الإناء من كلِّ ما فيه .
واعلم أنَّ الأمور المطلوبة عند لقاء العدو ثلاثة :
الأول : الصَّبر على مشاهدة المخاوف وهو المراد بقولهم : { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } .
الثاني : أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات ما يمكنه أن يقف ويثبت ، ولا يصير ملجأ إلى الفرار .
الثالث : زيادة القوَّة على العدوِّ؛ حتى يقهره ، وهو المراد من قولهم « وانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ » .
فصل في دفع شبه المعتزلة في خلق الأفعال
احتجَّ أهل السُّنَّة بقوله : { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً . . . } الآية على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنه لا معنى للصَّبر إلاّ : القصد على الثبات ولا معنى للثبات إلاّ السُّكون والاستقرار ، وهذه الآية دالَّة على أنَّ ذلك القصد بالصَّبر من الله تعالى .
أجاب القاضي : بأنَّ المراد من الصبر ، وتثبيت الأقدام : تحصيل أسباب الصّبر ، وأسباب ثبات القدم : إمَّا بأن يلقي في قلوب أعدائهم الاختلاف ، فيعتقد بعضهم أنَّ البعض الآخر على الباطل ، أو يحدث في ديارهم وأهليهم البلاء ، كالموت ، والوباء ، أو يبتليهم بالموت ، والمرض الذي يعمهم ، أو يموت رئيسهم ، ومن يدبّر أمرهم ، فيكون ذلك سبباً لجرأة المسلمين عليهم .

والجواب عما قاله القاضي من وجهين :
الأول : أنَّا بيَّنَّا أنَّ الصَّبر عبارة عن القصد إلى السكون والثبات عبارة عن السكون وهو الذي أراده العبد من الله - تعالى - ، وأنتم تصرفون الكلام عن ظاهره ، وتحملونه على أسباب الصَّبر ، وترك الظَّاهر لغير دليل لا يجوز .
الثاني : أنَّ هذه الأسباب التي سلمتم أنَّها بفعل الله تعالى إذا حصلت ووجدت فهل لها أثر في التَّرجيح الدَّاعي ، أو ليس لها أثرٌ في التَّرجيح؛ فعند صدور هذه الأسباب المرجحة يحصل الرجحان ، وعند حصول الرُّجحان ، يمتنع الطَّرف المرجوح ، فيجب حصول الطَّرف الرَّاجح ، لأنه لا خروج عن طرفي النقيض وهو المطلوب .

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)

« الهَزَمُ » : أصله الكسر ، يقال « سِقَاءٌ مَتَهزِّم » إذا انشق و « قَصَبٌ مُتَهَزِّمٌ » ، أي متكسِّر .
والهزمة : نقرة في الجبل ، أو في الصَّخرة . قال سفيان بن عيينة في زمزم : وهي هزمة جبريل ، يريد هزمها برجله فخرج الماء . ويقال : سمعت هزيمة الرعد كأنَّه صوت تشقُّقٍ . ويقال للسَّحاب هزيم؛ لأنَّه ينشق بالمطر .
قوله : { بِإِذْنِ الله } فيه الوجهان المتقدِّمات أعني كونه حالاً ، أو مفعولاً به .
فصل
أخبر تعالى أنَّ تلك الهزيمة كانت بإذن الله تعالى وإعانته وتيسيره ، ثم قال : { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } .
قال القرطبيُّ : وكان جالوت رأس العمالقة وملكهم ، ظلُّه ميل ويقال : إنَّ البربر من نسله .
قال ابن عبَّاس : إنَّ داود - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان راعياً ، له سبعة إخوة مع طالوت ، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم « إِيشَا » ؛ أرسل إليهم داود ليأتيه بخبرهم ، فأتاهم وهم في المصاف وبدر جالوت الجياد إلى البراز ، وكان من قوم عاد ، فقال داود لإخوته : أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا فذهب إلى ناحية أخرى من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت ، وهو يحرض الناس .
فقال له داود : ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟
فقال طالوت : أنكحه ابنتي ، وأعطيه نصف ملكي ، فقال داود : فأنا أخرج إليه؛ وكانت عادته أنه يقاتل الأسد والذِّيب بالمقلاع في المرعى ، وكان طالوت عارفاً بجلادته ، فلما همَّ داود بالخروج إلى جالوت ، مرّ بثلاثة أحجار فقلن : يا داود ، خذنا معك ففينا منيَّة جالوت ، ثمَّ لما خرج إلى جالوت ، رماه ، فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه ، وقتل بعده ناساً كثيرة ، فهزم الله جنود جالوت ، وقتل داود جالوت وهو داود بن إيشى بكسر الهمزة . وقيل داود بن زكريَّا بن مرشوى من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وكان من أهل بيت المقدس ، فحسده طالوت ، وأخرجه من مملكته ، ولم يف له بوعده ، ثم ندم على صنعه ، فذهب يطلبه إلى أن قتل ، وملك داود ، وحصلت له النُّبوَّة ، وهو المراد من قوله : { وَآتَاهُ الله الملك والحكمة } هو العلم مع العمل والحكمة : هي وضع الأمور موضعها على الصَّواب ، والصَّلاح .
قوله : { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ . . . } .
قال الكلبيُّ وغيره : « صنعة الدُّرُوعِ » .
قال تعالى : { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السرد } [ سبأ : 10-11 ] وقيل : منطق الطَّير والنّمل ، وقيل الزّبور ، وعلم الدّين ، وكيفية الحكم ، والفصل .
قال تعالى : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } [ الأنبياء : 79 ] .
وقيل : الألحان الطَّيِّبة . قيل كان إذا قرأ الزَّبور؛ تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها ، وتظله الطّير مصغية له ، ويركد الماء الجاري ، وتسكن الرّيح .
وروى الضَّحَّاك عن ابن عباس : هو أنَّ الله تعالى أعطاه سلسلةً موصولة بالمجرّة ، ورأسها عند صومعته ، وقوّتها اللُّؤلؤ قوّة الحديد ، ولونها لون النّار وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر ، مدسَّرة بقضبان اللُّؤلؤ الرطب ، فلا يحدث في الهواء حدث إلاّ صلصلت السلسلة ، فيعلم داود ذلك الحدث ، ولا يمسُّها ذو عاهة إلاَّ برأ ، فكانوا يتحاكمون إليها بعد داود إلى أن رفعت فمن تعدَّى على صاحبه ، وأنكر حقه أتى إلى السِّلسلة ، فمن كان صادقاً مدّ يده إلى السِّلسلة ، فنالها ، ومن كان كاذباً ، لم ينلها ، وكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة ، فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلاً جوهرة ثمينة ، فلما استردَّها أنكرها فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي عنده الجوهرة إلى عكَّازه ، فنقرها وضمنها الجوهرة ، واعتمد عليها حتى حضروا السلسلة ، فقال صاحب الجوهرة : ردَّ عليَّ الوديعة .

فقال له صاحبه : ما أعرف لك عندي من وديعة ، فإن كنت صادقاً فتناول السلسلة ، فقام صاحب الجوهرة ، فتناولها بيده . فقيل للمنكر قم أنت ، فتناولها .
فقال لصاحب الجوهرة : خذ عكَّازي هذا ، فاحفظها حتى أتناول السِّلسلة ، فأخذها فقال الرجل : « اللَّهم إِن كنت تَعْلم أنَّ هذه الوديعة التي يدّعيها ، قد وصلت إليه فقرب مني السّلسلة ، فمد يده فتناولها ، فتعجب القوم ، وشكُّوا فيها ، فأصبحوا وقد رفع الله السِّلسلة .
قوله { مِمَّا يَشَآءُ } : فاعلٌ ، » يشاء « ضمير الله تعالى .
وقيل : ضمير داود ، والأول أظهر .
قوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ } ؛ قرأ نافعٌ هنا ، وفي الحج : » دِفَاع « ، والباقون : » دَفْع « . فأمَّا » دَفْع « ، فمصدر » دَفَعَ « » يَدْفَعُ « ثلاثياً ، وأمَّا » دِفَاع « فيحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مصدر » دَفَعَ « الثلاثيِّ أيضاً ، نحو : كَتَب كتاباً ، وأن يكون مصدر » دَافَعَ « ؛ نحو : قاتل قتالاً؛ قال أبو ذؤيبٍ : [ الكامل ]
1170- وَلَقَدْ حَرِصْتُ بَأَنْ أُدَافِعُ عَنْهُمُ ... فَإِذَا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لاَ تُدْفَعُ
قالوا وفعال كثيراً يجيء مصدراً للثلاثي من فَعَلَ وفَعِلَ ، تقول : جمح جماحاً وطمح طماحاً وتقول لقيته لقاءً ، وقمت قياماً ، وأن يكون مصدر لدفع تقول : دفعته ، دفعاً ، ودفاعاً نحو : قتل قتلاً وقتالاً .
و » فاعل « هنا بمعنى فَعَلَ المجرد ، فتتَّحد القراءتان في المعنى ويحتمل أن يكون من المفاعلة ، والمعنى أنه سبحانه إنَّما يكفّ الظَّلمة ، والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه ، ورسله ، وأئمة دينه ، وكان يقع بين أولئك المحقين ، وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات ، فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة كقوله تعالى : { يُحَارِبُونَ الله } [ المائدة : 33 ] و { شَآقُّواْ الله } [ الأنفال : 13 ] ونظائره كثيرة .
ومن قرأ » دِفَاع « ، وقرأ في الحجّ { يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا } [ الحج : 38 ] أو قرأ » دَفْع « ، وقرأ » يَدْفَع « - وهما أبو عمرو وابن كثير - فقد وافق أصله ، فجاء بالمصدر على وفق الفعل ، وأمَّا من قرأ هنا : » دَفْع « ، وفي الحجّ » يُدافِع « ، وهم الباقون ، فقد جمع بين اللُّغتين ، فاستعمل الفعل من الرُّباعي والمصدر من الثلاثي .

والمصدر هنا مضافٌ لفاعله وهو الله تعالى ، و « النَّاس » مفعول أول ، و « بعضهم » بدلٌُ من « الناسِ » بدل بعضٍ من كلٍّ .
و « ببعضٍ » متعلِّقٌ بالمصدر ، والباء للتعدية ، فمجرورها المفعول الثاني في المعنى ، والباء إنَّما تكون للتعدية في اللاَّزم ، نحو : « ذَهَبَ بِهِ » فأمَّا المتعدِّي لواحدٍ فإنَّما يتعدَّى بالهمزة ، تقول : « طَعِمَ زيدٌ اللَّحْمَ ، وأَطْعَمْتُه اللَّحْم ، ولا تقول : » طَعِمْته باللَّحْم « ، فتعدِّيه إلى الثاني بالباء ، إلاَّ فيما شذَّ قياساً ، وهو » دَفَعَ « ، و » صَكَّ « ، نحو : صككت الحجر بالحجر ، أي : جعلت أحدهما يصكُّ الآخر ، ولذلك قالوا : صككت الحجرين أحدهما بالآخر .
فصل في المدفوع والمدفوع به
اعلم أنَّه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع ، والمدفوع به ، وأمَّا المدفوع عنه ، فغير مذكورٍ ، وهو يحتمل وجوهاً :
الأول : أن يكون المعنى : ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض ، فيكون الدَّافعون هم الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام والأئمة الذين يمنعون النَّاس عن الكفر بسبب البعض بإظهار الدَّلائل .
قال تعالى : { أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] .
الثاني : دفع بعض الناس عن المعاصي ، والمنكرات بسبب البعض ، فيكون الدافعون هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ لقوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } [ آل عمران : 110 ] .
الثالث : ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج ، والمرج ، وإثارة الفتن في الدُّنيا بسبب البعض ، فيكون الدَّافعون هم الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - ثم الأئمة والملائكة والدّابّون عن شرائعهم ، وذلك أنَّ الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده ، ما لم يخبز هذا لذاك ، ويطحن ذاك لهذا ، ويبني هذا لذاك ، وينسج ذاك لهذا ، ولا تتمّ مصلحة الإنسان .
فالظَّاهر أن مصلحته لا تتمُّ إلاّ باجتماع جمع في موضع واحد ، ولهذا قيل إن الإنسان مدنيٌّ بالطبع ، ثم إنَّ الاجتماع سبب للمنازعة المفضية إلى المخاصمة ، ثم إلى المقاتلة ، فلا بدّ في الحكمة الإلهيَّة من وضع شريعةٍ بين الخلق ليقطع بها الخصومات ، والمنازعات ، فبعث الله الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بالشَّرائع؛ ليدفع بهم ، وبشرائعهم الآفات ، والفساد عن الخلق فإنَّ الخلق ما داموا متمسكين بالشَّرائع لا يقع بينهم خصامٌ ولا نزاعٌ ، والملوك والأئمة متى كانوا متمسكين بالشرائع كانت الفتن زائلة والمصالح حاصلة ، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام : » الإِسْلاَمُ والسُّلْطَانُ أَخَوَان « وقال أيضاً : » الإِسْلاَمُ أميرٌ ، والسُّلْطَانُ حَارِسٌ ، فمن لا أمير له فهو مُنْهَزِمٌ ، ومن لا حَارِسَ له فَهُو ضَائِعٌ « .
وعلى هذا الوجه فيكون تفسير قوله : { لَفَسَدَتِ الأرض } ، أي : لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي ، وذلك يسمّى فساداً . قال تعالى : { وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد }

[ البقرة : 205 ] وقال : { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين } [ القصص : 19 ] .
الرابع : ولولا دفع الله بالمؤمنين ، والأبرار عن الكفّار ، والفجّار ، لفسدت الأرض ولهلكت بمن فيها . قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « إِنَّ اللهَ لَيَدْفَعُ بِالمُسْلِم الصَّالِح عَنْ مائَةِ أَهْلِ بَيٍْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ » وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « إِنَّ اللهَ يَدْفَعُ بمن يُصَلِّي مِنْ أُمَّتِي عمَّن لا يصلِّي ، وبمن يزكّي عمن لا يُزكِّي ، وبمن يصوم عمَّن لا يصوم وبمن يحجّ عمَّن لا يحجّ ، وبمن يجاهد عمَّن لا يجاهد ، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين » ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية .
ويدلُّ على صحَّة هذا القول قوله تعالى : { وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } [ الكهف : 82 ] . وقال تعالى : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الفتح : 25 ] وقال : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] . وعلى هذا التأويل يكون معنى قوله : { لَفَسَدَتِ الأرض } ، أي : لأهلك الله أكثر أهلها الكفّار والعصاة .
قال القرطبيُّ : وقيل : هم الأبدال ، وهم أربعون رجلاً ، كلّما مات واحدٌ أبدل آخر ، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم اثنان وعشرون بالشَّام ، وثمانية عشر بالعراق .
وروي عن علي - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إِنَّ الأَبْدَالَ يَكُونُونَ بالشَّام وَهُمْ أَرْبعُونَ رَجُلاً كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُم رَجُلٌ أبدل اللهُ مكانه رَجُلاً يُسْتَقَى بِهِمُ الغَيْث وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى الأَعْدَاءِ وَيُصْرَفُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الأَرْضِ البَلاَء » .
ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول ، وخرج أيضاً عن أبي الدرداء قال : إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض ، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوماً من أمة محمد يقال لهم الأبدال ، لم يفضلوا النَّاس بكثرة صوم ، ولا صلاة ، ولكن بحسن خلق ، وصدق الورع ، وحسن النِّية ، وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنَّصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله ، بصبر ، وحلم ، ولبٍّ ، وتواضع في غير مذلَّةٍ فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله سبحانه لنفسه ، واستخلصهم بعلمه لنفسه ، وهم أربعون صدِّيقاً ثلاثون رجلاً على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن بهم يرفع الله المكاره ، والبلايا عن النَّاس ، وبهم يمطرون ، ويرزقون ، لا يموت الرَّجل منهم ، حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه .
وقال سفيان الثَّوري : « هم الشُّهود الذين تستخرج بهم الحقوق » .
الخامس : قال ابن عبَّاس ومجاهد : ولولا دفع الله بجنود المسلمين؛ لغلب المشركون على الأرض ، فقتلوا المؤمنين ، وخربوا المساجد ، والبلاد .
السادس : أن يحمل اللفظ على الكل؛ لأن بين هذه الأقسام قدراً مشتركاً ، وهو دفع المفسدة ، فإذا حملنا اللَّفظ عليه ، دخلت الأقسام بأسرها فيه .

فصل في بطلان مذهب الجبر
قال القاضي : هذه الآية من أقوى الدَّلائل على بطلان الجبر؛ لأنه إذا كان الفساد من خلقه لم يكن لقوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } تأثير في زوال الفساد؛ لأن على قولهم إنَّما لا يقع الفساد بسبب ألا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى النَّاس ، والجواب : أنَّ الله تعالى لمّا كان عالماً بوقوع الفساد ، فإذا صح مع ذلك العلم ألاَّ يقع الفساد كان المعنى أنه لا يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد ، فيلزم أن يكون العبد قادراً على الجمع بين النَّفي والإثبات ، وهو محال ويؤيد ذلك قوله تعالى مستدركاً { ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين } بين أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم فلو كان دفع الفساد بهذا الطريق فعل العبد لكان الفضل للعبد؛ لأنه الدَّافع على قولهم ، ولم يكن لله تعالى على العالمين فضل سبب ذلك الدَّفع . فإن قالوا : نحمل هذا على البيان ، والإرشاد .
قلنا : كلُّ ذلك قائم في حقّ الكفَّار ، والفجَّار ، ولم يحصل منهم دفاع .
قوله : { ولكن الله } وجه الاستدراك أنه لمَّا قسَّم النَّاس إلى مدفوع ومدفوع به ، وأنَّه بهذا الدَّفع امتنع فساد الأرض ، فقد يهجس في نفس من غُلب عمّا يريد من الفساد أنَّ الله غير متفضِّلٍ عليه ، حيث لم يبلغه مقاصده وطلبه ، فاستدرك عليه [ أنّه ] وإن لم يبلغ مقاصده أنَّ الله متفضّلٌ عليه ، ومحسن إليه؛ لأنه مندرجٌ تحت العالمين ، وما من أحدٍ إلاّ ولله عليه فضلٌ ، وله فضل الاختراع [ والإيجاد ] .
و « عَلَى » يتعلَّق ب « فَضْل » ؛ لأنَّ فعله يتعدَّى بها ، وربَّما حذفت مع تخفيف الفعل؛ وقد جمع [ بين ] الحذف والإثبات في قوله : [ الوافر ]
1171- وَجَدْنَا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقِيْماً ... كَفَضْل ابْنِ المَخَاضِ عَلَى الفَصِيلِ
أمَّا إِذا ضُعِّف ، فإنه لا تحذف « على » أصلاً كقوله : { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } [ البقرة : 253 ] ، ويجوز أن تتعلَّق « عَلَى » بمحذوفٍ لوقوعها صفةً لفضل .

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

قوله تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ الله } : مبتدأٌ وخبرٌ ، و « نَتْلُوهَا » فيه قولان :
أحدهما : أن تكون حالاً ، والعامل فيها معنى الإشارة .
والثاني : أن تكون مستأنفةً فلا محلَّ لها . ويجوز غير ذلك ، وهو يؤخذ مما تقدم .
قال القرطبيُّ : وإن شِئْتَ كان « آيَاتُ الله » بدلاً ، والخبر نتلوها عليك بالحقّ وأشير إليها إشارة البعيد لما بينا في قوله : { ذَلِكَ الكتاب } [ البقرة : 2 ] أن « تلك » و « ذَلِكَ » يرجع إلى معنى هذه ، وهذا ، وأيضاً فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشَّيء الذى انقضى ، ومضى ، فكانت في حكم الغائب ، فلذها التأويل قال : « تِلْكَ » وأشير إليها إشارة البعيد لما تقدَّم في قوله : { ذَلِكَ الكتاب } . قوله : « بالحق » يجوز فيه أن يكون حالاً من مفعول « نَتْلُوها » ، أي : ملتبسةً بالحقّ ، أو من فاعله؛ أي : نتلوها ومعنا الحقُّ ، أو من مجرور « عَلَيْكَ » ، أي : ملتبساً بالحقّ .
قوله : { وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } . قال القرطبيُّ : خبر إن أي : وإنك لمرسل .
فصل
اعلم أنَّه أشار بقوله : « تِلْكَ » إلى القضيَّة المذكورة من نزول التَّابوت ، وغلب الجبابرة على يد داود ، وهو صبيٌّ فقير . ولا شكّ أنَّ هذه الأحوال آياتٌ باهرةٌ دالّة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ، وفي معنى قوله : « بالحق » وجوه :
أحدها : أنَّ المراد : أن تعتبر بها يا محمَّد أنت ، وأمتك في احتمال الشَّدائد في الجهاد ، كما احتملها المؤمنون ، فيما مضى ، وقال « نَتْلُوهَا » ، أي : يتلوها جبريل ، وأضاف ذلك إليه تشريفاً له كقوله : { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] .
وثانيها : « بالحق » أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب؛ لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت أصلاً .
وثالثها : أنَّا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالَّة على نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة .
ورابعها : « بالحق » ، أي : يجب عليك أن تعلم : أنَّ نزول هذه الآيات من قبل الله تعالى ، وليس من قبل الشياطين ، ولا تحريف الكهنة والسحرة ، وقوله عقيب ذلك : { وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } . يحتمل وجهين :
الأول : أن إخبارك عن هذه القصص من غير تعلُّم ، ولا دراسة دليل على أنَّك رسول وإنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى .
الثاني : أن يكون المراد منه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم . والمعنى أنك إذا عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء من الخلاف والرد لقولهم ، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك ، وخلاف من خالفك ، لأنَّ لك بهم أسوة وإنَّما بعثوا لتأدية الرِّسالة على سبيل الاختبار ، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك إنَّما يرجع عليهم .

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)

قال القرطبيُّ : قال « تِلْكَ » ، ولم يقل « ذَلِكَ » مراعاةً لتأنيث لفظ الجماعة ، وهي رفع بالابتداء ، و « الرُّسُلُ » نعته ، وخبر الابتداء الجملة وقيل : « الرسل » عطف بيان ، و « فضَّلنا » الخبر .
فصل في مناسبة الآية لما قبلها
قال أبو مسلمٍ : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها ، ما ذكر في الآية التي قبلها من تسلية الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، وهو أنَّه أخبر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بأخبار الأنبياء المتقدّمين ، وأقوال أُممهم لهم ، كسؤال قوم موسى : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] ، وقولهم : { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] . وكقوم عيسى بعد مشاهدة إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله ، فكذبوه ، وراموا قلته ، ثم أقام فريقٌ منهم على الكفر به ، وهم اليهود ، وزعم فريقٌ منهم أنَّهم أولياؤه ، وكالملأ من بني إسرائيل الذين حسدوا طالوت ، ودفعوا ملكه بعد المسألة ، وكذلك ما جرى من أمر النهر ، فذكر ذلك كلَّه تسلية للرَّسول صلى الله عليه وسلم عمّا رأى من قومه من التّكذيب والحسد ، فقال : هؤلاء الرُّسل الذين كلَّم الله بعضهم ، ورفع الباقين درجات ، وأيّد عيسى بروح القدس ، قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك من مشاهدة المعجزات ، فلا يحزنك ما ترى من قومك ، فلو شاء الله لم يختلف أمم أولئك ، ولكن ما قضى الله فهو كائن ، وما قدَّره ، فهو واقع .
فصل
في المراد من تلك الرُّسل أقوال :
أحدها : أنَّ المراد من تقدم ذكرهم من الأنبياء في القرآن كإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، وموسى وغيرهم - صلوات الله عليهم - .
الثاني : أنَّ المراد من تقدّم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل ، وداود ، وطالوت على قول من يجعله نبيّاً .
الثالث : قال الأصمُّ : المراد منه الرُّسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد ، وأشار إليهم بقوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } قوله تعالى : { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ } : يجوز أن يكون حالاً من المشار إليه ، والعامل معنى الإشارة كما تقدَّم ، وقال « تلك » ولم يقل أولئك الرُّسل؛ لأنه ذهب إلى معنى الجماعة كأنه قيل : تلك الجماعة ، ويجوز أن يكون مستأنفاً ، ويجوز أن يكون خبر « تِلْكَ » على أن يكون « الرُّسل » نعتاً ل « تِلْكَ » ، أو عطف بيان أو بدلاً .
فصل في تفاضل الأنبياء
أجمع الأمَّة على أنَّ الأنبياء بعضهم أفضل من بعضٍ ، وأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من الكلِّ ، ويدلُّ على ذلك وجوه :
الأول : قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] فلما كان رحمة للعالمين ، لزم أن يكون أفضل من كلِّ العالمين .
الثاني : قوله : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشرح : 4 ] قيل فيه لأنه قَرَنَ ذكره بذكره في الشَّهادتين والأذان ، والتّشهد ، ولم يكن ذلك لسائر الأنبياء .

الثالث : أنه تعالى قرن طاعته بطاعته فقال : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] وبيعته ببيعته فقال : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] وعزته بعزته فقال : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ } [ المنافقون : 8 ] ورضاه برضاه فقال : { أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، وإجابته بإجابته فقال : { استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم } [ الأنفال : 24 ] .
الرابع : أنَّ معجزات سائر الأنبياء قد ذهبت ، ومن بعض معجزاته - عليه الصَّلاة والسَّلام - القرآن ، وهو باقٍ إلى آخر الدَّهر .
الخامس : قوله تعالى بعد ذكر الأنبياء : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] فأمر محمداً بالاقتداء بهم ، وليس هو الاقتداء في أصول الدين؛ لأن شرعه نسخ سائر الشّرائع ، فلم يبق إلا أن يكون الاقتداء في محاسن الأخلاق ، فكأنه تعالى قال : إنّي أطلعتك على أحوالهم وسيرهم ، فاختر أنت أجودها ، وأحسنها . فمقتضى ذلك أنه اجتمع فيه من الخصال ما كان متفرقاً فيهم ، فوجب أن يكون أفضل منهم .
السادس : أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - بعث إلى الخلق كلهم ، فوجب أن يكون مشقته أكثر من بعث إلى بعضهم ، فإذا كانت مشقته أكثر كان أجره أكثر ، فوجب أن يكون أفضل .
السابع : أن دين محمَّد أفضل الأديان؛ فيلزم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء .
بيان الأول : أنَّ الله تعالى جعل دينه ناسخاً لسائر الأديان ، والنَّاسخ أفضل من المنسوخ ، قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] . وإنَّما نالت الأمة هذه الفضيلة لمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع .
الثامن : قال صلى الله عليه وسلم : « آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ » وذلك يدل على أنه أفضل من آدم ، ومن كل أولاده ، وقال صلى الله عليه وسلم : « أَنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ » وقال صلى الله عليه وسلم : « لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ النَّبيِّين حَتَّى أَدْخُلَهَا أَنَا ، ولا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ مِنَ الأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتي » وروى أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال : « أَنَا أَوَّل النَّاسِ خُرُوجاً إِذَا بُعِثُوا ، وَأَنا خَطِيبُهُم إِذَا وَفَدُوا ، وَأَنَّا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أيسُوا ، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلى رَبِّي وَلاَ فَخْرَ » .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : جلس ناسٌ من الصَّحابة يتذاكرون فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثهم فقال بعضهم : عجبأ إنَّ الله اتخذ إبراهيم خليلاً ، وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً ، وقال آخر : فعيسى كلمة الله وروحه . وقال آخر : آدم اصطفاه الله ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « سَمِعْتُ كَلاَمَكُم ، وحُجَّتُكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللهِ وهُوَ كَذَلِك ، ومُوسَى نَجِيُّ الله ، وَهُوَ كَذلِكَ ، أَلاَ وَأَنَا حَبِيبُ اللهِ ، وَلاَ فَخْرَ ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الحَمْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا فَخْرَ ، وَأَنَا أوّل مَنْ يُحَرِّكُ حَلَقَة الجَنَّة فَيُفْتَحُ لي ، فَأَدْخُلها ، ومَعِي فُقَرَاءُ المُؤْمِنِينَ ، وَأَنَا أَكْرَمُ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ وَلاَ فَخْرَ » .

التاسع : روى البيهقي في « فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ » - رضي الله عنهم - « أنه ظهر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من بعيد؛ فقال صلى الله عليه وسلم : » هَذَا سَيِّدُ العَرَبِ « فقالت عائشة رضي الله عنها : ألَسْتَ أَنْتَ سَيِّدَ العَرَبِ؟ فقال : » أَنَا سَيِّدُ العَالَمِينَ وهو سيِّدُ العرب « .
العاشر : جاء في الصحيحين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : » أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ من الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي ، وَلاَ فَخْرَ ، بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ ، والأَسْوَدِ ، وكان النَّبي قبل يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ ، وجُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِداً وطَهُوراً وَنُصِرْتُ بالرُّعْبِ أَمَامِي مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ ولَمْ تُحَلَّ لأحَدٍ قَبْلِي ، وأُعْطِيتِ الشَّفَاعَةَ ، فادَّخَرْتُهَا لأُمَّتِي ، فهِيَ نائلة إن شاء الله تعالى مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيئاً « .
الحادي عشر : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : » إِنَّ الله تعالى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ومُوسَى نَجِيّاً وَاتَّخَذَنِي حَبيباً . قال : وعزَّتي لأوثرنّ حبيبي على خليلي « .
الثاني عشر : أنَّ الله تعالى كلما نادى نبيّاً في القرآن ناداه باسمه قال : { يَاآدَمُ اسكن } [ البقرة : 35 ] { ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر } [ المائدة : 116 ] { يانوح اهبط } [ هود : 48 ] { ياداوود } [ ص : 26 ] { وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم } [ الصافات : 104 ] { ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ } [ طه : 11-12 ] وأما النبي صلى الله عليه وسلم فناداه بقوله : { ياأيها النبي } [ الأنفال : 64 ] { ياأيها الرسول } [ المائدة : 41 ] وذلك يفيد التفضيل .
قال القرطبي رحمة الله عليه : فإن قيل : قد روى الثِّقات أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ وَلاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ « ، فأجاب بعض العلماء عن ذلك ، فقال : كان هذا قبل أن يوحى إليه بالتفضيل ، وقبل أن يعلم أنه سيّد ولد آدم ، وأن القرآن ناسخٌ للمنع من التَّفضيل .
وقال قوم : إنَّ المنع من التَّفضيل إنما هو من جهة النُّبوة ، التي هي خصلة واحدة ، لا تفاضل فيها ، وإنَّما التَّفاضل في زيادة الأحوال ، والكرامات ، والألطاف ، والمعجزات المتباينة .
وأما النُّبوَّة في نفسها ، فلا تفاضل فيها ، وإنما التَّفاضل في أمورٍ أخر زائدةٍ عليها؛ ولذلك منهم » أُولُو العَزْمِ « ، ومنهم من اتُّخِذَ خَليلاً ، ومنهم مَنْ كَلَّم اللهُ ، ورفع بعضهم درجات .
قال القرطبي : وهذا أحسن الأقوال ، فإنَّه جمع بين الآي ، والأحاديث من غير نسخ ، وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى اشتركوا في الصُّحبة ، ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب ، والوسائل ، مع أنَّ الكلَّ شملتهم الصُّحبة والعدالة .
قال ابن الخطيب : فإن قيل إنَّ معجزات سائر الأنبياء ، كانت أعظم من معجزاته ، فإن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - جعل مسجود الملائكة ، وإبراهيم ألقي في النَّار العظيمة؛ فانقلبت برداً وسلاماً عليه ، وموسى أوتي تلك المعجزات العظيمة من قلب العصا حية تسعى ، وتلقفها ما صنعوا ، وإخراج اليد البيضاء من غير سوء ، وفلق البحر ، وفلق الحجر ، ومكالمة ربه ، وداود ألان له الحديد ، وسخّر الجبال يسبحن معه والطّير ، وسخر لسليمان الجن ، والإنس ، والطير والوحوش والرِّياح ، وعيسى أنطقه في المهد ، وأقدره على إحياء الموتى ، ونفخ فيه من روحه ، وجعله يبرئ الأكمه ، والأبرص ، ولم يكن ذلك حاصلاً لمحمد صلى الله عليه وسلم وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - :

« لاَ تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى » وقال : « لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ خَيْراً مِنْ يَحْيى بين زَكَرِيَّا » ، وذكر أنه لم يعمل سيئة قط .
فالجواب : أن كون آدم - عليه الصّلاة والسّلام - مسجوداً للملائكة؛ لا يوجب أَنْ يكون أفضل من محمد - صلى الله عليه وسلم - بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : « آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ » وقال : « كُنْتُ نَبِيّاً وَآدَمُ بَيْنَ المَاءِ والطِّينِ » ، وروي أَنَّ جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - أخذ بركاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج ، وهذا أعظم من السُّجُود . وقال تعالى : { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي } [ الأحزاب : 56 ] - صلى الله عليه وسلم - فصلّى بنفسه على محمَّد ، وأمر الملائكة ، والمؤمنين بالصَّلاة عليه ، وذلك أفضل من سُجُود الملائكة ، وأيضاً ، فإِنَّ سُجُودَ الملائكة لآدم كان تأديباً ، وأمرهم بالصَّلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم - تقريباً ، وأيضاً فالصَّلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم - [ دائمة إلى يوم القيامة وسجود الملائكة لآدم عليه السَّلام ] لم يكن إلا مرَّةً واحدة ، وأيضاً فإِنَّ الملائكة ، إِنَّما أمروا بالسُّجود لآدم لأجل أَنَّ نور محمد - صلى الله عليه وسلم - في جبهة آدم .
قال القرطبي : وقال ابن قتيبة : إِنَّما أراد بقوله : « أَنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ » يوم القيامة؛ لأَنَّه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض ، وأراد بقوله : « لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى يُونسَ بن مَتَّى » على طريق التواضع ، لأنَّ قوله تعالى : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } [ القلم : 48 ] يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل منه .
فإن قيل : إنه تعالى خصّ آدم بالعلم فقال : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] وقال في حقّ محمد - صلى الله عليه وسلم - : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } [ الشورى : 52 ] وأيضاً فمعلم آدم هو الله تعالى ومحمد معلمه جبريل كما قال : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى } [ النجم : 5 ] .
فالجواب : أن الله تعالى قال في علم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً } [ النساء : 113 ] ، وقال : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } [ الرحمن : 1-2 ] وقال : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه : 114 ] ، وأما قوله : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى } ، فذلك بحسب التلقين والمعلم هو الله كقوله : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] وقال : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] .
فإن قيل : قال نوحٌ - عليه الصَّلاة والسَّلام - { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا }

[ هود : 29 ] وذلك خلق منه . وقيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } [ الأنعام : 52 ] .
فالجواب : قد قيل لنوح : { أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ نوح : 1 ] فكان أوَّل أمره العذاب . وقيل لنبينا - صلى الله عليه وسلم - : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ، وعاقبة نوح أن قال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] وعاقبة النّبي - صلى الله عليه وسلم - الشّفاعة . قال تعالى : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [ الإسراء : 79 ] فما أوتي نبي آية إلا أُوتي نبينا مثل تلك الآية ، وفضل على غيره بآيات مثل انشِقاق القمر بإشارته ، وحنين الجذع على مفارقته ، وتسليم الحجر والشّجر عليه ، وكلام البهائم ، والشَّهادة برسالته ، ونبع المَاءِ من بين أصابعه وغير ذلك من المُعجزات ، والآيات الَّتي لا تحصى وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السَّماء والأَرض عن الإتيان بمثله .
قوله : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } هذه الجملة تحتملُ وجهين :
أحدهما : أَنْ تكونَ لا مَحَلَّ لها من الإِعرابِ لاستئنافها .
والثاني : أنها بدلٌ من جملةِ قوله « فَضَّلْنا » . والجمهورُ على رفع الجلالة على أنه فاعلٌ ، والمفعولُ محذوفٌ وهو عائدُ الموصولِ أي : مَنْ كَلَّمه الله كقوله : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين } [ الزخرف : 71 ] .
وقُرئ بالنصبِ على أنَّ الفاعل ضميرٌ مُستترٌ وهو عائدُ الموصولِ أيضاً ، والجلالةُ نَصْبٌ على التَّعظيم .
وقرأ أبو المتوكل وابن السَّميفع : « كالَمَ اللهَ » على وزن فاعَلَ ، ونصبِ الجلالةِ ، و « كَليم » على هذا معنى مُكَالِم نحو : جَلِيس بمعنى مُجالِس ، وخليط بمعنى مخالطٍ . وفي هذا الكلامِ التفاتٌ؛ لأنه خروجٌ من ضَمِيرِ المتكلّمِ المعظِّم نفسَه في قوله : « فَضَّلْنا » إلى الاسمِ الظَّاهِر الَّذشي هو في حُكْمِ الغائِبِ .
فضل في كلام اللهِ المسموع
اختلفوا في ذلك الكلامِ ، فقال الأشعري وأتباعه هو الكلامُ القديم الأزليُّ الذي ليس بحرف ، ولا صوت قالوا : كما أَنَّه لم يمتنع رُؤية ما ليس بمكيف ، فهكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف .
وقال الماتريديُّ : سماع ذلك الكلام محالٌ إِنَّما المَسْموع هو الحرف والصَّوت .
فصل في المراد بالمُكلَّم
اختلفوا هل المُرادُ بقوله : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } هل هو موسى وحده أم هو وغيره فقيل : موسى - صلى الله عليه وسلم - وحده ، وقيل : بل هو وغيره .
قالوا : وقد سمع من قوم موسى السّبعون المختارون ، وسمع محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة المِعراج بدليل قوله : { فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى } [ النجم : 10 ] فإن قيل : قوله تعالى : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } إِنَّما ذكره في بيان غاية المنقبة والشّرف لأولئك الأَنبياء الذين كلّمهم الله تعالى ، وقد جاء في القرآن ، مكالمة بين الله ، وبين إبليس ، حيث قال : { فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } إلى آخر الآيات [ الحجر : 36-38 ] وظاهرها يدلُّ على مكالمة كثيرة بين اللهِ ، وبين إبليس ، فإن كان ذلك يوجب غاية الشَّرف ، فكيف حصل لإبليس؟ فإن لم يوجب شَرَفاً ، فكيف ذكره في معرض التَّشريف لموسى - صلى الله عليه وسلم - حيث قال :

{ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] .
فالجواب : من وجهين :
أحدهما : أَنَّهُ ليس في قِصَّة إبليس ما يدلُّ على أَنَّ الله تعالى قال في تلك الأجوبة معه من غير واسطة ، فلعلَّ الواسطة كانت موجودة .
الثاني : هَبْ أَنَّهُ كان من غير واسطةٍ ، ولكن مكالمة بالطَّرد واللَّعن فإِنَّ الله يكلِّم خاصَّتَهُ بما يحبُّونَ من التَّقرُّب والإكرام ، ويكلّم من يَهينُهُ بالطَّرْدِ واللَّعْنِ والكلام الموحش فإنه وإِن كان منهما مكالمة لكن إحداهما توجب التَّقرُّبَ والتَّشريف والإكرام ، والأخرى تُوجِبُ البُعدَ ، والإِهانة والطَّرد .
قوله : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } .
في نصبه ستَّةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال .
الثاني : أَنَّهُ حالٌ على حذفِ مُضَافٍ ، أي : ذوي درجاتٍ .
الثالث : أَنَّهُ مفعولٌ ثانٍ ل « رفع » على أَنَّهُ ضُمِّنَ معنى بلَّغ بعضهم درجات .
الرابع : أنه بدلُ اشتمالٍ ، أي : رفع درجاتٍ بعضهم ، والمعنى : على درجاتِ بعض .
الخامس : أنه مصدرٌ على معنى الفعل لا لفظه؛ لأَنَّ الدّرجة بمعنى الرَّفعة ، فكأنه قيل : ورَفَع بعضهم رَفعاتٍ .
السادس : أنه على إِسْقاط الخافضِ ، وذلك الخافضُ يَحْتمل أن يَكُون « عَلَى » أو « فِي » ، أو « إلى » تقديره : على درجاتٍ أو في درجاتٍ أو إلى درجات ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجر انتصَبَ ما بعده .
فصل في المراد بالدَّرجات
في تلك الدَّرجات وجوهٌ :
أحدها : أَنَّ المُراد منه بيان أَنَّ مراتِب الرُّسل ، ومناصبهم متفاوتة؛ وذلك لأَنَّه تعالى اتَّخَذ إبراهيم خَلِيلاً ، ولم تكن هذه الفضيلة لغيره وجمع لِدَاوُد بين المُلْكِ ، والنُّبوَّةِ ، ولم يحصل هذا لغيره ، وسخَّر لِسُليمان الجِنّ والإنس ، والطير ، والريح ، ولم يحصل هذا لأبيه داود ، وخصّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - بأَنَّه مبعوث إِلى الجن والإنس ، وبِأَنَّ شرعه نسخ سائِرَ الشَّرائع .
الثاني : أَنَّ المراد منه المعجزات ، فَإِنَّ كل واحد من الأَنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزات على ما يَليقُ بزمانه ، فمعجزات موسى هي قلب العصا حيّة ، واليد البيضاء ، وفلق البحر كان كالشّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدّمين فيه ، وهو السّحر . ومعجزات عيسى ، وهي إِبراءُ الأَكمه ، والأَبْرَص ، وإِحياء الموتى كالشَّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدِّمين فيه ، وهو الطِّبُّ .
ومعجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي القرآن كانت من جنس الفصاحة ، والبلاغة والخطَب ، والأَشعارِ ، وبالجملة فالمعجزاتُ متفاوتةٌ بالقلَّةِ والكثرة وعدم البقاء ، وبالقوة وعدم القُوَّةِ .
الثالث : أن المراد بتفاوت الدّرجات ما يتعلّق بالدُّنيا من كثرة الأَتباع والأصحاب وقوَّة الدَّولة ، وإذا تَأَمَّلْتَ هذه الوجوه؛ علمت أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان جامعاً لِلْكُلِّ ، فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى ، وأقوى ، وقومه أكثر ، ودولتُهُ أعظمُ وأوفر .
الرابع : أَنَّ المراد بقوله : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } هو محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّه هو المفضل على الكُلّ ، وإنما قال « وَرَفَعَ بَعْضَهُم » على سبيل الرَّمْزِ ، لمن فعل فعلاً عظيماً فيقال له : من فعل هذا الفعل؛ فيقول : أحدكم ، أو بعضكم ، ويرِيدُ به نفسهُ وذلك أفخمُ من التَّصريح به ، وقد سُئِل الحُطَيئَةُ عن أَشعرِ النَّاسِ ، فذكر زهيراً ، والنَّابغة ، ثم قال : « ولو شئت لذكرت الثَّالِث » أراد ن فسه .

وقيل : المراد إدريس عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } [ مريم : 57 ] ومراتب الأنبياء في السَّمواتِ .
فإن قيل : المفهومُ من قوله { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } هو المفهوم من قوله : « تلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ » ، فما فائدة التكرير؟
فالجواب : أَنَّ قوله : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } [ يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض ، ولكنّه لا يدلُّ على أَنَّ ذلك التّفضيل ، حصل بدرجة ، أو بدرجات ، فبيَّن بالثَّاني أَنَّ التَّفضِيل بدرجات .
فإن قيل : قوله : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } ] كلام كلي ، وقوله بعد ذلك { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } شروع في تفصيل تلك الجملة وقوله بعد ذلك : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } ، إعادة لذلك الكلام الكُلّي ، ومعلومٌ أَنَّ إعادَة الكَلاَمِ الكليّ بعد الشُّرُوعِ في تفصيل جُزْئِيَّاتِهِ ، يكون تكراراً .
فالجواب : أَنَّ فيه زيادة على الأَوَّل بقوله : « دَرَجَات » إذ التفصيل أَعَمُّ درجة ودرجات ، فلا تكرار في شيءٍ من ذلك .
قوله : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات } . فيه سؤالان :
السُّؤال الأَوَّل : قال في أوَّل الآية : { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } [ ثمَّ عَدَل عن هذا النَّوع من الكلام إلى المغايبة فقال : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } ] ، ثم عدل من المغايبة إلى النَّوع الأَوَّل فقال : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات } فما الفائدة في العدول عن المُخاطبة إلى المغايبة ، ثم عوده إلى المُخاطبة مرَّة أخرى .
والجوابُ : أَنَّ قوله : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } أهيب وأكثر وَقْعاً من أن يُقال : منهم من كلمنا ، ولذلك قال : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيما } فلهذا اختَارَ لفظ الغيبة .
وأَمَّا قوله { وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات } فإِنَّما اختار لفظ المخاطبة؛ لأن الضَّمير في قوله « وآتَيْنَا » ضمير التَّعظيم ، وضمير تعظيم إحياء الموتى يدلُّ على عظمة الإيتاء .
السُّؤال الثاني : لم خصَّ موسى ، وعيسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - بذكر معجزاتهما؟
والجواب : سبب التَّخصيص : أنَّ معجزاتهما أبهر ، وأقوى من معجزات غيرهما ، وأيضاً ، فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزَّمان ، وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين ، فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطَّعن في أمتهما ، كأنه قيل هذان الرسولان مع علو درجتهما ، وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما ، بل نازعوهما وخالفوهما وأعرضوا عن طاعتهما .
السُّؤال الثالث : تخصيص عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - بإيتاء البيِّنات يوهم أنه مخصوص بالبيِّنات دون غيره ، وليس الأمر كذلك ، فإن موسى صلى الله عليه وسلم أوتي أقوى منها ، أو مساوٍ .

والجواب : أنَّ المقصود من هذا الكلام : التَّنبيه على قبحِ أفعال اليهود ، حيث شاهدوا هذه البيِّنات الواضحة الباهرة ، وأعرضوا عنها .
السُّؤال الرابع : « البيِّنات » جمع قلَّة ، وذلك لا يليق بهذا المقام!
والجواب : لا نسلِّم أنه جمع قلَّة ، لأنَّ جمع السّلامة إنما يكون جمع قلَّة إذا لم يعرَّف بالألف واللام ، فأما إذا عرف بهما؛ فإنه يصير للاستغراق ، ولا يدلُّ على القلَّة .
قوله : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس } « القُدُس » تثقله أهل الحجاز ، وتخففه تميم .
واختلفوا في تفسيره ، فقال الحسن : القُدُسُ ، هو الله - تعالى - وروحه جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - والإضافة للتَّشريف .
والمعنى أعناه بجبريل في أوَّل أمره ، ووسطه ، وآخره .
أمَّا أوله؛ فلقوله تعالى : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] .
وأما الوسط ، فلأن جبريل علَّمه العلوم ، وحفظه من الأعداء .
وأما آخر أمره ، فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - ورفعه إلى السَّماء ، ويدلُّ على أنَّ روح القدس جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ قوله تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس } [ النحل : 102 ] .
ونقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي عيسى عليه السلام به الموتى .
وقال أبو مسلم : روح القدس الذي أيَّده به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وميزه بها عن غيره من المخلوقات ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى .
قوله : { وَلَوْ شَآءَ الله } مفعوله محذوف ، فقيل : تقديره : ألاّ تختلفوا وقيل : ألاَّ تقتتلوا .
وقيل : ألاَّ تؤمروا بالقتال .
وقيل : أن يضطرَّهم إلى الإيمان ، وكلُّها متقاربة .
و « مِنْ بَعْدِهِمْ » متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، لأنه صلةٌ ، والضَّمير يعود على الرُّسل .
وقيل يعود على موسى ، وعيسى ، والاثنان جمع .
قال القرطبيُّ : والأوَّل ظاهر اللَّفظ ، وأنَّ القتال إنَّما وقع ممَّن جاءوا بعدهم وليس كذلك ، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كلِّ نبي ، وهذا كما تقول : « اشتريت خيلاً ، ثمَّ بِعْتُهَا » . وهذه عبارة جائزة ، وأنت إنَّما اشتريت فرساً وبعته ثم آخر وبعته ، ثم آخر وبعته ، وكذلك هذه النَّوازل ، إنما اختلف النَّاس بعد كلِّ نبي ، فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر بغياً وحسداً .
و { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ } فيه قولان :
أحدهما : أنه بدلٌ من قوله : « مِنْ بَعْدِهِم » بإعادة العامل .
والثاني : أنه متعلِّقٌ باقتتل ، إذ في البيِّنات - وهي الدلالات الواضحة - ما يغني عن التَّقاتل والاختلاف . والضَّمير في « جَاءَتْهم » يعود على الَّذشين من بعدهم ، وهم أمم الأنبياء .
فصل
تعلق هذه الآية بما قبلها : أنَّ الرسل - عليهم الصَّلاة والسَّلام - لما جاءوا بالبيِّنات ، وأوضحوا الدَّلائل ، والبراهين ، اختلف أقوامهم فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا ، وتحاربوا ، ولو شاء الله ألاَّ يقتتلوا لم يقتتلوا .

واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الحوادث إنَّما تحدث بقضاء الله وقدره .
ثم قال : { ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ } وإذا اختلفوا ، فلا جرم اقتتلوا .
وهذه الآية دالَّةٌ على أنَّ الفعل لا يقع إلاَّ بعد حصول الدَّاعي؛ لأنَّه بيَّن أن الاختلاف مستلزم للتقاتل ، والمعنى : أنَّ اختلافهم في الدِّين يدعو إلى المقاتلة ، وذلك يدلُّ على أنَّ المقاتلة لا تقع إلا لهذا الدَّاعي ، ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكلَّ بقضاء الله وقدره؛ لأنَّ الدَّواعي تستند لا محالة إلى داعية خلق الله تبارك وتعالى في العبد دفعا للتَّسلسل ، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه أيضاً على صحَّة هذا المذهب .
قوله : { ولكن اختلفوا } وجه الاستدراك واضحٌ ، فإنَّ « لَكِنْ » واقعةٌ بين ضدّين ، إذ المعنى : ولو شاء الله الاتِّفاق لاتَّفقوا؛ ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا . وقال أبو البقاء رحمه الله : « لكنْ » استدراك لما دلَّ الكلام عليه ، لأنَّ اقتتالهم كان لاختلافهم ، ثم بيَّن الاختلاف بقوله : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ } ، فلا محلَّ حينئذٍ لقوله : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ } .
وكسرت النُّون من { ولكن اختلفوا } لالتقاء السَّاكنين ويجوز حذفها في غير القرآن الكريم ، وأنشد سيبويه : [ الطويل ]
1172- فَلَسْتُ بِآتِيهِ ، وَلاَ أَسْتَطِيعُهُ ... وَلاَكِ اسْقِنِي إِنْ كَانَ مَاؤُكَ ذَا فَضْلِ
قوله : { وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا } فيه قولان :
أحدهما : أنها الجملة الأولى كرِّرت تأكيداً قاله الزمخشري .
وقال الواحدي - رحمه الله - إنما كرَّر ذلك تأكيداً للكلام ، وتكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء من الله ، ولا قدر .
الثاني : أنها ليست لتأكيد الأولى ، بل أفادت فائدة جديدة ، والمغايرة حصلت بتغاير متعلَّقهما ، فإنَّ متعلَّق الأولى مغايرٌ لمتعلَّق المشيئة الثانية ، والتقدير في الأولى : وَلَوْ شَاءَ اللهُ أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول ، وفي الثانية : ولو شاء لم يأمر المؤمنين بالقتال ، ولكن شاء أمرهم بذلك .
قوله : { ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } من اختلافهم ، فيوفق من يشاء ، ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله ، وهذه الآية دالَّةٌ على أنَّه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين ، والخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن .
ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد ، فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى ، ولما دلَّت على أنه يفعل ما يريد ، فلو كان يريد الإيمان من الكفَّار لفعل فيهم الإِيمان ، ولكانوا مؤمنين ، ولما لم يكن كذلك ، دلَّ على أنَّه تعالى لا يريد الإيمان منهم فدلَّت الآية على مسألة خلق الأعمال وعلى مسألة إرادة الكائنات .
وقالت المعتزلة : يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه ، وهذا ضعيفٌ لوجهين :
أحدهما : أنه تقييدٌ للمطلق .
والثاني : أنَّه على هذا التّقييد تصير الآية من باب إيضاح الواضحات؛ لأنه يصير معنى الآية : أنَّه يفعل ما يفعله .
سأل رجل عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : يا أمير المؤمنين؛ أخبرني عن القدرِ! فقال : طريقٌ مظلمٌ فلا تسلكه . فأعاد السُّؤال فقال : بحرٌ عميقٌ لا تلِجْه ، فأعاد السُّؤال ، فقال : « سِرُّ الله في الأَرْضِ ، قَد خَفِي عَلَيْكَ ، فَلاَ تَفْتِشْهُ » .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

اعلم أنه تعالى لما أمر بالقتال بقوله : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ البقرة : 244 ] أعقبه بالحض على النفقة في الجهاد فقال : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] والمقصود منه الإنفاق في الجهاد ، ثمَّ إنَّه أكد الأمر بالقتال بذكر قصَّة طالوت ، ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد في هذه الآية الكريمة .
قوله : { أَنْفِقُواْ } : مفعوله محذوفٌ ، تقديره : شيئاً ممَّا رزقناكم ، فعلى هذا { مِمَّا رَزَقْنَاكُم } متعلّقٌ بمحذوفٍ في الأصل لوقوعه صفةً لذلك المفعول ، وإن لم تقدِّر مفعولاً محذوفاً ، فتكون متعلِّقة بنفس الفعل . و « مَا » يجوز أن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوفٌ ، أي : رزقناكموه ، وأن تكون مصدريَّةً ، فلا حاجة إلى عائدٍ ، ولكن الرّزق المراد به المصدر لا ينفق ، فالمراد به اسم المفعول ، وأن تكون نكرةً موصوفةً وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله تعالى : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] .
قوله : { مِّن قَبْلِ } متعلِّقٌ أيضاً بأنفقوا ، وجاز تعلُّقُ حرفين بلفظٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ لاختلافهما معنًى؛ فإنَّ الأولى للتَّبعيض والثانية لابتداء الغاية ، و « أَنْ يَأْتي » في محلِّ جرٍّ بإضافة « قبل » إليه ، أي : من قبل إتيانه .
وقوله : { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ } إلى آخره : الجملة المنفيَّة صفةٌ ل « يَوم » فمحلُّها الرَّفع . وقرأ « بَيْعٌ » وما بعده مرفوعاً منوناً نافع والكوفيون وابن عامر ، وبالفتح أبو عمرو وابن كثير ، وتوجيه ذلك تقدم في قوله تبارك وتعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } [ البقرة : 197 ] .
والخلَّة : الصَّداقة ، كأنها تتخلَّل الأعضاء ، أي : تدخل خلالها ، أي وسطها .
والخلَّة : الصديق نفسه؛ قال : [ الطويل ]
1173- وَكَانَ لَهَا في سَالِفِ الدَّهْرِ خُلَّةٌ ... يُسَارِقُ بِالطَّرْفِ الخِبَاءَ المُسَتَّرَا
وكأنه من إطلاق المصدر على العين مبالغةً ، أو على حذف مضافٍ ، أي : كان لها ذو خلَّة ، والخليل : الصَّديق لمداخلته إيَّاك ، ويصلح أن يكون بمعنى فاعل ، أو مفعول ، وجمعه « خُلاَّن » ، وفعلان جمع فعيل يقل في الصّفات ، وإنما يكثر في الجوامد نحو : « رُغْفَانٍ » .
قال القرطبيُّ : والخُلَّة : خالص المودَّة [ مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين والخِلالة والخَلالة ، والخُلالة : الصداقة ، والمودة ] ؛ قال الشاعر : [ المتقارب ]
1174- وَكَيْفَ تُواصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ ... خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ
وأبو مرحب كنية الظِّلّ ، ويقال : هو كنية عرقوب الذي قيل فيه : « مواعيد عرقوب » .
والخَلَّة - بالضَّمِّ - أيضاً - ما خالل من النبت يقال : الخلة خبز الإبل ، والحمض فاكهتها .
والخَلَّة : - بالفتح - الحاجة والفقر ، يقال : سدَّ خلته ، أي : فقره .
والخِلَّة بالكسر ابن مَخَاض ، عن الأصمعي : يقال أتاهم بقرص كأنَّه فِرْسِنُ خلة .
والأنثى خلَّة أيضاً ، والخلّة : الخمرة الحامضة .
والخِلَّة - بالكسر - واحدة خلل السُّيوف ، وهي بطائن كانت تغشى بها أجفان السُّيوف منقوشة بالذَّهب وغيره ، وهي أيضاً سُيُور تلبس ظهور سيتي القوس ، والخلّة أيضاً ما يبقى بين الأسنان .

و « هم » يجوز أن تكون فصلاً أو مبتدأ ثانياً ، و { الظالمون } خبره والجملة خبر الأوَّل .
فصل
قالت المعتزلة : لما أمر بالإنفاق من كلِّ ما كان رزقاً ، وبالإجماع لا يجوز الإنفاق من الحرام وجب القطع بأنَّ الرّزق لا يكون إلاّ حلالاً .
وأجاب ابن الخطيب : بأنَّ الأصحاب مخصَّصة بالأمر بالإنفاق ما كان رزقاً حلالاً أو حراماً . واختلفوا في هذه النَّفقة ، فقال الحسن : هذا الأمر مختص بالزكاة قال : لأنَّ قوله { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ } كالوعد والوعيد ، ولا يتوجه الوعيد إلاَّ على الواجب ، وهو قول السُّدي .
وقال الأكثرون : هذا الأمر يتناول الواجب ، والمندوب وليس في الآية وعيد ، فكأنه قال : حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدُّنيا ، فإنكم في الآخرة لا يمكنكم تحصيلها .
وقال الأصمُّ : المراد منه الإنفاق في الجهاد .
وفي المراد من البيع هنا وجهان :
أحدهما : أنَّه بمعنى الفدية كما قال : { فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } [ الحديد : 15 ] وقال : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ البقرة : 123 ] ، وقال : { وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ } [ الأنعام : 70 ] فكأنه قيل من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه ، فتكسب ما تفتدي به من العذاب .
الثاني : أن يكون المعنى : قدِّموا لأنفسكم من المال الذي هو ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة يكتسب بسببها شيء من المال .
{ وَلاَ خُلَّةٌ } ولا صداقة ، ونظيره قوله تعالى : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] وقال { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب } [ البقرة : 166 ] .
وقوله : { وَلاَ شَفَاعَةٌ } يقتضي نفي كلّ الشَّفَاعَاتِ ، فقوله : { وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } عام في الكل إلاَّ أنَّ سائر الدَّلائل دلَّت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين ، وعلى ثبوت الشفاعة بين المؤمنين والسبب في عدم الخلة والشفاعة أمور :
أحدها : أنَّ كل واحد يكون مشغولاً بنفسه . قال تبارك وتعالى : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 37 ] .
الثاني : أنَّ الخوف الشَّديد يغلب على كلِّ أحدٍ ] { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ } [ الحج : 2 ] .
الثالث : أنَّه إذا نزل العذاب بسبب الكفر ، أو الفسق صار مبغضاً لهذين الأمرين وإذا صار مبغضاً لهما؛ صار مبغضاً لمن اتَّصف بهما .
وقوله : { والكافرون هُمُ الظالمون } ، ولم يقل « والظَّالِمُونَ هم الكافرون » .
وذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً :
أحدها : أنَّ نفي الخلَّة ، والشَّفاعة مختص بالكافرين ، لأنّه أطلقه ثم عقبه بقوله { والكافرون هُمُ الظالمون } وعلى هذا تصير الآية دالَّةً على إثبات الشَّفاعة في حقّ الفسَّاق .
قال القاضي : هذا التأويل غير صحيحٍ؛ لأن قوله : { والكافرون هُمُ الظالمون } كلام مبتدأ ، فلم يجب تعليقه بما تقدَّم .
والجواب : أنَّا لو جعلناه كلاماً مبتدأً تطرق الخُلْفُ إلى كلام الله تعالى؛ لأنَّ غير الكافرين قد يكون ظالماً ، وإذا علَّقناه بما تقدَّم زال الإشكال .
الثاني : أنَّ معناه أنَّ الله لم يظلم الكافر بإدخاله النَّار ، وإنَّما الكافر هو الذي ظلم نفسه ، حيث اختار الكفر والفسق ، ونظيره قوله تعالى :

{ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] .
الثالث : معناه : أنَّكم أيُّها الحاضرون لا تقتدوا بالكفَّار حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم ، وحاجتهم ، ولكن قدّموا لأنفسكم ما يفديها يوم القيامة .
الرابع : { الكافرون هُمُ الظالمون } حيث وضعوا أنفسهم في غير مواضعها لتوقعهم الشَّفاعة بمن لا يشفع لهم عند الله ، لأنهم كانوا يقولون عن الأوثان { هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله } [ يونس : 18 ] وقالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] .
الخامس : المراد من الظلم ترك الإنفاق قال تعالى : { آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً } [ الكهف : 33 ] أي أعطت فلم تمنع فيكون معنى الآية الكريمة والكافرون هم التاركون للإنفاق في سبيل الله ، وأمَّ المسلم فلا بدَّ أن ينفق شيئاً قلَّ أو كثر .
السادس : { والكافرون هُمُ الظالمون } أي هم الكاملون في الظلم البالغون الأمر العظيم فيه . ذكر هذه الوجوه القفال .

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

اعلم أنَّ عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أن يذكر علم التَّوحيد ، وعلم الأحكام ، وعلم القصص ، فإنَّ الإنسان إذا بقي في النَّوع الواحد ، كان يوجب بعض الملال فإذا انتقل من نوع إلى نوع آخر ، كان كأنَّه انشرح صدره ، وفرح قلبه ، فكأنه سافر من بلدٍ إلى بلدٍ آخر ، وانتقل من بستان إلى بستان آخر ، أو من تناول طعام لذيذ إلى تناول طعام آخر ، ولا شكّ أنه يكون ألذَّ ، وأشهى ، فلمَّا تقدَّم من علم الأحكام وعلم القصص ما رآه مصلحة ، ذكر الآن ما يتعلَّق بالتَّوحيد .
قوله تعالى : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي } : مبتدأٌ وخبرٌ وهو مرفوعٌ محمولٌ على المعنى ، أي : ما إله إلاَّ هو ، ويجوز في غير القرآن لا إله إلاَّ إيَّاه ، نصب على الاستثناء .
وقيل : { الله } مبتدأٌ ، و { لاَ إله } مبتدأ ثان ، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود .
و { الحي } فيه سبعة أوجه :
أحدها : أن يكون خبراً ثانياً للجلالة .
الثاني : أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : هو الحيُّ .
الثالث : بدل من موضع : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } فيكون في المعنى خبراً للجلالة ، وهذا في المعنى كالأول ، إلا أنَّه هنا لم يخبر عن الجلالة إلاَّ بخبرٍ واحدٍ بخلاف الأول .
الرابع : أن يكون بدلاً من « هُوَ » وحده ، وهذا يبقى من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ، لأنَّ جملة النَّفي خبرٌ عن الجلالة ، وإذا جعلته بدلاً حلَّ محلَّ الأول ، فيصير التقدير : الله لا إله إلا الله .
الخامس : أن يكون مبتدأٌ وخبره { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } .
السادس : أنه بدلٌ من « اللهِ » .
السابع : أنه صفة لله ، وهو أجودها ، لأنه قرئ بنصب « الحيَّ القَيُّومَ » على القطع ، والقطع إنَّما هو في باب النَّعت ، ولا يقال في هذا الوجه الفصل بين الصِّفة والموصوف بالخبر ، لأنَّ ذلك جائزٌ حسن [ تقول : قائمٌ العاقلُ ] .
و { الحي } فيه قولان :
أحدهما : أن أصله حييٌ بياءين من حيي يحيا فهو حيٌّ ، وإليه ذهب أبو البقاء .
والثاني : أنَّ أصله حيوٌ فلامه واو فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها متطرِّفة ، وهذا لا حاجة إليه ، وكأنَّ الذي أحوج هذا القائل إلى ادِّعاء ذلك أنَّ كون العين ، واللام من واد واحدٍ هو قليل في كلامهم بالنسبة إلى عدم ذلك فيه ، ولذلك كتبوا « الحَيَاةَ » بواوٍ في رسم المصحف العزيز تنبيهاً على هذا الأصل ، ويؤيده « الحَيَوَانُ » لظهور الواو فيه . ولناصر القول الأول أن يقول : قلبت الياء الثانية واواً تخفيفاً؛ لأنَّه لمَّا زيد في آخره ألفٌ ونونٌ استثقل المثلان .
وفي وزنه أيضاً قولان :
أحدهما : أنه فعل .
والثاني : أنَّه فيعل فخُفِّف ، كما قالوا ميْت ، وهيْن ، والأصل : هيّن وميّت .

قال السُّدِّيُّ المراد ب « الحَيّ » الباقي؛ قال لبيدٌ : [ الطويل ]
1175- فَإِمَّا تَرَيْنِي اليَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِماً ... فَلَسْتُ بِأَحْيَا مِنْ كِلاَبٍ وَجَعْفَرِ
وقال قتادة : والحيُّ الذي لا يموتُ والحيُّ اسمٌ من أسمائه الحسنى ، ويقال إنه اسم الله الأعظم .
وقيل إنَّ عيسى ابن مريم - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الدعاء « يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ » .
ويقال : إنَّ آصف بن برخيا ، لمَّا أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان - عليه الصَّلاة والسَّلام - دعا بقوله : « يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ » .
ويقال إن بني إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم « أيا هيا شراهيا » يعني « يا حي يا قيوم » ، ويقال هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يا حي يا قيوم وعن علي - رضي الله عنه - لما كان يوم بدر جئت أنظر ما يصنع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو ساجدٌ يقول « يَا حَيُّ يَا قيُّومُ » ، فترددت مرات ، وهو على حاله لا يزيدعلى ذلك إلى أن فتح الله له .
وهذا يدلُّ على عظمة هذا الاسم .
والقيُّوم : فيعولٌ من : قام بالأمر يقوم به ، إذا دبَّره؛ قال أميَّة : [ الرجز ]
1176- لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ والنُّجُومُ ... وَالشَّمْسُ مَعْهَا قَمَرٌ يَعُومُ
قَدَّرَهُ مُهَيْمِنٌ قَيُّومُ ... وَالحَشْرُ وَالجَنَّةُ والنَّعِيمُ
إلاَّ لأَمْرٍ شَأْنُهُ عَظِيمُ ... وأصله « قَيْوُومٌ » ، فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فصار قيُّوماً .
وقرأ ابن مسعود والأعمش ويروى عن عمر : « الحَيُّ القَيَّام » ، وقرأ علقمة : « القَيِّم » وهذا كما يقولون : ديُّور ، وديار ، وديِّر . ولا يجوز أن يكون وزنه فعُّولاً ك « سَفُّود » إذ لو كان كذلك؛ لكان لفظه قوُّوماً؛ لأنَّ العين المضاعفة أبداً من جنس الأصليَّة كسُبُّوح ، وقُدُّوس ، وضرَّاب ، وقتَّال ، فالزَّائد من جنس العين ، فلمَّا جاء بالياء دون الواو؛ علمنا أنَّ أصله فيعول ، لا فعُّول ، وعدَّ بعضهم فيعولاً من صيغ المبالغة كضروبٍ ، وضرَّاب .
قال بعضهم : هذه اللَّفظة عبريَّة؛ لأنَّهم يقولون « حياً قياماً » ، وليس الأمر كذلك؛ لأنا قد بيَّنا أن له وجهاً صحيحاً في اللُّغة .
فصل
اعلم أنَّ تفسير الجلالة قد تقدَّم في أوَّل الكتاب ، والإله؛ قال بعضهم : هو المعبود ، وهو خطأ من وجهين :
الأول : أنه تبارك وتعالى كان إلهاً في الأزل ، وما كان معبوداً .
الثاني : أنَّه تعالى أثبت معبوداً سواه في قوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [ الأنبياء : 98 ] .
قال ابن الخطيب - رحمه الله : وإنما « الإله » هو القادر على ما إذا فعله كان مستحقاً للعبادة ، وأما « الحيُّ » قال المتكلِّمون : هو كلُّ ذاتٍ يصحُّ أن يعلم ، ويقدر ، واختلفوا في أنَّ هذا المفهوم صفةٌ وجوديَّةٌ أم لا ، فقال بعضهم : إنَّه عبارةٌ عن كون الشَّيء بحيث لا يمتنع أنَّه يعلمُ ويقدرُ ، وعدم الامتناع صفةٌ موجودة ، أم لا؟
قال المحقِّقون : لما كانت الحياة عبارةٌ عن عدم الامتناع ، وقد ثبت أنَّ الامتناع أمر عدمي ، إذ لو كان وصفاً موجوداً؛ لكان الموصوف به موجوداً ، فيكون ممتنع الوجود موجوداً ، وهو محالٌ ، وإذا ثبت أنَّ الامتناع عدمٌ وثبت أن الحياة عدم هذا الامتناع ، وثبت أنَّ عدم العدم : وجودٌ ، لزم أن يكون المفهوم من الحياة صفة موجودة ، وهو المطلوب .

قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : ولقائل أن يقول لمّا كان الحيّ أنَّه الذي يصحّ أن يعلم ، ويقدر ، وهذا القدر حاصلٌ لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات .
والذي عندي في هذا الباب : أنَّ الحيَّ عبارةٌ عن الكامل في نفسه ، ولما لم يكن كذلك مقيداً بأنه كاملٌ في هذا دون ذاك دلّ على أنه كاملٌ على الإطلاق .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه كان يقول : أعظم أسماء الله - تعالى - « الحيّ القيوم » .
روي أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان يزيد على ذكره في السجود يَومَ بَدْرٍ .
والقيوم؛ قال مجاهدٌ : القائم على كلِّ شيءٍ وتأويله قائمٌ بتدبير الخلائق في إيجادهم وأرزاقهم .
وقال الكلبيُّ : القائم على كلّ نفس بما كسبت .
وقال الضحاك : القيُّوم الدَّائم الوجود الذي يمتنع عليه التغيير .
وقيل : القيُّوم الذي لا ينام ، وهذا القول بعيد؛ لأنه يصير قوله - تعالى - { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } تكراراً .
وقال أبو عبيدة : القيُّوم الذي لا يزول .
قوله : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } في هذه الجملة خمسة أوجه :
أحدها : أنها في محلِّ رفع خبراً للحيّ كما تقدَّم في أحد أوجه رفع الحيّ .
الثاني : أنَّها خبرٌ عن الله تعالى عند من يجيز تعدُّد الخبر .
الثالث : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضَّمير المستكنِّ في « القَيُّومِ » كأنَّه قيل : يقوم بأمر الخلق غير غافل ، قاله أبو البقاء رحمه الله تعالى .
الرابع : أنها استئناف إخبارٍ ، أخبر - تبارك وتعالى - عن ذاته القديمة بذلك .
الخامس : أنها تأكيد للقيُّوم؛ لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيُّوماً ، قاله الزَّمخشريُّ ، فعلى قوله إنَّها تأكيدٌ يجوز أن يكون محلُّها النصب على الحال المؤكَّدة ، ويجوز أن تكون استئنافاً ، وفيها معنى التأكيد ، فتصير الأوجه أربعةً .
والسِّنة : النُّعاس ، وهو ما يتقدَّم النَّوم من الفتور؛ قال عديّ بن الرقاع : [ الكامل ]
1177- وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ ... في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ
وهي مصدر وسن يَسِنُ؛ مثل : وَعَد ، يَعِد ، وقد تقدَّم علة الحذف عند قوله { سَعَةً مِّنَ المال } [ البقرة : 247 ] .
فإن قيل : إذا كانت السِّنة عبارةٌ عن مقدِّمة النَّوم ، فقوله تعالى : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } يدلُّ على أنَّه لا يأخذه نومٌ بطريق الأولى ، فيكون ذكر النَّوم تكراراً .

فالجواب : تقدير الآية : لا تأخذه سنة ، فضلاً عن أن يأخذه نومٌ .
وقيل هذا من باب التكميل .
وقال ابن زيد : « الوَسْنَانُ : الَّذِي يَقُومُ مِنَ النَّومِ وهو لا يَعْقِلُ؛ حَتَّى إنَّه رُبَّمَا جَرَّدَ السَّيْفَ على أهْلِهِ » ، وهذا القول ليس بشيء ، لأنَّه لاَ يفهم من لغة العرب ذلك ، وقال المفضَّل : « السِّنَةُ : ثِقَلٌ في الرَّأْسِ ، والنُّعَاسُ في العَيْنَيْنِ ، والنَّوْمُ في القَلْبِ » .
وكُرّرت « لاَ » في قوله تعالى : { وَلاَ نَوْمٌ } تأكيداً ، وفائدتها انتفاء كلِّ واحدٍ منهما ، ولو لم تذكر لاحتمل نفيهما بقيد الاجتماع ، ولا يلزم منه نفيُ كلِّ واحدٍ منهما على حدته ، ولذلك تقول : « مَا قَامَ زيدٌ ، وعمرو ، بل أحدهما » ، [ ولو قلت : « مَا قَامَ زيدٌ وَلاَ عمْرو ، بل أحدهما » ] لم يصحَّ .
فصل في تفسير « الوَسْنَانِ »
والوسنان : بين النَّائم ، واليقظان ، والنَّوم : هو الثَّقيل المزيل للقوَّة والعقل .
وقيل السِّنة : أوَّل النَّوم ، وهو النُّعاس ، والنَّوم : غشيةُ ثقيلةٌ تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء .
قيل : إنَّ النَّوم عبارةٌ عن ريح تخرج من أعصاب الدِّماغ فإذا وصلت العينين ، حصل النُّعاس ، وإذا وصلت إلى القلب ، حصل النوم .
فصل
والمعنى : لا يغفل عن شيءٍ دقيقٍ ، ولا جليلٍ ، فعبَّر بذلك عن الغفلة ، لأنه سببها ، فأطلق اسم السَّبب على مسببه .
نفى الله - تعالى - عن نفسه النَّوم ، لأنَّه آفةٌ وهو منزَّهٌ عن الآفات؛ ولأنَّهُ تغيُّرٌ ، ولا يجوز عليه التَّغيُّر .
عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات ، فقال : « إنَّ اللهَ لاَ يَنَامُ ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ ، وَلَكِنَّهُ يَخْفِضُ بَالْقِسْطِ ، ويَرْفَعُهُ وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجابُهُ النُّورُ ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وجهه مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ » .
يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكى عن موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّه وقع في نفسه هل ينام الله تعالى! فأرسل إليه ملكاً فأرَّقه ثلاثاً ، ثمَّ أعطاه قارورتين في كلِّ يدٍ واحدة ، وأمره بالاحتفاظ بهما وكان يتحرَّز بجهده ألا ينام ، فنام في آخر الأمر ، فاطفقت يداه وانكسرت القارورتان فضرب الله - تعالى - ذلك مثلاً له في بيان أنَّه لو كان ينام؛ لم يقدر على حفظ السَّموات والأرض .
واعلم أنَّ مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فإن كلَّ من جوَّز النَّوم على الله - تعالى - أو كان شاكاً في جوازه كفر ، فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى - عليه السَّلام - فإن صحَّت هذه الرواية فالواجب نسبة هذا السُّؤال إلى جهال قومه .

قوله : { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } هي كالتي قبلها إلاَّ في كونها تأكيداً ، و « ما » للشُّمول ، واللاّم في « لَهُ » للملك ، وكرَّر « مَا » تأكيداً ، وذكرها هنا المظروف دون الظرف؛ لأنَّ المقصود نفي الإلهيَّة عن غير الله تعالى ، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلاّ هو ، لأنَّ ما عبد من دونه في السَّماء كالشَّمس ، والقمر ، والنجوم أو في الأرض كالأصنام وبعض بني آدم ، فكلُّهم ملكه تعالى تحت قهره ، واستغنى عن ذكر أنَّ السَّموات ، والأرض ملكٌ له بذكره قبل ذلك أنه خالق السَّموات والأرض .
فصل
لما كان المراد من هذه الإضافة الخلق ، والملك ، احتجوا بهذه الآية الكريمة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى .
قالوا : لأنَّ قوله تعالى { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } يتناول كل ما في السموات والأرض ، وأفعال العباد من جملة ما في السَّموات والأرض ، فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق .
فإن قيل : لم قال « لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض » ولم يقل من في السموات .
فالجواب : لما كان المراد إضافة كلِّ ما سواه إليه بالمخلوقيّة ، وكان الغالب عليه ما لا يعقل ، أجرى الغالب مجرى الكلِّ ، فعبر عنه بلفظة « مَا » ، وأيضاً فهذه الأشياء إنَّما أسندت إليه من حيث إنَّها مخلوقة ، وهي غير عاقلةٍ ، فعبر عنه بلفظ « مَا » للتنبيه على أنَّ المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة .
قوله : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ } كقوله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله } [ البقرة : 245 ] .
قال القرطبيُّ : « مَنْ » رفع بالابتداء ، و « ذَا » خبره ، و « الَّذِي » نعتٌ ل « ذَا » ، أو بدل ولا يجوز أن تكون « ذا » زائدة كما زيدت مع « مَا » ؛ لأنَّ « ما » مبهمة ، فزيدت « ذا » معها لشبهها بها .
و « مَنْ » ، وإن كان لفظها استفهاماً فمعناه النَّفي ، ولذلك دخلت « إلاَّ » في قوله : { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } .
و « عِنْدَهُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلِّق بيشفع .
والثاني : أنه متعلِّق بمحذوف لكونه [ حالاً ] من الضَّمير في « يَشْفَعُ » ، أي : يشفع مستقراً عنده ، وقوي هذا الوجه بأنه إذا لم يشفع عنده من هو عنده وقريبٌ منه فشفاعة غيره أبعد وضعَّف بعضهم الحاليَّة بأنَّ المعنى : يشفع إليه .
و { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } متعلِّققٌ بمحذوف ، لأنَّه حال من فاعل ، « يَشْفَع » فهو استثناءٌ مفرَّغ ، والباء للمصاحبة ، والمعنى : لا أحد يشفع عنده إلاَّ مأذوناً له منه ، ويجوز أن يكون مفعولاً به ، أي : بإذنه يشفعون كما تقول : « ضَرَب بِسَيْفِهِ » ، أي : هو آلةٌ للضَّرب ، والباء للتعدية .

و « يَعْلَمُ » هذه الجملة يجوز أن تكون خبراً لأحد المبتدأين المتقدمين ، أو استئنافاً ، أو حالاً . والضَّمير فِي « أيْدِيهم » و « خَلْفَهُم » يعود على « مَا » في قوله تعالى : { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } إلا أنَّه غلَّب من يعقل على غيره . وقيل : يعود على العقلاء ممَّن تضمَّنه لفظ « ما » دون غيرهم . وقيل : يعود على ما دلَّ عليه « مَنْ ذَا » من الملائكة والأنبياء . وقيل : من الملائكة خاصّةً .
فصل
قال مجاهدٌ وعطاءٌ والسديُّ : « مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » ما كان قبلهم من أمور الدُّنيا « وَمَا خَلْفَهُم » ما يكون خلفهم من أمور الآخرة بعدهم .
وقال الضَّحَّاك والكلبي : « يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » يعني الآخرة؛ لأنَّهم يقدمون عليها . « وَمَا خَلفَهُمْ » يعني الدُّنيا؛ لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم .
وقال عطاءٌ عن ابن عبَّاس : « مَا بَيْنَ أَيْدِيهِم » من السماء إلى الأرض « وَمَا خَلْفَهُم » يريد ما في السَّموات .
وقال ابن جريج : « مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » : مضيّ آجالهم « وما خَلْفَهُم » : ما يكون بعدهم .
وقال مقاتل : « مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ » ما كان قبل الملائكة . « وَمَا خَلْفَهُم » أي : ما كان بعد خلقهم .
وقيل : « مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » ما قدموا من خير وشر « وَمَا خَلْفَهُمْ » ما هم فاعلوه .
والمقصود من هذا الكلام : أنَّه عالم بأحوال الشَّافع ، والمشفوع له ، فيما يتعلَّق باستحقاق الثَّواب والعقاب؛ لأنَّه عالمٌ بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيءٌ والشُّفعاء لا يعلمون من أنفسهم أنَّ لهم من الطَّاعة ما يستحقُّون به هذه المنزلة العظيمة عند الله ، ولا يعلمون أنَّ الله هل أذن لهم في تلك الشَّفاعة ، أم لا .
قوله : { بِشَيْءٍ } متعلِّقٌ ب « يحيطون » . والعلم عنا بمعنى المعلوم؛ لأنَّ علمه تعالى الذي هو صفةٌ قائمةٌ بذاته المقدَّسة لا يتبعَّض ، ومن وقوع العلم موقع المعلوم قولهم : « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا » وحديث موسى ، والخَضِر - عليهما الصَّلاة والسَّلام - « مَا نَقَص علمي وعلمُك من علمه إلاَّ كَمَا نقص العُصْفُورُ من هذا البَحْر » ولكون العلم بمعنى المعلوم ، صحَّ دخول التَّبعيض ، والاستثناء عليه . و « مِنْ عِلْمِهِ » يجوز أن يتعلَّق ب « يحيطون » ، وأن يتعلَّق بمحذوف لأنه صفة لشيء ، فيكون في محلِّ جر . و « بمَا شَاءَ » متعلِّقٌ ب « يحيطون » أيضاً ، ولا يضرُّ تعلُّق هذين الحرفين المتَّحدين لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ؛ لأنَّ الثاني ومجروره بدلان من الأول ، بإعادة العامل بطرق الاستثناء ، كقولك : « مَا مَرَرْتُ بأحدٍ إلاَّ بِزَيْدٍ » ، ومفعول « شَاءَ » محذوفٌ تقديره : إلا بما شَاءَ أن يحيطوا به ، وإنما قدَّرته كذلك لدلالة قوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ } .

فصل
هؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكونوا هم الملائكة ، ويحتمل أن يكونوا الملائكة وسائر من يشفع يوم القيامة من النَّبيين ، والصِّديقين والشهداء والصالحين .
وفي معنى الاستثناء قولان :
أحدهما : أنَّهم لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا ما أراد هو أن يعلمهم كما قالوا : { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } [ البقرة : 32 ] .
الثاني : أنَّهم لا يعلمون الغيب إلاَّ بما شاء أن يطلع بعض أنبيائه على بعض الغيب كقوله تعالى { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } [ الجن : 26-27 ] .
قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض } : الجمهور على « وَسِعَ » بفتح الواو وكسر السِّين وفتح العين فعلاً ماضياً .
و « كُرْسِيُّه » بالرَّفع على أنَّه فاعله ، وقرئ « وَسْعَ » سكَّن عين الفعل تخفيفاً نحو : عَلْمَ في عَلِمَ . وقرئ أيضاً : « وَسْعُ كُرْسِيِّه » بفتح الواو وسكون السين ورفع العين على الابتداء ، و « كُرْسِيِّه » خفضٌ بالإضافة « السَّمَوَاتُ » رفعاً على أنه خبر للمبتدأ .
واعلم أنه يقال : وَسِعَ فلاناً الشَّيء يَسعهُ سَعَةً إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به ، ولا يسعك هذا أي : لا تطيقه ولا تحتمله ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « لَوْ كَانَ مُوسَى حَيّاً مَا وَسِعَهُ إِلاَّ اتِّبَاعِي » أي : لا يحتمل غير ذلك .
والكُرْسِيُّ : الياء فيه لغير النَّسب ، واشتقاقه من الكِرْسٍ ، وهو الجمع؛ ومنه الكُرَّاسة للصَّحائف الجامعة للعلم؛ ومنه قول العجَّاج : [ الرجز ]
1178- يَا صَاحِ ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسا؟ ... قَالَ : نَعَمْ ، أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
وقيل : أصله من تراكب الشَّيء بعضه على بعض ، ومنه الكرس أبوال الدَّوابِّ وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض . [ وأكرست الدَّار : إذا كثرت الأبعار والأبوال فيها ، وتلبَّد بعضها فوق بعض ] ، وتكارس الشَّيء : إذا تركب ومنه الكرَّاسة ، لتركب بعض الأوراق على بعضٍ . و « الكُرْسِيُّ » هو هذا الشَّيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعضٍ .
وجمعه كراسيّ كبُخْتِيّ وبَخَاتِيّ ، وفيه لغتان : أشهرهما ضمُّ كافه ، والثانية كسرها ، وقد يعبَّر به عن الملك؛ لجلوسه عليه ، تسميةً للحالِّ باسم المحلِّ؛ ومنه : [ الرجز ]
1179- قَدْ عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلَى القُدْسِ ... أَنَّ أَبَا العَبَّاسِ أَوْلَى نَفْسِ
في مَعْدِنِ المَلْكِ القَدِيمِ الكُرْسِي ... وعن العلم؛ تسميةً للصفة باسم مكان صاحبها؛ ومنه قيل للعلماء : « الكَرَاسِيّ » ؛ قال القاتل : [ الطويل ]
1180- يَحُفُّ بِهِمْ بِيضُ الوُجُوهِ وَعُصْبَةٌ ... كَرَاسِيُّ بِالأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ
وصفهم بأنهم عالمون بحوادث الأمور ، ونوازلها؛ ويعبَّر به عن السَّرِّ ، قال : [ البسيط ]
1181- مَا لِي بِأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكَاتِمُهُ ... وَلاَ بِكُرْسِيِّ - عَلْمَ اللهُ - مَخْلُوقِ
وقيل : الكرسيُّ لكلِّ شيء : أصله .
فصل في حقيقة « الكُرْسِيّ »
واختلفوا فيه على أربعة أقوال :
أحدها : أنَّه جسم عظيم يسع السَّموات ، والأرض قال الحسن : هو العرش نفسه .

وقال أبو هريرة : الكرسيُّ : موضوعٌ أمام العرش ومعنى قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض } أي : سعته مثل سعة السَّموات والأرض .
وقال السُّدِّيُّ : إنَّه دون العرش ، وفوق السَّماء السَّابعة ، وفي الأخبار أن السموات والأرض في جنب الكرسيّ كحلقة في فلاةٍ ، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاةٍ .
وأمّا ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : الكرسيُّ : موضع القدمين فمن البعيد أن يقول ابن عباس هو موضع القدمين لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن الجوارح .
وثانيها : أنَّ « الكرسي » هو السُّلطان ، والقدرة ، والملك .
ثالثها : هو العلم ، لأنَّ العلم هو الأمر المعتمد عليه « والكُرْسِيُّ » هو الشَّيء الذي يعتمد عليه ، وقد تقدَّم هذا .
ورابعها : ما ختاره القفَّال وهو : أنَّ المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه؛ لأنَّه خاطب الخلق في تعريف ذاته ، وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم ، وعظمائهم كما جعل الكعبة بيتاً له يطوف النَّاس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم ، وأمر النَّاس بزيارته ، كما يزورون بيوت ملوكهم .
وذكر في الحجر الأسود : « أنَّهُ يمين اللهِ في أَرْضِهِ » وجعله موضوعاً للتقبيل كما يقبل الناس أيضاً أيدي ملوكهم ، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشُّهداء ، ووضع الميزان ، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه العرش في قوله : { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ] ووصف العرش بقوله : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } [ هود : 7 ] ثم قال : { وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش } [ الزمر : 75 ] ثم قال : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [ الحاقة : 17 ] وقال : { الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ } [ غافر : 7 ] ، وكذلك إثبات الكرسيّ .
وقال ابن الخطيب - رحمه الله - : وهذا جوابٌ مبيّن إلاَّ أنَّ المعتمد هو الأوَّل ، وأنَّ ترك الظَّاهر بغير دليل لا يجوز .
قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } يقال : آده كذا ، أي : أثقله ، ولحقه منه مشقَّةٌ؛ قال القائل : [ الطويل ]
1182- أَلاَ مَا لِسَلْمَى اليَوْمَ بَتَّ جَدِيدُهَا ... وَضَنَّتْ وَمَا كَانَ النَّوَالُ يُؤُودُها
أي : يثقلها ، ومنه الموءودة للبنت تدفن حيّة ، لأنَّهم يثقلونها بالتُّراب . وقرئ : « يَوْدُهُ » بحذف الهمزة ، كما تحذف همزة « أُنَاسٍ » ، وقرئ « يُوُودُهُ » بإبدال الهمزة واواً .
و « حِفْظ » : مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ، أي : لا يَئُودُهُ أن يحفظهما .
و « العَلِيُّ » أصله : « عَلْيِوٌ » ، فأُدْغِمَ؛ نحو : مَيِّتٍ؛ لأنَّه من علا يعلو؛ قال القائل في ذلك البيت : [ الطويل ]
1183- فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ ... تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ
فصل في المراد بالعلو
والمراد بالعلو علو القدر والمنزلة لا علو المكان لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن التحيز والعلي والعالي القاهر الغالب للأشياء تقول العرب : علا فلان فلاناً أي غلبه وقهره؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
1184- فَلَمَّا عَلَوْنَا . . .. .
البيت المتقدِّم ، وقال تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض }

[ القصص : 4 ] .
قال ابن الخطيب : لو كان علوُّه بالمكان لكان متناهياً؛ فإنَّ الجزء المفروض فوقه ، أعلى منه ، فلا يكون عليّاً مطلقاً ، وإن كان غير متناه ، وقد دلَّت البراهين اليقينيَّة على استحالة بعدٍ غير متناهٍ .
وأيضاً فلو فرضنا في ذلك نقطاً غير متناهية ، فإن لم يحصل فوق تلك النّقط نقطة ، أخرى ، وكانت تلك النُّقطة طرفاً ، لذلك البعد ، فيكون متناهياً ، وإن لم يوجد في ذلك البعد سفلاً فلا يكون فيها ما هو فوق على الإطلاق ، وذلك ينفي حصول العلوّ المطلق ، ولأنَّ العالم كرة ، فكل علوّ بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض هو سفل بالنسبة للوجه الثاني ، فينقلب العلوُّ سفلاً ، ولأن لو كان علُّوه بالمكان ، لكان حصول العلوّ للمكان بالذَّات ، والله تعالى بالعرض ، وما بالذات أشرف منها بالعرض ، فيكون علوُّ المكان أشرف من علوِّه سبحانه ، وذلك باطلٌ .
و { العظيم } تقدَّم معناه ، وقيل : هو هنا بمعنى المعظَّم؛ كما قالوا : « عَتِيقٌ » بمعنى : مُعَتَّق؛ قال القائل : [ الخفيف ]
1185- فَكَأَنَّ الخَمْرَ العَتِيقَ مِنَ الإِسْ ... فَنْطِ مَمْزُوجَةً بِمَاءٍ زُلاَلِ
قيل : وَأُنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف . وقيل في الجواب عنه : إنَّه صفة فعلٍ ، كالخلق ، والرِّزق ، والأوَّل أصحُّ .
قال الزَّمخشريُّ : « فإنْ قلت : كَيْفَ تَرَتَّبَتِ الجُملُ في آية الكرسيّ من غير حَرْفِ عطفٍ؟ قلت : ما منها جملةٌ إلاَّ وهي واردةٌ على البيان لما ترتَّبت عليه ، والبيان متَّحدٌ بالمبيَّن ، فلو توسَّط بينهما عاطفٌ لكان كما تقول العرب : » بَيْنَ العَصَا وَلِحَائِهَا « فالأولى بيانٌ لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه ، والثانية لكونه مالكاً لما يدبِّره ، والثالثة لكبرياء شأنه ، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم ، المستوجب للشَّفاعة وغير المرتضى ، والخامسة لسعة علمه ، وتعلُّقه بالمعلومات كلِّها ، أو لجلاله وعظم قدرته » انتهى . يعني غالب الجمل وإلاَّ فبعض الجمل فيها معطوفة وهي قوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ } ، وقوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ } وقوله { وَهُوَ العلي العظيم } .
فصل في فضل هذه الآية
في فضل هذه الآية الكريمة روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما قُرِئَت هذه الآية في دَارٍ إلاَّ اهْتَجَرَهَا الشَّيْطَانُ ثَلاَثِينَ يَوْماً ، ولاَ يَدْخُلُهَا سَاحِرٌ وَلاَ سَاحِرَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً » .
وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قال : سمعت نبيَّكم على أعواد المنبر وهو يقول : « مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ ، لم يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّة إِلاَّ المَوْتُ ، ولا يواظب عليها إلاَّ صدّيق ، أو عابدٌ ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه؛ أمَّنه الله على نفسه وجاره ، وجار جاره ، والأبيات التي حوله » .
وتذاكر الصَّحابة أفضل ما في القرآن ، فقال لهم عليٌّ : أين أنتم من آية الكرسيّ قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا عَلِيُّ سَيِّدُ البَشَرِ آدَمُ ، وسَيِّدُ العَرَبِ مُحَمَّدٌ ، وَلاَ فَخْرَ ، وَسَيِّدُ الكَلاَمِ القُرْآنُ ، وسَيِّد القُرْآنِ البَقَرَةُ وسَيِّدُ البَقَرَةِ آيةُ الكُرْسِيّ »

وعن أبيّ بن كعبٍ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا أبا المنذر؛ أيُّ آيةٍ في كِتَابش اللهِ أعْظَم » ؟ قلت : اللهُ لا إله إلاَّ هو الحيُّ القَيُّومُ ، قال : فضرب صدري ثم قال : « ليَهْنِكَ العِلْمُ يَا أَبَا المُنْذِرِ » ثم قال : « وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ لهذه الآية لِسَاناً وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ المَلِكَ عِنْدَ سَاقِ العَرْشِ » .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زَكَاةِ رمضان فأتاني آت ، فجعل يحثو من الطَّعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ إنّي محتاج ، ولي عيالٌ ، ولي حاجة شديدةٌ قال : فخلّيت عنه ، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ] » يا أبا هريرة مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ « ؛ قلت يا رسول الله؛ شَكَا حَاجَةً شديدة ، وعيالاً؛ فرحمته ، فخلَّيت سبيله . قال : » أَمَا إِنَّهُ قَدُ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ « فعرفت أنه سيعود ، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصدته ، فجاء يحثو من الطَّعام ، فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعني فإنِّي محتاج ولي عيال ولا أعود فرحمته فخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : » يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة « قلت : يا رسول الله شكا حاجةً ، وعيالاً فرحمته وخلَّيت سبيله قال : » أمَا إنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ ، وسيعود « فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود فرصدته الثالثة : فجاء يحثو من الطَّعام؛ فأخذته ، فقلت لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنَّك تزعم ألاَّ تعود ، ثم تعود قال : دعني أُعلّمك كلمات ، ينفعك الله بها ، قلت : ما هي قال : إذا أَوَيْتَ إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسيّ { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } حتى تختم الآية ، فإنَّك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطانٌ ، حتّى تصبح ، فخلَّيت سبيله فأصبحت ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَا فَعَلْتَ بِأَسِيركَ البَارِحَةَ؟ قلت : يا رسول الله - عليك الصَّلاة والسَّلام - زَعَمَ أنَّه يعلمني كلمات ينفعني الله بها ، فخلّيت سبيله - قال : ما هي قلت : قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسيّ من أولها ، حتى تتمّ الآية ، وقال لي لا يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان ، حتى تصبح ، وكانوا أحرص شيءٍ على الخير ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : » أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ ، وهو كَذُوبٌ ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِب منذ ثَلاَث لَيَالٍ يا أبا هُرَيْرَةَ؟ « قلت : لا ، قال : » ذَلِكَ شَيْطَانٌ « .

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } : كقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] وقد تقدَّم . وأل في « الدِّين » للعهد ، وقيل : عوضٌ من الإضافة أي « في دِينِ اللهِ » لقوله تعالى : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] ، أي : تأوي .
والجمهور على إدغام دال « قَد » في تاء « تَبَيَّن » ؛ لأنها من مخرجها .
والرُّشد : مصدر رشد بفتح العين يرشد بضمِّها ، ومعناه في اللُّغة ، إصابة الخير . وقرأ الحسنُ « الرُّشُد » بضمتين كالعنق ، فيجوز أن يكون هذا أصله ، ويجوز أن يكون إتباعاً ، وهي مسألة خلاف أعني ضمَّ عين الفعل . وقرأ أبو عبد الرحمن الرَّشد بفتح الفاء والعين ، وهو مصدر رشد بكسر العين يرشد بفتحها ، وروي عن أبي عبد الرَّحمن أيضاً : « الرَّشَادُ » بالألف .
ومعنى الإكراه نسبتهم إلى كراهة الإسلام . قال الزَّجَّاج : « لاَ تَنْسُبوا إلى الكَرَاهَةِ مَنْ أَسْلَمَ مُكْرِهاً » ، يقال : « أَكْفَرَهُ » نسبه إلى الكفر؛ قال : [ الطويل ]
1186- وَطَائِفَةٌ قَدْ أَكْفَرُوني بِحُبِّهِمْ ... وَطَائِفَةٌ قَالُوا مُسِيٌ وَمُذنِبُ
قوله : { مِنَ الغي } متعلِّقٌ بتبيَّن ، و « مِنْ » للفصل ، والتمييز كقولك : ميَّزت هذا من ذاك . وقال أبو البقاء : « في موضع على أنَّه مفعولٌ » وليس بظاهرٍ؛ لأنَّ معنى كونه مفعولاً به غير لائقٍ بهذا المحلِّ . ولا محلِّ لهذه الجملة من الإعراب؛ لأنَّها استئنافٌ جارٍ مجرى التّعليل لعدم الإكراه في الدين .
والتّبيين : الظهور والوضوح ، بان الشَّيء ، واستبان ، وتبيَّين : إذا ظهر ووضح ومنه المثل : تَبَيَّنَ الصُّبح لذي عينين .
قال ابن الخطيب : وعندي أنَّ الإيضاح ، والتعريف ، إنَّما سمِّي بياناً؛ لأنَّه يوقع الفصلة ، والبينونة بين المقصود وغيره .
والغيُّ : مصدر غوى بفتح العين قال : { فغوى } [ طه : 121 ] ، ويقال : « غَوَى الفَصِيلُ » إذا بَشِمَ ، وإذا جاع أيضاً ، فهو من الأضداد . وأصل الغيّ : « غَوْيٌ » فاجتمعت الياء والواو ، فأُدغمت نحو : ميّت وبابه .
والغيُّ : نقيض الرُّشد : يقال : غَوَى يَغْوِي ، غيّاً ، وغَوَايَةٌ إذا سلك خلاف طريق الرُّشد .
فصل في معنى « الدِّين » في الآية
قال القرطبيُّ : المراد « بالدِّينِ » في هذه الآية الكريمة المعتقد ، والملة بدليل قوله { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } .
قال سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة ، لا يعيش لها ولد ، فكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنَّه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهوديَّة . فلمَّا جاء الإسلام ، وفيهم منهم ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عددٌ من أولاد الأنصار ، فأرادت الأنصار استردادهم ، وقالوا : أبناؤنا وإخواننا ، فنزلت : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ ، فإن اخْتَارُوكم فهم منكم ، وإن اخْتَارُوهم ، فأجلوهم مَعَهمْ » .
وقال مجاهد : كان ناسٌ مسترضعين في اليهود من الأوس ، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النّضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم : لنذهبنّ معهم ولندينن بدينهم ، فمنهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام فنزلت { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين . . .

} .
وقال مسروقٌ : كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصّران قبل مبعث النَّبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة في نفر من النَّصارى يحملون الطَّعام فلزمهما أبوهما ، وقال لا أدعكما حتى تسلما فأبيا أن يسلما فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « يَا رَسُولَ الله أَيَدْخُلُ بعضي النَّار وأنا أَنْظُرُ ، فأنزل الله تعالى { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } ، فخلى سبيلهما .
وقال قتادة وعطاء : نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية ، وذلك أنَّ العرب كانت أُمَّة أمّية لم يكن لهم كتاب ، فلم يقبل منهم إلاَّ الإسلام ، فلما أسلموا طوعاً ، أو كرهاً؛ أنزل الله تعالى { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } ؛ فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا ، أو يقرُّوا بالجزية ، فمن أعطى منهم الجزية ، لم يكره على الإسلام .
وقال ابن مسعود كان هذا في ابتداء الإسلام ، قبل أن يؤمر بالقتال ، فصارت منسوخة بآية السَّيف . ومعنى { تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } ، أي : تميَّز الحقّ من الباطل ، والإيمان من الكفر ، والهدى من الضّلالة بالحجج والآيات الظَّاهرة .
قوله : { بالطاغوت } متعلِّقٌ ب » يَكْفر « ، والطاغوت بناء مبالغةٍ كالجبروت والملكوت . واختلف فيه ، فقيل : هو مصدرٌ في الأصل ، ولذلك يوحَّد ويذكَّر ، كسائر المصادر الواقعة على الأعيان ، وهذا مذهب الفارسيّ ، وقيل : هو اسم جنس مفردٍ ، فلذلك لزم الإفراد والتَّذكير ، وهذا مذهب سيبويه رحمه الله . وقيل هو جمعٌ ، وهذا مذهب المبرّد ، وهو مؤنّث لقوله تعالى { والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت } [ البقرة : 257 ] قال أبو علي الفارسي : وليس الأمر كذلك ، لأن » الطَّاغُوتَ « مصدر كالرّغبوت ، والرَّهبوت ، والملكوت ، فكما أنَّ هذه الأسماء آحاد ، كذلك هذا الاسم مفردٌ ، وليس بجمع ومما يدلّ على أنَّه مصدر مفرد وليس بجمع قوله تبارك وتعالى : { أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت } ، فأفرد في موضع الجمع ، كما يقال هم رضاً ، وهم عدل انتهى . وهو مؤنَّث لقوله تعالى { والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر : 17 ] .
وأجاب من ادَّعى التّذكير عن هذا الاستدلال بأنَّه إنما أنَّث هنا؛ لإرادة الآلهة وقال آخرون : ويكون مذكراً ، ومؤنثاً ، وواحداً وجمعاً قال تعالى في المذكر والواحد : { يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } [ النساء : 60 ] قوال في المؤنث : { والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر : 17 ] وقال في الجمع : { يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات } [ البقرة : 257 ] . واشتقاقه من طغَى يَطْغَى ، أو من طَغَا يَطْغُو ، على حسب ما تقدَّم أول السورة ، هل هو من ذوات الواو أو من ذوات الياء؟ وعلى كلا التّقديرين ، فأصله طَغَيُوت ، أو طَغَوُوت لقولهم : » طُغْيان « في معناه ، فقلبت الكلمة بأن قدِّمت اللاّم وأُخِّرت العين ، فتحرَّك حرف العلَّة ، وانفتح ما قبله فقلب ألفاً ، فوزنه الآن فلعوت ، وقيل : تاؤه ليست زائدةً ، وإنَّما هي بدلٌ من لام الكلمة ، ووزنه فاعول من الطُّغيان كقولهم » حانوت « ، و » تابوت « ، والتاء فيهما مبدلة من » هَا « التأنيث .

قال مكي « وقد يجُوز أن يكون أصلُ لامه واواً ، فيكون أصله طغووتاً؛ لأنه يقال : طَغَى يَطْغى ويَطْغو ، وطَغَيْتُ وطَغَوْتُ ، ومثله في القلب والاعتلال ، والوزن : حانوت؛ لأَنَّه من حَنا يحنو وأصله حَنَووت ، ثم قُلِب وأُعِلَّ ، ولا يجوزُ أن يكونَ من : حانَ يَحِين لقولهم في الجمعِ حَوانيت » انتهى قال شهاب الدين : كأنَّه لمَّا رأى أنَّ الواوَ قد تُبْدَل تاءً كما في تُجاه ، وتُخَمَة ، وتُراث ، وتُكَأة ، ادَّعى قَلْبَ الواوِ التي هي لامٌ تاءً ، وهذا ليس بشيءٍ .
وقدَّم ذِكْرَ الكفر بالطَّاغوت على ذِكْرِ الإِيمان باللهِ - تعالى - اهتماماً بوجوبِ الكفرِ بالطَّاغوتِ ، وناسبَهَ اتصالُهُ بلفظ « الغَيّ » .
فصل في المراد بالطاغوت
واختلف في الطَّاغوت فقال عمر ، ومجاهدٌ ، وقتادة : هو الشَّيطان .
وقال سعيد بن جبير : هو الكاهن . وقال أبو العالية : هو الساحر . وقال بعضهم : الأَصنام .
وقيل مردة الجنّ والإنس ، وكلُّ ما يطغى الإِنسان .
وقيل : الطَّاغُوتُ هو كلّ ما عُبِدَ مِنْ دون الله ، وكان راضياً بكونه معبُوداً ، فعلى هذا يكُونُ الشَّيطان والكهنة ، والسَّحرة ، وفرعون والنمروذ كلُّ واحد منهم طاغوتاً؛ لأنهم راضون بكونهم معبودين وتكونُ الملائكة ، وعزير ، وعيسى ليسوا بطواغيت ، لأنهم لم يرضوا بأن يكونوا معبودين .
قوله : { وَيْؤْمِن بالله } عطف على الشَّرط وقوله { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } جواب الشَّرط ، وفيه دليل على أنَّهُ لا بدّ للكافر من أن يتوب عن الكفر ، ثم يؤمنُ بعد ذلك .
وفيه دليل على أَنَّ درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح؛ لأنَّهُ قدّم الكُفر بالطَّاغوت [ على الإيمان باللهِ اهتماماً به فإن قيل الإيمان باللهِ مستلزم لِلْكُفر بالطَّاغُوت .
قلنا : لا نسلم ، قد يكفر بالطَّاغوت ] ولا يؤمن بالله واستمسك أي : استمسك واعتصم { بالعروة الوثقى } أي العقد الوثيق المحكم في الدِّين .
و « العُرْوَة » : موضعُ شَدِّ الأَيدي ، وأصلُ المادّةِ يَدُلُّ على التَّعلُّق ، ومنه : عَرَوْتُه : أَلْمَمْتُ به متعلِّقاً ، وَاعتراه الهَمُّ : تعلَّق به ، و « الوُثْقى » : فُعْلى للتفضيل تأنيث الأوثق ، كفُضْلى تأنيث الأفضل ، وجمعُها على وُثَق نحو : كُبْرى وكُبَر ، فأمَّا « وُثُق » بضمّتين فجمع وَثيق . وهذا استعارة المحسُوس للمعقول؛ لأَنَّ من أراد إمساك هذا الدِّين تعلّق بالدلائل وأوضحها الدّالة عليه ، ولما كانت دلائِلُ الإِسلام أقوى الدَّلائل وأوضحها وصفها الله تبارك وتعالى بأَنَّها العروة الوثقى .
قال مجاهِدٌ : « العُرْوَةُ الوثقى » الإيمان .
وقال السُّدِّي : الإِسلام .
وقال ابن عباسٍ ، وسعيد بن جبير والضحاك : لا إِله إلاَّ الله .
قوله : { لاَ انفصام لَهَا } كقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] والجملةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أن تكونَ استئنافاً ، فلا مَحَلَّ لها حينئذٍ .

والثاني : أنها حالٌ من العُرْوة ، والعاملُ فيها « اسْتَمْسَكَ » .
والثالث : أنها حالٌ من الضميرِ المستتر في « الوُثْقَى » . و « لها » في موضعِ الخبرِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائنٌ لها . والانفصامُ - بالفَاءِ - القَطْعُ من غير بَيْنُونة ، والقصمُ بالقافِ قَطْعُ بينونةٍ ، وقد يُستعمل ما بالفاءِ مكانَ ما بالقافِ .
والمقصودُ من هذا اللَّفظ المُبالغةُ؛ لأَنَّهُ إذا لم يكن لها انفِصَام ، فأن لا يكون لها انقطاع أولى ، ومعنى الآية : بالعُرْوَة الوثقى التي لا انفصام لها ، والعرب تُضْمِرُ « الَّتي » و « الذي » و « مَن » وتكتفي بصلاتها منها .
قال سلامة بن جندل : [ البسيط ]
1187- وَالعَادِيَاتُ أَسَالِيُّ الدِّمَاءِ بِهَا ... كَأَنَّ أَعْنَاقَهَا أَنْصَابُ تَرْجِيبِ
يريد والعاديات التي قال تعالى : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] أي من له .
قوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فيه قولان :
أحدهما : أنَّهُ تعالى يسمع قول من يتكلم بالشَّهادتين ، وقول من يتكلَّم بالكُفْر ، ويعلمُ ما في قلب المؤمِنِ من الاعتقاد الطاهر ، وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث .
الثاني : روى عطاء عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب إسلام أهل الكِتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة ، وكان يَسْأَلُ الله ذلك سِرّاً ، وعلانية ، فمعنى قوله { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يريدُ لدعائك يا محمَّد عليم بحرصك واجتهادك .

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

« الوليّ » فعيل بمعنى : فاعل من قولهم : ولي فلان الشَّيء يليه ولاية ، فهو وَال وولى ، وأصله من الوَلْي الَّذي هو القُرْبُ؛ قال الهُذليُّ : [ الكامل ]
1188- .. وَعَدَتْ عَوَادٍ دُونَ وَلْيِكَ تَشْعَبُ
ومنه يقال داري تلي دارها ، أي : تقرب منها ومنه يُقالُ للمحبّ المقارب ولي؛ لأَنَّهُ يقرب منك بالمحبَّةِ والنُّصرة ، ولا يفارقك ، ومنه الوالي؛ لأَنَّه يلي القوم بالتَّدبير والأمر والنّهي ، ومنه المولى ، ومن ثمّ قالوا في خلاف الولاية : العداوة من عدا الشَّيء : إذا جاوزه ، فلأجل هذا كانت العَدَاوةُ خلاف الوِلاَية ومعنى قوله تبارك وتعالى : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ } ، أي : ناصرهم ومعينهم ، وقيل : مُحبهم .
وقيل : متولي أمورهم لا يكلهم إلى غيره .
وقال الحسنُ : ولي هدايتهم .
قوله : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } ، أي : من الكُفْرِ إلى الإيمان .
قال الواقدي : كلّ ما في القرآن من الظُلُماتِ ، والنور فالمرادُ منه : الكفر والإيمان غير التي في سورة الأنعام { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] فالمراد منه اللَّيل والنَّهار ، سُمي الكفر ظُلمة لالتباس طريقه ، وسُمي الإسلام نُوراً ، لوضوح طريقه .
وقال أَبو العبَّاس المُقْرىءُ « الظُّلُمَات » على خمسة أوجه :
الأول : « الظُّلُمَاتُ » الكفر كهذه الآية الكريمة .
الثاني : ظُلمة اللَّيلِ قال تعالى : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } يعني اللَّيل والنهار .
الثالث : الظُّلُمَات ظلمات البر والبحر والأهوال قال تعالى : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر } [ الأنعام : 63 ] أي من أهوالهما .
الرابع : « الظُّلُمَات » بطون الأُمَّهات ، قال تعالى : { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } [ الزمر : 6 ] يعني المشيمة والرحم والبطن .
الخامس : بطنُ الحُوتِ قال تعالى : { فنادى فِي الظلمات } [ الأنبياء : 87 ] أي في بطنِ الحوت .
فصل في سبب النُّزولِ
ظاهر الآية يقتضي أنهم كانُوا في الكفر ، ثم أخرجهم اللهُ تعالى من ذلك الكُفْرِ إلى الإِيمان ، وها هنا قولان :
الأول : أَنَّ هذه الآية مختصَّةٌ بمن كان كافراً ، ثم أَسلم ، وذكر في سبب النُّزول روايات :
أحدها : قال مجاهدٌ : نزلت هذه الآية في قوم آمنوا بعيسى ، وقوم كفروا به ، فلما بعث اللهُ سبحانه وتعالى محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - آمن به من كفر بعيسى وكفر به من آمن بعيسى .
وثانيتهما : أنها نزلت في قوم آمنوا بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - على طريقة النَّصَارى ، ثم آمنوا بعده بمحمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فقد كان إِيمانهم بعيسى حين آمنوا به كفراً ، وظلمةً ، لأَنَّ القول بالاتِّحاد كفرٌ باللهِ تعالى ، أخرجهم من تِلْكَ الظُّلمات إلى نور الإِسلامِ .
وثالثتها : أنها نزلت في كُلِّ كافر أسلم وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
القول الثاني : أَنْ يحمل اللَّفظ على كُلِّ مَنْ آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - سواء كان ذلك الإيمان بعد كُفْرٍ ، أو لم يكن؛ لأنه إخراج من ظُلُمات الكفر إلى نور الإِسلامِ؛ لقوله تعالى :

{ وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } [ آل عمران : 103 ] ومعلومٌ أَنهم ما كانوا في النار أَلْبَتَّةَ ، وقال في قِصَّة يُوسُف عليه الصَّلاة والسَّلام { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ يوسف : 37 ] ولم يكن فيها قطّ ، وسمي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إنساناً يقولُ : أشهد ألا إله إِلا الله ، فقال : « عَلَى الفِطْرَةِ » ، فلما قال : أشهَدُ أَنَّ محمداً رسول اللهِ قال : « خَرَجَ مِنَ النَّارِ » ، ومعلوم أنه ما كان فيها .
روي أنه عليه السَّلامُ أقبل على أَصحابه ، فقال « تَتَهَافَتُونَ فِي النَّارِ تَهَافُتَ الجَرَادِ ، وَهَا أَنَا آخِذٌ بِحُجزِكُم » ومعلوم أَنَّهم ما كانوا متهافتين في النَّارِ .
فصل
استدلَّ بعضُ العُلماء بهذه الآية على أَنَّ الغاية تدخل في المُغيَّا . لقوله تعالى على لسانه - عليه الصلاة والسلام - : « يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ » فلو لم يدخلون في النُّور لم يخرجهم من الظُّلمات إِلى النُّور ، ولو لم تدخل الغايةُ في المُغيّا ، لما أدخلوهم في النُّور .
فصل
فإن قيل : هذه الآية صريحة في أَنَّ الله سبحانه وتعالى هو الَّذي أخرج الإِنسان من الكُفْر ، وأدخله في الإيمان ، فيلزمُ أن يكون الإِيمانُ بخلق الله تعالى؛ لأَنَّهُ لو حصل بخلق العبد ، لكان العبدُ هو الذي أخرجَ نفسهُ من الكُفر إلى الإِيمان وذلك يناقض صريح الآية .
أَجَاب المعتزلةُ بأَنَّ هذا محمولٌ على نصبِ الأَدلَّةِ وإِرسال الأنبياء ، وإِنزالِ الكُتُبِ ، والتَّرغيب في الإِيمانِ ، والتَّحذير عن الكُفْرِ بأقصى الوجوه :
قال القاضي : وقد نَسَبَ اللهُ الإِضلال إِلى الصَّنَم بقوله تعالى : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس } [ إبراهيم : 36 ] ، لأجل أَنَّ الأَصْنَامَ سبب بوجه ما لضلالهم ، فبأن يضاف الإِخراج من الظُّلمات إلى النُّور إلى الله تعالى مع قوَّةِ الأسبابِ التي فعلها بمن يؤمن أولى .
والجواب : من وجهين :
أحدهما : أَنَّ هذا حمل للَّفظ على خلاف حقيقته .
الثاني : أَن هذه التَّرغيبات إِنْ كانت مؤثرة في ترجيح الدَّاعية ، صار الرَّاجح واجباً والمرجوح ممتنعاً ، وحينئذٍ يبطلُ قولهم ، وإن لم تؤثر في التَّرجيح لم يصحّ تسميتها بالإِخراج .
قوله تعالى : { والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت } : « الذين » مبتدأ أولُ ، وَأَوْلياؤهم مبتدأ ثانٍ ، وَالطَّاغُوتُ : خبرهُ ، والجملةُ خبرُ الأَوَّلِ . وقرأ الحسنُ « الطَّوَاغيت » بالجمع ، وإن كان أصلُه مصدراً؛ لأنه لمَّا أطلق على المعبود مِنْ دُونِ الله اختلفَت أنواعهُ ، ويؤيِّد ذلك عَوْدُ الضميرِ مَجْمُوعاً من قوله : « يُخْرِجونهم » .
قوله : « يُخْرِجونهم » هذه الجُملة وما قبلها من قوله : « يُخْرِجُهم » الأحسنُ ألاَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ ، لأَنَّهُمَا خَرَجا مخرجَ التفسير للولاية ، ويجوزُ أن يكونَ « يُخْرِجُهم » خبراً ثانياً لقوله : « الله » وَأَنْ يكونَ حالاً من الضَّمير في « وليُّ » ، وكذلك « يُخْرِجُونَهُم » والعاملُ في الحالِ ما في معنى الطَّاغُوتِ ، وهذا نظيرُ ما قاله الفارسيُّ في قوله تعالى :

{ نَزَّاعَةً للشوى } [ المعارج : 16 ] إنها حالٌ العاملُ فيها « لَظَى » وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى و « مَنْ » [ و ] « إِلى » مُتعلِّقان بفعلي الإِخراج .
فإن قيل كيف قال « يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلى الظُّلماتِ » وهم كفارٌ لم يكونوا في نور قطّ .
فالجواب هم اليهود كانوا مؤْمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أنْ يُبعث لما يجدون في كتبهم من نعته ، فلما بُعث كَفَرُوا به .
وقال مُقاتلٌ : يعني كعب بن الأَشرف وحيي بن أخطب ، وسائر رؤوس الضلالة؛ « يُخْرِجُونَهُم » يدعونهم .
وقيل هو على العُموم في حقِّ جميع الكُفَّار ، وقالوا : منعهم إياهم من الدخول فيه إخراج ، كما يَقُولُ الرَّجُل لأبيه أخرجتني من مالك ، ولم يكن فيه ، ولما قدَّمنا في التي قبلها .
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
احتجت المعتزلةُ بهذه الآية الكريمة على أَنَّ الكُفْر ليس من الله تعالى ، قالوا : لأنه تعالى أضافه إلى الطَّاغوت لا إلى نفسه .
وأُجيبوا بأَنَّ إسناد هذا إلى الطَّاغُوت مجاز بالاتفاق بيننا وبينكم؛ لأن المراد ب « الطَّاغُوت » على أظهر الأقوال هو الصَّنَمُ ، وإذا كانت هذه الإضافة مجازية بالاتفاق ، خرجت عن أن تكُون حجة لكم .
قوله : { أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يحتمل أَنْ يرجع ذلك إلى الكُفَّار فقط ويحتمل أَنْ يرجع إلى الكُفَّار والطَّواغيت معاً .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

تقدَّم الكلامُ في { أَلَمْ تَرَ إِلَى } في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } [ البقرة : 243 ] قال القرطبيّ : وهذه ألف التوقيف ، وفي الكلام معنى التَّعجب ، أي : أعجبوا له قال الفرَّاء : « أَلَمْ تَرَ » ، بمعنى : هل رأيتَ الَّذي حاجَّ إبراهيم ، وهل رأَيْتَ الَّذي مرَّ على قرية؟
وقرأ عليٌّ رضي اللهُ عنه : بِسُكون الرَّاء وتقدَّم أيضاً توجيهها . والهاءُ في « رَبِّهِ » فيها قولان :
أظهرهما : أنها تعود على « إبراهيم » .
والثاني : على « الَّذِي » ، ومعنى حاجَّه : أظهرَ المغالبة في حجته .
فصل
أعلم أَنَّه تعالى ذكر ها هنا قصصاً ثلاثاً .
الأولى : في بيان إِثبات العالم بالصَّانع ، والثانية والثالثة : في إثبات الحشرِ والنَّشرِ والبعث .
فالأولى مناظرة إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع ملك زمانِهِ ، وهي هذه .
قال مجاهِدٌ هو النُّمروذُ بن كنعانَ بن سام بن نُوح ، هو أول من وضع التَّاجَ على رأسه ، وتجبر وادَّعى الرُّبوبية؛ حاجَّ إبراهيم أي : خاصمَهُ وجادله ، واختلفوا في وقتِ هذه المحاجَّةِ . فقال مقاتل : لمّا كسَّرَ الأَصنامَ سجنه النمروذ ، ثم أخرجه ليحرقهُ فقال [ له ] : من رَبُّكَ الذي تَدعُونا إليه؛ فقال : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } .
وقال آخرون : كان هذا بعد إلقائه في النَّار .
وقال قتادةُ : هو أَوَّلُ من تَجَبَّرَ ، وهو صاحب الصَّرح ببابل .
وقيل هو نُمروذُ بن فالج بن عابر بن شالخ بن أَرفخشذ بن سام ، وحكى السُّهيليُّ أنه النُّمروذُ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح ، وكان ملكاً على السَّواد ، وكان ملكه الضحاك الَّذي يُعْرَفُ بالأزدهاق وذلك أن النَّاس قحطوا على عهد نمروذ ، وكان النَّاسُ يمتارون من عنده الطَّعام ، وكان إذا أتاه الرَّجلُ في طلب الطَّعام سأَلَ : مَنْ رَبُّكَ فإن قال : أَنْت؛ نال من الطعام فأتاه إبراهيم فيمن أتاه ، فقال له نمروذُ : من رَبُّكَ؛ فقال له إبراهيم : ربيّ الّذِي يُحْيي وَيُمِيتُ . فاشتغل بالمحاجَّة ، ولم يعطه شيئاً ، فرجع إبراهيم عليه الصلاة والسلام فمر على كثيبٍ من رَمْلٍ أعفرٍ ، فأخذ منه تطييباً لقلوبِ أهْلِه إذا دخل عليهم؛ فلما أَتى أَهلهُ ، ووضع متاعه نام فقامت امرأته إلى متاعه ، ففتحته فإذا هو بأجود طعام رأَتهُ؛ فصنعت له منه فقربته إليه ، فقال من أين هذا؟ قالت مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جئت به ، فعرف أن الله - تعالى - رزقه فَحَمَدَ اللهَ تعالى .
قوله : { أَنْ آتَاهُ الله } فيه وجهان :
أظهرهما : أَنَّهُ مفعولٌ من أجله على حذفِ العِلّة ، أي : لأَنْ آتاه ، فحينئذٍ في محلِّ « أَنْ » الوجهان المشهوران ، أعني النَّصب ، أو الجرِّ ، ولا بُدَّ من تقديرِ حرفِ الجرِّ قبل « أَنْ » ؛ لأَنَّ المفعول مِنْ أجلهِ هنا نَقَّص شرطاً ، وهو عدمُ اتِّحادِ الفاعلِ ، وإنما حُذفت اللامُ ، لأَنَّ حرف الجرِّ يطَّرد حذفُهُ معها ، ومع أنَّ ، كما تقدَّم .

وفي كونِهِ مفعولاً من أجلِهِ وجهان :
أحدهما : أَنَّهُ من باب العكسِ في الكلام بمعنى : أنه وضعَ المُحاجَّة موضع الشُّكْر ، إذ كان مِنْ حقِّه أن يشكرَ في مقابلة إتيانِ المُلْكِ ، ولكنَّهُ عَمِلَ على عكس القضية ، كقوله تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] ، وتقول : « عَادَاني فُلانٌ؛ لأني أَحسنت إليه » وهو باب بليغٌ .
والثاني : أَنَّ إيتاءَ المُلْكِ حَمَلَه على ذلك؛ لأَنَّهُ أورثه الكِبْرَ وَالبَطَرَ ، فَنَشَأَ عنهما المُحاجَّةُ .
الوجه الثاني : أنَّ « أَنْ » ، وما في حيِّزها واقعةٌ موقعَ ظرفِ الزَّمانِ ، قال الزَّمخشريُّ رحمه الله « وَيَجُوزُ أن يكونَ التَّقديرُ : حاجَّ وقتَ أَنْ آتاهُ اللهُ » . وهذا الذي أجازه الزمخشريُّ فيه نظر؛ لأَنَّهُ إِنْ عنى أَنَّ ذلكَ على حذفِ مُضافٍ ففيه بُعْدٌ من جهةِ أَنَّ المحاجَّة لم تقع وقتَ إِيتاءِ اللهِ له المُلْك ، إِلاَّ أَنْ يُتَجَوَّز في الوقتِ ، فلا يُحْمَل على الظَّاهر ، وهو أنَّ المُحاجَّة وَقَعَت ابتداء إيتاءِ المُلْك ، بل يُحْمَلُ على أنَّ المُحاجَّة وقعت وقتَ وجود المُلْك ، وإن عنى أَنَّ « أَنْ » وما حيِّزها واقعةٌ موقع الظَّرف ، فقد نصَّ النَّحويون على منع ذلك وقالوا : لا يَنُوب عن الظَّرف الزَّماني إلا المصدرُ الصَّريحُ ، نحو : « أَتيتُكَ صِيَاحَ الدِّيكِ » ولو قلت : « أَنْ يصيحَ الدِّيكُ » لم يَجز . كذا قاله أبو حيَّان قال شهاب الدين وفيه نظرٌ ، لأنه قال : « لا ينوبٌ عن الظَّرفِ إلا المصدرُ الصّريح » ، وهذا معارضٌ بأنهم نَصُّوا على أنَّ « ما » المصدريةَ تنوبُ عن الزَّمانِ ، وليست بمصدرٍ صريحٍ .
والضمير في « آتاه » فيه وجهان :
أظهرهما : أَنْ يعودَ على « الَّذِي » ، وهو قول جمهور المفسرين وأَجاز المهدويُّ أن يعودَ على « إِبْرَاهِيم » ، أي : ملك النُّبُوَّة . قال ابن عطيَّة : « هذا تَحاملٌ من التَّأْوِيل » ، وقال أبو حيان : هذا قولُ المعتزلة ، قالوا : لأنَّ الله تعالى قال : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] والمُلْك عهدٌ ، ولقوله تبارك وتعالى : { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } [ النساء : 54 ] . وعودُ الضَّمير إِلى أقرب مذكور واجب ، وأقرب مذكورٍ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأجيب عن الأَوَّل بأَنَّ الملك حصل لآل إبراهيم ، وليس فيها دلالةٌ على حصوله لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - .
وعن الثاني : بأن الذي حاج إبراهيم كان هو المَلِكُ ، فعود الضَّمير إليه أَوْلَى .
قوله : « إِذْ قَالَ » فيه أربعةُ أوجهٍ :
أظهرها : أَنَّهُ معمولٌ لحاجَّ .
والثاني : أن يكون معمولاً لآتاه ، ذكرهُ أبو البقاء . وفيه نظرٌ من حيثُ إنَّ وقت إيتاءِ المُلْكِ ليس وقتَ قولِ إبراهيم ، { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } ، إِلاَّ أَنْ يُتَجَوَّز في الظَّرفِ كما تقدَّم .
والثالث : أن يكون بدلاً من { أَنْ آتَاهُ الله الملك } إذا جُعِلَ بمعنى الوقت ، أجازه الزَّمخشريّ بناءً منه على أَنَّ « أَنْ » واقعةٌ موقعَ الظَّرف ، وقد تقدَّم ضعفُهُ ، وأيضاً فإِنَّ الظّرفين مختلفان ، كما تقدَّم إلا بالتَّجوز المذكورِ .

وقال أبو البقاء رحمه الله « وَذَكَرَ بَعْضُهم أنه بَدَلٌ من » أَنْ آتَاهُ الملك « وليس بشيءٍ؛ لأَنَّ الظرفَ غيرُ المصدرِ ، فلو كان بدلاً لكان غلطاً إلا أَنْ تُجْعَل » إذ « بمعنى » أَنْ « المصدرية ، وقد جاء ذلك » انتهى . وهذا بناءً منه على أنَّ « أَنْ » مفعولٌ من أجله ، وليست واقعةً موقع الظَّرفِ ، أمَّا إِذَا كانت « أَنْ » واقعةٌ موقع الظرف فلا تكون بدل غلط ، بل بدلُ كلِّ من كُلِّ ، كما هو قول الزمخشري وفيه ما تقدَّم بجوابه ، مع أَنَّه يجوزُ أَنْ تكون بدلاً مِنْ « أَنْ آتاهُ » ، و « أَنْ آتَاهُ » مصدرٌ مفعولٌ من أجلِهِ بدلَ اشتمالٍ؛ لأَنَّ وقتَ القولِ لاتِّسَاعِهِ مُشتملٌ عليه وعلى غيره .
الرابع : أَنَّ العامِلَ فيه « تَرَ » منق وله : « أَلَمْ تَرَ » ذكره مكيٌّ رحمه الله تعالى ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأَنَّ الرُّؤية على كِلاَ المذكورين في نظيرها لم تكن في وقتِ قوله : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } .
قوله : { الذي يُحْيِي } مبتدأٌ في محلِّ نصب بالقول .
فصل
الظَّاهر أن هذا جواب سؤالٍ سابق غير مذكورٍ؛ لأَنَّ الأَنبياء بعثوا للدَّعوة ومتى ادَّعى الرسالة والدَّعوة ، فلا بدَّ وأن يطالبه المنكر بإثبات أَنَّ للعالم إلهاً؛ ألا ترى لما قال موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين } [ الشعراء : 23 ] فاحتجَّ موسى على إثبات الإِله بقوله { رَبُّ السماوات والأرض } [ الشعراء : 24 ] فكذا ها هنا لما ادَّعى إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - الرِّسالة قال النُّمروذ من ربك؟ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت .
وقرأ حمزة : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } بإسكان الياء ، وكذلك { حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش } [ الأعراف : 33 ] { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض } [ الأعراف : 146 ] ، و { قُل لِّعِبَادِيَ الذين } [ إبراهيم : 31 ] ، و { آتَانِيَ الكتاب } [ مريم : 30 ] و { مَسَّنِيَ الضر } [ الأنبياء : 83 ] و { مَسَّنِيَ الشيطان } [ ص : 41 ] و { عِبَادِيَ الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] ، و { عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] و { إِنْ أَرَادَنِيَ الله } [ الزمر : 38 ] ، و { إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله } [ تبارك : 28 ] أسكن الياء فيهن حمزة؛ وافق ابن عامر والكسائي في « لعبادي الذين آمنوا » وابن عامر في « آيَاتِي الَّذِين » ، وفتحها الآخرون .
فصل
استدلَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام على إثبات الإله بالإحياء والإماتة ، وهو دليلٌ في غاية القُوَّة لأَنَّهُ لا سبيل إلى معرفةِ اللهِ تعالى إِلاَّ بواسطة أفعاله التي لا يُشاركُهُ فيها أحدٌ من القادرين ، والإحياء والإماتة كذلك؛ لأَنَّ الخلق عاجزون عنهما والعلم بعد الاختيار ضروري ، وهذا الدَّليل ذكره اللهُ تعالى في مواضع من كتابه كقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] إلى آخرها وقوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } [ التين : 4 ، 5 ] وقال : { الذي خَلَقَ الموت والحياة }

[ الملك : 2 ] .
فإن قيل : لِمَ قدَّم هنا ذِكر الحياةِ على الموتِ في قوله { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } ، وقدَّمَ الموتَ على الحياةِ في آياتٍ كقوله { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] وقال { الذي خَلَقَ الموت والحياة } [ الملك : 2 ] ، وحكى عن إِبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قوله في ثنائِهِ على الله تعالى { والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [ الشعراء : 81 ] .
فالجواب : أَنَّ الدَّليل إذا كان المقصود منه الدَّعوة إلى اللهِ - تعالى - يجب أَنْ يكون في غاية الوضُوح ، ولا شكّ أَنَّ عجائب الخلقة حال الحياة أكثر ، واطلاع الإِنسان عليها أتم ، فلا جرم قَدَّم ذكر الحياة هُنا .
{ قَالَ أَنَا أُحْيِي } مبتدأٌ ، وخبرٌ منصوب المحلِّ بالقول أيضاً . وأخبر عن « أَنَا » بالجملة الفعلية ، وعن « رَبّي » بالموصولِ بها؛ لأَنَّه في الإِخبار بالموصولِ يُفيد الاختصاص بالمُخبَرِ عنه بخلافِ الثاني ، فإِنَّهُ لم يدَّعِ لنفسه الخسيسة الخصوصية بذلك .
و « أَنَا » : ضميرٌ مرفوعٌ مُنفصلٌ ، والاسمُ منه « أَنَ » والألفُ زائدةٌ؛ لبيان الحركةِ في الوقفِ ، ولذلك حُذِفت وصلاً ، ومن العربِ مَنْ يثبتها مطلقاً ، فقيل : أُجريَ الوصلُ مجرى الوقف؛ قال القائل في ذلك : [ المتقارب ]
1189- وَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالي القَوَا ... فِي بَعْدَ المَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارا
وقال آخر : [ الوافر ]
1190- أَنَا سَيْفُ فَاعْرِفُونِي ... حُمَيْداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَاما
والصحيح أنه فيه لغتان ، إحداهما : لغةُ تميم ، وهي إثباتُ ألفه وصلاً ووقفاً ، وعليها تُحْمَلُ قراءةُ نافع فإِنَّه قرأ بثبوت الألف وصلاً قبل همزةٍ مضمومة نحو : { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } ، أو مفتوحةٍ نحو : { وَأَنَاْ أَوَّلُ } [ الأعراف : 143 ] ، واختلف عنه في المكسروة نحو : { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ } [ الشعراء : 115 ] ، وقرأ ابن عامرٍ : { لَّكِنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } [ الكهف : 38 ] على ما سيأتي إن شاء الله تعالى وهذا أحسنُ من توجيه مَنْ يَقُولُ « أُجْري الوصلُ مجرى الوَقْفِ » . واللُّغة الثانية : إثباتُها وَقْفاً وحَذفُها وَصْلاً ، ولا يجوزُ إثباتُها وصلاً إِلاَّ ضرورةً كالبيتين المتقدِّمين . وقيل : بل « أَنَا » كلُّه ضمير .
وفيه لغاتٌ : « أَنا وأَنْ » - كلفظ أَنِ النَّاصبةِ - و « آن » ؛ وكأنه قَدَّم الألف على النون ، فصار « أانَ » ، قيل : إنَّ المراد به الزَّمان ، وقالوا : أَنَهْ ، وهي هاءُ السَّكْتِ ، لا بدلٌ من الألف؛ قال : « هكذا فَرْدِي أَنَهْ » ؛ وقال آخر : [ الرجز ]
1191- إِنْ كُنْتُ أَدْرِي فَعَلَيَّ بَدَنَهْ ... مِنْ كَثْرَةِ التَّخْلِيطِ أَنِّي مَنْ أَنَهْ
وإنما أثبت نافعٌ ألفَه قبل الهمز جمعاً بين اللُّغتين ، أو لأَنَّ النُّطقَ بالهمزِ عسرٌ فاستراح له بالألف لأنها حرفُ مدٍّ .
فصل
قال أكثرُ المفسِّرين : لما احتج إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - على إثبات الإله بالإحياء ، والإماتة؛ دعا النُّمروذ برجلين ، فقتل أحدهما ، واستبقى الآخر ، وقال : أَنَا أيضاً أحيي وأُميت ، فجعل تَرْكَ القتلِ إِحياءً .
قال ابن الخطيب : وعندي أَنَّه بعيد؛ لأَنَّ الظَّاهر من حال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه شرح حقيقة الإحياء وحقيقة الإماتة ومتى شرحه امتنع أَن يشتبه على العاقل الإِماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة والإحياء بمعنى القتل وتركه ويبعد في الجمع العظيم أَنْ يكونُوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق ، والمرادُ من الآية - واللهُ أعْلَمُ - أن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما احتجّ بالإحياء ، والإِماتة قال المنكر : أتدعي الإِحياء والإِماتة مِن اللهِ ابتداء من غير واسطة الأَسباب الأرضيَّة والسَّماويَّة ، أو بواسطتها .

أَمَّا الأَوَّل : فلا سبيل إليه ، وأَمَّا الثَّاني ، فلا يدلُّ على المقصود ، لأَنَّ الواحد منا يقدر على الإِحياء والإِماتة بواسطة سائر الأسباب فإِنَّ الجماع قد يُفْضي إلى الولد الحيّ بواسطة الأَسباب الأرضيَّة والسَّماويَّة ، وتناول السّم قد يفضي إلى الموت ، فلما ذكر النُّمروذ هذا السُّؤَال على هذا الوجه؛ أجاب إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فقال : [ هب أَنَّ الإِحياء ، والإماتة ] حصلا من الله تعالى بواسطة الاتِّصالات الفلكية إلاَّ أنه لا بُدَّ لتلك الاتصالات والحركات الفلكية من فاعل مُدَبّر ، فإذا كان المُدبِّر لتلك الحركات الفلكيّة هو اللهُ تعالى؛ كان الإِحياءُ والإماتةُ الصَّادران من البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية ليست كذلك؛ لأنه لا قدرة للبشر على الاتِّصالات الفلكية؛ فظهر الفرقُ .
إذا عرف هذا فقوله تعالى : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق } ليس دليلاً آخر ، بل من تمام الدَّليل الأَوَّل؛ ومعناه : أَنَّهُ وإن كان الإحياء والإماتة [ من اللهِ ] بواسطة حركات الأَفلاك إِلاَّ أن حركات الأفلاك من اللهِ تعالى فكان الإِحياء والإماتة أيضاً من الله تعالى ، وأما البشر فإنه وإن صدر منه الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأَسباب السَّماويَّة والأَرضيَّة إلاَّ أن تلك الأَسباب ليس واقعة بقدرته؛ فثبت أَنَّ الإِحياء والإِماتة الصَّادرين عن البشر ليسا على ذلك الوجه ، فلا يصلح نقضاً عليه ، فهذا هو الَّذي اعتقده في كيفيَّة جريان هذه المناظرة ، لا ما هو المشهورُ عند الكلِّ واللهُ أَعلمُ بحقيقة الحال .
قوله : { فَإِنَّ الله } هذه الفاءُ جواب شرطٍ مقدَّر تقديره : قال إبراهيم - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - إِنْ زعمتَ ، أو موَّهْتَ بذلك فإِنَّ اللهَ . ولو كانت الجملةُ محكيَّةً بالقول ، لما دخلت هذه الفاءُ ، بل كان تركيب الكلام : قال إبراهيم : إِنَّ اللهَ يَأْتِي ، وقال أبو البقاء رحمه الله : « دَخَلَتِ الفاءُ؛ إيذاناً بتعلُّق هذه الكلام بما قبلَه ، والمعنى : إذا ادَّعيت الإِحياءَ والإِماتة ، ولم تفهم ، فالحُجَّة أَنَّ الله تعالى يأتي ، هذا هو » المعنى « والباءُ في » بالشَّمْسِ « للتعديةِ ، تقول : أَتَتِ الشَّمْسُ ، وأَتَى اللهُ بها ، أي : أجاءها ، و » مِنَ المَشْرِقِ « و » مِنَ المَغْرِبِ « متعلِّقان بالفعلين قبلهما ، وأجاز أبو البقاء فيهما بعد أَنْ مَنع ذلك أن يكونا حالين ، وجعل التقدير : مُسخَّرةً أو منقادةً قال شهاب الدين - رحمه الله - : وليته استمر على منعه ذلك .

فصل
للناس ها هنا طريقان :
أحدهما : طريقة أكثر المفسِّرين : وهو أنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما رأى من النُّمروذ إِلقاءَ تلك الشُّبهة ، عدل إلى دليل آخَرَ أوضح من الأَوَّل ، فقال : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق ، فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب } فزعم هؤلاء أن الانتقال مِنْ دليل إلى دليلٍ أوضح منه جائزٌ للمستدلِّ .
فإن قيل : هلاَّ قال النمروذُ فليأتِ بها ربُّك من المغربِ .
قلنا : الجوابُ من وجهين :
أحدهما : أن هذه المُحاجَّة كانت بعد إلقاء إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في النَّار وخروجه منها سالماً ، فعلم أَنَّ من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق ، يقدر على أن يأتي بالشَّمس من المغرب .
والثاني : أن الله تعالى خذله وأنساه إيرادَ هذه الشُّبهة؛ نصرةً لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - .
والطريقُ الثاني : قاله المحقِّقون : إن هذا ليس بانتقالٍ من دليل إلى دليلٍ ، بل الدليلُ واحدٌ في الموضعين ، وهو أنا نرى حدوث الأشياء لا يقدر الخلق على إحداثها ، فلا بُدَّ من قادر آخر يتولَّى إحداثها ، وهو سبحانه وتعالى ، ثم إنَّ قولنا : نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها ، أمثلةٌ؛ منها : الإِحياء والإِماتة ، ومنها : السحاب ، والرعد ، والبرق ، ومنها : حركات الأفلاك ، والكواكب ، والمستدلُّ لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليلٍ ، ولكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالاً ، فله أن ينتقل مِنْ ذلك المثال إلى مثالٍ آخر ، فيكون ما فعله إبراهيم - عليه السَّلامُ - من باب ما يكونُ الدليلُ فيه واحداً ، إلاَّ أنه يقع الانتقال عند إيضاحه مِنْ مثالٍ إلى مثالٍ آخر ، وليس ما يقع [ من باب الانتقال من دليل إلى دليل آخر ] .
قال ابن الخطيب : وهذا الوجه أحسن من الأوَّل وأليقُ بكلام أهل التحقيق ، وعليه إشكالات من وجوه :
الإشكال الأول : أن صاحب الشُّبهة ، إذا ذكرها وقعت في الأسماع ، وجب على المحقِّ القادر على الجواب أن يجيب في الحال؛ إزالةً لذلك التلبيس والجهل عن العقول ، فلما طعن الملك الكافر في الدَّليل الأوَّل أو في المثال الأول بتلك الشبهة ، كان الاشتغال بإبطال تلك الشبهة واجباً مضيِّقاً ، فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب .
الإشكال الثاني : أن المبطل لمَّا أورد تلك الشُّبهة ، فإذا ترك المحق الجواب عنها ، وانتقل إلى كلام آخر ، أوهم أن كلامه الأوَّل ، كان ضعيفاً ساقطاً ، وأنه ما كان عالماً بضعفه ، وأن ذلك المبطل ، علم وجه ضعفه ، ونبَّه عليه ، وهذا ربما يوجب سقوط شأن المحقِّ ، وهو لا يجوز .
الإشكال الثالث : أنَّه وإن كان يحسن الانتقال من دليلٍ إلى دليلٍ آخر ، أو من مثالٍ إلى مثالٍ آخر ، لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب ، وها هنا ليس كذلك؛ لأنَّ جنس الإحياء والإماتة لا قدرة للخلق عليهما ، وأما جنس تحريك الأجسام ، فللخلق قدرةق عليه ولا يبعد في العقل وجود ملكٍ عظيم في الجثة أعظم من السموات ، وأنه هو الذي يحرِّك السموات ، وعلى هذا التقدير فالاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من الاستدلال بطلوع الشَّمس على وجود الصانع ، فكيف يليق بالمعصوم أن ينتقل من الدَّليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفيِّ .

الإشكال الرابع : أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من دلالة طلوع الشَّمس عليه؛ لأنَّا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبدّلات واختلافات ، والتبدُّل قويّ الدلالة على الحاجة إلى المؤثِّر القادر ، وأمَّا الشمس فلا نرى في ذاتها تبدُّلاً ، ولا في صفاتها ، ولا في منهج حركاتها ألبتَّة ، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى ، فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالاً من الأجلى لأقوى للأضعف الأخفى ، وإنه لا يجوز .
الإشكال الخامس : أنَّ النمروذ ، لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تبارك وتعالى بالقتل والتخلية ، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشَّمس أن يقول : طلوع الشمس من المشرق مني ، فإن كان لك إلهٌ ، فقل له يطلعها من المغرب؛ وعند ذلك التزم المحقِّقون من المفسِّرين ذلك ، فقالوا : إنه لو أورد هذا السُّؤال ، لكان من الواجب أن تطلع الشَّمس من المغرب ، ومن المعلوم : أن إفساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثيرٍ من إلزامه بطلوع الشَّمس من المغرب ، ولا يكون طلوع الشَّمس من المشرق دليلاً على وجود الصَّانع ، وحينئذٍ يصير دليله الثَّاني ضائعاً؛ كما صار دليله الأوَّل ضائعاً ، فالذي حمل سيدنا إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - على أن يترك الجواب عن ذلك السؤال الرَّكيك ، والتزام الانقطاع ، واعترف بالحاجة إلى الانتقال والتمسُّك بدليلٍ لا يمكنه تمشيته ، إلا بالتزام طلوع الشَّمس من المغرب ، وبتقدير أن يأتي بإطلاع الشمس من المغرب ، فإنه يضيع دليله الثَّاني أيضاً كما ضاع الأوَّل ، والتزام هذه المحذورات لا يليق بأقلِّ الناس علماً؛ فضلاً عن أفضل العقلاء ، وأعلم العلماءس ، فظهر بهذا أنَّ الذي أجمع جمهور المفسِّرين عليه ضعيفٌ .
قال ابن الخطيب : وأما الوجه الذي ذكرناه ، فلا يتوجَّه عليه شيءٌ من هذه الإشكالات ، لأنَّا نقول : لما احتجَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالإحياء والإماتة ، أورد الخصم عليه سؤالاً لا يليق بالعقلاء ، وهو أنَّك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا بواسطةٍ ، فلا تجد إلى إثبات ذلك سبيلاً ، وإن ادعيت حصولها بواسطة حركات الأفلاك ، [ فنظيره أو ما يقرب منه حاصلٌ للبشر؛ فأجاب إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بأن الإحياء والإماتة ، وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك ] ، لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى ، وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى؛ بخلاف الخلق ، فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الأفلاك ، فلا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم ، وعلى هذا تزول الإشكالات المذكورة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

[ قال القرطبيُّ : وروي في الخبر أن الله تعالى قال : « وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى آتِيَ بِالشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ لِيُعْلَمَ أَنِّي أَنَا القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ .
» ] « قوله : { فَبُهِتَ الذي كَفَرَ } الجمهور : » بُهِتَ « مبنيّاً للمفعول ، والموصول مرفوعٌ به ، والفاعل في الأصل هو إبراهيم ، لأنه المناظر له ، ويحتمل أن يكون الفالع في الأصل ضمير المصدر المفهوم من » قَالَ « ، أي : فبهته قول إبراهيم ، وقرأ ابن السَّميفع : » فَبَهَتَ « بفتح الباء والهاء مبنيّاً للفاعل ، وهذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون الفعل متعديّاً ، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، و » الَّذِي « هو المفعول ، أي : فبهت إبراهيم الكافر ، أي : غلبه في الحجَّة ، أو يكون الفاعل الموصول ، والمفعول محذوفٌ ، وهو إبراهيم ، أي : بهت الكافر إبراهيم ، أي : لمَّا انقطع عن الحجَّة بهته ، أي : سبَّه وقذفه حين انقطع ، ولم تكن له حيلةٌ .
والثاني : أن يكون لازماً ، والموصول فاعلٌ ، والمعنى معنى بهت ، فتتَّحد القراءتان ، أو بمعنى أتى بالبهتان ، وقرأ أبو حيوة : » فَبَهُتَ « بفتح الباء ، وضمِّ الهاء ، كظرف ، والفاعل الموصول ، وحكى الأخفش : فَبَهِتَ بكسر الهاء ، وهو قاصر أيضاً ، فيحصل فيه ثلاث لغاتٍ : بَهَت بفتحهما ، بَهُتَ بضم العين ، بَهِتَ بكسرها .
قال عروة العدويُّ : [ الطويل ]
1192- فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً ... فَأُبْهَتَ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ
فالمفتوح يكون لازماً ومتعدياً ، قال تعالى : { فَتَبْهَتُهُمْ } [ الأنبياء : 40 ] .
والبَهْتُ : التحيُّر ، والدَّهش ، وبَاهَتَهُ وَبَهَتَهُ واجهه بالكذب ، ومنه الحديث : » إنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ « ، وذلك أن الكذب يحيِّر المكذوب عليه .
ومعنى الآية : أنَّه : بقي مغلوباً لا يجد مقالاً ، ولا للمسألة جواباً .
قوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } . وتأويله على قول أهل السُّنة ظاهر ، وأما المعتزلة ، فقال القاضي : يحتمل وجوهاً :
منها : أنه لا يهديهم؛ لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق ، كما يهدي المؤمن ، فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع .
ومنها : لا يهديهم بزيادة الهدى والألطاف .
ومنها : لا يهديهم إلى الثواب أو لا يهديهم إلى الجنَّة .
والجواب عن الأول : أنَّ قوله : » لاَ يَهْدِيهِمْ « إلى الحجاج إنما يصحُّ إذا كان الحجاج موجوداً؛ إذ لا حجاج على الكفر .
وعن الثاني : أن تلك الزيادة ، إذا كانت ممتنعةً في حقِّهم عقلاً ، لم يصحَّ أن يقال : إنه تبارك وتعالى لا يهديهم كما لا يقال إنه تبارك وتعالى لا يجمع بين الضِّدَّين ، فلا يجمع بين الوجود والعدم .
وعن الثالث : أنه لم يهدهم للثواب ولم يجز للجنة ذكر فيبعد صرف اللَّفظ إليهما ، بل اللائق بسياق الآية الكريمة أن يقال : إنه تعالى لما أخبر أن الدليل ، لمَّا بلغ في الظهور والحجَّة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عن سماعه ، إلاَّ أن الله تعالى لم يقدِّر له الاهتداء ، لم ينفعه ذلك الدليل الظَّاهر ، ونظير هذا التفسير قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الأنعام : 111 ] .

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

هذه القصة الثانية والجمهور على سكون واو « أَوْ » وهي هنا للتفضيل ، وقيل : للتخيير بين التعجُّب من شأنهما ، وقرأ سفيان بن حسين « أَوَ » بفتحها ، على أنها واو العطف ، والهمزة قبلها للاستفهام .
وفي قوله : « كَالَّذِي » أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه عطفٌ على المعنى وهو قولٌ عند الكسائي والفرَّاء وأبي علي الفارسيِّ وأكثر النحويّين ، قالوا : ونظيره من القرآن قوله تعالى : { قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [ المؤمنون : 84-85 ] ثم قال : { مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [ المؤمنون : 86-87 ] . فهذا عطف على المعنى؛ لأنَّ معناه : لمن السَّموات؟! فقيل لله؛ وقال الشَّاعر : [ الوافر ]
1193- مُعَاوِيَ ، إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وَلاَ الحَدِيدَا
فحمل على المعنى ، وترك اللفظ ، وتقدير الآية :
هل رأيت كالذي حاجَّ إبراهيم ، أو كالذي مرَّ على قريةٍ ، هكذا قال مكيٌّ ، أمَّا العطف على المعنى ، فهو وإن كان موجوداً في لسانهم؛ كقوله : [ الطويل ]
1194- تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةٌ ... بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ
وقول الأخر في هذين البيتين : [ الوافر ]
1195- أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ ... وَلاَ بَيْدَانَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ
وَلاَ مُتَدَارِكٍ وَاللَّيْلُ طَفْلٌ ... بِبَعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُمُولاَ
فإنَّ معنى الأول : ليس بمكثِّر ، ولذلك عطف عليه « وَلاَ بِحَقَلَّد » ، ومعنى الثاني : أجِدَّك لست بِرَاءٍ ، ولذلك عطف عليه « وَلاَ مُتَدَارِكٍ » ، إلا أنهم نصُّوا على عدم اقتياسه .
الثاني : أنه منصوبٌ على إضمار فعل ، وإليه نحا الزمخشريُّ ، وأبو البقاء ، قال الزمخشريُّ : « أو كالَّذِي : معناه أوَ رَأَيْتَ مَثَلَ الَّذِي » ، فحذف لدلالة « أَلَمْ تَرَ » عليه؛ لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ ، وهو حسنٌ؛ لأنَّ الحذف ثابتٌ كثيرٌ ، بخلاف العطف على المعنى .
الثالث : أنَّ الكاف زائدةٌ؛ كهي في قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، وقول الآخر : [ السريع أو الرجز ]
1196- فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ ... والتقدير : ألم تر إلى الذي حاجَّ ، أو إلى الذي مرَّ على قريةٍ . وفيه ضعفٌ؛ لأنَّ الاصل عدم الزيادة .
والرابع : أنَّ الكاف اسم بمعنى مثل ، لا حرفٌ؛ وهو مذهب الأخفش . قال شهاب الدِّين : وهو الصحيح من جهة الدليل ، وإن كان جمهور البصريين على خلافه ، فالتقدير : ألم تر إلى الذي حاجَّ ، أو إلى مثل الذي مرَّ ، وهو معنى حسنٌ . وللقول باسمية الكاف دلائل مذكورةٌ في كتب القوم ، ذكرنا أحسنها في هذا الكتاب .
منها : معادلتها في الفاعلية ب « مِثْل » في قوله : [ الطويل ]
1197- وَإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرٍ ... ضَعِيفٍ وَلَمْ يَغْلِبْكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ
ومنها دخول حروف الجر ، والإسناد إليها . وتقدَّم [ الكلام ] في اشتقاق القرية .
قوله : « وهي خَاوِيَةٌ » هذه الجملة فيها خمسة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون حالاً من فاعل « مَرَّ » والواو هنا رابطةٌ بين الجملة الحالية وصاحبها ، والإتيان بها واجبٌ؛ لخلوِّ الجملة من ضمير يعود إليه .

الثاني : أنها حالٌ من « قرية » : إمَّا على جعل « عَلَى عُرُوشِهَا » صفةٌ لقرية على أحد الأوجه الآتية في هذا الجارِّ ، أو على رأي من يجيز الإتيان بالحال من النكرة مطلقاً؛ وهو ضعيف عند سيبويه .
الثالث : أنها حالٌ من « عُرُوشِهَا » مقدَّمةٌ عليه ، تقديره : مرَّ على قرية على عروشها خاويةٌ .
الرابع : أن تكون حالاً من « هَا » المضاف إليها « عُرُوش » قال أبو البقاء : « والعَامِلُ مَعْنَى الإِضَافَةِ ، وهو ضَعِيفٌ مع جوازه » انتهى . والذي سهَّل مجيء الحال من المضاف إليه ، كونه بعض المضاف؛ لأنَّ « العُرُوشَ » بعض القرية ، فهو قريب من قوله تعالى : { مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ] .
الخامس : أن تكون الجملة صفةً لقرية ، وهذا ليس بمرتضى عندهم؛ لأنَّ الواو لا تدخل بين الصفة والموصوف ، وإن كان الزمخشريُّ قد أجاز ذلك في قوله تعالى : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] [ فجعل : « وَلَهَا كِتَابٌ » ] صفةً ، قال : « وتَوَسَّطَتِ الواوُ؛ إيذاناً بإلصاق الصفة بالموصوف » وهذا مذهب سبقه إليه أبو الفتح ابن جنِّي في بعض تصانيفه ، وفي ما تقدَّم ، وكأنَّ الذي سهَّل ذلك تشبيه الجملة الواقعة صفةً ، بالواقعة حالاً ، لأنَّ الحال صفةٌ في المعنى ، ورتَّب أبو البقاء جعل هذه الجملة صفةً لقرية ، على جواز جعل « عَلَى عُرُوشِهَا » بدلاً من « قَرْيَةٍ » على إعادة حرف الجرِّ ، ورتَّب جعل « وَهِي خَاوِيَةٌ » حالاً من العروش ، أو من القرية ، أو من « ها » المضاف إليها ، على جعل « عَلَى عُرُوشِهَا » صفةٌ للقرية ، وهذا نصُّه ، قد ذكرته؛ ليتضح لك ، فإنه قال : وقد قيل : هو بدلٌ من القرية تقديره : مرَّ على قريةٍ على عروشها ، أي : مَرَّ على عروش القرية ، وأعاد حرف الجرِّ مع البدل ، ويجوز أن يكون « عَلَى عُرُوشِهَا » على هذا القول صفةً للقرية ، لا بدلاً ، تقديره : على قرية ساقطةٍ على عروشها ، فعلى هذا لا يجوز أن تكون « وَهِيَ خَاوِيَةٌ » حالاً من العروش وأن تكون حالاً من القرية؛ لأنها قد وصفت ، وأن تكون حالاً من « هَا » المضاف إليه ، وفي هذا البناء نظرٌ لا يخفى .
قوله : { على عُرُوشِهَا } فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون بدلاً من « قرية » بإعادة العامل .
الثاني : أن يكون صفةً ل « قَرْيَةٍ » كما تقدَّم فعلى الأول : يتعلَّق ب « مَرَّ » ؛ لأنَّ العامل في البدل العامل في المبدل منه ، وعلى الثاني : يتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : ساقطةٍ على عروشها .
الثالث : أن يتعلَّق بنفس خاوية ، إذا فسَّرنا « خَاوِيَةٌ » بمعنى متهدِّمة ساقطة .
الرابع : أن يتعلَّق بمحذوفٍ يدلُّ عليه المعنى ، وذلك المحذوف قالوا : هو لفظ « ثَابِتَةٌ » ؛ لأنهم فسَّروا « خَاوِيَةٌ » بمعنى : خاليةٌ من أهلها ثابتةٌ على عروشها ، وبيوتها قائمة لم تتهدَّم ، وهذا حذفٌ من غير دليلٍ ، ولا يتبادر إليه الذهن ، وقيل : « عَلَى » بمعنى « مَعَ » ، أي : مع عروشها ، قالوا : وعلى هذا فالمراد بالعروش الأبنية .

وقيل : « عَلَى » بمعنى « عَنْ » أي : خاويةٌ عن عروشها ، جعل « عَلَى » بمعنى « عَنْ » كقوله : { إِذَا اكتالوا عَلَى الناس } [ المطففين : 2 ] أي : عنهم .
والخاوي : الخالي . يقال : خوت الدار تخوي خواءً بالمد ، وخويّاً ، وخويت - أيضاً - بكسر العين تَخْوَى خَوّى بالقصر ، وخَوْياً ، والخَوَى : الجوع؛ لخلوِّ البطن من الزَّاد . والخويُّ على فعيل : البطن السَّهل من الأرض ، وخوَّى البعير : جَافَى جنبه عن الأرض؛ قال القائل في ذلك : [ الرجز ]
1198- خَوَّى عَلَى مُسْتَوِيَاتٍ خَمْسِ ... كِرْكِرَةٍ وَثَفِنَاتٍ مُلْسِ
ومنه الحديث : « كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَجَدَ خَوَّى » أي : خلا عن عضده ، وجنبيه ، وبطنه ، وفخذيه ، وخوَّى الفرس ما بين قوائمه ، ويقال للبيت إذا انهدم خوى؛ لأنه بتهدمه يخلو من أهله ، وكذلك خوت النجوم وأخوت إذا سقطت .
والعُرُوشُ : جمع عرش ، وهو سقف البيت ، وكذلك كلُّ ما هُيِّىءَ ليستظلَّ به ، وقيل : هو البنيان نفسه؛ قال القائل في ذلك : [ الكامل ]
1199- إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ ... بِعُتَيْبَةَ بْنِ الحَارِثِ بِنْ شِهَابِ
اختلفوا في الذي مرَّ بالقرية فقال مجاهد ، وأكثر المفسرين من المعتزلة : كان رجلاً كافراً شاكّاً في البعث .
وقال قتادة ، وعكرمة ، والضحاك ، والسديُّ : هو عُزَيرُ بن شرخيا .
وقال وهب بن منبه ، ورواه عطاء ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - هو إرمياء بن خلقيا ، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم : إنَّ إرمياء هو الخضر - عليه السَّلام - ، وهو من سبط هارون بن عمران - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو قول محمد بن إسحاق .
وقال وهب بن منبِّه : إنَّ إرمياء ، هو النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي بعثه الله عندما خرَّب بخت نصَّر بيت المقدس ، وأحرق التوراة .
واحتجَّ من قال إنه كان كافراً بوجوه :
الأول : استبعاده الإحياء بعد الإماتة من الله وذلك كفرٌ .
فإن قيل : يجوز وقوع ذلك منه قبل البلوغ .
قلنا : لو كان كذلك ، لم يجز أن يعجب الله رسوله منه إذ الصَّبيُّ لا يتعجَّب من شكِّه في مثل ذلك ، وضعَّفوا هذه الحجة؛ بأن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشَّكِّ في قدرة الله تعالى ، بل يحتمل أن يكون بسبب اطِّراد العادات في أنَّ مثل ذلك الموضع الخراب قلَّما يصيِّره الله معموراً ، كما أنَّ الواحد إذا رأى جبلاً ، فيقول : متى يقلب الله هذا ذهباً ، أو ياقوتاً؟ لا أن مراده الشَّكُّ في قدرة الله ، بل إنَّ ذلك لا يقع في مطرد العادات ، فكذا ها هنا .

الحجة الثانية : قوله تعالى في حقه : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } وهذا يدلُّ على أنه قبل ذلك لم يحصل له التبين ، وضعِّف ذلك بأن تبيُّن الإحياء على سبيل المشاهدة ، ما كان حاصلاً له قبل ذلك ، وأمَّا التبين على سبيل الاستدلال فلا يسمل أنه لم يكن حاصلاً له .
الحجة الثالثة : قوله : { أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وهذا يدلُّ على أنَّ هذا العلم إنما حصل له في ذلك الوقت ، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن تلك المشاهدة أفادت نوع توكيد ، وطمأنينة ، وذلك إنما حصل في ذلك الوقت ، وهذا يدلُّ على أنَّ أصل العلم ما كان موجوداً قبل ذلك .
الحجة الرابعة : انتظامه مع النمروذ في سلكٍ واحدٍ ، وهذا - أيضاً - ضعيفٌ؛ لأنه وإن كان قبله قصَّة النمروذ ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فوجب أن يكون نبياً من جنس إبراهيم .
واحتج من قال إنه كان مؤمناً بوجوه :
منها قوله تعالى : { أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } وهذا يدلُّ على أنَّه كان عالماً بعد موتها بالله تعالى وبأنَّه يصحُّ منه الإحياء في الجملة ، لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء ، إنما يصحُّ إذا حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة ، فأما من يعتقد أنَّ القدرة على الإحياء ممتنعةٌ لم يبق لهذا التخصيص فائدة .
ومنها مخاطبة الله تعالى له بقوله : { كَمْ لَبِثْتَ } وبقوله : { بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ } ، وبقوله : { فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ } ، وبقوله : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } ، وبقوله { وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } وهذه المخاطبات لا تليق بالكافر ، قال تعالى : { والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] ، فجعله آية للناسن دليلٌ على مزيد التشريف .
ومنها ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير ، ومنهم العزير وكان من علمائهم ، فجاء بهم إلى « بابل » فدخل عُزَيرٌ يوماً تلك القرية ونزل تحت ظلِّ شجرةٍ ، وهو على حمارٍ ، فربط حماره ، وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً ، فعجب من ذلك ، وقال { أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } لا على سبيل الشَّكِّ في القدرة ، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة ، وكانت الأشجار مثمرة ، فتناول من الفاكهة التين والعنب ، وشرب من عصير العنب ، ونام فأماته الله في منامه مائة عام وهو شابٌّ ثم أعمى عنه عيون الإنس والسِّباع والطَّير ، ثمَّ أحياه الله بعد المائة ، ونودي من السَّماء يا عزير « كَمْ لَبِثْتَ » بعد الموت ، فقال : « يَوْماً » وذلك أن الله أماته ضحًى في أول النهار ، وأحياه بعد مائة عامٍ آخر النَّهار قبل غيبوبة الشَّمس ، فلما أبصر من الشَّمس بقيةً قال : « أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ » فقال الله تبارك وتعالى : { بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ } من التِّين ، والعنب « وَشَرَابِكَ » من العصير لم يتغير طعمه ، فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما قال : « وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ » فنظر فإذا هو عظامٌ بيض تلوح وقد تفرَّقت أوصاله ، وسمع صوتاً : أيَّتها العظام البالية ، إنِّي جاعلٌ فيك روحاً ، فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعضٍ ، ثم التصق كلُّ عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع ، والذِّراع إلى مكانه ، ثم جاء الرأس إلى مكانه ، ثم العصب والعروق ، ثم أنبت طراء اللحم عليه ثم انبسط الجلد عليه ثم خرجت الشعور من الجلد ، ثمَّ نفخ فيه الروح ، فإذا هو قائم ينهق ، فخرَّ عزير ساجداً ، وقال : { أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ثم إنَّه دخل بيت المقدس .

فقال القوم : حدَّثنا آباؤنا : أنَّ عزير بن شرخيا مات ببابل ، وقد كان بختنصر قد قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً من قراء التوراة ، وكان فيهم عزير ، والقوم ما عرفوا أنَّه يقرأ التوراة ، فلمَّا أتاهم بعد مائة عام جدَّد لهم التوراة ، وأملاها عليهم عن ظهر قلبه ، فلم يخرم منها حرفاً ، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورض بما أملاها فما اختلفا في حرفٍ واحدٍ ، فعند ذلك قالوا : عزير ابن الله ، وهذه الرواية مشهورة .
ويروى أنه أرميا - عليه الصَّلاة والسَّلام - فدلَّ على أنَّ المارَّ كان نبيّاً؛ واختلفوا في تلك القرية :
فقال وهبٌ ، وقتادة ، وعكرمة ، والربيع هي : إيلياء ، وهي بيت المقدس ، وقال ابن زيد هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت ، وعن ابن زيد أيضاً أن القوم الذين خرجوا من ديارهم ، وهم ألوفٌ حذر الموت فقال الله لهم : موتوا ، مرَّ عليهم رجلٌ ، وهم عظامٌ تلوح فوقف ينظر؛ فقال : { أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ } .
قال ابن عطية : وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية ، إذا الآية إنما تضمَّنت قريةً خاويةً ، لا أنيس فيها ، والإشارة ب « هذه » إنَّما هي إلى القرية ، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ، ووجود البناء والسكان .
قال القرطبي : روي في قصص هذه الآية : أنَّ الله تعالى بعث لها ملكاً من الملوك ، فعمرها وجدَّ في ذلك ، حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل . وقيل : إنه لمَّا مضى لمدته سبعون سنةً ، أرسل الله ملكاً من ملوك فارس عظيماً يقال له « كُوشَك » فعمَّرها في ثلاثين سنةً .
وقال الضحاك : هي الأرض المقدَّسة .
وقال الكلبيُّ : هي دير سابر أباد وقال السديُّ مسلم أباد ، وقيل : دير هرقل .
وقوله : { أنى يُحْيِي هذه الله } في « أَنَّى » وجهان :
أحدهما : أن تكون بمعنى « متى » .
قال أبو البقاء رحمه الله : « فَعَلى هذا تكون ظرفاً » .

والثاني : أنَّها بمعنى كيف .
قال أبو البقاء رحمه الله : فيكون مَوْضِعُها حالاً من « هذه » ، وتقدَّم لما فيه من الاستفهام ، والظاهرُ أنها بمعنى كيف ، وعلى كلا القولين : فالعاملُ فيها « يُحْيِي » ، و « بعد » أيضاً معمول له . والإحياء ، والإماتة : مجازٌ؛ إن أريد بهما العمران والخراب ، أو حقيقةٌ إن قدَّرنا مضافاً ، أي : أنَّى يحيي أهل هذه القرية بعد موت أهلها ، ويجوز أن تكون هذه إشارة إلى عظام أهل القرية البالية ، وجثثهم المتمزقة ، دلَّ على ذلك السياق .
قوله : { مِئَةَ عَامٍ } قال أبو البقاء رحمه الله : « مائَة عامٍ » : ظرفٌ لأماته على المعنى؛ لأنَّ المعنى ألبثه مئة عام ، ولا يجوز أن يكون ظرفاً على ظاهر اللفظ ، لأنَّ الإماتة تقع في أدنى زمانٍ ، ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل محذوف ، تقديره : « فأَمَاتَه اللهُ فلبِثَ مائة عام » ويدلُّ على ذلك قوله : « كَمْ لَبِثْتَ » ، ولا حاجة إلى هذين التأويلين ، بل المعنى جعله ميِّتاً مائة عام .
و « مِئة » عقدٌ من العدد معروفٌ ، ولامها محذوفة ، وهي ياء ، يدلُّ على ذلك قولهم : « أَمْأَيْتُ الدَّرَاهِمَ » ، أي : صيَّرتها مئة ، فوزنها فعة ويجمع على « مِئَات » ، وشذَّ فيها مئون؛ قال القائل : [ الطويل ]
1200- ثَلاَثُ مِئِينٍ لِلْمُلُوكِ وَفَى بِهَا ... رِدَائِي وَجَلَّتْ عَنْ وُجُوهِ الأَهَاتِمِ
كأنَّهم جروها بهذا الجمع لما حذف منها؛ كما قالوا : سنون : في سنة .
والعام : مدَّة من الزمان معلومةٌ ، وعينه واوٌ؛ لقولهم في التصغير : عويم ، وفي التكسير : « أَعْوَام » .
وقال النقَّاش : « هو في الأصل مصدرٌ وسمِّي به الزمان؛ لأنه عومةٌ من الشمس في الفلك ، والعوم : هو السبح؛ وقال تعالى : { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] فعلى هذا يكون العوم والعام كالقول والقال » .
فإن قيل : ما الحكمة في أنْ أماته الله مائة عامٍ ، مع أنَّ الاستدلال بالإحياء بعد يومٍ ، أو بعض يومٍ حاصل .
فالجواب : أنَّ الإحياء بعد تراخي المدَّة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدَّة ، وبعد تراخي المدَّة يشاهد منه ، ويشاهد هو من غيره ، ما هو عجبٌ .
قوله : « ثُمَ بَعَثَهُ » ، أي : أحياه ، ويوم القيامة يسمَّى يوم البعث؛ لأنهم يبعثون من قبورهم ، وأصله : من بعثت الناقة ، إذا أقمتها من مكانها .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله - تبارك وتعالى - « ثُمَّ بَعَثَهُ » ولم يقل : ثمَّ أحياه؟
فالجواب : أن قوله : « بَعَثَهُ » يدلُّ على أنه عاد كما كان أوَّلاً : حيّاً ، عاقلاً ، فاهماً ، مستعداً للنظر ، والاستدلال ، ولو قال : ثمَّ أحياه ، لم تحصل هذه الفوائد .
قوله : « كَمْ » منصوبٌ على الظرف ، ومميِّزها محذوفٌ تقديره : كم يوماً ، أو وقتاً .

والناصب له « لَبِثْتَ » ، والجملة في محلِّ نصب بالقول ، والظاهر أنَّ « أَوْ » في قوله : « يوماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ » بمعنى « بَلْ » للإضراب ، وهو قول ثابت ، وقيل : هي للشك .
فصل
قال ابن الخطيب : من الخوارق ما يمكن في حالة ، ومن الناس من يقول في قصة أهل الكهف ، والعزير : إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب فيه ، ولكنه لا مؤاخذة به ، وإلاَّ فالكذب : الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ، وذلك لا يختلف بالعمل ، والجهل؛ فعلى هذا يجوز أن يقال : إنَّ الأنبياء لا يعصمون عن السَّهو والنِّسيان ، والقول الأوَّل أصحُّ .
قوله : « قَالَ بَلْ لَبِثْتَ » عطفت « بل » هذه الجملة على جملةٍ محذوفةٍ ، تقديره : ما لبثتَ يوماً أو بعض يوم ، بل لبثت مئة عام . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن كثير : بإظهار الثَّاء في جميع القرآن الكريم ، والباقون : بالإدغام .
فصل فيمن قال : كم لبثت
أجمعوا على أن ذلك القائل هو الله تعالى؛ لأنَّ ذلك الخطاب كان مقروناً بالمعجز ، ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره ، وظهور البلى في عظامه ، ما عرف به أنَّ تلك الخوارق لم تصدر إلاَّ من الله تعالى .
وقيل : سمع هاتفاً من السماء ، يقول له ذلك .
وقيل : خاطبه جبريل ، وقيل : نبيٌّ .
وقيل : مؤمنٌ شاهده من قومه عند موته ، وعمِّر إلى حين إحيائه .
قال القرطبي : والأظهر أنَّ القائل هو الله - عز وجل - ، لقوله تعالى : { وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } .
فإن قيل : إنه تعالى كان عالماً بأنه كان مَيْتاً ، والميِّت لا يمكنه بعد أن صار حيّاً أن يعلم مدَّة موته طويلةً كانت أم قصيرةً؛ فلأيِّ حكمةٍ سأله عن مقدار المدة؟
فالجواب : أنَّ المقصود منه التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق ، بقوله : { لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } على حسب ظنِّه؛ كما روي في القصة : أنه أماته ضحًى ، وأحياه بعد المائة قبل غروب الشمس؛ فظن أنَّ اليوم لم يكمل ، كما حكي عن أصحاب الكهف : { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [ الكهف : 19 ] على ما توهَّموه ، ووقع في ظنِّهم .
وقول إخوة يوسف { ياأبانا إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } [ يوسف : 81 ] وإنما قالوا ذلك؛ بناءً على إخراج الصُّواع من رحله .
قوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ } هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال ، وزعم بعضهم : أنَّ المضارع المنفيَّ ب « لَمْ » إذا وقع حالاً ، فالمختار دخول واو الحال؛ وأنشد : [ الطويل ]
1201- بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشِيْمُوا سُيُوفَهُمْ ... وَلَمْ تَكْثُرِ القَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ
وزعم آخرون : أنَّ الأولى نفي المضارع الواقع حالاً بما ، ولمَّا . وهذان الزَّعمان غير صحيحين؛ لأنَّ الاستعمالين واردان في القرآن ، قال تعالى : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } [ آل عمران : 174 ] ، وقال تعالى : { أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ }

[ الأنعام : 93 ] فجاء النفي ب « لم » مع الواو ودونها .
فإن قيل : قد تقدَّم شيئان ، وهما « طَعَامِكَ وشَرَابِكَ » ولم يعد الضَّمير إلاَّ مفرفاً ، قلنا فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدهما : أنها لمَّا كانا متلازمين ، بمعنى أنَّ أحدهما لا يكتفى به بدون الآخر ، صارا بمنزلة شيء واحد؛ حتى كأنه [ قال : ] فانظر إلى غذائك .
الثاني : أنَّ الضمير يعود إلى الشَّراب فقط؛ لأنه أقرب مذكور ، وثمَّ جملة أخرى حذفت لدلالة هذه عليها . والتقدير : وانظر إلى طعامك لم يتسنَّه ، وإلى شرابك لم يتسنَّه ، وقرأ ابن مسعود - رضي الله عنه - « فانْظُرْ إِلى طَعَامِكَ وهذا شَرابُك لم يتسنه » ، أو يكون سكت عن تغيُّر الطعام؛ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى ، وذلك أنه إذا لم يتغيَّر الشراب مع نزعة النَّفس إليه ، فعدم تغيُّر الطعام أولى ، قال معناه أبو البقاء .
الثالث : أنه أفرد في موضع التثنية ، قاله - أيضاً - أبو البقاء؛ وأنشد : [ الكامل ]
1202- فَكَأَنَّ في الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أَوْ سُنْبَلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ
وليس بشيءٍ .
وقرأ حمزة ، والكسائي : « لَمْ يَتَسَنَّهْ » بالهاءِ وقفاً ، وبحذفها وصلاً ، والباقون : بإثباتها في الحالين . فأمَّا قراءتهما ، فالهاءُ فيها للسكتِ . وأمَّا قراءةُ الجماعةِ : فالهاءُ تحتملُ وجهين :
أحدهما : أن تكون - أيضاً - للسكت ، وإنما أُثبتت وصلاً إِجراءً للوصل مجرى الوقف ، وهو في القرآن كثيرٌ ، [ سيمرُّ بك منه مواضع ] فعلى هذا يكون أصل الكلمة : إِمَّا مشتقاً من لفظ « السَّنَةِ » على قولنا إِنَّ لامَها المحذوفة واوٌ ، ولذلك تُرَدُّ في التصغير والجمع؛ قالوا : « سُنَيَّة وَسَنَوات » ؛ وعلى هذه اللغة قالوا : « سَانَيْتُ » أُبْدِلَتِ الواو ياءً؛ لوقوعها رابعةً ، وقالوا : أَسْنَتَ القومُ إذا أصابتهُمُ السَّنَةُ؛ قال الشاعر : [ الكامل ]
1203 - . . ... وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ
ويقولون في جمعها : سنوات فقلبوا الواو تاءً ، والأصلُ : أَسْنُووا ، فأَبْدلوها كما أَبْدلُوها في تُجاه وتُخمة؛ كما تقدَّم ، فأصله : يَتَسَنَّى فحُذِفت الألف جزماً .
وإما من لفظ « مَسْنُون » وهو المتغيرُ ، ومنه { حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 28 ] ، والأصلُ : يتَسَنَّنُ ، بثلاثٍ نونات ، فاسْتُثْقل توالي الأَمثال ، فأَبدلنا الأخيرة ياءً؛ كما قالوا في تظنَّن : تظنَّى ، وفي قصَّصت أظفاري : قصَّيتُ ، ثم أبدلنا الياء ألفاً؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها ، ثم حُذِفت جزماً ، قاله أبو عمرو ، وخطَّأَه الزجاج ، قال : « لأنَّ المسنونَ : المصبوبُ على سنن الطريق » .
وحُكِيَ عن النقَّاش أنه قال : « هو مأخوذٌ من أَسِن الماءُ » أي : تغيَّر ، وهذا وإِنْ كان صحيحاً معنًى ، فقد رَدَّ عليه النحاةُ قوله؛ لأنه فاسِدٌ اشتقاقاً ، إذ لو كان مشتقاً من « أَسِنَ الماءُ » لكان ينبغي حين منه تفعَّل ، أَنْ يقال تأسَّنَ . ويمكن أَنْ يُجاب عنه : أنه يمكنُ أن يكون قد قُلبت الكلمةُ بأن أُخِّرت فاؤها - وهي الهمزة - إلى موضع لامها ، فبقي : يَتَسَنَّأ ، بالهمزة آخراً ، ثمَّ أُبدلت الهمزةُ ألفاً ، كقولهم في قرأ : « قَرَا » ، وفي استهزأ : « اسْتَهْزا » ثم حُذفت جزماً .

والوجه الثاني : أن تكون الهاءُ أصلاً بنفسها ، ويكونُ مشتقاً من لفظ « سَنَة » أيضاً ، ولكن في لغةِ من يجعلُ لامها المحذوفة هاءً ، وهم الحجازيون ، والأصلُ : سُنَيْهة ، يدلُّ على ذلك التصغير والتكسير ، قالوا : سُنَيْهةٌ ، وسُنَيْهَاتٌ ، وسَانَهْتُ؛ قال شاعرهم :
1204- وَلَيْسَتْ بِسَهْنَاءٍ وَلاَ رُجَبِيَّةٍ ... وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوَائِحِ
ومعنى « لم يَتَسَنَّهْ » على قولنا : إِنَّهُ من لفظ السَّنَة ، أي : لم يتغيَّر بمَرِّ السنين عليه ، بل بقي على حالِهِ ، وهذا أَوْلَى من قول أَبي البقاء في أثناء كلامه : « مِنْ قولك : أَسْنَى يُسْنِي ، إذا مَضَتْ عليه سِنُون » ؛ لأنه يصير المعنى : لم تمضِ عليه سِنُون ، وهذا يخالفه الحِسُّ ، والواقع .
وقرأ أُبَيّ؛ « لَمْ يَسَّنَّهْ » بإِدْغَام التَّاءِ في السِّينِ ، والأَصْلُ : « لم يَتَسَنَّهْ » .
كما قُرِئ : { لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ } [ الصافات : 8 ] ، والأصل : يَتَسَمَّعُونَ؛ فأُدغم ، وقرأ طلحة بن مصرفٍ : « لِمِئَةِ سَنَةٍ » .
فإن قيل : لما قال تعالى : { بَلْ لبثت مائة عام } كان مِنْ حقِّه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله : { فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } لا يدلُّ على أنه لبث مائة عامٍ ، بل يدلُّ ظاهراً على قول المسؤول إنه لبث يوماً أو بعض يوماً .
فالجواب أنه ذكر ذلك ليعظم اشتياقه إلى طلب الدَّليل الذي يكشف هذه الشبهة ، فلما قال تعالى : { وانظر إلى حِمَارِكَ } فرأى الحمار صار رميماً وعظاماً نخرة ، فعظُم تعجبه من قُدرة الله تعالى؛ فإنَّ الطعامَ ، والشراب يسرع التغير إليهما ، والحمارُ ربما بقي دهراً طويلاً عظيماً ، فرأى ما لا يبقى باقياً ، وهو الطعامُ ، والشَّرابُ ، وما يبقى غير باقٍ ، وهو العظامُ فعظُم تعجبه من قدرة الله تعالى ، وتمكّنت الحجةُ في قلبه ، وعقله .
قوله : { وانظر إلى حِمَارِكَ } معناه أَنَّه عرَّفه طُول مدة موته ، بأن شاهد انقلاب العِظام النخرة حيّاً في الحال ، فإنه إذْ شاهد ذلك ، علِمَ أن القادر على ذلك قادِرٌ على أَنْ يُميته مائة عام ، ثم يُحْييه .
فإن قيل : إنَّ القادِرَ على إحياء العِظام النخرة ، قادِرٌ على أَنْ يجعل الحمار عظاماً نخرة في الحال ، وحينئذٍ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طُول مدة الموت .
فالجواب : أَنَّ انقلاب العِظام إلى الحياة معجزةٌ دالَّةٌ على صدق قوله : « بَلْ لَبِثْتَ مائةَ عامٍ » . قال الضحاك : إنَّهُ تعالى بعثهُ شابّاً أسود الرأس ، وبنو بنيه شيوخٌ بيض اللِّحى ، والرُّؤوس .
قوله : « وَلِنَجْعَلَكَ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدَّرٍ بعده ، تقديره : ولنجعلك فعلنا ذلك .
الثاني : أنه معطوفٌ على محذوفٍ تقديره : فعلنا ذلك ، لتعلَمَ قُدْرتنا ولنجعلك .
الثالث : أن الواو زائدة واللامُ متعلقةٌ بالفعلِ قبلها ، أي : وانظر إلى حِمارِك ، لنجعلَكَ .

قال الفرَّاء : وهذا المعنى غير مطلوبٍ من الكلامِ؛ لأنه لو قال فانظر إلى حِمارك لنجعلك آيةً للناسِ ، كان النظرُ إلى الحمار شرطاً ، وجعله آية جزاءً أَمَّا لمَّا قال : « وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً » [ كان المعنى : ولنجعلك آيةً فعلنا ما فعلنا ، من الإماتة ، والإحياء . وليس في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ ، كما زعم بعضهم؛ فقال : إن قوله : « وَلِنَجْعَلَكَ » مؤخر بعد قوله تعالى : { وانظر إِلَى العظام } ، وأَنَّ الأَنظارَ الثلاثةَ منسوقةٌ بعضها على بعضٍ ، فُصِل بينها بهذا الجارّ؛ لأنَّ الثالث مِنْ تمامِ الثاني ، فلذلك لم تجعل هذه العلةُ فاصلةً معترضةً . وهذه اللامُ لامُ كي ، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار « أَنْ » وهي وما بعدها من الفعلِ في محلِّ جرٍّ على ما سبق بيانُهُ غير مرةٍ . و « آية » مفولٌ ثانٍ؛ لأنَّ الجَعْلَ هنا بمعنى : التصيير . و « لِلنَّاسِ » صفةٌ لآيةٍ ، و « أَلْ » في الناس ، قيل : للعهدِ ، إِنْ عَنَى بهم بقيةَ قومِهِ ، وقيل : للجنس ، إِنْ عَنَى بهم جميع بني آدم ] .
قوله : { وانظر إِلَى العظام } .
أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام حمارُه ، وقال آخرون : أراد بها عظام الرجلِ نفسه ، قالوا : إِنَّ الله أَحْيَا رأسهُ وعينيه ، وكانت بقيةُ بدنه ، عظاماً نخرةً ، فكان ينظرُ إلى أَجزاء عظام نفسه فرآها تجتمعُ ، وينضمُّ بعضها إلى بعضٍ وكان يرى حمارَه واقفاً كما ربطه حين كان حيّاً لم يأكل ، ولم يشرب مائة عام ، وتقدير الكلام على هذا الوجه وانظر إلى عظامك؛ وهو قولُ قتادة ، والرَّبيع ، وابن زيدٍ ، وضُعِّف ذلك بوجوه :
منها : أَنَّ قوله « لَبِثْتُ يَوْمَا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ » إنما يليقُ بمن لا يرى أثر التغير في نفسه ، فيظن أنه كان نائِماً في بعض يومٍ ، وأَمَّا من شاهد بعض أجزاءِ بدنه متفرقةً ، وعظامُه رميمة نخرةً ، فلا يليقُ به ذلك .
ومنها أنه خاطبُه ، وأَجاب ، والمجيب ، هو الذي أَماتهُ اللهُ ، فإذا كانت الإِماتةُ راجعةً إلى كله ، فالمجيب - أيضاً - الذي بعثه اللهُ ، يجب أن يكون جملة الشَّخص .
ومنها أَنَّ قوله - تعالى - { فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } يدلُّ على أَنَّ تلك الجملة أَحياها ، وبعثها .
قوله : « كَيْفَ » منصوبٌ نصبَ الأَحوال ، والعاملُ فيها « نُنْشِزُها » وصاحبُ الحالِ الضميرُ المنصوبُ في « نُنْشِزُها » ، ولا يعملُ في هذا الحالِ « انظُرْ » إذ الاستفهامُ له صدرُ الكلام ، فلا يعملُ فيه ما قبله ، هذا هو القولُ في هذه المسألة ، ونظائرها .
وقال أبو البقاء : « كيف نُنْشِزُها » في موضِعِ الحالِ من « العِظَامِ » ، والعاملُ في « كيف » نُنْشِزُها ، ولا يجوز أن يعمل فيها « انظُرْ » لأنَّ هذه جملة استفهام ، والاستفهامُ لا يقعُ حالاً ، وإنما الذي يقعُ حالاً « كَيْفَ » ، ولذلك تُبْدَلُ منه الحالُ بإعادة حرفِ الاستفهامِ ، نحو : « كيف ضَرَبْتَ زيداً؛ أقائماً أم قاعداً » ؟
والذي يَقْتَضِيه النظرُ الصحيحُ في هذه المسألة ، وأمثالها : أَنْ تكونَ جملةُ « كَيْفَ نُنْشِزُها » بدلاً مِنَ « العِظَامِ » فيكونَ في محلِّ جَرٍّ أو محلِّ نصبِ ، وذلك أنَّ « نظر » البصرية تتعدَّى ب « إِلَى » ، ويجوزُ فيها التعليقُ ، كقوله تعالى :

{ انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } [ الإسراء : 21 ] فتكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأنَّ ما يتعدى بحرف الجرِّ يكونُ ما بعده في محلِّ نصبٍ به . ولا بُدَّ مِنْ حذف مضافٍ؛ لتصِحَّ البدليَّة ، والتقدير : إلى حال العظام ، ونظيرُهُ قولهم : عَرفْتُ زيداً : أبو مَنْ هُوَ؟ ف « أَبُو مَنْ » هو بدلٌ من « زَيْداً » ، على حذفٍ تقديرُهُ : « عَرَفْتُ قِصَّةَ زَيْدٍ » . والاستفهامُ في بابِ التعليقِ ، لا يُراد به معناه؛ بل جرى في لسانِهم مُعلَّقاً عليه ، حكُم اللفظِ دونَ المعنى ، و [ هو ] نظيرُ « أي » في الاختصاص ، نحو : « اللهُمَّ اغفِرْ لنا أَيَّتُها العِصَابَةُ » فاللفظُ كالنداء في جميعِ أَحكامه ، وليس معناه عليه .
وقرأ أبو عمروٍ ، والحرميَّان : « نُنْشِزُهَا » بضم النون ، وكسر الشِّين ، والراءِ المُهملةِ ، والباقُون : كذلك؛ إلاَّ أَنَّها بالزاي المُعْجمة . وابن عباسٍ : بفتح النونِ ، وضمِّ الشِّين ، والراءِ المهملةِ أيضاً والنخعيّ : كذلك؛ إلا أنها بالزاي المعجمةِ ، ونُقِل عنه أيضاً ضمُّ الياءِ ، وفتحِها مع الراءِ ، والزاي .
فأَمَّا قراءة الحرميّين : فمن « أَنشَرَ اللهُ الموتى » بمعنى : أَحْيَاهم ، وأمَّا قراءةُ ابن عباس : فَمِنْ « نَشَر » ثُلاَثيّاً ، وفيه حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أَنْ يكون بمعنى أَفعلَ ، فتتحدَ القراءتان .
والثاني : أَنْ يكونَ مِنْ « نَشَرَ » ضِدَّ : طَوى ، أي : يَبسُطها بالإِحياء ، ويكونُ « نَشَرَ » أيضاً مطاوِع أَنْشَرَ ، نحو : أَنْشَرَ الله الميتَ ، فَنَشَرَ ، فيكونُ المتعدي ، واللازمُ بلفظٍ واحدٍ؛ إلاَّ أنَّ كونه مطاوعاً لا يُتَصَوَّر في هذه الآيةِ الكريمة؛ لتعدِّي الفعل فيها ، وإنْ كان في عبارة أبي البقاء رحمه الله في هذا الموضع بعضُ إبهامٍ؛ ومِنْ مجيء « نَشَر » لاَزِماً قوله : [ السريع ]
1205- حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا ... يَا عَجَباً لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
فناشِر : مِنْ نَشَر؛ بمعنى : حَيِيَ . والمراد بقوله ننشرها ، أي : نُحْييها ، يقال أنشر الله الميتَ ونشرَهُ ، قال تعالى : { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [ عبس : 22 ] وقد وصف اللهُ العِظِام بالإِحياءِ في قوله : { مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ } [ يس : 78 ، 79 ] .
وأَمَّا قراءةُ الزَّاي فمن « النَّشْزِ » وهو الارتفاعُ ، ومنه : « نَشْزُ الأَرْضِ » وهو المرتفع ، ونشوزُ المرأةِ ، وهو ارتفاعها عن حالها إلى حالةٍ أُخرى ، فالمعنى : يُحرِّك العِظام ، ويرفعُ بعضها إلى بعضٍ للإِحياء .
قال ابن عطية : « وَيَقْلَقُ عندي أَنْ يكونَ النشوزُ رفعَ العِظَامِ بعضها إلى بعضٍ ، وإنما النشوزث الارتفاعُ قليلاً قليلاً » ، قال : « وانظر استعمال العربِ ، تَجده كذلك؛ ومنه : » نَشَزَ نَابُ البَعِير « و » أَنْشَزُوا ، فَأَنْشَزوا « ، فالمعنى هنا على التدرُّج في الفعلِ » فجعل ابنُ عطية النشوزَ ارتفاعاً خاصّاً .

ومَنْ ضَمَّ النونَ جعلهُ مِنْ « أَنْشَزَ » ، ومَنْ فَتَحها ، فَمِنْ « نَشَزَ » ، يقال : « نَشَزه » و « أَنْشَزَه » بمعنى . ومَنْ قرأَ بالياءِ ، فالضميرُ لله تعالى . وقرأ أُبيّ « نُنْشِئُها » من النَّشْأَةِ . ورجَّح بعضهم قراءة الزاي على الراء ، بِأَنْ قال : العِظامُ لا تُحْيَا على الانفرادِ؛ بل بانضمام بعضِها إلى بعضٍ ، والزايُ أَوْلى بهذا المعنى؛ إذ هو بمعنى الانضمام دونَ الإِحياءِ ، فالموصُوفُ بالإِحياءِ الرجلُ دونَ العظامِ ، ولا يقال : هذا عظمٌ حيٌّ . وهذا ليس بشيءٍ؛ لقوله : { مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] .
ولا بُدَّ من ضميرِ محذوفٍ من قوله : « العِظام » أي؛ العظامِ منه ، أي : من الحمارِ ، أو تكونُ « أَلْ » قائمةً مقامَ الإِضافة ، أي : عظامِ حمارِك .
قوله : « لَحْماً » مفعولٌ ثانٍ لِ « نَكْسُوها » وهو من باب أَعْطَى ، وهذا من الاستعارة ، ومثله قول لبيدٍ : [ البسيط ]
1206- الحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِيني أَجَلِي ... حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلاَمِ سِرْبَالا
قوله : « فَلَمَّا تَبَيَّنَ » في فاعل « تَبيَّن » قولان :
أحدهما : مُضمرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلامِ ، تقديرُهُ : فلمَّا تبيَّن له كيفيةُ الإِحياءِ التي استقر بها ، وقدَّره الزمخشريُّ : « فلمَّا تبيَّن له ما أَشْكَل عليه » يعني مِنْ أَمْرِ إِحياءِ الموتى ، والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّ قوةَ الكلامِ تدِلُّ عليه بخلافِ الثاني .
والثاني : - وبه بدأ الزمخشري - : أن تكون المسألةُ من بابِ الإِعمالِ ، يعني أن « تَبَيَّن » يطلُبُ فاعلاً ، و « أَعْلَمُ » يطلبُ مفعولاً ، و « أَنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ » يصلُح أَنْ يكونَ فاعلاً لتبيَّن ، ومفعولاً لأعلَمُ ، فصارَتِ المسألةُ من التنازع ، وهذا نصُّه ، قال : وفَاعِلُ « تبيَّن » مضمرٌ تقديره : فلمَّا تبيَّن له أَنَّ الله على كل شيءٍ قدير قال : أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ على كل شيء قديرٌ ، فحُذف الأَوَّل؛ لدلالةِ الثاني عليه ، كما في قولهم : « ضَرَبَنِي ، وضَرَبْتُ زَيْداً » فجعله مِنْ باب التنازع وجعله من إعمال الثاني ، وهو المختارُ عند البصريين ، فلمَّا أعملَ الثاني ، أَضْمَرَ في الأَولِ فاعلاً ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ من إعمال الأَولِ؛ لأنه كان يلزَمُ الإِضمارُ في الثاني بضميرِ المفعول ، فكأنه قال : فلمَّا تبيَّن له ، قال أعلمه أن الله . ومثله في إعمال الثاني : { آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف : 96 ] { هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] لما ذكرت .
إِلاَّ أَنَّ أبا حيَّان ردَّ عليه بأنَّ شرط الإِعمالِ على ما نصَّ عليه النحويون اشتراكُ العاملَينِ ، وأَدْنى ذلك بحرفِ العطفِ - حتى لا يكون الفصلُ معتبراً - أو يكونُ العاملُ الثاني معمولاً للأول ، نحو : « جاءني يَضْحَكُ زيدٌ » فإنَّ « يَضْحَكُ » حالٌ عاملها « جاءني » فيجعل في : « جاءني » ، أو في : « يضحك » ضميراً؛ حتَّى لا يكونَ الفعلُ فاصلاً ، ولا يَردُ على هذا جعلُهُم « آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً »

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75